بالشرك على ما هو أعظم منه كتعطيل الخالق، أو يجوز أن لا يعذب بذنب، فإنه لو كان كذلك لما ذكر أنه يغفر البعض دون البعض، ولو كان كل ظالم لنفسه مغفورا له بلا توبة ولا حسنات ماحية لم يعلق ذلك بالمشيئة.
وقوله تعالى ?وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48], دليل على أنه يغفر البعض دون البعض، فبطل النفي والعفو العام.
فصل
وإذا كان أولياء الله عز وجل هم المؤمنون المتقون، والناس يتفاضلون في الإيمان والتقوى، فهم متفاضلون في وَلاية الله بحسب ذلك، كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والنفاق كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك، وأصل الإيمان والتقوى الإيمان برسل الله، وجِماع ذلك الإيمان بخاتم الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله ورسله، وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل وبما جاءوا به، فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة، فإن الله تعالى أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة؛ قال الله تعالى ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا?[الإسراء:15]، وقال تعالى ?إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا(163)وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(164)رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:163-165]، وقال تعالى عن أهل النار ?كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8)قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ(26/28)
فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ?[الملك:8-9]، فأخبر أنه كلما أُلقي في النار فوج أقروا بأنهم جاءهم النذير فكذبوه، فدل ذلك على أنه لا يلقى فيها فوج إلا من كذب النذير، وقال تعالى في خطابه لإبليس ?لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ?[ص:85]، فأخبر أنه يملؤها بإبليس ومن اتبعه، فإذا ملئت بهم لم يدخلها غيرهم، فعلم أنه لا يدخل النار إلا من تبع الشيطان، وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها من لا ذنب له، فإنه ممن لم يتّبع الشيطان، ولم يكن مذنبا، وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها إلا من قامت عليه الحجة بالرسل. ([33])
فصل(26/29)
ومن الناس من يؤمن بالرسل إيمانا عاما مجملا، وأما الإيمان المفصل فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك، فيؤمن بما بلغه عن الرسل وما لم يبلغه لم يعرفه ولو بلغه لآمن به، ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيمانا مجملا، فهذا إذا عمل بما علم، إن الله أمره به مع إيمانه وتقواه، فهو من أولياء الله تعالى، له من ولاية الله بحسب إيمانه وتقواه، وما لم تقم عليه الحجة به فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته، والإيمان المفصل به، فلا يعذبه على تركه، لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك، فمن علم بما جاء به الرسل وآمن به إيمانا مفصلا وعمل به فهو أكمل إيمانا ووَلاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلا ولم يعمل به وكلاهما ولي لله تعالى والجنة درجات متفاضلة تفاضلا عظيما، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم، قال الله تبارك وتعالى ?مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا(18)وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20)انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا?[الإسراء:18-21]، فبين الله سبحانه وتعالى أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه، وأن عطاءه ما كان محظورا من بر ولا فاجر، ثم قال تعالى (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) فبين الله سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا، وأن درجاتها أكبر من درجات الدنيا، وقد بين تفاضل أنبيائه(26/30)
عليهم السلام كتفاضل سائر عباده المؤمنين، فقال تعالى ?تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ?[البقرة:253]، وقال تعالى ?وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا?[الإسراء:55].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيّ خَيْرٌ وَأَحَبّ إلى اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضّعِيفِ. وَفِي كُلَ خَيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ. وَلاَ تَعْجِزْ. وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنّي فَعَلْتُ لكان كذا وكذا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللّهِ. وَمَا شَاءَ فَعَلَ. فَإِنّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَانِ».(26/31)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذَا اجتهد الْحَاكِمُ فَأَصَابَ, فَلَهُ أَجْرَانِ, وَإذَا اجْتَهَد فََأَخْطَأَ, فَلَهُ أَجْرٌ»، وقد قال الله تعالى ?لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أعظم دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى?[الحديد:10]، وقال تعالى ?لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95)دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?[النساء:95-96]، وقال تعالى ?أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19)الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أعظم دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20)يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ?[التوبة:19-22]، وقال تعالى ?أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا(26/32)
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?[الزمر:9]، وقال تعالى ? يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ?[المجادلة:11]. ([34])
فصل
وإذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا لقوله تعالى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63].(26/33)
وفي صحيح البخاري الحديث المشهور وقد تقدم، يقول الله تبارك وتعالى فيه «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه»، ولا يكون مؤمنا تقيا حتى يتقرب إلى الله بالفرائض، فيكون من الأبرار أهل اليمين، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين، فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله، وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته وإن قُدِّر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ومن لم تبلغه الدعوة، وإن قيل إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسولا فلا يكونون من أولياء الله إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين، فمن لم يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بترك السيئات لم يكن من أولياء الله، وكذلك المجانين والأطفال، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «رُفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ» وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقَبول، لكن الصبي المميز تصح عباداته ويثاب عليها عند جمهور العلماء، وأما المجنون الذي رُفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات، بل لا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة، فلا يصلح أن يكون بزازا ولا عطارا ولا حدادا ولا نجارا، ولا تصح عقوده باتفاق العلماء، فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته ولا غير ذلك من أقواله، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي، ([35]) ولا ثواب ولا عقاب، بخلاف الصبي المميز فإن له أقوالا معتبرة في مواضع بالنص والإجماع، وفي مواضع فيها نزاع، وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل وامتنع أن يكون وليا لله فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله، لا سيما أن تكون حجته على ذلك(26/34)
إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من تصرف مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صُرع، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية كالكهان والسحرة وعُبَّاد المشركين([36]) وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليا لله وإن لم يعلم منه ما يناقض وَلاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله، مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهرا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو يقول إن الأنبياء ضيّقوا الطريق، أو هم على قدوة العامة دون الخاصة، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان فضلا عن ولاية الله عز وجل، فمن احتج بما يصدر عن أحدهم من خرق عادة على وَلايتهم كان أضل من اليهود والنصارى، وكذلك المجنون فإن كونه مجنونا يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادات التي هي شرط في وَلاية الله، ومن كان يُجَنُّ أحيانا ويُفيق أحيانا إذا كان في حال إفاقته مؤمنا بالله ورسوله ويؤدي الفرائض ويجتنب المحارم فهذا إذا جُنَّ لم يكن جنونه مانعا من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك، وكذلك من طرأ عليه الجنون بعد إيمانه وتقواه فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه، ولا يحبطه بالجنون الذي أبتلي به من غير ذنب فعله، والقلم مرفوع عنه في حال جنونه، فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ولا يجتنب المحارم، بل قد يأتي بما يناقض ذلك،لم يكن لأحد أن يقول هذا ولي، لله فإن هذا إن لم يكن مجنونا بل كان متولها من غير جنون، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة ويفيق أخرى، وهو لا يقوم بالفرائض، بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول -(26/35)
صلى الله عليه وسلم - فهو كافر، وإن كان مجنونا باطنا وظاهرا قد ارتفع عنه القلم، فهذا وإن لم يكن معاقبا عقوبة الكافرين فليس هو مستحقا لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولي لله، ولكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمنا بالله متقيا كان له من ولاية الله بحسب ذلك، وإن كان له في حال إفاقته فيه كفر أو نفاق أو كان كافرا أو منافقا ثم طرأ عليه الجنون فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق. ([37])
فصل(26/36)
وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس، إذا كان كلاهما مباحا، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحا، كما قيل كم من صِدِّيقٍ في قَبَاء، وكم من زنديق في عَبَاء، بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور، فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويوجدون في التجار والصناع والزراع، وقد ذكر الله أصناف امة محمد - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى ?إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ?[المزمل:20]، وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم القراء، فيدخل فيهم العلماء والنساك، ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء، واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح، وقد قيل إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل إلى صوفة بن أد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك، وقيل إلى أهل الصفة، وقيل إلى الصفا، وقيل إلى الصفوة، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى، وهذه أقوال ضعيفة فإنه لو كان كذلك لقيل صِفِّي أو صفائي أو صَفوي أو صَفِّي ولم يقل صوفي، وصار أيضا اسم الفقراء يعنى به أهل السلوك، وهذا عُرف حادث، وقد تنازع الناس أيهما أفضل مسمى الصوفي أو مسمى الفقير، ويتنازعون أيضا أيهما أفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر، وهذه المسألة فيها نزاع قديم بين الجنيد(26/37)
وبين أبي العباس بن عطاء.
وقد روي عن أحمد بن حنبل فيها روايتان، والصواب في هذا كله ما قاله الله تبارك وتعالى حيث قال ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ?[الحجرات:13].
وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي الناس أفضل قال «أتقاهم» قيل له: ليس عن هذا نسألك، فقال «يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن اسحق نبي الله إبراهيم خليل الله» فقيل له ليس عن هذا نسألك، فقال «عن معادن العرب تسألوني؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقِهُوا» فدل الكتاب والسنة أن أكرم الناس عند الله أتقاهم. ([38])
وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب». وعنه أيضا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن الله تعالى أذهب عنكم عَبِيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس رجلان مؤمن تقي وفاجر شقي». فمن كان من هذه الأصناف أتقى لله فهو أكرم عند الله وإذا استويا في التقوى استويا في الدرجة، ولفظ الفقر في الشرع يراد به الفقر من المال، ويراد به فقر المخلوق إلى خالقه، كما قال تعالى ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ?[التوبة:60]، وقال تعالى ? يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إلى اللَّهِ?[فاطر:15].(26/38)
وقد مدح الله تعالى في القرآن صنفين من الفقراء؛ أهل الصدقات وأهل الفيء، فقال في الصنف الأول ?لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا?[البقرة:273]، وقال في الصنف الثاني وهم أفضل الصنفين ?لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ?[الحشر:8]، وهذه صفة المهاجرين الذين هجروا السيئات وجاهدوا أعداء الله باطنا وظاهرا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله».(26/39)
أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» فلا أصل له ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، وجهاد الكفار من أعظم الأعمال بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان. قال الله تعالى ?لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا?[النساء:95]، وقال تعالى ?أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19)الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أعظم دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20)يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ?[التوبة:19-22].
وثبت في صحيح مسلم وغيره عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر ما أبالي أن أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال علي ابن أبي طالب الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتماه، فقال عمر لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إذا قضيت الصلاة سألته. فسأله فأنزل الله تعالى هذه الآية.(26/40)
وفي الصحيحين عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَيّ الأَعْمَالِ أَفضل إلى اللّهِ عز وجل؟ قَالَ: «الصّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ «ثُمّ بِرّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ «ثُمّ الّجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ» قَالَ: حَدّثَنِي بِهِنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - , وَلَو اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.
وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي الأعمال أفضل قال «إيمان بالله وجهاد في سبيله» قيل ثم ماذا؟ قال «حج مبرور».
وفي الصحيحين أن رجلا قال له - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله أخبرنى بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله قال «لا تستطيعه أو لا تطيقه» قال فأخبرنى به قال «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر».([39])(26/41)
وفى السنن عن معاذ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وصاه لما بعثه إلى اليمن فقال «يا معاذ اتق اللّهَ حيثما كنتَ, واتْبَعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُهَا, وخالقِ الناسَ بخلقٍ حسنٍ» وقال «يا معاذ إني لأحبك فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»، وقال له وهو رديفه «يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده» قلت الله ورسوله أعلم قال «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك» قلت الله ورسوله أعلم قال «حقهم عليه ألا يعذبهم»، وقال أيضا لمعاذ «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» وقال «يا معاذ ألا أخبرك بأبواب البر الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار، وقيام الرجل في جوف الليل، ثم قرأ ?تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16)فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[السجدة:16-17]» ثم قال «يا معاذ ألا أخبرك أملك لك من ذلك» فقال «أمسك عليك لسانك هذا، فأخذ بلسانه» قال: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، فقال «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يَكُبُّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»، وتفسير هذا ما ثبت في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «ومن كان يؤمن بالله واليوم الاَخرِ فلْيَقُلْ خيراً أو ليَصمُت» فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والصمت عن الشر خير من التكلم به، فأما الصمت الدائم فبدعة منهي عنها، وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء فذلك من البدع المذمومة أيضا، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا قائما في الشمس فقال «ما هذا؟» فقالوا: أبو إسرائيل نذر(26/42)
أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه».
وثبت في الصحيحين عن أنس أن رجالا سألوا عن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنهم تقالُّوها فقالوا وأينا مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا، ولكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» أي سلك غيرها ظانا أن غيرها خير منها، فمن كان كذلك فهو بريء من الله ورسوله، قال تعالى ?وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ?[البقرة:130]، بل يجب على كل مسلم أن يعتقد أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يخطب بذلك كل يوم جمعة. ([40])
فصل(26/43)
وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطىء، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهىالله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبَّسها عليه لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان وأن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الامة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فقال تعالى ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285)لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ?[البقرة:285-286].(26/44)
وقد ثبت في الصحيح أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال قد فعلت، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت هذه الآية ?وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[البقرة:284]، قال دخل قلوبهم منها شيءلم يدخلها قبل ذلك شيء أشد منه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا» قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى ?لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا? إلى قوله ?أَوْ أَخْطَأْنَا? قال الله قد فعلتُ ?رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا? قال قد فعلت ?رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ? قال قد فعلت، وقد قال تعالى ?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ?[الأحزاب:5].(26/45)
وثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا أنه قال «إذَا اجتهد الْحَاكِمُ فَأَصَابَ, فَلَهُ أَجْرَانِ, وَإذَا اجْتَهَد فََأَخْطَأَ, فَلَهُ أَجْرٌ»، فلم يؤثم المجتهد المخطىء بل جعل له أجرا على اجتهاده وجعل خطأه مغفورا له، ولكن المجتهد المصيب له أجران فهو أفضل منه، ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلَط([41])لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي لله إلا يكون نبيا، بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقا للشرع، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه. ([42])
الناس في هذا الباب ثلاثة أصناف طرفان ووسط، فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي لله وافقه في كل ما يظن أنه حدّثه به قبله عن ربه وسلم إليه جميع ما يفعله، ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهدا مخطئا، وخيار الأمور أوساطها، وهو أن لا يجعل معصوما ولا مأثوما، إذ كان مجتهدا مخطئا فلا يتبع في كل ما يقوله ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده، ([43]) والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله، وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ووافق قول آخرين لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف، ويقول هذا خالف الشرع.(26/46)
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «قد كان في الأمم قبلكم محدَّثُون فإن يكن في أمتي أحد فعمر منهم»،([44]) وروى الترمذي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لولم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» وفي حديث آخر «أن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه» وفيه «لو كان نبي بعدي لكان عمر» وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول ما كنا نبعد أن السكينة تنطق([45]) على لسان عمر، ثبت هذا عنه من رواية الشعبي، وقال ابن عمر ما كان عمر يقول في شيء أني لأراه كذا إلا كان كما يقول([46]). وعن قيس بن طارق قال كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك. وكان عمر يقول اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون فإنه تتجلى لهم أمور صادقة. وهذه الأمور الصادقة التي أخبر بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنها تتجلى للمطيعين هي الأمور التي يكشفها الله عز وجل لهم، فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات([47]) ومكاشفات فأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فإن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر.(26/47)
وقد ثبت في الصحيح([48]) تعيين عمر بأنه محدَّث في هذه الأمة، فأيُّ محدّث ومخاطب فرض في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فعمر أفضل منه، ومع هذا فكان عمر - رضي الله عنه - يفعل ما هو الواجب عليه فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر كما نزل القرآن بموافقته غير مرة، ووافق ربه غير مرة، وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك، كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين. والحديث معروف في البخاري وغيره فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اعتمر سنة ست من الهجرة ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة، وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر من العام القابل، وشرط لهم شروطا فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة، وكان عمر فيمن كره ذلك، حتى قال للنبى - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال «بلى»، قال: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال«بلى»، قال فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - «إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه» ثم قال: أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال«بلى»، قال «أقلت لك أنك تأتيه العام؟» قال: لا، قال «إنك آتيه ومطوف به» فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورد عليه أبو بكر مثل جواب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن أبو بكر يسمع جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان أبو بكر - رضي الله عنه - أكمل موافقة لله وللنبى - صلى الله عليه وسلم - من عمر، وعمر - رضي الله عنه - رجع عن ذلك وقال: فعملت لذلك أعمالا. وكذلك لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عمر(26/48)
موته أولا، فلما قال أبو بكر أنه مات رجع عمر عن ذلك. وكذلك في قتال مانعي الزكاة قال عمر لأبي بكر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، فقال له أبو بكر - رضي الله عنه - ألم يقل «إلا بحقها» فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عَناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق.(26/49)
ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر مع أن عمر - رضي الله عنه - محدَّث، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدَّث، لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدَّث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - يشاور الصحابة رضي الله عنهم ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويُقِرُّهم على منازعته ولا يقول لهم أنا محدَّث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني، فأي أحد إدعى أو إدعى له أصحابه أنه ولي لله وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة فهو وهم مخطئون، ومثل هذا من أضل الناس، فعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أفضل منه وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه فيما يقوله وهو وهم على الكتاب والسنة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبرون به عن الله عز وجل، وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به، ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به، بل يُعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وماخالف الكتاب والسنة كان مردودا وإن كان صاحبه من أولياء الله، وكان مجتهدا معذورا فيما قاله له أجر على اجتهاده، لكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئا، وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع، فإن الله تعالى يقول ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ?[التغابن:16]، وهذا تفسير قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(26/50)
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ?[آل عمران:102]، قال ابن مسعود وغيره (حَقَّ تُقَاتِهِ) أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، أي بحسب استطاعتكم فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها كما قال تعالى ?لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ?[البقرة:286]، وقال تعالى ?وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?[الأعراف:42]، وقال تعالى ?وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا?[الأنعام:152]. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الإيمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع كقوله تعالى ?قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ?[البقرة:136]، وقال تعالى ?الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[البقرة:1-5]، وقال تعالى ?لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى(26/51)
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ?[البقرة:177]. وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الإعتصام بالكتاب والسنة وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة، هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل، من خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه، الذين أمر الله باتباعهم، بل إما أن يكون كافرا، وإما أن يكون مفرطا في الجهل، وهذا كثير في كلام المشايخ، كقول الشيخ أبي سليمان الداراني، أنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم([49])فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة. وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لايصلح له أن يتكلم في علمنا أو قال لا يقتدى به. وقال أبو عثمان النيسابوري من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم([50])?وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا?[النور:54]، وقال أبو عمرو بن نجيد كل وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل. وكثير من الناس يغلَط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله، ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله، وإن خالف الكتاب والسنة، فيوافق ذلك الشخص له ويخالف ما بعث الله به رسوله، الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء، فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين،(26/52)
ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولا إلى البدعة والضلال، وآخرا إلى الكفر والنفاق،([51]) ويكون له نصيب من قوله تعالى ?وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا(27)يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا(28)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا?[الفرقان:27-29]، وقوله تعالى ?يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ(66)وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ(67)رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا?[الأحزاب:66-68]، وقوله تعالى ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165)إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ(166)وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ?[البقرة:165-167]، وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ(26/53)
سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ?[التوبة:31].
وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسيره هذه الآية لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال ما عبدوهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، وكانت هذه عبادتهم إياهم» ولهذا قيل في مثل هؤلاء إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول، فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلابد من الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلابد من الإيمان بأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم وعربهم وعجمهم علمائهم وعُبّادهم ملوكهم وسوقتهم، وأنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطنا وظاهرا، حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه، كما قال تعالى ?وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ(81)فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ?[آل عمران:81-82].(26/54)
قال ابن عباس رضي الله عنهما ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقد قال تعالى ?أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا(60)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا(61)فَكَيْفَ إذا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا(62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا(63)وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا(64)فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[النساء:60-65]، وكل من خالف شيئا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقلدا في ذلك لمن يظن أنه ولي لله، فإنه بنى أمره على أنه ولي لله، وأن ولي الله لا يخالف في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله، كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، لم يُقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك، وتجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله أنه(26/55)
قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، مثل أن يُشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانا أو يملأ إبريقا من الهواء، أو ينفق([52]) بعض الأوقات من الغيب، أو أن يختفى أحيانا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سُرق لهم، أو بحال غائب لهم، أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور، ما يدل على أن صاحبها ولي لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يُغترَّ به حتى ينظر متابعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموافقته لأمره ونهيه، ([53]) وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة، وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله فقد يكون عدوا لله، فان هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين فلا يجوز أن يظن أنّ كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي الله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة.(26/56)
مثال ذلك أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسا للنجاسات، معاشرا للكلاب، يأوي إلى الحمّامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ولا كلب»، وقال عن هذه الأخلية «إن هذه الحشوش محتضرة» أي يحضرها الشيطان، وقال «من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا فان الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم»، وقال «إنّ الله طيب لا يقبل الا طيبا» وقال «إنّ الله نظيف يحب النظافة» وقال خمس من الفواسق يُقتلن في الحل والحرم، الحية، والفأرة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور» وفي رواية الحية، والعقرب. وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلاب. وقال «من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط»، وقال «لا تَصحب الملائكة رُفقة معهم كلب»، وقال «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب»، وقال تعالى ?وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[الأعراف:156-157].(26/57)
فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوى إلى الحمّامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبّها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يُخْلِصُ الدِّين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويُقَدِّمُ عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن. ([54])(26/58)
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله. وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: لو طهُرَت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل. وقال ابن مسعود: الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل، والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وإن كان الرجل خبيرا بحقائق الإيمان الباطنة فارقا بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية فيكون قد قذف الله في قلبه من نوره، كما قال تعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ?[الحديد:28]، وقال تعالى ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا?[الشورى:52] ([55]) فهذا من المؤمنين الذين جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال« اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» قال الترمذي حديث حسن، وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخاري وغيره قال « ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» فإذا كان العبد من هؤلاء فرّق بين حال أولياء الرحمن وحال أولياء الشيطان كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزَّيْف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء، وكما يفرق من(26/59)
يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبىء الكذاب، فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول ربّ العالمين - صلى الله عليه وسلم - وموسى والمسيح وغيرهم وبين مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة الأسدي والحارث الدمشقي وباباه الرومي وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين.
فصل
والحقيقة حقيقة الدين؛ دين رب العالمين هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاجا، فالشرعة هي الشريعة، قال الله تعالى ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]، وقال تعالى ?ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(18)إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ?[الجاثية:18-19]، والمنهاج هو الطريق، قال تعالى ?وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا?[الجن:16-17]، فالشِّرعة بمنزلة الشريعة للنهر، والمنهاج هو الطريق الذي سُلِك فيه، والغاية المقصودة هي حقيقة الدين وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وهي حقيقة دين الإسلام وهو أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا يستسلم لغيره، فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه ?إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ?[غافر:60]، ودين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين، وقوله تعالى ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ?[آل(26/60)
عمران:85] عام في كل زمان ومكان، فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون كلهم دينهم الإسلام الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له. ([56]) قال الله تعالى عن نوح ?يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ? إلى قوله ? وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ? وقال تعالى ?وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(130)إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131)وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[البقرة:130-131] وقال تعالى ?وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ?[يونس:84]، وقال السحرة ?رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ?[الأعراف:126]، وقال يوسف عليه السلام ?تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ?[يوسف:101]، وقالت بلقيس ? وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[النمل:44]، وقال تعالى ? يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ?[المائدة:44]، وقال الحواريون ?آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ?[آل عمران:52]، فدين الأنبياء واحد وإن تنوَّعت شرائعهم. كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إنَّا معشر الأنبياء ديننا واحد» قال تعالى ?شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا(26/61)
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ?[الشورى:13]، وقال تعالى ?يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(51)وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِي(52)فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?[المؤمنون:51-53].
فصل
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على ان الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء، وقد رتّب الله عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب، فقال تعالى ?وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا?[النساء:69].
وفي الحديث «ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر» وأفضل الأمم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ?[آل عمران:110]، وقال تعالى ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا?[فاطر:32]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي في المسند «أنتم تُوَفُّونَ سبعين أمة أنتم خيرها واكرمها على الله» وأفضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - القرن الأول.
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه أنه قال «خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه.
وفي الصحيحين أيضا عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه».(26/62)
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة، قال تعالى ?لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أعظم دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى?[الحديد:10]، وقال تعالى ?وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ?[التوبة:100]، والسابقون الأولون الذين انفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والمراد بالفتح صُلح الحديبية فإنه كان أول فتح مكة، وفيه أنزل الله تعالى ?إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1)لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ?[الفتح:1-2] فقالوا يا رسول الله أَوَ فَتْحٌ هو؟ قال «نعم».
وأفضل السابقين الأولين الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر ثم عمر، وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها، وقد دلّت على ذلك دلائل بسطناها في منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية.
وبالجملة اتفقت طوائف السنة والشيعة على أنَّ أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء، ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة.(26/63)
وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه، وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به، فهو أفضل أولياء الله، إذْ كانت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأمم، وأفضلها أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأفضلهم أبو بكر - رضي الله عنه -. وقد ظن طائفة غالطة أنّ خاتم الأولياء أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء، ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي، فانه صنّف مصنفا غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته، كما زَعم ذلك ابن عربى صاحب كتاب الفتوحات المكية وكتاب الفصوص فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه، كما يقال لمن قال فخَرَّ عليهم السقف من تحتهم. لا عقل ولا قرآن، ذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة، والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء، فكيف الأنبياء كلُّهم والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء، وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم، فإن فضل محمد - صلى الله عليه وسلم - ثَبَتَ بالنصوص الدَّالة على ذلك، كقوله - صلى الله عليه وسلم - «أنا سيِّد ولد آدم ولا فخر» وقوله «آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمد، فيقول بك أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك» وليلة المعراج رفع الله درجته فوق الأنبياء كلِّهم، فكان أحقهم بقوله تعالى ?تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ?[البقرة:253] إلى غير ذلك من الدلائل،(26/64)
كلٌّ منهم يأتيه الوحي من الله لا سيما محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في نبوته محتاجا إلى غيره؛ فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق، بخلاف المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة، وجاء المسيح فكمَّلها، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور وتمام الأربع وعشرين نبوة، وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدَّثين، بخلاف أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنّ الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدَّث، بل جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة وما فرَّقه في غيره من الأنبياء، فكان ما فضّله الله به من الله بما أنزله اليه وأرسله إليه، لا بتوسُّط بشر، وهذا بخلاف الأولياء فإنّ كل من بلغه رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أُرسل إليه، ([57])ومن إدعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد، وإذا قال أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، فهو شرٌّ من اليهود والنصارى الذين قالوا إنّ محمدا رسول إلى الاميين دون أهل الكتاب، فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فكانوا كفّارا بذلك، وكذلك هذا الذي يقول إن محمدا بُعث بعلم الظاهر دون على الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر، وهو أكفر من أولئك؛ لأن علم الباطن الذي هو على إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة.(26/65)
فإذا إدعى المدعى أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان، وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول أؤمن ببعض وأكفر ببعض ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولاية أفضل من النبوة، ويُلبِّسون على الناس فيقولون ولايته أفضل من نبوته، وينشدون:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي(26/66)
ويقولون نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن وَلاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى، فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون، وكلُّ رسول نبيٍّ وليٍّ، فالرسول نبي ولي، ورسالته متضمنة لنبوته، ونبوته متضمنة لوَلايته، وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون وَلايته لله فهذا تقدير ممتنع، فإنه حال إنبائه إياه ممتنع أن يكون إلا وليا لله، ولا تكون مجردة عن وَلايته، ولو قُدرت مجردة لم يكن أحد مماثلا للرسول في وَلايته، وهؤلاء قد يقولون كما يقول صاحب الفصوص ابن عربى: أنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، وذلك أنهم اعتقدوا عقيدة المتفلسفة ثم أخرجوها في قالب المكاشفة، وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا أن الأفلاك قديمة أزلية لها علة تتشبَّه بها، كما يقوله أرسطو وأتباعه أو لها موجب بذاته كما يقوله متأخروهم كابن سينا وأمثاله، ولا يقولون إنها لربٍّ خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته، ولا يعلم الجزئيات، بل إما اأن ينكروا علمه مطلقا كقول أرسطو، أو يقولوا إنما يعلم في الأمور المتغيرة كلياتها كما يقوله ابن سينا. وحقيقة هذا القول إنكار علمه بها، فإن كل موجود في الخارج فهو معين جزئي الأفلاك كل معين منها جزئي، وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات، والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان، والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر في رد تعارض العقل والنقل وغيره، فإن كُفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى، بل ومشركي العرب، فإن جميع هؤلاء يقولون إن الله خلق السموات والأرض، وإنه خلق المخلوقات بمشيئته وقدرته، وأرسطو ونحوه من المتفلسفة واليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وهم لا يعرفون الملائكة والأنبياء، وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك وإنما غالب(26/67)
علوم القوم الأمور الطبيعية، وأما الامور الإلهية فكل منهم فيها قليل الصواب كثير الخطأ، واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم بالإلهيات منهم بكثير، ولكن متأخروهم كابن سينا أرادوا أن يُلفِّقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل، فأخذوا أشياء من أصول الجهمية والمعتزلة، وركبوا مذهبا قد يعتزى إليه متفلسفة أهل الملل، وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبّهنا على بعضه في غير هذا الموضع، وهؤلاء لما رأوا أمر الرسل كموسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد بهر العالم، واعترفوا بأن الناموس الذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم ناموس طرق العالم ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن أرادوا ان يجمعوا بين ذلك وبين أقوال سلفهم اليونان الذين هم ابعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأولئك قد اثبتوا عقولا عشرة يسمونها المجردات والمُفَارَقات وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن وسموا تلك المفارقات لمفارقتها المادة وتجردها عنها وأثبتوا الأفلاك لكل فلك نفسا وأكثرهم جعلوها أعراضا وبعضهم جعلها جواهر، وهذه المجردات التي أثبتوها ترجع عند التحقيق إلى أمورموجودة في الأذهان لا في الأعيان كما أثبت أصحاب فيثاغورس أعداد مجردة، كما أثبت أصحاب أفلاطون الأمثال الأفلاطونية المجردة أثبتوا هيولى مجردة عن الصورة ومدة وخلاء مجردين، وقد إعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان، فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كابن سينا أن يثبت أمر النبوات على أصولهم الفاسدة، وزعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من إتصف بها فهو نبي:
· الأولى أن تكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية، ([58]) ينال بها من العلم بلا تعلم.(26/68)
· الثاني أن يكون له قوة تخيليّة تخيل له ما يعقل في نفسه بحيث يرى في نفسه صورا أو يسمع في نفسه أصواتا كما يراه النائم ويسمعه ولا يكون لها وجود في الخارج، وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله، وتلك الأصوات هي كلام الله تعالى.
· الثالث أن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولى العالم.
وجعلوا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق السحرة هي قوى النفس، فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم من قلب العصا حية دون إنشقاق القمر ونحو ذلك، فإنهم ينكرون وجود هذا. وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع وبينا أن كلامهم هذا أفسد الكلام، وأن هذا الذي جعلوه من الخصائص التي تحصّل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأتباع الأنبياء وأن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله وهم كثيرون، كما قال تعالى?وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ?[المثر:31]، وليسوا عَشَرة، وليسوا أعراضا لاسيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو العقل الأول، وعنه صدر كل ما دونه، والعقل الفعال العاشر رب كل ما تحت فلك القمر، وهذا كله يُعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل، فليس أحد من الملائكة مبدع([59]) لكل ما سوى الله، وهؤلاء يزعمون أن العقل المذكور في حديث يروى «إن أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل، فقال له أدبر فأدبر، فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم على منك، فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب» ويسمونه أيضا القلم لما روى «إن أول ما خلق الله القلم» الحديث رواه الترمذي. والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو حاتم البُستي([60]) والدار قطني وابن الجوزي وغيرهم، وليس في شيء من دواوين الحديث التي يُعتمد عليها، ومع هذا فلفظه لوكان ثابتا حجةً عليهم، فإن لفظه أول ما خلق الله تعالى العقل قال له، ويروى لما خلق الله العقل قال له، فمعنى الحديث أنه خاطبه في أول أوقات خلقه ليس معناه(26/69)
أنه أول المخلوقات، وأول منصوب على الظرف كما في اللفظ الآخر لمّا، وتمام الحديث ما خلقت خلقا أكرم علي منك، فهذا يقتضى أنه خلق قبله غيره، ثم قال فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب، فذكر أربعة أنواع من الأعراض وعندهم أن جميع جواهر العالم العلوي والسُّفلي صدر عن ذلك العقل، فأين هذا من هذا وسبب غلطهم أن لفظ العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونان، فإن العقل في لغة المسلمين مصدر عَقَلَ، يَعْقِلُ، عَقْلاً كما في القرآن ?وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ?[الملك:10]، ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ?[النحل:12]، ?أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أو إذا نٌ يَسْمَعُونَ بِهَا?[الحج:46]، ويُراد بالعقل الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعقل بها، وأما أولئك فالعقل عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل، وليس هذا مطابقا للغة الرسل والقرآن، وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم الأجسام العقل والنفوس فيسميها عالم الأمر، وقد يسمى العقل عالم الجبروت، والنفوس عالم الملكوت، والأجسام عالم الملك، ويظن من لم يعرف لغة الرسل ولم يعرف معنى الكتاب والسنة أن ما في الكتاب والسنة من ذكر الملك والملكوت والجبروت موافق لهذا، وليس الأمر كذلك، وهؤلاء يُلَبِّسون على المسلمين تلبيسا كثيرا كإطلاقهم أن الفَلَك محدث أي معلول مع أنه قديم عندهم، والمحدث لا يكون إلا مسبوقا بالعدم، ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلى محدثا، والله قد أخبر أنه خالق كل شيء، وكل مخلوق فهو محدَث، وكل محدث كائن بعد أن لم يكن، لكن ناظَرَهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبرت به الرسل، ولا أحكموا فيها قضايا العقول، فلا للإسلام نصروا، ولا للأعداء كسروا، وشاركوا أولئك(26/70)
في بعض قضاياهم الفاسدة، ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة، فصار قصور هؤلاء في العلوم السّمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك كما قد بُسط في غير هذا الموضع.
وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون جبريل هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -، والخيال تابع للعقل، فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة وزعموا أنهم أولياء الله، وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله، وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة، كابن عربي صاحب الفتوحات والفصوص، فقال: إنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملَك الذي يوحي به إلى الرسول، والمعدن عنده هو العقل، والملك هو الخيال، والخيال تابع للعقل، وهو بزعمه يأخذ عن الذي هو أصل الخيال، والرسول يأخذ عن الخيال، فلهذا صار عند نفسه فوق النبي، ولو كان خاصة النبي ما ذكروه، ولم يكن هو من جنسه فضلا عن أن يكون فوقه، فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين، والنبوة أمر وراء ذلك فإن ابن عربى وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة ليسوا من صوفية أهل العلم، ([61]) فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين.(26/71)
والله سبحانه وتعالى قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء([62]) كقوله تعالى ?وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(27)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ(28)وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ?[الأنبياء:26-29]، وقال تعالى ?وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى?[النجم:26]، وقال تعالى ?قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22)وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ?[سبإ:22-23]، وقال تعالى ?وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ(19)يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ?[الأنبياء:19-20]، وقد أخبر أن الملائكة جاءت لإبراهيم عليه السلام في صورة البشر، وأن الملَك تمثّل لمريم بشرا سويا، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي ويراهم الناس كذلك، وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بأنه ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رآه بالأفق المبين ووصفه بأنه ?شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(8)فَكَانَ قَابَ(26/72)
قَوْسَيْنِ أو أَدْنَى(9)فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(12)وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى(13)عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى(14)عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى(15)إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى(16)مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى(17)لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى?[النجم:5-18].
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم ير جبريل في صورته التي خُلق الله عليها غير مرتين، يعني المرة الأولى بالأفق الأعلى، والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى، ووصف جبريل عليه السلام في موضع آخر بأنه الروح الأمين وأنه روح القدس إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء العقلاء، وأنه جوهر قائم بنفسه ليس خيالا في نفس النبي، كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة والمدعون وَلاية الله، وأنهم أعلم من الأنبياء، وغاية حقيقة هؤلاء إنكار أصول الإيمان بأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وحقيقة أمرهم جحد الخالق فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق وقالوا الوجود واحد ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، فإن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، كما تشترك الأناسيُّ في مسمى الإنسان، والحيوانات في مسمى الحيوان، ولكن هذا المشترك الكلى لا يكون مشتركا كليا إلا في الذهن، وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الإنسان ليست هي الحيوانية القائمة بالفَرَس، ووجود الشهوات ليس هو بعينه وجود الإنسان، فوجود الخالق جل جلاله ليس هو كوجود مخلوقاته، وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطّل الصانع فإنه لم يكن منكرا هذا الوجود المشهود، لكن زعم أنه موجود بنفسه لا صانع له، وهؤلاء وافقوه في ذلك، لكن زعموا بأنه هو الله فكانوا أضل منه، وإن كان قوله هذا هو أظهر فسادا منهم، ولهذا جعلوا عبّاد(26/73)
الأصنام ما عبدوا إلا الله وقالوا لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف وإن جاز في العرف الناموس كذلك قال أنا ربكم الأعلى، أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منكم بما أُعطيته في الظاهر من الحكم فيكم، قالوا ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله أقروا له بذلك، وقالوا إقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضى هذه الحياة الدنيا، قالوا فصحّ قول فرعون أنا ربكم الأعلى وكان فرعون عين الحق، ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة، فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة خاصة الخاصة من أهل ولاية الله، وأنهم أفضل من الأنبياء، وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم، وليس هذا موضع بسط إلحاد هؤلاء، ولكن لما كان الكلام في أولياء الله والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وكان هؤلاء من أعظم الناس إدعاء لولاية الله، وهم من أعظم الناس ولاية للشيطان، نبهنا على ذلك. ([63]) ولهذا عامة كلامهم إنما هو في الحالات الشيطانية، ويقولون ما قاله صاحب الفتوحات باب أرض الحقيقة، ويقولون هي أرض الخيال، فتعرف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال، ومحل تصرف الشيطان، فإن الشيطان يخيل للإنسان الأمور بخلاف ما هي عليه، قال تعالى ?وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(36)وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ(37)حَتَّى إذا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ(38)وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ?[الزخرف:36-39]، وقال تعالى ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا(26/74)
بَعِيدًا? إلى قوله ?يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا?[النساء:116-120]، وقال تعالى ?وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ?[إبراهيم:22]، وقال تعالى ?وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ?[الأنفال:48].(26/75)
وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أنه رأى جبريل يَزَعُ الملائكة، والشياطين إذا رأت ملائكة الله التي يؤيِّد بها عباده هربت منهم، والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته، قال تعالى ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا?[الأنفال:12]، وقال تعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا?[الأحزاب:9]، وقال تعالى ?إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا?[التوبة:40]، وقال تعالى ?إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ(124)بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ?[آل عمران:124-125]، وهؤلاء تأتيهم أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم وهي جن وشياطين فيظنونها ملائكة كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام.(26/76)
وكان من أول ما ظهر من هؤلاء في الإسلام المختار بن أبي عبيد الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «سيكون في ثقيف كذاب ومبير» وكان الكذاب المختار بن أبي عبيد، والمبير الحجاج بن يوسف، فقيل لابن عمر وابن عباس أن المختار يزعم أنه ينزل إليه، فقالا صدق قال الله تعالى ?هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ?[الشعراء:221-222]، وقال الآخر وقيل له إن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال قال الله تعالى ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121]، وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه أَلقى إليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أنواعا من الخلوات بطعام معين وشيء معين، وهذه مما تفتح لصاحبها اتصالا بالجن والشياطين فيظنون ذلك من كرامات الأولياء، وإنما هو من الأحوال الشيطانية وأعرف من هؤلاء عددا ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كانت يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السرقات بجُعل يحصل له من الناس أو بعطاء يعطونه إذا دلّهم على سرقاتهم، ونحو ذلك.(26/77)
ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، كما يوجد في كلام صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأشباه ذلك يمدح الكفار مثل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم، ويتنقص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وهارون، ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهما، ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه، كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية، فإن الجنيد قدس اللهُ روحه كان من أئمة الهدى، فسئل عن التوحيد فقال التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث، وبين الخالق والمخلوق، وصاحب الفصوص أنكر هذا وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له يا جنيد هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما، فخطّأ الجنيد في قوله إفراد الحدوث عن القدم؛ لأن قوله هو أن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قال في فصوصه: ومن أسمائه الحسنى العلي على من؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه، وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاته، وليست إلا هو. إلى أن قال: هو عين ما بطن، وهو عين ما ظهر، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز!!! وغير ذلك من الأسماء المحدثات.(26/78)
فيقال لهذا الملحد ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثا غيرهما، فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره، وليس هو ثالث، فالعبد يعرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه، والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، والاستشهاد بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطنا وظاهرا، وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم، وهو أحذقهم في إتحادهم لما قرىء عليه الفصوص فقيل له القرآن يخالف فصوصكم، فقال القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، فقيل له فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما، فقال الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم. وهذا مع كفره العظيم متناقض ظاهرا، فإن الوجود إذا كان واحدا، فمن المحجوب ومن الحاجب؟ ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده من قال لك أن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له مريده فمن هو الذي يكذب؟ وقالوا لآخر هذه مظاهر، فقال لهم المظاهر غير الظاهر أم هي؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالنسبة وإن كانت إياها فلا فرق. وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في موضع آخر وبينا حقيقة قول كل واحد منهم، وأن صاحب الفصوص يقول المعدوم شيء ووجود الحق فاض عليهما. فيُفرِّق بين الوجود والثبوت([64]) والمعتزلة الذين قالوا المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه فإن أولئك قالوا إن الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجودا ليس هو وجود الرب، وهذا زعم أن عين وجود الرب فاض عليهما، فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق، وصاحبه الصدر القونوي يفرق بين المطلق والمعين لأنه كان أقرب إلى الفلسفة، فلم يقر بأن المعدوم شيء، لكن جعل الحق هو الوجود المطلق وصنَّف مفتاح غيب الجمع والوجود، وهذا القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه، فإن المطلق بشرط الإطلاق وهو الكلي(26/79)
العقلي لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان، والمطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي، وإن قيل أنه موجود في الخارج فلا يوجد في الخارج إلا معيَّنا، وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته في الخارج، فيلزم أن يكون وجود الرب إما منتفيا في الخارج، وإما أن يكون جزءا من وجود المخلوقات، وإما أن يكون عين وجود المخلوقات وهل يخلق الجزء الكل؟ أم يخلق الشيء نفسه؟ أم العدم يخلق الوجود؟ أو يكون يعض الشيء خالقا لجميعه؟ وهؤلاء يفرون من لفظ الحلول لأنه يقتضي حالاَّ ومحلاًّ، ومن لفظ الاتحاد لأنه يقتضي شيئين إتحد أحدهما بالآخر، وعندهم الوجود واحد ويقولون النصارى إنما كفروا لما خصصوا المسيح بأنه هو الله، ولو عمَّمُوا لما كفروا، وكذلك يقولون في عُبَّاد الأصنام إنما أخطأوا لما عبدوا بعض المظاهر دون بعض، فلو عبدوا الجميع لما أخطأوا عندهم، والعارف المحقق عندهم لا يضره عبادة الأصنام، وهذا مع ما فيه من الكفر العظيم، ففيه ما يلزمهم دائما من التناقض، لأنه يقال لهم فمن المخطىء؟ لكنهم يقولون إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التي يوصف بها المخلوق، ويقولون إن المخلوقات توصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق، ويقولون ما قاله صاحب الفصوص، فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفا أو عقلا أو شرعا، أو مذمومة عُرفا وعقلا وشرعا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، وهم مع كفرهم هذا لا يندفع عنهم التناقض فإنه معلوم بالحسن والعقل أن هذا ليس هو ذاك، وهؤلاء يقولون ما كان يقوله التلمساني أنه ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل، ويقولون من أراد التحقيق يعنى تحقيقهم فليترك العقل والشرع. وقد قلت لمن خاطبته منهم، ومعلوم أن كشف الأنبياء أعظم، وأتم من كشف غيرهم، وخبرهم أصدق من خبر غيرهم، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته، لا بما(26/80)
يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع فيخبرون بمجارات العقول([65]) لا بمحالات العقول، ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض صريح العقول، ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا، فكيف بمن ادعى كشفا يناقض صريح الشرع والعقل، وهؤلاء قد لا يتعمدون الكذب، لكن يخيل لهم أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج، وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج لكن يظنونها من كرامات الصالحين، وتكون من تلبيسات الشياطين، وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة قد يقدمون الأولياء على الأنبياء، ويذكرون أن النبوة لم تنقطع، كما يُذكر عن ابن سبعين وغيره، ([66])ويجعلون المراتب ثلاثة يقولون العبد يشهد:
· أولا طاعة معصية.
· ثم طاعة بلا معصية.
· ثم لا طاعة ولا معصية.
والشهود الأول هو الشهود الصحيح، وهو الفرق بين الطاعات والمعاصي، وأما الشهود الثاني فيريدون به شهود القدر، كما أن بعض هؤلاء يقول إنا كافرون برب يعصى، وهذا يزعم أن المعصية مخالفة الإرادة التي هي المشيئة([67]) والخلق كلهم داخلون تحت حكم المشيئة ويقول شاعرهم:
أصبحت منفعلا لما تختاره مني ففعلي كله طاعات([68])(26/81)
ومعلوم أن هذا خلاف ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه فإن المعصية التي يستحق صاحبها الذم والعقاب مخالفة أمر الله ورسوله كما قال تعالى ?تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13)وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ?[النساء:13-14]، وسنذكر الفرق بين الإرادة الكونية والدينية والأمر الكوني والديني، وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية فبينها الجنيد رحمه الله لهم، ومن اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل، لأنهم تكلموا في أن الأمور كلها بمشيئة الله وقدرته، وفي شهود هذا التوحيد وهذا يسمونه الجمع الأول، فبين لهم الجنيد أنه لابد من شهود الفرق الثاني، وهو أنه مع شهود كون الأشياء كلها مشتركة في مشيئة الله وقدرته وخَلقه يجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه، وبين ما ينهى عنه ويكرهه ويسخطه، ويفرق بين أوليائه واعدائه، كما قال تعالى ?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[35-36]، وقال تعالى ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ?[ص:28]، وقال تعالى ?أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ?[الجاثية:21]، وقال تعالى ?وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ?[غافر:58]، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ما(26/82)
شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا رب غيره، وهو مع ذلك أمر بالطاعة ونهى عن المعصية، وهو لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، وإن كانت واقعة بمشيئته فهو لا يحبها ولا يرضاها، بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم. وأما المرتبة الثالثة أن لا يشهد طاعة ولا معصية فإنه يرى أن الوجود واحد، وعندهم أن هذا غاية التحقيق، والوَلاية لله، وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته وغاية العداوة لله. فإن صاحب هذا المشهد يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء وقد قال تعالى ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة ابراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال الله تعالى ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ?[الممتحنة:4]، وقال الخليل عليه السلام لقومه المشركين ?أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:75-77]، وقال تعالى ?لاَتَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أو أَبْنَاءَهُمْ أو إِخْوَانَهُمْ أو عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ?[المجادلة:22]، وهؤلاء قد صنف بعضهم كتبا وقصائد على مذهبه مثل قصيدة ابن الفارض المسمات بنظم السلوك يقول فيها:
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت(26/83)
كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة
وماكان لي صلى سوائي ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال:
ومازلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي صلت
إلى رسولا كنت مني مرسلا وذاتي بآياتي على استدلت
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن منادى أجابت من دعاني ولبت
إلى أمثال هذا الكلام، ولهذا كان هذا القائل عند الموت ينشد يقول:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمنا واليوم أحسبها اضغاث احلام
فإنه كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين له بطلان ما كان يظنه، وقال الله تعالى ?سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[الحديد:1] ([69]) فجميع ما في السموات والأرض يسبح لله ليس هو الله ثم قال تعالى ?لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(2)هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[الحديد:2-3].(26/84)
وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه «اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، إقض عنى الدَّين وأغنني من الفقر» ثم قال تعالى ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?[الحديد:4]، فذكر أن السموات والأرض وفي موضع آخر وما بينهما مخلوق مسبح له، وأخبر سبحانه أنه يعلم كل شيء، ([70]) وأما قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) فلفظ مَعَ([71]) لا تقتضى في لغة العرب أو يكون أحد الشيئين مختلطا بالآخر كقوله تعالى ?اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ?[التوبة:119]، وقوله تعالى ?مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ?[الفتح:29]، وقوله تعالى ?وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ?[الأنفال:75]، ولفظ مَعَ جاءت في القرآن عامة وخاصة، فالعامة في هذه الآية وفي آية المجادلة ?أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[المجادلة:7]، فافتتح(26/85)
الكلام بالعلم وختمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل هو معهم بعلمه، وأما المعية الخاصة ففي قوله تعالى?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128]، وقوله تعالى لموسى?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?[طه:47]، وقال تعالى ?إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا?[التوبة:40]، يعنى النبي- صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر - رضي الله عنه -، فهو مع موسى وهارون دون فرعون، ومع محمد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه، ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين، فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام، بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك وقوله تعالى ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ?[الزخرف:84]، أي هو إله من في السموات وإله من في الأرض كما قال الله تعالى ?وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[الروم:27]، وكذلك قوله تعالى ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ?[الأنعام:3]، كما فسره أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره أنه المعبود في السموات والأرض.(26/86)
وأجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الرب تعالى بائن من مخلوقاته، يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، يوصف بصفات الكمال دون صفات النقص، ويعلم أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال، كما قال الله تعالى ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)?[الإخلاص]، قال ابن عباس الصمد العليم الذي كمل في علمه، العظيم الذي كمل في عظمته، القدير الكامل في قدرته، الحكيم الكامل في حكمته، السيد الكامل في سؤدده، وقال ابن مسعود وغيره هو الذي لا جوف له، والأحد الذي لا نظير له، فاسمه الصمد يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه، واسمه الأحد يتضمن إتصافه بأنه لا مثل له، وقد بسطنا الكلام على ذلك في تفسير هذه السورة وفي كونها تعدل ثلث القرآن. ([72])
فصل(26/87)
وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية، فإن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر، كما قال تعالى ?إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[الأعراف:54]، فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه لا خالق غيره، ولا رب سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه، وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، أمر بالتوحيد والإخلاص، ونهى عن الإشراك بالله، فأعظم الحسنات التوحيد، وأعظم السيئات الشرك، قال الله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48]، وقال تعالى ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ?[البقرة:165].(26/88)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قلت: ثم أي؟ قال «أن تزني بحليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك ?وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69)إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?[الفرقان:68-70]، وأمر سبحانه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأخبر أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، وهو يكره ما نهى عنه، كما قال في سورة سبحان ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا?[الإسراء:38]، وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين، وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق، ونهى عن التبذير وعن التقتير، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وأن يبسطها كل البسط، ونهى عن قتل النفس بغير الحق، وعن الزنا، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن، إلى أن قال ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا?[الإسراء:38]، وهو سبحانه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائما، قال الله تعالى ?وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?[النور:31].(26/89)
وفي صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسى بيده إني للأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» وفي صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة».
وفي السنن عن ابن عمر قال كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد يقول «رب إغفر لي وتب علي إنك أنت التّوّاب الرحيم» مائة مرة أو قال أكثر من مائة مرة. وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثا ويقول «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والاكرام»، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه وقد قال تعالى ?وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ?[آل عمران:17] فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار، وكذلك ختم سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى ?وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[المزمل:17]، وكذلك قال في الحج([73])?فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ(198)ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[البقرة:198-199] بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك وهي آخر غزواته ?لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(117)وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ(26/90)
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ?[التوبة:117-118]، وهي آخر ما نزل من القرآن، وقد قيل إن آخر سورة نزلت قوله تعالى ?إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)?[النصر]، فأمره الله تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم إغفر لي يتأول القرآن».
وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول «اللهم إغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، لا إله إلا أنت».
وفي الصحيحين أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال «قل اللهم إني ظلمت نفسى ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وإرحمني إنك أنت الغفور الرحيم».([74])(26/91)
وفي السنن عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال «قل اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم، قله إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك»، فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائما قال الله تبارك وتعالى ?وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?[الأحزاب:72-73]، فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة.(26/92)
وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم، وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال«لن يدخل الجنة أحد بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل» وهذا لا ينافي قوله تعالى ?كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ?[الحاقة:24]، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفى باء المقابلة والمعادلة، والقرآن أثبت باء السبب، وقول من قال إذا أحب الله عبدا لم تضره الذنوب، معناه أنه إذا أحب عبدا ألهمه التوبة والاستغفار، فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، وإنما عباده الممدوحين هم المذكورون في قوله تعالى ?سَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[آل عمران:133-135]، ومن ظن أن القدر حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم ?سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ? قال الله تعالى رادّا عليهم ?كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ(26/93)
أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ?[الأنعام:148-149]، ولو كان القدر حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعا لهواه بغير هدى من الله، ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب، فعليه أن لا يذم أحدا ولا يعاقبه إذا إعتدى عليه، بل يستوى عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم، فلا يفرق بين من يفعل معه خيرا وبين من يفعل معه شرا، وهذا ممتنع طبعا وعقلا وشرعا، وقد قال تعالى ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ?[ص:28]، وقال تعالى ?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ?[القلم:35]، وقال تعالى?أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ?[الجاثية:21]، وقال تعالى?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ?[المؤمنون:115]،وقال تعالى?أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى?[القيامة:36]أي مهملا لا يُؤمر ولا يُنهى.(26/94)
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «احتج آدم وموسى، قال موسى: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، أخرجتنا ونفسك من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوبا على قبل أن أخلق، وعصى آدم ربه فغوى. قال: بأربعين سنة. قال: فلم تلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين سنة. قال: فحجّ آدم موسى أي غلبه بالحجة»، وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان؛ طائفة كذبت به لما ظنوا انه يقتضى رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر، وطائفة شرّ من هؤلاء جعلوه حجة، وقد يقولون القدرحجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلا، ومن الناس من قال إنما حج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه كان قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى، وكل هذا باطل ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة. ولم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبا وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب منه أيضا، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل ?رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[الأعراف:23]، والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ?[غافر:55]، فأمره بالصبر على المصائب والاستغفار من المعائب، وقال تعالى ?مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ?[التغابن:11]، قال ابن مسعود([75]) هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله(26/95)
فيرضى ويسلم. فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة مثل المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله، وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي، فافتقر أولاده لذلك، فعليهم أن يصبروا لما أصابهم وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر، والصبر واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، والرضا قد قيل أنه واجب وقيل هو مستحب، وهو الصحيح، وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها، حيث جعلها سببا لتكفير خطاياه، ورفع درجاته، وإنابته إلى الله، وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه، دون المخلوقين، ([76]) وأما أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها، كما قال بعض العلماء أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها، وأنه هو الذي أنعم عليهم، وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة، وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة إلا به، فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى، وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها.
ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، أبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة».(26/96)
وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، ياعبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أَكسكم، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجِنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوَفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».(26/97)
فأمر سبحانه بحمد الله على ما يجده العبد من خير، وأنه إذا وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه، وكثير من الناس يتكلم بلسان الحقيقة ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته، وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته، ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقا لما أمر الله به على ألسن رسله، وبين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة، كما أن لفظ الشريعة يتكلم به كثير من الناس، ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى، وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه، ولا يخرج عنه إلا كافر، وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم، فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطىء، هذا إذا كان عالما عادلا، وإلا ففي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «القضاة ثلاثة؛ قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى بغيره فهو في النار» وأفضل القضاة العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمنقضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» قد أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن بخلاف ذلك، لم يجزْ للمقضى له أن يأخذ ما قضى به له، وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار، وهذا متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبيِّنة والاقرار، وكان الباطن بخلاف الظاهر لم يجز للمقضى له أن يأخذ ما قُضي به له بالاتفاق، وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك، فأكثر العلماء يقول أن الأمر كذلك، وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد بن حنبل، وفرّق أبو حنيفة - رضي الله عنه - بين النوعين، فلفظ الشرع(26/98)
والشريعة إذا أُريد به الكتاب والسنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه([77])، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقا إلى الله غير متابعة محمد - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهرا فلم يتابعه باطنا وظاهرا فهو كافر، ([78]) ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخَضِر كان غالطا من وجهين، أحدهما أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثا إلى بني إسرائيل، وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، ولوأدركه من هو أفضل من الخضر كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم إتباعه، فكيف بالخضر سواء كان نبيا أو وليا، ولهذا قال الخضر لموسى أنا على علم من علم الله علَّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقول مثل هذا. ([79])
الثاني أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفا لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن عَلِمَ الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم، وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرا، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله، قال ابن عباس رضي الله عنهما لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان قال له: إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم. رواه البخاري. وأما الإحسان إلى اليتيم بلا عوض والصبر عل الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيءمخالفا شرع الله.(26/99)
وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالما، وقد يكون عادلا، وقد يكون صوابا، وقد يكون خطأ، وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه كأبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعى والليث بسعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة، وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك كان جائزا أي ليس اتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة، كاتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم اتباع من يتكلم بغير علم، وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراة، أو تأول النصوص بخلاف مراد الله، ونحو ذلك، فلهذا من نوع التبديل، فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل، كما يُفرّق بين الحقيقة الكونية، والحقيقة الدينية الأمرية، وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة، وبين ما يُكتفي فيها بذوق صاحبها ووجده. ([80])
فصل(26/100)
وقد ذكر الله في كتابه الفرق بين الارادة والأمر، والقضاء والإذن، والتحريم والبعث، والارسال والكلام، والجعل، وبين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه، وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يثبت أصحابه ولا يجعلهم من أوليائه المتقين، وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب عليه وأكرمهم وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين، وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه، فمن استعمله الرب سبحانه وتعالى فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه، ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه، فالارادة الكونية هي مشيئته لما خلقه، وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وارادته الكونية، ([81]) والارادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه، المتناولة لما أمر به، وجعله شرعا ودينا، وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى ?فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ?[الأنعام:125]، وقال نوح عليه السلام لقومه ?وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ?[هود:34]، وقال تعالى ?وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ?[الرعد:11]، وقال تعالى في الثانية ?وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ([82])يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ?[البقرة:185]، وقال في آية الطهارة ?مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?[المائدة:6]، ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح، قال(26/101)
?يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(26)وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا(27)يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا?[النساء:26-28]، وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وما نهاهم عنه ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33]، والمعنى انه أمركم بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، فمن أطاع أمره كان مطهرا قد أُذهب عنه الرجس، بخلاف من عصاه، وأما الأمر فقال في الأمر الكوني ?إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?[النحل:40]، وقال تعالى ?وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ?[القمر:50]، وقال تعالى ?أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أو نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ?[يونس:24]، وأما الأمر الديني فقال تعالى?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ?[النحل:90]، وقال تعالى ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا?[النساء:58]، وأما الإذن فقال في الكوني لما ذكر السحر ?وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ?[البقرة:102] أي بمشيئته وقدرته، وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل، وقال في الإذن الديني(26/102)
?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ?[الشورى:21]، وقال تعالى ?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45)وَدَاعِيًا إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ?[الأحزاب:45-46]، وقال تعالى ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ?[النساء:64]، ([83]) وقال تعالى ?مَا قطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ?[الحشر:5]، وأما القضاء فقال في الكوني ?فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ?[فصلت:12]، وقال سبحانه ?إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?([84]) وقال في الديني ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[الإسراء:23]، أي أمر وليس المراد به قدر ذلك فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع كقوله تعالى ?وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ?[يونس:18]، وقول الخليل عليه السلام لقومه ?أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:75-77]، وقال تعالى ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ?[الممتحنة:4]، وقال تعالى ?قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا(26/103)
أَعْبُدُ(3)وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ(4)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6)?[الكافرون]، وهذه كلمة تقتضى براءته من دينهم ولا تقتضى رضاه بذلك، كما قال تعالى في الآية الآخرى ?وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ?[يونس:41]، ومن ظن من الملاحدة أنّ هذا رضا منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم، كمن ظن أن قوله ?وَقَضَى رَبُّكَ?[الإسراء:23] بمعنى قدّر، وأن الله سبحانه ما قضى بشيء إلا وقع، وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفرا بالكتب، ([85]) وأما لفظ البعث فقال تعالى في البعث الكوني ?فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا?[الإسراء:5]، وقال في البعث الديني ?هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ?[الجمعة:2]، قال تعالى ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، وأما لفظ الإرسال فقال في الإرسال الكوني ?أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا?[مريم:83]، وقال تعالى ?وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ?[الفرقان:48]، وقال في الديني ?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا?[الأحزاب:45]، وقال تعالى ?إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ?[نوح:1]، وقال تعالى ?إنَّاأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا?[المزمل:15]،(26/104)
وقال تعالى ?اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ?[الحج:75]، وأما لفظ الجعل فقال في الكوني ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ?[القصص:41]، وقال في الديني ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]، وقال تعالى ?مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ?[المائدة:103]، وأما لفظ التحريم فقال في الكوني ?وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ?[القصص:12]، وقال تعالى ?قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ?[المائدة:26]، وقال في الديني ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ?[المائدة:3]، وقال تعالى ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ?[النساء:23]الآية، وأما لفظ الكلمات فقال في الكلمات الكونية ?وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ?[التحريم:12].(26/105)
وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول «أعوذ بكلمات الله التامة، كلها من شر ما خلق ومن غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون»، وقال - صلى الله عليه وسلم - «من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرَّه([86]) شيء حتى يرتحل من منزله ذلك»، وكان يقول «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يارحمن» وكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر هي التي كون بها الكائنات، فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته، وأما كلماته الدينية وهي كتبه المنزلة وما فيها من أمره ونهيه فأطاعها الأبرار وعصاها الفجار، وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية وجعله الديني وإذنه الديني وإرادته الدينية، وأما كلماته الكونية إلى لا يجاوزها بر ولا فاجر فانه يدخل تحتها جميع الخلق حتى إبليس وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار، فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق والمشيئة والقدرة والقدر لهم فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب، وأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور، وتركوا المحظور، وصبروا على المقدور، فأحبهم وأحبوه، ورضي عنهم ورضوا عنه، وأعداؤه أولياء الشياطين وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم، ويغضب عليهم، ويلعنهم، ويعاديهم، وبسط هذه الجمل له موضع آخر، وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وجِمَاعُ([87]) الفرق بينهما اعتبارهم بموافقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء وأعدائه الأشقياء، وبين أوليائه أهل الجنة وأعدائه أهل النار، وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد وبين أعدائه أهل الغي والضلال والفساد، وأعدائه حزب الشيطان،(26/106)
وأوليائه الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأايدهم بروح منه، قال تعالى ?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ?[المجادلة:22]الآية، وقال تعالى ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ?[الأنفال:12]، وقال ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ?[الأنعام:121]، وقال ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا?[الأنعام:112]، وقال ?هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ(224)أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225)وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ(226)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ?[الشعراء:221-227]، وقال تعالى ?فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ(38)وَمَا لَا تُبْصِرُونَ(39)إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ(41)وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(42)تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(43)وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ(26/107)
حَاجِزِينَ(47)وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(48)وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ(49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ(50)وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ(51)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ?[الحاقة:38-52]، وقال تعالى ?فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ?[الطور:29] إلى قوله ?إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ?[الطور:34]، فنزه سبحانه وتعالى نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - عمن تقترن به الشياطين من الكهان والشعراء والمجانين، وبيّن أن الذي جاءه بالقرآن ملك كريم اصطفاه، قال الله تعالى ?اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ?[الحج:75]، وقال تعالى ?وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ?[الشعراء:192-195]، وقال تعالى ?قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ?[البقرة:97]الآية، وقال تعالى ?فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ?[النحل:98] إلى قول ?وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ?[النحل:102]، فسمّاه الروح الأمين وسماه روح القدس وقال تعالى ?فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15)الْجَوَارِي الْكُنَّسِ?[التكوير:15-16] يعنى الكواكب التي تكون في السماء خانسة أي مختفية قبل طلوعها، فإذا ظهرت رآها الناس جارية في السماء، فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها، ?وَاللَّيْلِ إذا عَسْعَسَ?[التكوير:17] أي إذا أدبر وأقبل الصبح ?وَالصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ?[التكوير:18] أي أقبل، ?إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ?[التكوير:19] وهو جبريل عليه السلام ?ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20)مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ?[التكوير:20-21] أي مطاع(26/108)
في السماء أمين، ثم قال ?وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ?[التكوير:22] أي صاحبكم الذي منَّ الله عليكم به إذ بعثه إليكم رسولا من جنسكم يصحبكم إذْ كنتم لا تطيقون أن تروا الملائكة كما قال تعالى ?وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ(8)وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا?[الأنعام:8-9] الآية وقال تعالى ?وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ?[التكوير:23] أي رأى جبريل عليه السلام ?وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ?[التكوير:24] أي بِمُتَّهَم، وفي القراءة الاخرى ?بضنين? أي ببخيل يكتم العلم ولا يبذله إلا بجُعل كما يفعل من يكتم العلم إلا بالعوض ?وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ?[التكوير:25]، فنزه جبريل عليه السلام عن أن يكون شيطانا كما نزه محمدا - صلى الله عليه وسلم - عن أن يكون شاعرا أو كاهنا.(26/109)
فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بيّن لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين، وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، كذلك. وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل انشقاق القمر، وتسبيح الحصى في كفه، وإتيان الشجر إليه، وحنين الجذع إليه، وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس، وإخباره بما كان وما يكون، وإتيانه بالكتاب العزيز، وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة، كما أشبع في الخندق العسكر من قِدْر طعام وهو لم ينقص؛ في حديث أم سلمة المشهور، وأروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص، وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص، وهم نحو ثلاثين ألفا، ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفى الناس الذين كانوا معه، كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة أو خمسمائة، ورده لعين قتادة حين سالت على خده فرجعت أحسن عينيه، ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله فمسحها فبرئت، وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلا كلا منهم حز له قطعة وجعل منها قصعتين، فأكلوا منها جميعُهم، ثم فضل فضلة، ودين عبد الله أبي جابر لليهودي وهو ثلاثون وسقا، قال جابر فأمر صاحب الدين أن يأخذ التمر جميعه بالذي كان له فلم يقبل فمشى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال لجابر جُدَّ له فوفاه الثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا، ومثل هذا كثير قد جمعت نحو ألف معجزة.(26/110)
وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدا، مثل ما كان أسيد بن حضير يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته.
وكانت الملائكة تسلم على عِمْران بن حُصَيْن، وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها، وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط، فلما افترقا افترق الضوء معهما. رواه البخارى وغيره.
وقصة الصديق في الصحيحين؛ لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته وجعل لا يأكل لقمة إلا ربى من أسفلها أكثر منها فشبعوا، وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت فرفعها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا.
وخبيب بن عدي كان أسيرا عند المشركين بمكة شرّفها الله تعالى وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة.
وعامر بن فهيرة قُتل شهيدا فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه، وكان لما قتل رُفع، فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع، وقال عروة فَيَرَوْن الملائكة رفعته.
وخرجت أم أيمن مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسا على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها.
وسفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده.
والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله تعالى أبرّ قسمه، وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون يا براء أقسم على ربك فيقول: يا رب أقسمت عليك لمَاَّ([88]) منحتنا أكتافهم فيهزم العدو، فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك يا رب لمََّا منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدا.(26/111)
وخالد بن الوليد حاصر حصنا منيعا، فقالوا لا نسلم حتى تشرب السّم فشربه فلم يضره. وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له([89]) وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق، وعمر بن الخطاب لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمّى سارية، فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر يا سارية الجبل يا سارية الجبل، الجبل، ([90]) فقدم رسول الجيش فسأل فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدوا فهزمونا فإذا بصائح يا سارية الجبل يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله.
ولما عذبت الزَّنِيرَة على الإسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها. قال المشركون أصاب بصرَها اللاتُ والعزى قالت: كلا والله. فردّ الله عليها بصرها.
ودعا سعيد بن زيد على أروى بنت الحكم فأعمى بصرها لما كذبت عليه، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها. فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت.
والعلاء بن الحضرمي كان عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البحرين، وكان يقول في دعائه: يا عليم يا حليم، يا عليّ يا عظيم. فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عُدموا الماء والاسقاء لما بعدهم، فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم، ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات فلم يجدوه في اللحد.(26/112)
وجرى مثل ذلك لأبي مسلم الخولاني الذي أُلقي في النار فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمى بالخشب من مدها، ثم إلتفت إلى أصحابه فقال تفقدون من متاعكم شيئا حتى ادعوا الله عز وجل فيه، فقال بعضهم فقدت مخلاة، فقال اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها، وطلبه الأسود العنسي لما دعى النبوة فقال له أتشهد أني رسول الله؟ قال ما أسمع، قال أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلي فيها، وقد صارت عليه بردا وسلاما، وقدِم المدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وقال الحمد الله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من فُعل به كما فُعل بإبراهيم خليل الله، ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره، ([91]) وخببت إمرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت، وجاءت وتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرها.
وكان عامر بن عبد قيس يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه، ومايلقاه سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجيء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها، ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بثيابه الأسد ثم وضع رجله على عنقه. وقال إنما أنت كلب من كلاب الرحمن، وإنى استحي أن أخاف شيئا غيره، ومرت القافلة، ودعا الله تعالى أن يهوّن عليه الطهور في الشتاء فكان يؤتى بالماء له بخار، ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه.(26/113)
وتغيب الحسن البصرى عن الحجاج فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله عز وجل فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتا، وصلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو، فقال اللهم لا تجعل لمخلوق علي مِنَّةً، ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته قال يا بني خذ سرج الفرس فإنه عارية، فأخذ سرجه فمات الفرس، وجاع مرة بالأهواز فدعا الله عز وجل واستطعمه فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير، فأكل التمر وبقي الثوب عند زوجته زمانا، وجاءه الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل، فلما سلم قال له أطلب الرزق من غير هذا الموضع، فولى الأسد وله زئير، وكان سعيد بن المسيب في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوقات الصلوات، وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره. ورجل من النخع كان له حمار فمات في الطريق، فقال له أصحابه هلم نتوزع متاعك على رحالنا، فقال لهم أمهلوني هنيهة ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فأحيا له حماره، فحمل عليه متاعه. ولما مات أويس القرني وجدوا في ثيابه أكفانا لم تكن معه قبل، ووجدوا له قبرا محفورا فيه لحد في صخرة فدفنوه فيه، وكفنوه في تلك الاثواب.
وكان عمرو بن عقبة بن فرقد يصلي يوما في شدة الحر فأظلته غمامة، وكان السّبع يحميه، وهو يرعى ركاب أصحابه، لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أنه يخدمهم.
وكان مطرف بن عبد الله بن الشخّير إذا دخل بيته سبّحت معه آنيته، وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة فأضاء لهما طرف السوط. ولما مات الأحنف بن قيس وقعت قلنسوة رجل في قبره فأهوى ليأخذها فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر.
وكان إبراهيم التيمي يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئا، وخرج يمتار لأهله طعاما فلم يقدر عليه، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله ففتحها فإذا هي حنطة حمراء، فكان إذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا.(26/114)
وكان عتبة الغلام سأل ربه ثلاث خصال؛ صوتا حسنا، ودمعا غزيرا، وطعاما من غير تكلف، فكان إذا قرأ بكى وأبكى ودموعه جارية دهره، وكان يأوى إلى منزله فيصيب فيه قوته ولا يدرى من أين يأتيه.
وكان عبد الواحد بن زيد أصابه الفالج فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء، فكان وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه ثم تعود بعده.
وهذا باب واسع قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع، ([92])وأما ما نعرفه نحن عيانا، ونعرفه في هذا الزمان فكثير.(26/115)
ومما ينبغى أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا إحتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوى إيمانه ويسدّ حاجته، ويكون من هو أكملُ وَلاية لله منه مستغنيا([93]) عن ذلك فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته، وغناه عنها لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يُجري على يديه الخوارق لهدي الخلق ولحاجتهم، فهؤلاء أعظم درجة، وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية([94]) مثل حال عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال، وتوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، لكنه كان من جنس الكهان، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - «قد خبأت لك خَبْأ» قال: الدخ الدخ، وقد كان خبأ له سورة الدخان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - «إخسأ فلن تعدو قدرك» يعنى إنما أنت من إخوان الكهان، والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال « إِنّ الملائكةَ تنزلُ في العَنان -وهو السحابُ- فتذكر الأمرَ قُضيَ في السماءَ, فتَسْترقُ الشياطين السمعَ فتوحيه إِلى الكُهّانِ, فيَكذبونَ منها مائةِ كذبةٍ من عندِ أنفُسِهم».(26/116)
وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه» قالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فَإِنّهَا لاَ يُرْمَىَ بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ. وَلَكِنْ رَبّنَا, تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ إِذَا قَضَىَ أَمْراً سَبّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ. ثُمّ سَبّحَ أَهْلُ السّمَاءِ الّذِينَ يَلُونَهُمْ. ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتّىَ يَبْلُغَ التّسْبِيحُ أَهْلَ هََذِهِ السّمَاءِ. ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش: مَاذَا قَالَ رَبُّنا؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ ثم يُسْتَخْبِرُ أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا، وتخطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون».
وفي رواية قال معمر قلت للزهري أكان يرمي بها في الجاهلية قال نعم، ولكنها غلظت حين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -.([95])
والأسود العنسي الذي إدّعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه.
وكذلك مسيلمة الكذاب وكان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات، ويعينه على بعض الأمور.(26/117)
وأمثال هؤلاء كثيرون مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان، وادعى النبوة، وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده، وكان يرى الناس رجالا وركبانا على خيل في الهواء، ويقول هي الملائكة وإنما كانوا جِنًّا، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك إنك لم تسم الله، فسمّى الله فطعنه فقتله.
وهكذا أهل الأحوال الشيطانية تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها مثل آية الكرسي، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - لما وكله النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة وهو يمسكه فيتوب فيطلقه فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما فعل أسيرك البارحة» فيقول زعم أنه لا يعود، فيقول «كذبك وإنه سيعود» فلما كان في المرة الثالثة، قال دعني حتى أعلمك ما ينفعك إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ?[البقرة:255] إلى آخرها فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «صدقك وهو كذوب» وأخبره أنه شيطان، ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها، مثل من يدخل النار بحال شيطاني أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلاما لا يعلم وربما لا يفقه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة كما يتكلم الجني على لسان المصروع، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولَبِسَهُ وتكلم على لسانه فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال. ولهذا قد يضرب المصروع وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي، ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء لأن(26/118)
الضرب كان على الجني الذي لبسه. ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجا شرعيا، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة، ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمى الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه ثم يرجع من ليلته، وهذا ليس بحج مشروع باتفاق المسلمين، وكمن يأتي الجمعة ويصلي بغير وضوء إلى غير قبلة، وهم هؤلاء المحمولين مرة إلى عرفات، ورجع فرأى ملائكة تكتب الحجاج، فقال ألا تكتبوني، فقالوا لست من الحجاج يعنى لم تحجّ حجًّا شرعيا.(26/119)
وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة، منها أن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى، والأحوالُ الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله، وقد قال تعالى ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ?[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم، والشرك، والظلم، والفواحش، قد حرّمها الله تعالى ورسوله، فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى ولا يُستعان بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق، وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية، لا من الكرامات الرحمانية، ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار، فإذا حَضَرَ رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه، فيسقط، كما جرى هذا لغير واحد، ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت، سواء كان ذلك الحي مسلما أو نصرانيا أو مشركا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص، وهو ملك تصور على صورته، وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين. ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له أنا الخَضِر، وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه، كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويردّ الودائع، ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل على زوجته، ويذهب، وربما(26/120)
يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند، فيظنون أنه عاش بعد موته. ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال إذا أنا مِتُّ فلا تدع أحدا يغسلني، فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رآى خادمه شخصا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله، أي غسّل الميت غاب، وكان ذلك شيطانا، وكان قد أضل الميت، وقال إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك. ومنهم من يرى عرشا في الهواء وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول أنا ربك، فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول، ومنهم من يرى أشخاصا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين، وقد جرى هذا لغير واحد، ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر، ما الصديق - رضي الله عنه - أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر، وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه.(26/121)
وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم، وعلى مذهبهم، والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطىء، فإن كان الإنسي كافرا أو فاسقا أو جاهلا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال، وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر، مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة، أو يقلب فاتحة الكتاب، أو سورة الإخلاص، أو آية الكرسي، أو غيرهن، ([96])ويكتبهن بنجاسة فيغورون له الماء وينقلونه بسبب ما يرضيهم به من الكفر. وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي، إما في الهواء وإما مدفوعا ملجأ إليه، ([97]) إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها والإيمان بها إيمان بالجبت والطاغوت، والجبت السحر، والطاغوت الشياطين والأصنام. وإن كان الرجل مطيعا لله ورسوله باطنا وظاهرا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته، ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله، كان عمّار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية، وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى، فيدعون الميت أو يدعون به، أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب، أقرب إلى الأحوال الشيطانية، فإنه ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال «إن من أَمَنِّ الناس عليّ في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أهل الارض لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله، لا يبقين في المسجد خَوخة إلا سُدّت إلا خَوخة أبي بكر، إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك».(26/122)
وفي الصحيحين عنه أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة وذكروا من حسنها وتصاوير فيها، فقال «إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيها تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».
وفي المسند وصحيح أبي حاتم عنه - صلى الله عليه وسلم - قال «إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين اتخذوا القبور مساجد».
وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها».
وفي الموطأ عنه أنه قال «اللهم لا تجعل قبر وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
وفي السنن عنه أنه قال «لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». وقال - صلى الله عليه وسلم - «ما من رجل يسلم عليّ إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام»، وقال - صلى الله عليه وسلم - «إنّ الله وَكَّل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام»، وقال - صلى الله عليه وسلم - «أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليّ»، قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي بليت فقال «إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء».(26/123)
وقد قال الله تعالى في كتابه عن المشركين من قوم نوح عليه السلام ?وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا?[نوح:23]، قال ابن عباس وغيره من السلف، هؤلاء قوم كانوا صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، فكان هذا مبدأ عبادة الأوثان، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد، ليسدّ باب الشرك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، والشيطان يقارنها وقت الطلوع ووقت الغروب، فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لصلاة المشركين، فسد هذا الباب، والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته، فمن عبد الشمس والقمر والكواكب، ودعاها كما يفعل أهل دعوة الكواكب، فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور، ويسمون ذلك روحانية الكواكب، وهو شيطان، والشيطان وإن أعان الإنسان على بعض مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه، وعاقبة من أطاعه إلى شر إلا أن يتوب الله عليه، وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين، وكذلك من استغاث بميت أو غائب، وكذلك من دعا الميت أو دعا به، أو ظنّ أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد، ويروُون حديثا هو كذب باتفاق أهل المعرفة، وهو إذا أعْيَتْكُم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، وإنما هذا وضع من فتح باب الشرك.(26/124)
ويوجد لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم من عباد الأصنام والنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات، وهي من الشياطين، مثل أن يضعوا سراويل عند القبر فيجدونه قد انعقد، أو يوضع عنده مصروع فيرون شيطانه قد فارقه، يفعل الشيطان هذا ليضلهم، وإذا قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل هذا، فإن التوحيد يطرد الشيطان، ولهذا حمل بعضهم في الهواء، فقال لا إله إلا الله فسقط، ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد إنشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان. وهذا باب واسع لا يتسع له هذا الموضع. ([98])
ولما كان الإنقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله صارت الشياطين كثيرا ما تأوى إلى المغارات والجبال، مثل مغارة الدم التي بجبل قاسيون، وجبل لبنان الذي بساحل الشام، وجبل الفتح بأسوان بمصر، وجبال بالروم وخراسان، وجبال بالجزيرة، وغير ذلك، وجبل اللكام، وجبل الأحيش، وجبل سولان قرب أردبيل، وجبل شهنك عند تبريز، وجبل ماشكو عند أقشوان، وجبل نهاوند، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالا من الصالحين من الإنس ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هناك رجال من الجن، فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال تعالى ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا?[الجن:6]، ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجل شعراني جلده يشبه جلد ماعز، فيظن من لا يعرفه أنه أنسي، وإنما هو جني، ويقال بكل جبل من هذه الجبال الأربعون الأبدال، وهؤلاء الذين يظن أنهم الأبدال هم جن بهذه الجبال، كما يعرف ذلك بطرق متعددة، وهذا باب لا يتسع هذا الموضع لبسطه، وذكر ما نعرفه من ذلك، فإنا قد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه في هذا المختصر، الذي كتب لمن سأل أن نذكر له من الكلام على أولياء الله تعالى ما يعرف به جمل ذلك.
والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام:(26/125)
½ قسم يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به مجملا، وكذّب ما يذكر له عن كثير من الناس، لكونه عنده ليس من الأولياء.
½ ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان وليا لله.
وكلا الأمرين خطأ، ولهذا تجد أن هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين، وأنهم من أولياء الله، وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة.
½ والصواب القول الثالث وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم لا من أولياء الله عز وجل، كما قال الله تعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، وهؤلاء العباد والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين، فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، لكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضا، وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم، ولا بد ان يكون في أحدهم من الكذب جهلا أو عمدا، ومن الأثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم، ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين، قال الله تعالى ?هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ?[الشعراء:221-222] والأفاك الكذّاب، والأثيم الفاجر، ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى ?وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً?[الأنفال:35].(26/126)
قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهما من السلف التصدية التصفيق باليد والمكاء مثل الصفير، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة. وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على استماع غناء قط، لا بكف ولا بدف، ولا تواجد، ولا سقطت بردته، بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه.
وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم أن يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول لأبي موسى الأشعري ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستعمون. ومرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له «مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك»، فقال لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا. أي لحسنته لك تحسينا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «زينوا القرآن باصواتكم»، وقال - صلى الله عليه وسلم - «لله اشد أذنا -أي استماعا- إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» وقال - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود «اقرأ علي القرآن» فقال أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال «إني أحب أن أسمعه من غيري» فقرأتُ عليه سورة النساء حتى انتهيت إلىهذه الآية ?فَكَيْفَ إذا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا?[النساء:41] قال« حسبك» فاذا عيناه تذرفان من البكاء.(26/127)
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكره الله في القرآن، فقال ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا?[مريم:58] وقال في أهل المعرفة ?وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ?[المائدة:83] ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين، فقال تعالى ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ?[الزمر:23]، وقال تعالى ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ?[الأنفال:2-4].(26/128)
وأما السماع المحدث سماع الكف والدف والقصب فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى، ولا يعدّونه من القرب والطاعات، بل يعدّونه من البدع المذمومة حتى قال الشافعي ”خلّفتُ ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير“، يصدون به الناس عن القرآن، وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبا وافرا، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم، ومن كان ابعد عن المعرفة وعن كمال وَلاية الله كان نصيب الشيطان منه أكثر، وهو بمنزلة الخمر يؤثر في النفوس أعظم من تأثير الخمر، ولهذا إذا قويت سكرة أهله نزلت عليهم الشياطين، وتكلمت على ألسنة بعضهم، وحملت بعضهم في الهواء، وقد تحصل عداوة بينهم كما تحصل بين شراب الخمر فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين الآخر فيقتلونه، ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله، وهو من أحوال الشياطين، فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله، فكيف يكون قتل المعصوم مما يكرم الله به أولياءه، وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبدا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه، ويرفع به درجته، وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات، ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات، ومنها ما هو من جنس الغنى ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال. والغنى(26/129)
وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به على ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه ويرفع درجته، ويأمره الله به ورسوله، ازداد بذلك رفعة وقربا إلى الله ورسوله، وعلت درجته، وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله كالشرك والظلم والفواحش، استحق بذلك الذم والعقاب، فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أو حسنات ما حية، وإلا كان كأمثاله من المذنبين، ولهذا كثيرا ما يعاقب أصحاب الخوارق تارة بسلبها كما يعزل الملك عن ملكه، ويسلب العالِمَ علمه، وتارة بسلب التطوعات فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفساق، وتارة يرتد عن الإسلام، وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيرا من هؤلاء يرتد عن الإسلام، وكثير منهم لا يعرف أن هذه شيطانية؛ بل يظنها من كرامات أولياء الله،([99]) ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبدا خرْق عادة لم يحاسبه على ذلك، كمن يظن أن الله إذا أعطى عبدا ملكا ومالا وتصرفا لم يحاسبه عليه.
ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأمورٍ بها ولا منهيٌ عنها، فهذا يكون من عموم الأولياء، وهم الأبرار المقتصدون، وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء كما أن العبد الرسول أعلى من النبي الملك.(26/130)
ولما كانت الخوارق كثيرا ما تنقص بها درجة الرجل كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك، ويستغفرالله تعالى كما يتوب من الذنوب كالزنا والسرقة، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك أن لا يقف عندها ولا يجعلها همته، ولا يتبجح بها مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها، فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر، وتقول هنيئا لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول خذني حتى يأكلني، الفقراء ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح، وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة، وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة، أو تُرِيَه أنوارا أو تحضر عنده من يطلبه، ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه، فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله. وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له أنا من أمر الله ويعده بأنه المهدي الذي بشّر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويظهر له الخوارق مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينا أو شمالا ذهب حيث أراد وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة وتأتي به، وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة وتقول له هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك، فيقول في نفسه كيف تصوروا بصورة المردان فيرفع رأسه فيجدهم بلحى، ويقول له علامة أنّك أنت المهدي أنك تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها، وغير ذلك، وكلّه من مكر الشيطان.(26/131)
وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير، وقد قال تعالى ?فَأَمَّا الْإِنسَانُ إذا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي(15)وَأَمَّا إذا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ?[الفجر:15-16] قال الله تبارك وتعالى ?كَلاَّ?[الفجر:17] ولفظ (كَلاَّ) فيها زجر وتنبيه؛ زجر عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به ويأمر به بعده، وذلك أنه ليس كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة يكون الله عز وجل مكرما له بها، ولا كل من قدَّر عليه ذلك يكون مهينا له بذلك، بل هو سبحانه يبتلي عبده بالسراء والضراء، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه ولا هو كريمٌ عنده ليستدرجه بذلك، وقد يحمي منها من يحبه ويواليه لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده أو يقع بسببها فيما يكرهه منه.(26/132)
وأيضا كرامات الأولياء، لابد أن يكون سببها الإيمان والتقوى، فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله، لا من كرامات أولياء الله، فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء، وإنما تحصل عند الشرك مثل دعاء الميت والغائب، أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات كالحيات والزنابير والخنافس والدم وغيره من النجاسات، ومثل الغناء والرقص لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند سماع مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلا فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدا أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه ويتكلفه، ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية، ويجد عنده مواجيد، فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى ?وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ?[الزخرف:36]، فالقرآن هو ذكر الرحمن، قال الله تعالى ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى?[طه:124-126] يعني تركتَ العمل بها، قال ابن عباس رضي الله عنهما تكفّل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه أن لا يضل في الدينا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية.
فصل
ومما يجب أن يُعلم أن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الإنس والجن، فلم يبق إنسي ولا جني إلاّ وجب عليه الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واتباعه، فعليه أن يصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر، سواء كان إنسيا أو جنيا(26/133)
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى الثقلين بإتفاق المسلمين، وقد استمعت الجن القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه ببطن نخلة، لما رجع من الطائف وأخبره الله بذلك في القرآن بقوله ?وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ(29)قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ(30)يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(31)وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ?[الأحقاف:29-32]، وأنزل الله تعالى بعد ذلك ?قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا(1)يَهْدِي إلى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا(2)وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا(3)وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا(4)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا(5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا?[الجن:1-6] أي السفيه منا في أظهر قولي العلماء، وقال غير واحد من السلف كان الرجل من الإنس إذا نزل بالوادي قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه. فلما استغاثت الإنس بالجن ازدادت الجن طغيانا وكفرا، كما قال تعالى ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ(26/134)
يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا(6)وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا(7)وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا?[الجن:6-8]، وكانت الشياطين تُرمى بالشهب قبل أن ينزل القرآن، لكن كانوا أحيانا يسترقون السمع قبل أن يصل الشهاب إلى أحدهم فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا، وصارت الشهب مرصدة لهم قبل أن يسمعوا كما قالوا ?وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا?[الجن:9] وقال تعالى في الآية الأخرى ?وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ?[الشعراء:210-212] قالوا ?وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا(10)وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا?[الجن:10-11] أي على مذاهب شتى كما قال العلماء منهم المسلم والمشرك والنصراني والسني والبدعي ?وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا?[الجن:12]، أخبروا أنهم لا يعجزونه لا إن اقاموا في الأرض ولا إن هربوا منه ?وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا(13)وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ?[الجن:13-14] أي الظالمون يقال أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار وظلم ?فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا(14)وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا(15) وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ(26/135)
فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا(17)وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(18)وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19)قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا(20)قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا(21)قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا?[الجن:14-22] أي ملجأ ومعاذا ?إِلَّا بَلَاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا(23)حَتَّى إذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا?[الجن:23-24]، ثم لما سمعت الجن القرآن أتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به وهم جن نصيبين، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود وروى أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وكان إذا قال ?فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ?([100]) قالوا ولا بشيء من آلائِكَ ربنا نكذب، فلك الحمد، ولما اجتمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - سألوه الزاد لهم ولدوابهم، فقال «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علفا لدوابكم» قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد لاخوانكم من الجن» وهذا النهي ثابت عنه من وجوه متعددة، وبذلك احتج العلماء على النهي عن الاستنجاء بذلك، وقالوا فإذا منع من الاستنجاء بما للجن ولدوابهم فما أعد للإنس ولدوابهم من الطعام والعلف أولى وأحرى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى جميع الإنس والجن وهذا أعظم قدرا عند الله تعالى من كون الجن سخروا لسليمان عليه السلام، فإنهم سخروا له يتصرف فيهم بحكم الملك، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليهم يأمرهم بما(26/136)
أمر الله به ورسوله؛ لأنه عبد الله ورسوله، ومنزلة العبد الرسول فوق منزلة النبي الملك.
وكفار الجن يدخلون النار بالنص والاجماع، وأما مؤمنوهم فجمهورالعلماء على أنهم يدخلون الجنة، وجمهور العلماء على أن الرسل من الإنس ولم يبعث من الجن رسول، لكن منهم النذر، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر.
والمقصود هنا ان الجن مع الإنس على أحوال:
½ فمن كان من الانس يأمر الجن بما أمر الله به رسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه، ويأمر الإنس بذلك فهذا من أفضل أولياء الله تعالى، وهو في ذلك من خلفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونوابه.
½[ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حُرّم عليهم، ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك،] ([101]) وهذا إذا قُدّر أنه من أولياء الله تعالى، فغايته ان يكون في عموم أولياء الله، مثل النبي الملك مع العبد الرسول؛ كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
½ ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك، وإما في قتل معصوم الدم، أو في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم، وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة، فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان، ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص إما فاسق وإما مذنب، غير فاسق.(26/137)
½ وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات مثل أن يستعين بهم على الحج، أو أن يطيروا به عند السماع البدعي، أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ونحو ذلك، فهذا مغرور قد مكروا به، وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن، بل قد سمع أن أولياء الله لهم كرامات وخوارق للعادات، ([102]) وليس عنده من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات الرحمانية وبين التلبيسات الشيطانية، فيمكرون به بحسب اعتقاده، فإن كان مشركا يعبد الكواكب والاوثان أوهموه أنه ينتفع بتلك العبادة ويكون قصده الاستشفاع والتوسل ممن صور ذلك الصنم على صورته من ملك، أو نبي، أو شيخ صالح، فيظن أنه يعبد ذلك النبي أوالصالح، وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان. قال الله تعالى ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41]، ولهذا كان الذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب يقصدون السجود لها فيقارنها الشيطان عند سجودهم ليكون سجودهم له، ولهذا يتمثل الشيطان بصورة من يستغيث به المشركون، فإن كان نصرانيا واستغاث بجرجس أو غيره جاء الشيطان في صورة جرجس أو من يستغيث به، وإن كان منتسبا إلى الإسلام واستغاث بشيخ يحسن الظن به من شيوخ المسلمين، جاء في صورة ذلك الشيخ، وإن كان من مشركي الهند جاء في صورة من يعظمه ذلك المشرك، ثم إن الشيخ المستغاث به إن كان ممن له خبرة بالشريعة لم يعرفه الشيطان أنه تمثل لأصحابه المستغيثين به، وإن كان الشيخ ممن لا خبرة له بأقوالهم نقل أقوالهم له فيظن أولئك أن الشيخ سمع أصواتهم من البعد وأجابهم، وإنما هو بتوسط الشيطان، ولقد أخبر بعض(26/138)
الشيوخ الذين كان قد جرى لهم مثل هذا بصورة مكاشفة ومخاطبة؛ فقال يرونني الجن شيئا براقا مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه ما يطلب منه الإخبار به، قال فأخبر الناس به، ويوصلون إلي كلام من استغاث بي من أصحابي فأجيبه فيوصلون جوابي إليه، وكان كثير من الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذّب بها من لم يعرفها، وقال إنكم تفعلون هذا بطريق الحيلة، كما يدخل النار بحجر الطلق، وقشور النارنج، ودهن الضفادع، وغير ذلك من الحيل الطبيعية، فيتعجب هؤلاء المشايخ ويقولون نحن والله لا نعرف شيئا من هذه الحيل، فلما ذكر لهم الخبير إنكم لصادقون في ذلك، ولكن هذه الأحوال شيطانية أقروا بذلك وتاب منهم من تاب الله عليه، لما تبين لهم الحق، وتبين لهم من وجوه أنها من الشيطان، ورأوا أنها من الشياطين لما رأوا أنها تحصل بمثل البدع المذمومة في الشرع وعند المعاصي لله، فلا تحصل عندما يحبه الله ورسوله من العبادات الشرعية، فعلموا أنها حينئذ من مخارق الشيطان لأوليائه، لا من كرامات الرحمن لأوليائه.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وصلى الله وسلم على محمد سيد رسله وأنبيائه وعلى آله وصحبه وأنصاره وأشياعه وخلفائه صلاة وسلاما نستوجب بهما شفاعته آمين([103])
---
([1]) ملاحظة: العنوان من اختيار المفرّغ، هذا أولا، أما ثانيا فإنه من الملاحظ أن الأشرطة تسجيلها في كثير من الأماكن غير مسموع جيدا ولذلك الكلمات غير المفهومة فقد وضعت مكانها... ، وأرجو المعذرة. [قام بإعداد هذه المادة سالم الجزائري].
([2]) قول شيخ الإسلام (ونشهد) فيه جواز ذلك؛ لأنّ من الناس من قال الأفضل أن يتكلم المرءُ عن نفسه فيقول: أشهد، وألاّ يأتي بنون الجمع الدالة على نفسه وعلى غيره، لأنّ الشهادة أمرها باطن. وهذا جائز يقول عن نفسه وعن غيره أيضا باعتبار ظاهر الحال.(26/139)
([3]) في هذه الآية أنّ الأولياء هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، ولهذا عرّف جماعة من أهل العلم الولي: بأنّه كل مؤمن تقي وليس بنبي؛ ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس: 63] هم الأولياء، والإيمان والتقوى تتفاضل؛ الإيمان يتفاضل يزيد وينقص، ويتفاضل أهله فيه، وكذلك التقوى يتفاضل أهلُها فيها، فيكون إذن وصف الوَلاية يتفاضل أهله فيه، فالأولياء إذن ليسوا على مرتبة واحدة، لكن صار غالبا في الاصطلاح أنّ الولي هو المؤمن الذي كمَّل التقوى بحسب استطاعته، وليس مَن عنده شيء من الإيمان وشيء من التقوى وليا، وإنْ كان كل مؤمن تقي له وَلاية بحسَب ذلك، ففرق بين الاسم؛ اسم الولي وبين الوَلاية؛ الولاية التي هي محبة الله لعبده ونصرتُه له هذه تكون عنده بقدر ما عنده من الإيمان والتقوى، وأمّا اسم الولي فالآية دلت على أنّ من عنده إيمان وتقوى فهو من الأولياء، لكن في الإصطلاح إذا قيل الأولياء فهم العُبّاد الصالحون الذين كمّلوا التقوى بحسب استطاعتهم، أو بحسب حالهم، فلا يدخل فيه من خلط عملا صالحا وآخر سيئا.(26/140)
([4]) قوله جل وعلا هنا ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51] هذا التولي المكفر الذي هو نصرة الكافر عن المسلم في حال الحرب لقصد ظهور الكفر، أو بقصد سلامة النفس على سلامة الإسلام، يدلّ على هذا التفسير قوله في الآيات نفسها ?فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ?[المائدة:52] (يُسَارِعُونَ فِيهِم) يعني في توليهم وفي نصرتهم ? يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ?[المائدة:52] فهذه دلّت على أن المقصود بقوله ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51] أنّه في حال القتال والنصرة؛ ? لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51] يعني خرج عن الدين لأنه نصرهم في حال قتالهم لأهل الإسلام، استشهد بها شيخ الإسلام للدِّلالة على معنى الوَلاية وأن الوَلاية هي المحبة والنصرة، (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) يعني أحبابا منصورين تنصرونهم وتتناصرون معهم، (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) بعضهم يحب بعضا وينصر بعضا.(26/141)
القصد؛ في قصة حاطب، حاطب حصل منه مسارعة في إفشاء السر والإخبار بعزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إتيان مكة، فلما قال عمر للنبي عليه الصلاة والسلام يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال« يا عمر أرسله، يا حاطب ما حملك على هذا؟» فاستفصاله عليه الصلاة والسلام دال على اعتبار القصد، وقد علل هو بأمر دنيوي، فقال: يارسول الله ما من أحد من صحابتك إلا وله في مكة قرابة أو أهل، يدفعون عن ماله، وليس لي أحد، فأردت أن يكون لي بذلك يد أدفع بها عن مالي. فقال عليه الصلاة والسلام «صدقكم»، فدل هذا على أنه لم يقصد ظهور الكفر على الإسلام، وإنما قصد حماية نفسه. قصد حماية المال والنفس هذا راجع إلى أمر الدنيا وليس راجع إلى أمر الدين، فيكون التولي أو الوالاة بهذا المعنى محرّم وضلال عن سواء السبيل، ولكن ليست مكفرة، وذلك لقول الله جل وعلا ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1] قال العلماء: أثبت أنهم ألقوا المودة، ومع ذلك ناداهم باسم الإيمان فقال (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ومع ذلك قال في آخرها ?وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ?[الممتحنة:1] فدلّ على أن هذا الفعل وهو الموالاة بهذا المعنى محرّم وضلال عن سواء السبيل ولكن لا يخرج عن اسم الإيمان. ومَنْ نَصَرَ مُرجِّحًا سلامة نفسه على سلامة الإسلام فهو هنا يكفر ولو بالفعل، فرق بين أن يُسرّ لهم بشيء أو يمدهم بمال أو نحو ذلك وما بين فعل شيء فيه نصر لهم على المسلمين؛ يعني يفعل شيء معه نصر للكفر على الإسلام أو ظهور للكفار على المسلمين، ولهذا في نواقض الإسلام لإمام الدعوة رحمه الله ذَكر من النواقض مظاهرة المشركين على المسلمين، والمظاهرة لفظ له هذا المعنى الذي ذكرت، هذا بحث له موطن آخر بتفصيل.(26/142)
([5]) هذه الآيات السالفة كلها في بيان أولياء الرحمن، والولاية كما ذكرت معناها المحبة والنصرة ?هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ?[الكهف:44] يعني النصرة الكاملة والمحبة في الله ولله جل وعلا الحق سبحانه وتعالى، فمن أحب شيئا دون الله جل وعلا وتعلق قلبه به خذل من جهته، وكذلك من طلب النّصرة من غير الله جل وعلا وتعلق القلب بذلك خُذِل من جهته، ومن تعلق قلبه بالله وانتصر به كفاه، وهذا معنى قوله ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا?[المائدة:55] يعني يحبكم وناصركم الله ورسوله والذين آمنوا، هذا هو الواجب أن تكون وَلاية المؤمنين في الله جل وعلا ولله.
([6]) هذا كله استدلال بالآيات على التسمية؛ يعني كأنه استحضر رحمه الله من يقول له: من أين أتيت بهذه التسمية أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؟ فأتى بالآيات التي تدل أن للرحمن أولياء وعلى أن للشيطان أولياء، هذه خطبة للكتاب، يعني مقدمة، بعدها يأتي للصفات؛ ما صفات هؤلاء وما صفات هؤلاء.
([7]) شيخ الإسلام دائما استدلاله بالأول (فقد بارزني بالمحاربة) وهذا اللفظ ليس في كتب الصحاح، إنما هو عند أبي نعيم، وعند غيره من الكتب غير المشهورة، ولعله أخذها من بعض المستخرجات على الصحيح كمستخرج أبي عوانة، أو مستخرج الإسماعيلي البخاري ونحو ذلك، لأنه عنده عناية بالجمع بين الصحيحين للحميدي. المقصود أن هذا اللفمظ مما يعترض به على شيخ الإسلان كثيرا لأن هذا اللفظ غير معروف (فقد بارزني بالمحاربة)، واللفظ المعروف في الصحيحين (فقد آذنته بالحرب) هذا هو المعروف في الحديث المسمى حديث الولي.(26/143)
([8]) هذا القول في أوائل هذا الفصل فيه البيان على أنّ الله جل وعلا فرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان، فكونه سبحانه يذكر في القرآن أنّ لله أولياء وأنّ للشيطان أولياء، ثم لا يفرق بين هؤلاء وهؤلاء بالصفات بما يُعلم به هؤلاء وهؤلاء، هذا ممتنع؛ لأن الله جل جلاله جعل هذا القرآن فرقانا ? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ?[الفرقان:1] فهو فرقان بين الأشياء المتقابلة التي قد تلتبس، ومن ذلك وصف أولياء الرحمن ووصف أولياء الشيطان، فالفرقان قائم بين هذين الحزبين وبين هاتين الطائفتين، هؤلاء لهم صفات وهؤلاء لهم صفات، أعظم ما في القرآن من وصف أولياء الله جل وعلا في آية سورة يونس التي استدل وبها وهي قوله تعالى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] فبيّن جل وعلا أنّ الأولياء هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، ومن المتقرر أنّ الإيمان يتبعض وأنّه درجات بعضها فوق بعض، وأنّ التقوى كذلك تتبعض والناس فيها مختلفون كلٌّ يأخذ منها بحسب ما يُسِّر له، فنتج من ذلك أن الأولياء أيضا ليسوا على مرتبة واحدة، بل هم مراتب فصفات الأولياء التي تجمعهم أنهم المؤمنون المتقون، والمؤمن هو المؤمن بالله ورسوله وبكتابه، فلا يُتصور من الولي الخروج عن أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمر كتاب الله لأهواء ولآراء، بل هو متبع للكتاب والسنة، كذلك لا يُتصور في الولي أنه صاحب كبيرة أو صاحب إصرار على الصغائر واستمرار فيها؛ لأن التقوى هي صفته التي لازمته (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) والتعبير أواستعمال (كَانُوا يَتَّقُونَ) يفيد ثبات هذه الصفة. فإذا كان كذلك، كان وصف الأولياء في القرآن أنهم المؤمنون المتقون.(26/144)
أما وصفهم في السنة فقد جاء بأكثر تفصيلا في حديث الولي المعروف وهو ما رواه البخراري رحمه الله وغيره، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال « يقول الله تعالى من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه» هنا الفرائض أحب إلى الله جل وعلا من النوافل، وزيادة تقرب العبد بالنوافل سبب في محبة الله جل وعلا لعبده قال«فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به» سمعَه يعني يسدد في سمعه، كان الله سمع الولي يعني سدده في سمعه فلا يسمع إلا ما يحب ربه ومولاه «وبصره الذي يبصر به» يعني أسدده في بصره فلا يبصر إلا ما أحب، ولا يستأنس في بصره إلا بما أحب «ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» يعني يسدد في هذا كله؛ فلا يبطش بيده إلا فيما أذن الله جل وعلا به، ولا يمشي برجله إلا بما يحب الله جل وعلا، قال «ولئن سألني لأعطينه» يعني أنه مجاب الدعاء «ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» التردد هنا، تكلم عليه أهل العلم بكلمات وأصح ذلك أن التردد مثل الصفات الأخر التي هي صفة المكر والاستهزاء ونحو ذلك من جهة أنّه يكون نقصا ويكون كمالا:
· فيكون نقصا إذا كان التردد مع عدم علم بالعاقبة؛ لأنّه يكون من نتائج الجهل، فالمتردد يتردد ويكون نقْصا في حقه أنه تردد؛ لأنه لا يعلم العاقبة، أو لخوفه وعدم جرأته على الأمر، أو لعدم قدرته عليه؛ يشك هل هو يقدر أو لا يقدر، أو هل سيقوى أو لا يقوى، وعدم علمه بالعاقبة هي سبب هذا التردد، وهذا التردد نقص وهذا منفي عن الله جل وعلا.(26/145)
· والنوع الثاني وهو تردد بين أمرين كل منهما هو حق ومحمود في نفسه، لكن يختلف الإختيار بحسَب تعلقه بالمختار له، مثل –في حياة البشر- تريد أن تشتري لمن تحب شيئا، تردد بين هذا وهذا لا من جهة عدم علمك بالأفضل، ولكن من جهة الإكرام...، هذا التردد ليس بنقص، أنت الآن بين كرم وبين أكرم، فهذا ليس نقصا، هذا تردد فيما يناسب المختار له، هذا هو الذي من جنسه جاء هذا الحديث، (وما ترددت في شيء أنا فاعله) هذا التردد الحق، التردد الذي هو كمال الذي لا نقص فيه، بوجه من الوجوه.
هذا من أحسن الأجوبة على ذلك وهو طريقة المحققين.(26/146)
? السمع والبصر معنويان؛ يعني نوعان من أنواع الإدراكات معنويان، تشوف السمع؟ ما تشوفه، تشوف البصر؟ ما تشوفه، لكن اليد والرجل هذا ظاهران، فمثل بشيئن معنويين وبشيئين ظاهرين، وهذا له نظائر في القرآن ?أم تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ?[الفرقان:44]، ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا?[الأعراف:179]، وكقوله في آخر السورة?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(191)وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ? [الأعراف:191-192] إلى آخر الآيات، المقصود من ذلك أنه يُرد التمثيل بالحواس، فهذا ليس المراد به الحصر؛ كنت سمعه وبصره وأيضا لسانه وفهمه وتفكيره، خذ فيه رواية موضوعة يستدل بها الصوفية وهي مكذوبة في هذا الحديث بعد قوله (ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وحتى يقول للشيء كن فيكون)، هذه موجودة في بعض كتب الحديث مسندة لكنها موضوعة، يستدل بها بعض الصوفية في أن الله جل وعلا يُعطي الأولياء ملكوته يتصرفون فيه بما يريدون، وهذا باطل من جهة الإستدلال وباطل من جهة الأصول القطعية على أنّ الله جل وعلا لا ينازعه أحد في ملكه وليس له شريك في مُلكه.
[9] هذا الأصل في الموالاة والمعاداة هو القدر الواجب في الولاء والبراء، القدر الذي به يصح الإسلام، فلا يصح إسلام أحد حتى يكون عنده موالاة ومعاداة؛ عنده ولاء وبراء.
· الولاء الذي يصحّ به أصل الإسلام: هو المحبة؛ محبة الله, محبة دينه، محبة رسوله، محبة توحيده، هذه الحبة هي الأصل، لها لاوازم في الظاهر، هذه لها أحكامُها.(26/147)
· العداوة أو البراء: هو بغض الشرك، بغض الضلال، بغض الشيطان، بغض عبادة غير الله، بغض الكفر، هذا القدْر هو الشرط من لم يأتِ به فلا إسلام له.
فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هذه مشتملة على الولاء والبراء، مشتملة على الموالاة والمعاداة، لكن الولاء والبراء منه قدر مجزئ لا يصح إسلام أحد إلا به؛ يعني مجزئ في صحة الإسلام، ومنه قدْر آخر واجب لكن ليس شرطا في الصحة، القدْر الواجب هو ما كان من قبيل الحب والبغض، أصل المعنى، وهو الموجود في القلب، فمحبة التوحيد وبغض الشرك هذا أصل في الإسلام وهو معنى الولاء والبراء ومعنى كلمة التوحيد، فمن لم يكن عنده حب للتوحيد وبغض للشرك فلا إسلام له أصلا، بخلاف محبة أهل التوحيد، محبة أهل الشرك ونحو ذلك، فهذه فيها أحوال وتفصيلات.
([10]) هذا من شيخ الإسلام ذكر لبعض شروط الولي من جهة اللغة فإنه فسّر لفظ الولي والموالاة بما تضمنه كلامه السابق وفيه شورط الولي، فمن شروطه:
1. يأمر بما أمر الله ويأمر بأتمر بذلك.
2. ينهى ما ينهى عنه الله وينتهى عن ذلك.
3. يرضى ما يرضي الله ويسخط ما يسخط الله جل وعلا.
4. ويحب ما أحب الله ويبغض ما أبغض الله.
فهذا جاء من جهة اللغة مع ضميمة أيضا الذين آمنوا وكانوا يتقون، تخلص من ذلك إلى أن صفات الأولياء التي منها ماهو صفة شرط؛ يعني صفة إذا لم توجد لم يكن وليا مأخوذة من قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يعني كلمة الإيمان والتقوى، ومأخوذة أيضا من جهة اللفظ؛ لفظ الولي؛ لأن الولي هو المحي التابع الناصر، وهذه المحبة تقتضي موافقته فيما أحب، موافقته فيما نهى عنه جل وعلا، وهكذا، وهذا من نوع الفرقان بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان.(26/148)
([11])أولو العزم يعني أولوا الصبر، العزم هنا الصبر وتحمل المشاق والقوة، وجميع المرسلين أولو صبر وتحمل للمشاق وقوة، لكن أولئك أولوصبر خاص وعزم خاص فخصوا؛ لهذا الاسم دون غيرهم، وهم الخمسة الذين ذكرهم الله جل وعلا.
([12]) هذه الكلمات قارنها بالختمة المنسوبة لشيخ الإسلام (ختمة القرآن)فيها هذه الكلمات، الكلمات الموجودة في الختمة لم تصح اسنادا؛ لكنها مشهورة النسبة، كلماتها موجودة متفرقة في كتب شيخ الإسلام، يعني من أراد أن ياخذها جملا ويحيل كل جملة إلى موضعها من كلام شيخ الإسلام وجد ذلك، ولهذا يقول علماؤنا إنّ هذه نفسها نفس شيخ الإسلام، كلامها كلام شيخ الإسلام، من عرف كلام شيخ الإسلام قال أنها له.(26/149)
([13]) الصالح في الشرع هو من قام بحقوق الله جل وعلا الواجبة عليه وقام بحقوق خلقه الواجبة عليه. القائم بحقوق الله وحقوق الخلق هو الصالح من عباد الله، والصالحون مقتصدون وسابقون، فالمقتصد هذا صالح؛ يعني الذي يفعل الواجبات وينتهي عن المحرمات، والسابق بالخيرات هذا أفضل الصالحين، فأولياء الله جل وعلا هم صالحوا المؤمنين الذين يفعلون الواجبات وينتهون عن المحرمات، ومنهم وأخصّهم الذين يسارعون في الخيرات، لكن لفظ الولي بخصوصه أُطلق على من كان سابقا بالخيرات، على من كان من خاصّة صالحي المؤمنين، ففي العُرف ليس المقتصدون يعني الذين إختصروا على آداء الواجبات وتركوا المحرمات يُسَمَّوْن أولياء، هم في الحقيقة أولياء لله لقول الله جل وعلا ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] وقوله ?فَإِنَّ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ?[التحريم:4]، ?إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ?[الأنفال:34] ونحو ذلك من الأدلة.(26/150)
([14])«لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» له نظائر في النصوص من استعمال كلمة (لا يدخل) إما في الجنة أو في النار؛ «لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان«، «لا يدخل الجنة قتاد«، «لا يدخل الجنة قاتل«، ونحو ذلك، وهذا النفي بالدخول عند أهل السنة تارة يُراد به نفي الأصل، وتارة يراد به نفي تخليد، وتارة يُراد به نفي الأولوية، ففي النفي في هذا الحديث المراد به نفي الأصل (لا يدخل أحد النار بايع تحت الشجرة) يعني لا يدخلها أصلا، وما جاء في النفي بدخول الجنة «لا يدخل الجنة قتاد نمام«، ونحو ذلك، هذا المراد به الدخول الأولي، يعني لا يدخلون أولا بل يتأخرون، ويقابل هذا النفي التحريم في النصوص، يَحْرُم على النار، ونحو ذلك في الجنة فإنّه يراد به تارة تحريم الأبدي وتارة تحريم المعقد أو التحريم الأمدي. هذه –يعني الألفاظ- ينبغي أن تفهم على ضوء ما ذكرنا.(26/151)
([15])يقصد بالمنافقون الذين هذه صفتهم، ملتبسا عليه الأمر، فيكون على ضلال من جهة الباطن ألحقه بالمنافقين. فإنّ طوائف من غلاة الصوفية والإتحادية يقولون نحن في الظاهر متبعون لصاحب الشريعة وفي الباطن مستقلون، كما قاله ابن عربي وغيره قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام لما طاف بالبناء؛ بناء الأنبياء فوجد البناء قد كَمُل وحَسُن إلا موضع لبنة فقال عليه الصلاة والسلام أنا هذه اللبنة التي كمل بها هذا البناء؛ بناء الأنبياء، فقال ابن عربي بعد ذلك: ولا بد لخاتم الأولياء أن يرى نفسه في موضع لبنتين، لبنة ذهب ولبنة فضة، فيكون الظاهر لبنة، ويكون الباطن لبنة، أما اللبنة الظاهرة فتأخذ من صاحب الشريعة، وأما اللبنة الباطنة فيستقي بها من المعدن الذي استقى منه الملك؛ يعني يأخذ من عن الله جل وعلا مباشرة، فإنهم في الباطن هم غير متعبدين بالشرع، في الظاهر متابعون، وهؤلاء هم الذين يدّعون الوَلاية ويدّعون أنهم أولياء، ويغتر الناس بهم في كثير من أمصار المسلمين هم غلاة المتصوفة الذين يقولون بأقوال أهل الإتحاد وأشباه ذلك. لهذا تجد عندهم من غرائب الأقوال والأعمال ما يخرجون به عن الشريعة، حتى زعم كثير منهم أنّهم سقطت عنهم التكاليف، وكانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام كالخضر مع موسى حيث وسعه الخروج عن شريعة موسى، وهذا كفر وزندقة، وهو نوع من أنواع النفاق. فشيخ الإسلام يريد بالمنافقين في هذا الكلام هذه الطائفة التي كانت منتشرة وهي موجودة إلى يومنا هذا.
([16])كل واحدة من هذه هو قول لفرقة، كل وصف من هذه قول لفرقة من الفرق، هي ليست من باب الإستطراد بل كل واحدة قول لطائفة، نسأل الله العافية والسلامة.(26/152)
([17]) هذا الكتاب هو كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان والله جل وعلا فرق بين هؤلاء وهؤلاء؛ فوصف أولياء الرحمن ووصف أولياء الشيطان، وما ذكره المصنف في هذا المقطع الذي قرأنا فيه بيان أنّ الكفار من أولياء الشيطان، وأنّ المنافقين في هذه الأمة نظروا إلى الوَلاية؛ ولاية.....-الشريط مقطوع-....... وما يحصل لهم من أشياء يعجز عنها من حولهم حتى زعموا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن مختصا بهذا العِلم الذي جاء، بل من الصحابة من كانوا في منزلته في العلم بل هناك بعضهم من هو أرفع منه، كما يقوله طائفة، فزعموا أنّ العلوم الخاصة غير العلوم العامة وأن هناك العلوم الباطنة جعلها الله سبحانه الفقراء، ولهذا مثّل بأهل الصفة والمقصود بالتمثيل بالفقراء، والاعتقاد بالفقراء، وهذا كثير في البلاد الإسلامية فيظنون ملازمة الولاية للفقر، وأنّ الولي لابد أن يكون فقيرا متنكبا عن الدنيا، وهذا باطل بل سادة أولياء الله جل وعلا من أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -العشرة المبشرون بالجنة في مجلس واحد، ومنهم أبو بكر - رضي الله عنه - وكان غنيا, وعمر - رضي الله عنه - وكان غنيا, ومنهم عثمان وكان غنيا, ومنهم عبد الرحمن بن عوف وكان غنيا، ومنهم سعد وكان غنيا.(26/153)
فوصف الغنى والفقر ليس من الأوصاف التي يكشف بها الولي، فمن ظن أن وَلاية أهل الصفة كانت من جراء كونهم فقراء فقط، فهذا ليس بصحيح، بل الوَلاية كما قال الله جل وعلا ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، فالولي هو كل مؤمن تقي وليس بنبي، وليس من أوصافه أن يكون فقيرا أو أن يكون من حاله كذا وكذا، في أمر دنياه، بل الولاية راجعة إلى أمر الدين إلى أمر اتباع الشريعة، وأولياء الله جل وعلا ليس لهم علوم خاصة بل علومهم تابعة للشرع تابعة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فليسوا محدَّثين بأشياء ليست عند النبي عليه الصلاة والسلام، بل علمهم منُوط بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ذهب بعض المتأخرون من الجهال أنّ هناك من أولياء الله من يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملَك مباشرة، يقولون: الولي يأخذ عن الله مباشرة أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فيأخذ عن الله جل وعلا بواسطة جبريل. كما ذكر ابن عربي وكما ذكر غيرُه قال: الولي ياخذ من المعدن الذي أخذ منه المعدن مباشرة. يعني فلا يحتاج إلى واسطة، ففضُل بهذا عن النبي، وقالوا الولي يمكن أن يخرج عن شريعة النبي لأنه في الظاهر متبع للنبي، لكنه في الباطن يتلقى تلقيا خاصا، ولهذا زعموا بأن هناك من تسقط عنه التكاليف، وأنّ هناك من يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسِع الخضر الخروج عن شريعة موسى.(26/154)
وهذا الإعتقاد في جهّال المسلمين من قديم، وفي زمن الدعوة كان هذا موجودا في نجد؛ الاعتقاد في الصوفية وفي الفقراء وربما أنهم فعلوا أشياء خارجة عن الشريعة ويبقون على وَلاتهم، كما ذكر الشيخ رحمه الله في النواقض –نواقض الإسلام- أن من النواقض أن أحدا من الخلق يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى. هؤلاء الجهال يعتقدون في المجانين و يعتقدون في الفقراء و يعتقدون في الشياطين، وربما جعلوهم أقطابا أو جعلوهم أوتادا أو جعلوهم أبدالا أو جعلوهم نجباء إلى آخره، فتجدهم يقولون مثلا الغوث الأكبر واحد، وكل غوث له أقطاب أربعة في الأرض، لكلّ واحد منهم قسم من الأرض، ولكل واحد من هذه الأربعة سبعة، ولكل واحد من هذه السبعة أربعون، فلن تصل إلى الغوث إلا عن هذه الطريقة. وصنفت المصنفات في ذلك في ذكر الأربعين ولي في مصر، أو الأربعين وتد في المغرب، هذه مصنفات موجودة، عندهم أن الأربعين هؤلاء يرفعون إلى السبعة، والسبعة يرفعون إلى الأربعة، والأربعة يرفعون إلى الغوث، والغوث يطلب من الله جل جلاله، فهؤلاء إذا تأملت أسماءهم وتراجمهم وهي موجودة وجدت أنه كما ذكر شيخ الإسلام أنهم من المنافقين، أو من المجانين، فلا يصح أن يكونوا أولياء فضلا أن يكونوا من سادة الأولياء أو من المقدمين. وهذه الألفاظ أقطاب، أبدال، نجباء إلى آخره، الغوث، كلها لم ترد في الكتاب والسنة، وإنما جاء لفظ الأبدال في بعض الأحاديث، وإنْ كان في إسنادها شيء، ومن حسنها فالمعنى واضح؛ فإنّ الأبدال هم الذين يأتي طائفة منهم بدل من قبلكم أبدال بمعني أنهم يبدلون بغيرهم ويبدل غيرهم بهم، وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله». نكتفي بهذا القدْر وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(26/155)
([18]) هذا الكتاب هو الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وذكرنا لكم أن تعريف الولي عندنا أنه كل مؤمن تقي ليس بنبي، فلا بد في الولي أن يكون مؤمنا، ولا بد أن يكون تقيا لإطلاق خصوص الولي عليه، وذكرنا الإيمان يتبعض وأن التقوى تتبعض، وبالتالي يكون ما ينتج منهما وهو الوَلاية تتبعض، فيكون الأولياء ليسوا على مرتبة واحدة، وذلك كما قال جل وعلا ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:55-56]، فلكل مؤمن وَلاية بحسبه، لكن اسم الولي هذا خاص بمن كمّل الإيمان والتقوى، يعني سعى في تكميل إيمانه وتقواه والإيمان؛ إيمان بالأركان الستة التي جاءت في هذه الآيات وفي حديث جبريل وغيرها، ومنها الإيمان بالرسل، والإيمان بالكتب، ومن الإيمان بالرسل والإيمان بالكتب بل هو أخصها الإيمان بأنّ محمدا بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنّ القرآن خاتم الكتب، وأنّ طاعة محمد بن عبد الله فرض وليس لأحد أن يخرج عن طاعته، هذا كل السياق من شيخ الإسلام ليبين أن قول حزب الشيطان في عصره وما بعده، أنّ هناك أولياء لا يخضعون لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - باطنا وإنْ خضعوا لها ظاهرا بحكمهم من الأمة بأن هذا باطل، كما ادعى طائفة أن الولي له ظاهر وباطن، وظاهره متابع لشريعة النبي الذي أُرسل إليه، وباطنه يتلقى من مشكاة الوحي الذي تلقى منها ذاك النبي، وقد يَفْضُل عليه إلى آخر ذلك، فهذا السياق لتقرير أن الولي مؤمن بأركان الإيمان.
([19])الكفر هنا في قوله (من آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض) وكذلك في الآية ?نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ?[النساء:150]، الكفر هذا قسمان:(26/156)
القسم الأول: كفر التكذيب وهو أن يكذبوا بالكتاب أو برسالة الرسول، يقولون فلان رسول، وفلان ليس برسول، نكذّب برسالة فلان ولا نقر له بالرسالة، تكذيبا له فيما جاء به، وفُلان هذا من عباد الله هذا رسول، فهذا تكذيب برسالة بعض، وإقرار برسالة بعض، ومن كذب فقد كفر، ومن صدق فهو مؤمن.
القسم الثاني: كفر من جهة الإيباء والإستكبار والإمتناع؛ بمعنى أنه أبى أنْ يتّبع ذلك الرسول، أبى أن يكون ملتزما بشريعة ذلك الرسول بل يقول أنا أومن بالرسول وأتبع شريعة فلان ولا أتبع شريعة الآخر، وهذا من جهة الإحتجاج على اليهود.
والواجب على عباد الله أن يكونوا مؤمنين بالرسل جميعا مصدقين، وأنْ يكونوا منْقادين طائعين لما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به القرآن لأنه خاتم الكتب لأن محمدا عليه الصلاة والسلام خاتم الرسل.
فإذن يكون الإيمان على درجتين كل منهما فرض لا يتم الإيمان إلا بهما جميعا، الإيمان بمعنى التصديق برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم الإيمان بمعنى الإلتزام بما جاء به وعدم الإمتناع عما جاء به فمن كذب فقد كفر، ومن أبى واستكبر فهو كافر.
([20])الرَّزق بالفتح، المصدر بالفتح، الرِّزق هو الشيء المرزوق، رَزَقَ الله عبدا رَزْقا، فذاك الشيء هو الرِّزق، وأما المصدر فهو الرَّزق. الخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة والبَرّ إلى آخره.(26/157)
([21])هذا الكلام يريد به شيخ الإسلام رحمه الله بيان أنّ الطوائف من المسلمين الذين إدَّعَوا الولاية، أُدعي فيهم أنهم أولياء وعُظِّموا بسبب ذلك، هؤلاء، وإنْ كان سبب وَلايتهم أنهم متبعون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهرا وباطنا مؤمنون به يحكمون لشريعته في أنفسهم، هذا ظاهر لأنهم من أولياء الله، وأما إنْ كان سبب إطلاق الولاية عليه بهم أنهم زهاد عباد وأنهم متنزهون عن كثير من الدنيا، وأنهم مقبلون على أمر آخرتهم، وفيهم مكاشفات وإخبار بغيبيات، ويحصل لهم خوارق عادات، فإنَّ هذا القدْر يحصل أيضا لكثير من المتزهدة ومن له بعض فلسفة وعلم من الذين داووا نفوسهم وباطنهم من غير هذه الأمة، فذكر أمثلة من التُّرك يعني الروس الآن وإلى تركستان وما حولها، ومن الهند ومن خراسان، وكذلك من اليونان، هؤلاء فيهم أناس نُقل من نَقل المستفيض أنه يحصلهم خوارق عادات، وأن عندهم زهد وعبادة إلى آخره، فإن كان-شيخ الإسلام كأنه يتنزل ويناظر- مدار الوَلاية وإطلاق اسم الولي على من عنده زهد وعبادة أوخوارق عادات فأولئك أيضا كذلك، لكن هم كفار بالإجماع؛ لأن متعبدة اليهود، زهاد النصارى قد يكون لهم بكاء من خشية الله وقد يكون عندهم خوارق عادات، وكذلك زهاد ومتعبدة الهند والترك والفرس واليونان إلى آخره هؤلاء كفار بالإجماع؛ لأنهم لم يتبعوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا مسلمين ظاهرا وباطنا. فإذن ما الفرق في الحال بين هؤلاء الذين أُدعي فيهم الولاية وادعوا الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأولئك؟ فإذا قيل إن عندهم خوارق عادات، فنقول إن خوارق العادة ليس هو الكرامة، فالذي يؤتي الله جل وعلا الأولياء هي الكرامات، وأما الخوارق فإنها تجري للسحرة، وتجري للكهنة، وتجري للشياطين وغير ذلك، فحصول الخارق للعادة ليس برهانا على أنّ من حصل له ولي من أولياء الله، خارق للعادة مثل يخبرك بها في نفسك، مثل أن يجري شيئا غريبا،(26/158)
مثل أن ينتقل من مكان إلى مكان بسرعة عجيبة، مثل أن يَحْضُر شيء من الأطعمة ليست في أوانها.[انتهى الشريط الأول] إلى آخره
هذه نحصل للسحرة وتحصل للكهنة وتحصل للمشعوذين فالخارق للعادة أمر يشترك بين الأنبياء والرسل، وما بين الأولياء وما بين المشعوذون والكهنة والسحرة والبطّالون:
1. فإن كان الخارق للعادة أوتي نبيا فيُسمى آية وبرهانا.
2. وإن كان الخارق للعادة أوتي عبدا صالحا تبعا لنبي فيسمى كرامة للوليِّ.
3. وإن كان الخارق للعادة أوتي مستكبرا على الأنبياء أو مبتدعا أو فاجرا أو كافرا فإنّه يُسمى مخاريق شيطانية أو من مساعدة الشياطين.
فإذن ليس العبرة في خرق العادة. ولهذا تعرّف الكرامة التي تكون للأولياء بأن الكرامة أمر خارق للعادة يرى على يدي ولي، وآية النبي أمر خارق لعادة الجن والإنس، يرى على يدي نبي، والعادة التي تُخرق لفظها غير منضبط؛ لأنهم قالوا خارق للعادة. العادة هذه عادة من؟ هذا الوصف غير منضبط لأنه خارق للعادة ، لهذا عند التحقيق يكون ثَم تفصيل:
· فالعادة التي تُخرق للرسل والأنبياء آية وبرهان، فتكون العادة هي عادة الجن والإنس عادة الثقلين، قد دل على هذا قوله تعالى?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88].(26/159)
· وأما الكرامة فهي خارق لعادة الإنس الذين فيهم ذلك الولي، قد يكون في مكان آخر لا تخرق العادة، لكنه يكرم بهذا مثل طعام يؤتاه في فصل الصيف وهو من طعام الشتاء، في مكان أخر من الأرض يكون ثَم شتاء في وقت هذا الصيف فيكون طعامهم طعام الشتاء، فيكون إذن العادة في حق الولي عادة الإنس الذين فيهم ذلك الولي، وقد يكون الإنس بعامة مثل المشي على الماء، أو الطيران في الهواء أو إلى آخره، لكن هذا يختلف باختلاف الأزمنة، فمثلا إذا مشى على الماء؛ الماء صار له يابسا ومشى عليه، اليوم ممكن أنه يقوم ببعض المعالجات الماء يكون يابس ويُمشي عليه، كذلك الطيران في الهواء كرامة، اليوم اختلف الوضع صار البر والفاجر يطير في الهواء بوسائل أحدثت، فإذن خرق العادة بالنسبة للولي قيده أن تكون عادة الناس في زمنه، أو عادة جنسه الذين يعيش فيهم.
· أما خرق العادة بالنسبة الشياطين: الكهنة والسحرة فهم يأتون بأمور خارقة للعادة ولكنها عادة من ليس منهم، فالساحر يخرِق عادة من ليس بساحر، والكاهن يخرق عادة من ليس بكاهن.
المقصود من هذا بيان التفصيل في هذه الكلمة المجملة وهي خرق العادة، وأنّ ما آتاه الله جل وعلا للأنبياء والرسل خوارق للعادات، ولكن عادة كذا وكذا، وما آتاه الله جل وعلا الأولياء خارق للعادة من الكرامات ولكن عادة كذا وكذا، وأما مخاريق السحرة والكهنة فهي خارق للعادة من ليس من السحرة والكهنة، ولهذا لما أتى الله جل وعلا بآية موسى بطَلَت مكايد السحرة وما فعلوا؛ لأن ذلك الذي أعطاه جل وعلا موسى فوق ما تخرق الشياطين وتخبر به الجن أو يفعله السحرة والكهنة.(26/160)
كل هذا لأجل تقرير الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، إذن كون الشيء يحصل خارقا للعادة المعتادة لا يدلّ على أن من حصل له وليا، يخبر بما في نفسه أو يخبر بأمر غائب، أو يأتيه شيء غريب في وقت غريب، أو يحصل له نوع أشياء وانتقالات، أو يسّر له أمور ونحو ذلك لا يدل على أنه ولي حتى يكون مؤمنا تقيا، لأن الخوارق قد تحصل من جهة الشياطين وحزبه. في هذا القدْر كفاية وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
([22]) صلة لما سبق من أن أولياء الله جل جلاله أهل الإيمان والتُّقى والطاعة، فلا يوصفون إلا بمتابعة الكتاب والسنة والإيمان والتقوى، وليسوا بمعرِضين عن ذكر الله بل مقبلون عليه، والذي لا يقرأ القرآن ولا يتبع ما فيه ولا يستن بسنة النبي العدنان بل يخالفها بأقواله وأعماله وعلمه، فإنّ هذا ليس من أولياء الله، بل أولياء الله جل وعلا هم المؤمنون المتقون. فهذا تتمة لما سلف الكلام عليه من وصف أولياء الله بأنّهم أهل ذكر الله وأهل طاعته وتقواه
([23])المقصود بـ (الخصلة)أن يكون يغلب على أمره ذلك، أما من حصل منه مرة كذب في الحديث، أو خيانة في الأمانة، أو إخلاف للوعد، فلا يقول فيه لهذا شعبة من شعب النفاق، بل يكون عنده معصية فالشعبة من شعب النفاق تكون لمن كان على ذلك مستمرًّا، كان إذا حدّث كذبّ يكذب في الحديث دائما، أو يغلب عليه الكذب، معروف بالكذب في الحديث، فهذا هو الذي يكون فيه خصلة من النفاق، وكذلك إذا عاهد غدر أو إذا أئتمن خان أو إذا خاصم فجر، أما حصول ذلك على جهة القلّة ليس هذا دليلا على شعب النفاق في من كانت فيه. وقوله «إذا وعد أخلف» يعني إذا أعطى الوعد ناويا به الإخلاف، أما إذا وعد على رجاء الوفاء ثم حصل منه الإخلاف فإنّ هذا غير مراد هنا، كما هو مبسوط في مكانه في الشروح.(26/161)
([24]) الفخر بالأحساب بقصد الترفع على القبائل الأخرى، يفخر بحسَبه لإظهار فضله على غيره، أما الفخر في الحسب لإظهار حسبه وأنّه أصيل ونحو ذلك، دون ترفع على غيره، ليس هذا بمراد هنا لأنه ليس أمر الجاهلية. كذلك الطعن في النسب المقصود منه طعن في الأنساب بغير دليل، أو لازدراء الناس ونحو ذلك والقاعدة الشرعية أن الناس مؤتمنون على أنسابهم، لكن من ادعى نسبا وهو فيه كاذب، فتكذيبه فيه بما يُعلم أنّه كاذب فيه ليس طعنا في النسب، وتفصيل شرح هذا الحديث في شروح كتاب التوحيد وفي شروح كتب السنة.
([25])المؤمنين المتقين خبر كان، (وإذا كان أولياء الله هم) هم: ضمير فصل لا محل له من الإعراب، ليس مبتدأ وما بعده خبر، وما بعده خبر كان، كقوله جل وعلا ? الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمْ الْخَاسِرِينَ?[الأعراف:92] أو في قوله في سورة الأنفال ? وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ?[الأتفال:32] ضمير الفصل (هُوَ)وأشباهه، إذا يأتي بين المبتدأ والخبر في اسم كان وخبرها أو في اسم إنّ وخبرها أو غير ذلك يراد به الفصل بين المبتدأ والخبر حتى لا يشابه الصفات؛ حتى لا يتشابه الخبر بالنعت، لأنه بدون(هم) تقرأها هكذا (وإذا كان أولياءُ الله المؤمنين المتقين) يشتبه، تقول (أولياء الله المؤمنون المتقون) مبتدأ وخبر يشتبه، هل المؤمنون المتقون نعت، اخبر لم يأتِ، أو أنها خبر، (أولياء الله المؤمنون المتقون لهم الجنة) يُشكل، لكن إذا قلت (أولياء الله هم المؤمنون المتقون) ظهر بظهير الفصل لأنك فصلت الخبر والمبتدأ بهم لئلا يشتبه الخبر بأنه نعت للمبتدأ، وهذا على طريقة عامة النحاة، وإن كان سيبويه أجاز على لغة بعض العرب أن يكون الضمير هذا ضمير الفصل مبتدأ وما بعده خبرا للمبتدأ، وعليها بعض القراءات في بعض الآيات.(26/162)
([26]) هذا الفصل لبيان أن الوَلاية ليست على مرتبة واحدة، وأنّ الأولياء متفاوتون، وذاك لأنّ شرطي الوَلاية الإيمان والتقوى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، ومن المتقرر أنّ الإيمان في أهله متفاضل، وأنّ التقوى في أهلها متفاضلة، فنتج من ذلك أن ما ترتب منهما وهي الوَلاية تتفاضل؛ لأنّ الإيمان متفاضل والتقوى متفاضلة، فالوَلاية متفاضلة، فالولي قد يكون عنده بعض نقص، في الإيمان والتقوى، ولكن هو له نصيب من وَلاية الله جل وعلا لما معهم من الإيمان والتقوى، لهذا نقول كل مؤمن له نصيب من الوَلاية وليس كل مسلم، لكن كل مؤمن عنده إيمان له نصيب من ولاية الله جل وعلا، وهؤلاء يتفاوتون، ومَنْ وصل إلى مرتبة الإيمان فهو من أولياء الله إذا كان من المتقين، لكن درجته فيه مختلفة، وسبب نقص الإيمان أو نقص التقوى في الولي ليس هو ارتكاب المعاصي، وإنما هو إما من جهة الإقتصاد، وإما من جهة أنّه لم يسابق في الخيرات.
فإذن الأولياء ليسوا بظالمي أنفسهم، وإنما هم من المؤمنين المتقين، والمتقي أقلّ درجاته أن يكون تاركا للمحرمات ممتثلا للواجبات، وأكمل درجات هؤلاء أن يكون مسابقا في الخيرات، لهذا يأتيك في الفصل الذي بعده أنّ الأولياء على قسمين مقتصدون وسابقون.
([27])الحب المطلق يعني الكامل، كنظائره: الإيمان المطلق يعني الكامل، الهداية المطلقة يعني الكاملة، الكفر المطلق يعني الكامل، بخلاف مطلق الحب يعني أصلَه، مطلق الإيمان يعني أصله، مطلق الهداية يعني أصلها، مطلق الكفر يعني أصل الكفر، وكل هذه قد تكون أقل الدرجات.(26/163)
([28]) هذه مباحث متنوعة لكن يجمعُها أنّ أولياء الله جل وعلا لا يكونون من الظالمين لأنفسهم، بل أولياء الله إمّا مقربون سابقون بالخيرات، وإمّا مقتصدون أصحاب يمين، وأمّا الظالم لنفسه الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا من الأشياء التي لا تكفر مثل يعني الكبائر وأشباه ذلك، فإنّ هذا لا يسمى وليا بالإتفاق، وله نصيب من الوَلاية؛ ولاية الله لعبده بقدر ما عنده من الإيمان، لكن ليس له اسم الولي؛ فالأولياء هم الصالحون من عباد الله القائمون بحقوقه وحقوق عباده إمّا مقتصدون وإما مقربون سابقون بالخيرات، وهؤلاء لهم محبة الله جل وعلا وعوْنه وتوفيقه ومعيته الخاصة، ذَكر أيضا أن هذا نظير امتثال الأنبياء والرّسل إلى عبد رسول وإلى نبي ملِك، فالعبد الرسول كأولي العزم من الرسل، والنبي الملك كيوسف وداوود وسليمان عليهم الصلاة والسلام، ففرّق بينهما:
• لأن النبيّ الملِك يتصرّف في المال باختياره؛ يعني أنه ينظر للمصالح العامة وفيما يراه فيتصرف في المال بما يراه، إذ المال بيده فيتصرف فيه كيف يشاء فيما لم يأتِ فيه أمر أو نهي بخصوصه.
•أما العبد الرسول فإنه قاسم يضع المال حيث أمره الله جل وعلا ولا يجتهد فيه، هذا باعتبار الغالب، وقد يجتهد فيه في بعض الأحوال، كما اجتهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض قسمة الفيء فأعطى رجلا واحدا ما بين جبلين من الإبل والماشية، وهكذا.(26/164)
لهذا اختلف الصحابة رضوان الله عليهم كما ذكر لك أنّ أصح قولي العلماء أن ولي الأمر والإمام يتصرف في المال بما فيه المصلحة الدينية حيث أمر الله جل وعلا، والقول الآخر لأهل العلم أن ولي الأمر يتصرف في المال حيث ينظر هو المصلحة فيه فيما يتعلق لما فيه المصالح والمفاسد من قسمة الفيء ونحو ذلك، ولا يلزم له الرجوع لأهل العلم ولا لما يشاوَر فيه بل بما ينظر فيه، وشيخ الإسلام بسط هذه المسألة طويلا في كتابه منهاج أهل السنة النبوية لمّا ذكر طعن الرافضة في عثمان وأنّه تصرف في الأموال كيف شاء، قال شيخ الإسلام هناك ما حاصله: إنّ أهل العلم في مسألة تصرف الوالي في المال على قولين:
? منهم من يقول يأخذون بما عليه العبد الرسول، فلا يضعون المال إلا فيما أمر الله به في الشرع، وإذا لم يكن ثَم أمر ونهي في خصوصه وتعرضت له المصلحة فإن عليه أن يشاور في وضع المال، وعلى هذا سيرة أبي بكر وعمر فإنهما لم يجتهدا في المال رضي الله عنهما.
? والقول الآخر أنّ ولي الأمر له أن يأخذ بسيرة النبي الملك، فيتصرف في المال كيف شاء بما يراه فيه مصلحة، ولو كان فيه محاباة لبعض أهله وأقاربه. قال: وعلى هذا يخرّج فعل عثمان - رضي الله عنه -، وفعل معاوية - رضي الله عنه -؛ وهما عثمان أحد الخلفاء الراشدين ولم يخطئه أحد من أهل السنة في فعله؛ في تصرفه في المال، إنما خطّأه الظلاّل، وذاك معاوية خير ملوك المسلمين وتصرف في المال على هذا النحو.(26/165)
المقصود من هذا –المسألة تحتاج إلى زيادة تفصيل- لكن التنبيه إلى أصل هذه المسألة حيث أشار شيخ الإسلام هنا بقوله؛ في أصح قولي العلماء أن ولي الأمر يتصرف في المال حيث المصلحة الشرعية فيما يحبه الله ورسوله بحسب إجتهاده. والقول الآخر أن له أن يتصرف حيث يرى هو المصلحة دون الرجوع لأهل العلم إلا فيما فيه أمر ونهي من أداء الزكاة وصرفها في مصارفٍ شرعية أما الفيء الذي يَفِيؤُه الله جل وعلا في الأموال العامة فله أن يجتهد فيها بحسب ما يرى، فهما قولان لأهل العلم، وحبذا مراجعة المسألة في كتاب منهاج أهل السنة فقد بسطها وأجاب عن قول الرافضة والخوارج في طعنهم على عثمان وعلى معاوية رضي الله عنهما في التصرف في المال، وقال إنّ أهل السنة لم يطعن أحد منهم في عثمان لأجل تصرفه في المال من جهة محاباته لأقاربه وتوليته بعض الولايات لذوي رحمه؛ لأنّ هذا راجع إلى تخريج شرعي، وعثمان أجل من أن يظن فيه أنه يسير في ذلك وفق هواه، وإنما يسير في ذلك وفق الإجتهاد الشرعي الذي يراه لكونه نائب في هذا المال عن النبي وله أنْ يُعطي وله أن يمنع بحسب ما يراه، فهما قولان والصحيح ما ذكر هنا منْ أنّ ولي الأمر يتصرف في المال على وفق ما يحبه الله ورسوله...(26/166)
إذا تقرر هذا فإنّ أولياء الله يوصفون بأنهم متنزهون عن فضول المباحات، وشيخ الإسلام حرّم على المسلم أنْ يأتي كل مباح، سواء كان من مباحات النّظر أم من مباحات السماع أم من مباحات العمل، قال: للمسلم أن يعمل بعض المباحات لكن أنْ يأتي كل مباح دون تنزه عن فضول المباحات، قال هذا لا يجوز، وأخذ هذا من ظاهر قول الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام ?لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى?[طه:131]، وظاهر قوله جل وعلا ?أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا?[الأحقاف:20] فيرى أنّ التمتع بفضول المباحات لا يجوز.
والقول الآخر لأهل العلم أن التمتع بفضول المباحات جائز وهذا هو الظاهر؛ لأن قوله (وَلَا تَمُدَّنَّ) هذا للنبي عليه الصلاة والسلام خاصة، وهذا يدل على تكْميله عليه الصلاة والسلام، وأنْ لا يتعرض إلى ما فيه إنقاص لمرتبته العليا عليه الصلاة والسلام، أما قوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا) فهي في الكفار وليست في المسلمين.(26/167)
فأولياء الله يتنزهون عن فضول المباحات وليس كل مباح يأتونه، بل هناك مباحات لا تناسبهم ولو كانت مباحات في الشرع، ولكن تناسب غيرهم من المسلمين، فالأولياء يتنزهون عن كثير من المباحات، إما من جهة الورع وإما من جهة ترك خوارم المروءة وإما من جهة أشياء قد يراها الولي لا تناسبه، مثاله مثلا كثرة المزاح والضحك بأنْ يغلب هذا على المرء وإنْ كان مباحا إذا لم يكن ينطق بكذب وأشباه هذا، لكن أولياء الله في قلوبهم فإجلال الله وخشيته والرغبة فيما عنده ما يجعلهم لا يُكثرون من هذا، وإنما إن فعلوا فيكون من جهة الإستنباط الوارد عنه الصلاة والسلام، وهذا أصل في أن الأولياء فيما يفعلون من فضول المباحات، يتابعون النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصول ما فعل، فيضحكون بعضا من الوقت لأنه ضحك عليه الصلاة والسلام وتبسم، ويفعلون بعض الأشياء التي فيها ترويح بما لا يكون قادحا وأشباه ذلك بنية الإقتداء ونية العمل، وهذا في بعض المباحات ما في كل المباحات، والولي لا بمد أن يكون متنزها عن فضول المباحات، أمّا الولي لا يتصور فيه من حيث الواقع أنْ يأتي كل مباح، بل الولي من حيث الواقع ومن حيث دِلالة العمل الأول عليه أنّه لابد أن يكون متنزها على مباحات كثيرة لأسباب.
نكتفي بهذا القدر صلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.(26/168)
([29]) أنّ الأمم التي سبقت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فالمؤمنون فيها قسمان: مقتصدون وظالمون لأنفسهم، أما السابقون بالخيرات في الأمم السالفة هم الأنبياء والرسل، وفي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيهم ثلّة من الأولين وقليل من الآخرين، فالأمم السالفة قسمان، كما قال جل وعلا في سورة المائدة ? أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ?[المائدة:66] وعلى هذا أكثر أهل التفسير بأن الأمم السالفة تنقسم على ظاهر هذه الآية –يعني من استجاب إلى الرسل- إلى ظالم لنفسه وإلى مقتصد، والسبْق بالخيرات هذا من فضل الله جل وعلا لهذه الأمة.
([30])الرعد:23، النحل:31، فاطر:33.
([31])هذا كله استطراد البحث كان في الأولياء وأنّ الأولياء قسمان مقتصدون وسابقون بالخيرات، أما الظالم لنفسه فلا يكون وليا وهو المصر على الذنوب، أما المقتصد قد يكون وليا، السابق بالخيرات قد يكون وليا لله جل جلاله، ثم استطرد رحمه الله لذكر الأقسام الثلاثة وماذا يراد بهذه الأقسام وشرح ذلك، لكن أصل الكلام حتى لا يغيب عنك الكلام في أنّ الأولياء قسمان: صفة الولي أن يكون أما مقتصدا أو يكون سابقا بالخيرات، مع أن الجميع مع الظالم لنفسه موعود بالجنة بفضل الله وكرمه.(26/169)
([32])لاحظ هنا قوله (أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب) هذا قول المرجئة، وأهل السنة يقولون "أهل الكبائر قد يدخلون الجنة بلا عذاب" واضح الفرق بين القولين؟ الفرق بينهما أن أولئك يُجَوِّزُونَ دخول الجميع للجنة بلا عذاب، وأهل السنة يُجَوِّزُونَ دخول البعض الجنة بلا عذاب؛ لأنّ الله جل وعلا قال ?وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[المائدة:40] ووعيده حق جل وعلا فلا بد أن يصيب بعضا منهم وواجب بأن يغفر لمن يشاء وحق فلا بد أن يصيب بعضا منهم. فإذن المرجئة يقولون أهل الكبائر قد يدخلون جميعا الجنة بلا عذاب، هذا غلط بل الصواب أن أهل الكبائر قد يدخل بعضهم الجنة بلا عذاب فيغفر الله جل وعلا له ?وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[المائدة:40]، الفرق في إطلاق لفظ جميعهم.(26/170)
([33])نربط الموضوع بأصله وهو أن هذا الكتاب فيه ذكر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، يعني الفاصل والفصل وما يميز هذا من هذا، وقد ذكرنا أن الأصل في الفرق هو قول الله جل وعلا?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، وإذا كان كذلك، فإنّ أولياء الله هم المؤمنون المتقون والإيمان يتبعض والناس ليسوا فيه سواء، وكذلك التقوى تتبعض والناس ليسوا في التقوى بسواء فحصل من ذلك أن وَلاية الله جل وعلا لعباده المؤمنين المتقين ليست واحدة بل متفاضلة، فالله جل وعلا يحبّ المؤمن المتقي بعامة، ومن كان أكثر إيمانا وتقوى كان أحب إلى الله جل وعلا، وهذا من جهة محبة الله جل وعلا للعبد فإنّ كل مؤمن مُتَّقٍ له نصيب من ولاية الله جل وعلا وله نصيب من محبة الله جل وعلا ونصرَتِه على حسب ما معه من الإيمان والتقوى، كذلك إذا كان معه عصيان وضلال وبدع وفسوق وفجور فله نصيب من بغض الله جل وعلا له، فعندنا أنه يجتمع في حق المعين ما يوجب الولاية وما يوجب العداوة، هذا من جهة الوصف أما من جهة الاسم أو اسم الولي فإنما يطلق في الإصطلاح على من حقق الإيمان والتقوى وكل ذلك بحسبه وسعته وطاقته؛ فلا يقال فلان ولي لحصول أصل الإيمان والتقوى فيه لأن كل مسلم عنده أصل الإيمان وأصل التقوى، فإنّ كل مسلم عنده قدر من الإيمان، وكل مسلم عنده قدر من التقوى، فالمقصود أنّ الولي هو من حقق الإيمان والتقوى هذا من حيث الإصطلاح، أما من حيث الشرع فكما ذكر في أول الكلام أنّ الولي هو المؤمن التقي، وأنّ كل واحد له نصيب من هذه الولاية إذا كان عنده إيمان وتقوى، ذكر شيخ الإسلام بعد ذلك أنّ أصل حصول الولاية إنما هو باتباع الرسل، فإن الإيمان إيمان بالرسل وما جاءت به الرسل، والتقوى هي اتقاء ما حذرت عنه الرسل وأنذرت وخوفت، وإذا كان كذلك رجعت الوَلاية وحصول(26/171)
هذه المحبة والنصرة من الله جل وعلا، رجعت إلى الإيمان بالرسل وإلى متابعة الرسل والتصديق بما جاءت به الرسل، كلٌّ بحسب الرسول الذي بُعث إليه، ولما بعث المصطفي محمد عليه الصلاة والسلام صار الإيمان والتقوى راجعا إلى هذه الوسيلة العظيمة وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فكلّ ادعاء لوَلاية ليست سببها الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام واتقاء ما حذر عنه عليه الصلاة والسلام فهو ادعاء كاذب. وبهذا سيفصل في ذكر الإيمان بالرسل لتحقيق أنّ الوَلاية لا تكون إلا باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام.(26/172)
([34])هذا استطراد من شيخ الإسلام رحمه الله، ليبين أن المؤمنين بالرسل من هذه الأمة ليسوا على مرتبة سواء، فبعضهم إيمانه مجمَل وليس عنده إيمان مفصل، فيكون مؤمنا تقيا؛ مؤمنا بما جاءه وما عنده من الإيمان المجمَل، وهناك من إيمانه مفصل يعني عمل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فآمن به مفصَّلا، ومنهم من آمن فما جاءه مفصلا لكن ما جاء غيره أكثر لما عنده من العلم، فصار الذين يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام متفاضلين فبعظمهم أعظم إيمانا من بعض لما وصله من العلم. كذلك من جهة العمل فإنّ الإيمان منه العمل فإذا عمل بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام كان أعظم إيمانا به، ونتج من ذلك أنه أعظم وَلاية، فإذن الأولياء ليسوا على مرتبة واحدة، ثم ذكر الأدلة الدالة على أنّ التفاضل بين أهل الإيمان كثير في النصوص، فذكر أنّ الرسل فضل الله جل وعلا بعضهم على بعض، وذكر أنّ المؤمنين فضل الله بعضهم على بعض في عدة نصوص من القرآن، وكذلك المجاهدين فضل الله بعضهم على بعض ?لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ?[الحديد:10] والصحابة يختلفون في مراتبهم و«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير»، فهذا الإستطراد يدل على أن الأصل الذي أصله معروف في الشريعة. وهذا تنتبه له في طريقة شيخ الإسلام رحمه الله في أنّه يقرر في صدر الكلام ما يريده، ثم يستحضر سؤالا أو استشكالا يورده عليه من أنشأ الرسالة لأجله (هذه الرسالة أو غير هذه الرسالة) فيأتي بالنظائر التي تدل على أن أصله الذي أصله سليم من جهة الإستدلال وسليم من جهة النظر، وهذا لا شك أنه قوة في الحجة سيما مع المجادلين والمبتدعة لأن هذه الكتب ألفها شيخ الإسلام لهداية من ضل في باب السلوك.
([35])لا يتعلق بها حكم شرعي، المقصود به التكليفي أما الوضعي فيؤاخذ به.(26/173)
([36]) كلام شيخ الإسلام من أول الفصل إلى هذا الموطن يريد أنّه بعد أنْ بين أنّ التقوى والإيمان سبب ولاية الله لعبده، وأنّ الولي هو المؤمن التقي، بين أنّ الإيمان والتقوى والتقوى لا تصح من العبد إلا إذا كان باختياره، يعني إذا كان مكلفا وصار متقيا لرغبته واختياره، وصار مؤمنا برغبته واختياره، وأمّا منْ رفع عنه القلم لا يوصف بالإيمان والتقوى، حتى ولو حصل منه بعض الأشياء التي هي منَ العبادات فإنّه لا يوصف بالإيمان والتقوى حتى يأتيها اختيارا، ومثَّل بذلك بالمجنون لأنّ الصوفية لهم اعتقاد في المجنون لأن الصوفية لهم اعتقاد في المجانين كما سيأتي في بقية الكلام، فالمجنون هذا لم يقع منه في جنونه إيمان وتقوى برغبة واختيار وطاعة لله، فإذن تعريف الولي بأنه كل مؤمن تقي وليس بنبي هذا لا يصدق عليه لأنه لم يأتِ الإيمان والتقوى طاعة لله واختيارا، بل هو غاقل أو مجنون والمجنون مرفوع عنه القلم، ومثَّل له أنّ الناس مجمعون على أن المجنون لا يبايع ولا ينكح إلى آخره، ويأباه الناس حتى لا يقعوا في تصرفات له لا يعقلوها، وكذلك أعظم الأمور وأهم المهمات وهو الإيمان فإنه لا يوصف المجنون بذلك، معلوم أنّه إذا كان الجنون عرض له فإنّه إذا مات عليه فإن حاله على ما كان قبل الجنون؛ يعني إذا كان قبل الجنون رجلا صالحا فإنّه إلى حين أن يُجَن فيعتبر رجلا صالحا، وما بعد ذلك لا يوصف بصلاح ولا بغيره، بل بداية الجنون كنزول الموت، فيقال كان كذا، كان رجلا صالحا، أما في حال جنونه من جهة تصرفاته وعطائه الشرعي فإنّه مرفوع عنه القلم، يعني قلم التكليف، قد يقع من المجنون أشياء غريبة وتوافق صوابا في نفسها، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مرة أن أحد ولاة دمشق مرّ في سوق، وكان في الطريق رجل من المجانين فلما مرّ عليه فصاح هذا بالوالي "يا هذا ما فعلت الخبزة" فارتاع الوالي لهذه الكلمة ونزل، وسأل عنه قال هذا المجنون فلان، وكانوا يعتقدون في(26/174)
المجانين، وأخذه وقبل يده. فقال فكان هذا المجنون ربما أتى في مجلس الوالي وبصق في وجهه وذاك مسرور بفعله.
لأنهم يعتقدون أن الجنون سببه إنجذاب الروح عن المخلوق إلى الخالق، فالظاهر في ما بينه وبين الناس أنّه لا عقل له لأن عقله مع ربه جل وعلا، لهذا يعدلون عن اسم المجنون إلى اسم المجذوب يعني الذي جُذب عقله وروحه إلى ربّه فغاب عقله عن الناس وصار مع ربه، فلهذا يقولون أنه إذا تصرف فهو يتصرف بأمر الله، وأشباه ذلك مما يتنزه العقلاء من ظنّه فضلا عن اليقين به، وفي هذا قال قائلهم في وصف المجانين:
والمجانين إلا أنّ سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل
يعني أن سبب الجنون هو كمال المحبة والإنجذاب إلى الله جل وعلا. نسأل الله العافية.
