- - - - - - - - - - -
طالب العلم والبحث
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[شريط مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه حامدا شاهدا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يجعل عملي وعملكم خالصا وأن يجعل ما سبق من أعمالنا مقبولا، وأن يبارك في قليلها وأن يعظم أجرنا فيها.
كما نسأله سبحانه أن يقينا العِثَار في ما نستقبل من أعمارنا، وأن يجعلنا من أهل الثبات على القول الحق والعمل الصائب إنه سبحانه جواد كريم.
ثم إنه كما جرت العادة في فاتحة هذه الدروس نطرح مسألة من المسائل التي تهمّ طالب العلم، والعلم بها لابد منه لمن يعاني طلب العلم ويعاني البحث ويعاني النظر في كلام أهل العلم المتقدمين منهم والمتأخرين.
فقد ذكرنا جملة من المسائل التي يهتم بها طالب العلم، وسنح في البال أن نتكلم الليلة عن مسألة مهمة في هذا المجال ألا وهي: طالب العلم والبحث.
وقد ذكرنا لكم فيما سبق في هذه الكلمات أنّ طالب العلم لابد له أن يجمع ما بين ثلاثة أشياء:
ما بين تلقي العلم عن الأشياخ الذين ينفعونه.
والثاني الإطلاع والقراءة والتوسع في المطالعة.
والثالث في البحث؛ بحث المسائل وتحريرها والنظر في كلام أهل العلم فيها باحثا مدوِّنا كاتبا ما يصل إليه في بحثه.
وقد ذكرنا المسألتين الأوليين:
طالب العلم والقراءة على الأشياخ، ومنهجية في الطلب، وكيف يتعامل مع المشايخ، وأشباه ذلك وما يتفرع منها.
وذكرنا أيضا طالب العلم والقراءة وكيف يقرأ كتب أهل العلم، ومنهجية القراءة في كتب أهل العلم، والفرق ما بين كتب الأهل الفقه وكتب أهل الحديث في مقدمة لذلك، إلى أشباه هذه المباحث التي تتصل بهاتين المسألتين.
وبقي أن نذكر شيئا من القول في مسألة طالب العلم والبحث.(1/1)
والذي دعا إلى ذلك؛ يعني إلى طرح هذا الموضوع شيئان:
الأول: ما ذكرته من أن طالب العلم لابد له أن يبحث، ولا ينبت لطالب العلم ريش لجناحيه يصلح له أن يطير بهما في سماء العلم إلا ببحث، فمن لم يبحث يبقى في العلم ضعيفا.
والأمر الثاني: أن البحث به تتضح المسائل، وبه يتبين طالب العلم معلومات كثيرة متنوعة لم تكن تحصل له بلا بحث.
فكم من معلومات استفدناها من جرَّاء بحث مسألة في اللغة أو بحث تفسير آية أو في بحث موضع حديث، فمرّ معنا أثناء البحث مئات الفوائد المختلفة، وهذه إذا كان طالب العلم صحيح الذهن فإنه يستفيد مما يمر عليه، ولهذا يفضَّل دائما أن يكون البحث لطالب العلم المبتدئ أو لطالب العلم الذي في طريق الطلب دائما يفضَّل أن يعاني البحث وأن لا يرجع دائما إلى الفهارس التي توصله إلى المقصود بأقرب طريق؛ لأن هذه الفهارس إما فهارس كشفية عن طريق المادة، أو عن طريق أول الحديث مثلا، أو عن طريق كلمة في آية إذا كان لا يحفظ القرآن، طيبا يعاني هذه الآية في أي سورة ينظر ويتأمل لأنه سيستفيد من خلال ذلك، هذا الحديث أين أجده في البخاري، موضوع الحديث هل هو في كتاب كذا, في مسلم أين أجده وهكذا.
بمعنى أنه إذا كان ثَمّ وقت لطالب العلم فكلما كان أبعد في بحثه عن الوسائل المساعدة السريعة كالفهارس، فضلا عن السريعة جدا كالكمبيوتر والبرامج الحديثة، كلما كان مستفيدا لمعلومات ومتوسعا فيما لا يتصل ببحثه.
يبحث مسألة في الفقه فيمر على كتاب كامل من كتب الفقه؛ يعني مثلا كتاب البيوع حتى يصل إلى مسألة، من خلال هذا البحث سيمر على المسائل هذه وسيرسخ في ذهنه بعض ما يرسخ، وسيمضي ويعبر بعض ما يعبر لكنه سيستفيد فوائد كثيرة.
لهذا نقول: إنه كأصل عام لطالب العلم مع البحث كلما كان أبعد عمَّا ييسِّر له البحث في مقتبل الطلب ومتوسط الطلب كلما كان أنفع له.(1/2)
فإذن كمنهجية ابتدائية لا تفرح بسهولة العثور على المسألة في مقتبل أمرك بقدر ما تفرح إذا بحثت عن مسألة وتعبت في البحث حتى وجدتها.
طبعا من المسائل ما هو معروف المكان، أو من الأحاديث ما هو معروف المظنة، لكن منها أحاديث لا تدري أين توجد.
فلا بد أن تبحث وهذا البحث قد يكون عن طريق المعجم المفهرس مثلا في الحديث تبحث عن هذه الكلمة ويخرج لك الباب والكتاب إما في البخاري وإما في مسلم إلى آخره من الكتب والجزء والصفحة في مسند الإمام أحمد إلى آخره هذا متيسر، لكن إذا أردت الفائدة الكبرى لا تعاني ذلك إلا إذا كان عندك متسعا من الوقت؛ بل عاني التعب مثلا تنظر في موضوع الحديث إلى آخره.
هذا كمقدمة مهمة في أنك في بحثك في أي مسألة كلما عانيت أكثر كلما استفدت أكثر.
هذه فوائد علمية، إضافة إلى الفوائد التعبدية الكبيرة التي يحصل عليها طالب العلم إذا مرَّ على تفسير آيات كثيرة فيها ذِكر الرحمن جل جلاله وذكر صفاته وذكر نعوت كماله، وما يحصل للقلب من فوائد في العبادة والرِّقة والخضوع لله جل وعلا، المرور على الأحاديث كم من مرة سيصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، ربما مررت على مجلد كامل لتبحث عن حديث؛ بل ربما أيام، في بعض الأحاديث مكثنا أياما نبحث عنها حتى وجدت، في خلال ذلك إذا صلحت النية من طالب العلم فإنه سيصلي على النبي عليه الصلاة والسلام مرات كثيرة.
فإذن في معاناة البحث فوائد في العبادة وفوائد في التعبد، فإذا كان ثَم متسع من الوقت عند طالب العلم فلا يختر الطريق السهل.(1/3)
البحث -كما ذكرنا- مهم؛ ولكن البحث يتنوع بتنوع الباحث، فقد يكون الباحث محدود الإطلاع، محدود العلم، ففي بحثه يريد أن يعرف شيئا يسيرا، وقد يكون الباحث يريد التوسع فيبحث عن أشياء كثيرة ومعلومات متوسِّعة، وقدرة الباحث على البحث لا يمكن أن تَحْدُثَ عندك إلا بشيء، لا يمكن على الإطلاق أن تحدث عندك إلا بشيء ألا وهو الإطلاع على الكتب، فكلما كانت معرفتُك بكتب أهل العلم أكثر وبما يختصّ به هذا الكتاب عن ذاك، مميزات هذا الكتاب، مميزات هذا المؤلَّف، ما تميز به المؤلِّف، إلى آخره، كلما كان قدرتك على البحث أعظم.
معلوم أن كتب التفسير مختلفة هل تريد كلمة مختصرة تعرف معناها، أم تريد خلاف العلماء في هذه الكلم؟
ثم إذا رأيت خلاف العلماء في معناها هل تريد كل هذا الخلاف أم لا؟
إذا نظرت هل هذا الخلاف مبني على أمر في القراءات، ففي القراءات تنظر إلى أصول هذه القراءة، ثم إلى علل هذه القراءة، ثم إلى مأخذ هذه القراءة.
بمعنى أن البحث إذا أردت أن يضيق ضاق وإذا أردت أن يتسع جدا اتسع.
فما من مسألة في أي مجال من مجالات العلم وفي أي فن من الفنون إلا ويمكن أن تَكتب عليها صفحات كثيرة في هذا الزمن؛ لأن العلم كثير والكتب كثيرة جدا؛ ولكن يختلف الباحثون في مدى الإطلاع على الكتب.(1/4)
إذن من لم يطَّلع على الكتب فإنه لن يستطيع أن يبحث، والإطلاع على الكتب ليس معناه أن تقتني الكتاب، الكتب في المكتبات العامة مثل مكتبات الجامعات، المكتبات المفتوحة العامة، هذه فيها آلاف الكتب، ومعلوم أنّ طالب العلم المبتدئ أو المتوسط أو حتى أكثر طلبة العلم لم يحصِّلوا كل الكتب، ولهذا كيف يطَّلعون على الكتب وعلى موضوعاتها وعلى فروع هذا الكتاب وما تميز به ومنهجه إلى آخره في كل فن من الفنون؛ في التفسير وأصوله، وفي الحديث وأصوله، وفي اللغة وأصولها، والفقه وإلى آخر العلوم جميعا، لاشك أن هذا يتطلب منك معرفة الكتب أن تعيش في المكتبات العامة، وهذا هو الذي يكتبه كثير من طلبة العلم والشباب أنهم لم يطلعوا على الكتب كتاب ما سمعنا به ما شفناه في السوق، هذا ليس عذرا لأن المكتبات العامة فيها حصيلة الكتب التي طبعت من نحو ثلاثمائة ألف سنة أو أربع مائة سنة والمخطوطات إلى آخره إلى زماننا هذا.(1/5)
فكيف يكون طالب العلم باحثا إذا لم يعرف الكتب، يكون في المسالة يعرف كتابا أو كتابين، في مذهب ما عندك كتاب أو كتابين، في شرح البخاري مثلا عندك كتابا أو كتابين، طيب أين بقية الشروح شرح مسلم عندك شرح واحد فأين بقية الشروح؟ سنن أبي داوود عنده شرح أين بقية الشروح؟ وكتاب في الأصول عنده مثلا الروضة وشرحها أو عنده كتاب التحرير مثلا في أصول الشافعية والحنفية ويظن أن هذه هي المسألة كلها؟ لا، كل علم فيه مئات الكتب وليس عشرات، ففي الأصول ثم مئات، وفي اللغة ثم مئات، وفي اللغة مثلا فيه من أسماء اللبن فيه مؤلف إلى لسان العرب وتاج العروس، أسماء اللبن فيه مؤلف، أسماء جسم الإنسان، الرأس هذا فيه مصنف في أسمائه في اللغة بالدقة؛ العين، السواد ما بداخل السواد البياض ما يسمى، الرموش هذه أسماءها باللغة العربية، والحواجب والأجفان وأسماءها إلى آخره. الأزمنة النهار من بدايته إلى نهايته والشمس والليل من بدايته إلى نهايته ثَم فيه مؤلفات في أسمائها.
إذن ما ثم مسألة حصيلة هذه القرون العظيمة قلت أو صغرت في علوم الشريعة الأصلية أو المساندة إلاَّ وثَم فيها تصنيف كبير؛ لكن يختلف الناس في الاصطلاح، بعض الناس يقول ما ندري منين جابها فلان، المسائل كبيرة، العلوم طويلة ما نكون مثل الذي يقول ما لم نطلع عليه فليس بشيء، مثل القصة التي تعرفونها عن الإمام أحمد حينما أتى بحديث فقال له رجل: هذا حديث ما سمعناه. قال له: هل سمعت نصف العلم؟ قال: نعم، قال: والنصف الآخر؟ قال لم أسمعه. قال: هذا في النصف الذي لم تسمعه.
وثَم من يدعي في العلم ويتكبر عليه؛ ولكن ليس الكلام فيه مثل ذاك الرجل الذي ما ثم غريبة في اللغة إلا ويعرفها وما يسأل عنى شيء إلا ويجيب، فاجتمع بعض طلابه الذين يحبون البحث وراء الأستاذ، اجتمعوا قالوا: لنخرج كلمة لا أصل لها ونسأل الشيخ عنها، فإذا هم يقطعون بيتا من الشعر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا(1/6)
(فاستبق بعضنا) قال نأخذ هذه الكلمة (ق بعض) هذه نأخذها ونسأل الشيخ عليها فلما [..] قالوا: وجدنا كلمة لا نعرف معناها قال ما هي؟ قالوا: كلمة قبعض.
قال: قبعض هذا نبات طيب الرائحة ينبت في أعالي جبال اليمن. وهم في بغداد، وكيف يصلون إلى اليمن وكيف يثبتون صحة هذه المسألة إلى آخره، قد يكون مصيبا وقد لا يكون، وبعض أهل العلم أوردها وقال مصيب قال هذا قال الشاعر:
كأن سنامها حُشِي قبعضا
فإذن العلم واسع وطالب العلم متى يتوسع في البحث إذا اطلع على الكتب، لهذا لا يتصور أن تكون باحثا بدون إطلاع على الكتب ولن تكون مطلعا على الكتب إذا اقتصرت على ما يباع أو ما عندك؛ لأن الكتب بحر لا ساحل له، لما تحمله هذه الكلمة من معنى (بحر لا ساحل له).
فإذن كيف تتطلع على الكتب، تعرف الأمور المختلفة وما ألف فيها؟ تذهب إلى المكتبات العامة، ولهذا ينبغي على طلاب العلم أن يجلسوا في المكتبات العامة، هذه الكتب التي في الرفوف لمن حفظت؟ حفظت لطلاب العلم، إذا كان طالب العلم كسلان لا يتصل بالكتب في أماكنها ولا يعرف الطبعات، ولا يعرف هذا الكتاب هل هو موجود غير موجود، وقديم أو غير قديم، هذا يصيبه فيه ضعف بقدر ما فاته من ذلك.
إذن من المهمات في البحث الإطلاع على الكتب ومعرفة شروحها أن ترتاد المكتبات العامة وتعرف ما في كل فن من الكتب.
المسألة الثالثة: أن الباحث لابد أن يحدد ما يريد، إذا كان يريد بحث مسألة لابد أن يتجه إليها تكون دائما نصب عينيه وهو يبحث، ثُم يعلم أن الكتب التي تبحث في أي فن من الفنون لها اتجاهات:
ففي التفسير ثَم مدارس: التفسير منقسم إلى مدرستين كبيرتين:
مدرسة التفسير بالأثر.
ومدرسة التفسير بالاجتهاد والرأي، ومدرسة التفسير بالاجتهاد والرأي تنقسم إلى أربع أو خمس مدارس وكل من هذه فيها مؤلفات.
إذا نظرت إلى اللغة: اللغة ثم فيها مصنفات وتختلف هذه المصنفات في قوتها وضعفها وفي الثقة بما فيها من غيرها في الاستشهاد.(1/7)
كتب النحو مختلفة المدارس ثم ثلاث مدارس أو أربع مدارس في النحو معروفة:
مدرسة البصريين، والكوفيين، ومدرسة أهل الموصل ببغداد والمدرسة الأندلسية في النحو إلى غير ذلك.
فإذن وأنت تبحث هذه المسائل تطول عليك فلابد أن تكون محدَّدا في بحثك حتى تصل إلى الشيء؛ لأنك قد تجد أمامك بحرا متلاطما ووجود خلافات إلى آخره، فلا تدري من أين تبدأ وإلى أين تنتهي.
لهذا تكون المسألة محددة تعرف أولا تأتيها شيئا فشيئا، بمعنى أن تبدأ بالأيسر ثم تبدأ في التوسع، الأطول فالأطول، ولا تذهب إلى المطول ثم ترجع إلى المختصر.
يعني مثلا رجل طالب علم يبحث في تفسير كلمة فيها قراءات مثلا، أو يبحث في تفسير كلمة فيها لغة، يذهب إلى البحر المحيط، هذا بحث محيط عليه ما المناسب؟ يذهب إلى ابن كثير أقرب، إذن يذهب إلى أقل منه طيب.
فإذن من الأمور الجيدة للباحث في أول بحثه هي الوجهة التي توصله إلى المقصود حتى يتصور، ثم يتقدم في بحثه، نصل هنا في هذه المسألة إلى معرفة أنَّ الكتب نمت مع الزمان، نمت مع القرون ولهذا الخالف يأخذ من السالف، المتأخر يستفيد من المتقدم.(1/8)
إذا نظرت مثلا إلى كتب الفقه وجدت أن مدرسة مثلا الإمام أحمد بن حنبل ومذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في الفقه الكتب كثيرة جدا؛ لكن يمكن أن تحصرها في كتب محدودة، وهذه الكتب أخذت من كتب محدودة إلى أن تصل إلى زمان المتقدمين في الفقه الحنبلي، يعني لا يأتي الباحث ويأخذ في الفقه خط واحد في التأليف ويستكثر به، هذا فيه ضعف في البحث؛ يعني ينقل عشرة نقول أو اثنى عشر نقلا كلها من كلام المتأخرين من الحنابلة مثلا أو من الشافعية لا شك هي مدرسة واحدة بعضهم ينقل عن بعض وبعضها موسع وبعضها مختصر، لكن الباحث ينتبه إلى المدارس الموجودة في هذا الفن فإذا أراد أن يتوسع فلا يشغل نفسه بالتوسع في الخط الواحد أو في المدرسة الواحدة؛ بل إذا أراد أن يتوسّع يتوسع الموجود في جميع هذه المدرسة أو المذهب الفقهي أو المذهب النحوي أو التفسير أو الحديث إلى أخره.
نقف وقفة في كتب الفقه مثلا لطالب العلم والبحث في كتب الأصول كمثال.
كتب الفقه كما ذكرنا لك عدة مدارس، كلام الفقهاء في كتبهم كل مذهب هو الذي يؤتمن على نقل مذهبه؛ يعني إذا وجدتَّ كلام المذهب تريد تعرف رأي الحنابلة تأخذه من كتب الحنابلة، ما تأخذ رأي الحنابلة من سبل السلام أو من فتح الباري أو نحو ذلك؛ لأنه ما دام أن المصدر الأصيل فإن الأخذ عن الفروع ضعيف، مثل في كتب الفقه من يأخذ مثلا عن مختصر المقنع مثلا زاد المستقنع في مسألة نص عليها في المقنع، أو يأخذ من الإقناع في فقه الحنابلة مسألة موجودة في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن صاحب الإقناع كثيرا ما يقول وقال الشيخ كذا يعني شيخ الإسلام ابن تيمية، أو يأخذ مثلا من الحواشي؛ حواشي كتب الحنابلة وهي كثيرة جدا حواشي المنتهى، حواشي الإقناع، حواشي الفروع إلى أخره. إذن هذه الروايات والإنصاف موجود.(1/9)
إذن فالباحث إذا كان يعرف الكتب فإنه إذا نزل درجة في البحث فإنه معرض للغلط، فكلما علا إسناده وعلا النقل كلما كان أقوى، هذا في الفقه فقه الحنابلة عند المتأخرين، وكيف وصلت عند المتأخرين، فكيف إذا انتقلنا عند المتقدمين، كذلك عند الشافعية، كذلك عند المالكية، عند الحنفية، كتب الحنفية الآن طبع منها عشرات، هل كل هذه الكتب معتمدة عند الحنفية؟ لا، ثَم كتب ظاهر الرواية وثَم كتب أخرى فما هو المعتمد عندهم لابد أن يعرف طالب العلم ما الكتب التي يعتمد عليها أصحاب المذهب حتى إذا نقل يكون نقله موافق للصواب عند أهله، مثلا المذهب المالكي فيه كتب معتمدة وفيه كتب غير معتمدة؛ يعني عند المتأخرين والمذهب إذن لابد من معرفة ذلك هذا بنظرة عامة.
نصل هنا إلى بحث إذا أراد طالب العلم أن يبحث في جمع الأقوال المختلفة للعلماء في مسألة فقهية كيف يفعل؟
عندنا مسألة مثلا: الوقوف بعرفة إلى زوال الشمس. الوقوف بعرفة إلى زوال الشمس يعني في يوم عرفة هل هو مجزئ في الحج؟ يعني على الوقوف بعرفة أو من وقف هل يعتبر حجه تام؟ يعني أتى بالركن أم لا بد من الوقوف بعد الزوال؟ يعني هل الوقوف بعرفة يبتدئ وقته من بعد الزوال من يوم عرفة؟ طيب.