([37])ذكر أن شبهة المعتقدين في الجنون والمجنونين والمجذوبين والمتولهين ما يحصل لهم من نوع خوارق للعادات سواء كانت خوارق علمية بذكر أشياء، يقول أنت تقول كذا، وحصل منك كذا، وهو مجنون فيوافق صوابا، أو خوارق من جهة القُدْرة كما ذكر يشير إلى أحد فيموت، أو يشير إلى الماء فيمشي عليه أو يحلق بإصبعه فينزل عليه رغيف وأشباه ذلك من أنواع القدرة والعلم، هذه أنواع خوارق والمتقرر أن الخوارق حصلت للكهان، حصلت للسحرة, وحصلت للمشعوذين وللشياطين وللكفار، وحصلت أيضا الخوارق للمؤمنين وحصلت أيضا الخوارق للرسل والأنبياء، لهذا قسم العلماء الخوارق إلى ثلاثة أقسام من جهة من تحصل له باعتبار من حصلت له. [انتهى الشريط الثاني]
قالوا الخوارق:
1. قد تحصل للأنبياء والرسل؛ حصلت للأنبياء والرسل وهذه تسمى آيات وبراهين.
2. والقسم الثاني خوارق تحصل لاتباع الرسل، هذه تسمى الكرامات.
3. والثالث خوارق تحصل للمنافقين والعاصين للرسل، فهذه خوارق شيطانية ليست إكراما من الله عز وجل لهم؛ لأن الله لايكرم من لم يتبع رسله عليهم الصلاة والسلام،(26/175)
فإذن ليس اعتبار المرء محبوبا لله، وليا لله، أنه يحصل له خارق؛ لأن الخارق يحصل للشياطين وللكفار وللمنافقين، إذن لابد في النظر فيمن حصلت له، فإنْ حصل الخارق لمطيع للرسل معظم لهم متبع لهم في الظاهر والباطن صارت هذه الخوارق كرامات، وإنْ حصلت لمنافق عاص للرسل مبتدع أو مجنون فنقول هذه من الشياطين لإيقاع الناس في الفتنة أو في الكفر والشرك. هذا باعتبار.
وباعتبار آخر، فإن الخوارق راجعة من حيث الصفات إلى نوعين من الصفات: وهي صفتي الغنى والقدرة. ومعلوم أن غنى المغتني وقدرته على الشيء إنما هي بإقدار الله جل وعلا له وبإغتنائه جل وعلا، وإذا كان كذلك فإن:
1. الخارق للعادة إذا كان راجعا إلى صفة الغنى فقد يكون لحاجة من حصل له الخارق، فالخارق حصل له لأجل إغنائه، فهذا يدل على أنّ من حصل له الخارق لا يُفضَّل على من لم يحصل له الخارق؛ لأنّ الخوارق راجعة إلى صفتي الغنى والإقتدار، فإذا كان ليس بغني ومحتاج وضعفت نفسه فقد يكون يحصل له خارق، وهو ليس كالولي الذي لم يحصل له خارق، لهذا نجد أنَّ بعض الصحابة كان أكثر خوارق ممن كان أفضل منه كأبي بكر وعمر، وذلك لكمال غنى أبي بكر وعمر الكمال البشري، وافتقار ذلك إلى ما يقوي إيمانه ويصحح أويثبت يقينه.
فحصول الخارق من حيث هو باعتبار صفات الكمال راجع إلى النقص، فيحصل الخارق لفائدة الشخص لرفع النقص عنه في صفات الكمال أو لزيادته في صفات الكمال، فإذا كان ضعيفا من جهة الغنى زِيد في غناه بالخارق ليقوى إيمانه.
2. كذلك من جهة القدرة ربما أُعطي ليظهر إيقانه كما يحصل للمجاهدين فإنّ بعظهم يُكرم بأشياء؛ لأنهم لم يحققوا من أمر الله جل وعلا ما يوجب إغتناءهم عن الكرامات، فيكون اتيانهم بالكرامات لأجل عدم قدرتهم والله جل وعلا يريد نصر دينه ونصر أتباع دينه على أعدائه وأعداء دينه.(26/176)
وهذه مسألة تحتاج إلى مزيد بسط لمعرفة أفراد صفات الغنى وتقسيماتها، وأفراد صفات الإقتدار والقدرة وتقسيماتها، وهي مبسوطة في كتب أهل العلم.
المقصود من هذا أن المجنون لا يجوز أن يوصف بأنه من الأولياء لأن ليس له اختيار وليس له فعل بنفسه، وإنما الأولياء هم المؤمنون المتقون.
([38]) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه،أما بعد: فهذا الفصل تفريع على تعريف الولي وشروط الوَلاية، قد ذكرنا لكم أن الولي هو كل مؤمن تقي وليس بنبي، والولي هو من حصّل الإيمان والتقوى، ومعلوم أنّ الإيمان والتقوى لا يشترط على أهله أنْ يكونوا على صفة ما في المأكل أو المشرب أو في اللباس، إلا أنْ يكون ذلك إتيان الحلال و ترك الحرام، فإنّ هذا هو الذي جعلهم أولياء مؤمنين أتقياء، تميّز الأولياء بلباس خاص يُشار إلهيم به ليس له أصل، وتميّزهم بشكل في شعورهم ليس له أصل، إما بحلق الرأس أو بتكثيره أو ما أشبه ذلك، فهذا كله ليس له أصل، وكذلك تميّزهم في مآكلهم أو في مراكبهم أو في مشاربهم ونحو ذلك، هذا كله ليس له أصل، بل يختلفون في هذه إذا كان ما يأتون من المباح لهم. نعم، مِن صفة أولياء الله جل وعلا أنهم لا يتوسّعون في المباحات؛ يعني ليس كل مباح يأتونه لأنّ الله جل وعلا نهى نبيه عن ذلك بقوله ?لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى?[طه:131]، وذَكر أنّ مدّ النظر إلى ما مُتِّع به الناس من زهرة الحياة الدنيا أنّ هذا من عاجلة الدنيا، ونُهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مدِّ العين إلى كل المباحات في الآية، وأنّ رزق الله خير وأبقى يعني في الآخرة، هذا يدل على أنّ من صفة العُبَّاد ومن صفة أولياء الله الذين كمّلوا الإيمان والتقوى أنهم لا يتوسّعون في المباحات،(26/177)
فربما كان الشيء مباحا وتُرك لأنّ فيه نوع تعلق بالدنيا، لكن مِن جهة الأمور لا يختلفون عن غيرهم إلا فيما يكون فيه نوع خرم للمروءة ودناءة أو أشباه ذلك فإنهم يتنزهون عنه، لهذا كان الناس يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلسه فيسألون أيكم محمد؟ لأنّه لم يكن عليه الصلاة والسلام يتميز عنهم بمكان أو بلباس أو بشارة ونحو ذلك عليه الصلاة والسلام، وأمّا إحداث بعض الألبسة لخاصة من الناس فإنما حدث في المائة الثانية، كما حدث أنّ للصوفية لباس خاص يعني للزهاد أو للفقراء، وكما حدث في المئة الثامنة أنْ يُخصّ آل البيت بلباس أخضر يجعلونه على أكتافهم أو بعمامة خضراء؛ ليدلوا الناس على أن هذا من آل البيت حتى يعطوه حقه الذي أوجبه الله جل وعلا له. هذه كلّها أمور حادثة، فعُلم منه أنّ الصالحين والأولياء والمتقين ليس لهم لباس خاص، ومن منع بعض الأشياء لأجل أنها ليست من لباس الأولياء،؛ فهذا من جنس المُحدثين في الدين وإن أعتقد صار ذلك بدعة وقولا على الله جل وعلا بلا علم، وهذا له أصناف شتى قد يقع الناس فيه من حيث لا يشعرون، يرون مثلا أنّ بعض الألوان تناسب وبعض الألوان لا تناسب، ويرون مثلا أنّ بعض الأغذية تناسب وبعض الأغذية لاتناسب،... وبعض المراكب تناسب وبعض المراكب لا تناسب، وأشباه هذا، وهذا إذا كان من جهة الرّأي فلا أصل له، أما إذا كان من جهة ترك مشابهة الفسّاق فإن هذا مطلوب، فإنّ الأولياء الصالحين لا يلبسون لباسا يشابهون فيه لباس الفساق وإن كان مباحا، ولا يعملون عملا يشابهون فيه الفسّاق ولو كان مستحبا، بل ربما تركوه لترك المشابهة، وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد حينما أتى لبيان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعره وأنّه عليه الصلاة والسلام كانت له جُمَّة تضرب إلى أنصاف أذنيه وكان له غَدائر يعني شعر طويل ربما جعله غدائر ، قال وكان على هذا العلماء حتى فشى في فسقة الجُنْد أنهم(26/178)
يتخذون الشعر للزينة عند أهل الفسق والمجون، لما شاع ذلك فيهم ترك العلماء إكرام الشعر وتربيته واختاروا قَصَّهُ مخالفة لفسقة الجند. وهذا أصل معروف وشاع في الأزمنة المتأخرة أنه يكون من صفة أهل الفسق أو من صفة أهل عدم الطاعة أنّ لهم كذا وكذا من الأحوال، فهي وإنْ كانت مباحة فتترك إذا كانت مميزة له، هذا يتميز به الصالحون لا حرج في ذلك، أما أنْ يُعتقد شيء من المباحات لاوما لأهل الصلاح، أو يُعتقد في شيء من المباحات أنه لا يجوز في أهل الصلاح دون سبب شرعي من مشابهة ونحو ذلك فإنه لا يسوغ، بل أولياء الله هم المؤمنون المتقون كما وصفهم الله جل وعلا لأنهم من جميع الفئات، فمنهم العابد، ومنهم العالم، ومنهم التاجر، ومنهم المعلم، ومنهم الغازي في سبيل الله، وأشباه هؤلاء في أصناف الأمة، كما قال الله جل وعلا في آخر سورة المزمل ?إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ?[المزمل:20]الآية، فذكر فيها أصناف الناس وأن منهم الذين يضربون في الأرض ويبتغون من فضل الله، وأنّ منهم من يقاتل في سبيل الله، وهذا يعم من أنواعا كثيرة.(26/179)
أما لفظ الصوفية ولفظ الفقراء فهذان لفظان حادثان من جهة وسم المتعبدين الزهاد بذلك، وذكر عدة أقوال في الصوفية واشتقاقها، وذكر الصحيح منها أنها نسبة إلى الصّوف، ولِبْس الصوف في الصيف والشتاء -الصوف الخشن- يدلّ على بعد عن التلذذ في الحياة في الدنيا، ولذلك صار سُنّة لهم أنهم لا يلبسون الرقيق من الثياب ولا القطن ولا الكَتَّان وأشباه ذلك من الثياب الناعمة؛ لأنّ فيها نوع تلذذ ونوع إقبال على الدنيا، وهذا بلا شك في أصله خروج عن السنّة؛ لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يلبس الثياب ما جرت عادة قومه بلبسه ما لم يكن مما يخص المشركين في هيئتهم الظاهرة أو يخص أهل الكتاب في هيئتهم الظاهرة، فلبِسَ الإزار والرداء، ولبس القميص والسراويلات، ولبس العمائم وترك، ولبس الصوف ولبس الخزّ ولبس الكتان ولبس القطن ونحو ذلك، وهذا يدل على أن لبس الخشن من الثياب لأهل الصلاح أنه بدعة، قال الصحيح أنهم نسبوا إلى الصوف، فقيل لهم صوفية نسبة إلى الصوف، وهذا أرجح الأقوال كما ذكر، ومن القوال أيضا في نسبتهم التي لم يذكرها أنهم منسوبون إلى كلمة يونانية هي كلمة (صوفيا) وهؤلاء هم متنسكة اليونان الذين يطلبون الحكمة. فالفلسفة (فلا صوفيا) وبالعربية تكون بالسين وبالصاد.
وإذا عرفتَ تاريخ ظهور هؤلاء الصوفية في بلاد الإسلام، عرفتَ أنه جاء من جهة النصارى، فإنّ اتصال بعض من لا علم عنده من المتزهّدة بالنصارى وانقطاع أولئك مع النصارى في معابدهم في الكنائس والأديرة خارج البلدان المعمورة خارج المدن، أنشأ هذا المذهب أو هذه الطريقة الصوفية، كما هو ظاهر من كتاب الديارات للسابُسكي وغيره مما هو معروف في تاريخ الصوفية، يعني أنهم يطلبون – يعالصوفية- أنهم أهل الإشراق الروحي أو أهل الحكمة السلوكية. هذا قول نصره أيضا طائفة من العلماء.(26/180)
([39])هذه الأحاديث التي ذَكر فيها بيان خصال أهل الإيمان والتقوى، وأنّ مَنْ أتى بهذه الخصال فهو أحبّ إلى الله جل وعلا، ومعلوم أن من يُسَمَّوْن بالفقراء في البلاد التي تنتشر فيها الصوفية أو المتصوفة أنهم يتركون الجهاد في سبيل الله، وينقطعون عن الأعمال، ويَلزَمون مجالسهم في مساجدهم، أو يلزمون الذِّكر، أو يلتزمون الببيوت، ولا يعملون من الأعمال الصالحة ما ذكر الله جل وعلا في كتابه أو بيّنه الله جل وعلا في سنته من حل أهل الإيمان والتقوى، فعُلم منه أنه يفوتهم شيء كثير من الطاعات، فمن أتى بهذه الطاعات فهو أفضل منهم ولو كانوا منقطعين فإنّ الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وكلما كان المرء أكثر طاعة لله كلما كان أقرب وأعظم وأكرم عند الله جل وعلا.
لهذا ليس من صفة الأولياء الإنقطاع عن مخالطة الناس، وليس من صفة الأولياء أنهم يلتزمون البحث عن النفس وعن عيوبها ويتركون بهذا الأعداء بأصناف الأعداء، بل أولياء الله جل وعلا هم الذين يمتثلون الأوامر حيث وجبت عليهم، أو توجّهت إليهم؛ فإذا كان المقام مقام إصلاح للنفس أصلحوها، وإذا كان المقام مقام تركٍ للحرام تركوه، وإذا كان المقام مقام جهاد جاهدوا، وإذا كان المقام مقام دعوة دَعَوْا، وإذا كان المقام مقام أمر ونهي أمروا ونهوا، كل ذلك لتحصيل ما أمر الله جل وعلا به، أما من يترك هذه الأشياء ويلتزم الذِّكر الطويل ويلتزم العبادة الطويلة والصلاة الطويلة ويترك واجبات كثيرة، فهذا ليس بأفضل ممن يقوم بواجبات هاهنا يعني حيث وجبت. فيقوم بكلّ ما أوجب الله جل وعلا عليه بحسب طاقته. نكتفي بهذا.(26/181)
([40])هذا تتمة لما سبق في بيان أنّ أولياء الله جل وعلا ليس لهم وصف غير الإيمان والتقوى والسعي في تكميل ما أوجب الله جل وعلا عليهم والابتعاد عما نهى وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وأن هؤلاء لهم صفات متعددة فأكرمهم عند الله أتقاهم فأعلاهم منزلة عند الله جل وعلا أمثلهم وأكثرهم امتثالا لشرعه ودينه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفليسوا بالاسم يكونون أولياء؛ باسم الفقير، أو باسم الصوفي، أو باسم العالِم، أو باسم المحدِّث، أو باسم المؤلف، أو باسم كذا يكونون أولياء، وإنما يكونون أولياء بتقربهم إلى الله جل وعلا بالطاعات الواجبة والمستحبة وابتعادهم عما نهى الله جل وعلا عنه ونهى عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هذه صفتهم.
([41])غلِط، يغلَط،غلَطا، في الماضي غلِط، والمضارع يغلَط.
([42])هذا التفصيل أصل في مسألة الوَلاية؛ وهو أنّه ليس من شرط ولي الله جل وعلا أنه لا يخطئ البتة، أو لا يغلط أبدا، أو لا يكون عنده إلتباس في بعض المسائل المهمة في العقيدة أو في الشريعة، أو لا يكون عنده نقص في العمل في بعض الأشياء، هذا ليس مِنْ شرط ولي الله جل وعلا أنْ يكون كاملا، إذْ لو شرط هذا لقيل إن الولي في مرتبة النبي؛ لأن النبي هو الذي لا يغلَط وهو الذي لا ينقص عن الكمال في مسألة الطاعة، ولا يلتبس عليه شيء، أمّا أولياء الله جل وعلا في هذه الأمة وفي الأمم فَهُم أكمل أقوامهم وأكمل أتباع الأنبياء، فقد يحصل لهم غلط والتباس واشتباه وبعض قصور في العمل، ولا ينفي ذلك أن يكونوا أولياء الله جل وعلا؛ لكن من كان أتم في العلم والعمل كان أكثر وأعظم ولاية؛ لأن الولاية تتبعض -كما ذكرنا في دروس ماضية-.(26/182)
ومن المهم في هذا الباب أنَّ الولي -كما ذَكر- قد يحصل له اشتباه فيما يحصل له من أنواع الكرامات أو الخوارق؛ فإنّه يأتيه خارق قد يحصل له اشتباه في أنْ يظنّه كرامة وهذا لا يقدح في أن يكون وليا ولو كان هذا الخارق شيطانيا؛ لأنّ هذا راجع إلى العلم، فالتفرقة ما بين العارض الشيطاني والعارض الرحماني، أو الكرامة الرحمانية والخارق الشيطاني هذا يحتاج إلى العلم بالتفريق في ما بين هذا وهذا، فإذَا لم يفرِّق كان ذاك بسبب قصور العلم، وقصور العلم لا ينفي أن يكون وليا لله جل وعلا في مثل هذا؛ لأنّ الإلتباس وقع على كثير من الصفوة في مثل هذه المسائل فيقع لهم أشياء من خوارق الشيطان، وقد يكون ضعيفا عن العلم بها.
القاضي يكون وليا لله جل وعلا وقد يخطئ في اجتهاده، ... لكنه حين اجتهد استفرغ وسعه أو يعطي مالا لغير مستحقه في نفس الأمر، لكنه حين أعطى استفرغ وسعه في الإجتهاد وبذل طاقته، والله جل وعلا رفع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان، وثبت كما نقل شيخ الإسلام في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال «إذَا اجتهد الْحَاكِمُ فَأَصَابَ, فَلَهُ أَجْرَانِ» أجر الإجتهاد وأجر الإصابة، وإن أخطأ فله أجر واحد وهو أجر الإجتهاد بذل الوسع في معرفة حكم الشرع في هذه المسألة.
فهذا يعني أن من رُئِي عليه نقص في العلم والعمل مما لا يقوده إلى معصية فإنه لا ينفي أن يكون وليا لله جل وعلا، وقد يكون عنده قصور في السنّة في بعض المسائل، أو قصور في العلم في بعض المسائل، ويكون عنده من الخير والعبادة وتحقيق الإيمان والتقوى ما به يكون وليا لله جل وعلا، والأولياء مراتب ودرجات ليسوا مرتبة واحدة إما أن تحصل وإما ألاّ تحصل، بل هم متفاوتون في ذلك كما قال جل وعلا ?هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ?[آل عمران:163].(26/183)
([43])المقصود من (مع اجتهاده) فيما يسوغ فيه الإجتهاد، أمّا الإجتهاد في المسائل المجمع عليها أو في العقيدة؛ عقيده أهل السنة أو ما أشبه ذلك فهذه لا يسوغ فيها الإجتهاد، ومن خالف واجتهد فيما ليس مجالا للإجتهاد فهو معلوم ومؤثّم، أما المسائل التي يقبل فيها الاجتهاد لا يلام صاحبها بل يشكر، ولا يؤثم إذا أخطأ بل يقال أخطأ وأراد الخير حيث اجتهد فيما يسوغ فيه الإجتهاد.
? ...أمّا من جهة المواجهة فلا، لأنها مدح وثناء، فلا يكون في وجه الرجل أما في ذكره وخلفه يعني فيما لا يكون مواجهة فلا بأس، إذا كان المرء قالها عن علم لا عن هوى لأن مسألو الولاية تدخل فيها الأهواء وقد يقول لمعجب له هذا ولي الله ليرفع مقامه بين الناس، هذا حكم عليه بأنّه ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] لا يجوز التجرّي في مثل هذه المسألة إلا بعلم، وهدي السلف ترك المقولة هذه إلا في أشخاص معدودين مثل أنهم قالوا فلان من الأبدال، فلان من أولياء الله، قليل، فيمن اشتهرت إمامته وعلمه وتقواه زصلاحه فلا بأس، أما أن تدخل هذه الأسماء الأهواءُ وكل معجب بأحد يقول هذا ولي الله، وإذا لم يكن هذا ولي لله فليس لله ولي، أومثل هذه العبارات، فهذا من التَجَرِّي على الدين وعلى ما يحب الله.(26/184)
([44]) مُحَدَّث يعني مُلهَم، فيُلقى الصواب في روعه فيدركه؛ يأتيه، وعُبّر عنه بلفظ المحدَّث لأن صاحبه يشعر أنه يحدث بهذا الصواب، فيحدث كأنّ أحدا يكلمه في داخله ويقول كذا وكذا، من الكلام في المسألة، مثل ما حصل لعمر - رضي الله عنه - فإنه ثبت عليه الصلاة والسلام أنه قال «إن الله ألقى الحق على لسان عمر وقلبه» وعمر - رضي الله عنه - حُدِّث بحال سارية فتكلم به ((يا ساريةُ الجبل، الجبل)) يعني إلزم الجبل، حُدِّث بحاله فأوصى، وكُشِفَ له حجاب البصر فرأى ما يفعل سارية فأوصى، فإذن التحديث راجع إلى علم سمعي، قد ذكرنا لكم أنّ الكرامات منها ما يحصل من جهة العلم، ومنها ما يحصل من جهة السمع، ومنها ما يحصل من جهة البصر، ومنها ما يحصل من جهة القدرة، فهي أربعة اقسام: كرامات علمية، كرامات سمعية، وكرامات بصرية، وكرامات قُدرية.
1. فالعلمية: مِثْل ما حصل لأبي بكر الصديق أنه قال لإمرأته أن في بطنها أنثى هذا من جهة العلم، ويدخل فيه قول عمر يا سارية الجبل، الجبل.
2. والسمعية: مثل سماع سارية لكلام عمر - رضي الله عنه - فسمع كلام عمر؛ فهذا كرامة من جهة السمع.
3. من جهة البصر: يرى ما لا يرى غيرُه، أو أو يحجب عنه ما يُرى بالبصر، مثل أن شُرَط دخلوا على الحسن يريدونه فبحثوا في البيت، بحثوا، لم يجدوا أحدا وخرجوا وهو بفناء الدار جالس يُسبِّح أمامهم، فحُجب عنهم أن يُبصروه، هذا من جهة الكرامات البصرية.
4. والكرامات القُدريّة: -من جهة القدرة- أنْ يقدر على ما لا يقدر غيره. يقدر على أن يمشي على الماء بإقدار الله جل وعلا عليه وإكرامه له، يقدر على أن يُحيى له الميت، مثل ما حصل للصحابي مع فرسه، أو حصلت له من جهة القدرة أنه يرفع فلا يُعرف له مكان، أو دخل النار فلا يضره ذلك. وأشباه هذا.(26/185)
إذن هي أقسام يمكن أن ترجع أنواع الكرامة إلى واحدة من هذه الأقسام، وكلّ قسم منها أيضا ينقسم إلى نوعين: لازم، ومتعدي. وحصول اللازم والمتعدي لمن حصلت له لا يدل على قوة إيمانه، ولا قوة إيمان من حصلت فيهم؛ لأنّه قد يكون محتاجا إلى ذلك فيُثَبَّت بالكرامة، فقد يكون الناس محتاجين فيثبتون بالكرامة إذا حصلت لبعضهم.
([45])السكينة اسم لما يُسكن إليه من الأقوال والإعتقادات والأعمال، ويُسكن إليه لأنّه الحق. كما قال جل وعلا في الإعتقادات ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ?[الفتح:4]، وقوله (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا) دل على أنّ السكينة حصل بها زيادة إيمان لهم، فهي نوع اعتقاد نتج عنه الطمأنينة والراحة. كذلك ما يُسكن إليه مِنَ الحق في الأقوال يقال سكينة، وما يُسكن إليه من الأعمال للحق يُقال له سكينة،... (سكينة تنطق) هذه سكينة قولية.
([46])ومن هذا الموافقات؛ وافَقَ حكم عمر حكم الرب جل وعلا في مواضع في القرآن.
([47]) وقصد بالمخاطبات ليست المخاطبات التي يخاطب بها الرب عبادَه أو تخاطِب بها الملائكةُ العباد؛ لأن هذا للأنبياء، وإنما يقصد بالمخاطبات الإلهام القولي الذي يُحس به الولي المحدَّث في نفسه؛ فيحس أنه يخاطَب بشيء، وأنّ كلاما يقال له في أذنه أو في قلبه، وهذا نوع من الإلهام له، قد يكون بواسطة الملَك الذي يلازمه وقد يكون بواسطة ملَك آخر، المهم أنه ليس وحيا إليه، ولا مكاشفة قولية من الرب جل وعلا كما يزعم الصوفية.
([48])ثبت في الصحيح يحتمل أن يكون المراد ثبت في البخاري أو مسلم أو هما معا. ومراده هنا مسلم.(26/186)
([49]) النكتة من نكت القوم يعني يأتي في خاطره وفي قلبه شيء مما يتصل بالإيمان والأحوال وتزكية النفس ورؤية الأشياء والتفكر وأشباه ذلك. فيقع في الخاطر أشياء. قال فلا أقبلها إلا بشاهدين من الكتاب والسنة؛ لأنّه قد يكون هذا الخاطر الذي جاءه ليس بحق، قد يكون هذا التأمل الذي جاءه باطل، قد يكون هذا الاستنتاج الذي استنتجه باطل، فإذا شهد له الكتاب والسنة وهما القاضيان والشاهدان والمعدِّلان والمزكيان للأفكار والآراء، فإنه إذا لم يُشهد له فإنه باطل.
?... لأنه يعلم وخالف عنه فهذا من أهل الإباء والإستكبار مثل حال ابن عربي والتلمساني وأشباههم؛ الذين يقولون لأقوامهم ما نقول لكم وحي من الله، ونحن معصومون أن نخطئ لا في اللفظ ولا في العمل ولا في الفكر، هؤلاء إما أنْ يكونوا علماء فهؤلاء كفار لأنهم أبوا واستكبروا عن الإنقياد للحق وإلا أن يكونوا جهّالا هؤلاء قد يعذرون.(26/187)
([50])في كلامه (القديم) غلط؛ لأن القرآن محدث ليس بالقديم، كما قال سبحانه ?مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2)لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا?[الأنبياء:2-3]، وكذلك في آية سورة الشعراء، فالقرآن مُحْدَث بمعنى حديث النزول من ربه جل وعلا حديث العهد من ربه جل وعلا، إنما تكلم الله به فسمعه جبريل فبلغه للنبي عليه الصلاة والسلام، وأما الذي يقال أنه قديم هو كلام الله ليس القرآن، الكلام كلام الرحمن جل وعلا نقول قديم النوع حادث الآحاد، ويجوز أن نقول إنّ كلام الله قديم؛ يعني قديم النوع لا بأس بهذا؛ لأنّ الله جل وعلا أول وكذلك صفاته سبحانه وتعالى أزلية -يعني الصفات الذاتية- أزلية قديمة، فهو سبحانه وتعالى يتكلم كيف شاء وإذا شاء وكلامه قديم ولا يزال يتجدد كلامه بتجدد الأحوال، متعلِّقا بمشيئته سبحانه وتعالى وقدرته، فالقرآن لا يسوغ وصفه بأنّه قديم، بل هذا مذهب الأشاعرة فإنهم يجعلون القرآن قديما تكلم الله به في الأزل، فكل كلام أراده الله ثم يتعلق هذا الكلام بالإرادة وبالزمن الذي يصلح له فيتجدد، فليس عندهم أن القرآن كلام الله جل وعلا الذي تكلم به حين أَنزل القرآن، ولهذا اعترض الآمدي عليهم في هذه المسألة في كتابه أفكار الأفكار وفي كتابه نهاية وغاية المرام وفي غيرهما بأن قول الأشاعرة باطل فإم أن يكون الحق من جهة التقسيم قول أهل السنة وإما أن يكون قول المعتزلة الذي هو أن القرآن مخلوق ثم استدل على بطلان قول المعتزلة وبقي الحق وهو قول أهل السنة؛ لأنه يلزم من أن القرآن قديم -حسَب كلام الآمدي- قال تأملت هذه المسألة -وهو أشعري من كبارهم، من علماء أهل الكلام- من يقول الكلام قديم فإذا في القرآن ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا?[المجادلة:1]، وفي القرآن ?قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي(26/188)
السَّمَاءِ?[البقرة:144]، وفي القرآن ?قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ?[الأنعام:33] ونحو ذلك مما فيه ذكر صيغة الماضي قد سمع الله فإن كان هذا الكلام قديما فإن الله يقول قد سمع لشيء لم يحصل وهذا، وهذا لا يجوز لأنّه نوع من الكذب وهذا يدل على بطلان هذا القول.
المقصود أنّ القول هذا (في كلامه القديم) هذا غلط موافق لطريقة الأشاعرة لعله من إضافاتهم.
([51])هذا الكلام الذي سبق كله تفريع على ما ذكرتُ في أول الفصل من أن أولياء الله جل وعلا ليس من شرطهم أن يكونوا معصومين من الغلط؛ بل قد يكون المرء يغلط بالعمل وقد يكون عنده بعض غفلة؛ بعض نسيان، قد يغلط في بعض ما يجتهد فيه سواء في أمور العمليات أو العلميات فكل هذا يحصل، وهم على نوعين:
1. منهم من يغلط بعد استفراغ الوسع والطاقة في الإجتهاد، فهذا معذور وله أجر على اجتهاده؛ لأنّه نظر واجتهد وأفرغ الوُسع والطاقة، والله سبحانه وتعالى يقول ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ?[التغابن:16].
2. ومنهم من لا يُفرغ الوسع والطاقة، ولا يجتهد عن بذل لتحري الحق، وبذل لطاقته في تحصيل الحق، وإنما يثق بأول خاطر أو إذا نَدَر عليه شيء و عرض لذهنه شيء أو لقلبه تطق به أو تكلم، وذكر ذلك عن نفسه أو حثَّ الناس عليه، دون الإجتهاد والرجوع إلى النصوص، فهذا مذموم، وإن كان يُسَمِّي نفسه مجتهدا فهو مذموم.(26/189)
فأولياء الله جل وعلا لا يشترط فيهم عدم الغلط، بل يكون وليا وإنْ كان عنده نوع معصية أو غفلة لا يقيم عليها، أو عنده نوع إجتهاد يغلط فيه ويبقى على غلطه لعدم ظهور الحجة له، أو لتأوله ولإجتهاده هذا بخلاف حال الأنبياء فهم الذين لا يتكلمون إلا بحق ولا يوافقون أو يقرون على إجتهاد باطل، وهذا من الفروق ما بين الأنبياء –كما ذكر- وبين الأولياء، وهذا يبين لك ضلال قول من قال إنّ الأولياء أرفع رتبة من الأنبياء، مثل ما قاله الضال الزنديق حيث يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف ببناء الأنبياء فوجد لبنة في زاوية منه لم تَكْمُل فقال أنا تلك اللبنة. قال: فيرى خاتم الأولياء نفسه في مقام لبنتين في البناء لبنة ظاهرة من ذهب، ولبنة باطنة من فضة -أو العكس- ويأخذ من المشكاة التي أخذ منها الرسول. فهو في الظاهر متبع وهو في الباطن يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الرسول عليه الصلاة والسلام؛ يعني يأخذ من الله مباشرة أو من جبريل، وهذا رفع لمقام الأولياء على مقام الأنبياء وهو من أنواع الزندقة، فمن فَضَّل وليا على نبي فإنه كافر بالله جل وعلا لأن الأنبياء هم أفضل الخلق والأولياء تبع لهم بل ما ارتفع الأولياء إلا لكونهم أتباع الأنبياء، فدليل وَلاية الولي أنّه تابع للنبي كيف يكون أفضل منه؟ أو يأمر بشيء لم يجيء بالكتاب والسنة أو ينهى عن شيء قد جاء الأمر به في الكتاب والسنة، وأشباه ذلك، لا شك أن هذا ليس من صنيع أولياء الله.
ومثل هذا الكلام هنا ربما لا نعرف أبعاده لكن في البلاد التي يكثر فيها الصوفية وغلاة الصوفية يرون من هذا شيئا عجيبا، حتى أن الشعراني ذكر بأن فلانا الولي يقول ومنهم يعني من الأولياء سيدي فلان الفلاني كان - رضي الله عنه - يتلو آيات ليست في القرآن، وكان فلان من الأولياء يخطب الجمعة في سبع صلاة يعني في نفس الوقت، ونحو ذلك مما يفضلون به الأولياء على الأنبياء، مثل ما قال قائلهم:(26/190)
مقام النبوة في برزخ فُوَيْقَ الرسول ودون الولي
يعني أن أعلى مقامات الولي ثم يليه النبي ويليه الرسول، عكسوا.[انتهى تعليقات الشريط الثالث]
([52])ينطق بعض الأوقات من الغيب.
([53])هذا الكلام مبني على تفصيل ما ذكره في الفصل، وأنّ أولياء الله جل وعلا لا يكونون أولياء حتى يكونوا مِن المتبعين للكتاب والمتبعين للسنة وليس الوَلاية دعوى ليس لها برهان، فمِن الناس من يغلط في هذا الموضع فيقول هذا ولي الله فيقبل منه ما جاء به ما ذكر على أساس هذه المقدمة الباطلة أنّه ولي لله، فلا يكون وليا لله في الواقع لمخالفته للأمر والنهي ولوقوعه في مفسِّقات أو في أمور بدعية أو شركية إلى غير ذلك، فيُسَلِّم له الأمور البدعية أو الشركية على أساس أنه ولي لله جل وعلا، وهذا هو الذي جعل البدع والشركيات تنتشر في الأمصار من جرّاء الاعتقاد في الأولياء، فإنّه يكون هذا الولي حيًّا ويكون فاسقا فيحبّب للناس بعض المنكرات أو بعض البدع ليحصُل منهم على مال أو على جاه أو إلى آخره، فيعتقد الناس أنّه ولي فيتبعونه على ذلك ويقولون قالها الولي الفلاني، والذي يحطِّم هذا الأمر هو إقامة البرهان عند الناس أن الوَلاية لا تكون إلا للمؤمنين المتقين ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] فالمؤمن الذي حصَّل الإيمان والأركانه، المتقي الخائف من اللله جل وعلا، والممتثل للواجب، وينتهي عن المحرم ووجل قلبه من الله، ويستعد للقائه، وهذا هو المتقي، وهو المؤمن الذي يرجى أن يكون وليا لله جل وعلا، أمّا الذين أتوا بالبدع والشركيات ليسوا من أولياء الله فَرَاج أمرهم في الناس والناس لا ينظرون هل هو ولي أم ليس بولي. إنتشر في الناس أنه ولي فقبلوا كل ما جاء به ولهذا ذكر لك في أول الكلام أبي عمرو بن نجيد (كل وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل) والوَجد(26/191)
يعنون به ما يظهر للمرء من الاستحسان لأشياء في العبادة أو في التأملات والتفكر، أو في السلوك مع الناس وكل وجد ليس عليه دليل فهو باطل.
ومن عجائب ذلك ما ذكره بعض العلماء أن رجلاً من أحفاد أحد الأولياء -كما يزعمون- في المغرب، زعم عند بعض الناس أنه من أولياء الله وأن جدَّه حدثه بكذا وكذا وكذا، فعظَّمه من حلّ بهم وأسكنوه عندهم، فصار يأمرهم وينهاهم وهم يطيعون، فقال لا أكافؤكم إلاّ أن تحجوا معي هذا العام، قالوا أَوَ تحج؟ قال نعم وستحجون معي جميعا، -وهم في المغرب- فلما صار وقت الحج قرب وأعدّ العدة، قالوا ألاَ نحج؟ قال سوف نحج فالأمر عند الأولياء يسير، والثاني والثالث، والرابع حتى أتى يوم عرفة، فقالوا ألا تحج؟ فقال بلى إذا أتى بعد العصر ذهبنا إلى عرفة، فلما أتى بعد العصر أمرهم بالإستعداد، ولما تجهزوا هم وأهلوهم، قال هلمُّوا، فصعد بهم إلى سطح البيت، وقال لهم سبحان الله هذا جبل عرفة، فقالوا له أين جبل عرفة؟ فقال لهم وهل تريدون أن تروا نُورَ الأولياء؟ هذا جبل عرفة أدعوا هنا، فدعوا فلما مكث مدة، قال غابت الشمس في عرفة فارحلوا فرحلوا قليلا، فقال افعلوا كذا، أتريدون أن نطوف هذه الكعبة، فطوفوا، فأخذ يعمل بهم مثل هذه الحركات وهم يسلمون له للوَلاية.(26/192)
يعني أن الدرجة الأولى التي يدخل بها صنيع الدجالين والمشعوذين والكهنة وأشباه هؤلاء أن يقال لكل الناس وأن يعلم كل الناس أن الولي لا يكون إلا مؤمنا تقيا، فإذا كان حي في الناس يأمرهم وينهاهم ويدعوهم إلى أشياء ويعتقد أنها تفيد، فيقال لهم الولي هو المؤمن التقي وهذا من أفعاله كيت وكيت وكيت من المحرمات، والأولياء الدجالين أشاعوا في الناس أن الأولياء أعمالهم الظاهرة غير أعمالهم الباطنة حتى لا يأتي مثل هذا، فيقال هو في الظاهر يعمل أشياءً وفي الباطن قلبه وعمله لله جل وعلا، ومنهم طائفة تسمى الملامكية أو الملامية، وهم الذين إدَّعَوْا أنهم لإخلاصهم يُظهرون خلاف التوحيد، أوخلاف الإستقامة، خلاف الإخلاص لأجل أن لا يُتَّهموا بالرياء يقولون نظهر هذا في الناس لأجل الإخلاص حتى لا يقال هم مراؤون، فيُخفون الطاعات ويظهرون الفسوق لأجل ألا يرائي في الناس، ففي مثل هؤلاء قال فضيل بن عياض وجماعة ”العمل لغير الله رياء وترك العمل لغير الله شرك“ فهؤلاء يزعمون أنهم هربوا من الرياء ووقعوا في الشرك، لأنهم تركوا العمل لأجل الناس، فالعمل لغير الله رياء وترك العمل لأجل الناس أو لغير الله هذا شرك. يعني ترك العمل الصالح الواجب.
المقصود من هذا أن تأصيل شيخ الإسلام عظيم في بيان هذه المسألة المهمة.
[الهروي الذي تكلمنا عليه المرة الماضية هو أبو إسماعيل في الصحيح مثل ما هو موجود عندكم في الكتاب أبو إسماعيل عبد الله محمد الهروي ليس إسماعيل إسماعيل رجل آخر غير المنقول الآن؛ أبو إسماعيل عبد الله محمد الهروي]
([54]) هذه صفات موجودة في فئات ممن يُدَّعى أنهم من الأولياء وأنهم من أصحاب الكرامات:
الفئة الأولى المجاذيب والمجانين: وفيهم مثل هذه الصفات من ترْك الوضوء والصلاة لأنه مجنون أصلا، والناس يعتقدون في جنونه كما سبق أن ذكرنا.(26/193)
الفئة الثانية الدّجّالون: الذين عرفوا أن مثل هذه الصفات يعتقد الناس فيها الوَلاية، فأرادوا أن يجعلوا لأنفسهم مقاما، فتلبسوا بهذه الصفات المنكرة، والعياذ بالله لأجل أن يعظمهم الناس ويدعوا فيهم الوَلاية.
الفئة الثالثة الكهنة والسّحرة وأصحاب المخارق الشيطانية: والمشعوذون منهم عقلاء ولكن يستعينون بالجن ويستخدمون الجن يكون لهم مثل هذه الصفات السئة.
هذه الفئات الثلاث إدعى فيها الناس إلى يومنا هذا أنهم من أهل الكرامات والأولياء، نجد في بعض البلاد يُقال للكاهن أنّه ولي وهو كاهن، إنما يخبر من طريق الجني، وكذلك منهم من يجعل المجنون الذي يترك الصلوات ويلابس النجاسات ولا ينطق كلمة عاقلة يجعلون ذلك أيضا دليلا على ولايته وكرامته كذلك الفئة الثالثة، فكما ذَكر شيخ افسلام هنا أن أهل الإيمان لهم صفات وهؤلاء وإنْ ظهرت على أيديهم خوارق فإنما هي من الشياطين لتغوي الناس، شياطين الجن قد تُظهر للمرء بعض المعلومات، وقد تجعل له بعض الأحوال في مساعدتهم فيغتر الناس لذلك، والجن أقدرهم الله جل وعلا على بعض الأمور لا يقدرها البشر كما قال جل وعلا ?قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ(39)قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ?[النمل:39-40] يعني من الإنس ممن عُلِّم الاسم الأعظم (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ) يعني بالإسم الأعظم الذي إذا سئل به الله جل وعلا أجاب وإذا طلب به منه أعطى?أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ?[النمل:40]، إلى آخر الآيات، فدل أن الجن يقدرون على أشياء أقدرهم الله جل وعلا عليها، (قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ) أحمل لك العرش من اليمن إلى بيتك أو إلى دار لك في الشام قبل أن تقوم من مقامك فقط مدة مقامك في المجلس.(26/194)
فالجن يخبرون بمغيبات، ليست مغيبات مطلقة؛ مغيبات عن بعض البشر حصلت في الماضي، وربما أخبروا عن مغيبات تحدث في المستقبل، ومنهم من يكون صادقا فيما أخبر ويكون مما إلتقطه المسترق السمع، ومنهم وهو الأكثر أن يكونوا كَذَبَة فيكذبون مع الخبر الصادق مائة كذبة فيروج هذا فيالناس، ومنهم –يعني غير الإقدار وغير الإعلام وهو الوحي- من يوحي يعني يلقي في نفس وليه ما في قلب صاحبه؛ فيأتيه آتٍ ويقول له كلاما فيأتيه الجني ويقول هذا كاذب لأنه حصل منه كذا وكذا فيقول أنت كاذب، كيف تقول هذا وفي بيتك كذا؟ كيف تفعل وأنت البارحة قد عملت كذا فيغتر هذا السائل بحال هذا المسؤول. هو الذي يعلمه بالأمور الغيبية الماضية والحاضرة والمستقبلة ويخبره عن أشياء وهو الملك، ولا يجعلون هذا من الشياطين لأنه بالإتفاق الشياطين لا تخدم أهل الإيمان، لهذا وَجَب على المؤمنين أن يغتروا بمثل هذه الظواهر التي يكون فيها ادعاء للخوارق.
كما ذكرنا أن الخوارق تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1. خوارق جرت على يدي الأنبياء هذه تسمى آيات وبراهين ودلائل.
2. وخوارق جرت على يد أولياء صالحين مؤمنين متقين هذه تسمى كرامات.
3. والثالث خوارق جرت على أيدي الفسقة، المردة، وربما كفرة بعيدون عن الشريعة لا يصلون ولا يتطهرون، أو عندهم بدع، عندهم خرافات وأشباه ذلك، هذه تكون من عند الشياطين.
طبعا في حدودها مختلفة؛ يعني الخارق الشيطاني غير الكرامة بضابطها غير الآية والبرهان.(26/195)
([55])وأظهر دلالة على المقصود من إستدلاله بالآيتين قوله جل وعلا في سورة الأنفال ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا?[الأنفال:29] فبتقوى الله جل وعلا يجعل للمرء فرقانا، وهذا الفرقان قد يكون في الأمور العلمية، وقد يكون في الأمور العملية، وقد يكون في الأمور القُدرية يعني الراجعة إلى القدرة, وهذه هي أنحاء الكرامات فالكرامة قد تكون راجعة إلى العلم، وقد تكون راجعة إلى العمل، وقد تكون راجعة إلى القُدرة، ولهذا قوله سبحانه (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) يعني فرقان بين الأشياء بين الحق والباطل في الأمور العلمية، وما بين الهدى والضلال في الأمور العملية، وما بين صنيع الشياطين وصنيع الأولياء وكرامات الأولياء والصالحين ومخاريق الكهنة والشياطين، فهذا يكون بالتقوى، فإذا اتقى اللهَ العبدُ وكان في تقواه محسنا، فإنه يؤتى هذا الفرقان، ويُبصر الحق ويبصر الباطل وكما قال سبحانه وتعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ?[الحديد:28] ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم، وهذا النور هو الفِراسة وقوله عليه الصلاة والسلام «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»، الفراسة قسَمَها العلماء إلى ثلاثة أقسام:(26/196)
1. فراسة خَلقية رياضية: هذه الفراسة هي التي كتبت فيها المألفات التي تسمى كتب الفراسة، يعني يستدلون بالخَلق على الخلق، يستدلون بالخَلق على الصفات، يستدلون بصفة العينين على ذكائه من عدمه، يستدلون بكبر الرأس عن ذكائه من عدمه، يستدلون عن سعة الصدر عن حلمه وعدم حلمه، يستدلون بوَفْرة جسمه على كذا من كذا، يستدلون بتقاطيع وجهه، بعرض جبهته، بشموخ أنفه بسعة وجهه، بطول وجهه إلى آخره، هذه أُلفت فيها مألفات كثيرة، بلون الشعر، بلون العينين على صفات هذا المتصف بتلك الصفات. فهذا النوع وهي الفراسة الخَلقية هذه راجعة إلى تجارب الناس منها ما هو حق، و منها ما هو باطل، كذلك ما فيها لا يجوز أن يُعتمد بإطلاقه، كذلك لا يرد بإطلاقه؛ لأنّ فيه ما هو من حق، ومن العلماء من كان يغلو في مثل هذه كان يعتمدها، مثل ما يذكر -وهو صحيح عنه- عن الشافعي رحمه الله، فإنه تعلم هذا النوع من الفراسة و أكثر فيها جدا، حتى ربما أُشتري له الشيء من أحد فسأل عن صفته فربما لم يطعم الطعام لأجل صفته؛ أرسل خادمه مرة فقال له أنْ يشتري له بعض البقول يعني بعض الخضروات فقال: ممن إشتريت؟ قال: من رجل؟ قال: ما صفته؟ قال: كان أعرج. فقال: لا آكله، كلوه. وأشباه ذلك، هذا نوع من التشاؤم وإن كان وقع فيه بغض أجلة أهل العلم وأجلة الأئمة لكنه شيء يغلب على النفس، وكل يأخذ من قوله ويرد0 وبعض العلماء أيضا كان يكثر من هذا ويستعمله في حياته، فهذا لاينبغي فأن الصحابة رضوان الله عليهم كانت صفاتهم محتلفة منهم كان دقيقا قصيرا جدا، ومنهم من كان طويلا، ومنهم من كان كبير الرأس، ومنهم من كان صغير الرأس، ومنهم من كان صغير العينين إلى آخر هذه الصفات التي يزعمون، وكاتوا في مقامات الإيمان والصلاح والفأل ومخالفة ما تعلمه.(26/197)
2. والنوع الثاني من الفراسة: فراسة علمية: وهذه الفراسة العلمية تسمّى فراسة؛ لأنّ العلم الصحيح يأتي لصاحبه كوُفود صاحب الفرس عليه، ودنو صاحب الفرس منه وتمكنه من ذلك. أيضا هذا يأتيه من العلم والإلهام ما يعلم به الحق، وهذا النوع من الفراسة هو الذي يكون كرامة من الكرامات ولهذا يببحث العلماء بحث الفِراسة وأنواعها في مبحث كرامات الأولياء لأجل هذا النوع0 فقوله عليه الصلاة والسلام «إتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» يعني هذا النوع من الفراسة في الأمور العلمية الراجعة إلى علمه بالأشياء؛ علمه بما في تفس صاحبه، ينظر إليه فيعلم ما يجول بخاطره، يعلم أنه يفكر في كذا وأشباه هذا، هذا من النور الذي يقذفه الله جل وعلا في قلبه، لكن هذا لايسوغ أن يُحكم به؛ يعني أنْ يجعل دليلا على الحكم؛ فيستعمله المستعمل على أنه دليل، هذا خاطر يأتي للقلب، ويكون في أهل الولاية وأهل الإيمان الصحيح والتقوى فراسةً، لكن لا يسوغ لصاحبه أن يحكم به وأن يستعمله، فيظن بالناس الظنون لأجل هذه الفراسة أو أن يحمدهم لأجل هذه الفراسة، لأن هذه الفراسة دليل ناقص؛ قد تكون من نور الله جل وعلا وقد لاتكون، فالمرء لا يزكي نفسه فلا يدري هذا الخاطر الذي هجم عليه هل هو من نور الله جل وعلا أو هو من الظن السيء أو هو من الظن الحسن الذي فيه تزكية لغيره وأشباه ذلك مما لا يسوغ، فله أن يستعمله من جهة الإحتياط، من جهة المعرفة ولكن ليس له أن يحكم به إلا في بعض الأحوال التي يقوى فيها حيث يكون عنده يقين بذلك قال عليه الصلاة والسلام «كان فيمن كان قبلكم محدَّثون» يعني ملهمين «فإن يكون أحد منكم فعمر»(26/198)
3. النوع الثالث من الفراسة -أُدخلت في الفِراسة- المسماة بالقياسَة: والقاسَة منهم من يعلم الأشكال فيلحق هذا بأبيه، ومنهم من يعلم الأثر. وهذه القياسة قد تصل في أهلها، معروف عن قبائل العرب فيها هذا الأمر كبني مُرَّة ونحوهم يعرفون من وطئ القدم هو من أي قبيلة، ويعرفون من وطئ القدم هل هو رجل أم إمرأة، وهل المرأة حائض أم طاهر، وهذا يسمى القياسة؛ تتبع الأثر، هذا علم خاص يتداولونه فيما بينهم وهو صحيح دلت التجارب على صحته، والشريعة جاء فيها الحكم بالقياسة، فالقائس يُحكم بقوله في المسائل التي يحتاج فيها إلى قائس، مثل تنازع الأنساب وأشباه ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام كان عنده زيد بن حارثة نائما وابنه أسامة بن زيد وقد غطيا وجهيهما وبدت أقدامهما، فات رجل من القاسة قال يارسول الله هذه الأقدام بعضها من بعض فسُرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وبرقت أسارير وجهه عليه الصلاة والسلام، لمحبته لأسامة ولأبيه رضي الله عنها، فهذا النوع شرعا ويحكم به ويصير القاضي إليه، وهو من حيث الظاهر أقوى الأدلة، يعني أقوى أنواع الفراسة، وليست الأدلة التي هي البينات عند القاضي، أقوى أنواع الفراسة؛ يعني من حيث الحكم الظاهر، أما الباطن فالثاني الذي هو الكرامة؛ فراسة المؤمن، والأول قد يكون أو لا يكون.
العلماء يقولون علم ... فيه استعداد فطري لكن هو علم. نكتفي بهذا
([56]) يعني دين الإسلام العام، فكل دين؛ الذي جاء به الرسل هو دين الإسلام لكنه دين الإسلام عام الذي يشترك فيه الأنبياء والمرسلون الذي هو الاستسلام لله بالتوحيد والإنقياد له الطاعة والبراءة من الشرك وأهله أما الإسلام الخاص فهو شريعة الإسلام؛ الذي أُرسل به محمد عليه الصلاة والسلام، فالإسلام ثلاثة؛ يطلق على ثلاثة أشياء:(26/199)
1. الإسلام العام: وهو دين الأنبياء والمرسلين جميعا من أجل قول جل وعلا ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ?[آل عمران:85].
2. و الثاني دين الإسلام الخاص: وهو الإسلام الذي بُعث به محمد عليه الصلاة والسلام.
3. والثالث هو الإسلام الأخص: وهو أن تشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن إستطعت إليه سبيلا.
إذن الإسلام في النصوص له هذه الإطلاقات الثلاث عام وخاص وأخص.
([57])هذا الكلام من أول الفصل على هنا في مسألة أنّ الأنبياء أفضل من الأولياء قطعا، وتفضيل النبي على الولي ظاهر من جهة الدليل، كما ذكر شيخ الإسلام بالأدلة الكثيرة في الباب، وظاهر أيضا من جهة التعليل؛ فإنّ الولي لم يكن وليا إلاّ باتباعه للنبي فبسبب إقتداءه بالنبي واتباعه له صار وليا وجاءته الكرامة من جهة اتباعه للنبي عليه الصلاة والسلام، فهو دائما أقلّ رتبة والأولياء في هذه الأمة أكملهم وأرفعهم درجة الأربعة الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.
والطوائف التي فضلت الأولياء على الأنبياء، أو فضلت خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء ثلاث طوائف: أما الأولى: فهم غلاة الصوفية، والثانية: هم الرافضة والإسماعيلية باعتبار أصلهم بأنهم طائفة واحدة. والثالثة: الفلاسفة.(26/200)
1. غلاة الصوفية: فزعموا أن جهة تفضيل الولي على النبي، أنّ النبي إنما يأخذ من الملَك، وأما الولي فإنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملَك، كما قال ابن عربي في فصوصه؛ فالنبي يأخذ بواسطة والولي يأخذ بلا بواسطة ولهذا كتب ابن عربي كتابه المعروف (الأربعين عن رب العالمين) يعني التي حَدّث بها عن رب العالمين مباشرة لما سمعه منه. وهذا من حيث التفضيل أنّ الولي يصل به المكاشفة إلى حيث لا يكون هناك حجاب، والأنبياء حُجبوا منهم من كلموا في بعض الأحيان، أما الولي فإنه إذا اختار أن يسمع الكلام فما عليه إلا أنْ يصفي قلبه ويعمل بالرياضات الخاصة عندهم؛ الرياضات الروحية، ثم ينكشف له الحجاب فيصبح يرى ما يحدث في الملكوت ويسمع أوامر الحق جل وعلا للملائكة.
2. والطائفة الثانية الرافضة والإسماعيلية: فإن الرافضة يزعمون أن أئمتهم لهم من المقام ما ليس للأنبياء، وعندهم هذا من ضروريات المذهب حيث يقول بعض أئمتهم: من ضروريات مذهبنا أنّ لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل. يعني مما لا يُحتاج إلى استدلال أصلا معروف، الأئمة الأثني عشر إبتداء من علي إلى العسكري، هؤلاء لا بيلغهم ملَك مقرب ولا نبي مرسل، قال: وأنهم كانوا قبل خلق هذا العالم أنوارا فجعلهم الله بعرشه محدثين وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لم يجعله لأحد من العالمين. والإسماعيلية القرامطة والعبيديين والنصيرية والدروز زعموا أن الأولياء؛ أولياؤهم أعظم من الأنبياء من جهة أنّ الولي -وهم أولياء سبعة عندهم أو أربعة – أنّ الولي يحل فيه الحق جل وعلا، وليس كل شيء يستحق هذه المنزلة، فالأولياء تميزوا على الأنبياء لأنهم يحل فيهم الحق جل وعلا فيصبحون صورة لله جل وعلا؛ صورة ناسوتية وليست لاهوتية يعني بحلول الحق جل وعلا، فالجسمان جسمان إنساني ولكن العلم والحكمة والأمر والنهي إلهي.(26/201)
3. والطائفة الثالثة ممن يقولون بتفضيل الأولياء على الأنبياء الفلاسفة: فإنهم يقولون التبوة الفلسفة تجتمع في شيء واحد، وهو أن الجميع فيه تحصيل غاية الحكمة، والنبوة تحصيل الحكمة فيها بواسطة الملَك لا دور للنبي في تحصيل الحكمة بإدراكه وعقله وسعيه وبذله، وأما الفيلسوف الحكيم فإنه حصل له هذا المقام وإدراك الحكمة بفعله وإدراكه وبذله وعقله وفهمه، ولهذا الفيلسوف تساوى مع النبي في إدراك الحكمة، ولكن زاد على أنه أدركها بعقله وبحثه ونظره، وذاك بواسطة، ومن أدرك بنفسه أرفع درجة ممن أدرك بواسطة. وهذا القول وكل الأقوال السالفة زندقة وكل من قال بهذا القول فهو زنديق يستتاب هلى الكفر فإن تاب وإلا قتل. وكلام أهل العلم قالوا يجب قتله بلا استتابة؛ من أظهر هذا القول فإنه يجب قتله بلا استتابة؛ لأنّ هذا القول مما لا شبهة فيه أصلا وإنما هي زندقة محضة.
وما ذكره شيخ الإسلام في تفصيل الكلام واضح من أنّ الرسالات جميعا جاءت بالإسلام وأن الرسل إنما يَفْضُلون بالإسلام لله رب العالمين وباتباع الأنبياء والرسل يشرف أقوامهم والأولياء، إلى آخر ما ساق من الآيات والأحاديث في هذا الباب.
نقف عند هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(26/202)
([58])ما سبق يريد منه الشيخ تقي الدين رحمه الله أنْ يربط ما بين قول غلاة المتصوفة في مسألة الولاية وقول الفلاسفة، فإنّ غلاة المتصوفة أخذوا تفضيل الولي على النبي من الفلاسفة، والفلاسفة -كما ذكرت لك في الدرس الماضي- قالوا إنّ الفيلسوف وصل إلى الحكمة بجهده، وأما النبي فوصل إليها بإعطاء، ومعلومٌ أن المجتهد أفضل من المُعطى وهؤلاء نظروا إلى جهة العمل؛ لأنّ الحكمة والفضل يرجع إلى جهتين: إلى قوة علمية وإلى قوة عملية، فالفلاسفة فضلوا من الجهة العلمية؛ فضلوا الفلاسفة والحكماء على الأنبياء من جهة العلمية، والصوفية؛ غلاة المتصوفة فضلوا الأولياء على الأنبياء من الجهة العملية التي أساسها الجهة العلمية؛ لكن طابع الفلاسفة غير طابع المتصوفة، طابع الفلاسفة شيء والمتصوفة شيء آخر، سبب هذا التفضيل راجع إلى ما وصف لك شيخ الإسلام من أصول أقوال الفلاسفة من فلاسفة اليونان أصلا، والقول بوجودات مجردة وكليات مجردة وتصرفات للكواكب أو تصرفات للعلل التي تنتج المعلولات، وأنّ إدراك هذه الحقائق الكلية وتأثيراتها في هذا الكون هو حقيقة الحكمة والعلم الذي يتفاضل به الناس، فالقوة مختلفة؛ فالقوة العلمية والعملية هذه هي أقوى الإدراكات، وكذلك القوة التخيلية التي بها يُتخيل الأمر، فرجعوا بالنبوات إلى أنها إجتماع قوة علمية وعملية وتخيلية، فلهذا قالوا: نحن نقول ما نقول عن برهان، وأما الأنبياء والرسل فقالوا ما قالوا عن تخيل. والبرهان الذي أقاموه برهان خطابي لا برهان عقلي فإنما جاء في النبوات من ذكر الجنة والنار وذكر الغيبيات أمور عندهم خَطابية والعقليات المجردة وتصور الأمثلة المجردة عن الواقع، المقصود من هذا الكلام وهو مبسوط وله كلام لشرحه ولايناسب شرحه في المساجد.(26/203)
المقصود من هذا الصلة ما بين قول الفلاسفة الإسلاميين والفلاسفة اليونانيين ثم ما نتج من قول الصوفية، وفي الحقيقة أن الصوفية لم يأخذوا هذا القول كما ذكر شيخ الإسلام أو ما ألمع إليه كلامُه لم يأخذوه من الفلسفة الإسلامية، بل أخذوه من الفلسفة اليونانية، وأصل ذلك أن الفلسفة اليونانية والفلسفة القديمة لها قسمان:
1. فلسفة علمية: وهذه المراد منها الوصول إلى حقائق الأشياء العلمية على ما هي عليه.
2. والنوع الثاني فلسفة عملية: والمراد منها الوصول بالروح إلى إشراقها.
ولهذا صارت الفلسفة أقساما ومنها الفلسفة العلمية التي ذهب إليها أفلاطون وتلميذه أرسطو، والفلسفة الإشراقية التي قال بها أفلوطين (أفلوطين غير أفلاطون).
دخلت المذاهب –يعني فيه تفاصيل لمذاهبهم وكذا- هذه إلى بلاد المسلمين وتلقفها من تلقفها:
فالفلسفة العلمية تلقفها العقلانيون من المعتزلة فنشأ من خليط ما عند أهل الإعتزال وما عند الفلاسفة وما في النصوص ما يسمى بعلم الكلام، خليط من هذه الأشياء الثلاثة عقيدة المعتزلة، النصوص، فالفلسفة، فنشأ علم الكلام من مجموع هذه الثلاثة أشياء.
وأما الفلسفة العملية الإشراقية فهذه أيضا دخلت إلى المسلمين عن طريقين: الطريق الأول طريق الكتب المترجمة، والطريق الثاني مخالطة طائفة كبيرة من المسلمين للنصارى في أديرتهم في الشام وفي العراق وفي غيرها.(26/204)
دخلت الفلسفة الإشراقية -الفلسفة الإشراقية معناها الوصول بالروح إلى إشراقها فتتعدى العالم المحسوس إلى العالم غير المحسوس، وهذا يصل بالرياضة، يصل إليه الواصل بالرياضة-، هذا النوع هو الذي دخل في الصوفية فنشأ الغلو في التصوف من جهة دخول فلسفة أفلوطين الإشراقية، ونشأ ما يسمى بالسلوك الضال أو التصوف في خليط ما بين الزهد الشرعي، وما بين الإشراق الفلسفي وظهرت النظريات أو الأقوال المختلفة عند الصوفية الغالية من الإتحاد والوحدة والفناء إلى آخره نتيجة لهذا.وصلوا كما وصل إليه الفلاسفة العمليين الإشراقيين إلى أنّ الإنسان قد يصل إلى مرتبة تُكشف عنه فيها الحُجُب فيصل إلى ما وراء العالم المنظور إلى آخره.
فحصل القول عند الطائفتين أن الفيلسوف صاحب المحكمة هو أفضل البشر، فالفيلسوف العلمي العقلي أفضل من غيره، وهذا الذي قال به الفلاسفة مثل ابن سينا وجماعته، قالوا يتفضيل الفيلسوف على النبي لما ذكرنا لك في الدرس السابق، والصوفية فضّلوا الولي صاحب الإشراق على النبي؛ لأن النبي حجب بالحجب أما ذاك فأشرق فكمُل ووصل إلى مشاهدة الرب جل وعلا وسماع كلامه والأخذ من المعدن الذي أَخذ منه الملَك الذي نقل إلى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه؛ ففضَلوا من جهة أنهم أخذوا بلا واسطة وأن الأنبياء أخذوا بواسطة.
فيه تفاصيل في هذا الكلام معروف؛ لكن بيان أصل الإتباط ما بين القول بتفضيل الولي على النبي في ربطه بالفلاسفة العلميين والفلاسفة العمليين كما ذكرتُ لك.
([59]) تكون (مبدعًا) لأنها خبر ليس.
([60]) أبو حاتم البستي يعني ابن حبان.
([61]) أهل الكلام –مثل ما في النسخة الثانية- لأن أهل الكتاب والسنة هم أهل العلم
([62]) المقصود من هذا: الصلة بما سبق الكلام عليه من الفرق ما بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وكرامات الأولياء ومخاريق السحرة ومعجزات الأنبياء، فإنّ الخوارق كما ذكرنا التي تحصل في الأرض ثلاثة أصناف:(26/205)
1. خوارق الأنبياء وهذه تسمى آيات وبراهين، وآيات الأنبياء قسمان: آيات كبرى وآيات صغرى.
2. والثاني من الخوارق ما يختص بالأولياء، وهذه يُقال لها كرامة، وهذه تكون من الآيات الصغرى للأنبياء، أو من جنس الآيات الكبرى مع اختلافها معها في الذات والقدْر والصفة.
3. والثالث خوارق جرت على ايدي السحرة والكهنة، فهذه مخاريق الشياطين ليست من الله جل وعلا إمدادا لهم، وإنما هي من الشياطين إبتلاء لهم.
الأول آيات وبراهين، والثاني كرامات، والثالث خوارق شيطانية.
أما آيات الأنبياء فإنها لا تشبه كرامات الأولياء، ولا تشبه مخاريق السحرة والشياطين والكهنة، فربُّنا جل وعلا قال في وصف الآيات التي أعطاها نبيه - صلى الله عليه وسلم - محمدا قال ?لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى?[النجم:18] فدل على إنقسام آيات ربنا جل وعلا إلى كبرى وما هو أدنى من ذلك صغرى وغيرها. كذلك قوله جل وعلا في موسى عليه السلام ?فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى(20)فَكَذَّبَ وَعَصَى?[النازعات:20-21]، فدل المفهوم أن هناك آيات دون ذلك؛ فالآيات الكبرى هذه لا يَشْرَكهم فيها حتى الأولياء لا يمكن أن يعطى الولي آية كبرى؛ لأنّ هذه الآية الكبرى دليل نبوة النبي ودليل رسالة الرسول عليهم صلوات الله وسلامه، أما الآيات الصغرى مثل نبع الطعام منبع الماء قليل مثلا من الأصابع أو مثل سماع الأخبار أو مثل المشي على الماء أو أشباه ذلك هذه آيات تحصل للأنبياء -أو تكثير الطعام القليل- تحصل للأنبياء وتحصل للأولياء وأما الآيات الكبرى فإنها إنْ حصل للولي فإنما يحصل له ما من جنسها لكن لا يماثلها قدْرا ولا ذاتا ولا صفة؛ مثل النار التي جعلت لإبراهيم عليه السلام فأنجاه الله منها، والنار التي جعلت لأبي مسلم الخولاني في نجد فأنجاه الله منها، فما بين النار والنار فرق، وما بين الصفة والصفة فرق، وما بين سبيل النجاة وسبيل النجاة فرق.(26/206)
فإذن هنا بهذا التفصيل يزول إشكال من قال إنه لا كرامة للولي لأنه لو قلنا بالكرامات لاشتبهت خوارق الأنبياء وآياتهم بكرامات الأولياء كما هو مذهب المعتزلة وابن حزم وجماعة ممن أنكر كرامة الأولياء وأنكر الخوارق، وكذلك يبطل قول من قال أن كل خارق يحصل لحكيم أو لولي، فإنها قد تحصل للشياطين لكن ما يحصل للشياطين فليس معجِزا إلا لمن لم يكن مثلهم، أما من كان مثلهم فهو لا يعجز، لأنّه ليس بإقداره هو وإنما بمقدرته يعني أن الشياطين أعطته ذلك حصل له ذلك بالكهانة، حصل له ذلك بالسحر أما الكرامة فهي من الله جل وعلا لعبده، فالسحرة مثلا الذين جاءوا لموسى جاءوا بسحر عظيم هؤلاء سحرهم العظيم إنما كان خارقا على من لم يكن ساحرا، أما من كان ساحرا فليس عليه بخارق وأما أهل الكرامات، كرامات الأولياء الأولياء الذين لهم الكرامات فإنّهم جنسها يختلف ما بين ولي وولي، وما بين مُكرَم بهذه الكرامة وآخر، وكل أجناسها يكون مُعجزا أو خارقا لناس زمانهم، وقد يكون حصل لناس في الزمن الأول كرامة هي في وقتنا الحاضر ليست كرامة لأنها تحصل لآحاد الناس مثل الطيران في الهواء، مثل المشي على الماء وأشباه ذلك، أو أنْ يكون في الشتاء القارس بملابس خفيفة هذا قد يحصل الآن لاختلاف الزمن.
فإذن كرامة الولي تحصل خارقةً لناس زمانهم ليس الناس جميعا أو للإنس والجن جميعا، وإنما لناس زمانه أي في أرضه ومن عنده؛ ليدل ما حصل له على كرامته على الله جل وعلا، أما خوارق الأنبياء آياتهم وبراهينهم الكبرى فإنها خارقة [انتهى الشريط الرابع] لعادة الجن والإنس جميعا لهذا ينبغي أن يُضبط قول من قال خارق للعادة في الكرامات أو في الخوارق أو في آيات الأنبياء أو في المعجزات.(26/207)
خارق للعادة, العادة هذه عادة من؟ فإن فُسِّرت بأنها عادة الجن والإنس جميعا فيكون الخارق آية وبرهان لنبيٍّ, لأن الله جل وعلا قال في سورة الإسراء ?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88]. فجعلها معلّقة في الجن والإنس جميعا، وأهل الكرامات يكون خارقا لعادة الناس في بلدهم وزمنانهم، فقد لايكون خارقا لأناس في طرف من الأرض آخر, يكون خارقا لمثل أهل زمانهم ما يحصل لهم مثل هذا, مثل مثلا يحضر له عنب في وقت الصيف أو في وقت الشتاء هذا بالنسبة لأهل مكة ليس عندهم عنب لكن لو لكن لو تذهب إلى بلد آخر يكون فيه، هذا ينبغي أن لا يكون خلط هذا بهذا. أما السّحرة والكهنة والخوارق الشيطانية تتقيد بأنها خارقة لعادة من لم يكن مثلهم؛ يعني لمن من الناس من لم يكن ساحرا، ولا يدخل في ذلك من هو أعلى منهم قدرا في المعجزات والبراهين مثل الأنبياء.(26/208)
مقصود شيخ الإسلام بما مرّ إثبات الكرامات، وأن الكرامة إنما هي خارق أُيِّد به ولي، أو أُعْطِيه ولي، وأنّ جنس الخوارق قد يحصل للشياطين، وأنّ قول طائفة من الصوفية أو أكثر الصوفية أن كل خارق دليل الكرامة هذا غلط، كذلك من شاركهم في ذلك مثل القلاسفة وأتباع الفلاسفة الذين قالوا إنّ الخوارق تحصل بالرياضات؛ فإذا إجتمعت القوة العلمية بالتخيلية والفعلية صار .... الخوارق، قالوا هذه تحصل بالرياضات والجوع والتعب، فبالعلم تحصل القوة العلمية ..... المعلومات، وبالجوع والسهر تحصل القوة التخيلية، وصدق من قال أنه تحصل القوة التخيلية كما قال الذهبي في السير وفي غيرها، لأنهم إذا أداموا الجوع وأدمنوا السهر فإنه فقد يتصورون أشياء ويتخيلون صورا ويسمونها ملائكة، ويسمعون أصواتا من جراء إضطراب أبدانهم وعقولهم ويجعلونها نداء من الملأ الأعلى وهي الشياطين خاطبتهم إلى غير ذلك.
فهذا فرقان عظيم ما بين ما يُعطاه الولي من الكرامة، وما يكون عند الكهنة وأولياء الشياطين من الخوارق، أو ما عند الفلاسفة من الخوارق، فالفلاسفة يقولون لا فرق فإنها تحصل النبوة علما وعملا؛ علم: قوة علمية، وعمل: قوة فعلية، وتخيلات، هذا يحصل للفيلسوف ويحصل للنبي، فالأنبياء إنما هم فلاسفة وأولي إصلاح العالم. نسأل الله جل وعلا العفو والعافية، عليهم من الله ما يستحقون، معلوم أنه فرق كبير بين هذا وهذا. لا يستوي الليل والنهار.
¨ ...هيولى الشيء ما منه يتكون؛ قد تكون مادة قد يكون غيرها؛ فهيولى العالم يعني مكونات العالم.(26/209)
نبّه شيخ الإسلام على مسألة مهمة، ليكن تقعيد في العلوم جميعا، وهي أن: المصنف لعلم قد يستخدم عبارات يتلقاها المتلقي في ما عنده من معنى هذه العبارات والمصنف عنى بها معتى آخر، ويصبح يردد كلام هذا المؤلف أو هذا الذي قرأ كلامه والمراد مختلف؛ مثل قول الفلاسفة إنّ هذا العالم مُحْدَث، أو قولهم في العقل، العقل عندهم غير العقل عند العرب، فالعقل عند منطق اليونان، عند فلسفة اليونان ومن ورث فلسفتهم له معنى آخر، له معنى آخر غير العقل في النصوص، العقل في النصوص له مراد، والعقل هناك له مراد آخر، ولهذا لما جاء أهل الكلام راموا الجمع ما بين الفلسفة والشريعة، فظنوا أن العقل هناك هو العقل في النصوص، فجمعوا بينها على ما ترون بما سُمي بعلم الكلام، فعلم الكلام خليط ما بين فهم الفلسفة وفهم الشريعة وجاء المشترك بينهم الألفاظ التي جاءت هنا وهنا مثل ما نبه شيخ الإسلام، فإذن استعمال لفظ في معنى لم يرده من وضفه أو من استعمله فيه هذا لاشك أنه يُحدث جنايات، وهذا من أنواع استعمال المصطلحات التي تُحدث جنايات في الأمة، كذلك لفظ المُحدث؛ يقول الفلاسفة مثلا هذا العالم مُحدث نحن قد نستعمل المحدث ونريد به أنه مخلوق خُلق وأُحدث من غير مثال سابق –أُحْدث-، وهم يريدون بكلمة محدث أنه معلول، لأنّ المحدث عندهم لا بد أن يكون عن علة أحدثته عندهم، الحدث هو المعلول فإذا قال العالم محدث أو قال هذا الملكوت الذي تراه محدث لا يعني أنه مخلوق، يعني أنه معلول لعلة سبقته، وعلة سبقتها علة إلى أن تصل إلى الأصل الفعال إلى أن نصل إلى الأصل الذي صدرت عنه العلل ومعلولات العلل. فهذا يعطيك تحفُّزا في أنّ استعمال الألفاظ الشرعية لا بد منه بل هو المتعين؛ وأن طالب العلم إذا احتاج إلى استعمال ألفاظ القوم فلا بد أن يفهم مرادهم منها أولا، ثم المراد منها لغة ثانيا، استعمال غيرهم ثم ينزلها منزلتها اللائقة بها، أما أنْ يسمع لفظا ثم يستعمله بدون(26/210)
معرفة لأبعاده ومعرفة المعنى الأول المستعمل له، فهذا يحدث فسادا ويحدث خللا، مثل الألفاظ هذه التي تستعمل؛ المحدثة، قد يستعملها المرء ويظن أنها سليمة لكنّ مراد الأول غير مراد الثاني بها, فأنت تنشر لفظا أُريد به باطل لفهمك له فهما صحيحا، هذا ليس سليما؛ لأنّ المتلقي قد يفهمه فهم الأول أو قد يُنشر في الناس الفهم الأول، فتصبح أنت ناقل لمصطلحات الناس؛ مثل لو قلنا مثلا للناس أنّ الله جل وعلا ليس بجسم، بمعنى ليس بجسم يدخل فيه قول من قال أن الله لا يتصف بالصفات، يعني ليس بجسم هذه الكلمة لمم يرِد نفيها ولم يرد إثباتها، ولو قلنا ليس بجسم كتلك الأجسام لكان صحيحا، لكن إطلاق هذا اللفظ يجعل هذه الكلمة وسيلة لتقرير عقائد باطلة. الألفاظ المحدثة كثيرة والمصطلحات في هذا متنوعة.
فإذن استعمال العقل في النصوص غير العقل عند الفلاسفة، استعمال لفظ الخارق عند أهل السنة غير الخارق عند الصوفية غير الخارق عند الفلاسفة، استخدام لفظ النبوة عندنا غير النبوة عند الفلاسفة، المعاد عندنا غير المعاد عند الفلاسفة، الخطاب، الوحي عندنا غير الوحي عندهم. فإذن معنى كل كلمة لابد له من استدلال، فبعض المعاصرين فيمن قرأنا بعض كتاباتهم لم يفهموا هذا فهما جيدا فأصبحوا ينتقدون بعض كلام شيخ الإسلام أو بعض كلام المحققين فيقولون بل نص فلان في الكتاب الفلاني على أن العالم مُحدث وقال أنه أقر بالنبوة أو ابن سينا أقرّ في موضع بالمعاد هو ما يعرف كلمة المعاد حيث وردت، كلمة العقل حيث وردت إلى آخره.
فإذن فهم كلام المتكلم على غير استعماله للعبارات؛ قد يستعمل عبارة لها مدلول عنده خاص، والمدلول عندنا يختلف فمحاكمته على مدلولاته لا على ما عندنا، فاختلاف اللغات في العلم يسبب خلالا في الفهم والتقويم والإدراك. نقف عند هذا وأسأل الله جل وعلا لي ولكم العفو والعافية.(26/211)
([63])هذا الكلام واضح في بيان إستطراده لبيان معتقد غلاة المتصوفة أصحاب وحدة الوجود مثل إبن عربي الطائي وأمثاله، وهؤلاء قالوا إنّ الوجود واحد، ووهذا الوجود إنما هو وجود الله جل وعلا، وينقسم إلى وجود مقصود ووجود غير مقصود, وأنّ وجود الله جل وعلا مقصود وهو الأصل وأن وجود غيره وهو وجوده سبحانه، إذْ لو لم يوجد غيره لم يوجد هو فصار الأمر إلى أن الوجود واحد، والوجود من حيث هو صفة لا توجد في الظاهر، لاتوجد كما ترى في خارج الأذهان إلا مضافة إلى متصف بها مثل المعاني العامة التي ذكرنا لكم فيما سبق المعاني لاتوجد من حيث هي عامة إلا في الأذهان؛ ما يوجد في الخارج شيء اسمه كلام، وشيء اسمه وجود، وشيء اسمه حياة، هكذا بدون موجود أو متكلم أو حي، إنما يوجد في الرأس في الذهن تصور الوجود، يوجد في الذهن تصور الحياة، لكنها في خارج الأذهان في الواقع لابد أن تضاف لمتصف بها، فالإشتراك في المعنى الكلي لا يعني الإشتراك في المعنى الإضافي، فالمعنى الكلي نعم؛ يشترك فيه كل موجود، ولكن لكل وجودٍ يناسبه، وإذا تفرّقت الأشياء بالوجود الذي يناسب كل شيء على حِدَا، فإن معنى ذلك أن الأشياء تغايرت فتباينت في الذات، مثل ما ذكر مثل الإنسان والفرس يشتركان في معنى الحيوانية وهي الحياة المتحركة؛ الحياة والحركة، يقال الحيوان الحيِّ المتحرك؛ يعني أن الإنسان والفرس إشتركا في هذه الصفة، لكن الحياة والحركة وهي الحيوانية هذه هل هي موجودة في الخارج بدون متصف بها ؟ لا. فهل يقال إنّ الإنسان والحيوان شيء واحد من جهة صفة الحياتية؟ لا قائل به حتى أصحاب وحدة الوجود. لكنهم يقولون من جهة صفة الوجود نعم. وهذا في الحقيقة راجع إلى شيء وهو أن أصحاب وحدة الوجود أخذوا هذا من قول الجهمية الذين لا يؤمنون إلا بصفة واحدة لله جل وعلا وهي صفة الوجود الأعظم، فلما لم يصفوا الله بشيء وكانت صفة وجود المخلوق مشكلة على إثبات وجود الله جل وعلا جعلوا(26/212)
الخالق عين المخلوق والمخلوق عين الخالق من جهة الوجود، حتى فرعون جعلوه رمزا أو صفة من صفات وجود الله جل وعلا؛ لأنه قال ?مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي?[القصص:38]، وقال ?أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى?[النازعات:24].
ومن هذا المنطلق أو من هذا المبدأ والأصل أخذه النصيرية وأخذه الدروز وأصحاب التناسخ والنصارى بأن هذا وهذا إتحدا وكانا شيئا واحدا، وتفصيل الكلام على مقالهم كما قال شيخ الإسلام ليس هذا موضعه، وإنما المقصود بيان فساد قولهم.
([64])هذا الكلام استطراد في بيان حال المدعون للإتحاد ووحدة الوجود والذي يهمُّك في هذا أشياء:
الأول: أن إنشاء شيخ الإسلام لهذا الإستطراد وهذه البينات لهؤلاء الملاحدة، الغرض أنّ أهل الشام ومصر في ذلك الوقت يعظمون أصحاب وحدة الوجود؛ يعظمون ابن عربي والتلمساني وأشباه هؤلاء، وابن الفارض يعظمونهم جدا، واشتهر عنهم أنهم يقولون بهذا الكلام ومع ذلك يعظمونهم، ولهذا أوجب أن يبين أن هؤلاء ليسوا من أولياء الله، فاستطرد ليبين لك فساد قول هؤلاء وأنه لا يكون أمثال هؤلاء أولياء لله جل وعلا.(26/213)
الثاني: أنّ هؤلاء الملاحدة والزنادقة أمثال ابن عربي وأشباهه، شاع في الناس أنّ لهم كرامات وأنهم يخبِرون بأشياء تكون حقا، وأنّ الكهان من اتباعهم والمنتسبين للتصوف عندهم أحوال إيمانية ينكشف لهم بها الغيب، وأنّه يوحى إليه، وأنه تأتيه المعلومات ليست إلا عندهم، فجعلوا هذه الأشياء من كراماتهم فبيّن رحمه الله فيما ذكر أنّ هذه الأشياء التي تنسب إليهم صحيحة، ولكن ليست هي كرامات تأتيهم من الملائكة وإنما هي أحوال شيطانية تأتيهم من الشياطين ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121]، والشيطان يتنزل على مَن يواليه ويخبره بأشياء ويعلمه ويعطيه معلومات فربما حمله وربما تصور بصورته وربما طار به في الهواء وربما سخر له بعض الأشياء بما أقدره الله عليه، فإذن فالشأن ليس في أنّه يُخدم، أو أنه يُدَّعَى أنّ الملائكة تخدمه وتعمل له، ولكن الشأن هل هو من أولياء الله موافق لشرع الله ومتبع للسنة أو لا؟ فإذا لم يكن متبعا للسنة ويقول مثل هذه الأقوال الكفرية فنعلم قطعا أنه من أولياء الشيطان، وأنّ ما قاله وافتراه وادعاه من هذه الأقوال الباطلة هي دليل أنه شيطان من الشياطين، وأنّ المؤمن لا يجوز له أن يغتر بأحوال هؤلاء وأنْ يجعلهم من أولياء الله جل وعلا .(26/214)
والثالث من أسباب إنشائه هذا الكلام أو الاستطراد: أنّ أكثر السحرة والكهنة في أزمنة الإسلام ادَّعَوا الصلاح، وادعوا أنّ ما يأتيهم إنما هو من جهة الملائكة، فهذا تسمعه عند كثير من مُغَفَّل من المسلمين وجهلتهم فيما يذكرون من أخبار بعض الناس في بلد كذا وبلد كذا وبلد كذا، هم يقولون فلان تأتيه هذا تخبره الملائكة لأنه رجل صالح، وهذا لاشك أن هذا من براثن تلك الخلفية العامة، فإذا قيل إنّ فلانا تنزل عليه الملائكة فاعلم أن هذا من جهة أولياء الشيطان؛ لأننا لا نعلم أحدا من الصحابة ولا من التابعين ولا من سادات المسلمين قيل أن الملائكة تنزل عليه فتخبره إلى آخره، وإنما هي دعوى لأولئك الفسقة الفجرة فيها يروجون على الناس في كهانتهم أو سحرهم، فالسحرة الآن يأمرون الناس بتلاوة القرآن؛ ويتلون عليهم القرآن ثم يخلطون معها غيرها، يقولون نخبركم؛ الملائكة تأتينا وتخبرنا، وهي الشياطين، وهم أصلا من أكذب الناس فكيف يصدَّقون في مثل هذه الأشياء، فإذن يبيّن شيخ الإسلام حال من كان في زمنه؛ وهو الوجه الثاني الذي ذكرنا، والوجه الثالث حال كل من ادعى نزول الملائكة عليهم، فإنّه الحجة كما قال ابن عباس في حال المختار بن أبي عبيد؛ قيل له إنه ينزّل عليه قال صدق فإنه تنزّل عليه الشياطين، كما قيل إنه يوحى إليه قال نعم كما قال الله ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121](26/215)
وملخص هذا أن الكلام أو الغرض منه ما ذكرنا من بيان الفرقان العظيم بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وأن مسألة خرق العادات ليست فرقانا؛ أن يحصل للمرء خارقا للعادة؛ أن يحصل له شيء لم يحصل لغيره هذا ليس دليلا على صلاحه، وليس دليلا على فساده، حتى ينظر في أمره فإن كان من أهل الإيمان والصلاح المتابعين للحق فإنه يرجى أن تكون هذه كرامة له، وإن كان من غير أهل الإيمان؛ من أهل البدعة والفسق والفجور فإن ما حصل له يعتبر فارقا شيطانيا وحالا شيطانية وليست بكرامة. فإذن هذا كل ما بحثه في هذا الموضع والذي قبله ملخصه أن الأحوال والخوارق ليست برهانا ولا دِلالة، وإنما البرهان والدلالة هو ما قال الله جل وعلا ? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62]، والملائكة لا تنزل إلا على الرسل أو على المؤمنين لتثبيتهم في القتال أما الإخبار بالمغيبات وأشباه ذلك فلا يكون، قد يُلقى في روع المؤمن من أن يكون هذا الأمر كذا؛ يكون من باب الفراسة الإيمانية التي يعطيها الله جل وعلا لمن يشاء من خلقه، لكن تحديث الملائكة ويقول سمعت الملائكة قالت لي الملائكة هذا لا شك أنه من صنيع الشيطان.
سؤال فقهي: أرجو التوضيح فيما قلتم في الفرق بين... ؟ البر والشعير من الأصناف الربوية كما هو معلوم والذهب والفضة من الأصناف الربوية والنبي عليه الصلاة والسلام قال «إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» فبهذا الحديث ترى عند اختلاف الأصناف أن يكون مقبوضا يدا بيد، ذهب بفضة لابد أن يكون يدا بيد، ذهب ببر لا بد أن يكون يدا بيد، ذهب بشعير، فضة بشعير يدا بيد، فهل هذا في كل الأنواع أم لا؟ هذا ليس في كل الأنواع، إذا كان أحد النوعين نقدا جاز التفاضل وأن نتداين، إذا كان أحد العوضين نقد...(26/216)
هذا أحد الأخوة كتب على حقيقة التوحيد للدكتور يوسف القرضاوي فيه أغلاط كثيرة في التوحيد منها عده الذبح والنذر من الشرك الأصغر ومنها أن المقصود توحيد الربوبية وأشياء من هذا، ومن جهة مكاتب الدعوة والجاليات يُنَبَّهون إلى منعه من التداول ومن توزيعه وإقرائه... فمن رآه في مكتب ينبها إن شاء الله ونتابع هذا نحن مأمورون بإزالة هذا الكتاب مع أنه طبع في الإفتاء في المكان الذي نشروه تبع الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله لكن ... أنّ فيه أغلاط كثيرة فمن رآه ينبه صاحب المكتب الجاليات والدعوة عليه ويذكرني بهذا ... لأن فيه خلطا كثيرا .
([65])مجازات العقول يعني ما تُجيزه العقول فليس المقصود المجاز الذي هو قسيم الحقيقة أو مقابل الحقيقة؛ مجازات العقول هنا يعني ما تجيزه العقول، هذا أصل معنى المجاز؛ أصل معنى المجاز ما يجيزه الشيء، فمجاز في اللغة ما تجيزه، هنا مجاز العقول يعني ما تجيزه العقول لا بمحالات العقول.
([66])هذا الكلام راجع إلى كون كلام الناس في الإتحاد والحلول، وتقرير هذا الباب وفهم كلام شيخ الاسلام، هذا يحتاج إلى إيضاح لمعنى الحلول والإتحاد:
الحلول في عُرف القوم أن شيئين متمايزين مختلفين في الحقيقة يحل أحدُهما في الآخر مع بقاء التميّز.
والإتحاد أيضا شيئان مختلفانفي الحقيقة يتحد أحدهما بالآخر فيزول التميُّز.
• فالحلول يبقى هذا وهذا لكن الصورة الظاهرة واحدة، ولكن حل أحدُهما في الآخر؛ مثل الكأس والماء فالكأس إذا حلّ فيه الماء, حقيقة الكأس شيء وحقيقة الماء شيء وصارا شيئا واحدا كأس ماء لكن هناك تميز؛ يمكن هذا أن يفصل عن هذا.(26/217)
• لكن الإتحاد مثل السكر والماء, الحبر والماء, الملح والماء، الشاي والماء, كانا منفصلين فاتحد أحدهما بالآخر حتى صارا لا ينفك أحدهما عن الآخر، يعني لا يتميز أحدهما عن الآخر، السكر لما ذاب في الماء، أين السكر؟ تقول في الماء، والماء ذاب فيه السكر، أين هذا وهذا؟ سكر وماء، أفصلهما، ما ينفصلان، ورق شاي حَطِّيتَهْ في الماء كذلك صار ماء وشاي إلى آخره. هذا الفهم في تقريرها مهم في بيان ما عليه الناس في ذلك.
إذا تبين هذا في المعنى العام. فالحلول نوعان، والإتحاد أيضا نوعان، الحلول عام وخاص عند أهله، والإتحاد عام وخاص عند أهله:
?فالقائلون بالحلول منهم من قال حلّ في أشخاص معينين؛ حلّ الله جل جلاله -تعالى الله عن قولهم- حلّ في أشخاص معينين؛ حلّ في عُزير عند اليهود، حلّ في المسيح عند النصارى، حلّ في البقر عند عباد البقر، حلّ في الإله الفلاني عندهم، حلّ في الصنم، حلّ في كذا وكذا إلى آخره، حلّ في أئمة آل البيت عند غلاة الرافضة، حلّ في الحاكم بأمر الله العبيدي عند الدروز، وهكذا، هذا حلول خاص في بعض المخلوقات.
?وهناك حلول عام وهو قول من قال: الله حالٌّ في كل مكان. وهذا قول المتكلمين والمعتزلة والأشاعرة وأشباههم، الله حالٌّ في كل مكان، في أي مكان هو حال، ولكن منفصل ليست مختلطة، الحقيقة متميزة.(26/218)
والإتحاد نوعان أيضا: إتحاد خاص وإتحاد عام، والقائلون بالإتحاد هم غلاة التصوفة هم الذين يقولون بالإتحاد، وأما الحلول فلا يقول به غلاة المتصوفة وإنما يرون أنّ من قال بالحلول في شخص معين فهو كافر، فعند أهل الوحدة -وحدة الوجود، أو إتحاد الله بكل موجود حتى صارت الحقيقة مع حقيقة المخلوق غير متميزة- يقولون كفر من كفر لادعائه عدم الإتحاد أو لإدعائه الحلول في بعض المخلوقات دون بعض؛ لأنّ النصارى كفرت لأن المسيح حل فيه الله، واليهود كفروا كذا، والعرب كفرت لأنها قالت إنّ هذه الأصنام آلهة يعني يحل فيها الله، وهكذا، ولو أنهم قالوا حلّ في كل شيء؛ يعني إتحد بكل شيء فصارت الأشياء عين وجود الله جل وعلا لم يكفروا، وعندهم الإتحاد -عند القائلين به- نوعان: إتحاد خاص وهو ببعض المخلوقات، وإتحاد عام بجميع المخلوقات:
?فالذين يقولون بالإتحاد العام هم الذين يُعَبَّر عنهم بأصحاب وحدة الوجود، إتحد بالسموات والأرض؛ كل شيء هذه إتحد بها حتى صار موجود الحق جل وعلا هو عين وجود هذه المخلوقات، وجود المخلوقات هو عين وجود الله؛ حتى ما تفك هذه عن هذه، مثل السكر الذي ذاب في الماء صارت الحقيقة واحدة لا يمكن إنفصال إحدى الحقيقتين عن الأخرى.
?والذين قالوا بالإتحاد الخاص –غير الإتحاد العام- هؤلاء لا يقال لهم أصحاب وحدة الوجود هم طائفة من المتصوفة، فغلاة المتصوفة جميعا إتحادية، لكن منهم أهل وحدة الوجود ومن إتحد بكل موجود، بحيث صار عين الوجود واحدة، ومنهم من يقول بالإتحاد في بعض المخلوقات دون بعض.(26/219)
ومن أعظم ما يدل على كفر هؤلاء؛ على كفر من يقول بالإتحاد العام وكذلك الإتحاد الخاص: أنّ هذا القول يعني أنّ الكفر والفِسق صارا في الله جل وعلا؛ لأن الفاسق والمجرم والقاتل والزاني وشارب الخمر وفاعل الفواحش والكاذب إلى آخره من أنواع الموبقات والكبائر لما كان هو عين الوجود ولا تمايز بينهما يكون لا يُفَرَّق بين الكاذب شَخْصًا والكاذب إتحادًا، لأنه صارت حقيقة واحدة، كما أننا لا نقول الماء حلو والسكر لا طعم، كما أننا لا نقول السكر حلو والماء لا طعم له، فأنت إذا شربت ماءً زِيد فيه سكر صارت الحقيقة واحدة، ما تستطيع أن تقول هذا حلو وهذا وهذا مالح والماء هذا فيه ملح ما تستطيع أن تميز بين هذا وهذا لأنه بالإتحاد صارت الحقيقة واحدة هذا هو معنى الإتحاد، فيلزم من هذا أن يكون كل من شر وكل فسق وكل هذا منسوب لله جل وعلا، لهذا ابن القيم لما ذكر هذه المسائل في أول النونية قال:
يا أمة منكوحها معبودها أين الإله وثغرة الطعام(26/220)
ما فيه تفريق صار المنكوح حالّ فيه الإله يعني إتحد به الإله الحقيقة واحدة؛ مَاهُو حلّ لأن الحلول يقتضي الإنفصال في بعض الأحوال لكن المتحد مع المتحد به صارت الحقيقة واحدة صار الناكح هو المنكوح فأين الإله بين هذا وهذا، لاشك أن هذا من أعظم ما يكون من إهانة الرب جل وعلا وسبّه وعدم قدْره حق قدْره سبحانه. هؤلاء لما قالوا بالإتحاد وبالوحدة قالوا إنّ الاتحاد العام والوحدة العامة هذه متفاوتة بين أهلها؛ فيكون الولي له من الإتحاد لتخصيصه ما ليس لغيره من الموجودات، فلهذا يصبح ينظر بنظر الإله لما له من خصوصية في الإتحاد، ويصبح يقدْر بقدرة الاله لما له من خصوصية في الإتحاد، فالإتحاد عام لكن درجات المتَّحد بهم مختلفة من حيث الصفات، ولهذا جعلوا للأولياء مقاما يزيد على مقام الأنبياء؛ لأنّ عندهم درجة الإتحاد مختلفة فالأنبياء أعطوا درجة لكن هذه الدرجة زاد عليهم فيها أصحاب الوَحدة من جهة أنّ أولئك -في شبههم- وجودهم هو عين وجود الله جل وعلا، لكن عند غلاة المتصوفة الأنبياء يحتاجون في الأخذ من السماء كلام الله جل وعلا إلى واسطة، فلم يكن الإتحاد بهم من جميع الصفات, وأما الأولياء -كُمَّلُ الأولياء عندهم- فإنهم الإتحاد بهم جاء في الصفات كلها، لهذا يجعلون العالم مقسَّما قسم يتولاه الولي الفلاني وقسم يتولاه الولي الفلاني، وقسم يتولاه الولي الفلاني، إلى آخر ما عندهم في ذلك.
المقصود أن فهم هذا الكلام، وفهم هذه المسائل، وما يدور عليها:
1. راجع إلى فهم معنى الحلول والإتحاد.(واحد)
2. راجع إلى معنى أقسام الحلول والإتحاد.(اثنين)
3. راجع إلى أنّ أصحاب الوَحدة -غلاة الصوفية- يقسمون القسمة لاختلاف الصفات، فلا يجعلون الإتحاد عاما في الصفات، كما أن أهل الحلول لا يجعلونه متساويا فيمن حلّ بهم.(26/221)
هذا أصل مسألة تفضيل الولي على النبي عندهم، وأن الولي له كرامات أكثر ويصل، تكشف عنه الحجب والنبي قد لا يُعمل عقله، لكن الولي يرى ما لا يراه غيره وحسه يكذب العقليات، إلى غير ذلك من المسائل. نعم
[سؤال: عن لازم المذهب هل هو من المذهب؟]
هذا إن كانوا ينكرون هم لا ينكرون هذا هم يفتخرون به قال ابن الفارض
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلّت
ما في جبتي إلا هو، هم يعترفون بذلك مثل ما قال لك شيخ الإسلام أن رجلا من غلاتهم قال لمريده من حدّثك أن في الوجود غير الله فهو كاذب، إذا قال لك أحد في الوجود غير الله فهو كاذب، فقال له الغلام: من الكاذب؟!!! – ما أعرف من هو الكاذب إذا كان ما في الوجود غير الله- إذا ما كان في الوجود غير الله فمن الكاذب. فهم يعترفون، لازم المذهب ليس بمذهب إذا كان لا يُقِرُّه هو، لا يلتزم به، لكن في مثل هذه المسائل هم يلتزمون بها، نقول لازم المذهب ليس بمذهب في التفصيلات التي ذكرها شارحج الطحاوية في أولها: يلزم منها إبطال الرسالات... لازم المذهب ليس بمذهب، لكن في أنهم يرون أن هذا الذي صلى إليه هو الله ويستدلون بقوله تعالى ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[الإسراء:23] هذا قضاء كوني فلم يعبد إلا هو فمن عبد الصنم عبد الله ما كفر بعبادته الصنم ممكن الرجل الصالح يعبد الصنم ولا يكفر، لكن كفر باعتقاده أنّ الصنم غير الله جل وعلا لأن الصنم هنا منفصل باعتقاده في الحجر من حيث هو، أما إن عبد الحجر من حيث فيه الله حال فيه فهذا ما عبد غير الله جل وعلا، أعوذ بالله من كلامهم.
لكن المقصود من هذا أن تفهم مراد شيخ الإسلام في ما أورد أعوذ بالله منهم ومما قرب إلى قولهم. نعم
نحن ما أوردنا الآثار المترتبة، ولا أوردها هو، لكن هم إعترافهم أن المصلي صلى لنفسه:
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت
لا يفرق بين هذا وهذا.(26/222)
انفصل اللاهوت يعني الجثمان هذا صفة بشرية، روح عيسى هذه إلهية، لذلك عندهم أنه لما انقضت المدة مدة التكفير عن الخطيئة دفن عيسى بعد صلبه، والقسم اللاهوتي الذي حل في هذا الجثمان البشري صعد إلى الله يعني رجع إلى أصله؛ فيكون عندهم قبر في القدس لعيسى عليه السلام حسب ما يدعيه النصارى ?وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ?[النساء:157] عندهم أنه بقي في القبر ثلاثة أيام حتى الجثمان نفسه ثم صعد؛ رفع حتى الجثمان، يعني معتقد النصارى كلها أشياء يضحك منها العاقل فضلا عن ذوي البصيرة.
• شوف هذه عندك مخلوقات توصف هذه التي ذكرتها أنت من أن الوحدة عامة في الصفات، فجنس المخلوقات التي فيها صفات الخالق كلها يخصص بعضهم لكذا وبعضهم لكذا، يعني صفات الخالق موجودة في المخلوقات؛ لأنهم لما قالوا بأن وجود المخلوق هو عين وجود الله ووجود الله جل وعلا هو عين وجود المخلوق، فصارت صفات الحق جل وعلا؛ صفات الله سبحانه وتعالى موجودة في المخلوقات لكن بالتخصيص، تختلف بالتخصيص الذي ذكرته لك.
• (ويقولون ما قاله صاحب الفصوص، فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفا أو عقلا أو شرعا) لعله يعني بها هو لما قسمها إلى نعوت وجودية ونسب عدمية أنّ كمال يجمع ما بين النفي والإثبات، فالصفات صفات الكمال فيها وجود؛ صفات وجودية يثبتها يعني يثبتونها وجودا، وفيه أشياء تنفي وهي التي تسمى عند الأشاعرة والمتكلمين السُّلُوب؛ ما بسلب على الله جل وعلا فهنا يقول (فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية –وهي والمثبتة- والنسب العدمية – يعني الصفات السلبية-) لاحظ ما قال صفات وإنما سمّاها نسب يعني ما ينسب إليه مما يعدم ولا يثبت.(26/223)
([67]) (أنا كافر برب يُعصى) يَقصد به يُعصى في كونه، لكن التعبير هذا، تعبير كفري؛ لأن الله جل وعلا يعصى، يعصى في الأرض، فَهُم يشهدون الحقيقة الكونية فيقولون الله غالب على أمره، أمر الله نافذ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فيقولون إذا الرب لا يعصى فوقعت المعصية بإرادة الله الكونية وأمره الكوني، لكن لم تقع بإرادته الشرعية ولا كونه الشرعي، فعبروا بتعبير يوهم حال الإرادة والأمر، وهذا من الألفاظ الكفرية.
([68])لأنهم يقولون بالجبر، الصوفية جبرية.
([69])وكذلك في الحشر:1، الصف:1.
([70])هذا الكلام له سابق بني عليه، لكن خلاصة ذلك كما قال في أوله حيث قال عنهم يعني الذين يقولون بالوحدة: يجعلون المراتب ثلاثة من حيث شهود الطاعات والمعاصي يقولون العبد يشهد أولا طاعة ومعصية، ثم يشهد طاعة بلا معصية، ثم لا يشهد طاعة ولا معصية. فعندهم أنّ الناس مرتبون على ذلك، فأقل درجات الناس الذين يشهدون الطاعات والمعاصي، ثم يطيع ولا يرى المعصية يعني سقطت عنه التكاليف في المعاصي لعدم تأثيرها فيه ثم تسقط عنه التكاليف كلها لا في التكاليف ولا في المعاصي لعدم تأثير الطاعات فيه إيمانا ولعدم تأثير المعصية فيه إيمانا أو جحدا أو كفرانا، وكما هو معلوم من كلام شيخ الإسلام كما سمعت أن الأول ولا شك أنه هو الذي أُمر به العباد أن يشهدوا الطاعة والمعصية، أن تسره طاعته وأن تسأه معصيته، هذا هو حال الأنبياء والمرسلين وحال أولياء الله جل وعلا.(26/224)
وأما شهود الطاعة بلا معصية أو لاشهود لا طاعة ولا معصية، هذا عند الصوفية له منشأ، ومنشؤه الغلو في إثبات المشيئة الكونية القدرية وعدم النظر في المشيئة الكونية والإرادة الشرعية، وذلك أنّ النصوص كما هو معلوم لكم في غير هذا الموضع قررت الفرق بين ما يشاؤه الله جل وعلا كونا وبين ما يريده شرعا، فالعبد ينظر بنظرين؛ ينظر إلى ما ينفذه الله جل وعلا في ملكوته كونا وأنه واقع بمشيئة الله جل وعلا الطاعة والمعصية جميعا كما هو قول أهل الحق في القدر، وأنّ الطاعة كانت من مشيئة الله وأن المعصية كانت من معصية الله، وأمّا الشرع فنقول الإرادة الشرعية أن تُفعل الطاعة وألا تفعل المعصية. فإذا غلب على العبد شهود الأمر الكوني نظر إلى أنّ العباد مجبرون على الطاعات وعلى المعاصي، فيُثبت أن الله جل وعلا أجبر العباد، ولذلك الصوفية كلهم جبرية؛ ومنهم من يغلو في الجبر حتى يرى أنّ الإنسان لا منزلة له لشهود الإرادة الكونية حيث لا قيمة له، لا اختيار له أصلا إنما هو مفعول به دائما، ومنهم من يرى الطاعة دون المعصية في شهود الأمر الكوني يعني أنّ المعصية إنما وقعت لأجل الطاعة، لأجل الطاعة يعني من جهة التوبة ومن جهة الإنابة وأشباه ذلك، فإنما يرى طاعة الله بلا معصية لحصول المعصية بحكمة الله جل وعلا، فيرى إذن أمر الله جل وعلا الكوني خاص بالطاعات دون المعاصي وأنّ المعاصي غير مقصودة لذاتها، فالله أجبر على المعصية عندهم ولكن لأجل الطاعة، وهذا إذا نظر فيه المكلف أيضا يعني منهم فيقول أنا مطيع وإن عصيت فلأجل طاعته، فما عصيت إلا لأجل أن أطيع. والعياذ بالله، فهو يرى المعصية يرتكبها ويرضى بها؛ يرضى أن يكون عاصيا لأجل رضائه بإرادة الله الكونية.(26/225)
والثالث وهو قول ملاحدتهم أنه لا يشهد طاعة ولا معصية.فني عن شهود سوى الله عز وجل، فلا الطاعات لها أثر ولا المعاصي لها أثر، وإنما الأثر فيما حصل لهذا الذي يزعم الوَحدة باتحاده بالله جل وعلا أو حلول الله جل وعلا فيه مثل ما سمعت من كلام ابن العارض.
هذا كله استطراد من شيخ الإسلام في الرد على من يزعم أنه من الأولياء وهو يفضل الأولياء على الأنبياء أو أنه لا يشهد طاعة ولا معصية أو لايشهد معصية وإنما يشهد طاعة، وكل هذه ليست من صفات الأولياء. فأولياء الله وصفتهم أنهم أهل فرقان ?إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا?[الأنفال:29]، وأهل التقوى هم أهل الإيمان وهم الأولياء ? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62]، فحصل من ذلك أن أهل التقوى هم أهل وَلاية الله جل وعلا، وأهل تقوى الله هم الذين لديهم الفرقان، لذلك سمّى شيخ الإسلام كتابه هذا الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ لأن العمدة في الفرق فيما بين ولي الله وولي الشيطان، هل عنده فرقان أم لا؟ والصوفية الغلاة منهم يزعمون أن الأولياء يأخذون إلى المرتبة المتوسطة التي يكون عندهم الحال أنه لا فرق بين الطاعة والمعصية، فالمعصية تؤول إلى الطاعة، والطاعة هي المقصودة، وقد يصل إلى أنه لا فرق أصلا بين الطاعة والمعصية إذ لا طاعة ولا معصية، وهذا إستطراد فيما أصله بعد ذلك. وأولياء الله جل وعلا هم المتقون المؤمنون وهم الذين لديهم الفرقان بين الطاعة والمعصية يشهدوا الطاعة كونا وشرعا ويشهد المعصية كونا وشرعا، فيرضى بالطاعة كونا وشرعا، ويرضى بالمعصية شرعا ويكرهها كونا؛ يعني يكره وقوعها يعني يرضى بها من جهة الحكم من جهة تحريمها ومن جهة ذمها ولا يرضى بوقوعها؛ لأن المعصية وقوعها كان من جهة تفريط العبد، فإذن نشهد الطاعة رضاءً كونا وشرعا، ونشهد المعصية(26/226)
بعدم الرضا بها بل نذم أنفسنا على المعصية، وهذا هو صفة أولياء الله جل وعلا، أما الذي ينظر إلى المهصية؛ كلما فعل المعصية قال هذا خير لي، ويقبل على المعاصي ويقول هذا خير لي، هذا من صفات المهملين ليس من صفات أولياء الله جل وعلا، بل المؤمن هو الذي تسرُّه حسنته وتسوؤه سيته ويكون عنده فرقان بين المحمود والمذموم.
([71])يعني هذا من أدلة أهل الحلول أن الله يكون مع الولي، إذا كان معه معناه يكون ملازم له أو يكون فيه؟ استدلوا به على أنه يكون حل فيه.(26/227)
([72])هذا رد عل احتجاج أهل الإتحاد في آية المعية على أن الله جل وعلا يحل في خلقه أو بعض خلقه-لأنه كما ذكرنا لكم الإتحاد والحلول نوعان:عام وخاص- وهذا من جملة الأدلة التي استدلوا بها وظهر لك في البحث أن هذا ليس بدليل بل هو ضد ما قالوا، وهم جهلة أصلا كيف يستدلون، لكن أهل الباطل يبحثون عن شبهة ليتمسكوا بها-هذه قاعدة-؛ لأنّ الله جل وعلا وصفهم بقوله ?فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ?[آل عمران:7] والزيغ موجودا أولا، ثم يأتي اتباع المتشابه ولذا فإنّ المتشابه في القرآن لا يُحدث زيغا، فالله جل وعلا ابتلى العباد به، والزائغ يبحث عن المتشابه ليستدل به على زيغه، قال (فأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) يعني يتتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، فوجود الزيغ أولا، وهؤلاء زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، استدلوا بآية المعية، استدلوا على الوحدة من القرآن والسنة بأدلة كثيرة؛ استدلوا مثلا من القرآن بقوله ? قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ?[الأنعام:19] و(في كل شيء له آية تدل على أنه الواحد)[هذا بيت لأبي العتاهية ذكره الشيخ صالح آل الشيخ في شرح ثلاثة الأصول(المفرغ)] وكل شيء يشهد أن الله جل وعلا هو الرب وحده، جعلوا هذا إلى هذا جعلوا الأشياء كلها هي الله جل وعلا (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) التفسيرات المنسوبة إلى المتصوفة كابن عربي وغيره تجد كثيرا من الآيات التي فيها عموم الخلق أو الشهادة العامة يستدلون بها على الوحدة، وكذلك من أدلتهم أن الآيات؛ آية الأنعام ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ?[الأنعام:3] وكقوله تعالى ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي(26/228)
الْأَرْضِ إِلَهٌ?[الزخرف:84]يستدلون بها على الوحدة والإتحاد العام. لكن هذه كلها من إتباع المتشابه مما يدل على أنّ في قلوبهم زيغ، الحقيقة ليست متشابهة (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ليست متشابهة لأن دلالتها ظاهرة على المعنى، ليست متشابهة أصلا، وكذلك(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) ليست متشابهة لكن هم يتبعون بما اشتبه عليهم من الإشتباه النسبي فيستدلون به، كل هذا نسأل الله العافية من آثار ترك التمسك والاستسلام للكتاب والسنة.(26/229)
كتاب الفرقان عندنا الآن أربعة أو خمسة شروح كلها استطراد، ذهب عن الأصل بعد ما عرّف التعريفات، تذكرون الولي وتعريفه وصفات الأولياء و شروح شروط الولي إلى آخره، الآن كلٌّ استغرق في لما أتى للأولياء والفرق بين ولي الرحمن المطيع لله جل وعلا المستجيب للكتاب والسنة المنسجم صاحب عمل[انتهى الشريط الخامس] وأن ولي الشيطان عنده كذا من المخاريق. إذن كلها استطرادات في علوم شتى دخل في علوم الفلاسفة كما تذكرون، وفي بعض المباحث الكلامية، وذهب إلى قول الإتحادية...، يرجع بعد ذلك إلى أصل المبحث والكلام على الكرامات وعلى صفات الأولياء وشروط الكرامة إلى آخر ذلك من المباحث، وهذه نبهتكم مرارا عليها شيخ الإسلام استطراداته تشتت الذهن لهذا ينبغي لطالب العلم لما يقرأ كتب شيخ الإسلام أن لا يسترسل مع استطراداته، إذا أراد أن يفهم الموضوع يفهمه أولا مختصرا عن طريق الفهرس أو عن طريق تتبع الفصول، ويأخذ جملة الكلام ويأخذ القواعد التي هي الفوائد والإستدلالات، وإذا فهم هذا وعرف بناء الكتاب على أي شيء أو بناء القاعدة على أي شيء في فهم شيخ الإسلام وتصوره قبل إنشاء الكلام، بعد ذلك لو قرأ ومرت عليه الإستطرادات فإن انساق مع الإستطرادات نسي الموضوع، وشيخ الإسلام لو استطرد يحصل في استطراده أنواع من العلوم والفوائد، لكن قد لايكون نحريرها في هذا الموضع هو الأكمل، تجد أنه في موضع يستطرد لكنه يكون فيه ثغرات كثيرة ما استكملها، يأتي كلما أراد يبحث يقول (وقد بسطنا هذا في موضع آخر)، (قد بسطناه) ثم لا يكون مع طالب العلم في فهم معنى الإستطراد من كل وجه هو يستطرد لغرض يريد تقريره ليس لتقرير المسألة التي استطردها، لكن المسألة هذه جاءت لغرض آخر .(26/230)
طالب العلم لابد أن يكون متتبع كلام شيخ الإسلام كليا قبل أن يبحث جزئياته، يعني يتصور الكتاب قبل، مثلا في كتاب الفرقان الولي من هو، الدليل على وجود الأولياء من هم الأولياء، تعريف الولي، شروط الأولياء، الإيمان والتقوى، الإيمان متفاضل، التقوى متفاضلة، فصّل فيها كذا، صفة الأولياء، الخوارق التي تحصل لهم والكرامات، جمع العناوين هذه هي زبدة البحث، إذا جاء الإستطراد تتركه؛ يعني تمر على الكتاب، ثم تستكمل كل الفصول بالعناوين الرئيسة هذه للفصول فتعرف ماذا يريد أن يقرر شيخ الإسلام، في بعض كتبه الإستطراد بلغ مائة صفحة استطرد إلى مئة صفحة رحمه الله تعالى؛ يعني .... صفحة عندنا، هو كتب الواسطية في جلسة والحموية في جلسة إلى آخره فلا غرابة أن يستطرد فهو بحر لا ..... رحمه الله تعالى، لكن طالب العلم في الاستفادة منها واضح أنه ينتبه، ومن الكلام الحسن ما قاله الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله -وسمعته منه-: شيخ الإسلام يأتي إلى جدار الباطل كالموت فيُسقطه جميعا دفعة واحدة، وأما ابن القيم فيأخذ جدار الباطل حجرا حجرا فيكسّره. وهذا واقع ومثل ما وصف الشيخ؛ فإنك تجد ما أجمله شيخ الإسلام واستطرد فيه وجاء جميعا كالموت إذا جمعت بين هذا وهذا أخذت بقوة كلام شيخ الإسلام وبحسن عرض ابن القيم رحمه الله تعالى. نسأل الله جل وعلا أن يرفع منزلتهما في الجنة وأن يجعلهما مع الأنبياء والصديقين وأن يجزيهما عن أهل التوحيد خير الجزاء، فقد أبليا بلاء حسنا عظيما رحمهما الله تعالى، وابن القيم حسنة من حسنات شيخ الإسلام، ولو الله جل وعلا ثم شيخ الإسلام ما راح ابن القيم وما جاء مثل ما ذكر عن نفسه في النونية لما ذكر حالته لما قدم فقال:
حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني
رحمهما الله تعالى.نكتفي بهذا القدر
([73])هذه في البقرة.(26/231)
([74])شيخ الإسلام رحمه الله يستطرد في الاستدلال قد يذهب لطالب العلم المقصود من ذلك، فتكلم في هذا الكتاب الفرقان بين صفات أولياء الله وصفات أولياء الشيطان فمن صفات الذين ادعوا الوَلاية وتعلق الناس بهم في زمن شيخ الإسلام من أصناف المخرفين رأوا الأمر؛ أمر الله جل وعلا واحدا، رأوا أنه إذا مثل فيهم القدر فقد مثل فيهم الشرع، وأنهم مجبورون وكل ما يعملون، وكل ما يعملون به محبوب لله جل وعلا، ولذلك لا تجد عند أحدهم ندما على ما يحصل له من المعصية ولا فرحا بما يحصل له من الطاعة، فليس عندهم فرق ما بين الأمر الكوني القدري والأمر الشرعي الديني، وأولياء الرحمن جل وعلا هم الذين يفرقون بين الأمرين، الله سبحانه فرّق بين الخلق والأمر فقال ?أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ?[الأعراف:54] وأَمْر الله سبحانه بالشرع غير الأمر الله جل وعلا الكوني القدري، فالأمور الكونية القدرية التي تحصل في ملكوت الله وما في الأرض وما يحصل للإنسان من أشياء وتقلبات وأمور مقدرة عليه وما يحصل من تقاتل الناس إلى آخره، هذه كلها حصلت بإذن الله جل وعلا ومشيئته كما قال سبحانه ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ?[البقرة:253] فإذن الأمر الكوني القدري شيء والأمر الشرعي الديني ما أمر الله به في كتابه وعلى لسانه رسوله عليه الصلاة والسلام شيء آخر، قد يجتمعان فيي المحبة وقد يفترقان، ويكون إذن ما أمر الله جل وعلا به شرعا هو محبوب له سبحانه ولذلك أمر به، فامتثاله امتثال لما هو محبوب وتركه لم يأذن الله جل وعلا به شرعا، تركه مذموم، تركه أصحابه عصاة، ترك الأمر ...النهي مع كونه مأذون به كونا ووقع قدرا بمشيئة الله جل وعلا، ولكن لا يحبه الله ولا يرضاه.(26/232)
الصوفية أو الذين ادعوا ولاية الله جل علا ممن ضلوا قال طائفة منهم: أنه إذا حصل لي حال أو حصل علي شيء فإن هذا هو نفوذ أمر الله فيّ، فاستسلامي لذلك ورضاي به هو حقيقة التوحيد والإستسلام لله، وهذا باطل؛ لأن الله جل وعلا أوجب على العبد أن يفرح بالطاعة، وأن يبغض المعصية، وأنه إذا غَفل أو جاءه ما يصدّه، أو فرط في أمر الله، أو جاء نهيه سبحانه أو ران على قلبه فإنه يجب الإستغفار والتوبة وهو ما يل على لأن مخالفة الأمر الشرعي يجب منه التوبة ويجب منه الاستغفار ومعنى ذلك أن المخالفة مذمومة، وأن العبد بحاجة إلى أن يكفِّر عن ذلك وأن يستغفر الحق جل وعلا. وهذا يدل على أن نفوذ الأمر الكوني القدري لا يعني أن يُرضى به، بل هذا لله جل وعلا فيه حكمة بالغة.
فإذن فهؤلاء هم الذين أراد شيخ الإسلام أن يرد عليهم الذين يجعلون يحصل عليهم من أمور المعصية والطاعة كلها أمر كوني شرعي قدري، ويخلطون الأمرين ويجعلونها محبوبة لله وبالتالي فهم يرضون لذلك تجد في تراجم الصوفي، تجد أنهم ربما مُدحوا لفعل لبعض المعاصي لماذا؟ لأنهم عندهم على أصلهم أنه لا فرق ما بين الأمر الكوني والأمر الشرعي فنفوذ أمر الله فيهم بهذا الشيء يعني أن لا يختاروا غيره، معناه أن نستسلم لأمر الله وهذا عندهم هو نهاية التوحيد والفناء لأحد أقطابهم كما هو معروف. المقصود أن الاستدلالات؛ والاستطراد في الإستدلال أراد به ما ذكرتُ لك من التفريق والرد على تلك الطائفة.
([75])قال الشيخ محمد في كتاب التوحيد قال علقمة وذكره، باب الإيمان بالله والصبر على أقدار الله.(26/233)
([76])الكلام الذي سبق واضح؛ واضح في دلالته على مراد المصنف الذي من أجله أتى بهذا الكلام وواضح في نفسه، ولهذا لا نقف على ما سبق، وإنما في هذا الموطن وهو قوله رحمه الله تعالى (إنّ الصبر مأمور به وعلينا الرضا وعلينا الشكر) هذه مراتب ثلاث للعبد المؤمن تجاه ما يصيب به الله جل وعلا ويبتليه، وسعادة المؤمن تكمن في أنه إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، ومن كان عنده هذه الثلاث وهي الإستغفار عند الذنب والشكر على النعمة والصبر على الإبتلاء كان قد حصل الإيمان الحق.
الصبر مأمور به فهو واجب، وإذا كان الصبر مأمورا به فإنما يؤجر العبد على صبره، لا على نفس المصيبة، ولهذا إذا أصابت العبد المصيبة فإن المصيبة بنفسها يكفِّر الله جل وعلا بها من خطاياه، فالمصائب كفّارات كما سلف في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:«ما أصاب المؤمن من همّ ولا حَزن ولا وصب حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» وهذا يدل مع أحاديث أُخر على أن المصيبة تكفّر، لكن الأجر على المصيبة لا يكون إلا لمن صبر كما جاء في الحديث الآخر الذي جاء في الصحيح أيضا «عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنّ أَمْرَهُ كُلّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْراً لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرّاءُ صَبَرَ, فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاّ لِلْمُؤْمِنِ ». فإذن المصائب بنفسها كفارة ولا يؤجر إلاّ على الصبر وذلك لأنّ الصبر مأمور به وإذا امتثل الواجب فصبر أُجر على ذلك.
أما الرضا فهو مقام أعلا.
والصبر: -تعلمون تفسيره- هو حبس القلب عن التسخط، واللسان عن التشكي، والجوارح عن إظهار الجزع باللطم والشق أو بأشباه ذلك. فإذن من شكى باللسان فإنه ليس بصابر، ومن تسخط المصيبة بالقلب فليس بصابر، ومن لطم وشق أو عمل أعمالا تنافي الصبر فليس بصابر.(26/234)
المرتبة الثانية الرضا : قال رحمه الله إن الرضا (قيل واجب وقيل مستحب) وهذان قولان لأهل العلم منهم من قال إن الرضا واجب. ومنهم من قال إن الرضا مستحب. والصواب أن لا يقال أن الرضا لا هو واجب ولا مستحب بل هو جهتان:
1. الرضا بفعل الله جل وعلا فهو قضاءه وقدره وهذا واجب، لأن الرضا بصفات الله جل وعلا وما يفعله واجب.
2. والثاني الرضا بالمقضي بالمقدر فهذا مستحب.
مثلا فقد الولد أو فقد حبيب من جهة أنّ هذا الفعل جاء من الله جل وعلا فواجب الرضا عن أفعال الله جل وعلا وأما تسخط أفعال الله جل وعلا في ملكوته لأن هذا يدخل في ظن السوء بالله؛ يدخل في عموم قوله ?الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ?[الفتح:6]، والجهة الثانية المقضيُّ نفسه والمصيبة نفسها وهي فقد الولد، فالرضا به فهذا مستحب، يرضى لكونه يعلم أن هذا فيه خير له وأنه أصلح وأن الله جل وعلا لا يختار للعبد إلا ما هو أصلح له ونحو ذلك فهنا يرضى بالمصيبة وهذا من الأمور المستحبة لذوي المقامات العالية، كما قال تعالى ?وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ?[التغابن:11]، قال علقمة هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها –يعني المصيبة- من عند الله فيرضى بها ويسلّم لله جل وعلا. هذا من تمام الإيمان وهو سبب من أسباب الهداية.
فإذن الرضا له جهتان:
جهة واجبة وهي الرضا بفعل الله؛ الرضا بالقضاء نفسه يعني بما أمر الله جل وعلا به كونا وبما قضاه يعني بما أمر به أن يقضى بفعله سبحانه بصفته بتقديره وأشباه ذلك فهذا واجب. لأن الرضا عن الله جل وعلا عن صفاته وأسمائه واجب، فلا يظن به سبحانه ظن السوء.
والجهة الثانية الرضا بالمقدور فهذا مستحب، الرضا بالمصيبة في نفسها بفقد الولد في نفسه وأشباه ذلك.(26/235)
المرتبة الثالثة: أن يكون بعد الرضا شاكرا لله جل وعلا على تلك المصيبة وهذه إنما هي لخاصة عباد الله ?وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ?[فصلت:35]. فهو رضى وبعد ذلك يشكر الله جل وعلا أنْ جاءته هذه المصيبة ليكون له بها الخير في جهة تكفير السيئات ومن جهة أنه يصبر فيثاب؛ ومن جهة أنه يرضى عن فعل الله جل وعلا الرضا الواجب فيثاب، ويرضى بالمصيبة أيضا فيثاب، وأيضا لذلك يشكر الله سبحانه وتعالى أن لم يجعله من المتسخطين أو من ... أو نحو ذلك وهذا مقام الشكر لله جل وعلا.
إذن فثم أربع درجات ذكرها شيخ الإسلام الأولى: الصبر، والثانية: الرضا عن القضاء أو عن فعل الله، والثانية: الرضا بالمصيبة والثالثة: الشكر. اثنتان منها واجبة واثنتان مستحبة؛ الصبر والرضا بقضاء الله هذا واجب والرضا بالمصيبة والشكر بعد ذلك مستحبة وهي من مقامات الأولياء. نقف عند هذا، ونكمل إن شاء الله في المرة القادمة.
- المصائب كفارات للخطايا بمجردها، الضابط هو أن يكون مؤمنا فقط، أما هو ولو لم تخطر بباله كفّر الله بها من خطاياه لو ما خطر بباله، لو ما علم فمن رحمة الله بهذه الأمة «ما أصاب المؤمن من همّ ولا حَزن ولا وصب حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» فالمصائب كفارات للخطايا بمجردها.
- الصبر واجب فإن لم يصبر أثم، يكفّر ولو لم يصبر لكنه لا يؤجر إلا بالصبر. هذا الذي دلت عليه الأحاديث في هذا الباب وهو قول عامة جمهور أهل العلم.(26/236)
أما من جهة فعل الله جل وعلا فهو ظن السوء به سبحانه بصفته وأن هذه جاءت بغير حكمة أو أنه ابتلاه هو وترك غيره وأن غيره أولى منه وهذا قلّ من يسلم منه... هذا ما رضي عن فعل الله ظن بالله ظن السوء، الرضا بالمصيبة في نفسها وأن ينشرح صدره لها فإن كَلِفَت نفسه وعدّ هذا فعل المصيبة عليه بفقده للولد أو في فقده لأبيه ونفسه ما انشرحت لذلك ويكرهها ويكره ما حصل له هذا ما رضي بالمصيبة في نفسها.
([77])الحمد لله وبعد: هذا المقطع الذي سمعتم اشتمل على تأصيل مسألة عظيمة هي الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهي أن العبد المؤمن يفرق ما بين ما يجريه الله جل وعلا كونا وقدرا وما يجعله الله جل وعلا دينا وشرعا. فالحقيقة منقسمة إلى حقيقة كونية قدرية وإلى حقيقة شرعية دينية، فلهذا يتعامل مع ما يجري كونا بالرضا بل بالصبر عليه والرضا به كما ذكرت لك آنفا أن الصبر واجب وأن الرضا مستحب يعني بما يقع، ومع الحقيقة الدينية الشرعية التي يتعامل معها بالامتثال في الأمر والنهي، إذا نظر العبد إلى ما بين هاتين المسألتين وجد أن الولي هو الذي لا يحتج بالقدر إذا ... ولا يحتج بالجبر إذا رغب إذا رغب، فالأمور الكونية التي تحصل من المصائب والبلاء والفتن التي تحصل في الأرض أو مما يحصل في السماء مما يبتلي به الله جل وعلا العباد، هذه أمور كونية لله جل وعلا فيها الحكمة البالغة، لا تؤثر هذه في الإستسلام وفي الرضا على أفعال العبد تجاه هذه الأشياء، فضلَّت طائفة رأوا أن كل ما يجري فيه حكمة ولكن لا يفعلون معها شيء؛ لا يفعلون مع ما يحصل شيئا، وهذا من مثل مثلا ابتلاء الله جل وعلا العباد بالأعداء، ابتلاء الله جل وعلا العباد المؤمنين بالمنافقين، ابتلاء الله جل وعلا العباد بالفُرقة والفتنة ونحو ذلك من الأمور التي تحصل، وهو مما قدره الله كونا ووقع، فهذه من استسلم لها ولم ينظر إلى الحقيقة الشرعية الدونية فإنه ضال وعلى غواية، وأما من(26/237)
جمع بين الأمرين ورأى أن هذه وقعت والله جل وعلا له الحكمة البالغة في ذلك، وإذا وقعت لم يحمله هذا ولم ينشغل به عما يجب عليه شرعا، فإن الناس قد ينشغلون بالكونيات عن الشرعيات، والناس عند ورود البلاء وورود الشبهات وعند ورود الفتن قد لا يستعملون معها الشرعيات، قد لا تتحملها قلوبهم وعقولهم فلا يعملون معها ما يجب، وهذه ليست من صفة أولياء الله، فأولياء الله جل وعلا هم الذين يعلمون أن ما يُجري الله جل وعلا في الكون أنه بحكمة وأن له الأمر الغالب، ثم يستعملون ما أمر به شرعا، إذا كان الميدان ميدان جهاد جاهدوا، إذا كان الميدان ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمروا ونهوا، إذا كان المجال مجال نصيحة نصحوا لله جل وعلا ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإذا كان الميدان ميدان اجتماع وائتلاف ونهي عن الفرقة والإختلاف فإنهم لا يشغلهم ذكر الفرقة والإختلاف عن ما يجد شرعا تجاه ذلك من كف اللسان ومن النصيحة ومن التآلف والتآخي ووقلّ من يَخلص من ذلك بالتوفيق ما بين أمر الله الشرعي وما بين ابتلائه الكوني، وإنما يخلص من ذلك أولياء الله جل وعلا، كذلك ذكر أن أولياء الله جل وعلا بخلاف من ليسوا كذلك في أمر الشريعة فليس أمر الشريعة فيما يسمى شريعة ليس هو فقط فيما أنزل الله جل وعلا على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بل ما حكم به الحاكم فيما له أنْ يحكم فيه القاضي هذا أيضا من الشريعة الذي لا يجوز لأحد أن يخرج عنه، لكن ثَم فرق ما بين الكتاب المنزل والسنة والشريعة التي هي كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي من خالفها فهو كافر وما بين كلام عالم أوحكم قاض ونحو ذلك فليس كل من خالف كلام عالم أو طائفة من العلماء يُعد كافرا، وليس كل من خالف أو لم يرض بحكم الحاكم المعين أنه يكون كافرا، بل ثَم فرق بين النوعين لكن من خالف الشريعة المنزلة أو خرج عنها هذا كافر، ومن خالف عالما معين فهذا فيه التفصيل،(26/238)
فقد يخالفه لأمر آخر يكون فيه محقا أو يكون فيه مبطلا، لكن يكون ثم له شبهة، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام ذكر أنه قد يقضي القضاء عليه الصلاة والسلام ولا يكون مصيبا في حقيقة الأمر، ولكن يكون مصيبا في ظاهر الأمر؛ لأن قضاء القاضي إنما هو على البينات الظاهرة أو على الإقراء، فإذا قضى على من يكون من بيننا أو ما يأتيه من الفهم من حجة هذا وحجة هذا فإنه في الظاهر حكم بشرع الله جل وعلا وأعطى الحق لأهله، وقد لا يكون في الباطن وصل إلى حقيقة الأمر، وهذا ما يجعل هذا القاضي لم يصب حكم الشريعة، لهذا القاضي إذا قضى على نحو ما سمع أو علة نحو ما ظهر له من الأمر وكان في الباطن ليس محقا، فإن هذا لا يقدح فيه فإن النبي عليه الصلاة والسلام وهو أكمل الخلق قد قال «لعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأحكم له فإنما أقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقضي له بقطعة من النار فليأخذ أو ليدع» مع أنه عليه الصلاة والسلام هو النبي وهو المؤيد وهو الذي يوحى إليه، لكن قد يخالف حكمه الظاهر ما في حقيقة باطن المسألة فيقضي لمن ليس له الحق فليس هذا موجبا للقدح فيه، والناس في هذا ما بين طرفين ووسط، والطرفان طرف أولياء الشيطان أو من لم يرعَ للشريعة حقها فرأى أنه بهذا يسعه الخروج من حكم الشريعة إذا حصل له علم الحقيقة الباطن ، وطرف آخر غلا فقال إن القاضي إذا حكم بغير الحق في نفس الأمر فإنه يُحكم عليه بالكفر، ويحكم عليه الضلال ونحو ذلك لأنه إذا لم يكن إلى حقيقة الأمر فإنه اتبع هواه وهذا أيضا باطل والصواب التفريق ما بين الشريعة المطلقة التي لا يسوغ لأحد أن يخرج عنها وما بين حكم الحاكم أو كلام العالم أو فتوى العالم أو رأي العالم أو طائفة من العلماء في مسألة ما أو في مسائل، فإن هذه قد يكون لهم الحق فيها وقد لا يكون، لكن الناس يلزمهم أن يمشوا على فتوى علمائهم، وأن يلتزموا بقضاء قضاتهم، ولو كان في نفس(26/239)
الأمر غير موافق للصواب، لأن الناس لا يصلحون فوضى ولا يصلحون دون حكم حاكم ودون فتوى مُفْتٍ للمسائل.
فإذن يُنتبه إلى طرف الغلاة وهم الذين جعلوا الشريعة قِسْما واحدا وهو ما دل عليه الكتاب والسنة فمن خالفها فهو ضال دون نظر إلى ما يجري ظاهرا على فهم العلماء من المفتين والقضاة، وما بين فئة جَفت فتركت اتباع السنة، واتباع محمد عليه الصلاة والسلام طلبا للحقيقة كما سيأتي في كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
([78])مثل بعض المسائل قد يرددها بعضهم وهو لايفقه مثلا يقول: حَكم بغير الشريعة، يقول هذا حُكم بغير الشريعة ونحو ذلك لخروج من فعل ذلك عن الحكم بقول بعض العلماء أو القول ببعض المذاهب ونحو ذلك، فهذا لاشك أنه لا يجوز أن يطلق القول في حق أحد أو في حق دولة أو في حق مجتمع بأنه حكم بغير الشريعة لخروجه عن الحكم بقول طائفة من أهل العلم، وإنما يقال حكم بغير الشريعة وخرج عن الشريعة إذا خرج عن مدلول الكتاب والسنة؛ خرج عن ما دل عليه الدليل، فإنْ كان الدليل محتملا والمسألة ليس فيها إجماع فلا يجوز أن يقال أن فلانا خرج عن حكم الشريعة أو حكم بغير الشريعة، والقاضي الفلاني حكم بالهوى وبحكم بغير الشريعة، أو الدولة الفلانية تحكم بغير الشريعة إذا كانت حكمت بقول غير طائفة معينة من أهل العلم، فإذن لا بد من التفريق ما بين الحكم المطلق للشريعة الذي من تركه فهو كافر وضال وما بين الحكم المقيد الشرعي فهو شريعة فهو حكم طائفة من أهل العلم، فإن الخروج عن الأول كفر؛ الشريعة المنزلة، أما الخروج عن الثاني ففيه تفصيل
([79])الخضر سبب اتصال موسى به أنه قال أي موسى: أنا أعلم أهل الأرض فأوحى الله جل وعلا إليه "إيتي عبدنا خضرا فإنه أعلم منك" والحديث معروف في أول البخاري وفي تفسير سورة الكهف.
الخضر اختلف العلماء فيه: هل كان نبيا أم كان وليا؟(26/240)
فرأى طائفة أنه نبي وهم [جمهور أهل العلم] أنه كان نبيا، واستدلوا على ذلك بقوله جل وعلا ?وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا?[الكهف:65] وما حصل من قصته مع موسى من أشياء لا يمكن أن يدركها إلا بالوحي وفيها قول ينسب إليه وإلى الملائكة وهو قوله ?فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا? [الكهف:81] وقال في الجدار ?فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ? [الكهف:82] وهذا إنما يكون عن وحي والوحي للأنبياء لا لأولياء لأن للولي إلهام والإلهام في قضايا ولا يكون في مثل هذه يكون في قضايا يحكم فيها يتبين له فيها الصواب أما هذا إنما هو الوحي، قتل الغلام، إقامة الجدار خرق سفينة ونحو ذلك، وقال (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا).
والقول الثاني وهو قول [قليل من أهل العلم] أنه كان وليا، جمهور أهل العلم على أنه كان ولي وقالت طائفة إنه نبي واستدلوا بما ذكرت لك من الأدلة وقال الجمهور إنه ولي وليس بنبي. وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله إن أولى درجات الزندقة أن يقال إن الخضر ولي لأجل أن الزنادقة الذين خرجوا عن اتباع محمد عليه الصلاة والسلام من أصحاب الوحدة قالوا كما وسع الخضر الخروج نخرج. الخضر خرج عن رسالة موسى وعن اتباع موسى لما أُلهم لأنه كان وليا فنحن نخرج كما خرج الخضر عن موسى.
المقصود –حاصل الكلام- أن المحققين من أهل العلم على أنه نبيا، والجمهور على أنه كان وليا يعني أكثر العلماء الذين تكلموا في هذه المسألة.(26/241)
تعرفون كلمة الراجح هي نسبية معناها الراجح عند المتكلم إذا سمعتم (والراجح كذا) فمعناها الراجح عندي، إذا قال أحد من أهل العلم (الراجح كذا) الراجح عنده لا أنه راجح في نفس الأمر، لأن الرجحان هذا نسبي، والراجح ... يعني عنده، ما فيه راجح عام الرجحان نسبي إفهموها في كلام أهل العلم، إذا قال بعض أهل العلم (والصحيح كذا) يعني والصحيح عنده ليس الصحيح المطلق، إذا قال الراجح في المسألة كذا يعني عنده هو بما تحرى هو من الحق، (أصح القولين في المسألة كذا) يعني عنده،قد لا تكون أصح القولين في نفس الأمر.
لهذا ذكرت لك في المسألة هذه أن جمع من المحققين أنه نبي وأبطلوا القول بأنه ولي، وجمهور أهل العلم على أنه ولي، كذلك إذا قلنا مثلا كيف الراجح؟ معناه –كما في سؤال الأخ- معناه أُوش ترى في المسألة؟ هذا إذا اختلف العلماء وقيل ما الراجح عندك؟ معناه ما قولك في المسألة على أي القولين. (الدرس عندنا درس تعليم الترجيح والإتباع لأهل العلم الراسخين)(26/242)
كلمة المحققين كلمة فتانة في الدروس والكتب هذه معناها أنه إذا عرض لمسألة فإنه لا يمر عليها على وَفق ما عنده من المعلومات السابقة التي ربما نشأ عليها، بل اعتاد أنه يحرر كل مسألة خاصة المسائل العظام، الذي إعتاد أنْ يحرر كل مسألة يقال له محقق، ليس تحقيق الكتب هذه الآن. وأصلها في اللغة من حَقَّقَ الشيء إذا أحسن نسجه، والثوب المحقق إذا كان نسجه على الغاية، لهذا المحقق من يحسن النظر في المسائل لا يدري هكذا بما ألف أو بما سمع بل يحسن النظر ، معلوم الأمة إختلفت إختلاف كبير في مسائل العلم والمسائل المجمه عليها قليلة، المسائل المختلف فيها كثيرة جدا جدا جدا، لذلك لا يخلو أحد مهما كان من تقليد (التقليد المحمود يعني الإتباع) الإمام مالك رحمه الله، الإمام أبو حنيفة قبله جرى على ما عليه أهل الكوفة أخذ فتاوى ... فتاوى أصحاب ابن مسعود وقاس وزاد أشياء، جرى على أشياء قلد فيها، الإمام مالك أيضا قلد أهل المدينة في أشياء ... عليه، الشافعي قلد أهل مكة وخلط شيء من نظر أهل المدينة ولما ذهب إلى بغداد أيضا شيء من نظر أهل العراق، جمع بين أشياء كون بها فقهه في مصر، الإمام أحمد اختلفت أقواله في المسائل لأسباب تارة في المسألة الواحدة تجد عنده عدة روايات، بل في مسألة جاء سبع روايات، هذا له أسباب يطول المقام بذكرها، لكن منها أنه يتابع بعض العلماء ممن قبله في مسائل، إذا نظرتَ إلى مسائل الأصول؛ أصول الفقه فيها تقليد، شيخ الإسلام بن تيمية اجتهد أن يحقق بعض المسائل في الأصول، إذا نظرت إلى الرجال هل كل عالم له نظر مستقل في الرجال في باب الحديث، يعني فلان ابن اسحاق هل هو ثقة أو صدوق؟ الواقدي هل هو ثقة أم هو ضعيف؟ الحجاج بن ... إيش وضعه؟ السدي الكبير ، اسماعيل بن عبد الرحمان هذا هل هو ثقة هل هو صدوق رواية مسلم لمن روى؟ رواية البخاري لمن روى؟ هذه كلها مسائل إختلف فيها أهل العلم في الرجال أو في المنهج، هل نستطيع أن(26/243)
نحقق في كل مسألة؟لا، فلا بد لكل أحد من التقليد هذه ليمكن الكف عنها ولكن ثم تقليد لأئمة السنة، هذا ولله الحمد به تبرأ الذمة وثم تقليد لمن ليس من أهل العلم المحققين فهذا نوع ما نشأ عليه العبد نشأ عليه الإنسان في بلده أو حسب وضعه يختلف يختلف الحال، فإذن الذين يقولون الاجتهاد، لا يسمى إجتهادا كاملا، يجتهد في مسألة فحققها فصار مجتهد في هذه المسألة المعينة أما أن يصير عالم مجتهد فهذا مستحيل ولذلك من أراد الاجتهاد في أول طلبه العلم في كل مسألة يحررها إلى آخرها فسيكون جاهلا في مسائل كثيرة لن يطلع عليها لن يكون فيها محقق ولا مقلد لأنها تفوته، لأن العلم كثير. لذلك ذكرنا لكم مرارا أنّ طالب العلم يسعى في معرفة كلام العلماء في مسائل المسائل كلها في التوحيد في الفقه يمر عليه بكماله، الأحاديث المشهورة يعرف معناها التفسير يمر عليها بكاملها يكون طالب علم، ثم بعد ذلك مع ما قُدِّر له وما عنده من الإستعدادات والمواهب والآلات وجِدّه واجتهاده في طلب العلم بعد توفيق الله له يكون عنده تحقيق واجتهاد في المسائل إذ هذه المسألة تجد فلان متميز فيها، مثلا صالح بن عبد العزيز عنده مسائل حررها فأحسن الكلام فيها فيه مسائل أخرى ليس كذلك، وهكذا آخر من أهل العلم تجد عنده مسائل حررها وهكذا؛ لأن العلم واسع ولا يمكن لأحد أن يقال كلامي هو التحرير في كل مسألة هذا جناية على العلم وأيضا المرء يجني فيه على نفسه، أو أن يتطلب الواحد منا أن يحرر في كل مسألة الأعمار أقل من ذلك والعلم كثير إذا وصلت آخره نسيت أوله ينبغي لك تكرار وفهم وتصوير المسائل ونحو ذلك، لهذا ينبغي أن ينتبه طالب العلم أن دعوى الإجتهاد في كل مسألة، والنظر كما نظر الأئمة أحمد والشافعي ومالك في فعل السلف وتحري الأدلة في كل مسألة هذا يجعل المرء جاهلا في مسائل كثيرة، نعم يحقق هذه المسألة فيجيد فيها وتجد عنده تفصيل وربما يتميز عن بعض الراسخين في العلم بكثرة(26/244)
معرفته وتفاصيله لهذه المسألة أو المسائل التي حررها، لكن تجد عنده من الجهل الكثير في مسائل لم يطلع عليها لأنه شغل وقته بتحرير مسائل وأطال فيها وترتب على هذا أنه جهل مسائل كثيرة كما هو الواقع، وحرك ترى ولهذا طالب العلم ينبغي عليه أن لا يجعل العلم في طلبه له لذة وشهوة، وقد قال ابن المبارك رحمه الله "إن للعلم طغيانا كطغيان المال" مثل ما يكون الغني يطغى ?أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى?[العلق:7] كذلك طالب العلم ربما يطغى، صار عنده مسائل، شاف نفسه مثلا في الأصول عنده كذا، صار عنده نظر جيد، أو عنده في الحديث أو الرجال معرفة، صار عنده في بعض المسائل، هذا ليس من صنيع أهل العلم، كلما ازدت علما ازدت معرفة بأنك تجهل الكثير، وأنه لو مد الله جل وعلا في عمرك لحققت مسائل كذا ولزدت معلومات وهكذا، لذلك قال بعض أهل العلم أموت ولا زال في نفسي شيء من حتى. حتى تارة ترفع، تارة تنصب، تارة تخفض. وهذه المشائل الرفوع والمنصوب والمخفوض هي مسائل النحو فيموت وهو متعلق بتحرير مسائل المخفوض والمرفوع والمنصوب.لا كما يفهم البعض أموت ولا زال في نفسي شيء من حتى، يعني مات وما يعرف معنى حتى؟ لا. هذه كلمة لأحد علماء النحو الكبار يعني أن مسائل العلم هذه إما مرفوع وإما مخفوض وإما منصوب هذه في النحو، حتى تارة ترفع، تارة تنصب، تارة تخفض وهكذا العلم، تارة ترفع هذا ، وتخفضه وتنصبه فإذن يموت المرء وهو يتعلم، يموت المرء وهو في العلم، لا يظنن ظان أنه سيحيط بالعلوم كلها هذه إقطعها، أن تحيط بكل شيء إقطعها؛ إقطع الأمل، وليكن إن أحطت بكثير فذاك حسن وأعظم ما تهته به ما قاله ابن القيم رحمه الله في نونيته
والعلم أقسام ثلاث مالها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني(26/245)
تهتم بثلاثة علوم إهتمام عام ثم بعد ذلك زد في التفاصيل بحسب ما قدر لك من العمر والإستعدادات والمواهب وما وفق الله جل وعلا العبد به. الإهتمام بالتوحيد في مسائل... لأن صلاح القلب ?إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ?[الشعراء:89] وأعطم الحسنات حسنة التوحيد فعلا وتعلما لأن الوسائل لها أحكام المقاصد. والثاني الأمر والنهي الحلال والحرام فهذه في الفقه تتعدد، واحد يدخل بيته لا يعرف الأحكام الشرعية في عشرته لأهله يعاشرهم هكذا بمقتضى الطبيعة والجبلة وما نشأ عليه وما رأى عليه أهل بيته الجد والجدة وإلى آخره، ما يعرف الأحكام الشرعية فهو سيتصرف بلا على هذا ليس بعالم هذا جاهل يصاحب الناس في البيت، في المسجد يصاحب الناس في العمل زملاء إلى آخره أصناف الناس لن يتعامل معهم بعلم لأنه فاته أشياء كثيرة، في التجارة، في البيع في الأمر، في النهي في النصيحة، في أشياء كثيرة، ما يعترض له من أشياء في يومه وليلته، العالم هو الذي علم فطبق بحسب ما قدر له، هذا العلم في الأمر والنهي؛ الفقه لا بد ينقل بدليله من الكتاب والسنة هذا هو الأصل والإجماع والأدلة البقية المتفق عليها والمختلف فيها، لكن هل كل مسألة ستدركها بالدليل؟ ليس كذلك، فلذلك لا بد أن تعرف الفقه جميعا على كلام طائفة من أهل العلم واحد أو أكثر تتصوره وتمضي، لأن الله جل وعلا كلف العبد بأن يسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?[الأنبياء:7، النحل:43] فإذا جهلت في المسألة فاسأل أهل الذكر، فلا بد للعلم، لمعرفة الفقه على قوم هذا سؤال أهل الذكر، أما في المسألة فتحرر فيها هذا لن يكون إلا إذا أمد الله في العمر ثم تتابعت شيئا فشيئا بعد ذلك.(26/246)
ثم العلم الثالث بعد التوحيد والفقه: علم السلوك، الجزاء، القيامة، أن يحسن فهم العبد، الطمأنينة التي يحسن العبد بها، الاستقامة، وعدم الركون للدنيا، ومعرفة بحال السلف، وحال الأئمة، وحال الصالحين، وحال الزهاد حتى ينطلق في الدنيا فيضل في الفقه، وحتى لا يغفل عن فعل السلف، وعن سلوكهم وعن صلاحهم فيضعف من إخلاصه وتوحيده هذه الثلاث هي العلم، وكل يأخذ بما قُدِّرَ له من ذلك، ولهذا نسأل الله جل وعلا دائما العلم النافع والعمل الصالح وأن يزيدنا علما وعملا ووهدى واقتداء إنه سبحانه جواد كريم، هذه كلمة وإطالة إقتضاها المقام ومناسبة لا أدري هل هي مناسَبة مناسِبة أم لا؟ لكن لا بد من الأخذ بالتّواصي في مثل هذه المسائل وأسأل الله جل وعلا أن يختم لي ولكم برضاه أختم بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.(26/247)
العلم له شهوة، له لذة، تجده منبسط في السيرة، تجد ليله ونهاره في السيرة، طيب أين التوحيد، سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، نعم هل علمت توحيد الله جل وعلا عليك، الأفعال، الألفاظ، التوحيد، الشرك الظاهر، الخفي، أنواعه ألعقيدة العامة لله جل وعلا وملائكته ورسله، الأمر والنهي وهل خلاصك على بينة، فعلك زكاتك صيامك حجك، كل هذه... عن بينة، الأحكام التي تليها في لبس لباسك في مركبك إلى آخره كل هذه إذا طلب الطالب العلم عن شهوة ولذة تجد أنه يتوسع في أشياء ثم لو نظر في نفسه لوجد أنه يجهل أشياء من ضروريات الدين وهذا لايسوغ، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة له أن العبد قد يطلب العلم بلذة مثل الكريم الذي يكرم الناس بلذة لو ما أكرم وأضاف الأضياف ضاق وما تحمل لما طبعه الله جل وعلا عليه، ولهذا فإن صاحب هذه اللذة فعل ما يجب من تعلم العلم الذي فرض عليه فإنه ينجو بإذن الله تعالى، فإذا كان يجهل ما فرض الله عليه فإنه... فيكون ممن ألهاهم التكاثر، أو ممن اتبعوا الشهوات لأن العلم شهوة وإن كان طلب العلم عبادة لكن العبادة إذا كانت معارضة بعبادة أوجب منها، فعبادة واجبة وعبادة مستحبة، لا يجوز، نعم نظرك في الأصول نظرك في الرجال، نظرك في التخريج، نظرك في السيرة، هذا علم مستحب لكن هل يقدم، هل هو أولى أو الواجب عليك؟ هذه مصيبة تراها الآن في مجتمعات كثيرة، تحقيقات وكتب كثيرة ومطبوعات كثيرة، لكن أين العلم النافع ؟ المسائل الظاهرة ما يعرفها، مسائل النظر فإما أن يغلي فيحرم ما لا يحرم أو يبيح ما لا يباح لا لغرض له في ذلك إلا لأجل عدم العلم... المقصود أن هذه المسألة أنتم تعرفونها، وتعرفون الواقع وواقع طلبة العلم لكن هي ليست لأجل عيب من كان كذلك نبرأ إلى الله من ذلك، لكن لأجل الوصية, أوجه لنفسي بذلك قبلكم وأسأل الله جل وعلا أن يعينني وإياكم على الحق والهدى.(26/248)
([80])الحمد لله وبعد: هذا الكتاب؛ كتاب الفرقان أنشأه شيخ الإسلام لبيان ضلال طوائف من غلاة الصوفية في مسائل الولاية والأولياء وبين في هذا الكتاب الفرق البيّن بين ولي الله وولي الشيطان، وسمى كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فطوائف الضلال في هذا الباب لهم أقوال ولهم آراء ولهم شبه كثيرة في مسألة الوَلاية وفي مسألة الإعتقاد في الأولياء، فمن تلك المسائل زعم طائفة من ظلال الصوفية أنّ أحدا من الناس الذين بلغوا مبلغا عظيما وسمعوا الخطاب، سموا أولا، ثم سمعوا الخطاب؛ خطاب الرب جل وعلا أنّ لهم أن يخرجوا عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، وهذا الرأي الذي ذهبوا إليه مبني على شيئين:
الأول: الخضر خرج على شريعة موسى.
الثاني: خاطبهم الله جل وعلا وأوحى إليهم كما خاطب جل وعلا الخضر وموسى.
هذان القولان ردهما شيخ الإسلام فيما سمعت.
الأول: خروج الخضر عن شريعة موسى لا يعرف أنه خرج عن شريعة موسى بهذه الأفعال الثلاثة التي صحب فيها موسى الخضر، هذه الأفعال الثلاثة جاءت بها شريعة الخضر، وهي موجودة حتى في شريعة الإسلام، ففعل أفعالا ثلاثة أنكرها عليه موسى، وإنكار موسى عليه هذه الأفعال الثلاثة ليس لأجل أنها لا توافق الشريعة لكن لأجل أنه لم يعلم تأويلها ولم يعلم تفسيرها فما صبر لهذا قال الخضر لموسى عليه السلام (أنت على علم من علم الله لا أعلمه وأنا على علم من علم الله لا تعلمه)يعني فإذا كان المرجع علم الرب جل وعلا، فإنّ الواجب عليك أن لا تنكر ما لا تعلم، سبب ذهاب موسى إلى الخضر أنه قال حين سئل أي الناس أعلم، أو أي أهل الأرض أعلم فقال موسى عليه السلام أنا، ولم يُرجع الأمر إلى علم الله فقال له الله جل جلاله موحيا إليه (إيتي عبدنا خضرا فإنه أعلم منك) كما رواه البخاري في أول الصحيح. الأفعال الثلاثة:(26/249)
? خرق السفينة هذا إحسان والإحسان مطلوب في الشرائع جميعا وفعل الخضر لم يكن ظلما ولم يكن إعتداء بل كان إحسانا إليهم وهذا الإحسان جاءت به شريعة موسى عليه السلام وجاءت به الشرائع جميعا، فإن الملك أراد أن يأخذ الفينة السليمة فلما وجد أن السفينة معابة تركها ثم أصلحت السفينة.
?كذلك الغلام خشي أن يكفر أبويه كما قال سبحانه ?فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا?[الكهف:80] أنْ يَطغى عليهما وأن يكفر أو أن يكفرهما وأن يدلهما على الكفر والباطل فقتل هذا الذي علم أنه سيكون صائلا على أبويه في الدين أصله مشروع؛ لأنّ الصائل على الأبدان يقتل فكيف بالصائل على الدين.
?الثالث بناء الجدار هذا أيضا إحسان فإذن في أفعال الخضر لم يكن شيء منها دالا على أن الخضر خرج عن شريعة موسى، فإذن تأصيلهم المسألة بأن الولي له أن يخرج عن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى هذا مبني على هذه المقدمة غير الصحيحة؛ لأن هذه المقدمة مظنونة، هل كان الخضر مخاطبا بشريعة موسى أو غير مخاطب، هذا لا نعلمه هل كان مأمورا باقتداء موسى أو لم يكن هذا لا نعلمه، هل كان موسى من قوم موسى أم لم يكن لا نعلمه فالخضر علم من الله جل وعلا ?وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا?[الكهف:65] له علم لدني من الله سبحانه وتعالى وأفعاله لا تدل على ذلك وليس ثَم دليل زائد على ما زعموا.(26/250)
الأمرالثاني الذي بني عليه الكلام: الكلام على الولي مخاطب هذا في الحقيقة باطل لأن الوحي إنقطع والخطابات التي يسمعها من إستعمل الرياضة والجوع والتفكر هذه خطابات من داخل النفس، وليست وحيا من الله جل وعلا، ضلّ طائفة منهم سمعوا أحاديث قدسية يعني سمعوا الرب جل وعلا يتكلم بكلام. حتى منهم من قال إنّ عند بعض الأئمة أو الأولياء عندهم شيء زائد عن القرآن كما ذكر الشعراني في طبقات الأولياء في أوخره في ترجمة أحد الناس قال في ترجمته: كان رحمه الله ورضي عنه يتلو آيات ليست في القرآن. يعني -على أصلهم- أنه سمع كلام الله جل وعلا فأصبح يقرأ أشياء ليست في القرآن، وهذا ولا شك أنها مقدمة باطلة؛ لأن الوحي إنقطع ولايمكن لأحد أن يوحى إليه وحي سماء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما في هذه الأمة فيها الإلهام والتحديث بما يوقع في روع العبد أما السماع يقول سمعت، وكما قلنا في ابن العربي الأربعين في أحاديث رب العالمين، الأحاديث التي سمعها عن الرب جل وعلا الأحاديث القدسية كلها فيها قال الله تعالى كذا فيما يرويه مما سمع.
• ..النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن أولاد المشركين قال الله أعلم بما كانوا عاملين، الله جل وعلا أطلع الخضر ما سيعمله هذا، لأنه يُخشى أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا، فالزائد على هذا لا نعلمه لكن إذا كان الله جل وعلا يعلم أنه إذا بلغ سيكون كافرا فإنه من أهل النار الله أعلم بما كانوا عاملين، فأولاد المشركين فيهم أقوال كثيرة عند أهل العلم، وأقرب الأقوال أنْ يقال كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الله أعلم بما كانوا عاملين. هل بما كانوا عاملين لو بلغوا أو بما كانوا عاملين يوم القيامة إذا بُعث لهم رسول قولان عند أهل العلم، لكن نقول بما قاله عليه الصلاة والسلام، نقول كما قال الله أعلم بما كانوا يعملون، هذا خشي أن يرهقهما طغيانا وكفرا فقتل....(26/251)
([81])الإرادة كما ذكر منقسمة إرادة كونية قدرية وإلى إرادة دينية شرعية، وأما المشيئة فلا تنقسم ولا يقال مشيئة كونية ومشيئة شرعية بل يقال مشيئة الله، ولا توصف المشيئة بكونها كونية أودينية، لأن المشيئة نوع واحد فلا تنقسم المشيئة، فلم يأتي الدليل ما يدل على إنقسامها بل معناها واضح في أنها متعلقة بالكون وليست متعلقة بالشرع، لهذا نقول مشيئة الله جل وعلا نوع واحد، وهي إرادته الكونية، الإرادة هي التي تنقسم كما ذكر لك في هذه الأنواع، هذه الأنواع جميعا تنقسم إلى كونية ودينية، وليس منها المشيئة، الإرادة منقسمة وسيأتي بالأدلة.
([82])الثانية الإرادة الدينية، الأولى من الآيات الإرادة الكونية والمجموعة الثانية في الإرادة الدينية الشرعية.
([83])هذه محتملة للنوعين ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ?[النساء:64] هذه تحتمل أن تكون الكونية و تحتمل أن تكون الشرعية؛ يعني الآيات فيهما معا تصلح لهذا وتصلح لهذا، فالرسول طاعته شرع، فيكون إذن الله جل وعلا هو الشرع الديني، وأيضا الرسول يطاع بإذن الله جل وعلا الكوني أن يطاع. (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ) يعني ممن أطاعه، وتكون الطاعة هذه بإذن الله، ليس العبد هو الذي يطيع من عند نفسه، بل?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ?[الإنسان:30، التكوير:29] فتصلح للنوعين.
وكذلك ?مَا قطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ?[الحشر:5]،هذه يعني في أمر الله جل وعلا، يعني فيما تُرك وفيما أُبقي ... الشريعة وهو بإذن الله الشرعي، وهو أيضا ما ترك وما أبقي هو بمشيئة الله جل وعلا بإذنه الكوني، ولكن الثانية أظهر في الشرع.(26/252)
· ...هناك من يقول إنّ الإذن لا ينقسم إنما إذن كوني فقط. أما المنقسم هو الإرادة وآية السّحر هي في الكوني وغيرها مثلها، ومن قال إن الآيات التي فيها الإذن ديني ما عندنا في الكوني إلا آية السحر ?وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ?[البقرة:102] فإيراد الاحتمال في الجميع يقوي الانقسام، عندك الآن الإذن في آية السحر هذا إذن كوني لأنّ...محرم، ... هم يريدون مثالا آخر على الإذن الكوني؛ من طريق آخر، لا يوردون إلا آية السحر، فالذين يتعلقون بالسحر يقولون الإذن هنا (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الإذن هنا ما هو الإذن الكوني فيدخل فيه الإذن الشرعي أيضا؛ لأنّ هناك من يجيز استعمال السحر فيما ينفع ولا يضر، وبقولون ما يضر يعني مثل...و الصرف والعطف يعني إلى وقتنا الحاضر وفي زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى آخره يجادل كثيرون في أن الصرف والعطف يعني المحبة هذه التي تنتج محبة -وفي الحقيقة فيها ضرر هذه من هنا تكون محرمة- ويكون هنا الإذن هنا يكون ديني (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) يعني الإذن الديني، المقصود أنّ إنقسام الإذن دليله في الإذن الكوني آية السحر، وعدم إيراد العلماء –أنا ما استقرأت القرآن-لأنواع أخرى لأدلة أخرى يشكل في تقوية الإنقسام -واضح هذا؟- لهذا نزول الآيات محتملة لهذا وهذا حتى يقوى التقسيم، وهذا معلوم في قوله مثلا ?وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ?[النساء:27] يعني يحب الله أن يتوب عليكم، أنّ من تاب قد وقعت توبته بالنوعين، لكن لا يلزم من محبة الله جل وعلا وإرادته الشرعية أن يقع الكوني لا يلزم منه من مثل الإذن الكوني؛ يعني قد يريد الله جل وعلا الشيء شرعا ولا يريده كونا كما هو معلوم، وقد يأذن به شرعا ولا يأذن به كونا، والإستلزام غير حاصل من الجهتين أو الإستلزام في الجهة الثانية(26/253)
غير حاصل، يعني أنه وجد الشرعي وُجد الديني, لا, إذا وجد الشرعي قد يكون الكوني موجود وقد لا يكون، فإذا وقع الشرعي لا شك أنه يجتمع فيه الأمران يعني في طاعة المطيع تحصل الإرادتان، في القطع هذا قطع اللينة وتركها هذا يقع وانتهى واجتمع فيه الإذن الشرعي والإذن الديني بمعنى أن الإشياء الدينية التي ذكر هي قد توافق الكوني فتكون واقعة وقد لا توافقه فلا يفعلها العبد، مثل الجعْل فلا يأتيه إلى آخره ?جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ?[المائدة:97] هذا جعل شرعي؛ ديني، أناس ما جعلوها كذلك واقتحموا البيت وقتلوا من قتلوا وسفكوا الدماء كالقرامطة ونحوهم، ما جعلوا البيت قياما للناس، إذن الجعل هما شرعي يعني حينما لم يؤمَّن البيت لم تجتمع الجهتان، فلما أُمِّن البيت إجتمعت هذه وهذه، فإذن وجود الأول وهو الكوني لا يستلزم الثاني ووجود الثاني لا يستلزم الأول [وجود في الآيات(المفرّغ)] لكن وقوع الثاني يستلزم وجود الأول. نعم كمّل.
([84]) البقرة:117، آل عمران:47، مريم:35.(المفرّغ)(26/254)
([85])يعني به أصحاب وحدة الوجود الذين قالوا المعبود والعابد شيء واحد لأن الله جل وعلا قضى أنْ لا يُعبد إلا هو ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[الإسراء:23]، يعني قَدَّر أن لا يعبد إلا هو؛ فمن عبد غير الله فقد عبد الله؛ لأن الله قدّر كونا أن لا يُعبد إلا هو، هذا باطل عظيم البطلان؛ لأن (قَضَى) هنا بمعنى أمر ووصى؛ لأنه سبحانه هو الذي أثبت بالقرآن أنهم عبدوا غير الله ?وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[الفرقان:17، مريم:49]، و? أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5] فهو سبحانه هو الذي بين أنهم عبدوا غيره، وكلمة الغَيْرِيّة هذه واضحة، وكونهم عبدوا من دون الله آلهة أيضا واضحة، في أنه لا يمكن أن تكون قضى بمعنى أمضى. وهذا هو الذي ذكره شيخ الإسلام، و الوجه الثاني أن قضى هنا لا تكون بمعنى قدّر و إنما بمعنى أمر لمجيء (أنْ) بعدها فـ(أنْ) تفسيرية تكون بعد كلمة فيها معنى القول دون شروط القول، وكلمة (قدّر) ليس فيها معنى القول وليس فيها حروف القول بخلاف كلمة (أمر) فإنها في معنى القول، ولهذا إذا إخترنا القول في (أنْ) في قوله (أَلَّا تَعْبُدُوا) تفسيرية قضى بمعنى أَمَر واضحة، وكل منهما مترتبة على أخرى، يعني (قَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا)، (أمر ألا تعبدوا) من أجل التفسير بأَمر صارت (أنْ) تفسيرية، وأيضا كون (أنْ) مصدرية هذا فيه بحث.
¨ ... كأنه عندك إشكال لماذا خصّ الكتب؟ هو في الحقيقة لا إشكال في ذلك، لكن كقاعدة في الأشياء المتلازمة أنه قد يفترض أحد النوعين ويترك الآخر أو تترك الأشياء التي تلزم إكتفاءً بما ذكر، التكذيب بالكتب هو تكذيب بمن أُنزلت عليه الكتب، فنقول إن الإيمان بالكتب إيمان بالرسل، والإيمان بالرسل إيمان بالكتب، فالأشياء المتلازمة يُكتفى فيها بأحد النوعين. أكمل.(26/255)
([86])الفعل المشدد دخلت عليه (لم) الأصل أنه يجزم وتكون علامة جزمه السكون وتكون علامة جومه السكون، لكن إلتقى ساكنان؛ سكون التضعيف والسكون الذي هو علامة فلذلك غُيِّر إلى الفتح لسببين:
الأول: لأن الفتحة أخف الحركات.
والثاني: لأن الضم ممتنع لكونه حالة الفعل قبل دخول (لم) والكسر ممتنع لأن الفعل لا يجر أو لايدخله الجر.
هذه مثل: لم يَجُرُّهُ، لم يهمَّه...، إلى آخره، كل فهل مشدد في آخره إذا دخلت عليه (لم) أو حرف من حروف الجزم فإنه يكون مجزوم بسكون مقدّر.
([87])جماع الفرق يعني وأصل الفرق، جِماع الشيء يعني الأصل الذي يقوم عليه.
([88])بعنى (إلاّ) قال جل وعلا ?وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ?[يس:32] يعني إلاّ جميعم.
([89])يعنى ما دعا فاستجاب الدعوة؛ يعني الغالب بل الأكثر، وليس معناه أن له حقا في أنه ما دعا به يُجاب، فهذه لم يُعطها الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، الأنبياء ربما ردت دعواتهم كما ردّت دعاء نوح لابنه ?إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ?[هود:45] وكما ردت دعوة إبراهيم لأبيه?وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ?[التوبة:114]، وكما رد استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب وهكذا، فدعوات الأنبياء هي أعظم الدعوات التي تجاب، ثم الصالحون من أقوامهم ممن يقال فيهم مستجاب الدعوة يعني بأكثر دعواتهم، ويُرد منها كثير لأن إجابة الدعاء من آثار الربوبية والله جل وعلا له الحكمة فيما يأتي، فيما يفعل، وفيما يُقَدِّر، وفيما يجيب، وفيما يمنع، وهو سبحانه المعطي المانع.
([90])معنى يا سارية الجبلَ، الجبلَ: يا سارية إلزم الجبل، إلزم الجبلَ.
([91])هذه أمثلة كثيرة لما حصل للصحابة رضوان الله عليهم من كرامات، وما حصل لهم من الإكرام.(26/256)
([92])قاعدة في الكرامات مطبوعة”قاعدة في الكرامات والخوارق“ كبيرة لشيخ الإسلام أصّل فيها قاعدة الخوارق والآيات والكرامات والفرق بين هذه الأمور.
([93])مستغنيا هي الخبر.
([94])هذا الكلام المستفيض ذكر فيه شيخ الإسلام رحمه الله وأجزل له المثوبة وجزاه عنا وعن كل سنُّي خيرا، ذكر فيه الكرامات وأن الكرامة فرع معجزات الأنبياء؛ لأنّ كلّ كرامة لم تحصل إلا باتباع النبي عليه الصلاة والسلام، والذي لا يتّبع النبي عليه الصلاة والسلام لا تحصل له كرامة، وإنما الذي يحصل له خارق شيطاني من الشيطان وليس بكرامة من الله جل وعلا، إذْ الكرامة للمتبعين وليست للمخالفين، وباب الكرامات باب واسع، والكرامة تُعرّف بما يجريه الله من خوارق العادات على يدي ولي، والكرامة من لفظها إكرام للعبد وقد يكون هذا الإكرام لحاجته هو إلى ذلك أو لحاجة غيره، ولهذا حصول الكرامة لا يدل على رِفعة من حصلت له، فهو إكرام خاص، وقد يكون من لم تحصل له كرامة أُكرم بأنواع من الإيمان واليقين والصدق بما لم يكرم به من حصلت له كرامات، لهذا ذكر لك شيخ الإسلام أنّ الكرامات في التابعين أكثر منها في الصحابة لأجل ضَعف الإيمان وحاجتهم لما يقوي إيمانهم ولحاجة غيرهم ممن يراهم إلى اتباعهم واقتفاء أثر التابعين لضَعف الإيمان في الناس وضعف اليقين، فإذن الكرامات من حيث الأصل هي فرع معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، ولا تصل إلى قدرها وإن كانت تشترك معها في الجنس؛ يعني قد يحصل للولي من الكرامة؛ إجراء طعام على يديه لكن لا يبلغ قدْر المعجزة لأن يطعم بطعام الذي يأتي الولي يطعم به الجيش العظيم لكن يحصل له جنس الكرامة، يحصل له ما يشترك به مع المعجزة في الجنس، ومثل النار التي حصلت لإبراهيم عليه السلام قال لها الله جل وعلا ?كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ?[الأنبياء:69] هذه نار عظيمة أجج النار بنار عظيمة، فكانت معجزة لإبراهيم، حصلت لبعض الصحابة أنه(26/257)
أدخل النار فلم تضره لكن كانت نارا ليست على قدر تلك النار كانت نارا صغيرة وهكذا في أجناس ما سمعت.
إذن فكل كرامة هي معجزة للنبي؛ يعني مجموع الكرامات التي حصلت بالإتباع هي من جملة دلائل النبوة؛ لأنها ماحصلت للأولياء إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام.
الكرامات من حيث التقسيم، نحن نؤمن أهل السنة بكرامات الأولياء ونؤمن بما يجري اله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات، فالكرامات نصدّق بها، ونؤمن بأنها تحصل لأولياء الله جل وعلا، وهذه الكرامات على نوعين:
· الأول كرامة علمية: فالعلم قد يكون علما كشفيا بأن يعلم الخافي مثل علم أبي بكر بالجنين (بنوع الجنين، علم أبي بكر رضي الله عنه بنوع الجنين رأى بطن امرأته فقال فيها أنثى) وقد يكون علما بالسماع؛ يسمع ما لم يسمعه غيره، مثل سارية سمع كلام عمر، أو اسماع ما لم تجرِ العادة أن يُسمع مِنْ بُعد المسافة مثل الكرامة التي حصلت لعمر، وقد يكون الخارق العلمي من جهة التأثير على الخلق، فيكون العالم أوالرجل الصالح يُعلِّم يؤثر على الناس بعلمه أو بوعظه ونحو ذلك فيهديهم الله جل وعلا ويصلحهم على يديه، هذا نوع إكرام من جهة العلم والتعليم. له أمثلة كثيرة مما مرّ معنا، أدرج الأمثلة المناسبة تحت هذا القسم.(26/258)
· الثاني كرامة من جهة القدرة والتأثير: يعني أنْ يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، وأن يؤثر في الكونيات بما لا يؤثر عليه غيره وإن قلت يأثر ويقدر فهو إجراء الله على يديه ذلك، كما عرفنا الكرامة بقولنا: ما يجري اللهُ من خوارق العادات على يدي ولي. وليس معناه أنه يعطى القدرة بالتأثير، كما يقوله غلاة الصوفية حتى بلغوا فيمن يزعمونه وليا بأنه يقول للشيء كن فيكون، إنما يجريه الله على يديه إكراما له، وليس معناه أنه عنده قدرة دائمة في التأثير أو في قلب الأشياء أو ما أشبه ذلك، من هذا المثال: يُرسل النهر لسعد حتى يمر عليه ومن معه، وسفينة مسك بالأسد حتى أوصله مقصده, وأمثال كثيرة في أنواع القدرة.
إذن الكرامة من حيث هي حاصلة، الكرامة لا تدل على أن من حصلت له أعظم ممن لم تحصل له، الكرامة قد يحتاج إليها ضعيف الإيمان فتحصل له وتُحجب عن قوي الإيمان فلا يُعطى كرامة حسية من قدر وتأثير أو كشف علمي، وإنما يُعطى العلم التأثيري وأشباه ذلك، الخوارق سيأتي كلام شيخ الإسلام عليها وأنها تختلف عن الكرامات، الخوارق تجري على يدي المبتدعة، العصاة إلى آخر ذلك.
إذا تبين هذا، فالكرامة قد تحصل على يدي غير الولي، الأصل أنها لا تحصل إلا لمطيع، لصالح، لولي مؤمن متقي. وقد تحصل لعاصي وقد تحصل لمبتدع، وهذه الحالات القليلة إنما هي لتقوية إيمانه لضعفه أو لتقوية من معه على عدوهم لما معهم من أصل الإيمان مع عدوٍ معه الكفر أو لأنه ينافح عن الدين فيُعطى من الإكرام لأجل منافحته عن الدِّين في مقابل المشرك والكافر، لهذا يُشكل على البعض حصول طائفة من الكرامات أو الخوارق لمن هو مبتدع مثل ما قد يُذكر من حصول كرامات في أفغانستان لبعض الناس وفي قتالهم مع الملاحدة ويأتي طائفة ويقولون ليس بصحيح لأن هؤلاء مبتدعة ويفشو فيهم أنواع من الشِّركيات ويكذبون، وآخرون ويقولون رأينا بأعيننا فيصدقون فيحصل خلط، هل يكذب هذا أم يصدّق؟(26/259)
وقاعدة أهل السنة في هذا الباب أنّ هؤلاء يقاتلون الملاحدة، يقاتلون الكفار أعداء الله جل وعلا، فهؤلاء المسلمون الذين ينتسبون إلى أصل الإسلام قد يعطون شيئا من الخوارق لا لهم ولكن لإظهار الدين الذي معهم على عدوهم.
وهذا يحصل أيضا في باب المناظرات قد يأتي شخص من المعتزلة ويناظر نصرانيا فيُكرم بأشياء من الحجج ما خطرت بباله، وذلك لما له من أصل الإسلام في مقابلة ذلك النصراني المشرك، وقد يكون أشعريا مثلا يناظر وهكذ.
فإذن الكرامة التي تحصل للعبد ينبغي النظر فيها والتأمل فلا يُعجَّل بالإثبات ولا بالإنكار.
أيضا من قاعدة أهل السنة في الكرامة أن الكرامة لا يُتعلق بأصحابها بل هي إكرام لهم، ولا يُتعلق بصاحبها لأجل الكرامة والله جل وعلا أكرمه وأعظم من كرامة الولي كرامة محمد عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد مماته بالآيات وبالبراهين، بل وباصطفائه رسولا وخاتما للأنبياء والمرسلين ومع ذلك هو عليه الصلاة والسلام الذي حذّر أن يتخذ قبره مسجدا، وأن يُدعا، وأن يجعل قبره عيدا وأشباه ذلك لما حدثت لطائفة من الأولياء الذين حُكيت عنهم كرامات. فإذن حصول الكرامة لا تعني التعلق، بل لا يجب التعلق بمن حصلت له الكرامة لا في حياته ولا بعد مماته، التعلق غير الشرعي، أما التعلق الشرعي بأن يتأثر بالرجل الصالح وأن يصاحب لتقوية المصاحَب على طاعة الله أو أن يسأل أحيانا للدعاء، أن يدعو ونحو ذلك، فهذا لا بأس به لكن لا من جهة التعلق به. وهذا لمصلحة؛ لمصلحة عامة يحصل ذلك مثل ما طلب من سعد أن يقسم في الفتح وأشباه ذلك مما هو داخل في ضمن الفائدة العامة.
إذن فأهل السنة في باب الكرامات وسط؛ وسط بين المنكرين كالمعتزلة ومن شابههم كابن حزم وغيره، وبين الغالين كغلاة الصوفية الذين يجعلون الكرامة سبيلا للتعلق البدعي وأيضا لا يفرقون بين الخارق الشيطاني وبين الكرامة. سيأتي في هذه المباحث زيادة تفصيل فيما نستقبل. نقف عند هذا.(26/260)
· ...الكرامة مثل ما ذكرت لك ما يُجري الله من خوارق العادات على يدي ولي، أما على يدي نبي الآية والبرهان ما يؤتاه النبي مما يَعجز عنه الإنس والجن، فالأشاعرة عندهم المعجزة والكرامة متساوية في جنسها وقدرها؛ في الجنس والقدر متساوية؛ النار هي النار المعجزة التي تحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - تحصل للولي بنفسها لكن الفرق بينهما أنها تكون في النبي مقرونة بدعوى النبوة وبالتحدي في بعضها ليس في جميعها، وأما الكرامة فليست مقترنة بذلك. وهذا غير لازم؛ لأن الكرامات مراتب مختلفة في الجنس وفي القدْر وكذلك آيات الأنبياء مختلفة في الجنس والقدْر.(26/261)
· الرؤيا: هذا مثل يضربه الملك لروح النائم أو يُري روحه أشياء وهو نائم قد تكون دليلا على ما سيقع، أما تعبير الرؤيا فهو علم، والله جل وعلا يُعلِّم عباده تعبير الرؤيا. إما بقذف؛ يقذف في قلوبهم الصواب، وإما بالدلائل.ولهذا من عبر الرؤيا وهو ليس عالم بها فهو داخل في الوعيد?وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ?[الإسراء:36] والله سبحانه وتعالى سمّى التعبير علما ?وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ?[يوسف:21] فتأويل الرؤى علم وليس خرصا، ولا يجوز للمرء أن يقدم على تفسير الرؤيا في غير علم بها، العلم قد يكون بدليل منالكتاب والسنة، عندك الفقه في الشرع الفقه في حال السائل في حال الرائي ومعرفة يستدل بالشيء على الشيء لأنها أمثال مضروبة، والمثل قد يدركه صاحب الفِراسة، ويستدل بآية بحديث هذا ظاهر، وقد يكون أن وقع في نفسه تفسير الرؤيا كذا بدون دليل،لو تفكر لا دليل على ذلك أو شيء مستغرب جذا أن يفسره بهذا، وهذا كثير جدا في تعبير الرؤيا. إذن فالمقصود أن تعبير الرؤى علم، ومما ينبغي في آداب الرؤيا أن لا يتحدث المرء بالرؤى؛ إذا رأى رؤيا تسوؤه فيستعيذ بالله جل وعلا من شرها ويتفل عن يساره أولا ثلاثا ثم يستعيذ بالله جل وعلا من شرها وينقلب إلى الجهة الثانية كما ثبت في الصحيح، وإذا رأى رؤيا تسره يحمد الله جل وعلا عليها ويسال الله خيرها، فإذا أراد أن يقصها فلا يقصها إلا على عالم مأمون؛ لأن الرؤيا على رِجل طائر وفي رواية على جناح طائر إذا قٌصَّت وقعت، يعني مثل الطائر الذي له جناح إذا قص الجناح وقع وكذالك الرؤيا على جناح طائر إذا أولت وقعت، فلا ينبغي للمرء أن يعرِّض نفسه لمثل هذه المخالفات قد فيكون في تأويل الرؤيا شر عليه فإذا أمضاها تُركت.(26/262)
· ...هو ما ذكرنا أنه في مقابلة المشرك تحصل له لا في نفسه –لا تحصل للعاصي في نفسه، لا تحصل للمؤمن المبتدع في نفسه إنما تحصل له في مقابلة أهل الشرك في حرب أو مناظرة أو نحو ذلك، لنصرة الدين ، من جنس إنزال الملائكة ومن جنس تأييد الناس قد يؤيدون بأشياء ...
([95])استراق السمع موجود قبل النبوة، وفي أثناء حياة النبي عليه الصلاة والسلام، نبيا رسولا، وبعد موته عليه الصلاة والسلام فاستراق السمع لم ينقطع لكنه كان:
· قبل البعثة كان كثيرا جدا لحكمة يعلمها الله جل جلاله.
· وبعد البعثة ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا، فلم يصل مردة الجن، ولم يصل مسترق السمع إلى ما كان يصلون إليه قبل ذلك، وإنما قلت جدا، ولكنهم استرقوا بعض السمع ولكنهم لم يسترقوا السمع كُلاًّ، مثل ما جاء الحديث ابن صائد أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال «قد خبأت لك خَبْأ» قال: الدخ ، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - «إخسأ فلن تعدو قدرك» ولأنك كاهن سمعت الشياطين الكلمتين وأوحتها إليك الدخ لكن لا تدري البقية لأن الشياطين لا تحسن إستماع الوحي الذي يوحى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ربما تحدث أشياء في وقت النبوة مما يقضي الله جل وعلا به من الأمر في السماء، مما لا يختص بالوحي إنما هو من الأوامر الكونية وما سيحدث ونحو ذلك فتسترق الشياطين السمع فيصلون لكن بقلة.
فإذن الأحوال استراق الشياطين للسمع بالنسبة للبعثة ثلاثة: ما قبل البعثة الاستراق كثير، وفي وقت البعثة مدة الرسالة قليل أو نادر وبعد محمد عليه الصلاة والسلام زاد ولكن لا يوصف بالكثرة ولا بقلة؛ يعني زاد على ما كان في البعثة لكن لا يوصف بكثرة ولذلك كان قبل البعثة الكهان كثيرون يخبرون بالمغيبات، وبعد البعثة لا؛ موجود لكن قليل عما كان؛ يعني بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - قليل عما كان قبل حياته عليه الصلاة والسلام.
هذا من جهة.(26/263)
والجهة الثانية أن أولياء الشيطان تحصل لهم خوارق مثل الإخبار بالمغيبات فكون الرجل يكون عنده خوارق عنده إخبار بالمغيبات لا يعني أنه ولي، هذا غلِط فيه أناس كثيرفي عهد شيخ الإسلام ومن بعده يعتقدون أن من حصل له خوارق وإخبار بالمغيبات أنه ولي؛ هذا غلط كبير، الولي هو المؤمن التقي المتابع للسنة الموحد الصادق، هذا هو الولي، يجُري الله جل وعلا على أيدي هؤلاء بعض الكرامات، لكن إذا كان فاسقا فاجرا مفرطا عمل المحرمات يترك الفرائض فكيف يكون ما يحدث له كرامة إنما هذه خوارق شيطانية، فإذن الخوارق على هذا ثلاثة أقسام:
? القسم الأول: خوارق ليست في مقدور الجن والإنس وهذه هي الآيات والبراهين التي يؤتاها الأنبياء.
? والنوع الثاني: خوارق تكون على يدي المؤمن التقي، تجري على يدي المؤمن التقي، وهذه هي التي تسمى كرامة وهو دليل أيضا من دلائل النبوة لأنها ما حصلت لهذا إلا لاتباعه لنبيه.
? الثالث: خوارق تحصل للفجرة والكفرة وللعصاة الذين يرتكبون المحرمات ويفعلون الموبقات ويتركون الفرائض هذه تسمى خوارق شيطانية.
إذن حصول الخارق بنفسه بمجرده لا يعني شيئا في الحكم على صاحبه بل يُنظر في حاله.
([96])يقلبها يعني يقرأها من آخرها إلى أولها وهذا بالنسبة للآيات.(26/264)
([97])وهذا سحر من كتابة الآيات بالنجاسات وإهانة المصحف والعياذ بالله أو البول عليه والعياذ بالله، هذا من آخر مراتب السحرة يعني بتعلم السحر والعياذ بالله لا يكون كاهنا ساحرا تخدمه الشياطين وتعمل بأمره فيما يشتهي إلا إذا حصل منه الكفر، بهذه الأنواع كما قد ذكر في بعض كتب السحر المعاصرة والقديمة فالناس في زمن شيخ الإسلام وما قبله إلى زمن قريب من زمننا هذا كانوا يعتقدون في هؤلاء السحرة والكهنة، واليوم في بعض البلاد مثل ما هو موجود في المغرب فيما يذكرون، وفي لبنان وفي مصر أيضا على قلة لكن في المغرب يقولون بكثرة، وفي بعض البلاد يوجد أناس تخدمهم الشياطين ويخبّرونهم بالمغيبات وراج على بعض أهل هذه البلاد من أهل الفطرة راج عليهم أنّ أولئك قالوا الملائكة تخبرهم، الملائكة تخدمهم، هؤلاء صالحون ويظهرون لهم بصورة الصلاح، ويزعمون أن الملائكة هي التي تصنع لهم وتخدمهم، الملائكة لا تفعل شيئا من ذلك، ولم تخدم الصحابة في مثل هذه الأشياء، وإنما هذه من الشياطين، يخبرونهم بالمغيبات ويغيرون لهم الأشياء، وينطق الناطق وهو بعيد ويأتي ويقول الميت يقول كذا وكذا، أو يسمع صوت وأشباه ذلك مما ذكر.
المقصود من هذا البحث الذي ذكر شيخ الإسلام وأطال فيه من حيث الأمثلة، تأصيل القاعدة بأن الفرقان بين الخارق الشيطاني هوحال الشخص، فإذا كان من حصلت له الخوارق مطيعا لله ورسوله آمرا ناهيا صاحب تقوى، فهذا قد يُجري الله على يديه كرامات، وإذا كان عاصيا مخالفا مرتكبا للمحرمات تاركا للفرائض، عنده حب للنجاسات، وعنده إظهار للتعذيب بالنار أو الخوارق التي لا تحصل لأهل الإيمان لأنها أمور منكرة فهذه حال شيطانية، ولو إدعى أنها من الملائكة أو من صلاحه أو إلى آخره فهذه أحوال شيطانية.(26/265)
كذلك ما يكون من الأمور التي ذكرها من الأمثلة هذه يجب على المرء أن لا يكذب يقول لا ما حصل هذا، لأن الأشياء حصلت ويكون الذي رأى أنه حصل يقول حصل ورأيته بعيني فيحيل الداعية إلى الحق يحيل الموحد، يقول نعم حصل ولكن لم يحصل إلا من الشيطان، نعم سُمع الصوت من القبر وهو صوت فلان وكلمكم قال إفعلوا كذا أو غفرت لكم أو سألت لكم ربي أو شفعت لكم، لكن هو في الواقع صوت شيطان ليس صوت الميت، لأن الشيطان قلد صوت الميت ليغوي العباد فالأموات لا يخاطبون الأحياء، لا يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام الأحياء والصحابة ولا شهداء بدر ولا أكرم الناس، لم يخاطبوا الأحياء بأمور، وإذا الشيطان تكلم على لسان هذا الميت فيحصل من هذا التكليم إغواء تعلق وإعتقادات باطلة إذن فالشياطين مهمتهم الإغواء كما هو معلوم ?لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا(62)قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا(63)وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ?[الإسراء:62-64] صوت الشيطان يشمل كل ما يغوي الشيطان به العباد من الأصوات سواء كانت أصوات المخلوقين التي من جهة الشيطان أو تجد الشيطان نفسه في القبور في هذه الأحوال.(26/266)
فإذن يجب أن ينتبه إلى مثل هذه المسائل خاصة في البلاد التي يكثر فيها الجهل والإعتقاد بالكهنة والأولياء وما شابه ذلك وأن أكثر ما يحصل لهم من هذه الأشياء إنما هي من الشياطين، وبعضها خيالات، سبب إستطراد شيخ الإسلام في مثل هذه الأمثلة هو أن يُعلم القارئ الذي يقرأ كتابه أنه محيط بأحوال القوم حتى لا يقول قائل أنت تتكلم عنهم وأنت لا تعرفهم فذكر كل الأصناف الأصناف جميعا التي يحصل لهم الخوارق وتخدمهم الشياطين وأصناف ما يحصل لهم في الأطعمة في الأشربة في الطيران في الهواء في الماء وفي الإخبار بالمغيبات وفي المكث عند القبور والتمثل بالأشخاص كل هذه حصلت للناس وهو يمثل بها حتى يجمع ما بين معرفة واقع الناس وما بين تقرير الأحكام الشرعية حتى يكون أعظم في الحجة.
ذكر شيخ الإسلام في بعض كتبه لا أدري هل ذكرها هنا أم لا؟ أن الشيطان تمثل في صورته يقول وقعت مرة لطائفة من أصحابي ضائقة وكرب قالوا فرأينا صورتك يعني فرأيناك عندنا فاستغثنا بك، فأتيت وخلصتنا من العدو، فلما أخبره لما قدموا هنا قال لم آتِ إنما ذاك شيطان تصور بصورتي ليغويكم فاحذروا ، أو كما قال رحمه الله تعالى. فالشيطان بشهادة الثقات الجمع من أصحابه تمثل بصورته لذلك هند شيخ الإسلام هذا يقيني لأنه شهد به الثقات وهو يعلم بيقين من نفسه أنه ما تعدى بنفسه، كيف هؤلاء يقولون حصل لنا كيت وكيت وأنت جئت وخلصتنا لاشك أن هذا من الشيطان لذلك، يتكلم بأشياء مبنية على محسوس والمبني على محسوس لا يُكذَّب والذي ذكرتَه هذا يُرد عليه بما ذكر شيخ الإسلام عن نفسه لأنه لم يتخيل بحال الناس إنما ذكر عن نفسه هذه الأشياء. المسألة هذه تطول نقف عند هذا.(26/267)
([98])بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فهذه الجمل أوردها شيخ الإسلام المؤلف رحمه الله لبيان حال الذين تحصل لهم خوارق، وأنّ كثيرين من أهل زمنه، بل أن الكثيرين من أهل زمنه لا ينفكون عن أن يكونوا من أهل هذه الصفات إما أن يدعو الميت وإما أن يدعو به وإما أن يتخذوا قبره مكانا للعبادة، والطرق الصوفية بعامة تعلقت بالقبور وتعلق أصحابها وتعلق المريدون بالمشاهد هذه إما قبور من اتبعوهم من أصحاب المعرفة، مثل ما يُفعل عند قبر عبد القادر الجيلاني، ومثل ما يفعل عند قبر الرؤساء منهم في دمشق وفي مصر إلى آخره، هؤلاء صفتهم أنهم يتعلقون بالموتى واتخذوا القبور مساجد وعظموا تلك المساجد ولهذا ذكر لك أنّ هؤلاء الذين تحصل لهم خوارق هم من أهل البدع والشركيات، معلوم أن الكرامة لعبده إنما هي للمؤمن التقي، وأما أهل البدع والشرك فهم إن وقعت لهم خوارق فهي من الشياطين؛ لأنهم يضلونهم بغير علم وهذه الصّور الثلاث التي ذكر أن يدعى الميت بأنواع الدعاء:(26/268)
? إما باستغاثة به يقول يا ولي الله أغثني، أنجدني أنا في كفايتك، أنا في كنفك، أعني على هذا الأمر، أنا في غياثك يا غياث المستغيثين، أغثني ونحو ذلك، مما هو دعوة لغير الله جل وعلا فيما هو من صفات الرب جل جلاله، أو أن يدعى بالميت والدعاء بالميت له صور منها أن يسأل به في ذاته، يقول أسألك ربي بفلان بالميت بعبد القادر بالبدوي بالعندروس وأشباه ذلك، هذا إذا سأل بالميت يظن السائل أنه يحصل له حين ذلك قبول لسؤاله، وتحصل له أحوال عند القبر إذا سأل بالميت؛ لأن روح الولي تساعده والسؤال بفلان هذا وسيلة من وسائل الشرك وبدعة وخيمة، فلا يجوز لأحد أن يبتدع هذه البدعة، ولا أن يعمل بها هي أن يسأل بفلان كائنا من كان ولو كان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسألك بنبيك، أسألك بأبي بكر، أسألك بأهل بدر، أسألك بالولي الفلاني هذا كله بدعة ووسيلة إلى الشرك.
? الصورة الثانية للدعاء بالميت، أن يتوسل بما يظنه من منزلة للميت يقول أتوسل إليك ربي بحق فلان الولي عليك أتوسل إليك بعمله الصالح أتوسل إليك بمكانته عندك وحرمته عندك ، ونحو ذلك أو أن نقول أسألك بحقه أسألك بحرمته عندك بجاهه عندك ونحو ذلك هذه كلها داخلة في الدعاء به وهي أيضا بدعة ووسيلة إلى الشرك.
? أما الدعاء عند القبور فإنما شرع الدعاء عند القبور للميت وقد يدخل الحي تبعا، فالشرع جاء بالزيارة الشرعية للقبر والدعاء عند القبر للمقبور لا للحي وقد يدخل الحي تبعا في الدعاء فأن يقول الحي للميت: اللهم إرحم المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، أو يقول اللهم إغفر لأصحاب القبور ونور عليهم قبورهم، واغفر لنا ولهم ونحو ذلك، فيكون دعاؤه لنفسه أتى تبعا لأنه دعى للمؤمنين بعامة من أهل القبور، فيدخل هو تبعا لا استقلالا، أما أن يختص موقع قبر أو قبور أو المقبرة للدعاء للحي أو أن يدعو لنفسه فهذا من البدع المحدثة ووسيلة إلى تعظيم القبور والعبادة عندها.(26/269)
وهذه الصفات الثلاث موجودة عند أهل التصوف وأهل الغلو في الأولياء حتى قال قائلهم في قبر معروف الكرخي العابد المشهور قالوا فيه:
(قبر معروف الترياق المجرب ) يعني من أعياه شيء وأراد الاستشفاء من الأمراض البدنية أو الأمراض الدينية يعني كان عليه جنون أو أراد شيئا في أمره دينه أو دنياه فعليه بقبر معروف فإنه الترياق المجرب، يعني أن يدعى معروف أو أن يسأل به أو أن يدعى عند القبر، كل هذه الصور حاصلة، وإذا كانت هذه الصور من البدع والمحدثات وبعضها بدعة كفرية شركية، فمعلوم أن الشياطين تساعد أهل البدع، وتساعد أهل الشرك كما ساعدت أوائلهم، وأن أول الشرك كما ذكر هو قصة قوم نوح في عبادة ودّ وسواع ويعوق ونسر، ولما عبدوهم أغوتهم الشياطين، وصار عندهم أحوال وآراء وكلام تنطق، وربما خرج من القبر وتصور بصورته وتكلم بصورته إلى غير ذلك مما ذكر، لهذا جاء في هذه الشريعة النهي الشديد عن اتخاذ القبور مساجد «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا لا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» وأن من اتخذ القبر مسجدا يعني فصلى عنده أو دعى عنده واختصه بذلك فإن هذا مبتدع وملعون فكيف بمن عبد صاحب القبر واستغاث به لا شك أن هذا أعظم «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» هذه وصية قالها عليه الصلاة ولسلام في آخر حياته وصية أوصى بها الأمة وحذرها من ذلك، فإذا كان هؤلاء من أهل الشرك والبدع والخرافات فإنه يحصل لهم خوارق، وهذه الخوارق من الشياطين ليست كرامات، فإذن لا بد أن يكون ثم فرقان بين الكرامنة والخارق الشيطاني، فالكرامة هي للمؤمن المتقي المتبع للسنة، أما الخارق الشيطاني فهذا يحصل لكل من تولى الشيطان، تولاه بطاعته في الشرك وفي البدع والخرافات وفي التعلق بغير الله جل جلاله.(26/270)
إذا تبين ذلك فأصحاب الطرق الصوفية في زمن شيخ الإسلام كان عندهم كل هذه أنواع التعلقات؛ التعلق بالقبور، التعلق بالأوثان، التعلق بالأولياء، كان عندهم اعتقاد بالشيخ حتى إنهم يعتقدون فيه أنه يَعلم ما في النفس، حتى ولو بَعُدَ، كما قال قائلهم لأحد مريديه إذا هممت بمعصية فتذكر أني أعلم حالك، هذا لا شك أنه من إدعاء ما ليس له، وبه حصل التعلقات لأنها تربية غير شرعية فهي إن كان نطق بها الأول يريد تخويفه ويريد تربيته لكن هذا إدعاء لشيء من أمور الغيب، والعياذ بالله، ولهذا حصل من التربية الباطلة السلوكية حصل الشرك والبدع وأنواع من الضلالات.(26/271)
المقصود من هذا أن المكلف الذي يتعلق بهذه البدع بالقبور ودعاء أصحابها وبالبناء على القبور هذه المشاهد الشركية أو بسؤال أصحابها أو السؤال بهم أو الدعاء واختصاص القبور بمزيد مزية، هؤلاء قد تخدمهم الشياطين، وقد تظهر له من القبر من قبر فلان يسمع صوت المدفون هو يعرف صوته؛ من مشايخه ثم يخبره بأشياء فعلها هو فعلت في بيتك كذا وهذا يبقى متعلقا لا يدري أنّ حقيقة الحال أن هذا شيطان، والجن يرونها من حيث لا نراهم ?إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ?[الأعراف:27] فالشيطان ولي لغير المؤمن ينصره ويساعده ويذله، لهذا ينبغي على الناظر في مثل هذه الأحوال، أو الذي يُناظر الذي يذكر مثل هذه الأحوال أن لا يبادر بإنكار وقعها يقول مثل هذا قد يقع، قد يكلمك الميت قد تسمع أصوات، قد يخبرك فلان بالمغيبات، لكن الذي يخبره بهذه الأشياء ويحصل له هذه الخوارق إنما هي الشياطين، لأنها ولية لأهل البدع والشرك، والشيطان يريد بالعباد أن يقعوا في الشرك والبدع التي هي وسائل الشرك هي طريق الشرك، وبريد الشرك لذلك يعينهم الشيطان، فيؤول الأمر أن هذا من فعل الشياطين فلا ينفى وقوعه لأنه وقع وشوهد لكنه يكون خارقا شيطانيا وليس كرامة، فالفرق بين الكرامة وبين الأحوال الشيطانية ظاهر وهي أن الكرامة يؤتاها المؤمن التقي تعالى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] فالولي هو المؤمن التقي ? لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا?[يونس:64] ومن البشرى الكرانات التي قد تحصل لبعض عباد الله أما من ليس على الإيمان والتقوى والسنة من أهل البدع والشركيات هذا تحصل له الخوارق ولكن ليست بكرامات إنما هي خوارق شيطانية إما من جهة القدرة أو من جهة الغنى أو(26/272)
من جهة العلم تحصل لهم خوارق عديدة، مثل ما ذكر نقل في الهواء ولما قال لا إله إلا الله ذهب الشيطان الذي يحمله فسقط، ومثل أن يعلم ما في البطن ومثل أن يغيث في وقت الحاجة، ويكلمهم ويخبرهم بأشياء مخفية كل هذا من فعل الشياطين، والإنسان يعلم قصوره وأنه لا يعلم الغيب? قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ?[النمل:65] سبحانه وتعالى.
¨ هي لا تنسب إليهم بعد الممات، بالنسبة للخارق الشيطاني يحصل لهم في الحياة، أمابعد الممات فليس له لأنه إنتهى لكن الشيطان يضل به ليس خارقا له لكن يضل به مثل ما يحصل عند القبور الشيطان يضله ليس خارقا له لأنه انتهى، وأما الكرامة فإن العبد المؤمن قد يكرم بعد مماته، يكرم في أحبابه يكرم فيمن يعطف عليهم، فيمن يرحمهم، مثل ما أكرم الله جل وعلا به أمة محمد عليه الصلاة والسلام بعد وفاته بأشياء كثيرة فهذا لأجله محبته عليه الصلاة والسلام لنا، ومثل إكرام الله جل وعلا للعبد الصالح الذي يموت فيصلح الله جل وعلا عقبه ويحفظ لهم دينهم وأموالهم إلى آخره كما جاء في سورة الكهف ? وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ?[الكهف:82] فبسبب الصلاح أكرم الأبناء وهكذا، فإذن بعد الممات الموتى لا ينسب الخارق ولا الإكرام للميت وإنما يقال الشياطين فعلت أو أكرم الله جل وعلا فلانا بعد وفاته بكذا بصلاح أحبابه، بنفع من يحب، بنفع الأمة إلى آخره، أما الميت فلا يحصل له كرامة في نفسه فيما يراه الأحياء كرامته في الجنة عند ربه جل وعلا.(26/273)
¨ ليست منزلة صورة ثانية، صورة مثل السؤال بالذات، لكن السؤال بالذات أعظم وسيلة للشرك من السؤال بالجاه، أو بالعمل أو بحق فلان، الصوفية عندهم كتب في السؤال بالمنظومات في السؤال بالذوات مثل منظومة تسمى جالية الكدر بالسؤال بأهل بدر، منظومة كل بيت نها سؤال بواحد من الصحابة، الصوفية يعظمون السؤال بالموتى كثيرا، السؤال بالذات أعظم وسيلة، السؤال بالحق والجاه أقل منه لكن كلها بدع ووسائل للشرك. هي طريق لتعظيمه بدعة وليست شركا، بدعة واعتداء في الدعاءلأنه لم يأتِ بها دليل ولا وسنة ووسيلة إلى أن يعظم السؤول به فيسأل من دون الله، أول ما حدث كان السؤال بالذوات قبل أن يحصل دعاء غير الله مباشرة كان السؤال بالذوات نسألك بفلان وفلان كثر هذا ثم حصل الشرك بسؤال الميت، نسأل الله العافية، لهذا تجد أن شيخ الإسلام في بعض المواضع يسمي سؤال الميت الشفاعة بدعة والسؤال به بدعة وذلك لأنها لم تكن عند المشركين حتى طوائف مشركي العرب لا تعرف الاستشفاع به مباشرة يعني يقول اشفع لي لكنهم يعبدون ليشفعوا، لكن اشفع لي يا لات اشفع لي يا عزى هذه ما فيه ولكن يعبدون ويتقربون ليشفعوا ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3] فهم يرومون منها الشفاعةلذلك سماها بدعة في بعض المواضع لأنها بدعة حدثت وليست سابقة وهي بدعة كفرية شركية، مثل الشرك نقول محرم ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[الأنعام:151] البدعة لا يعني أنها ليست بشرك، تكونشركا أكبر وبدعة هذا باعتبار أنها حدثت في الأمة، فالبدع منها بدع كفرية شركية مخرجة من الملة منها بدع ما دون ذلك، لكن في تعبير أهل العلم العام يعني الذي يجري ومشهور أن يُختص البدعة لما دون الشرك أذا أردت أن تعبر سنعبر عن البدعة بما دون الشرك، فإذا كانت المسألة شركا أكبر ننص عليها نقول شرك أكبر مخرج من الملة أو(26/274)
شرك أصغر أو نحو ذلك.
([99]) ذكر في ما سمعنا عدة مسائل:
· المسألة الأولى منها: أنّ طائفة ممن تحصل لهم الخوارق تعبّدوا بعبادات بدعية منْ مثل الإنقطاع والذهاب إلى المغارات والجبال والبراري والخلوات يتأملون ويتعبدون وينقطعون عن الناس، فتجد أنّ طائفة منهم يأوون إلى الغيران أو إلى الأودية ويلبسون ملابس الحيوانات يعني صوف الحيوانات ونحو ذلك رغبة في التقشف والبعد عن الملذات وأيضا رغبة في التفكر، ولا شك أن هذه الطريقة لتحصيل الإيمان طريقة بدعية مذمومة، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر بها بعد نزول الوحي عليه، وإنما كان يتعبد ويتحنث في الغار يعني في حراء الليالي ذوات العدد في السنة قبل نزول الوحي عليه، ولما نزل الوحي عليه ونبئ ربما أتى إلى الغار، ثم لما بُعث للناس ترك عليه الصلاة والسلام ذلك تعبدا، فإذن إحداثه بدعة فلم يأمر به عليه الصلاة والسلام بل أمر بمخالطة الناس والصبر على أَذَاهُم قال عليه الصلاة والسلام«الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» فإذن التَّخَلِّي في بمثل هذه الطرق والابتعاد يضم هذا المحذور ويضم محذورا آخر، وهو أن فاعله يسير وحده ويبيت وحده ويأوي إلى هذه الغيران وحده، وهذه أشياء تأتي معها الشياطين كما قال عليه الصلاة والسلام«الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب»، فهؤلاء لما أَوَوْا إلى المغارات وتعبدوا بها العبادات البدعية جاءتهم الشياطين، وذكر أحوالهم وذكر أنواع ما يحصل في الجبال إلى آخره، وهؤلاء تأتيهم أحوال كلامية؛ يعني يسمعون من يكلمهم ومن يحضر لهم الغيلان بكلام رجال وتارة يكون فيه صور رجال لا يعلمونهم، وهذه الأنواع سمتها الصوفية رجال الغيب؛ يعني الرجال الذين لا يُعرفون ويأتون ليخدموا ولينصروا الولي وهم غائبون لا يُعرف من هم، وكما ذكر لك شيخ الإسلام أن الرجل إذا انقطع فإن الشاطين تعينه والذين يعينونه هم رجال(26/275)
الجن فإذا كان رأى رجلا فإنه رأى جنيا والجني قد يتشكل في صورة رجل وقد يسمع صوت رجل، إلى آخره، قالوا الآن تقريبا انقطعت إلا في قلة جدا في العالم، لكن مثل هذه الأحوال والانقطاع للتعبد والنظر والتفكر هذه إنقطعت على هذا النحو.
· المسألة الثانية التي عرض لها: هي أنّ الخوارق التي تحصل، الناس في التصديق بها والتكذيب ثلاثة أقسام كما ذكر:
1. قسم مكذِّب مطلقا.
2. قسم مصدق مطلقا.
3. والصواب أنها لا تصدق ولا تكذب؛ بمعنى نقول ليست هذه كرامة من الله -من جهة التكذيب- والواقع حصلت -من جهة التصديق- لكنها من جهة الشياطين.
والعياذ بالله لما دخل الإستعمار ودخل جنود المشركين الكفار إلى طائفة من بلاد الإسلام في القرون المتأخرة، ورآهم مَن رآهم من الصوفية سماها -سمى تلك العساكر الشركية الكفرية- سماها طائفة من الصوفية رجال الغيب؛ يعني أن هؤلاء الرجال الذين ينصرون الأمة بالغيب ...كرامة وهذا ولا شك بسببه تمكن الكفار من بلاد المسلمين، فأعظم من مكن لهم الصوفية الذين إما تركوا الأمر قالوا توكلنا على الله ولم يفعلوا سببا، أو قالوا هؤلاء رجال الغيب الذين يخدمون المؤمنين، وهذا من جراء الاعتقادات الفاسدة والباطلة.(26/276)
· المسألة الثالثة التي ذكر: هي مسألة السماع-السماع مما تكلم فيه العلماء من قديم- وكان الناس يتعبدون به في أول ما حدث من جهة ما يسمى التغبير كما قال الشافعي في من أحدث التغبير في بغداد، والتغبير سمي تغبيرا لأنهم يأخذون جلودا قديمة يَبِسَتْ عليها تراب والغبار فيبدؤون –يعني لأنهم ... متزهدون كما يزعمون- فيضربون عليها بالعصي فتحدث صوتا كصوت الدف، فيترنّمون به مع الأشعار، فسمي الفعل مع الإنشاد تغبيرا؛ لأنه يظهر معه الغبار، وحقيقة التغبير هي إنشاد الأشعار الزهدية مع استخدام الدفوف، هذه حقيقة التغبير، والأشعار الزهدية أحدثها طائفة من المتزهدة لتنشد في مقابلة الغناء المحرم الذي انتشر في عهد الدولة العباسية، انتشر الغناء المحرم والمعاوف يعني في أنواع من الألحان موجودة في كتب ومعروفة وأصوات، فأحدثوا هذا في مقابلة ذاك، وتدرّج الأمر إلى أن صاروا يتقربون إلى الله بسماع الدف نفسه والطبول والمزمار الذي هو القصب يعني لأنه هو القصب؛ قصب السكر يؤخذ ييبّس ويفرّغ وبعد ذلك ...ثم يكون منه مزمارا، فأصبحوا يتقربون إلى الله بذلك، ينشدون الأشعار الزهدية، ويترنمون بهذه الأصوات يعني بالقصب وبالمزمار والطبل بأشياء محزنة، ومعلوم أن هذه الآلات قد تُستخدم بألحان يكون معها نشوة، وقد تُستخدم بألحان يكون معها حزن ورِقّة، فلهذا هم استخدموها في جانب الحزن والرقة والبكاء، وأثّرت على النفوس وبكى من بكى من سماعها، وأثّرت في القلوب وفي ترقيقها ظنّوا أن هذا مشروع؛ لأنها أحدثت أمرا مشروعا وهو البكاء والخوف من الله جل وعلا، فظنوا أنّ وسيلته مشروعة فلهذا ألفوا فيه من ألف من أهل العلم في السماع وفي ذمه، وأنه مما أحدث في مؤلفات كثيرة معلومة لدى المطلع، آلَ الأمر بعد زمن إلى أنْ يصحب هذا السماع رقص، والرقص ليس على صفة الرقص الذي ترونه الآن من الصوفية، لا. هو أول ما بدء رَقْصُ تمايل من التواجد كما يقولون، والتمايل من(26/277)
جراء أثر هذا السماع، فهو من جهة خوفه ورقته وترنمه وانشغاله بهذا السماع ورقة قلبه، أصبح يتمايل ويتمايل، ثم آل الأمر حتى أصبح التمايل مقصود، إلى أن صار هناك أناس يأدونه، فصار طقوسا وشعائر عندهم مع الزمن، هذه كلها أمور لا شك أنها محدثة، أرادوا منها؛ من السماع؛ سماع الأشعار أو سماع المزامير هذه، أرادوا منها رقة القلوب، وأرادوا منها الإستعاظة عن سماع المعازف والسماع الشيطاني، وآل بهم الأمر إلى أن كان سماعا شيطانيا.
ومعلوم أن السماع الذي يحرك القلوب ويبعث فيها الإيمان ويبعث فيها الخوف والرجاء والمحبة وأنواع العبادات القلبية ويثمر العمل إنما هو سماع القرآن هذا هو السماع المشروع?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ?[الحشر:21]، وقال جل وعلا أيضا ?إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا?[مريم:58] من شدة ما سمعوا وتأثُّرهم به، وكما ذكر لك لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام قراءة أبي موسى الأشعري وحدّثه فقال أبو موسى: له لو علمت بك لحبّرته لك تحبيرا. وقال عليه الصلاة والسلام «زينوا القرآن بأصواتكم» القرآن حجة الله الباقية وفي نفسه مؤثر، ولكن مطلوب أن يُزيَّن القرآن بالصوت؛ لأن الصوت من جهته يحصل نوع تأثر فالتأثر يكون بالكلام وبنغمة الصوت؛ رنة الصوت، ولهذا أوتي داوود مزمارا؛ كان داوود إذا ترنم فكأنما يسمعون مزمارا، وهذا التلذذ بسماع القرآن هو السماع الشرعي الذي به تحيا القلوب، وبه يكون الإيمان، وتعظم أنواع العبادات القلبية النفس، الخوف من الله جل وعلا وإجلاله وتعظيمه؛ لأنه يسمع كلام الملك العلام الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، إذن فهذا السماع هو سماع أهل الإيمان.(26/278)
أما سماع المشركين فهو كما كانوا يفعلون عند البيت ?وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً?[الأنفال:35] يعني دعاءهم عند البيت كان مكاء يعني صفيرا؛ لأن المكاء في اللغة هو الصفير، (مَكَّ) يعني صَفَر، والتصدية هي التصفيق، كانوا يتعبدون بذلك برنة يعني يَصْفِرُونَ ويصفِّقون برنة للتأثير على القلب.
الله جل جلاله جعل سماع أهل الإيمان سماع القرآن ?وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?[الأعراف:204]، فإذن أنواع السماع التي يظن أنها فيها فوائد من سماع الألحان لما يكون غير القرآن هذا كله من المحدثات، ومن جنسه ما حدث في هذا الزمان من الأناشيد التي يسميها الشباب الأناشيد الإسلامية التي فيها استعمال الدفوف أو تحتوي على معنىً باطل أو تكون جماعية، هذه كلها من المحدثات.
فإذا كان النشيد الذي هو الشعر جماعيا هذا واحد، أو كان معه دف أو كان مشتملا على معنى باطل إما من جهة العقيدة؛ الإستغاثات، مخاطبة الموتى، أو من جهة التحنيث الباطل ونحو ذلك، هذه كلها منكرة وهي شبيه بألحان وسماع الصوفية، ولهذا إنما جاءت الأناشيد من جراء التربية الصوفية لبعض الجماعات الإسلامية.(26/279)
أما نشيد المرء بمفرده فلا بأس، حتى ذكر العلماء أن المرء ليترنم ببيت أو ببيتين من الشعر وترنم بها فهذا لا بأس به، يعني لو كان وحده وكان قليلا، يعني أراد أن يرفع صوته بشيء فهذا لا بأس به، يعني أنه ليس بمنكر لأن النفس قد -كما عللوا- قد تحتاج، بحث هذا السّفاريني في شرح منظومة الآداب، وبما هو معروف في محله. المقصود أن إنشاد المنشد وحده بقصيدة في محل لا بأس به، إذا كان وحده ينشد قصيدة لكن لا يستعاض عنها أو يكون سماعا مقصودا يعني يرقق القلوب بها وتُكرر ويصبح ترقيق القلوب بمثل هذه القصائد التي تتكرر، هذه كلها من جنس سماع الصوفية وقد تفضي إليها, سماع المؤمن هو القرآن، لهذا تجد أن الذين انفتحوا على هذه الأشياء ما يستلذون القرآن، ومن استلذ القرآن وأذن له وسمعه وتلاه أو حفظه هو وقام به فإنه لا يأنس لتلك الأشياء؛ لأن الله جل وعلا قذف بالحق على الباطل?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ?[الأنبياء:18].
¨ ...الرياء هذا بحسب النفس؛ يعني مثلا قد أُحسِّن قراءتي بالقرآن لأجل أنْ يقال قراءته جيدة هذا رياء، وقد أحسِّن قراءتي بالقرآن وأتباكى أو أبكي لأجل أنْ يتأثر السامع هذا مشروع «إقرأوا القرأن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا»، «زينوا القرآن بأصواتكم» النية هي المدار، وأبوموسى الأشعري رضي الله عنه يريد أن تكون قراءته أعظم تأثيرا للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه إذا كان حدث للنبي عليه الصلاة والسلام خشوع وتعظيم وعبادة حين سماعه لأبي موسى فله هو أجره فهو يريد هذا الأجر العظيم الذي حصل بسببه لأفضل الخلق عليه الصلاة والسلام.[انتهى الشريط الثامن]
¨ ...كلامنا في أي القسمين؟ كلامنا فيمن اتخذ السماع عبادة، أما الذي يسمع للهو؛ يسمع المعازف لغير العبادة فهذا ليس الكلام فيه، نحن تكلمنا فيمن سمع للتعبّد، المعازف معروف الكلام عليها والغناء يعني تصحبه معازف وألحان.(26/280)
سكر مثل ما ذكر شيخ الإسلام أن الغناء يحدث سكرا، السكر يحصل بثلاثة أشياء: بالهوى وبالغناء أو بالخمرة، الهوى يعني هوى الرجل للصور للمرأة وبالخمر وبالغناء فإذا اجتمعت الثلاث سكر العياذ بالله من جميع الجهات؛ سكر عقله وسكر بدنه إلى آخره، فإذا لم يكن خمر يكن سكر، الهوى يسكر بمعنى أنه يغطي العقل عن الصواب يعني يكون خمرا للعقل يغطي العقل عن إدراك الصواب، كذلك الغناء من استبانه وألف له –الغناء المحرم؛ المعازف المحرمة والغناء المحرم-فيحدث لصاحبه السكر والعياذ بالله، فهذه أنواع السكر إذا اجتمعت طغى السكر على صاحبه؛ يعني صار في أقبح أنواع السكر والعياذ بالله.
¨ ... مثل ما قال الصوفية وهذا كلام الصوفية، التغبير أو ما حدث لأجل الترقيقأول ما حدثت عندنا يعني في بيتنا؛ أذكر أنه أول أناشيد جاءت يمكن في حدود عام 96هجري أو 97 أذكرها وكانت تباع بالسر والدَّف كان فيه تسجيلات في البطحة في ... بالدَّف يعني الناس... يكفي أنها منكرة هم عارفين أنها منكرة، ثم بعد ذلك أصبحت تمارس في بعض المعاهد في الأندية الصيفية حتى ألفها الناس، أول ما جاءت الأناشيد السورية لا أدري موجودة الآن أو لا؟ كان معا طبل، بَعْدِينْ جاءت أشياء معها طبل لا أدري إيش، وتوسعوا فيه إلى أن صارت أناشيد متنوعة يعني أغاني متنوعة بعضها خليط وبعضها محلي وبعضها كذا، والله المستعان.
قد يُحتاج إليها للصغير –صغير السن دون التكليف- ، قد يُحتاج إليها في شخص إنتقل من الغناء، يعني هذه الحالات تقدر بقدرها، يعني يقدرها العالم أو المفتي أو المربي بقدرها على حدودها، لكن أنها تكون منهج أو أن تكون عادي ما فيها شيء، الأصل فيها أنها منكرة، الإجتماع عليها منكر.(26/281)
مثل ما قلت لك أنا هذا الضابط الذي قلت لك ما فيه مانع، كان العلماء يتعاطون بعض الأشعار التي يقرأها أحدهم في مثل هذا ... مع الترنم بها ، يعني فيه سماع له، ..... ما يكون المقصود سماع تلذذ، سماع تعبد، ما يكون سماع تلذذ ولا تعبد، يكون سماع فائدة لا بأس، سماع الفائدة مطلوب، لكن سماع التلذذ للحن هذا ما يصلح، إذا كان سماع تلذذ للحن لا يصلح ؛ للحن، أما إذا كان فائدة يسمعها للفائدة هذا من جنس ما يُقرأ من الأشياء.
([100])آية مكررة في سورة الرحمن 31 مرة.[المفرغ]
([101])هذا إذا كان، إذا كان صحيحا يعني قد يأمرهم وينهاهم مثل ما حصل لسليمان عليه السلام، كل ملَك يأمر وينهى، إذا كان، فهذا يكون بمنزلة الملوك مش بمنزلة المحتاج ما يخرج عن هذا القسم، هو يأمرهم وينهاهم لأنه كالملك عليهم، أوامر كثيرة يدخل ضمنها الأمر الواجب، كذلك عندك في النسخة الثانية (إذا كان يأمرهم) يعني من كان استعملهم في أمر مباح وهو مع هذا يأمرهم وينهاهم بما يجب عليهم فهو كالملك لأن الملك يسعى في صلاح رعيته وهو يجمع ما بين الاستفادة منهم في الأمور المباحة وأمرهم ونهيهم ما يجب شرعا.
الحال الأولى: حال الكُمَّل.
الحال الثانية: هذه موارد زلل.
¨ .... تعرف أصلا أن استخدام الإنس والطلب منه، تعرف الأصل فيه المنع، هذا يعني رتب هذا على هذا، يعني أن الأصل الترك ، يعني وإن عرض يعني عرض جني وقال أخدمك، إن عرض جني وقال أنا أدلك على الطريق، مثل واحد ضاع في فلاة، وقال أنا أدلك على الطريق، أو أشباه ذلك فإن قال له دلني ، فلا بأس، باعتبار أنه حاضر يقدرويسمع، فإن تركه فهو مثل استخدام الإنس وقال له أنا لست محتاج لك، أنا بَدُلْ الطريق بنفسي ، يعني المقصود في أصل المسألة، موش في الاستعانة، يعني فيه أناس يرفضون حتى الاستفادة من الإنس على الأمور المباحة... خاصة الذين يسعون في الكمالات السلوكية.(26/282)
¨ ...ما فيه شك، هو مثل استعمال الإنس ، استعمالك في أمور مباحة، يعلم الإنسي أنها مباحة، هذا إذا جاءه الجني؛ عرض له -مسلم أو غير مسلم- لا بأس به، إذا كان الأمر مشتبها عليه ما يدري فلا بد أن يكون مسلما مثل استخدام الانس لأنه لا يأمن الجني الكافر ولا يشترط هنا؛ لا أعرف أن أهل العلم قالوا تسأله مسلم أو كافر، لكن إذا جاء من جهة الكيد فيحذر الجني، إذا جاء من جهة قبول الخبر: الجني خبره ضعيف لا يصدق إلا أن يكون على البرهان، مثل بعض الناس يجيءه الذين يقرؤون يجيء الجن ينطق يقول هذا فيه بلاء أو يعلمه بعض الأشياء وزوجته ما أدري أوش سوّت، خبر الجن أصله ضعيف ما يصدق لأن الجن هذا لا تعلم عدالته ولا تعلم صدقه ولا تعلم ديانته، كيف تأخذ خبره وتنقله للإنس؟ يحصل مشاكل يحصل مصائب وقطيعة بسبب نقل خبر الجني إلى الإنس، يقول فيكم بلاء مسويلكم كذا وكذا، أم الزوج فعلت فيك كذا وكذا من جهة الجني، والجني خبره ضعيف ما يصدق فلا يجوز نقله حتى تعلم عدالته، العلم بعدالة الجني متعذرة، ولهذا قال أهل العلم في المصطلح ؛ مصطلح الحديث وحديث الجني ضعيف؛ يعني إذا كان في الإسناد جني فالإسناد ضعيف وفيه روايات كثيرة معروفة في أسانيدها جن لكن هي ضعيفة.(26/283)
([102])هذا الفصل ذكر فيه شيخ الإسلام رحمه الله أحوال الجن من جهة التكليف ومن جهة النبوة ومن جهة إستجابتهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وما أنزل الله جل وعلا فيهم من قرآن يُتلى، ومن جهة علاقة الإنسي بالجني، وسبب هذا الفصل أنّ طائفة من الذين يدعون الوَلاية يقولون نستخدم الجن فيما ينفعنا، وهذا كان كثير في أنه يكون للإنسي ولي من الجن يساعده على أمور، والجن كما ذكر سابقا هم الذين يعينون أصحاب الخوارق؛ بل يعينون من يدّعون الوَلاية من أهل البدع والفجور والشركيات، يعينونهم على الخوارق ويفعلون بهم أشياء حتى يغووا الناس بهم. فالمقصود من هذا الفصل هو أن علاقة الإنس بالجن مبيّنة في الكتاب والسنة وأنها ليست متروكة لإجتهاد الناس فيما يرون أنه ينفع، فالنبي عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس بعامة، وهذه البعثة معناها أنهم يؤمرون وينهون، وأنّ التكليف الذي على الإنس تكليف على الجن، وأن الجن ليسوا بخارجين على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فإذن ما يكون بدعة في حق الإنسي هو بدعة في حق الجني، وما كان وسيلة إلى الشرك في حق الإنسي يكون وسيلة إلى الشرك في حق الجني، وما كان شركا في حق الإنسي يكون شركا في حق الجني، لهذا كان الساحر الذي يستخدم الجن كان كافرا لأنه استعان بهم في أمور أشرك فيها وأولئك دعوه إلى الشرك فصاروا هم كفارا وصار الساحر أيضا كافرا، كما قال جل وعلا ?وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ?[البقرة:102] ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «حَدّ السّاحِرِ ضَرْبه بالسّيْفِ» أو «ضَرْبة بالسّيْفِ» الصحيح أن هذا حد ردة وليس حد تعزير أو حد قصاص؛ كما هو مبسوط في موضعه. إذن فالجن مخاطبون بمثل ما خوطب الإنس لهذا من الجن مسلمون ومنهم مشركون، من الجن يهود ونصارى وسنة وبدعة إلى آخره، كما أن الإنس فيهم ذلك، إذا تبين هذا فللإنسي مع(26/284)
الجني كما ذكر أحوال:
1. أكمل هذه الأحوال أنه إذا علم الإنسي بالجني فإنه يكون فيه في مقام ورثة الأنبياء؛ أنه يأمره وينهاه؛ يأمره بطاعة الله وينهاه عن معصية الله، كما يحصل لبعض أهل العلم إذا قرأوا على أحد وكلمهم الجني الذي يكون متلبسا بالإنسي فإنه إذا نطق فإنهم يعلمونه التوحيد وينهونه عن الشرك ويأمرونه بالإحسان وينهونه عن التعدي والظلم الذي منه دخول الجني في هذا الإنسي، فيأمرونه بما أمر به الله جل وعلا به ورسوله وينهونه عما نهى الله جل وعلا ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا كان عليه الصلاة والسلام وورثة الأنبياء يفعلون ذلك لا يطلبون منهم ولا يسألونهم بل يأمرونهم وينهونهم ويتلون عليهم القرآن والسنة إقامة للحجة عليهم وتعليما لهم وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر كما يفعل هذا مع الإنسي، سواء بسواء لأنهم مكلفون.(26/285)
2. والحال الثانية أن الإنسي قد يحتاج إلى جني في أمر مباح، وهذا لا حرج أن يستخدم الإنسيُّ الجنيَّ إذا إحتاج إليه في أمر مباح؛ لكن هذا بشرط وهو ألاّ يكون هذا ديدنا له؛ يعني يؤاخي قرينا من الجن أو إذا احتاج علما أو خيرا طلب من جني معين، بل الاستخدام الذي قاله هنا شيخ الإسلام (ومن كان يستخدم الجن في أمور مباحة) يعني إذا عرض له الجتي استعمله في أمر مباح، أما أن يكون الجني مآخيا مستخدما دائما هذه ليست بالحالة الجائزة؛ لأن هذه تفضي إلى محرم والله جل وعلا قال في وصف الإنس والجن ?رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ?[الأنعام:128] ومعنى الاستمتاع يعني الديمومة؛ أن الجني يستمتع دائما بالإنسي والإنسي يستمتع دائما بالجني، كما يستمتع الرجل بصديقه الدائم معه وكما يستمتع الرجل بنسائه وأهله إلى آخره بما يكون ملازما له، إذا عرض له فإنه يخاطبه وقد يطلب منه أشياء ويستخدمه في أمر مباح، وهذا على وجه القلة لا على وجه الديمومة. يعني من عرض له جني فاستفاد منه في أمر مباح فلا يقال هذا خارج عن الشريعة، لكن من كان له جني يقول أنا أستخدم هذا الجني المعين دائما فهذا لاشك أنه محرم؛ لأنه لم يأتِ عليه دليل لا من الكتاب ولا من السنة ولم يكن عليه فعل أهل العلم والسلف بل كانوا يفعلون بالجن كما كان عليه حال النبي عليه الصلاة والسلام وحال أصحابه من بعده.
المقصود من هذا أن قول شيخ الإسلام (ومن كان يستخدم الجن في أمور مباحة فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة) فهو كما استعمل الجن في أمور مباحة؛ فالإنسان يعرض له إنسي فيطلب منه شيء يسأله عن شيء يعرض له يسأله عن شيء لكن لا يتخذه دائما على هذه الحال في سؤال الجني.(26/286)
فإذن سؤال الجني دائما إما أن يقول أسأل قريني أو يقرأ على أحد وإذا تكلم سأله أو يتخذ عنده شخص فيه جني ملابس له وكلما أراد أن يستعلم شيئا قرأ عليه حتى ينطق الجني ثم بعد ذلك يسأله على أشياء، فإن هذا كله من وسائل البدع والمحدثات وفهو محرم ومنكر ويجب النهي عنه، أما الإستخدام الذي يكون في حالة دون حالة يعني تارة يعرض له مرة ونحو ذلك فهذا لا يقدح مثل ما كان يحصل لبعض الأولياء يعني ممن مثل بهم شيخ الإسلام يعني في مقصود كلامه أنه إذا استخدمه مرة ونحو ذلك استعمله في عمل مباح فهذا لا حرج فيه.
3. الحال الثالثة في علاقة الإنسي بالجني: في علاقة الاستمتاع بالمحرم إما بالإخبار بالغيب أو بالإتيان بالأمور المحرمة له من النساء أو المردان أو خمر أو مال مسروق يأتي به الجني ونحو ذلك، هذه كلها حرام وهي حرام وهي بحسب الحال إن كان استخدمه في أمور شركية فهو شرك وإن استخدمه في محرم فهو محرم.
ثم ذكر في آخر قال (إن استعان بهم على المعاصي فهو عاصي إما فاسق وإما مذنب غير فاسق) وذلك أن المعصية قد تكون فسقا وقد لاتكون فسقا فبيست كل معصية فسقا، وكذلك ليس كل عاص فاسقا فالفاسق هو الذي يجاهر بالكبيرة، هذا الذي عليه حد الفسق أما فعل الصغائر ليس بفسق، وكذلك الكبيرة إذا استتر بها فلا يحكم عليه بالفسق لقوله « كلّ أمّتي مُعَافىً إلا المجاهِرين»، فالمعاصي منقسمة إلى كبائر وصغائر، وإلى فسوق وإلى غيره؛ وكذلك فاعل المعصية قد يكون مذنبا وقد يكون فاسقا بحسب نوع الذنب وصفة إرتكابه.
...لا، في مقدور الجن ليس في مقدور الإنس إشترط أن يطلب منهم أشياء في مقدورهم.(26/287)
...هو فتنة إذا حدّث به أو بين لهم أنّ هذا من وَلايته وإلى آخره هذا بحسب الذي يحصل له، حصلت للصحابة أشياء ما افتتن الناس بهم حذيفة رضي الله عنه أتاه أناس في دمشق فسألوه الدعاء يعني طلبوا منه أن يدعوا لهم فدعى، ثم أتوه مرة أخرى فطلبوا منه الدعاء فأنكر عليهم وقال أنبياء نحن؟ ففرق بين الإستمرار والحالة، هذا أصل مهم ففرق بين الإستمرار في الأشياء والحالة لأن الإستمرار يجعل الشيء ملازم يجعل الشيء يعتقد فيهإما اعتقاد في شخص أو إعتقاد في حالة أو صفة إلى آخره العبرة بالحالة العبرة بالفاعل.
([103])هذا تمام هذه الرسالة النافعة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
وخلاصة هذه الرسالة في مسائل:
· المسألة الأولى: في أنّ وجود ولي الله وولي الشيطان هذا أمر مقرّر في الشرع؛ في الكتاب والسنة:
1. أما وَلاية الله جل وعلا لعبده فهي كما قال ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:55-56]، وقال? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62].
2. وفي وَلاية الشيطان آيات كثيرة ?إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ?[النحل:100]، وقال ?إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:175] والآيات في ذلك كثيرة ساقها الإمام في أول البحث.
· المسألة الثانية: في تعريف وليّ الله وتعريف وليّ الشيطان وأنّ:(26/288)
1. وليّ الله: الوليّ هو كل مؤمن تقي ليس بنبيّ للآية حيث عرّف الأولياء بأنهم ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:63]، المؤمن المتقي هو الوليّ.
2. ووليّ الشيطان: هو الذي يطيع الشيطان ويأمر بأمره ويخالف ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله جل وعلا قال ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ?[يس:60] يعني بطاعته في ارتكاب الحرام بأنواعه، في ترك الفرائض بأنواعها، والآيات في هذا كثيرة ذكرنا لكم بعضًا منها.
· المسألة الثالثة-في خلاصة هذا-:
1. أنّ وَلاية المؤمن لله جل وعلا ووَلاية الله جل وعلا لعبده المؤمن متبعِّضة ليست على مرتبة واحدة؛ فكل مؤمن له نصيب من التقوى له نصيب من الوَلاية، فالإيمان والتقوى متبعِّضة فكذلك الوَلاية متبعضة.
2. وكذلك وَلاية الشيطان للعبد والعبد للشيطان متبعضة فكل عاص له نصيبه من وَلاية الشيطان.
فمعتقد أهل السنة أنه يكون في الشخص أشياء موجبةً لوَلاية الشيطان وموجبة لولاية الرحمن جل وعلا، فيجتمع في المعيّن الوَلاية من الجهتين، وهو لما غَلَبَ منها، يعني يكون ولي لله جل وعلا في طاعته ويكون مطيع للشيطان وولي له فيما عصاه به؛ لكن لا يُقال في المؤمن: إنّه ولي للشيطان بإطلاق. بل يقال: مؤمن وليّ لله جل وعلا فيه معصية، فيه طاعة للشيطان ونحو ذلك. لأن الله سبحانه جعل وَلاية الشيطان وسلطانه على الذين لا يؤمنون؛ ?إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ?[الأعراف:27]. إذن المؤمن لا يُقال: هذا ولي للشيطان بإطلاق. لكن بتقييد.
· المسألة الرابعة: أنّ لأولياء الرحمن علامات، ولأولياء الشيطان علامات، وذكرها شيخ الإسلام في الكتاب.
· المسألة الخامسة:(26/289)
1. أنّ أولياء الرحمن لهم كرامات، والكرامة عُرّفت بأنها أمر خارق للعادة يجري على يدي وليّ، وأن حصول الكرامة لا يعني رِفعة من حصلت له على من لم تحصل له، بل قد يكون من لم تحصل له كرامة أرفع ممن حصلت له كرامة. وهذه قرّرها في كتابه.
2. وما يحصل لأولياء الشيطان من خوارق هي خوارق شيطانية من جهة الشيطان يعينهم، وليس الله جل وعلا يكرمهم بذلك؛ ليسوا بأهلٍ للإكرام.
فإذن يجب أن يُنظر في الفرق ما بين وليّ الرحمن ووليّ الشيطان من جهة العمل؛ من جهة طاعته لله ورسوله، وليس ذلك عمادُه الخوارق؛ قد تحصل الخوارق الشيطانية لبعض الناس.
· المسألة السادسة: أنّ المبتدعة من هذه الأمة والمشركين والذين يتعلقون بالقبور ويتعلقون التعلقات البدعية والشركية بالمعظَّمين، هؤلاء تُعينهم الشياطين على أشياء غريبة، بالأنواع التي ذكرها وأصناف أطال فيها من أمور علمية وأمور قُدَرية وأشباه ذلك، أو أنواع هذه الأجناس، هذا كلُّه إذا كان لمن ليس على الإيمان والتقوى؛ يعني أن أهل الشرك والبدع تحصل لهم أمور خوارق، وهذه من جهة إعانة الشياطين لهم بأمور كثيرة من تكليمهم الموتى، ومن حصول أنواع المعلومات والمعارف، وأحيانا يكون شفاء مرضى، وأحيانا يشفى بقراءته، وأحيانا يشفى بلمسه أو بكتابته أو ما أشبه ذلك، كل هذا يكون من الشيطان، الشيطان الذي يَنْخَسُ المرء ويُوجع، ثم إذا أتى هذا المشرك والمبتدع فحصل منه بعض الأشياء رفع يده، مثل ما قال ابن مسعود: إنما ذلك الشيطان ينخسها بيده.
فهذا أيضا فرقان مهمّ في أنّ أهل الشرك والبدع والتعلقات الشركية والقبور والأوثان ليسوا بأهل لكرامة الله جل وعلا؛ بل هم أهل لإهانة المولى جل جلاله، ولكن يحصل لهم خوارق من فعل الشياطين.(26/290)
· المسألة السابعة: أنّ الجن مكلفون مثل تكليف الإنس، وأنهم مخاطبون، وأنّ وليّ الله جل وعلا إذا عرضت له الجن والشياطين بأشياء تخدمه بها أو أحوال يفعلونها به فإنه يجب عليه أن يأمرهم وينهاهم كما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهاهم، وأن يتلو عليهم القرآن، وأن يقيم عليم الحجة.
· المسألة الثامنة: والأخيرة التي ختم بها الكتاب أنّ العبد إذا تبين له الحق والصواب في هذه المسائل، وعرف المقصد، وعرف سبب ونشأة الضلال، فيجب عليه أن يراجع الصواب وأن يتوب إلى الله جل وعلا فإن الحق ديْدن المؤمن، ولا يجوز له أن يعلم الحق ويكابر، ويترك ذلك إلى غيره، كما ذكر أنّ طائفة من الناس عرفوا الحق في ذلك، وأنّ ما يأتيهم من الشياطين، فاستغفروا وأنابوا وتركوا موجبات إعانة الشيطان من البدعة والشرك إلى آخره، إلى موجبات إعانة الرحمن جل جلاله وتوفيقه وهي السنة ومتابعة الهدي ولزوم طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم. وهذا ختام هذه الرسالة.
وأسأل الله جل جلاله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يُقِرَّ العلم في قلوبنا، وأن لا يحجبه عنا ولا عن أحبابنا بذنوبنا ومعاصينا، كما أسأله سبحانه أن يلهمني وإياكم كلمة التقوى، وأن يجعلنا من الدعاة إلى دينه والمعلمين شريعة نبيه عليه الصلاة والسلام للناس أجمعين، إنّه سبحانه جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(26/291)
الرقى و أحكامها
مع تعليق لسماحة الشيخ العلامة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رحمه الله تعالى
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي مَنَّ على عباده أجمعين بقوله ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(57)قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:57-58].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنَّه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى ترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هالك.
اللهم صلِّ وسلم على عبد ورسولك محمد كلما ذكره الذاكرون وصلى عليه المصلون. اللهم صل وسلم على عبد ورسولك محمد كلما غفل عن الصلاة عليه الغافلون، وسلم اللهم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فنسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل تقواه، ومن أهل طاعته، ومن الذين منَّ عليهم بالعفو والعافية، كما أسأله سبحانه أن يجعلنا ممن إذا أُعطي شكر وإذا أبتلي شكر وإذا أذنب استغفر، وهذه الثلاث عنوان السعادة للعبد إذا أخذ بها.
كما اسأل المولى جل وعلا أن يبارك لنا جميعا في أعمارنا وأعمالنا وأقوالنا، وأن يجعل موازيننا مُثقلة، ونعوذ به من الجور بعد الكور، ونعوذ به من الضلال بعد الهدى، اللهم آمين.(27/1)
ثم إنه يعلم الجميع إن هذه الندوات والمحاضرات التي تُرَتَّب في هذا الجامع منذ القديم، تُرتب توضع جداولها ويختار المشاركون فيها بعناية ومتابعة سماحة شيخ الجميع العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فسح الله في أجله، وأمده بالعفو والعافية، وجزاه عنا وعن الإسلام خيرا، فهي ثمرة من ثمرات جهده وجهاده، وهي ثمرة من ثمرات عنايته بالمسلمين في إرشادهم وتبيين الحق لهم.
فأسأل الله جل وعلا أن يجزل له المثوبة، وأن يبارك في أعماله وعمره وقوله، وأن يبارك في ذريته، وأن يجعله إماما من أئمة الهدى، كما أسأله سبحانه أن يجعل خير عمره آخره، وخير عمله خواتمه، وأن يجزيه خير ما جزى به عالما عن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
موضوع هذه المحاضرة:
الرقى وأحكامها
وموضوع الرقى مهم، وأهميته ظاهرة لكل أحد منكم؛ لأن المسلم يحتاج إلى الرقية دائما، يحتاج إليها في تعويذ نفسه وتعويذ أحبابه، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل، يقرأ المعوذتين وينفث في كفه في يده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، ويمسح بها رأسه ووجهه وما استطاع من جسده، وفي تعويذ من يحب لدفع البلاء قبل وقوعه، ولتكون تحصينا وحرزا للمرء من تسلُّط الشياطين على العبد.
ويظهر أيضا أهمية عِلم المسلم بالرقى أنّ الرقى اختلط فيها المشروع بالممنوع، اختلط فيها الرقى الشرعية بالرقى البدعية؛ بل بالرقى الشركية.
وقد كان أهل الجاهلية يتعاطون رقى شركية، وكان يتعلمها الناس ينقلها الخالف عن السالف، فلما جاءت الرسالة المحمدية على نبينا أفضل الصلاة والسلام مُنعت الرقى حتى أُذن بما ليس فيه شرك من ذلك، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فأن تكون على بينة من الرقى الشرعية والرقى الممنوعة، هذا مهم؛ لأنه فرقان ما بين المشروع وما بين الشرك ووسائل الشرك.(27/2)
وكثير من الناس ربما راج عليه صلاح الراقي أو ظاهر صلاح من يتعاطى الأدوية، فيصف له أشياء إما من الأذكار وإما من الأوراد أو نحو ذلك، يصفه له ويكون غاشا له من أنه يرده إلى غير المشروع، ويرشده إلى أمر فيه بدعة أو فيه شرك، والعياذ بالله.
لهذا كان من الواجب عليك ألاَّ تستعمل من الرقى إلا ما علمت أنه مشروع؛ لأن الأصل فيها المنع غلا ما كان جائزا فيها، وهذا له شروط وبيان يأتي إن شاء الله تعالى.
وتظهر أهمية هذا الموضوع أنَّ كثيرا من وسائل الشرك في بلاد الإسلام إنما انتشرت بواسطة المتتطببة والذين يعالجون بالأدوية ويعالجون بالقرآن، ومنهم المشعوذون والذين يتعاطون استعمال الجن وشياطين الجن والعياذ بالله.
وقد ذكر ابن بشر في أول تاريخ نجد أنَّ من أسباب انتشار الشرك في نجد هو نزول المتطببة والمداوين من أهل البادية في القرى وقت الثمار، فيحتاج إليهم الناس إما في رقية وإما في مداواة، فأمروهم بالشرك وأمروهم بغير المشروع، فانتشر بذلك -فيما يستظهر ابن بشر رحمه الله- انتشر بذلك عن طريق الجهلة أولئك أو عن طريق المشعوذة والسحرة، انتشر كثير من الشرك والفساد، ولا غرابة فالنفوس ذواقة لزوال ما بها من سواءٌ أكان بالمشروع أو بغيره، ولا شك أن العلم بحدود ما أنزل الله جل وعلا على رسوله مطلوب في أمور العقيدة وأمور الأحكام.
وهذا الموضوع متصل بالتوحيد والعقيدة، فالعلم به من الذي ينبغي على كل مسلم أن يحرص عليه، وأن يطلب معرفة حكم الله جل وعلا فيه.
الرقى أصلها أدعية وقراءة ونفث يكون فيه استعانة أو استعاذة، هذا أصلها؛ يعني القصد منها أن يكون ثَم دفع للبلاء أو رفع للبلاء باستعاذة أو باستعانة.
ولهذا صارت الرقى على قسمين:
رقى يستعاذ فيها ويستعان بالله جل جلاله وحده، فهذا هو المأذون به والمشروع.
ورقى يستعاذ فيها ويستعان بغير الله جل وعلا، وهذا هو الشرك وهو الممنوع.(27/3)
وكان أهل الجاهلية يتعاطون الرقى بكثرة كما قال جل جلاله ?وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ?[القيامة:27] (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ)؛ يعني حين حضور الموت يَطلب المرء من يرقيه، وقد قال القائل:
وإذا المنيةُ أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفعُ
يعني الأسباب التي كانوا يتعاطونها، فكان أهل الجاهلية يتعاطون الرقى لدفع أو رفع؛ يعني لدفع البلاء، دفع المرض، دفع العين، أو رفعها، إزالتها، مثل الأدوية، إزالتها بعد وقوعها؛ لكن كانت أكثر رقاهم يستعيذون فيها بغير الله جل وعلا -بآلهتهم أو بأصنامهم أو بالجن والعياذ بالله من ذلك كله-، أو يستعينون فيها بغير الله جل جلاله.
ولهذا اثبت في صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «اعْرِضُوا علَيّ رُقَاكُمْ. لاَ بَأْسَ بِالرّقَىَ مَا لَمْ يَكُنْ [فِيهِ] شِرْكٌ» يعني ما لم يوجد شرك فيها، ورواه غيره بلفظ «لاَ بَأْسَ بِالرّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكاً» وهذا بسبب عوف بن مالك للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حين قال له: يا رسول الله أرأيت رقى كنا نرقي بها في الجاهلية فقال «اعْرِضُوا عَلَيّ رُقَاكُمْ لاَ بَأْسَ بِالرّقَى مَا لَمْ يَكُنْ شِرْك» وأفاد هذا الحديث:
أولا أن الأصل في الرقى -عند من لم يعلم- الأصل فيها المنع، وأنْ المرء إذا أراد أنَّ يرقي برقية يعرضها على من يعلم حتى يتأكد من سلامة الرقية من المخالفة، قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «اعْرِضُوا علَيّ رُقَاكُمْ. لاَ بَأْسَ بِالرّقَىَ مَا لَمْ يَكُنْ شِرْكٌ».
ودلَّ على جواز الرقية.(27/4)
والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حثّ على نفع الأخ لأخيه، جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سألوه عن رجل أصيب بلدغة عقرب أو حية، وسألوه عن الرقية قال «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ»، وهذا يدل على تجويز الرقية؛ لكن الرقية التي ليس فيها شرك، ولهذا النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان يرقي نفسه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، ورقى غيره، وأيضا رقاه جبريل عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وأمر بأن يُسترقى لآل جعفر ولغيرهم، ولامرأة جارية جاءت لمنزله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فرأى فإذا بها النظرة يعني في وجهها سفعة صفار فقال «إن بها النظرة استرقوا لها» والنظرة هي عينٌ تكون من الجن في الغالب أو من الإنس، فأمر بها يعني أمر بطلب الرقية، فدل ذلك على أن الاسترقاء والرقية مشروع بفعله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وبإقراره كما سيأتي وبأمره عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.(27/5)
وإقرارُه هو الذي جاء في حديث أبي سعيد في الصحيح في قصة لديغ الحي من العرب حيث أصابته لدغة، فكان جمع من الصحابة اجتازوا بهم فلم يقروهم يعني لم يضيفوهم فتركوهم، ثم بعد ذلك مروا بهم فوجدوا منهم سيد القوم لديغا، فقالوا: لهم هل فيكم من راق. يعني هل فيكم من يحسن الرقية، فقالوا: لقد نزلنا بكم فلم تقرونا -أو لم تضيفونا- لا نرقي لكم إلا بِجُعل. فجعلوا بينهم مائة شاة، فجعل يقرأ عليهم الراقي بفاتحة الكتاب على موضع اللدغ، وحتى إذا ختمها نفث بريق؛ يعني تفل، وفي رواية جمع بزاقه فتفل، فلما أعطوهم هذا الجعل العظيم، قالوا: اقسموه بيننا. فقال رجل منهم: لا، حتى نعرض ذلك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لشدة تحرِّيهم أن يفعلوا فعلا ليس عليه إذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما عرضوه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «وما أدراكم أنها رقية» وقال «اضربوا لي معكم بسهم» فدل ذلك على مشروعية الرقية بفاتحة الكتاب؛ بل مشروعية الرقية بعامة وبفاتحة الكتاب بخاصة، وعلى أن أخذ الجُعل عليها لا بأس به مطلقا.
النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كما ذكرنا رقى ورقي وأمر، فرقى نفسه بالمعوذتين، وكان يرقي نفسه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ببعض الأدعية فلما نزلت المعوذتان أخذهما وترك ما سواهما.
وأيضا أقر الرقية بالفاتحة، وجمع الفاتحة والمعوذتين في الرقية فيه مناسبة، وهو أنَّ الفاتحة هي أم القرآن مشتملة على معاني عظيمة، منها الاستعانة بالله جل وعلا وتوحيد الله جل وعلا في العبادة في قوله ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5]، والمعوذتان فيها التعويذ، والاستعانة والاستعاذة هما ضربا الرقية؛ لأن الراقي إما مستعيذ وإما مستعين أو بالأمرين معا.
وصحَّ عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في الرقية أشياء كثيرة من الأدعية:(27/6)
منها قوله عليه الصلاة والسلام «من حضر مريضا فقال عند رأسه: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات إلا عافاه الله جل وعلا من ذلك البلاء ما لم يحضر أجلُه».
وكان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يُرشد أن الإنسان إذا أصابه ألم في شيء من جسده أنْ يمسح بيده على الذي يؤلمه من جسده سبع مرات، ثم يقول سبع مرار: «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر».
ورقى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بالرقية المشهورة «بسم الله أرقيك من شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك» وهذه رقية جبريل للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
وصح عنه أيضا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنه كان يرقي إذا زار مريضا بقوله «أذهِب ألباس رب الناس واشفي فإنك أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما».
وغير ذلك من الأدعية التي هي في رفع البلاء يعني بعد نزول المرض أو قبله كقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك».
وكما كان يقرأ سورتي المعوذتين قبل المنام ويمسح بهما جسده.
فدل ذلك، دلت هذه الأحاديث على أنَّ الرقية مشروعة أو جائزة، وعلى أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أورثنا أدعية معروفة وصورا نقرؤها أرشد عليها الناس عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ. فهذه هي الرقية المشروعة.
فإذن نتحصل من ذلك على أمور:
الأول أن الرقية المشروعة هي دعاء يدعو به المرء يحصن به نفسه، وينفث على بدنه أو في يديه أو على من يرقيه، ينفث أو يتفل كما سيأتي بيان الفرق بينهما إن شاء الله، وعلى أن هذه الرقى التي أرشد إليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي بكتاب الله جل وعلا، أو بالأدعية التي فيها استعانة واستعاذة بالله جل وعلا وحده ورجاء ما عنده في دفع المرض أو في رفعه أو في دفع العين أو في رفعها.(27/7)
ودل أيضا على أن الرقى الشرعية هي التي تكون بهذا المعنى؛ يعني فيها توحيد الله جل وعلا استعانة واستعاذة، وفيها الإقبال على الله جل جلاله دون ما سواه.
ولهذا العلماء قالوا تجوز الرقية بشروط ثلاثة:
الأول: أن تكون بأسماء الله وصفاته جل وعلا؛ يعني أن يستعين فيها بالله جل وعلا متوسلا بأسماء الله جل وعلا وبصفاته.
والثاني: أن تكون باللغة العربية، أو ما يعرف معناه إن كان بغير العربية.
والثالث: أن يعتقد الراقي والمرقى أن هذه الرقية سبب من الأسباب، ونفع الأسباب إنما هو بإذن الله جل وعلا، قد تنفع وقد لا تنفع بإذن الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، فالذي ينفع في الحقيقة والذي يُورث النفع بالسبب وينتج المسبَّب هو الرب جل جلاله، هو الذي بيده ملكوت كل شيء، ?مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ?[فاطر:2]، وقال سبحانه ?وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ?[الأنعام:17]، والأسباب يؤمر العبد بتعاطيها لكن مع تعلق القلب بالله جل وعلا.
قال العلماء هذه الشروط الثلاث في جواز الانتفاع في جواز استعمال الرقية.
ما جاء في الكتاب والسنة أو القرآن بعمومه وما جاء في السنة من الرقى هي منطبقة على هذه الأمور.
فالرقية بالقرآن:
فيها أنها بأسماء الله جل وعلا وبصفاته.
فيها الاستعانة بالله جل وعلا والاستعاذة بالله سبحانه.و
فيها التوكل على الله.
وفيها تفويض الأمر إليه سبحانه وتعالى.
وفيها التقرب إليه بأفضل ما خرج منه سبحانه وهو كلامه القرآن العظيم جل جلال ربنا وتقدست أسماؤه وتعالت صفاته.
وفيها أنها باللسان العربي المفهوم.
وفيها أيضا أنها أعلى ما يُتقرب، وأجمع ما يشمل المعاني، فالعدول عنها إلى غيرها عدول عن الفاضل إلى المفضول، عدول عن العالي إلى ما دونه مما يعرف معناه ويقل من الأدوية التي يختارها الناس.(27/8)
فإن دلت هذه الشروط على أن أفضل ما يرقي به الإنسان أن يرقي بالكتاب وبالسنة، والقرآن جعله الله جل وعلا شفاء كما قال سبحانه ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ?[يونس:57] فهو شفاء لما في الصدور من الأمراض الحسية والمعنوية، وهو شفاء أيضا فيما يقع، وأيضا تعويذ فيما لم يقع، وقال سبحانه ?وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ?[الإسراء:82]، وقال أيضا جل وعلا ?قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ?[فصلت:44]، والاستشفاء بالقرآن يكون في أمور البدن كما يكون في أمور النفس؛ يعني إذا مرض الإنسان في عضو من أعضائه أو أصابه شيء فإن القرآن شفاء للأمراض العضوية كما مر معك في حديث اللديغ؛ هذا رجل لدغته حية أو عقرب فرُقي بالفاتحة بكتاب الله جل وعلا فبرئ، فقام كأن لم يصبه شيء، هذا مرض حسي ولدغة شديدة أزالها القرآن؛ أزالها الله جل وعلا بسبب الرقية بكتابه، كذلك الأمور المعنوية أو الأمور النفسية؛ مثل ضيقة الصدر أو مثل العين التي تؤثر على العقل أو على النفس ونحو ذلك هذا أيضا شفاؤها بالرقية بكتاب الله جل وعلا وبسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بما شرع مما يجوز من استعمال الأدعية المعروفة المعنى.(27/9)
الشرط الثاني الذي ذكرنا هو أن تكون باللغة العربية، أو بما يفهم معناه من غيرها، وإذا كانت باللغة العربية فيجب أن تكون معلومة المعنى، ليست كلمات متقاطعة كلمات لا يعرف معناها، أسماء مجهولة، فلا بد أن تكون بأسماء الله جل وعلا وبصفاته، أو بما أبيح من الأدعية التي فيها التوسل بأسماء الله وبصفاته، وأن لا يكون فيها أسماء مجهولة، وقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن الرقى التي فيها أسماء مجهولة قال: وما يدريك لعلها كفر. يعني لعل في هذه الأسماء المجهولة ما يكون فيه أسماء شياطين أو أسماء ملائكة، ينادي الملائكة ويستغيث بهم أو ينادي الشياطين أو يتقرب بذلك فيكون بذلك كفرا.
لذلك لابد أن تشتمل الرقية المشروعة على أسماء معلومة -أسماء الله جل وعلا وصفاته المعلومة- وتكون باللغة العربية، وإذا كانت بغير اللغة العربية فيجوز بشرط أن تكون معلومة المعنى للراقي، وعدم اشتمالها على شرك بالله جل وعلا أو أسماء مجهولة لا يعلم معناها.
الشرط الثالث أن يعتقد بأنها سبب وهذا مهم؛ لأن من الناس من يظن أن الشفاء من عند الراقي لا بسبب الرقية، يقول هذا الراقي هو الذي عنده القدرة والراقي نافع وطبيب وقد يحسن وقد لا يحسن، والسبب هو الرقية، والنافع الضار هو الله جل جلاله وتقدست أسماؤه.
فإذن الرقية سبب، والراقي مثل الطبيب يبذل هذا السبب، والتعلق من الرقي التعلق بالله جل وعلا يسأل أن ينفع سبحانه بهذه الرقية وبقراءة القارئ، كان أهل الجاهلية يعتقدون في الرقية بإطلاق كانوا يعتقدون فيها أنها مؤثرة جزما، وكان يعظمون الرقية وتتعلق الرقية بالراقي وبالرقية، ويكون التوكل على الله جل وعلا حين إذْ ضعيفا، وهذا يكون في النفوس سواء في نفوس السابقين يعني في الجاهلية أم في نفوس أيضا بعض أهل الإسلام، يكون هناك تعلق وضعف في التوكل، ويكون هناك رغبة فيما عند الناس.(27/10)
والأكمل أن يكون المرء طالبا يعني في الرقية طالبا العافية من الله جل وعلا إذا لم يرقي نفسه، إلا إذا عرض عليه، فمن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل، ولهذا جاء في حديث حصين بن عبد الرحمن السلمي المعروف الذي قال فيه: كنّا عند سعيد بن جبيرٍ، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي أنقض البارحة؟ ثم قال قلت يعني حصين بن عبد الرحمن من التابعين: أما إني لم أكن في صلاةٍ. ولكني لدغت. قال: فما صنعت؟ قال: استرقيت. يعني طلبت الرقية، قال: فما حملك على هذا؟ قال: حديث حدثناه يعني عامر بن شراحيل الشعبي. عن بريده بن الحصيب؛ أو عن عمران بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. الحمة اللدغ قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكني سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عرضت علي الأمم، فإذا النبي ومعه الرجل والرجلان، وإذا النبي وليس معه أحد. ثم رفع إلي سوادٌ عظيمٌ، فقلت: هذه أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي أنظر إلى الأفق فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقالوا: هذه أمتك، ثم قيل أنظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم قال هذه أمتك، قال وفيهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذابٍ». وقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند الصحابة، قال: فخاض الناس في أولئك السبعين ألف. فقال بعض الصحابة: لعلهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يعني الذين تقدموا في الإسلام وكان معهم مزيد اختصاص بالصحبة، وقال بعض: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً ، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلم ما اختلفوا فيه، فقال: «هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون.وعلى ربهم يتوكلون». فقوله هنا (لا يسترقون) يدل على أنَّ الأكمل أن لا يكون من عادة الإنسان أن يطلب الرقية من غيره بل غما أن يرقي نفسه، وإما أن ينتظر حتى يأتيه أحد فيرقيه فيقول له أرقيك فهنا لا يدخل(27/11)
في طلب الرقية، هذا من جهة الكمال؛ يعني السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب هذه صفتهم.
وقد جاء في لفظ عند الإمام مسلم «لاَ يَرْقُونَ. وَلاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَتَطَيّرُونَ. وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ » فحذف لفظ (لا يكتوون) وزاد (لاَ يَرْقُونَ)، وهذه اللفظة من أهل العلم من حكم عليها بالشذوذ والمخالفة كشيخ الإسلام ابن تيمية، ومنهم من صححها كالحافظ ابن حجر وغيره.
ونفي الرقية هنا (لاَ يَرْقُونَ. وَلاَ يَسْتَرْقُونَ)، نفي أنه يرقي يعني الراقي يخرج من السبعين ألفا، هذا فيه نظر من جهة المعنى، وذلك أن الراقي محسن كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، والإحسان مأمور به في الشرع.
المقصود أن الذي يتعاطى طلب الرقية دون أن يرقي نفسه ويتعاطى ذلك دائما ويتعلق بالراقي هذا ضعف توكله إذا كان هذا من طبعه، ولهذا كان الأكمل أن لا يتعلق قلب المرء بالراقي وبالرقية.
هذا بعض ما يتعلق بالرقية المشروعة؛ لأننا قلنا لكم إن الرقية قسمان: قسم مشروع وقسم ممنوع، رقى شرعية ورقى شركية أو بدعية، فهذا القسم الأول مع بعض الكلام عليه الرقى الشرعية.
مما يتصل بالرقى الشرعية أنَّ الرقية المقصود منها إيصال القرآن إلى المرقي إذا كان عن طريق النفث أو الدعاء له والاستعانة والتوسل بالله جل وعلا بأسمائه وصفاته أن يجيب الدعاء.(27/12)
والرقية إما أن تكون بنفث أو بتفل أو بما هو دون هذين، لهذا إذا اختلف العلماء في مسألة هل تشرع الرقية بنفخ دون نفث؟ على قولين ورُجِّح أن الجميع جائز، فإن كان بنفخ وهو ما لا ليس معه شيء من الريق وإنما هو إخراج هواء فقط فهو جائز، وإن كان بنفث فهذا هو المشروع والذي كان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يقرأ ويتعوذ وينفث في يديه وينفث على المريض أيضا، وإما أن تكون بما هو أعظم من النفث وهو التفل، والنفث إخراج بعض الريق، قليل من الريق مع الهواء؛ يعني إذا أراد أن ينفث يعني يقرأ الفاتحة وإذا ختم ينفث مع بعض الريق أو يتفل ومعه التفال -معه البصاق- أكثر مما مع النفث.
وهذا النفث أو التفل قد يكون مباشرة على البدن، وقد يكون بواسطة ماء أو بواسطة زيت أو شيء آخر، كل هذا مأذون به، أو بكتابته على الشيء؛ كتابة بعض الآيات على المرض ونحو ذلك، وقد جاء عن الصحابة في هذا أشياء منها أن ابن عباس كان يأمر أن يكتب للمرأة إذا كانت شقت عليه الولادة أو تأخرت ولادتها أن يكتب في إناء ?كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ?[الأحقاف:35] وكذلك الآية الأخرى ?كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا?[النازعات:46]، وتسقى منه المرأة التي تأخرت ولادتها أو شق عليها ذلك ويصب الباقي على صدرها وعلى شيء من بطنها.
ونحو ذلك مما جاء عن بعض الصحابة أنهم كانوا يكتبون على بعض [...] ?فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ?[البقرة:266].
قد قال صالح بن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: اعتللت مرة فقرا لي أبي في ماء ونفث فيه ثم أمرني بشربه وأن أغسل رأسي، وكذلك روى عبد الله بن الإمام أحمد في جواز ذلك.(27/13)
المقصود من هذا أن إيصال الماء إيصال القراءة، إيصال الرقية بالنفخ بالنفس أو بالنفث إلى الماء ثم يسقاه المريض أو يصب عليه أن هذا لا بأس به لفعل السلف له ولم يُنكر؛ ولأن له أصلا في السنة.
لكن كلما كانت الرقية مباشِرَة كلما كانت أفضل ولهذا قال الجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة قال: كلما الوقت كان أنفع يعني يقرأ في الماء كان أقرب بالنفخ أقرب بالنفث أقرب بالرقية كلما كان أنفع، وكلما كانت الوسائط أقل كان أنفع؛ يعني قراءة المرء على نفسه يعني ما فيها واسطة، واسطة واحدة؛ لكن كون المرء يقرأ على الإنسان صار هناك واسطة ثانية، كون أيضا ينفث في ماء ثم الماء يشرب ويغسل به صار هناك واسطة ثالثة، أو كونه يكتب في صحن ويغسل بزعفران أو بنحوه ثم يشرب هنا صار عندنا واسطة ثالثة كلما ضعفت، ولهذا كان الأعلى ما ثبت في السنة وهو القراءة المباشرة من الإنسان على نفسه أو بقراءة أحد عليه ثم القراءة بالماء، ثم القراءة بالكتابة في الورق وحله بالماء هذا مما يسوغ لكن مما لم يكن عليه العمل عمل السلف.
هذه بعض المسائل المتعلقة بالرقية المشروعة.
القسم الثاني من الرقى:
الرقى الشركية والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال في حديث ابن مسعود رضي الله عنه «إن الرقى والتمائم والتولة شرك». والرقى المقصود بها هنا الرقى الشركية التي كان يستعملها أهل الجاهلية أو من شابههم، والرقى الشركية ممنوعة (لاَ بَأْسَ بِالرّقَى مَا لَمْ يَكُنْ شِرْك) ممنوعة وهي شرك بالله جل وعلا، ما صفة الرقى الشركية؟ الرقى الشركية تشمل على أحد أشياء:
الأول: أن يكون فيها استغاثة أو استعانة أو استعاذة بغير الله جل وعلا استعانة بشيطان، بولي، باسم وَلِيّ ينفخ وينفث على أحد ويدعو، ولو كان فيها استعانة بالله لكن معها استعانة أو استعاذة بولي أو بميت أو بشيطان أو بجني فهذا شرك بالله جل وعلا.([1])(27/14)
أو أن تكون الرقى هذه الشركية أن يكون فيها أسماء مجهولة، ما يُعرف معناها، يكتب أسماء لا معنى لها، هذه قد تكون من الشياطين، ولذلك يُمنع منها لأنها وسيلة من وسائل الشرك، ولا يجوز أن تستعمل لأنه قد يكون فيها شرك، وسيلة الشيء في القواعد لها حكمه، فإذا كان هذه قد تكون وسيلة إلى الشرك فتمنع كما يمنع المقصد.
وأيضا الرقى الشركية قد تكون بالعزائم، التي يسميها السحرة والمشعوذين العزائم التي يكتبون فيها آيات ولكن ربما نكَّسوا الآيات، ويضعون في الورقة التي تحل وتشرب، أو ربما تحفظ كتميمة في الجيب مثلا أو تعلق، يضعون فيها مربع فيه أرقام مجهولة وفيه حروف غير معلومة، أو مثلث ويكتب عليه على أنحائه بعض أسماء الله؛ ولكن في داخله أسماء مجهولة ونداءات وأرقام لا يعلم معناها، وهذا كله لا شك أنه من وسائل الشرك أو من الشرك المحقق لأنهم يستغيثون ويستعيذون بالشياطين.
ومن صور أيضا الرقى الشركية أنَّ الرقى الشركية تشتمل على أدعية فيها وسيلة من وسائل الشرك، مثل التوسل بذوات الأولياء أو بحرمتهم أو بجاههم، فهذه تمنع لأن التوسل بالذوات أو بالحرمة أو بالجاه هذا بدعة ووسيلة من وسائل الشرك.
ومما يدخل أيضا في هذا؛ يعني في الرقى الممنوعة الرقى البدعية أو التي بها اعتداء، مثل واحد يؤلف رقية أو ربما يجتهد أحد في الرقية يكون فيها اعتداء مثل رقية ذكرت عن بعض العلماء أنه يقول فيها: رددت عين الحاسد إلى نفسه وإلى أعز الناس لديه أو أحب الناس لديه. العائن اعتدى؛ لكن أحب الناس إليه والده أو والدته أو قريبه أو ولده ما اعتدى، فترد العين إلى من لم يعتدي هذه دعوى فيها إثم, لأن فيها اعتداء في الدعاء، فهي من الدعوات أو الرقى البدعية، وإن كان ذكرها ابن القيم رحمه الله في معرض كلام له في زاد المعاد.
فإذا يظهر بهذا أنَّ الأصل في الرقى المنع إلا ما جاز منها.(27/15)
وهذا يدل على أنه يجب عليك التحري، وأن لا تقبل الرقية من أي أحد، وأن لا تذهب إلى كل من قيل أنه راق؛ لأنه بما لم يكن على هدى وعلم، إذا ظهرت لك رقية أو أُرشدت إلى شيء أو لم تكن من الكتاب والسنة فاعرضها على أحد من أهل العلم يبين لك هل هي جائزة أم لا؟ لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال« اعْرِضُوا علَيّ رُقَاكُمْ.-الذي لا يعلم يعرض الرقية- لاَ بَأْسَ بِالرّقَىَ مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكا» عنا تعرض الرقية على العالم ليقول لك هل هذه جائزة هل غير جائزة هل هي مشتملة على معنى حق وجائز أم ليس كذلك.
فإذا الواجب على الجميع الأخذ بالمشروع، وترك أو الحذر والتحذير من الرقى الشركية أو البدعية؛ لأنها وبال على...
ولأن الشرك يحدث العمل والعياذ بالله فيأتي يريد النجاة ثم يبوء بخسارة الدنيا والآخرة والعياذ بالله.
الذي يرقي له صفات؛ يعني الراقي يكون:
أولا: مخلصا لله جل وعلا؛ يعني يكون بعمله وأقواله ليس من أهل الشرك، وإنما هو من أهل التوحيد والإخلاص، وأيضا إذا رقى أحد فيخلص الاستعانة والاستعاذة بالله جل وعلا في الانتفاع بهذه الرقية.
الخصلة الثانية: من صفات الراقي أن يكون ذا علم، والمقصود بالعلم هنا العلم المقيد؛ يعني أن يكون ذا علم في أنَّ الرقية مشروعة، تكون الرقية بالقرآن, بما ثبت في السنة, بالأدعية المعروفة, يكون ذا علم؛ يعلم أنّ هذه الرقية مشروعة، عرضها على عالم فقال هذه الرقية لا بأس بها، أما إذا كان ذا جهل ليس من أهل العلم وليس عنده تحري فيما يترك أو فيما يأتي, فإنه فإن هذا من علامات عدم إحسانه للرقية أو عدم السماح له بأن يرقي أو التمكين بأن يرقي.(27/16)
الصفة الثالثة: أن يكون يقصد النفع، هذه صفة مستحبة أن يقصد نفع إخوانه نفع المحتاج، وهذا دل عليه حديث جابر رضي الله عنه بل عنهما رضي الله عنهما قال (مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ) ونفع الإخوان نفع المحتاج نفع المريض إحسان ولو أخذ عليه جعلا لكن النفع إحسان و الإحسان مطلوب بين العباد، وأحب العباد إلى الله أنفعهم إلى عباد الله.
ومن صفات الراقي: أن يكون معلقا المرقي بالله جل وعلا، لا يعلق المرقي لا يعلق المريض بنفسه، ويأتي يعمل على نفسه حالة من العظمة ومن الانتفاع بالرقية، ويحدث بأحاديث أنا شفيت من مرض كذا وأنا قرأت وشفيت من السرطان وأنا قرأت على فلان وشفيت من مرض كذا ويعظم نفسه عند من يقرأ عليه, من صفات الراقي المحمود أن يكون ذا خشوع وخضوع وإخبات لله جل وعلا، وأن لا يتعاظم ويعظم نفسه، وينفع بما أعطاه الله جل وعلا ولا يعظم نفسه, يعلق الناس به؛ بل يعلق الناس بالأذكار المشروعة والأوراد التي ثبتت في السنة ونحو ذلك، ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر, ويفتح لهم أسباب الخير، لهذا صار كثير ممن رأينا, كثير خاصة الجهلة والنساء يتعلقون بالراقي من حيث هو، فلان رقيته كذا وربما ما قرأ كلمة أبدا، أو ربما قرأ شيئا يسيرا ونحو ذلك؛ يعني ما اجتهد وتحرى الصواب وتحرى الآيات التي تنفع ونحو ذلك، وإنما هكذا بالاسم، وهذا غير محمود؛ بل الذي ينبغي أن ينصح الراقي الناس بأن النافع هو الله جل وعلا، وأنا صاحب سبب والرقية أيضا سبب، ويعلمهم الأوراد المحمودة ويعلمهم الخير وينهاهم عن الشر.
وأيضا من صفات الراقي: أن يكون متنزها عن موارد الزلل والفتنة، خاصة في الرقية على النساء؛ لأن الشيطان ربما دخل على الإنسان من جهة الرقية في الخلوة بالمرأة، أو في وضع يده على المرأة، أو نحو ذلك مما يبغي عنه شرعا.(27/17)
فالواجب على الراقي أن يحذر من وسائل الشيطان ومن سبل الفتنة التي ربما أدت به إلى افتتان في الدين والعياذ بالله، وحصل هذا من بعض من تعاطوا الرقية. و نسأل الله للجميع قَبول التوبة والهداية إلى سواء الصراط.
أما المرقي الذي يُرقى عليه؛ المريض، الذي أصابته عين، أولا من صفاته التي ينبغي أن يتحلى بها:
أولا أن يعظم الرجاء والاستعانة والاستعاذة بالله جل وعلا، والله سبحانه وتعالى قال لعباده?وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ?[يونس:107]، وقال جل وعلا في آية الأنعام ?وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17)وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ?[الأنعام:17-18]، قال أيضا سبحانه ?وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ?[الشعراء:80].
فإذن أنت يا من تحتاج إلى من يرقيك: أعظِم الرجاء في الله جل وعلا، كما تذهب إلى الطبيب وتعرف أن الطبيب سبب و النافع هو الله جل وعلا، فكذلك الراقي سبب والنافع هو الله جل جلاله.
أيضا أيها المرقي يا من يحتاج إلى الرقية إياك والوسواس، فإن مجال فإن مجال العين والحسد مجال للوسواس, الإنسان ينظر -الرجل أو المرأة- فينظر ويقول أنا أصابني كذا يقول فلان كذا، أصابني كذا بالحسد, أصابني بكذا، يأتي إلى أوهام كثيرة ويعظم عنده الأمر، ويورثه هذا مرضا على مرضه، والواجب على العبد أن يعظم التوكل على الله جل وعلا وأن يأخذ الأسباب؛ ولكن لا يجعل للشيطان من قلبه نصيبا في أنه يوسوس له ويضعفه؛ لأنه إذا ضعف تسلَّط عليه الشيطان أكثر.(27/18)
ومن صفات المرقي أن يتعلم الأوراد هو بنفسه، ليس دائما يحتاج إلى الناس هو يرقي بنفسه، يرقي نفسه بفاتحة الكتاب، بسورة الإخلاص والمعوذات، وبآية الكرسي قبل أن ينام, بالأوراد طرفي النهار وبعد الصلوات المكتوبة، ونحو ذلك، فتحصنه؛ لأن هذه الأدعية والرقى تنفع دفعا وتنفع رفعا؛ يعني تنفع بدفع السوء تكون مثل اللباس مثل الحديد الذي يحصنك من الضرر الذي يأتي بك, فهي مثل الألبسة التي تقي لأنها سبب نافع، والله جل وعلا هو النافع الضار سبحانه وتعالى.
هناك مخالفات نختم بها الكلام يقع فيها الذين يرقون وأيضا الذين يسترقون.
أما مخالفات الرَّاقين:
أولها وأعظمها أن يتخذ القراءة والرقية حرفة يتفرَّغ لها تفرغا كاملا، والمعلوم أن الناس بحاجة إلى الرقية، والتفرغ لها لم يكن من هدي الصحابة في عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ مع أن فيهم راقين، ولم يكن من هدي الصحابة ولا التابعين، وإنما نشأ في أعصر متأخرة، فالذي عليه هدي السلف الصالح والذي دلت عليه السنة أن ينفع المرء إخوانه بجُعل أو بغير جعل في الرقية؛ ولكن لا يتفرغ لها لا يتخذ الرقية حرفة يكون كالطبيب المتفرغ لها، وهذا من جهة أنه لم يرد أو لم يكن في الزمن الأول في قيام الحاجة إليه.
أيضا من جهة أخرى فيما رأينا من الذين تفرغوا أورثتهم أشياء ممنوعة كثيرة، فمن تفرغ للرقية تجد عنده أشياء من المخالفات؛ لأنه يحتاج إلى أشياء يفعلها وإلى أشياء يتركها، وفعلوا أشياء من بيع من غير برهان، ومن فعل بالرقية عن طريق الأشرطة وعن طريق الأصوات يكون هو يقرأ في غرفة والسماعات في غرفة أخرى على الراقين، ونحو ذلك مما فيه مخالفة للوارد، وهذا ينبغي أن يمنع سدا للذريعة؛ لأنه ربما أقضى إلى أشياء مذمومة من توسع هؤلاء القراء في أشياء لا تجوز أو لم يأذن بها الشرع.(27/19)
أيضا من المخالفات التي هي منتشرة عند القراء، وهي أيضا أشد من الأولى، هي استخدام بعضهم لقرينه من الجن، وهذه شبهة شبَّه بها بعض القراء، وحتى سرت في بعض منهم، وهو أنه يقول: أستعين بمسلم الجن أو بقريني, أستعين بمسلم الجن إذا حضروا أو بقريني في معرفة ما بالمرقي, معرفة ما به: هل به عين؟ هل به سحر؟ هل فيه كذا وكذا؟
والاستعانة بالجن الأصل فيها المنع، أجاز بعض العلماء أنَّه إذا عرض الجني أحيانا -يعني نادرا- عرض للمسلم لإبداء إيمانه له فإنه له أن يفعل ذلك؛ لكن ليس هذا من هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا صحابته؛ بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له من الجن حالان:
الأول: أن يأمرهم وينهاهم؛ يأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن ضده؛ لأنهم مكلفون، فهم مثل غيرهم في الأمر والنهي.
والحال الثانية: مع الجن شياطين الجن هي أن يستعيذ بالله جل وعلا من شرهم، وأن يسترق بالرقى المحمودة المشروعة لدفع شرورهم.
أما الاستعانة بالجن حتى ولو كان حاضرا فلم يكن عليه هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا صحابته، ومن أجاره من العلماء فإنما هو إذا عرض في حال معينة، وهذا لا ينبغي أن يكون في حال الرقية.
فإذن الواجب هو ترك الاستعانة بالجن؛ لأن هذه وسيلة من وسائل الشر والشرك بالله جل وعلا.(27/20)
ثم أيضا فيمن استعان بمسلم الجن هذا أوْرثهم أنهم جعلوا هناك مصائب وفرقة وشحناء في النفوس من جراء إخبارهم بما أخبر به من زعموا أنه من مسلمي الجن، يخبرهم أنه هذا فيه عين وهذه العين من زوجته الثانية, من بنت، أو سحر أو شيء هو من كذا، فيحدِّث بما أخبره به هذا الجني، والجني قَبول خبره بما يُخبر به متوقف على أنه عدل وأنه ثقة، وعدالة الجن لا تعلم حتى ولو كان قرين الإنسان أو كان حاضرا معه، لا تعلم عدالة الجني هل هو عدل أم غير عدل ولهذا ذكر علماء الحديث في كتب المصطلح على أن كتب المصطلح أن رواية الجني مسلم الجن روايتهم ضعيفة؛ لأن الرواية في صحتها موقوفة على معرفة العدالة معرفة الثقة وهنا لا سبيل إلى الوصول إليه، فكيف يخبر بخبر الجني هذا الذي يزعم أنه مسلم؛ يخبر بأنه أخبره الجني بأن هذا فيه سحر من فلانة, هذه المرأة فيها سحر من زوجة زوجها الثانية -من ضرتها- أو من امرأة أبيها أو من عمتها، فيخبر بذلك فتقع شحناء وقطيعة إلى آخره, بل قد يقول البلاء من زوجك, زوجك فعل كذا وكذا، وهذا لا يجوز اعتماده، ولا يجوز الاستعانة بالجن في ذلك سدا لذريعة الشرك بالله وللفرقة التي قد تحصل في المؤمنين.
أيضا من المخالفات في الراقين: أنهم تساهلوا في المشروع في الرقية، ولكثرة الناس وقِلَّة الوقت أصبحوا يرقون بأنواع من الرقية في وسيلتها هي مخالفة للوسيلة المشروعة؛ مثلا بعضهم يصنع أختاما؛ ختم فيه الآية يختم بها على زعفران ثم يضع فيه الأوراق، وأنا رأيت من ذلك ختم كبير يختم به على الورقة، والختم لا بد فيه من ضرب على الورقة، وهذه آية من القرآن وهذا امتهان للقرآن؛ لأنه يأتي يختم فيه آية القرآن محرَّم ثم يضربه على الورقة ضربا، هذا مخالفة؛ لأنه امتهان للقرآن وامتهان القرآن محرم.(27/21)
من ذلك مثلا أنه يأتي بما يسميه: قراءة عادية، وقراءة مركزة، ويقولون أيضا قراءة ملكية، كيف؟ يقول هذا قرأت فيه كذا وإلى آخره، وهذا كله وسيلة من وسائل أكل أموال الناس بالباطل، وخلاف الأصل, الأصل أن يُقرأ بالمشروع دون تفريق، لا تقول هذه قراءة عادية بخمسين ريال، وقراءة ممتازة بمائتين، وقراءة ملكية بألف، هذا مما لا يسوغ؛ لأنه أولا يُفضي إلى أشياء منكرة، ثم هو أيضا مما هو مخالف لما جاء في نصوص السنة؛ يعني في أصل الرقية, هذا مما ينبغي الحذر منه ومخالفته، وأن يكون المرء الراقي يكون مخلصا صادقا معتمدا على المشروع، تاركا لغير المشروع، حذرا من مزلة الشيطان له.
هذه بعض المخالفات التي يقع فيها بعض الذين يرقون.
من جهة أخرى هناك المخالفات العظيمة الشركية التي يقع فيها السَّحرة والمشعوذون والمتطببة بالباطل, فيأتون بالرقى كما ذكرنا لكم الشركية، يُعطون أوراق فيها أسماء شياطين أو فيها أسماء غير معروفة أو نحو ذلك، فهذا الحذر الحذر منه؛ لأنه شرك بالله جل وعلا، وقد يكون معه والعياذ بالله وصية بذبحٍ لغير الله جل جلاله مما يخرج المرء من دين الله؛ لأنه شرك أكبر وعبادة يجب أن تكون لله جل جلاله، أو يأمره بأن يفعل أشياء من الشرك والعياذ بالله، أو من الكفر كإهانة المصحف ونحو ذلك مما هو كفر بالله جل جلاله.(27/22)
لهذا يجب على الجميع التعاون على البر والتقوى والتعاون على إنكار المنكر، مَن علم أنه يتخذ في قراءته أو في رقيته أساليب غير شرعية من الشرك والشعوذة والدَّجل فإنه يجب الإبلاغ عنه، ولا تبرأ ذمتك حتى تبلغ عنه؛ لأن هؤلاء يفسدون في الأرض، والله جل وعلا أمر بإصلاح الأرض ونهى عن إفسادها، وواجب التعاون إذا علمت أو رأيت فيجب عليك أن تحذر من أن تسكت، ويجب عليك أن تبلغ، تبلغ من؟ تبلغ جهات الاختصاص، الهيئة، أو تبلغ الإمارة، أو تبلغ القاضي في البلد، أو المحكمة أو نحو ذلك مما تبرأ به ذمتك، أو تبلغ بعض أهل العلم الذين تعرفهم مما تبرأ, لا يجوز السكوت.
هذه كلمات تبصِّرُك عن قرب وبدون تعمق في موضوع هذه المحاضرة وهو الرقى وأحكامها.
ولا بد للجميع بالعناية بهذا الموضوع، وأن يتفقهوا في الدين؛ لأن من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
وأن ينتبهوا للنساء في البيوت وللجهلة من أن يذهبوا إلى قرَّاء أو إلى من يرقي بدون أن تعلم شخصه وعدالته وثقته وأمانته وحسن استعماله للرقية.
الواجب على الجميع أن يتعلم، وأن يحذر من وسائل الشرك، وأن يحرص على السنة، وما جاء فيها من إرشاد وبيان، فالخير كل الخير في إتباع سنة محمد عليه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ؛ لأنه لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه, فدلنا على الرقية المشروعة، وذلك بالقرآن أو بما أرشد إليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ من الأدعية المعروفة، وكذلك نهانا عن الشر من الرقى الشركية وما شابهها مما هو وسيلة إليها, وأمرنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بكل خير وحضنا عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
أسأل المولى جل وعلا أن يجعل ما سمعنا نافعا، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا.(27/23)
كما أسأله سبحانه أن يثبتنا على الإخلاص له وعلى توحيده وتحقيق توحيده, وأن يجعلنا من الذين رضي عنهم, رضي قولهم ورضي عملهم فأرضاهم إنه سبحانه جواد كريم.
كما أسأل المولى جلت قدرته أن يصلح ولاة أمورنا وأن يهديهم إلى الرشاد، وأن يوفقهم إلى كل سبيل خير فيه نصرة للإسلام والمسلمين وفيه نفع للبلاد والعباد.
كما أسأله جل جلاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، ونعوذ به من الحور بعد الكور، ومن الظلال بعد الهدى، ومن الزيغ بعد الإيمان ?رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ?[آل عمران:8].
اللهم أنزل علينا جميعا عفوك ورحمتك ومغفرتك وعافيتك على قلوبنا وأبداننا, وأصح اللهم من اللسان والبنان والقلب والجوارح، وقوِّي عقيدتنا وإيماننا وتوحيدنا إنك جواد كريم.
أنت أكرم من سئل وأنت بالإجابة جدير ونحن محتاجون فقراء إليك ربنا.
اللهم فأجب ما سألنا واغفر لنا جما.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.
تعليق سماحة شيخ الجميع العلامة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
قد سمعنا جميعا هذه المحاضرة القيمة التي تفضَّل بها صاحب الفضيلة الشيخ: صالح بن عبد العزيز بن إبراهيم آل الشيخ جزاه الله خيرا وضاعف مثوبته.
وهي محاضرة قيمة في موضوع جدير بالعناية.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يضاعف له المثوبة، وأن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنح الجميع الفقه في الدين.(27/24)
ووصيتي للجميع العمل بما سمعتم من التوجيهات والفائدة من جهة الرقية، كثير من الراقين ليس عندهم البصيرة في الرقية، وكثير منهم يحدث منهم ما لا ينبغي، وينبغي للمؤمن أن يتوخى إذا أراد الرقية يتوخى المعروفين بالخير والمعروفين بالاستقامة المعروفين بالعلم، حتى لا يقع فيما يخالف الشرع.
وقد سمعتم ما جاء في الحديث يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لاَ بَأْسَ بِالرّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكاً»، ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا رقية إلا من عين أو حمة»، والعين عين العائن، والحمة سم ذوات السموم؛ يعني أنها أولى من غيرها، وإلا فالرقية لكل شيء من الأمراض أو ما يعرض للإنسان من البلاء.
وقد رقى الصحابة رضي الله عنهم لديغا فعافاه الله، رقاه بعضهم بالفاتحة فعافاه الله، وقال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخبروه «أصبتم» صوبهم ولم يعنف عليهم، وأخذوا جعلا من أصحاب المريض، ورقاه بالفاتحة.
فالمقصود أن الرقية أمرها لا بأس به، وهي رقية شرعية كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لاَ بَأْسَ بِالرّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكاً» وكان يرقي، قد رقى ورقي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ. وكان الصحابة يرقون.
والرقية تكون بالقرآن، وتكون بما جاء في الأحاديث، وتكون بالأدعية الطيبة المباحة، المؤمن يتحرى لرقيته، ما جاءت به النصوص، ويتحرى ما يتعلم من الأدعية الطيبة يدعو بها للمرقي، ويتحرى الإخلاص في ذلك، ويعلم أن الله سبحانه هو الذي بيده الشفاء والعافية، وإنما الرقية سبب من الأسباب.(27/25)
فعلى الراقي والمرقي الثقة بالله والتعلق بالله، والإيمان بأنه سبحانه هو بيده الضر والنفع والعطاء والمنع والشفاء والعافية، وتكون القلوب معلقة به سبحانه، ومطمئنة إليه يعلم الراقي والمرقي أن الشفاء بيد الله، فيعلق رجاءه بالله، ويسأل الله أن ينفع بالأسباب سواء الأسباب رقية أو كي أو علاج بأدوية أخرى، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «عِبَادَ الله َتَدَاوَوْا وَلاَ تَتَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»، فالتداوي والعلاج لا بأس به بالرقية وغيرها؛ لكن مع الثقة بالله والاعتماد على الله وألا يرقي إلا بما شرع الله وبما أباح الله، وأن لا يداوي غيره ولا تداوي إلا بما أباح الله، وأن يكون قلبه معلقا بالله وواثقا بأنه سبحانه هو الذي بيده الشفاء، وإنما هي أسباب، والشفاء بيد الله جل وعلا، والرقية كما سمعتم لها شروط ثلاثة:
الأول: أن تكون الرقية بالقرآن أو بما جاء في الأحاديث أو بالأدعية المباحة و الأشياء الواضحة المباحة، أما بأسماء مجهولة أو الأشياء المجهولة أو [بالشِّرج] أو بالتعلق على غير الله أو بالتوسل بالجن، كل هذا ممنوع، لابد من هذا الأمر، تكون الرقية بأشياء واضحة من الآيات أو من الأحاديث أو أشياء واضحة مباحة لا بأس بها.
والثانية: لا تجوز الرقية بما يخالف الشرع أو بالأسماء المجهولة.
الثالثة: أن نعتقد أنها سبب وأن الشفاء بيد الله هو الذي يشفي جل وعلا، وإنما هي أسباب.(27/26)
ومما ينبغي التنبيه عليه كما نبه عليه فضيلة الشيخ صالح: الحذر من سؤال الجن، والاعتماد على أقوالهم، يقول: هذا سحرته أخته أو أخت زوجته أو أمه أو فلانة أو فلان. كل هذا باطل، كل هذا كذب ولا يجوز الاعتماد على ذلك، ولا يجوز للراقي سؤالهم ولا الاعتماد على قولهم؛ لأن فيهم الكذاب وفيهم المجهول وفيهم الفاسق وفيهم الكافر، فلا يجوز الاعتماد عليهم ولا سؤالهم، وإنما يرقيه، وإذا كان به جن تكلم مع الجني وعظه وذكَّره وحذره من البقاء في الإنسي، وأنَّ هذا ظلم وأنه لا يجوز له والواجب عليه الخروج وأن يتق الله وإن كان مسلما أن يراقب الله ويحذر مغبة الظلم.
وأما أن يصدقه بأنه دخلت بسبب فلان وأن فلانة فعلت وفلانة فعلت أختك أو أمك أو زوجة أخيك أو جارك أو فلان، كل هذا يجب الحذر منه، وأن لا يصدق هؤلاء الكذابون من الجن.
ولكن الراقي يعضهم ويذكرهم ويأمرهم بالخروج وأنه وقع في الظلم، إذا كان مسلم يتقي الله ولا يظلم أخاه، وإن كان غير مسلم كذلك يجب الحذر من الظلم ولأن عاقبته وخيمة، فيذكره ويحذره من البقاء في المسلم، وأن هذا ظلم يجب الحذر منه.
وبكل حال الواجب على الراقون أن يتقوا الله وأن يراقبوا الله، وأن يرقوا بالآيات القرآنية والأدعية النبوية والأدعية المباحة، وأن يحذروا مما حرم الله من الأسباب المحرمة، وأن يحذروا الكذب، وتصديق الجن أو سؤالهم أو الاعتماد عليهم.
كل ذلك يجب الحذر منه، وأن يكون الراقي يعتمد على الله ويعلم أنه مسبب الأسباب وأن بيده الضر والنفع وأنه القادر على كل شيء جل وعلا.(27/27)
ولهذا بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» يعني الرقى المجهولة أو الرقى بغير شرع الله وبغير ما أباح الله، أو الرقى التي فيها التوسل بالشياطين والجن ونحو ذلك، إنما الرقى هي التي تكون بالقرآن العظيم والأدعية النبوية والأدعية المباحة، و(التِّولة) الصرف والعطف والسحر، و(التمائم) ما يعلق على الناس ما يعلق على الأولاد وغير الأولاد من الحروز كلها منكرة يجب الحذر منها.
أما حديث فيه السبعين لا يسترقون ولا يكتوون، فهذا من باب الفضل، عدم الاسترقاء أمر أفضلي، وعدم الكي أفضل، وإلا لا بأس أن يسترقي ولا بأس أن يكتوي، النبي كوى وكوي واسترقى، أمر عائشة أن تسترقي، وأمر أم [...] أن تسترقي؛ بل ترك الاسترقاء من باب الفضيلة من باب ترك سؤال الناس، وإذا استرقى للحاجة أو كوى للحاجة فلا بأس.
ولهذا قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «الشفاء في ثلاثة: كية نار أو شرطة محجم أو شربة عسل وما أحب أن أكتوي» وفي لفظ آخر «وأنهى أمتي عن الكي»، فالكي آخر الطب، عند الحاجة إليه لا بأس به.
وأما رواية (لا يرقون) فهي رواية شاذة غير صحيحة، وإنما المحفوظ (لا يسترقون) أما كونه يرقي هذا من مشروعية نفعه لأخيه، كما في الحديث «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ» كونه ينفع أخاه ويرقيه هذا أمر مشروع ومأجور؛ لكن مع تحري الرقية الشرعية والحذر مما حرمه الله من الرقية في الجاهلية.
نسأل الله أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح.
ونسأل الله أن يمنحنا وإياكم الفقه في الدين.
ونسأل الله أن يضاعف الأجر لفضيلة الشيخ صالح عما بذل وعما وضح وبين.
ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أصحابه وأتباعه بإحسان.
?????
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري.
---
([1])انتهى الوجه الأول.(27/28)
بعض خصائص
الفرقة الناجية؛ الطائفة المنصورة
[شريط مفرّغ]
الحمد لله الذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله, وكفى بالله شهيدا, أحمده سبحانه حمد عبد معترف بما له جل وعلا من الآلاء والنعم...، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم جميعا ممن أصلح قوله وعمله, وجعل حياته زيادة في كل خير ونعوذ به جل وعلا من الخذلان، كما نسأله أن يُلزمنا كلمة التقوى وطريقة السلف الصالح التي هي أولى.
ثم إني في مقدمة هذه المحاضرة أشكر الأخ الشيخ عبد المحسن العجيمي إمام هذا المسجد تنظيم هذه المحاضرات التي نحرص عليها؛ لأن لها فوائد كثيرة؛ ولأن بها نشر العلم النافع، ونشر العلم النافع به صلاح القلوب وصلاح العباد؛ فهو شجرة زكية تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.(28/1)
وموضوع هذه المحاضرة هو بعض خصائص الفرقة الناجية والطائفة المنصورة, وهذه المحاضرات كما سمعتم تُنظَّم في عقيدة أهل السنة والجماعة وفي صفاتهم، وتنظيمها في هذا الموضوع مهم؛ لأن الحاجة في كل زمن إلى بيان ما عليه أهل السنة والجماعة الذين وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة من النار، هو درس لكل مسلم بأن يحتذي حذوهم، وأن يلازم طريقتهم، وأن يستمسك بعرى الدين الذي هم عليه، فقد جاء على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الْيَهُود افْتَرَقَتِ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وإنّ النّصَارَى افْتَرَقَتِ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وإنّ هذه الأمة ستفترق علَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلّهَا فِي النّارِ إِلاّ وَاحِدَةً » قالوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ الله؟ قال «وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» وفي رواية أخرى قال «هِيَ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْم وَأَصْحَابِي». وهذا الحديث يدل على أنّ الطائفة الموعودة بمغفرة الله جل وعلا وبالنجاة من عذابه في النار، أنها هي الملازمة للجماعة، وهي الملازمة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولهذا تنوّعت أسماء هذه الفئة إلى عدة أسماء عند أهل العلم:
? فتارة يسمونهم أهل السنة والجماعة، باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ على أنها الجماعة وأنها على مثل ما هو عليه عليه الصلاة والسلام؛ يعني على السنة فصاروا أهل السنة والجماعة.
? ومنهم من يصفهم بأنهم الفرقة الناجية، وهذا وصف جاء متأخرا ولم يكن معروفا في الزمن القريب منه عليه الصلاة والسلام، وأُخذ من أنها نجاة من النار ما بين الثلاث وسبعين فرقة، فوصفت بأنها الفرقة الناجية وسميت الفرقة الناجية.(28/2)
? ومنهم من يقول الطائفة المنصورة، وهذا باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي عَلَى الْحَقّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ ولا من خالفهم حَتّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله تعالى»، وفي لفظ آخر «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ »، وفي لفظ ثالث «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي عَلَى الْحَقّ منصورة لاَ يَضُرّهُمْ مَن خالفهم ولا مَن خَذَلَهُمْ حتى تقوم الساعة» وهذا يدل على أنّ هذه الطائفة على الحق، والحق هو الذي عليه الفرقة الناجية، والحق هو الذي عليه تلك الفرقة التي تميزت من بين ثلاث وسبعين فرقة برضا النبي صلى الله عليه وسلم وبوعده لها بأنها تنجو من النار، ووصفها هنا بأنها منصورة لأنه نظر إلى أنّ الله جل وعلا وعد من استمسك بكتابه وبسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وبالهدى الأول بأنه سيستنصر، كما قال جل وعلا ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ(51)يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ?[غافر:51-52] والعياذ بالله، وكما جاء في قوله تعالى في آخر سورة الصافات ?وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:171-173]، وكما جاء في قوله تعالى أيضا ?وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ?[الروم:47] ونحو ذلك مما فيه لفظ النصر والنصرة من الله جل وعلا.
لهذا هذه أسماء لشيء واحد ولمسمى واحد ولطائفة واحدة، فيقال أهل السنة والجماعة، الطائفة المنصورة، الفرقة الناجية، وهذه أسماء متقاربة متحدة الدلالة، وفي المعنى بعضها يدل على الآخر كما ذكرت لك.(28/3)
إذا تبين لك ذلك فإن هذه الفئة والطائفة لا شك أنها وُصفت بأنها على الجماعة، وأنها ملازمة لطريق النبي صلى الله عليه وسلم ولطريق صحابته، وأنها على الحق، وهذا يدل على أنها لم تبدل في دينها عما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا هو الأصل العظيم في معرفة الصلة الكبرى التي تندرج تحتها جميع السمات والصفات والخصائص في أنهم يلازمون طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وسنته وهدي الصحابة وطريقة الصحابة.
ومعلوم أن الإسلام ينقسم: إلى عقيدة، وإلى شريعة. كما قسمه طائفة من العلماء، وإن كان شريعة يُعنى بها العقيدة في بعض الاستعمالات.
والعقيدة يراد بها ما ليس في أمور الفروع وأمور العبادات والمعاملات إلى آخره؛ يعني العقيدة في الأمور الغيبية؛ الإيمان بالله وملائكته وما يعتقد ولا يدخله العمل من جهة لفظه.
وأما الشريعة ففيها أنواع العبادات والمعاملات والسلوك إلى آخره.
ولا شك أن الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسائل؛ في العقيدة والشريعة، هناك إجماع منهم على مسائل في الشريعة والعقيدة، وهناك مسائل اختلفوا فيها فعذر بعضهم بعضا فيها وهي في مسائل الأحكام؛ في بعض مسائل الأحكام الفقهية مما لم يجمعوا عليه، اختلفوا في بعض المسائل الفقهية ولم يعب بعضهم على بعض فيها؛ لأن في الدليل ما يدل على كل قول من الأقوال، فعذر بعضهم بعضا فيها، والمجتهد له أجران إن أصاب وله أجر واحد إن أخطأ، وأما مسائل العقيدة فإنهم لم يختلفوا فيها، وكذلك طائفة من مسائل الشريعة أجمعوا عليها سواء في مسائل ما يجب أو فيما يحرم، فأجمعوا في الواجبات على شيء، وأجمعوا في المحرمات على شيء، ?وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115].(28/4)
لهذا وجب على كل مسلم يريد سلامته ونجاته، وعلى طلاب العلم بالخصوص الذين ائتمنهم الله جل وعلا لأجل حرصهم على العلم على أن يأخذوا العلم من مصدره، وعلى أن لا يفرقوا دين الله جل وعلا، وجب عليهم بأن يهتموا بأمور العقيدة وأمور الجماعة أعظم اهتمام؛ لأنها السِّمة العظيمة لهذه الفئة والفرقة الناجية الطائفة المنصورة.
إذا نظرت إلى هذه السِّمات والخصائص التي ستأتي فإنك ستجد أنها منقسمة إلى عدة أقسام:
? منها ما هو متصل بالأصل الأصيل الذي هو منهج التلقي ومعرفة الأدلة التي يُستدل بها...... فيما يرومه من مسائل.
? والقسم الثاني: فيما يتصل بقواعدهم في العقيدة التي بها تميزوا عن فرقة الضلال من الخوارج والمرجئة والمعتزلة وأشباه هذه الفرق التي خالفت طريقة الصحابة رضوان الله عليهم.
? والقسم الثالث: ما يتعلق بمنهج التعامل مع أصناف الخلق، ومسائل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعامل مع -كما ذكرت- أصناف المسلمين من طائعين ومبتدعة وعصاة إلى غير ذلك.
أما:
القسم الأول(28/5)
فإن أهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة على الحق ساروا على وفق ما أمر الله جل وعلا في معرفة ما يستدل به؛ يعني الإنسان المسلم إذا أراد أن يبرهن على قضية فبما يبرهن؟ هل يبرهن بأي برهان يأتي على ذهنه؟ ويكون ليس له منهج في الإستدلال ولا في التلقي؟ أم أنه هناك ضابطا يضبطه في مسألة كيف يستدل وبما يستدل؟ ولهذا أهل البدع أرادوا الاستدلال ببعض الأدلة دون بعض فخابوا وخسروا؛ فالخوارج مثلا أخذوا ببعض أدلة القرآن دون بعض، وأخذوا ببعض السنة دون بعض، والمرجئة أخذوا ببعض دون بعض، وهكذا أهل الاعتزال أخذوا ببعض دون بعض، وهكذا، أيضا سلطوا العقل على الأدلة؛ فجعلوا الدليل تابعا للعقل، أو استدلوا بالعقل المجرد فجعلوه هو الحق، وجعلوا الدليل إذا خالف العقل فإنه لا يستدل به لأجل أن العقل قطعي عندهم، وأما الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف فإنها أو أقوال السلف فإنها مظنونة كما يزعمون، لهذا قال بعضهم: إنّ العقل هو القاضي المصدَّق وإنّ الشرع هو الشاهد المعدل. فجعل مرتبة العقل القضاء والقاضي هو الذي يفصل، وجعل الشرع شاهدا. وهذا من أعظم السّمات التي يتّسم بها من لم يأخذ بطريقة الصحابة رضوان الله عليهم، لهذا كان مصدر التلقي في معرفته في المسائل كلها؛ في مسائل الغيب والإيمان والقضاء والقدر، بل في التوحيد والربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وما سيأتي من مباحث، لا بد من معرفة كيف تستدل؟ وبما تستدل؟(28/6)
فأدلة أهل السنة والجماعة على مسائلهم في الأمور التي تميزوا بها عن غيرهم واتفقوا عليها: هي الكتاب والسنة والإجماع. وأما العقل فيجعلون العقل تابعا للنقل، فإن الشرع دل على العقل ليُفهم به النص لا أن يكون العقل معارضا لما دل عليه الدليل؛ لأن العقل اجتهاد فرد، والدليل وحي من الله جل وعلا، وإذا قال القائل العقل، فإنما هو قول لا حقيقة له واحدة؛ لأنه إذا قيل العقل يدل على كذا فعقل من هل هو عقل واحد أو عقل اثنين أو عقل عشرة أو عقل مائة إلى آخره، فالعقول تختلف، والمدارك تختلف، لهذا في المسائل العظيمة التي ذهب إليها من يقولون إنهم أصحاب العقول لما كبروا في السن تغيرت عقولهم ورأوا أنهم لم يدركوا شيئا؛ لأن حتى عقل الإنسان ينمو مع الزمن، فعقله وهو ابن ثلاثين، يختلف على عقله وهو في الأربعين، يختلف عن عقله وإدراكه وهو ابن الخمسين وابن الستين، فإذن كلمة ”العقل“ هذه ليست لها وحدة واحدة ترجع إليها، لا من جهة الأشخاص بأن يقال عقل –مثلا- الناس يدل على كذا، وكذلك في عقل معين يختلف ما بين فترة وأخرى، فالعقل يختلف باختلاف السّن باختلاف المعلومات وأنواع الادراكات، وفوق كل ذي علم عليم، لهذا صار العقل في الشرع مقدّرا ولكنه تابع للشرع؛ لأنه لا يستقل بالإدراك بل لا بد أن يكون تبعا للمصدر الحق.(28/7)
فإذن منهج التلقي عند أهل السنة والجماعة منحصر في أن يكون في الكتاب السنة والإجماع. والكتاب الذي هو القرآن نعني به ما يشمل جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله جل وعلا، تارة يُستدل بقراءة، وتارة يستدل بالقراءة الأخرى، والتي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه بالتواتر برواية أكثر من عشرين صحابيا أنه قال «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ»، والقرآن حجة لأنّه من الله جل وعلا، لهذا قال الله جل وعلا ? وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ?[المائدة:49] والحكم يكون في المسائل العلمية وفي المسائل العملية، وقال جل وعلا ?وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ?[الأنعام:115] (تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) يعني الشرعية، (صِدْقًا) فيما أخبر الله جل وعلا به من أمور الغيب، (وَعَدْلًا) فيما أمر به ونهى من الأوامر والنواهي فتمت كلمة ربك وفي القراءة الأخرى – (وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)سبحانه وتعالى.(28/8)
والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بتحكيم سنته عليه الصلاة والسلام، قال جل وعلا? وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا?[الحشر:7] والْحَظْ في أول الجملة الأولى ما قال (وما أمركم) حتى لا يكون ما آتانا النبي صلى الله عليه وسلم منحصرا في الأحكام العملية، بل قال (ما أتاكم فخذوه) بما يشمل العقائد وأمور الغيب وما يشمل المسائل العملية، وأما النهي فهو راجع إلى العمل لا إلى الأخبار؛ لأن الأخبار لا مجال فيها للنهي، بل هي ما أوتينا فيها فإننا نصدقه كما أنزل الله جل وعلا وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» وأمر الله جل وعلا بطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام في أكثر من ثلاثين موضع كما هو معلوم، وطاعته تشمل طاعته في الأخبار بتصديقها، وطاعته في الأوامر والنواهي بامتثال الأمر واجتناب النهي والاستغفار عن التقصير.
لهذا من المهم أن يكون الاستدلال في مسائل الاعتقاد، في المسائل الغيبية في مسائل المنهج، في المسائل التي يختلف فيها الناس فيها بين الفرق التي انقسمت، يكون الاستدلال بكتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بالإجماع؛ لأنّ الإجماع حجة، ولما ذكر الشافعي رحمه الله تعالى الإجماع وأنّه حجة قالوا له من أين أتيت بأنّ الإجماع حجة؟ قال: فقرأت القرآن أريد دليلا على أن الإجماع حجة حتى بلغت قوله تعالى في سورة النساء ?وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115]. و(غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني غير ما أجمعوا عليه، فتوعده الله بأن يصليه جهنم وساءت مصيرا؛ لأنّ هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة كما جاء في الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم.(28/9)
فإذن منهج الاستدلال وتحت هذه الجملة كلمات:
? منهج الاستدلال أن يكون بالقرآن ويشمل ذلك جميع الأحرف السبعة والموجود منها الآن القراءات ربما عشر أو أربعة عشرة قراءة وهي تدخل أو هي بعض بمجموعها بعض الأحرف السبعة بمجموعها، ولا صلة بين الأحرف السبعة والقراءات السبعة، القراءات السبعة هذا اصطلاح اصطلحه أبو بكر بن مجاهد في كتاب أحد القراء في كتاب اختار من قراء المسلمين الذين نقلوا القرآن سبعة، اختار سبعة قراء وجعلهم في كتابه، القراءات السبع هذا شيء ليس مساويا للأحرف السبعة وإن اشتركوا في أن هذا سبع وهذا سبع.
? أما السنة فيُستدل عند أهل السنة والجماعة بما ثبت على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يعني أهل السنة والجماعة بصحيح السنة وبما لا يصح من السنة، فلا يستدل في مسائل الاعتقاد والمسائل العظيمة بما لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام، ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله في معرض كلام له: أهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في أصل من الأصول، بل إما في تأييده أو في فرع من الفروع. أو كما قال رحمه الله، لأن السنة الصحيحة حجة، فإذا ثبت الحديث بأنْ كان حديثا صحيحا أو كان حديثا حسنا؛ إما أن يكون حسنا لذاته، أو أن يكون حسنا لغيره لتقوية الشواهد له لم يكن فيه نكارة ولا شذوذ، فإنه يحتج به، فهذا من التلقي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.(28/10)
? أما الإجماع فإنّ الإجماع إذا نقله جمع من العلماء وقالوا: أجمع العلماء على كذا. فإنه يُقبل، وأما إذا قال أحد العلماء: أجمع العلماء على كذا. فإنه قد يكون له اصطلاح في الإجماع كما كان لابن المنذر اصطلاح في الإجماع رحمه الله تعالى وكما كان لغيره إصلاح لكلمة ”أجمعوا“ كذلك اتفقوا على كذا، فإذا نقل أكثر من عالم هذا الإجماع ولم يتعقب فإن هذا يدل على صحة هذا الإجماع، وكذلك ما اشتهر من الإجماعات؛ ما اشتهر من الإجماعات حتى غدا معروفا عند أهل السنة والجماعة بحيث لا يُحتاج فيه إلى إثبات نقل عليه؛ مثل تقديم أبي بكر رضي الله عنه للخلافة لتقديمه في الفضل، وكذلك تقديم عمر بعده لتقديمه في الفضل، وكذلك تقديم عثمان بعده على من عداه من الصحابة لتقديمه في الفضل، وهكذا علي رضي الله عنه، فإننا نعلم أن الصحابة على هؤلاء الأربعة أجمعوا واتفقوا على ما ساروا إليه بنقل جماهير المسلمين بحيث كان فائضا ومستفيضا من المعلوم.
وثم بحوث أخرى تتصل بمنهج الاستدلال.(28/11)
إذن تلحظ أنّ منهج الاستدلال عند أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة ليس فيه تقديم العقل كما يقدمه المعتزلة، ليس فيه الأخذ ببعض الكتاب دون بعض كما هو عند الخوارج والمرجئة وفئات، ليس فيه تقديم أو الاحتجاج بالمنامات أو ما بما يسمونه الفيوضات عند الصوفية، وعند بعض الناس الذي يرى أنه صار متعبدا متعبدا جاءه منام ظنه وحي ربما خالف، خالف... ولهذا يحكي عن أحد العلماء وأظنه عبد القادر الجيلاني وكان سنيا وإنْ خالف من بعده فعظموه حتى خرج أتباعُه عن طريقة السلف، قال: جاءني في المنام -أو كما جاء في الرواية- شيطان فقال أنا ربك أسقطت عنك الصلوات، فقال قلت أعوذ بالله منك فقال فساح ولم أره. لأن إسقاط الصلوات عن واحد من عباد الله لم تأتِ به الشريعة، فهذا عالم لا يمكن أن يأخذ بكلام أحد يأتيه ويجعله مقدما على ما جاء في النصوص بما أوجب الله عليه، ظل بهذا الطريق فئات فرأوا أنّ الصلوات والعبادات ربما سقطت عنهم، وأنهم وصلوا إلى حالة من الإيمان والقوة بحيث أنه إذا عاشر منكرا أو أنه إذا ترك واجبا أنه لا يضره في إيمانه كما هو عليه طائفة من الذين أسقطوا على أنفسهم التكاليف، أو ظنوا أنهم يسعهم الخروج عن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام. فإذن الاستدلال بالمنامات، الاستدلال فيقول جاءني ما جاءني في الفيوضات ورأيت كذا، هذا ليس من منهج أهل السنة والجماعة ولا من طريقة الفرقة الناجية؛ بل هو من طرق أهل الضلال، فلا يقدم العقل، ولا تقدم المنامات، ولا الفيوضات ونحو ذلك من ما يستدل به من يستدل ممن خالف طريقة الصحابة رضوان الله عليهم.
كل المسائل هذه فيها تفصيلات لكن يذكرها باختصار لأجل رعاية استيعاب الموضوع.
القسم الثاني
القواعد التي رعاها أهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة الفرقة الناجية التي رعوها حتى فارقوا أهل الضلال بتمسكهم بالكتاب والسنة؛ القواعد في عقيدتهم وفي سلوكهم:(28/12)
?أولا: قالوا إنّ التوحيد الذي أمر الله جل وعلا به في كتابه هو أن يؤمن به جل وعلا دون ما سواه يكون في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته.
وقالوا إنّ القرآن دلنا على منهج إثبات الربوبية.
وأن القرآن دلنا على أن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه.
وأن القرآن -يعني والسنة في كل المواضع والسنة- دلنا القرآن والسنة على أن الواجب هو إثبات الأسماء والصفات لله جل وعلا وعدم تأويل شيء من ذلك يخرجه عن ظاهره.(28/13)
وهذا بيِّن في أنّ الأدلة دلت على أنّ التوحيد الذي طلبه الله جل وعلا من الناس لما بعث إليهم الأنبياء إنما هو التوحيد المتعلق بالإله؛ المتعلق بالألوهية، قال جل وعلا لما أرسل كل رسول كما في سورة الأعراف([1]) أن كل رسول يقول لقومه ?أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ?([2])، وقال جل وعلا ?إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ?[الصافات:35]، فأمر الله جل وعلا بهذا التوحيد الذي هو توحيد الإلهية وهو عبادته وحده دونما سواه، فقرّر أهل السنة والجماعة أنّ التوحيد الذي ينجي العبد في العبادة إنما هو أن يوقن بأنّ الله هو المستحق للعبادة وحده وأنّ هذا هو معنى لا إله إلا الله، وأن الربوبية؛ توحيد الربوبية يتضمنه توحيد الإلهية، فمن عبد الله وحده دونما سواه فإنه مؤمن بأن الله هو ربه وحده؛ مفارقة لطريقة الأشاعرة مثلا والمعتزلة والمتكلمين الذين قالوا إنّ التوحيد المطلوب من العبادة الذي ينجيهم هو توحيد الربوبية، فإذا كان كذلك فإنّ الله أثبت أن المشركين الذين بُعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوقنون بأن الله ربهم وأنه خالقهم ورازقهم ومدبر الأمر، ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31] يؤمنون بأنّ الذي يفعل هذا هو الله جل وعلا، هذا ربوبية، لكن ما أنجاهم، لهذا غلطوا الأشاعرة ومن نحى نحوهم لما فسروا الإله بأنه القادر على الاختراع، وفسروا الإله تارة بأنه المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه، كما قال صاحب السَّنوسية من كتبهم يقول –يسمونها أم البراهين- يعني التي فيها البراهين الكافية وهي ليست كذلك، قال: فمعنى لا إله إلا الله لا مستغنى عما سواه ولا مفتقر عليه كل ما(28/14)
عداه إلا الله. إذ الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه، هذا كل أحد يؤمن بأن الرب بأن الله جل وعلا مستغن عن الخلق وأن الخلق مفتقرون عليه، هذا يؤمن به أبو جهل ويؤمن به كل الذين عارضوا الرسل ليس عندهم إشكال، الإشكال ومعارضة الرسل في أن يُوَحَّد المعبود؛ أن يذروا الأصنام وأن يتوجهوا بالعبادة إلى إله واحد، ولهذا في القرآن ?وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ?[البقرة:163] إذ أنهم كانوا إذا قيل لهم (لَا إِلَهَ) يعني يستحق العبادة إلا الله (يَسْتَكْبِرُونَ)، ولما قالوا في سورة ص ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5]، إذن فهذا المنهج مهم في أنّ السلف والصحابة فمن بعدهم إلى زماننا هذا ممن لزم هذا المنهج يعلمون أنّ الابتلاء وقع في الألوهية وممن أبرز هذا أيّما إبراز وركز عليه الحافظ الإمام ابن جرير الطبري في التفسير؛ فركّز عليه، وهناك من قبله من أئمة السنة، لكن هو كرر هذا المعنى في تفسيره في ذكر توحيد الربوبية نصا، وتوحيد الألوهية نصا.(28/15)
أما توحيد الأسماء والصفات فمعناه الإيمان بأن الله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلى وأنه لا مثيل له في أسمائه ولا في ما اتصف به من الصفات على ما قال جل وعلا ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، والذين خالفوا طريقة أهل السنة قالوا إن الصفات لا يثبت منها كل ما جاء في القرآن والسنة، وإنما تقسم الصفات إلى صفات دل عليها العقل، وصفات لم يدل عليها العقل بل دل العقل على أنه لا يوصف جل وعلا بها، وهذا تفريق بين كلام الله جل وعلا، والأخذ ببعض وردّ بعض؛ لأن الله جل وعلا لما وصف نفسه في كتابه وسمى نفسه جعل المجال مجالا واحدا، وجعل الطريق طريقا واحدا، لم يفرّق بين صفة وصفة؛ لأنها كلها أمور غيبية يذكر الله جل وعلا عن نفسه العلية وعن ذاته المقدسة جل جلاله ما يجب علينا أن نؤمن به، فلماذا يفرق الإنسان ما بين شيء وشيء وكله جاء في القرآن والسنة؟ فالتفريق هذا ليس من منهج أهل السنة؛ بل أهل السنة والجماعة يجعلون الباب بابا واحدا، فكل ما جاء في الكتاب أو السنة في وصف الله جل وعلا، أو في ذكر أي أمر من الأمور الغيبية فإنهم يثبتونها على ما دل عليه ظاهر اللفظ دون تأويل أو تحريف يخرجه عن ظاهره أو عن دلالة ظاهره. ولهذا تعلمون القاعدة التي قعّدها أهل السنة في هذا بأننا نؤمن بما جاء في الكتاب والسنة من ذكر أمور الصفات؛ من ذكر صفات الله جل وعلا أو أسماء الرحمن جل وعلا، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. فنحن لا نكيّف ولا نمثّل ولا نعطل ولا نجسم، لا نتأول تلك النصوص تأويلا تخرجها عن ظاهرها. فإذن إثبات اليدين لله جل وعلا هو مثل إثبات السمع لله جل وعلا، قال أولئك ممن ظل في هذا الباب، قالوا إننا إذن قلنا أن اليدين مثبتة لله جل وعلا، أو أن الله يوصف بالرحمة، أو أنه يوصف بالغضب ويوصف بالرضا، هذا معناه شبهناه بالمخلوق؛ لأن هذه أشياء يتصف بها المخلوق. طيب ما الذي(28/16)
أثبتم من الصفات؟ قالوا أثبتنا وجود الله جل وعلا، وأثبتنا الكلام لله جل وعلا، وأثبتنا السمع لله جل وعلا، وأثبتنا الإرادة لله جل وعلا، وأثبتنا الحياة لله جل وعلا، وأثبتنا القدرة لله جل وعلا... إلى آخره. أليست هذه موجودة في المخلوق؟ أليست الحياة موجودة؟ أليس السمع موجودا؟ أليس البصر موجودا؟ أليست القدرة موجودة؟ فما الفرق عندكم ما بين اتصاف المخلوق بهذه الصفات واتصاف الله؟ قالوا: المخلوق له منها ما يناسبه قدرته محدودة. طيب تقول إذن في المقام الثاني: إنه إذن ما يليق بالله جل وعلا من الصفات لا يُنفى عن الله، فنقول لله وجه سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته ولو لم يخبرنا الرب جل وعلا على أن له وجها لو لم يخبرنا أن له وجها لما أثبتناه، لو لم يخبرنا سبحانه وتعالى أنه متّصف بالرضا والغضب ?غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ?[الفتح:6]، قالوا: لا، الله لا يغضب. ليش ما يغضب؟ لأن هذه صفة نقص في المخلوق أنه إذا زعل. كيف يزعل؟ لماذا هل هو عندكم أن الغضب هنا ينفى لأجل مشابهة المخلوق؟ قالوا: نعم. طيب، الصفات التي أثبتوها لا تشابه المخلوق؟ فلا مجال لهم في الإنكار، لهذا من خصائص أهل السنة أنهم لا يفرقون في باب الأسماء والصفات ولا في باب الغيبيات بين باب وباب، في باب الغيب قال جل وعلا ? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ?[الأنبياء:47]، يأتي آتٍ ويقول ما فيه موازين؛ لأن الميزان يحتاجه الشخص الذي يُشك فيه هل هو عادل أو ليس بعادل؟ والله جل وعلا يوم القيامة هو الحكم العدل سبحانه، فما يحتاج إلى موازين، فإذن الموازين هذه معناها العدل لماذا قلتم هذا؟ لأجل أن العقل قال لهم لا نحتاج لهذا، أما أهل السنة والجماعة فقالوا أثبت الله الموازين فنثبتها والله جل وعلا جعل الميزان في مثقال ذرة، قال ? فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه?[الزلزلة:7] لاحظ كلمة (مِثْقَالَ) ? وَمَنْ يَعْمَلْ(28/17)
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه?[الزلزلة:8]، ثم وَضْعُ الشيء في الميزان ليس هو لأجل إبراز عدل، لأجل حاجة الله جل وعلا أن يُثبت عدله ولكن لأجل إقامة الحجة على المخلوق المكلف؛ لأن هذا هو ميزانه، هذه حسناتك وهذه سيئاتك، وأنت الآن الحكم على نفسك ? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ?[الأنبياء:47]، وفي الآية الأخرى قال جل وعلا ? اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا?[الإسراء:14] فيُعطى الكتاب قبل الميزان فينظر في الكتاب كل شيء عمله من خير أو شر فإنه يجده في كتابه، ثم بعد ذلك يضع الله الميزان، وينظر العبد أنه توضع فيه الحسنات وأنه توضع فيه السيئات.