مسألة إذا وقف بعرفة وقبل غروب الشمس نفر منها؛ يعني خرج من عرفة وغربت عليه الشمس وهو خارج عرفة، هل حجه صحيح أم ليس بصحيح؟ التحلل الأول يحصل بإيش؛ بأي شيء؟ هذه مثلا مسائل فقهية [مشهورة]، مسائل مشهورة ستجدها في الكتب لكن هنا نأتي إلى منهجية كيف منهجية البحث شيئا فشيئا.(1/10)
أولا لابد أن تتضح الصورة؛ صورة المسألة، اتضاح الصورة إذا كانت صورة المسألة قد عرضت عليك عن طريق شيخ أو فهمتها أو تصورتها فهذا طيب، إذا لم تتضح لك صورة مسألة من المسائل فالخلاف؛ خلاف العلماء في المسألة يوضح الصورة، بمعنى إذا صارت الصورة واضحة إيش معنى هذه المسألة، تنظر إلى خلاف العلماء فيتضح لك حدود الصورة وستقرب أو طبعا إذا تمكنت من السؤال عنها فهذا حسن، تأتي الآن إلى بحث أحد هذه المسائل الفقهية التي ذكرنا، طبعا تعرف أن المذاهب الفقهية منقسمة إلى خمسة مذاهب: المذاهب الأربعة ومذهب الظاهرية، مذاهب أهل الحديث هي داخلة في مذاهب الأئمة الأربعة؛ لأنها بين أقوال أحمد والشافعي ومالك، هذا يسمى عند العلماء الخلاف العالي، وثَم خلاف أقل وهو كلام العلماء غير المتبوعين مثلا خلاف الأوزاعي، خلاف ابن جرير، أو خلاف المتقدين من التابعين إلى غير ذلك، فإذا أراد طالب العلم أن يبحث مسألة في ذلك فإنه يبتدئ بالخلاف العالي ثم ينزل إلى أن يصل إلى عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وهذه المنهجية هي التي تفقِّه وتفيد الباحث، خلافا لمن ظن أن الصواب العكس أنك تبدأ من عهد الصحابة ثم تصعد، هذا غير جيد لأن مع تقدم العصور المسائل اتضحت وصار الخلاف محدد والأدلة محددة، فإذا نظرت إلى كلام المتأخرين؛ يعني كلام الأئمة ثم انتقلت شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى زمن التابعين ثم زمن الصحابة في الكتب والمصنفات هنا تصل في البحث إلى رؤية واضحة وقوة، وهذه هي طريقة أهل العلم والمحققين فيما يعرضونه في البحث كما تراه في المغني والمجموع وفي المحلى وفي غير هذه الكتب.(1/11)
هذه الخطوات تتنوع بحسب المادة؛ يعني تأخذ رأي الحنابلة قد تجد الرأي في كتاب حديث في شروح الأحاديث مثل نيل الأوطار أو فتح الباري أو ما أشبه ذلك أو شرح النووي على مسلم، هذا طيب؛ لكنه قد ينسب إلى مذهب ما ليس قولا لصاحب المذهب؛ يعني قد ينسب فتح الباري للإمام أحمد أقوالا هي في الواقع أخذها من بعض كتب المذهب؛ لكن ليست هي المذهب، إذا أتى الباحث وقال الحنابلة كذا أو مذهب الإمام أحمد كذا هذه تحتاج منه إلى تأنِّي لابد أن يأخذها من كتب أصحابها، كذلك الشافعي المالكي أبو حنيفة إلى آخره.
الظاهرية إذا قيل هذه المسألة تبحث ما مذهب الظاهرية فيها، مذهب الظاهرية يُؤخذ من أقوال داوود الظاهري، وأقوال داوود الظاهري مدونة في عدد من الكتب، وفيه كتاب جمع المسائل التي خالف فيها داوود الأئمة الأربعة، ابن حزم خالف داوود في المدرسة الظاهرية في مسائل وذهب إلى خلاف مذهب الظاهرية؛ يعني خلاف مذهب داوود في هذه المسائل؛ يعني طالب العلم تبدأ تحدد عنده المسار، فإذا عرف أصبح دقيقا في بحثه.
أنا أرى اليوم كثيرا ممن يبحثون ويحققون الكتب خاصة من طلبة العلم المتوسطين لا يرعون جانب المنهجية في البحث والتعليقات وتحقيق المسائل، فلهذا يجد طالب العلم إذا نظر في التحقيقات يجد صوابا كثيرا ويجد خلطا أيضا أو ضعفا في المنهجية.
تأخذ مسألة من مسائل اللغة، نحن قلنا الأصول؛ نأخذ مثلا مسألة من مسائل الأصول، الأصول أصول الفقه متنوعة بحسب المذاهب، فالحنابلة لهم أصول، والشافعية لهم أصول، والمالكية لهم أصول، والحنفية لهم أصول، والظاهرية أيضا أو ابن حزم بالخصوص له أصول فقه خاصة به دونها في كتابه الإحكام في أصول الأحكام.(1/12)
إذن إذا أردت أن تبحث مسألة من مسائل الأصول تقول: قال الأصوليون كذا. إذا قلت هذه الكلمة فإذا أن تنسب إلى مذهب؛ يعني قال الأصوليون في مذهب الحنابلة كذا، أو أن تنسبها إلى إجماع الأصوليين، ومعلوم أن المسألة دقيقة، فمثلا إذا قال القائل: قال الأصوليون الأمر للوجوب. هذه الكلمة مالها معنى لأن الأصوليين مختلفون هل الأمر للوجوب أم لا؟ اختلاف طويل، آخر يكون أدق في التعبير فيقول: قال الأصوليون الأصل في الأمر أنه للوجوب. هذه أدق من الكلمة السابقة وتكون أقرب إلى قول جمهرة من الأصوليين أكثر من الأوائل، إذا قال الأصوليون الأمر للوجوب هؤلاء قلة، إذا قال قال الأصوليون الأصل في الأمر أنه للوجوب هؤلاء كثرة من الأصوليين وقد يكون منسوب إلى مذهب أو مذهبين من مذاهب الأئمة أو أكثر، وهكذا تمشي في أنواع المسائل، إذا قال مثلا: الأمر إذا عرض له استفهام فإنه يدل على الاستحباب. قال الأصوليون الأمر إذا عرض له استفهام فإنه يدل على الاستحباب. هذه قد تجدها مثلا في فتح الباري قد تجد مثل هذه الكلمات؛ لكن هو لا يعني بالأصوليين إجماع الأصوليين إنما يعني طائفة من الأصوليين الذين استفاد منهم هذه المسألة، تأتي هذه المسألة مثلا هل الاستفهام يدل على الاستحباب أم لا؟ الاستفهام صارف من صوارف الأمر لأن يكون أصله الوجوب أم لا؟ هذه مسألة فيها بحث بين علماء الأصول.
المقصود من ذلك أن طالي العلم إذا أراد أن يبحث مسألة من مسائل الأصول فليعلم طرائق الأصوليين في بحث المسائل حتى تكون عبارته دقيقة فيما إذا بحث يعرف مدار الأصول وكتب الأصول ومميزاتها إلى غير ذلك.
تقسيم الأصول أصول الفقه كيف قسموه، تقسم الفقه، كل هذه مهمة لطالب العلم وهو يبحث.(1/13)
تنبني لنا مسألة كلية أخرى في بحثك إذا أراد أن يبحث مثلا اللغة، كتب اللغة معلوم أن بعضها ينقل عن بعض، بعضها مختصر لبعض، وبعضها يجمع كتبا متعددة، فمثلا يأتي طالب العلم -مثل ما نشوف في كتب ورسائل إلى آخره- يقول مثلا قال في لسان العرب كذا، وقال الجوهري في صحاح اللغة كذا؛ يعني جاب نفس العبارة في اللسان كذا وفي الصحاح العربية، طبعا صاحب الصحاح متقدم في القرن الرابع الهجري وصاحب اللسان متأخِّر صاحب اللسان جمع خمسة كتب ابن منظور ليس له كلام في لسان العرب، ولذلك يأتي طالب العلم ويقول قال ابن منظور في لسان العرب كذا، هذا كلام لا معنى له، هذا الكلام لا معنى له للعلم الذين يفهمون اللغة، أن يقول قال ابن منظور في لسان العرب معنى كذا هو كذا هذا ليس له مانع لماذا؟ لأن ابن منظور ذكر في مقدمته....خمسة كتب أو ستة فرتبها في هذا الكتاب فلم يؤلف تأليفا مستقلا خلافا لفيروز آبادي في القاموس المحيط الذي جمع كتبا لكن صاغها بصياغته وثَم أشياء تفرد فيها ورد فيها على من سبقه ورد عليه واستدرك وأُستدرك عليه إلى غير ذلك مما هو معروف.
إذن طالب العلم مثلا يعرف تسلسل كتب اللغة والكتاب الذي دخل في غيره والكتاب الذي استقل به صاحبه، يعرف من أين أُستقي ذلك حتى يكون دقيقا، هذا لا يتأتى لك إلا بمعرفة مدارس اللغة وكيف نشأت الكتب وصنفت وأشباه ذلك، منزلة كتب اللغة؛ هل كل كتاب لغة معتمد؟ لا، هل إذا قال فلان وقال صاحب الكتاب الفلاني يعني انتهى في المسألة؟ لا، لأن صاحب اللغة أيضا يحتاج إلى دليل له يدل على أن ما نقله صواب، وإلا فيكون الاحتجاج غير مستقيم.
خذ مثلا الجوهري في كتابه صحاح اللغة العربية ذكر أنه ألَّف كتابه هذا بعد أن مكث في البادية نحو من أربعين يتلقف اللغة، فهو كتب على أن كل كلمة أوردها في كتابه معناه أنه سمعها من العرب الأقحاح بعد أن خالطهم في البوادي.(1/14)
هل يعني ذلك أن العرب لم يدخل إليهم اللحن البتة؟ هذا واحد.
الثاني هل يعني كلامه هذا أنه ليس ثم مادة أوردها إلا وهي مسموعة له من كلام العرب؟
ولذلك جاءنا كتاب الجوهري وهو معروف سماه الصحاح وهو عند أهل اللغة بمنزلة كتب الصحاح في الحديث؛ لكن ثم فيه أشياء لا مستند لها عند الباحث اللغوي الصحيح، وثَم مسألة من مسائل العقيدة المشهورة عندكم هي مسألة الاستواء المعروفة قال استوى بمعنى استولى، قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
يعني استولى، وهذا غلط والشعر لا يصح إلى آخره، إذن فليس معنى ورود كلمة في كتاب من كتب اللغة أنها في اللغة كذلك؛ لكن هذا متى يؤول إليه الباحث إذا تطور في بحثه وفي تطبيقه وعلم أننا كلما رجعنا إلى الزمن الأول كلما كنا في سعة؛ يعني في معلومات واسعة وتبدأ تضيق تضيق إلى أن نصل إلى الصواب في العلوم كلها.
يأتي آتٍ ويقول قال الشاعر يحتج بمسألة يقول قال الشاعر كذا، طيب هذا الشاعر من هو؟ يقول هذا بيت لا يعرف قائله، طيب كيف عرف أن هذا البيت محفوظ؟ أولا وأن هذه الكلمة التي أحتج بها حفظت ورويت على هذا النحو من الذي رواها؟ وهل هو من حفاظ العربية أم لا؟ ثم هل خولف فيها أم لا؟ ثم هل القافية واحدة أم تعددت القافية؛ لأن من علامات الشعر الملحون أن تتعدد القافية في البيت الواحد إلى غير ذلك.
إذن فالبحث إذا أردته على حقيقته فإنه متوسِّع جدا؛ يعني ليس ثم مسألة إلا وراءها مسألة، وراءها مسألة حتى يصل الباحث في تحقيق العلم إلى أهله، فلا يمكن أن تحقق مسائل في العربية حتى تحكم العربية وتُحكم المؤلفات وتحكم أصول الاستدلال، وثَم مصطلح للغة أليس كذلك؟ ألف السيوطي الاقتراح في أصول النحو وثَم البلغة في أصول اللغة، وثم في التاريخ مصطلح التاريخ، وثم في الأصول أصول الفقه، وفي التفسير أصول التفسير. وفي الحديث أصول الحديث.
إذن ليس ثم علم إلا وله أصول هذه قوانين تضبط بها.(1/15)
إذن الباحث لابد أن يكون متئدا في بحثه متريثا، فالعلم واسع جدا جدّا أكبر مما تتصور ولهذا لابد أن يكون ثم بلوغ في البحث وفي أخذ العلم، وأن يتحرى طالب العلم الصواب المختصر، ولا يظن أنه إذا نقل نقلا معناه انتهى، انتهى الأمر وانتهت المسألة؟ لا، فالعلم واسع ومدارسه كبيرة متنوعة.
إذا أراد طالب العلم أن يبحث مسألة تاريخية، التأريخ يرد لك، إما في كتب أهل العلم موضع من التاريخ أو من السيرة أو تَرِد عليك شبهة أو إيراد أن الصحابة كانوا كذا أو حصل في وقعة كذا، تريد أن تحقق المسائل، طبعا كتب التاريخ المتأخرة أخذت كما قلنا [....]، كتب المتقدمين في التاريخ كانت بالأسانيد ما قبل الطبري من الكتب كتب ابن أبي إسحاق؛ بل ما قبله كتاب عروة بن الزبير، وكتب التابعين في السيرة والتاريخ وكتب وهب بن منبه في التاريخ وكتب ابن جرير وكتب بن أبي خيتمة إلى آخره، ثَم كتب كثيرة في التاريخ كانت تروى بأسانيدها ما ثم واقعة إلا بأسانيدها، فتأتي فتنظر في كتب المتأخرين فتجد أن ثَم وقائع بلا إسناد، تبدأ من ابن الجوزي بل ما قبله ابن الجوزي في [المبتغي] إلى ابن الأثير في الكامل إلى ابن كثير في البداية والنهاية إلى آخره، مع أن ابن كثير حافظ من حفاظ الأحاديث تحرّى ودقق لكنه أيضا اعتمد على ما ساقه من قبله.(1/16)
إذن التاريخ يروى هكذا؛ لكن إذا أردت أن تبحث مسألة فهل تبحثها بوجودها في البداية والنهاية، يقول لك قائل ذكرها في البداية والنهاية هل معناه انتهى، إذن ثم كتب قبل البداية والنهاية عرض فيها للمسألة إلى أن تصل إلى مصدر هذه القصة أين هو، فإذا بحثت وبحثت ستجد المصدر، فإذن مسائل التاريخ تروى هكذا فإذا أتينا إلى قضية في محك وأردنا أن نبحث فيها لابد من التدقيق وإلى الرجوع في التاريخ أول ما طَبعوا طبعوا التاريخ للطبري، وطبعوا كتب في التاريخ متنوعة مثل سير ابن هشام أول من طبعها، وتواريخ مختلفة تاريخ مكة والمدينة وتاريخ بغداد وتاريخ مصر وتواريخ المغرب إلى آخره، تواريخ فارس هم الذين طبعوها، أخذوا من هذه الكتب أشياء وقالوا هذا الموجود في تاريخ المسلمين.
فإذن الباحث لا يقول هذا ذكره الطبري هذا غير مستقيم في أصول البحث؛ بل لابد أن ينظر إلى استقامة ما أورد إذا كان مستقيما، فقصص التاريخ تذكر للعبرة؛ لكن إذا كان فيه ثم إشكال لابد أن يحقق المسألة ويبحث هذه القضية إلى أن يصل إلى الزمن الأول.
لم يكتب للتاريخ مصطلح وأصول في بحث التاريخ، إلا من أحد الباحثين في الزمن الحاضر، وسمَّى كتابه مصطلح التاريخ واعتمد في كتابه على أصول أهل الحديث أصول الحديث ومصطلح الحديث الدراسات التاريخية يعني مع النظر في الدراسات التاريخية يعني مع إضافات وهذا لاشك مهم لأن التاريخ نقل بالأسانيد، نعم أسانيد التاريخ لا ينظر إليها نظرنا إلى الحلال والحرام والعقيدة؛ لكن إذا كان المقام مقام استدلال فلا بد أن يبحث الباحث. (1)
__________
(1) انتهى الوجه الأول.(1/17)
خذ مثلا علما آخر فيما يبحث طالب العلم وما يبحثه -في مسائل التوحيد ذكرنا لكم في ذلك لكن نعيدها- في مسائل التوحيد سيبحث مذهب السلف في مسألة هل يبحثها في كتب السنة المتقدمة مباشرة أم يرتب البحث؟ نقول: لابد أن يرتب البحث كما ذكرنا من مختصرات الأئمة من مختصرات كتب أئمتنا أئمة الدعوة كابن تيمية وابن القيم أين ذكروها؟ كيف عرضوا المسألة؛ صوروها؟ ثم بعد ذلك تبدأ تنتقل إلى الكتب المطولة حتى تصل إلى كتب السنة المتقدمة بالأسانيد، هذا يعطي ثراء في تصور المسألة، ثم تبدأ تتوسع؛ لأن المتأخر من أئمة السنة يسَّر لك عرض المسألة وأعطاكها في قالب قاعدة منتهية، وفي كتب السلف قد تجد نقلا عن إمام يمثِّل بعض القاعدة عقدية ونقل عن آخر يكملها إلى آخره فمجموع كلام السلف صاغه الأئمة المتأخرون.
فإذن طالب العلم يرتب بحثه بالتوسع في ذلك إذا أراد أن يبحث في مسألة من مسائل اعتقاد أهل البدع مثلا في كتب الأشاعرة من مسائل الأشاعرة ينظر أين ذكرت المسالة كيف صوروها أولا ترجع إلى كتب الأئمة تنظر كيف عرضوا للمسألة، كيف صوروا مذهب أهل السنة وكيف صوروا المخالفين من الأشاعرة والمعتزلة والخوارج إلى آخره.
ثم تنتقل منها إلى كتب القوم ولابد للباحث المتخصص في العقيدة ليس كل طالب علم أن يعرف هذه الكتب ومميزاتها إلى آخره، ثم بعد ذلك يرجع إلى الرد عليها عند شيخ الإسلام وابن القيم والأئمة رحمهم الله تعالى.
كتب الحديث وهي آخر المطاف كثيرة جدا ومناهج علماء الحديث في الشروح مختلف، وكما ذكرت لك في كلمة سبقت يظن الظان أن المسألة إذا ذكرها شراح الحديث معناه أنها هي مذهب أهل الحديث أو أن هذا القول هو الأحق بأن يلقى وهذا ليس على إطلاقه.(1/18)
فإذا نظرت إلى بداية شرح كتب السنة، شرح البخاري من أول من شرحه الحافظ الخطّابي محمد بن سليمان بن محمد رحمه الله، وكذلك سنن أبي داوود شرحه الخطابي أيضا في كتاب معالم السنن، وكل من الكتابين مختصر جدا ومطبوع، بدأ العلماء يفرِّعون على هذه النواة الأولى شرح كل بحسب ما يفهم من الفقه على مذهبه، ولهذا تميَّز الحافظ بن حجر في كتابه فتح الباري بأنه جمع ما قاله العلماء في الحديث: سواء علماء اللغة أو علماء الإسناد أو علماء الفقه، فإذا مثلا جاءت كلمة في حديث رواه البخاري تجد أن هذه الكلمة يفسرها من تقدم بكلمة، هذه ليس معناها أنها مسلَّمة، تجد أن الخطابي قال هذه الكلمة معناها كذا؛ لكن عند ابن حجر تجد أنه توسَّع نقل عدة نقول عن السلف يعني السلف اللغويين.
مثلا أتينا إلى حديث أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، طيب جزيرة العرب عند الحنابلة لها حد وعند الشافعية لها حد، وعند المالكية لها حد، عند علماء اللغة لها حد، اختلفوا فيها وطوَّلوا، يأتي شارح الحديث يقول جزيرة العرب هي كذا وكذا، فهل عند الباحث انتهى الحد عند هذه المسألة يعني خلاص، ذكر الشراح يقول ذكر الشراح أنها كذا يعني انتهى؟ لا؛ لأنه لابد البحث جزيرة العرب في أصل بحثها هل هو فقهي أم لغوي؟ لابد تسأل نفسك هذا السؤال، فإذا كان فقهيا المرجع عند أهل الفقه، وإذا كان لغويا فمرجعه عند أهل اللغة.
إذن أصل البحث هو بحث لغوي؛ يعني جزيرة العرب هذه كلمة موجودة معروفة عند العرب في استعمالاتهم وجاء استعمالها في النص في الأحاديث إلى آخره.
فإذن تعرف مأخذ هذا البحث الذي تبحثه، فيكون إذن كتاب شرح الحديث هو مثل الهادي لك لتعرف مداخل البحث، فإذا قرأت للشارح ونقل عن الفقهاء تذهب إلى كتب الفقهاء وتتوسع، نقل الشارح عن اللغويين تذهب إلى كتب اللغة وتتوسع، ثم بعد ذلك يكون العلم عندك ثريا متوسعا في هذه المسألة.(1/19)
مثلا هذا حد جزيرة العرب في شرح المُفَضَّليات المعروف اختيارات المفضَّل ثَم فصل طويل جدا فصل فيه أقوال العلماء والأشعار وما يتعلق بذلك في حد جزيرة العرب، هذا بحث موجود في شرح من شروح أشعار العرب كتاب أدبي وهو متقدم في الزمان في القرن [الثالث] نقل عن الفقهاء ونقل عن التابعين عن الشعبي ونقل عن غيره في حد جزيرة العرب ونقل عن اللغويين وعن الأئمة وقول الإمام مالك إلى آخره.
فإذن ثم مصادر للبحوث موجودة في كتب الحديث، فطالب العلم إذا اقتصر في مسألة ما على ما هو موجود في كتب الشروح المتأخرة وقال خلاص هذه هي كلمة الفصل يضعف بقدر ذلك، طيب إذا كان العالم هو الذي استدلَّ بما هو موجود عند الحافظ، بما هو موجود عند النووي، فهذه لها مزيتها؛ لأن العالم الأصل فيه أنه اطلع على أشياء كثيرة جدا ثم اختار كلام الحافظ ابن حجر ثم اختار كلام النووي، فيكون هذا الاختيار دلَّ على أن هذا الكلام هو أحسن ما وجد، فإذا كان العلام متبحرا في العلم ثم اختار من كلام العلماء بعضه فيدل ذلك على نفاسة هذا الكلام وعلى أنه هو الصحيح عنده.