إذن التأويل الذي يُخرج هذه الآيات عن ظاهرها لاشك أنه باطل، إذن من خصائص أهل السنة والجماعة والطائفة الناجية أنهم لا يخوضون في آي القرآن ولا في دلائل السنة بتأويل يصرفها عن ظاهرها؛ بل يؤمنون بالغيب كله لأن الله أثنى عليهم بقوله في أول آية في القرآن ? ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ?[البقرة:2] المتقي الذي يخاف الله جل وعلا أوّل صفاته ?الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ?[البقرة:3] ثم بعد ذلك ذكر العبادات، الإيمان بالله إيمان بالغيب، الإيمان بالملائكة إيمان بالغيب، الإيمان بالرسل الذين سلفوا إيمان بالغيب، الإيمان بالكتب إيمان بالغيب، الإيمان بالقدر إيمان بالغيب، الإيمان باليوم الآخر إيمان بالغيب، فرجع حقيقة أركان الإيمان والعقيدة إلى أنها إيمان بالغيب، فمن آمن ببعض الغيب وبعض الغيب تأوله فإنه خارج عن صراط الصحابة والفرقة الناجية في ذلك، هذه مسألة.
إذن مسائل التوحيد هذا نهجهم رضي الله عنهم وأرضاهم.(28/18)
?القاعدة الثانية: أنهم يؤمنون بأن الله جل وعلا جعل لكل شيء قدَرا كما أنه جعل لكل شيء قدْرا فما خلق الله من شيء إلا بقدَر سبحانه وتعالى قال جل وعلا ? وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا?[الفرقان:2] وقال سبحانه في سورة القمر ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ?[القمر:49]، وقال سبحانه ? وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا?[الأحزاب:38] فإذن الإيمان بالقدر هذا من سِمَة أهل السنة والجماعة، ([3]) من الإيمان بالقدر؛ مما تميزوا به أنهم يعلمون أن الله جل وعلا جعل لكل شيء سببا، فأناط المسببات والنتائج بالأسباب وبالمقدمات، فيقول أهل السنة والجماعة إن الله جل وعلا جعل السبب ينتج المسبب، ومن فعل سببا فقد أتى بالواجب عليه، فإنه من الواجب على العبد أنْ يأتي بالأسباب التي توصل إلى المقصود، فأعظم الأسباب التي توصل إلى المقصود الإيمان بالله جل وعلا حتى ينجو العبد، أعظم الأسباب التي توصل إلى المقصود طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، الإيمان بالقرآن وهكذا، فهذه من الأسباب العظيمة حتى لا يتمنى أحد على الله الأماني، كذلك في الأمور الكونية جعل الله جل وعلا الماء منبتا للزرع، قال جل وعلا ?فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ?[ق:9] أنبتنا به، جعل الله جل وعلا ولد فلان ابن فلان عقد أته سيأتي في اليوم الفلاني وفي الساعة الفلانية سيخرج إلى الدنيا؛ لكنه جعل لإتيانه سببا أن فلانا يتزوج ثم يُواقع امرأته في وقت معلوم إلى آخره، فتحمل به بإذن الله جل وعلا، هذه الأمور الأسباب يؤمن بها أهل السنة والجماعة، لكن في الأسباب لا ينظرون إلى الأسباب، لا يلتفتون إلى الأسباب، لا ينظرون إليها على أنها تُحَصِّل المقصود وحدها، بل ينظرون على أنها سبب والله جل وعلا هو الذي ينفع بالسبب ويجعل السبب سببا نافعا، خُذ فمثلا أحدهم يذهب إلى الطبيب فيعطيه دواء فلا ينفع، الذهاب إلى الطبيب سبب، الدواء سبب(28/19)
مشروع لا بأس به، تناول الدواء المباح لا بأس به، فإذا فعل ذلك، هل لابد أن يحصل له الشفاء؟ لا يحصل، فإذن نأتي السبب ثم بعد ذلك نفوض الأمر إلى الله جل وعلا في الانتفاع بهذا السبب، أما محو الأسباب أن تكون أسبابا كما على غير أهل السنة والجماعة من الذين ينفون الأسباب، ويقولون في القدر بالجبر الجبرية في باب القدر يقولون: لا، الأسباب هذه أشياء خلقها الله للظاهر، ولكن في الحقيقة الإنسان مجبور على كل شيء. طيب الآن الإنسان يعلم أنه يشرب الماء فيرتوي، الارتواء كيف حصل؟ قالوا، ماذا يقول أهل السنة؟ يقولون الارتواء حصل بسبب الماء شربت فارتويت، يعني سبب ظاهر النار وَلَّعْتَها على شيء فأحرقته، النار هي التي أحرقته لكن من الذي نفع جعل الماء يروي؟ هو الله جل جلاله، من الذي جعل النار تحرق؟ هو الله جل جلاله، لو أراد الله جل وعلا أن يبتلي العبد بأن يشرب من الماء بحارا ولا يرتوي لفعل سبحانه وتعالى، كما يحصل مع بعض المرضى أو كما يحصل مع من ابتلاهم الله جل وعلا، وكذلك لو أراد الله جل وعلا أن يبطل فعل النار أن تؤثر بالإحراق لأبطل –لاحظ- لأبطل السبب، كما أبطلها حين قُذف إبراهيم عليه السلام في النار ?قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ?[الأنبياء:69] هذا قول أهل السنة.
أما أهل البدع، والجبرية فإنهم ماذا يقولون؟ يقولون: لما شربتَ الماء أحدث الله لك الشعور بالارتواء، لما اقترنت النار بهذه الورقة أحرق الله الورقة، لما حصل التقاء الذكر بالأنثى وضع الله جل وعلا الحمل، وهذا كما يرى أي منصف أنّ هذا خلل في العقل والتفكير؛ لأنك تسلب الأسباب أن تكون أسبابا، ولهذا أهل السنة ساروا في القدر على منهاج رضي؛ لأنهم نظروا إلى الأسباب نظرا صحيحا، ومسألة الأسباب مهمة في السلوك وفي القدر وفي الإيمان؛ لأن بها وضوح النظرة إلى هذه الأشياء.(28/20)
من منهج أهل السنة والجماعة في باب القدر أيضا أنهم قالوا إنّ الإنسان جعله الله جل وعلا مخيّرا يختار طريق الحق ويختار طريق الضلال، كما قال سبحانه ? وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ?[البلد:10] يعني طريق الخير وطريق الشر، يختار، ? وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا?[الشمس:7-10] (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) في الخير، و(خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) في الشر، والذي يسعى في تزكية نفسه ويسعى في تدسية نفسه وخيبتها، لكن كما أنه ليس بمجبر وهو مختار، لكن هناك شيء مهم وهو أن الله جل وعلا يعين ويوفّق من توجه إليه، كيف؟ يعني الذي يرغب في الخير يعينه الله ويوفّقه، والذي يرغب في الشر ويسعى إليه يخذله الله ويكله إلى نفسه، فلهذا المؤمن المصدق بالقدَر يرى أنه فيما أطاع الله فيه أنه ليس من عند نفسه؛ هو نعم اجتهد، لكن الله أعانه، وهذا يحس بها كل واحد فينا أن الله أعانه، كذلك الذي عصى الله جل وعلا إنما عصى الله جل وعلا بمحض اختياره، والله جل وعلا خذله ووكله إلى نفسه.
?من القواعد أيضا في هذا الباب أنّ أمور الغيب بعامة بابها واحد كما ذكرنا، وأنه لا يُتَعَرَّضُ فيها بالتأويل، ونخص هنا ذكر التأويل؛ لأن التأويل نجده مبثوثا في كثير من كتب التفسير وكتب الحديث، يخرج المسألة الغيبية عن ظاهرها إلى ما يقبله العقل، والتأويل لفظ كان مستعملا؛ بل جاء في القرآن لفظ التأويل، وجاء في السنة، واستعمله المتأخرون على معنى باطل. أما الذي في القرآن والسنة فإنّ التأويل له معنيان:(28/21)
المعنى الأول: أنّ التأويل بمعنى التفسير؛ يعني تأويل كذا يعني تفسير كذا، كما قال جل وعلا ?وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا?[يوسف:100]، (تَأْوِيلُ رُؤْيَاي) يعني تفسير رؤياي، ?وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ?[يوسف:44] يعني بتفسير الأحلام، هذا هو معنى الأول التأويل بمعنى التفسير.
المعنى الثاني: الذي في القرآن التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقائق القرآن؛ حقائق الأحكام أو حقائق الأخبار، تؤول إليه؛ يعني ما تؤول إليه في النهاية، وهذا كما في قوله جل وعلا ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ?[آل عمران:7]، يشمل تأويل التفسير فيما اشتبه على بعض الناس علمُه، ويشمل التأويل الذي ما تؤول إليه حقائق يوم القيامة، كذلك في قوله تعالى في سورة الأعراف ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ?؛ يعني تأويل القرآن ? يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ?[الأعراف:52]، إذن في قوله (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ)، يعني ما تؤول إليه حقائق القرآن يوم القيامة، تؤول إليه؛ يعني تنتهي إليه، يوم القيامة يَبِينُ، يَبِينُ الوصف الحق، يَبِينُ الجنة، يَبِينُ النار، يَبِينُ الظالم، يَبِينُ، الحقائق تَبِينُ.
هذان المعنيان صحيحان.(28/22)
أما التأويل الثالث الباطل الذي ينفيه أهل السنة والجماعة وليس من منهجهم، هو أنْ يُصرف اللفظ الذي في القرآن والسنة مما يتعلق بالغيب إلى معنى آخر لا يدل عليه الظاهر لأجل العقل، وهذا هو طريقة المتكلمين؛ من المعتزلة، الأشاعرة، الماتريدية، والكلابية، وفئات كثيرة، ويدخل فيهم الرافضة، والزيدية، الإباضية، والخوارج، كلهم ينحون منحى التأويل هذا، يقولون العقل دلَّنا على أنّ هذه لا نحملها على ظاهرها، تحملونها على أي شيء؟ نحملها على معنى ثان. يؤولونها بما يتفق مع العقل، هذا تأويل باطل.
التأويل في اللغة التفسير. التأويل في القرآن جاء بمعنى التفسير؛ فسّر الآية بظاهرها، فإذا كنت لا تحسن تفسير ظاهرها أمرّها كما جاءت، فإنّ ذلك تفسيرها لأنك لا تدخل فيما لا علم لك به
?القاعدة الرابعة في هذا الأمر المهم أنّ أهل السنة والجماعة تميزوا بأنهم في الإيمان يقولون: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ قول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان؛ يعني بآلات الإنسان، ببدن الإنسان، واعتقاد بالجنان، وليس الإيمان اعتقاد بدون عمل، أو قول اعتقاد بدون عمل، فلا بد من الثلاث، هذه حقيقة الإيمان وهي أركان الإيمان.(28/23)
وليس قولهم في الإيمان كقول من خالفهم؛ لأنهم أخذوا مسألة الإيمان أخذوها مما يدل عليه القرآن والسنة، قال النبي عليه الصلاة والسلام عليه الصلاة والسلام «آمُرُكمْ بِالإيمَانِ بِاللّهِ وَحْدَه، أَتَدْرُونَ مَا الإيمَانُ بِاللّهِ وَحْدَه؟» قَالُوا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «أنْ تشْهَدوا أنْ لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم» وفي رواية «وأنْ تجاهِدُوا في سَبِيلِ الله» هنا سألهم: (أَتَدْرُونَ مَا الإيمَانُ) ثم ذكر أشياء، هذا السؤال عن بيان حقيقة، يريد أن يبين لهم حقيقة الإيمان، ما هي؟، فذكر الشهادتين، ذكر الأعمال؛ الصلاة عمل بدني، الزكاة عمل مالي، وذكر آداء الخمس من المغنم، الذي هو نتيجة للجهاد في سبيل الله كذلك في الحديث الآخر «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ, أَوْ بِضْعٌ وَسِتّونَ شُعْبَةً, فَأَعْلاَهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطّرِيقِ, وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» لماذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة؟ يُبَيِّن الأعلى والأدنى، والأعلى اِلْحَظْ أنّه قول، والأدنى اِلْحَظْ أنه عمل، والحياء هذا إيش؟ شيء في القلب، الحياء أمر قلبي ينتج عن أشياء، ليدل عليه الصلاة والسلام أُمتَه على أنّ الإيمان فيه أقوال وأعمال وأشياء قلبية.
إذن فهذا حقيقة قول أهل السنة الذي تميزوا به.
أما الخوارج والمعنزلة ومن خالف، فإنهم جعلوا الإيمان شيئا واحدا إما أن يأتي كله، وإما أن يزول كله.
أما أهل السنة فقالوا: العمل يختلف؛ عمل فلان عن فلان، هم درجات عند الله، هذا رجل متعبد، وآخر خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فهل يستوون؟ لا، الإيمان يتبعض؛ فهو مراتب، بعض الناس أعلى من بعض في الإيمان.
أما غيرهم قالوا: لا، هو حقيقة واحدة، إمّا أنْ يأتي كلُّه وإما أن يذهب كلُّه.(28/24)
الأمر الثاني قالوا: إن الذي يرتكب الكبيرة ليس بمؤمن؛ لأنه فقد شرط صحة الإيمان وهو العمل.
وأهل السنة والجماعة يقولون: لا، هو مؤمن بإيمانه، ولكنه فاسق بكبيرته، واحد عنده عمل صالح وهو نفسَه عنده عمل آخر سيء، الله جل وعلا يقول ?وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ?[التوبة:106]، وقال في وصفهم ?وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا?[التوبة:106] فالذي يأتي إلى الناس ويقول هذا الإيمان إما أن يأتي كلُّه وإلا ذهب كله، هذا ليس على طريقة أهل السنة والجماعة، سواء كان المحكوم عليه فردا، أم كان حاكما، يقول إما أن يأتي كله أو يذهب كله فإن هذا ليس من أقوال أهل السنة، بل طريقة أهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة في باب الإيمان أنهم يقولون: الإيمان يتبعض، وأن المؤمن يمكن أن يكون يعمل خيرا، ويمكن أن يكون يعمل شرا. فهو ربما جمع بين هذا وهذا، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، لا نسلبه اسم الإيمان لأجل معصية وقع فيها.
القسم الثالث
من خصائص أهل السنة والجماعة ما يتعلق بالمنهج الذي سلكوه تجاه الصحابة رضوان الله عليهم أو في الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو نحو ولاة الأمر وما شابه هذه المسائل؛ لأن هذه المسائل افترقت فيها الأمة، فأول ما حدث الخروج على عثمان رضي الله عنه، ثم تكفير بعض الصحابة؛ تولي بعض وتبرأ من بعض مثل الخوارج والناصبة والرافضة، ثم جاء ضلال في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما عند المعتزلة في وقت متأخر، وهكذا.
فاتّسم أهل السنة والجماعة لإكرام الله جل وعلا لهم بالنجاة والنصر بأنهم يسلكون في ذلك بما دلت عليه النصوص ولا يفرِّقون في ذلك بين نص ونص أو يُخرجون النصوص عن ظاهرها.(28/25)
ففي مسألة الصحابة: إنّ أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة والفرقة الناجية ويتولون جميع الصحابة بلا استثناء؛ كل صحابي فإننا نحبه ”فلمقام أحدهم ساعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عبادة أحدكم ستين سنة“ كما جاء في الأثر عن بعض الصحابة، وقال عليه الصلاة والسلام «لاَ تَسُبّوا أَصْحَابِي. فَوَالّذِي نَفْسُ مُحًمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدّ أَحَدِهِمْ, وَلاَ نَصِيفَهُ» يعني ولا نصف المد، والله جل وعلا يقول ? مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا?[الفتح:29]، إلى أن قال في آخر الآية آخر سورة الفتح ? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا?[الفتح:29]، وقال جل وعلا ? لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ?[الفتح:18]، وقال جل وعلا ? وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ? يعني بعد الصحابة ? يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[الحشر:10]، فمن خصائص أهل السنة محبتهم لجميع الصحابة، وأنهم يتولون الجميع، ولا ينتقصون صحابيا من الصحابة مهما كان، لا ينتقصونهم، وأفعال الصحابة رضوان الله عليهم مما اجتهدوا فيه، منهم من كان مصيبا فله أجران، ومنهم من كان مخطئا اجتهد رغبة في الأجر وتحريا للحق فله أجر واحد، وهكذا كان الأمر في الخلاف ما بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه، فإن أهل السنة والجماعة يرون هنا أنّ عليا رضي الله عنه هو المصيب فهو الأولى بالحق، وهو الذي يجب على(28/26)
الناس إذْ ذاك الالتزام به، ومعاوية رضي الله عنه كان مجتهدا فله أجر واحد على اجتهاده، ويرتبون الصحابة أنّ الخلفاء الأربعة ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ولا ينتقصون أحدا من الصحابة البتة.
كذلك منهجهم مع أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وأخصّهن خديجة رضي الله عنها وعائشة رضي الله عنها الصّدّيقة بنت الصديق، فإن أهل السنة والجماعة يتولون جميع أمهات المؤمنين، ولا يذمون امرأة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل يشهدون أنهن زوجاته في الآخرة كما كنّ زوجاته في الدنيا عليه الصلاة والسلام، كما قال جل وعلا في وصف النساء وأزواجه ? النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ?[الأحزاب:6] فهن أمهات المؤمنين والأم لها حق -صحيح أنها ليست أم في المحرمية وليس الصحابي محرما لها- فهذا أُمّ في الحق، وفي تحريم النكاح كما هو معلوم.(28/27)
أمّا أهل البدع فتجد أن الخوارج يكفرون بعض الصحابة، من الذي الذي قتل عثمان؟ الخوارج. من الذي قتل علي رضي الله عنه؟ الخوارج. أفضل رجلين في زمانهما عثمان وعلي يُقتلان تقربا إلى الله جل وعلا، هل بعد هذا الضلال من ضلال؟ يأتي عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل عليا، وكان متعبدا من الخوارج الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله « يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ. وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ» ما أعجبته تصرفات علي رضي الله عنه فسعى، واتفقوا على أن يُقتل ثلاثة منهم عليًّا فقُتل علي فأتوا إلى ابن ملجم ليقطعوا رأسه، فقال: إني سائلكم ألا تقطعوا رأسي مرة واحدة بل قطِّعوا أطرافي شيئا فشيئا حتى ألتذَّ بتعذيب بدني في سبيل الله جل وعلا. أعظم من هذه رغبة في سبيل الله جل وعلا، لكن هل هم رضي الله عنهم؟ لا، بل هم كلاب أهل النار، كما قال عليه الصلاة والسلام «أيْنَمَا لقِيتُمُوهُم فاقْتُلُوهُم فإنَّ فِي قَتْلِهِم أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُم» مع أن عبادتهم عظيمة، -اسمع كلامهم- حتى أتى الخارجي الثاني يمدح هذا الذي قتل علي يقول:
يا ضربة من تقيٍّ ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكرُه حينا فأحسبُه أوْفى البرية عند الله ميزانا
يقول أوفى البرية عند الله ميزانا هو الذي قتل علي، هذا ضلال، ضلال مبين، مع كثرة العبادة ومع كثرة الصلاح الظاهر لكنهم كلاب أهل النار، لما؟ لأنهم لم يلتزموا نهج الصحابة رضوان الله عليهم، فالطريقة الأولى والجماعة هي الفرقة الناجية ومن عداهم لاشك أنه متوعَّد بالنار ومن أهل الضلال.(28/28)
أما في مسائل العلماء بصلتها بالصحابة: فإن طريقة أهل السنة والجماعة أنهم لا يذمون أهل العلم إذا أخطؤوا في مسألة ما داموا مستمسكين بما دل عليه الدليل؛ يعني في الجملة، فإذا غلِط أحدهم في مسألة أو في مسألتين أو اجتهد فأخطأ، فإنهم لا يتبعونه فيما أخطأ فيه، لكنهم لا يذمونه لأنهم يعلمون أنه مجتهد، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، فمن منهجهم سلامة ألسنتهم من الوقيعة في أهل العلم؛ لأن العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الذين يدلُّون الناس على الشريعة، فإذا قُذف العلماء وطُعن أهل العلم لأجل أنّ فلان لم يصوِّب فعلهم فإنه يقع الضرب في ماذا؟ في الشرع، وأفرح ما يفرح الشيطان وأولياء الشيطان في أن يُطعن في الذين يُرشدون الناس وهم العلماء؛ لأنْ يختلّ الناس ولا يبقى لهم من يُرشدهم، أو لا يبقى لهم من يثقون به؛ فيسيرون وفق أهوائهم فيضلون ويُضلُّون، لهذا سلامة اللسان من الوقيعة في أهل العلم، هذه السنة وخصّيصة من خصائص الطائفة المنصورة والفرقة الناجية.(28/29)
من صفاتهم أيضا وخصائصهم في هذا المقام المتعلق بالمنهج: أنهم يتولّون ولي الأمر الذي وَلاَّه اللهُ جل وعلا أمرهم، ويدعون له بالصلاح والمعافاة، ويعينونهم على الخير، ولا يعينونهم على الشر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل لأنّ الله جل وعلا أمر بذلك في كتابه، وأمر به نبيُّه صلى الله عليه وسلم، فقال ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ?[النساء:59]، وقال جل وعلا ?وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ [عَلَيْكُمْ]([4]) وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا?[النساء:83]، ويؤمنون بقول النبي صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَطَاعَ الأَمِير فَقَدْ أَطَاعَنِي. وَمَنْ عَصَىَ الأَمِير فَقَدْ عَصَانِي»، وأهل السُّنّة يُطيعون ولاة الأمر في غير المعصية، أما في المعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قولهم في غير معصية يشمل مسألتين:
المسألة الأولى: أنهم يطيعونهم فيما فيه طاعة لله جل وعلا؛ يعني أمروا بالصلاة فإننا نطيعهم طاعة لله جل وعلا ثم طاعة لأولي الأمر، أمروا بأداء الزكاة لا يفرّ المسلم منها؛ بل يطيع الله جل وعلا ثم يطيع ولي الأمر، أمروا بالجهاد فإنّ الجهاد مع كل بَرّ وفاجر من ولاة الأمور وهكذا.(28/30)
أما المسألة الثانية: فإنهم يُطاعون فيما هو من موارد الاجتهاد، إذا كانت المسألة اجتهادية؛ اختلف فيها أهل العلم، فإنهم، أو اجتهد الوالي في مصلحة للدين ومصلحة للمسلمين فإنه يُطاع ولو لم يكن اتفاق على أنّ هذا فيه مصلحة، بل يُطاع في المسائل الاجتهادية، وهذا ما يتعلق بالمصالح المرسلة، أما ما فيه نص فخالفه فإنّ هذا فيه معصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذه هي التي بيَّنها عليه الصلاة والسلام في قوله «إنّمَا الطّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» يعني فيما عُرِفت الطاعة فيه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهنا خالف في طاعة ولاة الأمور الخوارج فخرجوا على عثمان، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية لمّا ردّ على الشيعة في كتابه منهاج أهل السنة قال: وما من أحد خرج على ولي الأمر إلا وله تشبثٌ ببعض التأويل الذي له فيه حق-لأنّه ما يمكن واحد يكون ولي الأمر كاملا ثم يخرج عليه، لا يكون هذا شيء آخر، لكن يكون ولي الأمر كاملا ويخرج عليه هذا، إنما يخرج الذين يخرجون لأجل مخالفة أو مخالفات رأوها، يقول:- وهكذا كانوا الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه الخليفة الراشد، فإنهم تشبثوا بمسائل أخذوها عليه في تصرفه في بعض الأموال، وفي تعيينه لبعض قرابته، وأرادوا في الحق ظاهرا، والمالَ أرادوه باطنا. أو نحو كلامه رحمه الله. يعني أنّ المسألة اختلطت في الرغبة في الدنيا والرغبة في الآخرة، فنقذوا وخرجوا ولم يطيعوا لأجل دخول هذه في هذه. والله جل وعلا حسيب كل عبد على نفسه.
الأخيرة أو قبل الأخيرة: منهجهم في التعامل مع الخلق؛ في الدعوة، الأمر بالمعروف النهي عن المنكر، وفي الجهاد في سبيل الله جل وعلا، فإنّ الطائفة المنصورة وُصفت بأنها منصورة، وبأنها ظاهرة على الحق، والظُّهور هنا -كما قال العلماء-:(28/31)
? هو ظهور باللسان والبيان في كل زمان وأوان؛ لأن معهم القرآن، والله جل وعلا جعل القرآن مهيمنا على ما عداه، فظهورهم على كل أحد لا بد؛ لأن حجتهم أقوى، لأن برهانهم أقوى، فَهُم يقولون بالقرآن والسنة، فما دل عليه فهو الحق والهدي، فهذا ظهور لسان وبيان.
? والقسم الثاني يكون أحيانا، وهو ظهور السيف والسنان؛ يعني أن يتغلبوا على غيرهم وأن يظهروا على غيرهم ظهور سيف وسنان بالقتال والجهاد، فهذا يكون بعض الأحيان، فليس دائما يُشْرع الجهاد، وليس دائما يكون الجهاد في سبيل الله جل وعلا بالسيف موجودا؛ بل قد تمر في الأمة فترات لا يكون فيها جهاد، كما قال عليه الصلاة والسلام «تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ هُدْنَةٌ» إلى آخره، أما ظهور بالبيان واللسان فهذا في كل زمان.(28/32)
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ يأمرون المسلم بالمعروف وينهون المسلم عن المنكر، لا رغبة في الاستعلاء عليه؛ ولكن رحمة له ودِلالة للخلق على الخالق جل وعلا، وامتثالا لقوله ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ?[آل عمران:110]، ما معنى الآية؟ يعني كنتم للناس يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام، كنتم للناس خير أمة أخرجت يعني على الإطلاق، الأمة ليست تُخرج للناس، بعض الناس يتصور معنى الآية (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أنّ الأمة أُخرجت للناس، لا، الأمة لا تَخرج للناس، الذي بُعث للناس من؟ الرسول. لكن معنى الآية كنتم للناس خير أمة أخرجت تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، فالدعوة ؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، النهي عن المنكر، النهي عن الشرك، النهي عن البدع، النهي عن المحرمات، هذا من معالم خيرية هذه الأمة للناس، صحيح أنّ المأمور وأنّ المنهي يغضب أو يِزْعَل أو لا يرغب أنْ يكون مأمورا منهيا، لكن أنتَ تدله على ما فيه مصلحته، مثل من عندك رجل يحتاج إلى إسعاف وهو ما يدري أنه مريض أو داخ؛ جاته دوخة وطاح ولا يدري أنه مريض لابد أن يسعف، فإذن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصدره الرحمة وليس مصدره الاستعلاء على الخلق، فإذا رحمت العباد فأمرتهم ونهيتهم ودعوتهم إلى الله جل وعلا فإنك في الحقيقة تكون صاحب حق عليهم وصاحب فضل عليهم لو كانوا يشعرون .(28/33)
كذلك الجهة الأخرى وهي أنهم في دعوتهم وفي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وفي تعاملهم مع الخلق يتصفون بصفة في كل أحوالهم وأحكامهم، وهي أنهم يتقون الله جل وعلا في ألسنتهم؛ فلا يقولون إلا بالحق، كما قال جل وعلا في أمره لعباده ?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ?[الإسراء:53]، فالمتحقّق بصفة أهل السنة والجماعة وبصفة الطائفة المنصورة وبسماتهم فأنه لو أغضبه من عنده فأنه يكتم ويصبر ولا يقول إلا التي هي أحسن، لماذا؟ لأن المُرَادّة والمضادّة تُحْدِثُ تَفَرُّق، والله جل وعلا أمر بالاجتماع ونهى عن التفرق، الإصلاح يكون بالطريقة السّويّة سواء بين الأفراد، أو بين فلان وفلان، أو بين فئة وفئة، أو بما هو أكبر، يكون بالطريقة الشرعية الصحيحة.
فإذن من سماتهم سلامة ألسنتهم، قيل للإمام أحمد لا نراك تتكلم في فلان قال يا عبد الله -يعني ابنه- وهل رأيت أباك يوما يسب أحدا؟ -ليش ما تسبّ فلان وفلان، حتى ولو كانوا- قال: وهل رأيت أباك يوما يسب أحدا؟. وقال الإمام أحمد رحمه الله: ودِدتُّ أنّ جسمي قُرِّضَ بالمقاريض وأنّ الخلق أطاعوا الله جل وعلا. وقال آخر من السلف الصالح رضوان الله عليهم: نحن أنفع لهؤلاء من أنفسهم؛ يريدون أن يقتحموا، ونحن ندعوا لهم أو نأمرهم وننهاهم.
لهذا مسالة أن يكون المرء صاحب عقيدة توحيد وفي كل زمان ومكان تجده صاحب غيبة، ويقدح في فلان، ويسبُّ فلانا، هذا يُظلم القلب ويُصَيِّر في القلب قسوة، والقلب محتاج إلى النور، والمخالفة بالاعتداء بالكلام أيضا بحسب الكلام المعتدى عليه، قد تعدي على صاحب مقام رفيع فيكون أعظم في حقه.
فرق ما بين النصيحة وما بين التشهير في بيان الحق حتى يعلم الناس أن غيره باطل، وما بين السّب والشتم والألفاظ التي ليست من سمات المتحققين بمنهج السلف.(28/34)
إذن فمن سمات أهل السنة والفرقة الناجية كما كان عليه الصحابة رضوان الله عليه أنهم كانوا لا يمارون؛ لأن الله نهاهم عن المراء، ونهاهم عن المجادلة إلا بالتي هي أحسن، عن أهل الكتاب، ماذا قال الله فيهم؟ ?وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ?[العنكبوت:46] (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني أحسن ما تحب، فكيف بالمسلم؟ كيف تجادله؟ كيف ترد عليه؟ كيف تخاطبه؟ هذا لابد أن يكون بأسلوب شرعي مَرضي حتى يتحقق سلامة القلب وسلامة اللسان من المخالفة.
في الختام هذه كلمات في هذا الموضوع الطويل؛ لكنها تعطي الحاضرين بعض صفات وسمات بما ينبغي أن يكون عليه أهل السنة والجماعة والمتبعون للسلف الصالح الذين يرجون النجاة، فلا شك أن:
كل خير في اتّباع من سلف وأن كل شر في اتّباع من خلف
وأنّ التزام طريق أئمة أهل الحق والسنة أنه خير في الحال والمآل، وأنّ الصبر واجب، وأنّ التعلم وأخذ الحِيطة للمرء في لسانه وأعماله أنّه سبب في النجاة، فلا يُخَاطِرَنَّ أحد بدينه في مخالفة طريقتهم رحمهم الله تعالى؛ بل ورضي عنهم وأرضاهم.
هذا وفي الختام أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، كما أسأله سبحانه أنْ يوفق ولاة أمرونا للعمل بالحق والدِّلالة عليه، وأن يجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، وأن يجعل ولاتنا في من خافه واتقاه واتبع رضاه إنه سبحانه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
أعدّ هذه المادة: فؤاد عز الدين
سالم الجزائري
---
([1]) لم أجدها في الأعراف.
([2]) هود:2، فصلت:14، الأحقاف:21.
([3]) انتهى الوجه الأول.
([4]) لم يذكرها الشيخ.(28/35)
فتنة التَّكفير
لقاء مع قناة المجد
[على إثر تفجيرات الرياض]
[مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
راشد الزهراني (مقدِّم): الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وأهلا ومرحبا بكم في لقاء متجدد في ملفات خاصة والتي تستضيف في هذا اللقاء معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ....
معالي الشيخ .... أولاً أول الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن: هل هذه الأحداث وهذا العنف الذي يقع سواء في بلادنا أو في غيرها من البلاد الإسلامية يكون وراءه أفكار أعني معينة أم أنه يهدفون من ورائها إلى إصلاح أو قضايا أخرى؟
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فلا شك أن تاريخ الانحراف في تاريخ المسلمين قديم، هو ابتدأ في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين خرج رجل يتَّهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه لم يعدل في قسمته، آل الأمر إلى خروج طائفة تسمى طائفة الخوارج يتعبدون الله جل وعلا بالقتال غير المشروع للمسلمين ولغير المسلمين، وهذه الطائفة –حسب معتقدها وحسب ظنها وحسب ما تريد- ترمي إلى إحقاق الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان من ذلك في ظنهم قتل عثمان بن عفان وقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهما صاحبا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وممن شهد لهما النبي صَلَّى الله عليه وسلم بالجنة، فقتلوهما يريدون من ذلك الأجر والثواب.
فأحيانا يأتي الشيطان إلى المتلبس بالدين الراغب في نصرة الدين يأتيه من هذه الجهة؛ من جهة غيرته، من جهة ديانته، من جهة حبه للإسلام للمسلمين حبه لكتاب الله، حتى يحرفه من هذه الجهة فيقوده إلى الغلو والانحراف.(29/1)
فإذن هذه الأحداث الأخيرة ليست جديدة في الواقع على الأمة الإسلامية وإن كانت في تصويرها وهيأتها وشكلها وعُنْفها فيها بشاعة كبيرة ربما قلت أن مرت على الأمة الإسلامية؛ لكن أساساتها وهي الفكر المنحرف الغالي الخارج عن طريقة أهل السنة والجماعة الذي ينحو إلى التكفير؛ تكفير المسلمين أو تكفير أصحاب المعاصي أو تكفير الحكام أو تكفير الدول، وينحو إلى الغيرة غير المنضبطة بضوابط الشرع هذا الانحراف الكبير والجرأة أدى إلى مثل هذه الأعمال الكبيرة، فنحن حينما ننظر إليها ننظر إلى تاريخ لأمثال هؤلاء وليست وليدة اليوم ولا البارحة.
راشد: أحسن إليكم معالي الشيخ يعني أترون أن من الأسباب التي كان بسببها هذه التفجيرات هي قضية أن بعض من فعل هذا يحمل فكر التكفير يا شيخ؟
الشيخ: لاشك أن الأحداث هذه سبقتها أحداث في الرياض من سبع سنوات، وقد قابلوا الذين فجروا في الرياض من سبع سنوات وبيَّنوا أنهم يدينون بالتكفير حتى تكفير العلماء فضلا عن تكفير غيرهم.
فهذا الأمر مستقر وإن لم يظهروه؛ لأن كون الإنسان يقدم على مثل هذه الأعمال الإجرامية البشعة لابد أن يكون عنده دافع يبرر له ما فعل، وهذا التبرير لا يكون إلا بتكفير الناس أو تكفير بعضهم، ذلك يؤول إلى عدم قبول العلماء وعدم الرضا عن المجتمع أوالرغبة في الجهاد بحسب ظنه الجهاد -غير المكتمل الشروط الشرعية-.
راشد: وهذا ما يفسر معالي الشيخ حينما كنتم نائبا لوزير الشؤون الإسلامية بعقد دورة بعد أحداث الرياض في مدينة الرياض عن التكفير والوسطية؟(29/2)
الشيخ: هذا صحيح لأن موضوع التكفير دائما متجدد في الأمة هو مرتبط بفكر الخوارج على العموم، والنبي صَلَّى الله عليه وسلم حينما تحدث على الخوارج قال «لا يزالون يخرجون حتى يقاتِل آخرُهم مع الدجال» فظهور الخوارج ليس مقتصرا على الزمن الأول، (لا يزالون يخرجون) لكن في أثواب جديدة، ويجمعها أنّهم يذهبون إلى الغلو، الغلو في مجالات ومنها قضية التكفير، فمسائل التكفير هذه هي السبب الذي يُقنع به الشباب هؤلاء أو من ينحو هذا المنحى يقنع به نفسه أن تصرفه سليم، فهو ينحو إلى شيء يريد تبريرا له، وهذا الذي نحى إليه هو من جهة نفسية يكون إما من واقع المجتمعات الإسلامية، أو تسلُّط غير المسلمين على المسلمين في أنفسهم أو في بلادهم، أو من حيث كثرة المنكرات الموجودة، أو من حيث تَعَطُّل بعض أنواع الجهاد ونحو ذلك.
راشد: أحسن الله إليكم، معالي الشيخ مسائل التكفير يعني واضحة وبينة في كتاب الله وسنة رسوله، ويعني في مناهجنا التعليمية والحديث على هذا الموضوع وخطورته؛ لكن مع هذا كله وقع بعض الانحراف ما هو السبب معالي الشيخ؟
الشيخ: أولا أحب أن أقدم أن التكفير حكم؛ التكفير معناه أن تكفر مسلما، والتكفير أتى في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى الله عليه وسلم، تكفير من كفره الله جل وعلا أو تكفير المسلم الذي ارتد عن دينه هذا حكم موجود في الكتاب والسنة يقول الله جل وعلا ?وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ?[التوبة:74]، وقال ?كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ?[آل عمران:86، 90]، وقال ?مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ?[المائدة:54]، والنبي صَلَّى الله عليه وسلم بين أن من المرتدين «التَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلجَمَاعَةِ».(29/3)
فإذن حكم التكفير موجود، ومنهج أهل السنة والجماعة أن الردة قد تعرض على المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إما بقول أو فعل أو اعتقاد أو شك، وهذا هو الذي دونه أهل العلم في كتب التفسير وكتب العقائد وكتب الفقه من أتباع الذاهب الإسلامية جميعا؛ لكن هذا الأمر الذي هو موجود في التفاسير وموجود في الأحاديث وموجود في الشروح وموجود في كتب الفقه حتى لا يوجد مذهب إلا وهناك باب خاص في هذا الأمر اسمه باب حكم المرتد.
هذا التكفير مع صعوبته وكونه من أواخر أبواب الفقه خاض فيه من لا يعرف أحكام الصلاة التفصيلية ولا أحكام الزكاة التفصيلية، وهو أصعب الأبواب من جهة الفهم وجهة التطبيق.
باب التكفير على العموم لا يليه أفراد الناس، إذا كان الحكم في مسائل البيوع الموجودة في كتب الفقه يليه أو يتولاه من هو متخصص في البيوع، أحكام الشركات من هو متخصص في الشركات، أحكام الأوقاف والوصايا والمواريث من هو متخصص في الفرائض والوصايا والمواريث، الجنايات من يحكم بأن هذا يقتل وهذا يقتص منه وهذا يعطى الدية وهذا إلى آخره من الأحكام الشرعية؟ من هو مختص في أحكام القضاء أو من أهل الفتوى، فكيف بالحكم على مسلم بالردة، لاشك أن هذا الأمر من أصعب ما يكون من جهة الفتوى ومن جهة الحكم، ولذلك الحكم فيه ليس للأفراد، وليس هو مما يطالب كل مسلم أنه يطبقه، أو أنه يقول أنا أحكم على فلان وفلان بحسب ما أرى، هذا مرتبط بوجود شروط ووجود موانع ووجود أحكام تفصيلية له، فلهذا أهل العلم يجعلون أبواب التكفير مُوكَلَة إلى القضاة فقط وليست إلى عامة الناس، ولا حتى أفراد طلبة العلم أنه يقول فلان ارتد وفلان خرج من دينه هذا كافر ونحو ذلك، هذا حكم مختص بالقاضي، القاضي هو الذي يحكم، أو المفتي الذي اجتمعت فيه شروط القضاء، المفتي الذي يحسن القضاء يعني إثبات الشروط وإثبات انتفاء الموانع.(29/4)
لهذا نقول: إنّ التسارع الذي حصل في هذه المسائل، أنا لست مع من ينفي هذا الحكم الشرعي، لاشك أن هذا خطورة أنه نقول: إنه لا يوجد باب اسمه باب ردة، ولا يوجد أن المسلم يمكن يرتد، ولا يصح أن نكفر. حتى هناك من قال: لا تكفروا اليهود والنصارى لا تكفروا غير المسلمين، هذا مناقضة لأحكام الله جل وعلا في كتابه وأحكام النبي صَلَّى الله عليه وسلم؛ لكن المسألة الحكم موجود في الكتاب والسنة؛ لكن من يلي هذا الحكم؟ أهل العلم ذكروه، لكن من يلي هذا الأمر؟ هنا يأتي ضبط المسألة، فإذن المسألة من جهة فقهية ومن جهة عقدية موجودة.
المسألة تعرض لها في كتب العقائد -مسائل التكفير- وعرضها في كتب العقائد من جهة الاعتقاد لا من جهة الحكم؛ لأن الأحكام في الواقع هذه مرتبطة بالفقه، العقيدة فيها بعض أنواع التكفير لتعتقدها؛ يعني من هو الذي يكفر؟ ما هي الأعمال المكفرة ما الصفة؟ حتى يحذر منها المسلم ويعتقد ما قاله الله جل وعلا وقاله رسوله صَلَّى الله عليه وسلم.
من هنا بدأ الخلل بعد التفجيرات التي ذكرتها سابقا في الرياض وعلى إثرها عقدها في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد عدة محاضرات ودورات تتعلق بإيضاح مسائل الغلو والدعوة إلى الوسطية وإيضاح مسائل التكفير، ومنها الدورة التي ذكرتها في مطلع السؤال.(29/5)
هذه الدورات تهدف إلى بيان ما يتصل بهذه المسألة وتحذير الشباب من أن يتعاطوا هذه المسألة، وأنا بحكم قربي من طائفة كبيرة من الشباب وطلبة العلم من قديم أجد أنّ كثيرا من الشباب يرومون الخوض في هذه المسائل ويأنسون لها، وهذا خلاف ما يجب عليهم الواجب عليهم أن يدخلوا ويبحثوا على المسائل التي تنفعهم في دينهم أما المسائل التي هي من اختصاص القضاء أو من اختصاص المفتي أو نحو ذلك ما فيه أحكام كبيرة، هذا ليس من الحسن أن يدخل فيه أفراد الناس؛ بل يسبب ضلالا وانحرافا في الطريق، الحظ أيضا أن دخول الناس في هذه المسائل سيؤول إذا لم يُحَدّ منه إلى أن يكفر بالهوى يعني شخص ما أعجبته تصرفات شخص آخر أو قال أن هذا التصرف يلزم منه أنه يكره الدين، هذا التصرف يلزم منه أنه يفعل كذا، فيكفِّر باللازم، وهذا وجد في بعض البلاد الإسلامية بعض الفئات والجماعات تكفر باللازم؛ يعني يقول يلزم من كلامه أنه يكون كذا وكذا وكذا، وكما يقول أهل العلم من الأصوليين وغيرهم لازم المذهب ليس بمذهب وناقل الكفر ليس بكافر، قد يكون بعض الكلام الذي قد يؤاخذ صاحبه عليه لكن لا يبلغ به هذا المبلغ.
من المسائل أيضا التي أدت إلى فكر التكفير بشكل عام الخوض في مسائل الحكم بغير ما أنزل الله، وهذا الحكم بغير ما أنزل الله معروف تفاصيل الأحكام عليه في كتب أهل العلم في العقيدة والحديث والفقه والتفسير أيضا منذ القديم، تكلم فيه ابن عباس رضي الله عنهما وتكلم فيه أئمة الإسلام؛ لكن الآن تجد الشاب بعض الفئات خمسة عشر، سبعة عشرة سنة، عشرين، خمسة وعشرين سنة ما عرفوا أحكام الفقه ولا أحكام العقيدة تجد أنه يجادل في مسائل الحكم بغير ما أنزل الله فجعلت هدفا لإحياء قضايا التكفير عند بعض الجماعات والفئات.
راشد: السبب معالي الشيخ؟ يعني هؤلاء الشباب في هذا السن يتركون العلوم الواضحة البيِّنة ويقدمون على مثل هذه الأشياء؟(29/6)
الشيخ: أتصور أن نفسية الشاب وحبذا أيضا في هذا المقام أنه لو يستعان بأطباء أطباء النفس طبيب متخصص طبيب نفسي في عرض وجهة النظر؛ لماذا يجنح الشاب إلى أصعب الأمور، إلى التكفير، إلى قتل النفس، إلى هذه المسائل التي فيها انحراف وجرم كبير لماذا يلجأ إليها.
أنا في تصوري من واقع التجربة أن الشاب عنده رغبة في إثبات نفسه، وإثبات غيرته على الدين، وعنده رغبة في أن يقول للصّح صح وللغلط غلط بمنظوره هو، فيندفع في وجهته في هذا صح وهذا غلط يؤديه بأن هذا إيمان وهذا كفر، فالشاب يريد الإثبات يريد التميز، فالآن تصرفات الشباب بشكل عام، حتى الشباب الذي عنده تصرفات شهوانية أو أشباه ذلك في ملابسه مثلا أو في سلوكه أو في أعماله أو في هيئاته أو نحو ذلك، هو يبحث عن التميز، هذا صراع نفسي في داخله، يبحث عن التميز، لفت النظر إلى آخره، هذه قد تلبس أيضا ثوب الدّين، فيذهب إلى هذه المسائل الصعبة التي يَبرز فيها بحسب ظنه ويترك المسائل التي تنفعه في دينه لأنها لا تُبْرِزه؛ تجعله شخص غير صاحب رؤية مثلا، أو كذا؛ لأنه يتكلم، إذا بحث في مسائل العقيدة العامة في الإيمان وأركان الإيمان ونحو ذلك مسائل الصلاة، العبادة، الطهارة، العبادات، أحكام بعض المعاملات؛ العِشْرَة، التعامل، الاجتماعيات؛ البر، طريقة التعامل؛ الصلة، الحقوق؛ حقوق نفسه عليه، حقوق والديه، حقوق أقاربه، حقوق ولاة الأمر، حقوق أهل العلم، حقوق المسلمين، يجد أن هذه مسائل تفرض عليه أشياء ولكن لا تعطيه تميُّزا، فلذلك يجنح إلى شيء يثبت به صحة إيمانه وغيرته على الدين وصحة محبته للإسلام، فيجنح إلى أشياء صعبة مثل قضايا التكفير أو الجهاد الذي لم تكتمل شروطه الشرعية.(29/7)
راشد: ذكرتم معالي الشيخ في لقائكم بما يتعلق بالتكفير أنه هناك شروط وموانع؛ يعني كون إنسان قد ينتقل من الإسلام للكفر هذا ثابت كما في كتب الفقه؛ لكن ما هي الشروط التي يأخذ بها القاضي أو الفقيه أو العالم حتى يحكم على إنسان بالكفر.
الشيخ: أولا نعرِف أن أحكام الشريعة في تحقيقها منوطة بشروط ومنوطة بموانع، هذا والأصوليون يجعلون من الأحكام الوضعية السبب والشرط والمانع إلى آخره، فهي مرعية في جميع الأحكام، إذا نظرنا للطهارة نقول شروط صحة الوضوء كذا، الصلاة شروط الصلاة كذا، النواقض الوضوء هذا، مبطلات الصلاة فيه عدة أشياء، وهكذا في الحج، في الزكاة، في مسائل كثيرة، حتى البيوع له شروطه النكاح له شروط أركان إلى آخره، كيف هذه المسألة العظيمة مسألة إخراج مسلم من دينه، أو الحكم على إنسان بأنه ليس بمسلم ليس بمؤمن، هذا ما فيه شك أنه سيحتاج إلى قواعد شرعية، الشريعة إذا كانت مسائل العبادات التي لا تؤدي إلى صراع بين الناس جعلت لها قواعد وشروط وموانع، فكيف بهذه المسألة العظيمة.
لهذا أهل العلم قالوا: إنه لا يجوز إخراج؛ لا يحل إخراج مسلم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله من دينه إلا ببينة في الوضوح بمثل البينة التي دخل بها إلى الإسلام. هو دخل بشيء واضح أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإخراجه من هذه الشهادة لابد أن يكون بشيء واضح في ذلك، ولذلك جعلوا هناك شروط وهناك موانع لابد من الانتباه لها.(29/8)
من الشروط أن يكون فيما أتى من قول قاصدا للقول، قاصدا للفعل، أن يكون عنده علم بما يقول، ما يكون مثلا جاهل، ما يكون مثلا نشأ في مكان بعيد لا يعرف الأحكام، ما يكون عنده شبهة، أيضا لابد من إزالة الشبه التي عنده في الحكم عليه؛ لأنه احتمال عنده تأويل، احتمال عنده فهم خاطئ، احتمال احتمال، احتمال، فإذا وردت الاحتمالات على قول أو فعل أو سلوك فلابد من أن يكون هناك مرجعية، القاضي يستفسر منه، أن فيها إثبات أو المفتي يستفسر منه ويجاوبه.
كذلك أن التكفير يكون بمجمع عليه التكفير ما يكون بالمسائل الخلافية، فإذا كان هناك مسألة اختلف فيها العلماء من المسائل.
شخص يقول أن هذا الأمر مكفر والآخر يقول لا، ولا دليل واضح من الكتاب والسنة ينصر أحد القولين، فإذن المسألة صارت اجتهادية في الحكم على مسألة بالردة هذا لا تكفير فيها؛ لأن المسألة التكفير إخراج من الدين فلابد أن يكون بشيء واضح مجمع عليه متفق عليه، أما المسائل المختلف فيها فكما هو معلوم أنه لا تكفير على ذلك.
العلماء؛ علماء الدعوة السلفية بشكل عام خاصة فيما تأصل من المدرسة عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب ومن تبعهم رحمة الله على الجميع لحظوا هذا في توسع الكتب الفقهية في أحكام الردة، إذا نظرت مثلا إلى كتب فقهاء السادة الحنفية تجد أن باب حكم المرتد طويل وفيه تفصيلات حتى إنهم يحكمون بالكفر على من صغر المصحف فقال: مُصَيْحَف، أو صغّر المسجد فقال: مُسَيْجِد، أو قال لفظا أو عمل عملا يوهم أو يُظنه امتهان أو إهانة للإسلام أو عدم تعظيم الواجب، كذلك فقهاء السادة الشافعية، كذلك فقهاء السادة المالكية، وفقهاء الحنابلة رحمة الله على الجميع، توسعوا في أبواب الفقه في هذا الأمر.(29/9)
جاءت أئمة الدعوة السلفية لحظوا هذا الأمر، وهم الآن يأتون يعني بعض من لا يفهم حقيقة المذاهب وحقيقة أئمة الدعوة السلفية خاصة شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن تبعهم يظنون أنهم هم الذين وسعوا التكفير، وفي الحقيقة هم الذين ضيقوه؛ لأنك إذا وجدت الشروط تجد الذي يفصل في الشروط والموانع تجد فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، حتى أنه نفى أن يكون هناك تكفير لمتأول أو أن يكون هناك تكفير بما ليس بمجمع عليه.
هنا لما جاء الفقهاء وجعلوا من نواقض الإسلام من شك في كفر الكافر، جاء بعض الناس وقالوا كفر الكافر هذا يعني إذا حكمت على واحد بالكفر وشكّ في كفره أحد فالذي شك هو كافر، بيَّن شيخ الإسلام ابن نيمية وابن القيم وأئمة الدعوة أيضا بينوا على أن الكافر الذي أراده العلماء بهذه اللفظة من هو؟ هو الكافر الذي كفّره الله وكفّره رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنص أو كان تكفيره مما هو مجمع عليه مما هو معروف معلوم من الدين بالضرورة أن يكون خارجا من الملة، فأما من كان اجتهاديا الحكم عليه أو حكم عليه البعض وترك البعض فهذا ما يدخل في مثل هذه القواعد.
إذن علماء الدعوة ضيقوا الدائرة، إذا نظرت مثلا إلى كتاب ابن حجر العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي، الفقيه الشافعي المعروف له كتب مشهورة وكان مفتيا في مكة، له كتاب خاص بالمكفرات كبير جدا عنوانه (الإعلام بقواطع الإسلام)، تكلّم فيها على المكفرات وعن أنواع النواقض؛ لكن لما أتى علماء الدعوة ضيَّقوا ذلك في المشهور وبعد وجود الشروط وانتفاء الموانع، وذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، طبعا ابن حجر الهيتمي في القرن التاسع والعاشر الهجري.
بعد ذلك بينوا أن المسألة لابد أن تضيق ليست لكل أحد.(29/10)
فإذن موجود في تراث الفقه الإسلامي وفيما نص عليه الفقهاء موجود سَعَة فيما يكون به المسلم مرتدا، جعلوا التكفير بالقول بالفعل بالاعتقاد بالشك، فيه أشياء كثيرة.
لما أتت الدعوة السلفية ولاحظت هذا الأمر وكان مقصدها الأصل هو في توحيد العبادة، توحيد العبادة عبادة الله جل وعلا وحده وعدم صرف الدعاء لغير الله جل وعلا والاستغاثة بغير الله أو الذبح لغير الله ونحو ذلك، أتوا إلى مسائل مشابهة فوجدوا أنه يُخشى من التوسع في هذا الأمر فضيقوا الخناق، بعض الأتباع نجده في بعض البلاد الإسلامية أو حتى في هنا ما مضى ربما نحوا إلى هذا المنحى فيردهم أهل العلم، فلذلك أهل العلم الراسخون المتحققون بفهم الكتاب والسنة وبفهم ما كان عليه سلف الأمة لا يوسعون دائرة التكفير بل يضيقونها من أجل أن إثباتها ليس بالأمر السهل.
راشد: ترتب عليها أحكام؟
الشيخ: ترتَّب عليها أحكام شرعية، وفي إقامة الحكم عليه، وفي أحكام أهله إلى آخره، حتى وجد أن من يجعل بعض المسائل الخلافية تترتب عليه الأحكام.
مثلا مسألة ترك الصلاة، ترك الصلاة كما هو معروف عندا الراجح من أقوال أهل العلم أن تارك الصلاة تهاونا أو كسلا أنه يكفر لأجل الحديث «من تركها فقد كفر»، المسألة خلافية تعرف الشافعية لا يكفرونه وهناك مناظرة، وكذلك الحنفية وغيرهم، وهنا أتى من طرد هذا الأمر إلى أن قال: من ترك الصلاة فإنه ينفسخ نكاحه تلقائيا، رتّب عليه أحكام، وهذا ليس بجيد؛ لأن:
الأحكام تترتّب:
· إما بمُجْمَع عليه.
· أو بحكم حاكم شرعي أو بحكم قاض هو الذي يرتب؛ لأنه ينبني على الحكم أنه لابد يزيل عليه الشبهة.
لذلك الفقهاء حتى فقهاء الحنابلة رحمهم الله حينما تكلموا عن مسألة تارك الصلاة متى يكفر ومتى يحكم عليه، جعلوها قالوا: يستتاب ويدعى إلى الصلاة فإن أصر حتى ضاق وقت الثانية عنها، ثم قالوا: إنه يدعوه إمام أو نائبه ويستتيبه ثلاثا فإن تاب وإلا قتل.(29/11)
إذن المسألة هنا واحد يجيء ثلاثة أيام ويقال له: صلّ وإلا-جُليت عنه الشبهة- هذا ليس عنده تأويل ثم بعد ذلك صل ثلاثة أيام وإلا ترى السيف، ثم يختار هذا الأمر الصعب على الصلاة، فهنا رجع إلى شيء في نفسه بين أنه يكره هذا الأمر أصلا أو يجحده، أو أنه لا شبهة عنده وإنما هو استكبار وعدم التزام بالحكم الشرعي.
أنا أقصد من هذا المنحى أن مسائل الشروط والموانع هذه هي التي فصل فيها علماء الدعوة السلفية بشكل خاص، وهم الذين بيَّنوا الكثير من الضوابط على أحكام الفقهاء.
ولهذا لابد من الانتباه إلى أن ما ينسب إلى دعوة الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى والتي يسميها أعداؤها بالدعوة الوهابية هذه الدعوة هي التي ضيقت ما هو موجود في كتب الفقهاء من أتباع المذاهب الأربعة ولم توسعه في مسائل التكفير، وإنما نظرت إلى ما هو متفق عليه بين أئمة المذاهب دون ما هو مختلف فيه، والشيخ محمد بن عبد الوهاب له رسالة في هذا الأمر، وكذلك الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب له رسالة، وعلماء الدعوة بشكل عام، شيخ الإسلام وابن القيم رحمهم الله تعالى ورحم علماء المسلمين جميعا أيضا لهم تفاصيل في هذا الأمر.
فإذن هناك شرط وهناك موانع لابد من استيفائها، لا تكفير إلا بمجمع عليه، المتأول الذي له تأويل سائغ المقابل له يرى أن فعله أو قوله أو تصرفه أنه كفر، الآن الخوارج على شدة ما قاموا به قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحاربوا المسلمين وأحدثوا فتنة إلى اليوم، العلماء اختلفوا في تكفيرهم للعلماء في تكفيرهم قولان، ولما سئل عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أكفار هم قال من الكفر فروا؛ يعني رأى التأويل الذي لديهم في هذه المسألة.(29/12)
فتلخيص الكلام أن هذه الشروط والموانع لابد من وجودها لابد من استيفاء الشروط للحكم التكفير وانتفاء الموانع، وهذه ليست لآحاد الناس وإنما يقوم بها القاضي أو المفتي الذي ولي القضاء أو يصلح أن يلي القضاء.
راشد: بما يتعلق دعوة محمد بت عبد الوهاب ذكرت أنها ضيقوا قضية التكفير مع اعتنائهم الشديد بالتوحيد، ما هو السبب؟
الشيخ: السبب التوحيد تخليص للنفس من عبادة غير الله جل وعلا، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى له في موضع كلام يقول حينما سئل هل تكفرون من يعبد البدوي أو يعبد من هو عند قبة الكواز أو أو يعني ممن يعبدون غير الله قال: لا، لا نكفرهم لأجل عدم وجود من ينبههم. ونفى أن يكون حكم عليهم، ولما سئل أنك أنت تحكم على الناس بأنهم كفار قال: سبحانك هذا بهتان عظيم. فهم من أهل العلم الذين جعلوا هذه الدائرة فيما نُصّ عليه في الشرع حكم الله جل وعلا حكم رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أجمع عليه أهل العلم، أما ما اختلفوا فيه فإنهم لا يكفرون؛ بل هناك مسائل هي أقل ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مثلا في موضع -وأنا أطلت هنا على الدعوة لأجل كثرة ما يقال عنها في هذا الزمن مما هو متصل بها الموضوع-، لما أتى إلى بعض المسائل مثل بعض مسائل التوسل بالأحياء أو التوسل بالجاه أو بالحرمة أو نحو ذلك، قال: أنا ما تكلمت في هذه المسائل. في أول دعوته رحمه الله، قال: أنا ما تكلمت في هذه المسائل أنا ما تكلمت إلا فيما أجمع علماء المسلمين على حرمته، أما المسائل المختلف فيها فأنا ما تكلمت فيها. وهذا من فقهه رحمه الله في أول دعوته حتى يبين للناس أنه ليس كل ما نرومه في الدعوة أننا نقوله في كل مكان وفي كل زمان، الدعوة لابد أن تترتب على حسب فقه الأولويات وحسب المكان والزمان إلى آخره، فليس كل مسألة هي حق في نفسها أن تقال في كل زمان وفي كل مكان، لابد من ترتيب الأمور مسائل التكفير لاشك أن الدعوة(29/13)
بحكم دراستي لها ومعرفتي -للدعوة السلفية بالعموم- أنها ضيقت ما في كتب المذاهب، والمجال مفتوح للباحثين والدارسين أن ينظروا، بس كتاب واحد الإعلام بقواطع الإسلام أو باب حكم المرتد في كتب الحنفية رحم الله الجميع، وينظروا هل الدعوة وسعت أو ضيقت.
راشد: شيخ بعض الشباب يقولون: أنتم الآن تقولون لا تشتغلوا بالتكفير وما يتعلق به، مع أن من الأشياء المقررة عندنا قضية أنه لا يتم تحقيق التوحيد إلا بالكفر الطاغوت، فأنا حتى يتحقق توحيدي لابد أن أكفر بالطاغوت وأن أبيِّن كفره للناس، فكيف الجواب عن هذا؟
الشيخ: هنا ما هو الطاغوت؟
الطاغوت هناك شيء معنوي -يعني نعبر عنها بما يناسب المقام-، معنوي وهناك ذاتي، الطاغوت هو عبادة غير الله جل وعلا?فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى?[البقرة:256] (مَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) هذا معنى لا إله، (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) هذا فيها الإثبات إلا الله.
فمن يكفر بالطاغوت يكفر بعبادة غير الله؛ يعني لما تأتي لهذه القضية تقول: ما تقول في عبادة الأوثان؟ ما تقولا في عبادة الأصنام؟ ما تقول في التوجه إلى بشر أو حجر أو جني بالعبادة من دون الله جل وعلا؟ لابد نقول: نكفر بعبادة غير الله جل وعلا، هذا هو الكفر بالطاغوت، الطاغوت هذا لابد الكفر به، هذا ما يكفر به معنى.
ما يكفر به ذاتا –مثل ما ذكر الأئمة – قالوا الطواغيت كثيرون ورؤوسهم خمسة:
هنا من دعا إلى عبادة نفسه، واحد يقول للناس تعالوا اعبدوني، هناك من دعا إلى عبادة نفسه.
أو دعا إلى عبادة غير الله جل وعلا قال أعبدوا الصنم هذا، اعبدوا الوثن، أعبدوا فلانا من الناس، أعبدوا الجني الفلاني إلى آخره.(29/14)
أو من الطواغيت مثل ما يذكر الأئمة في هذا الحاكم الجائر المغير لأحكام الله جل وعلا، أتى حاكم في بلد ما وقال: لابد أن أمسح آيات الربا من القرآن. يغير حكم الله، أحاديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي تتكلم عن حرمة الزنا أنا أريد أن أشطبها، ما فيه كلام في القرآن على اليهود أنا أريد أن أحذفه، كيف يخرج لنا قرآن مختصر، هذا مغير لأحكام الله جل وعلا، مغير لأحكام الله من جهة –لاحظ كلمة مغيّر- مغير لحكم الله يريد أن يلغي حكما من أحكام الله جل وعلا الذي هو في القرآن.
أما من يأتي يقول: أنا والله أعرف أن هذا حكم؛ لكن أنا أعمل غيره، هذا ما صار مغير، هو ما قال ألغي هذا الحكم هو يقول أنا لن أغيره هو حكم موجود؛ لكن يأتي ويتأول ويقول الزمن فيه كذا وأنا أعمل كذا، والظروف تقتضي أني لا أعمل بهذا وأن أجله وصعب علي تطبيقه ونحو ذلك، فهذا يدخل في منحى آخر قد يكون فيه معذورا وقد لا يكون معذورا بحسب الحال.(29/15)
أقصد من هذا الكلام أن العقيدة الإيمان بالله والكفر بالطاغوت هذه عقيدة نفسية قلبية، فأنت تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره أليست هذه هي أركان الإيمان؟ فإذن الإيمان بهذه الأركان الستة يتحقق به الإيمان، فنأتي إلى الكفر بالطاغوت أيضا هو كفر بما يعبد بعبادة غير الله لا إله يعني لا إله لا معبود مستحق للعبادة إلا الله جل وعلا، المعبودات كثيرة فيهم من عبد الشمس والقمر ومن عبد الإله الفلاني والإله الفلاني أو الشيخ فلان أو حتى الأنبياء أو بعض الملائكة أو نحو ذلك كما هو معروف في التاريخ وفي الواقع، لابد أنه يكفر بكل معبود سوى الله جل وعلا بعبادة غير الله جل وعلا؛ يعني من أتى يقال له أنت تؤمن أو تسهّل في عبادة غير الله إذا قال لك والله ما فيه مانع الناس يعبدون كل واحد زَيْ ما يبغى، فهنا لم يؤمن حقيقة بالله ولم يكفر بالطاغوت، والله جل وعلا بيّن في كتابه هذه المسألة أتم بيان وسيما في سيرة إبراهيم الخليل كما قال جل وعلا في سورة الزخرف ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:26-28] هذا الأمر هو المنوط بكلمة التوحيد لا إله إلا الله.
راشد: معالي الشيخ ذكرتم في أكثر من مناسبة أنه عند الاختلاف في قضية من القضايا يُرجع إلى الأمر العتيق وإلى كلام السلف قبل أن تقع الفتنة، الشباب يذكرون في قضية الولاء والبراء وهي جانب من الجوانب التي أيضا أنشأت قضية التكفير كالتعامل مع الآخر، مع اليهود والنصارى ونحو ذلك يعني حينما نرجع إلى كلام العلماء، كلام بين وواضح في قضية من والى المشركون ومن والى اليهودي والنصراني، هل فعلا يا شيخ الكلام واضح وبين في مسألة الولاء والبراء؟(29/16)
الشيخ: الولاء والبراء هذه قضية تحتاج إلى جلسة طويلة أو إلى حلقة مستقلة لأن أهل العلم يفهمون هذه المسألة بلا شك، وهي مفصلة في الكتاب والسنة وفي كلام أهل العلم؛ لكن الناس خاضوا فيها من قبيل الغيرة، فرعوا الواقع فأثر الواقع عليهم فضخموا أو اعتقدوا أشياء أكثر مما أذِن بها الشرع.
فمثلا مسألة الولاء والبراء هذه الولاء، ما هو؟ والبراء ما هو؟
أولا لفظ الولاء والبراء موجود في الكتاب والسنة؛ يعني بعض الناس يقول هذا محدث جاء من الخوارج وبعدين جاء في الدعوة الإصلاحية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هذا موجود في الكتاب والسنة ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آمَنُوا?[المائدة:55]، ?إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ?[الزخرف:26-27]، الولاء والبراء موجود؛ لكن الولاء ما معناه؟
الولاء للدّين يعني أن تعطي محبتك ونصرتك وولاءك -الولاء الداخلي- لدين الله جل وعلا لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا أصل الدين أن تعطي ولاءك لله محبتك ونصرتك، ما معنى أن أسلمت وأمنت؟ ولاءك وحبتك وانتماءك لهذا الدين.
البراء هو كرهك وبغضك لما ينافي هذا الدين من الاعتقادات الكفرية والمذاهب الكفرية والمذاهب الضالة، فهنا تتبرأ من عبادة غير الله جل وعلا، وتعطي الولاء لعبادة الله جل وعلا.
فإذن الولاء والبراء أو الحب والبغض أو الموالاة والمعاداة هذه ألفاظ يستعملها العلماء في هذا المقام وهي متساوية، والولاء والبراء والحب والبغض؛ الحب في الله والبغض في الله، الموالاة في الله والمعاداة في الله، هناك رسائل وكتب كثيرة في هذا الموضوع.(29/17)
راجعة في الأساس إلى حب الدين وبغض الكفر لأنها عقيدة، الولاء معناه مولاة الدين في الله جل وعلا حب الله جل وعلا حب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبغض الكفر، يتضمن ذلك أنه يحب من أحب الله جل وعلا ويبغض من أحب الكفر ومن أبغض الله جل وعلا، يتضمنه، يتضمن عقيدة أنك تحب الله وتكره الكفر تكره عبادة غير الله تحب من يحب الله جل وعلا وتكره من يكره الله جل وعلا أو يحب الطواغيت أو عبادة غير الله جل وعلا أو ما أشبه ذلك.
فإذن هذه متضمنة أما مسألة موالاة غير المسلم فهذه لها تفصيلات كثيرة، ليست كل علاقة ومعاملة مع غير المسلم أو مع اليهودي أو مع النصراني أنها تعتبر مولاة، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاه النصارى واستضافهم؛ استضافهم في المسجد، أتى اليهودي وزاره وقَبِل دعوة اليهودي في بيته، ولما مرض غلام يهودي كان يرجو عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إسلامه زاره في بيته.(29/18)
فإذن المسألة؛ مسألة التعامل لها أحكامها التفصيلية، كذلك مسألة الإجارة، مسألة أنه يعمل وتستأجر غير المسلم هذه لا علاقة لها بالموالاة، من تزوج امرأة غير مسلمة -يعني كتابية- فأحبها هل يمنع منه، الشريعة أباحت أن يتزوج المسلم غير المسلمة بشروطها المعروفة في كتب أهل العلم، والآية في سورة المائدة كما هو معروف، هل من أحب امرأته النصرانية يعتبر مواليا للنصرانية، مواليا لدين النصرانية، أو والى النصارى أو نحو ذلك؟ لا، لأن هذه مسائل محبة طبيعية، عامَل تاجر من التجار ونفعه في بلاد أي ملة كانت ونفعه وصار في قلبه له شيء من المودة الدنيوية في قلبه لأنه نفعه، طبيب بفضل الله جل وعلا أنقذ مسلما فتعلق به، هذه مسائل التعامل ليست قادحة في الولاء والبراء؛ بل هذه من المقتضيات الطبيعية، لكن إذا كانت المودة راجعة للدين فهذه هي القادحة؛ يعني يود يهودي ليهوديته، يحب امرأته النصرانية ما لأنها معه أو لأنها جميلة أو لأنه ارتاح معها لا، لأنها نصرانية لنصرانيتها، فإذن رجع هذا من محبة لشيء وصار محبة للدين، فهنا إذا دخلنا في الأمور الدينية العقدية انتقلنا إلى الموالاة والمعاداة الشرعية أو الدينية.
راشد: وهذا أي يفسر كلام محمد بن عبد الوهاب في النواقض، حينما ذكر أن من نواقض الإسلام المعاونة للمشركين ونحو ذلك؟
الشيخ: هذه لها تفصيل معاونة المشركين في الناقض الثامن من نواقض الإسلام لها تفصيل آخر، أنا قصدي هنا التعامل نوعية التعامل كيف تكون هذه لا علاقة لها بالموالاة.(29/19)
انظر مثلا إلى قصة حاطب رضي الله عنه حاطب لما سمع بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيذهب إلى مكة غازيا كتب بسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل مكة، كتب بالسر أن محمدا بن عبد الله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ سيأتيكم فخذوا حذركم الآن أعد العدة سيأتيكم، هذا نوع موالاة ما فيه شك موالاة لهم؛ لكن هل هذه صارت مكفرة له؟ أو يعتبر أعان المشركين على المسلمين إعانة كفرية؟ هنا نأتي إلى الحديث لما أكتشف أمره أتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا فإنه قد نافق، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يا حاطب ما حَمَلَكَ على هذا؟» المسألة فيها اشتباه أن يكون لقصد الدنيا أو لقصد الدين:
إذا كان هو أفشى بالسر رغبة في الدين أو لحماية دين المشركين أو لحماية ملتهم أو لحماية بلدهم أو نحو ذلك هذا له شأن.
وإذا كان قصده نفسه أنه ينقذ نفسه أو دنياه أو ماله أو نحو فهذا له شأن.
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استفصل منه فدل على أن مثل هذه المسائل حتى في الموالاة موالاة المشركين تحتاج إلى استفصال وليست كفرا كما يزعم بعض الناس أن كل أنواعها كفر، لا، تحتاج إلى استفصال.(29/20)
فقال هنا «يا حاطب ما حَمَلَكَ على هذا؟» فقال: يا رسول الله والله ما حملني على هذا محبة للكفر بعد الإسلام؛ لكن وما من أصحابك أحد إلا وله يد يدفع بها في مكة عن أهله وماله وليس لي يد فأردت أن يكون لي بها يد أدفع بها عن مالي في مكة. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صدقكم» ثم قال «إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، نزلت فيها أول سورة الممتحنة كما هو معروف في قوله جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1] في حاطب فهنا الحظ في الآية أنه قال (لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) فأثبت فعله نوع موالاة ثم قال (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ)، (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ)، فهذا الفعل الذي فعله حاطب إلقاء بالمودة؛ لكن مع ذلك قال أهل العلم من المفسرين وعلماء التوحيد قال ناده باسم الإيمان قال (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا) قال ? لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ?[الممتحنة:1] الآيات، فإذن لم يمنع هذا الفعل من بقائه على اسم الإيمان فهو لازال مؤمنا في ذلك؛ لأجل الاستفصال الذي استفصل منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذن مسائل التعامل الولاء البراء ما يصلح الخوض في التكفير بها؛ لأنها مسائل تفصيلية، وتنبني على مقاصد، ولابد من القصد كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة حاطب استفصل منه، الاستفصال ما فائدته؟ الظاهر معروف، الاستفصال لأجل القصد، ما الذي حملك على هذا؟ هذا سؤال عن النية وعن القصد في ذلك، إذا كان ينوي دفع ماله، ينوي حماية نفسه، ينوي كذا وكذا، فضعف من هذا الباب هذا له حكم من أحكام الموالاة والمودة لا تخرجه من الدين.(29/21)
راشد: البعض يا شيخ يقول أنا رأيت فلان، والعلماء لا يكون في أن هذا العمل كفر، ومع ذلك يقول العلماء أن فاعل الكفر قد لا يكون كافرا، هل هذه القاعدة مع إطلاقها معالي الشيخ؟
الشيخ: هناك ثنائية معروفة عند أهل العلم في الأصول وفي العقائد وفي الفقه في أصول الفقه والفقه والعقائد، وهي ثنائية الكفر والكافر، الكفر والتكفير، الفسق والفاسق، البدعة والمبتدع، فليس كل من قام به الكفر كافر، ولبس كل من قامت به البدعة مبتدعا، وليس كل من قام به الفسق فاسقا؛ لأن إثبات هذه الأحكام هذه قضية ثانية، فهناك الآن قول أو فعل أو شك أو إلى آخره مما يعمله الإنسان فيقع في البدعة أو يقع في الفسق أو يقع في الكفر، يعني فيكون فعله بدعة أو يكون فعله فسقا أو يكون فعله كفرا، هنا من يرتب الحكم هذا يحتاج مثل ما قلنا إلى اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، فيأتي واحد يعمل ببدعة هو يعرف أنها بدعة، أو عنده تأويل فيها ليس مطّرحا، تأويلا قد يكون مقبولا، مثل -لأن التأويلات مثلا في البدع منها ما هو مقبول ومنها ما هو مطرح- مثل مثلا التعريف في الأمصار يوم عرفة التحريف في الأبصار قال به بعض الصحابة قال به بعض التابعين يعني أوش معنى التعريف أننا نجلس في المساجد يوم عرفة و الناس في عرفة نحرم ونجلس في المساجد مشتركة لهم؛ مشاركة للحجاج، هذا عامة أهل العلم على أنه بدعة؛ لكن قال به البعض مشاركة في ذلك متأولا في هذا؛ لكن في حقيقته أنه بدعة، لكن ما نحكم على من قال به من الصحابة ومن التابعين على أنه [مبتدع]؛ لأجل وجود بعض الاشتباه في هذا، مثل قيام ليلة النصف من شعبان عندنا مثلا الصحيح أنه لا يسوغ لأنه محدث ولم يثبت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا الخلفاء الراشدين ولكن فعلها بعض التابعين وهنا نقول الصحيح أنها بدعة؛ ولكن هل كل من فعلها هو مبتدع ؟ لا.
فإذن هناك مسائل غير متفق عليها التأويل فيها سائغ، فهنا يختلف الأمر.(29/22)
فمثلا بعض المسائل الفسق ممكن ترك النوافل شخص مستديم على ترك النوافل، طائفة من أهل العلم يقول: من استدام على ترك النوافل فهو فاسق، كيف يستديم دائما على ترك نوافل العبادات؛ لا يصلي الصلوات الراتبة، لا يصلي الوتر، لا يصوم صيام التطوع، دائما لا يفعل أي شيء تطوع، بعض العلماء قال من استدام على ترك النوافل فهذا من الفسق؛ لكن هذا فيه نظر أيضا طائفة من أهل العلم يأخذون بحديث الأعرابي الذي أتى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لما علّمه الفرائض الخمس قال: والله لا أزيد على هذا وأنقص فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أفلح إن صدق» فدل على عدم اعتبار مثل هذا الكلام، طبعا العلماء الذين قالوا بهذا الأمر يريدون التحذير من ترك النوافل؛ لكن هنا أيضا ثنائية بين الفسق والتفسيق.
فهناك مسائل لو نطرد فيها –بمعنى نجري فيها – كل ما قال فيه أهل العلم أنه كفر فمن قال به فهو كافر أو أنه فسق فمن قال به فهو فاسق أو أنه بدعة فمن قال به فه مبتدع، هنا لم يستقم لنا شيء لأجل كثرة خلاف العلماء في هذه المسائل؛ ولكن هنا نركز على أشياء:
أولا أن يكون الكفر مجمعا عليه، أو الخلاف فيه مطرح لا اعتبار له عند عامة أهل العلم.
الثاني أن يكون الفسق مجمعا عليه أو أن يكون الخلاف فيه مطرحا لا اعتبار له أو في مناقضة الدليل.
أن تكون البدعة متفق عليها أو أن يكون الخلاف فيها مطرحا لأجل عدم وجود ما يدل عليه من فعل السلف الصالح.
طبعا ما نرى هنا ما انتشر في القرون الأخيرة هذه المسائل، نرى في الخلاف والفواق في ما كان في القرون المفضلة.
راشد: معالي الشيخ للتعاطي مع الأزمة، أنا معي فتوى هيئة كبار العلماء حول حادث التفجير الذي وقع في الرياض([1]) ووقّع عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في حينه يقول:(29/23)
ولذا فإن الهيئة تقرر أن هذا الاعتداء آثم وإجرام شنيع، وهو خيانة وغدر، وهتك لحرمات الدين في الأنفس، والأموال، والأمن، والاستقرار، ولا يفعله إلا نفس فاجرة مشبعة بالحقد والخيانة والحسد والبغي والعدوان، وكراهية الحياة والخير، ولا يختلف المسلمون في تحريمه.
يعني التعاطي يا شيخ مع هذه الأحداث يمثل هذه الكلمات يعني البعض يقول أين نحن من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه إخواننا بغوا علينا، فماذا عن هذا يا شيخ؟
الشيخ: أولا إذا وقعت مثل هذه الأحداث ومثل هذه الجرائم فلا يجوز أن يكون الدفع؛ دفعها بأمر سهل لا يوازي شناعة الفعل؛ لأنه إذا صارت الكلمات التي تنكر بها على هذا الفعل أو على الفاعلين إذا كانت خفيفة فإن هذا يغري الآخرين بالتساهل في الأمر أو يوقعهم في شبهة بأن هذا الفعل فيه تأويل ممكن أنه يكون من جهة أخرى.
فواجب أهل العلم أن يبينوا هذا العمل ومن قام به هل هو عمل إصلاحي أو إجرامي، كونه يكون إصلاحي هذا له شأن، وكونه يكون إجرامي هذا له شأن.
لذلك أهل العلم فيما وقع من أحداث من قديم تجد أن عباراتهم شديدة مثل هذا، مثل كلام مجموعة من أهل العلم في هيئة كبار العلماء، وكان برئاستها في ذلك الوقت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، لابد أن يكون الرد قويا، أما الذي يأتي ويقول والله نحن تكلم على الفعل ولا نتكلم على الفاعل، أو نقول هذه أفعال صحيح سيئة وأن فيها اعتداء ولكن من فعله يريدون الخير ويريدون كذا، هذا ليست طريقة أهل العلم وليس فقيها ولا عالما من يستعمل هذا الأسلوب، وإنما هذا عنده شبهة في نفسه فيجب عليه أن يزيل الشبهة عن نفسه أولا، ثم يجب عليه أن لا يغش المسلمين بألفاظه الهينة السهلة.
هذه جريمة ما حصل جريمة وكما قال هنا لا تفعلها إلا نفس مشبعة بأمور من الكبائر والمنكرات.
الذي حصل جمع أنواعا من الموبقات:(29/24)
أولا فيه قتل للنفس، والنفس، قتل لنفس الإنسان فجر نفسه ليقتل مسلمين ومعهم غير مسلمين قتل نفسه لأجل ذلك، والله جل وعلا حرم قتل النفس قال ?وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا?[النساء:29]، ?وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ?[البقرة:195]، إذا كان هذا في الإنفاق فكيف بقتل النفس صراحة، وقتل النفس من قتل نفسه بحديدة عذِّب بها يوم القيامة.
الأمر الثاني أن في هذا الفعل قتلا للمسلمين، وقتل المسلم كبيرة من الكبائر العظيمة، يعني بعد الشرك بالله قتل النفس قتل المسلم، والله جل وعلا يقول ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا?[النساء:93]، هو يقتل مؤمنا وهو يعرف أنه سيقتل مؤمنا متعمدا فهذا ذكر الله جل وعلا قال(فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)، هذا النوع الثاني قتل المسلمين.(29/25)
الثالث قتل لمن لا يستحق القتل شرعا من المعاهدين، أو المستأمنين، أو أهل الذمة، أو من لهم أمان بتأمين ولي الأمر، أو بتأمين المسلمين لهم، أو قدموا لغرض من الأغراض، والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، فضلا عمن أمّنته الأمة وأمّنته الدولة وأمنه ولي الأمر أو جاء بكفالة أو ذلك هذا لا يسوغ الاعتداء عليه، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة»، كذلك حكم المستأمن والذمي والمعاهد، فمن بيننا وبينه عهد يجب أن نوفي بالعهد ? يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ?[المائدة:1]، وقال جل وعلا ?وَأَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاَ?[الإسراء:34]، حينما قدِم هل هو قدم على أنه سيُقتل؟ لو علم هذا ما أعطانا هذا الأمر لكن أعطيناه عهدا أنه سيأتي لعمل أو يأتي لشيء وهو سالم، فلا يجوز لمسلم ولا يحل له أن يخفر العهد، وخيانة العهد من خصال المنافقين ليست من خصال المسلمين، فآية المنافق ثلاث ومنها وإذا عاهد غدر، فالغدر في العهد فهذا ليس من سمة المسلم بل من سمة المنافقين.
كذلك فيها الاعتداء على أموال المسلمين، الآن هذه الأرواح التي أزهقت والموال التي أتلفت ونحو ذلك، أموال من؟ أموال المسلمين هي في دور مستأجرة لمسلمين إلى آخره فأصابها ما أصابها من الدمار وحرمة المسلم في دمه وماله وعرضه معروفة، وأكدها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته يوم عرفة، إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا كما في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.(29/26)
كذلك فيها سلب للأمن ورفع للأمن الذي جعله الله جل وعلا من مقاصد الشريعة، من مقاصد الالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة تحقيق الأمن في حياة الناس، وهذه منَّ الله جل وعلا بها على عباده في قوله تعالى في سورة النور ?وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمْلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا? ثم جاء بالنتيجة ?يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا?[النور:55] إذن تحقيق الأمن مقصد من مقاصد الشريعة، الشريعة جاءت لتحقيق الأمن، الذي ينتج عنه عبادة الله جل وعلا وحده لا شريك له، وينتج عنته الخيرات وإزالة المنكرات وانتشار الدعوة وانتشار الخير والإصلاح ونماء الأمة وقوة الأمة وما أشبه ذلك، لهذا الحظ في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تسير الضعينة من العراق إلى مكة لا تخشى إلا الله» لاحظ أنه علّق الأمن بإتمام الأمر (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى) النتيجة إيش هي؟ الأمن، لهذا جاء حد الحِرَابة في الشريعة، نقول حد الحِرَابة، كثير من الناس ما يفهم ليش سمي حد الحرابة ؟ الله جل وعلا يقول ?إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِيَن يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا?[المائدة:33] الآية، لماذا جعل الإفساد في الأرض إخافة السبيل تنظيم جماعة من الناس على فعل ما جعل حرابة؟ ليش كان بنص القرآن حرب لله جل وعلا ولرسوله؟ لأنه حرب للأمن الذي هو هدف ومقصد من مقاصد الله ورسوله في إنزال الشريعة، فهو حرب للأمن، ومحاربة الأمن حرابة لمن جعل الأمن مقصدا وهو الله جل وعلا ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(29/27)
فإذن حد الحرابة سمي حد الحرابة، يجيء واحد مثلا في طريق يقول: والله أنا مجرد وقفت سيارة بالقوة ونزّلت صاحبها وضربته وأخذت منه بعض المال كيف أصير أنا محارب لله ولرسوله نقول نعم هو محاربة لله ورسوله؛ لأن مقصد الشريعة هو الأمن، الأمن في إيش؟ الأمن على الناس في دماؤهم في أعراضهم في أموالهم ونحو ذلك فإذن هذه الأفعال الإجرامية يجب أن تصد بقوة كبيرة جدا في اللفظ وفي المعنى وإيضاح أحكام الشريعة دون مضاربة.
فأنا الحقيقة أنتقد بعض تعرض لهذا الموضوع انتقاد شرعي من تعرض لهذا الموضوع بعبارة خافتة باهتة، مثلا يقول هذا الفعل سيئ بس الفاعلين متأولين ويقول مثل هذا العبارات التي لا تدل على علم بكتاب الله جل وعلا وبكتاب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبقواعد الشريعة وأحكام الفقه، أو يقول لا يصلح لنا أن نستجرّ هذه المعركة إلى بلاد المسلمين أو نحو ذلك من الألفاظ التي ليست ألفاظا شرعية.
هذه مسائل فيها إجرام كبير وخيانة عظيمة، مثل هذه التفجيرات وأشباهها، فكون عبارات بعض طلبة العلم وبعض الدعاة باهتة خافتة في الإنكار هذا لاشك يغري ولا يحقق مقصود الشارع في إنكار هذه المنكرات والموبقات العظيمة.
راشد: معالي الشيخ أخيرا في ما يتعلق الآن بكلمة توجيهية للشباب، البعض يقول هو محب لعلمائه؛ لكن يقول حينما أقرأ بعض الأشياء في الإنترنت وكتب وأشرطة ونحو ذلك يقول سبحان الله يعني أحد الإخوة من طلبة العلم يقول قرأت موقع في أحد الإنترنت فأحسست بشيء في قلبي تجاه العلماء ثم استغفر الله سبحانه وتعالى. كيف يحصن الشاب نفسه وهو يرى هذه الفتنة مثل هذه الأحداث العظيمة؟
الشيخ: أولا الإنترنت وسيلة من الوسائل التي حدثت كغيرها من الوسائل، فيجب أن تستثمر في الخير، ويجب أن لا نجعلها حجة علينا هذه منة من الله جل وعلا، من استخدمها في شيء فعليه وزرها، ومن استخدمها في حسن فله أجرها مثل أي وسيلة من الوسائل.(29/28)
ما ينشر في الإنترنت يفتقد الكثير من الآداب الشرعية، إذا نظرت أنا للحوار الذي يجري في الإنترنت الواحد يبدي ما في نفسه طيب ما فيه شيء، تبدي ما في نفسك أو تنتقد بعض الأشياء أو تستفسر ولو كان الاستفسار فيه غلظة هذا ليس فيه إشكال من هذه الجهة لكن يتأدب بآداب الشريعة يأتي واحد ينتقد وضع لكنه يهاجم عالم من العلماء المسلمين، أو يستعدي الناس على واقعهم أو على علمائهم أو على دولتهم أو يسمه بأوصاف الكفر أو نحو ذلك، فهذا كله خوض في أمور بلا علم، والله جل وعلا يقول ?وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً?[الإسراء:36]، إذا كان الذي يكتب يَكتب بدون ظن منه أنه سيلقى الله جل وعلا ويحاسبه على ما كتب هذه مصيبة عظيمة، وإذا كان يكتب أو يشارك في الإنترنت وهو يعلم أنه محاسب وهو ليس كحديثه مع زميل له، أنت الآن تنشر ليقرأها آلاف من الناس أو مئات الآلاف أو ربما أكثر، فكيف إذا كان بسبب كلمة قلت أنه حصل وهو ما حصل، أو قلت فلان فيه كذا من الأفعال وهو ليس فيه، أو سمعت كلاما ونشرته على أنه حقيقة وأنت ما تثبت منه، وانتقل بين الناس على أنه حقيقة ثابتة.(29/29)
مثل عُزِي إلي في الإنترنت مقال أن فلان صالح آل الشيخ أنه يقول لا يجوز الدعاء على اليهود والنصارى، وطنطنوا عليها وكثّروا هل يقول أحد من أهل العلم أو ممن عرف بعض أحكام الشريعة فضْلا على أن يكون عرف كثيرا منها وعلم كثيرا منها أنه يقول لا يجوز الدعاء -بهذا الإطلاق- لا يجوز الدعاء على اليهود والنصارى، ما فيه أحد، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بآخر حياته قال «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» واللعن الطرد والإبعاد من رحمة الله جل وعلا وهو الدعاء عليهم، فنسب هذا الأمر مع أن كلامي أنا في هذا الموضوع كان قبل سبع سنوات، نقله أحد من لا يفهم نقله من احد الدروس ثم أُوِّل أو صنف على ذلك وهو الكلام إنما كان في قضية -أنا أستطرد فيها بس لأجل المناسبة-، كان في قضية محددة وهي أن لا نعارض حكمة الله جل وعلا في وجود الكفار وجود اليهود وجود النصارى، ندعو عليهم مثلا بالهلاك العام بالاستئصال، نحن نعلم أن اليهود والنصارى سيبقون إلى آخر الزمان، يأتي واحد ويقول اللهم أبدهم الآن أجمعين، أنت تعارض حكمة الله جل وعلا، تعارض ما أخبر الله جل وعلا في كتابه، فمن دعا بدعاء نعلم أنه مستحيل أو أن الشرع أخيرنا بخلافه أو نعلم أنه لن يكون هذا اعتداء في الدعاء من أسباب رد الدعاء.
وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر في الفتاوى كما ذكره غيره أن من أسباب الاعتداء في الدعاء ورد الدعاء أن يدعو بدعاء نعلم من الشريعة أنه ليس متحققا.(29/30)
فنعلم أن اليهود والنصارى سيبقون إلى زمن عيسى ابن مريم، ويأتي واحد ويدعو عليهم بالهلاك جميعا الآن وأن يدعو على جميع الكفار الآن أو يدعو على أطفالهم وعلى نسائهم هذا الدعاء العام بالاستئصال والهلاك العام هذا ليس من الشرع لاشك وهو اعتداء في الدعاء لهذا الأمر لمناقضته لحكمة الله جل وعلا ولما أخبر الله جل وعلا في كتابه قال سبحانه ?وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ?[الزخرف:61]، فأولوا الأمر وصار ت المسألة على أن فلان لا يجيز الدعاء على اليهود والنصارى بهذا الإطلاق، وجاء أناس آخرين وعلَّقوا، سبّوا وشتموا.
هو ليس عليَّ وحدي فقط بل على كثير من أهل العلم وعلى كثير من الولاة نسبت أقوال أحيانا وأفعال لم يفعلها الإنسان البتة، ويستغرب كيف جاء الافتراء ثم جاء الانتشار بعد ذلك.
أيضا هناك مسألة تتعلق بالإنترنت في آداب الحوار.
راشد: لو سمحت لي معالي الشيخ بما يتعلق بالدعاء بالهلاك يبدو أن هذا هو أيضا هو هدي السلف؟
الشيخ: هذا يعني يكاد يكون ما أعلم أن أحدا نص على الإجماع لكن ما أظن يكون فيه خلاف أصلا، الذِينَ يُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاَءَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ؛ يعني الدعاء المقيد أنت قصدك.(29/31)
آداب على الإنترنت، النشر على الإنترنت لها آداب وأخلاق؛ لأنها حوار والسلف وضعوا آداب البحث والمناظرة، كيف تبحث مع إنسان وترد عليه، هذا يسب هذا وهذا يشتم هذا؛ بل أتوا إلى أشياء هداهم الله إلى أشياء شخصية، يتكلم عن الإنسان على عائلته، يتكلم عنه في بيته، طيب من تلقى كيف يثبت له أن هذا صحيح أو غير صحيح، والناس عندنا مولعون بشيء، هو من تركيبة المجتمع العربي بعامة مولعون بالشك، الأصل عندهم دائما عندهم الشك، بداية يقولون واحد والله فعل هذا الفعل يصدقون؛ لأن الأصل عندهم الشك هذا ربما مرتبط بالبيئة القبلية أو البيئة البدوية أو الظروف القديمة نمت عند الناس الحذر والشك في أي تصرف؛ لكن هذا ليس شرعيا الأصل في المسلم السلامة واحد يأتسي ويقول قول في الإنترنت يتهم فيه فلان ويذكون أشياء في الأسر أو يتعلق، هذه أمور سيئة، أو يستخدمون الإنترنت بحوارات هابطة وسباب وشِتَام، هذا يترفع العاقل عنها فضل عن مسلم يخشى الله جل وعلا ويعلم أنه غدا سيحاسبه الله جل وعلا ?مَا يَلْفِظْ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ?[ق:18].
وأنا أرجو أن تخصص حلقة في قناة المجد لآداب الحوار في الإنترنت؛ يعني يشارك فيها بعض المعروفين بالاهتمام بهذا المجال من طلبة العلم الشرعي أو الدعاة، كيف نحاور على الإنترنت كيف نستثمر هذه الوسيلة، ما الأشياء التي تنشر، ما الأشياء التي لا تنشر التحذير من اتهام الناس الدعوة إلى الإنصاف والعدل في هذا الأمر.
راشد: معالي الشيخ جزاكم الله خيرا على استجابة هذه الدعوة مع كثرة أعمالكم ومشاغلكم، ونسأل الله عز وجل أن يجعل هذا في ميزان حسناتكم.(29/32)
الشيخ: أنا أشكر لقناة المجد إتاحة هذه الفرصة، ونرجو لها إن شاء الله التقدم المطرد، فهي تقوم برسالة اليوم مهمة، وأشكر لكم أيضا الأخ راشد لهذه النقاط المهمة التي تعرضتم لها، وأرجو الله تعالى أن يكون فيما تحدثت به فتح لبعض الأبواب وإلا فالموضوعات كما ترى موضوعات كبيرة وحية ومتوسعة، وأنا رميت في الحديث أن يكون الحديث حديث مجالس يعني ما نحينا فيه إلى ناحية التأصيل الشرعي المفصل بدقة لأجل أن يناسب ما ينشر في مثل هذه القنوات، داعيا للجميع بالتوفيق وأن يوفق الله جل وعلا ولاة أمورنا إلى ما فيه الرشد والسداد وأن يجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، وأن يوفق علماء المسلمين لنشر كلمة الله جل وعلا لبيان الحق وإرشاد الناس وتبصير الجاهل.
كما أسأله سبحانه لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل الطاعة، ويعافى ويهدى فيها أهل المعصية إنه سبحانه جواد كريم.
?????
أعدَّ هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1])قرار حادث التفجير الذي وقع في الرياض في حي العليا:
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه، وبعد:
فإن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية علمت ما حدث من التفجير الذي وقع في حي العليا بمدينة الرياض قرب الشارع العام ضحوة يوم الأثنين20/6/1416 هـ وأنه قد ذهب ضحيته نفوس معصومة، وجرح بسببه آخرون ، ورُوّع آمنون وأخيف عابر السبيل.
ولذا فإن الهيئة تقرر أن هذا الاعتداء آثم وإجرام شنيع، وهو خيانة وغدر، وهتك لحرمات الدين في الأنفس، والأموال، والأمن، والاستقرار، ولا يفعله إلا نفس فاجرة مشبعة بالحقد والخيانة والحسد والبغي والعدوان، وكراهية الحياة والخير، ولا يختلف المسلمون في تحريمه، ولا في بشاعة جرمه وعظيم إثمه، والآيات والأحاديث في تحريم هذا الإجرام وأمثاله كثيرة ومعلومة.(29/33)
وإن الهيئة إذ تقرر تحريم هذا الإجرام وتحذر من نزعات السوء، ومسالك الجنوح الفكري، والفساد العقدي، والتوجيه المردي، وإن النفس الأمارة بالسوء إذا أرخى لها المرء العان ذهبت به مذاهب الردى، ووجد الحاقدون فيها مدخلاً لأغراضهم وأهوائهم التي يبثونها في قوالب التحسين، والواجب على كل من علم شيئاً عن هؤلاء المخربين أن يبلغ عنهم الجهة المختصة.
وقد حذر الله سبحانه في محكم التنزيل من دعاة السوء والمفسدين في الأرض فقال: ?إنَّمَا جَزَاءُ الذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ?[المائدة:33]، وقال تعالى:?وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ(204)وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ويُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ(205)وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالِإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ?[سورة البقرة:204-206].
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يهتك ستر المعتدين على حرمات الآمنين، وأن يكف البأس عنا وعن جميع المسلمين، وأن يحمي هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يوفق ولاة أمرنا وجميع ولاة أمر المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد إنه خير مسؤول.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.[نقلا من قرارات مجلس هيئة كبار العلماء حول حوادث التفجير والاغتيالات وخطف الطائرات والسفن لمحمد الحصين من مكتبة سحاب](29/34)
فتنة الخوارج
كلمة في ندوة بالمدينة النبوية بمناسبة
(جائزة الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة)
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
يسر إخوانكم في مؤسسة دار ابن رجب للإنتاج الإعلامي والتوزيع بالمدينة النبوية أن يقدموا لكم هذه المادة العلمية، سائلين الله عز وجل أن ينفع بها وأن يجعلنا ممن يسمع القول فيتبع أحسنه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإني مسرور غاية السرور أن تكون هذه الندوة فاتحة أنشطة كثيرة ومتوالية ومتتابعة لجائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة.
فأجدني متذكرا جهد سموه الكبير على مدى سنتين مضت لترسو قواعد هذه الجائزة ولتتضح معالم أنشطتها والأطر لبحوثها.
فأبدأ بعد حمد الله والثناء عليه بالشكر لسموه باسمي وباسم جميع طلبة العلم والباحثين والدارسين وخطباء المساجد والدعاة الذين هم جميعا يحرِصون على السنة النبوية وعلومها.
ثم اشكر لسمو أمير منطقة المدينة المنورة حضوره لهذه لهذا الافتتاح وهذه الندوة، شاكرا له جهوده الكبيرة في دعم النشاط العلمي والبحثي في منطقة المدينة المنورة.
ولسمو المشرف العام على الجائزة الشكر منا والتقدير على حرصه على هذه الأنشطة والندوات، وما قدمه في كلمته من إيضاح للجائزة ولأنشطتها، وما ذكره من جائزة جديدة لحفظ السنة النبوية والحديث النبوي الشريف.
ولأمانة الجائزة ولسعادة الدكتور المقدِّم مني الشكر والتقدير.
الوقت يضيق عن تَكرار بعض ما تفضل به سماحة الشيخ محمد سيد طنطاوي جزاه الله خيرا.
وأجدني مضطرا لأن أدخل في صلب الموضوع.
وأقسم ما سأتكلم عنه إلى أربعة أقسام:(30/1)
أما الأول: فهو ذكر أسباب الفتن؛ لأن معرفة السَّبب يورث معرفة المسبَّب، ومعرفة المقدمات تورث يقينا معرفة المآلات.
والثاني: بعض نتائج وصور من الفتن والافتتان الذي وقع في هذه أمة.
والثالث: رؤية موجزة للعلاج.
والرابع: ما موقف المسلم أيا كان من الفتن في ضوء الكتاب والسنة وقواعد الشريعة المطهرة.
الفتن: جمع فتنة، والفتنة كغيرها من الألفاظ لها استعمالان:
استعمال لغوي: وقد فصل فيه فضيلة الشيخ قبل ذلك، وذكر الشواهد عليه من الكتاب والسنة.
وهناك استعمال اصطلاحي عُرفي مشى في الناس: وهو أنَّ الفتنة ضرر يقع في الناس باختلاف فيما بينهم أو قتل أو انعدام في الأمن.
أو يمكن تعريف الفتنة التي يتداول معها الناس هذه الكلمة: بأنها أقوال وأعمال تخرج عن الشريعة، وتؤدي إلى انعدام الأمن واختلال الجماعة وحدوث الفرقة.
وهذا هو المقصود من التحذير من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وهو تحذير من الأعمال والأقوال التي تخرج عن إطار الشريعة، وتؤدي إلى انعدام الأمن وتفرق الجماعة وحصول الفرقة.
هذا المعنى للفتن وُجد في تاريخ الإسلام؛ بل قد قال بعض الباحثين إن تاريخ الإسلام مملوء بالفتن.
بل غلا بعضهم وقال: هل تاريخ المسلمين إلا الفتن، وهل نقرأ في كتب التاريخ إلا الاقتتال، وهل تقرأ في كتب التاريخ إلا سفك الدماء.
وهذا صحيح من وجه وغلط من وجه:
أما صحته فموجود في التاريخ ما ذُكر؛ من كثرة اقتتال والخروج والدماء واستباحة الدم والمال والعرض.(30/2)
ولكن هناك شأن عند المؤرخين لا ينبغي لا أن يسود في أذهانا وأذهان المسلمين، وهو أنّ المؤرخين درجوا على أنهم لا يذكرون إلا السيئ الغريب، ولا يذكرون الحسنات الكثيرة التي عملها الخلفاء وعملتها دول الإسلام، إلا ما ندر، فتجدهم عند حوادث كل سنة يذكرون ما حصل فيها من القتال، ما حصل فيها من الفتن، ما حصل فيها من الوفيات، والقليل أن يذكروا ما فيها من أمور محمودة، فلا يغلبَنَّ على الأذهان تلك الصورة التاريخية مما هو موجود في التاريخ.
لكن الفتن موجودة، وسنعرض لبعض الأمثلة بحسن ما يتسع له الوقت
فتن لها أسباب، الفتن بالمعنى الذي ذكرنا، الفتن التي تحدث الفرقة، تحدث انعدام الجماعة، تحدث الخروج عن إطار الشريعة وانعدام الأمن وحصول القلاقل والاعتداء على الناس في أنفسهم وأعراضهم لها نشأة.
نشأتها دائما تكون ممن مجموعة أو جماعة أرادت زعزعةَ الأمن وتفريق الجماعة، وغالبا من الصور تكون تلك الفئة أداها إلى الفتنة وإلى الخروج وإلى القتل وإلى السفك الغلو في الدين وزيادة التدين؛ لذلك نذكر بعض الأسباب بحسب ما يناسب المقام:
أما السبب الأول لظهور الفتن فهو الجهل، والجهل بالدين أو الجهل بقواعد الشرع، أو الجهل بالحقوق، هذا يؤدي إلى حدوث الفتن؛ لأن من كان عنده جرأة وغيرة باطلة غير منضبطة، فإنه سيتجرأ بجهله على أن يخوض الفتنة، وقد بدأت منذ ذلك الرجل الذي قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فرّق بعض المال قال: اعدل يا محمد. فنظر إله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضبا وقال «ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟»، ثم قال «يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم» هم أهل تعبد وأهل صلاة وأهل صيام، «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة»، فعلا خرج أولئك.(30/3)
الجهل بحق لنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الجهل بالعلم الجهل بالدين قاتل، ولذلك ما خرج أحد إلى الفت إلا وأداه خروجه إلى أن يكون جاهلا بل كان سبب ذلك هو جهله ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله والجهل
والجهلُ داء قاتلٌ وشفاؤه أمران في التركيب متفقانِ
نص من القرآن أو من سنة وطبيب ذاك العالم الرباني
فإذا كان الكتاب والسنة دواء، فإن صرفَه وفهمه يكون من العالم الرباني لا من فهْم آحاد الناس.
السبب الثاني لظهور الفتن وظهور الفاتنين والمارقين اتَّباع المتشابه وترك المحكم، الله جل وعلا ابتلى الناس بأن جعل في كتابه محكما ومتشابه.
المحكم: هو ما هو بين واضح يُدرك معناه.
والمتشابه: ما يشتبه معناه فيدركه أهل العلم وأهل الرسوخ في ذلك، ولا يدرك معناه كل أحد.
قال جل وعلا في فاتحة سورة آل عمران ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ?[آل عمران:7]، فيه آيات محكمات واضحة بينة، وفيه آيات متشابهة، قال ?فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ?[آل عمران:7].
وأقف هنا وقفتين:
?أما الأولى هو انقسام القرآن إلى محكم ومتشابه، فالمتشابه موجود، فمعنى ذلك ن يكون المسلم من أن يستدل بالقرآن استدلالا خاطئا، وكما قال بعض أئمة الإسلام: ليس الشأن في أن تستدل-ليس الشأن أن تقول قل الله قال رسوله-، وإنما الشأن أن يكون استدلالك صحيحا موافقا لفهم السلف. الشأن ليس في الدليل، الدليل منه محكم ومنه متشابه؛ لكن الشأن في أن يكون استدلالك صحيحا.(30/4)
كل أحد اليوم يقول الكتاب والسنة، ما فيه أحد يأتي، حتى أهل المروق وحتى أهل الضلال الذين أوبقوا وعملوا ما علموا من تفجيرات وفتن وقتل للمسلم ومن للمعاهد ومن فتن وعمِل، كل أحد يستدل هل الشأن في وجود الدليل؟ ليس الشأن كذلك، الشأن أن يكون:
أولا: الدليل محكما.
الثاني: أن يكون الاستدلال صحيحا؛ موافقا لفهم سلف الأمة من هذا الدليل.
وكذلك السنة، إذا القرآن فيه محكم ومتشابه، فالسنة كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه محكم وفيه متشابه، كيف نعرف المتشابه؟ كيف يعرف أهل العلم المتشابه؟ يردون المتشابه إلى المحكم فيفهمونه.
?الوقفة الثانية في الآية: والحظها في قوله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ) فأثبت وجود الزيغ في القلوب، أولا قال (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ) يعني أن وجود المتشابه ليس هو سبب الزيغ؛ لكن هم قد وجد الزيغ في أنفسهم فاتبعوا المتشابه، وهذا كثير في أن المرء الذي عنده هوى وعنده ضلال يبحث عما يستدل به لمقررات سابقة عنده، وقد ذكر ابن حزم في أول كتابه الإحكام في أصول الأحكام ذكر أن من أسباب الانحراف أن يكون عند الإنسان مقررات سابقة، فهوم، أحكام، اتجاه فيبحث عن الدليل ليؤيد اتجاهه، وهذا سبب رئيس لحدوث الفتن والاختلاف والضلالات.
فاحذر أن يكون عندك هوى في شيء، ثم بعد ذلك تبحث في الأدلة تبحث في الكتب عما يساند ما قررته سلفا، وما اتجهت إليه سابقا، أو اتجهت إليه مجموعتك أو اتجهت إليه جماعتك أو نحو ذلك هنا نحذر.
في السنة أيضا محكم ومتشابه.
كذلك كلام العلماء، هل أقوال العلماء من الصحابة أو أقوال العلماء وأفعال العلماء كلها محكمة؟ ليست كذلك، منها ما هو محكم ومنها ما هو متشابه.(30/5)
فإذا أتى أحد وقال في بعض كلامه الإمام الشافعي قال كذا وكذا، الإمام ابن تيمية قل كذا وكذا، الإمام ملك قال كذا وكذا، هل المسألة انتهت في أن يكون قوله صوابا، ليس كذلك، لابد أن يكون أقوال أهل العلم:
أولا محكمة.
ثانيا إذا كانت متشابهة فترد إلى المحكم.
إذا لم يستبن الأمر فيها فالرجوع في فهم كلام أهل العلم إلى كتب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السبب الثالث التأويل، وهل أفسد الدنيا إلا التأويل، يتأول الأمور فيحرف الأمور عن وجهها حتى يصل إلى ما يريده، والتأويل مما أضر بالناس سواء أكان التأويل في العقائد أم كان التأويل في مسائل العمليات التي اتجهت إليها الفرق كالخوارج والمعتزلة وغير ذلك .
من الأسباب [السبب الرابع] حب الدنيا والرياسة، ابن تيمية رحمه الله تعالى لما ذكر الخوارج قال: إن سبب ظهورهم.
هم ظهروا في أي زمن؟ ظهروا في زمن عثمان رضي الله عنه، هل هناك أنقى في زمن عثمان رضي الله عنه من عثمان؟ هل هناك أنقى من دولة عثمان؟ لكنهم نقموا عليه وخرجوا عليه وقتلوه في بيته وهو ناشر المصحف يقرأ فيه وكان صائما رضي الله عنه وأرضاه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن من خرج من الخوارج وغيرهم على ولي الأمر، فإنما أخرجه لذلك شهوة باطنة لحب الدنيا والرياسة، جعل لها سبيلا من بعض مسائل الدين أو الغيرة على الشريعة، فجعل ذلك سُلَّما لشهوة باطنة عنده.
وهذا كلاما ظاهر وصحيح لمن تأمله.(30/6)
السبب الخامس في الغلو هو مجاوزة الحد، الله جل وعلا نهى هذه الأمة عن الغلو كما نهى أهل الكتاب قال ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ?[النساء:171]، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» الغلو مجاوزة الحد عن المأذون به، فمن جاوز الحد عن السنة المرضية فقد غلا، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خُيِّر بين أمرين إلا واختار أيسرهما، كان عف الكلام عف اللسان رحيما برا قويا في موضع القوة لينا في موضع اللين.
بعض الناس يظن أن الشدة دائما هي الحق، هذا غلط على الشريعة، قد يكون في مواضع كثيرة وكثيرة اللين واليسر والأناة والرفق هو المطلوب، لهذا ثبت في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله فمن كان رفيقا في أمره كله» فقد ابتعد عن الفتن وسلم من الغلو وكان محبوبا لله جل وعلا.
السبب الذي بعده [السبب السادس] مخالفة العلماء وعدم الرجوع إليهم، الخوارج ما رجعوا إلى الصحابة استقلوا بفهومهم، الذين خرجوا اليوم من هذه الجماعات الضالة جماعات الفتن الذين لا يفرقون بين مؤمن وغير مؤمن؛ بل يقتلون كما يشاءون ولا يرعون لذي عهد عهده، هؤلاء لم يرجعوا إلى فهم العلماء.
فكان من أسباب من ظهور الفتن والوقوع في الفتنة أن المرء يستق في نفسه في الفهم ولا يرجع إلى أهل العلم الراسخين فيه، العلم إذا رجعت ليس كل من قرأ صار عالما، وليس كل من بحث صار باحثا وعالما.
العلم له أهله الذين رجع إليهم، فلا بد حينئذ أن يعرف أن من أسباب الفتن مخالفة العلماء أو عدم الرجوع إلى العلم الراسخين فيه.
إذا تبين ذلك فإن هذه الأسباب مجتمعة أدَّت إلى خروج فئات في تاريخ الإسلام بسبب هذه الأسباب جميعا أو بعض هذه الأسباب، فكان صورتها أبشع صورة.(30/7)
من ذلك وهو أشهرها وأولها الخوارج، الخوارج خرجوا على الإمام الحق؛ خرجوا على عثمان رضي الله عنه وقتلوه.
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحا وقرآنا
ثم قتلوا من؟ قتلوا علي بن أبي طالب خير الناس في زمانه، وهؤلاء مبشرين بالجنة.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في حق عثمان «ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم» لكنهم أداهم القول بالخروج وأداهم الهوى إلى أن يقتلوا عثمان ويقتلوا عليا، هل كانت حين ذاك كانت لهم معتقدات خاصة؟ لا، خرجوا وقتلوا لأنهم رأوا أن هؤلاء تجاوزوا الشريعة، قبل أن يحكموا على عثمان بالتكفير، عثمان ما حكموا عليه بالكفر، وإنما حكموا عليه بالضلال في باب المال، وفي باب الولايات وقالوا أنت تقسم المال كما تشاء، وتعطي الإقطاعات كما تشاء.
وأجمع أهل العلم على ضلال هؤلاء، وعلى أنهم من كلاب أهل النار.
كذلك قتلوا عليا رضي الله عنه، الذي قتل عليا من؟ هل قتل عليا رجل فاسق ويزني ويسرق ويرتشي ويشرب الخمر ويعمل؟ لا، ربما كان هذا الرجل الذي يعمل مثل هذه الأعمال لعلي في قلبه من المكانة ما ليس لدى قاتل علي، من؟ قاتل علي عبد الرحمن بن ملجَم ، ملجَم بفتح الجيم لا بكسرها.
عبد الرحمن بن ملجم هذا رجل صالح في أول أمره أرسله عمر بن الخطاب إلى مصر رضي الله عنه، طلبه عمرو بن العاص، قال: يا أمير المؤمنين أرسل لي رجلا قارئا للقرآن يقرئ أهل مصر القرآن. فقال عمر بن الخطاب: أرسلت إليك رجلا هو عبد الرحمن بن ملجم من أهل القرآن آثرتك به على نفسي -يعني أنا أريده عندي في المدينة؛ لكن آثرتك به على نفسي- فإذا أتاك فاجعل له دارا يقرئ الناس فيها القرآن وأكرمه.
لكن عبد الرحمن بن ملجم لم يكن عنده علم، دخلته الأسباب التي ذكرنا فجرّه الخوارج معهم.(30/8)
قتل عبد الرحمن بن ملجم علي رضي الله عنه، ولما قتله وقيد للقصاص قال للسيّاف: لا تقتلني مرة واحدة -يعني قطعة رأس- قطّع أطرافي شيئا فشيئا حتى أرى أطرافي تعذب في سبيل الله.
أنظر هذا الحب لله جل وعلا حب لله جل وعلا عظيم وبذل للنفس عظيمة يريد تُقطع ليش؟ لأنه عنده أن قتل علي حق.
لهذا تنتبه أن أئمة السنة والجماعة قالوا كلمة عظيمة قالوا: ليس الشأن أن تحِب الله -لأن هذه دعوى-؛ ولكن الشأن أن تحَب.
ليس الشأن أن تقول: أنا أحب الله جل وعلا وتعمل كل شيء. الشأن أن تبحث عما يحبه الله فتعلمه، تقول: أنا أحب الله غيرة لله جل وعلا، أنا أريد أن أضحي في سبيل الله، أريد أن أبذل نفسي في سبيل الله وتمشي في طريق خطأ؟ هذا عرضة للضلال.
لابد أن تبحث عما يحب الله، وقد يحب الله جل وعلا الأناة والحلم في موضعه، وقد يحب الإقدام في موضعه.
هذا قاتل علي أتى رجل بمدحه هو عِمران بن حِطَّان، عمران بن حطان من الخوارج تتابعوا الخوارج انقضوا؟ لم ينقضوا وهم أساس الفتن، وكما جاء في حديث «لا يزالون يخرجون حتى يقاتل آخرُهم مع الدجال »والحظ قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (لا يزالون يخرجون) يعني يخرجون ثم يخمدون، ثم يخرجون ثم يخمدون، وقد قال في حقهم «أيْنَمَا لقِيتُمُوهُم فاقْتُلُوهُم فإنَّ فِي قَتْلِهِم أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُم عند الله جل وعلا» عمران بن حطان مدح قاتل علي بقوله:
يا ضربة من تقيٍّ ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
يمدح من؟ يمدح الذي قتل علي يقول
يا ضربة من تقيٍّ ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكرُه حينا فأحسبُه أوْفى البرية عند الله ميزانا
قبحه الله ذاك المجرم الخبيث.(30/9)
إذن سبب الفتن، أو من أسباب الفتن من مظاهرها في التاريخ الزيادة في التدين، فاحذر أن يكون التدين على طريق غلط؛ لأنه إذا تدينت على طريق خطأ فليس شأنك أنك تسلم، فقد تتدين على طريق خاطئة فتصبح مثل أولئك الأقوام الذين انحرفوا.
فالشأن أن تكون ناصحا لنفسك متدينا صالحا متبعا للكتاب والسنة متبعا للصحابة على نهج سلف الأمة حذِرا من الأهواء.
واحذر سبب الفتنة؛ وهو أن تسمع لأهل الفتن والأهواء، بعض الناس يتساهل في نفسه، يعرض نفسه للخطر؛ يسمع لهذا ويسمع لهذا ويجلس مع أصحاب الفتن، لا، من أسباب وقاية نفسك والوقاية خير من العلاج أن تبتعد عن أصحاب الفتن. قال بعض أئمة السلف:
لا تصغي إلى ذي هوى بأذنيك، فإنك ما يوحي إليك.
تجلس تتسائل، والله هؤلاء عندهم غيرة، هؤلاء فعلوا، هؤلاء مجاهدون، هؤلاء تجلس تسمع تسمع، ثم يأتيك الفتنة، ويأتيك الانحراف.
لابد أن يكون لك موقف واضح في هذا الأمر، موقف واضح وقائي، لا تتساهل في السماع؛ لأن المرء يتأثر بأي شيء؟ يتأثر بالسماع.
من مظاهر الفتن التي حصلت أن يتقرب أناس بالنيل من الكعبة وهم ينتسبون للإسلام.
ربما يكون فاسق إذا أتى عند الكعبة ورآها بكى ولان قلبه ولم تحدثه قلبه بمعصية.
لكن أتى أناس من قوة تدينهم لم يرعوا حتى للكعبة حرمة مثل ما حصل من طائفة من العبيدين؛ بل اقتلعوا الحجر الأسود وأخذوه معهم من مكة إلى الأحساء -كانت تسمى البحرين في ذلك الوقت-، جلس معهم فوق العشرين سنة، تقريبا من سنة 317 هجرية إلى 339 هجرية.(30/10)
الخِرقي -صاحب مختصر الحنابلة الذي شرحه ابن قدامة في المغني- لما أتى في الحج ألفه في وقت عدم وجود الحجر الأسود، قتلوا مئات الآلاف من الحجاج وأخذوا الحجر الأسود وذهبوا به باسم الدين، لما أتى لهذا الموضع قال: ويقبل الحجر الأسود إن كان. يعني إن كان موجودا؛ لأنه ما كان موجودا شيء يدمى له القلب أن يأخذ ناس الحجر الأسود ويذهبون به؛ لكن سببه التدين الباطل والتأويل والجهل والطائفة البطينية العبيدية.
كذلك منهم المنتسب للسنة حوادث الحرم الأخيرة التي حصلت سنة ألأف وأربعمائة 01/ 01/ 1400 هـ هذه الحوادث الفضيعة سببها إيش؟ هل كان أولئك في سلوكهم أو في ظاهرهم يشك فيهم؟ لا، كانوا ظاهرهم ظاهر الدين والخير ويطلبون العلم وفي حلق المشايخ لكن أتاهم الضلال والفتنة من جهة الغلو ومن جهة الجهل ومن جهة اتباع المتشابه ومن جهة الرؤى ومن جهة أسباب كثيرة، فأداهم إلى أن يجعلوا الحرم مكان خوف، الله جل وعلا قد أمن في الحرم إيش؟ أمّن الطير، أمن الحمام ، أمّن العصافير ، أمن الطيور، حتى بعض الحشرات غير الضارة مؤمَّنة فيه فكيف هؤلاء يرتكبون باسم الدين.
ما حصل من تفجيرات أخيرة هذه من الفتن، التفجيرات التي حصلت لأخيرة في الرياض وما حصل قبلها في الرياض والخضر، وفي غيرها من بلاد المسلمين في مصر قبل ذلك وفي إندونيسيا وإلى آخره، يأتون إلى أناس آمنين من مسلمين وغير مسلمين فيقتلون الجميع.
هذه من أعظم الفتن في هذا الوقت، السبب أن فيها عدة مخالفات؛ فتنة عن الدين عظيمة، وخروج عن الصراط، واتّباع لسبيل الخوارج من عدة أوجه:
أولا: أن فيها قتل للنفس، والله جل وعلا يقول ?وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا?[النساء:29].(30/11)
الأمر الثاني: أن فيها قتل للمسلمين، والله جل وعلا يقول ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا?[النساء:93]، بعض الذين قتلوا في الرياض مسلم، شاب مسلم كان ماشي، لما دخلوا بالرشاش هرب أراد أن يهرب ضربوه في رأسه، هو معروف أنه مسلم هارب ليس معه سلاح وليس معه شيء هرب ضربوه في رأسه هو وغيره ممن قتلوا.
قتلوا معاهدين أين هم من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة العهد لم يعطيه؟ يعطيه إمام المسلمين، الأمان من يعطيه؟ يعطيه الإمام يعطيه ولي الأمر حتى لو أعطاه أحد المسلمين بكفالة ودخل بأمان لا يجوز الاعتداء عليه لأن المسلمين تتكافأ دماءهم ويسعى بذمتهم أدناهم.
فيه اعتداء على الأموال كل المسلم على المسلم حرام دمه كما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دمه وماله وعرضه»، الأموال هذه المجمعات إلى آخره هذه ملك لمن ؟ أليست ملك لمسلمين؟ بأي حق تفني أموال المسلمين وتعتدي على أموالهم؟ أين أنت من هذا الحديث؟ لكن هو الغلو هو سبب الفتن.
هناك عدة اعتبارات أخرى لمثل هذا، هذه صور لما حدث في التاريخ القديم والجديد يبين لك أن الفتن يجب أن نحذرها ممن جاء بها، سواء كانت فتن شبهات كما ذكرنا أم فتن شهوات .
العلاج أعطي نقط سريعة بدون شرح :
أولا يجب علينا أن نعتصم بالكتاب والسنة والله جل وعلا يقول ?أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ?[النساء:59].
[الثاني:] ويجب علينا أن نتبع المحكم من كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن كلام أهل العلم وأن ندع المتشابه.
الثالث: أن نلتزم فهم الراسخين في العلم وألا نأخذ بَنيات الطريق .(30/12)
الرابع: أن نحرص على لزوم الجماعة والحذر من الفرقة الله جل وعلا يقول ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا?[آل عمران:103]، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لكم «الجماعة رحمة والفرقة عذاب»، فمن سعى في أي سبيل للفرقة فقد دخل في الفتن من أوسع أبوابها، وفي الحديث «الفتنة نائمة لعن الله من أيقضها» رواه ابن النجار في تاريخه وغيره باسناد فيه مقال .
[الخامس:] من أسباب علاج الفتن الاهتمام بجمع الكلمة، الفتن لا تظهر إلا في أرض؛ أرض التفرق، ما تظهر في أرض الاجتماع.
فلذلك موقفك أيها لمسلم إذا أردت أن تأمن على نفسك، وأن تأمن على دملك، وأن تأمن على عرضك؛ بل أن تأمن على دينك، وأن تكون حاميا لدين الله جل وعلا، فاحذر الفتن بأي طريق؟ في أن يكون هناك أرضية خصبة أن يكون هناك أرض خصبة للفتن، بأي شيء؟ بأن تهتم لجمع الكلمة.
قد يكون هناك مفاسد، قد يكون هناك معاصي، قد يكون هناك منكرات، قد يكون، قد يكون..، لكن المصلحة العظمى في إيش؟ المصلحة العظمى في اجتماع الكلمة؛ لأن الشهوات تطرأ وتزول، مشكلة الشهوة أنها معصية، لكنها هي تطرأ وتزول، يعمل الشهوة المحرمة، ثم بعد ذلك يقول أستغفر الله وتوب إليه ويحس في نفسه بالألم والندم، الصلاة إلى الصلاة مكفرات، رمضان إلى رمضان مكفرات، العمرة مكفرة للعمرة، الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
لكن المشكلة الشبهة، الشبهة هذه ما دواؤها؟ الشبهة يتدين بها صاحبها وتبقى في نفسه، بخلاف الشهوة تأتي ويقول أستغفر الله وأتوب إليه أنا عصيت ربي وفي نفسه الندم، وإذا صلى يرجو مغفرة ذنوبه، وقال أستغفر الله تعالى.
لكن صاحب الشبهة إذا قال أستغفر الله تعالى؟ ما يستغفر الله تعالى من قتل مسلم، لا ما يستغفر الله تعالى من التفجير، ما يستغفر الله تعالى مما يعمل؛ لأنه يرى أن هذه قربة إلى الله جل وعلا، ويرى نفسه شهيدا، ويرى نفسه مجاهدا.(30/13)
فهنا الاهتمام بجمع الكلمة ووحدة الصف، هذا يُلغي كل سبيل إلى ذلك، فالله جل وعلا أمرنا بأن نحقق المقاصد والوسائل.
هذه بعض الكلمات في العلاج والوقائع والأسباب، موقفك أن تهتم بأن تكون أيها المسلم:
· بعيدا عن الفتن، ليس فقط بعيدا.
· وواقيا لنفسك ثانيا.
· الثالث أن تكون مسلما حقا مجاهدا في درء الفتن.
الجهاد أنواع:
من الجهاد أن تكون مجاهدا لهذه الفرق الضالة.
من الجهاد أن تكون مجاهدا في جمع الكلمة.
من الجهاد أن تكون محققا لمراد الله ومراد رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتاب والسنة في رد الفتن عن الدين ما ظهر منها وما بطن.
من الجهاد الحق أن تكون عنصرا عالما تقي صالحا بأن لا تجعل للشيطان مدخلا في هذه البلاد.
الله جل وعلا أصلح هذه البلاد وأصلح بلاد المسلمين، فكيف نسعى في الإفساد، يقول الله جل وعلا ?وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا?[الأعراف:56 ،85]، لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها بجمع الكلمة، لا تفسدوا في الأرض بالشرك بعد إصلاحها بالتوحيد.
لعل فيما ذكرت كفاية، الموضوع مهم وطويل.
أكرر شكري لجميع الإخوة الحاضرين، وللمنظمين لهذا النشاط، ولمن سبقني لسماحة الشيخ ولمقدمي هذه الندوة، شاكرا للجميع حسن استماعه.
سائلا المولى جل وعلا أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما فيه رضاك.
اللهم اجمع كلمتنا على الحق والهدى.
اللهم من أراد بنا سوءا فرد كيده إلى نحره.
اللهم من أراد بنا فتنة فاجعل فتنته على نفسه واجعله عبرة لمعتبرين.
اللهم اجزي ولاة أمورنا خيرا عما يبذلون للإسلام والمسلمين.
اللهم أجزي صاحب الجائزة خيرا.
واجعلنا جميعا ممن يعلم الحق ويسعى في سبيله ويجاهد في سبيل درء الفتن وإحقاق الحق إنك جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
أعدَّ هذه المادة: سالم الجزائري(30/14)
فَضْلُ التَّوحيد
و
تكفيرُه للذُّنوب
[شريط مفرغ]
التذكير بفضل التوحيد يحتاجه حتى أُولي المقامات العالية في الدين، لهذا لا يستغني أحد، يقول أحد أنا تعلمتُ، درستُ التوحيد، وعرفتُ فضله، ما يحتاج أكرر هذا، ما يحتاج أعطيه الناس، ليس الأمر كذلك؛ لأنّ هذا إذا علمته، أول من سيدرك هذا الفضل أنتَ، ومن ذلك الفضل أنه يكفِّر الذنوب؛ لأنه يزيد عند العلم الاعتقاد بتكريره، كما أنَّه يُنسى بعدم تعليمه وتدريسه.[الشيخ صالح]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصفيّه وخليله، نشهد أنّه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى تركنا على بيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده صلى الله عليه وسلم إلا هالك.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد كُلَّما صلى عليه المصلون وكُلَّما غفل عن الصلاة عليه الغافلون، وعلى آله وصحبه من اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أنْ يجعلني وإياكم ممن إذا أُعطي شكر، وإذا اُبتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، كما أسأله سبحانه أنْ يمنّ علينا بتحقيق التوحيد، وبالعمل به، وبتكميله، وتخليصه مما يُنقص كمالَه أو يقدَح في أصله، إنّه سبحانه ولي الصالحين.(31/1)
لا شك أنّ هذه الدورة والدروس والمحاضرات العلمية التي كان موضوعها ”التوحيد“ من أهمّ ما عُمِل من سلاسل المحاضرات؛ وبل هي أهمُّها؛ لما اشتملت عليه مِنْ بيان وتوضيح أصل الأصول الذي هو حق الله جل وعلا على العبيد؛ وهو توحيده سبحانه وتعالى، والإخلاص له وإسلام الوجه والعمل له سبحانه بلا شريك ولا نِدّ ولا ظهير، والله جل جلاله إنما عَمَر السموات وخلقها، وعَمَر الأرض وخلقها، ليوحّد سبحانه، خلق السموات وجعل لها عُمّارا، وخلق الأرض وجعل فيها الجن والإنس مكلَّفين، وذلك كله لتوحيده سبحانه وتعالى، قال جل وعلا ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ?[الذاريات:56-58]، وهو سبحانه مستحقٌّ من عباده أنْ يُذكر فلا ينسى، وأن يُوحّد فلا يعبد أحد سواه، وأنْ يُخلص له دين والعبادة امتثالا لقوله ? فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ?[الزمر:2-3]، وهذا هو حقه سبحانه على عباده، الذي بعث به الرسل، ومن أجله أنزل الكتب، كما قال سبحانه ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، وقال أيضا? وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ?[الأنبياء:25]، وهذا التوحيد هو الذي اجتمعت عليه الرسل، وهو الإسلام الذي لا يقبل الله جل وعلا من أحد غيرَه، قال جل وعلا ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران:19]، يعني التوحيد الخالص المبرّأ من كل شائبة شرك تقدح في خُلُوصه وإخلاصه، وقال أيضا جل وعلا ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ(31/2)
الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85]، والإسلام هذا ليس خاصًّا بأمة محمد عليه الصلاة والسلام؛ بل كلُّ الأمم التي بُعِثت لها الرسل، كلها مطالبة بهذا الإسلام الواحد؛ وهو الإسلام العام الذي أُمِر به جميع الخلق، قال سبحانه (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) فآدم عليه السلام كان على الإسلام، ونوح عليه السلام كان على الإسلام، وإبراهيم عليه السلام كان على الإسلام، وأبناؤه الأنبياء والرسل كانوا على الإسلام، وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام كانا على الإسلام وأمرا به ودعا إليه، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان على الإسلام الخالص وكانت شريعته أيضا هي شريعة الإسلام.
وهذا الإسلام الذي اجتمعت عليه الرسل وأُمرت به جميع الأمم هو: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. هذا هو الاستسلام الذي يَنفع العبد، وهذا هو الاستسلام والإسلام الذي أُمر به جميع الخلق المكلَّفين من الجن والإنس.(31/3)
وموضوع هذه المحاضرة هو ”فضْلُ التوحيدِ وتكفيرُه للذّنوب“ وهذا التوحيد بُيِّن لكم كثيرٌ من مسائله فيما مرّ عليكم من المحاضرات السابقة؛ في بيان معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي بيان الشرك؛ الذي هو مضادٌّ للتوحيد؛ الشرك الأكبر، أو مضاد لكماله وهو الشرك الأصغر، وبُيّن لكم معنى توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا كلُّه بيان لتوحيد الله جل وعلا، هذا التوحيد كلُّه من أخذ به فإنّ له فضلا عظيما على أهله، التوحيد له الفضل الكبير الأكبر على أهله مِمَّن أخذ به والتزمه وحققه في الدنيا والآخرة، والنفوس مشتاقة دائما أن تسمع وأن تتعرف على فضل الشيء؛ لأنها ربما ظنَّت أنّ هذا الشيء فضله واحد غير متعدد، وإذا تعددت الفضائل تعددت أوجه الاشتياق لهذا الأمر، والعناية به والحرص عليه، وبيان ما للعباد من الفضل والأثر إذا التزموا بهذا التوحيد، لهذا جاء في ”كتاب التوحيد“ الذي هو كتاب للشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد رحمه الله تعالى، أول باب من أبوابه ”باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب“ هذا أول باب، لماذا؟ لأنّ هذا الباب إذا تبيَّن للعبد فضل التوحيد، وبيان أثر التوحيد، وبيان حسنات التوحيد، وآثار التوحيد على العباد؛ على العبد في نفسه، وعلى العباد، وعلى الناس في الدنيا والآخرة، واشتاقت النفوس وعظمت عندها الرغبة في أنْ يتعرفوا على هذا التوحيد، وأن يطلبوا علمَه، وأن يهربوا مما يضاد ذلك الذي يذهب بهذه الفضائل وهذه الآثار والحسنات.(31/4)
موضوع المحاضرة كما سمعتم في العنوان ”فضْلُ التوحيد وتكفيره للذنوب“، تكفير الذنوب أحد آثار التوحيد، وأحد فضائل التوحيد، لهذا لا يُقتصر في فضله على أنّه يكفر الذنوب، فالله جل وعلا منّ على عباده؛ لأنْ أوضح لهم هذا التوحيد، وبيّن لهم أنّ أهل هذا التوحيد تكفر لهم الذنوب والسيئات، قال جل وعلا ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48]، ما دون الشرك يغفره الله سبحانه وتعالى لمن شاء من عباده، وهؤلاء الذين تخلّصوا من الشرك هم أهل التوحيد، والتوحيد عنوانه البارز تحقيق الشهادتين؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وثبت في صحيح مسلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال «الإسلام –يعني التوحيد- يجُبّ ما قبله، والهجرة تجُبّ ما قبلها»([1]) الإسلام لمن حققه، وأسلمه ابتغاء وجه الله جل وعلا لا نفاقا ورياء، وتبرّأ من الشرك وكفر بالطاغوت، وعلِم معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإنّ هذا الإسلام يجُبّ ما قبله، فأوّل ما يواجه العبد إذا أسلم، أنّ إسلامه يجُبّ ما سلف له من الآثام، وما سلف له من الذنوب حتى ولو كان أعظم الذنوب وهو الشرك الأكبر بالله جل وعلا، الإسلام هو أعظم وسائل التوبة، الإسلام هو أنجح وأبلغ وسائل مغفرة الذنوب لمن كان عليها، حتى الشرك الأكبر، فكيف بما دونه من الشرك الأصغر، أو عموم الذنوب والكبائر والآثام، لهذا يُدرك التوحيد أهل التوحيد بالفضل أوّل ما يعلنُ الإسلام؛ لأنه بتوحيده لله جل وعلا وبراءته من الشرك فإن هذا التوحيد والإسلام يجُبّ ما قبله مهما كان الذي قبله، ولو كان أشْرَكَ الشركَ الأكبر، أو سفك الدم، أو أخذ المال، أو انتهك العِرض، أو وقع في الموبقات والكبائر، فكل ما قبل الإسلام مغفور بالإسلام، الإسلام يجُبّ ما قبله.(31/5)
وأمّا أهل الإسلام في تكفير الذنوب فإنّ كلَّ مسلم يتفضّل الله جل وعلا عليه بأنّه تُكَفَّر له الذنوب -إذْ كان مسلما موحِّدا- في الآخرة بمشيئة الله جل وعلا، وفي الدنيا إذا تاب توبة صالحة؛ فمن تاب نفعه توحيده من كل ذنب، وكفّر له الذنوب، ومَنْ عمل بما دون الكبائر في الدنيا فإنّ توحيدَه وعمله الصالح يكفِّر عنه تلك الصغائر.
أما حقيقة هذا التوحيد الذي يحصل به تكفير الذنوب، فإنّه ألاّ يُعبد إلا الله جل وعلا، وأنْ يعلَم العبد معنى الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة. التوحيد الذي من فضائله وآثاره أنّه يكفّر الذنوب هو أنْ تعلَم معنى هذه الشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنْ تشهد بها مُعْلِنا غير مستخْفٍ بهذه الشهادة العظيمة، لهذا ثبت في الصحيحين من حديث عُبَادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «مَنْ شَهِد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله, وَأَنّ مُحَمّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, وَأَنّ عِيسَىَ عَبْدُ اللّهِ وَرَسُوله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا عَلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ, وَأَنّ الْجَنّةَ حَقّ, وَأَنّ النّارَ حَقّ, أَدْخَلَهُ الله الْجَنّةَ عَلَى مَا كَانَ مِن العَمَل»، وفي رواية قال « حَرّمَ الله عَلَيْهِ النَّار» فمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأول هذه الفضائل بأن حقق التوحيد أو يعني شهد شهادة التوحيد بأقل درجاتها كما سيأتي بيانه، فإن فضل التوحيد عليه أن الله جل وعلا يُدخله الجنة وَعْدًا منه جل وعلا ووعده الحق والصدق، وأنّ الله يحرم عليه النار وعدا منه جل وعلا ووعده الحق والصدق، وجاء في الصحيحين أيضا من حديث عِتبان بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيان فضل الشهادتين «إنّه مَنْ قال لا إله إلا الله أو من شهد أنه لا إله إلا الله وأني رسول الله حرم الله عليه النار» وفي لفظ أيضا «أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» من جنس(31/6)
ما جاء في حديث عُبادة، وهذا كله من الفضل العظيم والأثر الكبير للتوحيد.
وهنا وقفة في هاتين المسألتين:
?أما الأولى: فما معنى كوْن هذا التوحيد -وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من الشرك وأهله، والكفر بالطاغوت، وترك الشرك كبيره وصغيره- ما معنى أنّه يَدخل الجنة على ما كان من العمل؟
?وما معنى أن الله حرّم عليه النار؟
هاتان مسألتان.
أما الأولى وهي أنّه يدخل الجنّة على ما كان من العمل، فإن أهل التوحيد مآلهم إلى الجنة؛ والتوحيد أهله فيه أصناف: منهم من حقق التوحيد، منهم من خلط مع التوحيد عملا صالحا وآخر سيئا، ومنهم من جاء بالتوحيد ومعه ذنوب كثيرة جدا.
?أما الأول: فمن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وتحقيق التوحيد معناه تكميله؛ من أن يكون إخلاصه لربه، وخوفه منه، ورجاؤه فيه، أن يكون في نقص بوجه من الوجوه.
ومعنى تحقيق التوحيد: أن يكون متخلصا وخالصا من الشرك الأكبر والأصغر، ووسائل الشرك الأكبر والأصغر، ومن البدع صغيرها وكبيرها، ومنَ المعاصي والذنوب الكبائر والصغائر، إلا من تاب، والعمل بالصالحات كما أمر الله جل وعلا.
فهذا التوحيد فضله عليه أنّه يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهؤلاء الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب عِدَّتهم سبعون ألفا بنص الحديث أنّه في هذه الأمة سبعون ألفا؛ يعني إذا أتوا يوم القيامة فيهم؛ في هذه الأمة سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ومنّة من الله جل وعلا وكرم أنه مع كل ألف سبعون ألفا، وهذا ميدان يتنافس فيه المتنافسون، وأعظِم به أمنا وأمانا، وأعظِم به أثرا وفضلا في الدنيا والآخرة.(31/7)
? أما القسم الثاني من الناس: فَهُم الذين عملوا بالتوحيد؛ شهدوا شهادة التوحيد وآمنوا واعتقدوا الاعتقاد الحق في الله جل وعلا في توحيده؛ في إلهيته، وربوبيته، وفي أسمائه وصفاته، عبدوه وحده لا شريك له، وتخلصوا من الشرك امتثالا لقوله ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]، ولكنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فهؤلاء التوحيد فضله عليهم:
1. أنهم إنْ تابوا تاب الله عليهم.
2. وإن لقوا الله جل وعلا بكبائر بغير توبة فإنه يغفر سبحانه وتعالى ذلك لمن يشاء؛ يعني بدون محاسبة لهم يغفر لمن يشاء.
3. ومنهم من يكون عمله السيئ بالموازنة ويرجح التوحيد بأعماله السيئة فضلا من الله جل وعلا وتكرم.
?وأما الصنف الثالث: فهؤلاء الذين أتوا بالتوحيد، وقوي إخلاصهم، وقوي توحيدهم وقويت حميتهم لتوحيد الله، وبراءتهم من الشرك، وبغضهم للشرك والكفر ولأهل الشرك والكفران، وكفرهم بالطاغوت وهو كراهتهم لعبادة غير الله، وبغضهم للشرك بالله جل وعلا وللكفر بأنواعه، عَظُم ذلك عندهم، ولكن كثرت سيئاتهم وذنوبهم، فهؤلاء مَثَلُهم مَثَل الرجل الذي يؤتى به يوم القيامة كما ثبت بذلك الحديث «يؤتى برجل يوم القيامة بين الخلائق، وينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مد البصر فيها سيئاته وذنوبه، فإذا رأى ذلك خاف وأصابه الهلع، فيقول الله له: أتنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا أنكر من هذا شيئا. فتوضع هذه السجلات في كِفّة السيئات، ترجح كِفّة السيئات، ثم يقول الله له: ألك عمل؟ فيقول: لا يا رب. فيقول الله له: بلى. فيؤتى ببطاقة، فيقول: ما هذه يا رب؟ فتوضع في كِفّة الحسنات، فتطيش تلك السجلات» يعني من قوة رجحانها، كفة الميزان رجح بقوة، فارتفعت الكفة الأخرى، فطاشت السجلات وتناثرت من قوة ثقل هذه البطاقة، هذه البطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله.(31/8)
لكن هل هذا الفضل لكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ لو كان الأمر كذلك لما دخل النار أحد من أهل التوحيد، والله جل وعلا قد توعد أهل التوحيد من أهل الكبائر وأهل الذنوب بأنهم يدخلون النار ويُنَقَّون فيها، ثم مصيرهم إلى الجنة، لكن هذه حالة خاصة لمن كان التوحيد في قلبه عظيما، وحُبُّه لله جل وعلا ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإخلاصه لله؛ بأنه مؤمن بتوحيد الله بربوبيته وبماهيته وبأسمائه وصفاته، وأنّ هذا التوحيد بأنه لا يعبد إلاّ الله ولا يشرك بالله جل وعلا شيئا، وأنه يحبّ التوحيد، ويحب أهله، ويبغض الشرك ويُبغض أهله، فتكون هذه البطاقة مَيَّزَتْه عن سائر الأمة، فطاشت سجلات السيئات، مقابلة بعظم التوحيد وعظم شأنه، والتوحيد في القلب أيضا إذا عظم، إذا عَظُم التوحيد في القلب فإنه لا يكاد يكون معه إقدام على سيئة أو إصرار على كبيرة من كبائر الذنوب، فتكون حالة خاصة لعبد يُخرج من بين الخلائق أو لمن هو مِثْلُه ممن كثرت سيئاته لكن عظم توحيده وإخلاصه لله جل وعلا.(31/9)
وهذا يُرَغَّب فيه كلُّ أحد، ويَرْغَب فيه كل أحد منّا ممن لا يأمن على نفسه المعصية والذنب وممن يغشى الذنوب أو تَقِلُّ عنده الحسنات، وكلما زاد علم العبد بربه كلما علم أنه محتاج لما يخلصه من الذنوب والآثام، ومن قلة الامتثال للواجبات، وأعظم ذلك هو الإخلاص وتوحيد الله جل وعلا علما وعملا وانقيادا، لهذا «قال موسى عليه السلام لربه جل وعلا: يا ربّ علمني دعاء أدعوك به أو أذكرك به، قال: يا موسى قل لا إله إلا الله. فقال موسى عليه السلام: يا رب كل عبادك يقول هذا -أو يقولون هذا، يعني أراد شيئا يختص به؛ لأنّه ظنّ أنه كما أنه من أولي العزم من الرسل، وأنه كليم الله، وأن الله أعطاه التوراة، فإنّ هناك شيئا خاصا يدعو الله ويذكر الله به – فقال جل وعلا له: يا موسى لو أنّ السموات السبع وعامرهن غيري، والأراضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، ما لت بهن لا إله إلا الله» وهذا الحديث فيه فوائد عظيمة، الفائدة الأولى: فيه بيان فضل كلمة التوحيد، وأنّ الله جل وعلا من منته وكرمه وتفضله جعل الكلمة العظيمة ذات الفضل العظيم التي ترجح بالسموات ومن يعمرها وترجح بالأرض ومن فيها، جعلها كلمة سهلة متاحة للجميع لمن علمها وشهد بها شهادة الحق، وهذا من رحمة الله جل وعلا المتصلة بربوبيته والمتصلة بألوهيته والمتصلة بأسمائه وصفاته، كيف ذاك؟ رحمة الله جل وعلا بعباده في آثار كونه، سبحانَ ربًّا لهم أنْ جعل الرِّزق الذي به قوام حياتهم ليس مختصا بفئة منهم، الرِّزق الذي به قوام الحياة شائع؛ يناله الغني ويناله الفقير، الماء والحب، البُرّ والتمر ونحو ذلك بحسب البلد، يكون شائعا؛ ليس نادرا في بلد أو في أرض حتى لا يُدرك هذا الشيء إلا الأغنياء أو إلا الشرفاء أو إلا قلة الناس، ربوبية الله جل وعلا على خلقه العامّة جعلت ما يحتاجونه بما به قوام حياتهم جعلته شائعا بينهم؛ يمكن تحصيله، وكذلك في توحيد إلهيَّته جعل من رحمته أنّ ما به(31/10)
يُحقّق العباد، توحيد الإلهية يشترك فيه الجميع بأبسط شيء وهو كلمة لا إله إلا الله، ونبّه الله موسى عليه السلام على ذلك ليبيّن له أنّ ما يحتاجه العباد من فضل التوحيد لا يختص به الأنبياء، ولا يختص به الرسل، ولا يختصّ به أولي العزم، ولا يختصّ به كليم الله جل جلاله، وإنما هذا شائع، (قال موسى: يا رب كل عبادك يقولون هذا) فدل هذا أن رحمة الله بعباده أدركتهم في ربوبيته لهم وفي ألوهيته لهم وفي أسمائه وصفاته لهم؛ في أنّ ما به حياتهم؛ قيام حياتهم البدنية، وما به قيام دينهم، وقيام نجاتهم في الدنيا والآخرة، أنّ هذا شيء مشاع دائما.
حديث موسى عليه السلام رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم، ورواه النسائي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري في إسناد حسن، وصحح الإسناد الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وله روايات أخر يصير مجموعها حسنا أو صحيحا.
إذا تبين هذا تبين لك عظم هذا الشأن، وهو شأن التوحيد، وسهولته وفضله، وأنّ العلم به أعظم المهمات، أعظم المهمات، ولهذا يُعلم الصغير التوحيد؛ لأنّ هذا أعظم الإحسان لهذا الصغير، وترك الصّغير أو حتى ترك الكبير من تعلّم وتعليم التوحيد هذا نقص وسعي فيما هو دونه، لهذا تنتبه لأصل من الأصول، وهو أن في حديث موسى عليه السلام أنّ التذكير بفضل التوحيد يحتاجه حتى أُولي المقامات العالية في الدين، لهذا لا يستغني أحد، يقول أحد أنا تعلمتُ، درستُ التوحيد، وعرفتُ فضله، ما يحتاج أكرر هذا، ما يحتاج أعطيه الناس، ليس الأمر كذلك؛ لأن هذا إذا علمته، أول من سيدرك هذا الفضل أنتَ، ومن ذلك الفضل أنه يكفِّر الذنوب؛ لأنه يزيد عند العلم الاعتقاد بتكريره، كما أنَّه يُنسى بعدم تعليمه وتدريسه.
إذن تحصّل لنا مما ذُكر أنّ من فضل التوحيد ومن أثره:
? أنّه يكفّر الله به الذنوب.
? وأن به ترجح كِفة الحسنات على كفة السيئات.(31/11)
? أما الأمر الثالث فإنه يمنع الخلود في النار وهو الذي ذكرته لك في الأحاديث السابقة (حَرّمَ الله عَلَيْهِ النَّار).
والتحريم في النصوص؛ تحريم الجنة أو تحريم النار على نوعين؛ في النصوص:
? تحريم أبدي.
? وتحريم أمدي.
(حَرّمَ الله عَلَيْهِ النَّار) من شهد شهادة التوحيد حرم الله عليه النار، يعني أنْ يكون خالدا مخلّدا فيها، قد يدخلها، وقد لا يدخلها، بحسب ذنوبه، وحسب ما عنده، لكنه متعرض للوعيد، لكن هل يَخْلُد فيها صاحب التوحيد؟ لا، بوعد الله جل وعلا لا.
حرم الله الجنة على الكفار هذا تحريم أيضا أبدي، الكافر لا يمكن أنْ يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط.
المؤمن هل تَحْرُم عليه الجنة؟ جاء في بعض النصوص أنّ بعض المسلمين بسبب الذنوب أنه حرم الله عليه الجنة، مثل «حرّم الله الْجَنّةَ على قَاطِعِ الرَحِمِ» «لا يجد ريح الجنة وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا » هذا التحريم ليس تحريما أبديا على أهل التوحيد، ولكنّه تحريم مؤقت؛ لأنّهم يُنَقَّون من ذنوبهم قبل ذلك، ثمّ بعد ذلك يتأخر دخولهم للجنة حتى يصيبهم ما شاء الله جل وعلا من العذاب بعدله وحكمته.
فإذن من فضل التوحيد أن أهله تَحْرُم عليهم النار أن يخلّدوا فيها.(31/12)
? الرابع أنّ من فضل التوحيد على أهله أنّ التوحيد أعظم الأسباب لنيل شفاعة محمد بن عبد الله النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، سأل أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك. قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة «لقد علمت أنّه لا يسألني أحد قبلك يا أبا هريرة عنْ هذا، لما علمت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا منْ قلبه ونفسه»، ومعنى (أسعد الناس بشفاعتي) يعني سعيد الناس بشفاعتي؛ السعيد من الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خاصا من قلبه ونفسه، مَن قال لا إله إلا الله مخلصا فيها من قلبه ونفسه، شاهدا شهادة الحق، عالما بمعناها، فإنه أحق الناس بشفاعة محمد عليه الصلاة والسلام، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنال بوسائل كثيرة عد العلماء منها –أمور كثيرة تزيد على العشرة- ما جاء في الأحاديث الصحيحة ولكن أسعد الناس بها الموحد الذي أخلص في توحيده، وهو أول الناس نيلا لهذه الشفاعة.
? أما الخامس فهو أنّ التوحيد هو السبب الأعظم لتفريج الكُرُبات في الدنيا وفي الآخرة:
قال جل وعلا ?الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ(102)لَا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ?[الأنبياء:101-103]الآية، هؤلاء الذين سبقت لهم من الله الحسنى، من هم؟ هم أهل التوحيد؛ أهل الإيمان بالله الحق، بتوحيد الله جل وعلا، والإيمان فيه بأنه هو المستحق للربوبية وحده، وهو المستحق لإلهية، وهو المستحق لأسماء والصفات، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وعمل صالحا، هؤلاء هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، حالتهم بالآخرة لا يحزنهم الفزع الأكبر.(31/13)
وأما في الدنيا ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً?[النحل:97] فلهم الحياة الطيبة وتفريج الكربات في الدنيا وفي الآخرة.
قد قال نبينا صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما «يَا غُلاَمُ, إِنّي أُعَلّمُكَ كِلمَاتٍ: احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ» (اِحْفَظِ الله يَحْفَظْكَ)، ثم قال له «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله» هذا توحيد «وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بالله» توحيد، ثم قال له «وَاعْلَمْ أَنّ الأُمّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ, ولو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرّوكَ إِلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ, رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفّتِ الصّحُف» وفي رواية «واعلم أن الفرج مع الصبر وأن النصر مع الكرب»([2]) وهذا كله لأهل التوحيد الذين أخلصوه.
? الأمر أو الفضل السادس أنّ صاحب التوحيد الذي وحّد الله وتخلص من الشرك قولا وعملا واعتقادا، له الأمن والهدى في الدنيا والآخرة، قال جل وعلا ? الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ?[الأنعام:82]، لما نزلت هذه الآية شقّ ذلك على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه. كل أحد لابد يظلم نفسه بأيّ شيء، إما أن يفرط في واجب، أو أنه يرتكب منهي عنه، فإذا تذكر تاب من التفريط، وإذا ذُكر أيضا انتبه لتفريطه في أداء الواجب أو في عمله بعض المحرمات، أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ليس هذا التي تذهبون إليه، الظلم الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ?[ لقمان: 13]»، وذلك أن الظلم ثلاثة أنواع:
? ظلم العبد في حق نفسه بالذنوب.(31/14)
? وظلم العبد لغيره بالاعتداء على حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم.
? وظلم العبد في حق ربه جل وعلا بالشرك بالله جل وعلا.
فنبههم النبي صلى الله عليه وسلم على أنّ العموم في هذه الآية عموم مراد به الخصوص، وهو أحد الأنواع الثلاثة وهو ظلم العبد في حق ربه بالشرك بالله جل وعلا، الذي هو أعظم أنواع الظلم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وهذا هو معنى الإتيان بالتوحيد والبراءة والخلوص من الشرك، فإنّ هذا يحصل للعبد به الأمن والاهتداء.
لكن الناس في التوحيد درجات، كذلك في الأمن والاهتداء هم أيضا درجات، فكلما كمَّل العبد توحيدَه، وكمَّل العبد خلوصه وبراءته من الشرك علما وعملا في التوحيد، وعلما وعملا في براءته في خلوصه من الشرك، كلّما كمّل الله له الأمن في الدنيا وفي الآخرة وكمل الله له الاهتداء في الدنيا والاهتداء في الآخرة.
يأتي قائل ويقول: الأمن في الدنيا فهمناه؛ الأمن النفسي، والأمن ألاّ يعتدي عليه أحد، وقوّة القلب، والأمن في المجتمع، وأمن الدولة، وأمن البلد، هذه كله يدخل فيه، كذلك الهداية في الدنيا بالتوفيق إلى الصالحات، ورؤية الحق حقا، والمنّة من الله على عبده باتّباعه، ورؤية الباطل باطلا، والمنّة من الله لعبده باجتنابه، هذا أيضا مفهوم، الأمن في الآخرة بعدم الفزع، وعدم الحُزن والحَزن وبعدم دخول النار أيضا مفهوم، لكن كيف تكون الهداية في الآخرة؟ ألم ينقطع التكليف؟ انقطع التكليف، فهل في الآخرة هداية، لأننا نقول أمن وهداية في الدنيا والآخرة، كيف تكون الهداية في الآخرة؟ قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4)سَيَهْدِيهِمْ? يعني بعد القتل ?وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ(5)وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ?[محمد:4-6]، جعل هنالك ثلاث مراتب:
1. أولا القتل.
2. ثم يهديهم الله جل وعلا.
3. ثم يدخلهم الجنة.(31/15)
هذه الهداية هي الهداية في الآخرة، فسَّرها أهل العلم بالتفسير وأهل العلم بالتوحيد، بأنّها الهداية بسلوك الصراط حين وُرود الظلمة؛ لأنه قبل الصراط هناك الظلمة التي يلتبس فيها الطريق، فربما مرّ الإنسان أو ذهب يريد هذا الطريق؛ يريد طريق الصراط لكنه يسقط في النار -والعياذ بالله-، أو يمشي في الصراط قليلا ثم يضل، لا يعرف كيف يتجه؛ لأنه فيه ظلمة وليس عنده نور تام، ينقطع منه النور الذي هو بسبب توحيده، ثم بعد ذلك يسقط.
فإذن هناك هداية لطريق الجنة في الآخرة هذه تحصل بحسب قوة التوحيد، فكلَّما قوي التوحيد كلما قويت الهداية وقوي النور في الدنيا وفي الآخرة([3]).
? أما السابع فمن فضل التوحيد أنّ التوحيد إذا قوي وإذا أحبّ العبد توحيد ربه وعلِمه وتعلمه، فإنه يوفق لكل قول وعمل صالح، سواءٌ أكان هذا القول والعمل ظاهرا أم باطنا، في نفسه أو في غيره، وهذه من أعظم المهمات؛ لأن العبد لا يخلو:
¨ إما أن يتعامل مع نفسه.
¨ أو أن يتعامل مع غيره.
¨ أو أن يتعامل مع ربه جل وعلا، وتعامله مع الله جل وعلا عبادة؛ يعني بالعبادات.
وتعامله مع نفسه، في شأن هوى نفسه، وما يَرغَب فيه وما لا يرغب وكيف يمتثل الشرع في نفسه.
ومع غيره في تأديته لحقوق الناس والعباد، ابتداء بحق والديه، وحق زوجه، وحق أولاده، وحق جيرانه، وحق زملائه، ومن يخالطه، وحق العلماء، وحق ولاة الأمر، وحق الصحابة رضوان الله عليهم، وحق أهل الإيمان بعامة، وهكذا في هذا الشأن.
التوحيد سبب من أسباب التوفيق لحسن تعامل العبد مع نفسه، ومع الخلق، ومع ربه جل وعلا.(31/16)
أمّا مع الله جل وعلا: فأهل التوحيد يحبون عبادة الله جل وعلا، يحبون الإخلاص، أيضا يحبون أنواع العبادات؛ تجد الموحّد الحق يصلي، تجد الموحّد يعطي الزكاة، تجد الموحّد يصوم رغبة واختيارا، تجده يحجّ رغبة، كلما قوي التوحيد قوي تعلق العبد في الصلاة؛ تعلقه بالصلاة الفرض وبالنوافل، تعلقه بصيام الفرض وبالنوافل، وهكذا ففي تعامله وعبادته لربه بحسَب توحيده وقوته يُقبل على ذلك ويوفَّق لهذا الأمر، لهذا فانظروا إلى نفسك في أيّ من المجالات، إذا أحسست في نفسك تقصيرا في الفرائض أو حتى في النوافل، ففتِّش فستجد أن بعض الدنيا والخلق زاحموا محبة الله جل وعلا في القلب ولا بد، يجتمع في القلب واردان؛ وارد محبة الله جل وعلا وتوحيده، ووارد محبة الدنيا والخلق والرغبة فيها، فيتزاحمان، فإذا قوي التوحيد أضعف الشيء الآخر، وإذا قوي الآخر أضعف التوحيد بحسبه، ولهذا العلم بالتوحيد وتعليم التوحيد وإرشاد الناس إليه هو أعظم البر والإحسان إلى الخلق؛ لأنه به ينفتح ذلك إذا أُحسن تقريره وشرحه للناس وترغيب الناس فيه.(31/17)
أمّا تعامل العبد مع نفسه: فإن العبد له هوى وله رغبة؛ له هوى في بعض المحرمات، لا أحد يسلم من ذلك، له هوى ورغبة في ترك بعض الفرائض؛ تتثاقل عليه، ذلك تعامله مع نفسه فيما يأتي وفيها يذر، كلّما قوي توحيد الله في القلب، وعِلْم العبد بربه، بربوبيته وأنّه سبحانه هذه الأرض جميعا، والقلوب جميعا بين أصبع من أصابعه، الأرض قبضته يوم القيامة، وأنّ هذه الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأنه سبحانه هو الذي يدبر هذا الملكوت، وأنه هو الذي يعطي ويمنع، وينفع ويضر سبحانه وتعالى، ويخفض ويرفع، ويقبض ويبسط، ويخلق سبحانه، ويحيي ويميت، ويصح ويمرض، ويغني ويفقر، وأنَّه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فحينئذ يقوى في قلبه العلم بالله جل وعلا، يقوى في قلبه التوكل على الله جل وعلا، يقوى في قلبه محبة الله جل وعلا، كذلك العلم بأنّه هو المستحق للعبادة وحده، هو المستحق للطاعة سبحانه وتعالى طاعة العبادة وحده، هو المستحق لكذا، وكذا، وكذا من أنواع العبادات، فإنّه حينئذ يعظُم في قلبه محبة الله وتوحيده، وتضعف نوازع الشر في نفسه.
أما تعامله مع الخلق: فإنّ الموحّد لا يغيب عن باله إذا قوي توحيده، أنّ أنسه بالله فوق كل أنس، وأنّ رضا الله جل وعلا عنه فوق كل رضا، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، من التمس رضا الناس مهما كانوا؛ كبارا أو صغارا، رعاة أو رعية، ملوكا أو مملوكين، ومن كانوا، من التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. ومن التمس رضا الله ولم ينظر إلى الناس أن يسخطون أم يرضون رضي الله عنه وأرضى عنه الناس. وهذه مجربة فيمن سار على شرع الله بالحكمة والموعظة الحسنة في هذا الأمر.
فالتعامل مع الناس إذا تعلق القلب بالله فإنه سيعاملهم والله جل وعلا بين عينه، يرجوه ويخافه ويتّقيه ويحبه، يخشى أن يتغير قلبه عليه بظلم عبد من العباد، فلهذا يصلح علمه في نفسه ومع الخلق.(31/18)
فإذن أهل التوحيد يوفَّقون للأعمال الظاهرة والباطنة المتنوعة، وللأقوال الظاهرة والباطنة في تعامل العبد مع نفسه ومع الخلق وفي عبادة الله الواحد الأحد.
? الثامن من آثار التوحيد وفضائله وحسناته أنّ التوحيد يحرّر العبد من الرِّق للخلق والمبالغة في مراعاتهم، إلى عزّة الرّق والعبودية للواحد الأحد السميع البصير جل جلاله وتقدست أسماؤه. العباد عند الله جل وعلا سواسية، ابتلى الله العباد وجعل بعضهم لبعض فتنة كما قال سبحانه ?وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا?[الفرقان:20]، ما معنى (أَتَصْبِرُونَ)؟ جعل الله الفقير فتنة للغني، والغني فتنة للفقير.(31/19)
الفقير فتنة للغني هل يتعاظم ويعظم، وينظر أنه إذا حصل ألف أو ألفين أو مائة ألف أو مليون أو عشرات الملايين أو المئات أنّه عظُم وعظُم حتى صار عند نفسه أنه فوق الخلق، أُبتلي بالفقير ماذا يعمل معه، وهل يترفّع عليه أم لا؟ لهذا نبينا صلى الله عليه وسلم ماذا قال الله له؟ قال الله له ? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا?[الكهف:28]، حتى لما رغِب عليه الصلاة والسلام في إسلام بعض الأغنياء والأثرياء وترك الفقير؛ لأنه في تقديره عليه الصلاة والسلام أنّه إذا أسلم الغني فإنه سينفع الإسلام أكثر وأكثر وترك الفقير، عاتبه الله جل وعلا، وقال له ?عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى(2)وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى(5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى(6)وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى(7)وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى(8)وَهُوَ يَخْشَى(9)فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10)كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ?[عبس:1-11] له عليه الصلاة والسلام وللناس جميعا.
جعل الله أيضا الغني فتنة للفقير، هل يحسد الفقير الغني، أو يسأل اله جل وعلا السلامة؟ هل ينظر إليه بحنق وحقد وكذا، أم يعظم رغبته في الله؟
أيضا المريض والصحيح جعل الله بعضهم فتنة لبعض.
أيضا الملك والرعية جعل الله جل وعلا بعضهم فتنة لبعض.(31/20)
وهذا كله كما قال جل وعلا (أَتَصْبِرُونَ)، (جعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) لاحظ كلمة (فِتْنَةً) فتان (أَتَصْبِرُونَ) من يصبر ممن لا يصبر، من حقق التوحيد من أخذ بالتوحيد، من عمل بالتوحيد، نظر إلى الخلق نظرا صحيحا وتخلّص من الرّق للخلق ومن كثرة مراعاة الخلق، وعظُم في قلبه ربه جل جلاله وتقدست أسماؤه، وكان عزيزا لله الواحد الأحد، وكان مرتفعا لله والواحد الأحد، وكان عظيما لله الواحد الأحد، كما قال سبحانه ?وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:139] (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا) أوش تقدير الآية؟ بعض الناس يظن تفسير الآية وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن تكونوا مؤمنين فلستم بالأعلون، ليس هذا هو التفسير، تفسير الآية ولا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين وأنتم الأعلون لأنكم في حال إيمانكم، ما دام أنكم مؤمنون فلا تهنوا ولا تحزنوا فأنتم الأعلون. (وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ) هذه جملة من المبتدأ والخبر حاليا؛ يعني ولا تحزن ما دامك مؤمن لا تهن ولا تحزن فإنك أنت العالي .
إذن من فوائد التوحيد في القلب أنه يخلصه من الرّق للمخلوق، ومن الذل له، وإنما يعامل الموحد المخلوق بما أمر الله جل وعلا؛ لا يتكبر عليه، ولا يهينه وإنما يعامله لأنه مؤمن أو يعامله بحسب شأنه –نستمع للأذان-(31/21)
وبعد هذا فضائل التوحيد وآثاره، كما أنها متعلقة بأفراد المؤمنين، فهي أيضا متعلقة بالبلد المسلم الموحِّد والمجتمع والدولة، قال جل جلاله ?وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ?[الأعراف:56] والإفساد في الأرض بعد إصلاحها هي أن يُسلَك فيها بما يناقض التوحيد، أو بما يُنقص كمالَه بالشرك الأكبر أو بالشرك الأصغر، هذا هو الإفساد أعظم الإفساد في الأرض، وكذلك ما يحصل من التعديات على الخلق هذا إفساد في الأرض، وقال أيضا جل وعلا في بيان ذلك في سورة النور ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا?[النور:55] هنا وعد وموعود وحالة يكون عليها الوعد.
أما الموعود أولا فهم أهل الإيمان (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هؤلاء هم الموعودون.
أما ما وُعدوا به فجاء في ثلاثة أشياء:
¨ أولا (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ) يعني إنْ لم يكن لهم غلبة ومنعة واستخلاف فالله يعدهم طال الزمان أو قصر أنْ يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم.
¨ ثم قال الوعد الثاني (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) أعظم شيء يختاره المؤمن ويريده أنْ يكون يعبد الله جل وعلا بتمكين؛ لا يَسْتَخْفِ بدين الله، ولا يكون مُهانا وهو يَدِينُ بدين الله؛ بل يكون مرفوع الرأس، يكون بما وعد الله جل وعلا له.(31/22)
¨ أما الوعد الثالث بقوله (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) يعني بعد أن كانوا قلة يخافون، استخلفهم ومكّن لهم دينهم، فصاروا بعد الخوف أَمْنَى؛ آمنين على أنفسهم، على دينهم، على أنفسهم، وعلى أولادهم، وعلى أعراضهم، وعلى أموالهم، هذه كلها مِنَن، ووعد من الله جل وعلا له.
ما حالتهم؟ بين الحالة في الجملة الفعلية بقوله (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) يعني إذا استخلفهم وبدّلهم ومكّن لهم دينهم وبدّلهم بعد الخوف أمنا، ما حالتهم في هذا كلِّه وقبله؟ أنهم (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)، وهذا أعظم أثر للتوحيد على الناس في دولتهم وفي مجتمعه، أنهم إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئا وأقروا التوحيد ونبذوا الشرك فإنهم موعودون بفتح فضل الله جل وعلا لهم بهذه الثلاث، وكذلك بأنهم تُفتح لهم بركات من السماء ومن الأرض، فيوسِّع الله عليهم في الأرزاق، ويكونون في حياة طيبة مطمئنة.
وبعد هذا كله يظهر لك أنّ فضائل التوحيد وآثاره وحسناته على الناس؛ على أهل الإيمان وعلى غيرهم، وعلى الأفراد، وعلى الدولة والمجتمع كبير جدا جدا، فلهذا يعظم حينئذْ الواجب، وتشتدّ حينئذن التبعة في أن نهتم بالتوحيد في أنفسنا وفيما حولنا إن رغبنا في هذا الخير العظيم، وإلاّ فليس هو من باب الفضائل، هو من لم يأخذ بالتوحيد ويجتنب الشرك فقد قال الله جل وعلا في شأنه ?إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:76].
أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل توحيده الذين علموه واعتقدوه وشهدوا به وعملوا به ودعوا إليه وأعلنوه، إنه سبحانه ولي الصالحين، وهو ذو الفضل والإحسان.(31/23)
كما أسأله سبحانه أن يجعلنا جميعا ممن حاز هذه الفضائل، اللهم لا تحرمنا فضلك بذنوبنا ولا بتقصيرنا وبإسرافنا في أمرنا، اللهم اجعل عاقبة أمرنا إلى خير، واجعل لنا فواتح الأمر من الخير وخواتمه إنك على كل شيء قدير رحمن رحيم.
كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمورنا لما فيه رضاه، وأن يجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
نأخذ بعض الأسئلة ثم الإقامة لننصرف بعد الصلاة إن شاء الله:
1/ صاحب الفضيلة أسئلة تواردت عن التوجيه لقضاء الإجازة الصيفية سيما مع اقترابها ومع كثرة الذين حزموا حقائبهم استعدادا للسفر وللضرب في الأرض، ولعل معاليكم أنْ يوجه توجيها لهؤلاء ولشباب المسلمين جميعا، جزاكم الله خيرا.
أولا كلُّ شيء تجده في الكتاب والسنة؛ إخبارا وحكما وبيانا لأثره وآثاره. والسفر من ذلك في عدة آيات، ومنها قوله جل وعلا لما ذكر قصة سبأ ممتنا عليهم في بلادهم بقوله ?وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ?[سبإ:18] هذا الأمر (سِيرُوا) للامتنان ”أمر امتنان“ وهو أحد معاني الأمر السبعة والعشرين كما هو معروف عند الأصوليين، (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ) يعني امتن الله عليهم بأن يسيروا مسافرين آمنين ليالي وأياما، ثم عابهم بقوله ? فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ?[سبإ:19]، عاب الله عليهم أنهم لما سافروا ظلموا أنفسهم في أسفارهم.
فالسفر مباح وإذا خالطته أو صار القصد منه معصية، القصد من السفر أنشئ لمحرم صار سفرا محرما، وإذا كان أصله سفر طاعة فخالطته معصية أو ذنوب فإن هذا من جنس الذنوب التي يغشاها الإنسان.(31/24)
إذن السفر المباح كما هو معلوم وقد يكون الإنسان يختار ذلك لأنسه أو لأنس أولاده أو نحو ذلك مما أباحه الله جل وعلا، لكن الإجازة فرصة عظيمة وهذا الفراغ بأن يكسب الإنسان فيها، هي طويلة قد لا يسافر فيها كلها، حتى لو سافر يكسب فيها ما يؤنسه وما يستفيده في دينه، أما أن تكون لهوا ولعبا بدون أن يعود له منها فائدة هذه ليست من سيمات عباد الله جل وعلا الصالحين، قال جل وعلا لنبيه ?فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ(7)وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ?[الشرح:7-8]، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِن النّاسِ الصّحّةُ وَالْفَرَاغُ» (مَغْبُونٌ فِيهِمَا) يعني أنّ الناس يتمنون أن عندهم فراغ مثل ما عند هذا الذي عنده فراغ فإذا كان الأمر كذلك، فالمطلوب من الجميع أن يتقوا الله جل وعلا في أي أمر يكونون فيه إذا كانوا في حضر أو في سفر أو إذا عزموا أن يقتفوا نيتهم صالحة «إنما الأعمال بالنيات» وأن يكون قصدهم حسنا، وأن لا يعزموا على شيء فيه مضرة لأنفسهم لدينهم أو في دنياهم.
الأمر الثاني ألاّ يتركوا أنفسهم من نفعها، الفراغ فرصة تنفع نفسك وأولادك بالعلم النافع، التعويد على العبادة بإلحاقهم بدورات علمية، أو بإحسان القرآن، أو إحسان القراءة عَشَان قراءة القرآن أو بإحسان القراءة العامة أو بتحبيبهم للمطالعة للكتب، أو الصلة بأهل العلم، أو بالصالحين حتى يكون هناك تربية صالحة هذا من أعظم ما يصلح.
أما الأمر الثالث فإن كل إنسان قدوة في بيته، وقدوة لمن تحت رعيته، فلذلك ينبغي له أن يقبل على الخير، وأن يدعو من تحت يده للإقبال على الخير سواء في العلم أو في العمل. وفق الله الجميع لما فيه رضاه .
2/ أحسن الله إليكم معالي الشيخ كثرت الدعاوى في هذه الأيام إلى ما يسمى وحدة الأديان، وأن تجتمع المئذنة بجانب الكنيسة، أو ما يسمى التسامح الديني، فما تعليكم أحسن الله إليكم؟(31/25)
أولا الأديان كثيرة ?لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ?[الكافرون:6]، لكن الدين الذي أنزله الله من السماء واحد لا يتعدد ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران:19]، ?إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131)وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[البقرة:131-132] الإسلام العام هو الذي جاء من عند الله، الشرائع مختلفة، لهذا يثقل شرعا قول من يقول الديانات السماوية، فليس ثَم ديانات سماوية إنما الدين الذي من السماء واحد، والشرائع هي التي تختلف قال جل وعلا ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48] وقال نبينا صلى الله عليه وسلم فيما رواه معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «الأنبياء إخوة لعلات الدين واحد والشرائع شتى».
فإذن من هذا نخلص إلى بطلان قول من قال الديانات السماوية، ويوجد ديانات لكن لا يصح أن يقال أنها سماوية؛ لأن من السماء لم يأتِ إلا دين واحد وهو دين الإسلام فالنصرانية واليهودية من السماء شرائع، لكن الدين هو الإسلام، يجوز أن تقول دين النصرانية ودين اليهودية على اعتبار أن المقصود بالدين هنا الشريعة، كما قال جل وعلا ?مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ?[يوسف:76] يعني في شريعة الملك، لكن إذا أضيف إلى السماء فهذا لا يصح ولا يصلح، هذه المسألة الأولى.
أما المسألة الثانية فقول القائل هنا في السؤال (كثر) هذا ليس بصحيح لم يكثر؛ تكثر هذه الدعوى وإنما وجدت هذه الدعوى من جهة أو من جهتين في العالم، ولكن الإعلام هو الذي أكثر ترديدها وذِكرها، وهذا الذي يسمى التسامح الديني، التسامح كلمة مجملة، قد تحتمل صوابا، وقد تحتمل خطأ:(31/26)
أما صوابها فأن يكون هذا التسامح على وفق شرع الله جل وعلا بأنه لا يجبر أحد على دين؛ لا يكره أحد على دين، كما قال جل وعلا ?إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ?[البقرة:256]، وكما قال جل وعلا ?لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ?[الكافرون:6]، ووجود الكنيسة بجانب المسجد هذا وُجد في زمن الصحابة رضوان الله عليهم في البلاد التي فيها أهل الذمة، وكانوا يتعبدون في كنائسهم، ولكن لا يعلنونها في شارع المسلمين -كما هو معروف من الشروط العمرية- ويسمح لهم بذلك في البلاد التي كان فيها أهل الذمة، التسامح في هذا المعنى تسامح جاء به الشرع وهو صحيح، أما في جزيرة العرب فقد روى الإمام مالك في الموطأ والإمام أحمد في المسند وغيرهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «لاَ يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ دِينَانِ» يعني لا يجتمع في هذه الجزيرة دينان ظاهران، لا يظهر فيها إلا دين الإسلام، أما وجود غير المسلمين فلهم أن يتعبدوا في بيوتهم، وأن يمارسوا شعائرهم في أماكنهم دون أن يُظهروا ذلك، هذا المعنى من التسامح صحيح شرعا، وهو وفق الأحكام الشرعية.
أما الثاني التسامح وهو المعنى المرقوب والباطل، وهو أنْ يكون التسامح تسامحا مخالفا لأمر الله جل وعلا وأمر رسوله وما جاء في نصوص الكتاب والسنة، أن يكون التسامح بأن يوالي المسلم غير المسلم، وأن يودّ المسلم الكافر أو المسلم أو أن لا يتبرأ منه؛ يعني بأن لا في نفسه بغض للشرك والكفر، والآن هذه الدعوى الموجودة التي ذكرت يراد منها أن لا يكون في القلب كراهة لأي ملة من الملل؛ بل يكون من الناس فيما يتدينون به ما يشاءون، وهذا باطل، هذا أمر منوط بأحكام الشرع.
لهذا نقول كلمة التسامح هذه يمكن أن تفسر بتفسير صحيح على وفق الشرع، ويمكن أن تحمل معنى باطلا في نفسها وفي آثارها.(31/27)
لم يُعطِ أحدا الحق الديني في ديانة تخالف مثل ما أعطى الله جل وعلا ومثل ما أعطى رسوله صلى الله عليه وسلم في دين الإسلام من إكرام أهل الذمة يعني بعدم إهانتهم ومن أن لهم التعبد بعبادات أنهم لا ينصرون على دين الإسلام وأنه من أراد أن يتعبد بعبادة فلا يكره على دين الإسلام ولا يجبر على أن يسلم، بل يحث وينادى بذلك، وهذا الإكرام والإحسان من أسباب جعل الكثير من غير المسلمين يسلمون؛ بل قال الله جل وعلا ?لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?[الممتحنة:8]، الجار إذا لم يكن مسلما له حق المجورة يُهدى له ويعطى إلى آخره، فإذن الذي كفر حق المخالفين في الدين هو الله جل وعلا في هذا الدين دين الإسلام، وأما ما يدعون في المواثيق الدولية، وفي حقوق الإنسان، وفي بعض الوثائق التي يدعى إليها والقوانين من أن يكون التسامح على وفق فهمهم، فهو في الحقيقة ليس إعطاء كل ذي حق حقه، ولم يطبقوه أصلا في بلادهم، تجد أن جرس الكنيسة يُقرع والآذان يُمنع يقول الآذان يُزعج لكن جرس الكنيسة لا يزعج الناس، والأمثلة لهذا كثيرة لكن لا نحب أن نطيل بذكرها. المقصود التنبيه على ما سأل عنه السائل.
ونكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
---(31/28)
([1]) اللفظ الذي ذكره الشيخ في المسند أما لفظ مسلم: عَنِ ابْنِ شُمَاسَةَ الْمَهْرِيّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ـ وهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ ـ. فَبَكَىَ طَوِيلاً وَحَوّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ. فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ! أَمَا بَشّرَكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ أَمَا بَشّرَكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ قَالَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنّ أَفْضَلَ مَا نُعِدّهُ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّ مُحَمّدا رَسُولُ اللّهِ. إِنّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثٍ. لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدّ بُغْضا لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنّي. وَلاَ أَحَبّ إِلَيّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ. فَلَوْ مُتّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النّارِ. فَلَمّا جَعَلَ الله الإِسْلاَمَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ. قَالَ فَقَبَضْتُ يَدِي. قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قَالَ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنّ الْحَجّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ»؟ الحديث.
([2]) في مسند الإمام أحمد قال النبي صلى الله عليه وسلم «وإنّ النصر مع الصبر, وإنّ الفرج مع الكرب».
([3]) انتهى الوجه الأول من الشريط.(31/29)
شرح العقيدة الواسطية
لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية
-رحمه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه و خليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
أما بعد ، فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح وأن ينور بصائرنا بالعلم والهدى وأن يقيم أعمالنا بدين الحق الذي أرسل به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
هذا الدرس الذي أسأل الله جل وعلا أن يتممه ، ألا وهو شرح هذه العقيدة الواسطية التي ألفها شيخ الإسلام والمسلمين علم الدين وتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي الإمام المعروف المتوفى سنة 728 رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ، كتب هذه العقيدة إلى أهل واسط يبين لهم فيها اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة ومن تبعهم على هذا الاعتقاد إلى وقته رحمه الله تعالى.
وهذه الرسالة على وجازتها واختصارها قد اعتنى بها العلماء بعد شيخ الإسلام رحمه الله لأنها قد شملت من أصول عقائد أهل السنة والجماعة على الخلاصة الوافية .
فقد ذكر فيها رحمه الله كل أصول الاعتقاد .
ذكر فيها شرح أركان الإيمان الستة .
وذكر فيها ما يجب لله جل وعلا من صفات الكمال وما يوصف الله جل وعلا به والأصل في ذلك ، ومخالفة المبتدعين والضالين في باب الأسماء والصفات ، وذكر ما يتصل بذلك من الأمور الغيبية وذكر ما يتصل بذلك من الإيمان بالأمور الغيبية والإيمان بالكتب والرسل وبالقدر خيره وشره .(32/1)
وبين أن من أصول أهل السنة والجماعة الأحكام المتعلقة بالإمامة العظمى وكذلك بما يجب لولاة الأمر من حق السمع والطاعة مخالفة للخوارج وأشباههم ممن خالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك وذكر اعتقاد السلف الصالح في صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأن ذلك من الواجبات الشرعية الاعتقادية لأن فيه مخالفةً لأهل البدع من الروافض ومن شابههم الذين لا يتولون جميع أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وذكر أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذكر أحكام أو أصول الأخلاق عند أهل السنة والجماعة ، وبهذا الذي ذكره في هذه الرسالة العظيمة المختصرة يتبين أن اعتقاد أهل السنة والجماعة يشمل أصول :
الأول العقيدة العامة في الله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره .
ثم مسائل الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هذا هو الثاني ، والكلام في ما يتصل بذلك من الكلام في الصحابة رضوان الله عليهم .
ثم الثالث ، الأصل الثالث من أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة : الكلام في أخلاق أهل السنة والجماعة
وهذه هي الأمور الثلاثة التي فَصَّلَ فيها شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الرسالة العظيمة
وهذه الرسالة وجيزةٌ ألفاظها لكن هي مدرسةٌ للعلم باعتقاد أهل السنة والجماعة ومنهج أهل السنة والجماعة .
وذلك الاعتقاد تفصيله في كتب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى . فكتب شيخ الإسلام رحمه الله تعد شرحاً لهذه العقيدة الواسطية .
فأحسن شرح لهذه ما نثره شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه وفصَّله وبيَّنه من أصول هذا الاعتقاد .
و كذلك تلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى . إذ لا أحسن في فهم كلام شيخ الإسلام من شرحه هو نفسه في مصنفاته الأخرى . وكذلك في فهم تلميذه ابن القيم رحمه الله جل وعلا .(32/2)
هذه الرسالة لها شروح كثيرةٌ كما هو معلوم ، هذه العقيدة المباركة لها شروحٌ كثيرة ، ومن أعظمها نفعاً وأدقها لفظاً:
الشرح المسمى بـ (التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية) للشيخ العلامة عبدالعزيز ابن رشيد رحمه الله تعالى . فإن هذا الشرح من أنفس شروح هذه العقيدة الواسطية . فقد بين من مسائل هذه العقيدة ومن ألفاظها ما يكفي طالب العلم في هذا الباب أعني باب الاعتقاد . لأنه ذكر فيها من العلم الواسع الغزير ما لو اكتفى به طالب علم في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة لكفاه . ولهذا أحض - من أراد شرحاً لهذه العقيدة - على هذا الكتاب . ألا وهو (التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية) للشيخ ابن رشيد رحمه الله تعالى .
من المقدمات المهمة قبل الشروع في شرحٍ لهذه العقيدة أن نبين أن هذه العقيدة المباركة وكذلك سائر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية بيَّن فيها عقيدة السلف وفصَّل فيها ما ذكره السلف في كتبهم من الاعتقاد.
وكتب شيخ الإسلام تتميز على كتب السلف يعني من كتب أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم ومن تلاهم زمناً تتميز هذه العقيدة وسائر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية عن تلكم الكتب الكثيرة في الاعتقاد بمزايا منها :
" أن شيخ الإسلام رحمه الله قد فهم ما قاله الأئمة من قبل ، فصاغه بصياغةٍ تجمع أقوالهم بأدلتها وببيان معانيها فهو خير من فهم كلام الأئمة من قبل .
" ومن مزاياه ، أعني مزايا كلام شيخ الإسلام في الاعتقاد : أنه - رحمه الله تعالى - قد بلغ في فهم نصوص الكتاب والسنة المبلغ والدرجة التي شهد له بها أهل عصره ومن تلاهم . ومن المعلوم أن أدلة الاعتقاد هي نصوص الكتاب والسنة . ثم هو مع هذا اطلع على كلام الصحابة وكلام التابعين ومن تبعهم في تفسير معاني نصوص الكتاب والسنة . ولهذا كلام شيخ الإسلام في بيان معاني الكتاب والسنة يُعد أحسن كلامٍ للعلماء المتأخرين يعني بعد الأئمة المشهورين .(32/3)
" ومن مزايا كلام شيخ الإسلام وهذه العقيدة أيضاً أن شيخ الإسلام استحضر حين كتابتها أقوال أهل البدع والمخالفين وحججهم فهو يذكر ما يذكر من الاحتجاجات مستحضراً تلك الأقوال وتلك الاعتراضات من أهل البدع أو تلكم الأقوال المنحرفة من أهل البدع على اختلاف أنواعهم ، ومعلومٌ أن حال الكاتب أو المؤلف الذي يؤلف وهو على هذه الدرجة العظيمة من الاستحضار أن كلامه يكون مُنبئاً عن ما يكون فصلاً في هذه المسائل .
" ومن مميزات هذه العقيدة وكذلك سائر كتب شيخ الإسلام رحمه الله : أن شيخ الإسلام أوضح فيها كثيراً من المجملات التي ربما كانت في كلام السلف . فقد تجد في كلام المتقدمين من أهل القرون المفضلة كلاماً في الاعتقاد ربما أُجْمِلَ في مواضع وَفُصِّلَ في مواضع وشيخ الإسلام يستحضر هذا وذاك ويذكر الكلام المجمل والمفصَّل كُلٌّ في مكانه ويوضح ذلك . بحيث إن من فهم كلام شيخ الإسلام وفهم كتب شيخ الإسلام رحمه الله ثم بعد فهمه لذلك وبراعته فيه رجع إلى كتب السلف فإنه يفهمها فهماً مصيباًَ على ما ينبغي . وأما من ترك التفقه في كتب شيخ الإسلام رحمه الله فربما زلَّ في فهمه لبعض كلام السلف وكلام الأئمة . لأن بعضهم ربما وقع في كلامه إجمال أو وقع في كلامه رعاية لحال السائل أو نحو ذلك من الأسباب التي لا يمكن المُجيب معها أن يفصِّل التفصيل المطلوب.
لهذا نقول إن العناية بهذه العقيدة مما حث عليه العلماء قديماً وحديثاً . فلا غرو أن أوصي إخواني وفقهم الله تعالى للخير بهذه العقيدة وبفهم ألفاظها ومعاني الألفاظ ومعاني ما فيها من الأدلة والاستدلال والحجج ، لأن فيها خيراً عظيماً.
عقيدة الفرقة الناجية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمْدُ للهِ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا.(32/4)
وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا مَزِيدًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابتدأ رحمه الله هذا الكتاب وهذه الرسالة بالثناء على الله ، بأنه هو المستحق لجميع أنواع المحامد لأن كلمة الحمد كما سبق أن أوضحت في غير هذا الدرس هي مكونةٌ من الألف واللام التي تدل على استغراق الجنس أو الأجناس .
ويكون معنى الحمدُ معناه جميع أجناس المحامد هي لله جل وعلا استحقاقاً .
فقوله (الحمْدُ للهِ) أفادنا أن كل أنواع المحامد لله جل وعلا .
وقد ذكرت لك فيما مضى أن أنواع المحامد لله جل وعلا كثيرة تجتمع في خمسةٍ وهي:
حمده جل وعلا على تفرده بالربوبية دون مشاركٍ له فيها وآثار الربوبية في خلقه أجمعين .
حمده جل وعلا على كونه ذا الألوهية على خلقه أجمعين وأنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه .
حمده جل وعلا على ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا .
حمده جل وعلا على شرعه وأمره ودينه .
حمده جل وعلا على قضائه وقدره وما أجرى في كونه .
هذه هي أنواع المحامد ، أو جِماع أنواع المحامد ، وقد مرت بك مفصلةً في أول شرح زاد المستقنع في الأسبوع الماضي .
وقوله هنا لله اللام هنا للاستحقاق ، فإذا كان ما قبل اللام من المعاني لا من الأعيان فإنها تفيد الاستحقاق ، وقد يكون مع الاستحقاق المِلْكْ .
والله جل وعلا له جميع أنواع المحامد استحقاقاً يستحقها ، وهو جل وعلا مالكٌ لها ، فله جميع المحامد مِلكاً واستحقاقاًَ ، مُلكاًَ له و استحقاقاً له جل وعلا ، وقوله هنا:(32/5)
الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
هذا اقتباس من آية في آخر سورة الفتح وهي قوله تعالى ?هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً?
و(الهُدَى) هو العلم النافع مما جاء في الكتاب والسنة .
فالله جل وعلا أرسل رسوله بالهدى وهو العلم النافع سواءٌ في ذلك ما كان من باب الأخبار وهي أبواب الاعتقاد ، أو من باب الأمر والنهي ، وهذا كله العلم النافع الذي يورث الهدى ، وهو هدىً في نفسه يعني مرشداً ودالاًّ على الطريق التي هي أقوم ، وكذلك يورث الهدى الكامل في الدنيا وفي الآخرة .
وأما (دِينِ الْحَقِّ) فقد فسرها السلف بأنها العمل الصالح ، الأعمال النافعة .
الأعمال الصالحة للمؤمن في نفسه وللناس في أنفسهم ، وكما يقال : للمجتمعات وللأمم بأجمعها .
فالله جل وعلا أرسل رسوله بالهدى بالعلم النافع وبدين الحق الذي هو العمل الصالح .
وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا
كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا على ما ذكر ، فالله جل وعلا شهد بأن ما بعث به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو الهدى وهو دين الحق .
وشهادة الله جل وعلا فوق كل شهادة ، إذ لا أعلم من الله ، ولا شاهد يُكتفى به إلا الله جل وعلا في هذه المسائل العظيمة أو ما أوحى به إلى رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فمن أتته شهادة الله جل وعلا كفى بها شهادة .
إذا كذلك فمن المتقرر أن نصوص الكتاب والسنة التي وُصِفت في هذه الآية بأنها الهدى قد اشتملت على أنواع الأخبار التي هي في الأمور الغيبية عن الله جل وعلا وعن أسمائه وصفاته وعن ما يكون في يوم المعاد من الأمور الغيبية .
وإذا كانت هذه النصوص في هذه الأمور الخبرية وكذلك ما أخبر به النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في هذه الأمور قد وصفها الذي يُكتفى بشهادته بأنها هدى .(32/6)
فيُعلم منه أن من لم يرضَ بكون هذه النصوص وما دلت عليه الهدى الكامل والشفاء الكامل فإنه يتضمن ذلك بأنه لم يكتفِ بشهادة الله جل وعلا .
وهذا هو ما صنعه الذين سلكوا مسلك البدع من أنواع الفرق كالخوارج والمرجئة والقدرية والمعتزلة والجهمية والأشاعرة والماتريدية فإن كل فرقةٍ من هذه الفرق لم ترتضِ نصوص الكتاب والسنة ولم تجعلها كافية بل أعملت في ذلك إما بعقولها أو بأقيسةٍ ضالة .
فمن أخذ بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة ، وهي القاعدة العظيمة في الاعتقاد ، لأننا لا نتجاوز في الاعتقاد القرآن والحديث كما قال الإمام أحمد بهذا الأصل ، قال (نُمِرُّها كما جاءت) - أي بنصوص الصفات - لا نتجاوز القرآن والحديث .
يعني لا نتأول كما تأول المتأولة ولا نعطل كما عطل المعطلة ولا نُشبِه أو نمثل كما مَثَّلَ المجسمة أو مَثَّلَ الممثلة ، وإنما لا نتجاوز القرآن والحديث ، وذلك لأن أهل السنة قد اكتفوا بشهادة الله جل وعلا في هذه الآية بأن ما أرسل به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو الهدى وهو دين الحق ، فقبلوه ولم يتجاوزوا القرآن والحديث ، قال بعد ذلك :
وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا.
وهذه تحتاج إلى شيءٍ من التفصيل ، وذلك أن قوله هنا وأشهد هذه الشهادة معناها الاعتراف والإقرار الذي يتبعه إعلامٌ وإخبار.
لأن الشهادة تشمل : اعتقاد القلب وإخبار اللسان .
فمن اعتقد بقلبه دون أن يتكلم بلسانه لم يُعد شاهداً .
ومن تكلم بلسانه - كحال المنافقين - ولم يعتقد بقلبه لم يكن شاهداًَ بما دلت عليه كلمة التوحيد.
إذن الشهادة في قوله وأشهد يعني اعتقد وأعترف وأقر لله بأنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه وأخبر وأعلن بذلك بأن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة دون ما سواه .(32/7)
وهذا هو الذي فسر به قوله تعالى ?شَهِد َ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?
(شهد الله) يعني أعلم وأخبر .
(والملائكة) شهدوا بذلك ، أعلموا وأخبروا بذلك واعتقدوا ذلك .
(وأولوا العلم) من خلقه شهدوا ذلك بمرتبتين :
- مرتبة الاعتقاد - ومرتبة القول .
قال (وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ) و أن ها هنا هي التفسيرية وضابطها أنها هي التي تأتي بعد كلمةٍ فيها معنى القول دون حروف القول كأشهد و نادى و أوحى و قضى و أمر و وصى ونحو ذلك .
فأن إذا أتت بعد هذه الألفاظ أو نحوها مما فيه معنى القول دون حروف القول هي التفسيرية ، لأن ما بعدها يفسر ما قبلها كالتي جاءت في قول الله جل وعلا ?وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً? الآية.
لا إله إلا الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وهذه الكلمة هي كلمة التوحيد ولها ركنان :
- النفي - والإثبات
النفي المستفاد من قوله لا إله ، والإثبات المستفاد من قوله إلا الله.
النفي نفي استحقاق العبادة عن كل أحد ، وإثبات استحقاق العبادة لله جل وعلا .
فركنا هذه الكلمة النفي والإثبات .
فمن نفى ولم يثبت لم يكن قد أتى بهذه الشهادة بهذه الكلمة على صحتها إذ أتى بركنٍ ولم يأتي بالثاني .
وكذلك من أثبت ولم ينف ، فإنه لم يأتي بما دلت عليه هذه الشهادة .
فلا بد أن يجتمع في حق الشاهد أنه ينفي استحقاق العبادة عن أحدٍ ، ويثبت استحقاق العبادة لله جل وعلا وحده دون ما سواه .
والمشركون كانوا يثبتون ولا ينفون .(32/8)
يقولون إن الله جل جلاله مستحقٌ للعبادة ، فهو مستحقٌ لأن يُعبد ، لكنهم لا ينفون ، ولهذا لما قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما قال لأبي طالب قل كلمة أحاج لك بها عند الله فأبى أن يقول ، فقال للمشركين ذلك ، فقالوا نقول عشر كلمات ، فلما قال لهم قولوا لا إله إلا الله أبوا ذلك لأنهم يعلمون أنه لا يصلح الإقرار بهذه الكلمة إلا بالجمع بين بالنفي والإثبات وهم إنما يثبتون لله جل وعلا أنه معبود وأنه يُعبد لكن ينفون كونه جل وعلا أحداً في استحقاقه العبادة
قال سبحانه ?إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ { 35 } وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ? وقال جل وعلا في سورة ص مخبراً عن قولهم ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً?
وهذا هو الذي صنعه المشركون فيما بعدهم من مشركي هذه الأمة فإنهم أتوا بركنٍ من ركني كلمة التوحيد ألا وهو الإثبات .
قالوا إن الله جل جلاله مستحقٌ للعبادة لكن قالوا يمكن أن يكون معه من يستحق شيئاً من أنواع العبادة لكن لا على وجه الأصالة ولكن على وجه الواسطة.
وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها ، وهي أنَ كلمة التوحيد لها ركنان :
- ركن النفي - وركن الإثبات
أما معناها فإن معنى الإله في قوله لا إله هو المعبود عن محبةٍ وتعظيم .
لأن مادة أَلَهَ في اللغة التي جاء ت والتي جاء بها القرآن معناها العبادة .
ألَهَ بمعنى عَبَدَ مع المحبة والتعظيم و الأُلُوهة العبادة مع المحبة والتعظيم .
فـ الإله هو المعبود مع المحبة والتعظيم .
ويدل له من قول العرب قول الشاعر في رجزه المشهور :
سبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ من تَأَلُّهِ لله دَرُّ الغانيات المُدَّهي
يعني من عبادة وعليه قراءة ابن عباس في آية الأعراف في قوله تعالى (ويذرك وإلهتك) يعني وعبادتك .
فإذن معنى الإلهة و الألوهة في كلام العرب العبادة مع المحبة والتعظيم .(32/9)
وهذا ينبئ ويثبت أن قول الأشاعرة والماتريدية والمتكلمين في معنى الإله أنه قولٌ باطل حيث انهم قالوا إن معنى الإله هو القادر على الاختراع .
الإله عند المتكلمين ومن حذا حذوهم ونحا نحوهم من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم يقولون الإله هو القادر على الاختراع .
وهذا هو معنى الرب وأما الإله فليس فيه معنى الخلق ولا القدرة على الخلق ولا القدرة على الاختراع وإنما فيه معنى العبادة .
ويقول آخرون من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم إن الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه ما عداه
كما قالها السنوسي في عقيدته المشهورة التي يسميها أصحابها أم البراهين يقول فيها ما نصه :
يقول (فالإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه ، فمعنى لا إله إلا الله -هذا من تتمة كلامه- لا مستغنياً عما سواه ولا مفتقراً إليه كل ما عداه إلا الله) .
ففسر الألوهية بالربوبية ، وهذا من مناهج المتكلمين ومن عقيدة أهل الكلام إذ أنهم يفسرون الإله بالرب.
يفسرون الألوهية بالربوبية ، وعلى هذا - عندهم - من اتخذ مع الله جل وعلا إلهاً آخر يعبده يرجوه يخافه يدعوه يستغيث به ينذر له يذبح له فإنه لا يكفر بذلك عندهم لأنه لم يخالف ما دلت عليه كلمة التوحيد إذا كان معتقداً - عندهم - بأن الله جل وعلا هو المتفرد وحده بالقدرة على الاختراع وبالاستغناء عما سواه وبافتقار كل شيء إليه جل وعلا .
فإذن معنى لا إله ليس معناها الربوبية ، وإنما معناها لا معبود ، وخبر لا النافية للجنس محذوف .
والعرب تحذف خبر لا النافية للجنس إذا كان المراد مع حذفه ظاهراً واضحاً لا إشكال فيه .
وهذا على ما قال ابن مالك - رحمه الله - في الألفية يقول :
وشاع في ذا الباب (يعني باب لا النافية للجنس) :
إذا المراد مع سقوطه ظهر وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر
وهنا في قوله لا إله إلا الله ، ما خبر لا ؟
لم يُذكر لأنه معروف .(32/10)
لأن المعركة بين الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ومن بُعِثَ إليهم كانت معروفة أنها لم تكن في نفي آلهة موجودة ، وإنما كانت في نفي استحقاق شيء من هذه الآلهة للعبادة .
ولهذا قَدَّرَ أهل العلم الخبر المحذوف بأنه كلمة حق .
لا إله حقٌ إلا الله ، أو لا معبود بحقٍّ إلا الله .
ومعنى ذلك أن كل معبودٍ سوى الله جل وعلا فإنه معبودٌ بغير الحقِّ ، معبود بالباطل بالبغي بالظلم بالعدوان ليس بحق ، وإنما المعبود بحق هو الله جل وعلا .
ثم قال إلا الله و إلا هذه إما أن تكون أداة حصر ، وإما أن تكون أداة استثناء ملغاة .
ولفظ الجلالة بعدها بدل من لا مع اسمها لأنه في محل رفع بالابتداء .
تحقيق لا إله إلا الله بألا يعبد إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله وشهد بها يحققها إذا لم يعبد إلا الله جل وعلا .
لم يتوجه بشيءٍ من أنواع العبادة إلا إلى الله جل وعلا .
لهذا نقول تحقيق الشهادتين يكون بتحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله :
- وتحقيق الأولى بألا تعبد إلا الله جل وعلا .
- وتحقيق الثانية بألا يُعبَد الله إلا بما شرعه رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
قال هنا (وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ) وهذا من التأكيد بعد التأكيد .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري على قوله وحده لا شريك له ، قال تأكيدٌ بعد تأكيد لبيان مقام التوحيد ، وأن الله جل وعلا في استحقاقه العبادة وحده لا شريك له في ذلك .
قال فهنا لا شريك له وأنواع ادعاء الشريك كثيرة ومجملها :
- أن اِدُّعِيَ له الشريك له في ربوبيته ، وأن ثَمَّ ظهير معه يُصَرِّفُ معه الأمر .
- واِدُّعِيَ أن معه شريك في استحقاق العبادة .
- واِدُّعِيَ أن معه شريك في أسمائه وصفاته على وجه الكمال .
- واِدُّعِيَ أن معه شريك في الأمر والنهي في التشريع .
- واِدُّعِيَ أن معه شريك في الحكمة التي قضاها في كونه كما يقول الفلاسفة ونحوهم .(32/11)
إذن أنواع الاشتراك التي اِدُّعِيَ أن ثَمَّ من يشارك الله جل وعلا فيها وهذه الخمسة هي جِماعُها .
لا شريك له
قال بعدها (إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا) الإقرار هو الإذعان والتسليم والاعتقاد بذلك .
إقراراً به يعني بأنه وحده لا شريك له .
وتوحيدا التوحيد مصدر وحد يوحد .
وقد جاء استعمالها في السنة فقد جاء في بعض طرق حديث ابن عباس أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال (إنك تأتي قوماً أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله) رواه البخاري في صحيحه وغيره .
فكلمة التوحيد لا إله إ لا الله محمد رسول الله ، قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (إلى أن يوحدوا الله)
فمن دعا إلى توحيد الله فمعنى ذلك أنه يدعو إلى تحقيق الشهادتين .
وكذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما أَهَلَّ بالحج قال الراوي أَهَلَّ رسول الله -صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ - بالتوحيد ، كان أهل الشرك يهلون بكذا وكذا وأهل رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالتوحيد .
إذن كلمة التوحيد موجودة في السنة ومستعملة ، ودين الإسلام هو دين التوحيد .
والتوحيد أربعة أنواع :
توحيد الله ثلاثة أنواع ، وهي :
" توحيد الربوبية .
" وتوحيد الألوهية .
" وتوحيد الأسماء والصفات .
قسمها العلماء إلى هذه القسمة الثلاثية ، دليلها فيها استقراء الكتاب والسنة ، ويكثر ذلك في كلام ابن جرير الطبري رحمه الله في التفسير وكلام ابن عبد البر رحمه الله في كتبه
ثم شاعت في كلام العلماء وأشهرها كثيراً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
فتوحيد الله ثلاثة أقسام :(32/12)
" توحيد الربوبية وهو توحيد الله جل وعلا بأفعاله ، يعني اعتقاد أن الله جل وعلا واحدٌ في أفعاله ، واحدٌ في خلقه لا شريك له ، واحدٌ في جميع معاني الربوبية . فهو جل وعلا المتفرد بالخلق وبالرزق وبالإحياء والإماتة وبتدبير الأمر وبتصريف هذا الملكوت وبأنه الذي يجير ولا يُجار عليه وأنه الذي ينزل الغيث وأنه الذي يحيي ويميت ويقبض ويبسط ونحو ذلك من معاني الربوبية .
" والثاني توحيد الألوهية وهو توحيد الله بأفعال العباد ، فتوحيد الربوبية توحيد الله بأفعاله هو وهذا يقر به أهل الشرك فإنهم يوحدون الله في أفعاله كما قال تعالى ?وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ? وقال تعالى ?قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ? ونحو ذلك فهم مقرون بتوحيد الله بأفعاله ، يعني غالب العرب أو بأكثر أفعال الله وأما توحيد الألوهية فهو توحيد العبادة توحيد الله بأفعال العباد فإذن توحيد الألوهية راجعٌ إلى فعل العبد وتوحيد الربوبية راجعٌ إلى فعل الله جل وعلا.
" والثالث توحيد الأسماء والصفات ، ومعناه اعتقاد أن الله جل وعلا هو المتوحدٌ في استحقاقه لما بلغ في الحسن نهايته من الأسماء ولما بلغ غاية الكمال من النعوت أو الصفات فالله جل وعلا لا يماثله أحد في أسمائه وصفاته ، كما قال ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? .
هذه ثلاثة أنواع هي أنواع توحيد الله جل وعلا .
النوع الرابع توحيدٌ دلت عليه شهادة أن محمداً رسول الله - وهو ألا يعبد الله إلا بما شرع ويسمى عند طائفة من أهل العلم توحيد المتابعة .(32/13)
يعني أن يكون المرء متابعاً للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وحده فلا أحد يستحق المتابعة على وجه الكمال إلا النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما قال ابن القيم في نونيته:
أعني سبيل الحق والإيمان فلواحدٍ كن واحداً في واحدٍ
وهذا التعبير - توحيد المتابعة - استعمله ابن القيم واستعمله شارح الطحاوية واستعمله جماعة من أهل العلم .
بعض أهل العلم يقسم التوحيد إلى قسمين :
يقول التوحيد قسمان :
- توحيدًٌ قولي اعتقادي - وتوحيد فعلي إرادي
وقوله توحيد قولي اعتقادي ، هذا يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات .
لأن توحيد الربوبية قولي واعتقادي ، وتوحيد الأسماء والصفات قولي واعتقادي .
وقولهم القسم الثاني توحيد فعلي إرادي ، هذا يعنون به ما يتعلق بفعل المكلف .
وهو على قسمين ، أعني فعل المكلف .
- أفعال القلوب - وأفعال الجوارح
وهذه يجب توحيد الله جل وعلا فيها أفعال القلوب وأفعال الجوارح .
أفعال القلوب مثل الخوف والرجاء والمحبة والرغبة والرهبة ونحو ذلك .
وأفعال الجوارح مثل الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر ونحو ذلك .
قال بعدها هنا (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا مَزِيدًا)
(وَأَشْهَدُ) ، يعني أعتقد وأخبر وأعلن .
(أَنَّ مُحَمَّدًا) محمد بن عبد الله القرشي ، أنه عبد الله ، ليس إلهاً وليس ملكاً ، وإنما هو عبدٌ من عبيد الله ، شرفه الله جل وعلا بالرسالة ، عبد الله ورسوله ، فلا يدعى فيه أكثر من أنه رسول من الله جل وعلا ، وكفى بها مرتبة وكفى بها منزلة .
وهذه الشهادة تقتضي - يعني اعتقاد أنه رسول الله - تجب طاعته فيما أمر وأن يُصدق فيما أخبر وأن يُجتنب ما نهى عنه وزجر وألا يُعبد الله إلا بما شرع
والمشهور أن هذا معنى الشهادة بأن محمداً رسول الله ، وهذا من مقتضياتها ومعناها التي تقتضيه .(32/14)
أما معناها الأول فهو اعتقاد وإعلام وإخبار بأن محمداً عبدٌ من عبيد الله ورسولٌ من المرسلين الذين أرسلهم الله جل وعلا .
هنا في قوله رسوله تنبيه ، وأن لفظ الرسول يختلف عن لفظ النبي ،وأيضاً معنى الرسول يختلف عن معنى النبي .
فالرسول من الإرسال وهو البعث .
وأما النبي فهو من النبوة وهي رفعة المنزلة .
هذا من حيث اللغة ، في بعض القراءات السبعية المتواترة (النبيء) و (النبوءة) يعني (النبيء) (يا أيها النبيء) ويكون منها (النبوءة) وهي من الإنباء وهو الإعلام بالوحي .
وأما بالمعنى أي في الاصطلاح فهناك فرق بينهما والفرق أن :
- النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه أو أمر بتبليغه إلى قومٍ موافقين .
- وأما الرسول فهو من أوحي إليه بكتاب أو بشرع وأمر بتبليغه إلى قومٍ مخالفين .
وعلى هذا يصح الكلية التي يعبر بها العلماء أن كل نبي رسول وليس كل رسولٍ نبياَّ .
قال هنا (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ) ، هذا سؤال أن يثني الله على نبيه محمد .
إذ الصلاة من الله جل وعلا الثناء كما أوضحت لكم ذلك مفصلاً في أول شرح زاد المستقنع .
قال وعلى آله وسلم تسليماً مزيدا وذلك امتثالاً لقول الله جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً?
وبينت هناك أحكام الصلاة على النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لمناسبتها لدرس الفقه .
ثم قال أَمَّا بَعْدُ: فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ
(أَمَّا بَعْدُ) هذه كلمة يؤتى بها للانتقال ، وقد استعملها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، واستعملها الصحابة وقد قيل إنها فصل الخطاب الذي أوتيه داوود في قوله جل وعلا ?وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ? ، لكن هذا ليس بصحيح .
قال هنا (فَهَذَا) إشارة إلى ما سيأتي في هذه العقيدة .
يعني (هذا اعتقاد) يعني هذا الذي ستراه في هذه الورقات اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة .(32/15)
والاعتقاد ما يُعقد عليه القلب أو ما يَعقد القلب عليه من الأمور التي تعتقد .
وأصلها من العلم الجازم لأن الاعتقاد فيه جزمٌ عنه العلم ، فإذا علمت شيئاً وجزمت به صرت معتقداً له .
وخص هذا الاسم الاعتقاد بشرح أركان الإيمان الستة :
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله الإيمان باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى .
وما أضيف إلى ذلك من المسائل التي تميز بها أهل الاعتقاد الحق - في أسماء الله وصفاته وفي أركان الإيمان الستة - ما تميز بها أهل السنة والجماعة عن ما سواهم من المبتدعة والزائغين من أهل الفرق المختلفة من مثل الكلام - كما ذكرت لكم - في مسائل الإمامة والصحابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخلاق ونحو ذلك .
قال (فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ) الفرقة هي الطائفة من الناس أو الطائفة من أي شيء ، يقال فرقة من الطير ، كما جاء في الحديث الصحيح ، أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة تظللان صاحبهما كأنهما غيياتان أو قال غيابتان أو غمامتان أو فِرْقانِ من طيرٍ صواف ، يعني طائفتان من طير صواف .
وهذا كما قال جل وعلا ?فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ? وقال ?فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ? .
فإذن الفرقة الطائفة ?كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ? (الطود) الجبل
?فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ? يعني انفلق البحر فكان هذا كالجبل العظيم وهذا كالجبل العظيم وما بينهما يابس آية لموسى عليه السلام .(32/16)
الفرقة الناجية سميت فرقة لأجل أنها طائفة لأنها مقابَلة بالفرق الأخرى ولم يَرِدَ - فيما أعلم - هذا النص (الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ) في الحديث لكن العلماء أخذوه مما جاء في حديث معاوية وغيره في حديث الافتراء المشهور أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (ألا وإن اليهود افترقت على إحدى وسبعين ، وإن النصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) هذا لفظ أبي داوود في سننه .
فيفهم من هذا الحديث أن هذه الفرقة التي هي الجماعة هي الفرقة الناجية وغيرها من الفرق فرقٌ هالكة .
ولهذا قال أهل العلم في وصف من اعتقد الاعتقاد الحق وكان مع الجماعة أنه من الفرقة الناجية .
ووصفها بأنها ناجية يعني أنها ناجية من النار وهي ناجيةٌ في الدنيا من عقاب الله جل وعلا ومن أنواع عقوباته وسخطه وناجية في الآخرة من النار لقوله عليه الصلاة والسلام (كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)
فكل الفرق متوعدة بالهلاك وأما هذه الفرقة فهي الناجية فإذن الناجية الأكثر أنه من صفات الآخرة.
يعني ناجية في الآخرة .
وأما صفتها في الدنيا فهي أنها منصورة كما قال شيخ الإسلام هاهنا ناعتاً هذه الفرقة بنعتين :
- أنها ناجية - ومنصورة .
قال (أَمَّا بَعْدُ ، اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ)
فأهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية وهم الطائفة المنصورة .
والفرقة الناجية والطائفة المنصورة بمعنىً واحد ولكن وصفها بأنها ناجية باعتبار الآخرة وفي ذلك أيضاً نجاةٌ في الدنيا ووصفها بأنها منصورة باعتبار الدنيا ، وهذا لأجل ما جاء في الأحاديث الكثيرة.
النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) فهي طائفة منصورة .(32/17)
هم ظاهرون ومنصورون ، ينصرهم الله جل وعلا على من عداهم إما بالحجة وإما بالسنان إما باللسان نصر بيان ولسان وإما نصر سنان إذا كان ثَمَّ جهاد قائم .
وإما نصر حجة وبيان وهذا لا يخلو منه أهل السنة والجماعة .
وقد قال الإمام أحمد وغيره - في تحديد من هي الفرقة الناجية المنصورة ، قال الإمام أحمد إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم .
وذلك لأن أهل الحديث زمن الإمام أحمد كانوا هم القائمين بنصرة الدين والمنافحة عن الاعتقاد الصحيح والرد على المخالفين من أهل البدع الذين أدخلوا في الإسلام ما ليس منه ، الذين راموا تحريف الكلم عن مواضعه
وقال البخاري رحمه الله هم أهل العلم .
وإليه مال الترمذي في جامعه وغيره .
فالفرقة الناجية المنصورة هم أهل الحديث كما عليه أقوال أكثر أهل العلم ، وهم أهل العلم ، وهم الذين اعتقدوا الاعتقاد الحق .
فمن اعتقد الاعتقاد الحق فهو ناجٍ بوعد الله جل وعلا له ووعد الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ له في الآخرة وهو منصورٌ في الدنيا ومنصورٌ في الآخرة كما قال تعالى ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ? فهم منصورون في الدنيا ومنصورون في الآخرة .
إذن هذا النعت الذي عبر به شيخ الإسلام رحمه الله ينبئ عما كان كالإجماع عند أهل السنة والجماعة وعند أهل الحديث وعند أئمة الإسلام أن الفرقة الناجية والطائفة المنصورة كلها تدل على طائفةٍ واحدة وعلى فرقةٍ واحدة وهم الذين اعتقدوا الاعتقاد الحق وساروا على نهج السلف الصالح رضوان الله عليهم .
وقد عُقِدَ لشيخ الإسلام مجلس محاكمة على هذه العقيدة لما ألفها ، وقيل له إنك تقول في هذا الاعتقاد فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة فهل معنى ذلك أنك تقول إن من لم يعتقد هذا الاعتقاد فليس بناجٍ من النار ؟(32/18)
فقال - رحمه الله - مجيباً في المجلس الذي حوكم فيه من قِبَلِ القضاة ومشايخ زمنه وولاة الأمر في زمنه قال لم أقل هذا ولم يقتضه كلامي أو قال لا يقتضيه كلامي فإنما قلت هذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة ، فمن اعتقد هذا الاعتقاد كان موعوداً بالنجاة ، ومن لم يعتقد هذا الاعتقاد لم يكن موعوداً بالنجاة وكان متوعداً بالعذاب ، وقد ينجو بأسباب منها صدق المقام في الإسلام وكثرة الحسنات الماحية بالجهاد في نصرة الإسلام وذلك عند من عنده نوع مخالفة لهذا الاعتقاد كما هو عند طائفة من أهل العلم فإنهم قد يكون عندهم كما قال شيخ الإسلام من الحسنات الماحية ومن صدق المقام في نصرة الإسلام ما يكفر الله جل وعلا به عنهم المعصية والكبيرة التي عملوها وهي بسوء الاعتقاد الذي اعتقدوه ولم يعتقدوا ما كان عليه أهل السنة والجماعة .
قال هنا (الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ)
والمراد بها قيام ساعتهم يعني ساعة المؤمنين ، يعني ساعة الطائفة المنصورة .
وقيام ساعة المؤمنين وساعة الطائفة المنصورة يكون قبل طلوع الشمس من مغربها بزمنٍ قليل عند كثير من أهل العلم وذلك كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه في الحديث (أنه يبعث الله جل وعلا قبل قيام الساعة ريحاً تقبض أرواح المؤمنين قلا يبقى مؤمن إلا قبضت روحه) .
ونكتفي بهذا القدر ....
وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ ?ِلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].(32/19)
فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ؛ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ.
ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى؛ فَإنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلاً، وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وصفوته من بريته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين ، أما بعد :
فقد مرت معنا مقدمة هذه الرسالة الوجيزة في ألفاظها الكبيرة في معانيها .
وقد ذكر رحمه الله تعالى أن هذا الاعتقاد الذي في هذه الرسالة هو اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة .
فهذا الاعتقاد كما ذكر هو اعتقاد الفرقة الناجية ، يعني التي ستنجو من النار بوعد الله جل وعلا لها بذلك يوم القيامة .
وهي ناجية في الدنيا من الانحراف ومن الفرقة والاختلاف ، وهم الطائفة المنصورة التي نصرها الله جل وعلا في الدنيا باللسان أو بالسنان أو بهما معاً ، وهي الطائفة المنصورة يوم القيامة على جميع المخالفين لها كما قال سبحانه ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?
وبين أن هؤلاء هم أهل السنة والجماعة كما قال فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة .(32/20)
فإذن هذا الاعتقاد الذي سيأتي في هذه الرسالة مفصلاً هو اعتقاد الفرقة الناجية وهو اعتقاد الطائفة المنصورة وقد مرَ بك معنا كونها فرقةً ناجية ومعنى كونها طائفةً منصورة أما هذا اللفظ وهذا الوصف الثالث الذي تميز به هؤلاء وهو أنهم :
أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ
و معنى (أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) أنهم أصحاب السنة الذين لزموها باعتقادهم ولزموها في أقوالهم وأعمالهم - يعني في الجملة - وتركوا غير ما دلت عليه السنة .
والسنة هي الطريقة التي كان عليها رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأصحابه المنتخبون الخيرة ومن سار على نهجهم.
والسنة عند أهل الأصول هي ما أضيف إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو وصف .
فهذا يطلق عليه السنة والمراد هنا ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من الأقوال والأعمال والتقريرات .
فهذا ينسب إليه بهذا الاعتبار أهل السنة فيقال هم أهل السنة يعني هم أهل إتباع أقوال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأهل إتباع أفعاله عليه الصلاة والسلام وأهل إتباع تقريراته .
و أهل السنة - هذا اللفظ - يطلق باعتبارين :
1 - فتارة يطلق ويراد به من خالف الرافضة وفرق الرافضة ، من خالف الشيعة والرافضة وما تفرع من ذلك هذا إطلاق ، ويدخل في هذا الإطلاق - يدخل فيه أهل الأثر ، أهل الحديث - ويدخل فيه الأشاعرة ويدخل فيه الماتريدية ويدخل فيه كل من خالف الرافضة .
فيدخل في أهل السنة الذين عندهم نوع احتجاج بالحديث .
فيخرج الرافضة والشيعة والخوارج والمعتزلة ونحو ذلك .
هذا باعتبار المقابلة - باعتبار مقابلة هذا اللفظ - بأهل التشيع ، فيقال السنة والشيعة ، وأهل السنة وأهل التشيع فيدخل في هذا اللفظ - أهل السنة - من وصفت لك .(32/21)
2 - ثم يطلق باعتبار آخر وهو أنهم - كما ذكرت لك في التعريف الأول - أنهم أهل إتباع النبي عليه الصلاة والسلام في الأقوال والأفعال والتقريرات ، الذين لا يقدمون شيئاً من العقول على سنة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ سواءٌ في الأخبار أو في الأحكام أو في السلوك والأخلاق .
وهذا هو الذي يُعْنى به هذه الطائفة ، وهم طائفة أهل الأثر ، طائفة أهل السنة والجماعة ، طائفة أهل الحديث الذين تميزوا بهذا الاعتقاد ، الذين هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة.
فتلخص إذن أن هذا اللفظ وهو أهل السنة دون لفظ الجماعة دون أن تعطف الجماعة عليها يطلق بأحد هذين الاعتبارين :
- قد يطلق ويراد به ما عدا الرافضة .
- وقد يطلق وهو الأصل ويراد به من لازم السنة على ما وصفت لك .
وأما قوله والجماعة فإن هذا اللفظ استعمله طائفةٌ من أئمة السنة المتقدمين من طبقة مشايخ أحمد وطبقة الإمام أحمد ومن بعدهم وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ استعمل لفظ الجماعة فمنها أنه ذكر أن الفرقة الناجية في حديث الافتراق المشهور حيث قال - بعدما ساق الافتراق - قال (كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) .
وفي لفظٍ آخر (كلها في النار إلا واحدة) قالوا من هي يا رسول الله ؟ قال (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وفي روايةٍ أخرى زاد لفظ (اليوم) بقوله (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .
فهذا اللفظ - لفظ الجماعة - قد جاء الحث بالتمسك به ، بالتمسك بالجماعة ولزوم الجماعة في أحاديث كثيرة والآيات التي فيها النهي عن التفرق فيها الأمر بلزوم الجماعة بالمفهوم .
وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (الجماعة رحمة والفرقة عذاب)
والنصوص في ذكر الجماعة كثيرة وبالحث عليها والحض على لزومها والتحذير من مخالفة الجماعة.(32/22)
وقد اختلف أهل العلم من المتقدمين اختلفوا في معنى الجماعة وفي تفسير الجماعة:
1- ففسرها طائفة بأن الجماعة هي السواد الأعظم
وهذا التفسير منقولٌ عن ابن مسعود الهذلي الصحابي المعروف رضي الله عنه وعن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنهما ، ساق ذلك عنهما جمعٌ منهم اللالكائي في كتابه (شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة) .
قال إن الجماعة هي السواد الأعظم ، وقد جاء في بعض الأحاديث - وفي إسنادها من لا يحتج به - أنه قال عليه الصلاة والسلام (عليكم بالسواد الأعظم) فأخذوا أن الجماعة هي السواد الأعظم ويعنون بـ (السواد الأعظم) السواد الأعظم في وقتهما وذلك أنه في وقت ابن مسعود في أواخره بدأ ظهور الذين ينقمون على عثمان من الخوارج ومن شابههم وحثوا على لزوم السواد الأعظم وهو سواد عامة صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
2- وفسر طائفة الجماعة- وهذا هو التفسير الثاني - بأن الجماعة هم جماعة أهل العلم والسنة والأثر والحديث، سواءٌ كانوا من أهل الحديث تعلماً وتعليماً ، أو كانوا من أهل الفقه تعلماً أو تعليماً ، أو كانوا من أهل اللغة تعلماً وتعليماً فأهل الجماعة هم أهل العلم والفقه والحديث والأثر هؤلاء هم الجماعة .
هذا القول هو مجموع أقوال عددٍ من الأئمة حيث قالوا إن الجماعة وإن الفرقة الناجية هم أهل الحديث كما ذكر ذلك الإمام أحمد بقوله إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ، وذكر ذلك أيضاً عبد الله بن المبارك ويزيد بن هارون وجماعة من أهل العلم ، وقال آخرون هم أهل العلم كما رواه البخاري .
محصل هذا القول أن الجماعة هم أهل العلم وأهل الحديث وأهل الأثر.(32/23)
وساق تلك الأقوال الخطيب البغدادي في كتابه (شرف أصحاب الحديث بأسانيدها إلى من قالها) وهذا هو الذي اشتهر عند العلماء بل عُدَّ إجماعاً أن المعنِيَ بالجماعة وبالفرقة الناجية أنهم هم أهل الحديث والأثر يعني في زمن الإمام أحمد وما قاربه لأنهم هم الذين نفوا عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وهم الذين نصروا السنة ونصروا العقيدة الحقة وبينوها وردوا على من خالفها وأعلوا عليه النكير من كل جهة .
3- القول الثالث أن الجماعة هم أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وهذا القول منسوبٌ إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز الأموي رضي الله عنه ورحمه رحمةً واسعة .
وهذا القول دليله واضح وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في بعض ألفاظ حديث الافتراق (هي الجماعة) وقال في ألفاظٍ أُخَرْ (ما كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) ومعنى ذلك أن الجماعة هي الصحابة .
4- القول الرابع وهو قولٌ نذكره ولكن دليل عليه أن الجماعة هم أمة الإسلام بعامة ، لكن هذا باطل لأن هذا يناقض حديث الافتراق فإن حديث الافتراق يبين أن أمة الإسلام - يعني أمة الإجابة - تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة وعدُ الجماعة هي أمة الإسلام يناقض هذا الحديث مناقضةً واضحة صريحة .
5- القول الأخير أن الجماعة يراد بها عصبة المؤمنين الذين يجتمعون على الإمام الحق فيدينون له بالسمع والطاعة ويعقدون له البيعة الشرعية ، واختار هذا القول ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى وجماعة كثيرون من أهل العلم .
قالوا لأنه بهذا يحصل الاجتماع والائتلاف إذا كان على إمامٍ حق .
إذا كان كذلك فهذه الأقوال كما ترى متباينة ولكن في هذا القول وهو تحديد من هم أهل السنة والجماعة نحتاج إلى أن نعلم هذه الأوصاف التي ذُكرت في هذه الأقوال .
وتحقيق المقام أن الأقوال الثلاثة الأُوَلْ :
" وهي القول بأن الجماعة هم السواد الأعظم .
" أو أن الجماعة هم أهل العلم والحديث والأثر .(32/24)
" أو أن الجماعة هم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
هذه الأقوال متقاربة وهي من اختلاف التنوع لأن الجماعة الذين هم السواد الأعظم كما فسرها ابن مسعود وأبو مسعود رضي الله عنهما هذا يعنون به صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
ومن فسرها - وهم أكثر أهل العلم - بأن الجماعة هم أهل العلم والأثر والحديث هؤلاء لأنهم تمسكوا بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد ، و الجماعة المراد بها أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
فتحصل إذن أن هذه الأقوال الثلاثة ترجع إلى معنىً واحد وأن أهل السنة والجماعة هم الذين تابعوا صحابة رسول الله صلى عليه وسلم وتابعوا أهل العلم والحديث والأثر في أمورهم .
أما قول ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى فهذا صحيح وهو أن الجماعة هم عصبة المؤمنين الذين اجتمعوا على الإمام الحق وتبيان ذلك-مما يبين حصيلة هذا الكلام ويقرره أتم تقريرٍ وأوضح تقرير- أن الجماعة مقابلة للفرقة والافتراق يقابله الاجتماع .
وقد ذكر الخطابي رحمه الله تعالى في كتابه (العزلة) كلمة فائقة فيها تحرير هذا المقام .
قال إن الافتراق ينقسم إلى افتراق في الآراء والأديان .
و افتراق في الاجتماع والأبدان أو بالأشخاص والأديان .
افتراق تارةً يكون في الآراء والأديان وتارةً يكون في الأشخاص والأبدان .
هكذا قال وهذا كلامٌ دقيقٌ متين .
قال و الاجتماع يكون اجتماع بمقابل ذلك بالآراء والأديان ويكون اجتماع بالأشخاص الأبدان .
والاجتماع في الأشخاص والأبدان هذا ينقسم إلى آخر ما يحصله كلامه رحمه الله .
نأخذ من هذا أنه لفهم معنى الجماعة فهماً دقيقاً لأنه ينبني على هذا فهم معنى أهل السنة والجماعة حتى لا يُدخل فيهم من ليس منهم .
تحريره أن الجماعة تطلق باعتبارين :
- جماعةٌ باعتبار العقائد والأديان ، باعتبار الآراء والأديان .
فإذا نظرت إلى هذا المعنى في الاجتماع فإنه مأمورٌ به .(32/25)
والاجتماع على الآراء والأديان ، الأقوال في الدين وعلى الأحكام وعلى العقائد وعلى المنهج ونحو ذلك فهذا لا بد أن يكون له مرجع ، ومرجعه في فهم نصوص الكتاب والسنة هم صحابة رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم .
وبهذا يلتقي هذا الفهم مع أقوال أهل العلم الذين قالوا إن الجماعة هم صحابة رسول الله صلى عليه وسلم .
وعلى هذا فالذين أخذوا بما قالته الصحابة وما بينته الصحابة من أحكام الشرع من الأحكام الخبرية -يعني من العقائد- فإنه على الحق وهو الذي لم يكن مع الفرق التي فارقت الجماعة .
وهؤلاء الذين هم مع صحابة رسول الله صلى عليه وسلم هم مع السواد الأعظم قبل أن يفسد السواد الأعظم .
ومعلومٌ أنه لا يحتج بالسواد الأعظم في كل حال وإنما السواد الأعظم الذي يحتج به هو السواد الأعظم لصحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
هذه مسألةٌ في غاية الأهمية إذ الاحتجاج بالسواد الأعظم إنما يراد به السواد الأعظم للمهتدين وهم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ومن تابعهم في أمور الدين .
فصار إذن هاهنا قولان رجعا إلى هذا المعنى .
كذلك من قال إن الجماعة هم أهل العلم والحديث والأثر ومن سار على نهجهم من الفقهاء وأهل اللغة ونحو ذلك هؤلاء إنما أخذوا بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم وساروا على ما قرروه فإذن هم مع الجماعة قبل أن تفسد الجماعة ومع السواد الأعظم قبل أن يتفرق الناس عنه .
لهذا جاء ما جاء في أن الجماعة ما كان على الحق وإن كنت وحدك .
الجماعة ما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد الجماعة كما قاله طائفة من علماء السلف وهذا يريدون به ما كان عليه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قبل أن يفسد الناس لأنه حصلت فتن وحصلت للناس أمورٌ منكرة وافتراءٌ في الدين .
فكيف تُضبَط هذه المسألة وهي أعظم المسائل التي هي مسألة الاعتقاد وما يجب اعتقاده وما ينهج بالحياة .(32/26)
قال أهل العلم إن الجماعة يعني التي من تمسك بها فهو على الجماعة ومن حاد عنها فهو من أهل الفرقة .
قالوا هم صحابة رسول الله صلى عليه وسلم وهذا ظاهرٌ كما ترى .
- المعنى الثاني للاجتماع اجتماعٌ بالأبدان - اجتماع في الأشخاص والأبدان - كما عُبِرَ عنه وهذا هو الذي فهمه ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى .
ولا شك أن هذا مأمورٌ به في نصوصٍ كثيرة :
النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أمر بالجماعة بهذا المعنى - الاجتماع على الإمام - وعدم التفرق عليه وترك الخروج عليه والبعد عن الفتن التي تفرق المؤمنين ، وهذا مما تميز به صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وتميز به أهل السنة في كل عصر .
فنظَرَ ابن جرير رحمه الله تعالى في هذا المعنى إلى ما فعله الإمام أحمد رحمه الله تعالى مع ما حصل من المأمون والمتوكل والواثق فإنه لم ينزع يداً من طاعة لأنه رأى أن الاجتماع إنما يحصل بذلك فأخذ بما جاء في النصوص بهذا المعنى وهكذا أهل السنة والجماعة هم على هذين الأمرين .
فإذن أهل السنة والجماعة تحصل على أن معنى الجماعة- وإن تعددت الأقوال - فإن هذه الأقوال كاختلاف التنوع لأن جميعها صحيح دلت عليه نصوص الشرع .
فباجتماع هذه الأقوال يحصل لنا المعنى الصحيح لأهل السنة والجماعة .
فغلط من غلط في معنى أهل السنة والجماعة فأدخل في أهل السنة والجماعة الفرق ، بعض الضالة كالأشاعرة والماتريدية .
ومن أمثال من غلط من المتقدمين السَفَّاريني في شرحه (لوامع الأنوار البهية) فقال أهل السنة والجماعة ثلاث فرق :
o الأولى الأثرية أتباع الأثر .
o والثانية الأشعرية أتباع أبي الحسن الأشعري .
o والثالثة الماتريدية أتباع أبي منصور الماتريدي .
وإذا كان كذلك فإنه على هذا الكلام إن الأشعرية والماتريدية وأهل الأثر هم جميعاُ من الجماعة .(32/27)
وهذا باطل لأن أهل الأثر هم الذين تمسكوا بما كانت عليه الجماعة وأما الأشاعرة والماتريدية فإنهم يقولون قولتهم المشهورة يقولون كلام السلف أسلم ولكن كلام الخلف أعلم وأحكم .
وهذا لا شك أنه فيه افتراق وفرقة وخلافٌ واختلاف عما كانت عليه الجماعة قبل أن يَذِرَ نجم الابتداع في هذه الأمة.
فإذن هذا الكلام من الكلام الذي هو غلط على أهل السنة والجماعة ولم يقل به أحد أئمة أهل السنة الذين يفهمون كلام أهل السنة وكلام المخالفين .
فإذن أهل السنة والجماعة فرقةٌ واحدة طائفةٌ واحدة لا غير وهم الذين يعتقدون هذا الاعتقاد الذي سيبينه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذه الرسالة .
وإذا تبين لك أن من لم يكن على هذه الجماعة فإنه على الفرقة والضلال والاختلاف فهذا يعطيك أهمية العناية بهذه الرسالة التي تشرح لك اعتقاد أهل السنة والجماعة قبل أن يخالفها المخالفون وقبل أن يكثر الفساد والاختلاف في هذه الأبواب ، وأن تلتزم بطريقتهم ونهجهم في هذه الأمور التي سيبينها شيخ الإسلام في هذه الرسالة العظيمة .
كل ما سيأتي في هذه الرسالة هو تفصيلٌ لاعتقاد أهل السنة والجماعة مع شيء من الاقتضاب يناسب هذه الرسالة .
قال هنا في بيان هذا الاعتقاد :
وَهُوَ الإِيمانُ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، والإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خِيْرِهِ وَشَرِّهِ.
اعتقاد أهل السنة والجماعة مبنيٌ على هذه الأركان التي بينها الشيخ رحمه الله تعالى في هذه الكلمات
وهذه الكلمات هي أركان الإيمان التي جاء الأمر بها في الآيات وفي الأحاديث الصحيحة .(32/28)
قال جل وعلا ?لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ? فذكر هذه الخمسة وقال جل وعلا في آخر السورة نفسها ?كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ? وقال جل وعلا في القدر ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ? .
وقد جاءت هذه الستة في حديث جبريل المشهور وهي أركان الإيمان حيث سأل جبريل النبي عليه الصلاة والسلام فقال أخبرني عن الإيمان ؟ فقال (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى) ، هذه الأركان الستة هي أركان الإيمان .
والإيمان إذا قرن بالإسلام فيُعنى به الاعتقاد الباطن .
وهذه الرسالة فيها ذكر الاعتقاد ، اعتقاد أهل السنة والجماعة .
فتحصل أن الإسلام يُعنى به الأمور الظاهرة ، والإيمان يُعنى به الأمور الباطنة - يعني أمور اعتقاد القلب - وهو مبنيٌّ على أركانٍ ستة .
1 - الأول الإيمان بالله
2 - الثاني الإيمان بالملائكة
3 - الثالث الإيمان بالكتب
4 - الرابع الإيمان بالرسل
5 - الخامس الإيمان بالبعث بعد الموت أو الإيمان باليوم الآخر .
6 - السادس الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى
انتهى الشريط الأول من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الخامس الإيمان بالبعث بعد الموت أو الإيمان باليوم الآخر .
السادس الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى .
الإيمان ما هو ؟ قال هنا (وهو الإيمان) يعني اعتقاد أهل السنة والجماعة هو الإيمان .
الإيمان له معنى في اللغة وله معنى في الشرع ، لأنه من الألفاظ التي نقلت من معناها اللغوي إلى معنى شرعي مثل الصلاة والزكاة ونحو ذلك .(32/29)
فأما معناه في اللغة فهو التصديق أو التصديق الجازم ، كما قال تعالى مخبراً عن قول إخوة يوسف لأبيهم ?وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ? يعني ما أنت بمصدقنا ولو كنا صادقين .
فالإيمان في اللغة هو التصديق ، آمن بفلان يعني صدقه ، آمنت لكلامك يعني صدقت لكلامك بحيث إنه لا ريب عندي فيما أقول.
أما معناه في الشرع فإن الإيمان قول وعمل :
قول القلب وعمل القلب ، وكذلك قول اللسان ، وقول القلب ، وعمل الجوارح والأركان .
فإذن الإيمان في اللغة له معنى أما في الشرع فزيادة على معناه اللغوي أنه له موارد القلب والجوارح قول وعمل .
حصّل هذا أهل العلم بقولهم إن الإيمان في الشرع هو القول باللسان ـ يعني بشهادة التوحيد ـ والاعتقاد بالجنان ـ الاعتقاد المفصل الذي سيأتي هنا ـ والعمل بالجوارح والأركان .
فهذا هو معنى الإيمان في النصوص وهو المراد بالايمان عند أهل السنة والجماعة .
قول القلب هو اعتقاد القلب ، الإيمان قول وعمل ، قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح والأركان ، هذه أربعة أشياء تحتاج إلى تفصيلها .
- قول القلب هو اعتقاده ، لا بد من أن يكون ثَمَّ قول وهو اعتقاد القلب :
اعتقادات القلب هي أقواله لأنه يحدث بها نفسه قلبا فهو يقولها بقلبه ، فأقوال القلب هي الاعتقادات وهي التي ستأتي مفصلة في هذا الكتاب .
- قول اللسان بالشهادة لله بالتوحيد ، بقوله لا إله إلا الله محمد رسول الله .
- ثم عمل القلب ، عمل القلب أوله نيته وإخلاصه ، أنواع أعمال القلوب من التوكل والرجاء والرغب والرهبة والخوف والمحبة والإنابة والخشية ونحو ذلك من أنواع أعمال القلوب .
- عمل الجوارح بأنواع الأعمال مثل الصلاة والزكاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك من الأعمال .
هذا هو الإيمان
بعضه ـ بعض هذا الإيمان ـ هو قول القلب الذي هو اعتقاداته وهذا هو الذي سيأتي تفصيله في هذه الأركان .(32/30)
فإذن هذه الأركان هي أركان الإيمان وهي بعض الإيمان .
هي الأركان التي يقوم عليها الإيمان ، إذا تحققها المعتقد لها فإنه سيتبعه قول اللسان سيتبع بعد ذلك عمل القلب ، سيتبع بعد ذلك عمل الجوارح والأركان ، وكلها من حقيقة الإيمان.
قال هنا (وَهُوَ الإِيمانُ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ)
الإيمان بالله - قبل أن ندخل فيه - هذه الستة تفصيلها في هذه الرسالة إما باقتضاب أو بتفصيل أولها الإيمان بالله .
الإيمان بالله يشمل أشياء :
- الأول : أول درجات الإيمان بالله أن يؤمن بأن الله جل وعلا موجود ، بأن له ربا موجودا وأنه لم يوجد من عدم ، وأن لهذا الملكوت موجد ، هذا أول درجات الإيمان بالله .
الثاني : أن يؤمن بأن هذا الذي له هذا الملك أنه واحد فيه ، واحد في ربوبيته لا شريك له في ملكه ، يحكم في ملكه بما يشاء لا معقب لحكمه ولا مراجع له في أمره جل وعلا ، - نعني بالمراجع عدم المنفذ لأمره جل وعلا - وهذا هو الذي يعنى به توحيد الربوبية .
الثالث : الإيمان بأن هذا الذي له ملكوت كل شيء وأنه صاحب هذا الملك وحده دون ما سواه ، الذي ينفذ أمره في هذا الملكوت العظيم أن له الأسماء الحسنى والصفات العلا ، له النعوت الكاملة له الكمال المطلق بجميع الوجوه الذي ليس فيه نقص من وجه من الوجوه ، بل له الكمال في أسمائه ، له الكمال في صفاته ، له الكمال في أفعاله ، له الكمال في حكمه في بريته وفي خلقه ، وهذا هو الذي يُعنى بتوحيد الأسماء والصفات ، ويُعتقد مع ذلك أنه في تلك النعوت وتلكم الصفات أنه ليس ثم أحد يماثله فيها ولا يكافئه فيها كما قال جل وعلا ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً? وكما قال جل وعلا ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ? فليس له جل وعلا مثيل ولا كفؤ ولا نظير ولا ند ولا عدل تبارك ربنا وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .(32/31)
الرابع : وهو الأخير وهو المهم الأعظم في الإيمان بالله الإيمان بأن هذا الموجود الذي له الملك وحده دون ما سواه والذي له نعوت الجلال والجمال والكمال على وجه الكمال أنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه ، وأن كل ما سواه فلا يستحق شيئا من العبادة ، وأن أنواع العبادة - عبادات القلب أو عبادات الجوارح- أن المستحق لها بقليلها وكثيرها هو الله جل وعلا وحده دون ما سواه
فمن أتى بهذه الأربعة فقد أتى بالإيمان بالله الذي هو ركن من أركان الإيمان
ومن ترك الأولى منها فهو ملحد لا شك ، يتبع ذلك أنه لا يعتقد شيئا بعد ذلك
وكذلك من أشرك في الربوبية ، من لم يعتقد الربوبية الكاملة لله جل وعلا وحده فإنه يتبع ذلك .
وكذلك من لم يوحد الله جل وعلا في العبادة فإنه لا يسمى مؤمنا بالله ولو كان يعتقد أن الله جل وعلا موجود وأن له الربوبية الكاملة له وحده دون ما سواه ، وأنه ذو الأسماء الحسنى والصفات العلا ، فإذا لم يوحد الله جل وعلا في العبادة في نفسه أو أقر عدم توحيد الله جل وعلا بتصحيحه لذلك أو بتجويزه له فهو لم يؤمن بالله .
بقي الثالث وهو توحيد الأسماء والصفات .
هل من لم يؤمن بهذا نقض عدمُ إيمانه بذلك إيمانَه أصلا فيصبح كافرا ؟
يقال من لم يؤمن بتوحيد الأسماء والصفات ففي حقه تفصيل :
تفصيله يأتي إن شاء الله تعالى في هذه الرسالة لأن شيخ الإسلام هذه الجملة وهي الإيمان بالله سيأتي بعد قليل ويقول (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه) وسيذكر الإيمان بالأسماء والصفات من الكتاب والسنة على وجه التفصيل ، نرجئ تفصيل هذا الحكم إلى موضعه .
إذن من أنكر توحيد الأسماء والصفات يعني من لم يثبت لله جل وعلا جميع الأسماء والصفات أو قال بالتشبيه في بعض المواضع أو نحو ذلك فهل يقال إن هذا ليس بمؤمن بالله ؟ ليس بمؤمن بهذا الركن ؟(32/32)
الجواب ثَمَ تفصيل يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ، وهو من المهمات لأن من الناس من غلا في هذا الجانب وكفر بالإخلال بشيء من أفراد توحيد الأسماء والصفات .
الثاني من أركان الإيمان الإيمان بالملائكة .
والملائكه جمع ملأك وتخفف إلى ملك .
وأصل ملأك مألك من الألوكة وهي الرسالة الخاصة ، كما قال الشاعر :
لِ أعلمهم بنواحي الخبر ألِكنِي إليها وخير الرسو
يعني أرسلني إليها برسالة خاصة .
تقول العرب له أَلوكة وألِكني وألَكَني إذا أرسل برسالة خاصة .
والملائكة جمع مألك أو ملأك وهم المرسلون برسالة خالصة من الله جل وعلا .
فإذن مبنى هذا الاسم على الإرسال .
والملائكة هم الموكلون من الله جل وعلا ، المرسلون في تصريف ملكوته فهم موكلون بتصريف ملكوت الله جل وعلا كما قال سبحانه ?قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ?.
والإيمان بالملائكة مرتبتان ، إيمان إجمالي وإيمان تفصيلي :
- والإيمان الإجمالي هو المعنِي بهذا الركن
ومعنى الإيمان الإجمالي : أن يؤمن العبد بأن لله جل وعلا خلقا وهم الملائكة وأنهم مطهَرون عباد مكرمون ليسوا بمعبودين ولا يستحقون ذلك ، وأن الله جل وعلا خصهم بأنواع من الرسالات لإنفاذ أمره في خلقه ، - وهذه الأخيرة قد تدخل في الإيمان التفصيلي - .
فمن اعتقد هذا الإيمان الإجمالي وهو أن لله جل وعلا خلقا هم الملائكة وأنهم مطهرون لا يعصونه ?لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ? وأنهم عبيد لله وليسوا بمعبودين فقد حقق هذا الركن أتى بهذا الركن ، وهذه هي المرتبة الإجمالية .
من اعتقد هذا من العوام أو غيره إذا سألته هل تؤمن بالملائكة ؟
فقال نعم الملائكة موجودون ، يُعبدون أو يعبدون الله ؟ فقال لا يعبدون الله ، حقق هذا الركن .(32/33)
- المرتبة الثانية الإيمان التفصيلي وهي الإيمان بكل ما أخبر الله جل وعلا به في كتابه أو أخبر به النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في السنة من أحوال الملائكة وصفاتهم وخلقهم ومميزاتهم وما وكلوا به وأنواع مهماتهم ونحو ذلك هذا إيمان تفصيلي ، يلزم العبد الإيمان به إذا علم النص في ذلك فإذا علم النص وجب عليه الإيمان بما جاء في النص من هذا لأنه أمر غيبي ، ومن لم يصل إليه النص فإنه لا يكون ناقضا لإيمانه بالملائكة إذا كان قد أتى بالإيمان الإجمالي لأن الإيمان التفصيلي يختلف فيه الناس فهو تبع العلم .
فمثلا لو سألت عاميا وقلت له تعرف إسرافيل ؟ هل تؤمن بإسرافيل ؟ فقال لا ما أؤمن بإسرافيل من إسرافيل هذا ما هو ؟
قال ملك من الملائكة
قال لا ما في ملك اسمه إسرافيل ، فهذا لا يعد كافرا منكرا لوجود هذا الملك إلا إذا عُرِّف بالنصوص وعُلم بها إعلاما يكون الجاحد له كافرا فيكون بعد ذلك ليس بمؤمن بهذا الملك .
وهذا مرجعه إلى تكذيب النصوص لا عدم الإيمان بالملائكة فإنه قد يكون مؤمن بجنس الملائكة لكن ليس بمؤمن بهذا على هذا الوجه فيكون مكذبا للنص فيعرف ويعلم فإن أنكر كفر .(32/34)
الملائكة أنواع منهم الموكلون بالمطر منهم الموكلون بالموت فالموكل بقبض الأرواح ملك من الملائكة واسمه عند أهل الكتاب عَزرائيل وفي بعض الآثار أو بعض المقاطيع سمي عبدالرحمن هذا هو الموكل بقبض أرواح العالمين كما قال جل وعلا ?قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ? وتحته أيضا ملائكة هو رئيسهم وهو كبيرهم ، تحته ملائكة يتوفون الناس يأمرهم فيقبضون الأرواح كما قال جل وعلا ?تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ? ، كذلك منهم الموكل بتبليغ الوحي من الله جل وعلا للرسل أو بتبليغ الوحي من الله جل وعلا للملائكة وهو جبريل عليه السلام ومنهم الموكل بالقطر والحياة على الأرض وهو ميكائيل ومنهم الموكل بالنفخ في الروح وإعادة الحياة وهو إسرافيل ، وهؤلاء الثلاثة وهم جبريل وميكال وإسرافيل هم أشرف الملائكة وهم سادة الملائكة .
هذا كله من الإيمان بالتفصيل ، الإيمان التفصيلي وهذا قد ألفت فيه مؤلفات ترجعون إليها ، في أوصاف الملائكة في خلقتهم وفي منازلهم وفي أحوالهم وفي أعمالهم وفي عباداتهم وما وكلوا به من الأعمال ، ومن أحسن ما كتب في هذا كتاب (عالم الملائكة الأبرار) للدكتور الأشقر فإنه جمع فيه جمعا حسنا طيبا ويتحرى الصواب في كثير من مباحثه .
الركن الثالث الإيمان بالكتب .
والإيمان بالكتب أيضا له مرتبتان إيمان إجمالي وإيمان تفصيلي .
وكذلك الإيمان بالرسل له مرتبتان مرتبة إيمان إجمالي وإيمان تفصيلي على نحو ما ذكرنا في الملائكة
وحبذا لو ترجعون إلى تفصيل ذلك حتى ما نطيل في تفصيله والبحث فيها معروف مشهور .
ومن أحسن من ذكر تفصيل ذلك الشيخ حافظ الحكمي في كتابه (معارج القبول) فلو رجعتم إليه لمعرفة المعنى الإجمالي للكتب والمعنى التفصيلي ، المعنى الإجمالي للرسل والمعنى التفصيلي وما يحصل به الكفر من ذلك وما لا يكون عدم المعتقد له كافرا يُرجَع فيه إلى ذلك لأجل اختصار الوقت .(32/35)
هنا مناسبة وهو أن الإيمان بالله هو الأصل هو المقصود والملائكة هم الواسطة بين الله جل وعلا وبين خلقه فهم الذين ينزلون بالوحي إلى الرسل وينزلون بالكتب وبالشرائع ولهذا رتبت هنا أحسن ترتيب ، فقدم الإيمان بالله لأن منه جل وعلا المبتدأ وإليه المعاد والإيمان به هو المقصود وكل أمور الإيمان هي كالتفريع للإيمان بالله ، والملائكة لأنهم يأخذون الوحي من الله جل وعلا ويسمعونه فينقلونه إلى الرسل ، وينزلون بالكتب فثلث بالكتب ثم الرسل ، فالترتيب بين هذه الأربعة الإيمان بالله ، ملائكته لأنهم هم الواسطة ، الكتب لأن الملائكة تنزل بها ، الرسل لأنهم هم ختام هذه السلسلة ثم الرسل ينقلونها إلى الناس .
ثم لا بد من الإيمان بالبعث بعد الموت ، الإيمان باليوم الآخر وهو الإيمان بالموت وما بعده إلى أن يدخل أهل الجنةِ الجنة وأهل النارِ النار .
الإيمان بالبعث بعد الموت ، وهذا الإيمان بالبعث بعد الموت يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى في هذه الرسالة فقد أطال عليه شيخ الاسلام رحمه الله تعالى في موضعه فيدخل في الإيمان بما بعد البعث جميع ما يحصل في عرصات القيامة حتى دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار .
والإيمان بالقدر خيره وشره .
يعني الإيمان بأن الأمور التي تجري في ملكوت الله إنما هي بقدر سابق ، بعلم سابق ، ليست عن استئناف عن غير علم من الله عن غير تقدير من الله بل كل شيء بقدر كما قال جل وعلا ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ? ويأتي تفصيل هذه الجملة في موضعها في هذه الرسالة .
هذه أركان الإيمان الستة عند أهل السنة وأما عند غير أهل السنة ونعني بغير أهل السنة المعتزلة والرافضة والخوارج ومن شابههم مَن لم يدخل في الالتزام بالسنة بوجه عام فهؤلاء عندهم أصول الإيمان غير هذه الستة .
فهذه الستة هي أصول الإيمان عندنا وهي التي تنبني عليها العقيدة عندنا وكل ما في الاعتقاد تفصيل لها .(32/36)
أما عند أهل الاعتزال فأصول الإيمان عندهم خمسة ، مشهورة بالأصول الخمسة عند المعتزلة ، وهي
التوحيد والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد .
وأما الرافضة فعندهم الأصول أربعة ، أصول الإيمان ، أركان الإيمان التي تنبني عليها عقيدتهم أربعة وهي :
الإمامة والنبوة والعدل والتوحيد
ويرتبونها هكذا :
التوحيد العدل النبوة الإمامة .
فإذا أردت أن تعرف معتقد أهل السنة والجماعة فمعتقدهم تفصيل لهذه الستة
ومعتقد المعتزلة تفصيل لتلك الخمسة ، ومعتقد الرافضة تفصيل لتلك الأربعة .
بعض السلف زاد على هذه الأركان قال : والإيمان بالجنة والنار ، والإيمان بالجنة والنار هو من الإيمان باليوم الآخر.
هذه خلاصة لمعنى هذه الجمل التي ذكرها شيخ الاسلام رحمه الله تعال .
أسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا وأن يزيدنا علما وهدى واهتداء وأن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ ?ِلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].
فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما والحمد لله على كل حال .(32/37)
ذكر شيخ الاسلام رحمه الله أن (مِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) وقد ذكرنا هذه الجملة وما يتبعها من القواعد المهمة .
وهذا الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ادعاه كثيرون ، ادعاه طوائف من المنتسبين إلى القبلة .
ولكن دعوى الإيمان بما وصف الله جل وعلا به نفسه ووصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما كانت دعوى عند كثيرين التزم أهل السنة والجماعة أن يذكروا قيد هذا الإيمان .
فإن الإيمان بهذه النصوص التي هي نصوص الصفات ليس إيمانا على وفق ما تشتهي النفس أو يؤدي إليه العقل بل على قاعدة وتلكم القاعدة هي أن يكون الإيمان بتلك النصوص بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل .
" فهناك محرفون يقولون نؤمن بالصفات على ما جاء في الكتاب والسنة لكنهم يحرفونها عن مواضعها فأهل السنة خالفوهم وآمنوا بالنصوص من غير تحريف .
" وهناك معطلة عطلوا نصوص الصفات عن معانيها اللائقة بها ، أو عطلوا الله جل وعلا عن الوصف الذي وصف به نفسه على كماله وأولوه وحرفوه وتوجهوا به إلى معنى آخر فخالفهم أهل السنة فآمنوا بظاهر النصوص من غير تعطيل لها ولا تأويل يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله جل جلاله .
" كذلك آمنوا بالنصوص من غير تكييف لأن هناك من آمن فكيف فجعل نصوص الصفات مكيفة بكيفيات اخترعوها وابتدعوها في أذهانهم ، وهؤلاء يزعمون أنهم آمنوا بالنصوص لكن أهل السنة بينوا أن الإيمان لا بد أن يكون من غير تكييف .(32/38)
" وهناك ممثلة مجسمة آمنوا بالنصوص على زعمهم وجعلوا ظاهر النص يراد به أمثلة معروفة ، فقالوا يد الله كأيدينا وعين الله كأعيننا وسمع الله كسمعنا ونحو ذلك ، زعموا أنهم آمنوا لكن آمنوا إيمانا فيه تمثيل .
وإذن يكون إيمان هؤلاء الأصناف الأربعة يكون إيمانا مدَعى ، ليس إيمانا شرعيا .
فمتى يكون الإيمان بالنصوص نصوص الصفات صحيحا ؟
إذا جمع هذه الأربع أن يؤمن بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.
فهذه القواعد الأربع أن نؤمن بالنصوص ولا نحرفها :
- نؤمن بالنصوص ولا نعطل الله جل وعلا عن وصفه الذي وصف به نفسه أو وصفه به رسوله
- نؤمن بالنصوص نصوص الصفات من دون تكييف لهذه الصفات بكيفيات معهودة أو غير معهودة .
- نؤمن بالنصوص ولا نمثل الله جل وعلا بخلقه بل ننزهه .
وهذا يحتاج في بيانه إلى بيان المراد بهذه الألفاظ الأربعة .
ما معنى التحريف ؟ ما معنى التعطيل ؟ ما معنى التكييف ؟ وما معنى التمثيل ؟
أما التحريف :
فأصله في اللغة من الانحراف بالشيء عن وجهه وهو صرفه عن وجهه ومعناه إلى غيره .
وهذا تحريف بمعنى التغيير والتبديل ، فإذن يكون معنى التحريف التغيير والتبديل ، حرف أي غير وبدل ، قال جل وعلا عن اليهود ?مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ? .
قال المفسرون إن معني قوله ?يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ? يعني يحرفون ما أُنزِل عليهم عن معانيه اللائقة به ، بل يخترعون له معاني من عندهم ، وسمى الله جل وعلا هذا منهم تحريفا
قال ?مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ? .
والتحريف في نصوص الصفات معناه أن تُغَّير و تُبَدّل ألفاظها أو معانيها عن ظواهرها ، فإذا صُرِف ظاهر النص عن معناه اللائق به فإن هذا سواء أكان في اللفظ أو في المعنى فإن هذا تحريف ، لأنه تغيير وتبديل .(32/39)
قال العلماء التحريف من حيث هو بتعلقه بنصوص الصفات أو بغيره يكون في اللفظ وفي المعنى يكون في اللفظ وفي المعنى .
والتحريف في اللفظ إما بزيادة أو نقصان أو بتغيير حركة إعرابية ، أو بغير تغيير حركة إعرابية .
والتحريف في المعنى يكون بتغيير معنى الكلمة عن معناها المعروف في لغة العرب .
تحريف بزيادة ، تحريف في اللفظ بزيادة كما فعل اليهود ، فإن الله جل وعلا أخبر عنهم بقوله
?فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ?
قيل لهم (قولوا حطة) فقالوا حبة في شعرة ، غيروا اللفظ بزيادة بل غيروه من أصله أو بزيادة كما روي أنهم قالوا (حِنطة) بزيادة النون .
كذلك فعل المعتزلة والجهمية والأشاعرة ونحوهم حينما فسروا معنى (استوى على العرش)
بقولهم : استولى ، ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?
قالوا : استولى ، فهذا تحريف في اللفظ بزيادة حرف ، فإن كلمة استوى ليس فيها حرف اللام ، زادوا اللام فغيروا المعنى .
استوى جعلوا معناها استولى ، ومعنى استوى المعروف في اللغة (علا وارتفع) .
كذلك قد يكون بنقص ينقص اللفظ ، يكون نقص في اللفظ .
وقد يكون بتغيير حركة إعرابية في النص من مثل ما قال جهمي لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء النحاة والعلماء المتحققين بالسنة قال له جهمي يا أبا عمرو ألا تقرأ ?وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً? و(كلم الله) هذا تغيير حركة إعرابية ، لأن القراءة ?وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً? فالله جل جلاله هو فاعل الكلام وموسى في الإعراب مفعول به ?وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً? أراد أن يغير ويحرف بتغيير حركة إعرابية فقال ألا تقرأ (وكلم اللهَ موسى تكليما).
يعني أن له وجها في العربية عند هذا القائل لأن موسى الحركة لا تظهر في آخره فإذا قرئ ?وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى? يكون المكلِّم هو موسى والمكلَّم هو الله جل جلاله .(32/40)
قال له أبو عمرو بن العلاء هبني قلت ذلك وقرأته على هذا النحو ، فماذا تقول في قوله تعالى ?وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ? فبهت ، هذا من نوع تغيير حركة إعرابية ، تغيرت الحركة .
وهذا ربما لجأ إليه كثير من الذين يزعمون أن عندهم علما بالنحو منهم لكن مع ظهور العلم وقوته بطل ذلك منهم .
قد يكون تحريف بغير حركة إعرابية يعني لا بالزيادة في اللفظ ولا النقصان لا بتغيير حركة إعرابية .
يكون تحريف للفظ بغير هذه الأنحاء ،بغير حركة إعرابية كمثل هذا الذي قلت في قوله ?وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى? أراد أن يجعل موسى المكلِّم ، فهو حرَّف فغير موسى من كونه مفعولا به إلى كونه فاعلا ، هذا ما دلت عليه حركة إعرابية ، من غير حركة إعرابية .
كذلك يدخل في هذا الذين يحرفون الكلام ويجعلونه بمعنى آخر ، لفظ له معنى يجعلون له معنى آخر
مثلا يجعلون قوله تعالى ?مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?
يجعلون معناه : بقدرتَيّ أو بقدرتي ، هذا تحريف للفظ هل هو من جهة المعنى ؟
جعلوا لفظ مكان لفظ ، يقولون اليد هنا هي القدرة ، ليست اليد هي المعروفة
أو القسم الثاني أنه تحريف من جهة المعنى ، وهذا كثير كادعاء المجاز في آيات الصفات وكتأويل النصوص على غير ما دلت عليه لغة العرب .
مثلا يأتون لقول الله جل وعلا ?الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? فيقولون : الرحمة هي إرادة الإحسان .
إرادة الإحسان ، هذا تحريف للرحمة عن معناها تغيير لها عن معناها ، بأي شيء ؟
بالأخذ بالمجاز ، والأخذ بالمجاز في نصوص الصفات باطل ومن أصول أهل الضلال في الصفات ، أما في غير الصفات يعني في اللغة من غير دخوله في الصفات فهو خلاف أدبي مع أن الصحيح عند المحققين أنه لا مجاز أصلا .(32/41)
هنا يدخل في المحرفة الذين حرفوا الكلم عن مواضعه يدخل فيهم الجهمية أول ما يدخل لأن أصل التحريف إنما جاء من جهة جهم ، بل من جهة الجعد بن درهم قبله بل من جهة اليهود لأن هذه المقالة أخذها الجعد عن اليهود ، لأنهم هم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه .
وكان أول ما بدأ التحريف حين نفى اتصاف الله جل وعلا بالكلام وقال إن قوله ?وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً? أي جرحه بأظافير الحكمة تجريحا .
فليس من جهة الكلام وإنما من جهة التجريح ، كلّم أي جرّح من الكلْم وهو الجُرح .
هذا أول ما بدأ نفوا صفة الكلام ، تسلسل ذلك ، فإذن يدخل فيه أولا الجهمية .
الجهمية يحرفون من جهة ، أولا الأسماء الحسنى والصفات العلا :
هم يقولون بها في القرآن لكن يجعلون تفسيرها بمخلوقات منفصلة ، فصفة الله عند الجهمية هي الوجود المطلق فقط ،غيره من الأسماء الحسنى السميع البصير الحي القيوم العليم الحكيم يفسرها الجهمية بمخلوقات منفصلة .
يعني السميع هو من يُسْمَع ، البصير هو من يُبْصَر ، المتكلم هو من يَتكلَم ، يعني مخلوقات الله جل وعلا المنفصلة ، العزيز هو من أعِزّ أو من عَز ، القيوم هو من أقيم أو من قام بأموره وهكذا فيجعلون هذه الأسماء تعلقت بالخلق من آثار صفة الله عندهم الوجود .
من آثار صفة الله الوجود ، فعندهم الوجود عام .
يدخل فيه المعتزلة فإن المعتزلة حرفوا ، حرفوا الغيبيات جميعا في الصفات والأسماء ، في الأمور الغيبية عذاب القبر في الميزان الحوض الصراط ونحو ذلك جميع الأمور الغيبية صرفوها حرفوها عن معانيها ، وهكذا .
يدخل فيه أيضا الأشاعرة فإنهم يحرفون .
هل كل تحريف يعد كفرا ؟
الجواب ليس كل تحريف يُعَد كفرا ، فإن أهل السنة لم يكفروا الذين فسروا استوى باستولى
فإن كان التحريف في جميع الصفات كفعل الجهمية فإن هذا يعد كفرا .
و الجهمية عندهم كفار لأنهم حرفوا ونفوا صفات الله جل وعلا .(32/42)
إن كان التحريف في بعض الصفات رؤي ما هذه الصفة ؟
فإن كانت الدلالة عليها ظاهرة ولا يحتملها وجه ، يعني ليس للتأويل فيها مدخل هنا يُكفّر به كتكفير من نفى رؤية الله جل وعلا ، وتكفير من جعل كلام الله جل وعلا مخلوقا .
وأما غيره مما قد يكون لقائله عذر في تأويله فإنه لا يقال بكفره ولهذا أهل السنة والجماعة لم يكفروا الأشاعرة والماتريدية والكُلابية والسالمية والكرامية وأشباه هؤلاء .
وَلاَ تَعْطِيلٍ
هذه اللفظة الثانية والتعطيل أصله في اللغة من عطل يعطل تعطيلا وهو عُطل إذا كان خاليا
يقال هذا مكان معطل إذا كان خاليا ليس فيه شيء ، ويقال أيضا في المرأة جيدها معطل إذا كان خاليا من الحَلي ومنه قول الشاعر في وصف امرأة أو في وصف جيد امرأة يقول :
إذا هي نصته ولا بمُعَطلِ وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
بمعطل يعني خال من الحلي . فهذا أصله
فإذن الإخلاء هذا هو التعطيل ومعنى قوله الله جل وعلا ?وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ? أي خالية من الماء لأنه لم يستفد منها أو لم تحفر ويعتنى بها لإخراج الماء .
تعطيل النصوص ، تعطيل الصفات تعطيل الله جل وعلا عن صفاته هذه بمعنى إخلاء الله جل وعلا عن الوصف عن أوصافه .
يعني نفي الصفات وجعل الله جل وعلا ليس متصفا بالصفات .
والتعطيل عند العلماء أقسام أشهرها ثلاثة وهي :
" أولا تعطيل المخلوق عن خالقه ، يعني إخلاء المخلوق عن أن يكون مخلوقا بنفي أن يكون ثم خالق له كقول الملاحدة .
" الثاني تعطيل الخالق عن أوصافه التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسله .
" الثالث تعطيل الخالق عن استحقاقه العبادة وحده لا شريك له .
والأول بحثه في توحيد الربوبية ، والثاني بحثه في توحيد الأسماء والصفات والثالث بحثه في توحيد الألوهية .
فإذن التعطيل دخل فيه أنواع التوحيد :
فإذا كان تعطيلا للمخلوق عن الخالق صار ذلك نفيا لتوحيد الربوبية
إذا كان تعطيلا للخالق ، لله عن أوصافه صار تعطيلا ونفيا للأسماء والصفات(32/43)
إذا كان تعطيل للخالق عما يستحقه من عبادته وحده دون ما سواه صار تعطيلا في الألوهية .
هنا المقصود الثاني ، إذن المقصود بالتعطيل أن يُعطل الله جل وعلا عن أوصافه :
يعني أن يصف نفسه بصفة ، أن يصفه رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بصفة فيخلى الله جل وعلا من هذه الصفة ، يعني كأن لم يصف نفسه بذلك الوصف وكأن لم يصفه رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بذلك الوصف .
فإن وصف الله جل وعلا نفسه جلب لهذه الصفة له جل وعلا لنعلمها لأننا لم نعلم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفة فأخبرنا الله بأنه متصف بهذه الصفة .
فصار إثباته جل وعلا لنفسه هذه الصفة هذا زيادة علم عما كان عندنا من قبل فإذا نُفيت صار ذلك إخلاءً لله جل وعلا عن الوصف فصار تعطيلا .
فإذن يدخل في المعطلة الذين ينفون وصف الله جل وعلا بكل الصفات كفعل الجهمية .
ويدخل فيهم الذين ينفون أوصاف الله جل وعلا غير ثلاث الصفات المشهورة وهي عند المعتزلة .
كذلك يدخل فيه الذين يعطلون الله جل وعلا عن الاتصاف بغير سبع الصفات المشهورة عند الكلابية ومن تبعهم من الأشاعرة والماتريدية ، وهذا باب واسع يأتي إن شاء الله تفصيله .
فإذن كل من لم يصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه بأن حرف أو أول ، أخلى الله جل وعلا عن الوصف اللائق به كما أخبر ، منع الأخذ بظواهر النصوص فإن هذا يعد تعطيلا .
أهل السنة يخالفون المبتدعة الذين يعطلون .
فإذن إيمان المعطل بالنص هل هو حقيقة أم دعوى ؟
هو دعوى ، فالأشعري والماتريدي والمعتزلي والإباضي والرافضي وأشباههم يقولون نؤمن بالنصوص لكنهم يعطلون النصوص عن معانيها ويجعلون هذه المعاني للنصوص في الصفات راجعة إلى الأوصاف التي يثبتونها .
فالجهمي يرجع كل صفة إلى صفة الوجود بجعل الأوصاف والأسماء أثرا لصفة الوجود .
المعتزلي يجعل الصفات والأسماء من آثار الصفات الثلاث التي يثبتها .(32/44)
الأشعري والماتريدي والكلابي يجعل كل صفة راجعة إلى الصفات السبع التي يثبتها .
فمثلا صفة النزول لله جل وعلا ينفيها أولئك :
- فالأشعري يفسرها يقول نؤمن بأنه ينزل لكن نزوله ليس نزولا حقيقيا وإنما هو نزول الرحمة نزول الإجابة إجابته جل وعلا للداعين في هذا الوقت المتأخر من الليل ، فهم يجعلون الصفة راجعة إلى الصفات التي يثبتونها .
الرحمة مثلا عندهم إرادة الإحسان لم ؟
لأنهم يجعلون من الصفات السبع صفة الإرادة
الغضب عندهم إرادة الانتقام لم؟
لأن الإرادة عندهم من الصفات السبع وهكذا فكل صفة يعطلونها عن معناها الذي دلت عليه اللغة
يقولون نؤمن بالنص لكن نجعل هذه الصفة معناها أحد الأوصاف السبعة التي أثبتناها وهذه الأوصاف السبعة لإثباتهم لها وسبب ذلك مزيد تفصيل يأتي في مكانه إن شاء الله من هذه الرسالة المباركة .
قال (وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ)
هنا لاحظ أنه كرر (مِنْ غَيْرِ) (مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ) والسبب في ذلك أن التحريف والتعطيل متقاربان وكذلك التكييف والتمثيل متقاربان ، لكن التكييف والتمثيل غير التحريف والتعطيل ، فالتكييف والتمثيل يدخل فيه المجسمة ، والتحريف والتعطيل يدخل فيه المعطلة ، ولهذا قال العلماء المعطل يعبد عدما والمجسم يعبد صنما ، لم ؟
لأنه جسم ، تخيّل إلهه على نحو ما فعبد هذا المتخيَّل فصار المتخيَّل صورة فصار صنما .
وأما المعطل فيعبد عدما لأنه يعبد إلها ليس له صفة أو ليس له أسماء أو نعوت فهو يعبد عدما .
فإذا كان لا يصف الله بشيء فهذا يعبد العدم المحض كفعل الجهمية وهكذا .
قال (مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ) التكييف من كيّف الشيء يكيّفه تكييفا إذا جعل له كيفية .
والتكييف معناه أن يجعل لصفة الله جل وعلا كيفية ، قد تكون هذه الكيفية معلومة المثال وقد لا تكون معلومة المثال .(32/45)
مثلا : يجعل اتصاف الله جل وعلا باليد على مثال يعلمه ، يجعل الكيفية على نحو ما .
يقول مثلا : الله جل وعلا استوى على العرش ، كيفية الاستواء كذا وكذا .
قد يكون يكيفها بما عهده فيكون تمثيلا وقد يكيفها بشيء خيال في ذهنه فيعد تكييفا من غير مثال ما .
المقصود هنا بهذا الموضع بالتكييف لما عطف عليه التمثيل بالواو ، والواو تقتضي المغايرة دل على أنهم يريدون بالتكييف التكييف على غير مثال معلوم يعني يخترع له كيفية لا مثال لها ، وإن كان التمثيل يدخل في التكييف لكنه لما عطف بالواو علمنا أنه يريد بالتكييف غير التمثيل وأن التمثيل له وصفه والتكييف له وصفه .
فكيف يكون التكييف ؟
مثلا : يتخيل صورة ليد الله جل وعلا ، يتخيل صورة لاستواء الله جل وعلا ، يتخيل صورة وحالا لنزول الله جل وعلا ، يتخيل صورة وحالا لغضب الله جل وعلا هذا كله تكييف يعني جعل للصفات كيفية ، وهذا هو التكييف الذي سلكه طائفة من المجسمة ، لأن المجسمة على قسمين :
- مجسمة مكيفة - ومجسمة ممثلة
منهم مجسمة مكيفة جعلوا لله جل وعلا كيفية اخترعوها في أذهانهم ليس لها مثال ، ومنهم من جعله جل وعلا جسما على مثال يعلمونه مثل مخلوق أو نحو ذلك .
هذا معنى التكييف ، ونفيه لا شك أنه من أعظم المعلومات التي يعلمها المؤمن أنه إذا وصف الله جل وعلا يصفه بصفة يؤمن بمعناها ولا يعلم كيفيتها .
ولهذا قرر الإمام مالك هذه القاعدة آخذا لها من قوله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?، فقال لمن سأله عن الاستواء ، الاستواء معلوم والكيف غير معقول - وهذه أثبت من الرواية الأخرى التي فيها الكيف مجهول - والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .
(الاستواء معلوم) يعني في اللغة معلوم المعنى وأن معنى الاستواء العلو والارتفاع(32/46)
(والكيف غير معقول) لا تعقل كيفية استواء الله جل وعلا ، فإيمان المؤمن باستواء الله جل وعلا إيمان معنى لا إيمان كيفية ، لأنه إيمان بما دل عليه ظاهر اللفظ.
أما الكيفية فإن قلب المؤمن قد انقطعت علائقه انقطع طمعه وانقطع طلبه للدرك والادراك لكيفية الاتصاف ، فإن هذا لا يعلمه إلا الله جل وعلا ، وهذه قاعدة تقولها في كل صفة .
إذا قيل لك كيف النزول ؟
قل النزول معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .
كيف غضب الله جل وعلا ؟
تقول الغضب معلوم والكيف غير معقول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة .
كيف الاستواء ، كيف الرضا ، كيف الاسف ، كيف الرحمة ، كيف المجيء ، كيف الاتيان ونحو ذلك ، كل هذا هذه معلومة المعنى لكن كيفياتها غير معقولة .
قال هنا (وَلاَ تَمْثِيلٍ)
التمثيل من مثل يمثل تمثيلا إذا جعل للشيء مثالا .
وقد ذكرت لك أن التمثيل في الأصل نوع من التكييف ، لكن هنا أفرده فصار قسيما للتكييف صار التكييف شيئا و صار التمثيل شيئا آخر .
فما المراد بالتمثيل ؟
أن يجعل لصفة الله جل وعلا مثالا يعلمه ، يجعل اتصاف الله جل وعلا باليد على نحو اتصاف المخلوق به ، يجعل اتصاف الله جل وعلا بالغضب على نحو اتصاف المخلوق به ، يجعل اتصاف الله جل وعلا بالنزول على نحو اتصاف المخلوق به .
ولهذا تجد أن كل معطل ممثل ، لأنه لم يعطل إلا وقد استحضر التمثيل قبل أن يعطل .
فإذا سألت المعطل الذي نفى لم عطلت ؟
لم قلت في النزول تنزل رحمة الله ؟ لِمَ لَمْ تقل ينزل الله كما أخبر النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بذلك الذي هو أعلم الخلق بربه ؟
قال هذا غير معقول ، هذا يستحيل ، كيف ينزل هذا يقتضي التشبيه فهو استحضر أو ظن أن ظاهر النص هو التمثيل فمثل أولا ثم نفى ثانيا .(32/47)
ولهذا يقول العلماء كل محرف أو معطل لنصوص الصفات فقد مثل وعطل ، فالممثل والمكيف خير من المعطل لأنه إنما وقع في شر واحد وبدعة واحدة وهي التمثيل والتكييف ، أما المعطل المحرف النافي للصفات فقد مثل باطنا ثم عطل ظاهرا .
قام بقلبه التمثيل أن الله جل وعلا في هذه الصفة مثل المخلوق ، كيف يد الله جارحة ، يتكلم كيف بحرف وصوت معنى ذلك يلزم لسان ولهاة وإلى آخره فاستحضر التمثيل يعني ظن ، فهم من النص أنه يدل على التمثيل فمثل ثم بعد ذلك نفى هذا وعطل نسأل الله جل وعلا العافية .
قال هنا (وَلاَ تَمْثِيلٍ) ولهذا التمثيل من فعل المجسمة ، كذلك التكييف من فعل المجسمة والمجسمة والمعطلة أعداء لأهل السنة والجماعة ، لأن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالنصوص لا يمثلون ولا يجسمون ولا يعطلون ولا يحرفون بل يثبتون النصوص على ما دلت عليه كما سيأتي بيان ذلك في عقيدتهم في نصوص الصفات التي سيسوقها شيخ الاسلام رحمة الله جل وعلا الواسعة عليه .
قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر هذا قال (بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ)
بل هذه للإضراب إضراب عما سبق إلى الآن ، والإضراب نوعان :
- قد يكون إضراب لغرض - وقد يكون إضراب للانتقال من كلام إلى كلام .
والذي في القرآن من الإضراب الإضراب الانتقالي .
وهنا يعني به الإضراب الانتقالي قال (بَلْ يُؤْمِنُونَ) أضرب عن الكلام السالف يعني عن تفصيله وعن تدقيق الكلام فيه وتنويع الكلام فيه ودخل في كلام آخر .(32/48)
قال (بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ ?ِلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ )نؤمن بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير كما أخبر الله جل وعلا بذلك عن نفسه في سورة الشورى فقال ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? وقال جل وعلا ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ? وقال سبحانه ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً? وقال جل وعلا ?فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ? يعني لا تضربوا لله الأوصاف والنعوت إن الله يعلم ما يصف به نفسه وأنتم لا تعلمون كيف تصفون الله جل وعلا .
هذه الآية وهي قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? فيها النفي والاثبات .
نفى بقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? وأثبت بقوله ?وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? .
وهذه قاعدة عظيمة أخبر الله جل وعلا بها ومعنى ذلك أن هذا الدين وأن هذا الايمان بالصفات مبني على النفي والإثبات .
نفيٌ كما نفى الله بقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? وإثبات كما أثبت الله بقوله ?وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?
يظهر من الآية أن النفي جاء فيها مجملا وأن الإثبات جاء فيها مفصلا ، فقال سبحانه ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? نفي مجمل بدون تحديد هذا النفي .
المبتدعة يعكسون القاعدة فيجعلون النفي مفصلا ويجعلون الإثبات مجملا ، والله جل جلاله جعل النفي مجملا والاثبات مفصلا قال ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? كل ما [ يطلع ] في الذهن فلا يصح أن يكون الله جل وعلا مثله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ ? .
الإثبات مفصل ?وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?
هنا في قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? الكاف هذه مما تكلم فيها العلماء ، ولتقريرها فائدة في العقائد(32/49)
وذلك أن قوله تعالى ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? (شيء) اسم ليس .
سبك الكلام ليس شيء كمثله .
الكاف هنا هذه ما نوعها ؟ معنى الآية يتوقف على فهم معنى الكاف هنا .
?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? ، الكاف هذه لأهل العلم فيها وجهان :
- قال طائفة من أهل العلم إن الكاف هنا صلة وهي الزائدة لإفادة تكرير الكلام والجملة مرتين أو أكثر ، واللغة العربية فيها زيادة الحرف لمزيد تأكيد الكلام كما قال جل وعلا ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ? يعني فبرحمة من الله لنت لهم (ما) هنا مزيدة لتوكيد الكلام ، ما معنى التوكيد هنا
تكرار الجملة لتعظيم شأنها ، قال فبرحمة من الله لنت لهم فبرحمة من الله لنت لهم .
هنا إذن على هذا تكون الكاف صلة يعني زائدة لتأكيد المعنى ، قال ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? يعني ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء وهو السميع البصير .
فالعربي يفهم من هذه الصلة ومجيء الكاف هنا أن الجملة كررت عليه أكثر من مرة وهذا من أسرار اللسان العربي .
قال ?لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة? (لا)هذه صلة ، معنى الكلام أقسم بيوم القيامة أقسم بيوم القيامة أقسم بيوم القيامة ، ?وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ? وأقسم بالنفس اللوامة أقسم بالنفس وهكذا ، فإذن مزيد الحرف لمزيد التأكيد ، فقوله هنا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? هذه للتأكيد ومجيء الكاف للتأكيد بخصوصها هذا معروف في اللغة ومنه قول الشاعر :
حبا لغيرك ما أتتك رسائلي لو كان في قلبي كقدر قلامة
وهنا قال إذن ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? فصار المعنى ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء وهو السميع البصير ، وهذا المعنى وهذا الوجه هو الصحيح وهو الراجح عند العلماء المحققين .
- الوجه الثاني أن تكون الكاف بمعنى مثل ، فيكون المعنى ليس مثلَ مثلِه شيء ـ ما فيها تأكيد ـ وهو السميع البصير .(32/50)
ونفي مثل المثل فائدته استحالة وجود المثل وليس كما ظُن أن فيه إثبات لوجود المثل .
يعني صُرف النظر عن المثل إلى مثل المثل إبعادا لوجود المثل .
لكن هذا فيه نوع ضعف مع أن كثيرا من العلماء قال به ، ومجيء الكاف بمعنى مثل كثير ومنه قوله جل وعلا في سورة البقرة ?ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً? لما عطف (أشد) على موضع الكاف دلنا على أن الكاف ليست بحرف بل هي اسم لأن الاسم لا يعطف على حرف .
قال هنا (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)
هذا إثبات ، إثبات مفصل فصل الاثبات قال ? السَّمِيعُ البَصِيرُ?.
والسميع اسم من أسماء الله ، البصير اسم من أسماء الله .
وأسماء الله جل وعلا تدل على ذاته دلالة الاسم على المسمى على الذات وفيها الصفة .
السميع اسم لمن كان ذا سمع ، والبصير اسم لمن كان ذا بصر .
ففيها إثبات السمع والبصر لله جل وعلا .
ما فائدة إثبات السمع والبصر هنا ؟
قال العلماء في هذا حكمة وفائدة عظيمة وهو أنه نفى أولا بقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? ثم أثبت هذين الاسمين لله المتضمنين لصفتي السمع والبصر ، وسبب ذلك أن صفة السمع والبصر من الصفات التي تشترك فيها أكثر المخلوقات الحية ذات الروح مهما صغر من فيه حياة من ذوي الأرواح أو عظم فعنده سمع وبصر ، فانظروا إلى النملة عندها سمع وبصر ?يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ? عندها سمع سمعت وتبصر طريها تبصر أمرها ، البعوضة كذلك لها سمع ولها بصر ، الدواب لها سمع ولها بصر ، الانسان له سمع وله بصر ، فصفتا السمع والبصر من أكثر الصفات اشتراكا بين المخلوقات الحية ذوات الأرواح .
فإذا كان ثم توهم في المماثلة فليكن توهم للماثلة في اتصاف هذه المخلوقات بصفة السمع والبصر .(32/51)
فهل بصرك أيها الإنسان وسمعك من مثل بصر النملة وسمعها ؟ لا ، أن ثم قدرا مشتركا في السمع بين البعوض والإنسان وفي البصر بين البعوض والإنسان لكن تختلف كيفيته تختلف حقيقته يختلف عظمه وتعلقه ، كذلك السمع الإنسان يسمع من مسافة بعيدة المخلوق الصغير الذباب والبعوض هذا يسمع لأقل وهكذا فإذا كان كذلك دل على أن إثبات السمع والبصر في المخلوقات هو إثبات وجود لا إثبات مساواة وهذا متصل بقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? ، فإذن إثبات هاتين الصفتين لله التي عظم اشتراك المخلوقات مع الله جل وعلا في اسم الصفة وفي بعض معناها أن هذا ليس من جهة التمثيل في شيء .
ففيه أعظم رد على الذين توهموا أن إثبات الصفات فيه تمثيل وفيه تجسيم ، ظاهر هذا ؟
*هنا تنبيه : وهو أن التمثيل يختلف عن التشبيه ، التمثيل أن يُجعل الشيءُ مماثلا للشيء في صفة كاملة أو في الصفات كلها ، نقول : محمد مثل خالد إذا كان محمد مثل خالد في جميع الصفات أو في صفة كاملة ، محمد مثل خالد في الكرم يعني يماثله تماما .
أما المشابهة فهي اشتراك في بعض الصفة أو في بعض الصفات .
قال بعض العلماء أو في كل الصفات ، يعني جعلوا التشبيه أوسع من التمثيل .
يعني بعض العلماء جعل التمثيل أوسع من التشبيه .
ولهذا فإن نفي التشبيه ، إذا نُفِي في نصوص العلماء أهل السنة والجماعة فإنما يعنون به التشبيه الذي هو التمثيل .
المماثلة في صفة كاملة أو المماثلة في الصفات .
أما التشبيه الذي هو اشتراك في جزء المعنى فإن هذا ليس مرادا لهم لأنهم يثبتون الاشتراك ، فالله جل وعلا له سمع وللمخلوق سمع وهناك اشتراك في اللفظ وفي جزء المعنى .
فالسمع معناه معروف في اللغة لكن من حيث تعلقه بالمخلوق يختلف عن جهة تعلقه بالخالق .(32/52)
ولهذا فإننا نقول في الصفات هنا كما قال ومن غير تكييف ولا تمثيل وإذا قيل من غير تشبيه فإنهم يريدون بالتشبيه التمثيل وهذا مستعمل عند العلماء أنهم ينفون التشبيه ويريدون به التمثيل .
قال هنا (فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ)
يعني بل يثبتون ما وصف الله جل وعلا به نفسه ، ولا ينفون عنه صفة وصف بها نفسه .
(وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) وقد بينت لكم معناه عند شرح كلمة التحريف .
قال (وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ)
الإلحاد في أسماء الله الميل بها والعدول بها عن حقائقها وعما يليق بها .
وأصله في اللغة من لَحَدَ وألحد إذا مال ، ألحد فلان في الطريق يعني مال في الطريق ، وهذا اللحد الذي هو جانب القبر الذي يوضع فيه الميت لحد لأنه أُمِيلَ به عن سمت الحفر .
والإلحاد في أسماء الله هو الذي جاء في قوله تعالى ?وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ? يعني يميلون بها عما يليق بها ، وهذا الإلحاد وهو الميل قد يكون :
" بصرفها عن ظواهرها التي دلت عليه .
" وقد يكون بترك التعبد بها .
" وقد يكون بتحريفها فالمشركون سموا العزى من العزيز ، وهذا إلحاد وسموا اللات من الله أو من الإله وهذا من الألحاد ونحوا ذلك ، سموا مناة من المنان كما هي بعض الروايات وهذا كله من الإلحاد .
" ترك دعاء الله جل وعلا بأسمائه هذا من الإلحاد .
هنا مراده نوع من ذلك الإلحاد وهو صرفها عن معانيها اللائقة بها ، لأنه ميل بها وعدول عن اللائق بها والواجب أن يُسلَك في الأسماء والصفات وآيات الله جل وعلا ما يليق بها لا أن يمال عما يليق بها ويعدل عن حقائقها التي تليق بالله جل وعلا .(32/53)
قال (وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ)
وهذا جاء مقررا فيما سبق ونقف عند هذا ونسأل الله جل وعلا لنا ولكم الهدى والرشاد والانتفاع بما سمعنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ؛ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ.
ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى؛ فَإنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلاً، وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ.
ثُمَّ رُسُلُه صَادِقُونَ مُصَدَّقُون؛ بِخِلاَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَلِهَذَا قَالَ: ?سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180)وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181)وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[الصافات:180-182]، فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ؛ لِسَلاَمَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ.
فَلاَ عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةٌ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصَالِحِينَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم(32/54)
الحمد لله والثناء على الله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
قال شيخ الاسلام رحمه الله تعالى في هذه العقيدة المختصرة المباركة التي نسأل الله جل وعلا أن ينفعنا جميعا بها وأن يتقبل منا اعتقادنا لما فيها وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه .
قال رحمه الله تعالى في وصف أهل السنة والجماعة :
فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ
لا ينفون عنه ما وصف به نفسه كما نفى عنه الصفات التي وصف بها نفسه طوائف الضلال من الجهمية والمعتزلة والرافضة والكلابية والكرامية والأشعرية والماتريدية ونحو ذلك فإن كل طائفة من هؤلاء نفت عن الله جل وعلا إما جميع الصفات وإما بعض الصفات .
والذين ينفون عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه :
- إما أن يكونوا من الذين ينفون أكثر الصفات وهؤلاء يقال لهم النفاة ، نفاة الصفات كالجهمية والمعتزلة .
- وإما أن يثبتوا منها سبعا أو عشرين أو ثمانيا كحال الماتريدية وهؤلاء قد يقال في حقهم الصفاتية لأنهم يثبتون من الصفات أكثر مما أثبت أصولهم وهم المعتزلة والجهمية .
فالكلابية تثبت من الصفات أكثر مما أثبت المعتزلة وكذلك الأشاعرة والماتريدية .
ولهذا قد يقال لهؤلاء : الصفاتية في مقابلة النفاة كما يذكر ذلك كثير من علماء أهل السنة ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
وهؤلاء جميعا (سواء كانوا من النفاة أم كانوا من الصفاتية) فهم ينفون عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه .
وهذا النفي قد يكون نفيا للصفة بالكلية وقد يكون نفيا لمعناها بتأويلها بغير معناها وبحمل الظاهر فيها على غير ما دلت عليه ظاهر النصوص .
هؤلاء ينفون يعني أن مآل حالهم النفي ، سواء نفوه أصلا أو نفوا معناه الذي دل عليه الظاهر .(32/55)
فالذين نفوا أن الله جل وعلا متصف بالرحمة اللائقة به هؤلاء نفوا الرحمة ولو قالوا إن معنى الرحمة إرادة الإحسان ، ونثبت الرحمة بتأويل ، هؤلاء أيضا ينفون .
وأما أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون المعاني التي اشتملت عليها ألفاظ الصفات على ما يليق بالله جل وعلا على قاعدة ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? .
يثبتون اللفظ ويثبتون ما في اللفظ من الصفة ويثبتون ويوقنون ويؤمنون بما دل عليه اللفظ من الصفة ويعلمون أصل معنى هذه الصفة لأنها بلسان عربي مبين ، ثم هم مع ذلك يعني أهل السنة والجماعة يقطعون الطمع عن إدراك الكنه وعن إدراك الكيفية يعني عن إدراك كل المعنى وعن إدراك الكيفية
فإذن أهل السنة لا ينفون عن الله ما وصف به نفسه بل يثبتون لله جل وعلا ما وصف به نفسه .
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك (وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ)
لأن الذين يحرفون الكلم عن مواضعه هم اليهود كما وصف الله جل وعلا طوائف اليهود بذلك بقوله ?مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ?
ومعنى تحريف الكلم عن مواضعه بحمله على غير ما دل عليه .
والتحريف أصله العدول باللفظ عن معناه إلى غيره أو العدول بالمعنى عن أصله إلى غيره ، يعني إلى غير الأصل .
إما أن يقول إن اللفظ هذا معناه لفظ آخر كمن حرَف استوى إلى استولى .
أو ينفون المعنى ويثبتون معنى آخر .
وهؤلاء هم الذين يؤولون الصفات الفعلية وبعض الصفات الذاتية بما أثبتوا من الصفات العقلية كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى .
?يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ? يُعنى به الكلمات الشرعية الدينية التي هي في باب الأخبار عن الله جل وعل .
وتحريف الكلم عم مواضعه هذا حرام وقد يكون كفرا وقد يكون كبيرة وقد يكون معصية وقد يكون خطأ يعذر فيه صاحبه .(32/56)
وهو إذن أقسام فليس كل تحريف كفرا بل قد يكون كفرا وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب وقد يكون معصية وقد يكون خطأ وتفصيل هذا وأمثلته تأتي في مواضعها في الرسالة إن شاء الله تعالى .
قال بعد ذلك (وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ)
الإلحاد مر معنا وهو أنه الميل ولهذا سمي اللحد لحد القبر لحدا لأنه مائل عن سمت القبر عن سمت الحفر فيه ميول فالإلحاد الميل ، ألحد يعني مال .
الملحد المائل عن الحق إلى غيره ، وفي الاصطلاح الملحد هو من مال عن الإيمان إلى الكفر .
قال (لاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ) يعني أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالأسماء - أسماء الله - وبالآيات وما اشتملت عليه الآيات من الأسماء والصفات ولا يميلونها ولا يخرجون بها عن حقائقها اللائقة بها إذ إن صراط الأسماء المستقيم وصراط الآيات المستقيم أن يؤخذ بها بما دلت عليه ألفاظها من المعاني ويُثبَت ذلك لله جل وعلا .
فإذا حُرِفَ ذلك فإن هذا من الإلحاد ، بمعنى أنه إذا نفى صفة أو نفى اسما من أسماء الله فإن هذا من جنس الإلحاد في أسمائه وصفاته وقد قال الله جل وعلا في محكم كتابه ?وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ?
والإلحاد في أسماء الله وصفاته أنواع سبق ذكرها .
قال هنا (وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ)
التكييف مر معنا معناه والتمثيل مر معنا معناه .(32/57)
إذن أهل السنة والجماعة تميزوا عما سواهم بهذه الخصائص أنهم يثبتون لله جل وعلا ما أثبته لنفسه ولا ينفون عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه ولا ينفون عن الله جل وعلا ما وصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لأن سبيلهم ليس هو سبيل الزائغين الضالين المغضوب عليهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه من الذين شابهوا اليهود أو الذين يلحدون في أسماء الله وآياته الذين شابهوا المشركين ، وإنما يؤمنون بالأسماء والصفات على حقائقها اللائقة بالله جل وعلا .
انتهى الشريط الثاني من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثالث
إذن أهل السنة والجماعة تميزوا عما سواهم بهذه الخصائص أنهم يثبتون لله جل وعلا ما أثبته لنفسه ولا ينفون عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه ولا ينفون عن الله جل وعلا ما وصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لأن سبيلهم ليس هو سبيل الزائغين الضالين المغضوب عليهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه من الذين شابهوا اليهود أو الذين يلحدون في أسماء الله وآياته الذين شابهوا المشركين وإنما يؤمنون بالأسماء والصفات على حقائقها اللائقة بالله جل وعلا .
ثم بين العلة في ذلك فقال (لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ ، ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى)
هذا تعليل لما سبق ، لِمَ لمْ ينفِ أهل السنة والجماعة عن الله ما وصف به نفسه ؟
قال (لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ) .(32/58)
فإذن الصفات والأسماء وإن كان ظاهر المعنى قد يقتضي المشابهة ، فإن إثبات الأسماء لله جل وعلا وإثبات الصفات لله جل وعلا إثبات لها بإثبات اللفظ وإثبات المعنى الذي دل عليه اللفظ على ما يليق بالله جل وعلا ، وأما الاشتراك في بعض المعنى فإن هذا لا ينفيه أهل السنة والجماعة لأن الله جل وعلا هو الذي وصف نفسه بذلك كما سيأتي من قوله (فَإنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ) .
فهو جل وعلا الذي سمى نفسه السميع وسمى المخلوق بالسميع .
وبين السميع والسميع قدر مشترك من المعنى ، وهذا المعنى هو أصل السمع .
والسمع الذي في المخلوق يناسب ذاته والسمع الذي لله جل وعلا يناسب ذاته .
وهذا على أصل القاعدة المقررة وهي أن القول في الصفات كالقول في الذات يُحتذى فيه حذوه ويُنهج فيه منهاجه ، لأن الصفة ،كل صفة تناسب الموصوف فسمع المخلوق يناسب ذاته وسمع الله جل وعلا يناسب ذاته .
ما بين الصفتين من القدر المشترك هذا هو ما يجمعهما في أصل اللغة في المعنى العام أما المناسبة للذات فهذه لخارج الأصل العام .
ولهذا فإن لله جل وعلا من الصفات أكملها وله من كل صفة كمال أكمل تلك الصفة وأعظمها وأشملها أثرا وأعمها متعلقا .
وهذا لا يعني بحال المماثلة ، وإنما القدر المشترك في أصل المعنى هذا لا ينفيه أهل السنة لأن الله جل وعلا أنزل القرآن بلسان عربي مبين ومعنى ذلك أن الكلمات التي فيها ذكر الأسماء والصفات أنها تفهم باللغة وهذا سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى .
قال (لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ)
يأتي بيان معنى (سبحان) عند الآية وهي قوله ?سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ?
قال (لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ) هذه الألفاظ الثلاثة السمي ، والكفؤ ، والند ، هذه جاءت في القرآن وهي متقاربة المعنى .(32/59)
قال جل وعلا ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا? وقال سبحانه ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ? وقال سبحانه ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ? .
فالله جل وعلا لا سمي له لأنه قال ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا? وهذا فيه الإنكار ، لأنه قال ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا? والاستفهام إذا أتى بعده جملة يراد إبطالها فإنه يكون للإنكار وإذا أتى بعده جملة يراد إثباتها صار الاستفهام للتوبيخ أو للحث أو نحو ذلك من المعاني المقررة في علم العربية .
هنا قال ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا? هذا فيه النفي يعني لا يعلم له سمي بل إنكار أن يُعلم له سمي سبحانه وتعالى ، فلا أحد من خلقه يعلم لله جل وعلا سميا .
والسمي هو المثيل والشبيه والنظير كما فسرها ابن عباس رضي الله عنه وغيره .
وكذلك الند ، الند هو المثيل والنظير كما ذكر ابن جرير عند آية البقرة عند قوله ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً? ، قال : الأنداد جمع الند ، والند هو المثيل والنظير واستشهد لذلك بقول حسان بن ثابت :
فشركما لخيركما الفداءُ أتهجوه ولست له بند
وتروى : أتهجوه ولست له بكفؤ .
فهذا الند والكفؤ والمثيل والسمي هذه كلها معانيها متقاربة ولا ترادف بينها لكن المعاني متقاربة
وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان معانيها عند الآيات التي سيوردها الشيخ رحمه الله تعالى بعد ذلك .
قال (ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى)
هذه الكلمة من شيخ الاسلام إبطال لأصلٍ أصله الجهمية ، وأصله المعتزلة ، يعني أصله أهل الكلام
أهل البدعة الذين شقوا صف الجماعة في باب الأسماء والصفات بل وفي باب القدر قالوا إن الله جل وعلا يقاس بخلقه
ما معنى القياس ها هنا ؟
يعني أنه ما نفته العقول نفيناه وما أثبته العقل وأثبتته العقول أثبتناه .(32/60)
وبناء على هذا نفوا عن الله جل وعلا أكثر الصفات الذاتية فقالوا إن إثبات الوجه لله جل وعلا يقتضي التجسيم والعقل ينفي هذا .
ينفي أن يتصف الله جل وعلا بهذا لأن الوجه أبعاض وأجزاء والله جل وعلا ليس على ذلك .
قالوا إن الله جل وعلا لا يتصف بأن له يدين وذلك لأن اليد جارحة ، ما الدليل ؟
القياس العقلي ، وهكذا في سائر الصفات .
نعم إن أهل السنة أثبتوا ما أثبته القرآن من القياس وسيأتي ذلك في موضعه لكن ليس هو كل أنواع القياس .
قال هنا (ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ) يعني في جميع الصفات التي اتصف الله جل وعلا بها فإنما نثبتها مع قطع القياس وقطع المماثلة مع الخلق مع الخلق .
فنحن نثبت لله جل وعلا الوجه وليس وجه الله جل وعلا كوجه الإنسان أو كوجه مخلوق من مخلوقاته ، نثبت لله جل وعلا اليدين وليست اليدان لله جل وعلا كيدي بعض مخلوقاته ، نثبت لله جل وعلا العينين وليست العينان لله جل وعلا كعيني بعض مخلوقاته وهكذا ، نثبت لله جل وعلا استواء يليق بجلاله وليس استواؤه كاستواء خلقه ، نثبت لله جل وعلا النزول كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه جل وعلا وليس نزول الرحمن جل وعلا كنزول خلقه .
وهذا كله على هذه القاعدة لأنه سبحانه (لاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ) .
وإنما كما ذكرنا من القاعدة أن القول في الصفات كالقول في الذات .
كما أن الله جل وعلا لا تشبهه ولا تماثله شيء من الذوات فكذلك أسماؤه في عموم معناها وكُنْهِ اتصاف الله جل وعلا بها ، وكيفية الاتصاف وأثر ذلك الأسماء .
كذلك لا يقاس هذا بخلق الله جل وعلا في أسمائهم إلى غير ذلك من الأصول العظيمة .
ثم ذكر تعليلا آخر للاتباع فقال (فَإنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ)
لِمَ اتبعنا على هذا الوجه من التسليم ؟
لِمَ لم ندخل في هذا الأمر بالقياس وبالعقل وبما أصله طوائف ممن يسميهم أولئك الحكماء ؟(32/61)
لأن الله جل وعلا هو الذي وصف نفسه بذلك وهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره .
هل تعلمون ذلك منه ؟ هل تعلمون كيف اتصف الله بصفاته ؟
هل يعلم المبتدعة والمؤولة والمحرفة كل المعنى الذي تحمله الصفة ؟
الجواب لا
وإذا كان كذلك فبطلت دعوى المجاز وبطلت دعوى التأويل الذي يصرف الألفاظ عن ظاهرها .
فإن الله جل وعلا أعلم بنفسه .
وهذا الباب باب الأسماء والصفات أعظم الأبواب التي يدخل منها الإيمان إلى القلب .
وإذا كان كذلك إذا كان كذلك فالله جل وعلا لا يبين للعباد من ذلك إلا ما فيه نفعهم .
ولو وقع في الأسماء والصفات في الآيات والأحاديث لو وقع ألفاظ لو جاءت ألفاظ لا تراد ظواهرها من ذلك لوقع عند الناس الاشتباه في هذا الأصل العظيم وهو الإيمان بالله ، لأن الله جل جلاله إنما خضع له العباد وذلوا وعبدوه وأحبوه ورغبوا إليه ورهبوا منه وخافوه ورجوه كل ذلك لشهودهم آثار أسمائه وصفاته ولإيمانهم بأسمائه جل وعلا وصفاته ونعوت جلاله وأنواع توحيده .
فإنهم ما رأوا ذاته جل وعلا وإنما عَلِموه جل وعلا بما علموا من الأسماء والصفات .
وإذا كان كذلك كان محالا أن يبقى هذا الباب ملتبسا على الخلق أو تُذكَر فيها ألفاظ يمكن فيها الاجتهاد كألفاظ الفقه ،كالآيات التي فيه أحكام فقهية أو الأحاديث التي فيها أحكام فقهية التي تحتمل أكثر من معنى في بعضها .
هذا الباب باب الأسماء والصفات محال أن يبقى فيه اللفظ محتملا وذلك لأنه لا مدخل فيه للاجتهاد
وإذا كان فيه مدخل للاجتهاد فمعنى ذلك أن فيه سبيلا لإضلال الناس ، والله جل وعلا إنما عرّف العباد بأسمائه وصفاته وأعلمهم بذلك ليكونوا في هذا الأصل العظيم على يقين وعلى ثَبَت وعلى إدراك تام لصفاته جل وعلا وما دلت عليه من المعاني ، وبهذا تخضع قلوبهم له وتذل قلوبهم له وتألهه جل وعلا محبة وانقيادا وتعظيما .(32/62)
قال هنا (فَإنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ) والعطف هنا في قوله (وبغيره) مهم لأن أولئك النفاة قاسوه جل وعلا بخلقه .
والقياس ممتنع لأن الله أعلم بنفسه فيما وصف به نفسه وأعلم بغيره الذين وصفهم بصفات يشتركون في ألفاظها مع صفات الله جل وعلا ويشتركون في جزء المعنى مع الله جل وعلا - يعني مع صفات الله وأسمائه جل وعلا - .
فهو أعلم بنفسه وما يصلح له وما يليق به جل وعلا ، وأعلم بخلقه وما يصلح لهم وما يليق بهم.
وهو جل وعلا وصف نفسه بالصفات ووصف خلقه .
سمى نفسه بالأسماء وسمى خلقه وهو أعلم بنفسه وبخلقه .
فلو كان مجال القياس واردا كما ادعوه ولو كانت الشبهة ووقوع التمثيل والتجسيم كما ادعوه واردا لكان في هذا إلباسا على متلقي هذا الدين ومتلقي القرآن ليؤمن به ، والله جل وعلا وصف آياته بأنها صدق وعدل فقال سبحانه ?وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً? وفي القراءة الأخرى ?وَتَمَّتْ كَلِماتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً? وهي صدق في الأخبار وعدل في الأحكام.
ولهذا فإن الله جل وعلا لما كان أعلم بنفسه وبغيره يعني وبخلقه فإنه يُتلقى ما سمى به نفسه وما وصف به نفسه بالتسليم العظيم لأنه لا أحد أعلم بالله من الله ولا أحد أعلم بالله من خلقه من رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
قال بعده (وَأَصْدَقُ قِيلاً)
كما قال سبحانه ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً? وقال (ومن أحسن من الله حديثا) 1
فالله جل وعلا لا أحد أصدق منه قيلا بل هو جل وعلا الذي كلماته صدق في أخباره إذا أخبر عن نفسه فهو صدق وحق ، وإذا أخبر عن أسمائه فهو صدق وحق وإذا أخبر عن صفاته فهو صدق وحق وإذا كان كذلك فمعناه أن دعاوى أولئك كلَها باطلة .
قال (وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ)
ثم قال رحمه الله تعالى (ثُمَّ رُسُلُه صَادِقُونَ مُصَدَّقُون)(32/63)
الرسل جمع رسول وهم الذين أوحي إليهم بكتاب وأمروا بتبليغه إلى قوم مخالفين كما مر معنا في أول هذه الرسالة .
(صادقون) صادقون جمع الصادق والصادق اسم لمن قام به الصدق ، والصدق مطابقة الخبر للواقع كما قال : والصدق أن يطابق الواقع ما تقوله ………
إذا طابق الواقع ما تقوله فهذا هو الصدق ، إذا خالف الواقع ، إذا خالف ما تقوله الواقع ، أو خالف الواقع ما تقوله فإن هذا يعد كذبا سواء كان خطأ أو كان متعمدا ، هذا في الاصطلاح .
ورسل الله جل وعلا صادقون يعني قام بهم الصدق ، لم يخبروا بشيء من أسماء الله جل وعلا وصفاته ولا من دينه إلا وقد طابق الواقع .
فهم لم يذكروا شيئا عن الله جل وعلا لا يطابق الواقع بل ما وصفوا الله جل وعلا به هذا يطابق الحال .
وصف الرسل ربهم جل وعلا بأنه استوى على العرش فقال موسى لفرعون ذكر أن ربه جل وعلا هو الأعلى فقال فرعون ?يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى? فهذا العلو نفاه فرعون .
ورسل الله مجمعون على إرشاد الناس وتبيين تلك الصفات لهم .
فهو جل وعلا له الصفات وأخبر رسله بما له من الصفات ورسله أخبروا الخلق بذلك وهم صادقون في ذلك .
فمن نفى صفة فقد كذب الرسول ، هذا حقيقة حاله .
لكن قد يكون التكذيب له وجه من العذر فلا يكون كافرا بذلك .
(رسله صادقون مصدوقون ...[1]
قال هنا (بِخِلاَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ)
القول على الله بلا علم حرام ، سواء أكان القول في الأسماء والصفات في العقائد أو في الأحكام العملية ، يعني سواء أكان في الأحكام الخبرية التي هي العقائد أو في الحلال والحرام وهي الأحكام العملية .
القول على الله بلا علم أشد المحرمات ولهذا عنه تفرع كل ضلال ، وقد ذكر الله جل وعلا تحريمه في عدة آيات في كتابه جل وعلا .
مَن هم الذين قالوا على الله ما لا يعلمون ؟(32/64)
قالها كل مخالف للرسل .
فإن مشركي العرب مثلا وصفوا الله جل وعلا بخلاف ما قاله الرسل بخلاف ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام ، وأخبروا عن أسماء الله جل وعلا بخلاف ما جاءت به الرسل وعن صفات الله جل وعلا بخلاف ما جاءت به الرسل ، بل أثبتوا لله صفات ونفوا أسماء بما عندهم .
فقال الله جل وعلا عنهم ?وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ? وهذا قول على الله بلا علم .
وقال عن اليهود ?لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء? وأخبر أنهم قالوا ?يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ? وهذا كله في باب الأسماء والصفات ، قالوا على الله ما لا يعلمون .
ورث هذا القول منهم من أولئك طوائفُ الضلال .
فالجهمية ومن تفرع عنهم من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء ، كل طائفة أثبتت لله أسماء ونفت صفات من عقولهم ومن آرائهم بلا دليل .
فجعلوا من أسماء الله جل وعلا وصفاته الصفات السلبية مثل القديم ونحو ذلك مثل الموجود .
فجعلوها من الأسماء ومن الصفات .
والمعتزلة بل الجهمية قبلهم نفوا أن يكون لله جل وعلا أسماء فيها صفات .
فيفسرها الجهمية ، يفسرون الأسماء بالمخلوقات المنفصلة .
والمعتزلة يفسرون الأسماء بالذات التي ليس فيها صفة ، فيجعلون دلالة السميع هي دلالة العليم هي دلالة البصير دلالة على الذات بدون المعنى فتكون عندهم من قبيل المترادف المحض لأنها دالة على ذات بلا معنى .
وهذا كله قول على الله بلا علم ، هذه بلا شك جمل من الكلام وعرض عام سيأتي تفصيله بدقته وبتحريراته في مواضعه من هذه الرسالة .
قال هنا (َلِهَذَا قَالَ ?سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ)(32/65)
وقوله هنا (سُبْحَانَ رَبِّكَ) سبحان هذا مفعول مطلق ، يعني أسبح سبحان ، وأصله في اللغة معناه الإبعاد ، يقولون سبحان فلان من كذا يعني : بعد فلان من كذا ، وقد قال الشاعر :
سبحان من علقمة التفاخر أقول لما جاءني فخره
يقول : أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة يعني : بعيد جدا أن يكون لعلقمة من يفخروا به
وتسبيح الله (سبحان الله) معناها تنزيه الله عن كل نقص وعيب وسوء ,
وموارده في الكتاب والسنة خمسة :
" تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في الربوبية كما ادعاه الملحدون .
" تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في الألوهية كما ادعاه المشركون .
" تنزيه الله جل وعلا في أسمائه وصفاته أن تسلب معانيها اللائقة بها وتنزيه الله جل وعلا في أسمائه وصفاته عن مماثلة المخلوقين لها .
" تنزيه الله جل وعلا - هذا الرابع - تنزيه الله جل وعلا في أمره الكوني وقدره الكوني عن أن يكون بلا حكمة أو أن يكون عبثا كما ادعاه من قالوا خلقنا الله عبثا ، ومن نفوا الحكمة في الخلق والإيجاد وتقدير الأشياء .
" والخامس وهو الأخير : تنزيه الله جل وعلا في شرعه وأمره الديني عن النقص وعن منافاة الحكمة .
فالله جل وعلا ينزه نفسه بقوله ?سُبْحَانَ رَبِّكَ? يعني تنزيها لله من كل سوء ادعاه المخالفون للرسل ، وهم ادعوا الشركة له في الربوبية فينزه الله جل وعلى عن الشريك في الربوبية
?سُبْحَانَ رَبِّكَ? يعني تنزيها لله .
إذا قلت في الركوع سبحان ربي العظيم معناه تنزيها لله ربي العظيم عن كل سوء ونقص في هذه المواد الخمسة التي في الكتاب والسنة : في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات وفي الشرع وفي الأمر الكوني والقدر .
قال هنا (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ)(32/66)
(ربك) هنا الإضافة للتشريف ، أضاف الربوبية إلى النبي عليه الصلاة والسلام لتشريفه بها في هذا المقام العظيم وهذا يقتضي أن كلام النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه الذي جحده الجاحدون أنه هو الأكمل وهو الأليق بالله جل وعلا .
ثم قال بعدها ?رَبِّ الْعِزَّةِ??سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ? بمعنى صاحب العزة ، بمعنى ذي العزة ، المتصف بالعزة .
والعزة صفة لله جل وعلا ، ومن أسمائه سبحانه وتعالى العزيز .
والعزيز هو الذي كملت له أوصاف العزة .
والعزة في الكتاب والسنة جاءت ـ يعني التي يتصف الله جل وعلا بها ـ جاءت على ثلاث معان :
" الأول العزة التي هي بمعنى الامتناع والغنى وعدم الحاجة ، الامتناع عمن يغالب أو عمن يسيء والغنى ـ هذه كلها معنى واحد ـ والغنى عن الخلق .
" والثاني العزة بمعنى القهر والغلبة .
" والثالث العزة بمعنى القوة ، طبعا معنى القوة الخاصة ، قوة لا يقوى عليها قوة لا يند عنها شيء
وهذه هي التي ذكرها ابن القيم هذه المعاني الثلاث في النونية
حيث قال في بيان معاني اسم الله العزيز قال رحمه الله :
أنى يُرامُ جنابُ ذي السلطان وهو العزيز فلن يرام جنابه
يغلبه شيء هذه صفتان وهو العزيز القاهر الغلابُ لم
فالعز حينئذ ثلاث معاني وهو العزيز بقوة هي وصفه
............ إلى آخر ما قال وهي التي كملت له سبحانه
هنا ذكر الثلاث ، معاني العزة ، قال (وهو العزيز فلن يرام جنابه) ، وهذا هو الأول وهي عزة الامتناع وهي التي بمعنى الغنى التام والامتناع عن أن يضره أحد كما قال (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) وكذلك عن أن ينفعه أحد امتناع عن أن ينفعه أحد (ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) هذا المعنى الأول
أنى يُرامُ جنابُ ذي السلطان وهو العزيز فلن يرام جنابه
المعنى الثاني قال (وهو العزيز القاهر الغلابُ) العزة بمعنى القهر والغلبة (لم يغلبه شيء هذه صفتان) .
ثم المعنى الثالث وهو العزيز بقوة هي وصفه .(32/67)
أما الثالث وهو العزيز بمعنى ذو القوة الكاملة العظيمة التي لا يقوى عليها شيء فهذه تكون في الكتاب والسنة في فعلها من عَز يعَز بالفتح ، كما قال سبحانه مثلا في سورة يس ?فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ? يعني قوينا وأيدنا بثالث .
وأما العزة بمعنى الامتناع فهذه يأتي فعلها مكسورا عَز يعِز .
وأما القهر والغلبة فيكون فعلها المضارع مضموما عز يعُز عِزة ، المصدر في الجميع عزة ، لكن المضارع يختلف المعنى ، هكذا قرره ابن القيم وغيره ـ العلماء ـ .
......
نعم القهر والغلبة هذه متعدية ، والقوة هذه لازمة .
قال ?عَمَّا يَصِفُونَ? ?سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ? .
وبهذا يصح أن تقول لله جل وعلا بهذا الدليل رب الرحمة ، رب السمع ، رب البصر ، رب العزة ، رب الجمال ، رب النور ، ونحو ذلك بمعنى صاحب يعني المتصف بهذه .