فإذن نأتي إلى مسائل الرجال يأتي باحث ويقول هذا الحديث إسناده حسن؛ لأن فيه فلان قال الحافظ ابن حجر فيه صدوق، هذا الكلام في الحقيقة لا معنى له، الحافظ ابن حجر ألف التقريب ليكون كاشفا معك في اليد في أسفارك؛ يعني تعرف تقريبه ليس الحكم على الرجل، نعم يدل هذا على أن الحكم هو اختيار الحافظ والحافظ حافظ وله جلالته في العلم؛ لكن المسألة لم تنته عند هذا الحد، لابد أن تتطلع على كلام الأئمة المتقدمين، من قال ثقة لماذا قال ثقة؟ ومن قال ضعيف لماذا قال؟ هل ضُعِّفَ مطلقا أو ضُعِّفَ في زمن دون زمن يعني اختلط أو في بلد دون بلد أو في حضرة كتبه أو في غير حضرة كتبه أو هل هو مقبول في كل العلوم؟ أو يعني ثَم أشياء كثيرة تأتي.
فإذن الباحث لابد أن يكون دقيقا وكلما صار أدق كلما صار أحرى بالصواب في العلم.(1/20)
نأتي إلى المتأخرين في شروح الحديث خاصة علماء الهند، علماء الهند شرحوا البخاري [شرحوا مسلما] وشرحوا أبا داوود، وشرحوا جامع الترمذي، وشرحوا النسائي، وشرحوا ابن ماجه، شرحوا الجميع، ومسند الإمام أحمد شرحه الشيخ أحمد البنا رحمه الله، هذه الشروحات للأحاديث من أين استقيت؟ لابد للمؤلف مراجع، فإذا أراد الباحث أن يقتصر عليها فإنه يضعف بقدر ذلك، تبحث تكشف سريعا هذا حسن، لكن إذا أردت أن تبحث بحثا مدقق وتنشره ويكون لك فائدة بشيء تقتنع به لابد أن تتوسع في البحث مرة وتصل إلى أقصى الموجود، هذه الطبقة من الشروح تجد أن اعتمادهم على أربعة أنواع من الكتب:
في اللغة اعتمدوا على القاموس دون غيره.
وفي شروح الأحاديث اعتمدوا على شرح المشكاة الذي هو مرقاة المصابيح لعلي القاري وفتح الباري ونيل الأوطار، هذا الثاني.
الثالث في نقلهم للمذاهب الفقهية اعتمد بعضهم على بعض، السلسلة تدور، هذا يأخذ من هذا، وهذا سبق هذا، وإلى آخره.
الرابع في مسألة التحقيق والتحريم إذا قال الراجح فهو يرجِّح بحسب ما تاح له في ذلك الوقت بحسب وضعه، تارة تجد أنه يقول أن هذا واجب تارة يقول أنه مستحب، وكلما كان أقوى في الأصول وفي الاستدلال وفي الاجتهاد كلما كان نظره أدق، من لم يدرك علم الأصول مثل من أدرك علم أصول الفقه كالشوكاني، ليس بمنزلة من أدرك علم الإسناد والصحيح من الضعيف مثل من لم يدرك ذلك في الشروح.
فإذن ليس كل ما قيل في شروح الأحاديث هذه المتأخرة مسلم بل لابد للباحث لا يقتصر عليها ليصل إلى كلام المتقدمين.
أغرب من ذلك أن يقتصر الباحث على كلام بعض المعاصرين في نصوصهم، سواء في اللغة أو في العلوم المختلفة، لاشك أن هذا ضعف لأنه من حيث أخذوا فخذ، ومن حيث نقلوا فانقل، والحمد لله الآن ثورة علمية كبيرة بوجود هذه الكتب بينا، فلابد للباحث أن يصل إلى أوائل المسائل.(1/21)
هذه الكلمات لعلها تفتح مجالا في إقبالة هذه الدروس على تنشيط كل واحد منكم وممن يسمع هذا الكلام في البحث، فطالب العلم ما يشتاق للعلم يتحرك فيتفاعل معه إلا بالبحث، لابد أن يقسم أمره على هذه الأقسام الثلاثة:
لابد من طلب العلم على الأشياخ.
لابد من المطالعة والقراءة لتستفيد.
لابد من بحث مسائل تتنقح عندك وتتضح الصورة ويكون عندك شغف بالعلم.
وكلما كنت أرغب في البحث كلما كان رغبك في العلم وصلة بالكتب أعظم.
أسأل الله جل وعلا أن يقويني وإياكم في العلم والتحصيل، وأن يذكِّرنا منه ما نسينا إنه سبحانه جواد كريم.
أسأله جل وعلا أن يثبت العلم في قلوبنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يذكِّرنا بالعلم والعمل جميعا وأن يختم لنا بالرضا إنه جواد كريم.
سبحانه نسأله وهو مجيب بدعوة الداعي إذا دعاه.
كما أسأله جل وعلا أن يبارك في أعمار علمائنا الذين عن طريقهم فهمنا العلم ونبت لنا أجنحة طرنا بها في سماء العلم، وأسأله سبحانه أن يرحم المتقدمين من علمائنا الذين أفادون بمصنفاتهم وبعلومهم فبيننا وبينهم سبب وثيق وصلة عظيمة ألا وهي صلة العلم ولهم منا الدعاء دائما: ربما اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
[الأسئلة]
س1/ نرى هناك من كبار علماء الإسلام في القديم والحديث من لهم قدم راسخة في العلم وقد فقدوا البصر منذ الصغر، فكيف حصلوا هذا العلم دون الإطلاع على الكتب؟(1/22)
ج/ الجواب مختصر، المعروف الذي شرح الجلالين الشرح في فقه الشافعية كان في الليل كان أعمى البصر كان في الليل تقرأ له زوجته، لابد أن يقرأ عليه، الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله الجد ورفع درجته كان يقرأ عليه من الشباب الشيخ عبد العزيز بن مرشد كانا متزاملين يقرأ عليه الكتب، في دروسه يقرأ عليه خاصته من الطلبة يحضرون بعد العشاء هو يعرف مظان البحث؛ لأنه مر عليه كتب كثيرة يقول هات بالكتاب الفلاني ابحث فيه، فمن فقد البصر فبالعلم يكون من أولوا البصيرة فهم أولوا الأبصار إذا كانوا علماء.
س2/ ما صحة قوله صَلَّى الله عليه وسلم نهى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أن يبرك أحدكم كما يبرك البعير؟
ج/ هذا ليس على هذا اللفظ هو هذا الحديث مشهور معروف يعني مشهور التداول لا مشهور المعنى الاصطلاحي «لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير» هذا هو القدر المحفوظ، ثم اختلفت الرواية في بقية الحديث «وليضع يديه قبل ركبتيه» ورويت «وليضع ركبتيه قبل يديه» والعلماء اختلفوا أي هذه الروايات هو الصحيح.
والصواب عندي أن كل هذه الروايات فيها اضطراب لا يصح منها شيء؛ بل الزيادات هذه كلها مضطربة، والثابت «لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير»، وإذا تقرر ذلك فإن النهي في هذا الحديث عن مشابهة البعير في هيئة البروك، في هيئة البروك؛ لأنه نهى عن بروك كبروك البعير (لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير) فظاهر من الحديث أنَّ النهي عن أن يبرك المصلي بروكا كبروك البعير، وبروك البعير له هيئة، وهذه الهيئة قد تكون بتقديم اليدين على الركبتين، وقد تكون بتقديم الركبتين على اليدين.
والهيئة: أن يكون الأعلى المؤخرة، وأن يكون الرأس منخفضا.
هذه هي الهيئة المنهي عنها؛ يعني إذا سجد أحدكم فلا يبرك بروك البعير يعني لا يجعل رأسه منخفض يصل إلى الأرض هكذا مثل البعير إذا أراد أن يبرك ويبقى ظهره عالي؛ يعني هكذا هذه صفة بروك البعير، فيها إضرار بالمصلي.(1/23)
وهذا داخل تحت قاعدة عامة وهي أن: المصلي لا يشابه الحيوانات ولا يماثلها في هيئة الصلاة.
فنهى عن إقعاء كإقعاء الكلب، وعن نقر كنقر الغراب، الغراب ينقر بإيش؟ ينقر بمنقاره، هل نقول إن المنقار هو الأنف هو أشبه شيء بالمنقار ونقول إن معناه أن لا يجعل أنفه على الأرض؟ لا، العلماء فهموا من نقرة الغراب هذه من السرعة، الغراب السرعة ويرفع رأسه، وافتراش الكلب وأشباه ذلك؛ يعني ينهى في هذا الحديث عن الهيئة.
والهيئة هذه قد تحصل بتقديم اليدين على الركبتين؛ يعني في ابن آدم، وقد تحصل بالعكس.
فإذن المقصود من السنة في ذلك أن لا تشابه البعير في هيئة البروك، إن قدمت يديك على رجليك ولم تشابه فالأمر واسع، وإن قدمت الركبتين ولم تشابه فالأمر واسع؛ لكن لا تشابه البعير في هيئة البروك.
لهذا ذكر الترمذي في جامعه حينما ساق الحديث قال: وقال بعض أهل العلم يقدم يديه على ركبتيه، وقال آخرون يقدم ركبتيه على يديه، والأمر في ذلك واسع عندنا. كأنه [أشار] إلى ما ذكرنا.
هناك بحث لغوي بحثه بعضهم هل ركبتا البعير في رجليه أم في يديه؟ وهذا في الحقيقة بحث مفيد لغوي؛ لكن هو خارج عن محل الفقه عند التدقيق؛ لأن المقصود الهيئة، الرُّكَب إذا كانت في يدي البعير أو كانت في رجليه هيئة البعير واحدة وهو أن الرأس منخفض والأعلى مرتفع.
س3/ قول ونسأله عن سؤال عن حديث أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه الألباني وهو في ما معناه إن القرآن يأتي يوم القيامة ويقول لصاحبه مخاطبا له يا ربّ ألبسه به حلة في الآخرة.
ج/ الحديث صحيح وله شواهد متعددة في معناه.
ويسأل هل هذا يدل على أن القرآن مخلوق؟(1/24)
والجواب أن هذا لا يدل على أن القرآن مخلوق إن الله جل وعلا يجعل القرآن ممثلا في هذا الشيء، وهذا ليس المقصود منه إن القرآن مخلوق وأنه يتكلم لأنه مخلوق وبمثل هذا احتج المعتزلة بمثل هذا الحديث والحديث الآخر «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غيايتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما» هذه الحاجة هذه بلسان المقال لكن الله جل وعلا يجعل القرآن كذلك يعني عمل صاحب القرآن تلاوة صاحب القرآن يجعلها كذلك، مثل العمل الصالح يأتي الإنسان في قبره، لهذا له نظائر، مثل الوزن العمل الصالح يوزن في الميزان.
س4/ هل معنى الإطلاع على الكتاب قراءته كلِّه أم معرفة منهج المؤلف فيه؟
ج/ قراءة كل كتاب صعب؛ لكن تعرف الكتاب إيش فيه، تعرف منهج المؤلف، تعرف البحوث التي فيه، بحث بحوثه متميزة غير متميزة، إذا كان كتاب في الفقه من أين درسه هو، هل هو متأخر متوسط متقدم، هذا من شروح الأحاديث هل هو مطول يطول في الأمثلة ما يطول، هل هو يميل إلى العقليات يعني تعرف منهج المؤلف.
س5/ كيف يجمع طالب العلم بين فهم وإدراك أصول العلوم وهي فيما يبدو أنها كثيرة ومتشعبة ومعظمها اجتهادات كتّاب وبين العلوم، نرجو ذكر النمرة المرجوة؟
ج/ لاشك أن طالب العلم يتجه إلى العلوم نفسها، لكن إن كان عنده قدرة للبحث، البحث على ما ذكرنا والذي ذكرناه على هذا التوسع لا يناسب الأكثرين لكن لابد من ومعرفتها، المقصود العلم نفسه كما عند الإنسان قدرة على البحث ليس معناه أن البحث فرض؛ لكن البحث مساعد إن استطاعه أو يجاوزه إلى ما يستطيعه.
س6/ كيف السبيل إلى العلم الذي يورث الخشية من الله عز وجل؟(1/25)
ج/ لقد سألت عن عظيم العلم الموروث عن المصطفى عليه الصلاة والسلام يورث الخشية كما قال جل وعلا ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ?[فاطر:28]، فمن أخذ العلم الموروث عن النبي عليه الصلاة والسلام وهو العلم بالقرآن وبحديثه عليه الصلاة والسلام وتأمَّل في ذلك فإنه يورثه الخشية، فقد قال بعض السلف: طلبينا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله. يعني طلبناه في زحمة الشباب والتنافس ثم لما طلبوه وعلِمُوا ما أنزل الله جل وعلا على رسوله وعلموا ميراث المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي هو العلم جاءتهم الخشية، وجاءهم الإخلاص وجاءهم الإخبات، وهذا معنى قول آخر: طلبنا العلم وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية بعد، والنية والإخلاص هي أن يرفع الجهل عن نفسه، رفع الجهل بحق الله جل وعلا أو الجهل بسنة النبي عليه الصلاة والسلام أو الجهل بكيفية عبادته ربه جل وعلا، إذا نويت وقصدت رفع الجهل عن نفسك فهذا هو معنى الإخلاص في العلم، معنى النية «إنما الأعمال بالنيات» النية الصالحة في العلم أن تنوي رفع الجهل عن نفسك، لا تريد الترفع زيادة المعارف، تنوي به الشهادة، تنوي به الوظيفة، هذه كلها نيات للدنيا، النية الصالحة تنوي رفع الجهل عن نفسك، فإذا آنست من نفسك رشدا وأنك ستحصل إن شاء الله فتنوي مع ذلك رفع الجهل عن غيرك، وبثّ ميراث النبي عليه الصلاة والسلام وتبليغ العلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال بلغوا عني ولو آية، فرُبَّ مبلغ أوعى له من سامع وقال أيضا عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داوود وغيره «نضر الله أمرؤا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى له من سامع» وهو حديث صحيح، وهكذا فإذن النية الصالحة لطلب العلم أن ينوي المرء رفع الجهل عن غيره، أهله في البيت الذين يخالطونه، ولذلك العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء، لم؟ لأنه لا يتصرف إلا بعلم إن أصاب بعلم وإن خالف فهو يخالف بعلم،(1/26)
يعرف معنى الاستغفار إذا استغفر، ويعرف معنى الطاعة إذا أطاع والصواب في هذا وهذا، ولذلك أكثر الناس خشية العلماء، جعلني الله وأياكم منهم ووقانا شرور أنفسنا وسيئات أعملنا.
س7/ رجل توضأ وأكل طعاما ثم صلى المغرب، ولما حان وقت صلاة العشاء تبين أن في الطعام الذي أكله لحم إبل فما ذا عليه؟
ج/ يعني صلى المغرب وهو قد أكل لحم إبل يتوضأ ويعيد الصلاة؛ لأن لحم الإبل ناقض من نواقض الوضوء على الصحيح لقوله عليه الصلاة والسلام «من أكل لحم جزور فليتوضأ».
وهل يلزم السؤال عن نوع اللحم قبل الأكل منه؟
إذا شك يسال والمرء إذا كان حَاطِتْ للناس لحم إبل يقول لهم بطريقة مهذبة؛ فيقول لهم لحم الإبل مفيد فقدمناه لكم وأشباه ذلك.
س8/ هل يدخل من فاتته الصلاة مع من يقضي أو من يصلي النافلة؟
ج/ من فاتته الصلاة يصلي وحده، أو يتصدق عليه أحد فيصلي معه، فإن صلى مع من يصلي النافلة أو مع من يقضي ممن لم ينوي الإمامة فالصلاة صحيحة؛ لكن تركها أولى لعدم مجيئها في السنة.
نكتفي بهذا القدر، ونلتقي إن شاء الله الأسبوع القادم، والدروس إن شاء الله تبدأ والخميس بعد الفجر عندنا، والسبت إن شاء الله نبتدئ في الطحاوية وفقني الله وإياكم لما فيه رضاه.
(((((
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري.(1/27)
- - - - - - - - - - -
أدب السّؤال
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[شريط مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للخيرات وجنبنا سبل المنكرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جلّ وعلا أن يجعلني وإياكم ممن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، وهذه الثلاث هي عنوان السعادة، من وُفّق إليها فقد أوتي خيرا كثيرا؛ من إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، ومن حيزت له هذه الثلاث فقد حيز له خير الدّنيا والآخرة، أسأل الله جلّ وعلا أن يجعلنا وإيّاكم من أهلها.
هذه الكلمة موضوعها عن: أدب السّؤال. والسؤال هذا المقصود به سؤال أهل العلم أو سؤال المعلّمين عمّا يحتاجه الناس.
وإلاّ فإنّ عموم لفظها يشمل سؤال الرّب جلّ وعلا بالدعاء؛ لأنّ سؤال الله جلّ وعلا له أدب وله أحكام ينبغي للعبد أن يحيط بها وأن يكون مراعيا لها؛ لأنّ كثيرا من أسباب ردّ إجابة السؤال أنْ يكون السؤال فيه اعتداء؛ يعني من الله جل وعلا أن يكون السؤال فيه اعتداء، أو يكون السؤال على غير المشروع أو أن يكون السائل لم يحسن المسألة فقد قال عمر رضي الله عنه في سؤال الله جلّ وعلا: إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء فإذا وفقت إلى الدعاء جاءت الإجابة.
موضوعنا عن أدب السّؤال الذي هو سؤال أهل العلم، والحاجة ماسّة إلى معرفة آداب سؤال أهل العلم، ما طريقة سؤالهم، وعمّا يُسألون، وكيف يكون السؤال، وكيف تتلقى الإجابة؟ وما ينبغي للمسلم من توقير أهل العلم وعدم الإلحاح عليهم بالمسائل ونحو ذلك من الآداب.(2/1)
وأهل العلم فيما مضى قد دونوا كثيرا من هذه الآداب في مصنفاتهم في ”أدب العلم والتعلم“ وفي ”أدب الطالب مع شيخه“ وفي ”حقوق أهل العلم بعامة“ والله جلّ وعلا قال في محكم كتابه ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ?[التوبة:71]، قال (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) يعني بعضهم يحبّ بعضا وينصر بعضا ويُقيل عثرة بعض، ومن أكثر أهل الإيمان حقا في الوَلاية والمحبة والنُّصرة أهل العلم؛ لأنهم لما شهد الله جلّ وعلا لهم به هم أخصب أهل الإيمان لأنّ الله قرنهم بنفسه وملائكته بالشهادة له بالتوحيد حيث قال جلّ وعلا ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[آل عمران:18]، فأولوا العلم من الناس هم الصفوة كما قال أيضا سبحانه ?يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ?[المجادلة:11] فالله جلّ وعلا رفع المؤمنين على الناس جميعا رفعهم درجات، ورفع أهل العلم من المؤمنين على أهل الإيمان عموما درجات، فهم الخاصة وهم الصفوة؛ لأنّ معهم من فهم كلام الله جلّ وعلا وفهم سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جعل قلوبهم أكثر نورا من قلوب غيرهم؛ لأنّ النور بالعلم، والنور إنما هو بفقه القرآن والسنة ?قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ?[المائدة:15]، من فقه القرآن وفقه السنة كان أعظم نورا في القلب وكان أعظم حقا لحقوق أهل الإيمان.(2/2)
الملاحظ أنّ الحريص على الخير من الناس يسأل أهل العلم، يسألهم في مسائل فقهية فيما يواجهه، أو يسألهم في مسائل اجتماعية فيما يواجهه من مشاكل في بيته أو في عمله أو نحو ذلك، ويسأل المتعلمُ المعلمَ، لكن وجدنا كثيرا من الأسئلة قد خرجت عما ينبغي من مراعاته من توقير أهل العلم من مراعاتهم وعدم الإخلال بحقهم، فتجد أن من الناس من يخوض في سؤاله أهلَ العلم أمورا لا ينبغي أن يخوض فيها.
وأصل كثرة السؤال وكثرة المسائل قد جاء النهي عنها فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» قال: أهل العلم قوله (كثرة مسائلهم) يعني عما لم يقع وعما لم يأت بيانه في الكتاب المُنَزَّل، ولهذا جاء في الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إنّ أشدّ المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين فحرّم عليهم لأجل مسألته»، وقد قال جلّ وعلا ?لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا?[المائدة:101]، والأحاديث التي جاءت في النهي عن كثرة السؤال متعددة وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض كلها في القرآن. قد قال جلّ وعلا ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ?[البقرة:222]، ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي?[البقرة:186]، إلى آخر هذه المسائل، مجموع ما سأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين هم منه مقربون إنما هي ثلاث عشرة مسألة وكلها في القرآن، وقد كان الصحابة من توقيرهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كراهتهم لكثرة المسائل يحبون أن يأتي الرجل من البادية ومن(2/3)
خارج المدينة حتى يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيستفيدوا من السؤال ومن الجواب، وقد جاء أيضا في الحديث الصحيح: «إنّ الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» وقد قال أيضا الحجاج بن عامر الثُّمالي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم وكثرة السؤال» فالأحاديث دالة على أن كثرة الأسئلة لأهل العلم إنما ذلك داخل في المكروه إلا ما يحتاج إليه العبد فيما يأتي بضوابطه، والله جلّ وعلا أمر المؤمنين بأنْ يسألوا إذا جهِلوا، وقد قال سبحانه وتعالى لما أنكر كفار قريش أن يكون الرسول بشرا رجلا، وقالوا: إن الرسول يجب أن يكون ملكا. قال سبحانه وتعالى في سورة النحل ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ?[النحل:43-44]، هذه الآية أمر الله جلّ وعلا فيها أهل الشرك كفار قريش وغيرهم أن يسألوا أهل الذكر؛ يعني أهل الكتاب عما إذا كان الرسول الذي جاءهم بشر أم هو ملك؟ فإذا كان الرّسول الذي جاءهم بشرا فاقبلوا رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنّه بشر قد خلت من قبله الرّسل، وقد وصف أهل الكتاب بأنهم أهل الذّكر؛ لأن الكتاب الذي أنزله الله جلّ وعلا هو الذكر، وأعلى الذكر القرآن كما قال سبحانه ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?[الحجر:9]، وهنا في هذه الآية قال جلّ وعلا (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) قال العلماء: هذه الآية نازلة في سؤال أهل الكتاب ولكنّ عموم لفظها يشمل سؤال أهل القرآن وأهل السنة؛ لأنهم أحق(2/4)
ببيان ما نزل الله جلّ وعلا، ولهذا قال (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره عند هذه الآية: وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم، وأنّ أعلى أنواع العلم؛ العلم بكتاب الله المنزّل، فإنّ الله جلّ وعلا أمر من لم يعلم بالرّجوع إلى أهل العلم وأهل الذكر في جميع الحوادث، وفي ضمن ذلك تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر الله جلّ وعلا بسؤالهم وأنه بذلك يخرج الجاهل من التبعة.
إذن الأصل موجود في كتاب الله وأنّ المرء إذا جهل شيئا ولم يعلم حكمه فإنه يسأل عنه أهل العلم، وإذا سأل عنه أهل العلم -أهل الكتاب والسنة الذين رسخت قدمهم في ذلك- فإنّ تبعته في ذلك تزول؛ لأنه قد سأل مَنْ أمر الله جلّ وعلا أن يسأل، فمن جهل شيئا وسأل عن حكمه فأفتي من ثبت، فإنّ تبعته قد زالت وقد برىء من التبعة، فإذا امتثل ما أفتى به فيكون قد زال عنه المحذور؛ لأنّه امتثل ما أمر الله جلّ وعلا به في قوله ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?(1).
سؤال أهل العلم وسؤال أهل الذكر له أحوال، الناس يحتاجون إلى أن يسألوا ولابد، ولكن هذا السؤال من حيث هو له أحوال:
حالٌ من جهة السائل.
وحالٌ من جهة المسؤول.
فالسائل ينبغي له أن يراعي -تأدبا وحتى يصل المسؤول إلى الجواب الموافق للحقّ إن شاء الله- يجب على السائل أنْ يراعي آدابا وأن يراعي أشياء منها:
__________
(1) النحل:43، الأنبياء:7.(2/5)
من تلك الأشياء التي يجب أن يراعيها السائل أن تكون مسألته واضحة غير ملتبسة –يعني أن يتبيّن المسألة قبل أن يسأل- والملاحظ أنّ من المسلمين مَنْ إذا جاء على باله مسألة أو واجهته مشكلة فإنه يأتي أهل العلم ويسألهم مباشرة دون أن يستحضر ويستعد لتفاصيل هذه المسألة، أو مباشرة يرفع الهاتف ويسأل العالم عما عرض له دون أن يستحضر ما اتّصل بهذه المسألة، فإذا استوضح المسؤول أتى العالمَ وسأله عن بعض التفاصيل قال: والله ما أعرف هذا فلان أوصاني، هذا كذا، لا أدري.
فلابدّ للسائل أن يستحضر تفاصيل المسألة قبل أن يسأل؛ لأنّ السؤال تسأل فيه عن حكم الله جلّ وعلا الذي إذا أدركته؛ يعني أدركت الحكم فقد برئت من التبعة، والمسؤول - العالم الذي يسأل - لابد أن تكون المسألة عنده واضحة وإلا فكيف يجيب على شيء ليس بواضح.(2/6)
ولهذا ينبغي للسائل أوّلا أن يستحضر السؤال جيدا وأن يعدّ له في عبارة ملخصّة، لا تظنّ أنّ المسؤول، المفتي، طالب العلم الذي تأهّل للجواب لا تظنّ أن الذي يتصل عليه واحد فقط أو اثنين، اليوم مع الهاتف صار الذي يتصل من الداخل أو الخارج بأهل العلم عشرات الآلاف في السنة مثلا، وفي اليوم الواحد قد يتصل عشرين أو ثلاثين، فلهذا كان من الأدب الذي ينبغي مراعاته أن يستحضر السائل ضيق وقت المفتي، ضيق وقت المجيب على السؤال، فعليه أنْ يُعدّ السؤال بعبارة واضحة لا لَبْس فيها ولا غموض، ويجتهد في أن يعين المفتي على وقته، وحتى تكون المسألة أنفع؛ يعني لا تظن أن هذا الذي أجابك أو ردّ عليك بالهاتف من أهل العلم أنه لك وحدك، بل اعتقد أنّ الذي يسأل أهل العلم في اليوم عشرات الناس يسألون في كل وقت، فلابدّ من رعاية الحال والتأدبّ معهم في اختصار المسألة، وتقبّل الجواب بحسب ما أورد، فإذا كانت المسألة واضحة كان الجواب واضحا، ولهذا ترى أنّ أسئلة جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على وضوح المسألة وما ينبني على وضوح المسألة من وضوح الجواب، قال جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «أخبرني عن الإسلام» سؤال ملخص وواضح، «أخبرني عن الإيمان»، «أخبرني عن الإحسان؟» وعن أشراط الساعة قال«وما أمارتها» ونحو ذلك، فوضوح السؤال وقلة ألفاظه باستحضار تفاصيله ووضوح السؤال قبل أن تسأل هذا من الآداب التي ينبغي مراعاتها، وكثيرا ما تكون الإجابة غير واضحة؛ لأنّ السائل لم يحسن السؤال، فلو أحسن السائل الاستعداد للسؤال فسأل لكانت الإجابة واضحة.(2/7)
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في السؤال أنْ لا يسأل السائل أهل العلم عن شيء يعرف جوابه: بعض طلبة العلم، أو الذي لديهم إطلاع لديهم معرفة، يكون قد بحث المسألة وعرف ما فيها من الأقوال ونحو ذلك، فيأتي ويسأل، فإذا سأل وأجيب بجواب موافق لأحد الأقوال أتى باعتراضات، يقول: هذا ما دليله؟ هذا الدليل قُدح فيه بكذا، أو وجّه بكذا، قال بعض أهل العلم فيه كذا، ونحو ذلك. ففرق ما بين أن تسأل لتستفيد أو لتعلم وأنت لا تعلم وما بين أن تناظر.
والعالم أو المعلم ليست وظيفته ولم يفتح لك المجال لتناظره، ابتدئ له وقُل: أنا أريد أن أناظرك في المسألة الفلانية.
ما معنى المناظرة؟ معناها أجادلك فيها تعرف ما عندي وأعرف ما عندك حتى نصل إلى الحق، وهذا غير مطلوب مع عدم رعاية الأدب مع أهل العلم؛ لأن في ذلك بعض التّعدي على حق أهل العلم إلا إذا أفصحت له بأنك تريد أن تبحث معه هذه المسألة، فإذا أذن لك بالبحث فإنه عند ذاك تخرج المسألة من كونها استفتاء وسؤال وجواب إلى مسألة بحث واستفصال، وهذا أيضا يكون عند المتعلمين في مجالس العلم، فإنه يكون عنده معرفة بالجواب ولكن يسأل ليختبر -بعض الأحيان- أو ليعلم غيره بأنه سأل سؤالا جيدا ونحو ذلك.
وهذا الوقت الآن تقاصر عن أن نسأل عن شيء قد علمنا، فلنسأل عن شيء لم نعلمه، فلهذا كان مما ينبغي التأدب فيه أن لا تسأل عن شيء إلا عن شيء لم تعلمه، وذلك لأنّ الله جلّ وعلا قال (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) إنْ كنت تعلم فلا تسأل؛ لأنه قد جاء عندك العلم ووقت المفتي أو العالم أو طالب العلم ينبغي أن يُصرف في أشياء كثيرة والواجبات الآن يتقاصر عنها وقت الكثيرين، فكيف بالاستطراد ونحو ذلك.(2/8)
من الآداب التي ينبغي مراعاتها أيضا في السؤال: أنْ لا تذكر للعالم قول غيره، بعض الناس يسأل أهل العلم بالهاتف -والهاتف الآن قرّب وأكثر من إشكالات الأسئلة- يسأل واحد وبعده يسأل الثاني وبعده يسأل الثالث والرابع، فهو يضطرب في المسألة، ثم بعد ذلك يذهب إلى شيء غير جيّد وهو أنه يذهب إلى أسهل تلك الأقوال، وهذا لا ينبغي، فإنه الذي ينبغي في السؤال أن تبحث عمّن تثق بعلمه ودينه في ذلك، كما قال أهل العلم: ينبغي للمستفتي أنْ يسأل من يثق بعلمه ودينه. فإذا وثقتَ بعلم فلان ودينه فإنّك تسأله ولا تسأل غيره؛ لأنك إذا سألت غيره فإنه قد يكون عنده من الجواب غير ما يكون عند الأول فتقع أنت في حيرة.
وفي حالٍ لك أن تسأل غير من سألت أولا، وذلك فيما إذا كان جوابه مشكل من جهة الدليل؛ إذا كان عند المرء معرفة ببعض الأدلة ونحو ذلك فأشكل عليه الجواب من جهة الدليل فإنّ له أن يسأل غيره لأنه ما اقنع بالجواب لا من جهة عدم مناسبته لحاله أو من جهة صعوبة الجواب أو أنه لا يناسب أو يريد أن يبحث عمن يخفف له؟ لا؛ ولكن من جهة أنه استشكل هل هذا حكم الله جلّ وعلا وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في المسألة أم لا؟ لفهمه من بعض الأدلة والأحاديث خلاف ذلك.
فإذن من الآداب ألاّ تسأل أكثر من عالم في المسألة لأنّ كثرة الأسئلة هذه:
أولا: تضيق وقت العلماء.
والثاني: أنه يوقع ذلك السائل في إشكالات، وكثير من الذين سألوا يقولون: احترنا ما ندري، هذا يقول كذا وهذا يقول كذا. نقول: أنت الذي أخطأت أوّلا حيث سألت أكثر من عالم، سل من تثق بعلمه ودينه وخذ بفتواه وتبرأ أمام الله جلّ وعلا؛ لأن الله جلّ وعلا أمرك بأن تسأل أهل الذكر وقد امتثلت بسؤال أهل الذكر، فلا تزد على نفسك ثقلا وحملا.(2/9)
من الآداب: أيضا أن لا تسأل حين تسأل بإلغاز في السؤال، مثلا هناك من يسأل ويقول: فلان من الناس حصل له كذا وكذا. وهو يريد أن يخرج عن مسألته بخصوصه إلى مسألة مشابهة، وهو يظن -هذا السائل- أنه إنْ أجيب على تلك فمسألته مثل تلك المسألة، فيقول مثلا: فلان لو حصل عليه كذا وكذا. ومسألته في الواقع تختلف عن تلك ولكنه يظن أنّ هذه وتلك سواء، فحتى لا يظن العالم أنّه هو الذي وقع في المسألة وهو الذي يحتاج إلى الجواب فإنه يعمم.
سؤال أهل العلم ليس فيه عيب بل هو شرف ويدل على حرص السائل على الخير ورغبته في إبراء ذمته وأن يكون متخففا من التبعة حين يلقى ربه جلّ وعلا، فحين تسأل لا تسأل أهل العلم بإلغاز، سَلْ عما وقع بوضوح ولا حرج في ذلك، فقد سألت بعض الصحابيات النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة إذا رأت الماء؛ عن المرأة إذا احتلمت ماذا يكون حكمها؟ والحياء لا يكون في السؤال؛ لأنّ الحياء محمود ولكن فيما إذا كان الحياء يبعدك عن معرفة حكم في الدين فإنّ ذلك غير محمود كما جاء في الحديث.
فإذن من الآداب التي ينبغي لنا أن نُراعيها أن تسأل السؤال الذي تحتاجه، وأنْ لا تظن أنّك إذا ألغزتَ بالسؤال وأجاب أنّ الجواب مطابق على مسألتك، لو قلت له المسألة بوضوح والسؤال أو الحادثة التي تريد أن تسأل عنها بوضوح يكون الجواب مختلفا تماما، فلا تكن ملغزا في سؤال أهل العلم؛ لا عن مسألة فقهية ولا عن أشخاص ولا عن أحوال، بل ينبغي أن يكون السؤال واضحا وذلك من توقير أهل العلم ومن السعي للوصول إلى الجواب الصحيح، أما أن نعمي على أهل العلم حتى نحصل منهم على جواب، فإن هذا لا يوافقه ما ينبغي من توقير أهل العلم، وأيضا لا تبرأ به أنت لأنك أوقعت العالم في الجواب، ولو عرف السؤال على حقيقته ومرادك منه لربما أجاب بجواب آخر، فأنت لا تبرأ.(2/10)
ولهذا نرى أن كثيرا من الإشكالات التي حصلت في تضارب أقوال بعض أهل العلم في بعض المسائل إما الفقهية أو المسائل الواقعة أو الاجتماعية أو نحو ذلك، إنما جاء من جهة من يسأل بسؤال ملغز معمى، أو يكون المراد وراءه وليس في ظاهره، وهذا لا ينبغي؛ لأنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمر واضح فتعدى هذا الأمر تعدى لما ينبغي من الأدب في السؤال.
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في السؤال أن يكون السائل يسأل لنفسه وأن لا يسأل لغيره: يأتي كثير من الأسئلة يكون فيها سائل يقول: أحد الأقارب أوصاني يسأل عن كذا وكذا. أو يقول: لو حصل لفلان -صديق لي في العمل- حصل معه كذا وكذا وأوصاني لأسأل له. لم هو لا يسأل؟ يختلف الحال لأنّ المفتي أو العالم لابدّ أن يستفصل، لابدّ أن يسأل؛ ما الذي حصل؟ هل حصل كذا وكذا؟ فإذا كان السائل غير من حصلت له المسألة فإنه لا يكون ذلك معينا على الجواب إلاّ فيما كان السّؤال مختصرا وكان المانع من سؤال السائل هيبة العالم أو الاستحياء، كما فعل علي رضي الله عنه حيث كان رجلا مذّاءً -يعني كثير المذي- فاستحيا أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته -يعني لأجل أنّ فاطمة رضي الله عنها زوج علي- فخشي أن يسأل وهاب أن يسأل واستحيا على رضي الله عنه أن يسأل في مثل هذا السؤال الذي له تعلق بالزوجة فأوصى المقداد أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه المسألة وهي كثرة المذي، فسأله فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم نقل الجواب إلى علي رضي الله عنه.
إذن الأصل أن لا يسأل المرء إلا فيما يخصه؛ لأنّ الجواب يختلف بحسب السائل وبحسب عرض السؤال، والناقل ليس دائما ينقل الصورة على حقيقتها، وكثيرا ما يحصل من الأجوبة ما ليس فيه دقة من جهة عرض السائل.(2/11)
من الآداب المرعية في السائل أنه إذا سأل أهل العلم في الهاتف أو في غير الهاتف فلا يُسَجِّل الجواب مكتوبا أو على جهاز التسجيل إلا بإذن العالم: وقد مرّ عليّ بعض الإخوة مرة أنْ سجّل لأحد أهل العلم جوابا ليس كما ينبغي، وهذا راجع إلى أنّ العالم يجيب على قدر الاستفتاء، ولو أستحضر العالم أنّ هذا يسجل وأن الجواب سيسمعه آخرون لكان جوابه غير الجواب الأول...
فمن عدم توقير أهل العلم وعدم رعاية حقهم بل من الافتئات على حقهم أن تسجل جواب أهل العلم بالهاتف أو كتابة ثم تنشره دون إذنه؛ لأنه هو الذي له الحق في أن تنشر فتواه على الملأ أو لا تنشر أو لا تسجل، فالسائل سأل فيما يخصه، فهل أذن العالم لك أن تسجل السؤال والجواب بالهاتف؟ لم يأذن، فإذا أردت أن تسجل فتستأذنه في البداية وتقول: أحسن الله إليك أنا محتاج للجواب مسجلا على الشريط والآن أريد أن أسجله. فإذا أذِن تكون أنت قد أتيت بما ينبغي من الأدب، ولم تكن ممن لا يوقرون أهل العلم أو يجعلون الأمر غير واضح لهم؛ فيستغل بعض الفرص فيسجل عليهم ما لا يرغبون في تسجيله، لهذا مرة من المرّات حصل مثل هذا ولما سئل قال: أبدا ما قلت كذا وكذا على تفاصيله، بل المسألة فيها تفصيل بنحو ما. السؤال والجواب في التسجيل واضح، لِمَ قال العالم إنّ المسألة فيها تفصيل؟ لأنّه استحضر من المسألة الآن فيه أخذ ورد معنا ذالك فيه إشكال لكنه ظن حين سأله السائل بالهاتف أنها لا يعدو عن اهتمام السائل بنفسه.(2/12)
إذن مما ينبغي من توقير أهل العلم -وقد أمرنا بتوقيرهم كما جاء في الأثر عن عدد من التابعين أمرنا بتوقير أهل العلم- ومن توقيرهم أن لا تفتئت عليهم بتسجيل أو كتابة وتنشر إلا بعد إقراره، حتى ما تسمعه منه في درس بشرح مسائل، لابد من تعرضه عليه فيقر أن ينشر أو يصور أو ينسخ أو يسجل إلى آخر ذلك، لابد من ذلك لأن ما يصلح للقليل قد لا يصلح للكثير؛ لأن الكثير يعني الأمة أو الناس تختلف طبقاتهم، قد يرعى العالم حين يتكلم الحاضرين؛ يرعى حال الذين أمامه، هذا لو استحضر أنه سيُنشر على الناس فيطلع عليه فئات من الناس وبعقول مختلفة لكان جوابه يختلف عن الجواب الأول، وبهذا ترون أن بعض الأسئلة التي يسأل فيها أهل العلم بالهاتف يكون الجواب مختلفا عما لو سئلوا مثلا في برنامج نور على الدرب، فيكون الجواب هناك في تفصيل وفيه دليل وفيه تعليل ونحو ذلك لأنه سينشر على الملأ، لكن الجواب لك يكون على حسب الحال يصلح هذا أو لا يصلح، يجوز أو لا يجوز، السنة كذا –باختصار-؛ لأنّ الوقت يضيق عن أن يفصل لكل أحد.
هذه من بعض الآداب المتعلقة بالسائل.(2/13)
لعلنا نضيف من الآداب المتعلقة بالسائل أنْ لا يسأل السائل عن أشياء لا يفهمها إلا الخاصة ويثير السؤال أمام العامة -أمام الملأ-: يعني في مثل هذه المحاضرة يأتي سؤال قد لا يعلم معناه ولا يفهم جوابه إلا فئة قليلة من طلبة العلم، فلم تسأل أمام الناس؟ كذلك إذا حضرت في مجلس عند بعض أهل العلم فإنّ المجلس يحضر فيه العامي والمتوسط المثقف المتعلم طالب العلم فلا تسأل العالم أو طالب العلم عن سؤال إنما هو للخاصة يعني ليس العامة، وقد قال علي رضي الله عنه: حدّثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله. وقد بوب البخاري في (كتاب العلم) من صحيحه بقوله: (باب من خصّ بالعلم قوما دون آخرين كراهيةَ أن يقصر فهمهم عنه فيقعوا في أشد منه)، مثال ذلك أن يأتي -في مثل هذا الجمع المبارك ممن هم حريصون على الخير والأجر والثواب- يأتي ويسأل عن بعض المسائل الدقيقة في العقيدة، الناس يُطلب منهم المسائل العامة فيما يجب عليهم من العقيدة؛ لكن لا ينبغي أن تسأل عن المسائل الدقيقة أمام من لا يفهم الجواب فيما لو أجاب المسؤول عن السؤال، مثلا الكلام على بعض أحاديث الصفات التي قد لا يفهمها البعض، مثلا الكلام على بعض الآراء في مواقف يوم القيامة والاختلاف فيها ونحو ذلك، والكلام على بعض دقائق المسائل في الفقه واختلاف أهل العلم فيها هذا يقول كذا وهذا يقول كذا، العامة إنما يحتاجون قولا واحدا بدليله يمشون عليه، ولكن السؤال الخاص إنما يكون لأجل هذا السائل ولمن هم في طبقته، ولهذا ينبغي أن تُفرق فرقا مهما بين السؤال والبحث -بين السؤال الذي تحتاج معه إلى جواب وبين بحث المسألة- فتارة يكون السائل يريد بحث المسألة في المقام ويعرضها بصيغة سؤال، وهذا غير مناسب، ولهذا نقول لا تسل عن أشياء لا يفهمها إلا الخاصة فمن أدب السؤال أن تسأل بما يناسب الحال بما يناسب المقام، وألاّ تسأل عن أشياء لا يستوعب الجواب عليها أكثر الحاضرين.(2/14)
من الآداب أيضا أنك إذا سألت فأجبت أو سمعت علما فإنّك تستفصل فيه أو تسترجع فيه حتى تفهمه: لأنّ بعض أهل العلم قد يكون جوابه سريعا، مثلا تسأل أنت وقد أتيت بأدب السؤال؛ فراعيت السؤال وأتيت بكلمات واضحة وتأنيت فيه واستوضحت الصورة والمسألة، فأوضحت على العالم فيكون الجواب سريعا، يكون جواب العالم ربما سريعا، فهنا ينبغي لك أنْ لا تأخذ ما علق بذهنك في هذه الحال بل إذا كان عندك اشتباه فتستفصل منه أو تسترجعه في الجواب حتى تفهمه، قد روى البخاري في صحيحه عن ابن أبي مُليكة أنه قال: كانت عائشة رضي الله عنها لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه. وقد بوب عليه البخاري أيضا في (كتاب العلم) من صحيحه.