قال (عَمَّا يَصِفُونَ)
يعني عن الذي يصفون ، والمفعول به - الذي هو الضمير - محذوف
يعني (عما) عن الذي يصفونه يعني هو الله جل وعلا به .
ومن هم الواصفون الذين نزه الله جل وعلا نفسه عن وصفهم ؟
هم الذين لم يستجيبوا للرسل .
فقال (وسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)
وذلك لأن المرسلين أنزل الله جل وعلا عليهم السلام , وهو جل وعلا السلام ، من أسمائه السلام ، وهو الذي يعطي السلامة .
وقال هنا عن نفسه ?سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ? فهو الذي جعل الأنبياء والمرسلين أهل للسلامة .
والسلامة متبعضة : هناك سلامة في القول في صحته ومطابقته للواقع ، وسلامة في الفهم ، وسلامة في العبودية ، وسلامة في الاعتقاد ، وسلامة في التبليغ .
فجهات السلامة كثيرة ، والله جل وعلا أعطاها عباده المرسلين .
ولهذا قال هنا ?سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ? وأفاد الإعطاء التعدية بـ(على) قال ?سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ? .
وفي قوله (على) ما يفيد أن السلامة صارت عليهم وقد أحاطت بهم .(32/68)
وهذا في هذا المقام ظاهر الفائدة لأن المرسلين وصفوا الله جل وعلا بالصفات العلا وسموه بالأسماء الحسنى .
وفي هذه السورة التي هي سورة الصافات ذكر الله جل وعلا عن المشركين أنهم استكبروا عن قول لا إله إلا الله فقال فيها ?إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ? وذكر في آخر السورة أنهم جعلوا الملائكة بناتا لله جل وعلا , وهذا فيه وصف لله جل وعلا .
والأنبياء والرسل لم يصفوا الله جل وعلا بذلك بل هم سالمون مسلّمون في أقوالهم وفي أعمالهم وفي تبليغهم ، ولهذا قال هنا ?وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ? لسلامة ما وصفوه به من النقص والعيب وهذا لا شك أنه واسع المعنى .
ثم قال (وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
والحمد مر معنا معانيه كثيرة في أول هذه الرسالة .
وقوله هنا ?لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? هذا فيه فائدة نبهنا عليه مرارا وهو أن هذه الآية دليل على أن الربوبية غير الألهية لأنه قال (الحمد لله)
والمعتمد عندنا أن لفظ الجلالة (الله) مشتق وعليه يكون مشتقا من الألوهة ، لأن الاشتقاق يكون من المصدر .
والرب من الربوبية ، والربوبية إذن غير الألوهية .
و قد قال الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إن اسم الرب والإله من الأسماء التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت ، وذلك إما بدلالة اللفظ أو بدلالة التضمن واللزوم .
قال (رَبِّ الْعَالَمِينَ)
العالمون جمع العالم ، والعالم كل ما سوى الله جل وعلا ، فكل ما سوى الله جل وعلا عالم وسمي عالما من العلامة ، لأنه علامة على أنه مربوب وأن له ربا خالقا , أو من العلم لأن به علم ما لله جل وعلا من الحق والأسماء والصفات كما قال الشاعر :
تدل على أنه الواحد وفي كل شيء له آية(32/69)
قال بعدها شيخ الإسلام (فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ؛ لِسَلاَمَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ)
الله جل علا جمع بين النفي والإثبات في قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?
نفى في قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? وأثبت في قوله ?وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? .
كذلك قال ?اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ? فأثبت ثم قال ?لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ? فنفى
وقال سبحانه ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ? فيها إثبات في هاتين الآيتين ، ثم نفى فقال ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ? .
وهذا فيه بيان لقاعدة أهل السنة والجماعة في ذلك بأعظم وأوضح استدلال بأنهم يجمعون في عقائدهم في الأسماء والصفات بين النفي والإثبات .
وعندهم النفي يكون مجملا كما أجمله الله جل وعلا .
وعندهم الإثبات يكون مفصلا كما فصله الله جل وعلا .
وأما النفي المفصل الذي جاء في القرآن كقوله ?وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا? وكقوله ?لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ? وكقوله ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا? فإن النفي لا يكون كمالا ولا يمدح به المنفي إلا إذا كان النفي يراد به إثبات كمال الضد.
الله جل وعلا نفى عن نفسه الظلم والغرض من ذلك إثبات كمال ضد صفة الظلم وهو العدل .
?وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا? ?وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ? في هذا إثبات لكمال اتصافه بضد الظلم وهو العدل .
وبعض العلماء يسمي هذه الصفات السلبية يعني الصفات المسلوبة عن الله جل وعلا .(32/70)
وما الفائدة من السلب ؟
الفائدة منه أن يثبت كمال ضده ، ?لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ? وذلك لكمال حياته سبحانه .
وقد يكون النفي لإثبات صفة واحدة وقد يكون النفي لإثبات صفتين معا - يعني النفي يكون المراد منه إثبات الصفتين جميعا - .
يدل على ذلك قوله ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ? العجز الذي نفاه الله جل وعلا عن نفسه قال العلماء إما أن يكون لأجل عدم العلم .
عَجَزَ عن الشيء لأجل أنه ليس بعالم به ، وإما أن يكون العجز لأجل عدم القدرة عليه ، لأجل عدم القدرة عليه وغير قادر عليه .
عجزت عن الكتابة لأني غير قادر عليها ، عجزت عن المسير لأني غير قادر عليه .
لكن عجزت عن جواب سؤال لأني غير عالم به .
فقوله هنا في هذا النفي ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ? يراد به إثبات كمال ضد العجز .
وكمال ضد العجز يكون بكمال صفتين :
وهي صفة العلم وصفة القدرة ولهذا قال جل وعلا في آخر هذه الآية قال ?إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا?
قال ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا? .
وقد تقرر أن كلمة (إنه) في القرآن من أساليب التعليل لما قبلها إذا كان خبرا أو أمرا أو نهيا أو حكما أو استفهاما ، يكون ما بعد إن تعليل لما قبلها .
?مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ? ما علة ذلك ؟
قال ?إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا? وهذا فيه ظهور أن النفي هنا أريد به إثبات كمال ضده وهما صفتان صفة العلم وصفة القدرة .
ولذلك وصف الله جل وعلا نفسه بذلك في قوله ?إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا? مع ما في (كان) من إثبات الكمال السابق واللاحق ، وما في قوله ?عَلِيمًا قَدِيرًا? من إثبات الكمال بدلالة صيغة المبالغة عليه .
قال هنا (بينَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ)(32/71)
المبتدعة عندهم عكس ذلك ، عندهم الإثبات مجمل ، نثبت لله صفات الكمال ما هي ؟
عندهم إجمال ، أما النفي فإنه يكون مفصلا .
يقولون الله جل وعلا ليس بذي دم وليس بذي جوارح وليس بذي روح ولا بذي أبعاض ولا هو فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا بذي جهة وليس بداخل العالم ولا خارجه ... الخ .
عندهم النفي كما ترى في كتاب التمهيد وغيره وكتب أهل الكلام ـ التمهيد يعني للباقلاني ـ ترى أنه يأتي في وصف الله في النفي في صفحتين أو أكثر كلها نفي مفصل ، ليس بكذا وليس بكذا وليس بكذا ، وإذا أتى الإثبات أجمله فقال وله صفات الكمال ، ما هي ؟
الصفات التي يثبتونها وهي الصفات السبع العقلية .
قال (فَلاَ عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةٌ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ)
وهذه كلمة عظيمة تدل على أن أهل السنة والجماعة يعني السلف الصالح أنهم تبعوا المرسلين .
و (لا عدول لهم) يعني لا ميل لهم ولا انحراف ، ولا يعدلون لا يوازنون بما جاء به المرسلون شيئا
بل هم متبعون للمرسلين ، وأما غيرهم فهم متبعون للمشركين أو لليهود أو للنصارى أو للملحدين
فكل بدعة في الأسماء والصفات ظهرت في هذه الأمة فإنها لم تُستقى من الأنبياء والمرسلين وحاشاهم من ذلك وإنما أخذت من المشركين وأهل الكتاب .
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام (لتتبعن سنن من كان قبلكم) وبين عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر الذي رواه البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال (إن أبغض الرجال إلى الله ثلاثة) وذكر منهم (مبتغ في الاسلام سنة الجاهلية) .
وإذا رأيت فإن المشركين نفوا عن الله جل وعلا اسما من أسمائه الحسنى فنفوا اسم الرحمن عن الله .
قال سبحانه ?وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ? فورثه النفاة - نفاة الأسماء في هذه الأمة - واتبعوا سبيل أهل الجاهلية فنفوا عن الله جل وعلا الأسماء الحسنى .(32/72)
أولئك وصفوا الله بما لم يصف به نفسه ونفوا عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه من اليهود والنصارى وجعلوا له مثيلا وشبيها فورثهم المجسمة وورثهم المؤولة .
فإذن كل بدعة حصلت في هذه الأمة في أبواب الأسماء والصفات فإنها من ابتغاء سنة الجاهلية ، فإن أهلها إنما أخذوها من اليهود والنصارى والمشركين .
كذلك في باب الإيمان ، الذين قالوا بالجبر إنما أخذوها من الجبرية وهم طائفة كانت قبل النبي عليه الصلاة والسلام موجودة .
كذلك الذين قالوا بالإرجاء ورثوها ممن قبلهم .
وكذلك في أبواب الإمامة ، فإن اجتماع الناس على إمام واحد يطيعونه ويرضونه هذا إنما جاءت به الرسل أما أهل الجاهلية فإنهم يعدون التفرق مفخرة ويعدون الاتباع والطاعة لولي أمر واحد يعدون ذلك مسبة وذلا ، وهكذا ، في أبواب الصحابة ، المشركون يسبون أتباع الرسل ?أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ? وفي هذه الأمة في باب العقائد خالف من خالف في العقيدة في الصحابة في أتباع الرسل فسبوهم .
يعني أن أهل السنة والجماعة تبعوا المرسلين وكل من خالف أهل السنة والجماعة فإنما تبع أهل الجاهلية وهذه جملة يطول تفصيلها .
قال (فَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ)
يعني الطريق الوحيد الموصل لرضا الله جل وعلا .
(صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصَالِحِينَ)
وهذه جملة يؤخذ تفسيرها من الآية ونقف عند قوله (وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ: مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ) أكرر وأقول إن ما ذكر هذا عرض إجمالي لا بد منه - لما ذكر من الكلمات والجمل - .
وأما تفصيل الكلام على الصفات في مواضعها إن شاء الله تعالى وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم(32/73)
الحمد لله الذي ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? حمدا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد :
فهذه الجمل التي سيأتي بيان ما فيها من العلم النافع من كلام شيخ الاسلام والمسلمين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى .
هذه الجمل هي كالتفصيل بل هي تفصيل لما سبق من ذكر مجمل أركان الإيمان فإنه ذكر أركان الإيمان مجملة دون تفصيل ، ولهذا قال بعد أن ذكر أركان الإيمان قال (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
قال (وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ)
يعني أن الإيمان بالصفات ، الإيمان بما وصف الله جل وعلا به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فيما ثبت في السنة أن هذا بعض الإيمان بالله .
وذلك لأن الإيمان بالله جل وعلا متركب من ثلاثة أشياء :
الإيمان بأن الله جل وعلا واحد في ربوبيته ، واحد في إلهيته واحد في أسمائه وصفاته .
فالإيمان بتوحيد الأسماء والصفات هو بعض الإيمان بالله ولهذا قال (وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ) .
وهذه الجملة تفيد أن أهل السنة والجماعة الذين يقررون هذا الاعتقاد أنهم ساعون في تكميل الإيمان بالله بإيمانهم بالأسماء والصفات التي أخبر الله جل وعلا بها عن نفسه وأخبر بها عنه أعلم الخلق بربه النبي محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وذكر ها هنا القاعدة العظيمة في هذا الباب وذلك بقوله (وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) .(32/74)
وهذه تقرير لقاعدة هذا الباب ، وهذا الباب أعني باب الأسماء والصفات سيكون في هذه الرسالة في أكثرها فإنه أطال عليه المؤلف رحمه الله تعالى إطالة لشدة الحاجة إليه ولكثرة المخالفين فيه ولكثرة الاشتباه في هذا الباب .
ذكر قاعدة هذا الباب بقوله (الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) وهذه الجملة نأخذ منها أن هذا الباب إنما عمدته على كتاب الله جل وعلا وعلى السنة التي ثبتت عن المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
فإذن مصدر توحيد الأسماء والصفات إنما هو الكتاب والسنة ، وهذا كما قال أئمتنا رحمهم الله تعالى ومنهم الإمام أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله إذ قال في الصفات (لا نتجاوز القرآن والحديث) يعني في الأسماء والصفات وفي الأمور الغيبية ، لا نتجاوز القرآن والحديث .
فصارت قاعدة أن ما جاء في كتاب الله وما ثبت في السنة أنه يثبت لله جل وعلا من الأسماء والصفات والأفعال وكذلك في الاعتقادات في الأمور الغيبية .
وإذا تقرر هذا وأن القاعدة أن كل ما جاء في الكتاب من صفة الله جل وعلا ومن أسمائه ومن أفعاله أنه يُثبَتُ لله جل وعلا ، وما ثبت في السنة يثبت لله جل وعلا ، إذا تقرر هذا فثم بيان وهو أن ما يوصف الله جل وعلا به مما يكون في كلام أهل العلم مما لم يأت في الكتاب والسنة هذا على أقسام
فإن القاعدة كما ذكرنا أنه لا يتجاوز القرآن والحديث ، ولكن ربما استعمل بعض أهل العلم من أئمة السنة ألفاظا هي داخلة في باب الصفات أو داخلة في باب الأفعال ولم تثبت صفة لله جل وعلا في الكتاب والسنة .
وهذا الباب قال أهل العلم إنه من باب الإخبار، والقاعدة عندهم أن (باب الأخبار أوسع من باب الصفات كما أن باب الصفات أوسع من باب الأسماء) .
وهذا القسم سيأتي إن شاء الله إيضاح هذه القاعدة بعد ذكر بقية الأقسام .(32/75)
وتارة يكون ثَمَ ذكرٌ لصفة من الصفات أو لفعل من الأفعال ولا يصح أن ينسب إلى الله جل وعلا.
فقد يطلق بعض التابعين أو بعض العلماء كلمة لا تصح أن تكون صفة لله جل وعلا .
أطلقوها إما من جهة الاجتهاد أو من جهة الحاجة إليها في زمن معين ونحو ذلك .
وإذا كانت الصفة لا يصح أن يوصف الله جل وعلا بها فإنها ترد لأن قاعدة هذا الباب أن لا يتجاوز القرآن والحديث .
ومن الأقسام في هذا أيضا وهو القسم الثالث أن يكون ثَمَ إطلاق لبعض الكلمات التي فيها وصف لله جل وعلا لكن ليس هناك ظهور في معناها من أنها تحمل معنى صحيحا يصح أن يقال إنه من باب الإخبار عن الله جل وعلا بما ثبت جنسه أو معناه في الكتاب والسنة .
وقد يكون أنها تحتمل المعنى الصحيح أو تحتمل معنىً غير صحيح .
وذلك في مثل تسمية الله جل وعلا بـ (الدليل) مثلا ، فإن بعض أهل العلم سموا الله جل وعلا بذلك من باب الإخبار خاصة في الدعاء من مثل ما أرشد به الإمام أحمد حيث أرشد من يدعو إلى أن يدعو بقوله (يا دليل الحيارى دلني على صراطك المستقيم) أو نحو ذلك .
فأثبت طائفة هذا الاسم ولكن هذا يحتمل ، يحتمل المعنى الصحيح ويحتمل معنى آخر .
ولهذا فإن هذا الباب يطلق فيه مما لم يأت في الكتاب والسنة مما جاء على هذا مما هو محتمل يطلق فيه على الوجه الذي يكون فيه كمال لله جل وعلا .
وهذا في مثل هذا الاسم وهو الدليل ، فإن الله جل وعلا دليل دل العباد عليه ، فإن العباد ما استدلوا على الله جل وعلا إلا بدلالته ، فالله جل وعلا دليل وهو جل وعلا مدلول عليه أيضا ، ولهذا المعنى الصحيح ساغ الإخبار بمثل هذا ، وسيأتي إن شاء الله مزيد تفصيل .
المقصود أن القاعدة المقررة عندهم هي أن لا يتجاوز القرآن والحديث ، فما لم يأت في الكتاب والسنة من الصفات مما ليس جنسه موجوداً في الكتاب والسنة ، ليس معناه ، فإنه لا يصح أن ينسب إلى الله جل وعلا ولو في باب الأخبار .(32/76)
ولكن إذا كان في باب الأخبار قد جاء مثله فإنه ينسب وقد يسمى الله جل وعلا بذلك من باب الأخبار مثل ما يقال إنه جل وعلا (قديم) أو إنه (صانع) أو أنه (مريد) ونحو ذلك ، فهذه الألفاظ لم تأت لا في القرآن ولا في السنة أن الله جل وعلا قديم أو أنه مريد يعني بالاسم أو التسمية الخاصة باسم الصانع .
وذلك لأن هذه الأشياء تنقسم إلى ما فيه كمال وما فيه نقص فلاحتمالها لم تطلق في باب الصفات وإنما يجوز أن تطلق في باب الخبر عن الله جل وعلا ، يعني يخبر عن الله جل وعلا بأنه موجود ، بأنه مريد ، يخبر عن الله جل وعلا بأنه قديم ، وهذا ليس من باب الاسم ولا من باب الصفة .
يتبع هذا أن نذكر قواعد مهمة في مقدمة شرحنا لهذا الكتاب العظيم وهو العقيدة الواسطية .
قواعد مهمة في باب الأسماء والصفات هي كالتفصيل لهذه القاعدة التي نبه عليها شيخ الإسلام بقوله (وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) .
" فمن القواعد المقررة في ذلك أن باب الأسماء لله جل وعلا أضيق من باب الصفات وأن باب الصفات أضيق من باب الأفعال وأن باب الأفعال أضيق من باب الإخبار .
ومعنى هذا بعبارة مختلفة : أن باب الأخبار أو باب الإخبار عن الله جل وعلا أوسع من باب الأفعال وباب الأفعال أوسع من باب الصفات وباب الصفات أوسع من باب الأسماء .
فإذا ثبت في الكتاب والسنة صفة لله جل وعلا لا يعني أنه يسوغ أن يشتق منها اسم لله جل وعلا بل قد يكون ثم صفة ُوصِف الله جل وعلا بها ولا يلزم أن يشتق له منها جل وعلا اسم .
لأن هذا الباب مبناه على التوقيف ، ليس مبناه على الاشتقاق ، مبناه على التوقيف .
فإذا أطلق الاسم تقيدنا بذلك بإثبات الاسم إذا أطلقت الصفة تقيدنا بذلك بإطلاق الصفة .(32/77)
لكن إذا ثبت الاسم لله فإننا - كما سيأتي في القاعدة التي تلي إن شاء الله - فإنه لأن باب الأسماء أضيق فإن الاسم يشتمل على دلالة على الذات وعلى دلالة على الصفة ، فيشتق من الاسم صفة ، فمثلا الله جل وعلا (الرحمن) فنقول إنه جل وعلا موصوف بصفة الرحمة ، الله جل وعلا (السميع) نقول إنه جل وعلا موصوف بصفة السمع ، الله جل وعلا (حيي) نقول إنه جل وعلا موصوف بصفة الحياء ونحو ذلك ، وهذا كثير في هذا الباب .
كذلك باب الأفعال أوسع من باب الصفات .
يعني قد يكون في الكتاب والسنة وصف الله جل وعلا بالفعل ولكن لم تأت الصفة من الفعل فهنا يُتقيد بالكتاب والسنة فنثبت لله جل وعلا ما أثبته لنفسه بالفعل وأما الصفة أو الاسم من باب أولى فإنه لا يذكر ـ يعني لا يوصف الله جل وعلا به ـ
مثلا إنه جل وعلا وصف نفسه بأنه ( يستهزئ) وأنه (يخادع) وأنه جل وعلا (يمكر) وهذه أفعال هي لله جل وعلا على وصف الكمال ونعت الكمال الذي لا يشوبه نقص .
وقد أطلقت في الكتاب والسنة بالمقابلة ، قال جل وعلا (يستهزئون) في سورة البقرة ، يستهزئون ?اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ? وقال جل وعلا ?يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ? وقال جل وعلا ?وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ? .
فإذن هذه ُوصِف الله جل وعلا بها من باب ذكر فعله جل وعلا .
فلا يشتق له من ذلك اسم كما غلط من غلط في ذلك من أمثال القرطبي في شرحه للأسماء الحسنى في قوله إنه يشتق من يمكر ماكر أو أن من صفاته المكر هكذا بإطلاق ، أو أنه يشتق له من قوله (يستهزئ) أنه مستهزئ ، أو أن له صفة الاستهزاء بإطلاق ونحو ذلك .
وإنما المقرر أن لا يتجاوز القرآن والحديث ، فيقال يوصف الله جل وعلا بأنه يستهزئ بمن استهزأ به
فنأتي بصيغة الفعل لأن هذا هو محض الاتباع .
أما إطلاق اشتقاقات فإن هذا فيه شيء .
نعم قد يطلق الاشتقاق مقيدا وهذا ينفي النقص .(32/78)
فنقول ، فيقول القائل مثلا الله جل وعلا يوصف بمخادعة من خادعه ، يوصف بالاستهزاء بمن استهزأ بمن استهزأ به أو بأوليائه ، يوصف بالمكر بمن مكر به أو بنبيه أو بأوليائه ،وهذا إذا كان على وجه التقييد إذا كان على وجه التقييد فإنه أجازه العلماء لأنه ليس فيه نقص وليس فيه تعد بالمعنى لأن المعنى المراد هو إثبات الصفة مقيدة .
ولكن الأولى أن يُلزَم ما جاء في الكتاب والسنة .
مثل صفة (الملل) ، الله جل وعلا لا يقال إنه يوصف بالملل .
هذا باطل ، لأن الملل نقص ولكن الله جل وعلا وصف نفسه بأنه يمل ممن مل منه وهذا على جهة الكمال .
فإن هذه الصفات التي تحتمل كمالا ونقصا فإن لله جل وعلا منها الكمال .
والكمال فيها يكون على أنحاء منها أن يكون على وجه المقابلة .
قال جل وعلا ?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ? وقال جل وعلا ?وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ? فهو جل وعلا يخادع من خادعه ، يستهزئ بمن استهزأ به ، وهذا كمال لأنه من آثار أنه جل وعلا .
عزيز جبار ذو الجلال وذو الكمال وذو القدرة العظيمة فهو جل وعلا لا يعجزه شيء .
" ومن القواعد - وتفصيل أيضا - باب الإخبار أوسع من باب الأفعال ، يعني أن باب الأفعال مقيد بالنصوص .
ولكن قد يكون باب الإخبار نخبر عن الله جل وعلا بفعل أو بصفة أو باسم ، لكنه ليس من باب وصف الله جل وعلا به وإنما من جهة الإخبار لا جهة الوصف .
وهذا سائغ كما ذكرت لك آنفا لأن باب الأخبار أوسع هذه الأبواب .
فإذا كان الإخبار بمعنى صحيح لم ينفَ في الكتاب والسنة وثبت جنسه في الكتاب والسنة فإنه لا بأس أن يخبر عن ذلك .
مثل أن يخبر عن الله جل وعلا بأنه (الصانع) فإنه جاء في القرآن قوله جل وعلا ?صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ? وقد جاء أيضا في الحديث (إن الله صانع ما شاء) وكذلك (إن الله صانع كل صانع وصنعته) -
......
(إن الله صانع) هذه رواية الحاكم في المستدرك(32/79)
(إن الله صانعُ كل صانع وصنعته) بلفظ صانع
والذي في مسلم (إن الله خالق ما شاء - أو إن الله صانع ما شاء -) هذا أيضا من هذا الباب فإن لفظ الصانع مثل (المريد) .
قال بعض أهل العلم ومنه (الشيء) فإنه يخبر عن الله جل وعلا بـ ( الشيء ) .
وهذا فيه نظر لأنه جاء في الصحيح صحيح البخاري أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (لا شيء أغير من الله جل وعلا) والمقصود من هذا أن هذه القاعدة مهمة لك جدا فيما سنأتي من بيان الأسماء والصفات وتقرير عقيدة أهل السنة والجماعة في ذلك .
من القواعد في هذا الباب أن
....
- أنا ذكرت لك هذا ، تقيّد بما قيدت به في النصوص فالله جل وعلا لم يصف نفسه بأنه يستهزئ دون مقابلة وإنما وصف نفسه بأنه يستهزئ بمن استهزأ به فقال ?مُسْتَهْزِؤُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ? لم يصف نفسه مطلقا بأنه يخادع بل وصف نفسه بأنه يخادع من خادعه .
وهذا كله تقييد وذلك لأن هذه الصفات تحتمل كمالا ونقصا فإنها عند الناس ، عند الناس أن ذو الاستهزاء وذو المخادعة وذو المكر ونحو ذلك أنها ليست بجهات كمال ، والله جل وعلا كل كمال في المخلوق هو جل وعلا أحق به ، كل كمال في المخلوق الله جل وعلا أحق به .
وهذه الأشياء مثل مثلا الاستهزاء فإن الذي لا يردّ على الاستهزاء في العرف العام هذا قد يكون مأخذه العجز وقد يكون مأخذه الضعف ، مثل من يستهزئ به كبير قوم أو يستهزئ به أمير أو ملك أو رئيس أو نحو ذلك ، فمن جهة الضعف لا يرد ذلك والله جل وعلا موصوف بصفات الكمال .
ولهذا مع أن العرب تعلم أن الجهل مذموم وتذم الجاهلين وتذم الجهل لكن قال عمرو بن كلثوم مثبتا لنفسه كمال هذا الوصف بقوله :
فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا ألا لا يجهلنْ أحد علينا(32/80)
وذلك لأن الجهل منه على من جهل عليه هذا من آثار قوته وعزته ومن آثار جبروته ومن آثار ملكه وسلطانه فلهذا صار كملا بهذا الاعتبار ، على كل حال هذه لها تفاصيل يأتي إن شاء الله مزيد بيان لها عند الآيات التي فيها تقرير ذلك ـ من القواعد المقررة في ذلك .
.....
نعم .. هو جل وعلا ، يعني قصدك أنه يوصف ، يسمى بأنه ماكر ؟ أو من جهة أنها لم تأت بالمقابلة ؟
هو جاء في السياق ما يدل على ذلك بقوله ?وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ? فهم ، فالله جل وعلا يمكر وهم يمكرون والله جل وعلا خير من يمكر ، إذا كانوا يمكرون فالله جل وعلا يمكر بهم ، وقد يكون في بعض النصوص إطلاق غير هذه ، استحضر أنا بعض النصوص فيها إطلاق لكنها المعروف أنها تقيَّد بما قيدت به في النصوص الأخرى .
" نقول أيضا من القواعد المقررة في هذا الباب أن أسماء الله جل وعلا لا تحصر بعدد معين كما جاء في الحديث الصحيح - أو الحسن - أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بيَن أن لله جل وعلا أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده ، قال عليه الصلاة والسلام في تعليمه الدعاء (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ماض فيَ حكمك عدل فيَ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي) إلى آخر الحديث ، فدل هذا الحديث على أن أسماء الله جل وعلا لا تُحد بحد ، أما ما جاء في الصحيحين أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة) فهذا تخصيص لتسعة وتسعين اسما بهذا الفضل بأن من أحصاها دخل الجنة وليس معناه حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد .(32/81)
وأسماء الله جل وعلا حسنى كما قال سبحانه ?وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ? ومعنى كون أسماء الله جل وعلا حسنى أنها بالغة في الحسن نهاية الحسن وبالغة في الجمال والجلال والكمال نهاية الجلال ونهاية الجمال ونهاية الكمال .
وأسماء الله جل وعلا هذه التسعة والتسعين ، التسعة والتسعين التي قال فيها عليه الصلاة والسلام (من أحصاها دخل الجنة) فُسِّر الإحصاء بأشياء وجماع ذلك ثلاثة أمور ، الإتيان بها مجتمعة هو معنى الإحصاء :
الأول حفظها .
الثاني : معرفة معانيها .
الثالث : التعبد لله جل وعلا بها. حفظها معرفة معانيها التعبد لله جل وعلا بها بسؤاله بها بدعائه بها ونحو ذلك .
" القاعدة التالية أن أسماء الله جل وعلا وصفات الله جل وعلا تنقسم باعتبارات ، فمن انقسامها أنها تنقسم إلى صفات ذاتية وصفات فعلية :
- ونعني بالصفات الذاتية الصفة التي لا ينفك لا تنفك عن الله جل وعلا ، يعني أن الله جل وعلا موصوف بها دائما ليس في حال دون حال بل هو جل وعلا موصوف بتلك الصفات الذاتية مثل (الرحمة) فإن الله جل وعلا من صفاته الذاتية أنه (رحيم) أنه (ذو رحمة) وكذلك (الغنى) ، فالله جل وعلا (غني) هذا من صفات الذات ، كذلك (القدرة) فالله جل وعلا (قدير) كذلك من صفات ذاته ، كذلك (العلو) فالله جل وعلا موصوف بأنه (ذو العلو) ونعني بالعلو جميع أقسامه : علو الذات وعلو القهر وعلو القدر وهذا كله صفة ذاتية لله جل وعلا لا تنفك عن الموصوف ، فالله جل وعلا (سميع) هذه صفة ذاتية له جل وعلا ، الله جل وعلا (بصير) صفة ذاتية.(32/82)
- القسم الثاني الصفات الفعلية ، ونعني بالصفات الفعلية التي يتصف الله جل وعلا بها بمشيئته وقدرته ، يعني أنه ربما اتصف بها في حال وربما لم يتصف بها مثل صفة الغضب مثلا ، فالله جل وعلا ليس من صفاته الذاتية الغضب فإنه يغضب ويرضى ، يغضب حينا ويرضى حينا وهذا كما جاء في آية سورة طه قال جل وعلا ?وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى? وهنا الغضب يحل وهذا أيضا جاء مبينا في حديث الشفاعة أنه عليه الصلاة والسلام قال (إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) وهذا باب واسع ، مثل الاستواء فإن الاستواء صفة فعلية باعتبار أن الله جل وعلا لم يكن مستويا على العرش ثم استوى على العرش ، وهذا باب واسع .
وهذا يسمى عند كثير من العلماء يسمى بالصفات الاختيارية وهي التي نفاها ابن كلاب ومن شابهه وأخذ نهجه من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم كما سيأتي تفصيله إن شاء الله في مواضعه .
" أيضا من التقسيمات أن أسماء الله جل وعلا وصفاته من حيث معناها منها ما هو وصف جلال أو أسماء جلال ومنها ما هي أوصاف أو أسماء جمال ومنها ما هي أوصاف أو أسماء لمعاني الربوبية ومنها أوصاف أو أسماء لمعاني الألوهية ونحو ذلك ، فهذه انقسامات للمعاني .
أسماء الله جل وعلا منها أسماء جلال ومنها أسماء جمال وضابط ذلك :(32/83)
- أن أسماء الجمال ما كان فيها فتح باب المحبة من العبد لربه جل وعلا من جنس أسماء وصفات الرحمة كصفة الرحمة والأسماء المأخوذة منها كالرحمن والرحيم ونحو ذلك من جهة أو من مثل اسم الله جل وعلا الجميل أو صفة الجميل صفة الجمال لله ، اسم الله جل وعلا النور أو صفة النور لله جل وعلا ، أن الله جل وعلا رزاق اسم الله الرزاق وأنه ذو الرَّزق ونحو ذلك مما فيه إحسان بالعباد ، هذا يقال له صفات جمال ولهذا يقول شيخ الاسلام في ختمه للقرآن الختم المشهور النسبة إليه يقول في أوله يقول (صدق الله العظيم المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيما وتكبيرا الذي نزل الفرقان على عبده) إلى آخره ، هنا قال (متوحد في الجلال بكمال الجمال) وذلك أن أسماء الله جل وعلا منها جلال ومنها جمال .
- أما أسماء الجلال وصفات الجلال فضابطها أنها الأسماء والصفات التي فيها معاني جبروت الله جل وعلا وعزته وقهره من مثل اسم الله العزيز والقهار والجبار والقوي والمنتقم ونحو ذلك من الأسماء والصفات ، فمعاني العزة ، معاني الجبروت ، معاني القهر ونحو ذلك ،هذه كلها جلال لأنها تورث الإجلال ، تورث التعظيم تورث الخوف والهيبة لله جل وعلا ومن الله جل وعلا .
صفات أو أسماء من جهة الربوبية وذلك اسم الله جل وعلا الرب ، المالك ، الملك ، والسيد عند من أطلقه اسما لله جل وعلا ، ومدبر الأمر ، الذي يجير ولا يجار عليه ، الرزاق ، ونحو ذلك ، معاني الربوبية ، الأسماء التي هي من معاني الربوبية ، هذه كلها يقال لها أسماء فيها معاني الربوبية وقد تكون ببعض الاعتبارات أسماء جلال وقد تكون أسماء جمال ، وهذا باب واسع يطلب من مظانه .
" من القواعد المقررة في الأسماء والصفات أن العقل
......
نعم ، يسأل عن معاني الألوهية ، يعني الأسماء التي فيها معاني الألوهية
هذا مثل الله ، نعم ، والمعبود يعني مع أن المعبود ما أطلق باسم(32/84)
يعني ما فيه معاني تدل على إفراد الله جل وعلا بأفعال العبيد .
..... نعم ، التقسيم هذا من جهة المعنى ، هذا التقسيم يقول دليله ؟
هذا دليله اللغة هذا المعنى ، يعني صفات الجلال هكذا هي في اللغة هذه صفات جلال ، صفات الجمال هي هكذا صفات جمال (إن الله جميل يحب الجمال) هو جميل جل وعلا في ذاته وفي أسمائه وصفاته وأفعاله ، وهو جل وعلا ذو الجلال والإكرام ، فوصف نفسه بأنه ذو الجلال ووصف نفسه بأنه جميل ، والله جل له جمال الذات وله جلال الذات ، وله جلال الصفات والأسماء وله جمال الصفات والأسماء وهذا مأخذه مع النصوص أيضا مأخذه اللغة لأن الجلال غير الجمال ومأخذ الجلال من الأسماء غير مأخذ الجمال من الأسماء ، وهذا ذكره شيخ الاسلام ابن تيمية في مواضع وذكره ابن القيم في مواضع ، وهو مقرر عند العلماء في شرح حديث (إن الله جميل يجب الجمال) وكذلك عند قوله ?ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ? .
" من القواعد المقررة في هذا أن العقل تابع للنقل وأن النصوص نصوص الكتاب والسنة لا يُحَكّم فيها القوانين العقلية التي اصطلح عليها طوائف من الخلق بل نأخذ القواعد العقلية من النصوص ، النصوص مصدر للقواعد العقلية كما أنها مصدر للشرع وللأحكام ، وهذا فيه إبطال لمن قدم العقل على النقل أو جعل أن العقل أصل والسمع فرع ، وهذه القاعدة هي التي كتب فيها شيخ الاسلام كتابه العظيم العجاب درء تعارض العقل والنقل والذي قال فيه ابن القيم رحمه الله تعالى مثنيا عليه معظما له ، قال :
ما في الوجود له مثيل ثاني واقرأ كتاب العقل والنقل الذي
وصدق فإنه في َدحضِ أصول المتكلمين وأصول المبتدعة من الأشاعرة ونحوهم والمعتزلة فإنه أصل ليس ثم مصنف يعدله في هذا من مصنفات علماء المسلمين .
......(32/85)
الدرء ؟ درء التعارض ؟ ايه مطبوع ، مطبوع طبعة التي بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم في نحو أحد عشر مجلدا . وهذه القاعدة سنستفيد منها في الرد على أولئك في مواضعه وتفصيلها يأتي إن شاء الله تعالى .
" من القواعد المقررة في هذا الباب التي سنحتاجها إن شاء الله تعالى فيما سنأتي من بيان معاني الآيات والأحاديث التي فيها الصفات أن الواجب على العباد أن يؤمنوا بما أنزل الله جل وعلا في كتابه ، والإيمان بما أنزل الله جل وعلا في كتابه أو أخبر به نبيه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من الأسماء والصفات يكون بأشياء :
- الأول إثبات الصفة ، لأن الله جل وعلا أثبتها فتثبت كما أثبتها الله جل وعلا ، وهذا أول درجات الإيمان .
- الثاني أن يثبت المعنى الذي يدل عليه ظاهر اللفظ فإن القرآن نزل بلسان عربي مبين تعقل معانيه وتفهم ألفاظه بلسان العرب وبلغة العرب وآيات الصفات وآيات الأسماء هي من القرآن فهي تفهم باللسان العربي .
فكل اسم من أسماء الله له معنى يدل عليه ، وكل صفة من صفات الله لها معنىً تدل عليه بظاهر اللفظ فيجب إثبات الصفة من حيث هي ويجب إثبات المعنى الذي في اللفظ
أو نقول ما سبب ذلك ؟ إثبات المعنى لم ؟
لأن الله جل وعلا قال ?أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ? وقال ?بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ? يعني بين واضح ، وهذا يعني أن آيات الكتاب ومنها آيات الأسماء والصفات أنه يتعلق بها التدبر والفهم ، والتدبر فرع العلم بالمعنى .
ليست الأسماء والصفات غير معلومة المعنى فإن معانيها معلومة ، والتدبر للمعاني .
أما لو لم تكن بمعان صارت بمنزلة الأحرف الهجائية ألف باء تاء ثاء إلى آخره ليس لها معان خاصة تدل عليها ، وهذا يعني أنها لا ُتعقَلُ ولا تُتدبر
ولكن الله جل وعلا أمرنا أن نعقل وأن نتدبر كتابه ، وأعظم ما في القرآن الدلالة والعلم بالله جل وعلا ووصف الله جل وعلا ونعوت كماله جل وعلا .
وهذه كلها متعلق بها التدبر .(32/86)
كيف يكون التدبر لغير هذا المطلب الأعظم .
أيضا من الإيمان بها أن يؤمَن بمتعلقاتها في الخلق وبآثارها في الخلق فإن الأسماء والصفات لها آثار متعلقة بخلق الله ، متعلقة بملكوت الله .
فكل اسم وكل صفه له أثر ، فنؤمن بالصفة من حيث هي ونؤمن بما اشتملت عليه من المعنى ونؤمن بالأثر الذي للصفة .
وهذا قد يسمى متعلَّق الصفة ، فمثلا الله جل وعلا موصوف بأنه ذو سمع وأنه السميع وهذا نثبت فيه أن الله جل وعلا له السمع ونثبت معنى السمع ، ثم نثبت أثر هذه الصفة في الخلق وأن الله جل وعلا لا يعزب عنه مسموع (سبحان من وسع سمعه الأصوات) .
......
السمع ، سؤال جيد يقول ما معنى السمع ؟
السمع من حيث هو معناه إدراك ما يُسمع ، هذا معنى السمع ، السمع إدراك ما يسمع .
وهنا تنبيه : وهو أن المعاني يصعب تفسيرها بخلاف الذوات والأعيان فإنه يسهل التعريف بها
ولهذا تجد أن معاني القلوب مثلا أو ما يقوم بالقلوب بالقلب قلب البشر من الصفات فإنه إذا عرّفه فإنه يُعرِف ما قام بقلبه بتعلقه بذاته ، تعلقه بالبشر
مثلا لو طلب تعريف الرحمة فإنها معنى قلبي كل واحد يدرك منّا معنى الرحمة لأنها معنى قلبي يشعر به ، والدلالة بما يشعر به هذه دلالة أعظم من دلالات الألفاظ ، فإذا أراد أن يعبر عنه ربما عسر عليه أن يعبر بتعبير مطلق يعني بتعبير عام ، يشمل ما في قلبه ويشمل غيره ، ربما عسر على كثير من الناس بل ربما عسر على كثير من أهل العلم ولكن الخاصة يؤتيهم الله جل وعلا من ذلك ما يشاء .
انتهى الشريط الثالث من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الرابع
مثلا لو طُلِب تعريف الرحمة فإنها معنى قلبي .
كل واحد يدرك منّا معنى الرحمة لأنها معنى قلبي يشعر به ، والدلالة بما يشعر به هذه دلالة أعظم من دلالات الألفاظ .(32/87)
فإذا أراد أن يعبر عنه ربما عسر عليه أن يعبر بتعبير مطلق يعني بتعبير عام ، يشمل ما في قلبه ويشمل غيره ، ربما عسر على كثير من الناس بل ربما عسر على كثير من أهل العلم ولكن الخاصة يؤتيهم الله جل وعلا من ذلك ما يشاء .
فإذا عرّف مُعَرِف (الرحمة) فإنه ربما يعرفها بالنظر إلى حاله مثل ما عرفها الأشاعرة .
كل أعمال القلوب التي في الإنسان ووصِف الله جل وعلا بها عرفوها بناء على أنها أعمال القلوب للإنسان ولهذا نفوها عن الله جل وعلا ، وهذا في المعاني كثير .
لهذا نقول إن المعاني تُعقلُ معانيها .
الصفات هذه التي هي من هذا الجنس تعقل معانيها وأما تفسيرها فلا بد أن تقف عليه بعبارة من عبارات أهل العلم المحققين لأن تفسير تلك المعاني قد يكون من المفسر بالنظر إلى بعض متعلقاتها :
يفسر (الرحمة) من جهة تعلقها بالمخلوق يفسر (الحياء) من جهة اتصاف المخلوق به ، يفسر (الغضب) من جهة اتصاف المخلوق به ، يفسر (الرضا) من جهة اتصاف المخلوق به وهكذا .
فإن هذه وجودها مطلقا - وجودها مطلق - من دون إضافة كما هو معلوم إنما يوجد في الأذهان أما في الخارج يعني في الواقع فإنما توجد مضافة :
رحمة الله ، رحمه الإنسان ، فإذا عَرَّفَ مُعَرَفٌ هذه المعاني فإنه قد ينظر في ذلك ، ينظر إلى ما يعقله من نفسه .
ولهذا ضل من ضل في هذا الباب من هذه الجهة .
فتنبهوا لهذه القاعدة وهي أن المعاني تفسيرها من دون إضافة قد يعسر على كثيرين فخذ تفسيرها من أهل العلم المحققين .
حتى بعض اللغويين يفسرها باعتبار من قامت به :
ربما فسر الحياء وهو ينظر إلى حياء المخلوق ، لكن الحياء الذي هو مطلق عن الإضافة الذي هو وجود كلي في الذهن ، معنى كلي في الذهن قد لا يصل إلى تعريفه لأنه إنما وجد في ذهنه بتخصيص .(32/88)
ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في التدمرية في قاعدته المعروفة في الفرق بين التعميم أن المعاني هذه لا توجد كلية إلا في الأذهان أما في الخارج فإنما توجد بالإضافات والِنسب .
القواعد في هذا كثيرة وقد ذكر ابن القيم رحمه الله منها ربما يضيق الوقت عليها على تعداد ما سنستخدمه ، أنا ذكرت أشياء سنستخدمها إن شاء الله في فهم النصوص والرد على المخالفين من المؤولة والمعطلة والمشبهة والمجسمة ونحو ذلك من أصناف أهل الضلال في هذه الأبواب .
" بقي القاعدة الأخيرة التي نختم بها وهي أن ظاهر النصوص مراد ، وأن الإيمان إنما يكون بظاهر النص لأن الظاهر هو ما يتبادر إلى الذهن من النص وهذا هو الذي كلفنا الله جل وعلا بالإيمان به إذ لم نُكلّف بالغيبيات بأن نؤمن بأشياء وراء الظاهر لأنها لا تُدرك ، وهذه الغيبيات لا بد من إدراكها .
نقول إن الظاهر هو الذي يجب الإيمان به فما هو ظاهر النصوص ؟
ظاهر النصوص هو إثبات المعنى دون إثبات الكيفية .
ولهذا وجب الإيمان به لأن فيه إثبات معنى دون إثبات الكيفية :
الله جل وعلا وصف نفسه بأنه استوى على العرش وهذا إثبات لمعنى دون إثبات لكيفية .
وصف الله جل وعلا نفسه بأنه يغضب ?وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ? وهذا إثبات للمعنى دون إثبات للكيفية ، وصف الله جل وعلا نفسه بأنه يرضى وهذا إثبات للمعنى دون إثبات للكيفية .
فظاهر النص هو المعنى الذي دل عليه ، أما كيفية الاتصاف فإن هذه لا يدل عليها ظاهر النصوص.
ولهذا ضل من ضل حيث زعم وظن أن ظاهر النصوص فيه التشبيه أو فيه التمثيل .
ففهم من الغضب غضب المخلوق - يعني كيفية غضب المخلوق -
فهم من الرضا رضا المخلوق يعني كيفية رضا المخلوق فيفسرون الغضب مثلا بأنه ثوران دم القلب أو غليان دم القلب وهذا أثر الغضب في المخلوق وليس هو معنى الغضب بل الغضب له معنى كلي لا يتقيد بالمخلوق .(32/89)
وهذا الباب مهم جدا ، فإن الإيمان بظاهر النص هو إيمان بالمعنى الذي دل عليه هذا الظاهر .
وهذا الظاهر أحيانا يكون إفراديا نفهمه من كلمة واحدة ، وأحيانا يكون هذا الظاهر تركيبيا نفهمه من تركيب الكلام .
يعني أن الظاهر ينقسم إلى قسمين : ظاهر إفرادي وظاهر تركيبي :
الظاهر الإفرادي هو الذي دل عليه أفراد الكلام يعني كلمة واحدة كقوله ?وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ? وكقوله ?وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي? وكقوله ?إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا? ونحو ذلك من الصفات .
وأما الظاهر التركيبي فهو الذي يُفْهَم لا من جهة لفظه ولكن من جهة الكلام كله ، وهذا حجة وهو أصل في اللغة وهو مقرر عند أئمة أهل اللغة من السنيين وكذلك أئمه أهل السنة في كتب العقائد وغيرها ، مثاله قوله تعالى ? فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ? .
?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ? هنا لا يُفْهَمُ منه صفة الإتيان لله جل وعلا لكن هنا يُفْهمُ الكلام بظاهره التركيبي وهو أن الله جل وعلا أتى بنيانهم من القواعد ، ومعلوم أن تركيب الكلام لا يدل على أن الإتيان كان بالذات وإنما الإتيان كان بالصفات ولهذا فسره المفسرون بأنه إتيان بعذابه أو بقدرته أو بنحو ذلك ، كذلك قوله جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً? إلى آخر الآيات ، قال ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ? هنا ليست رؤية إلى الله جل وعلا يعني إلى الذات ولكن تركيب الكلام وظاهر الكلام الذي أمرنا بالإيمان به هنا ظاهر تركيبي ليس لفظيا وذلك لأنه دل على معنى قوله ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ? دل على معناها قوله ?كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ? وهذه قاعدة مهمة جدا .(32/90)
وهذا الذي ذكرت لك بينه شيخ الاسلام رحمه الله في مواضع ومنها في أول المجلد الثالث من رده على الرازي ، ببيان تلبيس الجهمية أو الرد على كتاب التأسيس والتقديس أو يسمى نقض التأسيس والتقديس وهذا القسم لم يطبع وهو من الأقسام المهمة جدا في الكتاب .
كذلك الحقيقة تنقسم إلى قسمين حقيقة تفهم من مفرد الكلام ، وحقيقة تفهم من تركيب الكلام وهي مرتبطة بتقسيم ظاهر الكلام إلى ظاهر إفرادي وظاهر تركيبي .
فمثلا ادُعِيَ المجاز في قوله تعالى ادعي المجاز في قوله تعالى ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ? وادعي المجاز في قوله تعالى ?وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ? وادعي المجاز في قوله تعالى ?الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? وادعي المجاز في أشياء كثيرة ، وهم يزعمون أن مثل قوله ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ? فيها إثبات للمجاز لأن الحقيقة - حقيقة اللفظ -لم تعن بيقين ، وفهموا من حقيقة اللفظ هنا أن السؤال متوجه إلى القرية والسؤال متوجة إلى العير ففهموا من قوله ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ? أن السؤال يتوجه إلى القرية .
ونقول هذا ليس بظاهر الكلام وليس بحقيقته أيضا ، لأن الحقيقة هنا تركيبية ، ولأن الظاهر هنا ليس هو ما دل عليه مفرد اللفظ ، كما زعموا ، بل الحقيقة التركيبية هي المفهومة من قوله ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ? ومعلوم أن السؤال لم نؤمر بتوجيهه إلى جدران القرية وبيوتها وأرضها وإنما لمن يفهم السؤال ويجيب عليه وهم أهل القرية فهذا يسمى حقيقة تركيبية أو ظاهر دل عليه تركيب الكلام وفيه نفي للمجاز .
نقف عند هذا وأسأل الله جل وعلا أن يعلمنا ما ينفعنا وأن يوفقنا للهدى والرشاد وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
الجمع بين النفي والإثبات
في وصفه تعالى(32/91)
وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ: مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، حَيثُ يَقُولُ: ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)?[الصمد].
وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتِابِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ: ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ?[البقرة:255].
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ?هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[الحديد:3].
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ?وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ?[الفرقان:58].
وَقَوْلُه: ?وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ?[التحريم:2]، ?وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1)? [سبإ:1]
?يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا?[سبإ:2]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :(32/92)
فبدأ شيخ الاسلام رحمه الله تعالى وشرع في ذكر الأدلة التي فيها إثبات صفات الله جل وعلا وفيها تفصيل ما كان سبق أن ذكر من أن آيات القرآن فيها الجمع بين النفي والإثبات وأيضا أن من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
فقال رحمه الله تعالى (وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ: مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ)
(قَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ) يعني بالجملة ما تقدم ، وقد يحتمل أن يكون مراده بالجملة قوله (مِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ) ويكون هذا تفصيل لقوله (الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ)
ثم ذكر الأدلة من القرآن التي فيها وصف الله جل وعلا نفسه .
ويحتمل أن يكون المراد ما تقدم من ذكر أن الطريقة لأهل السنة والجماعة هي الجمع بين النفي والإثبات ، حيث ذكر أن طريقتهم هي أنهم يجمعون بين النفي والإثبات كما جمع ذلك الله جل وعلا في كتابه في قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? .
ولكن على هذا الثاني يكون فيه إشكال من جهة أنه يصدق على ما ذُكر السورة سورة الإخلاص يعني الاستدلال الأول والاستدلال الثاني وذلك أن سورة الإخلاص فيها نفي وإثبات ، فيها النفي المجمل وفيها الإثبات المفصل ، وكذلك آية الكرسي فإن فيها الإثبات المفصل وفيها النفي المجمل ، ولكن ما بعد ذلك من الآي قد لا يكون فيها نفي وإثبات ولهذا نقول إن قوله (وقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ) الأحسن والأنسب أن يكون متعلقا بالأول وهو قوله (ومِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ)
قال (وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ) قال رحمه الله (وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ: مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ)(32/93)
الوصف هو النعت ، يعني ما كان نعتا لله ، ويراد بهذه الكلمة (مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ) ما يشمل الأسماء والصفات والأفعال ، لأنها تدخل جميعا في إطلاق اسم صفات الله .
فإذا قيل صفات الله ، مذهب أهل السنة في الصفات ، فإنه يدخل ذلك الكلام في الأسماء والكلام في الصفات والكلام في الأفعال ، أفعال الله جل وعلا .
وذلك لأن الأسماء ليست أعلاما محضة بل هي من جهة أعلام دالة على الذات مترادفة من حيث دلالتها على الذات ، ومن جهة أخرى كل اسم مشتمل على صفة من صفات الله غير الصفة التي في الاسم الآخر .
فلهذا كانت الأسماء بهذا الاعتبار من الصفات والأفعال كذلك ، أفعال الله جل وعلا تجمع بين ـ يعني فيما أخبر الله في كتابه أو أخبر عن أفعاله رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ـ يجمع إطلاق الفعل عليه وإثبات الفعل له بين الحدث الذي هو المصدر وبين الزمن .
وهذا ـ أعني الحدث ـ وصف مثلا في قوله ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ? هذا فعل ماض .
الفعل الماضي متركب من شيئين الحدث وهو السماع ، وكون الحدث في الزمان الماضي .
ولهذا تدخل الأفعال بهذا الاعتبار في الصفات ، كذلك الفعل المضارع ?أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم? (نسمع) هذا فعل مضارع فيه الدلالة على الحدث وهو المصدر وهو السماع أو السمع وفيه دلالة على زمنه وهو الحاضر الحال.
ولهذا في قوله هنا (دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ: مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ) يشمل الأسماء بالاعتبار الذي ذكرنا ويشمل الصفات ويشمل الأفعال أيضا كما أوضحت .
إذن قولنا إن مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات النفي المجمل والإثبات المفصل نعني به أيضا ما يدخل في الأسماء والأفعال ، ما يدخل فيه الأسماء والأفعال أيضا ، لكنه في الصفات هذا هو المقصود وإذا ذُكِرَت الأسماء فباعتبار أنها مشتملة على الصفة وإذا ذكرت الأفعال فإنها باعتبار أنها مشتملة على الصفة .(32/94)
قال (فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ)
سورة الإخلاص هي سورة ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)?
وتسمية سور القرآن :
- تارة يكون باعتبار ذكر كلمة في السورة ليست في غيرها .
- أو باعتبار ذكر قصة في السورة مفصلة أكثر من غيرها من السور .
- أو باعتبار المعنى الذي في السورة وهذا ـ أو غير ذلك ـ
وهذه التسمية (سورة الإخلاص) بهذا الاعتبار الثالث ، وهي أنها سميت سورة الإخلاص مع أنها ليست فيها كلمة الإخلاص وذلك لأنها اشتملت على الإخلاص ، واشتمالها على الإخلاص من جهتين :
" الأولى أنها تورث صاحبها أعني المتدبر لها القارئ لها الإخلاص العلمي الاعتقادي لأنها صفة الله جل وعلا وقد جاء في الصحيح أن الصحابي قال للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما ذُكِرَ له أنه يقرأ سورة الإخلاص في مفتتح كل ركعة من الجهرية قال إنها صفة الرحمن وإني أحبها. فهي إذن فيها وصف الله جل وعلا ، ولهذا من تدبر هذا الوصف صار عنده الإخلاص في العلم والاعتقاد ونتبرأ من الشرك في العلم والاعتقاد ، والشرك في العلم والاعتقاد بكونه لا يُوَحِدُ الله في الأسماء والصفات ، والإخلاص في العلم والاعتقاد بكونه يوحد الله جل وعلا في الأسماء والصفات .
" ومن جهة أخرى فإنها ـ أعني سورة الإخلاص ـ أُخلِصَت لذكر صفة الله جل وعلا ، فهي مشتملة على صفة الله جل وعلا وحده ليس فيها وصف لغيره ، وليس فيها خبر عن غيره وليس فيها قصة وليس فيها حكم بل هي وصف لله جل وعلا ، فقد أخلصت لهذا .
فبالمعنى الأول ظاهر الاعتبار ـ أعني أنها من جهة أن من تدبرها يخلص لله جل وعلا - وبالاعتبار الثاني بالجهة الثانية أيضا المعنى صحيح لأنه يقال أخلص الشيء يخلصه إخلاصا وتخليصا بمعنى جعله متجردا لشيء دون غيره .
قال هنا (الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ)(32/95)
وهذا من كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وذلك فيما رواه البخاري في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث إن رجلا أخبر عن رجل أنه سمعه يقرأ سورة الإخلاص هذه ليلة كاملة يرددها حتى أصبح فأخبر النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يعني ذلك الرجل أخبر النبي كأنه يتقالُها يعني يقول قرأ الليلة كلها بسورة واحدة يرددها فقال النبي عليه الصلاة والسلام (والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن) .
وكونها تعدل ثلث القرآن وجهها أبو العباس ابن سريج أحد أئمة الشافعية وتبعه العلماء على هذا التوجيه من أن القرآن منقسم إلى ثلاثة أقسام :
- فهو إما خبر عن الله جل وعلا وصفاته
- وإما خبر عن الأولين
- وإما أحكام
وقال غيرهم قالوا إنه منقسم إلى ثلاثة أقسام : أحكام وعقائد ووعد ووعيد .
وهذه السورة بهذا الاعتبار هي ثلث القرآن ، فإنها تعدل من هذه الجهة ثلث القرآن ، وكونها تعدل ثلث القرآن هذا يدل على أنها أفضل من بعض القرآن وذلك لأنها تعدل ثلثه ، يعني من الجهة التي ذكرت أي أنها في وصف الله جل وعلا ، وكونها تعدل ثلث القرآن يعني أن فيها فضيلة على غيرها من سور القرآن أو على غيرها من بعض سور القرآن .
وهذا المعنى مما تنازع الناس فيه ، يعني كون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ما وجهه ؟
اختلف الناس في ذلك والذي عليه أئمة أهل السنة والجماعة بل والسلف بعامة وهو شبه إجماع بينهم أن كونها تعدل ثلث القرآن يدل على أنها أفضل من بعض القرآن ، والقرآن بعضه أفضل من بعض كما أن صفات الله جل وعلا بعضها يفضل بعضا .(32/96)
قال عليه الصلاة والسلام داعيا الله جل وعلا (أعوذ برضاك من سخطك) قال أيضا مخبرا عن ربه جل وعلا (إن رحمتي سبقت غضبي) وهذا يدل على أن بعض الصفات أفضل من بعض وأيضا بعض الصفة قد يكون أفضل من بعضها الأخر وهذا يترتب عليه أن يكون بعض القرآن أفضل من بعضه الآخر ، ولهذا صارت الفاتحة هي أعظم سورة في القرآن وآية الكرسي هذه أعظم آية في القرآن وسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن .
هذا مذهب أهل السنة والجماعة في تفضيل بعض صفات الله على بعض وتفضيل بعض القرآن على بعض .
وقال المبتدعة من الأشاعرة وغيرهم إن صفات الله لا تتفاضل وكذلك كلامه لا يتفاضل ، ومأخذ هذا عندهم أنه واحد بالعين فلا يمكن أن يفضل بعضه بعضا لأنه قديم وكله واحد ، كله أمر واحد ، كله نهي واحد ، كله خبر واحد وإنما الذي عبر عنه جبريل فيمنعون التفاضل .
وعلى هذا فإن تفسيرهم لكون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن يرجعونه إلى الثواب ، فيقولون هي تعدل ثلث القرآن باعتبار الثواب يعني أن من قرأها يثاب لا أنها في نفسها أفضل من غيرها.
وهذا الكلام هو بعض جهة التفضيل لكن ليس كل جهة التفضيل ، يعني أن سورة الإخلاص نعم تفضل من جهة أن قارئها له ثواب أعظم من تلاوته لغيرها فلا يستوي من جهة الثواب قراءة سورة الإخلاص مع قراءة سورة ?تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ? التي هي قبلها مثلا .
ولكن ليس هذا وحده بل أيضا لأن كلام الله جل وعلا بعضه أفضل من بعض وأشكل عليهم هذا من جهة أن الكلام واحد عندهم ، وهذا لإبطاله موضع سيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام على صفات الله جل وعلا ، وتبيين بعض ذلك أن الكلام له نسبتان :
- الأولى من جهة المتكلِّم به - والثانية من جهة المتكلَّم فيه
فإن الكلام يتفاضل عند الناس في عرفهم من هاتين النسبتين :(32/97)
- إما من جهة أن المتكلم أفضل من المتكلم الثاني : كلام الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ليس ككلام أبي بكر بل كلامه عليه الصلاة والسلام أفضل من كلام أبي بكر وذلك بالنظر إلى اعتبار أن المتكلم هو النبي عليه الصلاة والسلام .
- الجهة الثانية المتكلَّم فيه فيتفاضل الكلام باعتبار المتكلَّم فيه فمثلا تتكلم أنت في العلم ، وتتكلم تارة أخرى في غير العلم ، كلامك في العلم أفضل من كلامك في غيره وذلك لأن المتكلَّم فيه أفضل
فإذن يكون التفضيل ها هنا من جهة المتكلَّم فيه ، يعني موضوع الكلام ، وموضوع الكلام يجمع شيئين : المعاني والألفاظ .
فإذن في كلام الله جل وعلا (سورة الإخلاص) تفضل على غيرها ، كذلك الفاتحة تفضل على غيرها ، وآية الكرسي أعظم من غيرها من جهة الاعتبار الثاني ، من جهة المتكلِّم .
المتكلِّم بالجميع هو الله جل وعلا فمن هذه الجهة لا تفضيل لأن الجميع كلام لله جل وعلا .
لكن من جهة المتكلَّم فيه فإن سورة الفاتحة مثلا فيها أصول ما في القرآن من العلوم والهداية .
آية الكرسي صفة الله جل وعلا أعظم آية في القرآن لما فيها من الإخبار عن الله جل وعلا في وحدانيته في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ونعوت جلاله وعظمته وجبروته ونحو ذلك .
سورة الإخلاص من جهة ما تعلقت به من جهة ما فيها من المعنى هي أفضل من سورة مثلا تبت يدا أبي لهب وتب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وغيره لأنها متعلقة بأسماء الله جل وعلا وصفاته ونعته وتلك خبر عن بعض المتوعَّدين من خلقه ولا شك أن الكلام عن صفة الله أفضل من الكلام عن خلق الله .(32/98)
فإذن جهة التفضيل موجودة والقرآن بعضه أفضل من بعض ومن أنكر ذلك فإنه مناقض لكلام السلف وقد قال جل وعلا ?مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا? وفي القراءة الأخرى ?مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْْهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا? وقوله هنا ?نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا? مطلق يحتمل أن تكون الخيرية في الحكم أو أن تكون الخيرية في الموضوع في الفضل ولهذا قال بعدها (أو مثلها) وذلك بالاعتبار الثاني
وعلى هذا تكون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن بهذا المعنى المتركب من شيئين وهو أنها أفضل من غيرها باعتبار ما فيها من صفة الله ، وأيضا هي أفضل من غيرها باعتبار ما يترتب من الثواب لقارئها ، هذا ما قرره أئمة أهل السنة والجماعة في ذلك .
قال رحمه الله بعد ذلك (فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، حَيثُ يَقُولُ: ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)?
هذه السورة عظيمة جدا من جهة معناها ، عظيمة جدا لأنها تتعلق بصفة الله جل وعلا لهذا يقول العلماء (شرف العلم بشرف المعلوم) ، يشرف العلم بشرف المعلوم فما هو المعلوم ؟
هنا المعلوم في هذه السورة هو الله جل وعلا لأنها صفة الرحمن سبحانه ولأنها اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة .
قال سبحانه (قل) يا محمد و (قل) هذه من الأدلة لأهل السنة على أن القرآن حرف وصوت وأن جبريل قد سمعه على هذا النحو فبلغه على نحو ما سمع ، ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ? .
هذه السورة لنزولها سبب وقد قال بعض المفسرين إنها مكية وقال آخرون إنها مدنية ، ولنزولها سبب وقد اختلفوا في سببه ، فقال بعضهم - وهذا أيضا نذكر الأقوال ثم بعد ذلك نأتي للإسناد -
قال بعضهم إن المشركين قالوا للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ انسب لنا ربك ، فنزلت هذه السورة .(32/99)
قال آخرون نزلت في الجواب عن سؤال اليهود حيث قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام من أي شيء ربك من أي شيء إلهك فنزلت .
وهناك أقوال غير هذه في سبب النزول والمعتمد هو الأول وهو ما رواه الترمذي وابن جرير وجماعة من أهل العلم كثير من أن سبب نزولها أن المشركين قالوا للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ انسب لنا ربك أو انسب لنا إلهك فنزلت هذه السورة .
?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ? إذن هذه السورة في بيان صفة الله جل وعلا .
قال جل وعلا (قل) يا محمد لأولئك المشركين أو لأولئك اليهود والنصارى .
(هو) يعني الذي سألتم عنه .
?هُوَ اللَّهُ أَحَدْ? و الله هذا علم على المعبود بحق سبحانه ، و قوله (أحد) هذا أصلها من (وحد) من الوحدانية .
والأحدية جاءت في القرآن تارة منفية وتارة مثبتة ، فأما المنفية فهي لغير الله جل وعلا وأما المثبتة فهي لله جل وعلا : يعني أن لفظ (أحد)لم يطلق في الإثبات على غير الله جل وعلا ولكنه في النفي (إما الصريح أو المضمَّن) فإنه يطلق على غير الله جل وعلا كما قال هنا ?وَلَم يَكُن لَّه كُفُوًا أَحَدٌ? وقال ?وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ? ونعني بالنفي الذي ذكرناه النفي أو ما يكون في معناه عند البلاغيين وهو الشرط والاستفهام ونحو ذلك ، قال ?هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ? هذا استفهام له مقام النفي ?وَإِنْ أَحَدٌ? هذا شرط أيضا له معنى النفي ?َلَم يَكُن لَّه كُفُوًا أَحَدٌ? هذا نفي .
فإذن كلمة (أحد) أتت في القرآن في سياق النفي أو الاستفهام أو الشرط وهذه لغير الله جل وعلا ، أما في الإثبات فهي لله جل وعلا لا تطلق على هذا الوجه بدون نفي إلا لله جل وعلا .
(قل هو) الذي سألتم عنه (الله أحد) و(أحد) بمعنى الواحد الذي لم يَشرَكهُ شيء في وحدانيته .(32/100)
وأحدية الله جل وعلا يعني وحدانيته في ربوبيته وفي إلهيته وفي أسمائه وصفاته ، فهو جل وعلا واحد في ربوبيته لا شريك له ، أو نقول واحد في ربوبيته لا شريك له أي لا مشارك لا وزير له لا معاون له وهذه كلها ادعاها المشركون ، وهو واحد جل وعلا في إلهيته لا شريك له فيها أي استحقاق العبادة وهو واحد جل وعلا في أسمائه وصفاته لا مثيل له ولا نظير ولا كفو ولا سمي له في أسمائه وصفاته .
فإذن قوله ?هُوَ اللَّهُ أَحَدْ? هذا يشمل أنواع التوحيد الثلاثة ، توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات .
هنا بعدها بين جل وعلا بعض التفصيل لكلمة (أحد) فقال سبحانه :
?اللَّهُ الصَّمَدُ? هذا مبتدأ الله ، خبره الصمد ، ويقول علماء البلاغة إن الخبر إذا جاء معرفا بالألف واللام فإنه يقتضي الحصر ?اللَّهُ الصَّمَدُ? يعني الذي ليس صَمَد إلا هو ?اللَّهُ الصَّمَدُ? يعني الله الذي لا يستحق الصمدية إلا هو ، ?اللَّهُ الصَّمَدُ? يعني هو الذي قُصِرت عليه وحُصِرت فيه معاني الصمدية على وجه الكمال ، وأما البشر فإنهم يقال عنهم فلان صمد ، فلان صمد إذا كان يُصمَد إليه ـ ويأتي معنى ذلك إن شاء الله تعالى .
إذن فقوله ?اللَّهُ الصَّمَدُ? فيها حصر الصمدية ، حصر الصمْد في الله جل وعلا ، فالله من أسمائه (الصمد) فما معنى (الصمد) ؟
المفسرون من السلف اختلفوا في تفسيرها على قولين مشهورين وكل قول فيه تفاصيل وأيضا القول منهما يدل على الآخر بنوع من الدلالة .
- أما القول الأول فهو أن (الصمد) هو الذي لا جوف له ، (الصمد) كما فسرها ابن مسعود ورويت عنه موقوفة ومرفوعة أيضا لكن لا يصح المرفوع وأيضا رويت عن ابن عباس وعن جماعة من مفسري السلف بأن (الصمد) الذي لا جوف له ، وهذا بمعنى أنه لا يتخلل ذاته جل وعلا شيء بل هو جل وعلا واحد بالذات .(32/101)
والمخلوقات غير الملائكة لها جوف يدخل فيها ما يدخل ويخرج منها ما يخرج ويلدون ويحمل منهم من يحمل ويلد من يلد ويأكلون ويشربون ويتغوطون وهذه كلها من صفات النقص ، ولهذا فسرها بعضهم بأن (الصمد) الذي لا يأكل ولا يشرب .
- وقال بعضهم (الصمد) تفسيره ما بعده وهو قوله ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ? وهذه كلها في المعنى واحدة وهو أن (الصمد) الذي لا جوف له لأن الأكل والشرب يحتاج إلى جوف يمر فيه ، وكذلك الولادة يحتاج أن تخرج من جوف والله جل وعلا (صمد) ?اللَّهُ الصَّمَدُ? هذا هو المعنى الأول، وهذا قال ابن قتيبة وابن الأنباري هذا مأخوذ من (الصَمَت) بالتاء ، فكأن الدال هنا في قوله (الصمد) مبدلة من التاء ، من الصمْت أو المُصمَت من الشيء المصمت وهو الذي لا شيء في داخله ، قالوا الدال مبدلة من التاء ، وهذا رده شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله وقال ليس هذا بوجيه بل الأولى أن يحمل هذا على الاشتقاق الأكبر وهذا صحيح ، لأن (الصمد) والصَمَت يعني المُصمَت و (الصمد) بينهما اشتقاق أكبر ، فبينهما اتصال في المعنى .
- أما القول الثاني وهو أيضا مروي عن ابن عباس وجماعة كثير من المفسرين من السلف فمن بعدهم أن (الصمد) هو الذي كَمُلَ في صفات الكمال وهو الذي يستحق أن يُصمَد إليه في الحوائج يعني يُسأل ويُطلب ويرغب فيما عنده وهو الذي يأتي بالخيرات وهو الذي يدفع الشرور عن من يَصمِد إليه ، وهذا مروي من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في صحيفة التفسير الصحيحة المعروفة حيث قال (الصمد) هو السيد الذي كمل في سؤدده ، الشريف الذي كمل في شرفه ، العظيم الذي كمل في عظمته ، الحليم الذي كمل في حلمه ، العليم الذي كمل في علمه .
يعني أن (الصمد) هو الذي اجتمعت له صفات الكمال .(32/102)
وعلى هذا هو الذي يُصمَد إليه يعني يُتوجه إليه بطلب الحوائج إما بجلب المسرات أو دفع الشرور والمضرات ، وهذا معروف من جهة الاشتقاق ، من جهة الصَّمْد ، صَمَدَ إلى الشيء بمعنى توجه إليه وقد جاء في السنن (أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كان إذا صلى إلى عمود أو إلى سارية لم يَصْمُدْ إليه صَمْدا وإنما جعله عن يمينه أو عن يساره) وهذا الحديث استدل به شيخ الاسلام في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم في موضع وفي إسناده ضعف لكن المقصود هنا من الشاهد اللغوي ، كان لا يصمد له بمعنى لا يتوجه إليه صمدا ، يتوجه إليه دون غيره بمعنى يكون مقابلا له متوجها له دون ما سواه .
وهذا إنما هو لله جل وعلا ، أما المخلوق فإنه وإن صُمِدَ إليه بمعنى إن تُوُجِّه إليه في الحاجات فهو أيضا يحتاج إلى أن يصْمُد وأن يَصْمِد إلى غيره ، أما الله جل وعلا فهو الذي كملت له أنواع الصمود وهو أنه الذي لا يستغني شيء عن أن يتوجه إليه وعن أن يصمِد إليه ، وهو جل وعلا مستغنٍ عن أن يَصْمِد إلى شيء ، ولهذا فسرها من فسرها من السلف قال (الصمد) هو المستغني عما سواه الذي يحتاج إليه كل ما عداه ، فسرت (الصمد) بذلك وهذا يعني أن الصمدية راجعة إلى صفة الله أولا ثم إلى فعل العبد ، يعني العباد هم الذين يصمدون إليه .(32/103)
فإذن على هذين التفسيرين يكون قوله ?اللَّهُ الصَّمَدُ? فيها صفة الله جل وعلا ـ القول الأول - والثاني فيها أنواع صفات الله جل وعلا لأن معنى (الصمد) السيد الذي قد كمل في سؤدده الشريف الذي كمل في شرفه يعني (الصمد) من كملت له صفات الكمال ، وهذا ثابت في حق الله وأيضا على هذا يكون (الصمد) الذي يُصمَد إليه في الحوائج ، فيكون على هذا التفسير يكون قد جمعت كلمة (الصمد) بين توحيد الأسماء والصفات وبين توحيد الألهية ، لأن الذي يُصْمَد إليه وحده في الحوائج يُرغب إليه وحده يُطلب منه السؤال وحده يُحتاج إليه وحده ، هو (الصمد) وهو الله جل وعلا ، وفي هذا رد على المشركين الذين ألهوا غير الله أو وصفوا الله جل وعلا بصفات النقص من اليهود والنصارى والمشركين ومن شابههم .
قال هنا ?اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ? ، ما قبلها وهي كلمة (الصمد) ذكرت لكم أن منهم من فسرها بما بعدها وهي قول ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ?
......
نعم كلا المعنيين صحيح ورجح شيخ الاسلام أن المعنى الأول والثاني متلازم ، متلازم ، هذا وهذا ، هذا يلزم هذا وهذا يلزم هذا .
قال هنا ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ? وهذا نفي ، وقوله ?لَمْ يَلِدْ? يعني لم يخرج منه ولد فيرثه في ملكه ، وقوله ?لَمْ يَلِدْ? يعني لم يخرج من شيء فيكون هو وارثا له ، بل هو جل وعلا المستحق للملك بذاته ، هو جل وعلا ذو الملكوت هو صاحب ذلك المستحق له لم يحتج جل وعلا إلى غيره سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً .(32/104)
وهذا النفي قوله ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ? كما قررت لك فيما سلف في الدرس الماضي أن النفي في الكتاب والسنة إذا كان في صفات الله فإنه لا يكون مدحا إلا إذا اقتضى إثباتَ الصفة ، وهذه الصفة التي تثبت هي ضد الصفة المذكور نفيها ، وهنا نفيت عن الله جل وعلا صفتان ، صفة أنه يلد وصفة أنه يولد ، وهاتان الصفتان هي في المخلوق من صفات النقص لا من صفات الكمال لأن المخلوق يحتاج في إيجاده إلى أن يُحمَلَ به ويحتاج هو إلى أن يلد حتى يبقى ، فإذن كونه ولد وكونه يولد هذا من صفات النقص فيه لأنها دليل على عدم استغنائه ، دليل على حاجته دليل على فقره دليل على ضعفه وهذا منتفٍ عن الله جل وعلا .
فإذن ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ? هذا نفي وهذا النفي يراد به إثبات كمال ضده ، وكمال ضد هذا النفي هو كمال (غنى ) الله جل وعلا ، ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ? لِم ؟
لكمال غناه ولكمال صمديته ـ الذي هو بالمعنى الأول ـ ولكمال جبروته ولكمال قهره جل وعلا ولكمال صفاته ، فإذن ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ? فيها إثبات لكمال صفة مضادة لهذا وهي صفة (الغنى) لله جل وعلا وعدم الاحتياج بخلاف المخلوقين الذين يحتاجون إلى أن يولدوا ويحتاجون إلى أن يلدوا وهم محتاجون إلى كلتا الجهتين في كل مخلوق يلد ويولد .
قال بعدها ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ? هذا النفي مجمل ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ? وما قبله إثبات مفصل ، وهذا أحد الأدلة على أن القرآن فيه النفي المجمل وفيه الإثبات المفصل :
أما الإثبات المفصل في هذه السورة فهو قوله ?اللَّهُ أَحَدٌ? و (أحد) فيها إجمال لكنها باعتبار أفرادها بأنواع التوحيد الثلاثة يكون ذلك مفصلا ، وقوله ?اللَّهُ الصَّمَدُ? ما يشمله من الصفات كذلك باعتبار أفرادها يكون مفصلا .
قوله ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ? هذا نفي مجمل ، أما قوله ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ? فهل يعد من النفي المفصل ؟(32/105)
هذا الجواب عنه أن هذا النفي من جنس ما في القرآن من النفي وهو أنه لا يراد به تفصيل النفي وإنما يراد به إثبات كمال الضد .
ومعنى ذلك أن النفي إذا ورد في القرآن مفصلا فهو محمول على الإثبات المفصل لأن المراد منه إثبات كمال الضد ، وكمال الضد في قوله ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ? هي صفة (الغنى) التام وأنواع الكمال في الأوصاف وهذا من الإثبات المفصل .
قال هنا ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ? ، أحد هذه اسم يكن ، لم يكن كفوا له أحدٌ ، هذا السياق ، هنا قال ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ? فقدم خبر يكن على اسمها لأنه هو المقصود ، فالمقصود نفي المماثلة ، نفي أن يكون ثم كفؤ وليس المقصود الإخبار ، ليس المقصود أن يثبِت لغيره المشابهة وإنما المقصود أنه ليس له كفوا أحد وهذا من أسرار التقديم ، فإنه إذا كان الخبر أهم فإنه يقدَّم ، إذا كان هو المقصود يكون مقدما لأن المقصود بالإخبار تارة يكون المبتدأ وتارة في النفي يكون الخبر .
قال هنا سبحانه ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ? يعني لهذا الذي وصف لله جل وعلا (كفوا) و (كفوا) فيها قراءتان ، قراءة هذه قراءتنا بضمتين الكاف مضمومة والفاء مضمومة ?لَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ? .
وأما قراءة غير حفص فإنه يقرؤها ـ مثل نافع وغيره ـ يقرؤنها بالإسكان ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا? فمن الغلط أن تُقرأ ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ? لمن يقرأ بقراءة حفص عن عاصم يعني برواية حفص عن عاصم .
(الكفو) المنفي هنا ذكرنا لكم معناه فيما سبق وهو أن (الكفو) المثيل والنظير والشبيه قال تعالى ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً? و (الأنداد) جمع ند وهو الكفؤ والنظير والمثيل ، وذكرت لكم قول الشاعر :(32/106)
أتهجوه ولست له بكفؤ - حسان في مدح النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ - يعني ولست له بند ، فالكفو والكفؤ من المكافأة وهي المسواة ، ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا? يعني لم يكن له ندا ، لم يكن له نظيرا ، لم يكن له مثيلا ، لم يكن له سميا (أحد) .
و (أحد) هنا نكرة في سياق النفي فهي تعم كل من صدق عليه اسم أحد في النفي ، تعم كل أحد ?لَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ? يعني من خلقه ، فلا أحد يكافئه ولا يماثله لا في ذاته جل وعلا ولا في صفاته ولا في أسمائه فإنه لا مثيل له ولا نظير ولا مكافئ ولا عِدْل ، تبارك ربنا وتقدس وتعاظم.
هذه السورة فيها إذن إثبات الصفات .
وهذه السورة يفسرها من يفسرها من أهل البدع بتفسيرات مختلفة :
فمثلا الأحدية عندهم يقولون ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ? ، (الأحد) هو الواحد بالذات المتنزه عن الأبعاض والأركان والجهات ، هذا مثلا تفسير من تفاسير المبتدعة .
أو يقولون (الأحد) هو الواحد في ذاته لا قسيم له ويعنون بذلك أن ذاته غير منقسمة وهذا ليس هو معنى الأحدية لأنهم يريدون بذلك نفي الصفات التي هي بالنظر إلى كل صفة فإنها تكون غير الأخرى ، فالوجه من الذات ولكنه غير اليدين.
فإذن إذا قالوا واحد في ذاته لا قسيم له يريدون أن ينفوا عنه الصفات الذاتية كالوجه واليدين ونحو ذلك .(32/107)
تفاسير المبتدعة في هذا كثيرة جدا ، ولا شك أن هذه السورة في وصف الله جل وعلا فيما اشتملت عليه مما تؤلف فيه مؤلفات طويلة تحتاج إلى بسط وتطويل في بيان ما تشمله كلماتها من المعاني العظيمة ، فلا شك أنها تعدل ثلث القرآن ، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى إن الأخبار التي فيها أن ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ? تعدل ثلث القرآن تبلغ مبلغ التواتر ، وهذا لعظمها وعظم شأنها ، فلا غرو إذن أن يتلوها النبي عليه الصلاة والسلام في أحيانه كلها عند الصباح والمساء وكثيرا في النوافل في الوتر وركعتي الفجر وركعتي الطواف وفي كثير من أحيانه لأنها صفة الله جل وعلا .
نقف عند هذا لأن آية الكرسي تحتاج أيضا إلى بسط وقد ذكرنا شيئا من التفصيل على سورة الإخلاص لأهمية ذلك وأسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم بما سمعنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا واختم لنا بالخير إنك أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ، أما بعد :
فقد ذُكِرَ فيما سبق القاعدة التي ينبني عليها فهم توحيد الأسماء والصفات ألا وهي أن القاعدة هي أن يجمع بين النفي والإثبات ويكون الإثبات مفصلا والنفي مجملا ، وكل ما ثبت في الكتاب أو السنة من أسماء الله جل وعلا وصفاته فإنه يثبت لله جل وعلا ولا يُتعرض لذلك بنوع من التأويل أو التعطيل أو التحريف أو التمثيل أو أشباه تلك الطرق الكلامية المبتدعة .
تفرعةً على هذا الأصل وتلك القاعدة ذكر شيخ الاسلام أنه (دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ) وقد ذكرت لكم معنى قوله (دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ) ذكر سورة الإخلاص وتبين لنا ما فيها من الدلالة على تلك القواعد وما فيها من أسماء الله جل وعلا وصفاته .(32/108)
ثم ذكر آية الكرسي ، وآية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله جل وعلا ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لأبي بن كعب لما سأله أي آية في القرآن أعظم ؟ قال آية الكرسي قال (ليهنِك العلم أبا المنذر) ، وهذا يدل على أن معرفة فضل هذه الآية وأنها أعظم أنه من العلم العظيم الذي يهنَّأ به ، والمهنئ هو رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وسمى معرفة ذلك والعلمَ بكونها أعظم آية سماه علما وأنه يُهنأ به وذلك لأنها صفة الله جل وعلا وفيها من بيان حق الله وبيان ما له من الصفات المثبتة ، وكذلك ما نُفِيَ عنه من الأوصاف التي لا تليق بجلاله جل وعلا وبعظمته .
آية الكرسي سميت بهذا الاسم لأن فيها ذكر كرسي الله جل وعلا ، ولم يرد ذكر الكرسي في آية غير تلك الآية قال جل وعلا ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا?
?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ? يعني كان الكرسي كرسي الرحمن جل وعلا (وهو موضع قدمي رب العزة جل وعلا)كان واسعا للسماوات والأرض ، فالسماوات والأرض في جوف الكرسي .
وقد جاءت الأحاديث التي تبين هذا القدر الذي هو كون السماوات والأرض في جوف الكرسي وكون الكرسي شاملا واسعا محتويا على السماوات والأرض .
قال جل وعلا ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم?ُ
وهذا أول نعت لله جل وعلا قال ?اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ? وهذا النعت والوصف الأعظم لله هو أنه لا يستحق العبادة الحقة إلا هو لا يستحق العبادة المخلصة إلا هو كما قال جل وعلا ?وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا? فلا يستحق العبادة إلا هو جل وعلا
قال هنا ?لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ? ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ? تبين لنا فيما مضى معنى كلمة التوحيد على وجه التفصيل(32/109)
قال جل وعلا واصفا نفسه ومخبرا عن اسمه جل وعلا (الله) قال ?الْحَيُّ الْقَيُّومُ? وهما اسمان من أسماء الله جل وعلا .
و (الحي) يعني ذو الحياة ، وأسماء الله لها دلالة على الذات ولها دلالة على الصفات ، فهي جميع الأسماء تدل بالمطابقة على شيئين معا يفهمهما العقل بمجرد إطلاق الاسم ، وهذان الشيئان هما : الذات والوصف .
فاسم الله (الحي) نفهم منه أنه جل وعلا له الحياة ، والحياة موصوف بها ذاته جل وعلا ، هذا بالمطابقة ، ويدل الاسم على أحد هذين بالتضمن ، فيدل اسم الله (الحي) على الحياة بالتضمن ويدل على الذات بالتضمن .
يعني أن اسم الله جل وعلا (الحي) يتضمن الذات ويتضمن الصفة فيكون مركبا .
يعني دلالته اللغوية تكون مركبة من شيئين : الأول دلالة على الذات المتصفة بالشيء الثاني الذي هو صفة الحياة .
وصفة الحياة لله جل وعلا هذه من الصفات الذاتية اللازمة ، وهنا جاء إثباتها على تلك القاعدة التي هي الإثبات المفصل ، وحياة الرحمن جل وعلا كاملة الكمال المطلق الذي ليس فوقه من جهة الحياة شيء ، فحياته جل وعلا أكمل حياة .
ولهذا يلزم من ذلك أنه جل وعلا لا يعتريه سِنة ولا نوم لأن السنة والنوم سِمة وصفة ونعت من حياته ناقصة ، أما ذو الحياة الكاملة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه فهو لا يحتاج إلى راحة لا كما يقول قتلة الأنبياء وهم اليهود إن الله جل وعلا تعب من خلق السماوات والأرض فاستراح يوم السبت فهذا من وصفهم بالنقائص لله جل وعلا .
حياة الله جل وعلا لها آثار في ملكوته ولها آثار في نفس عبد الله المؤمن ، أما آثارها في ملكوته جل وعلا فهي أنه جل وعلا جعل الحياة في أصناف كثيرة من خلقه بل كل مخلوق لله جل وعلا فيه حياة خاصة .(32/110)
والحياة متنوعة فحياة الملائكة غير حياة الإنس ، وحياة الجن غير حياة الإنس وحياة الحيوانات تختلف عن حياة الإنس والجن والملائكة إلى آخره ، حتى الجمادات فاضت عليها آثار اسم الله جل وعلا (الحي) فكانت حية .
فالجماد هو من ليس فيه حياة ظاهرة ، وليس هو الذي لا يتحرك - يعني الجامد الذي لا يتحرك -
لا ، الجماد هو الذي ليس فيه حياة ظاهرة ، لا يقال ليس فيه حياة فقط ، كذلك يعني شرعا أو نظرا في الأدلة الشرعية فإن الجمادات فاضت عليها ما يناسبها من الحياة ولهذا فإن النبي عليه الصلاة والسلام يصف أحدا فيقول (أحد جبل يحبنا ونحبه) ولما حن الجذع أحد سواري المسجد التي بني بها مسجد النبي عليه الصلاة والسلام وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتوكأ عليه ، يعني يستند عليه إذا خطب الجمعة ثم لم اتخذ المنبر وعلاه عليه الصلاة والسلام حنّ الجذع حنين العشار ، لفقده رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يعني أن في الجذع حياة خاصة تناسبه أحبَّ بها رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام وضمه إلى صدره كما يضم الحبيب حبيبه فسكن الجذع لأن له حياة خاصة ، كذلك الأشجار لها حياة خاصة ، حياة النماء وأيضا حياة أخرى بها يسبح وبها يوحد الله جل وعلا ، كذلك الجدران كذلك الجبال ?إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ? (أحد جبل يحبنا ونحبه) الصخر كذلك ، يقول عليه الصلاة والسلام (إن بمكة حجر لم ألقه إلا سلم عليّ) يسلم ، ويقول ابن مسعود كما رواه البخاري في الصحيح (كنا نسمع التسبيح على عهد رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من الطعام) .
وهذا كله يبين أن اسم الله جل وعلا (الحي) له آثار في خلقه .
فكل شيء فيه حياة تخصه ، والحياة مراتب ودرجات والذي يعلمها على وجه التفصيل هو الله جل وعلا .(32/111)
وأيضا هذا الاسم وهذه الصفة لله جل وعلا وهي صفة الحياة لها أثر في قلب المؤمن ، أثر خاص في قلب المؤمن فلها آثار في ملكوت الله ولها أثر في قلب المؤمن.
ومن آثارها في قلب العبد المؤمن أن المؤمن يشعر ويوقن بأنه بدون إحياء الله جل وعلا لبدنه ولقلبه فإنه لا حياة له .
كذلك يؤمن بأن الهداية التي هي حياة القلوب أنها بيد الله جل وعلا فإذا علم ذلك صار عنده من الفقه والعلم بهذا الاسم الكريم .
بهذا الاسم الذي هو من الأسماء الحسنى ما يفتح على قلبه أنواعا من العلوم والإيمان ?أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ? وقال جل وعلا ?اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا? في سورة الحديد بعد أن ذكر أن القلوب تقسو فقال ?وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا?
فالله جل وعلا من آثار اسمه (الحي) أنه يحيي الأرض الميتة ويحيي الأجساد البالية وكذلك يحيي القلوب الميتة ويحيي القلوب المريضة ، قال هنا ?فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا? .
فإذن أسماء الله جل وعلا لها آثار عظيمة في الملكوت ولها آثار عظيمة في قلب العبد المؤمن .(32/112)
والإيمان بها يشمل هذه المرتب جميعا : فيؤمن بالاسم وأنه دال على الذات وعلى الصفة ويثبت الصفة على مقتضى لغة العرب دون تحريف أو تأويل أو تعطيل أو تمثيل ويؤمن بأن هذه الصفة لها آثار في ملكوت الله جل وعلا ، ثم يؤمن بأن هذه الصفة لها أثر في نفسه يشعر ويراه في نفسه ، يرى اسم الله جل وعلا (الحي) في نفسه كل يوم ، فحياته كل لحظة إنما هي من آثار إحياء الله جل وعلا له وإحياء الله جل وعلا له من أثر صفته واسمه (الحي) جل وعلا وهذا باب عظيم يحتاج الناس إلى العناية به .
قال هنا ?الْحَيُّ الْقَيُّومُ?
و (القيوم) هو الذي يقوم على كل شيء وبه قيام كل شيء .
فهو سبحانه قائم بنفسه غير محتاج إلى غيره وكذلك هو مقيم لغيره ، فما من شيء إلا وهو قائم به لا يستغني شيء ولا أحد عن الله جل وعلا طرفة عين ، قال جل وعلا ?أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ?
وقيوميته جل وعلا على خلقه لها أصناف كثيرة ، جماعها أنه جل وعلا هو المتولي بقيام الناس وقيام المخلوقات ، فلو ترك إقامة هذه المخلوقات لهلكت حتى العرش وحتى حملة العرش فإن العرش إنما قام بالله جل وعلا ، وإن حملة العرش ما قامت إلا بالله جل وعلا وهذا يعني أن الخلق جميعا محتاجون إليه أعظم الحاجة وأنه جل وعلا هو المستغني عنهم الذي يفتقر إليه كل شيء وهو جل وعلا مستغنٍ عن كل شيء .
ثم لما أثبت جل وعلا نفى ، والنفي هنا يُقصد به إثبات الصفة لأن النفي جاء مفصلا .
قال هنا ?لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ?
?لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ? وقد مر معنا أن قاعدة الصفات هي الجمع بين النفي والإثبات ، والنفي يكون مجملا والإثبات يكون مفصلا ، فإذا جاء النفي فيه تفصيل في القرآن أو في السنة فإنما يُعنى به إثبات كمال ضده من الصفات .(32/113)
قال جل وعلا هنا ?لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ? وذلك فيه يعني هذا النفي فيه إثبات كمال الضد وضد أخذ السنة والنوم الذي هو (الحياة) الكاملة .
فإذن يكون هنا تأكيد لما سبق ذكره من قوله ?الْحَيُّ الْقَيُّومُ? ?اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ? وذلك لكمال حياته جل وعلا ولكمال قيوميته جل وعلا
والسِنة أخف من النوم ، السنة النعاس والنوم أعظم منه والنوم وفاة ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا? فالنوم وفاة وقيل أيضا إن النوم موت أصغر وهذا صحيح ، والسنة النعاس ، والنعاس يغشى الإنسان وفيه راحة ومقدمة للنوم وفيه راحة أيضا له .
ويدل النعاس في الإنسان الذي هو السنة على نقص قواه وعلى أنه ليس بقوي بل جسمه يضطرب ويضعف حتى يحتاج إلى راحة إما في عقله وإما في أعضاءه ، والله جل وعلا منزه عن ذلك كله فله الحياة الكاملة الكمال المطلق ، ومن كمال حياته الكمال المطلق أنه جل وعلا لا يحتاج إلى السنة ولا يحتاج إلى النوم ?لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ? يعني لا يغلبه شيء من ذلك ولا يحتاج إليه لكمال حياته جل وعلا
قال سبحانه بعدها ?لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ?
يعني له مِلكا ، له مِلك السماوات والأرض ، وذلك لأن اللام إذا أتى بعدها أعيان فإنها تعني المِلك غالبا(32/114)
قال هنا ?لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ? يعني له مُلك السماوات والأرض ، وهذا كما قال في الآيات الأخرى ?لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ? وقوله ?لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ? ونحو ذلك ?الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ? هذا نوع ، وقوله ?مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ? هذا عام يعني له الذي في السماوات والذي في الأرض فيعم كل شيء لأن (ما) اسم موصول والأسماء الموصولة تعم ما كان في حيز صلتها .
قال هنا بعدها ?مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ?
?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ? هذا فيه حصر استفيد من مجيء إلا بعد من .
يعني لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه ، وهذا شرط فالشفاعة لا تكون عند الرحمن إلا بعد أن يأذن كما قال سبحانه ?وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى? فلا بد من الإذن بالشفاعة .
فالشفيع عند الله ليس كالشفيع عند الخلق ، فالشفيع عند الخلق إذا شفع إنسان عند من عنده ، من يملك شيئا من الأمر أو بيده مسؤولية يمكن أن ينفع ، فإنه يشفع عنده بدون إذنه يبتدئ بالشفاعة ، وذلك لأن الشافع يحتاج ، والشفيع أيضا يعني المشفع أيضا يحتاج .
فحياة الناس في الشافع والمشفع هؤلاء هذا يحتاج إلى هذا وهذا يحتاج إلى هذا ، فتقوم حياتهم بذلك لأجل نقصهم وأن بعضهم يكمل بعضا .(32/115)
وأما الله جل وعلا فهو (الغني) الأعظم ذو الجبروت وذو القهر وذو العزة وذو القوة وذو الملك التام ، كل من في السماوات والأرض عبد له جل وعلا عبادة اختيار أو عبادة اضطرار ، لهذا لا أحد يسبق عند الله جل وعلا ويشفع بدون إذنه بل الله جل وعلا يعلم ما في نفس الشافع فإذا شاء أن يأذن أذن له ولا يبتدئ أحد عند الله فيشفع بدون إذنه .
قال هنا ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ? وحقيقة الشفاعة أن يكون السائل شفعا لصاحب الحاجة يعني بدل أن يكون صاحب الحاجة واحدا يأتي آخر ويصير شفعا له يعني ثانيا يرفع حاجته إلى المعظم ، والشفاعة معناها طلب الحاجة ، والدعاء طلب الدعاء بعض الشفاعة وليس كل الشفاعة .
قال هنا ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ? يعني من هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ، وهذا فيه كما ذكرت لك حصر بأنه لا يشفع أحد عند الله إلا بعد إذنه وهذا شرط .
الشرط الثاني في الشفاعة أنه لا يشفع أحد عند الله جل وعلا إلا في من يرضاه الله جل وعلا بأن يرضى أن يُشفع له ، والله جل وعلا لا يرضى أن يشفع لغير أهل التوحيد غير أهل محبته وتوحيده وطاعته الطاعة التي هي إخلاص الدين له ، فلا حظَ لمشرك بشفاعة أحد عند الله جل وعلا حاشا ، حاشا النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في شفاعته لأبي طالب بأن يخفف عنه شيء من العذاب ، وهذه شفاعة ليست لإخراجه من النار لكن بتخفيف العذاب عنه ، قال هنا ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ?(32/116)
الشرط الثاني هذا الذي هو الرضى يعني أنه يشترط في الشفاعة المقبولة عند الله أن يأذن الله للشافع أن يشفع والثاني أن يرضى الله عن المشفوع له ، ولهذا في حديث الشفاعة العظمى فإن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يأتي بين يدي العرش فيسجد بين يدي العرش ، قال عليه الصلاة والسلام (فأحمد الله بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن) ولا يبتدئ عليه الصلاة والسلام بين يدي الله بالشفاعة بل يحمد الله بمحامد يفتحها عليه ، يثني عليه والله جل وعلا أعلم بما في نفس عبده الذي يريد أن يشفع ثم يقول الله جل وعلا لنبيه (يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تُشَفَّعْ) ...1
من الألفاظ التي تدل على علو الله جل وعلا في القرآن والسنة لأنها عندية ذات يعني عندية علو ، ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ? يعني في علوه جل وعلا .
قال بعدها ?يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ?
هذا فيه إثبات صفة العلم لله جل وعلا ، وصفة العلم لله جل وعلا من الصفات الذاتية .
وعلمه جل وعلا متعلق بما كان وما سيكون وما لم يكن ولم يشأ الله أن يكون لو كان كيف يكون.
فإذن علم الله شامل للسابق وللحاضر وللآتي وأيضا شامل لما لم يحدث في ملكوت الله لو حدث كيف يكون وعلمه جل وعلا بكل شيء بالجزئيات والكليات بصغار الأمور وبعظام الأمور.
والعلم جاء في القرآن - يعني العلم الذي وُصف الله جل وعلا به - جاء تارة مستأنفا وتارة بالماضي وتارة بالمستقبل ، وما كان في معنى الاستئناف فإنه يراد به إظهار ذلك للخلق لكي يعلموه وذلك من مثل قوله جل وعلا ?وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ? .(32/117)
الله جل وعلا يعلم من سيتبع الرسول ممن سينقلب على عقبيه من دون هذه الحادثة ، قال جل وعلا ?وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ? ونظائره في القرآن متعددة ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ? أي ليكون العلم بذلك ظاهرا للناس حتى تقوم الحجة عليهم .
فالعلم هنا استدل به الذين يقولون إن علم الله جل وعلا مستأنف ، استدلوا بمثل هذه الآيات .
وهذا غلط ولا شك من جهات ، منها : أن علم الله جل وعلا في القرآن لما كان وما سيكون والحاضر والمستقبل وكل شيء وأيضا يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون .
انتهى الشريط الرابع من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الخامس
فالعلم هنا استدل به الذين يقولون إن علم الله جل وعلا مستأنف ، استدلوا بمثل هذه الآيات .
وهذا غلط ولا شك من جهات :
منها أن علم الله جل وعلا في القرآن لما كان وما سيكون والحاضر والمستقبل وكل شيء وأيضا يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون .
وأما ما ذُكر فيه تعليل الشيء حتى يعلمه الله جل وعلا فهذا يراد به (إظهار العلم السابق لله جل وعلا) لكي يكون العلم به مشتركا بين سائله وبين الله جل وعلا ، حتى تكون الحجة على العباد أعظم .
قال جل وعلا ?وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ? استدل أهل العلم بهذه الآية على الجزء الأخير من مُتَعَلَّق العلم وهو أن الله جل وعلا يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون .
قال هنا جل وعلا ?يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ?
?مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ? يعني من الزمن ، ما يستقبلونه ، ما يفعلونه الآن وما يستقبلونه ، ويعلم ?مَا خَلْفَهُمْ? ما خلفوه من الأعمال وهذا متعلق بالجليل والصغير من الأمور ، فالكل يعلمه الله جل وعلا وهذه صفته تبارك وتعالى .(32/118)
قال هنا ?وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ?
عِلمُ الله جل وعلا لا يحيط به أحد من خلقه إلا إذا عَلَّمَ الله جل وعلا الخلق شيئا من ذلك .
فإذن الأصل أن الخلق لا يعلمون شيئا إلا بتعليمه من الله جل وعلا :
إما من جهة التعليم الغريزي وإما من جهة التعليم التجريبي وإما من جهة التعليم الشرعي
يعني من جهة ما يكتسبونه في حياتهم من العلوم كما قال ?وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ? إلى آخره ، أو العلم التجريبي أو العلم الشرعي
وأما علم الغيب فهذا خاص بالله جل وعلا ، لا يعلم أحداً الغيب إلا الله جل وعلا إلا أن الله يطلع الرسل بخاصة - يعني الرسل والأنبياء - على بعض الغيب ، كما قال سبحانه في سورة الجن ?عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ? يعني فإن بعض الرسل يطلعهم الله جل وعلا على بعض المُغيبات .
والنبي عليه الصلاة والسلام أُطْلِعَ على كثير من المُغيبات ليكون ذلك دلالة من دلالات نبوته عليه الصلاة والسلام ، فقد أخبر بأشياء ستكون ، وكل ذلك ليس علما ذاتيا له عليه الصلاة والسلام بل كان بتعليم الله جل وعلا له كما قال هنا ?إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ? وكما قال في هذه الآية ?وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاءَ? وجه الدلالة على ما ذكرنا : أن قوله (بِشَيْءٍ) هذه نكرة جاءت في سياق النفي في قوله ?وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ? وهذه النكرة تدل على العموم لأنها جاءت في سياق النفي ، فالنفي إذا جاء بعده نكرة دل على العموم ، وأيضا هذا عموم في الأشياء .
والشيء هو ما يصح أن يعلم .(32/119)
?وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ? ، الشيء ما يصح أن يُعلم إما نظرا إلى الحاضر أو نظر إلى أنه سيؤول إلى العلم ، كما قال سبحانه ?هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا? يعني لم يكن يصح أن ُيعلَم علما مذكورا ، يعني لم يكن شيئا يستحق أن يُذكر لأنه لم يكن شيئا يستحق أن يُعلم لأنه غائب ، قال ?لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا? لأنه في صلب أبيه أو في ترائب أمه .
قال هنا ?وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ? (مِنْ) هنا تبعيضية ?مِنْ عِلْمِهِ? يعني من بعض علمه ، وهذا فيه تأكيد آخر.
قال ?إِلا بِمَا شَاءَ? يعني إلا بمشيئته ، إلا بمشيئته ، فإذن لا أحد يعلم شيئا من علم الله إلا إذا أذن الله جل وعلا بذلك .
قال بعدها ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ?
و (الكرسي) كما ثبت عن ابن عباس أنه قال الكرسي موضع القدمين لله جل وعلا .
وكرسي الله جل وعلا هو موضع قدميه ، وهو ليس العرش ومن فسره بالعرش من السلف كالحسن وغيره فإن هذا غلط ، فالكرسي شيء والعرش شيء آخر ، هكذا دلت السنة .
وأصل مادة (الكرسي) أصلها من (الجمع والائتلاف) .
الجمع والائتلاف ، هذا أصل مادة الكرسي .
وإذا تبين ذلك فإن الكرسي مشتق من (التكرّس) وهو الجمع أو من (الكَرْسِ) وهو الجمع وهو غير مادة العلم تماما .
ومادة (العرش) هي مادة العلو والارتفاع ، قال ?وَمِمَّا يَعْرِشُونَ? ?نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا? هذا العرش يدل على الارتفاع .
أما مادة (الكرسي) في اللغة فهذه دالة على الجمع المؤتلف ، ولهذا تسمى (الكُرّاسة) كُراسة لأن فيها جمع الأوراق على وجه الائتلاف وعدم التنافر بينها وسمي (الكرسي) كرسيا لأن العيدان تجمع على نحو مؤتلف بحيث يمكن استخدامه للجلوس عليه .(32/120)
وقد قال بعض الناس إن الكرسي هنا في قوله ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ? إن (الكرسي) هو العلم وينسب ذلك لابن عباس ، وقد ساق ذلك ابن جرير ولكن إسناده ضعيف لا يحتج به ولا يمكن أن يَقْوَى لمضادة الرواية الأخرى عن ابن عباس التي هي ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ? بمعنى أن الكرسي موضع القدمين لله جل وعلا مع ما دل من السنة على ذلك .
مادة (العلم) غير مادة (الكرسي) ومن الأخطاء البينة الظاهرة التي حشيت بها بعض كتب العقيدة ما جاء في حاشية كتاب (شرح العقيدة الطحاوية) في الطبعة الأخيرة التي علق عليها الأرناؤوط حيث جعل في موضع منها تعليقا واسعا حينما تكلم عن الكرسي رجح فيه أن الكرسيَّ العلم ، واستدل على ذلك بهذه الرواية التي ذكرت - رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس بأن الكرسي هو العلم - وغمز بعض الأئمة الذين ضعفوا الرواة كـ (ابن مندة) وغيره بعبارات لا تليق بل عبارات منكرة ، ورجح أنها العلم ، هذا مما يجب أن يُتقى في تلك التعليقات التي لا تَمُتُّ إلى العقيدة السلفية بِصِلَة .
مادة (الكرسي) غير مادة (العلم)
يقولون إن ابن جرير ذكر بيتا أو شطر بيت يدل على أن (الكرسي) هو العلم ذلك هو قوله قول الشاعر في وصف رجل قانصٍ قال :
حتى إذا ما احتازه تكرّسا
(حتى إذا ما احتازه) يعني احتاز ما قنصه (تكرسا)
قالوا معنى (تكرسا) أي (علم) يعني علم أنه صاده .
وهذا مع أن ابن جرير حام إليه مستدلا لمن قال إن (الكرسي) هو (العلم) لكن هذا باطل من جهة أن قوله (حتى إذا ما احتازه تكرسا) هذا على المادة من أن الكرْس والتَكَرُّس هو (الجمع) وذلك أن الذي يقتنص شيئا إذا احتازه وصار في يديه جمعه له .
(حتى إذا ما احتازه تكرسا) يعني جمع نفسه له وضمه إليه وهذا وصف أنه ـ يعني من الشاعر ـ وصف أن هذا حريص على هذا القنْص ، على هذا الذي صاده وأنه من حرصه عليه بعد حيازته ضمه إلى نفسه متمسكا به خاشيا من فراره .(32/121)
قالوا ويقال للعلماء (الكراسي) وذلك لأنهم أهل العلم ، وهذا يدل - على قولهم - يدل على أن معنى الكرسي هو العلم .
ولكن هذا أيضا باطل فإن مادة ( الكرسي) غير مادة (العلم) تماما .
هذا من التأويلات الباطلة فإن (الكرسي) الذي عليه إجماع أهل السنة والجماعة بدون خلاف بينهم أن الكرسي هو موضع قدمي رب العزة جل وعلا وتعالى وتعظّم وتعاظم وتقدس .
قوله هنا ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ? إذن الكرسي هو موضع القدمين وأما القولان الآخران فباطلان وهما :
" قول من قال إن (الكرسي) هو (العرش) .
" والثاني قول من قال إن (الكرسي) هو (العلم) .
والصواب أن (الكرسي) غير (العرش) وغير (العلم) .
?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ?
......
نعم . الأشاعرة (الكرسي) عندهم هو (العرش) قد يجعله بعضهم هو(العلم) لأن عندهم (الكرسي) و(العرش) واحد .
قال ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ? وقد دلت السنة على أن السماوات والأرض أنها في جوف الكرسي كدراهم ملقاة في تُرس ، يعني أنها قليلة ، يعني أنها بالنسبة للكرسي محدودة الحجم ، الحيز ، وأن الكرسي أعظم منها بكثير ، والكرسي بالنسبة للعرش أيضا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض ، والعرش لا يَقْدُرُ قدْرُه إلا ربه جل وعلا .
قال هنا ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُه?
يعني لا يقله ، لا يثقل الله جل وعلا حِفْظُهُمَا
?وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا? هنا (آد ، يؤود) بمعنى (ثقل يثقل) .
وقوله هنا ?لا يَؤُودُهُ? يعني لا يثقله .
(حِفْظُهُمَا) يعني حفظ السماوات والأرض ، وحفظ السماوات والأرض متنوع كما قال جل وعلا في آية فاطر قال ?إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ? فالله جل وعلا حافظ للسماوات وحافظ للأرض ، قامت السماوات بأمره وبحفظه ، وقامت الأرض بأمره وبحفظه جل وعلا .(32/122)
?لا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا? قال شيخ الإسلام هنا (أي لا يكرثه ولا يثقله حِفْظُهُمَا) .
ثم قال جل وعلا ?وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ?
وهذان اسمان جليلان ، اسمان آخران مع الأسماء التي سبقت ?وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ? .
(الْعَلِيُّ) يعني من له العلو الكامل المطلق : ذلك أن الألف واللام هنا إذا دخلت على (عليّ) فإنها تدل على العموم ، كما هي الألف واللام التي دخلت على (الْعَظِيمُ) لأن الألف واللام إذا دخلت على اسم الفاعل أو اسم المفعول فإنها تدل على عموم ما اشتمل عليه اسم الفاعل أو اسم المفعول من المصدر .
قال هنا ?وَهُوَ الْعَلِيُّ? يعني الذي له جميع أنواع وأوصاف العلو .
والعلو ثلاثة أنواع :
- علو الذات . - وعلو القَهْرْ. - وعلو القَدْرِ .
والله جل وعلا له هذه جميعا ، له علو الذات وله علو القَهر وله علو القَدْرِ سبحانه وتعالى ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ? .
إذن فقوله جل وعلا هنا ?وَهُوَ الْعَلِيُّ? تفسير (الْعَلِيُّ) أنه ما يشمل جميع أنواع العلو الثلاثة :
علو الذات وهو العلي في ذاته ، العلي في قهره ، العلي في قَدْرِهِ جل وعلا .
المبتدعة ، المؤولة يؤولون جميع ما في القرآن من صفة (العلو) أو صفة (الفوقية) بغير صفة (علو الذات) لأنهم ينكرون علو الرحمن جل وعلا علو الذات ، فتجد أن المبتدعة قد يثبتون ( العلو ) ويقولون ( العلو ) لله ثابت ، ويعنون به (علو القدر وعلو القهر) أما (علو الذات) فهو مما يَشْرَقُونَ به ، بل عندهم أن ذلك يلزمه الجهة ، ويلزمه التحيز والتجسيم ، إلى آخره ، وعندهم أن الله جل وعلا في كل مكان حالّ بذاته تعالى جل وعلا وتقدس وتعاظم عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
?وَهُوَ الْعَلِيُّ? يعني من له أوصاف العلو وأنواع العلو جميعا ?وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ? سبحانه وتعالى.
(الْعَظِيمُ) الذي كَمُلَتْ له أنواع العظمة .(32/123)
قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد ذلك (وَلِهَذَا كَانَ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ فِيْ لَيْلَةٍ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ حَافِظْ وَلا يَقْرَبُهُ شَيْطَانْ حَتَى يُصْبِحْ)
ذلك لأنها - آية الكرسي - التي هي أعظم آية في كتاب الله جل وعلا وفيها اسم الله الأعظم .
وتبين بهذه الآية أن فيها قاعدة في الصفات ففيها (الوصف المفصل) ، وفيها (النفي المجمل) ، وفيها إثبات الكمالات لله وفيها أنواع من أسماء الله جل وعلا وأنواع من صفات الله جل وعلا ، ففيها :
" أولا أن المستحق للعبادة ، فيها إثبات توحيد الإلهية بقوله ?اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ?
" وفيها إثبات اسم الله (الْحَيُّ) وأنواع الحياة ، و (الْقَيُّومُ) وما في ذلك من الصفات .
" فيها إثبات الشفاعة عنده وأنها لا تنفع إلا بعد الإذن .
" وفيها إثبات صفة العلم .
" و كرسي الرحمن جل وعلا .
" وأسماء الله جل وعلا (الْعَلِيُّ) و (الْعَظِيمُ) .
أما النفي الذي جاء فيها ففي قوله ?لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ? وفي قوله ?وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا? وفي قوله ?وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا? هذا نفي مفصل لكن كما ذكرنا النفي المفصل لا يُعنى به حقيقة النفي وإنما يراد منه إثبات كمال الضد ، وضد الإكتراث والثِّقل ضده كمال (القوة) وكمال (القهر) وكمال (الجبروت) وكمال (العزة) و (القدرة) له جل وعلا .
?وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا? لِمَ ؟
لكمال عزته وقوته وقهره جل وعلا وكمال جبروته وقدرته سبحانه وتعالى .
نعم .
......
إثبات ايش ؟
يعني فيه إثبات الشفاعة ؟
نعم ، الشفاعة هنا أُثْبتت ونُفيت ، فيه إثبات أن الشفاعة نافعة عند الله ، وفيه نفي أنها تنفع عند الله مطلقا بل إنما تنفع بشرط ذُكِر هنا وهو إذن الله جل وعلا .
……
نعم ، صحيح ، لكنه جمْع بين الإثبات والنفي هذا متعلق بالشفاعة ، مو في إثبات الصفات .(32/124)
يعني ، نقصد بالجمع بين النفي والإثبات في الصفات ، هنا الشفاعة إذا نظرنا إلى قبول الشفاعة نعم ، هذا من الله جل وعلا ، لكن الشفاعة نفسها هذه من العبد ، الإذن من الله جل وعلا ، الإذن مُثبت ، ?مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ? نُفي أن يكون ثَم شفاعة إلا بإذن الله جل وعلا ، ولهذا ذكرت لك أنه حصر ، هذا أحسن من الآخر .
يأتينا بعد ذلك تفصيل الكلام على علو الله جل وعلا وقربه وأزليته وأبديته ، نجيب عن بعض الأسئلة :
- هذا مسألة علم الله جل وعلا بالكليات دون الجزئيات هذا قول طائفة من الفلاسفة ، وحُذاق الفلاسفة ردوا عليهم مثل (ابن ملْكا) الفيلسوف في كتابه المعتبر ، أثبت بالعقل أن الله جل وعلا يعلم الكليات والجزئيات ، وهذا سؤال ما نحب نطوّل على الكلام عليه .
- يقال من ذكر الإجماع على أن الكرسي هو موضع القدمين من أهل العلم ؟
الإجماع الذي يذكر في العقائد غير الإجماع الذي يذكر في الفقه .(32/125)
إجماع أهل العقائد معناه أنه لا تجد أحدا من أئمة الحديث والسنة يذكر غير هذا القول ويرجحه ، هذا معناه الإجماع ، وإذا خالف أحد ، واحد أو نحوه فلا يعد خلافا ، لأنه يعد خالف الإجماع ، فلا يعد قولا آخر ، فنجد أنه مثلا أنهم أجمعوا على أن الله جل وعلا له (صورة) وذلك لأنه لا خلاف بينهم على ذلك كلهم يوردون ذلك ، فأتى (ابن خزيمة) رحمه الله تعالى رحمة واسعة فنفى حديث الصورة وتأوله - يعني حديث الخاص (أن الله خلق آدم على صورة الرحمن) وحمل حديث (خلق الله آدم على صورته) يعني على غير صورة الرحمن ، وأنكر ذلك ، وهذا عُدّ من غلطاته رحمه الله ولم يُقل إن ذلك فيه خلاف للإجماع أو إنه قول آخر ، فإذن الإجماع في العقائد يعني أن أهل السنة والجماعة تتابعوا على ذكر هذا بدون خلاف بينهم ، مثل مسألة الخروج على أئمة الجَور ، على ولاة الجور من المسلمين ، هذا كان فيه خلاف فيها عند بعض التابعين وحصلت من هذا وقائع ، وتبع التابعين ، والمسألة تذكر بإجماع ، يقال أجمع أهل السنة والجماعة على أن السمع والطاعة وعدم الخروج على أئمة الجور واجب ، وهذا مع وجود الخلاف عند بعض التابعين وتبع التابعين لكن ذلك الخلاف قبل أن تَقَرّرَ عقائد أهل السنة والجماعة ، ولما بُيِّنَت العقائد وقُرِّرَت وأوضحها الأئمة وتَتَبَّعوا فيها الأدلة وقرروها تتابع الأئمة على ذلك وأهل الحديث دون خلاف بينهم ، ففي هذه المسألة بخصوصها رُدَّ على من سلك ذلك المسلك من التابعين ومن تبع التابعين لأن هذا فيه مخالفة للأدلة فيكون خلافهم غيرَ معتبر لأنه خلافٌ للدليل ، وأهل السنة الجماعة على خلاف ذلك القول ، إذن الخلاصة أن مسألة الإجماع معناها أن يتتابع العلماء على ذِكْر المسألة العقدية ، إذا تتابعوا على ذِكرها بدون خلاف فيقال أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك .
يقول كيف يسترق الشياطين السمع ؟ وكيف يصل إليهم قبل بعثة الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؟(32/126)
الشياطين لهم أوصاف غير أوصاف ابن آدم ، فمما جاء من استراقهم السمع أن بعضهم يركب بعضا ويعلو بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء - يعني الدنيا - فيسمعون ما أوحَى الله جل وعلا ، فربما لقف أحدهم الخبر من السماء قبل أن يصله الشهاب فيلقيه على من تحته ثم يصل إلى الأرض ، واستراق الشياطين للسمع له ثلاثة أحوال :
- قبل بعثة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
- وفي أثناء بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ـ يعني في حياته .
- وبعد حياته عليه الصلاة والسلام .
قبل البعثة كان كثيرا جدا ، كثير جدا تخطف الشياطين الخبر وتلقيه على الكهنة وعظُم شأن الكهنة جداً .
أما في عهد النبي عليه الصلاة والسلام فإنه امتنع ذلك إلا في النادر جدا ، امتنع ، كما قال الله جل وعلا ?وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا? وقال في الآية الأخرى ?إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ?، فملئت السماء حرسا شديدا وشهب حتى إذا بُلِّغ الوحي للنبي عليه الصلاة والسلام وسُمع الوحي في السماء فإنه لا يخطفونه فيقع الابتلاء والفتنة من جهة الوحي ، فلم يخطفوا شيئا من الوحي الذي أوحاه الله جل وعلا لنبيه .
وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام أيضا عظم استراقهم ولكن دون ما كان قبل بعثته عليه الصلاة والسلام وفوق ما هو أثناء بعثته عليه الصلاة والسلام .
……
الماضي والمستقبل هي المذكورة في آية الكرسي ?يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ? هذا الماضي والمستقبل ، والمستأنف اللي ذكرت لكم ، اللي قالوا إن العلم أُنف ، هنا ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ? ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ? كيف ؟ يعني الله جل وعلا قبل ما يعلم ؟(32/127)
لا ، يعلم ، المقصود هنا (إظهار العلم ليكون حجة على الخلق) .
- هل في قول بعض الناس إن الله لا تحيط به الجهات خطأ ؟
طبعا ، الله جل وعلا لا يقال لا تحيط به الجهات ، هذي من التعابير ، من التعبيرات المبتدعة ، التعبيرات اللي ما وردت عن السلف تُتْرك في النفي وكذلك في الإثبات .
يقول العلم الذي جاء في القرآن جاء على ثلاثة معاني ، الرجاء توضيحها ؟
يعني اللي أنا ذكرته ؟ يمكن يقصد الماضي والمستقبل والمستأنف ؟ وضحته لك .
نكتفي بهذا القدر .
الجمع بين علوه وقربه
وأزليته وأبديته
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ?هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[الحديد:3].
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ?وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ?[الفرقان:58].
وَقَوْلُه: ?وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ?[التحريم:2]، ?وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1)? [سبإ:1]
?يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا?[سبإ:2]، ?وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ?[الأنعام:59]، وَقَوْلُهُ:?وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ?
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين .
أما بعد فهذه صلة للكلام على ما سبق من تفصيل الكلام على آيات الصفات لدخول ذلك في جملة الإيمان بالله جل وعلا .(32/128)
الإيمان بالله منه الإيمان بما أثبت لنفسه من الأسماء وما أثبت لنفسه من الصفات ، وهذه جملة تشتمل على آيات كثيرة دلت على أسماء الله جل وعلا أو على صفاته .
من تلكم قوله جل وعلا ?هُوَ الأول وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?
وهذه الآية من الآيات العظيمة التي فيها أربعة أسماء لله جل وعلا وهي (الأول) (وَالْآخِرُ) (وَالظَّاهِرُ) (وَالْبَاطِنُ) .
فهذه كلها أسماء لله جل وعلا .
والاسمان الأولان يطلقان غير متلازمين ، وأما الاسمان الآخران فإنهما يطلقان متلازمين .
فـ (الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)، يعني (الْبَاطِنُ) لا يطلق إلا ومعه (َالظَّاهِرُ) وذلك لأن كمال ما يشتمل عليه هذا الاسم من الصفة يكمل باسم الله جل وعلا (الظَّاهِرُ) .
مثل (النافع) و (الضار) فإن اسم الله جل وعلا (الضار) لا يطلق إلا مقترنا مع اسم الله (النافع) وذلك لأن كماله إنما يظهر مع الاسم الآخر ، وهذا له نظائر في أسماء الله جل وعلا الحسنى ، فمنها ما يطلق على وجه الانفراد ومنها ما يطلق على وجه الاقتران ولا يطلق على وجه الانفراد .
هنا في قوله ?هُوَ الأول وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? هذه أسماء فسرها النبي عليه الصلاة والسلام في ثنائه على ربه في دعائه بالليل حيث قال عليه الصلاة والسلام (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء)
خرجه مسلم وغيره وهذا الحديث فيه تفسير واضح لهذه الأسماء الأربعة .
الاسم الأول قال عليه الصلاة والسلام (أنت الأول فليس قبلك شيء) يعني أن لله جل جلاله سبق الأشياء ، بل كل شيء موجود إنما هو أثر من آثار أولية الله جل وعلا ، يعني أن سبْق الله جل وعلا على كل شيء ، كل شيء بعده جل وعلا إنما صدر عنه ، هو الخالق له وهو الذي جعله شيئا مذكورا ، فهو سبحانه (الأول) وليس قبله شيء .(32/129)
و (أوليته) سبحانه بمعنى (الأزلية) يعني أنه جل وعلا لم يزل .
وكلمة أزلية ، هذه منحوتة من الكلمتين (لم) (يزل) فقيل فيها أزلية وتفسيرها (لم يزل) فالله جل وعلا (أول) بمعنى لم يزل بذاته ولم يزل بأسمائه ولم يزل بصفاته ، فهو سبحانه (أول) في ذاته فليس قبل ذاته شيء ، وهو (أول) جل وعلا بصفاته وبأسمائه جل وعلا وبأفعاله ، فإن أسماء الله تبارك وتعالى ، وإن صفات الله جل وعلا لم يكتسبها جل وعلا اكتسابا بعد حصول الخلق .
كما هو الحال في المخلوقين ، فإن الصفة أو الاسم في المخلوق إنما تكون بعد اكتسابه للصفة ، فيقال فلان كاتب بعد أن حصلت منه الكتابة ، وفلان قادر أو قدير بمعنى أنه حصلت منه هذه القدرة يعني في أجناسها وهكذا ، فلان صانع صنع الشيء بمعنى حصلت منه ، حصل منه ذلك.
وقد يطلق على المخلوق الصفة قبل فعله لها بمعنى كونه قابلا لها ، كما يقال في الإنسان حين ولادته إنه ناطق بمعنى أنه يقبل ذلك .
والله جل وعلا لم يزل بذاته ولم يزل بأسمائه ولم يزل بصفاته ولم يزل بأفعاله ، يعني أن أسماء الله جل وعلا فيها صفة (الأولية) كما أن ذاته جل وعلا لها صفة (الأولية) فكذلك أسماء الله جل وعلا كذلك صفاته كذلك أفعاله .
يعني أن الله جل وعلا هو (الأول) بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا يعني أنه جل وعلا - كما يعبر طائفة من أهل العلم - سبق الأشياء ، وهذا السبْق وإن كان يجوز من باب الإخبار لكن لا يفهم أنه من باب الصفة أو من باب الإطلاق الوارد ، بل الذي ورد في ذلك إنما هو الأولية ، الله جل وعلا (أول) .
وهذه الآية بينها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (أنت الأول فليس قبلك شيء) يعني أنه جل وعلا إنما كانت الأشياء بإيجاده لها وبخلقه لها وبصنعه لها ، فهو جل وعلا أوجد الأشياء ولهذا تكون الأشياء حادثة .(32/130)
قوله هنا عن الله جل وعلا (الأول) يعني الذي لا يوصف بأنه حادث ولهذا قال بعض الناس إن معنى الأول أنه هو معنى اسم الله الذي سموه به (القديم) ، قالوا إن (الأولية) هي (القِدَم) وهذا غير صحيح ، لأن القديم وإن كان يحتمل الأزلية لكنها احتمال من الاحتمالات ، وذلك أن اسم القديم يطلق في العربية ـ وجاء استعماله أيضا في القرآن ـ على نحوين :
- الأول : أن يكون مطلقا ، يعني من الزمن ، يعني قِدم على جميع الأشياء .
- ومنها أن يكون قدما نسبيا ، يعني أن يكون قديم - يعني إطلاق اللفظ - قديم على بعض الأشياء
الأول واضح ، والثاني كقوله تعالى ?حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ? قال ?أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ? وهذا فيه قِدم نسبي ، ولهذا لما احتمل هذا اللفظ أن يكون فيه المعنيان ـ معنى القِدم المطلق والقِدم النسبي - لم يصح أن يطلق في أسماء الله جل وعلا وأن يقال إن من أسمائه القديم ، وذلك للاحتمال.
فأسماء الله جل وعلا كلها حسنى ، كلها أسماء كمال ، وأما الاسم الذي يحتمل شيئين فإنه لا يطلق في أسماء الله جل وعلا وليس من أسماء الله الحسنى وهذا مثل (الصانع) ومثل (المريد) وأشباه ذلك .
أما الصفات أو الآثار - آثار الصفات - هذا قد يطلق عليها أنها قديمة كما قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (أعوذ بوجهك الكريم وسلطانك القديم) وهذا أخص من أن يكون اطلاق اسم (القديم) عليه جل وعلا ، بل هو إطلاق على بعض ما له جل وعلا .
(أعوذ بوجهك الكريم وسلطانك القديم) فـ (القديم) ليس نعتا لله جل وعلا ، بل نعت للسطان ، ولهذا لا يصح أن يقال إن من أسماء الله جل وعلا (القديم) لهذا الأمر .
(الأول) أعظم - اسم الله الأول - أعظم وأجل من القديم ، وهو الذي جاء في الكتاب والسنة وهو الذي يشتمل على أنواع ( الأولية ) للذات والأسماء والصفات والأفعال تبارك ربنا وتعالى وتقدس .(32/131)
قال جل وعلا (وَالْآخِرُ) (َالْآخِرُ) كما فسرها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بأنه الذي (ليس بعده شيء) يعني الذي يبقى بعد ذهاب الأشياء كما قال سبحانه ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ? ويقول جل وعلا في سورة غافر ?لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ? ثم يجيب نفسه جل وعلا بقوله ?لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ? فكل شيء إلى الفناء والهلاك وهو جل وعلا (َالْآخِرُ) الذي يبقى بعد فناء الأشياء .
وهذا لا شك دليل عظمته وقهره وجبروته وملكه للأشياء وأن كل شيء في هذا الملكوت إنما هو بتدبيره يحيي من يشاء ويميت من يشاء وهو جل وعلا (الأول) الذي له الأزلية و (َالْآخِرُ) الذي له السرمدية جل وعلا .
قال هنا (وأنت الآخر فليس بعدك شيء) وآخريته جل وعلا المراد منها هذا الي وصف .
وأما نعيم أهل الجنة وما هم فيه فإن النصوص أطلقت أنهم خالدون فيها أبدا لأن أهل الجنة يخلدون فيها أبدا ، وأهل النار النصوص جاء فيه الاطلاق بأن أهل النار خالدون فيها أبدا .
وهذه الأبدية لا تنافي كون الله جل وعلا آخرا ، لأن آخريته جل وعلا معناه الذي (ليس بعده شيء) وهو جل وعلا يهلك المخلوقات جميعا ويبقى جل وعلا وحده ويقول أنا الملك أنا الجبار أين ملوك الأرض ؟ ، لمن الملك اليوم ؟ ، ثم يجيب نفسه الجليلة العظيمة جل وعلا بقوله لله الواحد القهار .
قال سبحانه وتعالى هنا (وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)
(الأول وَالْآخِرُ) اسمان لاستغراق الزمان ، استغراق الزمان كله من مبتدئه إلى منتهاه ، فلو تُصُوِّر أن للزمان ابتداء فالله جل وعلا (أول) هو قبل ذلك ، ولو تُصُوِّر أن للزمان انتهاء فإن الله جل وعلا (آخر) أي بعد ذلك .
فإذن الزمان مستغرق في هذين الاسمين (الأول وَالْآخِرُ) واسم الله (الأول) .(32/132)
واسم الله (َالْآخِرُ) دلالتهما أكثر وأعظم من دلالة الزمان ، يعني أن الزمان جميعا لو تُصُوِّر له ابتداء وله انتهاء فإن هذين الاسمين لله تبارك وتعالى تسع ذلك الزمان كله وغيره ، يعني أن الزمان لو تُصُوِّر أنه موجود بكماله ـ زمان لا بداية له وزمان لا نهاية له ـ فالله جل وعلا ليس قبله شيء والله جل وعلا ليس بعده شيء لا الزمان ولا غيره .
قال سبحانه وتعالى هنا (وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) وهذان اسمان لعلو الله وفوقيته .
فـ (َالظَّاهِرُ) كما فسره النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بقوله (أنت الظاهر فليس فوقك شيء).
والمراد بالظهور هنا (العلو) و (الفوقية) كما فسره عليه الصلاة والسلام .
و (علوه) جل وعلا و (فوقيته) الذاتية هي معنى كونه جل وعلا ظاهرا (الظاهر فليس فوقك شيء) يعني (الظَّاهِرُ) بذاته ، لأن معنى (ظهر على الشيء) : علا عليه ، كما قال سبحانه ?فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا? ?فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ? يعني أن يعلوا على السُّد الذي جُعل بين يأجوج ومأجوج وغيرهم .
قال هنا (وَالظَّاهِرُ) فإذن الظهور هنا هو كونه جل وعلا فوق كل شيء يعني بذلك (علو الذات) (فوقية الذات) وأنه جل وعلا مستو على عرشه فوق خلقه أجمعين .
وليس المراد بالظهور هنا ظهور أثر الصنعة ، (الظَّاهِرُ) يعني الذي ظهرت آثار صنعته ودلت الأشياء عليه كما قال الشاعر :
تدل على أنه الواحد وفي كل شيء له آية
ليس المراد ذلك ، بل الظهور هنا كما فسره النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بقوله (فليس فوقك شيء)(32/133)
ويحتمل أن يكون في معنى الظهور على الصفات ، لأن اسم (الظَّاهِرُ) اسم فاعل (ظاهر) دخلت عليه الألف واللام فدخول الألف واللام على أسماء الفاعلين يدل على عموم ما اشتمل عليه الاسم - اسم الفاعل - من المصدر ، واسم الفاعل (ظاهر) اشتمل على مصدر وهو الظهور و (الظهور) بمعنى (الفوقية) يكون (فوقية ذات وفوقية صفات) يعني أن يكون (الظهور) ، ظهور ذات كما فسره النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، ويحتمل أن يكون أيضا مشتملا على (ظهور الصفات) يعني على أن صفاته جل وعلا فوق كل الصفات لأن العلو كما ذكرت لكم سابقا والفوقية تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
" علو الذات وفوقية الذات .
" وعلو القدر وفوقية القدر .
" وعلو القهر وفوقية قهر .
ومن أهل السنة أي من العلماء من يقول العلو قسمان ، يعني هذا تقسيم والمعنى واحد ، منهم من يقول العلو قسمان والفوقية قسمان :
" علو الصفات .
" وعلو الذات .
وعلو الصفات يدخل فيها جميع أنواع الصفات والتي منها (القدر) و (القهر) .
والتوفيق بين القولين أن مَن قال من أهل السنة وهم الأكثر يعني خصوا العلو والفوقية بالثلاثة أقسام هذه - فوقية الذات وفوقية القدر وفوقية القهر - أن (القدر) و (القهر) هؤلاء قد نازع فيهما - يعني هذان المصدران وهاتان الصفتان - نازع فيها أهل البدع .
فقال طائفة من أهل البدع نقول بفوقية القدر والقهر دون غيرها من الفوقيات ودون غيرها من أنواع العلو ، أما علو سائر الصفات فهذا متفق عليه ، وهم لما نصوا على إثبات هذين دون إثبات علو الذات وفوقية الذات احتاج أهل السنة إلى أن يقسموا الفوقية إلى هذه الثلاث وهي :
- فوقية وعلو الذات .
- وفوقية وعلو القدر .
- وفوقية وعلو القهر .
باعتبار أن المبتدعة أثبتوا علو القدر وعلو القهر ونفوا علو الذات ، وإلا فإننا نقول إن صفات الله جل وعلا كلَّها عُلا له الصفات العلا ، كما أن له الأسماء الحسنى ، فكل صفاته هي العليا جل وعلا .(32/134)
فإذن العلو يُقسم إلى علو ذات وعلو صفات ، ويقسم أيضا علو ذات وعلو قدر وعلو قهر .
الثاني هذا علو الذات وعلو القهر والقدر هو الأكثر في كتب أهل السنة مراعاه لحال المبتدعة في نفيهم لذلك .
(الظَّاهِرُ) لا شك في قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء) يدل على علو الذات ويدل على استوائه جل وعلا على عرشه ، لكن دلالته على الاستواء دلالة لزوم بضميمة ما جاء في الآيات من ذلك .
قوله (وَالْبَاطِنُ) ، اسم الله الْبَاطِنُ فسره النبي عليه الصلاة والسلام بأنه الذي (ليس دونه شيء) واختلف العلماء والمفسرون في هذا الاسم كثيرا ، والذي عليه أهل التحقيق أن يقال :
إن اسم الله (الْبَاطِنُ) يوقف فيه على تفسير النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ دون غيره لأنه اسم لا تُفسره اللغة ولا يفسره السياق ويحتاج في تفسيره إلى معرفة كلام المعصوم له .
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (وأنت الباطن فليس دونك شيء) وهذا التفسير حُمل على أن معنى البُطون (القرب) والقرب في هذا يُعنى به القرب العام من المخلوقات .
والقرب العام من المخلوقات لا بد أن يفهم مع اسم الله (الظَّاهِرُ) .
لأن القرب العام من المخلوقات إما أن يكون قربا بالذات ، وإما أن يكون قربا بالصفات .فإذا كان قربا بالذات ناقض هذا قوله (الظَّاهِرُ)فلا بد أن يكون قربا بالصفات .
ولهذا قالوا إن (الْبَاطِنُ) اسم لقرب الله جل وعلا ، وقربه نوعان :
- قرب عام في الإحاطة والعلم والقدرة - وهذا تمثيل بهذه الصفات - .
- وقرب خاص من أوليائه بالإجابة وبنصرهم ونحو ذلك بسماع دعائهم إلى آخره .(32/135)
إذن لفظ (الْبَاطِنُ) ينتبه إلى أنه لا يُدخل كثيرا في بحثه ولا في تفصيل الكلام عليه لأنه مزِلّة أقدام ، (الْبَاطِنُ) ، ومن هذا الاسم دخل كثيرا من غلاة الصوفية في أنواع من الضلال في الاعتقادات حتى وصلوا في تفسيرهم لاسم الله (الْبَاطِنُ) إلى القول بالوحدة والقول بالحلول والاتحاد .
أحسن تفسير له بل التفسير الذي يتعين تفسيرا دون غيره هو قول النبي عليه الصلاة والسلام (أنت الباطن فليس دونك شيء) فسره أهل السنة بأنه يدل على قرب الله جل وعلا ، قرب الإحاطة والعلم والقدرة ونحو ذلك .
قال سبحانه وتعالى بعدها ?وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? وهذا فيه إثبات أن متعَلّق العلم هو كل شيء.
قد تقدم لك أن كلمة (شيء) في نصوص الكتاب والسنة أنها تفسر بأنها (ما يصح أن يُعلم) ?وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? ما يصح أن يعلم ، سواء أكان واقعا أم لم يكن واقعا ، سواء أكان ماضيا أم كان حاضرا أم مستقبلا ، وسواء أكان مقدَّرا أم حاضرا - يعني غير مقدر - .
إذن قوله ?وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? هذا يشمل كل شيء ، ولهذا استدل به أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على بطلان قول القدرية الذين يقولون إن الأمر أنُف - مستأنف - وأن الله جل جلاله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، وكذلك رُد به قول طائفة من الفلاسفة الذين يقولون إن الله يعلم الأمور الكلية دون التفصيلات والجزئيات ، كل هذا يرده قوله ?وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?.
قال سبحانه في الآية التي بعدها ?وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ?
قوله ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ? فيها اسم الله جل وعلا (الْحَيِّ) هذا هو الشاهد ، وهذا كما في آية الكرسي ?اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ? وقد تقدم الكلام على اسم الله (الْحَيِّ) .(32/136)
وهذه الآية فيها الأمر بالتوكل على الله جل وعلا بقوله ?وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ? والتوكل مما اختلفت فيه عبارات العلماء ، بم يُفسر ؟
ولعله أن يكون من أحسنها أن التوكل هو (صدق التجاء القلب إلى الله جل وعلا بتفويض الأمر إليه بعد فعل السبب) وذلك يجمع شيئين :
- التفويض .
- وفعل الأسباب .
وهناك التفويض ، وقد فسر التوكل بأنه تفويض الأمر إلى الله ، وهذا ليس بصحيح ، وإن كان لغة (وكلتك بالأمر) أو تقول العرب (توكلت على فلان) يعني فوضت أمري إليه ، (توكلت على الله) يعني فوضت أمري إليه ، لكن جاء الشرع ببيان أن الأسباب وتحصيل الأسباب أنه من التوكل ، وهذا في قوله عليه الصلاة والسلام (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا) وذلك من الطير عمل ، فإذن التوكل يجمع فعل السبب وتفويض الأمر إلى الله وصدق اللجأ إلى الله في أن يحصل المقصود .
?وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ? التوكل عبادة قلبية عظيمة من العبادات القلبية العظيمة ، والعبادات القلبية منها :
ما يجوز إظهاره على اللسان .
ومنها ما لا يجوز التعبد به لسانا .
فهذا التوكل مما يجوز التعبد به لسانا لمجيء السنة بذلك ، تقول (توكلت على الله) ، (اللهم إني متوكل عليك) تظهر ذلك بالكلام ، وهناك من العبادات ما لا يكون التعبد بإظهاره كالحب ونحو ذلك من العبادات القلبية ، فإذن هي تنقسم إلى قسمين :
- منها ما يتعبد بذكره ( توكلت على الله ) .
- ومنها ما لا يتعبد بذكره كالمحبة (أحببت الله) (أحبك يا الله) ونحو ذلك .
هناك في تفصيلات للتوكل لكن مكانها في الكلام على توحيد العبادة ، وتقسيمات التوكل ، والفرق بين التوكل والوكالة ونحو ذلك .(32/137)
هنا مسألة يكثر السؤال عنها في التوكل وهي قول القائل (توكلت على الله ثم على فلان) من أهل العلم من أجازها ومنهم وهم الأكثر من منعها ، والمانعون على الأصل من أن التوكل فعل قلبي وأنه لا يسوغ التوكل على أحد إلا على الله جل وعلا قال سبحانه ?فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ? ?عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا? اختصاص ذلك بالله أما المخلوق فيقال (وكلت فلانا) ونحو ذلك (اعتمدت على فلان) أما التوكل بخصوصه فليس للمخلوق منه نصيب لأن الذي يفعل الأمور وينفذها على ما يرجو العبد هو الله جل وعلا والمخلوق قد يكون سببا ، وإذ كان سببا فإنه لا يصح أن يفوض الأمر إليه.
قال طائفة من أهل العلم لا بأس أن يقال (توكلت على الله ثم على فلان) باعتبار أن العامي إذا أطلقها لا يعني بها التوكل الذي هو عبادة القلب ، وإنما يعني به ما تكون فيه الوكالة والاعتماد ظاهرا دون عمل القلب .
(التوكل) انقسامه من حيث الحكم أنه شرك أكبر أو أصغر لكن مو من حيث صحته.
الأخ يسأل يقول التوكل قال العلماء أنه ينقسم ؟
نقول قولهم ينقسم ليس من جهة أنه ينقسم إلى ما يجوز وما لا يجوز ، لا ، قالوا ينقسم إلى ما هو شرك أكبر وما هو شرك أصغر ، فإذا توكل على مخلوق ممن لا يقدر على شيء وفوض الأمر إليه ، والتجأ قلبه إليه هذا يكون شركا أكبر ، ممن لا يقدر يعني فوض أمره إليه ، كما يحصل عند عُبّاد القبور ونحو ذلك وعُبّاد الأولياء فإنه يتوكل على هذا الميت في حصول مقصوده من جلب رزق له أو دفع ضر أو نحو ذلك ، هذا شرك أكبر .(32/138)
والقسم الثاني من التوكل هو إذا توكل على مخلوق فيما كان مقدورا له ، توكل على مخلوق فيما كان مقدورا له يعني أنه يعلم أن المخلوق سبب ولكنه توكل عليه ، فوض الأمر إليه ، يجد في قلبه ميلا لهذا المخلوق وتفويض الأمر إليه وتعلق القلب بأن هذا المخلوق سيحصل المقصود ، وإذا كان عند هذا القلب هذا التوجه وهذا الاندفاع نحو المخلوق فهذا القسم الثاني الذي هو شرك أصغر أو نوع تشريك ، لأنه يعني الضابط بينه وبين الأول أن الأول (استقلال) ، والثاني (سبب) الأول (غير مقدور) والثاني (مقدور) من هذه الجهة ، ليس من جهة أنه يجوز أو لا يجوز .
الآية التي بعدها قال وقوله تعالى ?وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ?
......
قوله ( توكلت على الله ثم عليك ) يظهر ، الأظهر فيه عدم الجواز لأن التوكل عبادة قلبية بحتة ليس للمخلوق فيها نصيب .. حتى (توكلت على فلان) لأنه أعظم .
قال هنا ?وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ? هذان اسمان من أسماء الله في هذه الآية ، قال جل وعلا ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ? اسمان من أسماء الله (الْحَكِيمُ) و (الْخَبِيرُ)
و (الْحَكِيمُ) هذا فعيل جاء قبله الألف واللام ، و (حكيم) مبالغة ، صيغة مبالغة من اسم الفاعل الذي هو (حاكم) أو (مُحكِم) صيغة مبالغة منه ، وكل من الاسمين راجع إلى إما (الحكمة) أو (الحُكم)
فتلخص إذا أن قوله (الْحَكِيمُ) يشمل شيئين بدلالة اللغة وأيضا بدلالة النصوص الكثيرة التي جاء فيها تفصيل اسم الله الْحَكِيمُ(32/139)
- (الْحَكِيمُ) بمعنى (الحاكم) ، فالله جل وعلا له الحكم في الأولى وله الحكم في الآخرة ، حكمه جل وعلا في ملكوته نافذ هو جل وعلا يأمر وكل شيء مطيع له جل وعلا ، أمره نافذ فهو (الحاكم) الذي يحكم في السماوات وفي الأرض ، هو ذو الحكم في الأولى والآخرة ، هو ذو الحكم في الأمور الكونية القدرية من إحياء وإماتة صحة وسقم إغناء وفقر ، طول عمر وغيره ، وكذلك هو ذو الحكم في الأمور الشرعية ، يحكم بين العباد فيما اختلفوا فيه كما قال جل وعلا ?وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ?
فقوله هنا (الْحَكِيمُ) إذن أول معنى لها أن يكون (الْحَكِيمُ) بمعنى (ذو الحكم)
* والثاني أن يكون (الْحَكِيمُ) بمعنى (المُحكِم)
حكيم من أحكم الشيء ،وهو معنى صار محكما له ، الله جل وعلا (أحْكَمَ) بمعنى أتقن كل شيء خلقه ، وهو جل وعلا أحكم مخلوقاته جل وعلا ?مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ? أحكم كونه وأحكم القدر وأحكم الشرع ، وأحكم الآيات الشرعية وأحكم الأحكام الشرعية ، فكل هذه على وجه الإتقان ، فملكوته جل وعلا جار على غاية الإتقان وغاية الجمال لا ترى فيه تفاوت ولا اختلاف .
كذلك الحكم الشرعي جار على غاية الإتقان كما قال جل وعلا ?أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا? وكذلك قوله ?الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ? فإحكامٌ للقرآن وإحكام للأحكام التي في القرآن وإحكام لما جاءت به الرسل ، سواء في باب الاعتقاد أو في باب الشرائع .(32/140)
- المعنى الأخير لـ (الْحَكِيمُ) أنه (ذو الحكمة) و (حكيم) بمعنى (ذي الحكمة) وهذا الذي يفهمه أكثر الناس حينما يقال (فلان حكيم) بمعنى أنه (ذو حكمة) والله جل وعلا (الحكيم) بمعنى أنه (ذو الحكمة) ، وحكمة الله جل وعلا بالغة كما قال سبحانه ?حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ? والحكمة هذه معناها الذي تفسر به أنها :
(وضع الشيء في موضعه الموافق للغايات المحمودة منه)
وأما وضع الشيء في موضعه دون نظر للغايات المحمودة منه إما لعجز أو لعدم رعاية ، فهذا لا يسمى حكمة .
وضع الأشياء في مواضعها هذا (عدل) والظلم وضع الشيء في غير موضعه والعدل وضع الشيء في موضعه .
الحكمة عدل وزيادة ، عدل بمعنى أنها (وضع الشيء في موضعه المناسب له) وزيادة أنها (يراعى فيه الغايات المحمودة من الأشياء) .
فالله جل وعلا (حكيم) بمعنى (ذو الحكمة) في أفعاله ، في خلقه ، في شرعه ، في قَدَرِه ، كل ذلك على وفق حكمة الله جل وعلا ، بمعنى أن الله جل وعلا في هذه الأشياء يعني في خلقه وقَدَرِه وفي شرعه ودينه وضع الأشياء مواضعها التي توافق الغايات المحمودة منها .
وكونه جل وعلا (حكيما) يعني أنه يفعل الأشياء لعلة ولحكمة ، ففي اسم الله (الْحَكِيمُ) إثبات لأن أفعال الله جل وعلا معللة .
وهذا هو الصحيح وأهل السنة يقررون ذلك تقريرا بالغا ، ويردون على المبتدعة من الأشاعرة وأشباههم الذين يقولون إن أفعال الله لا يدخلها التعليل ، فيفعل من غير علة ولا رعاية لغايات محمودة ، بل يفعل الأشياء ، يعني له أن يفعل الأشياء هكذا من غير علة .
والحكمة لا بد فيها من مراعاة الغايات المحمودة حتى تصير حكمة ، ولهذا يكون التعليل داخلا في أفعال الله جل وعلا.
هناك تفصيلات أيضا لهذا الاسم يضيق المقام عن بسطها .
قوله (الْخَبِيرُ)
......
عندكم ?وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ?
....
يعني الثنتين ؟
?وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ?(32/141)
على كل حال قوله ? وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم ُ? فيها إثبات صفة (العلم) لله وهذا تقدم الكلام عليها عند قوله ?وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? وفيها اسم الله (الْحَكِيمُ) وهذا في هذه الآية ، فشرح هذه الآية مع ما قبلها يغني عن شرح قوله تعالى ?وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ? أو ?إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ? ونحو ذلك .
قوله هنا (الْخَبِيرُ) اسم من أسماء الله متضمن لصفة (الخبرة) ، وخبرته جل وعلا بالأشياء معناها (أنه جل وعلا يعلم بواطن الأشياء على ما هي عليه)
فإن معنى أن فلانا خبير غير معنى كونه عليما ، لأن العلم هو في الظاهر ، وأما الخبرة ففيها الباطن ، وأعظم من ذلك (اللطيف) فثم ثلاثة أسماء :
- الْعَلِيمُ - الْخَبِيرُ - واللطيف
فـ(الْعَلِيمُ) للظاهر ، و(الْخَبِيرُ) لمعرفة الأمور الباطنة وخبرتها على حقيقتها وعلى ما هي عليه وعلى ما يصلح لها والثالث (اللطيف) وهذا من أوسعها معنى وأبطنها دخولا في الأشياء ?إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء? سبحانه وتعالى .
فإذن في هذه الآية اسمان من أسماء الله وهما (الْحَكِيمُ) و (الْخَبِيرُ) وقد عرفت قول المبتدعة في الحكمة وأنهم يخالفون أهل السنة في بعض معاني اسم الله (الْحَكِيمُ) .
.....
لاحظ الخبرة ما هي بالعلم ، الخبرة غير العلم ، الخبرة معرفة الأمور الباطنة على ما هي عليه ، قد تكون معلومات ، يعني قد تكون مسموعات وقد لا تكون ، وقد تكون مُبصَرات وقد لا تكون ، وقد تكون مُعَللات وقد لا تكون .(32/142)
بمعنى أن العلم ?يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى? السر لا شك معلوم لله جل وعلا حتى ما يناجي به المرء نفسه هو معلوم له جل وعلا ليس في ذلك شك ، لكن الخبرة أدق من ذلك أو أعم من ذلك ، فهي معرفة بواطن الأمور التي لا تظهر ، السر لا بد أن يكون معلوما لأحد حتى لك ، أنت ما تذكره لنفسك بينك وبين نفسك هو معلوم لك ، بينك وبين واحد ?ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا? السر ولو كان خفيا لا بد أن يكون معلوما لأحد .
هذا معنى كونه ظاهرا ، يعني فيه نوع ظهور ، أما (الْخَبِيرُ) هذا يتعلق ببواطن الأمور حتى من جهة الخلق ومن جهة التقدير ليس فقط من جهة المعلومات ، - ظاهر - ، يعني المعلومات يعني المتعلق علم الرحمن جل وعلا بها هذه أخص من اسم الله (الْخَبِيرُ) ، (الْخَبِيرُ) فيه علم بهذه وغيرها سبحانه وتعالى .
أنا ذكرت لكم سابقا أن أسماء الله جل وعلا بعضها يجري مجرى التفصيل لبعض مثل قوله جل وعلا ?هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ? (البارئ) و (المصور) فيها (البَرء) و (التصوير) والبرء والتصوير هي بعض الخلق ، يعني الخلق يشمل التصوير ثم البرء ثم الإيجاد التام ، فإذن اسم الله (الخالق) يُفَصَّل في غيرها من الأسماء بعدة أسماء ، لكن (التصوير) قد يكون وحده بدون خلق ، وقد يكون (البرء) هنا أخص ، فلهذا أسماء الله جل وعلا لا تفهمها أن كل اسم مستقل بمعنى لا يشركه فيه الاسم الآخر ، ليس كذلك ، هي مختلفة نعم من جهة دلالتها لكن قد يشترك الاسم مع الآخر في بعض الدلالة وهذا أمر لا شك واسع يحتاج إلى مزيد بيان .
نقف عند هذا ... نجيب عن بعض الأسئلة هنا :
يقول هل مصطلح التواكل له أصل شرعي أو لغوي وذلك لشيوعه بين الناس ؟(32/143)
له أصل لغوي ، وكذلك له أصل شرعي ، وقد جاء في الحديث عن عمر أنه رأى أقواما جاءوا من اليمن وليس معهم زاد يحجون بيت الله الحرام فسألهم عن ذلك فقالوا نحن المتوكلون ، قال بل أنتم المتأكلون - في رواية قال بعضهم - بل أنتم المتواكلون ، من التواكل لأنه يعني جعل غيره وكيلا له ، التواكل تفاعل يعني جعل غيره وكيلا له في ذلك
...
ذكرتم أن التوكل الصحيح هو ما جمع بين التفويض وبين فعل السبب - سؤالي ذكر بعض أهل العلم كابن رجب رحمه الله حالات القصص عن السلف الصالح مفادها بأنهم فوضوا قلوبهم إلى الله فوصلوا إلى درجة من التوكل بحيث لم يحتاجوا إلى فعل السبب ، واستدل بحديث ابن عباس وقال هي رتبة الخواص ؟
لا ، لا سنة إلا بحركة ولا إيمان إلا بتوكل ، ولا توكل إلا بفعل السبب ، كما قاله غير واحد من السلف ، فعل السبب من التوكل ، التفويض أمر آخر ويفوض يصبح مفوضا أمره إلى الله وهي عبادة قلبية عظيمة ?وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ? أما التوكل فهو فعل للسبب أولا ثم تفويض الأمر إلى الله ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وإن كان عده بعض العلماء من الضعيف قال رجل للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يا رسول الله أترك ناقتي وأتوكل أو أعقلها وأتوكل ؟ قال (بل اعقلها وتوكل) (اعقلها) فعل السبب ، ثم قال (وتوكل) بواو العطف لأنه يشمل ، الأول داخل في الثاني ، يعني (العقل) بعض (التوكل) لأنه فعل السبب ، و هذا لا شك أمر ظاهر .
……(32/144)
هذه ، الصحيح أنها تقيد بهذه الأفعال ولا يقاس عليها غيرها ، لأن هذه الأفعال العرب لهم اعتقاد فيها خاص ، العرب يعتقدون في (الكي) اعتقاد خاص ويعتقدون في (الرقية) اعتقاد خاص ، ويعتقدون في (التطير) ونحو ذلك ، فقوله ?وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ? يعني تركوا فعل تلك الأشياء توكلا على الله جل وعلا لأن فيها حاجة للخلق ، وبعض السلف كأبي بكر وغيره امتنع من إتيان الأطباء ومن العلاج .
ولهذا تنازع أهل العلم هل التداوي من المباح أم من المستحب أم من الواجب ؟
الإمام أحمد عنه روايتان :
قال في رواية إنه مستحب وذلك لأمر النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بقوله (تداووا عباد الله)
وفي رواية أخرى قال مباح تركه بعض السلف ، مباح تركه بعض السلف ، يعني أن التداوي مباح إن شئت تتداوى وإن شئت لا تتداوى ، هكذا قال ومن أهل العلم من حمل الأمر على الوجوب قال (تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام)
والتحقيق في هذه المسألة أن من فعله من السلف آنس من قلبه قوة يقين وتفويض الأمر إلى الله وصدق لجأ إليه ويعلم من نفسه أنه مع حبه لربه وصدق لجئه إليه أنه لن يندم ، وهذا لا يصلح أن يُرشد إليه الناس ، لأن بعض الناس يجي قال لا أتداوى الأفضل إني ما أتداوى و يجي مع نفسه ويترك الدواء فيقع في مصيبة أعظم فيندم على ما فعل فيقع في محرم آخر ، فيترك أمرا مستحبا ويفعل أمرا مستحبا ويقع في محرم عظيم .
……
أي نعم الأكثر أنهم فعلوا التداوي ، أكثر السلف فعلوه والنبي عليه الصلاة والسلام كوى وأمر بالتداوي ونحو ذلك ، ورَقى عليه الصلاة والسلام ورُقي ، وكل هذا من جنس التداوي .
- ما رأيك فيمن يقول اللهم إني وكلتك بجميع من ظلمني إن شئت أن تغفر له فاغفر له وإن شئت أن تعاقبه فعاقبه ولا تحرمني الأجر ؟
إذا ظلمك أحد فالمستحب للمرء أن يعفو عمن ظلمه كما جاء في قوله تعالى ?فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ?(32/145)
والعفو عمن ظلم مستحب ، والظلم قد يكون في بعض صوره يجتمع فيه حقان :
حق للعبد ، وحق لله جل وعلا .
فحقك أنت لك أن تحلل تقول اللهم حلل فلانا اللهم إني عفوت عن فلان ونحو ذلك .
وهاهنا تنبيه على مسألة مهمة الحقيقة ولا بد - خاصة الشباب - أن يرعوها وهي مسألة التحليل ، التحليل الذي جاء في السنة الأمر به في الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (من كانت عنده مظلِمة لأخيه في مال أو عرض) - لاحظ - (في مال أو عرض فليتحلله منه اليوم قبل أن يكون يوم لا درهم فيه ولا دينار) ، (فليتحلله منه اليوم) هذا أمر ، يعني : أنت فيه مظلِمة بينك وبين أحد تروح تحلل منه ، نلت من عرضه ، تحلل منه ، يا فلان حللني ، هنا المستحب أيضا لمن سئل التحليل أن يُحلل دون سؤال عن السبب ، وهذا من الخلق بل من الأمور التي ينبغي للشباب أن ينشروها وأن يتواصوا بها ، مسألة التحليل :
فلان حللني
الله يحللك ..
بدون ما يعترض . ولهذا العلماء تنازعوا فيمن اغتاب غيره هل يسأل غيره أن يحلله ، فمنهم من قال : لا ، لا يسأل كشيخ الإسلام وغيره لأنه قد يقع من ذلك مفسدة ، ومَنْعُ هذه المفسدة بأن يكون المُستحَل منه ، يعني المُتحَلل منه ، أن يقول حللتك بدون السؤال عن السبب ، قد يكون اغتابه قد يكون وقع فيه ثم تاب ، وهي وسيلة من وسائل تحقيق المحبة في القلوب ، لأننا - ونسأل الله جل وعلا للجميع الهداية - في هذا الزمن كثر وقوع الناس بعضهم في بعض ، وخاصة الشباب ، وقوع بعضهم في بعض واغتياب بعضهم لبعض وربما يكون في ذلك ظلم وأحيانا كذب ، فالتحليل أولى من يفعله هؤلاء الملتزمون لأنهم أقرب الناس إلى محبة ما تحصل به السنة ثم يرشدون الآخرين ، التحليل طيب لأنه يوم القيامة ما في إلا أن تؤخذ إما من حسناتك فتوضع له أو من سيئاته فتوضع عليك .
ونختم بهذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد
إحاطة علمه
بجميع مخلوقاته(32/146)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد فهذه صلة لما سبق الكلام عليه من أن الإيمان بالله جل وعلا يشتمل على الإيمان بأسماء الله جل وعلا وبصفاته كما جاءت في النصوص .
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله فيما سبق جملة من النصوص التي تدل على أسماء الله وعلى صفاته ، ثم ذكر منها قوله تعالى ?يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا? وذكر أيضا الآيات المتعلقة بعلمه جل وعلا كقوله ?وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ? وكذلك في قوله ?لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا? وهذه الآيات فيها جميعا إثبات صفة (العلم) لله جل وعلا وأن الله سبحانه وتعالى هو (الْعَلِيمُ) بصفة وهي صفة (العلم) .