فالأدب الذي كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم أنهم إذا سمعوا شيئا يَستشكل عليهم فإنهم يراجعون حتى يفهموا، حتى لا ينقلوا للناس نقلا خاطئا أو حتى لا يعلم بشيء غير واضح.
فإذن هذا ينبغي للسائل إذا أجيب ولم يتضح له جواب أن لا يترك السؤال على الجواب الذي هو غير واضح فيذهب يعمل بشيء غير واضح، بل يسترجع ولا بأس أن يقول: ما فهمت الجواب. أو يقول: هل كذا أو كذا. فيستوضح حتى يكون الجواب واضحا قارًّا في ذهنه.
من الآداب التي ينبغي للسائل مراعاتها أن يكون لبقا مع أهل العلم متأدبا معهم، وأن يكون لأهل العلم هيبة في صدره وتوقيرا في قلبه: فإنّك إذا زدت في احترام العالم وشعر بذلك منك فإنه يزيدك من العلم والجواب لأنك قد تحققت بالزيادة؛ يعني أصبحت متأهلا للزيادة؛ لأنّ دليل تأهّل طالب العلم للتفصيل في الجواب والاستفادة الكاملة من العالم أن يكون متأدبا معه، ما يأتي مثلا ويستعمل كلمات غير جيّدة أو كلمات فيها جفاء، بل يتأدب ويتحيّن الفرصة الجيّدة للعالم فيسأله.(2/15)
هنا تنتبه إلى أنّ أوقات العالم تختلف، فهناك وقت قد يكون مناسبا لك لا يكون مناسبا له، فيكون الجواب الذي جاءك بحسب حاله هو، قد يكون مستعجلا، قد يكون وراءه أمر، قد يكون وقت الصلاة قرب فيريد أن يستعد بوضوء أو نحوه، قد يكون وقت نومه، قد يكون عنده ما يشغله، قد يكون في البيت شيء أهمّه، قد يعالج في ذهنه مسألة من المسائل التي في المجتمع أو التي يريد أن يبذل فيها بعض الشيء فيكون ذهنه منشغلا، فينبغي أن تراعي حال العالم حيث تسأله فتقول له هل هذا وقت مناسب للسؤال أو أرجئ السؤال إلى وقت آخر، فإذا قال: أرجئه إلى وقت آخر. فيكون هذا زيادة في أدبك وأجر لك ويكون قد راعيت وتأدبت، وإذا أتى وقت آخر وسألته يكون مهيأ نفسه لأنْ يفصّل لك ويجيب المسألة بما ينبغي، فالمتصل دائما هذا وارد هو المرتاح، وأما المتصل به فلا يُدرى حاله، فهذا يظن أنه ينبغي له أن يقول العالم له كذا وكذا، وأن يرحب به بأعظم ترحيب وأن يفصل له أعظم تفصيل، لا يدري ما حال المتصل به، أحوال الناس في بيوتهم أو في أعمالهم مختلفة وقد يكون الذّهن منشغلا بتلك الحال فقد يكون وقد يكون، فينبغي أن يراعي ذلك وأن لا يظنّ أنّ المسؤول أو طالب العلم إذا سُئل أنه دائما ذهنه في نفس المستوى وفي نفس التأهيل بأن يجيب دائما جوابا مفصلا بأدلته إلى آخره، لهذا لو تذهب وترى في المدوّنة مثلا التي دُونت فيها أسئلة مالك وبعض أصحابه والأجوبة، وكذلك أسئلة الشافعي، وكذلك أسئلة أصحاب أحمد لأحمد، لا تجد الأجوبة متفقة من حيث التفصيل وعدمه، فتجد بعض أصحاب أحمد -لو رأيت المسائل المختلفة عن أحمد- تجده يسأله سائل فيكون الجواب: لا يصلح هذا، أكرهه. وفي مسائل أخر تجد أنه يفصّل، لِمَ في موضع اختصر وفي موضع فصّل؟ نحن نقرأ الكتاب لا نستحضر الحال التي سُئل فيها ذاك السؤال والحال التي سُئل فيها السؤال مرّة أخرى، وإنما نقول: لِمَ فصل في موضع وفي موضع لم يفصل وإنما أجاب بإجابة(2/16)
مختصرة؟ واقع الحال وواقع العالم النفسي والذهني والزمني والمكاني يفرض عليه أشياء كما سيأتي أيضا، ولهذا ينبغي أن يراعى ذلك في حال سؤال أهل العلم.
ابن عباس رضي الله عنهما حَبْر الأمة في القرآن وحِبْرها؛ يعني كثير العلم في كتاب الله جل وعلا بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، مكث زمانا طويلا تردّد في نفسه مَن المقصود بالمرأتين في قول الله جلّ وعلا ?إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ?[التحريم:4]، من المرأتان؟ قال ابن عباس: تردد ذلك في نفسي زمنا طويلا، وهِبت أن أسأل عمرا لأنّ عمر كان يحب ابن عباس وكان يقدمه في المجالس ويباهي به كبار الصحابة لما يظن ويلمح فيه من علم وتُؤدة وأدب وفهم عنده في الكتاب والسنة. قال ابن عباس: هبت أن أسأل عمر عن المرأتين اللّتين تظاهرتا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: حتى كان منصرفه مرّة من الحج فصحبته فقال لي: يا ابن عباس قرّب لي وَضوءا -يعني ماء-. فلما قرّبت له الوضوء قلت له في أثنائه يا أمير المؤمنين مَن المرأتان اللتان قال فيهما الله جل وعلا (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)؟ قال: فأجابني عمر فقال: عائشة وحفصة. وكان ابن عباس ربما توسد بردته في يوم حار عند باب أحد الأنصار ليستفيد منه علما، سمع عنده حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يتثبّت منه أو أراد أن يأخذه منه مباشرة، فيأتي فيطرق الباب فيقولون هو قائل -يعني نائم- أو هو في الدّار أو مثل ما يقول أحدنا اليوم هو مشغول أو نحو ذلك فانتظر، انتظر حتى خرج فلما خرج قال: يا ابن عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ متى وأنت هنا؟ فقال ابن عباس: منذ كذا وكذا. وكان يتوسد البردة وتسفي الريح التراب عليه تذللا في العلم واحتراما لأهل العلم، فلما رآه على(2/17)
هذه الحال انشرح صدر المسؤول أن يجيبه عما أراد وعظُم في نفسه، فكان ابن عباس إذا سأل أُجيب غير كثير ممن هم في طبقته من الصحابة رضي الله عن الجميع، ولهذا قال كلمته المشهورة: ذللتُ طالبا فعززت مطلوبا. يعني لمّا كنت طالبا كنت أذلّ لمن أستفيد منه ولكن لما أحتاج الناس إلي عززت مطلوبا؛ لأنه صار عندي من العلم ما ليس عند غيري. (1)
وقد قال ابن عباس لبعض الأنصار -وكان صديقا له- اذهب بنا يا أخي إلى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسألهم عن العلم ونستفيد منهم، فقال: ذاك الأنصاري يا ابن عباس أتظنّ النّاس سيحتاجون إليك وهؤلاء صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبار بين ظهرانيهم. قال: فتركت العلم والسؤال وذهب ابن عباس يسأل. ذهب كبار الصحابة فأتى زمن ابن عباس فيه هو من كبار صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاحتاج الناس إلى علمه وأصبح يجيب الناس بما فتح الله جلّ وعلا عليه ومنّ عليه من العلم، الشاهد من ذلك أنّ السائل والمتعلم يحتاج إلى أدب وهو مراعاة أهل العلم وأن لا يضيق بالعالم إذا لم يفتح له صدره دائما، بشر هو ، أحيانا يكون على حال وأحيانا يكون على حال أخرى؛ وهذا لعله من أسباب عدم إكثار الصحابة سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - تأدبا معه وتوقيرا له عليه الصلاة والسلام وحتى يكون ذلك أبلغ في الأدب معه عليه الصلاة والسلام.
هذا من جهة أدب السائل.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط.(2/18)
أما العالم فأيضا يحتاج إلى أن يكون -أو طالب العلم- معه أدب في الجواب، وأهل العلم يعلمون ذلك وهم الذين يعلمون غيرهم في ذلك، فإنْ كان من بعض طلبة العلم أو المنتسبين إلى العلم أو أهل العلم من لم يكن للسائل حفيّا أو اشتد على السائل أو وبّخه فلا يغضب السائل ويأتي -كما هو حاصل اليوم- يذهب ويقول فلان من المشايخ سألته ونهرني وقال لي كذا وكذا ليش نحن جَايِّين نطلب منه شيئا ونحو ذلك، هذا لا ينبغي لأنّ حال المسؤول ينبغي لك أن تعذره؛ لأنّه خاصة في هذا الزمن ليس في زمن الرياض أو المملكة منذ خمسين سنة، الذين هم في الرياض كلهم خمسة آلاف أو أربعة آلاف، الواحد يسأل سؤالا واحدا في اليوم، وقد يمر أيام ما أحد سأل لوضوح الأمور، الآن الهاتف كل لحظة يشتغل، والمسجد هذا سائل والثاني والثالث، والرسائل التي تحتاج إلى جواب، ونحو ذلك من المشكلات العظام أيضا التي تحتاج إلى علاج، وما أشبه ذلك.
فلابد أن نكون ملتمسين عذرا لأهل العلم ولطلبة العلم، لابد، وإذا كنا غير ملتمسين للعذر فإن هذا غير جيد في حقنا ومن ترك مراعاة الأدب؛ أدب السؤال وأدب الجواب.
أيضا العلماء يختلفون بعضهم يكون سهل الجواب، وبعضهم يكون غير سهل الجواب، وهذا راجع إلى طبيعته؛ طبيعته التي جعله الله جل وعلا عليها، فإذن السائل ينبغي له أن يلتمس العذر، وأن يتأدب وأن يوقر العالم ويستفيد من علمه بقدر ما يحب العالم وأن لا يقصيه في أموره.(2/19)
من الأدب المهم أيضا -أدب السائل- أن لا يحرج السائلُ العالمَ أو طالب العلم مثال ذلك مثلا أسئلة مرّت جاءني في أحد المحاضرات سؤال يقول: أسألك بالله وبوجهه وأقسم عليك أن تجيب على هذا السؤال. طيب المسؤول قد يكون له نظر في أنّه لا تناسب إجابة هذا السؤال على العامة، فأنت الآن أحرجته شرعا لأنّ من السنة إبرار المقسم؛ فإذا أقسم عليك أحد بالله فإنه من السنة أن تجيبه «من سألكم بالله فأجيبوه» فالآن أحرجته، هو يرى المصلحة الشرعية السؤال لا يعرض ولا يجيب عليه وأنت تحرجه شرعا في أن يجيبه، وهذا من غاية ما يكون من عدم رعاية الأدب وعدم احترام أهل العلم وطلبة العلم؛ لأنّك تريد أنت الإجابة لغرض في نفسك، ومثل هذا الذي يكون معه إقسام وسؤال بالله غالبا بل الأكثر والجلّ لا يكون هو الذي يريد أن ينتفع لنفسه، وإنما يريد أن يكون هذا جوابا لأشياء تتعلق بالمجتمع أو بالأمة بالرأي العام ونحو ذلك، يريد أن ينتشر الجواب عن ذلك، العالم أو طالب العلم قد يترك جواب بعض المسائل لغرض شرعي صحيح يرعاه، وقد يرعى من المصالح الشرعية ما لا يستبينه السائل، فإذا حرّج السائلُ طالب العلم في مثل هذا التحريج كان هذا في غاية ما يكون من الإساءة، فإما أن يجيب عليه العالم فيقع عدم المصلحة الشرعية، وإما أن يرتكب النهي، فبذلك يوقع العالم أو طالب العلم في الحرج في أي المفسدتين أدنى حتى يرتكبها هل يرتكب مفسدة الجواب أو مخالفة إبرار المقسم ونحو ذلك.
المسائل التي يُسأل عنها تنقسم إلى:
مسائل في التوحيد والعقيدة.
ومسائل فقهية.
ومسائل اجتماعية.
المسائل التي في العقيدة: تارة تكون غايتها بالبحث والفائدة، وتارة تكون لها مِساس بموقف سيكون في الواقع:(2/20)
تارة يكون البحث في مسائل التوحيد والعقيدة لغرض إفادة السائل؛ السائل يبحث عما يريد أن يستفيده، مثلا مسألة في التوحيد، معنى الشهادتين، واستفصال حول باب من أبواب كتاب التوحيد، أو مسألة من مسائل الصفات أو الإيمان بالقدر أو ما أشبه ذلك.
وهناك أسئلة يسأل لكي ينبني على هذا السؤال شيئا من التصرفات في نفسه أو في من معه سواء في داخل هذه البلاد أو في خارجها، فهنا ينبغي للسائل بل يجب عليه أن يبين للعالم الذي يسأله غرضه من السؤال وألا يدلس عليه؛ فيقول هذا السؤال لشخصي أو يقول هذا السؤال أريد أن أرسله إلى بلد كذا وكذا لكي ينتفع منه بعض من سألنا من هناك، مثلا أسئلة جاءت من الجزائر يختلف الجواب، أسئلة جاءت من مصر يختلف الجواب، إذا كان السؤال تبعثه من نفسك بنفسك يختلف جوابه عما إذا كان سينبني عليه عمل أمة، ينبني عليه عمل في المجتمع، يترتب عليه مصلحة أو مفسدة إلى آخره؛ لأنّ الحكم الشرعي الفرق بين العالم وطالب العلم والدّارس، الفرق بين المفتي والباحث أنّ المفتي يبني فتواه على أشياء كثيرة؛ يرعى النصوص ويرعى كلام أهل العلم ويرعى القواعد الشرعية ويرعى ما أمر الله جلّ وعلا به من الأصول وما نهى الله جلّ وعلا عنه، فيرعى أشياء كثيرة غير المسألة الموجودة في الكتاب، فقد يجد السائل المسألة موجودة في الكتاب موجودة في كتاب من الكتب ويذهب يطبقها على الواقع لا ليس الأمر كذلك، ولو كان الأمر لما احتاج أهل العقول أن يطلبوا العلم على أهل العلم وإنما يقرؤون ويُكتفى بقراءتهم، ولهذا قال بعض من تقدّم: لا تأخذ العلمَ عن صَحَفِي ولا القرآن عن مُصْحفي. (لا تأخذ العلمَ عن صَحَفِي) يعني عمن يقرأ في الصحف، والنسبة إلى الصحف صَحَفي وليس صُحُفي؛ لأنّ النسبة تكون إلى الصَّحيفة على وزن فعيلة وليست النسبة إلى الجمع؛ لأنّ القاعدة اللغوية أن النسبة تكون إلى المفرد لا إلى الجمع، فقال: لا تأخذ العلمَ عن صَحَفِي ولا القرآن عن(2/21)
مُصْحفي. يعني بَسْ الذي قرأ القرآن من مصحف وحفظ من المصحف لا تأخذ عنه القرآن، لابدّ أن يكون قد قرأ القرآن على شيخ أخذه عنه؛ لأنه هناك أشياء لا يدركها بقراءته في المصحف، كذلك العلم هناك أشياء لا يدركها بقراءته للكتب، ولهذا عاب بعض أهل العلم بعض الفحول في مسائل لأنهم اقتصروا على ما قرؤوا:
أخطأ ابن حزم في مسائل في الحج ما السبب؟ أنه قرأها وما حجّ ورأى المشاعر ورأى ما فيه الناس.
شيخ الإسلام ابن تيمية كتب منسكا من المناسك على ما هو موجود عنده في الكتب، ثم لما حجّ غيّر رأيه في مسائل كثيرة.
كذلك ابن القطان مثلا -أحد علماء الحديث المعروفين- لكنه لم يأخذ علم الحديث عن رواية وعن أهل العلم وإنما كان -ذكر ذلك الذهبي- كان أكثر أخذه لذلك عن طريق القراءة ووقع في أشياء كثيرة لا يقع فيها أمثاله من أهل العلم.
إذن هناك فرق بين أن يكون السؤال لحاله تخصك أنت، أو أن يكون السؤال لحالة عامة في مسائل العقيدة والتوحيد.
وكذلك في مسائل الفقه: إذا كان السؤال شخصي هذا له حال، وإذا كان السؤال ستنشره وسيبني عليه عمل أناس كثير هذا ينبغي أن توضحه للعالم حتى يتحرى في جوابه الأنفع للأمة، ولهذا بعض أهل العلم يفتي بفتاوى خاصة لفلان من الناس ويأتي هذا ويقول أفتاني الشيخ بكذا وكذا، فيذهب على أن الشيخ هذه فتواه وإذا سئل العالم يقول لا هذه فتوى ما أفتيت بها يعني للعامة وإنما أفتى بها لمسألة خاصة.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله -إمام هذه الدعوة عجّل الله له المثوبة ورفع درجته في الجنة- أفتى في بعض المسائل في مسألة معروفة في الطلاق مرة واحدة فقط مدونة موجودة، مرة واحدة وفي بقيتها يفتي على غير هذه الفتوى، في تلك المرة هل نأخذها ونجعلها قاعدة؟ لا؛ لأنه رأى من حال السائل وحال السؤال ما يجعله يفتي بتلك الفتوى.(2/22)
فإذن العالم قد يخصّ في حالة معينة بفتوى لو قيل له إنها ستنتشر لا يفتي بتلك الفتوى، وهذا مما ينبغي للسائل أن يرعاه، فيكون الأدب في ذلك أن تخبر العالم أنّ هذا السؤال خاص بي في مسائل التوحيد والعقيدة، أو أنّه سيبعث إلى بلد كذا وكذا وينتشر، أو نتدارسه نحن والإخوان وسنرتب عليه كذا وكذا في عمل في إنكار منكر إلى آخره، فهذا يختلف.
وبعض السائلين -وحصل مرارا، وأنا أدركت بعض هذه الأشياء مع الأسف- أنه يعتقد من الذكاء أن يُبهم السؤال ويستغفل العالم فيسأله حتى يقع في جواب، هو ما أوضح له الصورة، فيقول: مثلا إذا حصل من واحد أنه قال كذا وكذا فهل يكون مرتدا أم لا؟ هل يكون مبتدعا أم لا؟ هل يكون فاسقا أم لا؟ بعض العلماء خاصة بعد ما مرت تجارب يستفصل أو قد لا يجيب على السؤال، وبعضهم قد يجيب على ظاهره باعتبارها مسألة علمية عامة، لو سئل عن تنزيلها في الواقع ربما اختلف جوابه، فهذا من المهم أن تتبيّنه قبل السؤال، وأنْ لا تلغز أو تبهم وتظن أن هذا من الذكاء أو أنك أخذت منه جوابا، في الواقع أنت تأثمت بما ستنقل وتأثمت بوضع العالم، وقد حصل كما رأى بعضكم كثير من الاختلاف في الفتاوى في فترة مضت، هذا ينقل كذا وهذا ينقل كذا، وكثير منها راجع إلى أنّ السائل ما أعطى العالم الحقيقة في ما وراء كلمات سؤاله، إنما سأل سؤال عام ذلك ظنّ أنها مسألة علمية وما استفصل منه فأجاب على أنها مسألة علمية، فهذا ما راعى الآداب والتفريق بين المسألة العلمية وتطبيقها في الواقع، فلهذا أخذ هذا الجواب وحصل من الاختلاف والآراء المتضاربة ما حصل لأجل هذه المسائل.
إذن إذا كانت المسألة عقدية أو كانت المسألة فقهية فلابدّ أن ترعى الأدب فيها، وأن تفرق حين تسأل السؤال بين أن تكون شخصية أو عامة، وأن تبين ذلك للعالم الذي تسأله.
أحوال السّؤال(2/23)
السّؤال له أحوال، سؤال المسجد -بعد المحاضرة- يختلف عن سؤال المسجد بعد ما ينصرف العالم من الصلاة، يختلف عن السؤال في الجامعة، يختلف عن السؤال في درس يلقيه العالم، يختلف عن السؤال فيما إذا كان راكبا سيارته -يسمع بسرعة ويجيب-، فهذا السائل يأتي راغبا -ما شاء الله- والمسؤول يأتي يريد أن ينتهي؛ مثلا ألقى محاضرة زمنها كذا وكذا فهو يريد أن يكون الجواب على نحو ما، يأتي يسأل سؤالا هكذا عرضا ويأتيه الجواب فيأخذ هذا الجواب وهو صادق في أنّ العالم أجابه، لكن غير صادق في أنّ العالم فهم ما أراده بأبعاده وما وراء كلمات السؤال، ولهذا ينبغي أن نفرق -رعاية للأدب وإبراء للذمة- بين أحوال؛ السؤال سؤال المسجد بعد محاضرة له حال، سؤال المسجد بعد الإمامة له حال، سؤال بعد درس من الدروس في مجلس من مجالس العلم في الفقه أو في التوحيد له حال في الإجابة والاستفصال والرد إلى آخره، سؤال الجامعة، سؤال الهاتف له حال، سؤال السيارة له حال وغير ذلك من الأحوال.(2/24)
وقد ذكر لي بعض كبار السن أنه أراد مرة أن يسأل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله سؤالا في السيارة فأجابه الشيخ قائلا: إنّ السيارة ما فيها فتاوى إذا رُحنا إلى البيت فادخل واسأل أو إذا كنا في المسجد ادخل واسألني فيه. لماذا؟ لأنه راكب معه في السيارة فيعرض له أشياء هذا مرّ وهذا يسلّم وهذا... والمفتي ينقل عن الله جلّ وعلا وموقع عن رب العالمين حينما يجيب يقول: هذه فتوى الله جلّ وعلا في المسألة. ?يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ?[النساء:176]، هذا كلام الله جلّ وعلا، هذا حكم الشرع، فالمسألة عظيمة، ولهذا كثير من السلف هاب السؤال وردّ السائل وتردد، وتردد وقال: لا أدري. كثيرا، الإمام مالك رحمه الله كان يسأل ويجيب لا أدري وهو أبو عبد الله مالك بن أنس رحمه الله، أتاه سائل من مِصْرٍ بعيد قال: يا أبا عبد الله أتيتك من بلد كذا وكذا من أبناء لك أو إخوان لك يحبونك وحملوني أربعين مسألة، فقال مالك سَل فسأل المسألة الأولى فقال الإمام مالك: لا أدري، والثانية: لا أدري، والثالثة: لا أدري، أجاب عن سبع مسائل أو قيل أربع مسائل، وفي ثلاث وثلاثين أو ست وثلاثين مسألة قال: لا أدري.(2/25)
لو عالم يأتي ويقول اليوم هذا؛ لا أدري ولا أدري، سيقال: هذا ما عنده خبر ما عنده علم. قد يكون الحال غير مناسب قد يكون يريد أن يؤدب السائل وقد وقد... فقال هذا للإمام مالك: يا أبا عبد الله أتيتك من كذا وكذا وكلهم ينتظرون جوابا أأذهب إليهم وأقول: مالك يقول في ثلاث وثلاثين مسألة لا أدري. قال: قل لهم إنّ مالكا لا يدري. ما أبردها على القلب. لماذا؟ لأنه إذا أجاب يجيب عن الله جلّ وعلا، هذا حكم الكتاب والسنة، وهي مسألة تجلّ لها القلوب، ولهذا نهينا عن كثرة المسائل، وهذا مما ينبغي لنا أن نتركه –كثرة السؤال-؛ هذا سؤال كذا، سؤال كذا، سؤال كذا، في مكان واحد مائة سؤال مائتين سؤال، ذهن المسؤول يكلّ ويتعب وقد يضعف في آخره، ولهذا يأتي بالمسائل الكبيرة والكبيرة، ولا أحد يقدر يحلها؛ لا أدري، فالمسؤول بشر، العالم بشر، طالب العلم بشر، فينبغي أن يُراعى الحال وأن لا تكثر المسائل.
جاء في النصوص -ونختم بهذا حتى لا نطيل عليكم- جاء النهي عن كثرة المسائل وقد قال العلماء كثرة المسائل الناس تجاهها على أحوال؛ يعني على أقوال:
من الناس -وهو قول طائفة من المنتسبين لأهل الحديث- مَن لم يسأله وقالوا يكفينا ما عندنا من النصوص ولا نحتاج أن نسأل؛ لأنه نهينا عن السؤال، ويأخذون بعموم ما ورد في النهي عن المسألة والنهي عن كثرة المسائل «وإياكم والمسائل» «وإياكم والأغلوطات» ونحو ذلك مما جاء في الأحاديث، فأخذوا به على ظاهره فلم يسألوا، وهؤلاء أدى بهم ذلك إلى ألاّ يكونوا فقهاء وأن يكون فهمهم للشريعة قاصرا أو على غير السّداد، كما ذكر ذلك ابن رجب رحمه الله تعالى، هذا صنف، قالوا لا تسل عندك النصوص عندك الكتب ما يحتاج لأنّ السؤال منهي عنه وكثرة المسائل معيبة، فعندك إذا احتجت دور من الكتب وإذا لم تحتاج فلا تسل، وهذا الحال أو الفعل غير صواب.(2/26)
والفعل الثاني أو الحال الثاني: حال أهل الرأي الذين شقّقوا المسائل وسألوا عن أشياء لم تقع، وافترضوا أحوالا لم تقع في زمانهم، منها أشياء لم تقع ولن تقع أبدا؛ لأنها خيال أو لا يمكن أن تتصور إلا في الذهن أما في الواقع لا تتصور، ومنها أشياء تخيلوها ووقعت، ووقوع البعض لا يعني أنّ ما شققوه أنه مأذون به، -بالمثال يتضح الحال- بعض فقهاء أهل الرأي من الحنفية وغيرهم لهم كتب فيها الطريقة التالية: أرأيت إن كان كذا فمثلا يبدأ الكتاب، الوقف هو كذا، أرأيت إن كان كذا، فالجواب كذا، يعني أنه يسأل العالم مائة سؤال مائتين ثلاثمائة سؤال، كلها تشقيق للمسائل، فيه أشياء واقعة في أشياء غير واقعة، وبإيراد الحيل في هذه المسائل، وابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجل يسمع حديثه، فقال ابن عمر من السنة تقبيل الحجر، قال الرجل لابن عمر: أرأيت إن هناك ثَم زحام؟ قال: من السنة تقبيل الحجر الأسود. قال: أرأيت إن غُلبت عنه؟ قال: من السنة تقبيل الحجر الأسود. قال: أرأيت إن لم يمكني تقبيله. قال: دع أرأيت في اليمن -هو كان من أهل اليمن- من السنة تقبيل الحجر الأسود. فإذا تمكنت من تطبيق السنة فطبق ما تمكنت، لا تكثر من أرأيت إن حصل كذا أرأيت إن حصل كذا، وهذا يحرمه كثيرون يظنون العلم بكثرة السؤال، يسأل عن أشياء لا يعلم عن حكمها يسأل ويسأل، لا، العلم بالتعلم وإنما السؤال كاشف للعلم وليس أساسا في العلم لأنّ الله جلّ وعلا يقول ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?،(1) فإذا استشكلت فاسأل، إذا كنت لا تعلم فسل، وأما كل شيء تسأل عنه في موقع واحد تسأل عشرين ثلاثين سؤال، هذا غير محمود.
فإذن هذا القسم وهو السؤال عن أشياء لم تقع وكثرة المسائل باقٍ في النهي عنه فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم سؤال عن أشياء لم تقع.
__________
(1) النحل:43، الأنبياء:7.(2/27)
القسم الثالث وهو حال فقهاء الأمة فقهاء أهل الحديث ومن تابعوا حال السلف في ذلك: وهم الذين يسألون عن معاني الكتاب والسنة وعما يدخل في دلالاتهم من الفقه، هذا السؤال المحمود الذي من بحث عنه فهو الذي يرضى قوله وعمله تسأل عن معنى آية تسأل عن معنى حديث استشكلته فتسأل عن ذلك فهذا لا يدخل ضمن المنهي عنه، النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من نوقش الحساب عذب» فقالت عائشة: يا رسول الله أليس الله جلّ وعلا يقول ?فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7)فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا?[الانشقاق:8]، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذّب» (العرض) يعني أن يعرض عليه أن يحاسب بمعنى تعرض عليه، عملت كذا وكذا وسترتها عليك وعملت كذا وكذا وأثيبك عليها وهكذا، هذا عرض للمسائل، وأما المناقشة فإنّ معها العذاب لأنّ الله جلّ وعلا لا يناقش الحساب أحدا إلاّ عذبه كما قال عليه الصلاة والسلام «من نُوقش الحساب عُذّب»، هذا القسم محمود سؤاله، وهو الذي فعله أهل العلم ويفعلونه مع مشايخهم؛ يسألون عن أشياء تخصهم في دينهم؛ يستفتون، أو يسألون عن معاني الكتاب والسنة، ويسألون لرجاء نفعهم.(2/28)
من المسائل التي ينبغي أيضا أن تراعى في أدب السؤال ما يخص الذين يسألون أهل العلم في عقب المحاضرات أو الندوات: السائل الذي أَرسل السؤال في الورقة طبعا يضيق المقام أن تعرض جميع الأسئلة بعد محاضرة أو بعد ندوة لكن هو يحتاج إلى الجواب، وهذا الذي يفرز الأسئلة ينبغي أن يكون متأدبا مع العالم في السؤال، وأحيانا لا يرعى الأدب في ذلك بأن تُحجب بعض الأسئلة وتُعرض بعض الأسئلة، الأسئلة التي فيها مخالفة لرأي هذا الذي يفرز لا يعرضها والتي توافق رأيه يعرضها، هولم يؤتمن على هذا!! اُئتمن على أنّ المسألة التي تفيد السائل وتناسب الحال وله أن يقيم الحال حال المسجد يرعى المصلحة ويدرأ المفسدة أو ينظر لرغبة الشيخ أو العالم فيما يسأل عنه وما لا يسأل عنه هذا لابد منه، طيب، لكن أن يكون هو يختار ما يريده ويلغي ما لا يريده، هذا نوع من عدم الأدب مع أهل العلم في السؤال، وسببوا إشكالات كثيرة، فيأتي هذا ويستدعي عالم أو يطلب من عالم فيسأله عن أشياء هو يريدها، أو تأتي الأسئلة فيبعد بعض الأسئلة التي جوابها يعلم أن العالم يجيب هذا الجواب لكن هذا الجواب غير مرضي عنه، يعني أنت حكم على أهل العلم في أجوبتهم؟ هذا يسبب فرقة في الأمة ويسبب أشياء من عدم رعاية وتوقير أهل العلم.(2/29)
الذي ينبغي من الأدب للذين يسألون أهل العلم أن يسألوا الأسئلة النافعة، سواء كانت توافق ما عنده أو لا توافق؛ لأنّ العالم هو الذي سيجيب بما دلت عليه النصوص -إذا كان راسخا في العلم- والهوى بعيد عن أهل العلم، وهذا من تزكية الله جلّ وعلا لهم، ولهذا لا ينبغي لهذا الذي يفرز الأسئلة أن ينتقي على رغبته بل يسأل ويقول للعالم قبل أن يأتي الأسئلة إذا جاءت: ما الأسئلة التي تحب أن تعرض وما التي لا تحب أن تعرض؟ فيقول له الأسئلة التي فيها كذا وكذا لا تعرضها؛ لأنه قد لا يناسب عرضها أمام الناس في مسجد، منهم من يكون خالي الذهن أصلا عن بحث هذه المسألة، يأتي تعرض فيطلع على شيء هو في غنية عن أن يطلّع عليه.
إذن هذه المسألة بحاجة أن ترعى في الندوات والمحاضرات أن يكون الذي يفرز الأسئلة يرعى ما يرغبه العالم فيما يعرض وفيما لا يعرض، وألاّ يتحكم هو؛ لأنّ تحكمه يسبب بعض عدم رعاية توقير أهل العلم، لهذا نجد أنّ بعض المشايخ يعتذر عن بعض الندوات ويعتذر عن بعض المحاضرات، لمَ؟ لأنّه يخشى أن تأتي أسئلة لا يناسب الجواب عليها أمام العامة، مثل ما ذكرنا السلف ما أجابوا على كل سؤال في كل مقام، وإنما يختلف الجواب بحسب اختلاف الحال، يفصل في موضع، لا يفصل في موضع، يمتنع عن الجواب في موضع، إلى آخر ذلك.(2/30)
النبي عليه الصلاة والسلام كان يتكلم فأتاه رجل فسأله: متى الساعة؟ فلم يجبه عليه الصلاة والسلام وأكمل حديثه، ثم سأله: متى الساعة؟ وأكمل حديثه ثم قال: متى الساعة، فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السؤال ?يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا(42)فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا?[النازعات:42-43] ما يعلمها عليه الصلاة والسلام ?لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ?[الأعراف:187] جلّ وعلا، فلما ألحّ في المسألة كره النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك منه وقال «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»، هذا الجواب غير السؤال –صحيح؟- لأنّ السؤال كان بـ(متى) عن الزمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابه بقوله «إذا وسد» بعلامة من العلامات، وأشراط الساعة معلومة.
كذلك في قول الله جلّ وعلا لما سأل النبيَّ عليه الصلاة والسلام الناسُ عن الأهلّة كان الجواب ?قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ?[البقرة:189]، الصحابة –يعني بعضهم- سألوا وقالوا لمَ يبدأ الهلال في أوّل الشهر رفيعا ثم يكبر ثم يكبر حتى يستتم؟ يعني هل هم يفهمون وضع الأرض ووضع القمر لو فصل لهم إلى آخره لو فصل لهم؟ لن يفهموا ذلك، سألوا سؤالا لا تستوعب الجواب عليه عقولُهم فكان الجواب (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أجيبوا بشيء غير السؤال بما ينفعهم؛ وهو أنّ الأهلّة هذه مواقيت، لم يبدو كذا ثم يكون كذا، هذا عُدل عن الجواب عنه وفي هذا أصل شرعي في أنّ العالم قد يعدل عن الجواب إلى شيء آخر، ويأتي بعض الناس ويقول هذا هروب من الجواب، الشيخ ما أجاب هرب من الجواب، ليس هروبا من الجواب لأنّه لا يريد أن يجيب لخوفه من الجواب ونحو ذلك، لا، العالم مربي يربي الناس ويجيب بالأصلح لهم لما يرعى فيه المصلحة ويدرأ المفسدة.
هذه بعض ما يتعلق بالآداب التي ينبغي مراعاتها حين السؤال.(2/31)
وأسأل الله جلّ وعلا أن ينفعني وإيّاكم بما سمعنا وأن يجعلنا من المتأدبين الذين يريدون وجه الله والدّار الآخرة، وأسأله جلّ وعلا أن ينفعنا بعلمائنا، وأن يجعلنا من المتعاونين معهم على البرّ والتقوى والمتأدبين معهم والذّابين عنهم قول أهل السوء، وأسأله سبحانه لي ولكم العفو العافية والمعافاة الدائمة في الدّنيا والآخرة، وأن يختم علينا هذا الشهر الكريم بقبول وغفران، وألاّ يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأن يوفق ولاة أمورنا لما يحب ويرضى، هذا وصلى الله وسلم وبارك على من علمنا الخير وأدبنا أحسن تأديب نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وأشكر لكم حسن هذا الاستماع وحسن الإقبال، وأسأله سبحانه أن يجعلنا جميعا ممن غفر له أول ذنبه وآخر ذنبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
الأسئلة:
1- كيف ،وفق بين النهي عن كثرة السؤال وبين قول ابن عباس: أوتيته –عن العلم- بلسان سَؤول وقلب عقول؟ وأحسن الله إليكم.
الحمد لله، ذكرنا أن الأحوال ثلاثة: حال الممتنع عن السؤال، وحال من يفرع المسائل التي لم تقع، وحال من يسأل عن علم الكتاب والسنة.
ابن عباس في أسئلته كان يسأل عن علم الكتاب والسنة عن معاني النصوص، وقول النبي عليه الصلاة والسلام «فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» هذا حمل على وجهين:(2/32)
الأول أن يكون هذا النهي عن كثرة المسائل في حال تنزل القرآن، كما قال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ?[المائدة:101]، فحين يُنزّل القرآن لا تسل، [وُجه] الصحابة بهذا التعليل، وكثرة المسائل حين ينزل القرآن هذه غير جيدة بل منهي عنها؛ لأنه ربما سيأتي الحكم في فترة من التشريع لاحقة، فيكون كثرة السؤال استعجال للأحكام ولو أبديت لأساءتهم، ابن عباس رضي الله عنهما أوتي العلم بكثرة السؤال؛ لكن سؤال عن معاني النصوص سؤال عن السنة عن الحديث وليس سؤالا وليس سؤالا عن المسائل التي لم تقع أو تشقيق للمسائل، لهذا ذكرنا لكم أن الأحوال ثلاثة:
حال من لم يسأل مطلقا وهذا مذموم.
وحال من شقق المسائل كصنيع أهل الرأي وهذا جاء نهي السلف عنه.
وحال من سأل عن فقه الكتاب والسنة وهذا هو المحمود وهو صنيع الصحابة وصنيع أهل العلم بعدهم.
2- فضيلة الشيخ حديث «من سأل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» هل المقصود بالعلم هنا عموم العلم أو العلم الشرعي؟
المقصود بهذا العلم الشرعي؛ لأنه إذا أطلقت نصوص العلم في الكتاب والسنة فإنما يراد به أنفع العلوم وهو العلم الشرعي، «فمن سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» وقد جاء في بعض الأحاديث وحمله أهل العلم على أن هذا الوعيد في حالة من تعينت عليه الإجابة فامتنع وبامتناعه لا يظهر العلم في الأمة.
أما إذا كان مكفيا فإنه له أن يحيل الجواب على غيره وقد جاءت عائشة إلى بعض الصحابة وسأله فقال اذهب إلى فلان ثم ذهب إلى الثاني فقال اذهب إلى فلان والثالث حتى سبعة والسابع أرجعه إلى الأول فقال ذهبت إلى فلان وفلان وفلان وكلهم يحيل إلى الآخر حتى أحال السابع إليك، فقال الآن إذن فأجابه.(2/33)
فإذن قوله (من سئل عن علم فكتمه) هو العلم الذي يجابهه عينية وفرض على من سئل أما إذا كان مكفيا فإن له أن لا يجيب إحالة للجواب على غيره.
3- السؤال الأخير فضيلة الشيخ يقول: كثيرا ما تعرض لأحدنا مشكلة ما ويبحث عن جوابها في كتب الفتاوى، فهل يكتفي بقضية مشابهة لما يريد أن يسأل عنه أم لابد أن يسأل العلماء؟ والله يحفظكم ويرعاكم.
الذي في الفتاوى على قسمين:
منه ما يمكن أن ينطبق على حالته.
ومنه ما لا يمكن أن ينطبق على الحالة.
الذي ينطبق على الحالة مثل مسائل لا تتعلق إجابتها باختلاف الواقع والحال، هذا إنما يعلمه المفتي؛ يعني مثل مسألة في الصلاة سئل الشيخ فلان عن رجل إمام ترك ركعة من الصلاة سها فيها ثم سُبِّح به إلى آخره، فهذا إذا حصل منك الحال فهي مشابهة لها فتعمل بمقتضى الفتوى، سئل مثلا عن حكم التصوير، سئل عن حكم صلة الرحم ونحو ذلك، سئل عن الوتر سئل عن القنوت هذه تنطبق على الناس في أي وقت وفي أي زمان.
لكن هناك أشياء متعلقة باختلاف الأزمنة متعلقة برعاية قواعد، هذه لا تطبقها لأنه إذا طبقتها على غير زمنها فإنه قد يكون في ذلك إخلالا، هذا حصل كثيرين طبقوا فتاوى في وقت ما على غيره، فصار في ذلك إخلال بمراد العالم حين أفتوى بتلك الفتوى؛ لأن الفتوى لها حال، مثلا فتوى تتعلق بالجهاد، فتوى تتعلق بالتكفير، فتاوى تتعلق بموقف المسلم من غيره، فأجاب العالم بإجابة لاشك أنه قد رعى الحال التي في ذلك الزمن، أفتى فتاوى في الجهاد يختلف عما إذا كان الحال حال أخرى؛ مثلا شيخ الإسلام ابن تيمية له فتاوى تتعلق بجهاد التتار، هل تأتي وتطبق بما ورد في جهاد التتار على غير تلك الصورة وأنت تلحق الصورة المتأخرة بتلك الصورة المتقدمة؟ لاشك أن هذا يحتاج للإلحاق إلى عالم راسخ في العلم يقول المناط في هذه الحال في هذا الزمن هو المناط في ذلك الحال.(2/34)
ولهذا عند الأصوليين مناط الحكم يختلف باختلاف الحال، وعندهم قاعدة يعبر عنها بعض أهل العلم بقوله [بساط] الحال مؤثر في الفتوى حال الفتوى، حال الاستفتاء، حال الناس مؤثر في الفتوى، كذلك مثل ما ذكرنا اختلاف الأزمنة مؤثر في الأزمنة، الأحكام واحدة لكن الفتوى تختلف؛ لأنه يكون إعمال قاعدة قد ترجح شيء على شيء، وهذا واضح فيما لو رعاه طالب العلم لوجد لذلك مأخذا أوظاهرة.
فإذن المسائل التي تقرأ؛ تقرأ في الفتاوى تختلف بعضها يمكن أن يطبق وبعضها لابد فيه من المناط؛ من تحقيق المناط، لهذا عند الأصوليين هناك شيء يسمى تخريج المناط، وهناك شيء يسمى تحقيق المناط؛ تحقيق المناط يعني أن يحقق العالمُ أمر مناط الحكم في الواقعة هو كذا وكذا، فإذا حقق العالم المناط جاءت الفتوى، ولهذا العبارة المشهورة أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، والعلة تارة تكون علة قياس وتارة تكون علة قواعد، وهذا لاشك أنه يحتاج إلى عمق في القواعد وفي الأصول وهذا إنما هو لأهل العلم.