وهذا فيه مخالفة للمعتزلة الذين قالوا إن الله جل جلاله يعلم لكن ليس بعلم ، يعني يقولون إن الله عالم لكن ليس بعلم ، يعني ليس بصفة زائدة على ذاته جل وعلا بل هو يعلم بذاته لا يعلم بصفة إنما العلم يأتي من ذاته جل وعلا .
وهذا باطل لأن اسم الله جل وعلا (الْعَلِيمُ) مشتمل على صفة العلم ، والعلم أُثبِت له جل وعلا كغيره من الصفات بالاسم كـ (الْعَلِيمُ) وبالصفة يعني المجردة وكذلك بالأفعال ، والأفعال تدل على حصول الحدث ، يعني تدل على حصول المصدر مع الزمن المقترن به ، وهذا كله يدل على أن العلم الحاصل لله جل وعلا هذا شيء زائد عن الذات ، يعني شيء متعلق بزمن ، والذات غير متعلقة بشيء من ذلك .(32/147)
فإذن دل على أن صفة العلم لله جل وعلا أنها كسائر الصفات لله تبارك وتعالى وهي أنها صفة مستقلة ذاتية قائمة بالذات لكن ليست هي عين الذات فـ (الْعَلِيمُ) من أسماء الله جل وعلا هو ذو العلم الواسع وليس معناه أنه (الْعَلِيمُ) بذاته وإنما هو (عليم) بالعلم .
يعبر المعتزلة عن ذلك بقولهم عليم بلا علم .
معنى قولهم (عليم بلا علم) يعني عليم بلا صفة زائدة عن ذاته هي العلم ، وهكذا يقولون في سائر الصفات سميع بلا سمع ، يعني بلا صفة زائدة هي السمع بصير بلا بصر وحفيظ بلا حفظ ، وهكذا ، يعني أن الأسماء إما أن يفسروها بمخلوقات منفصلة وإما أن يفسروها بالذات .
ومما ينبه عليه هنا أن أهل السنة يقولون (يعلم بعلم) وأما ما وقع في بعض الكتب من الكتب المنسوبة لأهل السنة ككتاب (الحيدة) مثلا من أنه جل وعلا (يعلم بلا علم) هذا غلط ، أو قولهم (إننا لا نطلق هذه العبارة بعلم أو بغير علم لعدم ورودها) كذلك هذا غلط .
والذي جاء في (الحيدة) هو كذلك في غيرها (أننا نقول يعلم ولا نقول بعلم ولا بغير علم)
وهذا باطل لأن كونه جل وعلا يعلم معنى ذلك أن علمه متجدد بتجدد زمن الفعل ، لأن الفعل ينحل عن زمن وعن مصدر ، والمصدر مجرد من الزمن ، والزمن لا بد له من تجدد والذات لا يمكن أن تكون كذلك .
فإذن التجدد راجع إلى حصول هذه الصفة باعتبار متعلقاتها ، وإذا صارت هذه الصفة متجددة باعتبار متعلقاتها يعني باعتبار المعلوم صار ذلك بعلم زائد على الذات ، المقصود من ذلك أن في هذه الآيات رد على طائفة من الضلال في باب الصفات وهم الذين يقولون إن صفات الله جل وعلا هي بالذات وليست زائدة عن الذات . الصفات غير الذات ، نعم ، صفات الله جل وعلا القول فيها كالقول في الذات لكن ذاته جل وعلا هي المتصفة بالصفات .(32/148)
فالصفات أمر زائد على الذات ولا يعقل أن توجد ذات ليست بمتصفة بالصفات بل الصفات تكون للذات ، وليس الذات وجودها عينه هو وجود الصفات ، بل ثم صفات وثم ذات .
نعم الصفات لا يمكن أن تقوم بنفسها بل لا بد لها من ذات تقوم بها ، فإذن صفات الله جل وعلا ومنها (العلم) على ذلك ، وهذه مقدمة تصلح لجميع أنواع الصفات التي ستأتي .
قال سبحانه وتعالى هنا ?يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا?
وجه الدلالة هنا قوله (يَعْلَمُ) وكما ذكرت لكم ، الفعل المضارع ينحل عن مصدر وعن زمن .
يعني بالمصدر اللي هو الصفة (يعلم) فيه العلم (العلم زائد زمن) فإذن فيه إثبات الصفة وهذا معنى كون الأفعال فيها إثبات الصفة لأن الفعل هو حدث وزيادة على الحدث وهو الزمن .
قوله ?يَعْلَمُ مَا يَلِجُ? وجه الدلالة أيضا أنه أتى بـ (مَا) وهي اسم موصول تدل على عموم ما كان في حيز صلتها ، يعني يعلم جميع الوالج في الأرض ، والوالج في الأرض متجدد ، متغير ؟
كذلك يعلم جميع الذي يخرج من الأرض وهذا متغير .
إذن فالعلم صفة لله جل وعلا ذاتية ، قائمة بذاته لكن المعلومات متجددة ، فإذن صفة العلم لله جل وعلا ثابتة أصلا وآحادها متعلقة بالمعلومات وبتجدد المعلومات .
هنا قال ?وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا?
كذلك ، وهذه الآية تدل على علم الله جل وعلا - كما ذكرت لكم غير مرة - على علم الله جل وعلا بالصغير وبالكبير ، وبالجزئيات وكذلك بالكليات ، وجه الدلالة أنه أتى بـ (مَا) وهي لفظ يدل على عموم الأشياء ، يعني جميع ذلك ومنها أشياء يسيرة جزئية وليست كلها بكلية.
قال جل وعلا بعدها ?وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ?
انتهى الشريط الخامس من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السادس(32/149)
قال جل وعلا بعدها ?وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ?
وقوله (عِنْدَهُ) (العندية) تُشْعِر بالاختصاص وبالقرب أيضا ، ?الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ? يعني المختصون بذلك القريبون ، فـ (العندية) فيها مع العلو الاختصاص والقرب .
قوله هنا ?وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ? يعني أن هذه يختص الله جل وعلا بها .
و ?مَفَاتِحُ الْغَيْبِ? هي مجامعه وأصوله ، يعني أن مجامع الغيب وأصوله ، أو كما قال بعض أهل العلم الطرق الموصلة له التي ينكشف بها هي له جل وعلا وحده وليست لأحد من الخلق ولكن قد يطلع الله جل وعلا بعض خلقه على بعض مفردات الغيب لا على مفاتحه ، أما المَفَاتِحُ وهي الأصول والمجامع فهي عنده جل وعلا وحده .
قال هنا ?وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ? وهذه ، قوله ?لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ? فيها حصر ، ووجه الحصر أنه أتى بأداة الاستثناء (إِلا) بعد النفي (لا) وأداة الاستثناء إذا أتت بعد النفي بـ (لا) أو بغيرها دلت على (الحصر والقصر) وأيضا قد تدل على (الاختصاص) .
فهنا فيه حصر وقصر ، يعني علمها محصور فيه جل وعلا ، وهذا كما جاء في آية لقمان ?إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ? الآية ، وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (خمسٌ لا يعلمهن إلا الله) وذكر هذه الخمس المذكورة في آية لقمان ، لكن هذه الخمس فيها تفصيل من جهة اختصاص الله جل وعلا بعلمها .
قال هنا ?وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ?
عموم ، يدل على ما ذكرت لك في الآية التي قبلها .
?وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا?
هذا أيضا حصر .
?وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ?(32/150)
هنا في آخرها قال ?إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ? وهذه دالة على صفة (العلم) أيضا كسابقتها ، يعني كالجملة في أول الآية .
وجه الدلالة أن (الكتابة) لا تكون إلا بعد (العلم) .
قال هنا ?وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ? ولا يكون فِي كِتَابٍ (إلا قبل أن توجد هذه الأشياء ، ومعنى ذلك أن (علم) الله جل وعلا شامل لما كان وما سيكون وأيضا يشمل لما لم يكن لو كان كيف يكون .
قوله هنا ?إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ? يعني به (اللوح المحفوظ) هو الكتاب المبين ووصفْه بأنه (مُبِينٍ) يقتضي شيئين :
* الأول أن ما فيه بيّن واضح ليس فيه اشتباه وليس فيه مداخلة بل كل ما فيه بيّن واضح ?فِي كِتَابٍ مُبِينٍ? ، من (أبان) اللازمة ، وذلك أن يكون الشيء بيّنا واضحا في نفسه .
* كذلك هو (مُبِينٍ) من (أبان) المتعدية ، أبان غيره ، (أبان الشيء) يعني (أوضحه وجلاّه) ، وأيضا في صفة (اللوح المحفوظ) أنه يُبين الأشياء ويظهرها ، لأن كل الأشياء تكون على وفق ما في (اللوح المحفوظ) .
فإذن ما في هذا الكتاب وهو (اللوح المحفوظ) بيّن في نفسه واضح لأن الله جل وعلا كتبه بـ (علم) وأيضا هو (مُبِينٍ) لغيره موضح لغيره وهذا فيه دلالة واضحة على هذه المسألة وهي علم الله جل جلاله .
ذكرت لك وجه الدلالة أن :
- أولا في لفظ الكِتَابٍ ما يفهم منه يفهم منه صفة (العلم) وذلك أن الكتابة لا تكون إلا بعد (العلم) ، يعني المجهول لا يُكتب ، إنما يكتب ما علم ، وهذا فيه إثبات صفة (العلم) .
- ثانيا كلمة (مُبِينٍ) هذه أيضا فيها صفة (العلم) يعني مضمنة صفة (العلم) لأن هذا الكِتَابٍ بيّن في نفسه واضح ، وهذا معناه يحتاج إلى (علم) - علم مَن كتبه - أيضا (مُبِينٍ) لغيره ، وهذا أيضا يقتضي (علم) من كتبه على التفصيل ، يعني علمه بالتفصيل والدقائق جميعا ، كما قال سبحانه في أول الآية ?وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ? .(32/151)
هذه الآية فيها إثبات صفة (العلم) لله جل وعلا وإحاطة (علم) الله جل وعلا بجميع المخلوقات ، يعني أنه لا يعزب شيء عن (علم) الله جل وعلا بل كل المعلومات معلومة لله جل وعلا ، كل شيء يعلمه الله تبارك وتعالى ، لا يعزب عنه علم أي شيء ، لا يعزب عنه جل وعلا علم أي شيء ، بل كل المعلومات ، كل شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى .
قال هنا ?وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ?
هذا فيه ذكر صفة (العلم) لله جل وعلا بقوله ?إِلا بِعِلْمِهِ? والكلام عليها كالكلام على ما سبق
قال جل وعلا بعدها ، يعني ذكر الشيخ - رحمه الله - الآية التي بعدها بقوله :
?لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا?
في هذه الآية فيها صفة (القدرة) لله جل وعلا وفيها صفة (العلم) لله جل وعلا .
وأيضا في أوله (التعليل) ?لِتَعْلَمُوا أَنَّ? ، وهذا (التعليل) راجع لما سبق ذكره في أول السورة اللي هي سورة (الطلاق) ?لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? يعني ما سبق ذُكِرَ وشُرِع وأُنْزِلت الآيات (لِتَعْلَمُوا) ذلك ففيها إثبات دخول (التعليل) في أفعال الله جل وعلا القدرية وكذلك في أفعال الله جل وعلا الشرعية .
فإذن في قوله (لِتَعْلَمُوا) اللام هذه لام (كي) أي لام (التعليل) ففيها إثبات (التعليل) من الجهتين ، يعني في أفعال الله القدرية وأفعال الله الشرعية .
قال هنا ?لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?
و (القدرة) صفة من صفات الله جل وعلا .
واسم الله الـ(قَدِيرٌ) هو ذو القدرة البالغة لأن (قَدِيرٌ) صيغة مبالغة من (قادر) ، يعني هو من قامت به (القدرة) قياما عظيما ] هذا الـ (قَدِيرٌ) ، (القادر) اسم فاعل (القدرة) أو اسم من قامت به (القدرة) ، والـ (قَدِيرٌ) مبالغة عن ذلك يعني من قامت به (القدرة) قياما عظيما.(32/152)
فالله جل وعلا له (القدرة) العظيمة المطلقة التي لا يعجزه جل وعلا بها شيء ، بل قدرته شملت كل شيء .
وقوله هنا ?عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? فيه أن (القدرة) متعلقة بكل شيء ، وأنه ما من شيء إلا وهو متعلق بقدرته جل وعلا ، يعني ما من شيء إلا وهو داخل تحت قدرته ، فـ (قدرة) الله جل وعلا شاملة لجميع الأشياء ، وهذا يدخل فيه :
- أفعال العباد خلافا للقدرية .
- يدخل فيه ما لم يشأ الله جل وعلا أن يكون خلافا للأشعرية والماتريدية .
لأن الأشعرية والماتريدية يقولون إن قدرة الله جل وعلا متعلقة بما يشاؤه ، ويجعلون لها نوعين من التعلق ، يسمون الأول التعلق الصلوحي ، ويسمون الثاني التعلق التنجيزي ، وهذا ليس محل إيضاحهما .
المقصود أنهم يقولون إن قدرة الله جل وعلا ليست شاملة لكل شيء بل هو قدير على ما يشاؤه جل وعلا ، ولهذا يكثر عندهم التعبير بقولهم (هو على ما يشاء قدير) (والله على ما يشاء قدير) ويعدلون عن ما قال الله جل وعلا ?وَاللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? يعدلون عن استعمال كلمة ?كُلِّ شَيْءٍ? إلى (ما يشاء) وذلك لأن (القدرة) تتعلق عندهم بما يشاؤه الله جل وعلا .
و ?كُلِّ شَيْءٍ? التي في النصوص يعني (كل شيء شاءه) وليس (كل شيء شاءه أو لم يشأه) .
وهذا لا شك أنه باطل وذلك لأن الله جل وعلا بيّن أن قدرته متعلقة بكل شيء ، وما لا يشاؤه داخل في هذا العموم ، فمن أراد إخراجه من العموم فلا بد أن يكون عنده دليل على ذلك ، بل الدليل دل على أن (قدرة) الله جل وعلا متعلقة بما لم يشأه جل وعلا وذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام ?قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ? .
?قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ? هذه مُنعت عن هذه الأمة .(32/153)
فإذن لم يشأها الله جل وعلا أن تقع على هذه الأمة .
?أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ? لم يشأها الله جل وعلا أن تقع في هذه الأمة .
?أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا? قال النبي عليه الصلاة والسلام (هذه أهون) .
فإذن دلت الآية على أن الله جل وعلا (قادر) على ما لم يشأه وعلى ما شاءه جل وعلا .
إذن في الآية هذه التي معنا وغيرها تعلق (قدرة) الله جل وعلا بكل شيء ، وهذا التعلق يشمل ما قضى الله جل وعلا وقدر أن يكون ، أو ما علم الله جل وعلا أنه لا يكون ، فقدرته شاملة لكل شيء .
فمما تجب مخالفة المبتدعة فيه أن لا تستعمل هذه الكلمة (على ما يشاء قدير) لأنها مما يختصون به
قد جاء في السنة في مواضع - ليس هذا محل تفصيل تام لهذا لكن إشارة - جاء في السنة كصحيح مسلم وغيره أن الله جل وعلا قال (إني على ما أشاء قادر) وهذا اعتُرِضَ به على ما أسلفت من الكلام لكن ليس فيه اعتراض ، لأن قوله على ما أشاء قادر :
* هذا أولا داخل في ضمن ?كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? فإننا نقول : هو يقدر على ما يشاء وعلى ما لم يشأ.
* ثانيا أن هذه قالها الله جل وعلا متعلقا بشيء حصل وهذه قصة الرجل الذي دخل الجنة وقال الله جل وعلا له (أترغب في شيء) أو (هل لك من شيء) قال يا رب أتهزأ بي ، قال (لا ، ولكني على ما أشاء قادر) وهذا بعد حصول الشيء ، وهذا يختلف عن إطلاق أولئك هذه الكلمة لأنهم يطلقونها قبل حصول الأشياء غير متعلقة بشيء معين حصل ، إلى آخر الكلام في هذه المسألة.
المقصود قوله هنا ?لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? فيه إثبات صفة (القدرة) وأنها متعلقة بكل شيء .
ثم قال ?وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا?
(قَدْ أَحَاطَ) (الإحاطة) له جل وعلا أحاط هو سبحانه ?بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا? و (عِلْمًا) هنا متعلقة بـ (أَحَاطَ)(32/154)
إذن فأَحَاطَ في هذه الآية مخصوصة بالإحاطة بـ(العلم) وهذا بعض معنى (إحاطة) الله جل وعلا بخلقه ، التي هي من معنى اسم الله ، أو من معنى قول الله جل وعلا ?أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ? .
?أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ? (الإحاطة) هنا أعم من كونها إحاطة علم ، لأن (الإحاطة) تُفَسر - يعني في قوله ?أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ? - تُفسر بأنها :
إحاطة (علم) و (قدرة) و (سعة) و (شمول) .
يفسر أهل السنة الـ (مُحِيطٌ) بهذه الأربعة إحاطة (علم) و (قدرة) و (سعة) و (شمول).
وقوله هنا ?قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا? هذا إحاطة بالعلم ، فليس فيها نفي لأنواع الإحاطة الأخرى بل هذا تخصيص للاحاطة العلمية بالذكر جل تعالى وتقدس وتعاظم .
هذه الآية فيها الدلالة على صفة (العلم) كما أسلفت لك .
قال سبحانه وتعالى ?إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ?
قال شيخ الإسلام (وقوله) يعني وقوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ? وهذا فيه اسم من أسماء الله وهو (الرَّزَّاقُ) وفيه اسم من أسماء الله وهو (الْمَتِينُ) .
و (الْمَتِينُ) فيه منازعة هل يدخل في أسماء الله جل وعلا التسعة والتسعين أم لا ؟
أما (الرَّزَّاقُ) فهو من أسماء الله جل وعلا الحسنى التسعة والتسعين .
(الرَّزَّاقُ) هذه من حيث اللفظ صيغة مبالغة من (رازِقْ) .
و (الرَازِقْ) اسم فاعل (الرَزْْقْ) بالفتح .
(الرَّزْق) هو المصدر ، مثل (الخَلْقْ) و (البَرْءْ) ونحو ذلك ، أما (الرِزْقْ) بالكسر ، فلا يقال إن الله جل وعلا متصف بصفة (الرِزْقْ) حاشا وكلا ، إنما الله جل وعلا متصف بصفة (الرَزْقْ) لأن (الرَّزْق) هو الحدث هو الوصف ، أما (الرِزْقْ) فهو العين المرزوقة (الرِزْقْ) هو الشيء ، إذا أتاك أكل هذا رِزق ، إذا أتاك مال هذا رِزق ، الهداية رِزق ، يعني (الرِزْقْ) في المخلوقات هو أثر (الرَزْقْ) .(32/155)
أثر صفة الله (الرَزْقْ) (الرِزْقْ) .
فإذن (الرَزَاقْ) نقول صيغة مبالغة من (الرَازِقْ) ، و (الرَازِق) اسم فاعل (الرَزْقْ) و (الرَزْقُ) هو إعطاء ما تمس الحاجة إليه .
إذن في قوله (الرَزَاقْ) فيه إثبات صفة (الرَزْقْ) لله جل وعلا ، لذلك نقول مثلا في توحيد الربوبية نقول توحيد الربوبية هو [ توحيد الله بأفعاله ] مثل (الخلق) و (الرَزْقْ) - تنتبه ما تقول (الرِزْقْ) - (الخلق) و (الرَزْقْ) و (الإحياء) و (الإماتة) لأن (الرِزْقْ) هو العين المرزوقة ، فإذا قلت إن الله جل وعلا من صفته (الرِزْقْ) هذا باطل ، لأن (الرِزْقْ) هو الشيء المرزوق ، لكن من صفته (الرََزق) يعني أن يعطي العباد ما يحتاجون إليه .
هنا قال (الرَزَاقْ) و (الرَزَاقْ) كما ذكرت لكم ما دام أنها صيغة مبالغة من فاعل وهي (رازِق) ودخلت عليها الألف واللام فتفيد استغراق أنواع (الرَزْقْ) و أنواع (الرَزْقْ) لله جل وعلا هي أنواع ما أعطى العباد مما يحتاجون إليه ] فتدخل في ذلك
......
فـ (الهداية) تُرزَقٌ وذلك لأن العباد محتاجون إليها في حياتهم وفي آخرتهم .
إذن وجه الدلالة في شمول اسم الله (الرَزَاق) على نوعي (الرَزْقْ) الرِّزق في الدنيا والرِّزق في الآخرة
قال في الآخرة ?يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ? (الرَّزق) غير متعلق بالدنيا ، بالدنيا والآخرة ، كذلك هو بالمال والطعام والمشرب والملبس إلى آخره ، وكذلك (الرَّزق) الديني وهو إعطاء الهداية وأسباب الهداية إما بالتوفيق والإلهام وإما بالإرشاد والدلالة ، وهذا لا شك يكون فيه عموم لاسم الله جل وعلا (الرَّزَّاقُ) .
قال ?ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ?
?الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ? و(الْمَتِينُ) - (ذُو الْقُوَّةِ) واضح -(الْمَتِينُ) هذا في صفة الله جل وعلا هو البالغ في صفاته نهايتها هذا معروف عند العرب أن (المتانة) في الشيء بمعنى بلوغه الكمال .(32/156)
(هذا شيء متين) يعني بالغ نهاية ما يناسبه ، والله جل وعلا في اتصافه بالصفات له الكمال المطلق الذي لا يعتريه النقص ولا يلحقه نقص ولا شائبة نقص بوجه من الوجوه ، وهذا كله مستفاد من اسم الله (الْمَتِينُ) .
فإذن (الْمَتِينُ) هو البالغ في الصفة نهايتها .
هنا لما قال ?ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين? لو فسرتها بأنها ذو القوة البالغ في قوته نهايتها ، البالغ في قدرته نهايتها صار هنا متعلقا بـ (القوة) .
أو جعلت (الْمَتِينُ) نعت لـ (الرَّزَّاقُ)
?ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ? نعت لـ (الرَّزَّاقُ) ونعت باعتبار الذات لا باعتبار الصفة ، لأن أسماء الله جل وعلا إذا تكرر اسمان الواحد تلو الآخر فإما أن تكون نعتا باعتبار الذات وإما أن تكون خبرا ثانيا أو مفعولا ثانيا أو اسما ثانيا باعتبار الصفات .
مثلا ?وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ? (الْغَفُورُ) هذه كيف تعربها ؟ (الْغَفُورُ) خبر ، صحيح ؟
(الرَّحِيم) هل هي نعت لـ (الْغَفُورُ) أو خبر ثاني ؟
الأنسب عند كثير من أهل العلم أن يقال خبر ثاني ، لأن هنا ?الْغَفُورُ الرَّحِيمُ? (الرَّحِيمُ) هنا غير (الْغَفُورُ) فلا يناسب أن يكون نعتا له، لكن هو يناسب باعتبار الذات ، يعني لأن اسم الله (الْغَفُورُ) يدل على الذات ، وهذه الذات موصوفة - يعني منعوتة نعتا ما هو بالوصف اللي هو الوصف بالصفات - بأنها (الرَّحِيمُ) ، تقول فلان الكريم الجواد ، الجواد هنا أيضا وصف للرجل يعني نعت له في باب النحو.
فإن هنا قوله ?ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ? هنا (الْمَتِين) إما أن تكون خبر (إن) ثاني ?إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الْمَتِينُ? هذا خبر ثاني ، وإما أن تكون نعتا لـ (الرَّزَّاقُ) أو نعتا لقوله ?ذُو الْقُوَّةِ? باعتبار الذات ، انتبه لهذه لأنها مهمة وهي مزالق أقدام أيضا في عبارات بعض المبتدعة في التفسير .(32/157)
إذن هنا إذا جعلناها كذلك يكون (الْمَتِين) إما - إذا قلنا إنه خبر ثاني ?إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الْمَتِينُ? خبر ثاني - يصير معناه البالغ في صفاته نهاية كمالها .
وإذا قلنا إن (الْمَتِين) نعت لقوله ?ذُو الْقُوَّةِ? يصير البالغ في القوة نهايتها .
وإذا جعلناه نعتا لـ (الرَّزَّاقُ) نقول البالغ في كمالات الرِّزق نهاية ذلك .
......
نعم
هي محتملة ، والخبر الثاني واضح لأنه يفيد الاستقلال ، لأن الخبر الثاني فائدته ما يكون متعلق بـ (الرَّزق) أو متعلق بقوله ?ذُو الْقُوَّةِ? ، يكون مستقل ، أو نعت على ذلك .
إثبات السمع والبصر
لله سبحانه
قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد ذلك وقوله تعالى?ِلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? وَقَوْلُه ?إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا?
هذان الاسمان وهما اسم (السَّمِيعُ) و (البَصِيرُ) لله جل وعلا وقوله ?كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا? هذه متضمنة ، مشتملة لصفة (السمع) و (البصر) لله جل وعلا .
و(السمع) و (البصر) من الصفات التي يثبتها (الصفاتية) يعني يثبتها الكلابية والأشاعرة والماتريدية ، ويثبتها أهل السنة والجماعة .
فإذن صفة (السمع) و (البصر) ليس فيها خلاف بين الأشاعرة وأهل السنة ، وإنما الخلاف فيها مع المعتزلة وأشباههم ، لأنها عندهم الصفات ثلاث فلا يدخل فيها (السمع) و (البصر) .
الأشاعرة والماتريدية و المتكلمون بعامة يجعلون صفة (السمع) و (البصر) من الصفات التي دل عليها العقل ، ولهذا جعلوها في الصفات السبع لأن الصفات السبع التي يثبتها القوم أثبتوها لدِلالَةِ العقل عليها .
فإذن هنا في استدلالنا بذلك بهذه الآيات نستدل عليها بالسمع لا بالعقل ، فبابها باب غيرها من الصفات فدليل صفات الله جل وعلا جميعا واحد وهو الدليل السمعي النقلي .(32/158)
فـ (السمع) و (البصر) نستدل عليهما بالآيات والأحاديث كما نستدل بالآيات والأحاديث على غيرها من صفات الله جل وعلا .
وأما المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم ممن يثبت صفة (السمع) و (البصر) ، فيثبتونها لأن أصلها مأخوذ من العقل .
فإذن اشتركنا معهم في الإثبات واختلفنا في مورد الإثبات وهذا مع تحصيل النتيجة لا يكون فيه كبير فرق من حيث إثبات الصفة ، لكن فيه فرق من حيث الدليل لأن العقل لا يسوغ أن يستدل به قبل النقل فإن العقل دليل صحيح إذا كان يوافق النقل إذا كان يوافق السمع ، وأما إذا لم يوافقه فنعلم أن عقل صاحب ذلك العقل لم يكن بصواب لأنه خالف كلام الله جل وعلا الذي وهب الناس العقول والذي يُعَلِم الناس الحق وليس بعد الحق إلا الضلال .
قوله هنا ?ِلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?
?ِلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? معناها ليس مثله شيء ليس مثله شيء ، والكاف هذه في قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? الكاف هذه للعلماء فيها توجيهان :
* منهم من يقول هي بمعنى (مثل) تقدير الكلام (ليس مثل مثله شيء) ونفيُ (مثل المثل) فيه إعراض - انتبه للكلام - نفي (مثل المثل) فيه إعراض عن إثبات (المثل) لاستحالته .
يعني حينما قدرها بعضهم قدر الكاف بـ (مثل) كونه يكون المعنى (ليس مثل مثله شيء) رُدَ بأنه لو قدر بذلك لكان يمكن أن يكون فيه إثبات للمثل لأنه قال (ليس مثل مثله) فهل معنى نفي مثل المثل أن فيه إثبات المثل ؟
الجواب أنه على هذا القول ليس كذلك لأن العرب تنفي - يعني في لغتها - مثل المثل لأن وجود المثل مستحيل ولأنه لا يستحق أن يذكر ، فينفى مثل المثل مبالغة في نفي المثل ، هذا واحد .(32/159)
* الثاني قالوا الكاف هذه (صلة) زائدة ، والحروف تُزاد في الآيات وزيادتها يعني أن تكون زائدة إعرابا ، أما من حيث المعنى فلها أكبر الفائدة وهي أن تكون في مقام تكرير الجملة وتأكيدها ، وأعلى ما تؤكَّد به الجملة في لغة العرب أن يكون تكراراً لثلاث مرات .
تكرار ثلاث مرات أعلى ما تؤكد به العرب ، إذا أردت أن تؤكد بالتكرار تؤكده ثلاث مرات ، فإذا زادت حرفا فإن هذا في مقام تكرارها ثلاث مرات كقوله هنا ?ِلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? يعني كأن الله جل وعلا قال ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء وهو السميع البصير ، وهذه قاعدة في الزيادات ، زيادات الأحرف في القرآن ، مثلا في قوله ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ? ، فَبِمَا رَحْمَةٍ والمعنى فبرحمة من الله ، (مَا) هنا هذه حرف زائد إعرابا لكن فائدته في الكلام هو التوكيد ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ? يفهم منها العربي أن الكلام طرق سمعه ثلاث مرات قال فبرحمة من الله لنت لهم فبرحمة من الله لنت لهم فبرحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب ولا تأتي المؤكدات بالحرف الذي هو (صلة) أو زائد إلا لما عظُمَ تأكيده .
ما أتى كثيرا في القرآن ?لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ? (لا) هنا (صلة) يعني حرف زائد ، ليس معناه نفي القسم ، هو فيه إثبات القسم بتكراره ثلاث مرات [ أقسم بيوم القيامة أقسم بيوم القيامة أقسم بيوم القيامة ] كذلك ?فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ? يعني [ فبنقضهم ميثاقهم لعناهم فبنقضهم ميثاقهم لعناهم فبنقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ] إلى آخره ، فإذن تكون الكاف على هذا (صلة) فيكون معنى الجملة تأكيد [ ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء وهو السميع البصير ] .(32/160)
قوله هنا ?وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? هذا فيه تنبيه على أن صفة (السمع) و صفة (البصر) هذه تُثبت لله جل وعلا من غير تشبيه يعني من غير تمثيل لأنه نفى قال ?ِلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? وهذا فيه رد على المجسمة والممثلة ، وقال ?وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? ففيه رد على المعطلة الذين يُخلون الله جل وعلا من صفاته .
قال بعض أهل العلم سبب ذكر صفتي (السمع) و (البصر) ها هنا أنهما صفتان مشتركتان بين أكثر الكائنات التي حياتها بالروح .
تجد أن الكائنات التي حياتها بالروح لها (سمع) و (بصر) البعوضة لها (سمع) و (بصر) ، النملة لها (سمع) و (بصر) ، الذبابة لها (سمع) و (بصر) الهدهد الطائر له (سمع) و (بصر) وهكذا ، الإنسان له (سمع) و (بصر) ، السبع له (سمع) و (بصر) ، لكن الإنسان يعلم أنه ، يعرف أن سمعه وبصره مع ثبوته له ليس له شك في ذلك لكن ليس كسمع وبصر البعوض ليس كسمع وبصر النملة .
فإذا علم ذلك ، علم أن إثبات صفة (السمع) و (البصر) لله جل وعلا إنما هو إثبات معنى لا إثبات كيفية له تبارك وتعالى ، وذلك لأن كيفية اتصاف الإنسان ما هي بكيفية اتصاف النملة في السمع والبصر ، يختلف في الكيفية .
فنقول إذن ينتج من ذلك أن ذكر (السمع) و (البصر) بعد قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? لهذه المناسبة وهو أن (السمع) و (البصر) صفتان مشتركتان بين غالب أو أكثر الكائنات التي حياتها بالروح .
قال هنا ?إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا?
هذا كالآية التي قبلها ?السَّمِيعُ البَصِيرُ? (السَّمِيعُ) طبعا فعيل هي أيضا فيها مبالغة من (سامع) يعني الذي لا يفوت سمعه شيء .(32/161)
كذلك (البَصِيرُ) مبالغة من (المبصر) وهو الذي لا يفوت بصره شيء ، يعلم ويرى دبيب النملة السوداء ويسمع ذلك يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء ، بل ويرى من هذه النملة العروق ، بل ويرى ما يجري فيها من طعام ، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى (ويرى نياط عروقها) سبحانه وتعالى .
فإذن (بصره) متعلق بكل المُبصَرات .
صفة (السمع) معناها إدراك المسموعات .
صفة (البصر) معناها إدراك المبصرات وهذا سبق وتقدم الكلام عليها .
بقي هنا على الآية تنبيه وهو قوله ?إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا? هنا في صفات الله جل وعلا يكثر أن تأتي بالماضي بـ (كَانَ ?كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا? ، (سَمِع) ونحو ذلك ، وذلك أن إثبات الصفات بالفعل الماضي مقتضٍ لثبوتها أزلا وثبوتها فيما بعد ذلك من الزمان .
يعني [ كان على ذلك ] وإذا كان على ذلك فإنها لا تسلب منه ، كان على ذلك وهو جل وعلا لم يزل على ذلك .
فإذن إثبات الصفات بالفعل الماضي يدل على أن اتصافه جل وعلا بها (أَوَل) لأن (كان) ليس له حدود فيحمل على أوليته .
نقف عند هذا لأن إثبات المشيئة والإرادة يحتاج إلى تفصيل .
هنا سننبه إلى أنه لعارض عَرَضْ ستقف الدروس بعد نهاية هذا الأسبوع لمدة أرجو أنها لا تطول - لعارض السفر -
……
لا ، المعنى الثاني أوجه ، المعنى الثاني أظهر أنها (صلة) ، أما المعنى الأول وهو أن تكون الكاف بمعنى (مثل) هذا صحيح عربية لكنه دون أن تكون (صلة) .
هذا سؤال يحتاج إلى تفصيل ربما يضيق المقام عليه ، وهو إطلاق كلمة (مبتدع) على كثير من الناس وقد يكون متمسكا بالدين ، فما هو الضابط الشرعي لكلمة مبتدع ومن تطلق عليه ومتى ؟(32/162)
هذا لعلنا نحفظ هذا السؤال إن شاء الله يكون عندنا وقت نجيب عليه بتفصيل لأن هذه صار فيها أخذ ورد واعتداء نسأل الله جل وعلا السلامة والعافية والناس فيها ما بين مُفْرِط ومُفَرِّط ، بين من يمتنع من إطلاق كلمة الـ (مبتدع) على من هو مبتدع فعلا ، وبين من يطلقها على من ليس كذلك .
هل يصح أن يقال إن لله (علما) علمه العباد وعلما لم يعلمه العباد ؟
لو قال ، نعم ، ?وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ? - العبارة الصحيحة - لكن لو قيل إنها في الغيب ، غيب أطلعه ، غيب أطلع العباد عليه ، وغيب لم يطلع العباد عليه.
هذا كلام عن نقل للإمام البغوي يحتاج إلى تأكيد عن قوله في الأول (القديم) وفي الآخر (الرحيم) والظاهر (الحليم) والباطن (العليم) أراجعه إن شاء الله وأجيبكم بعد ذلك .
نقف على هذا وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
إثبات المشيئة والإرادة
لله سبحانه
وَقَوْلُهُ: ?وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ?[الكهف:39]، وَقَوْلُهُ: ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ?[البقرة:253]، وَقَوْلُهُ: ?ِأُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ?[المائدة:1]، وَقَوْلُهُ: ?فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ?[الأنعام:125].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والثبات على الحق حتى لُقياه .(32/163)
ثم إن في وصف النبي عليه الصلاة والسلام بـ (السيادة) فيما قرأ الأخ بارك الله في الجميع ، حيث يقول كثيرون (وصلى الله وسلم على سيدنا محمد) وهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم
ووصفه بالسياده وصف يستحقه عليه الصلاة والسلام ولا شك ولكن لا يدخله جهة التعبد من القائل ، بخلاف وصفه عليه الصلاة والسلام بمقام النبوة أو بمقام الرسالة فإنه وصف أعظم وأعلى من وصفه بالسيادة ثم يؤجر العبد عليه لأنه إقرار منه بنبوة ورسالة النبي عليه الصلاة والسلام .
فقول القائل في ابتدائه للكلام مثلا (الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد أو على نبينا ورسولنا محمد) هذا أفضل لأنه فيه الوصف الشرعي له عليه الصلاة والسلام ويؤجر العبد على ذلك لأن فيه الإقرار بنبوته عليه الصلاة والسلام وبرسالته .
ولهذا كان العلماء جميعا أعني علماء السلف يفضلون بل الشائع عندهم هو وصفه عليه الصلاة والسلام بالنبوة والرسالة وقلما تجد بل لا تكاد تجد الثاني وهو أن يقولوا (والصلاة والسلام على سيدنا محمد) .
واستحب طائفة من العلماء من فقهاء المذاهب أن يضاف على اسم النبي عليه الصلاة والسلام حيثما ورد لفظ السيادة حتى في الأدعية النبوية وحتى في أدعية الصلاة من مثل التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقولون تقولوا - يقول القائل - (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد) إلى آخره .(32/164)
وسُئِلَ الحافظ ، سُئِلَ جمع من العلماء عن ذلك ومنهم الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتوى أو في استفتاء وجه إليه فأجاب بأن هذا خلاف الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن النبي عليه الصلاة والسلام علم الصحابة تلك الأدعية وتلكم الأذكار ولم يشرع لهم الزيادة عليها ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام لما علم دعاء النوم وقال من علمه (آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت) قال له عليه الصلاة والسلام (لا ولكن قل وبنبيك الذي أرسلت) كما علمه عليه الصلاة والسلام أولا فدل على أن ما علمه النبي عليه الصلاة والسلام يراعى فيه لفظه وهذا هو كمال الأدب معه عليه الصلاة والسلام لأنه اتباع له من كل الجهات وطرح للرأي مع رأيه ، والنبي عليه الصلاة والسلام لا شك هو سيد ولد آدم ولكن لم يكن من شعار العلماء هذه العبارة .
وإطلاق لفظ (السيد) بدون الإضافة عليه لا تجوز لأن السيد هو الله جل وعلا ، يعني هكذا (السيد) إذا قيل هكذا ويُعنى به النبي عليه الصلاة والسلام فإن هذا منهي عنه ، قد قال عليه الصلاة والسلام (السيد الله) ولما قيل له (أنت سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا) قال (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان) أو قال (ولا يستهوينكم الشيطان) ونحو ذلك
فدل على أن الكمال في الأجر أن يقول القائل (نبينا ورسولنا محمد) لأنه يؤجر على هذه العبارة ، لأن فيها وصف إيماني بما يعتقده المرء من الأمور التي رُتِّب عليها الإسلام ، رُتبت عليها الأجور العظام .(32/165)
ثانيا أن إطلاق لفظ (السيد) بالتعريف هذا فيه نوع تنديد ولا يقال هكذا (السيد) وبالإضافة لا بأس به أن يقال (فلان سيد قومه) النبي عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم كما قال (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ونحو ذلك ، والعلماء فرقوا في هذه اللفظة لفظة (سيد) جمعا بين الأحاديث ، بين مواجهة المُخاطَب بها أو عدم مواجهته ، فإذا واجهه بقوله (أنت سيدنا) مثلا فإن هذا منهي عنه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان) وأما إذا وصف المرء بما فيه بدون مواجهة فإن هذا لا بأس به كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (إن ابني هذا سيد) وكان صغيرا ، وقال (هذا سيد قومه) (وفلان سيد قومه) وقال (أنا سيد ولد آدم) ونحو ذلك ، فالإضافة جائزة ولا يواجه بها من قيلت فيه فإن هذا فيه فإن هذا هو الذي دل عليه حديث (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم) .
نصل إلى ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى من الآيات .
هذا في قوله وَقَوْلِه ?وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ?
قوله (وَقَوْلِهِ) هذا معطوف على ما سبق من قوله (ودخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم) وذكر قال (في قوله تعالى) ثم ذكر الآيات فقوله (وَقَوْلِهِ) معطوف على (في قوله) الأولى .
والمقصود بذكر الآيات هذه إثبات الصفات لله جل وعلا ، وهذه الآيات فيها إثبات صفة (الإرادة) و (المشيئة) لله جل وعلا .
فقوله هنا وَقَوْلِهِ: ?وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ?) فيها إثبات صفة (المشيئة) لله جل وعلا و (القوة) لله جل وعلا والمقصود منها إثبات صفة (المشيئة) .(32/166)
وكذلك قوله في الآية التي بعدها ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ? قال ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ? فيه إثبات (المشيئة) وأيضا فيها إثبات (الفعل) لله ، وإثبات (الإرادة) لله جل وعلا بقوله ?وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ? .
كذلك في الآية التي بعدها في قوله - آية المائدة - ?إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ? فيها إثبات صفة (الإرادة) لله جل وعلا .
وكذلك الآية الأخيرة ?فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ? هذه صفة (الإرادة) كذلك قال ?وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ? .
و(المشيئة) لله جل وعلا و(الإرادة) إرادة الله جل وعلا ليستا بمتفقتين دائما وذلك أن (الإرادة) لله جل وعلا تنقسم إلى قسمين :
- إرادة كونية قدرية .
- وإرادة شرعية دينية .
ومعنى (الإرادة الكونية القدرية) أن الإرادة متعَلَّقها ما يكون في ملكوت الله من التكوين ومن القَدَر
و(الإرادة الشرعية الدينية) المراد منها ما يكون في آيات الله جل وعلا المَتلٌوَة من إرادات الله جل وعلا من العباد ، الإرادات الشرعية .
فـ (الإرادة الشرعية) قد يمتثلها العبد وقد لا يمتثلها ، يعني قد يأتي بفعل يوافق مراد الله الشرعي ، وقد يكون فعله غير موافق لمراد الله الشرعي .
وأما (الإرادة الكونية القدرية) فهي ما يكون في ملكوت الله لا بد ، لا يحصل شيء إلا وهو موافق لإرادة الله الكونية القدرية .
و(الإرادة الكونية القدرية) هذه قد يكون منها ، لا تقوم الأشياء إلا بها ، وقد تكون الأشياء من محبوبات الله وقد لا تكون من محبوبات الله ، فالله جل وعلا أراد الإيمان كونا من المؤمن وحصل العبد عليه ، وأراد الكفر كونا من الكافر وكان العبد كافرا .(32/167)
وأما (الإرادة الشرعية الدينية) فهي محبوبة لله جل وعلا ، كما أراد الإيمان يعني طلبه مريدا له من العباد فحققه المؤمن .
فإذن يجتمع في المؤمن الطائع (الإرادة الكونية القدرية) و (الإرادة الشرعية الدينية) وأما الكافر أو العاصي فيكون في حقه (الإرادة الكونية القدرية) وهو يكون غير ممتثل لـ (الإرادة الشرعية) .
فمثلا في قوله هنا ?وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ? يعني كونا ، وقوله في الآية التي بعدها ?إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ? يشمل الحكم الشرعي كما جاء في الآية ?أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ? هذه حكم شرعي ?يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ? في كونه و ?يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ? أيضا في شرعه ودينه ، كذلك ?فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ? هذه في (الإرادة الكونية) ?وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا? في (الإرادة الكونية)
إذا تبين لك ذلك ، فما صلة (المشيئة) لله جل وعلا بـ (الإرادة) ؟
(مشيئة) الله جل وعلا مشيئة كونية ، لا تنقسم المشيئة إلى شرعية دينية وإلى كونية قدرية .
(المشيئة) قسم واحد بخلاف (الإرادة) .
فإذن (إرادة) الله جل قسمان :
إرادة كونية وإرادة شرعية .
وأما (المشيئة) فهي شيء واحد وهي الإرادة الكونية القدرية .
فإذن في قوله ?وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ? هنا ?مَا شَاءَ اللَّهُ? يعني (المشيئة) هنا التي هي الكونية القدرية والتي ليس لها قسيم هي قسم واحد ، ومع قوله هنا ?مَا شَاءَ اللَّهُ? يعني أن ذلك حاصل بمشيئة الله كما سيأتي تفسيرها .
إذا تبين لك ذلك فهذا التفصيل في (الإرادة) من أن (الإرادة) تنقسم إلى كونية قدرية وإلى دينية شرعية هذا ليس في (الإرادة) فحسب فثَم ألفاظ في الكتاب والسنة تنقسم إلى هذا التقسيم ، وقد عدها العلماء في اثني عشر قسما .(32/168)
أعني المحققين منهم شيخ الإسلام وابن القيم ومن تبعهم على المنهج الصحيح رحم الله جل وعلا الجميع وأسبغ عليهم رضوانه ، فثَم اثنا عشر لفظا في الكتاب والسنة تنقسم إلى هذين القسمين من مثل (الإذن) ومن مثل (الجعْل) ومن مثل (الحكم) ونحو ذلك و(الأمر) ، فإذن هنا ألفاظ لا بد أن تنتبه هل جاءت في الآية ويراد بها الكوني المعنى الكوني الذي لا بد أن يحصل ؟ أو المعنى الشرعي الديني الذي يطلب من العبد تحصيله ؟
انظر مثلا لفظ (الجعل) الذي جاء في الآية الأخيرة في قوله ?وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا?
هذا الجعل كوني أو شرعي ؟
كوني
قال ? يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا? لأن العبد ليس له في تحصيل ذلك ، لم يطلب منه أن يفعل ذلك
فإذن ، الصنف الكوني من هذه الألفاظ ما هو راجع إلى (فعل) الله جل وعلا وليس مطلوب من العبد أن يحصله ، وأما الشرعي الديني فهو ما كان من (فعل) الله جل وعلا ويطلب من العبد أن يحصله .
فمثلا ، خذ مثلا في (الإرادة) قال الله جل وعلا ?يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ? هذه في (الإرادة) أيش ؟
الشرعية لأنه لو كانت (إرادة) كونية كان تاب على الجميع الكافر والمشرك ، لكن ?يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ? يعني شرعا فكونوا مريدين للتوبة محصلين لها ولأسبابها .
هنا في (الجعل) مثلا قال الله جل وعلا ?جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ? هذه شرعية ولاّ كونية ؟
هذه شرعية ، لماذا ؟(32/169)
لأن الكعبة قيام للناس يعني اجعلوها هكذا ، اجعلوا الكعبة قياما للناس مكان أمن واطمئنان ، العباد فرطوا في ذلك وصارت الكعبة يعني الحرم في أزمان في التاريخ محل خوف بل ومحل قتل ومحل ظلم - نسأل الله العافية - ولو كان (الجعل) قدريا لكانت الكعبة أمنا واطمئنانا رغم أنوف العالمين ، لكن الله جل وعلا قال ?جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ? يعني اجعلوها كذلك .
وهكذا في ألفاظ كثيرة يأتي إن شاء الله تفصيلها في مواضعها بإذن الله .
إذن بعد أن عرفت أنه يعني إثبات (المشيئة) لله و (الإرادة) والفرق بين الإرادة الكونية والقدرية والتفريق هذا مهم في باب القدر لأن كثيرا من فرق الضلال ضلت بسبب عدم التفريق بين (الإرادة) الكونية القدرية و (الإرادة) الشرعية الدينية ، وبسبب عدم التفريق ضل أناس كثيرون وقد قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ساق هذا التفريق في النونية قال ما حاصله (هذا بيان طالما ضلت به الناس مدى الأزمان) يعني التفريق هذا إذا لم يحصله الناظر في هذا الأمر - في أمر القدر - ضل في هذا الباب .
قال وَقَوْلِه ?وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ?
هذه الآية فيها الحض على أن يقول العبد إذا أعجبه شيء ولو في نفسه ولو في ماله أن يقول هذه العبارة ?مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ? وهي تعصم من أثر العين لأن العين حق فإذا برّك الناظر أو برك السامع - إذا لم يكن يبصر - برّك إذا تعلق قلبه بشيء وأعجبه قال (بارك الله لك ، ما شاء الله تبارك الله) أو قال ما في هذه الآية ?مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ? فإن ذلك يمنع الأثر السيئ للعين .(32/170)
وقوله هنا ?قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ? هنا في قوله ?لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ? الحصر وهي في المعنى كقوله - كما تعلم - في قوله (لا حول ولا قوة إلا بالله) يعني أنه لا قوة لك في أمر من الأمور ولا قوة لك في تدبير أمرك ولا في تدبير مالك ولا في تحصيل شيء إلا بالله جل وعلا .
فالعبد كما هو معلوم ضعيف إلا بربه جل وعلا .
فإذن في قوله ?مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ? فيها تحقيق التوكل وتفويض الأمر إلى الله جل وعلا وحسن الظن بالله وإثبات أن الله جل وعلا هو ولي الفضل وهو ولي الإحسان وهو ولي الإنعام وهو الذي ملّك العباد ما شاء جل وعلا وأن العباد ليس منهم شيء وليس إليهم شيء وإنما هو فضل الله جل وعلا يسوقه إلى عباده .
هنا في قوله ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ?
هنا ذكر (المشيئة) وذكر (الإرادة) تقدم لنا أنهما هنا بمعنى الإرادة الكونية .
(المشيئة) هنا - معروف طبعا بمعنى ما شاءه كونا - و(الإرادة) كذلك بمعنى الإرادة الكونية .
?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ?
هذه فيها أن الله جل وعلا هو الذي يقدر الأشياء ويقدر أسبابها فهو جل وعلا لو لم يشأ قتالهم ، لو كان جل وعلا لم يشأ قتالهم ما حصل منهم اقتتال ، لو لم يشأ الله جل وعلا أن يموت بعضهم بسبب بعض ما حصل منهم اقتتال فإذن الله جل وعلا هو الذي شاء الاقتتال والاقتتال سبب في إزهاق الأرواح.
فإذن الله جل وعلا شاء الأشياء وأسبابها ، وهذا يعني أن (مشيئته) جل وعلا متعلقة بكل ما يحدث في الملكوت من الغايات والأسباب بل وأسباب الأسباب .
فما يشأ من شيء له سبب إلا والله جل وعلا قد شاءه كونا ، ولو لم يشأ الله جل وعلا ذلك لم يقع كما قال جل وعلا ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ? فـ (مشيئة) الله نافذة .(32/171)
وهذه مرتبة من مراتب الإيمان بالقدر عند أهل السنة والجماعة كما سيأتي مفصلا إن شاء الله في موضعه فإن من مراتب الإيمان بالقدر الإيمان بتعلق مشيئة الله جل وعلا بكل ما يحصل في الملكوت فليس ثَم شيء حصل إلا وقد شاءه الله جل وعلا كونا إذ لا مغالب لله جل وعلا في ملكه .
قال هنا ?وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ? هذه الآية فيها إثبات أن الله جل وعلا يفعل الأشياء لـ (إرادة) تعلقت بذلك الشيء ، وفي ضمن ذلك إثبات الحكمة لله جل وعلا من وراء الأشياء .
فإن الله جل وعلا ?يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ? وفعله لحكمة .
فإذن اقتتالهم كان مرادا من الله جل وعلا ، واقع بـ (مشيئة) الله وكان مرادا من الله جل وعلا .
وطبعا لفظ (الإرادة) غير لفظ (المشيئة) ، لفظ (المشيئة) قد لا يكون معه علة (شاء فلان هذا الشيء) لكن لفظ (الإرادة) (أراد هذا الشيء) يكون ثَم علة لذلك الشيء .
فإذن لفظ (المشيئة) و لفظ (الإرادة) ليستا متساويتين من جميع جهاتها ، نعم يلتقيان في [ الإرادة الكونية ] لكن أيضا (المشيئة) لا تساوي (الإرادة الكونية) من كل جهاتها فإن (الإرادة) فيها معنى أنه (فعل لشيء) وأما (المشيئة) فليس فيها هذا المعنى .
فإذن نقول الإرادة الكونية القدرية مشيئة وزيادة .
زيادة تفهم منها أن ثم حكمة ، ثم علة لذلك .
قال ?وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ? و ?مَاُ? بمعنى الذي ، يعني يفعل الذي يريده ، وهذا فيه عموم لأن الأسماء الموصولة عند كثير من أهل العلم تفيد عموم ما كان في حيز صلتها .
قال هنا في ما بعد ذلك وَقَوْلِه ?ِأُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ?
هنا ذكر لفظ (الحكم) وهذا يراد به الحكم الشرعي أو الحكم الكوني ؟(32/172)
يراد به [ الحكم الشرعي ] لأنه ذكر قبلها حكما شرعيا ?أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ? هذا (حكم) .
حكم كوني أو حكم شرعي ؟
هذا (حكم) شرعي .
فإذن هنا في هذه الآيات في لفظ (الإرادة) في لفظ (الجعل) في لفظ (الحكم) وكلها منقسمة إلى [إرادة كونية وشرعية] وإلى [حكم كوني وشرعي] وإلى [جعل كوني وشرعي] .
(الحكم) الكوني دليله - هذه فيها الحكم الشرعي - (الحكم) الكوني هل ثَم دليل عليه ؟
نعم
?إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ? يعني في كونه أو في دينه ؟
قد يكون في الدين لأنه من الحكم بين المتخاصمين . لكن الحكم الكوني
...
?إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ? نعم ، هذا ليس مطلوبا من العبد هذا حاصل من الله جل وعلا .
الآيات ما استحضرتها الآن لكن ثَم آيات كثيرة فيها أن (الحكم) كوني قدري ، وكذلك يكون (الحكم) شرعيا دينيا .
هذه الآية فيها الحكم الشرعي الديني .
?أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ? هذه الآية فيها أن بهيمة الأنعام حلال ، فبهيمة الأنعام الأصل فيها طبعا أنها حلال أحلها الله جل وعلا ، ولفظ ?أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ? لا يقتضي أنه كان قبلها تحريم فبهيمة الأنعام حلال ولم تُحَرَّم ، لم يحرمها الله جل وعلا بل هي حلال ، فقوله هنا ?أُحِلَّتْ لَكُمْ? يعني جعلها الله جل وعلا حلالا وليس معناها أنه سبق ذلك تحريم لها ?إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ? يعني ما يتلى عليكم سيأتي من ?الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ? إلى آخره هذه كلها من أنواع ما لم يُحَل .(32/173)
ثم قال ?غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ? المقصود بقوله ?وَأَنْتُمْ حُرُم? يعني قد دخلتم في الإحرام إما بحج أو بعمرة فالمرء إذا وصل للميقات وأحرم بحج أو بعمرة فإنه يحرم عليه الصيد كما قال هنا ?غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ? يحرم عليه أن يَصيد أو أن يعين على صيده أو حتى يشير إلى الصيد بلسانه أو بيده أو نحو ذلك فالصيد -الاصطياد- لا يباح للمحرم .
قال جل وعلا بعد ذلك بعد هذه الأحكام ?إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ? يعني في شرعه و ?مَا يُرِيدُ? هنا يعني ما يريده شرعا ويدخل في ذلك أيضا ما يريده كونا .
فإذن قوله ?إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ? في هذه الآية المراد بها (الحكم) الشرعي و (الإرادة) الدينية الشرعية ، ويدخل في العموم ?إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ? (الإرادة) و (الحكم) الكوني القدري .
هنا في قوله ?إِنَّ اللَّهَ? المتقرر عند علماء الأصول وكذلك عند علماء العربية وعند علماء التفسير أيضا أن كلمة ?إِنَّ? بعد الأمر والنهي والخبر تفيد التعليل - تعليل ما سبق - والتعليل قد يكون لكل الجملة وقد يكون لأصلها وقد يكون لبعضها فهنا ?إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ? هذا تعليل للإحلال ?أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ? وتعليل لعدم إحلال بعض بهيمة الأنعام في قوله ?إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ? وذلك أن المشركين قالوا هذه التي ماتت حتف أنفها إنما أماتها وقتلها الله وتلك التي ذُكِّيت فإنما أماتها المخلوق وما أما ته الله جل وعلا أولى بالحل مما أماته المخلوق وهذا لا شك أنه مغالطة لذلك ، الله جل وعلا قال هنا ?إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ? .
ونحو ذلك من الآيات التي فيها أن سبب (الطبع) هو (الكفر) سبب عدم الهداية - هدايتهم - هو (كفرهم) فإذن نقول في الآية هذه حالان :
* الحال الأولى حال المؤمنين .
* الحال الثانية حال الكافرين .(32/174)
المؤمن يشرح الله صدره للإسلام مِنّة وتفضلا من الله جل وعلا وذلك قد يكون بسبب من العبد .
وأما القسم الثاني وهم (الضالون) وهم الكفار ممن لم تُشرح صدورهم قال جل وعلا فيهم ?وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا? وهذا يكون بمجازاة العبد بذلك .
فإذن (الطبع) بسببهم ، وعدم هدايتهم بسببهم ، وأما الهداية فهي قد يكون العبد له تحصيل ولكن التوفيق بيد الله لأن العبد له أنواع مما يصده عن اتباع الحق (الشيطان) يصده (الأهواء) تصده (الشهوات) تصده (الشبهات) تصده ، فهو لو وُكِل إلى نفسه قد لا يخلص من تلك الأعداء الكثيرة ، لكن الله جل وعلا يمن على العبد ويوفقه ويلهمه حتى يكون منشرح الصدر بالهداية .
فإذن هنا قال ?يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ? فلهذا يجد العبد المؤمن في نفسه الإقرار لله جل وعلا بأنه ذو الفضل عليه أن مَنَّ عليه بالإسلام ، ذو الفضل عليه أن هداه ذو الفضل عليه أن وفقه ، أن أعانه ، كما قال تعالى ?يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ? قوله هنا ?يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ? يشمل نوعي (الهداية) هداية الإرشاد والدلالة ، و(هداية) التوفيق والإلهام .
ونكتفي بهذا القدر عند قوله وَقَوْلِه ?وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? .
……
(الحول) الانتقال من حال إلى حال
(لا حول) يعني لا انتقال لنا من حال إلى حال .
أما (القوة) فتحتاجها في الحال الأولى وفي الحال الثانية .(32/175)
يعني أنت الآن تنتقل من هذا المكان إلى ذاك المكان ، تنتقل من بيتك إلى المسجد هذا (الحول) لا انتقال لك إلا بالله ، كذلك لا (قوة) لك على ذلك الانتقال في الحالين وفيما بينهما إلا بالله ، هذا فيه (التجريد) في كل شيء فيه (التجريد) في جميع الأحوال ، (تجريد) الأمر لله جل وعلا ولهذا فيها محض (التوكل) وتفويض الأمر إليه جل وعلا .
……
(توكلت على الله ثم عليك) هذه فيها قولان لأهل العلم ، أما العلماء المتقدمون فإنهم لا يجيزون مثل هذا وذلك لأن (التوكل) عمل قلبي ، (التوكل) عمل القلب ، لأن فيه التفويض وفيه الاعتماد وفيه الالتجاء وكل ذلك عمل القلب ، وإذا كان هو من عمل القلب فلا يصلح إلا لله ، فلهذا ليس فيه ترتيب (ثم عليك) لأنه كله لله (توكلت على الله) ، هذا وجه الذين يمنعونه .
وبعض العلماء مثل الشيخ عبدالعزيز بن باز (حفظه الله) فيما نُقِل عنه - وإلا أنا ما سمعته منه - أنه يجيز ذلك ، ووجه الجواز أن الناس ما يعتقدون المعنى القلبي هم يعتقدون ظاهر اللفظ ، يعني ما عندهم المعنى القلبي (توكلت على الله ثم عليك) يعنون به توكلت على لله ثم وكلتك بهذا الأمر أو اعتمدت عليك في ها الأمر ونحو ذلك ، ما يعنون التوكل الشرعي ، لأن الذي يقولها أكثرهم جهال بالمعنى الشرعي للتوكل ، فهم ينطقون بلفظ لا يدرون معناه .
لكن إرشاد الناس إلى كون الشيخ قال بالجواز لا يعني أنه يسوّغه مطلقا للناس يستعملونه ، لكنه ما يشدد فيه ، من يغلط فيه ، ليس شركا وليس بحرام عند الشيخ لأن الناس لا يعنون به المعنى الباطل ، ونهي الناس عنه وإرشادهم إلى الكمال في ذلك والأفضل تجريد التوحيد ، هذا لا شك أنه أولى ، وقد سئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن قول القائل (توكلت على الله ثم عليك) فقال لا يجوز لأن التوكل عمل القلب .
قول القائل أرجوك ؟(32/176)
أرجوك معناها سهل ، بس .. قال (وفيك رجائي) مما فيه إخلاصه ، لأن (الرجاء) يحصل من العبد ، لكن (فيك رجائي) أو مثل قول القائل (لك الشكر) مما فيه الاختصاص والكمال ، تقديم الجار والمجرور أو تقديم ما حقه التأخير هذا فيه الاختصاص ، هذا لا يسوغ إلا لله ، أو يقول (مع خالص الشكر لك) خالص الشكر لله ، ونحو ذلك ، هذه ألفاظ كثيرا ما يُسأل عنها ، مثل لفظ (الشكر) و (الرجاء) ونحو ذلك ما كان فيه عبارة التجريد عبارة الإخلاص الكامل هذا لا تكون إلا لله ، وهذه تكون إما بقول (خالص) (مع خالص الرجاء) (مع خالص الشكر) أو (لك شكري) و (فيك رجائي) ونحو ذلك هذه لا تسوغ ولا تصلح إلا لله ، الثانية أنه يستخدمها كما قال الله جل وعلا ?أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ? [ اشكر لي واشكر لوالديك ] .
…..
ما في شك الواحد قد (يعين) نفسه ، ما في شك قد يصيب بالعين نفسه وماله .
……
وكذلك (القضاء) مثل ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ? هذا (قضاء) ايش ؟ شرعي ...
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبرحمته تكمل الطاعات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد :
فهذه الآيات التي سمعتم هي في معرض الاستدلال على صفة (المشيئة) لله جل وعلا وصفة (الإرادة) لله جل وعلا .
وقد ساق شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قبل ذلك آيات فيها إثبات صفات لله جل وعلا متنوعة .
وشيخ الإسلام في سياقه لتلك الآيات تارة يكون مرتبا لها لمعاني وتارة تكون الصفة بعد الصفة هكذا اتفاقا .
فهذه الصفة وهي صفة (المشيئة) و (الإرادة) ذكرها بعد صفة (السمع) و (البصر) في قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا?(32/177)
ومن المناسبة في ذلك أن (السمع) و (البصر) و (الإرادة) و (المشيئة) ثم يعقبها بعد ذلك بـ (المحبة) و (الرضا) و (الحياة) ونحو ذلك من الصفات هذه الصفات يثبتها الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم في ذلك .
وهي صفات يثبتونها بالعقل وهي ثابتة أيضا كما ذكر الأدلة على ذلك بالسمع .
فهو يريد أن يقول إن هذه الصفات التي أثبتها أولئك المبتدعة على الأصل العقلي عندهم هي ثابتة بالأدلة المنقولة بما جاء في كتاب الله جل وعلا من الآيات الكثيرة في ذلك وما ذكر إنما هو على جهة التمثيل وما ثبت أيضا في ذلك من السنة كما سيأتي الاستدلال ببعض الأحاديث على الصفات.
وصفة (الإرادة) و (المشيئة) لله جل وعلا الأدلة على إثباتها من الكتاب والسنة أكثر من أن تُحصر ، بل من الواجب عند أهل الفطر السليمة أن الله جل وعلا (يفعل) ما يشاء و (يفعل) ما يريد ، لأن ذلك من مقتضيات كونه ربا جل وعلا فإن الربوبية مقتضية لأن يفعل في ملكه ما يريد ، لأنه لو فُعِل في ملكه ما لا يريده كونا لكان في ذلك منازعة له في الربوبية .
ولهذا فإن صفة (الإرادة) و (المشيئة) هذه لم ينكرها إلا طوائف من الفلاسفة الضلال وهم لا ينكرونها مطلقا وإنما ينكرون بعضها .
والمتكلمون على وجه العموم يثبتونها بالعقل ، ودليلها من العقل عندهم (التخصيص) .
و (الإرادة) عندهم (إرادة) قديمة وتعلقها بما (علم) الله جل وعلا أنه سيكون بـ (الإرادة) القديمة هذا التعلق بما سيحصل تعلقه بـ (القدرة) المحدِثة له يسمونه (تخصيصا) ويسمون (التخصيص) (الإرادة) .
فإذن عندهم أن (الإرادة) هي تخصيص المقدورات بالمقدروات المعلومة أزلا لله جل وعلا بما خصصت به .
ويعنون بـ (التخصيص) أنواعا من التخصيص منها أنها كانت في هذا الزمن دون غيره ، مثلا خلق الله الشيء المعين في هذا الوقت دون غيره لِمَ خلق في هذا الوقت دون غيره ؟(32/178)
تخصيص المخلوق أو الحادث بما حدث له في زمن دون غيره هذا التخصيص عندهم هو معنى (الإرادة) .
هذا من جهة التعلق بالزمن .
كذلك من جهة الطول والِقصر والضخامة والضآلة ، من جهة تكامل الصفات فيه وغير تكامل الصفات فيه - يعني في المعيّن - طول مدة بقائه وقلة مدة بقائه ، انعدامه أو غير انعدامه ونحو ذلك ، كل هذه تسمى عندهم (تخصيصات) وهذا (التخصيص) في الأشياء هو الدليل العقلي الذي نصبوه على صفة (الإرادة) .
ولا شك أن هذا الدليل من حيث هو استنتاج صحيح فإن التأمل في هذه الأشياء التي خلقها الله جل وعلا على اختلافها لا شك يُنتِجُ أن تلك التخصيصات المختلفة إنما جاءت من جهة (إرادة) الله جل وعلا لهذه الأشياء أن تكون على ما هي عليه .
وقد أثبت شيخ الإسلام رحمه الله هذا الدليل في شرح العقيدة الأصفهانية وأثبته أيضا في تائيته القدرية حيث قال رحمه الله تعالى :
له نوع عقل أنه بإرادةِ وفي الكون تخصيص كثير يدل من
وهذا ولو كان صحيحا ، لكن القاعدة أن الصفات إنما تثبت بالنصوص ، فإذا جاء العقل مثبتا لصفة فإنما هو تابع لما دل عليه النص .
وهذا هو ما يعتمده أهل السنة في الدلالات العقلية للصفات .
يعني في إثبات الصفات عن طريق الدليل العقلي فإنهم قد يذكرونه وقد لا يذكرونه وذلك لاستغنائهم بالوحيين .
ولا يعني ذلك أن إثبات الصفات لا يكون بطريق عقلي بل منها كثير يكون إثباته بطريق عقلي صحيح ولكن لا يذكر أهل السنة الطرق العقلية لأن الكتاب والسنة عندهم كافيان في إثبات الصفات لأن الله جل وعلا أعلم بنفسه والعقل معرض للخطأ ومعرض للزلل وأما النص فهو الكامل من كل جهاته .
إذا تبين لك ذلك فهذه الأدلة التي ذكرها فيها إثبات (المشيئة) لله جل وعلا كقوله تعالى ?وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ? .(32/179)
وفيها إثبات (المشيئة و الإرادة) في قوله تعالى في الآية الثانية ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ? .
وفيها إثبات (الإرادة الشرعية) في قوله ?إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ? أو (الإرادة الكونية والشرعية) معا
وكذلك (الإرادة الكونية) في قوله ?فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ? فهذه الآيات فيها إثبات صفة (المشيئة) وصفة (الإرادة) لله جل وعلا وفيها إثبات غير هاتين الصفتين ولكن مقصود شيخ الإسلام من الاستدلال بهذه الآيات صفة (المشيئة) وصفة (الإرادة) .
والذي دلت عليه النصوص أن (الإرادة) إرادة الله جل وعلا للأشياء هذه تنقسم إلى :
- إرادة كونية قدرية ، يعني متعلقة بالكون بمخلوقات الله من حيث إيجادها وإعدامها ، من حيث تقلباتها وأحوالها .
- وهناك الإرادة الشرعية الدينية وهذه المتعلقة بالأمر .
فـ (الإرادة الكونية) متعلقة بالخلق و (الدينية) متعلقة بالأمر والله جل وعلا له الخلق والأمر .
و (المشيئة) مشيئة الله جل وعلا هي (الإرادة الكونية) فإذا قلنا (شاء الله كذا) يعني أراده (كونا)
وإذا قلنا (أراد الله كذا) فهذا يحتمل أن يكون المراد من (الكونيات) أو أن يكون المراد من (الشرعيات) .
وأما (المشيئة) فليس ثَم دليل لا في الكتاب ولا في السنة على انقسامها إلى (مشيئة كونية ودينية) وإنما الذي ينقسم (الإرادة) .
فإذن صارت (المشيئة) بعض الإرادة فـ (الإرادة) من أقسامها (المشيئة) ومن أقسامها (الإرادة) .
انتهى الشريط السادس من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السابع
فإذن صارت المشيئة بعض الإرادة فالإرادة من أقسامها المشيئة ومن أقسامها الإرادة الدينية الشرعية.(32/180)
إذا تبين لك ذلك فهذه النصوص في قوله تعالى ?وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ?
?وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ? (مَا) هذه مبتدأ أو خبر ، فإذا كانت مبتدأ يعني هي موصولة يعني الذي شاء الله ، لكن أين خبره ؟ (ما شاء الله كان) أو (ما شاء الله حصل) أو أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره (الأمر ما شاء الله) (الذي كان وحصل هو الذي شاءه الله جل وعلا) ، (هذا - المشار إليه - ما شاء الله) الذي شاء الله يعني ?وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ? يعني هلاّ حين دخلت جنتك قلت هذا الذي شاء الله ، ففيه نفي للمشيئة عن مالك الجنة وعن الذي عمل فيها وإحالة ذلك إلى الله جل وعلا لأنه ما شاء الله كان .
وهذا طبعا فيه إثبات المشيئة العامة التي تتعلق بصغار الأمور و بكبارها .
كذلك في قوله تعالى ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا?
هذا فيه أن الاقتتال وقع بالمشيئة وفيه أيضا أن مشيئة الله جل وعلا و إرادته الكونية معللة ، فإن الله جل وعلا لو شاء ما اقتتل أولئك ولكنه أراد قتالهم لحكمة يعلمها جل وعلا فمشيئة الله مرتبطة بحكمته جل وعلا فهو يشاء جل وعلا لحكمة و يريد لحكمة .
وهذه الحكمة هي الغايات المحمودة عند الله جل وعلا للمُرادات ، هذه هي الحكمة في حق الله هي الغايات المحمودة للمُرادات .
وقوله هنا جل وعلا ?وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ?
فيها إثبات صفة (الإرادة) كما مر وفيها أيضا إثبات أن الذي (أراده) الله جل وعلا يفعله قال ?وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ? وهذا صفة كمال له جل وعلا لأن كل المخلوقات لا تفعل ما تريده ، ليس كل شيء تريده تفعله بل قد تريد أشياء ولا تستطيع فعلها لتخلف (القدرة) .(32/181)
فإن المقدور المعيّن الذي سيحدث أو الذي يُراد أن يحدث يكون (بإرادة) جازمة و(بقدرة) تامة فإذا حصلت (الإرادة) الجازمة بتحقيقه وحصلت (القدرة) على إيقاعه حصل هذا الشيء وكان .
وهذا يتخلف في المخلوق كثيرا فالمخلوقات فيها من جهة (الإرادة) صفة النقص وهي أنها (تريد) أشياء ولكن لا تحصل المرادات ، والذي يتفرد بأنه يفعل ما يريد وهو فعال لما يريد وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن هو الواحد القهار جل وعلا وهذا من مقتضيات كونه هو (المالك) (الأحد) (الفرد) (الصمد) الذي له هذا الملكوت العظيم جل وعلا وتقدس وتعاظم سبحانه .
وقوله جل وعلا بعد ذلك في الآية الأخيرة في آية المائدة ?إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ?
فيها أيضا صفة (الإرادة) و (الحكم) هنا راجع إلى الحكم الشرعي ، و (الإرادة) هنا أيضا فيما يظهر راجعة إلى (الإرادة الشرعية) .
وقوله في الآية الأخيرة وَقَوْلِه ?فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلام?
هذه (الإرادة الكونية) ?فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ? إرادة كونية أن يهديه ، أما (الإرادة الشرعية) فالله جل وعلا مريد أن يهتدي الناس وأن يحصل منهم الإسلام لأنه أمرهم بذلك فمن يرد الله أن يهديه كونا يشرح صدره للاسلام ومن يرد كوناً أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصًعد في السماء .
إذا تبين لك ذلك فالإرادة عند أهل السنة والجماعة أو المشيئة صفة قائمة بالله جل وعلا من صفاته جل وعلا الذاتية.
يعني أنه جل وعلا لم يزل مريدا لم يزل شائيا ، فإنه لم تنفك عنه هذه الصفة وهي صفة المشيئة و الإرادة .
وهي مع ذلك متعلقة من جهة الأفراد بكل فرد حصل في ملكوت الله .
فإذن هي من حيث النوع قديمة ، ومن حيث الأفراد متجددة ، فكل شيء يحدث في ملكوت الله هو بإرادته جل وعلا الكونية و بمشيئته جل وعلا .
وهذه الصفة قائمة بالله جل وعلا ومتعلقة بالذي حدث حال حدوثه ، متعلقة به حال حدوثه .(32/182)
فالإرادة إذن ، الله جل وعلا لم يزل مريدا وهذا من أوائل اعتقاد أهل السنة والجماعة في ذلك .
أما غير أهل السنة والجماعة فيقولون إن الإرادة قديمة .
هذا قول الأشاعرة والماتريدية ، يقولون الإرادة و المشيئة يعني الإرادة الكونية والمشيئة وحتى الإرادة الشرعية عندهم قديمة .
ما معنى كونها قديمة ؟
عندهم أن الإرادة وهي التوجه بتخصيص بعض المخلوقات بما خصصت به زمانا أو مكانا أو صفات هذا التخصيص أو هذا التوجه للتخصيص قديم من جهة الإرادة قديم ، إرادته قديمة .
الإرادة عندهم لها جهتان :
- جهة يسمونها (صلوحية) يعني راجعة إلى ما يصلح وما لا يصلح ، فيقولون من جهة الصلوحية فالإرادة تابعة للعلم .
- ولها جهة ثانية يسمونها الجهة (التنجيزية) يقولون هي من جهة التنجيز تابعة للقدرة .
يريدون بذلك مخالفة أهل الاعتزال ، لأن المعتزلة - يأتي إن شاء الله كلامهم في ذلك - يخالفون في هذا ويجعلون (الإرادة) راجعة - هم يثبتون صفة الإرادة ويجعلونها راجعة - إلى العلم من جهة القدم ، وأما الذي حدث إذا حدث فإنهم يجعلون (الإرادة) حادثة في ذلك الوقت ، وليس عندهم إرادة التي هي صفة قديمة كما عند الأشاعرة وإذا أثبتوها فإنهم يرجعونها إلى العلم .
الأشاعرة عندهم هذا التفصيل ، وكل الأمرين عندهم قديم ليس بمتجدد الآحاد مثل (الكلام) .
صفة (الكلام) عندهم صفة قديمة ، ما عندهم كلام يحدث ، الله جل وعلا تكلم عندهم بالقرآن في الأزل ، وكلامه جل وعلا انتهى ، تكلم بما شاء ثم انتهى من الكلام ، كذلك (الإرادة) يقولون أراد ما شاء في الأزل ، ولا تتعلق (الإرادة) بالأشياء تجديدا .
هل معنى ذلك أن لا يريد هذه الأشياء ؟
لا ، يقولون يريدها ولكن (الإرادة) هنا جهتها تنجيزية ، يعني تنجيز وإنفاذ للإرادة القديمة .(32/183)
أهل السنة والجماعة يخالفون في هذا كما ذكرت لك قولهم فيقولون إن إرادة الله جل وعلا متجددة ، فما من شيء يحدث في ملكوت الله إلا وقد شاءه الله جل وعلا حال كونه ، كما أنه جل وعلا شاءه في الأزل .
فمشيئته في الأزل بمعنى إرادة إحداثه في الوقت الذي جعل الله جل وعلا ذلك الشيء يحدث فيه .
فإرادته للأشياء جل وعلا القديمة ليست إرادة ومشيئة تنفيذية في وقتها .
فلهذا نقول الإرادة من حيث هي صفة : قديمة ، لكن من حيث تعلقها بالمعين هذا متجددة ، فلا نقول إن الله جل وعلا شاء أن يخلق أحمد - مثلا - شاء أن يخلق أحمد منذ القدم في الأزل شاء أن يخلق أحمد - هذا من الناس - في ذلك الحين ، ولكن لم يخلق إلا بعد كذا وكذا من الزمن .
نقول هو جل وعلا شاء أن يخلق أحمد إذا جاء وقت خلقه ، فإذا شاء الله أن يخلقه خلقه ، وأما الصفة القديمة صفة (الإرادة) فهي متعلقة به جل وعلا يعني مريد لم يزل مريدا ، وتعلق (الإرادة) به بتجدد تعلق الحوادث .
ولهذا نقول إن إرادة الله جل وعلا ومشيئته المعينة للشيء المعين هذه هي التي نعني بها بتجدد الأفراد ، ومن حيث هي صفة فإن الله جل وعلا لم يزل متصف بتلك الصفة .
وسبب هذا الخلاف بينهم أن أهل السنة والجماعة يقولون بأن الله جل وعلا لم يزل حيا فعالا لما يريد ، فلا ينفون عن الله جل وعلا الإحداث والخلق في ما شاء جل وعلا من الزمان .
بخلاف المبتدعة من الأشاعرة والماتريدية والمتكلمة فإنهم يقولون الله جل وعلا متصف بالصفات لكنه لم تظهر آثار تلك الصفات إلا في وقت معين .
نعم متصف بالخلق لكنه لم يخلق زمانا طويلا ثم بعد ذلك خلق ، متصف بالعلم ولا معلوم ، متصف بالقدرة ولم تظهر آثار القدرة إلا بعد أن وجد مقدور وهكذا .(32/184)
فإذن عند أهل السنة والجماعة أن إرادة الله جل وعلا أزلية لم يزل الله جل وعلا كذلك ، الله جل وعلا هو (الأول) وصفاته كذلك ، لم يزل متصفا بتلك الصفات ، ومقتضى ذلك أن يكون لتلك الصفات آثار في ملكوته .
على كل حال هذا بحث ذكرته بهذا الشيء من التفصيل لأن هناك في هذا الزمن من يثير هذه القضية على شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ويجعل من مستنداته بحث الإرادة وهل هي قديمة أم جديدة ؟
(الإرادة) من حيث مذاهب الناس فيها ، الأقوال فيها في صفة (الإرادة) أربعة :
" فالفلاسفة يقولون إن حدوث الملكوت حدوث المحدثات هذا لم يكن عن إرادة لأنه كالمعلول للعلة ، يعني أنه لا بد أن يحدث ، فما دام أن الله جل وعلا موجود فلا بد أن يكون - مباشرة - أن يكون محدثات لأن الله محدِث فلا بد أن يكون ثَم محدثات ولهذا قالوا بأن العالم قديم والله قديم ، لماذا ؟ لأن عندهم تلازم ، تلازم فوري ، فإن عندهم المحدثات بالنسبة للمحدِث كالمعلول بالنسبة للعلة يعني مثل النور مع الشمس ، الشمس ، توجد الشمس وجد النور ، فالنور نتيجة للشمس نتيجة حتمية ، مثل وقوف الرجل في الشمس ، لا بد إذا وقف في الشمس أن يظهر ظل فهذا الظل بالنسبة للشخص هو المعلول بالنسبة للعلة ، يعني حتمي ما يكون متعلق بإرادته أن يظهر له مرة ظل أو لا يظهر ظل ، فإذن هذا قول نفاة الإرادة أصلا في حدوث العالم ، طبعا يتبع ذلك قضايا كثيرة ليس هذا محل بيانها .
" الثاني من أقوال الناس في الإرادة: قول المعتزلة ، والمعتزلة يقولون بإثبات الإرادة ولكنها إرادة حادثة لا في محل ، يعني لم تقم بالله جل وعلا لأن عندهم أن الإرادة متجددة ولا يجوز أن تقوم المتجددات بالله جل وعلا بل الذي يقوم بالله جل وعلا هي الثابتة عندهم التي هي القدرة والصفات الثلاث التي يثبتونها القدرة والحياة وغيرها ..1 لأنهم فروا من قيام الحوادث به .(32/185)
" القول الثالث قول الأشاعرة وقد مر معك مفصلا وأن الإرداة إرادة قديمة وتعلق المرادات بها قديم وإحداثها يكون بالتنجيز بتعلقها بالقدرة .
" القول الأخير اللي هو قول أهل السنة والجماعة لذلك وقد مر معك مفصلا .
هذه الأقوال من حيث (الإرادة) عام .
انقسام الإرادة إلى شرعية دينية وإلى كونية قدرية هذه يثبتها أهل السنة والجماعة وكذلك يثبتها الأشاعرة والماتريدية ، فعند الأشاعرة كما نصوا عليه والماتريدية كما نصوا عليه في كتاب المسامرة مثلا أو المسايرة في شرح المسامرة في حواشيهم أثبتوا أن الإرادة تنقسم .
ويشيع عند بعض الناس أن الأشاعرة والماتريدية ينفون انقسام الإرادة إلى كونية قدرية وشرعية دينية هذا ليس بصحيح ، فهم يثبتون ذلك ويدللون عليه ، أما الذي ينفي هذا التقسيم فهم القدرية ، القدرية الجبرية ، أو القدرية النفاة الذين ينفون القدر .
القدرية النفاة مثل المعتزلة ، والقدرية الجبرية معروفون مثل الجهمية وغلاة الصوفية .
الأشاعرة هم جبرية متوسطة لكنهم لم يقولوا هنا بعدم الانقسام هذا من ثمرات الخلاف أو من أنواع الخلاف في هذه المسألة .
الثالث أنه يتبع ذلك التزام الإرادة بالمحبة والرضا .
هل الإرادة والمشيئة ملتزمة بصفة المحبة والرضا ؟
عند من نفى الإرادة الشرعية قال كل ما شاءه الله جل وعلا فهو مراد له محبوب لأنه لا يحدث في ملكه شيء لا يحبه ، وبالتالي قالوا إن كفر الكافر وعصيان العاصي هذه وقعت والله جل وعلا لا يحبها فإذن الله جل وعلا لم يردها ولم يشأها فإذن دخلوا في أن أفعال العبد منقسمة إلى أفعال أرادها الله وشاءها وأفعال لم يردها الله جل وعلا ولم يشأها .
ما الذي شاءه وأراده ؟
طاعة المطيع إيمان المؤمن .
ما الذي لم يرده ولم يشأه جل وعلا ؟
هو عصيان العاصي وكفر الكافر ، وهذا على قول الذين ينفون التقسيم أو لا يقولون به .(32/186)
وأما عند المقسمة إلى إرادة دينية شرعية وإرادة كونية قدرية فإن هذا التلازم عندهم ليس واردا لأن الإرادة عندهم إذا كانت كونية فإنها قد تقع بما يحبه الله جل وعلا ويرضاه وقد تقع بما لا يحبه الله جل وعلا ولا يرضاه ، فإن الكفر كونا حصل في ملك الله بمشيئة الله وهو جل وعلا لا يرضاه ، والإيمان حصل في ملك الله وفي ملكوت الله وهو يرضاه ، والإيمان أَمَر به والكفر نهى عنه .
ولهذا يقول علماؤنا إنه في حق المؤمن المطيع تجتمع الإرادتان الشرعية الكونية و القدرية الدينية ، وفي حق العاصي إما بالمعصية وهو من أهل الإيمان أو بكفر الكافر فهذا يكون في حقه الإرادة الشرعية أو الإرادة الكونية ؟
في حقه الإرادة الكونية لأنه خالف الإرادة الشرعية .
إذا تبين لك هذا فإن (إرادة) الله جل وعلا لها جهتان :
- جهة في فعله جل وعلا .
- والجهة الأخرى في فعل العبد .
أما فعله جل وعلا وتعلق (الإرادة) به فكما قال جل وعلا ?وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ? فالله جل وعلا ما أراده فعله لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا لمشيئته جل وعلا.
وأما فعل العبد فهو من حيث (الإرادة) مراد له - للعبد - وهو مراد لله جل وعلا إذا توجهت (إرادة) العبد باختياره إليه ، فإن العبد يريد فعلا يفعله من الطاعة أو من المعصية هو مختار إذا توجهت (إرادته) - إرادة العبد - لهذا الفعل وفعله فإن الله جل وعلا ما مكنه من فعله إلا بعد أن شاء ذلك وذلك لأنه لا يحدث في ملكوت الله إلا ما يريده جل وعلا وما يشاؤه وأذن الله جل وعلا كونا بحصول الأشياء التي يريدها العبد مما لا يرضي الله جل وعلا ابتلاء للعباد وحكمة لأن حقيقة الابتلاء لا تحصل إلا بذلك .
فإذن من جهة (إرادة) العبد - من جهة العبد - فإن العبد يريد ، له مشيئة ، له إرادة ، وإذا أراد الشيء فإنه لا يكون إلا إذا أراده الله جل وعلا كونا .(32/187)
وهذا يلاحظه المرء في نفسه فإنك تجد أن مثلا الصالح من عباد الله يتوجه إلى شيء من الفعل ويريده ثم يُصرف عنه بشيء لا يدري ما سببه ، يُصرف عنه بأنواع من الصوارف وهذا لأن الله جل وعلا لم يرد أن يُحْدِث ذلك لعبده المعين .
العبد تارة يكون عنده القدرة التامة على تحصيل هذا الشيء وعلى فعله وأراده لكن الإرادة كانت إرادة جازمة لكنه صُرِف عنه ، صُرِف عنه ذلك الشيء ولم يُترك ونفسه بل منحه الله جل وعلا عونا خاصا صرفه عن ذلك السوء الذي أراد أن يفعله .
كذلك ما يريد العبد أن يفعله من الطاعات وعنده القدرة عليه فإنه يلحظ من نفسه أنه لا يستطيع أن يُحْدِث بإرادته وبقدرته الفعل المعيّن بمجرد إرادته وقدرته وإنما يجد أن ثَََم إعانه خاصة أتته منعت مضادات الإرادة ومضادات القدرة .
مثلا العبد أراد أن يصلي أن يأتي للصلاة في المسجد وعنده هذه الإرادة وعنده القدرة على المشي في ذلك قد تصده شواغل كثيره يتسلط عليه الشيطان تتسلط عليه فتنة في نفسه أو في بصره في عينه أو يُثَبَّط عن ذلك فالمطيع الذي وُفِّق صُرِفت عنه أنواع المعيقات هذه من (إرادة) الله ، الله جل وعلا أراد منه أن يصلي ولو لم تُصْرف عنه هذه ربما قعد عن ذلك ، لو كانت عنده ذلك ثم أتته الشواغل فإن الله جل وعلا كونا لم يرد منه أن يصلي في المسجد ولذلك لم يقع منه الصلاة في المسجد .
في الحال الأولى الإعانة الخاصة على تحقيق إرادته المقترنة بالقدرة هذا يسمى (التوفيق) والآخر وهو سلبه الإعانة الخاصة التي تصرف عنه المضادات لما يريده من الخير هذا يسمى (الخِذلان) .
وهذا وجه تعلق (التوفيق) و (الخِذلان) بإرادة الله جل وعلا وقدرته وإرادة العبد وقدرته .(32/188)
إذن يتضح لنا مما سبق أن هذا البحث واضح بحمد الله ألا وهو صفة (المشيئة) و (الإرادة) لله جل وعلا على مذهب أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح وقولهم فيها واضح سهل ميسور لا يكاد أحد لا يفهمه ممن عنده نوع عقل كما قال شيخ الإسلام ، يعني أي واحد عنده بعض العقل يفهم هذا القول ، المشئية متعلقة بكل شيء و (الإرادة) منها شرعي ديني ومنها كوني قدري وهذا مذهب أهل السنة والجماعة .
أما أقوال المخالفين ففيها تعقيد لا يكاد يفهمها كل أحد فلا بد فيها من فهم خاص وتعليم خاص فهي لا تناسب فطر ، ولا تناسب العوام وإنما تحتاج إلى تعليم تلو تعليم حتى تُفهم ، وهذا من الدلائل على عدم مناسبتها لهذه الشريعة لأن هذه الشريعة أمية كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (نحن أمة أمية)
قال الشاطبي في الموافقات الشريعة أمية يعني أنها تناسب الأمة جميعا بجميع صفات أهلها ، من ذكاء وبلادة ومن غني وفقير ومن عال ونازل إلى آخر هذه الأصناف .
نكتفي بهذا القدر ، إذا كان في أسئلة في الموضوع ، يأتي إن شاء الله بحث المحبة والرضا وتعلق ذلك بالإرادة الآيات في ذلك .
يقول هل هناك فرق بين المشيئة والإرادة غير التقسيم الذي ذكرتم ؟
ما أذكر عن أحد من أهل العلم أن ثَم تفريقا آخر ، المشيئة والإرادة تتفقان إذا كانت الإرادة بمعنى الإرادة الكونية ، وتختلفان إذا كانت الإرادة هي الإرادة الشرعية .
وهل أفردها العلماء بتعريفات خاصة ؟
نعم ، المشيئة والإرادة في لها تعريفات لكن هذه التعريفات ليس حاصلها التفريق بين المشيئة والإرادة ، أحيانا يكون تعريف لغوي ، فرق لغوي لكن فرق عقائدي بين هاتين الصفتين هو الذي كان الكلام فيه ، ليس ثَم تفريق فيما أعلم إلا التفريق الذي ذكرت .(32/189)
هذه كلمات عندهم يستعملونها في الصفات بسبب تعلقاتها ، يعني تعلق الصفة عندهم تعلق صلوحي يعني تعلق بما يصلح له من الصلاحية ، يعني مثل ما تقول تعلق صلاحي يعني بما يصلح له قالوا تعلق صلوحي يعني بما يصلح له ، هذا التعلق الصلوحي أزلي ، يعني قديم ، تعلق تنجيزي هذه عندهم في القدرة والإرادة وفي بعض الصفات يستعملون هذا التقسيم .
التعلق التنجيزي يعني تعلق الصفة بالأثر حال تنجيزه حال إنجازه ، حال إنفاذه ، مثلا : الإرادة ، الله جل وعلا أراد بَعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، نعم ، أراد إرساله ، من حيث الإرادة عندهم هذه من حيث - عند الأشاعرة - هي مرادة في القدم الله أرادها قديما ، لكن تعلقها من حيث القدم هل هو تعلق للإنفاذ أو تعلق من جهة العلم ، عندهم هنا يقولون تعلق صلوحي لأنها راجعة للعلم ، يعني صلحت لذلك ، صلح محمد عليه الصلاة والسلام للبَعثة لأن الله جل وعلا علم ذلك
- ظاهر -
لكن التنجيزي ما حدث ذلك وأُنْجِز إلا بعد أن أمر الله جل وعلا جبريل عليه السلام أن يأمر محمدا عليه الصلاة والسلام بإنذار الناس ، التعلق الصلوحي اللي هو القديم والتنجيزي اللي هو لإنجاز الشيء وإنفاذه .
?لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ? ، المعقبات هنا الملائكة الذين يتعاقبون على العبد لأن العبد موكَّل به ملائكة منهم ملائكة للكتابة - كتابة أعمالهم - ومنهم ملائكة لحفظه وهؤلاء الملائكة يقال لهم المعقبات ، وقوله هنا ?لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ? قال بعض العلماء هم أربعة اثنين من بين يديه واثنين من خلفه ?يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ? مِنْ ها هنا اختلف فيها المفسرون فقوله ?يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ? بعضهم أجرى مِن على معناها الأصلي وقال إن معنى الآية يحفظونه وذلك الحفظ له مِن أمر الله ، - ظاهر -(32/190)
مِن قالوا على معناها الأصلي ، وهؤلاء أيضا اختلفوا :
- فقال بعضهم من هنا على معناها الأصلي و يحفظونه قَدَرْ يحفظونه ، وحفظهم له من أمر الله ، حفظهم له ليس من جراء أنفسهم ولكن الله جل وعلا أمرهم بذلك ،هذا قول .
- قال آخرون - اللي قالوا إن مِن معناها هو المعنى الأصلي - ?يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ? كما قال ابن عباس وغيره قال فإذا أتى قدر الله خلّوا بين العبد وبين ما قدر الله ، يحفظونه من المرض فإذا أتى أمر الله - اللي هو الأمراض - أمر الله جل وعلا الكوني الذي ذكرت اللي هو وقوع الآفات أن يقع به حادث ، أن يعتدي عليه أحد ، فالملائكة تحفظه من ذلك الشيء ، تحفظ أن ينتقل له المرض ، هي تحفظ أن يصاب بهذا الشيء تحفظه من ذلك تحفظه ?مِنْ أَمْرِ اللَّهِ? يعني مما سيصيب العبد لو تركته الملائكة يعني الذي هو من أمر الله الذي يحدث في ملكوته ، فوجود الأمراض وجود الآفات وجود المصائب وجود ما ينغص على العبد هذه كلها وقعت بأمر الله الكوني ، صحيح ؟ الملائكة تحفظ العبد من هذه الأشياء التي هي من أمر الله . - ظاهر - هذا الذي أبقوا (من) على معناها .
وآخرون قالوا من هنا بمعنى الباء وقوله ?يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ? يعني يحفظونه بأمر الله .
وهناك من يقول بالتضميم طبعا اللي هو الأصح وتكون هنا ?يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ? بمعنى من الأصلية اللي هو يحفظونه وذلك الحفظ والحراسة من أمر الله جل وعلا وليس من فعل الملائكة وحدهم يعني من جهتهم دون أمر الله لهم .
هذا فيه بيان فضل الله جل وعلا على العبد ونحو ذلك .
والله أعلم ...
يقول بعض الناس إذا فعل شيئا غير صحيح أي غير موافق للشريعة قال هذا من مشيئة الله لأن الله أراد أن أكون كذا ، فماذا نرد عليه ؟
هو من جهة وقوع الذي حصل من المعصية لا شك أنه ما وقع إلا بمشيئة الله لكن مشيئة الله جل وعلا الكونية ما يحتج بها العبد فيما يُعابُ به .(32/191)
ما يحصل للعبد نوعان مما يلام عليه :
- نوع من المصائب .
- ونوع آخر هو من المعايب .
والاحتجاج بالمشيئة أو بالإرادة إرادة الله الكونية أو بالقدر يجوز أن يُحتج به في المصائب أما في المعايب فلا يجوز الاحتجاج به ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين في حديث احتجاج آدم وموسى أن آدم عليه السلام قال لموسى هل رأيت أن الله كتب عليّ هذا قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟
قال نعم .
قال فحج آدم موسى .
وجه كون آدم حج موسى أن هذه التي هي الإخراج من الجنة مصيبة أصيب بها آدم وأصيبت بها ذريته وموسى لام آدم على ما أصاب موسى وما أصاب ذرية آدم من جراء تلك المعصية التي هي جرّت تلك المصيبة ، فإذن هو يسألة عن المصيبة وحج آدم موسى لأنه احتج بالقدر على ما أصابه وهو إخراجه من الجنة .
بهذا القدر والإحالة على إرادة الله إذا كانت ثَم مصيبة على العبد فإنه يحيلها إلى القدر لأن هذا فيه نوع التسليم والرضا بقضاء الله جل وعلا .
أما إذا كانت من المعايب والآثام فلا يجوز أن يحيل إلى القدر لأنه له علاقة هو بما فعل لم يُصَب بذلك وإنما له علاقة بما فعل ألا وهو معصيته وعدم موافقته للإرادة الشرعية .
لهذا يقول علماء الحديث يُحْتَجُّ بالقدر في المصائب لا في المعايب ...
نسأل الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق والسداد والهداية والاستقامة والثبات وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
إثبات محبة الله
ومودته لأوليائه
على ما يليق بجلاله(32/192)
وَقَوْلُهُ: ?وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ?[البقرة:195]، ?وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?[الحجرات:9]، ?فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين?[التوبة:7]، ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ?[البقرة:222]، وَقَوْلُهُ: ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ?[آل عمران:31]، وَقَوْلُهُ:?فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ?[المائدة:54]، وَقَوْلُهُ: ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ?[الصف:4].
وَقَوْلُهُ:?وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ?[البروج:14].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذه صلة لما سبق الكلام عليه من إثبات صفات لله جل وعلا وسياق النصوص التي تدل على ذلك من كتاب الله جل وعلا .
فلما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله الأدلة التي فيها إثبات صفة (الإرادة) لله جل وعلا و (الإرادة) من الناس من أثبتها وجعلها ملازمة للمحبة :
- فقال بعض الطوائف إن كل ما أراده الله جل وعلا فقد أحبه فجعلوا هناك تلازما بين (المحبة) و (الإرادة) فجعلوا كل مراد محبوبا مرضيا لله جل وعلا لهذا ساق شيخ الإسلام رحمه الله الأدلة التي فيها إثبات صفة (المحبة) لله جل وعلا .
وصفة (المحبة) لله جل وعلا من جملة الصفات التي يتصف الله جل وعلا بها .(32/193)
(ومحبته) جل وعلا لمن شاء من عباده هذه موافقة لأمره ونهيه فإنه جل وعلا يحب التوابين ، يحب المتطهرين ، يحب المقسطين ، يحب المتقين ، يحب المحسنين ، يحب المؤمنين ، وهؤلاء هم الذين امتثلوا أمره واجتنبوا نهيه ، فالمشركون ليس لهم من محبة الله جل وعلا نصيب .
والمؤمن الذي يخلط عملا صالحا وآخر سيئا هذا فيه خصلتان :
- خصلة تقتضي محبة الله جل وعلا له وتلك الخصلة هي الإيمان الذي معه .
- وخصلة تقتضي عدم محبة الله جل وعلا له وتقتضي بغضه وهذا لأجل ما معه من شعب الكفر وشعب المعصية .
لهذا يجتمع في المعين - يعني المؤمن - يجتمع فيه محبة من جهة وبغض من جهة أخرى .
لهذا يقول أهل السنة والجماعة إن محبة الله جل وعلا تتفاضل فيحب بعض الناس أعظم من محبته للبعض الآخر ، ومحبة الله جل وعلا لإبراهيم عليه السلام بل وللنبي محمد عليه الصلاة والسلام أعظم من محبته لسائر خلقه ولذلك جعل الله جل وعلا إبراهيم خليلا وكذلك جعل محمدا عليه الصلاة والسلام خليلا والخلة أعلى المحبة .
المقصود من هذا أن (المحبة) صفة قائمة بالله جل وعلا وهو جل وعلا يحب من امتثل أمره الشرعي وإرادته الشرعية ، أما من كان منساقا مع إرادته الكونية ولم يمتثل للمراد الشرعي فإن هذا ليس محبوبا لله جل وعلا .
فكل شيء في ملكوت الله منساق لمراد الله جل وعلا الكوني وما يقع في ملكوت الله من الكفر والظلم والمعصية ونحو ذلك هذا مُبغض لله جل وعلا وممقوت من الله جل وعلا .
فـ (المحبة) صفة قائمة به ، وفي النصوص جاءت صفة (المحبة) مع صفات أخر فيها معنى المحبة .
فالمحبة نوع فيه عدد من الصفات ، مثلا :
- (الخلة) نوع من المحبة وهي أعلى أنواع المحبة .
- (المودة) نوع من المحبة وهذان الوصفان جاءا في الكتاب والسنة فإن الله جل وعلا اتخذ ابراهيم خليلا والله جل وعلا يحب كما سمعت من النصوص وكذلك له صفة المودة جل وعلا فهو يود المؤمنين ، يود المحسنين ونحو ذلك .(32/194)
إذا تبين لك ذلك فمعتقد أهل السنة والجماعة أن صفة (المحبة) إثباتها لا يعني إثباتُ جميع مراتبها ، فإن المحبة مراتبها كثيرة فمن مراتبها وأنواعها ما جاء إثباته في النصوص ، ومن مراتبها وأنواعها ما لم يجئ إثباته في النصوص ، مثل ما ذكرت لك :
(الخلة) جاء إثباتها .
(المحبة) أثبتت .
(المودة) أثبتت .
لكن (العشق) مثلا (التتيم) (الهوى) (الصبابة) (العَلاقة) ونحو ذلك من مراتب المحبة هذه لم تُثْبت لله جل وعلا ولا يوصف الله جل وعلا بها ، فإذن مدار هذا الباب ، باب صفة (المحبة) لله جل وعلا على النص ولا يقاس شيء من مراتب المحبة على ما ذُكِرْ .
وهذا كما أنه من جهة الله جل وعلا فهو أيضا من جهة العبد ، فالله جل وعلا وصف عباده بأنهم يحبونه وأن من عباد الله من جعل الله جل وعلا خليلا له (لو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله) يعني نفسه عليه الصلاة والسلام .
فإذن الجهتان جهة محبة الله للعبد وجهة محبة العبد لله يوقف فيها على الوارد .
هذه هي طريقة أهل السنة .
وأما من خالف فمنهم من يقول بالقياس فيثبت في حق العبد كل أنواع المحبة ويتوجه بها العبد إلى الله فيقال (فلان عشيق الإله) (وقد عشق الله جل وعلا) أو (تتيم بربه) أو (هوي - فلان - ربه) يعني أحبه .
المقصود هذه المراتب التي لم تذكر في النصوص ، المتصوفة وبعض المبتدعة من غيرهم يثبتونها ويجيزونها في حق العبد قياسا على ما ورد .
وهي صفة من صفات الله جل وعلا والله جل وعلا جعل في قلوب عباده محبة له لكن لا يوصف الله جل وعلا إلا بما ورد فلا يقال (الله جل وعلا عشَق محمدا) على أساس أن النبي عليه الصلاة والسلام اتخذه الله خليلا .
يقولون (الخلة) أعظم ، ففي إثبات الأعظم إثبات الأدنى .(32/195)
هذا باطل لأن كما قرره الأئمة (العشق) مثلا فيه اعتداء من العاشق للمعشوق و هذا لا شك أنه ينزه عنه الله جل وعلا وكذلك ينزه عنه أولياؤه ، لأن من مراتب المحبة ما فيه اعتداء ، ومنه ما فيه إهمال مثل (العلاقة) :
غيري وعُلِّق أخرى ذلك الرجل عٌلِقتها عرضا وعُلِّقت رجلا
من أهلها ميت يهذي بها وهِلُ وعُلِّقتْه فتاة ما يحاولها
فيه نوع تجاهل ، وهذا كله الذي ذكرت يعني أن الإثبات في هذا الباب مداره النصوص ، والناس في هذه الصفة - قبل أن ندخل في معنى الآيات - الناس في هذه الصفة صفة (المحبة) لله جل وعلا على أصناف :
- فأول من أنكر هذه الصفة ، أو أول بدعة جاءت في الصفات هي إنكار صفة (المحبة) وذلك أن جعد بن درهم كان في مكة وأنكر أن الله جل وعلا يتخذ من الخلق محبوبين و أخِلاء فأنكر أن الله اتخذ إبراهيم خليلا وكذلك أنه لم يكلم موسى عليه السلام تكليما ، فضحى به خالد القسري أمير الأمير وكان ذلك في يوم الأضحى بعد سنة مئة وعشرين للهجرة تقريبا .
أخذ هذه المقالة عنه في نفي الصفات وخاصة صفة (المحبة) بأن الله جل وعلا لا يُحِبُ وكذلك لا يُحَب أخذها عنه الجهم بن صفوان الترمذي وأيضا كان مصيره مصيرَ شيخه في ذلك ، وضحى به أمير خراسان سلْم بن أحْوَذ جزاه الله جل وعلا عن ذلك خير الجزاء وقتله مرتدا لأنه نفى صفات الله جل وعلا .
ورث هذه الأقوال طوائف ، منهم من ورث كل مقالة جهم ومنهم من ورث بعضها وكان ممن حظي ببعضها المعتزلة ، وكان ممن أخذ أصولهم أيضا الأشاعرة وهكذا ما بين مقل ومستكثر وقد أجمع المسلمون على أن الرجلين قتلا لخروجهما من الدين .
وهل خروجهما من الدين مكفر أو غير مكفر ؟
عند أهل السنة أن الرجلين كافران (الجعد بن درهم والجهم بن صفوان) لأنهما أنكرا صفات الله جل وعلا الواردة الثابتة في النصوص .
هذا مذهب من ينكر محبة الله جل وعلا لعباده ، يعني لبعض عباده .(32/196)
كذلك ينكرون محبة العبد لربه فيقولون إن الله لا يُحِبُ ولا يُحَب ، وأخذ هذا أيضا أهل الاعتزال.
المعتزلة يقولون إن الله جل وعلا لا يُحِب ولا يُحَب .
إذا كان كذلك فكيف يفسرون الآيات والأحاديث التي فيها محبة الله لعبده ومحبة العبد لربه ؟
ما الجواب ؟ ..
كيف يفسرون ، يعني محبة الله لبعض عباده ومحبة العباد لله جل وعلا التي جاءت في النصوص مثل ?يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ? كيف يفسر أولئك مثل هذه الآية ؟
نعم
......
يفسرون الحب بالطاعة .
طيب ، وحب الله ؟
أصبت بعضا وأخطأت بعضا .
في قول آخر ؟
…….
هذا هو القسم الذي أصاب فيه ، إكرام الله جل وعلا لهم وإحسانه إليهم وإنعامه عليهم هذا الذي يفسرون به المحبة .
لكن محبة العبد لله يفسرونها بأنها محبة أمره ومحبة طاعته ، فإذن ?يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ? عند المعتزلة وأهل التجهم ?يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ? يحبهم يعني يحسن إليهم ويثيبهم وينعم عليهم ، و (يحبونه) أي يحبون طاعته ودينه والجهاد في سبيله .
فيجعلون المحبة ليست لله ولكن لأوامر الله ومحبة الله يجعلونها الإنعام ، أثر المحبة ، يفسرون المحبة بالأثر .
من الأقوال في هذا إثبات محبة العبد لربه وإنكار محبة الرب لعبده .
يعني تأويل محبة الله لبعض عباده وإثبات محبة العباد لله ، وهذا قول أكثر المنتسبين إلى الأشعرية أو كثير من المنتسبين للأشعرية فإنهم يثبتون هذا النوع ، يثبتون محبة العبد ولكن لا يثبتون محبة الله جل وعلا ، وذلك لأن المحبة صفة تقوم بمن اتصف بها ويقولون لا مانع أن يتصف العبد بذلك .
إذا تبين لك ذلك وظهر لك قول أهل السنة والجماعة فالأدلة على ما قرره أئمتنا رحمهم الله تعالى كثيرة في الكتاب والسنة ، شيخ الإسلام ذكر بضعا من الآيات منها قوله جل وعلا ?وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? .
قوله جل وعلا ?وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ?(32/197)
ذكرت لكم أن (إنَ) إذا أتت بعد أمر أو نهي أو خبر أنها تفيد التعليل .
والله جل وعلا أمر بالإحسان بقوله ?وَأَحْسِنُوا? وعلل ذلك بأنه يحب المحسنين .
من المتقرر في الأصول أن حذف ما يتعلق بالفعل يفيد العموم .
الأصل أن يقال (أحسن إلى نفسك) (أحسن إلى والديك) (أحسن إلى أهلك) (أحسن إلى ذبيحتك) ونحو ذلك .
هنا الله جل وعلا أمر بالإحسان ولم يذكر الذي يتوجه إليه الإحسان
?أَحْسِنُوا? نحسن إلى من ؟
هذا يفيد العموم .
?أَحْسِنُوا? إلى من ؟
لم يذكر من يتوجه إليه الإحسان فذلك دليل على أنه مأمور بالإحسان لكل أحد ، فهذا فيه عموم ، طبعا إلا ما خصه الدليل من الكفار الذين أظهروا العداوة للمسلمين .
قال هنا ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? قوله ?يُحِبُّ? هذا فيه الفعل المضارع ، والفعل المضارع ينحل كما سبق أن ذكرت لكم ينحل إلى مصدر و زمان الحاضر .
فقوله ?يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? أفاد قوله ?يُحِبُّ? وهو الفعل المضارع - خلوكم معي - أفاد قوله ?يُحِبُّ? هو الفعل المضارع إثبات المحبة لأن الفعل المضارع يشتمل على مصدر - هذا واحد - .
(يحب) يعني له المحبة في الزمان الحاضر ، لأنه فعل مضارع (أحب يحب) وفيها إثبات أن محبة الله جل وعلا للمحسنين ليست قديمة وإنما هي حديثه وهذا من جنس كثير من الصفات التي يقال فيها قديم النوع حادث الآحاد .
فالله جل وعلا من صفاته أنه يحب والمحبة من صفات الله جل وعلا وتعلقها بمن أحبه تعلق حاضر ليس تعلقا قديما .
وهذا من فوائد قوله ?يُحِبُّ? ?يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? .
من فوائد الآية أيضا أن الله جل وعلا يحب من امتثل أمره .
والأمر هنا بالإحسان ، وكما هو معلوم الإحسان يتفاضل .
يعني فعل العبد في امتثال هذا الأمر اللي هو (أحسنوا) هل هو على مرتبة واحدة أم على مراتب ؟
من الناس من يأتي بالإحسان كله ومنهم من يأتي بأكثره ومن يأت ببعضه ، فالناس في امتثال الأمر يتفاوتون .(32/198)
وبناء عليه فإن المحبة تتفاوت لأن الله جل وعلا ?يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? والمحسنون تتفاضل مراتبهم فينتج من ذلك تفاضل المحبة .
قوله جل وعلا ?وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?
?أَقْسِطُوا? يعني اعدلوا ، فـ (أقسط) اسم الفاعل منها (مقسِط) يعني عادل .
بخلاف قسَط الثلاثية فإن اسم الفاعل منها (قاسِط) وهؤلاء هم الظلمة (قَسَطَ) الثلاثي بمعنى ظلم وتعدى ، كما قال جل وعلا ?وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا? .
أما (المقسِط) فهو من أسماء الله جل وعلا وهو (العادل) الذي له كمال العدل وهو أعظم من اسم العادل .
ولهذا ليس في أسماء الله (العادل) وإنما في أسماء الله جل وعلا (المقسط) .
من صفات الله جل وعلا أنه (الحَكَمُ العَدِلْ) والعدل - يعني أنه ذو العدل - والعدل اسم (المقسط) أعظم دلالة من (العدل) لأن الإقساط عدل وزيادة .
قال هنا ?أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ? مثل الكلام في الأولى في أن في فوائدها من حيث التعليل وأن ?يُحِبُّ? في دلالتها على الصفة وعلى الزمان وكذلك على تفاضل هذه الصفة بتفاضل الامتثال لهذا الأمر .
ها هنا بحث يرد كثيرا وهو أن الله جل وعلا له صفات وله أسماء ويحب من العبد أن يكون فيه ما يناسبه من تلك الصفات .
مثلا في الحديث الذي رواه مسلم وغيره قال (إن الله جميل يحب الجمال)
في آخر الحديث المشهور قال في آخره (الرجل يحي أن يكون نعله حسنا وثوبه حسنا ، قال عليه الصلاة والسلام إن الله جميل يحب الجمال ،الكبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس) .
قوله (إن الله جميل يحب الجمال) والله جل وعلا (مقسط) ويحب (المقسطين) وهو جل وعلا (محسن) ويحب (المحسنين)
هذه مسألة وهي امتثال العبد لصفات الله جل وعلا وتأثره بذلك وإتيانه بها ، الناس فيها ما بين جافٍ وغالٍ ، وأما أهل السنة فإنهم أثبتوا ذلك على ما جاء في النصوص .
بيان ذلك :(32/199)
أن الصوفية والفلاسفة - يعني غلاة الصوفية والفلاسفة - يقولون إن الفلسفة هي التخلق بصفات الله على قدر الطاقة ، التخلق بصفات الله ، هكذا يجعلون الفلسفة اللي هي عندهم أعلى الحكمة ، عند الصوفية أن صفات الله جل وعلا تُمتثل وسواء في ذلك الصفات التي هي راجعة إلى الجمال أم الصفات التي هي راجعة إلى الجلال أم الصفات التي هي راجعة إلى الربوبية أم الصفات التي هي راجعة إلى الألوهية .
يقولون تمتثل ولذلك دخلوا في مسائل في الفناء إلى آخره يعني ليس هذا محل بيانه .
أهل السنة في هذا قالوا هذه المسألة ينظر إليها بمعرفة العبد لنفسه وبعلم العبد بربه جل وعلا فإن العبد إذا علم حق الله جل وعلا وعلم ما يستحقه جل وعلا من الصفات التي لا يشاركه فيها أحد وعلم الصفات التي أحب من عباده أن يتمثلوها في أنفسهم صار عنده الفرق ، وتارة يكون الفرق بالنظر إلى الدليل وتارة يكون الفرق بالنظر إلى علم العبد بصفات الله جل وعلا ، فمثلا ما ورد من الصفات نثبته ، نقول الله جل وعلا (محسن) وقد أثبت شيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله تعالى في أسماء الله جل وعلا (المحسن) وقالوا الله جل وعلا هو المحسن ويحب المحسن من عباده
فهذا يثبت ، نقول يتمثل العبد بهذه الصفة ويتأثر بها ويفعل ما يستطيع من ذلك .
(الرحمة) الله جل وعلا (رحيم) ويفعل ذلك (الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) .
كذلك (الجمال) (إن الله جميل يحب الجمال) فإذا كان الجمال بما يوافق الشرع فإن الله جل وعلا يحبه من العبد .
فإذن قالوا مدار ذلك على ما جاء في النصوص ، فإذا كان في النص ما يدل على امتثال العبد لصفات الله ، يعني بمعنى تمثله بها وفعله ما يستطيع من ذلك بما يناسب عبوديته فإنه يفعل ذلك لدلالة النصوص على ذلك ، وهذا بحث واسع ربما يطول الكلام فيه لكن هذه خلاصة الكلام .(32/200)
قوله جل وعلا بعد ذلك ?فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين? .
فيها ?مَا اسْتَقَامُوا? هذه (ما) شرطية يعني [ إن استقاموا لكم فاستقيموا لهم ] لكنها فيها شرط مع الزمان .
قال ?فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ? الشاهد منها الأخير وهو قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين? وهذا فيه إثبات صفة المحبة وكما ذكرنا سالفا بأن المحبة تتفاضل لأن التقوى تتفاضل .
(التقوى) اسم جامع لطاعة الله واجتناب معصيته ، هذه هي التقوى ، (التقوى) اسم جامع لطاعة الله واجتناب معصيته ، وأصلها من (الاتقاء) اتقاء الشيء ، تقول (اتقيت الشيء بالشيء) إذا جعلت بينك وبينه وقاية ، والعرب تعرف ذلك كما قال شاعرهم :
فتناولته واتقتنا باليد سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
يعني النصيف ما يجعل على الوجه ، ما ينصف الوجه ، كانت عليها النصيف فلما سقط قال الشاعر (سقط النصيف) ومن عفافها أنها (لم ترد إسقاطه) قال :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته - يعني يإحدى اليدين - واتقتنا باليد......1
وتوقوا مخالفة الأمر هؤلاء هم المتقون ، ولذلك قلت لك إن أقوى التعاريف للمتقين أنهم هم الذين قامت بهم التقوى ، و(التقوى) اسم جامع لماذا ؟
اسم جامع لامتثال طاعة الله واجتناب نهي الله .
قال الله جل وعلا بعدها ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ?
?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ? التوابون جمع (التواب)
و (التواب) صيغة مبالغة من التائب ، تاب يتوب توبة وهو التائب
و (التائب) اسم فاعل التوبة أو اسم من قامت به التوبة
والمبالغة منه (التواب) وتاب بمعنى رجع من شيء إلى شيء ، مثل يعني قريب منه (ثاب) و (آب) ونحو ذلك.
من هم (التوابون) ؟
التوابون هم الذين كثر منهم الرجوع من معصية الله إلى طاعته ومما لا يحبه الله جل وعلا إلى ما يحبه ومن غير الله إلى الله قلبا وجوارحا .(32/201)
وهذا اسم من أسماء العباد الذين تحققت فيهم هذه الصفة .
والله جل وعلا هو (التواب) أيضا فإن من أسماء الله (التواب) أليس كذلك ؟
فما معنى (التواب) في أسماء الله ؟
......
(التواب) في أسماء الله ؟
التواب بمعنى يقبل التوبة كذا ؟
......
التواب ما هو ؟ يقبل التوبة ، ما الدليل ؟ يعني وين جبت هالكلام ؟
تواب ، تواب بمعنى يقبل ، أو من الآية ?وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ? هذا المعنى صحيح أو ليس بصحيح ؟
هذا صحيح بنص الآية ?وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ? .
فإذن الله جل وعلا (التوا ب) بمعنى أنه يقبل التوبة .
هل من معنى آخر ؟
......
التواب في أسماء الله جل وعلا متعلق بالتائبين ، وتعلقه بالتائبين تعلقان .
أحد التعلقين قبل التوبة والآخر بعد التوبة .
فالله جل وعلا هو (التواب) فتعلقه بالتائب قبل أن يتوب ، هو (التواب) على التائب قبل أن يتوب بمعنى هو الذي وفقه وأعانه على أن يتوب .
فهو جل وعلا التواب الذي يوفق التائب إلى التوبة ولو كان العاصي لنفسه دون إعانة ولا توفيق من الله جل وعلا لم تحصل منه التوبة ، لأن أعداء الإنسان كثر والشياطين كثر يريدون أن يضلوه ، فالله جل وعلا تواب بمعنى وفق التائب إلى التوبة ، وأذن له بذلك ، هذا قبل وقوع التوبة .
وبعدها بعد وقوع التوبة ، الله جل وعلا (التواب) بمعنى أنه يقبل التوبة عن عباده ويحقق أثر القبول وهو الاعتداد بها يقبل التوبة ويحقق أثر القبول وهو الاعتداد بها .
ما أثر قبولها ؟
أن تمحى عنه سيئاته (التوبة تجب ما قبلها) ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا? أجمع المفسرون على أنها نزلت في التائبين .
إذن قوله تعالى هنا ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ? هؤلاء هم العباد ،(32/202)
ومن أسماء الله (التواب) وعرفت أن التواب في أسماء الله جل وعلا له جهتان ، جهة قبل وقوع التوبة من العبد وجهة بعد ذلك ، وكلها صحيحة دلت عليها الآيات .
قوله جل وعلا ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ?
مثل ما سبق فيها دلالة على تفاضل محبته جل وعلا لهؤلاء ولهؤلاء لأن من الناس من يتوب من كثير من الذنوب لكن لا يتوب من بعض الذنوب فإذن محبته ليست كمحبة من يتوب من كل ذنب .
?وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ? الذين تطهروا من أنواع النجاسات الحسية والمعنوية ، يعني صاروا أهل طهارة وهؤلاء أيضا يتفاضلون .
قال جل وعلا بعدها ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ?
?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ? هذه نزلت في وفد نصارى نجران حيث زعموا أنهم يحبون الله ، فقال جل وعلا لمحمد عليه الصلاة والسلام ليخاطبهم بقوله ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ? .
إن كنتم تزعمون أنكم تحبون الله فليس هذا هو الشأن ولكن الشأن أن يحبكم الله جل وعلا وسبيل محبة الله جل وعلا هو أن تتبعوا رسوله الخاتم محمدا عليه الصلاة والسلام .
لهذا قال من قال من السلف (ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب) أخذا من هذه الآية .
ليس الشأن أن تحب الله ليس الشأن أن تحب الإسلام ليس الشأن أن تحب الدين ليس الشأن أن تحب النصرة نصرة الله جل وعلا .
ولكن الشأن أن تُحَب ، يعني أن يحبك الله بأعمالك تلك كلها .
وإذا نظرت فإن النصارى يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه لكن هل هم كذلك ؟
لا
هذه دعوى مجردة والبرهان الاتباع ?فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه ُ? .(32/203)
الخوارج في الفرق الإسلامية ، الخوارج يزعمون أنهم يحبون الله بل كانت عبادتهم تُحقَر معها عبادة الصحابة كما قال عليه الصلاة والسلام للصحابة في الحديث الذي في الصحيحين وغيرهما قال (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم لمن قتلهم أجرا عند الله) ، لأنهم أهل صلاة عظيمة وأهل صيام عظيمين وهم يزعمون أنهم أهل محبة الله وهم في قلوبهم من محبة الله الشيء العظيم قلوبهم وجلة خائفة محبون لله لكنهم لما لم يتبعوا السنة ، لم يتبعوا طريقة الصحابة وخالفوا ذلك كانوا أهل وعيد وكانوا من المَرَقة من الدين ، نسأل الله جل وعلا العافية .
وهكذا كل طائفة من طوائف الضلال .
الصوفي الضال أو بعض أهل الابتداع من غيرهم من الفرق الكلامية تجد أن عنده خوف وخشية ودموع وخوف من الله جل وعلا ومحبة .
لكن ليس الشأن في أن الله جل وعلا يُحِبُ العبد أن يُحِبَ العبدُ اللهَ .
كما قال من قال من السلف (ليس الشأن أن تحب لكن الشأن أن تُحَب) .
المسألة العظيمة ليست أن تحب أنت إنما المسألة العظيمة أن تسعى في محبة الله جل وعلا لك وهذا إنما يكون عن طريق واحد وهو اتباع النبي عليه الصلاة والسلام ظاهرا وباطنا وسواء في ذلك سلوك الفرد في نفسه أم سلوكه في غيره .
فهذه مسألة عظيمة وهي مسألة المحبة ، محبة العبد لربه ومحبة الرب لعبده .
وقد كتب شيخ الإسلام في ذلك قاعدة اسمها (قاعدة في المحبة) طبعت ضمن مجموع الرسائل ثم انتزعت مستقلة وهي رسالة نفيسة في هذا الأمر في محبة العبد لربه ومحبة الرب جل وعلا لعبده وابن القيم رحمه الله كتب كتابا عظيما في ذلك وهو كتاب (روضة المحبين) وفصَل فيها هذه المسألة تفصيلا جيدا .
في آخر الآيات التي ذكرها قال ?فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ?
ذكرنا معناها
قال في آخرها ?وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ?(32/204)
?الْوَدُودُ? هذا من أسماء الله جل وعلا .
قبلها آية الصف ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ?
?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ? يحبهم محبة قائمة به صفة من صفاته التي اتصف بها جل وعلا حين قاتلوا ، هو متصف بالمحبة في الأزل ، لم يزل الله جل وعلا متصفا بذلك لكن تعلق المحبة بالمقاتلين حين قاتلوا ، ليست محبة أزلية قديمة ، وتتعلق بالحادثات فيما بعد ليست كذلك وإنما هي محبة تتعلق بما يحصل من ما يحب الله جل وعلا .
فإذا تطهر العبد أحبه الله ، المجاهد يحبه الله المقاتل في سبيله ?الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ? حالة كونهم على تلك الحال يحبهم الله جل وعلا وهذا هو ما يقرره أهل السنة في ذلك .
?وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ?
الْوَدُودُ في أسماء الله جل وعلا الحسنى له معنيان ، وأصله من اتصف بالمودة أو التودد .
و ?الْوَدُودُ? فعول ، وفعول في اللغة يعني في اللسان العربي تارة تكون بمعنى فاعل ، وتارة تكون بمعنى مفعول .
يعني (مودود) فالْوَدُودُ في أسماء الله لها معنيان :
(وَدُودُ) فعول بمعنى فاعل يعني (وادّ) ، يعني محب .
(وَدُودُ) فعول بمعنى مفعول يعني (مودود) .
فإذن في هذا الاسم إثبات أنه يُحِب ويُحَب جل وعلا ، يَوَد ويُوَد جل وعلا .
?وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ? يعني الذي يحب ويُحَب ويَوَد ويُوَد جل وعلا .
كيف لا وآلاؤه وإنعامه وفضله على عباده يرونه أمامهم في كل لحظة ?وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ? سبحانه وتعالى .
بهذا يكمل الكلام عن هذه الصفة صفة المحبة والمقدمة التي قدمت لك بها هي في المذاهب في ذلك والأقوال مهمة في هذا الموضوع .
....
هل يجوز للمرء أن يتخذ خليلا وهل لذلك شروط وضوابط ؟(32/205)
نعم ، المرء له أن يتخذ خليلا لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال (لو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله) فهو عليه الصلاة والسلام منعه من جعْل أبي بكر خليلا له أنه مشغول بخلة الله جل وعلا ، وهذا يدل على أنه من لم يكن على هذه الصفة فإنه يجوز له أن يتخذ أخلاء .
وأبو هريرة رضي الله عنه بل الصحابة جميعا خليلهم هو النبي عليه الصلاة والسلام .
يقول أبو هريرة (أوصاني خليلي) والخليل هو الذي له المحبة العظيمة الذي تخللت محبته القلب والروح ، وقد قال جل وعلا ?الْأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ?
فهناك من هو من المتقين ويكون له خليل وخلته مع خليله على خير لأنها في طاعة الله وفي تقوى الله
......
يقول قال تعالى ?وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? قالوا في هذه الآية الرد على الجبرية والقدرية وكذلك فيها التعليل والحكمة أرجو التوضيح .
هذا من كلام ابن القيم رحمه الله وقد نقله بعض الشراح .
هذه الآية ?وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? نعم فيها الرد على الجبرية والقدرية وكذلك فيها التعليل والحكمة .
أما الرد على الجبرية فإنه أمر بالإحسان والجبرية يقولون العبد يفعل الشيء مجبورا عليه ، والمجبور على الشيء لا يؤمر به .
كذلك فيها الرد على القدرية ، القدرية الذين ينفون القدر - يعني القدرية النفاة - الذين ينفون القدر إما جميع مراتبه أو بعض مراتبه ووجه ذلك أنه أمر أيضا بقوله ?وَأَحْسِنُوا? ووجه الاستدلال أن الامتثال لهذا الأمر يكون حادثا والله جل وعلا يحب المحسنين ...
انتهى الشريط السابع من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثامن(32/206)
كذلك فيها الرد على القدرية ، القدرية الذين ينفون القدر - يعني القدرية النفاة - الذين ينفون القدر إما جميع مراتبه أو بعض مراتبه .
ووجه ذلك أنه أمر أيضا بقوله ?وَأَحْسِنُوا? ووجه الاستدلال أن الامتثال لهذا الأمر يكون حادثا والله جل وعلا يحب المحسنين ، وقوله ?يُحِبُّ? فيها إثبات صفة (المحبة) لهؤلاء الذين تحققوا بالإحسان ، وهو جل وعلا يحبهم قدرا ، كتب محبتهم لما سيفعلونه وهو يحبهم إذا فعلوا أيضا.
كذلك فيها التعليل والحكمة ، التعليل في قوله ?إِنَّ? ، ?وَأَحْسِنُوا إِنَّ? مجيء (إن) بعد الأمر هذا فيه التعليل والحكمة في ذلك أيضا ، يعني التعليل والحكمة متصلان .
هل ثبت عن شيخ الإسلام ابن تيمية القول بفناء النار وكذلك ابن القيم ؟
هذه مسألة طويلة جداً ، كثير من الناس يخوضون فيها وهو لا يعقلونها .
هذه مسألة عظيمة كما ذكر شيخ الإسلام .
يقول ابن القيم سألته عن هذه المسألة قال فالتفت إلي وقال : هذه مسألة عظيمة ، وسكت شيخ الإسلام .
والناس ما يعقلونها ، وقد كتبت فيها كتابات متنوعة لكن تدل على عدم عقل هذه المسألة ، وأكثر الناس لا يعون معنى كلام شيخ الإسلام .
كلام شيخ الإسلام من العجب أنهم يأتون يردون عليه بقول الله جل وعلا ?خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا? ?وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا? ومن المعقول أنهم إذا استحضروا هذه الآية في الرد على شيخ الإسلام أن لا يظنوا بشيخ الإسلام رحمه الله أنه يجهل هذه الآية .
شيخ الإسلام لا يجهل هذه الآية ، ودلالة الآية على مكانها ودلالتها اللغوية أيضا على مكانها .
شيخ الإسلام يفهم هذه المسألة بفهم بعيد عن ما دندن حوله كثير ممن كتب في هذه المسألة لكن الله المستعان ، وهي من المسائل التي لا يحسن الخوض فيها .
لكن طريقة أهل السنة والجماعة في ذلك أنهم يثبتون أن الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان ولا تفنيان .(32/207)
الجنة مخلوقة الآن والنار مخلوقة لا تفنيان ولا تبيدان .
أهل الجنة إذا دخلوا فيها خلود فلا موت وأهل النار إذا دخلوا فيها خلود ولا موت ، وأما كلام شيخ الإسلام ومقاصده بكلامه فذاك له بحث آخر .
ما القول الصحيح في مؤولي الصفات وفي منكري الصفات هل يحكم بكفرهم أم بفسقهم وما موقف المسلم منهم ؟
مؤولو الصفات يختلفون عن المنكرين للصفات فهما صنفان :
- أما المنكرون للصفات إذا أنكر جميع الصفات هذا كافر ، مثل الجهمية ومن شابههم ، إذا أنكر جميع الصفات قال إن الله لا يتصف بصفة هذا كافر بإجماع الأمة , أما إذا كان ينكر بعض الصفات مثل المعتزلة فهذا فيه نظر : هل الصفة مما يتضح دليلها أم مما يحتاج دليلها إلى إيضاح ، بعض الصفات دليلها واضح بيِن مثل رؤية الله جل وعلا مثل كلام الله جل وعلا ونحو ذلك هذه دليلها بين واضح ، كُرِّر في القرآن كثيرا ونُوِّعت الأدلة على ذلك فإنكار ذلك هو إنكار للواضح ، وإنكار الواضحات لا يحتاج فيه المرء إلى إقامة الحجة إلا في حال من عنده شبهة معينة في ذلك فتزال مثل حال المأمون ونحو ذلك فإن أئمة الحديث رحمهم الله لم يحكموا بكفره وذلك لأجل الشبهة التي قامت عنده وما اتسع الزمان لمن يقيم عليه الحجة إقامة بينة واضحة ، لأنه توفي ولم يصل إليه أحد من أئمة السنة وإنما وصلوا لمن بعده من الولاة .(32/208)
- أما مأولوا الصفات مثل الأشاعرة والماتريدية ونحو ذلك اللي يسمون الصفاتية يثبتون سبع صفات أو عشرين صفة فهؤلاء لا يحكم بكفرهم وإنما هم من المبتدعة الضُلال الذين عندهم فسق بما خالفوا فيه النص لأن الفسق يكون [ بعدم امتثال الأمر أو عدم اعتقاد الخبر ] فإن الله جل وعلا إذا أخبر بخبر فإن اعتقاده واجب ، كذلك إذا أمر بأمر فإن امتثاله واجب فإذا لم يُمتَثَل الأمر الذي هو من الواجبات ولا عذر لأحد في تركه فإن تركه فسق ، كذلك عدم اعتقاد الخبر فإنه فسق ، وأولئك الذين أوّلوا لم يعتقدوا ما دلت عليه النصوص فهم مبتدعة بالتأويل و فسقة لأجل عدم اعتقادهم ، وأما تكفيرهم فلم يحكم أحد من أهل السنة على الأشاعرة بالكفر وإنما يحكمون عليهم بالبدعة قد تكون مغلظة وقد تكون دون ذلك بحسب حال المؤولين .
وهم درجات ، الأشاعرة درجات منهم أشاعرة أهل الحديث مثل (الخطابي) و (البيهقي) ونحو ذلك فهؤلاء أهل الحديث يعني أهل الرواية مثل ما قسمهم شيخ الإسلام في الاستقامة ، أشاعرة رواة الأحاديث أو حفاظ الأحاديث أو أهل الحديث بهذا المعنى وإلا فأهل الحديث هم [ الذين يعتقدون ما اعتقده أئمة الحديث والأثر في صدر الإسلام وما اعتقده لصحابة ومن بعدهم ] هؤلاء الطبقة هم أخفهم مثل (البيهقي) و (الخطابي) ونحوهم .
هناك طبقة ممن أخذوا ببعض الحديث ولكن لم يفقهوه وعندهم نصيب من الكلام وهؤلاء أخف منهم .
وأدنى درجاتهم يعني أعظم الأشاعرة غلظة وبدعة هم المتكلمون مثل الرازي والآمدي وعضد الدين الإيجي صاحب المواقف ونحو ذلك من أئمتهم .
هل لكم ملاحظات على كتاب روضة المحبين ؟
هذا له مجال آخر ، روضة المحبين بعض الناس يستغرب يقول ابن القيم ذكر فيه أخبار المحبين اللي أحب الجواري واللي أحب ما أحب من الدنيا واللي أحب زوجته وأشعار وأخبار ويقول ويستغرب لماذا يذكر ابن القيم هذا الكلام ؟
هو ذكره لقصد .(32/209)
ابن القيم يقول هؤلاء تعلقت قلوبهم بمحبوبيهم لِما ظهر لهم من أثر محبوبهم عليهم إما أن يشرح صدره وإما أنه تلتذ له عينه إذا رآه وإما أنه يلتذ له بدنه إذا رآه أو إذا خالطه يلتذ سمعه لما سمع ونحو ذلك .
فأسباب المحبة فيمن أحب أحدا في الدنيا تكون ببعض هذه الأنواع .
وإذا كانت كذلك فهي على ضآلتها وعلى حقارتها في محبة بعض أهل الدنيا للدنيا هي لا تساوي شيئا في جنب محبة المتقين لربهم جل وعلا ، لأنهم رأوا من الآثار ومن صفاته ومن آثار صفاته في خلقه ورأوا وعلموا من شرعه ما يوجب محبتهم له جل وعلا وإذا كان أولئك أحبوا أحبتهم وتناشدوا فيهم الأشعار وأطاع من أطاع :إن المحب لمن يحب مطيع
لأجل ما قام في نفوسهم من المحبة فكيف ينبغي أن يكون عليه حال من علم حق الله جل وعلا وعلم آثار صفات الله جل وعلا في ملكوته وعلم شرع الله جل وعلا وحكمته البالغة ونعمه المتواترة المتتابعة كيف ينبغي أن يكون عليه في باب محبة الله ؟
فإذن ما ذكره هو من باب التمثيل الذي هو للتحقير ، هذه محبة هؤلاء كيف فنوا في محبوبيهم فكيف حال من يحب ربه جل وعلا ، فلا تعجل في الانتقاد حتى تعرف مقاصد أهل العلم بكلامهم
هل لأحد أن يتسمى باسم محسن ؟
نعم ، محسن من جنس الأسماء التي يشترك فيها المخلوق مع الخالق جل وعلا ، فالله جل وعلا هو الملك وسمى بعض خلقه بملك ، والله جل وعلا هو السميع وسمى الإنسان بأنه سميع بصير والله جل وعلا هو الرؤوف الرحيم وسمى نبيه بذلك وهكذا المحسن والمقسط وأمثال ذلك .
أسأل الله جل وعلا أن ينفعنا وإياكم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
ذكر رضى الله
وغضبه وسخطه وكراهيته
وأنه متصف بذلك(32/210)
قَوْلُهُ: ?رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ?([2])، ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ?[النساء:93]، وَقَولُهُ: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ?[محمد:28]، ?فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ?[الزخرف:55]، وَقَوْلُهُ: ?وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ?[التوبة:46]، وَقَوْلُهُ: ?كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ?[الصف:3].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين ، أما بعد :
فهذه الآيات فيها إثبات جملة من الصفات الاختيارية .
وذكر المؤلف رحمه الله ما يدل على إثبات صفة (الرضا) وإثبات صفة (الغضب) وإثبات صفة (السخط) وإثبات صفة (الكراهية) وإثبات صفة (المقت) لله جل وعلا ، فالله سبحانه وتعالى يغضب ويرضى لا كأحد من الورى ، وهو جل وعلا في غضبه ورضاه ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ? .
كذلك كراهية الله جل وعلا وسخطه وبغضه ومقته وأسفه كل هذا يليق بجلاله وعظمته .
وأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات جميعا لأنها قد جاءت في الآيات والأحاديث في مواضع كثيرة .
ونُوِّع إثباتها بتنوع الدلالات عليها تارة بالفعل الماضي وتارة بالفعل المضارع وتارة بالمصدر ونحو ذلك من الدلالات .(32/211)
فإذن هذه الصفات الاختيارية هي ثابتة لله جل وعلا كما أثبتها لنفسه وكما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم .
ونعني بقولنا الصفات الاختيارية أي [ التي تقوم بذات الله جل وعلا بمشيئته جل وعلا وقدرته ] .
وهذه الصفات مما حصل فيها النزاع قديما .
وأول من أحدث هذا القول بأن الصفات الاختيارية لا تثبت لله جل وعلا وإنما تُأوّل هم (الكلابية) ، وقبل ذلك قبلهم الجهمية .
والمعتزلة يقولون هذه الصفات هي مخلوقات منفصلة مثل ما قال المعتزلة أن كلام الله مخلوق كذلك قالوا في هذه الصفات التي تقوم بمشيئة الله يقولون هي مخلوقات منفصلة ، فـ (الغضب) عندهم مخلوق منفصل ويجعلون الغضب هو أثر الغضب وكذلك (الرضا) يجعلونه مخلوقا منفصلا يقولون مجاز عن النعمة أو مجاز عن الإنعام أو الإحسان أو نحو ذلك ، يعني أن هذه تفسر عندهم بالمخلوقات المنفصلة .
فرام ابن كلاب أن يأتي بقول يرد به قول أولئك ويثبت به ما دل الكتاب والسنة على إثباته فأخذ طريقة وسطا فقال هذه الصفات الاختيارية لا تقوم بذات الله جل وعلا بمشيئته وقدرته وإنما هي صفات قديمة .
فعنده (الغضب) قديم و (الرضا) قديم و (الكراهية) قديمة ومع ذلك فإنه يؤول .
يقول هذه مردها إلى صفة (الإرادة) ويقولون مثل ما يقول الأشاعرة والماتريدية يقولون (الغضب) إرادة الانتقام (والرضا) إرادة الإحسان ونحو ذلك ، فيرجعون الصفة القديمة إلى (الإرادة) .
فإذن الأشاعرة والماتريدية خالفوا أهل السنة والجماعة في هذا الباب في كون :
- أولا الصفة قديمة وليست قائمة بذات الله بمشيئته واختياره .
- ثانيا قالوا الصفة لا تليق بالله ولهذا يؤولونها بالإرادة وسيأتي بيان ذلك .
إذن فتحصل لك أن أولئك المخالفون للكتاب والسنة على مذاهب شتى في هذه الصفات الاختيارية ، وأهل السنة والجماعة يثبتون ما دلت عليه النصوص من إثبات صفة (الغضب) و (الرضا) .(32/212)
قال جل وعلا ?رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ? وقال جل وعلا ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? وتلحظ هنا من قوله ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? أن زمن (الرضا) هو وقت المبايعة قال جل وعلا ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ? يعني حين يبايعونك ، و (إِذْ) ظرف زمان وظرف الزمان ينصب بالواقع فيه كما قال ابن مالك في الألفية قال :
كان أو انْوِهِ مُقَدَرا فانصبه بالواقع فيه مُظهَرا
وما وقع في هذا الزمن هو (رضا) الله جل وعلا ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? هذا ظاهر في أن (الرضا) حصل في وقت المبايعة أو بالمبايعة ، وهذا يعني أن (الرضا) لم يكن قديما وإنما كان (الرضا) مع المبايعة .
وكذلك قال الله جل وعلا في آية النساء التي ذكرها الشيخ ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ? فيها إثبات صفة (الغضب) لله جل وعلا .
وهذه الآية فيها إثبات صفة (الغضب) وفيها أن (الغضب) رُتِّب على القتل ، قال ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَـ? فأوله شرط وما بعد الفاء هو جزاء الشرط قال ?فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ? هذا أول الجزاء ?جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ? فإذن وقوع (الغضب) بعد القتل وكذلك وقوع اللعنة بعد القتل كما أن جهنم كانت جزاء له بعد أن ارتكب تلك الكبيرة .
وهكذا ترى أن النصوص دلت على إثبات هذه الصفات الاختيارية بأنواع من الدلالات ، وفي هذه النصوص إثبات تلك الصفات وفيها أن الصفة قائمة بذات الله جل وعلا بمشيئته وقدرته .
ما معنى أنها قائمة بذات الله بمشيئته وقدرته ؟(32/213)
يعني أنه جل وعلا غضب على المعين بعد أن لم يكن غاضبا عليه ، رضي عليه بعد أن لم يكن راضيا عنه ، ودلالات الكتاب فيما ذكرت لك ظاهرة .
كذلك من السنة بل أيضا من القرآن دليل واضح على ذلك في صفة (الغضب) قال جل وعلا في سورة طه ?وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى? .
فقوله ?وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي? يدل على أن (الغضب) حل .
وأولئك يقولون هو قديم والله جل وعلا قال ?وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى? فإذن دلت الآية على أن (الغضب) يحل بعد أن لم يكن حالا.
وهذا أيضا جاء مبينا في السنة في نصوص كثيرة فيها إثبات هذه الصفات .
وفيها أنه قائمة بذات الله بمشيئته وقدرته يتصف الله جل وعلا بها متى شاء كيف شاء جل ربنا وتعالى وتعاظم وتقدس.
في الحديث الذي في الصحيحين في بيان حال أهل الجنة أن الله جل وعلا قال - يعني في حديث فيه طول - قال الله جل وعلا لأهل الجنة قال (أحل عليكم رضواني) يعني ثواب لأهل الجنة ، قال (هل تريدون شيئا ؟) قالوا قد أعطيتنا وأعطيتنا قال (بقي شيء أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا) الشاهد منها قوله جل وعلا في هذا الحديث (أحل عليكم رضواني) يعني أن (الرضوان) حل عليهم ، وقال بعدها (فلا أسخط عليكم بعده أبدا) كذلك (السخط) يكون في وقت دون وقت .
هذا أيضا كما جاء في الحديث الآخر ، في حديث الشفاعة المعروف الذي رواه مسلم وغيره ، قال عليه الصلاة والسلام في سياق ما يحصل في عرصات القيامة قال (إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) .
قال (غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) فإذن دل على أن غضب الله جل وعلا الذي صار وكان في عرصات القيامة أنه لم يكن مسبوقا بمثله ولن يكون ملحوقا بمثله ، فإذن هذه صفة اتصف الله جل وعلا بها متى شاء .(32/214)
وهذه الأصول مبينة واضحة جدا بحمد الله وتوفيقه .
إذا تبين لك ذلك فإذن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن ما وصف الله جل وعلا به نفسه فإنه يوصف به جل وعلا سواء أكان ذلك من الصفات الذاتية أم من الصفات الفعلية ، وكذلك إذا كان من الصفات اللازمة أم من الصفات الاختيارية .
وقول الجهمية والمعتزلة في تفسير تلك الصفات بأنها مخلوقات منفصلة هذا باطل لأن في هذا نفي للصفة والله جل وعلا أثبت لنفسه تلك الصفات .
ثم إن بسبب نفيهم لتلك الصفات أن الجهمية الذين أصلوا أصول البدع في نفي الصفات وتأويلها وجحدها وتحريفها أولئك أصلوا أصلاً ألا وهو أن الله جل وعلا ليس بمتصف إلا بصفة واحدة ألا وهي صفة الوجود .
هذا قول الجهمية ، والصفات الأخرى يقولون هذه إذا أثبتت لزم منها حلول الأعراض في من اتصف بها .
وإذا قيل بجواز حلول الأعراض في من اتصف بها لزم منه أن يكون من حلت به جسماً وهذا باطل.
فقدموا لهذا بمقدمة باطلة فنتج عنها نتائج باطلة ثم أولوا النصوص .
وهذا أصل عند الجهمية وهو الذي به انحرف المعتزلة وانحرف الكلابية وانحرف الأشعرية والماتريدية وكل فرق الضلال في باب الصفات .
ما هذا الأصل ؟
هو ما يسميه أهل العلم بـ (حلول الأعراض) ولا بأس أن نعرِّجَ عليه بقليل من الإيضاح لأن فهمه يُفْهِمُك لماذا نفى الجهمية الصفات ؟
يُفْهِمُك لماذا نفى المعتزلة الصفات ؟
يُفْهِمُك لماذا نفى الكلابية والأشعرية والماتريدية الصفات، لماذا نفوها ؟
نفوها لهذا الأصل ألا وهو القول بأن إثبات وجود الله جل وعلا لا يكون إلا عن طريق دليل حدوث الأعراض .
ما هذا الدليل ؟
هذا أصلاً الجهمية ، تعرفون قصة جهم بن صفوان فإنه تحير هو في ربه جل وعلا لما قال له طائفة من السومانية - من أهل الهند التناسخية الذين لا يقولون بإله ولا برب خالق ولا بمعبود لهم - قالوا له أثبت لنا أن هذه الأشياء مخلوقة وأن لها خالقا .(32/215)
فتتفكر مدة من الزمن - جهم - ثم أخرج هذا الدليل العقلي .
طبعا أولئك لا يقرون بالقرآن فاضطر إلى أن يحتج عليهم بهذا الدليل العقلي .
ما هذا الدليل العقلي الذي قال به جهم ؟
قال لدينا أعراض لا يمكن أن تقوم بنفسها ، يعني لا يمكن أن نراها ليس لها هيئة .
ما هذه الأعراض ؟
قال مثل اللون مثل الحرارة مثل البرودة
هذه أشياء ترى ؟
ما ترى .
مثل الحركة ، الحركة ترى ؟
يعني من حيث هي حركة ، المشي من حيث هو هل يرى ؟
الارتفاع ارتفاع الشيء علوه أو هبوطه هل يرى ؟ يعني هل ثَم شيء اسمه علو تراه مجسما ؟
هل ثَم شيء اسمه مشي تراه وحده مثل ما ترى البناء ، ترى جبل صحيح ، لكن ما يمكن أن ترى شيء اسمه مشي ، لأن المشي هذا ايش ؟ صفة ، مثل الحرارة مثل البرودة مثل الارتفاع مثل النزول إلى آخره .
يعني أن المعاني هذه سماها أعراضا وقال هذه المعاني لا يمكن أن تقوم بنفسها - يخاطب أولئك الضالين يخاطب السومانية - قال هذه المعاني لا يمكن أن تقوم بنفسها صحيح ؟
قالوا صحيح .
قال لهم إذن إذا حلت بشيء فهذا الشيء إذن احتاج لغيره .
فليس ثَم جسم إلا وفيه أعراض .
لا يقوم الجسم إلا بالأعراض أليس كذلك ؟
ليس ثَمَ جسم ليس فيه حرارة ولا برودة ولا يوصف بهذه الأوصاف اللي هي المعاني أليس كذلك ؟
قال لهم الجسم إذن هذا حلت فيه الأعراض معناه أن الجسم محتاج إلى هذه الأشياء .
قالوا صحيح .
قال ما دام أن الجسم محتاج فإذن ليس مستقلا بإيجاد نفسه .
لأن المحتاج إلى غيره في بعض وجوده أن يكون محتاجا إلى غيره في أصل الوجود أولى .
يعني لو كان هو أوجد نفسه لو هذه الأشياء أوجدت نفسها لكان يمكن أن تستغني عن هذه الأعراض ، أليس كذلك؟
فإذن قال إثبات هذه الأجسام وأنها لا يمكن أن توجد بنفسها كان عن طريق إثبات حلول الأعراض فيها
والأعراض لا يمكن أن تقوم .
فكذلك الأجسام لا يمكن أن تقوم بنفسها .
إذن فالجسم محتاج إلى غيره في وجوده .
استقام الكلام الآن ؟(32/216)
قال إذن فلا بد من موجد له .
قالوا سلّمنا ، صحيح .
فإذن أثبت لهم أن الأشياء لا بد لها من موجد .
قال لهم هذا الموجد هو الله ، هذا الموجد هو الرب هو الخالق الذي أوجد هذه الأشياء من العدم ، سلموا بوجود الله جل وعلا .
لما سلموا قالوا إذن صف لنا هذا الرب .
فلما أتى يريد الوصف نظر في الأوصاف التي في القرآن فكلما أراد أن يصف بوصف وجد أن إثبات هذا الوصف ينقض الدليل ، الدليل الذي أقامه ولم يجد غيره على وجود الله جل وعلا .
إذا أثبت أن الله جل وعلا متصف بالصفات الصفات الذاتية مثل اليدين مثل الوجه إلى آخره ، هل هذه تقوم بنفسها ؟
يقولون هذه لا تقوم بنفسها فإذن من حلت به جسم مثل الأجسام .
فإذن هو محتاج إلى غيره .
فكذلك الصفات هذه مثل الغضب والرضا والعلو ونحو ذلك من الصفات من باب أولى .
هذه النظرية أو هذا الأصل الذي وضعه جهم - عامله الله جل وعلا بما يستحق - هذا الأصل أضل الأمة .
كل من أتوا بعده قالوا لا يوجد دليل لإثبات وجود الله لمن لا يؤمن بالله لم لا يؤمن بكتاب ولا بسنة ولا برسالات إلا بهذا الدليل اللي هو دليل حدوث الأعراض حلول الأعراض في الأجسام .
وإذا كان كذلك ، فكل ما ينقض هذا الدليل لا بد من نفيه أو تأويله .
فأصّل هذا وقال جهم ليس لله صفة إلا صفة واحدة هي الوجود المطلق ، الوجود المطلق .
الجود المطلق طبعا ما دام أنه خالق لا بد أن يكون موجودا ، فقال وجود مطلق .
طيب يا جهم هذه الصفات التي في الكتاب والسنة ماذا تقول فيها ؟
قال هذه كلها مخلوقات منفصلة الله هو السميع ، قال السميع يعني المسموعات ، البصير يعني المبصرات ، طيب ، وهكذا في كل الصفات سواء الذاتية أو الفعلية أو الاختيارية كلها أولها بمخلوقات منفصلة .
أتى المعتزلة بعده وقالوا هناك صفات عقلية .
الدليل الذي أقامه جهم قالوا صحيح ، انتبه ، الدليل الذي أقامه جهم قالوا صحيح .(32/217)
إذا كان صحيحا قالوا هو دليل عقلي والعقل الصحيح لا يطعن في العقل الصحيح .
العقل الصحيح لا يطعن في العقل الصحيح ، أو العقل الصريح لا يطعن في العقل الصريح .
ماذا تريدون أيها المعتزلة ؟
قالوا نريد أن نقول أنه ثَم صفات عقلية دل عليها العقل أنه لا بد أن يكون الخالق متصفا بها
فأثبتوا ثلاث صفات دل عليها العقل .
أتي الكلابية أتباع عبدالله بن سعيد بن كلاب ، عبدالله بن سعيد بن كلاب نفسه وأتباعه
وكانوا لهم ميل إلى أهل الحديث لكنهم وجدوا أن أهل الحديث لم يقيموا دليلا عقليا على وجود الله ، والسلف لم يقيموا دليلا عقليا .
فأخذوا بطريقة خلطوا فيها كما يزعمون طريقة الجهمية وطريقة أهل الحديث .
فأثبتوا مع التأويل .
أثبتوا ماذا ؟
أثبتوا صفات عقلية سبع .
مثل ما قال المعتزلة العقل الصريح لا يناقض العقل الصريح قالوا هي ليست ثلاث صفات هي سبع.
وتبعهم على ذلك الأشعرية .
الماتريدية زادوا على ذلك بصفة ثامنة هي صفة (التكوين) قالوا هي ثمان صفات ليست بسبع كلها صفات عقلية .
المقصود من هذا أن تفهم حينما يقول لك أحد من أئمة السلف فلان ولو كان أشعريا فلان جهمي لماذا ؟
تقول كيف ؟
تستعظم ، بعض الناس يستعظم ، يقولون لماذا يقولون عن فلان اللي أول صفة هذا جهمي ؟
لأنه ما أوَلَ إلا بأصل الجهمية ، ما أوَلَ الصفات إلا وقد رضي أصل الجهمية الذي من أجله أوَلَ .
فإذن هو تبعهم في تأصيل ما يُثْبَت أو ما يُنْفَى من صفات الله جل وعلا ، من حيث التأصيل .
نعم خالفوهم في البعض لكن من حيث التأصيل رضوا بتلك الطريقة .
هذه الصفات التي معنا في هذا الدرس اليوم صفة (الغضب) و (الرضا) وصفة (الكراهية) و (المقت) و (الأسف) و (البغض) من الله جل وعلا كل هذه الصفات الاختيارية يسمونها أعراضا .
ويقولون لا يجوز القول بأن الله متصف بها لأن معنى ذلك حلول الأعراض فيه جل وعلا أو تارة يقولون حلول الحوادث فيه جل وعلا ومعنى ذلك أنه جسم إلى آخره .(32/218)
فيمنعونها يقولون لأنه يقتضي أنه محل للحوادث .
طيب إذا صار محلا للحوادث وش يصير يا أشاعرة أو يا ماتريدية أو يا كلابية ؟
قالوا إذا صار محل الحوادث معناه أنه جسم ، ولهذا بعضهم يختصر فيقولون هذا التأويل لماذا ؟
قالوا لأن هذا يقتضي الجسمية بعضهم يختصر هذا الطريق فيقول نأول .
لماذا تأول ؟
يقول لأن إثباتها يقتضي الجسمية إلى آخره .
إذن هذا التأصيل البشع الضال المضل الذي أصله جهم وتبعه عليه الذين يعتقدون في أنفسهم أنهم عقلاء هذا كان أضر شيء على نصوص الصفات .
أضر شيء على الأمة فيما يتصل باعتقادها في نصوص الصفات .
فخاض غمرة ذلك أكثر الأمة ورضوا بهذا الأصل البشع الذي أصله الكافر المضل جهم بن صفوان عليه من الله ما يستحق .
هذا الأصل إذا أردت أن تنقض مسألة من مسائل أهل البدع تذكر هذا الأصل .
لأنهم إذا كانوا حُذاقا في طريقتهم فإنهم يعلمون هذا الأصل .
ولهذا شيخ الإسلام في التدمرية نقض هذا الأصل بعدد من القواعد التي ربما مرت على بعض منكم.
هذه الآيات نرجع إليها دلت على إثبات صفة (الرضا) لله جل وعلا .
و (الرضا) صفة لله جل وعلا قائمة به يرضى متى شاء كيف شاء جل وعلا .
ومن قال إن (الرضا) قديم فليس هذا مقولة للسلف ، ليس هذا مقولة للسلف .
يعني يقولون رضاه عن فلان قديم ، رضاه عن المؤمن قديم ، وغضبه على الكافر قديم ليس هذا بمقولة للسلف .
بل هي مقولة لأهل البدع لماذا ؟
لأننا نقول : إن الله جل وعلا رضي عن المؤمن بعد إيمانه .
فإذا كفر غضب عليه .
فيكون في حق المرتد عند أهل السنة والجماعة (رضىً) عنه لما كان مؤمنا و (غضبٌ) عليه لما ارتد .
وأولئك - الأشاعرة والماتريدية وغيرهم يقولون (الرضا) قديم ، فمن علم الله جل وعلا منه أنه يوافيه بالإيمان يعني يموت في الإيمان فهو راض عنه ولو كان كافرا .
يعني خالد بن الوليد عندهم في أيام معركة أحد وهو يرمي المسلمين بالنبل ويقتل من يقتل من المسلمين كان إذ ذلك مرضيا عنه .(32/219)
أبو سفيان لما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم في بدر وفي أحد كان إذ ذاك عندهم مرضيا عنه لماذا ؟
قالوا : لأن الله علم أنه يوافي بالإيمان يعني يموت على الإيمان .
كذلك ، المؤمن إذا كان في علم الله جل وعلا يوافي يعني يموت على الكفر فإنه حتى في حال إيمانه فهو مغضوب عليه .
ولا شك أن هذا يلزم منه لوازم باطلة ، في حال الإيمان مغضوب عليه فوفق إلى أعمال كثيرة .
هل الله يوفق من هو مغضوب عليه ؟
يعني يلزم على أقوالهم لوازم باطلة كثيرة ، إذن فهذه المسألة مهمة لأن بعض الناس قد لا يدقق فيها
وهي أن (الرضا) و (الغضب) و (البغض) و (الكره) و (المقت) و (الأسف) أن هذه الصفات التي سمعت الأدلة فيها هذه كلها متعلقة بمشيئة الله جل وعلا ، وليس (الرضا) القديم عن أولئك .
هذه الآية وهي قوله ?رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ?
(رضا) الله جل وعلا عن العبد صفة من الصفات كما ذكرت .
و (الغضب) في قوله ?وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ? (الغضب) صفة من الصفات أيضا .
ماذا يقول المؤولة ؟
يقولون (الرضا) إرادة ، إرادة الإنعام ، (الغضب) إرادة الانتقام .
طيب ما الغضب ؟ إذا سألتهم عن الغضب ما هو ؟ لماذا قلتم الإرادة ، لماذا ما قلتم الغضب هو الغضب ؟
قالوا لأن الغضب هو ثوران دم القلب وهذا ليس بلائق بالله ، لأن الغضب إثباته يقتضي إثبات الجسمية وهذا غير لائق بالله .
فيقال لهم (الغضب) صفة من الصفات يشترك فيه الخالق والمخلوق .
وأنتم حددتم في تعريف الغضب ما عقلتموه من المخلوق أليس كذلك؟
يعني فسروا الغضب بأنه ثوران دم القلب ، طيب هذا ثوران دم القلب هذا في المخلوق لكن هل هذا هو الغضب بشكل عام في المَلَك وفي الإنسان وفي جميع المخلوقات ؟
الجواب الثاني أن يقال ثوران دم القلب هل هو الغضب عينه أم هو أمر نشأ عن الغضب ؟(32/220)
المتأمل يرى أن ثوران الدم وامتلاء العروق بالدم كما يقولون ، يقولون هذا الغضب ، هو في الواقع ، غضب أولا ثم حصلت هذه الأشياء .