فإذن القارئ يستفيد من الفتاوى في معرفة أحكام لم يطلع عليها يعمل بها في نفسه، إذا حكم في مسألة مختلفة، لا، لا يلحق هذه بهذه، إذا كانت عين المسألة يعمل بها في نفسه في القنوت في الصلاة في الزكاة إلى آخره في الحج لا بأس.
لكن إذا كانت هذه مثل هذه، ووش الفرق؟ العالم عنده ربما فرق لم يخطر على بال القارئ.
ولو خاض في المسألة بالعقل لما كان فرق بين عالم وغيره، والله أعلم.
(((((
فرّغ هذه المادة: www.alsalafia.com
وحاول تنظيمها: سالم الجزائري(2/35)
شرح مقدمة التفسير(/)
- - - - - - - - - - -
شرح
مقدمة في أصول التفسير
لشيخ الإسلام ابن تيمية
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أيها الأحبة في لله يسر إخوانكم في تسجيلات الراية الإسلامية بالرياض أن يقدموا لكم شرح كتاب المقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى والذي قام بشرحه وبسطه فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ.
وقد بدأ الشيخ حفظه تعالى هذا الشيح في الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني لعام 1414 من الهجرة المباركة وانتهى في اليوم الثاني والعشرين من شهر شوال من العام نفسه.
وقد تبقى من هذا الشرح ثلاثة فصول قام حفظه الله بشرحها وإتمامها في اليوم الثاني عشر من شهر محرم 1424 هجري والآن نترككم مع شرح الكتاب والذي بدأه الشيخ بمحاضرة بعنوان: مدارس التفسير.
الدرس الأول
مدارس التفسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزل الكتاب على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.
أحمده وأثني عليه الخبر كله وهو للحمد وللثناء أهل، حمدا متواترا متتابعا دائما لا ينفذ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يُلهمني و إياكم الرشد والسداد والتوفيق في الأمر كله، نعوذ به من فتنة القول ومن فتنة العمل، نعوذ به من أن نضل أو نُضَل أو أن نزل أو نُزَل أو أن نجهل أو يُجهل علينا.
ثُم إن هذه الدروس التي ستكون في تفسير كلام المنان جل وعلا، ومع ذلك التفسير نبذ من أصول التفسير ومن معاقده وقواعده هذه الدروس إنما هي فتح أبواب لمن رام علم التفسير.(3/1)
وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة فمن بعدهم يعتنون كثيرا بتفسير كلام الله جل و علا وبفهم معانيه؛ لأنه هو الحجة على الخلق؛ ولأن التعبد وقع به وبتلاوته وبفهم معانيه وفي أنحاء كثيرة غير ذلك.
فلا غرابة أن ظهر كثير من الصحابة وقد اعتنوا بهذا العلم -علم التفسير- لحاجة الأمة إليه؛ لحاجة المؤمن بنفسه إليه ثم لحاجة الأمة لهذا العلم، فلا أعظم من أن يشرح للناس وأن يُفسر لهم وأن يبين كلام الله جل وعلا إذْ هو الحق الذي لا امتراء فيه وهو الحجة التي ليس بعدها حجة، وهو القاطع الذي تقنع به النفوس وترضى به دليلا وبرهانا وحجة عند الاحتجاج وإيراد البرهان والدليل.
وهذا الكتاب العظيم جعله الله جل وعلا كتابا بلسان عربي؛ بل بلسان عربي مبين، يعني بيّنا في نفسه ومبينا لما يحتاجه الناس من الأخبار ومن الأحكام، والنبي عليه الصلاة والسلام قد بيّن للناس ما نُزِّل إليهم، بيّن للصحابة رضوان الله عليهم ما يحتاجونه من معاني كلام الله جل وعلا، إذْ قد كلف بذلك عليه الصلاة والسلام بقوله جل وعلا ?وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ?[النحل:44]، لكن حاجة الصحابة -رضوان الله عليهم- لم تكن في فهم كلام الله جل وعلا كحاجة غيرهم؛ بل إنهم إنما احتاجوا بعض التفسير وذلك لعلمهم بمعاني كلام الله جل وعلا لأنه نزل باللسان الذي يتكلمون به وباللغة التي ينطقون بها.(3/2)
فسر النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ آيات كثيرة من القرآن فيما نقل إلينا؛ لكن لم يُنقل إلينا من النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فسر أكثر القرآن؛ بل إنما كان تفسيره عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ للقرآن فيما نُقل إلينا كان ليس بالكثير، قد ثبت أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فسر القوة مثلا بالرمي في قوله تعالى ?وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ?[الأتفال:60] فقال «ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي». وفسّر عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قوله جل وعلا ?غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ?[الفاتحة:7]، بأن المغضوب عليهم هم اليهود وأن الضالين هم النصارى، وكذلك فسّر عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ الزيادة في قوله تعالى ?لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ?[يونس:26]، بأنها النظر إلى وجه الله الكريم.
ولكن مع ثبوت كثير من التفسير عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لكن لم يفسر للصحابة كل القرآن؛ نعم بيّن لهم معاني القرآن وأفهمهم معاني القرآن بحسب حاجاتهم.
وهكذا من بعد الصحابة من التابعين، الصحابة نقلوا لهم التفسير الذي سمعوه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو الذي أُوتوه من العلم بالقرآن بمعاني آي الذكر الحكيم، وكان نقلهم لذلك قليلا بالنسبة لما تكلم به المفسرون بعد ذلك من تفسير آيات القرآن؛ وذلك لأن القرآن -كما ذكرت لك آنفا- نزل بلسان عربي مبين، والناس إذا اعتنوا باللغة فهموا كثيرا من القرآن، وربما لم يعلموا بعض الآي وذلك لعدم العلم ببعض اللغات أو لأسباب أخر تأتي في موضعها مفصلة إن شاء الله تعالى.(3/3)
من ذلك مثلا أن عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ كان يتلو كثيرا سورة النحل على المنبر يوم الجمعة، وذات مرة تلا السورة وتوقّف عند قوله جل وعلا ?أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ?[النحل:47]، فقال: ما التخوف؟ كأنه لم يظهر له أن التخوف من الخوف، ورام رَضِيَ اللهُ عنْهُ معنى آخر ليكون أكثر دلالة على المعنى المراد في الآية، فقال رجل من هذيل في المسجد: يا أمير المؤمنين التخوف في لغتنا التنقص قال شاعرنا أبو كبير الهذلي: تخوف الرحل منها
يصف ناقة:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ منها تَامِكًا قَرِدًا**** كما تَخَوَّف عُودَ النّبْعَةِ السَّفَنُ
معنى تخوف أي تنقص.
فإذن يكون أمير المؤمنين عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ في عدم علمه بتفسير هذه الآية على هذا الوجه من التفسير كان من جرّاء أنه أن هذا اللفظ وهو التخوف كان على لغة هذيل، فسأل عنه رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
وهكذا في كثير من الآيات لا يُجزم بأن الصحابة رضوان الله عليهم علموا معنى كل آية أو علموا معنى كل كلمة في كل آية؛ بل ربما لم يعلموا معنى ذلكـ وعلمهم بذلك بالأكثر لكن هذا باعتبار أفرادهم، أما مجموع الصحابة رضوان الله عليهم فهم يعلمون معاني كلام الله جل وعلا فلا يفوت معنى من معاني القرآن على مجموع الصحابة؛ بل العلم بكلام الله جل وعلا محفوظ في كلام الصحابة وما فسر به الصحابة القرآن إنما هو بعض علومهم بالقرآن، فقد ثبت عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ أنه قال: ما من آية في القرآن إلا وأعلم معناها وأعلم متى أنزلت وكيف أنزلت وفيما أنزلت. كما رواه البن جرير في مقدمة التفسير ورواه غيره.
وإنما فسّر الصحابة القرآن بحسب الحاجة، إما لحاجة السؤال يأتي السائل ويقول: ما معنى قول الله جل وعلا كذا وكذا؟ وربما فسروه إبداء في كلامهم في ما يعلمون به الناس.(3/4)
اشتهر من الصحابة رضوان الله عليهم في التفسير كثير؛ ولكن أكثرهم تفسير أربعة: عبد الله ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وعلي ابن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عنْهُم أجمعين.
هؤلاء الأربع أكثر المنقول عن الصحابة في التفسير يدور عليهم.
والخلفاء الراشدون نقل عنهم التفسير يعني أبو بكر وعمر عثمان نقل عنهم أشياء من التفسير كما روى أحمد وغيره أن أبا بكر تلا قول الله جل وعلا في سورة المائدة ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ?[المائدة:105]، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده»، وقد نُقل عن أبي بكر أشياء كثيرة في التفسير ونُقل عنه أنه أحجم عن تفسير بعض الآي. وكذلك عن عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ، لكن المشهورون بالتفسير من الصحابة هم الأربعة الذين ذكرت أسماءهم آنفا.
وتفاسير الصحابة هي التفاسير الأثرية التي يُعلم بيقين أنهم أصابوا فيها إذ لا يُحرم الصحابة العلم ويؤتاه من بعدهم.
فالعلم النافع، العلم الذي هو علم صحيح لابد وأن يكون عند الصحابة رَضِيَ اللهُ عنْهُم، ولهذا كان أشرف التفسير وأعظم التفسير وأبلغ التفسير ما كان منقولا عن الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا يأتي مفصلا إن شاء الله في مقدمة التفسير يسّر الله ذلك.
تفاسير الصحابة رضوان الله عليهم تميزت بمزايا كثيرة:(3/5)
منها أنهم كانوا يعلمون القرآن، والمفسر يحتاج في مصادر تفسيره أن يعلم القرآن؛ لأن بعض الآي تكون مجملة في موضع وتكون مفصلة في موضع آخر، ويعلمون سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وصحبه، والعلم بالسنة لابد مكنه في فهم كلام الله جل وعلا إذ السنة مبينة للقرآن مبينة لمجمله ربما مقيدة لمطلقه وربما مخصصة لعامه ونحو ذلك من العلوم النافعة التي لابد للمفسر منها.
فالصحابة رضوان الله عليهم تميزت تفاسيرهم بأنهم يفسرون كثيرا القرآن بالقرآن، وهذا التفسير قد يكون موضحا في من قبل الصحابي الذي فسر أنه اعتمد على آية في تفسيره وقد لا يكون ذلك مذكورا، وإنما يعلم ذلك أهل العلم، وكذلك فيما يفسرون من القرآن ويكون دليلهم سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا عالمين بأحوال العرب وأحوال الملل التي كانت وقت نزول القرآن، ومن المعلوم أن من مصادر التفسير المهمة العلم بالأحوال التي نزل القرآن وكان العرب على تلك الأحوال.
معرفة أحوال المشركين على وجه التخصيص أحوال عبادتهم معرفة أحوالهم الاجتماعية معرفة ما يتعبدون به، معرفة أحوال اليهود، معرفة أحوال النصارى ونحو ذلك، معرفة أحوال الطوائف، لأن القرآن فيه آي كثير فيها وصف لهؤلاء، وإذا لم يكن المفسر عالما بتلك الأحوال فسر القرآن على غير بصيرة، لهذا كان من مصادر التفسير المهمة العلم بالأحوال التي كانت في زمن تنزيل القرآن.(3/6)
كذلك من مميزات تفسير الصحابة أنهم أهل اللسان وأهل اللغة، والقرآن نزل بلسان عربي، ومعنى ذلك أنه يُفهم باللسان العربي، وفهمهم للغة ليس محل احتجاج ولا محل استدلال؛ لكن كانوا يعلمون ذلك من منثور كلام العرب ومن منظوم كلام العرب، ومرّ معنا ما استشهد به الرجل الهذلي في معنى قوله تعالى ?أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ?[النحل:47]، رُوي أن عمر قال بعد أن سمع ذلك من الهذلي قال: عليكم بديوان العرب فإن به فهم كلام ربكم. ويعني بديوان العرب شعر العرب.
وقد روى الطبراني في المعجم الكبير وابن الأنباري في أول كتابه الوقف والابتداء وجماعة أسئلة نافع ابن الأزرق المشهورة لابن عباس، وقد كان ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُم يُكثر تفسير القرآن، وكان يفسر أو يجيب على من يسأل على التفسير في فناء الكعبة، وكان في فناء الكعبة في ناحية من المسجد نافع ابن الأزرق وصاحب له، فقال نافع وهو من الخوارج لصاحبه: قم بنا وقد كان ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُم يكثر تفسير القرآن وكمان يفسر أو يجيب على من يسأل على التفسير في فناء الكعبة فكان في فناء الكعبة في نحاية من المسجد نافع ابن الأزرق وصاحب له.
فقال نافع وهو من الخوارج لصاحبه: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن. يعنون به ابن عباس، وهذا من أنواع جرأة الخوارج على أهل العلم على الصحابة رضوان الله عليهم.
قال: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير كلام الله جل وعلا نسأله عن مصادقه من كلام العرب.
فقاما فقالا: يا ابن عباس إنا سائلوك عن آية من القرآن لتخبرنا بمعانيها، وتبين لنا مصادق ما تقول من كلام العرب.
فقال ابن عباس لنافع ولصاحبه: سلا عما بدا لكما.
فقال نافع: أخبرني عن قول الله جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ?[المائدة:35] ما الوسيلة؟
فقال ابن عباس الوسيلة الحاجة.
فقال نافع وهل تعرف العرب ذلك؟(3/7)
قال نعم ألم تسمعا لقول عنترة :
إنّ الرجال لهم إليك وسيلة… …أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
قال فأخبرنا عن قول الله جل وعلا ?عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ?[المعارج:37]، ما العزون؟
قال: العزون الجامعات في تفرقة.
فقالا له: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم أوَ ما سمعتم قول الشاعر:
فجاءوا يُهرعون إليه حتى …يكونوا حول منبره عزينا
في أسئلة كثيرة معروفة اعتنى بها علماء التفسير، وإن كان بعض المحققين من المفسرين وعلماء اللغة يكرهون الاستشهاد عن معاني القرآن بالشعر كما كره ذلك ابن فارس وغيره من العلماء؛ لكن جرت سنة أهل التفسير على أنهم يستشهدون بكلام العرب لفهم ما كان غامضا من معاني القرآن، وما ذُكر عن الصحابة في الاستشهاد في الشعر كثير وإن كان في أسانيده على طريقة المحدثين ما لا يقبل.
المقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا على علم تام بلغة العرب بمنظومها ومنثورها، وهذا لاشك يجعلهم في الرّيادة في تفسير كلام الله جل وعلا، وما بعدهم عندهم من النقص في التفسير بقدر نقصهم في فهم اللغة.
الصحابة رضوان الله عليهم من مميزات تفاسيرهم أنه يكثر فيها اختلاف التنوع.
وسيأتي في بيان مقصود التفسير أن الاختلاف في التفسير ينقسم إلى قسمين: اختلاف تنوع واختلاف تضاد؛ بل الاختلاف عموما ينقسم إلى هذين القسمين.
واختلاف التنوع كالاختلاف في الأسماء مثلا فإنهم اختلفوا في تفسير الصراط في قوله تعالى ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ?[الفاتحة:6]، فقال بعضهم: الإسلام. قال بعضهم: القرآن، قال بعضهم: الصراط محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكلها كالأفراد لمعنى عام واحد هذا تفسير منهم.
وهذا الاختلاف -اختلاف التنوع- منهم أفاد المفسرين بعد ذلك كثيرا؛ لأنه يكون كالإشارات يستفيد منها المفسر للتعبير عن معنى الآية بما يناسب الحاجة -حاجة الناس- لذلك لأن القرآن نزل هاديا للناس.(3/8)
بعد ذلك بعد زمن الصحابة نشأت مدارس على أثر تفسير الصحابة للقرآن:
فنشأ في مكة مدرسة التفسير معلمها عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ الذي دعا له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يعلمه الله التأويل فقال «اللهم علمه التأويل» وفي لفظ آخر «اللهم فقهه في الدين وعلمه الكتابة» ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها دعاء النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لابن عباس أكثر من مرة؛ يعني في أكثر من موضع.
وابن عباس تميزت مدرسته بحذق التفسير وبحسن الكلام عليه.
ومن تلامذته الذين نقلوا التفسير مجاهد ابن جبر أبو الحجاج العالم المعروف، فإنه عرض القرآن عن ابن عباس ثلاث مرات يوقفه عند كل آية يسأله عن معناها، ولهذا كان سفيان الثوري وغيره من أئمة الحديث يقولون: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فعليك به أو فحسبك. وذلك لأنه أخذه عن ابن عباس.
كذلك نقل عن ابن عباس أصحابه في مكة سعيد بن جبير وكعكرمة وكطاووس وجماعة فنشأت مدرسة التفسير في مكة، ثم توسعت هذه المدرسة في تبع التابعين وهكذا.
كذلك في الكوفة في بلد البلد التي سكنها عبد الله بن مسعود إثر بعث عمر له للناس هناك يعلمهم ويفقههم، نشأت مدرسة لعبد الله بن مسعود في التفسير.
وعبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ ممن هو في الذروة في الصحابة في فهم كلام الله جل وعلا، وكثيرا ما يفسر القرآن بما يعلمه من أسباب النزول فإنه ممن أسلم قديما وكان يقرأ القرآن أحسن قراءة وقد قال في ذلك النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «من سرّه القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» يعني عبد الله ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
نشأ في الكوفة أصحاب ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ نقلوا عنه التفسير وهكذا.
وكذلك في المدينة نشأ أصحاب أبي بن كعب، وكذلك ما نقل من التفسير عن علي رَضِيَ اللهُ عنْهُ.(3/9)
وهكذا حتى كثر التفسير فاحتاج الناس بعد ذلك لما ظهر التدوين إلى أن يدوّنوا تفاسير السلف، وهذه الكتب التي دوّنت تفاسير السلف تسمى كتب التفسير بالمأثور؛ لأنه ليس فيها رأي لأصحابها كتفسير عبد الرزاق بن همام الصنعاني قد طبع مؤخرا وكتفسير الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وكتفسير بابن مردويه وكتفسير ابن المنذر وكتفسير عبد بن حميد، وتفسير ابن أبي حاتم، أتى بعد ذلك ابن جرير فجمع كثيرا من تلك التفاسير المنقولة عن السلف في كتابه المشهور بالتفسير.
وهذه التفاسير المنقولة عن السلف في كتب التفسير بالمأثور هي عمدة الذين يفسرون القرآن بالمأثور عن الصحابة رضوان الله عليهم؛ لكن الصحابة رضوان الله عليهم ربما اجتهدوا في التفسير بل كثيرا ما اجتهدوا في التفسير، فليس كل ما فسروا به القرآن قد سمعوه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أخذوا تفسيرهم من القرآن في آية أخرى؛ بل إنهم اجتهدوا فيه.
وهذا كما يقول شيخ الإسلام وغيره يقول (وَالْعِلْمُ إمَّا نَقْلٌ [مُصَدَّقٌ] عَنْ مَعْصُومٍ وَإِمَّا قَوْلٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ)، (إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ. وَإِمَّا [قول] (1) مُحَقَّقٌ بالبرهان.
والصحابة رضوان الله عليهم فيما اجتهدوا فيه في التفسير لم يفسروا القرآن بالرأي المجرد المذموم الذي جاءت الأدلة بذمه وإنما فسروا القرآن بما عندهم من آلات الاجتهاد والاستنباط.
ولهذا أهل العلم بعد ذلك ربما فسروا القرآن بالاجتهاد وبالاستنباط لأن الصحابة رضوان الله عليهم فسروا القرآن بالاجتهاد وبالاستنباط، فظهرت هناك تفاسير اجتهد فيها أصحابها أن يفسروا القرآن إما على وفق اللغة في كتاب مجاز القرآن ويعني بالمجاز معاني القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى الإمام اللغوي المعروف، وككتاب الفراء معاني القرآن ونحو ذلك.
__________
(1) استدلال.(3/10)
فنشأ مع مدرسة التفسير بالمأثور مدرسة أخرى في التفسير هي تفسير بالاجتهاد وبالاستنباط إما من جهة النظر في اللغة وإما من جهة النظر في النحو، وإما من جهة النظر في أسباب النزول ونحو ذلك، وأولئك الذين فسروا بالرأي يعني بالاجتهاد بالاستنباط منهم المصيب ومنهم المخطئ.
ابن جرير الطبري رحمه الله جمع علوم من قبله في كتابه الذي يعد أعظم كتب التفسير المؤلفة التي وصلت إلينا؛ فإنه جمع فيها ما نُقل في التفسير عن الصحابة بالأسانيد المشهورة عند المفسرين -المرضية عند المفسرين- وأخلى تفسيره من رواية المتهمين بالكذب كما يقوله كثير من أهل العلم، وساق أسانيد ساق أقوال السلف أقوال أهل الأثر بالأسانيد المشهورة التي يتناقلها العلماء عنهم، وذكر أيضا ما نقله أولئك عن الأئمة أو عن العلماء الذين فسروا القرآن بالاستنباط وبالاجتهاد؛ فترى في تفسير ابن جرير رحمه الله تعالى أنه يورد التفاسير بالمأثور ويورد التفسير بالاجتهاد؛ بل إنه يذكر أحيانا تصويبا لقولٍ من الأقوال مع أنه تسنده قراءة متواترة ويخطئ الأخرى، وذلك مصير منه إلى أن التفسير بالاجتهاد والاستنباط لا بأس به إذا كان عند المفسر بالاجتهاد وبالاستنباط ملكة واكتملت فيه شروط الاجتهاد في التفسير، فإن الاجتهاد في التفسير شروط قد بينها العلماء تأتي في موضعها في مقدمة أصول التفسير إن شاء الله تعالى.