فإذن غليان دم القلب وانتفاخ العروق والأوداج وتغير لون الوجه إلى آخره ، هذه ليست الغضب عينه وإنما هي أشياء نتجت عن الغضب في الإنسان .
فإذن إذا عُرِّف الغضب بهذا التعريف صار باطلا لأنه تعريف للشيء بأثره وهذا ليس بمستقيم عند المعرِّفين حتى عند أهل اللغة وعند جميع العقلاء .
إذن فكلامهم باطل لأن من قال (الغضب) إرادة الانتقام ، (الرضا) إرادة الإنعام أو الإحسان هذا نفي للصفة لأنه نفى صفة الرضا والغضب وجعل بدلها صفة الإرادة وهذا باطل .
نقول بعد ذلك ، والإرادة ما هي ؟
يعني الآن تتعجب منهم إذا أتيت تناقش المعتزلة يعني أصحاب الفرق هذه الضالة ، تتعجب انهم أحيانا يعتزون بعقولهم وفي الواقع يخطئون في أساسيات ، لكن سبحان من طمس على بصائرهم .
طيب الإرادة ما هي ؟ إذا أتيت تسأله أنت فسرت الغضب بالإرادة ليش ؟
قال لأن الغضب ما يليق بالله لأنه من آثار الأجسام .
طيب الإرادة ما هي ؟ ما هي الإرادة ؟ عرف الإرادة ؟
طيب لله إرادة والمخلوق ليس له إرادة ؟
قالوا المخلوق له إرادة لأنه لا يستطيع أن ينفي الإرادة عن المخلوق .
فإذا كان للمخلوق إرادة فمعنى ذلك أن التشبيه حصل ؟ أليس كذلك ؟
إذا كان المخلوق له إرادة معناها أن الإرادة هذه من صفات الأجسام ؟ أليس كذلك ؟
فكيف وصفتم الله جل وعلا بها ؟
قالوا دل الدليل العقلي على وجوب الإرادة ، على وجب الاتصاف بالإرادة .
طيب ، وإرادة المخلوق لماذا ما حصل دليل على أنها الإرادة في الله جسم تثبت الجسمية كما أن الإرادة في المخلوق تثبت الجسمية ؟
قالوا لا ، الإرادتان مشتركتان في اللفظ لكن مختلفتان في الحقيقة ، إرادة المخلوق تناسبه ، وإرادة الله جل وعلا تناسبه.
إذا قالوا ذلك كما قال شيخ الإسلام في التدمرية ، قال فقد طعنوا أنفسهم .(32/221)
لهذا يقول ليس ثَم أحد من المبتدعة ما يثبت صفة ، حتى الجهمي اللي ما يثبت ولا صفة يثبت صفة الوجود .
فيقول إذا مسكت الجهمي فاطعنه بهذه الصفة التي أثبتها .
المخلوق متصف بالوجود أو غير متصف ؟ متصف بالوجود إذن اقتضى التماثل اقتضى التشبيه ، اقتضى التجسيم لأنهما اشتركا في صفة .
فاطعنه بذلك فيلزمه فيما بقي ما لم يثبته .
كذلك الكلابي أو المعتزلة أو الأشعرية أو الماتريدية إلى آخره يلزمهم ذلك .
إذن لا فرار عند أي ناف للصفات أن يثبت ولو صفة واحدة .
فإذا أثبت صفة ، فقل له ما معنى الصفة ؟
فإذا قال معنى الصفة كذا ، قل له والمخلوق فيه هذه الصفة ، فإذن اقتضى التجسيم أو التشبيه .
فإذا قال لا هذه تناسب هذا تناسب الخالق وهذه تناسب المخلوق ، فقل قل أيضا ذلك في كل الصفات .
إذ القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر وكذلك القول في بعض الصفات كالقول في الذات يحتذى فيه حذوه ويُنهج فيه منهاجه .
إذن هذه الصفات لا شك أن قول المبطلين في ذلك واضح البطلان ، لكن فصلت لك بالخصوص لأن كثيرا من الذين يسمعون كلام بعض المفسرين أو خاصة بعض الذين يُدَرِسون في الكليات أو أحيانا في الثانوي قد يأتون إلى هذه النقاط ويرمي بعض الأشياء ويأتي طالب العلم ولا يحسن الرد ولا إقامة الحجة فلا يقيم الحجة .
وحجج أهل السنة والجماعة بحمد الله هي من أوضح الحجج في العقليات وهي من أوسع الحجج في النقليات ولله الحمد والمنة .
هذه الصفات التي ذكرها الشيخ رحمه الله فيما استدل عليها من الآيات فيه ثَم صفات مشتركة في الأصل ، مثل صفة (الغضب) ، مثل صفة (البغض) .
الغضب ?فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ?
هنا الأسف يطلق على [ شدة الغضب ] ويطلق على [ شدة الحزن والحسرة ] يعني في اللغة يطلق تقول (أسفت) (وآسفني فلان) إذا أغضبه أو أحزنه .
فهنا (الأسف) هو من جنس الغضب .(32/222)
لهذا تنتبه إلى أن الصفة يكون لها أصل ، الصفات تكون متنوعة اللفظ لكنها مشتركة في الأصل .
الغضب منه أيش ؟
الغضب منه الأسف وقد يكون منه أشياء أخر .
كذلك (البغض) البغض أثبت ، يعني استدل الشيخ على إثبات (البغض) لله جل وعلا بقوله ?وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ? وقوله جل وعلا ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ? .
هنا (السخط) هذا من جنس الغضب ، يعني الغضب ذكرنا الأسف وهنا السخط - لكن هنا (الكراهية) هذه في البغض ، مثل (المقت) في قوله ?كَبُرَ مَقْتًا? (المقت) هو [ أشد البغض ] .
فإذن (البغض) جنس منه - يعني من هذا الجنس - الكراهية ومنه المقت إلى آخره .
فإثبات أصل الصفة لا يعني أن الصفات الأُخَر مردها إلى هذا الأصل .
يعني لا نقول : (المقت) هو (البغض) لا نقول المقت هو البغض ، (الكراهية) هي (البغض) .
لا ، صفات الله جل وعلا كل صفة تُثبت على ما دل عليه النص .
لكن لها أصل ، لها جنس فمثل ما ذكرت لك (المقت) من جنس (البغض) ولذلك فسروه بأنه [أشد البغض] فليس هو البغض فقط ولكن البغض الشديد وهذا له مراتب ، البغض مراتب متعددة ، وهكذا .
إذن الخلاصة من هذا الأمر أن هذه الصفات وإن كانت عند التفسير قد يقرب بعضها من بعض لكن لا يقال إن معنى صفة أثبتها الله جل وعلا لنفسه هو معنى الصفة الأخرى بالترادف المطلق
لا ، ولكن يقال هي من جنسها ، مثل ما تكلم الأئمة في الصفات التي هي من جنس - كما يقول شيخ الإسلام وغيره - التي هي من جنس الحركة كالإتيان والمجيء والنزول ، والعلو إلى آخره .
بقي من الكلام على الآيات
قوله جل وعلا ?غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ?
اللعن من الله جل وعلا هو [ الطرد والإبعاد من الرحمة ] و الطرد والإبعاد من الرحمة قد يكون طردا وإبعادا دائما وقد يكون طردا وإبعادا مؤقتا .(32/223)
ففي حق المؤمن الذي ثبت له الإسلام يكون اللعن في حقه ، يعني إذا لعن الله جل وعلا من فعل كذا مثل هنا القاتل ?غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ? فيكون اللعن هنا طرد وإبعاد مؤقت عن رحمة الله جل وعلا ، يعني أنه يعذب في النار حينا من الزمن ثم يخلص منها بإسلامه وتوحيده .
ما جاء في النصوص من اللعن لمن فعل كذا ولو كان مسلما يحمل على أنه طرد وإبعاد مؤقت
مثل لفظ التحريم (حرم الله على الجنة من فعل كذا) هذا التحريم تحريم مؤقت ، وهناك التحريم الأبدي هذا للكفار .
فإذن اللعن طرد وإبعاد من رحمة الله هو دائم بالنسبة للكافر ، ومؤقت بالنسبة للمسلم الذي فعل الكبيرة التي استحق بها اللعن أو مات على ذلك ولم يتب .
كيف يحصل اللعن من الله جل وعلا ؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله وأئمة السنة (يحصل اللعن من الله بالقول) وليس بالمعنى فقط .
(بالقول) يقول الله جل وعلا (العنوا فلانا) أو (لعنت فلانا) أو نحو ذلك ، يعني اللعن يحصل من الله بالقول .
فإذن قوله جل وعلا هنا ?غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ? أي لعنه بقوله بكلامه جل وعلا .
هذا ما يتصل بهذه الآيات .
نعم .
......
?عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ?
ايه ، لعنة الله يعني إذا جاء في النص لعن الله كذا يعني أنه يلعن بالقول جل وعلا ?لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ? كذلك بالقول .
لعنة الملائكة والناس دعاء بأن يُلعن .
يعني ما معنى ?أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ? ؟ لعنة الله هذه ما معناها ؟
أن الله يلعنه قولا ، يعني يأمر بطرده وإبعاده من رحمته قولا .
وأما الملائكة والناس فهم يدعون بأن يكون من الملعونين ، يدعون بأن يكون أولئك من الملعونين .
نكتفي بهذا القدر ونأخذ في بعض الوقت إجابة على بعض الأسئلة .
هذا سؤال مهم يقول ما تعريف الغضب ، إذا قلنا إن الغضب ليس هو ثوران الدم فما هو الغضب؟(32/224)
هنا قاعدة أنه ثَمَ أشياء فطرية تعلم بالاضطرار ، لا يمكن أن تُحد بحد بتعريف يجمع معانيها جميعا
مثل المعاني القلبية جميعا مثل الرحمة ، المحبة ، المودة ، الخلة ، الغضب ، الرضا ، السخط ، الكراهية ، الحقد ، البغضاء إلى آخره ، الرحمة ، الصبر ، التوكل .
المعاني القلبية صعب أن تحدها بحدود لا تخرج عنها .
وذلك لأنها ليست بأشياء ماثلة أمامك يمكن أن تحدها .
الشيء الماثل أمامك يمكن أن تحده لأنك تراه .
يمكن أن تعرفه بتعريف جامع مانع لأنك تراه .
أما المعاني القلبية فلا يمكن أن تُعَرَفَ بتعريف دقيق ولكن بالاضطرار الواحد يعلم من نفسه معنى الكراهية بأي لغة ، معنى البغض بأي لغة ، معنى الغضب بأي لغة ،
هذا يعلمها من نفسه لأنها معاني نفسية .
مثال ذلك لو قلت لأحد منكم ما الهواء ؟ الهواء هذا المهم يقدر واحد يعرفه منكم ؟ الهواء ما هو ؟
الهواء لكن ما هو الهواء وش تعريفه ؟
من يوم طلعتم من بطون أمهاتكم وأنتم تشمونه ولا تعرفون ، أبَسْألك أنا عطني الهواء ؟
......
كيميائي عطنا الكيميائي وش هو ؟ ..
......
هذه مكوناته مو بتعريفه ، يعني يقول لنا مكوناته كذا وكذا ، هذا شيء ثاني ، تقول المكونات كذا ، وبعدين المكونات هذي أيضا فيها بحث ، يعني بس أنه المكونات غير التعريف .
يعني الآن جاك واحد قال يا أخي واحد قال لي وش الهواء عطني وش الهواء ؟ ماذا ستقول له ؟
تقول الهواء هذا الذي تشمه هذا الذي لا تقوم الحياة إلا به ، لماذا ؟
لأن ما الفائدة من التعريف أن يوصل المعرَّف إلى فهم السائل ، هذه فائدة التعريف .
يعني مثلا يجي واحد يقول ما المنديل ؟
يقولون في منديل ورق
المعروف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن المنديل يكون من قماش ، صح ؟ من خِرَق ، قال في منديل ورق يقولون في منديل ورق ، تأخذ هذا وتقول له هذا منديل ورق ، صح ؟
حصل له الفهم ، لماذا ؟ لأن هذا جسم يمكن أن تريه فتنطبع عنده المعرفة بهذا الشيء .(32/225)
المعاني النفسية ليست بمشاهَدَة .
ولهذا إذا عُرِّفت فسيضطر المعرِّف إلى أن يرعى فيها ما يعرفه ألا وهو حالة الإنسان أو ما يشهده .
فإذا أراد أن يعرف الرحمة مباشرة هو ماذا يعرف من الرحمة .
الرحمة التي في الإنسان .
لكن هل سيعرِّف الرحمة التي يعلمها والتي لا يعلمها ؟
رحمة الله جل وعلا لا يعلمها على الحقيقة .
فهو إذن حينما يعرفها سيعرفها بالنسبة للإنسان وهذا يكون غلطا في المعنى .
فإذن الكليات هذه في المعاني يصعب تعريفها وتحال إلى ما يعلمه المرء بالاضطرار .
الواحد يعرف معنى الرحمة ، يعرف معنى الرأفة ، يعني بالاضطرار من داخله من نفسه .
نعم من أهل العلم من المحققين من أهل السنة من عرف كثيرا من تلك الأشياء لكن ما عُرَّفت جميعها .
لهذا ابن القيم رحمه الله لما أتى إلى المحبة في مدارج السالكين ، ذكر عبارات القوم في المحبة وقال : كل هذا تقريب .
لما أتى إلى الاستعاذة ، تعريف الاستعاذة ، قال معنى طلب العَوذ ، كيف تستعيذ ؟ عرِّف لي معنى الاستعاذة ؟ طلب العوذ ، طيب ما هو العوذ ؟
ذكر أشياء ثم قال وهذا تقريب ، وإلا فما يقوم بالقلب من ذلك لا تحيط به العبارة ولا يدركه الوصف .
المقصود من هذا أن تنتبه لهذا الأصل العظيم في الصفات لأن الصفات هذه التي هي معاني أما الوجه فنقول الوجه ما تحصل به المواجهة .
اليد نقول اليد ما يحصل بها القبض والبسط والعطاء والمنع .
هذا يمكن أن يُعرف .
لكن المعاني القلبية لأنها معاني لا يمكن أن تجمعها في عبارة تشمل كل من اتصف بتلك المعاني .
......
الرحمة ، قال الرحمة رقة القلب ، صحيح هذا في الإنسان .
فيك الرحمة رقة في القلب لكن أيضا هي ليست رقة في القلب فقط ، رقة القلب ومعها أشياء
رقة القلب وانعطافه ومحبته في عدة أشياء .
لأن التحقيق أن اللغة ليس فيها ترادف ، عند المحققين من أهل اللغة اللغات جميعا ليس فيها ترادف
يعني ما في لفظ يقوم مقامه لفظ آخر من جميع الجهات .(32/226)
هذا ليس بصحيح وفي اللغة العربية وفي اللسان العربي الشريف لا شك أنه ليس هناك ثم ترادف محض .
يعني هذه تساوي هذه من كل جهة ، لا ، وإنما تفسر اللفظ بلفظ آخر لمراد التقريب والإفهام .
......
لا ، مهي بأثر هي الرحمة .
ليست الرقة لأن الرقة في القلب ما تقول يعني شيء ينشأ ، هو فسر الرحمة برقة القلب .
يمكن ان تقول إنها أثر لأن تفسير الشيء بالشيء غير مطابق .
يعني الرحمة صفة ينشأ عنها الرقة ، يمكنك أن تقول ذلك .
الأخ يسأل عن قول من يقول يا من لا تغيره الحوادث ، كذا ؟
والله يعني هذه عجيبه ، وجه التوقف عندي مسألة (تغيره) أما الحوادث ما في شك استعمالها هنا خطأ .
......
هي في أقل التقديرات أنها محتملة لذلك يُنهى عنها لأجل الاحتمال لأن التغيير تغيير الحوادث ، وش معناه ؟
معناه أن كل ما يحدث مما لم يكن حادثا قبل لا يغير صفةً في الله جل وعلا هذه محتملة لهذا وهذا .
وعلى العموم مثل هذه الألفاظ في العقيدة التي فيها الاحتمال هذا ينهى عنه ، لأنه لا يجوز أن تأتي بلفظ محتمل لأنه قد يكون فهم الفاهم له يعني المستمع له أو الناظر فيه يكون على المعنى الباطل.
لكن هي عبارة منكرة طبعا ليست من استعمال السلف ، لكن هل نقول إنها مثلا إنها كفر ؟
لا ليست بصحيحة
......
لا ما نقول صحيحة باعتبار ، ليست بصحيحة لأن المعنى غير واضح منها .
هذا سؤال يتكرر ما حكم من نفى الصفات أو شبه صفات الله بالمخلوق مع حكم من أنكرها ؟
مر معنا هذا في هذه الدروس .
ما هو المقصود بالكلابية ؟(32/227)
الكلابية أتباع عبدالله بن سعيد بن كلاب ، عبدالله بن سعيد بن كلاب توفي قريبا من وفاة الإمام احمد أظن سنة 241 أو 240 كان أتى بمذهب جديد خطير سمي بمذهب الكلابية ثم انقرض لأنه تبناه الأشعري والماتريدي ، لأن الأشعري بعد ما انتهى من فترة الاعتزال ذهب يطلب الحديث فرأى أصحاب ابن كلاب يتدارسون بعض الأمور فجلس عندهم فأخذ عنهم مذهبه المسمى بمذهب الأشعرية وهو مذهب الكلابية بأكثر مسائله .
هل يوصف الله جل وعلا .. بالمكر ويقال إن مكره غير مكر المخلوقين ؟
الله جل وعلا أخبر عن نفسه بأنه ذو مكر جل وعلا ولكنه أخبر بأن مكره بمن مكر بأنبيائه أو مكر بأوليائه ، قال جل وعلا ?وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ? فإذن المكر من الصفات التي تثبت مقيدة ، فيقال يثبت لله جل وعلا صفة المكر بمن مكر به ، وإذا قيل يثبت لله جل وعلا صفة المكر ويكون مراد القائل أن المكر مقيد هذا أيضا من باب التوسع لا بأس به لوجوده في بعض عبارات أهل العلم المتأخرين ، لكن يوصف الله جل وعلا بأنه يمكر بمن مكر به ، بأنه يخادع من خادعه ، بأنه يستهزئ بمن استهزأ به وهكذا في هذا الجنس
ونكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
ذكر مجيء الله
لفصل القضاء بين عباده
على ما يليق بجلاله
وَقَولُهُ:?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ?[البقرة:210]، ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ?[الأنعام:158]، ?كَلا إِذَا دُكَّتْ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا(21)وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:21-22]، ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا?[الفرقان:25].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم(32/228)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أكرم الأكرمين .
أما بعد فهذه الآيات فيها ذكر صفات من جنس واحد وهي صفة (الإتيان) و (المجيء) و (النزول) لله جل وعلا .
وشيخ الإسلام رحمه الله ذكر هذه الآيات كمثال وإلا فالآيات والأحاديث التي فيها ذكر (مجيء) الله جل وعلا وذكر (إتيانه) وذكر (نزوله) كثيرة بحيث يُقْطَعُ معها أن المراد بها - يعني بتلك الصفات - حقائقها التي دلت عليها ظواهر الألفاظ لتلك الصفات .
ففي آية سورة البقرة قال جل وعلا ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ? ، قوله ?إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ? يعني يوم القيامة للفصل بين العباد ، وذكر هذه الصفة لله جل وعلا ووصف الله بها نفسه وهي صفة (الإتيان) فقال ?إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ? .
وفي الآية الثانية قال جل وعلا ?أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ? ، فقوله ?أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ? فيه إثبات هذه الصفة لله جل وعلا وهي صفة (الإتيان) .
وقال جل وعلا ?كَلا إِذَا دُكَّتْ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا()وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا? ، قوله ?وَجَاءَ رَبُّكَ? فيها إثبات صفة (المجيء) لله جل وعلا .
وقوله ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا? ، قوله ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ? فيها إثبات صفة (النزول) لله جل وعلا يوم القيامة لفصل القضاء .
وجه الدلالة أن تشقق السماء بالغمام هو مقدمة ذلك النزول كما بينت ذلك السنة وكما دل عليه قوله جل وعلا ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ? .(32/229)
فقوله ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ? تفسرها آية البقرة وكذلك السنة ففيها (إتيان) الله جل وعلا يوم القيامة للفصل بين العباد وكذلك فيها إثبات (نزوله) جل وعلا .
يظهر لك أن هذه الصفات في هذه الآيات ذُكرت بصيغة الفعل فقال جل وعلا ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ? ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ? وقال ?وَجَاءَ رَبُّكَ? وقال ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ? ، يعني (وجاء ربك) أو (وأتى الله) والتعبير بالفعل كما هو معروف مشتمل على شيئين :
مشتمل على (زمن) و (حدث) والحدث هو مصدر لذلك الفعل .
فإذن في قوله ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ? فيها زمن ذلك الفعل وهو المستقبل ، وفيها الحدث الذي هو (الإتيان) .
كذلك قوله ?وَجَاءَ رَبُّكَ? فيه الزمن وفيه (المجيء) الذي هو المصدر .
وهكذا في غيرها من الآيات ولا يشكل على هذا قول طائفة من أهل السنة إن باب الأفعال أوسع من باب الصفات ، وذلك أن مرادهم بقولهم باب الأفعال أوسع من باب الصفات أنه قد يطلق الفعل ولا يراد به إثبات الصفة من كل وجه .
وهذا مثل قوله جل وعلا ?اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ? ومثل قوله ?يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ? مثل قوله ?يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ? ونحو ذلك مما فيه الفعل فهذا منقسم ، وما ذُكِر من الآيات هذه الجميع كل فعل يطلق لا شك أنه مشتمل على الحدث والحدث وصف.
وما قالوه من أن باب الأفعال أوسع يعنون به أن ليس كل فعل أضيف إلى الله جل وعلا سيكون فيه إثبات الصفة على وجه الإطلاق بل قد يطلق الفعل ويراد به إثبات الصفة على وجه التقييد .(32/230)
فباب الأفعال أوسع لا شك من باب الصفات فربما يطلق الفعل ويكون عند إثبات الصفة مقيداً كما نقول (يمكر الله جل وعلا بمن مكر به) (الله جل وعلا من صفاته الاستهزاء بمن استهزأ به) (من صفاته خداع من خادعه) (من صفاته كيد من كاده ، من كاد أولياءه) ونحو ذلك .
قوله جل وعلا في هذه الآيات ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ?
والآية الأخرى ?أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ? وفي الثالثة ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا? ونحو ذلك هذه الصفات هي من جنس واحد وهي صفة (الإتيان) و (المجيء) و (النزول) ومثلها صفة (الهرولة) ونحو ذلك من الصفات التي هي كما يقول شيخ الإسلام وغيره من جنس الحركة .
وهذه الصفات جنس واحد ودلالتها متقاربة
ففيها إثبات صفة (الإتيان) إثبات صفة (المجيء) والمجيء يكون عن إتيان ، والإتيان يكون بمجيء
كذلك فيها إثبات صفة (النزول) .
فهذه الآيات دالة على إثبات هذه الصفات .
أما لفظ (الحركة) فهو لفظ لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة إثباته لله جل وعلا وقولهم إنه من جنس الحركة كما قاله عثمان بن سعيد الدارمي في رده على بشر المريسي وكما قاله بعض أصحاب أحمد وكما قاله شيخ الإسلام استعمالهم لفظ الحركة .
قالوا الحركة يراد بها معناها في اللغة حينما نقول ذلك وهو أنه فيها الانتقال بالفعل من شيء إلى شيء .
هذا أصله ، وقد تكون حركة نفس وقد تكون حركة ذات وقد تكون حركة فعل وقد تكون حركة صفة .
وهذا في اللغة يعني بابها فيه سعة ولهذا لم تستعمل في الكتاب ولا في السنة لله جل وعلا بلفظ الحركة .
أما أفرادها فكثيرون منها وصف الله جل وعلا به كصفة (الإتيان) كما ذكرنا و (المجيء) و (النزول) و (التقرب) و (الهرولة) ونحو ذلك .
قوله جل وعلا هنا ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ?
سمعت قول أهل السنة في ذلك ، وأما المبتدعة فهم يدعون في صفات الأفعال ، الصفات الفعلية هذه أنها مجاز .(32/231)
والمجاز معناه عندهم أن ثَمَ حذف في الكلام .
فقوله جل وعلا ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ? يعني [ إلا أن يأتيهم أمر الله ] أو [ إلا أن يأتيهم عذاب الله ] ?فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ? وكذلك قوله ?وَجَاءَ رَبُّكَ? عندهم أي [وجاء أمر ربك] أو [ وجاء مُلْكُ ربك ]
وهذا ونحوه يسمونه مجاز الحذف ، يعني أنه حُذِف بعد الفعل كلمة هي فاعل الفعل أو هي التي يضاف إليها الفعل .
أما الله جل وعلا عندهم فليس بمتصف بمجيء ولا إتيان ولا نزول ولا غير ذلك .
فكل موضع فيه إثبات تلك الصفات لله جل وعلا يحرفونه بالمجاز ، ويقولون ثَم مجاز حذْف .
ومن أصول الرد عليهم - الرد عليهم يطول المقام به - لكن من أصوله أن المجاز أولا كما ذكرت لكم آنفا أن المجاز فيه ترك للمعنى الأول إلى المعنى الثاني وذلك لعلاقة بينهما ، وهذا لا يُصار إليه إلا إذا امتنع الأول أو لم يناسب .
- يعني هذا على كلامهم -
يعني نتنزل معهم في إثبات المجاز يعني نقول المجاز نجاريكم في أنه مثبت .
وعلى قاعدة المجاز عندكم بأنه لا يقال بالمجاز بنقل اللفظ من المعنى الأول إلى المعنى الثاني لعلاقة إلا إذا لم يناسب المقام أو لم يصح الكلام .
مثل ما قالوا في قوله ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا? قالوا هنا فيه مجاز حذف يعني [ واسأل أهل القرية ] لأن القرية لا تُسأل في نفسها وإنما يُسأل أهلها .
قالوا كذلك واسأل ?الْعِيرَ? على هذا النحو يعني [ واسأل أصحاب العير ] وهكذا في كل موضع فيه مجاز حذف كما ادعوه .(32/232)
نقول إن قيل به - والبحث سبق لنا بحث مفصل في المجاز لكن إبطاله نقول المجاز أصلا ليس بصحيح لكن هنا تنزلا نقول حتى ولو على إثبات المجاز فليس المقام مقاما واحدا لأن مجاز الحذف يُصارُ إليه إذا كان الكلام مشكلا ولا يمكن إلا بإثبات مجاز الحذف ، وهذا إذا قيل به في ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ? واسأل ?الْعِيرَ? ونحو ذلك فذلك للإشكال الواقع لأن القرية لا تُسأل وأما قوله جل وعلا ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ? فنفْيُ (الإتيان) لو كان (الإتيان) الذي أثبته الله جل وعلا لنفسه في موضع واحد أتى في موضع واحد هو ونظائره - يعني مثل (المجيء) و (النزول) إلى آخره - لكان ربما يكون لهم وجه في التعلق لكن النصوص متكاثرة في إثبات (الإتيان) وفي إثبات (المجيء) ومحال أن يكون الكلام كله على هذا ذاهب إلى الحذف في كل موضع لأن معنى ذلك أن كل الصفات الفعلية كلها فيها مجاز حذف .
وهذا معناه نفي كل صفة فعلية لله جل وعلا وهذا يؤول إلى تعطيل الله جل وعلا عن صفاته الفعلية ولا شك أن هذا باطل .
أيضا هذه الآيات فيها إثبات الحقيقة ولا يمكن أن يقال إن الآيات لا تدل على حقيقة ما جاء فيها من الصفات إذ إن هذه الآيات ظاهر فيها أن المراد الصفة فانظر مثلا إلى قوله ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ? .
المجاز الذي ادعوه [ أن يأتي أمر الله أن يأتي عذاب الله ] إلى آخره ?فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ? لا يناسب ذلك ، لا يناسبه البتة .
كذلك قوله جل وعلا ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا? لا يناسب أن يكون المقام [ وجاء أمره أو وجاء عذابه أو نحو ذلك ] لأن السياق يدل على أن (المجيء) و (الإتيان) ونحو ذلك بذاته جل وعلا ، إذن فما ادعوه من هذا يُبْطَل بأوجه :
- أصلها رد المجاز من أصله كما سبق أن أوضحناه مفصلا فيما قبل .(32/233)
- الثاني تنازل معهم وإبطال ما ادعوه من أن هذه الآيات فيها مجاز بنفي دعوى المجاز فيها بخصوصها .
إذا تقرر هذا فنقول (الإتيان) و (المجيء) ونحوه في القرآن والسنة ورد على جهتين :
- الأولى : أنه يرد مطلقا .
- والثانية : أن يرد مقيدا .
ونعني بالمطلق أنه لا يتعدى ، ونعني بالمقيد أن يكون متعديا .
ومثال المطلق ?وَجَاءَ رَبُّكَ? هذا لم يتعد المجيء إلى شيء ، مثاله ?إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ? يعني يأتي الله أولئك ، هذا معناه هو تعدى من جهة المفعول لكن ليس من جهة ، يعني كون الله جل وعلا أتاهم ?إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ? فيه أن (الإتيان) هنا صفة لله جل وعلا وهذا من قسم المطلق لأن التعدي هنا ليس تعديا بالفعل .
يعني بالفعل أقصد به بالصفة وإن كان في اللغة الفعل تعدى إلى المفعول .
يعني حتى لا تشتبه المطلق ما فيه الوصف .
وأما المقيد فما يكون مُعَدّا إلى شيء بحرف أو بمفعول وتكون التعدية هذه ليس ظاهرا فيها الصفة
مثاله قوله جل وعلا ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ? هنا تعدى الإتيان إلى البنيان ، وقال فيه ?مِنَ الْقَوَاعِدِ?
قال ابن القيم رحمه الله فدلت الآية على أن هذه الصفة وهي الإتيان هذه إتيان عذابه وذلك لأنه ما بين البنيان وبين القواعد .
كذلك قوله في الحديث (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت) هنا (يأتي بالحسنات) هذا عُدِّي فيكون الإتيان هنا ليس إتيان الذات وإنما هو إتيان الصفات ، وهكذا في مواطن كثيرة يأتي الإتيان مقيدا فيكون المراد الإتيان بالصفات ، إما عذاب الله وإما رحمته وإما بملائكته ونحو ذلك ، الصفات كعذاب الله ورحمته أو ببعض خلقه كملائكة ونحو ذلك .
أما المطلق هذا فيه إثبات الصفة وهذا ظاهر من نحو الأمثلة التي ذكرنا .
قوله جل وعلا ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ?(32/234)
?هَلْ يَنظُرُونَ? فيها من البحث أن النظر هنا بمعنى الانتظار ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا? فالنظر يكون له استعمالان :
- ومنها أن يكون النظر بمعنى الانتظار ومن ضوابطه أن يكون بعد النظر (إلا) وقبله (استفهام) فيكون النظر بمعنى الانتظار .
- وقد يكون النظر بمعنى (الرؤية) إذا عُدّي بـ (إلى) أو .. محل النظر وهو الوجه فيكون رؤية العين .
فإذن يكون النظر يأتي :
1) بمعنى الانتظار هذا له ضابط .
2) يأتي بمعنى الرؤية إذا عدي بـ (إلى) أو ذكر محله وهو الوجه .
3) يكون النظر محتملا أن يكون الانتظار أو الرؤية إذا عدي إلى المفعول بنفسه كما تقول (نظرت محمدا) فيحتمل أن يكون المعنى انتظرته أو يكون المعنى رأيت محمدا .
وقوله هنا ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلا? بمعنى هل ينتظرون ويأتي بحث ذلك مفصلا إن شاء الله في رؤية الله جل وعلا .
قوله ?إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ?
(الظُلَلْ) جمع ظُلَّةْ والظُلَةْ هي ما يظل المرء أو يظل الشيء وقد تكون بالغمام وقد تكون بغيره مما يظل ، (يظل) من الإظلال بالظاء .
انتهى الشريط الثامن من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط التاسع
قوله ?إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ?
(الظُلَلْ) جمع ظُلَّةْ ، والظُلَّةْ هي ما يظل المرء أو يظل الشيء وقد تكون بالغمام وقد تكون بغيره مما يُظِل .
(يُظِلُ) من الإظلال بـ (الظاء) ، لهذا قال بعدها ?مِنْ الْغَمَامِ? .
و (الغمام) هو [ السحاب الأبيض الرقيق الناصع البياض الخفيف الجميل ] وهذا يسبق نزول الله جل وعلا للفصل بين العباد ، فصل القضاء يوم القيامة ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ? وهذا كما قال جل وعلا في آية الفرقان ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا? .(32/235)
قوله ?وَالْمَلَائِكَةُ? الملائكة ينزلون أيضا ويكونون صفوفا كما دلت عليها آية الفجر ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا? ويكونون صفوفا ، هل يحيطون بأهل المحشر أو صفوفا يحيطون بالأرض من أطرافها ؟
فهذا فيه قولان والأظهر أنهم يحيطون بأهل المحشر من الجن والإنس وذلك بحسب ما يكونون عليه من الأرض .
والملائكة تنزل وتُحْدِقُ بالناس والجن ، تحدق بالإنس والجن وتكون من ورائهم صفوفا صفا بعد صف .
قال جل وعلا في الآية الأخرى آية الأنعام ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ?
?هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ? هذا مثل الأولى ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا? يعني [هل ينتظرون إلا]
?أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ? يعني بالعذاب
?أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ? لفصل القضاء بينهم
?أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ? وهي طلوع الشمس من مغربها لهذا قال بعدها ? يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ? .
فطلوع الشمس من مغربها إذا حصل آمن الناس بها أجمعون ، يعني آمن الناس بالله أجمعون وسلَموا وهذا لا ينفعهم لأنهم قد رأوا آيات الله جل وعلا العظام .
وطلوع الشمس من مغربها هي بعض الآيات في تفسير عامة السلف في قوله ?أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ? وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسرها بذلك .
والآيات العظام لأنه قال هنا ?أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك? ويُعنى بها أشراط الساعة العظام ، وأشراط الساعة العظام عشر مرتبة كما جاءت في الأحاديث وهي :
2- ثم نزول عيسى بن مريم عليه السلام1- خروج المسيح الدجال
4- ثم خسف بالمشرق3- ثم خروج يأجوج ومأجوج
6- ثم خسف بجزيرة العرب5- ثم خسف بالمغرب(32/236)
8- ثم طلوع الشمس من مغربها وهي الثامنة7- ثم الدخان
10- ثم النار تحشر الناس إلى أرض محشرهم9- ثم خروج الدابة على الناس ضحى
هذه هي الآيات العشر العظام ولهذا قال هنا في آية الأنعام ?أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ رَبُّكَ? يعني بعض العشر العظام التي هي دليل على الإيذان للكفار بالهلاك والعذاب السرمدي الذي ?لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ?.
وآية الفجر وهي قوله جل وعلا ?كَلَّا إِذَا دُكَّتْ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا()وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?
في قوله ?وَجَاءَ رَبُّكَ? كما ذكرنا إثبات صفة (المجيء) لله جل وعلا .
وقوله ?وَالْمَلَكُ? المراد الملائكة كما في آية البقرة وغيرها ، الملائكة يأتون ?صَفًّا صَفًّا? على نحو ما وصفت لك ، ويكون مجيء الملائكة قبل مجيء الله جل وعلا ، يعني كون الملائكة ينزلون في صفوف يَطْبِقُونَ بالناس قبل مجيء الله جل وعلا للفصل بين العالمين .
إذا تقرر هذا فنبه ابن القيم رحمه الله في كتابه الصواعق على أن ما ورد مقيدا من هذه الصفات التي ذكرنا مما لا يراد به الصفة وإنما يراد به مجيء العذاب ، الإتيان بالعذاب ، الإتيان بالرحمة ونحو ذلك كقوله ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ? ونحو ذلك .
قال وهذا المقيد يفسر بأنه الإتيان بعذاب الله أو في موضع آخر الاتيان برحمته أو إتيان الملائكة .
قال ولا يمتنع أن يكون إتيان الله جل وعلا لهذه مع ذلك حقيقيا ويكون كدنوه جل وعلا .
وهذا منه إعمال لكل المواضع مع أنه هو الذي قَسَمَها إلى مطلق ومقيد ، وجعل المقيد لا يراد به الصفة .
لكن قال لا يمتنع أن يكون يراد به مع ذلك أن يأتي الله جل وعلا بذاته ويكون ذلك كدنوه كما يكون جل وعلا يدنو من أهل عرفة ، وكما ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ونحو ذلك فيكون في ذلك الإتيان الدنو مع أن المراد بالإتيان إتيانه جل وعلا بصفاته أو بملائكته أو بعذابه ورحمته ونحو ذلك .(32/237)
قوله جل وعلا في آخر آية ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا?
?تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ? المراد يسبقه التشقق ، تشقق السماء بالغمام .
ولهذا قال بعض أهل العلم ، قالوا التشقق إيذان بنزول الله جل وعلا .
?تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ? إيذان بنزوله فهو منه لأن الإيذان بعض المُؤْذن به ، يريد أنه مقدمة ، وإذا كان مقدمة كان دالا عليه وهو بعض الصفة فيكون الدليل على أن هذه الآية المراد بها نزول الله جل وعلا أن التشقق إيذان بنزول الله .
وإلا يكون إيراد شيخ الإسلام لهذه الآية في هذا الموطن ليس له وجه مناسبة ، لأن الكلام على مجيء الله وإتيانه ونزوله فما معنى إيراده لقوله تعالى ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا? ما مناسبتها لإتيان الله ونزوله يوم القيامة لفصل القضاء ؟
مناسبتها هذه وهي أن التشقق إيذان بالنزول ، وقالوا الإيذان بالشيء هذا منه يعني يدل عليه ، فإذا أوذن بشيء دل عليه
كما تقول أنت إذا علمت مصاحبة فلان لفلان دائما تقول (جاء محمد) ولم تره وإنما رأيت من يصاحبه دائما لا ينفك عنه وهو عبدالله مثلا ، فإذا رأيت عبدالله استدللت على ذلك بقدوم محمد .
كذلك الأشياء المتلازمة مثل سماع الصوت مع الشخص ، ومثل الرعد والبرق مع المطر ونحو ذلك من الأشياء .
المقصود وجه دلالة الآية [ أن فيها إيذان بنزول الله وذلك دال على نزوله ] فتكون الآية من آيات الصفات بهذا المعنى
......
كيف ؟
......
لا ما يفهم منه كيف يعني من صفة الله ؟ لا ليس من صفة الله لكن هو يعني بسبب الإتيان ، من صفة الإتيان ، يعني التشقق من صفة الإتيان مو من صفات الله .
التشقق تشقق السماء هو من صفات السماء فهو بسبب الإتيان .(32/238)
يعني أن الله جل وعلا إذا نزل إلى الأرض كما يليق بجلاله وعظمته لفصل القضاء تشققت السماء فيكون تشقق السماء إيذان بنزوله فهو دليل حتمي ?السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا? سبحانه وتعالى .
......
التشقق حسي نعم ، التشقق ?إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ? التشقق حسي حقيقي ، السماء تتصدع وتنزل بالغمام وهذا يكون تشقق السماء يكون في موطنين :
- الموطن الأول بين النفختين .
- وهذا هو الموطن الثاني .
......
التشقق هذا للنزول الأخير ، النزول لفصل القضاء أما نزول الله جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليله أو نزوله عشية عرفة فهذا كله ليس معه تشقق ، يعني هذاك إتيان ، هذا نزول ..
يقول سبب مجيء الملائكة يوم القيامة هو لقبض الأرواح أم لتعذيب الكفار في الآية الأولى ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ? ؟
ابن جرير رحمه الله ذكر قاعدة في التفسير في مجيء الملائكة فيقول إذا ذكر مجيء الملائكة أو إتيان الملائكة فيراد به إتيانهم بالعذاب المستأصل للكفار أو إتيانهم لقبض الأرواح .
يقول هذا الذي جاء في القرآن فكل موضع يكون فيه ذكر مجيء الملائكة أو إتيان الملائكة فإنما هو لأحد شيئين :
- إما لقبض الأرواح .
- أو للعذاب المستأصل للكفار .
فإذن في قوله هنا في آية البقرة ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ?
هل هذا لقبض الأرواح أو للعذاب السرمدي للكفار ؟
هو للعذاب السرمدي للكفار ولهذا قال بعدها ?وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ? .
يقول هنا كيف يوفَّق بين قوله ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ? وقوله ?يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ? ؟
هذا في موطن وهذا في موطن .(32/239)
طي ?السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ? هذا قبل ، بين النفختين ?فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ?
يعني أن أحوال السماء والأرض مختلفة ، فالتشقق والطي ونحو ذلك هذا يكون بين النفختين لأنها تتغير السماء ?يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ? بين النفختين ، بين النفخة الأولى اللي هي نفخة الصعق ونفخة البعث ، هذا تتغير أشياء كثيرة ، الجبال تروح والأودية ترتفع وتكون الأرض ملساء صافية الناس جميعا ينظرون إلى مكان محشرهم ، تعلو الظلمة إلى آخره حتى تشرق ?الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا? جل وعلا .
يعني في بعض الأسئلة ما تكون إشكال واضح فهذا الأفضل لطالب العلم التي تكون الأسئلة التي ليست بإشكال يرجع لها بنفسه يعني يطالعها بنفسه في التفاسير أو في كتب العقيدة ونحو ذلك .
يقول هل ممكن أن نقول أن الحركة وإطلاقها على الله من باب الأفعال ؟
ما في شك جنسها من باب الأفعال أما الحركة ما تطلق على الله كما ذكرت لك .
جنسها من باب الأفعال ، يعني (المجيء) فعل (الإتيان) فعل (النزول) فعل إلى آخره .
وأفعال الله جل وعلا صفات قائمة به ليست قائمة بغيره كما ذكرنا لكم قاعدة ذلك ، إلى آخره .
ما معنى قول الله تعالى في الحديث القدسي (إني إذا أطعت رضيت وإذا رضيت باركت وليس لبركتي نهاية ، وإذا عُصِيتُ سخطت وإذا سخطت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد) وما ذنب ذريته والله سبحانه يقول ?وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? ؟(32/240)
أولا هذا ليس بحديث قدسي هذا في الآثار الإلهية يعني في آثار بني إسرائيل ذكرها الإمام احمد وغيره (إنني أنا الله لا إله أنا إذا أطعت رضيت وإذا رضيت باركت وليس لبركتي نهاية ، وإنني أنا الله لا إله إلا أنا إذا عُصِيتُ غضبت وإذا غضبت لعنت وإن لعنتي تبلغ السابع من الولد) يقول ما ذنب ذريته ؟ الحديث طبعا ليس بحديث قدسي وإنما هو من أخبار بني إسرائيل وإذا كان كذلك فليس فيه إشكال .
ما حكم الحلف بصفات الله مثل قول القائل يا غضب الله ؟
طبعا السائل واضح أنه ما هو فاهم الفرق بين الحلف والنداء
الحلف بالصفات جائز بالإجماع ، فتحلف تقول وكلام الله وقدرة الله ومجيء الله وسمع الله وبصر الله هذا وتقول بسمع الله كان كذا وببصر الله كان كذا وبكلام الله كان كذا ، هذا جائز بالإجماع لأن صفات الله جل وعلا غير مخلوقة ، والذي يمتنع الحلف بالمخلوق ، أما تمثيله بقوله (مثل قول القائل يا غضب الله) هذا ليس بحلف هذا نداء ونداء الصفة لا يجوز وهو محرم بل قال شيخ الإسلام في رده على البكري في أوائله قال نداء الصفة كفر بالإجماع ، وهذا يعني به صفة معينة وهي (الكلام) الكلمة اللي هو (يا كلمة الله) ويُعنى بها المسيح عليه السلام أو على نحو معتقدات النصارى ، فهو كان يؤصله للفرق بين الكلام عند أهل السنة وغيرهم وضلال النصارى فقال دعاء الصفة - ويعني به دعاء الكلمة - ، قال كفر بالإجماع ، وأما نداء الصفات الأخر فنقول محرم وذلك لأن الصفات من جهة النداء والدعاء غير الذات في ذلك المقام .
قول (هذا من حسن الطالع) طبعا هذا لا يجوز لأن الطالع اللي هو النجم لا يملك ولا يدل على حسن ولا على قبح وليس له تأثير بل هذه الكلمة أتت إلى المسلمين من جراء مخالطتهم لغيرهم وهذه كلمة باطلة والطالع ليس بذي حسن وليس بذي قبح إنما هو خلق من خلق الله .
.......(32/241)
هذا ليس نداء هذا استعاذة لهذا أنا ذكرت لك قلت الصفة في باب الدعاء والنداء غير الذات من هذا الوجه يعني في هذا المقام ، أما الاستعاذة فتستعيذ بالله جل وعلا وبصفاته ، الاستعاذة من جنس القسم والقسم يكون بالله وبصفاته وبأفعاله ، أما النداء الدعاء فليس الدعاء إلا للذات المتصفة بالصفات .
يقول ذكرت أن الهرولة صفة وهي صفة لم ترد إلا في حديث واحد (وإذا جاءني يمشي أتيته هرولة) ومن المعلوم أن العبد لا يمشي إلى الله وإنما المراد به التقرب إليه ، وليس المراد ظاهره فوجب أن يكون معنى الهرولة على خلاف ظاهر دلالة السياق وقد ذكر هذا بعض أهل العلم فما قولكم في هذا الكلام ؟
طبعا أهل السنة في الهرولة الأصل فيها أن تُثبت لله جل وعلا فهي من جنس باقي الصفات هذا قول عامة أهل السنة ، لكن شيخ الإسلام رحمه الله ذكر في رده على الرازي في القسم المخطوط الذي لم يطبع لأن الرازي استدل بهذا الحديث على أنه لا يراد بها الصفة بالإجماع .
شيخ الإسلام قال له هذا لأن الكلام ليس في الصفات فقوله جل وعلا (من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا) قال معلوم أن التقرب لا يكون من العبد إلى الله لا يكون بالمساحة ، يعني ما يكون بالأمتار ما يكون بقطع شيء إلى الذات وعليه يكون مقابله ليس كذلك ، كذلك قوله (ومن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا) معلوم أن التقرب الأول الذي يحصل من العبد لا يكون بالمساحة قال فكذلك ما رتِّب عليه وهو تقرب الله جل وعلا من العبد باعا قال وكذلك قوله (من أتاني يمشي أتيته هرولة) معلوم أن العبد لا يأتي الله جل وعلا ماشيا يعني إلى ذات الله بالمساحة وإنما يكون إتيانه إلى طاعة الله أو حركة روحه إلى الله جل وعلا وقرب روحه من الله جل وعلا فيكون (أتيته هرولة) بمقابلة ذلك .(32/242)
هذا الكلام منه من شيخ الإسلام تفصيلي يخالف بعض الكلام الذي أورده في بعض المواضع في الفتاوى على هذه الصفة من جهة أنه أثبت أصل (التقرب) طبعا هو القرب من الله جل وعلا عاما بما يشمل التقرب بالقرب بالذات والقرب بالصفات .
وعليه فيمكن أن يقال إن كلام شيخ الإسلام رحمه الله إما لأنه في مقام المناظرة ، في مقام الرد ، أو أنه لشيخ الإسلام رحمه الله قول غير ما أصل في الفتاوى ، وفي الفتاوى لم يذكر نص (الهرولة) فيما وقفت عليه ، فنقول له قول في هذا يخالف عموميات أقواله وهو أن لا تكون الهرولة من صفات الله جل وعلا
وذلك يقول لأن السياق يدل على أنه لم يُرَدْ الصفة (من أتاني يمشي أتيته هرولة) لم يرَد الأول وهو أن العبد يأتي إلى الله ماشيا فإذن الثاني غير مراد .
هذا كلام شيخ الإسلام في رده على الرازي والكلام فيه نوع إشكال والمقصود أن عامة أهل السنة يثبتون (الهرولة)
ووقفت على كلام لعثمان بن سعيد رحمه الله في رده على بشر المريسي يقول فيه :
وقد أجمعنا أو اتفقنا وإياكم على إثبات صفة (الهرولة) وهو من النقول القديمة عن السلف في إثبات هذه الصفة .
المقصود أن هذا أصل البحث في هذه المسألة ولهذا من أهل العلم من قال يمكن أن يقال في قوله (ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) أنه يمكن أن يقال إنه من أتاني يمشي في عبادة تفتقر إلى المشي أتيته بثواب ورحمة سريعين .
وقد ذكر هذا الشيخ ابن عثيمين في القواعد المثلى ورجَح كما هو قول عامة أهل السنة القول الأول الذي ذكره وهو أنها صفة وهذا هو الصحيح ، فهي من جنس الصفات ، من جنس الحركة والله جل وعلا يتصف بما شاء سبحانه وتعالى وليس له حدود يعني ليس لصفاته حدود والعباد إنما يأخذون ذلك من الكتاب والسنة ولا يخوضون في ذلك بأفهامهم ولا بعقولهم فالمسألة عظيمة
هذا سؤال نرجئ الجواب عنه لأنه سؤال جيد إن شاء الله نشوف الجواب عنه بإذن الله .
إثبات الوجه
لله سبحانه(32/243)
وَقَوْلُهُ:?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?[الرحمن:27]، ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ?[القصص:77].
وَقَوْلُهُ:?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، ?وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ?[المائدة:64].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين ، أما بعد :
فهذه الآيات فيها ذكر صفتين من صفات الله جل وعلا التي تكاثرت الأدلة على إثباتها في الكتاب والسنة ويجب الإيمان بها وإثباتها لله جل وعلا ودحض ومنع التأويلات التي تخرجها عن حقائقها مع نفي الكيفية ونفي التمثيل والمشابهة بين صفات الله جل وعلا وصفات خلقه .
صفة (الوجه) لله جل وعلا ذكر عليها من الأدلة قوله جل وعلا ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ? وذكر قوله ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ?
......
ثم ذكر صفة (اليد) لله جل وعلا وذكر جملة من الأدلة على إثباتها مما سيأتي .
أما صفة (الوجه) لله جل وعلا فهي من الصفات الذاتية ، والله جل وعلا أثبت لنفسه وجها كما أثبت لنفسه العلية كما أثبت لذاته (يدين) وكما أثبت له نبيه صلى الله عليه وسلم (عينين) وكما أثبت لنفسه سائر الصفات الذاتية كـ (السمع) و (البصر) ونحو ذلك .
فهذه الصفة صفة (الوجه) من جنس تلك الصفات التي وصف الله جل وعلا بها ذاته ، وصف الله جل وعلا بها نفسه .(32/244)
وهذه الآيات التي فيها الصفات يجب أن يُصَدق بها وأن يُؤمَن بها لأن باب الصفات باب واحد لا فرق فيه بين صفة وصفة ، فكما أننا نثبت صفة (السمع) وصفة (البصر) وصفة (الكلام) وصفة (الحياة ) وصفة (الإرادة) إلى آخر تلك الصفات التي يثبتها المبتدعة ويثبتها أهل السنة نثبت أيضا الصفات الذاتية صفة (الوجه) وصفة (اليدين) وغير ذلك من الصفات .
فالباب باب الصفات باب واحد هذا أصل وقاعدة عظيمة في ذلك .
فإن أهل السنة لم يفرقوا بين صفة وصفة لم يفرقوا بين نعت ونعت بل أجروا الجميع مُجْرىً واحدا
فكل ما كان صفة لله جل وعلا أثبتوه ومنعوا تحريفه وآمنوا به على الوجه اللائق به جل وعلا من ذلك صفة (الوجه) لله جل وعلا .
و (الوجه) جاء إثباته في آيات كثيرة وفي أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :
منها قوله جل وعلا ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ? فقوله ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ? فيه إثبات صفة (الوجه) لأنه أضاف الوجه إلى الرب جل وعلا ثم نعته نعت الوجه بقوله ?ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ? كذلك قوله جل وعلا ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ? هنا أضاف الوجه الذي هو صفة أضافه لنفسه وفي هذا إثبات كونه صفة لله جل وعلا .
أما الآية الأولى وهي قوله ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?
فقد قال فيها الشعبي عامر بن شراحبيل إمام من أئمة التابعين قال :(32/245)
لا تقف على قوله ?فَانٍ? وإنما صل ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ? ، تصل بين الآية الأولى والآية الثانية لأن فناء الأشياء ليس مما يمدح لكن يمدح الإفناء ، والله جل وعلا يفنيها والذي في هذه الآية هو فناؤها ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ? وإنما أريد بالآية ما هو حمد وثناء على الله جل وعلا بكون كل شيء يفنى ويبقى وجه الله جل وعلا ذو الجلال والإكرام .
قال جل وعلا ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ? يعني كل من عليها هالك ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ? ففي ذلك إثبات أن الأشياء هالكة فانية وأن الذي يبقى هو الله جل وعلا وهنا ذكر البقاء لوجهه جل وعلا وذلك مقتضٍ لتشريفه وتعظيمه .
كذلك قوله جل وعلا ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ?
?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ? من المخلوقات
?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ? يعني يفنى ويذهب وليس موصوفا باستحقاق البقاء ، وإنما الذي يبقى هو وجه الله جل وعلا .
?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ? والله جل وعلا يبقى .
كما جاء في آية سورة غافر قال جل وعلا ?لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ? بعد أن يفني كل شيء فيقول ?لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ? ثم يجيب جل وعلا نفسه العظيمة بقوله ?لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ? .
إذا تبين لك ذلك فقوله جل وعلا ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ? الكلية في الآية الأولى وكذلك الكلية في الآية الثانية على هذا التفسير الذي قدمت وهو أن المراد بـ ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ? و ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ? على أن المراد به الإفناء والإهلاك للذوات الكلية هنا يدخلها التخصيص وذلك أن ?كُلُّ? من ألفاظ الظهور في العموم قد يستثنى منها أشياء يعبر عنها كثير من أهل العلم بقولهم (عموم ?كُلُّ? في كل مقام بحسبه)(32/246)
لهذا قال جل وعلا في وصف الريح قال ?تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ? فقال ?تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ? بقيت المساكن مع أنه جل وعلا قال ?تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ? وذلك أن ?كُلَّ شَيْءٍ? يعني مما أتت عليه الريح فهو عموم مخصوص ولهذا قال جل وعلا في الآية الأخرى في آية الذاريات ?مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ? وكذلك قال جل وعلا في وصف ملكة اليمن بلقيس قال ?وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ? مع أن ثم أشياء لم تؤت إياها بل اختص بها سليمان عليه السلام ، وإنما المقصود ?وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ? يؤتاه الملوك في الغالب .
فإذن عموم ?كُلّ? فيه الظهور وهذا يقبل الاستثناء أو نقول إن العموم في كل مقام بحسبه .
المستثنى : ما شاء الله ، كما قال جل وعلا ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ? فهنا استثناء أنه يصعق كل شيء ويفنى كل شيء إلا من شاء الله ، وهذا على أحد التفسيرين .
والتفسير الثاني لهاتين الآيتين أن المراد بقوله ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ? و ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ? المراد به الأعمال التي تُعْمَل وعلى هذا جمع من السلف في تفسير آية القصص ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ? .(32/247)
قال طائفة منهم : كل شيء هالك من الأعمال إلا ما أريد به وجهه جل وعلا ، فالأعمال المُخْلَصة التي أخلص فيها أصحابها هي التي تبقى لهم ، أما أعمال المشركين فهي هالكة ويفنيها الله جل وعلا كما قال ?الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ? وقال ?وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ? وكما قال جل وعلا ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا? .
فإذن يكون المعنى هنا ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ? يعني [كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه]
?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ? هل تحتمل هذين التفسيرين ؟
هذا فيه نظر ، ومنهم ن جعل هذه الآية مثل آية القصص ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ? يعني من الأعمال
لكن هذا ليس بوجيه لمجيء ?مَنْ? فيها وقوله ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?
لكن منهم من جعلها من جنس آية القصص ، لكن آية القصص فيها نص من السلف على أنهم فسروها - يعني طائفة منهم - فسروها بأن المراد: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه .
إذا تقرر ذلك فما معنى كون البقاء لوجه الله والأشياء تهلك إلا وجه الله ؟
ما فائدة التخصيص هنا بقوله ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ? ؟
هذا يستفاد منه :
- أولا بقاء الله جل وعلا لأنه إذا بقيت صفة من صفات الله الذاتية فالله جل وعلا باق .
- والثاني أن يقال هنا خصص الوجه لجلاله وإكرامه وعظمته وتشريفه بذلك لكون المخلوقات تقصد وجه العظيم ، فهنا خص لأجل هذا فيكون هذا أبلغ في نفس المستمع ، أبلغ في نفس المخلوق .
ويعبر بعضهم ها هنا تعبيرا لا يليق يقول هنا في قوله ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ? يقول هذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل .
والنتيجة صحيحة لكن التعبير ليس بجيد .(32/248)
وذلك لأن الله جل وعلا لا يعبَّر عن صفاته بالجزء والكل وإنما يقال هذا فيه إثبات بقاء الوجه وهذا يقتضي إثبات بقاء الذات ، تخصيص الوجه هنا لعظمته ولتشريفه أو لأن الناس يقصدونه أو نحو ذلك .
إذا تقرر ذلك ووضح لك المراد من وجه الاستدلال بهذا ومعنى الآيتين فإن المخالفين في هذه الصفة منهم من أوَّلْ الوجه .
منهم من قال : الوجه هنا مجاز والمراد به الذات والله جل وعلا ليس له وجه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا
قال يراد به الذات .
ومنهم من قال الوجه يراد به الثواب يعني ويبقى ثواب ربك
ولا شك أن هذين من جنس التحريفات التي يقولونها في الصفات
وكما تنظر في الآية بل في الآيتين أن الله جل وعلا قال ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ? وفي الآية الثانية قال ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ?
والقاعدة في العربية وهي في صفات الله جل وعلا أن الأشياء التي تضاف إلى الله على قسمين :
- أعيان - وصفات .
الأعيان يعني ذوات كما قال الله جل وعلا ?نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا? (بيت الله) (كعبة الله) ونحو ذلك فهذه الإضافة إضافة مخلوق إلى خالقه ، مملوك إلى مالكه .
وهذه تقتضي أن يكون لمن أضيف إلى الله مزيد تشرف لأنه خُص بالإضافة
كذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عبد الله لأنه مخصوص بهذه الصفة ?وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا? .
فإذن إضافة الذات الذوات الأعيان إلى الله جل وعلا هذه إضافة تكريم وتشريف فيها تخصيصها لمزيد بيان فضل هذه الأشياء .
القسم الثاني إضافة صفات ، وإضافة الصفات أيضا على قسمين :
- إضافة صفات مستحقة لله جل وعلا وهذه يأتي بعدها لام الاستحقاق .
- والثاني إضافة صفات يتصف الله جل وعلا بها .(32/249)
القسم الأول كقوله جل وعلا ?الْحَمْدُ لِلَّهِ? ?سُبْحَانَ اللَّهِ? فهذا ?سُبْحَانَ اللَّهِ? ، سُبْحَانَ ليس من صفات الله ولكن التسبيح سُبْحَانَ يعني تسبيح هذا مستحق لله ?الْحَمْدُ لِلَّهِ? يعني الحمد مستحَق لله (صَلَاتِي وَنُسُكِي لِلَّهِ) يعني مستحقة لله أو تكون مملوكة له جل وعلا .
القسم الثاني من هذا النوع هو ما كان صفة لله جل وعلا ، ولا يقال هو مستحق لذلك لأن العبد ليس له فعل في هذا النوع مثل ما جاء هنا (وجه الله) ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ? هذه هنا أضاف صفة الوجه إلى الله .
والوجه صفة ليس بعين يعني ليس بذات تقوم بنفسها فهو صفة .
والصفة هنا ليست مستحَقة لله - يعني مستحقة يفعلها العبد يتوجه بها إلى الله - وإنما هي صفة من الصفات التي يستحقها الله جل وعلا استحقاق موصوف لصفته ، كذلك ?يَدُ اللَّهِ? من هذا الجنس (سمْع الله) من هذا الجنس (قدرة الله) (قوة الله) (كلام الله) ?رَحْمَةُ اللَّهِ? (سلام الله) كلها من هذا الجنس .
فإذن هي إضافة صفات إلى متصف بها وإذا كان كذلك فهذا الذي في هذه الآيات وفي غيرها في هذا الباب فالإضافة تقتضي رد قول من أوّل أو قال إن في الآية مجازا لأنهم قالوا ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ? قالوا يعني ويبقى ربك والوجه هذا المراد به الذات ، ويبقى ذات ربك أو ويبقى ثواب ربك ونحو ذلك .
نقول هنا الوجه صفة من صفات الله جل وعلا لأنه أولا أضافه إلى نفسه وهو منطبق على ما ذكرنا من القاعدة .
ثانيا أن قوله ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ? هنا نَعَتَ الوجه بأنه ذو الجلال والإكرام فقال ?وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ? فـ (ذُو) نعت للوجه ولو أراد أن النعت للرب جل وعلا لقال (ذي الجلال والإكرام) كما جاء في آخر السورة سورة الرحمن حيث قال جل وعلا ?تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?(32/250)
وذلك أن الجلال والإكرام للرب جل وعلا لا لاسمه وذلك أن أسماء الله منقسمة كما سيأتي .
هنا قال ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ? فإذن الجلال والإكرام هاتان صفتان لوجه الله جل وعلا
?ذُو الْجَلَالِ? وجه الله وهو ذو ?الْإِكْرَامِ? هذا يمتنع عربية أن يكون نعتا للرب (وجه ربك ذي) لا قال ?وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ? فهو نعت للوجه ، وهذا ظاهر واضح من حيث العربية ومن حيث القواعد في الصفات .
من المنتسبين للأشاعرة أو الذين جروا على طريقتهم وإن كانوا أخف طبقات الأشاعرة منهم من يفرق في الصفات بين صفات الذات وصفات الفعل مثل (الخطّابي) و (البيهقي) .
(البيهقي) له تأويلات من جنس الأشاعرة لكنه هو و (الخطابي) ومن على شاكلتهم أخف الأشاعرة لأنهم لم يتابعوهم في كل أصولهم وإنما في الصفات حرفوا على أصولهم مثل ما جعلهم شيخ الإسلام في أخف طبقات الأشاعرة أو الذين تأثروا بالأشاعرة .
(البيهقي) مثلا في الأسماء والصفات يفرق :
- فالصفات الذاتية عنده يقول تُثبت
- الصفات الفعلية أو ما تأول بالفعل يقول لا تثبت .
يميز بينها (البيهقي) في كتابه الأسماء والصفات بقوله (باب الوجه لله) أو (باب اليدين لله) أو (باب إثبات الوجه لله) (باب إثبات اليدين لله) ، وأما الأخرى فيقول (باب ما جاء في الإصبع) (باب ما جاء في النزول) (باب ما جاء في كذا) فيفرق بين هذه وهذه فيثبت البعض ويخالف في إثبات الأخريات والجواب أن الباب باب واحد فكل من نفى بعضا وأثبت بعضا فهو متناقض فيما فرق فيه .
قوله جل وعلا هنا ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ? (ذو) بمعنى صاحب ، يعني صاحب الجلال الموصوف بالجلال والإكرام .
فإذن الجلال والإكرام هذه صفة للوجه ، وهو صفة لله جل وعلا كما في آخر السورة ?تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ? .(32/251)
والجلال هو التعظيم والهيبة وأسماء الله وصفاته منقسمة إلى قسمين بأحد الاعتبارات :
- صفات جلال وأسماء جلال .
- وصفات جمال وأسماء جمال .
ولهذا في الختمة ، ختمة القرآن المنسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية فيها هذا التفريق حيث قال في أوله (صدق الله العظيم المتوحدُ بالجلال بكمال الجمال) وهذه من الألفاظ التي أشعرت كثيرا من أهل العلم بصحة نسبة تلك الختمة لشيخ الإسلام ابن تيمية
المقصود أن صفات الله وأسماء الله جل وعلا منقسمة إلى جلال وجمال .
معنى الجلال يعني الصفات والأسماء التي تورث العظمة والهيبة والخوف (هذا واحد) ، مثل ايش ؟
(القوي) (العزيز) (الجبار) (القهار) (القدير) إلى آخر هذه الصفات والأسماء .
صفات وأسماء الجمال هذه هي التي ينبعث عنها المحبة والرغب .
فكل صفة ينشأ عنها المحبة يقال لها صفة جمال .
فمن صفات الله جل وعلا أنه (جميل) هذه من صفات الجمال ، الله جل وعلا هو (الرحمن الرحيم) هذه من صفات الجمال (السلام) من صفات الجمال (المؤمن) (الودود) ونحو ذلك ، الأسماء والصفات التي هي من تفريعات الربوبية ، ربوبية الله على خلقه هذه من قسم الجمال وهي التي تورث حسن التوكل على الله جل وعلا .
المقصود أن هذا باب - يعني فيه تقسيم الصفات على هذا النحو يحتاج إلى مزيد إيضاح - لكن المقصود ما يناسب قوله جل وعلا ?ذِو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?
الإكرام هنا الإكرام من (الكريم) أو من (الكَرامة)
وقد ذكرنا لكم فيما مضى أن الكريم والكرامة في اللغة ما معناها ؟ من هو الكريم في اللغة ؟
الكريم هو الذي فاق جنسه في صفات الكمال هذا الكريم .
وصفات الكمال هنا اللي هي صفات الجمال فقال هنا ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?
يعني الذي فاق في أوصاف الجمال .(32/252)
فجمعت الآية بين الجلال والجمال اللذَين تنقسم إليهما الصفات ، فدل على أن وجه الله جل وعلا فيه صفة الجلال وفيه صفة الإكرام وهو جل وعلا ذو الجلال والإكرام في صفاته وذاته جل وعلا .
قال بعض أهل العلم المراد بـ ?ذُو الْجَلَالِ? يعني أهل الجلال يعني أهل لأن يجل أهل لأن يكرم كما قال في آية المدثر ?هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ? يعني أهل لأن يتقى أهل لأن يغفر .
هنا ?ذُو الْجَلَالِ? قال بعضهم معناها أهل الجلال يعني المستحق لأن يجل المستحق لأن يكرم .
ويكرم يعني يتوجه إليه بالعبادة الكاملة .
ويجل يعني يعظم التعظيم اللائق به جل وعلا .
إذا تبين لك ذلك الوجه الأول بأن يُجل ويكرم جل وعلا ، ومن قال إنه يقال هو المستحق للإجلال المستحق للإكرام فإن معنى ذلك أنه يوهم أن الأول منفي وذلك لأن الصفة - صفة الجلال والإكرام - أثبتت لله جل وعلا فلا يريد أن يثبتها للوجه بخصوصه لكن هذا ليس بسديد لما ذكرت .
هذا بعض ما يتصل بالكلام على هاتين الآيتين فالواجب إذن الإيمان بنصوص الصفات والتسليم بها وإثبات ما أثبت الله جل وعلا لنفسه وعدم الخوض في ذلك بما يصرفها عن حقائقها اللائقة به جل وعلا ، فالباب باب الصفات باب واحد فمن فرق فيه بين صفة وصفة فقد عطل وتناقض .
إثبات اليدين
لله تعالى
ثم القسم الثاني من الآيات متصل بإثبات صفة اليد لله جل وعلا قال شيخ الإسلام رحمه الله وَقَوْلِهِ:?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?
هذا سؤال بالمناسبة يقول ما حكم إطلاق صاحب الجلالة على البشر كأن يطلق على صاحب منصب كملك أو أمير أرجو التوضيح .(32/253)
سئل هذا السؤال الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله فقال لا بأس لأن له جلالة تناسبه وقد وُصِفَ ابن عباس وجماعة بأنهم ذو جلالة ، فصاحب الجلالة يعني الذي له جلالة تناسبه ، الاشتراك هنا بأن الجلالة يريد منها أنها يمنع إطلاقها على البشر هذا ليس صحيح مثل ما أطلق الله على من يملك في الدنيا بأنه الملك ?وَقَالَ الْمَلِكُ? وهو جل وعلا الملك ، الجلالة منقسمة ، الجلالة معناها يعني وصف يقتضي هيبة ، يعني هو ذو المهابة والتعظيم وله تعظيم ومهابة تناسبه والنبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل إلى ملك الروم قال (من محمد بن عبد الله رسول الله إلى عظيم الروم) فله عظمة تناسبه ، فإذن العظمة والجلالة والهيبة لكل أحد بما يناسبه وليست هي من الصفات المختصة وجواب الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله حينما سئل عن ذلك قال (لا بأس لأن له جلالة تناسبه) مثل الرحمة تناسب المخلوق المُلك يناسب المخلوق ، السمع يناسب المخلوق إلى آخره .
الجملة الثانية من الآيات فيها إثبات صفة اليدين لله جل وعلا
قال سبحانه لأبليس ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?
هنا ثنا اليد
?ِيَدَيَّ? مثنى يد ، يعني كأنه قال ما منعك لأن تسجد لما خلقت بيدي الثنتين
وقال جل وعلا ?وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ?
فاليهود قالوا ?يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ? يعني مكفوفة عن الإنفاق .
قال جل وعلا ?بَلْ يَدَاهُ? يعني الثنتان ?مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ?
وهذه الآيات وغيرها فيها إثبات صفة اليد لله جل وعلا ومن الأدلة على إثباتها أن الله جل وعلا وصف نفسه بأنه ذو يدين .
والمتأولة قالوا اليد بمعنى القدرة أو اليد بمعنى النعمة .(32/254)
وهذا القول لا يناسبه عند ذوي العقول أن يكون مثنى ، لأن القدرة والنعمة جنس وأما قوله ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ? فلا يناسبه أن تكون (بقدرتَيَّ أو بنعمتَيَّ) .
ولهذا الدارمي في رده على بشر المريسي من أوجه الرد قال (وأي قدرتين أراد ؟) هذا لا شك أنه من الباطل أن يقال إن هذا بمعنى القدرتين لأن القدرة واحدة ، ولِمَ القدرتان بخصوصهما وأي القدرتين التي أراد ؟ أي النعمتين ؟ ونحو ذلك ، فإذن هذا كله فيه إثبات الصفة صفة اليد لله جل وعلا .
والنصوص التي جاء فيها إثبات صفة اليد لله جل وعلا جاءت على ثلاثة أنحاء :
" منها إثبات صفة اليد مفردة كقوله ?وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ? .
" ومنها إثبات صفة اليدين مثناة كقوله جل وعلا ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ? وكقوله ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ? .
" ومنها أن تكون مجموعة كما قال جل وعلا ?مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ? ?مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا? ، ?أَيْدِينَا? هذا جمع ، ?أَيْدِينَا? جمع .
فإذن وردت على الإفراد والتثنية والجمع .
لهذا نظر فيها أهل السنة في ذلك وقالوا :
التثنية هذا نص ، والجمع ?أَيْدِينَا? لا يمنع التثنية والإفراد لا يمنع التثنية .
ذلك أن الإفراد للجنس ، فمن له أكثر من شيء قد يطلق مفردا وذلك لإرادة الجنس .
أما الجمع - هذا مثله مثل صفة العين كقوله ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا? ونحو ذلك - فإن الجمع له قاعدة في اللغة قاعدة في النحو ، وذلك أن المثنى إذا أضيف إلى ضمير تثنية أو ضمير جمع فإنه يجوز فيه أن يجمع - يعني المثنى - تخفيفا وهذا أفصح ويجوز فيه أن يبقى على تثنيته وهذا أقل في الاستعمال .
يعني أقول ، أنا أقول (يد محمد) و (يدا محمد) و (يد محمد وخالد) و (يدا محمد وخالد) ثم أقول (يد محمد وخالد ويداهما) .(32/255)
هذا ضمير تثنية ، هذا يصح وأيضا يصح في اللغة أن أقول (يد محمد وخالد وأيديهما) لأن القاعدة أن المثنى إذا أضيف إلى ضمير تثنية أو ضمير جمع جاز جمعه وهو الأفصح .
ويدل عليه في القرآن قول الله جل وعلا في سورة التحريم ?إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا? فخاطب جل وعلا عائشة وحفصة بقوله ?إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ? عائشة لها قلب واحد وحفصة لها قلب واحد والمجموع قلبان فقال ?فَقَدْ صَغَتْ? يعني مالت ?قُلُوبُكُمَا? فجَمَع لماذا ؟
لأنه أراد الإضافة إلى ضمير التثنية ، المقصود هذه قاعدة ، لهذا نقول :
ما ورد مثبتا بصيغة الجمع كقوله ?عَمِلَتْ أَيْدِينَا? ونحوها من الآيات فهذا فيه إثبات التثنية لأن التثنية نُص عليها بخصوصها والتثنية لا تحمل إلا على التثنية .
المثنى نص في المثنى أما الجمع فليس نصا عند الأصوليين بما زاد عن الاثنين.
كذلك المفرد ليس نصا عند الأصوليين بالواحد بل يحتمل أن يكون المراد أكثر من الواحد .
لهذا نقول : المفرد ?يَدُ اللَّهِ? هذا يفسر باليدين لأن المراد الجنس .
?عَمِلَتْ أَيْدِينَا? المراد (يدَيْنا) لكنه أضافه إلى ضمير الجمع ، أضاف المثنى إلى ضمير الجمع فجمع المثنى تخفيفا على الأفصح في لسان العرب .
إذا تبين لك ذلك فمن الباطل أن يقال إن الله جل وعلا له أيدي كما قاله بعض من لم يفقه ، أو أن الله جل وعلا له أعين كما قاله بعض من لم يفقه فهذا فيه غلو في الإثبات وعدم فقه للسان العرب والله جل وعلا موصوف بأن له يدين وهي نص فيها .
وأما الجمع فيرجع إليه ولهذا جاء في السنة ما يبين هذا التنصيص بقوله صلى الله عليه وسلم (على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين) (يديه) (كلتا يديه يمين) كل هذي نص بأنهما اثنتان .
أما الذين تأولوا :
- فمنهم من ذهب إلى المجاز في نفي اليد وقال إنها مجاز عن القدرة مجاز عن الإنعام .(32/256)
- ومنهم من قال إن ذلك يُأَوَّل والمراد لازم ذلك ومما استدلوا به أن العرب تقول (لفلان عليّ يد) يعني نعمة وفضل .
فنقول هذا الكلام صحيح فإن العرب تقول (لفلان عليّ يد) وتريد النعمة يعني له علي نعمة لكن العرب لا تستعمل ذلك إذا أرادت النعمة إلا على وجه واحد فقط ألا وهو القطع عن الإضافة ما تقول (يد فلان علي) (يد محمد علي) إذا صار لمحمد فضل عليه تقول (يد محمد علي) هذا لحن ولم تستعمله العرب قط وإنما تقول (لمحمد عليّ يد) بالقطع عن الإضافة لأنه بالقطع خرجت إرادة الصفة .
(يد) هنا ليست يد محمد لكن يد بمعنى النعمة ، فتقول (لفلان عليك يد) يعني عليك نعمة لأنك قطعت ولا يجوز أن تقول (يد محمد علي) بمعنى نعمة محمد علي .
فإذن استعمال يد بمعنى النعمة صحيح في لسان العرب والشواهد عليه معروفة ولكن هذا جاء على نحو واحد وهو أن يقطع عن الإضافة .
أما إذا أضيفت اليد إلى الذات فإنه يراد الذات المتصفة باليد .
مما قيل في ذلك يعني في صفة اليد لله جل وعلا وكذلك صفة الوجه لله جل وعلا مما اعترض به على أهل السنة ولكن اعتراض باطل هو أن الله جل وعلا قال في الوجه قال ?فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ? .
شيخ الإسلام لما اعْتُرِضَ عليه بذلك حيث قال لما جاءت المناظرة في الواسطية قال :
أتحداكم وأمهلكم ثلاث سنين لو ظفر واحد منكم - يعني من العلماء اللي حوله - لو ظفر واحد منكم بآية في الصفات تأولها السلف .
فقالوا أرجئنا يوما واحدا ، فلما أتى من غد قالوا ظفرنا بذلك .
قال أظنكم تريدون قوله جل وعلا ?فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ?
قالوا نعم .
قال هذا معناه الوجهة ، فأينما تولوا فثم وجهة الله يعني فثم القبلة وليس هذا من نصوص الصفات .
يعني قصده من ذلك النصوص التي هي ظاهرة في الصفات .(32/257)
ومثله - مثل هذا - في قوله جل وعلا في اليد قال ?وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ?
?بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ? قالوا هنا معنى (أيد) يعني القوة .
و (أيد) هذه أصلها (أيدي) لكن لما جرت هنا حذفت الياء يعني أصلها (والسماء بنيناها بأيديٍ) هكذا قالوا .
والجواب أن هذا ليس بصحيح ، وذلك أن (الأيد) في لغة العرب (الأيد) بمعنى القوة .
وليس ثَم علاقة بين الأيد واليد وذلك أن الهمزة في (أيد) أصلية
(أيد) الهمزة فيها أصلية : آد يؤود أيدا ، والأيد القوة ولها معانٍ أخر
فالهمزة هنا ليست للجمع ولكنها همزة أصلية في الكلمة .
هذا لأجل أن معناها القوة .
فإذن هذه الآية ?وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ? ليست هنا جمع (يد)
يعني (والسماء بنيناها بقوة وإنا لموسعون) ويدل عليه قوله جل وعلا في سورة ص ?وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ?
هنا ?ذَا الْأَيْدِ? يعني أيش ؟
هنا يصفه جل وعلا بما لم يشترك فيه مع غيره .
من جهة اليدين كل إنسان له يدين .
جل وعلا يصفه بما ليس في غيره وهو أنه ذو القوة التي اختصه بها ، خصه الله جل وعلا بها فقال ?ذَا الْأَيْدِ?
?الْأَيْدِ? صارت عندنا (أل) التعريف مع كلمة (أيد) التي هي القوة .
و(أيد) هذه الثانية هي التي في سورة الذاريات ?وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ? يعني بقوة ،
?ذَا الْأَيْدِ? يعني ذا القوة ونحو ذلك وهذا باب معروف والمناظرة أو الرد على أولئك من السهل والحمد لله .
نكتفي بهذا القدر ونجيب على بعض الأسئلة في الدقائق التي بقيت ، نعم ......(32/258)
(كلتا يديه يمين) العرب تصف الشمال بالنقص ، اليد اليمنى واليد اليسرى ، اليد اليسرى عندهم ناقصة عن اليمنى ، فاليمنى في الإنسان عند العرب هي ذات الكمالات ، واليسرى هي لما لا يحمد من الأمور ، فيها العجز وفيها مزاولة ما لا ينبغي ، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما أثبت ذلك قال (على يمين الرحمن) حتى لا يتوهم أن إحدى اليدين يمين في ذاتها وصفاتها والأخرى ليست كذلك رفع ذلك الاحتمال بقوله (كلتا يديه يمين) يعني (يعني كلتا يديه شريفة متصفة بصفات الكمال ليست إحدى اليدين مفضلة على الأخرى) ثم هنا بحث : هل توصف الثانية بأنها شمال أم لا ؟ هذا فيه بحث معروف يأتي إن شاء الله في موضعه . هو متصل الحقيقة باليدين لكن يحتاج إلى شيء من التفصيل .
كتاب عبدالرحمن حبنّكه يسأل عنه (أسس العقيدة الإسلامية) ؟
ما تحتاج لكتب المعاصرين الآن طالب علم تقرأ كتب السلف ، كتب المعاصرين الذين لا يبينون عقيدة أهل السنة قصدا ويوضحونها ما تحتاجها في العقيدة ، خاصة العقيدة إياك ، يعني حتى تضبط عقائد السلف بتفصيلاتها ثم بعد ذلك يمكن أن تقرأ في بعض الكتب في ذلك ، هذا الكتاب من جنس كتب الشيخ عبدالرحمن حبنّكة الميداني هو عنده ميل إلى الأشعرية أو التصريح بها في مواضع وله كتاب اسمه (ضوابط المعرفة) كتاب فلسفي يعني المعرفة عند الفلاسفة ...
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
إثبات العينين
لله تعالى
وَقَولُهُ: ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا?[الطور:48]، ?وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ(13)تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ?[القمر:13-14]، ?وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي?[طه:39].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(32/259)
أما بعد فهذا درس هو آخر الدروس قبل الحج ومعنا يوم الاثنين إن شاء الله في الزاد ويوم الثلاثة ليس فيه درس ونقف إن شاء الله إلى أول الأسبوع من الدراسة يعني نبدأ مع بداية الدراسة إن شاء الله .
ذكر المؤلف رحمه الله هذه الآيات التي فيها إثبات صفة (العينين) لله جل وعلا وهذا كله داخل في جملة أركان الإيمان لأن أركان الإيمان منها الإيمان بالله جل وعلا وللتذكرة ذكرنا أن الإيمان بالله جل وعلا هو الإيمان بربوبيته وبألوهيته وبأسمائه وصفاته ، ودخل في هذه الجملة - جملة الإيمان بالله - الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه من هذه النصوص التي ساقها شيخ الإسلام من أول ما بدأنا إلى هذا الموضع وإلى ما بعده .
فمن تلك الصفات إثبات صفة (العينين) لله جل وعلا .
وذَكَرَ الأدلة الدالة على إثبات تلك الصفة لله جل وعلا قال جل وعلا ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا? وقال جل وعلا ?وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِر َ? وقال جل وعلا ?وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي? فيجب الإيمان بهذه الصفة لله جل وعلا والنصوص من الكتاب والسنة دلت على إثبات هذه الصفة فيجب أن يُصَدَّق خبر الله جل وعلا إذ لا يصف الله جل وعلا أحد أعلم به من نفسه جل وعلا من نفسه فالإيمان بها واجب وتأويلها وردها هو من جملة التحريف الذي هو كفر بالصفات كما قال جل وعلا ?وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي? ?وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ? لما أنكروا اسم الرحمن لله جل وعلا وقالوا لا نعرف إلا رحمان اليمامة فكل من أنكر صفة من صفات الله جل وعلا فهو كافر بها .
هذه الأدلة دلت على إثبات صفة (العينين) لله جل وعلا .
وفي هذه الآيات ذكرت العين مفردة وذكرت مجموعة :(32/260)
- ذكرت مفردة مضافة إلى المفرد في قوله جل وعلا ?وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي? .
- وذكرت مجموعة مضافة إلى ضمير العظمة ضمير الجمع قال جل وعلا ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا? وكذلك قوله ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?
هذا فيه إثبات صفة (العين) لله جل وعلا وعلى هذا أهل السنة والجماعة قاطبة .
وجاء في السنة بيان أن لله جل وعلا عينين وذلك في مثل حديث ابن عمر المتفق عليه بين البخاري ومسلم وخرجه جمع كثير وهو العمدة في الباب قال عليه الصلاة والسلام (إن ربكم ليس بأعور وإن الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية) ، كذلك جاء في حديث أنس وفي حديث غيرهما أن الدجال أعور وأن الله ليس بأعور .
قال أهل اللغة (إن الأعور هو من فقد أحد عينيه) وذلك لأن مخلوقات الله المعروفة لدى العرب من الإنسان كذلك الحيوان كلها لها عينان فوضعت العرب هذا الاسم (العَوَر) لمن فقد أحد عينيه
فهو خاص بذلك وليس العور هو ذهاب البصر .
لهذا دل هذا الحديث (إن ربكم ليس بأعور) على إثبات صفة (العينين) لله جل وعلا بدلالة الوضع اللغوي من أن (العَوَر) في اللغة عند العرب هو فقد أحد العينين .
إذا تبين لك ذلك فأهل السنة والجماعة يفهمون النصوص الواردة في صفة (العينين) لله جل وعلا بما يوافق بعضها بعضا :
- ففيها الإفراد في قوله جل وعلا ?وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي? والإفراد لا ينافي التثنية في السنة كذلك لا ينافي الجمع ، لأن السنة مبينة للقرآن ومن المعلوم أن المفرد المضاف لا يدل على الوَحْدة بل قد يدل وهو الأكثر على الكثرة كما في قوله مثلا ?وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا? ?نِعْمَةَ اللَّهِ? هنا لم يرد بالنعمة واحدة النعم وإنما أراد الجنس وهي كثرة .(32/261)
وهذا متقرر في العربية أن المفرد إذا أضيف فإنه قد يفيد الكثرة وهو الغالب وقد يفيد الوَحْدة كما تقول (هذا كتاب فلان) يعني الكتاب واحد وقد يفيد الكثرة .
ولذلك هنا الإفراد لا ينافي الجمع الذي جاء في الآيتين الأخريين اللتين ساقهما شيخ الإسلام ولا ينافي التثنية التي جاءت في الحديث وذلك لأن المفرد يدل على أكثر من الواحد إذا أضيف ، يعني قد يدل على أكثر من الواحد إذا أضيف .
كذلك قوله جل وعلا ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا?
هنا جمع فقال (أعين) ثم أضافها إلى ضمير العظمة هو الموافق للجمع فقال ?بِأَعْيُنِنَا? .
و(الأعين) جمع والجمع يصدق على الاثنين فما زاد عند كثير من أهل العلم أو على الثلاثة فما زاد بإجماع أهل السنة من أهل العربية أهل الأصول .
السنة فيها إثبات العينين لله جل وعلا ، فكيف نفهم الجمع ؟
مرت معكم القاعدة في ذلك في العربية في بحث يدي الله جل وعلا وبينت لكم أن من قواعد العربية (أن المثنى إذا أضيف إلى ضمير تثنية أو جمعٍ جُمِع على الأفصح) كما قال جل وعلا ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? .
قال ?فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا? السارق تقطع منه يد واحدة والسارقة تقطع منها يد واحدة فصار المجموع يدين ، والله جل وعلا قال ?فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا? والأيدي جمع يد والمثنى يديهما .
ولم جمعت ؟
لأنه أضيف إلى ضمير تثنية قال ?فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا? .
أصل الكلام (فاقطعوا يديهُما) لكن فيه ثقل والقاعدة عرفتها فصارت ?فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا? هذا هو الفصيح ،كذلك قوله جل وعلا ?إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا? والمرأتان لكل واحدة منهما قلب فعائشة لها قلب وحفصة لها قلب فصارا لهما قلبان إذا أضيفا إلى ضمير التثنية جمعا فقال ?فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا? .(32/262)
وهكذا النصوص التي جاءت في (اليدين) أو جاءت في (العينين) لله جل وعلا هي على هذا الأصل.
قال جل وعلا ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا? هنا الأعين يعني العينين .
ليس لله جل وعلا أكثر من عينين بل له عينان جل وعلا .
هذا معتقد أهل السنة لدلالة السنة على ذلك وموافقتها للسان العربي الشريف .
كذلك الآية الثانية قال ?وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ()تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?
فجمع لأن المثنى أضيف إلى ضمير جمع ، قال ?بِأَعْيُنِنَا? فجمع المثنى لأن المثنى أضيف إلى ضمير جمع فجعل المثنى جمعا للّتناسب كما جاءت القاعدة .
إذا تبين لك ذلك وأن الإيمان بأن الله جل وعلا متصف بأن له (عينين) جل وعلا فهما صفتان ذاتيتان من صفات الذات .
إثبات صفة العين لله جل وعلا وأن له جل وعلا (عينين) هذه من صفات الذات التي لا تنفك عنه جل وعلا مثل (الوجه) و (اليدين) وغيرها من الصفات هذا معتقد أهل السنة والجماعة .
أما المعطلة معطلة الصفات :
- فالمعتزلة ينفون صفة البصر لله جل وعلا وينفون صفة العين والعينين لله جل وعلا فعندهم أن الله جل وعلا ليس له عين وليس له بصر جل وعلا .
- والأشاعرة تناقضوا فأثبتوا صفة البصر لدلالة لعقل على ذلك ونفوا صفة العينين لله جل وعلا .
وأهل السنة أعملوا النصوص فأثبتوا البصر لله جل وعلا وأثبتوا (العينين) لله جل وعلا ، وأبو الحسن الأشعري - رحمه الله - في كتابه الإبانة أثبت صفة (العينين) لله جل وعلا ..
انتهى الشريط التاسع من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط العاشر
وأبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه الإبانة أثبت صفة (العينين) لله جل وعلا ولا شك أن في هذا مخالفة لقول المعتزلة وكذلك قول الكلابية وأصحاب أبي الحسن الأشعرية .
إذا تبين لك ذلك فقول الله جل وعلا ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا?(32/263)
فيه إثبات صفة (العينين) لله جل وعلا .
بأي دلالة ؟
بدلالة السنة لأن السنة مفسرة ومبينة للقرآن ، وهنا قال (أعين) والسنة بينت أنهما عينان .
فنقول : في الآية إثبات صفة (العينين) لله جل وعلا لأن السنة مفسرة ومبينة للقرآن .
ما معنى الآية ؟
معناها [ ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ? - يأتي شرح أولها - ?فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا? يعني فإنك بمرأى منا وبصر وعناية ورعاية وكلاءة وحفظ ] .
وهذا التفسير هو تفسير السلف لذلك ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بعين الله التي هي صفته وإنما هو عليه الصلاة والسلام بأعين الله الذي هو أثر اتصافه بـ (العينين) .
ولهذا أهل السنة حين يفسرون بهذا يعدون هذا من باب (التضمن)
والتضمن أحد دلالات اللفظ ، لأن اللفظ :
" له دلالة بالمطابقة .
" وله دلالة بالتضمن .
" وله دلالة دلالات باللزوم .
فهذا اللفظ بالمطابقة - المطابقة إثبات صفة العين لله جل وعلا -
ما المعنى ؟
هنا يحتاج إلى دلالة التضمن .
فقالوا معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم بمرأى وبصر وكلاءة ورعاية وحفظ من الله جل وعلا
وذلك لأنه مضمون قوله ?بِأَعْيُنِنَا? .
فإذن ليس هذا من باب التأويل كما زعمه من لم يفقه بل هذا من باب التضمن .
والتضمن دلالة عربية واضحة من اللفظ .
قال السلف هذا مع إثبات صفة العينين ، فإن السلف قد يفسرون بالتضمن وقد يفسرون باللازم ويظن الظان أن هذا من التأويل وهذا غلط .
فإن التضمن شيء واللزوم شيء هذا من دلالة اللفظ .
وأما التأويل فهو محو لدلالة اللفظ .
التضمن واللزوم هذا من دلالات اللفظ ، دلالات اللفظ على المعنى ، أما التأويل فهو صرف اللفظ عن معناه .
إذا تبين هذا فإذن قول الله جل وعلا ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ? هذا أمر لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصبر لحكم الله .(32/264)
والصبر في اللغة الحبس ، (قتل فلان صبرا) أي حبسا ، محبوسا يعني مربوط أو شيء محبوس عن الحراك والتصرف ممنوع من التصرف والحركة فيقتل ، (صبر فلان شيئه) يعني حبسه ، (صبر فلان ماله) يعني حبسه وكنزه .
الصبر في الشرع هو [حبس اللسان عن التشكي وحبس النفس عن الجزع أو حبس القلب عن الجزع وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك يعني في خصوص أقدار الله المؤلمة]
هنا الصبر قال الله جل وعلا ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ? واضح أن الصبر أمر به فمعنى ذلك أنه واجب وقال
..
?وَاصْبِرْ? وهذا أمر هذا معناه أن الصبر واجب هذا هو الصحيح فإن من أهل العلم من قال إنه مستحب هذا غلط والصواب أنه و(3) للأمر به في آيات كثيرة .
قال الإمام أحمد (أمر بالصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعا) .
قال ?لِحُكْمِ رَبِّكَ? الحكم نوعان كما تقدم الكلام عليه :
" حكم كوني قدري .
" وحكم شرعي ديني .
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصبر على النوعين :
- أمر بالصبر على حكم الله الكوني القدري وما فيه مما يسر النفس أو مما يؤلمها ، ما فيه من المصائب ما فيه من معاندة المشركين وابتلاء الله جل وعلا نبيه بذلك فيحتاج إلى صبر
- كذلك الصبر على الحكم الشرعي وهو الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي
فإذن صار الصبر على حكم الله الكوني وحكم الله الشرعي تضمن أنواع الصبر الثلاثة
فإن الصبر على حكم الله الكوني فيه (الصبر على أقدار الله المؤلمة) والصبر على حكم الله الشرعي هذا فيه (الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية) فجمعت هذه الآية أنواع الصبر الثلاثة ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك?
" الصبر على الطاعات .
" صبر عن المعاصي .
" صبر على أقدار الله المؤلمة .(32/265)
قال ?فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا? وهنا ذكرت الباء فقال ?فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا? والباء تفيد الإلصاق الذي يفيد معنى الملازمة والدوام ، يعني [ فإنك دائما بمرأى منا وببصرنا وفي كلاءتنا ورعايتنا ] وهذا من دلالة الباء اللفظية .
لاحظ الآية الأخرى قال جل وعلا ?وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي?
قال ?عَلَى عَيْنِي? ?وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي? والمعنى أي [ على كلاءة مني ورعاية وحفظ ] .
فما الفرق بين (الباء) و (على) ؟
هذا تنويع لأجل دلالة الحال فإن موسى عليه السلام كان يُسْتَخْفَى به كحال أطفال بني إسرائيل وقال جل وعلا في منته على موسى ?وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي? .
ففي قوله (على) ما يفيد ظهوره وعلوه لأن (على) تفيد الاستعلاء ، وأطفال بني إسرائل كان يُسْتَخْفَى بهم في السنة التي يحق عليهم القتل ، والله جل وعلا يمن على موسى بأنه صنعه على عينه لأن في ذلك الاستعلاء والظهور لشأن موسى لكلاءة الله وحفظه ورعايته .
هذا من أوجه الفرق ، هذا هو الفرق بين (الباء) و (على) وليس ثَم فروق أخرى كما يدعيه بعض المؤولة .
هنا قال جل وعلا ?وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ () تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?
معلوم أن السفينة لا تجري في عين الله وإنما تجري بحفظه وكلاءته ورعايته وحفظه ،حفظ السفينة ومن فيها من كل الآفات ، قال جل وعلا ?وَحَمَلْنَاهُ? أي حملنا نوحا ?عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ? يعني على السفينة ذات ألواح
والدسر هي المسامير التي تربط بها الألواح وتشد بها .
قال جل وعلا ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا? ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا? يعني أن النصر سيكون له وأن غير هذه السفينة سيكون هالكا لأن الرعاية والحفظ كان لها ولمن فيها .
?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا? تفاسير السلف مثل الأولى دائرة على أنها تجري في حفظ منا وكلاءة ورعاية وهذا تفسير تضمن .(32/266)
قال جل وعلا في الآية الأخيرة قال جل وعلا ?وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي?
يعني يحبه آل فرعون ويحبه بنوا إسرائيل وكذلك يحب موسى عليه السلام كل مؤمن بالله ، لأن المؤمنين بالله جل وعلا يحبون الرسل من عرفوا منهم ومن لم يعرفوا من شهدوهم ومن لم يشهدوهم
فنوح عليه السلام وأتباعه يحبون كل أنبياء الله جل وعلا ورسله مع أن نوحا هو أول الرسل ، كذلك من بعده يونس كذلك إبراهيم كذلك الرسل ، كل رسول ومن اتبع ذلك الرسول يؤمن بجميع الرسل ويحب جميع الرسل ، الذين بعثوا إليهم وكذلك الذين بعثوا إلى غيرهم ممن لم يعرفوهم
والمحبة عامة ومن كذب برسول كما تعلمون فقد كذب بجميع المرسلين قال جل وعلا ?كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ? وهم قد كذبوا نوحا وحده لأنه أول الرسل فسماهم الله جل وعلا مكذبين لجميع المرسلين لأنهم كذبوا رسولا واحدا ، فمن جحد رسالة رسول فقد جحد برسالة جميع الرسل ومن تنقص رسولا قد تنقص جميع الرسل لأنهم أوجب الله جل وعلا محبتهم وأجب الله جل وعلا طاعتهم ، كل يطاع بحسب أمر الله جل وعلا في خصوص الأقوام الذين يبعثون إليهم .
إذن هذه الآيات فيها إثبات صفة العينين لله جل وعلا والسنة موضحة ة لذلك .
إثبات السمع والبصر
لله سبحانه
بعد هذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله صفة السمع لله جل وعلا
وذكر قوله جل وعلا ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا?
وهذه الآيات التي ذكرها في إثبات صفة السمع لله جل وعلا لم ينفها إلا المعتزلة وأما أهل السنة فيثبتون السمع لله بدلالة النصوص .
كذلك الأشاعرة والماتريدية والكلابية يثبتون ذلك بدلالة النصوص .(32/267)
وتنوعت الأدلة ففيها الإخبار بلفظ الماضي ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ? ?لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ? ونحو ذلك من الآيات .
فيها المضارع وفيها الماضي .
عائشة رضي الله عنها قالت (سبحان من وسع سمعه الأصوات) فجاءت بالصفة والله جل وعلا أثبت الاسم صيغة المبالغة التي هي من اسم الفاعل فقال ? وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ? ، ?إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ? .
فتنوعت الدلالات في النصوص على إثبات صفة السمع فلذلك إنكارها أبشع ما يكون لأن الدلالات كانت متنوعة :
أتى بلفظ الماضي والمضارع واسم الفاعل والصفة ، كلها جاءت فتحريفها أو نفي دلالتها هذا من المحال إلا بنوع هوى .
وتنويع الدلالة على الصفة لا شك يقوي إثبات الصفة ويكون ذلك أوضح وأوضح عند النظر .
هذه الصفة المذكورة في هذه الآيات وهي صفة سمع الله جل وعلا ، سمع الله جل وعلا متعلق بالمسموعات .
فقوله ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ? متعلق بذلك القول ، فسَمِعَ جل وعلا لما قالت المرأة
هذا معتقد أهل السنة .
الأشاعرة والماتريدية وجماعات يقولون سمعه قديم .
يثبتون السع ولكن السمع عندهم ليس بحادث ، السمع قديم .
فسمع الكلام في القدم لعلمه به هكذا يزعمون .
وهذا الكلام فيه التكذيب للقرآن ولولا التأويل لكانوا كفارا بذلك ، لأن الله جل وعلا يقول ?وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا? وقال ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ? وإذا كان السماع في الماضي قبل مجيء الكلام وقبل حصوله وقبل حصول المجادلة بين المرأة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يصح أن يقال ?قَدْ سَمِعَ? بصيغة الماضي ؟
وإنما يقال ?قَدْ سَمِعَ? إذا كان الأمر قد وقع وانتهى ولهذا
.......1(32/268)
قال نجد في النصوص لفظ الماضي ولفظ المضارع فقد يكون في إثبات السمع القديم البصر القديم دون البصر الحادث والسمع الحادث والكلام الحادث فيه نفي لدلالات النصوص وفيه تكذيب لها لأن الله جل وعلا يقول ?قَدْ سَمِعَ? وهؤلاء يقولون سمعه قديم .
كيف ؟ سمع في القدم قبل حدوث الكلام ؟
هذا لا يصح أن يقال ?قَدْ سَمِعَ? .
قال جل وعلا ?وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا? هذا فعل مضارع دلالته على الحال يعني يسمع تحاوركما الآن .
قد قالت عائشة (سبحان من وسع سمعه الأصوات أتت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجادله في زوجها وليس بيني وبينها إلا جدار لم أسمعها) .
الله يسمع ، حين الكلام سمع ذلك جل وعلا .
وهذا ما يثبته أهل السنة والجماعة ، هذا ولا شك يعظم الصفة في نفس المؤمن لأنه يعلم أن الله جل وعلا يسمع سره ونجواه ?أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ? يسمع جل وعلا السر والنجوى فلا يخفى عليه شيء ، سمعه وسع الأصوات ، ما من شيء يُسْمَع إلا والله جل وعلا يسمعه ، يسمع صوت دبيب النمل فوق الصفا ، وهذه الصفة يجب الإيمان بها كما ذكرت بدلالاتها
السمع في النصوص السمع من حيث هو فعل ?سَمِعَ? أتى على أربعة أنحاء :
" الأول ?سَمِعَ? بمعنى السمع المتعلق بالمسموعات يعني بالأصوات ، هذا واحد .
" الثاني السمع المتعلق بالمعاني وهو سمع الفهم والعلم والعقل .
" الثالث السمع بمعنى الإيجاب ، (سمع) بمعنى أجاب ، وهذا متعلق بالسؤال .
" الرابع سمع بمعنى الانقياد ، ?سَمِعَ? بمعنى انقاد ، (سمع فلان لفلان) بمعنى انقاد له .
هذه أربعة جاءت في القرآن والسنة هذه الأربعة ولا خامس لها .(32/269)
الأول : ?سَمِعَ? تعلقه بالأصوات كالآيات التي سمعت وهي قوله جل وعلا ?لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ? هذا سماع للمسموعات يعني للأصوات ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ? هذا أولا .
الثاني : سمع فهم وعقل وإدراك كقوله جل وعلا ?وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا? ليس المنفي هنا سماع الأصوات ?وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا? يعني سمع الإدراك والفهم والعقل ، قال جل وعلا ?أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ? يسمعون يعني يفهمون ، قال جل وعلا ?أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ? يعني ألقى قلبه ، سمعه اللي هو سمع الفهم ليس الأذن فقط . هذا الثاني .
الثالث : سمع بمعنى أجاب وهو متعلق بالسؤال وهذا في قولنا في الصلاة (سمع الله لمن حمده) يعني أجاب الله سؤال من حمده أو أجاب الله حمد من حمده ، والإجابة هنا تكون بالثواب أو بالعطاء .
الرابع : سمع الانقياد والطاعة وهذا كما قال جل وعلا ?وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ? يعني منقادون لهم ، وكذلك قوله ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا? يعني انقادوا واتبعوا وأطيعوا ،كذلك قوله ?سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ??سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ? يعني سمع الانقياد .
إذا تبين لك ذلك فهي مُرتبة على هذا الترتيب فقد يسمع سمع الأصوات ولا يفهم كما قال جل وعلا ?وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا? سمعوا الصوت ولم يفهموا الكلام على وجهه .
قد يكون سمع عقل وفهم ولا يكون إجابة لسؤال .
أن يُسأل فلان فيفهم ، يسمع الأصوات يفهم ويعقل معنى السؤال ولكن لا يجيب .
الثالث سمع إجابة متضمن للإجابة وللفهم ولسمع الصوت .
الرابع الانقياد وهو متضمن للجميع .(32/270)
وهذه كلها مثبتة لله جل وعلا على وجه الكمال .
- المثبت لله جل وعلا هذه الثلاثة أما الرابع اللي هو سمع الانقياد والطاعة هذه خاطب الله جل وعلا بها المخلوق - .
أما المخلوق فلا يتصف من تلك الصفات إلا بأقلها فله سمع يناسب ذاته الحقيرة ، سمع للأصوات .
إذا فهم فيفهم الفهم الذي يناسب عقله وذاته ، إذا أجاب فإنما يجيب بما يقدر عليه من الأشياء الحقيرة التي في يديه ، وإذا انقاد فإنه ينقاد على وجه النقص أيضا ، حاشا الكُمَلِ من خلق الله جل وعلا وهم الرسل فإن انقيادهم لله جل وعلا وطاعتهم كاملة ومع ذلك يستغفرون الله جل وعلا.
إذا تبين لك ذلك فيظهر لك عظم هذه الصفة صفة السمع لله جل وعلا واسم الله (السميع) فإنه جل وعلا يسمع الأصوات ويعلم جل وعلا معاني كلام الخلق على اختلاف لغاتهم وعلى تفنن حاجاتهم
يخاطبه جل وعلا العربي ويخاطبه جل وعلا العجمي يخاطبه صاحب كل لسان والله جل وعلا هو الذي خلق اللغات وخلق الألسنة وهو جل وعلا يسمع ذلك ويجيب ويثيب ويحاسب تبارك وتعالى.
هذا ملخص الكلام على صفة (السمع) لله جل وعلا .
نجيب على بعض الأسئلة ..
هذا سؤال عجيب أقرأه عليكم ، سؤال من فاهم يعي معنى الكلام :
يقول السلام عليكم ، هذه مناقشة أريد أن أصل فيها إلى حل إشكال لي ، وهي :
لو قال مبتدع المراد بيد الله قوته ونعمته فرددت عليه بأن هذا تأويل باطل ، قال لك : أنتم تفسرون ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا? بالحفظ والرعاية وهذا تأويل باطل فلماذا تثبت هنا وتنفى هناك إذ هذا تحكم ، قال السنى : إنما فسرنا آية ?أعيننا? بالحفظ والرعاية لأجل فساد معنى تفسير أن المراد بالآية العين الباصرة ، قال المبتدع : وأنا قلت بأن المراد باليد القوة .. وصرفته عن الحقيقة لأجل فساد المعنى لأجل التجسيم ، فلماذا تنهاني عن تفسيري لهذه الآية بمعنى يخالف الحقيقة وأنت تفسر الآية بمعنى يخالف الحقيقة ؟(32/271)
هذا السائل فاهم من جهة ، فاهم معنى التأويل ولكنه مخلط من جهة أخرى وذلك أن :
- أنا أعطيه فرقا يقصر معه الجواب -هو أن أهل السنة حينما يفسرون بالتضمن لا ينفون المطابقة لا ينفون الحقيقة فهم إذا فسروا ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا? يعني بكلأنا ورعايتنا قالوا العين مثبتة .
أما المبتدعة فإنهم حينما يقولون ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ? أي بقدرتيّ وقوتيّ ينفون معنى اليد .
من لوازم إثبات الصفة إثبات المعاني التي يقولها المبتدعة ، من لوازمها لكن ليست هي .
فأهل السنة يثبتون الصفة ويثبتون ما تضمنته ويثبتون اللوازم ، فالأعين يثبتونها ، لأنا الآن نسوق الآيات في إثبات صفة العين ، ويقول : هذا تأويل ، ما نفينا صفة العين حتى يكون تأويلا ، نحن أثبتنا صفة العينين لله جل وعلا ، فنقول : فيها إثبات صفة العينين والمعنى ، المعنى أيش ؟
المعنى تجري بكلأنا ورعايتنا ، فليس فيها نفي الصفة
لو قال قائل : ?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? لو قال قائل : يعني تبارك الذي تحت قدرته وتصرفه الملك ، هذه قد يقولها رجل من أهل السنة ويقول معها : هذه الآية فيها إثبات صفة اليد لله تعالى والملك تحت قدرة الله تعالى وتصرفه ، فيكون الكلام صحيحا ، هذا تفسير بالتضمن ، تفسير باللازم ، لأنه يلزم من كون الملك بيد الله جل وعلا أن يكون تحت تصرفه وتدبيره وقدرته هنا يلزم من إثبات العينين لله جل وعلا أن الله جل وعلا يكون مع الذين اتقوا ، مع المؤمنين(32/272)
يلزم من قول الله جل وعلا ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ? أن هذا تشديد على نكث البيعة ، لهذا المفسرون من أهل السنة قالوا في قوله ?إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ? قالوا ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ? فيها إثبات صفة اليدين لله جل وعلا والمعنى تشديد أمر نكث البيعة ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ? تشديد أمر نكث البيعة ، لماذا ؟
لأن الله جل وعلا شدد ذلك بذكر صفته وهي اليد فيكون المعنى اللازم عن ذلك مرادا مع إثبات الصفة.
فالفرق بين المبتدعة وأهل السنة أن السلف يفسرون اللفظ بالمطابقة ، يفسرون آيات الصفات بالمطابقة ويفسرنها أيضا بالتضمن واللازم ، وأما المبتدعة فينفون الدلالات هذه ويقولون بالتأويل ولابد من - يعني المناقشة مع أهل البدع - لا بد فيه من معرفة أصول الفقه ، لأن أصول الفقه فيها حل هذه الإشكالات لأنها هي المرجع لفهم دلالات الألفاظ ، لفهم الكلام .
فإذن نقول اللفظ يدل على معناه بالمطابقة أو يدل على معناه بالتضمن أو بالمطابقة والتضمن جميعا ويدل على المعنى اللازم ، فاللفظ له ثلاث دلالات تجتمع جميعا لا ينفى ، فيدل على المعنى جميعا بالمطابقة ، يدل على بعض المعنى بالتضمن ، يدل على أمر خارج باللازم ، هذه دلالات اللفظ ، المؤولة ينفون دلالات اللفظ ويقولون هذا غير مراد ، يذهبون إلى شيء آخر ، ظاهر ؟
فإذن هذا الكلام الذي قدره السائل مناقشة بين سني وبدعي ليس هكذا ، ولا أظن مبتدعا حاذقا يقول بمثل هذا الكلام
لأن المبتدعة حذاق لو قالوا بهذا الكلام رد عليهم بسرعة ، لكن هم يقولون هذا تجسيم ، تجسيم ، تجسيم ، فينفون الصفات لأجل بشاعة هذا اللفظ ، تجسيم ، تجعلون الله جل وعلا جسم ، هذا تشبيه هذا تمثيل إلى آخره ، وهذه هي أقوى متعلقاتهم الخبيثة
وأما أهل السنة فالحمد لله يفهمون المعاني كلها فهم أفقه الخلق بدلالات الكتاب والسنة وأيضا دلالات اللغة العربية ولله الحمد(32/273)
فهم ما أثرت فيهم لوثات اليونان ولا أثرت فيهم لوثات الفلاسفة ولا العقليات الباطلة وإنما جمعوا بين السمع والعقل .
ونأخذ سؤالا آخر ، نعم .
......
الآن الباء للملاصقة
قرأتها في النحو ؟ .. وش معناه ؟ ..
جميل ، صح ، الملاصقة في النحو على درجتين :
ملاصقة للشيء بالشيء ذاتا .
وقرب الشيء من الشيء .
هذه ذكرها سيبويه في الكتاب ، تقول (مررت بفلان) كيف مررت ؟ لاصقته يعني ؟ (مررت بك) يعني ايش ؟ هذه الباء للملاصقة .
قالوا معناها يعني بمكان ملاصق لمكانه يعني بقربه ، فإذا كان كذلك لا تفهم الملاصقة معناها المماسة ، هذا في بعض المواضع . ?إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا? ملاصقة ، يعني إلصاق ذات بذات ، صحيح ؟
هنا ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا? هذا يدل على القرب ، طيب .
هذه باء الملاصقة للقرب ، النوع الثاني ، واضح لك
فافهم الملاصقة ما هي معناها أن هذه في هذه ، أو أن هذه ملاصقة ذاتا ، لا .
وإذا كان معناها القرب ، يعني التصاق القرب فكان - هنا القرب ما فائدته - معناها في كلاءتنا ورعايتنا ونحو ذلك .
واضح ؟ ما في باقي شي من حجج المبتدعة ؟
شيخ الإسلام رحمه الله فاهمهم ، يعني ضابطهم وهو أقدر من أتى في هذه الأمة من بعد ظهور هذه الأهواء المضلة يعني من بعد القرن الثالث ، أقدر من أتى على رد إفك المبتدعة ، لماذا ؟(32/274)
لأنه دخل معهم في القواعد ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ? بعث الله جل وعلا شيخ الإسلام ابن تيمية للناس عالما مجددا يأتيهم من القاعدة ، يزلزل القاعدة ، ومن الإشكالات العقلية المهمة في المناقشات أنه يجي يقدم مقدمة ثم يبني عليها أشياء ، تروح تنشغل أنت بالنتائج تنسى المقدمة ، يصعب الرد ، مثل الآن - اللي ذكرني به - الكلام أن الباء للملاصقة ، وكيف ؟ يشكل عليه ، لو سلمنا بمعنى الملاصقة على ما كان في الذهن كان الإشكالات تصير قائمة ولا نستطيع حلها .
شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم ومدرسة شيخ الإسلام جميعا تميز بأنه يغوص معهم في القواعد ، شوف ، يبدأ من النقطة اللي بدؤوا منها ، إذا جابوا مقدمة من أول الطريق يمسك المقدمة وينسفها ، خلاص ، ما عاد يبقى شيء ، يصير ما بني على باطل فهو باطل ، وهذه من المهمات لأهل العلم ، من المهم أن تفهم الأساس ، القول الأساس اللي بني عليه هذا القول .
إذا عرفت الأسس التي بنيت عليها الأقوال سواء الأقوال الحقة أو الأقوال الباطلة أمكنك تصور الحق من أساسه بحيث لو أتى واحد بيشبّه عليك ما تتزلزل عنه لأنك فهمته من أوله ، كذلك الأقوال الباطلة إذا فهمتها من أساسياتها استطعت أن ترد عليهم بنقض أساسياتهم ، لأن نفس الأساس اللي بنوا عليه هذا باطل .
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على بينا محمد .
?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?[طه:46]، ?أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى?[العلق:14]، ?الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[الشعراء:218-220]، ?وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ?[التوبة:105].(32/275)
وَقَوْلُهُ: ?وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ?[الرعد:13]، وَقَوْلُهُ: ?وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ?[آل عمران:54]، وَقَوْلُهُ: ?وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ?[النمل:50]، وَقَوْلُهُ: ?إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15)وَأَكِيدُ كَيْدًا?[الطارق:15-16].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
.. ما سمعتم من الآيات العظيمة التي ساقها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فهي من جنس الآيات السالفة قبلها التي استدل بها شيخ الإسلام رحمه الله على إثبات الصفات ، فهذه الآيات وأمثالها مما يؤمن بها أهل السنة والجماعة .
ومعنى إيمانهم بها كما سبق أن أوضحناه مرارا أنهم يعتقدون ما جاء فيها من الصفات ويثبتون ذلك لله جل وعلا بألسنتهم ويقوم في قلوبهم أثر تلك الصفات .
هذا معنى الإيمان بالصفة والواجب منها اعتقاد ذلك بعد بلوغ الخبر .. ،
فنؤمن بأن الله جل وعلا متصف بكل صفة وصف بها نفسه في كتابه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم ونخبر بذلك ، وإذا كان للصفة أثر على العبد فإنه يؤمن .
ومعنى ذلك يعمل بذلك الأثر .
ذكر الآيات التي فيها وَصْفُ الله جل وعلا برؤيته لخلقه ولعباده .
والرؤية ، رؤية الله جل وعلا لعباده ثبتت في نصوص كثيرة بلفظ الرؤية كقوله جل وعلا لموسى وهارون حين قالا ?رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى? ففيها إثبات صفة المعية لله جل وعلا وصفة السمع .
صفة المعية يأتي الكلام عليها ، سنعرض لبعض الكلام بما يوضح المراد من الآية .(32/276)
وصفة السمع سبق الكلام عليها في الآيات السابقة والمقصود من استدلاله هاهنا هي صفة رؤية الله جل وعلا لعباده يعني أن الله جل وعلا يرى عباده ويبصر ما هم عليه ، ونحو هذا قوله جل وعلا ?وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة? ومثله قوله جل وعلا ?الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ()و َتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ? ففي هذه الآيات إثبات أن الله جل وعلا يرى عباده ، يرى خلقه جميعا ، يراهم ويبصر تصرفاتهم ، يرى أحوالهم وما هم عليه ، فيرى كل شيء .
ومتعلق الرؤية هو متعلق البصر لله جل وعلا ، وذلك أنها متعلقة بكل مرئي كما أن سمع الله جل وعلا متعلق بكل مسموع .
كذلك الرؤية متعلَّقها كل مرئي فالله جل وعلا يرى كل مرئي ، يعني يرى كل موجود ، كل شيء يراه جل وعلا على ما هو عليه سواء كان ذلك الشيء صغيرا أو كبيرا ، خفيا أم غير خفي ، ظاهرا أم باطنا ، يراه جل وعلا إذا كان من الذوات التي ترى وهذا من جنس البصر ، فإن الله جل وعلا بصير ، ومتعلق البصر المبصرات ، فهو جل وعلا بصير بكل شيء يُبْصَر يعني بكل الموجودات فلا تغيب عنه غائبة جل وعلا في السماء ولا في الأرض ولا تخفى عليه خافية بل هو جل وعلا يعلم كل شيء ويبصر ويرى كل شيء ويسمع كل الأصوات سبحانه وتعالى .
قال جل وعلا في آية سورة طه لموسى ولأخيه هارون ?لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?
وهذه الآية فيها إثبات ثلاث صفات لله جل وعلا :
" الأولى هي المعية .
" والثانية هي السمع .
" والثالثة هي الرؤية .
وهذه الرؤية ، رؤية الله جل وعلا لخلقه ، هذه غير صفة الرؤية التي هي رؤية الله جل وعلا في الآخرة ، يعني رؤية العباد ربهم جل وعلا في الآخرة .(32/277)
هذه غير تلك ، تلك العباد يرون ربهم ، ورؤية الله واقعة في الآخرة ، أما هذا المقام فالمراد به وصف الله جل وعلا بأنه يرى كل شيء ، فهو الرائي جل وعلا وفي تلك الصفة هو المرئي جل وعلا ففرق بين البحثين وفرق بين المقامين .
قال جل وعلا هنا ?لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى? وقوله ?إِنَّنِي مَعَكُمَا? يعني بالنصر والتأييد والتوفيق والإعانة والدفاع عنكما ، وهذا هو الذي فسرها به المحققون من أهل التفسير ها هنا .
?مَعَكُمَا? التي هي المعية الخاصة معية النصر والتأييد والتوفيق وذلك لأنها جاءت في مقابلة خوفهم ?قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا? فمعيته هنا خاصة تنفي الخوف وتزيل الخوف من قلب موسى وهارون لما أرسلهما الله جل وعلا إلى فرعون وملئه .(32/278)
قال الله جل وعلا هنا ?إِنَّنِي مَعَكُمَا? فلا تخافا من بطشه فأنا معكم بنصري ولا تخافا من إيذائه فأنا معكم بنصري وتأييدي ، ولا تخافا من حججه فأنا أنبئكما بما يدلي به من الحجج وما يُرَد به عليه ، ولهذا كلام موسى عليه السلام الذي حج به فرعون من الحجج والبينات التي أؤتيها موسى عليه السلام من الله جل وعلا فهي من آثار معية الله جل وعلا لموسى ولأخيه هارون ، حيث قال فرعون لموسى وهارون ?فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى? فأجابه موسى عليه السلام ?قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى? فسأله فرعون ?فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى? فأجاب موسى ?قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى? وهذا التوفيق لهذه الأجوبة العظيمة ، وكذلك ما جاء في سورة الشعراء من أجوبة موسى على فرعون حيث قال له فرعون : ?وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ? إلى آخر ما جاء في أجوبة موسى على فرعون ، هذا كله من آثار معية الله جل وعلا لموسى فإن معية الله الخاصة لعباده المؤمنين للرسل لأهل الصلاح لأهل العلم هذه المعية الخاصة معناها التوفيق والتأييد والإعانة والنصرة على أعدائهم .
لهذا قال جل وعلا في سورة براءة حينما أخبر عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وما كان من شأنه في الغار قال ?إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا? يعني ?معنا? بنصره وتأييده وتوفيقه ، ومن كان الله معه فالخوف منه بعيد والأذى عنه بمراحل .(32/279)
أما المعية العامة فهي الإحاطة العامة ، معية العلم كما فسرها السلف ويأتي تفصيل الكلام على المعية في موضعه حين يأتي استدلال شيخ الإسلام رحمه الله بقوله ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ? وكذلك ما ساقه بعد ذلك حيث قال وقوله ?مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ? إلى أن قال ?وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا? إلى آخر الآيات في ذلك والأحاديث التي ستأتي مبينة إن شاء الله تعالى في موضعها .
إذن فالمعية معيتان :
" معية عامة .
" ومعية خاصة .
ومعنى المعية العامة العلم ، ومعنى المعية الخاصة التي هي خاصة بأولياء الله بالرسل والأنبياء والعلماء المستقيمين وبالصالحين والعباد هذه معية توفيق ونصرة وتأييد .
قال هنا جل وعلا ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى? ومعنى ?أَسْمَعُ? يعني أسمع ما يقوله فرعون وألهمكم الجواب عليه ، ?وَأَرَى? مكانه ومكانكم ، أرى عمله وعملكم ، أرى ما يخفيه عنكم مما قد يكيدكم به أو قد يؤذيكم به فأخبركم به حتى تكونوا في أمان من ذلك .
?لا تَخَافَا? فإن جهات الخوف متنوعة ، قد يكون الخوف من الحجج التي يدلي بها فرعون ، قد يكون الخوف مما يمكر به ، الخوف من إيذائه ، الخوف من تحذيره ونحو ذلك ، والله جل وعلا مع موسى ومع فرعون يسمع مقالهم ومقاله ، ويسمع كلامه وكلامهما ويلهم الله جل وعلا موسى بالحجة ، ففيه إثبات الرؤية لله جل وعلا ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?
كذلك قوله جل وعلا ?الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ()وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ?
?يَرَاكَ? هذا من الرؤية التي هي إبصار الله جل وعلا لعبده .(32/280)
?يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ? يعني إلى الصلاة أو حين تقوم في أي شأن من شؤونك .
ويرى أيضا ?تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ? في المصلين ، ففيها إثبات رؤية الله جل وعلا لعبده .
كذلك قوله جل وعلا ?وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ?
?فَسَيَرَى اللَّهُ? هذه فيها إثبات الرؤية لله جل وعلا .
وإذا تبين ذلك فهذه الآيات وغيرها من الآيات التي فيها إثبات هذه الصفة لله جل وعلا نعتقد ما دلت عليه من أن الله جل وعلا يرى عباده ويراهم جل وعلا ويبصرهم بعينيه جل وعلا ليست رؤية وإبصار علم كما يقوله المبتدعة بل هي رؤية وإبصار بعينه جل وعلا لأن الله جل وعلا أخبر بأن له عينين جل وعلا والعين بها تكون الرؤية وبها يكون البصر .
وأما المبتدعة فيتأولون أن الرؤية والبصر يثبتها الأشاعرة والماتريدية ويقولون هي رؤيا وبصر سبيلها العلم .
يعني هو يرى ليس بعينيه جل وعلا لأنهم لا يثبتون العينين لله جل وعلا ولكن يكون رؤيا وسمع وبصر بإدراك تلك الأشياء عن طريق العلم ، إدراك المبصرات بالعلم ، إدراك المسموعات بالعلم ، إدراك المرئيات بالعلم .
و المعتزلة كما تعلمون ينفون ذلك كله ولا يثبتون رؤية ولا بصرا ولا سمعا وكذلك لا يثبتون علما هو صفة وإنما يقولون هو عليم بلا علم .
في قوله جل وعلا ?وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ? ?وَقُلْ اعْمَلُوا? هذا لمفسري السلف فيه وجهان :
- منهم من يقول هذا تهديد
- ومنهم من يقول هذا إخبار بأن العمل سيراه الجميع
ومنهم من يقول هذا تهديد وتخويف للذين يعصون الله جل وعلا .
وقوله ?وَقُلْ اعْمَلُوا? يعني - كما فسرها ابن جرير رحمه الله تعالى - : وقل اعملوا من الطاعات ما تشاءون وقل اعملوا من الخيرات ما تشاءون وقل اعملوا مما يقربكم إلى الله جل وعلا ما تحبون(32/281)
ومن ذلك التوبة لأنها سيقت بعد الكلام عن التائبين ووعدهم بأنه سيرى عملهم قال ?وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ? .
فهنا في قوله ?فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ? إما أن تكون هذه الرؤية في الدنيا وإما أن تكون في الآخرة .
وهما وجهان أيضا عند محققي التفسير فإذا كانت في الدنيا ?فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ? في الدنيا يعني سيظهر الله عملكم في هذه الدنيا ، وقد جاء في بعض الآثار وقد جاء في الحديث رواه الإمام أحمد لكن ما يحضرني الحكم عليه قال (لو عمل العامل - بمعنى الحديث - أنه لو عمل في مكان مغلق وقد أوصد عليه الباب لأخرج الله عمله كائنا ما كان) ، وبه فسرت ?فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ? أي فسيظهر الله عملكم حتى يكون مرئيا لأن الله جل وعلا مطلع على كل شيء ?قُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ?.
وقال آخرون هنا ?وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ? يعني إذا وقع ، إذا فعلتموه فإن الله جل وعلا يراه وهذا فيه البشرى للعبد بأنه إذا عمل العبد العمل ويعلم أن الله جل وعلا يراه وهو مطلع على عمله فإنه ينشرح صدره لذلك ويقبل على العبادة أكثر لما في قلبه من تعظيم الله جل وعلا .
وهذا الثاني أوجه لأن قوله ?فَسَيَرَى? أن الرؤية تكون بعد وقوع المرئي ، وليس سبيلها سبيل العلم في نحو قوله جل وعلا ? إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ? العلم يختلف لأن الله جل وعلا يعلم الأشياء قبل وقوعها .
لذلك فُسِرَ قوله ?إلا لنعلم? أي إلا ليظهر علمنا بمن اتبع الرسول ممن انقلب على عقبيه .(32/282)
أما قوله ?فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ? فإن الرؤية عند أهل السنة رؤية الله جل وعلا تكون بعد حصول المرئي ولهذا فيكون هذا التفسير أوجه وأحسن فيكون ?فَسَيَرَى? يعني بعد حصول العمل فإن الله يرى ذلك بعد حصول العمل وفي هذا من البشرى والاطمئنان لأهل الإيمان إذا عملوا الصالحات ما فيه ، كذلك فيه التهديد والوعيد لمن عملا عملا من الأعمال التي لا يحبها الله جل وعلا فقال ?وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ? وسيراه ?رَسُولُهُ? وسيراه ?الْمُؤْمِنُونَ?
ولا شك أن العبد يخفي عمله القبيح ولا يحب أن يظهر وفي هذا من التهديد والوعيد لمن عملوا بالمعاصي والآثام وما لا يرضي الله جل وعلا في الخلوات فإن هذا فيه تهديد لهم وتخويف من ذلك
ووجه مناسبة ذلك أنه ذكر بعد أن ذكر التائبين حيث قال جل وعلا قبلها ?وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ?
وقال بعدها ?وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ? فهي في التائبين الذين خلطوا هذا وهذا وهم مرجون لأمر الله ، فيناسب هنا أن تكون الآية فيها البشرى وفيها التهديد والوعيد .
البشرى لمن عمل عملا صالحا والتهديد والوعيد لمن عمل غير ذلك .
أما قوله جل وعلا بالمناسبة في آية البقرة ?وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ?
قوله ?عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ? لما ذكرناها هذه فيها أوجه من التفسير ، ونذكر من ذلك وجهين أحدهما لابن جرير والآخر للمحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره .(32/283)
قال ابن جرير رحمه الله في قوله ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ? قال ?لِنَعْلَمَ? أضاف الله جل وعلا العلم لنفسه وذلك لأنه أراد (إلا ليعلم رسولي وأوليائي والمؤمنون) وذلك أن الله جل وعلا جمع هنا ونسبه لنفسه كما ينسب العظيم الشيء لنفسه وإن لم يباشره ومَثَلَ عليه بقول القائل (فتح عمر سواد العراق) و (فتح عمر فارس) يعني فتحه بجنوده ، واستشهد لذلك واستدل عليه بالحديث المعروف الذي رواه مسلم - لكن طبعا ابن جرير لا يعزو لمسلم - قال الله (يا عبدي مرضت فلم تعدني و استقرضتك ولم تقرضني قال كيف أعودك وأنت رب العالمين قال ألم تعلم أن عبدي فلان مرض فلم تعده ولو عدته لوجدتني عنده) ساق بعض هذا باللفظ الذي يرويه ابن جرير رحمه الله قال هذا فيه أن الله جل وعلا أضاف الفعل لنفسه قال (مرضت فلم تعدني) (مرضت) والذي مرض هو عبده فيكون المعنى في قوله ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ? أي إلا ليعلم رسولي وأوليائي والمؤمنون ?مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ? .
والوجه الثاني أن العلم قسمان :
" علم باطن .
" وعلم ظاهر.
والله جل وعلا يعلم الأشياء قبل وقوعها ولكن علمه بالأشياء قبل وقوعها لا يحاسب عليه العباد ولا يذم العباد به
وإنما يحاسب العباد فيجزيهم على أعمالهم فيثيب المحسن ويعاقب المسيء إذا عملوا ذلك ظاهرا وصار علمه ظاهرا لأنه قبل أن يعملوه فليس من العدل أن يحاسبهم على شيء لم يعملوه ، فلهذا قال جل وعلا ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ? قال المحققون يعني إلا ليظهر ما علمناه ، فيترتب على ظهور العلم المحاسبة لهم وجزاء المحسن الذي اتبع الرسول وجزاء المذنب المسيء المنافق الذي انقلب على عقبيه وهذا هو قول جمع من المحققين كشيخ الإسلام وغيره .(32/284)
فالعلم هنا بمعنى الظهور ظهور العلم ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ? يعني إلا ليظهر علمنا في هؤلاء ، وهذا في المواضع التي في القرآن التي فيها إضافة العلم إلى الله جل وعلا للأمور بعد وقوعها ليس المراد أنه لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها بل هو جل وعلا يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، وإنما المراد بقوله ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ? ونظائر ذلك ، مراده إلا ليظهر علمنا فيهم ذلك الظهور الذي يكون عليه المحاسبة والجزاء على ما عملوا .
هذه بعض ما يتصل بهذه الآيات التي استدل بها شيخ الإسلام على صفة رؤية الله جل وعلا لعباده التي هي معنى البصر .
الله جل وعلا البصير ويبصر ويرى عباده لا يخفى عليه خافية ، لكن لم يأت من أسماء الله جل وعلا الرائي ، الذي يرى ، الرائي بمعنى الذي يرى وإنما أتى البصير .
فيسمع ويبصر ويرى ، يبصر ويرى الاسم منهما البصير هو جل وعلا ولم يشتق منها الرائي لأنها لم ترد في النصوص .
إثبات المكر والكيد
لله تعالى
على ما يليق به
الآيات بعدها في ذكر صفة الكيد والمكر بمن كاد ومكر أولياء الله جل وعلا هذه الصفة يثبتها أهل السنة والجماعة مقيدة مختصة ، وهذه الآيات تدل على ذلك وهي قوله جل وعلا ?وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ? وقوله جل وعلا ?وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ? وقوله جل وعلا ?وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ? وكذلك قوله جل وعلا ?إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا()وَأَكِيدُ كَيْدًا? ففيها إثبات هذه الصفة صفة المكر والكيد لله جل وعلا إثباتا مقيدا مختصا ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله .
فقوله جل وعلا ?وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ?(32/285)
?الْمِحَالِ? فسرت بعدة تفسيرات ومنها الكيد والمكر يعني وهو شديد الكيد والمكر بمن كاده ، كاد أولياءه أو بمن مكر أولياءه ........1
وصف الله
بالعفو والمغفرة
والرحمة والعزة والقدرة
وَقَوْلُهُ: ?إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا?[النساء:149]، ?وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[النور:22].
وَقَوْلُهُ: ?وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ?[المنافقون:8]، وَقَوْلُهُ عَنْ إِبْلِيسَ: ?فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ?[ص:82].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد : فهذه صلة للكلام على ما يثبت لله جل وعلا من الصفات ، صفات الذات .
يعني الصفات الذاتية الملازمة لله جل وعلا والتي لا تنفك عنه سبحانه وتعالى .
والصفات الفعلية التي يتصف بها في حال دون حال بمشيئته وقدرته .
وهذه الآيات فيها إثبات جملة من هذه الصفات ، ففيها :
إثبات صفة العفو لله جل وعلا
وإثبات صفة المغفرة لله جل وعلا
وإثبات صفة العزة لله جل وعلا(32/286)
وفيها أن الله جل وعلا يتسمى بالأسماء الحسنى المتضمنة للعلمية وللصفات كما قال جل وعلا ?إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا? وقوله ?وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ? قال ?أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ? وهذا كثير من أن الله جل وعلا يعرف عباده بصفاته وبأسمائه الحسنى بما يخاطبهم به من الأوامر والنواهي .
وفي هذه الآيات إثبات صفة العزة لله جل وعلا وأهل السنة والجماعة بابهم في هذا باب واحد يثبتون هذه جميعا لله جل وعلا ، فما أثبته الله جل وعلا لنفسه من الصفات أثبتوه وما نفاه نفوه وما سمى نفسه به من الأسماء الحسنى سموه به جل وعلا وما نفاه عن نفسه نفوه .
فالباب عندهم باب واحد في الصفات لا يفرقون بين صفة وصفة ولا بين نص ونص لأن الباب باب واحد في ذلك جميعا لأن الآية أو الحديث إذا ثبت أنه من آيات الصفات أو من أحاديث الصفات فإنهم يجرون عليه قاعدة الإثبات لما تضمنه من الأسماء والصفات والأفعال ..
انتهى الشريط العاشر من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الحادي عشر
وأهل السنة والجماعة بابهم في هذا باب واحد يثبتون هذه جميعا لله جل وعلا ، فما أثبته الله جل وعلا لنفسه من الصفات أثبتوه وما نفاه نفوه وما سمى نفسه به من الأسماء الحسنى سموه به جل وعلا وما نفاه عن نفسه نفوه فالباب عندهم باب واحد في الصفات لا يفرقون في ذلك بين صفة وصفة ولا بين نص ونص لأن الباب باب واحد في ذلك جميعا ، لأن الآية أو الحديث إذا ثبت أنه من آيات الصفات أو من أحاديث الصفات فإنهم ُيجْرون عليه قاعدة الإثبات لما تضمنه من الأسماء والصفات والأفعال .
في الآية الأولى فيها إثبات صفة العفو لله جل وعلا .(32/287)
قال سبحانه في سورة النساء ?إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا?
سمى الله جل وعلا هنا نفسه بأنه العفو قال ?فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا? ومن أسماء الله الحسنى العفو ، وكذلك قال ?قَدِيرًا? ومن أسماء الله جل وعلا الحسنى القدير
فهو سبحانه قدير وعفو وعفوه جل وعلا لا عن ضعف ولكن عن قدرة وعزة وعظمة وجلال .
وقوله هنا ?أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ? يعني أن لا تؤاخذوا من أتى بالسوء في حقكم أن لا تؤاخذوه بذلك بل تمحوا ذلك ولا ترتبوا أثر السوء الذي أصابكم على من أتى به بل تعفون عن ذلك ولا تعاقبوا من أتى به
وهذه هي صفة العفو ، لأن العفو معناه (عدم المؤاخذة بالفعل)
وهذا إنما يكون لمن يملك المؤاخذة ، فالعفو صفة من صفات الجمال لله جل وعلا .
ويكون العفو كمالا إذا كان عن غير عجز ، إذا كان العفو عن قدرة وعن استطاعة في إنفاذ العقوبة كان العفو كمالا لأنه يكون عن عزة .
وقد يعفو الضعيف فيكون عفوه عن ضعف لا عن قدرة والله جل وعلا له من الصفات العلا وله من الأسماء الحسنى فله صفة العفو ، وهو أنه لا يؤاخذ المذنب بجريرته على ما دلت عليه النصوص من قيود وشروط في ذلك ، ولا يؤاخذه بذلك بل يمحو ذلك عنه ولا يعاقبه لعفوه عنه جل وعلا وذلك لقدرته .
ولهذا قال هنا ?فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا? يجمع بين العفو وقدرته على إنفاذ العقوبة .
وهذا بخلاف صفة المغفرة وصفة قبول التوبة ، فإن الله جل وعلا من أسمائه العفو ومن أسمائه الغافر والغفار والغفور ومن أسمائه جل وعلا التواب .
وهذه تختلف ليس معناها واحدا ، بخلاف من قال إن معنى العفو والغفور معناهما واحد هذا ليس بصحيح بل الجهة تختلف والمعنى فيه نوع اختلاف مع أن بينهما اشتراكا .(32/288)
فكما ذكرت لك العفو (عدم المؤاخذة بالجريرة ، عدم المؤاخذة بالسيئة) يسيء وسيئته توجب العقوبة فإذا لم يؤاخَذ صار عدم مؤاخذته بذلك عفوا .
وأما المغفرة فهي (ستر الذنوب) أو (ستر أثر الذنوب) .
وهذا جهته أخرى غير تلك ، لأن تلك فيها ترك المعاقبة على الفعل وهذا ستر دون تَعَرُضٍ للعقوبة.
والتواب هو (الذي يقبل التوبة عن عباده) ومعنى ذلك أنه يمحو الذنب ولا يؤاخذ بالسيئات إذا تاب العبد وأتى بالأسباب التي تمحو عنه السيئات .
فإذن هذه ثلاثة أسماء من أسماء الله الحسنى لكل اسم دلالته غير ما يدل عليه الاسم الآخر
هنا في هذه الآية قال ?فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا? يعني لا يؤاخذ العباد بجرائرهم ولا يوقع العقوبة بهم على ما فعلوا إذا شاء ذلك وذلك لكمال عفوه وكمال قدرته سبحانه .
ولولا عفوه جل وعلا لفسدت الأرض ولهلك الناس لأن العباد ما من لحظة فيها إلا وهم يستحقون عليها العقوبة .
لأن الشرك أكثر من الإيمان وأهل الإشراك أكثر من أهل الإيمان
والأرض من أزمان طويلة منذ أن تَنَسَخَ العلم وفترته قبل رسالة نوح عليه السلام فقد عم فيها الشرك وعم فيها الكفر حتى أتى نوح عليه السلام وأرسله الله جل وعلا فطهر الله جل وعلا الأرض من الكافرين استجابة لدعاء نوح ?رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا? فطهر الله جل وعلا الأرض بالتوحيد ثم عاد بعد ذلك الشرك .
والشرك أكثر في الأرض ولو يؤاخذ الله جل وعلا الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة وهذا جاء في آيات في سورة النحل وفي سورة فاطر
ولهذا متعلَّق العفو عند أهل العلم هو الذنوب ، فإن الذنوب موجبة للعقوبة كما قال جل وعلا ?وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ? يعني لا يأتيكم بالمصائب التي هي بسبب ذنوبكم وعدم الإتيان هو بسبب العفو .(32/289)
وقال جل وعلا ?وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ألا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ?
فالعبد إذا عفا وصفح عن المذنب الذي أذنب في حقه فإن الله جل وعلا يغفر له وهذه نزلت في امتناع أبي بكر من النفقة على قريبه مسطح ونزل فيها هذه الآية و عفا بعد ذلك أبو بكر عن مسطح وذلك رغبة فيما وعد الله جل وعلا به في هذه الآية .
قال ?وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ? وغفور هذا مبالغة للكثرة يعني كثير المغفرة
لأن غفور فعيل من غافر ، وغافر اسم فاعل المغفرة والمغفرة (ستر الذنب)
فلا يفضح الله جل وعلا العبد بذنوبه ولا يخزيه بل يغفر له ذلك ويستره إذا طلب المغفرة
وإذا كان مع طلب المغفرة ، مع طلب الستر ، إذا كان معه توبة وإنابة إلى الله جل وعلا مُحِيَت تلك السيئات ، فيكون سترها بمعنى محوها أن توجد في صحائف أعماله ، وهذا كما قال جل وعلا ?وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى? .
بل قد يبدل الله جل وعلا بالتوبة السيئات حسنات كما قال جل وعلا ?إلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا () وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا? .
من المعلوم أن عدم المؤاخذة وعدم العقوبة هذا يشترط له الإسلام فإن المشرك ليس بداخل في أثر هذا الاسم في الآخرة ويدخل في أثره في الدنيا لأن الله لا يعاجله بالعقوبة في الدنيا .
قد يكون المشرك يشرك ثم يموت ولم ير عقابه .
وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بخامة الزرع التي تتكفأها الرياح مرة ها هنا ومرة هنا والكافر يأتيه الموت مرة واحدة فيكسره عن ذلك .
يعني أن العفو أثره في المسلم وأما المشرك فليس من أهل العفو في الآخرة - يعني جنس المشرك لا المشرك المعين - .(32/290)
وأما في الدنيا فإن العفو كما ذكرت لك وسع أهل الأرض جميعا ، ولو لم يعف الله جل وعلا عنهم لعاجلهم بالعقوبة .
الآية الثالثة فيها إثبات صفة العزة لله جل وعلا .
قال سبحانه مخبرا عن قول إبليس ?فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ?
وصفة العزة لله جل وعلا ثابتة ، وذِكْرْ شيخ الإسلام هذه الآية التي فيها ذكر صفة العزة بعد الآية التي فيه المغفرة والآية التي فيها العفو ، ذلك لأن عفو الله جل وعلا ومغفرته عن عزة ، وهذا كمال بعد كمال .
فإن صفات الكمال لله جل وعلا منها صفة العزة ، منها صفة المغفرة ، منها صفة العفو ، والعفو كما ذكرت لك إن كان عن عزة يعني عن قدرة على إنفاذ الوعيد ، عن قدرة على إيقاع العقوبة ، كان عفوا على كمال وأما إذا كان عجز وعدم عزة فليس بكمال بل هو عن ضعف .
وإلا فقد سبق أن ذكر شيخ الإسلام كما تعلمون ذكر الآيات التي فيها اسم الله جل وعلا العزيز
وقدمنا لك أن العزيز من أسماء الله جل وعلا الحسنى ، وهو المتصف بالعزة سبحانه وتعالى .
والعز في في صفة الله جل وعلا له ثلاثة معاني ، والعزيز له ثلاث معان ذكرناها لكم فيما سبق
يجمعها قول ابن القيم رحمه الله تعالى :
أنى يُرام جنابُ ذي السلطان وهو العزيز فلن يرام جنابه
يغلبه شيء هذه صفتان وهو العزيز القاهر الغلاب لم
فالعز حينئذ ثلاث معان وهو العزيز بقوة هي وصفهم
وهي التي كملت له سبحانه
كملت له هذه الثلاث معاني :
" فالأول من معاني العزيز : الذي لا يرام جنابه ، عزيز ممتنع لا يرام جنابه لا يصل أحد إلى ضره فيضره ولا يستطيع أحد أن يسلبه شيئا أو أن يُنقص من صفته أو من فعله أو من ملكه شيئا بل هو جل وعلا الممتنع الذي لا يرام جنابه .(32/291)
" والثاني أنه العزيز القاهر ، بمعنى القاهر الغلاب عزيز يقهر غيره ، عزيز يغلب غيره لا يستطيع أحد أن يغالبه أو أن يقهره بل هو جل وعلا لتمام قدرته وقهره وجبروته وعظمته هو الذي يقهر ولا يقهر وهو الذي يغلب ولا يغلب ?كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي? .
" والثالث أن العزة بمعنى القوة .
وهي التي اجتمعت هذه الثلاث معاني اجتمعت لله جل وعلا .
فإذن قوله ?فَبِعِزَّتِكَ? فيها إثبات صفة العزة لله جل وعلا على نحو ما أوضحناه مختصرا .
هذا قول أهل السنة جميعا يثبتون هذه الصفات التي يتصف الله جل وعلا بها .
والعزة صفة ذاتية لم يزل الله جل وعلا عزيزا وهو جل وعلا على ما كان عليه من العزة .
العزة وصف ذاتي له جل وعلا لا ينفك عنه .
وأما العفو والمغفرة فهي صفات فعل ، صفات اختيارية إن شاء عفا وإن شاء لم يعفو ، إن شاء غفر وإن شاء لم يغفر .
وعلى ذلك تكون من الصفات الاختيارية التي هي متعلقة بمشيئة الله جل وعلا وقدرته .
أما المبتدعة فإنهم على طريقتهم في ذلك :
- فأما أهل الاعتزال فإنهم يفسرون العفو ويفسرون المغفرة وغير ذلك من صفات الفعل يفسرونها بأثرها
- والأشاعرة والماتريدية ونحوهم يؤولونها ، فيجعلون المغفرة إرادة كذا ، ويجعلون العفو إرادة كذا ،
فيرجعون هذه الصفات إلى الصفات السبع التي ثبتت عندهم بالعقل
وهذا على نظائره مما سبق أن مر معنا مرارا في ذلك من طريقة المعتزلة في مثل هذه الصفات وطريقة الأشاعرة في التأويل .
في قوله جل وعلا ?فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ? فيها أن صفات الله جل وعلا يجوز القسم بها وأن صفاته جل وعلا منه سبحانه وتعالى
نعم ......
ما في شك ، لأن إبليس يعرف صفات الله جل وعلا ، إبليس يثبت الصفات وأما بعض هذه الأمة هو ينفي هذه الصفات عن الله جل وعلا .(32/292)
إبليس كفر لا عن معرفة بالله بل هو عالم بالله عارف به جل وعلا ولكن كفر إباء واستكبارا قال ?إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ? وإلا هو عالم ولهذا قال جل وعلا مخبرا عن قيله بأنه أقسم بصفة العزة لله جل وعلا قال ?فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ? .
وهذا فيه أن القسم بالصفات جائز ، لا بأس ، الصفات يقسم بها إذ القسم بالله جل وعلا وبأسمائه وبصفاته فتقسم باسم الله العلي باسم الله الحكيم والعلي والحكيم والخبير والقدير والمقيت والحسيب
وتقسم بصفات الله جل وعلا أيضا ، ورحمة الله تقصد رحمة الله جل وعلا التي هي صفته ، وعزة الله وكلام الله ونحو ذلك كل هذا جائز لأنه قسم بما ليس بمخلوق وأما الذي يمتنع فهو القسم بالمخلوقين .
فالقسم يكون بالله جل وعلا وبأسمائه وصفاته والبحث معروف في باب الأيمان من كتب الفقه .
كذلك الصفات الفعلية ، الباب واحد لكن إذا كانت الصفة محتملة لشيئين مثل الرحمة (ورحمة الله) سواء كانت فعلية أو غيرها مثل (ورحمة الله):
- الرحمة قد تكون صفة لله جل وعلا
- وقد تطلق الرحمة ويراد بها الأثر كما قال جل وعلا ?فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمةِِ اللَّهِ? يعني المطر ، والجنة قال فيها الله جل وعلا في الحديث القدسي (أنت رحمتي) يعني الرحمة المخلوقة ، وقال (إن لله مئة رحمة يرحم بها عباده أمسك تسعة وتسعين وأرسل واحدة بها يتراحم الناس) يعني هذه الرحمة التي يتراحم بها الناس هي الرحمة المخلوقة .
فإذن هذه تنقسم وإذا كانت تنقسم فلا يجوز أن يقسِم إلا بنية أنه يقسم بصفة الله جل وعلا ، هذا معروف وله نظائر مثل (وأمانة الله) وأمثال ذلك .
فإذن إذا كانت الصفة لا تنقسم فهذا واضح ، إذا كانت تنقسم ثم خلاف بين العلماء :
- هل يعتبر قسما مطلقا باعتبار أن الأصل أنها صفة
- أم يعتبر قسما بالنية فيكون مجراه مجرى الكنايات؟(32/293)
والصواب في ذلك أنه يعتبر قسما إذا كان القسم بها شائعا وأما إذا كان غير شائع فلا بد أن يأتي بالنية حتى يظهر الفرق بين مراده للقسم هل هو قسم بالصفة أم قسم بأثر الصفة يعني الأثر المخلوق
إثبات الاسم لله
ونفي المِثل عنه
بعد هذه الآيات ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى آيات كثيرة فيها بيان طريقة أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات ، ففي قوله جل وعلا ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا? وفي قوله ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ? وفي قوله ?فلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ? وفي قوله ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ?
كل هذه فيها بيان طريقة أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات ، وهي أنهم يثبتون صفات الله جل وعلا إثباتا مفصلا ، وينفون نفيا مجملا .
فقاعدة أهل السنة والجماعة في الصفات أن الإثبات يكون مفصلا والنفي يكون مجملا .
ولهذا في النفي قال ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا? وفي النفي قال جل وعلا ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ? وفي النفي قال جل وعلا ?فلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا? وفي النفي قال جل وعلا ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ? .
وفي الإثبات قال جل وعلا ?تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجلال وَالْإِكْرَامِ? الذي هو الإثبات المفصل ، وفيه قال ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ? نفى مجملا ثم أثبت مفصلا .
وهذه هي قاعدة أهل السنة والجماعة أوضحها بهذه الجملة الكثيرة من الآيات .
وهذا مبني على أصل وعلى قاعدة وهي أن النفي المحض ليس بكمال بل الكمال هو الإثبات المفصل(32/294)
والله جل وعلا يوصف بصفات الكمال ، لا يوصف بصفات النقص أو يوصف بصفات ليست بالكمال تحتمل النقص ، بل يوصف جل وعلا بصفات الكمال لأنه جل وعلا هو الحق وأسماؤه حق وصفاته حق ، فله من ذلك الكمال المطلق الذي لا تشوبه شائبة النقص بوجه من الوجوه .
وإذا كان كذلك فإن الله جل وعلا يوصف بصفات الكمال ، وصفات الكمال إنما تكون بالتفصيل في الإثبات .
ولهذا في القرآن التفصيل كثير والنفي قليل ، الأكثر الإثبات المفصل قال جل وعلا ?وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ? ?إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا? ?وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا? ?وكان الله على كل شيء حسيبا 1??وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا? ?وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? ?وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16)??الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)? ?هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ?
في آيات كثيرة
الأصل في القرآن في الصفات الإثبات ، وهو الكثرة الكاثرة ، وأما النفي فهو قليل ، والنفي كما ذكرت لكم في القاعدة أنه ليس بكمال .
ومتى يكون النفي كمالا ؟
يكون النفي كمالا إذا كان المراد بالنفي إثبات كمال الضد .
إذا كان المراد بالنفي إثبات كمال الضد فهو كمال وإذا كان المراد بالنفي النفي المحض وليس في مراد النافي إثبات ضد ذلك فإنه يكون نقصا .(32/295)
قد تقول مثلا (فلان لا يظلم أحدا) أو تقول (لا يقاتل أحدا) نفيت عنه ذلك لعجزه ، فتنفي عنه هذه الصفة قد يكون لعجزه .
فالنفي لا يكون دائما كمالا وقد يكون كمالا إذا كان المراد من النفي إثبات كمال ضد الصفة .
ولهذا قال الشاعر في وصف بعض القبائل قال :
ولا يظلمون الناس حبة خردل قُبَيِلَةٌ لا يغدرون بذمة
لا يغدرون لأجل - هذا في الجاهلية - لأجل أنهم عجزة لا يستطيعون أن يغدروا ، كذلك (لا يظلمون الناس حبة خردل) لأنهم عجزة أن يظلموا الناس
والكمال عند أهل الجاهلية (ومن لا يظلم الناس يظلم) الكمال عندهم :
فنجهل فوق جهل الجاهلينا ألا لا يجهلن أحد علينا
ولهذا ذمهم بنفي وسلب الصفات هذه عنهم وهذا النفي قد يظهر لك أنه كمال (لا يغدرون بذمة) لكن هو في الحقيقة أراد ذمهم بذلك لعجزهم .
إذا جاء النفي في الكتاب أو في السنة فكما ذكرت لك يراد به إثبات كمال الضد .
قال جل وعلا ?اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ? فنفى جل وعلا عن نفسه أن تأخذه السنة أي الغفلة والنعاس وأن يأخذه النوم ، هل المراد نفي هذه الصفات بالذات؟
لا ، المراد أنه جل وعلا لكمال قيوميته ولكمال حياته فإنه لا يعتري حياته الكاملة ولا قيوميته الكاملة نقص ولا شائبة نقص بوجه من الوجوه ولذلك نفى .
فيكون المراد بالنفي تقرير وتأكيد إثبات كمال الحياة وكمال القيومية قال ?اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ? وذلك لكمال حياته ولكمال قيوميته
فيكون المراد هنا تقرير كمال الحياة وكمال القيومية .(32/296)
كذلك في قوله ?وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا? ?وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ? المراد منه النفي الذي فيه إثبات كمال العدل لله جل وعلا فإن الله جل وعلا موصوف بكمال العدل ، وبعدله جل وعلا قامت السماوات والأرض ، أمر به في سمائه كونا وأمر به في أرضه كونا وشرعا جل وعلا ، فما يخلقه مبني على العدل وما يقدره مبني على العدل ، كذلك أمر في الشرع بالعدل : ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ? .
كذلك قال جل وعلا ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد ٌ? وقال ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا? وذلك لكماله في أسمائه الحسنى وكماله في صفاته العلا ، فمن كماله جل وعلا في ذلك وتوحده بذلك أن لا يشركه أحد في أسمائه على وجه الكمال ولا في صفاته على وجه الكمال ولا فيما يستحقه جل وعلا .
كذلك قال الله جل وعلا ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا? كما ذكرت لكم فيما سلف أن النفي هنا نفى الله عن نفسه العجز والعجز يكون بسبب عدم العلم أو بسبب عدم القدرة ولهذا علل بعد هذا النفي بقوله ?إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا? فلا يأخذه جل وعلا العجز ولا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض ذلك لكمال علمه ولكمال قدرته جل وعلا
وهذا باب واسع في أن طريقة أهل السنة والجماعة الإثبات المفصل والنفي المجمل .
قال جل وعلا هنا .
......
لا ما في تكليف ، كونا .
المقصود شرعا يعني في الكتاب بما أنزله الله جل وعلا على رسله أما الملائكة ومن في السماء فلا تكليف لأنهم مأمورون ونافذ في ذلك أمره جل وعلا نافذ فيهم كونا غير مكلفين باعتبار أنهم غير مخاطبين بما أنزل الله جل وعلا على رسله ، في خلاف أحدثه بعض أهل العلم هل النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الملائكة أم لا ؟ ليس هذا موضعه ، محله معروف في موضعه .
قال هنا ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا?(32/297)
هذا فيه الإنكار يعني : لا أحد سمي لله جل وعلا ، والسمي هو المثيل والنظير والشبيه ، مثل الند ، ومثله قوله جل وعلا ?وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ? وقوله ?وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى? يعني وله النعت والوصف والاسم الأعلى وأما خلقه فلهم الأرذل من ذلك أو ما يناسب ذاتهم مما فيه درجات .
وقال ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ? وقال ?فلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا?
يعني نظراء وشبهاء ، وأمثالا تجعلونها موازية لله جل وعلا ومماثلة فيما يستحقه جل وعلا .
هذه الآيات ظاهرة في الدلالة على ما ذكرنا والمبتدعة لهم في ذلك طريقة وهي أن الأصل عندهم أن النفي يكون مفصلا والإثبات يكون مجملا .
النفي عندهم مفصل :
إذا أخذت كتاب من كتب المعتزلة أو كتاب من كتب المتكلمين أو كتاب من كتب الأشاعرة فتجد عندهم النفي المفصل ، يقولون ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم ولا ذي جوارح ولا دم ولا أعضاء ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا هو حديث ولا هو غائب ولا هو مركب ولا إلى آخره ، يأتي لك بصفحة فيها لا ، لا ، لا ، كلها نفي فيتعرفون ويعلمون ما يستحقه جل وعلا بالنفي
لأن الأصل عندهم أن الإثبات فيه التشبيه والتمثيل ، فلهذا يلجؤون إلى طريقة النفي هذه .
هذه الطريقة للمعتزلة ولأهل الكلام ولمتكلمي الأشعرية .
وبعض الأشعرية يثبت إثباتا مفصلا على حد ما عندهم .
......
المعطلة هذا اسم ، هو يشمل كل من عطل صفة أو صفات قلّت أو كثرت ، فالجهمية معطلة والمعتزلة معطلة والماتريدية معطلة والكلابية معطلة والأشاعرة معطلة وأهل الكلام معطلة ، فإذا قيل المعطلة فيعنى بها الجميع ، يعنى بها هؤلاء جميعا .
وإذا قيل المشبهة يعنى بها من مثل الله جل وعلا ببعض خلقه .
فيستعمل لفظ المعطلة إذا أريد جهة تعطيل الله جل وعلا عن صفاته ، وأما إذا تكلم بالتفصيل
......(32/298)
نعم الأشاعرة درجات ، منهم معتزلة ، يعني يثبتون وينفون كما ينفي المعتزلة ، لكن في الجنس معلوم أن أقرب تلك الفرق إلى السنة هم الأشاعرة ، هم أقرب الفرق إلى السنة مع ما عندهم ، يعني أقرب مع بعد المسافة ، يعني لو كان بيننا وبين ذولاك مثلا مسيرة أيش ؟ كذا وكذا من المسافات فهم الأشاعرة أقرب من غيرهم ، لأن الأشاعرة يخالفوننا في الصفات ويخالفوننا في الإيمان ويخالفوننا في القدر ويخالفوننا في بعض مسائل الإمامة ، في بعض مسائلها لا جميع المسائل وعندهم في هذه الأمور من مخالفة السنة والبدع ما يوجب خروجهم عن مسمى أهل السنة والجماعة ، فهم من جملة الفرق الضالة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) .
إذا تبين لك ذلك فأهل البدع فهموا من النفي في النصوص أن النفي هو المقصود واستدلوا على ذلك بتقديمه ، قال جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? .
والتقديم يدل على الاهتمام فلما قدم النفي دل على أن النفي أهم من الإثبات .
قالوا : ولهذا يقدم النفي فيقال ليس بكذا وليس بكذا وليس بكذا وليس بكذا ، وبعد ذلك إذا جاء الإثبات قالوا وله العلم والحياة والقدرة مثل ما عند المعتزلة أو له الصفات السبع مثل ما عند الأشاعرة أو نحو ذلك طريقة أهل الكلام .
وهذا ليس بصحيح بل هو باطل ، والنفي ليس المقصود منه الاهتمام به ولكن النفي تخلية والإثبات تحلية .
ومن المتقرر في اللغة وعند العقلاء أن التخلية تسبق التحلية .
يُخْلِي القلب ثم بعد ذلك يبدأ يضع فيه .
حتى إن هذه قاعدة عند العقلاء لو أنت بتغير مثلا تغير ما في هذا المسجد من فرش لازم أنك تخليه تطلعه برع بعد ذلك تأتي بالجديد .(32/299)