فتفسير ابن جرير يعد الكتاب العظيم في التفسير ترى فيه البحث في القراءات، ترى فيه البحث في اللسان واللغة، ترى فيه الاحتجاج بأبيات العرب على المعاني، ترى فيه المباحث النحوية المختلفة والاحتجاج لأحد الأقوال بقول طائفة من النحاة ونحو ذلك، فالإمام ابن جرير خلط هذه العلوم في تفسيره، ترى فيه البحوث الفقهية عند بعض الآيات.(3/11)
يعني أن كتاب ابن جرير رحمه الله تعالى يعد كتابا جامعا لعلوم التفسير، ففيه التفسير الفقهي وفيه التفسير النحوي، وفيه التفسير اللغوي وفيه وإن كان على قلة والتفسير البلاغي وفيه التفسير الإجمالي، وفيه التفسير التفصيلي، وفيه التفسير بالأثر وهو غالب عليه وهكذا في أنواع من التفسير.
الناس بعد ذلك في التفسير أخذوا علوم ابن جرير ونثروها في مصنفات في التفسير:
فمنهم من أخذ التفاسير الفقهية وأحكام القرآن فأفردها فصارت هناك مدرسة لتفسير القرآن بخصوص الأحكام وهي التي يسمي أصحابها كتبهم أحكام القرآن، فاعتنى الشافعية مثلا بتفسير لهم يعتني بأحكام القرآن إما على طريقتهم في الفقه وإما على ما اجتهد فيه مؤلف ذلك التفسير كتفسير أحكام القرآن لإلكيا...
وكذلك المالكية وكذلك الحنفية فسر ابن عطية القرآن وأورد فيه أحكاما كثيرة وابن العربي المالكي في كتابه أحكام القرآن والقرطبي المالكي في كتاب أحكام القرآن.
وكذلك الحنفية في كتاب القرآن للجصاص وغيره من الكتب.
وكذلك الحنابلة وهكذا.
في مدرسة فقهية اعتنى أصحابها ببعض علوم القرآن ببعض تفسير القرآن، وهو ما يستنبط من آي القرآن من أحكام فقهية.
هناك مدرسة أخرى اعتنت بالقراءات وتفسير القرآن بالقراءات ولها مصنفات.
هناك مدرسة أخرى اعتنى أصحابها بالتفسير بتفسير القرآن على وفق اللغة إما من جهة المفردات كغريب القرآن وهي كثيرة، وإما من جهة الاشتقاق، وإما من جهة البلاغة ككتاب الزمخشري، في تفاسير مختلفة.
ومن ذلك تفاسير نحوية اعتنى أصحابها بتفسير القرآن على وجه النحو.(3/12)
ومنها تفاسير عقدية اعتنى فيها أصحابها بأن يفسروا القرآن على ما تقتضيه عقيدة ذلك المفسر، وقد دخل أهل البدع وأهل الضلالات والفرق الضالة في نشر عقائدهم وبدعهم وضلالاتهم عن طريق تفسير القرآن؛ لأن تفسير القرآن يقبل عليه العامي ويقبل عليه المتعلم، يأخذون هذا العلم فأدخلوا عقائدهم وبدعهم عن طريق تفسير القرآن، فكثرت التفاسير التي فيها العقائد المذمومة والبدع المردية في أنواع من التفاسير كتفسير الماوردي وتفسير الكشاف للزمخشري ونحوها من التفاسير وكتفسير الرازي وأبي السعود ونحوها التفاسير التي ملئت بعقائد أصحابها إما المعتزلة وإما الأشاعرة وإما الماتوريدية كتفسير النسفي ونحو ذلك من أنواع التفاسير.
وأهل السنة أيضا اعتنوا بتفاسير القرآن، فهم في تفسير القرآن بين غيرهم كالشامة في البدن في حسنها وظهورها؛ فإنهم فسروا القرآن على وَفق تفاسير السلف واجتهدوا واستنبطوا من آي القرآن ما لم يَأثروا فيه علما عن السلف لكن كان على وفق العلم النافع فإن أقوالهم في ذلك أقوال محققة منقولة عن السلف أو أقوال مدعومة بالأدلة، هذا كتفسير البغوي رحمه الله تعالى وتفسير ابن الكثير والتفاسير المنقولة عن شيخ الإسلام ابن تيمية وعن ابن القيم ونحوهم من أهل العلم، في هذا الأصل فسر عدد من أهل العلم تفاسير حسنة من جنس تفاسير مدرسة الأثر أو التفاسير السلفية كتفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ونحوه.
المقصود من هذا أن التفاسير كثرت جدا في مدارس مختلفة، فما الذي يجب على طالب العلم بالتفسير، هل يأخذ كل هذه التفاسير بعضها مختصر وبعضها مطول، بعضها تفاسير موسوعية مثل تفسير الفخر الرازي يذكر فيه كل شيء ومثل تفسير الألوسي روح المعاني تفاسير كثيرة مختلفة، فأيها يعتني به طالب العلم؟(3/13)
لاشك أن العلم بالتفسير أمر مهم والتفاسير ما بين مختصرة ومطولة، فالذي ينبغي على طالب العلم بالتفسير أن يعتني أولا بمعاني المفردات أن يعلم المعنى للمفردة؛ يعني في آية لا يعلم معنى الكلمة منها يذهب يبحث عن معنى هذه الكلمة في التفاسير المختصرة ومن التفاسير المختصرة التي تعتني ببيان بعض الكلمات تفسير الجلالين -الجلال المحلي والجلال السيوطي- على بدع في تفسيرهما؛ لكن العلماء في هذه البلاد قد أقرؤوا على التفسير للطلاب في مرحلة المعاهد كما هو معلوم؛ وذلك لأن البدع التي فيه معلومة وهي قليلة بالنسبة للانتفاع الكثير الذي فيه، وإذا رام التفصيل أكثر له أن يستزيد يذهب إلى تفسير ابن كثير إلى تفسير ابن جرير إلى تفاسير أهل اللغة وهكذا.
ثم يعتني بعد قراءته كتب المفردات بقراءة كتب التفسير المختصرة كما ذكرت لك من تفسير الجلالين مثلا أو إذا كان عنده صبر لتفسير ابن كثير رحمه الله تعالى أو إذا رام المزيد في تفسير ابن جرير وهكذا.
فإذن العلم بالتفسير لابد أن يكون على وفق التدرج؛ لأنك إذا فرأت كتبا مطولة في التفسير ربما استحضرت بعض المعاني ولم تستحضر البعض، ومن المعلوم أن العناية بعلم التفسير في هذا الوقت؛ بل وفي طلاب العلم عندنا قليلة، ولهذا مما ينبغي أن يُحفظ هذا العلم وأن يعتني به؛ لأن فهم معاني كلام الله جل وعلا أعز ما يكون، وإن في فهم القرآن وفي فهم تفسير القرآن إن فيه من العلم ما لا يوصف ولا يحفظ يَعرفه من أقبل عليه.
إذن يكون طالب العلم في قراءته التفسير يبدأ بالمختصر ثم يتدرج.
أما عن طريقتنا في التفسير إن شاء الله تعالى التي سنفسر بها القرآن فثم طريقتان طريقة مختصرة وطريقة مطولة:
أما الطريقة المختصرة فهي أن يؤخذ كتاب من كتب التفسير المختصرة ويُقرأ ثم يقرر عليه؛ يعني يشرح ما غمض منه ويبين ما فيه يوضح معنى الآية إن كان ثم مزيدا على ما ذكره المفسر.(3/14)
وهناك طريقة أخرى مطولة أحسبها أنا أنفع للمتعلمين لأنها وإن كانت مطولة والتفسير الذي يقطع معها قليل لكنها تضع أصولا لطالب العلم بالتفسير يمكنه معها إذا فهمها أن يقيس عليها وأن يطلب علم التفسير على منوالها:
وهي أن يؤخذ في فهم الآية بالمعنى العام أولا المعنى الإجمالي الذي يحتاجه طالب العلم في فهم المعنى العام للآية وهو الذي تعتني به بعض التفاسير الذي يسمى تفسير الإجمالي للآية.
ثم بعد ذلك يؤتى للتفسير التفصيلي للآية في فهم معانيها ومفرداتها وما فيها من البلاغة وتركيباتها؛ لأن في هذا من العلم بإعجاز القرآن، والعلم بأنواع من العلوم المهمة، العلم بالسنة، العلم بالعقيدة في تقرير التوحيد، العلم باللغة بالاشتقاق بالبلاغة بالنحو، ونحو ذلك من العلوم المهمة التي ربما لم يهتم بها طالب العلم إلا إذا سمعها من جهة التفسير.
لهذا نقول التفسير فيمن رام تسير القرآن ينبغي أن يكون مستحضرا فيه أن القرآن نزل هاديا للناس، والله جل وعلا جعل القرآن نورا والقرآن شفاء لما في الصدور وهدى للناس وبينات، فهو مبين وهو هاد وهو نور.
وعلى هذا ينبغي أن يكون المفسّر في تفسيره للقرآن ينظر إلى أن المقصود منه أ، يهدي للتي هي أقوم ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ?[الإسراء:9]، وحال الناس في كل زمن مختلفة، فكل زمن الناس فيه بحاجة لهداية القرآن والقرآن يهدي للتي هي أقوم، والمفسر الذي يفسر القرآن أول ما يجب عليه أن ينظر إلى أن القرآن كتاب هداية، فيفسر القرآن ليهتدي به الناس.
فإذا كان الناس في مرض في نفوسهم بقلة تعبد مثلا كان تفسيره منظورا به إلى هذه الجهة.
إذا كان الناس في ضعف من الاهتمام بالعقيدة والتوحيد وعدم معرفة بتواطؤ الأدلة في ذلك، فإنه يعتني في تفسير القرآن ببيان حق الله جل وعلا وتوحيده وما كان عليه أهل الشرك من العبادات الباطلة، وهذا لاشك أنه في هذا الزمان أحوج ما نكون إليه.(3/15)
كذلك إذا كان الناس في أمور في مجتمعهم أو في أنفسهم من منكرات فاشية ومن ضلالات فاشية أو تُفشى في الناس فيعتني المفسر ببيان مواقع الحجج على إبطال ذلك وإصلاح الناس وإصلاح المجتمع عن طريق تفسير القرآن؛ لأن القرآن نزل هاديا للناس وهو يهدي للتي هي أقوم.
ولاشك أن العناية بالتفسير غرض كل متعلم، وما أحسن ندم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في آخر عمره على أنه لم يستغل طوال عمره بتفسير القرآن للناس نعم فسر القرآن في مواضع كثيرة، وما نقل عنه من تفسير القرآن هو كالشمس ضياء في وضوحه وبرهانه ودلالاته؛ لكن هو ندم على أنه لم يهدِ الناس عن طريق تفسير القرآن، وقد ذكر من ترجم له كابن عبد الهادي وغيره أنه مكث سنة كاملة يفسر سورة نوح وهي سورة قصيرة يفسر سورة نوح، مكث سنة كاملة يفسرها يوم الجمعة في مجلس له في التفسير، وهذا لا يكون له إلا على وجه التفسير المطول ليس التفسير الذي فيه بيان معاني الكلمات وحسب؛ بل التفسير المطول الذي يعرض فيه المفسر لما يحتاجه الناس من العلم بالتفسير، وهذا ولاشك هو أمثل الطرق لأن المقصود هداية الناس بالتفسير، وأما إسماع الناس التفسير فإن القرآن طويل، وتفسيره يأخذ أعمارا خاصة إذا لاحظنا أنه في مثل هذا الزمان لا يصبر الناس على دروس يومية في التفسير وإنما إذا صبروا صَبروا على درس واحد في الأسبوع أو اثنين في الأسبوع، وهذا لا يمكن معه أن يفسر القرآن كاملا إلا أن يُقرأ كتاب مختصر في التفسير ويعلق عليه تعليقات يسيرة فإنه ربما ختم في بضع سنين.
هذا العلم بالتفسير الذي كان عند شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وورثه لأصحابه رحمهم الله تعالى على هذه الطريقة، هذا يحتاجه الناس ولاشك فالقرآن هو الشفاء وهو الهداية، من رام الهدى في غيره أضله الله، ولكن الشأن في فهم معاني القرآن، هل كل يفسر....(3/16)
هذا له مدرسة كبيرة هي مدرسة تفسير القرآن بالرأي؛ ويُعني بالرأي في هذا الموضع عند أهل التفسير الاستنباط والاجتهاد، فمعنى تفسير القرآن بالرأي تفسيره بالاجتهاد، والرأي رأيان رأي ممدوح ورأي مذموم:
أما الرأي الممدوح فهو تفسير القرآن بالاستنباط وبالاجتهاد على وَفق الأصول المعتبرة في الاستنباط والاجتهاد، وفسر الصحابة كما ذكرت لكم بالاستنباط، هناك شروط لمن يفسر القرآن بالاجتهاد والاستنباط، وهذه الشروط جماعها:
أولا أن يكون عالما بالقرآن حافظا له، يعني مستظهرا لآياته عالما بمواقع حججه، مستحضرا لكثير من القراءات المختلفة فيه؛ لأن القراءات المختلفة تفسير لبعض القرآن كما في قراءة مثلا كما في قوله تعالى ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ? فإنه في القراءة الأخرى ?وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطَّهَّرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ?[البقرة:222] فهذه تفسير لقوله ?حَتَّىَ يَطْهُرْنَ?، ?حَتَّىَ يَطَّهَّرْنَ? قراءة أخرى تفسير لقوله ?يَطْهُرْنَ?.
فإذن العلم بالقرآن بحفظه واستظهاره ومعرفة مواقع حججه، هذا شرط أول فيمن يريد أن يفسّر القرآن بالاستنباط والاجتهاد.
أيضا أن يكون عالما بالسنة إما بالقوة القريبة؛ يعني بالبحث أو بالملكة أن يكون حافظا للسنة ونحو ذلك أو بالبحث... (1)
يكون عالما كيف يعلم ما بينت السنة من القرآن وكيف يُثبت ذلك يعني أن يكون عارفا بطريقة إثبات السنن وهو المعروف عند أهل العلم بعلم مصطلح الحديث وعلم الرجال، فلابد للمفسر -المفسر بالاستنباط والاجتهاد- أن يكون عالما بالسنة بالبحث بالحفظ أو بالبحث وعالما بطريقة إثبات السنن عن طريق علم مصطلح الحديث والجرح والتعديل وقواعد ذلك.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الأول.(3/17)
كذلك من الشروط أن يكون عالما بلغة العرب؛ يعني عنده معرفة بلغة العرب في مفرداتها وفي نحوها وفي علم المعاني بخصوصه من علم البلاغة ونحو ذلك من علوم اللسان العربي الشريف. وهذه لابد منها للمفسر؛ لأن من فسر القرآن بالاستنباط وبالاجتهاد وهو جاهل باللغة فإن تفسيره من قبل الرأي المذموم الذي ورد فيه النهي.
كذلك يحتاج المفسر أن يكون عالما بأصول الفقه؛ لأن أصول الفقه هي أصول الاستنباط، وأصول الاستنباط يحتاجها المفسر كثيرا، فكثير من مواضع الاجتهاد والاستنباط إنما تكون عن طريق أصول الفقه، أرأيت مثلا مجيء الخاص بعد العام، أو مجيء المبيَّن بعد المجمل، أو مجيء المقيد بعد المطلق، أو مجيء النص أو مجيء الظاهر أو الحقيقة أو نحو ذلك التي كلها من مباحث أصول الفقه، فمن لم يكن ضابطا لأصول الفقه فإنه لا يحسن له بل يذم إذا تعاطى التفسير بالاجتهاد فيه.
في علوم أخر ذكرها أهل العلم ثم ختامها وواسطة عقدها أن يكون عالما بكلام أهل السنة في توحيد الله جل وعلا، عالما بالاعتقاد الحق الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة؛ لأن هذا الاعتقاد الذي هو حق لا مرية فيه لابد أن يفسر القرآن على وفقه، فمن كان جاهلا بذلك جهلا بسيطا فإنه إذا فسر القرآن في آيات الاعتقاد والقرآن كما هو معلوم توحيد كله فإنه يَضل وربما يُضل، ومن كان عنده الجهل المركب في هذا الباب وفي هذا العلم الذي هو العلم بالتوحيد علم الاعتقاد بأن كان يعتقد خلاف الحق من أصحاب الأقوال الزائغة والأقوال المبتدعة فإن هذا يَحرم عليه أن يفسر القرآن على وفق آرائه المبتدعة الضالة التي ما كانت على وفق نصوص الكتاب والسنة، وإنما كانت على وفق تقديم العقل على النقل كما هي أصول أهل البدع بأجمعهم.
هذه العلوم لابد منها لمن يستنبط معاني القرآن.
الرأي الثاني الرأي المذموم وهو قسمان:(3/18)
أن يفسر القرآن برأي عن جهالة أو أن يفسر القرآن برأيٍ باطل إما باعتقاد له أو نحلة له ونحو ذلك كتفاسير أهل البدع، تفاسير أهل البدع للقرآن هي كلها من قبيل الرأي المذموم الذي جاءت به عدة أحاديث تنهى عنه وتتوعد من فسر القرآن برأيه بأن يتبوأ مقعده من النار.
هذه الخلاصة ومقدمة لما سنتعاطاه في هذه الدروس من التفسير.
وفي مقدمة التفسير أو في أصول التفسير سنقرأ إن شاء الله تعالى مقدمة شيخ الإسلام في أصول التفسير، مع بيان ما اشتملت عليه من العلوم النافعة المتصلة بتفسير القرآن.
وأما في التفسير نفسه فسنبتدئ إن شاء الله تعالى بتفسير سورة الفاتحة فإذا أتممناها، إما أن تختاروا كتابا في التفسير، وإما أن تختاروا تفسيرا للقرآن على منوال ما ستسمعون إن شاء الله تعالى من تفسير سورة الفاتحة، ونرجئ الاختيار إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
أسأل الله جل وعلا وأن ينفعني وإياكم بالقرآن، وأن يرفعنا به وأن يجعله حجة لنا وأن يجعله مظللا لنا يوم القيامة.
وأسأله جل وعلا أن يوفقني وإياكم للسداد في القول في تفسير القرآن وفي فهمه إنه أكرم مسؤول.
اللهم إنا نسألك بصيرة في قلوبنا وبصيرة في أقوالنا وبصيرة في أعمالنا، ربنا لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا بك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الأسئلة]
السؤالان الأولان يسألان عن تفسير في ظلال القرآن لسيد قطب.
س1/ وهذا يقول: كما تلاحظ الحضور فيهم مبتدئون في الطلب ولو استخدمنا طريقة التفسير المطولة فستكون شاقة عليهم.
- أخشى أن تكون شاقة على السائل أيضا-
وسوف تطول مدة التفسير جدا خصوصا وأن الدرس مدته قصيرة جدا ويوم واحد.
ج/ على كل حال إن أخذنا بالطريقة المطولة فلنا فيها سلف، وقد فسر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى سورة نوح في سنة، نحن لو فسرنا مثل سورة نوح في شهر ما أظن تكون مطولة.(3/19)
وأما الطريقة المختصرة فالتفضيل بينها وبين الطريقة المطولة أتركها لكم بعد إسماعكم إن شاء الله تعالى تفسير سورة الفاتحة.
س2/ يقول: لو غُيّر وقت الدرس إلى مغرب السبت أو مغرب الاثنين؛ لأن مغرب الأحد يوافق درس سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى ونحن محتاجون لمثل هذا الدرس في التفسير.
ج/ الواقع أن تغيير هذا اليوم بالنسبة لي لا يمكن؛ لأن كل يوم بعد المغرب عندي درس في الجهة التي أسكن فيها، وقد تباحثنا في هذا الأمر مع الأخ الشيخ سعد حفظه الله، ورُئي أنه لا أنسب من هذا اليوم.
ولاشك أنه مما يحز على النفس؛ بل يعظم على النفس أن يكون فينا الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله وأن يُقبل الشباب وطلاب العلم على مثل هذا الدرس أو على أمثاله، فإن العلم إنما يؤخذ عن الأكابر وهذه سنة العلم؛ لكن كثر طلب العلم وكثر الشباب واحتاجوا إلى دروس مختلفة، اُرتكب شيء من المفسدة في ذلك وإلا فإن الأصل أن الدرس وطلب العلم يكون عند الأكابر عند أكابر العلماء لأنهم هم الحقيقون بالعلم الذين يفهمون العلم ويفهمون أدلته ويبينونه على وَفق ما عُلِّموه أو على وفق ما اجتهدوا فيه وهم أهل لذلك كله.
لكن لا يمكن إما أن نترك هذا الدرس ولو كان الحضور جميعا أو الأغلب فيهم أنهم سيحضرون درس الشيخ عبد العزيز حفظه الله لما عُقد هذا الدرس أصلا؛ لكن رئي أن كثيرين من الشباب لا يحضرون الدرس أصلا، فمجيء هذا الدرس في وقت درس الشيخ بما نتج من البحث مع الإمام وفقه الله وجد أنه لا بأس به، وإلا فإن في النفس حسرة من ذلك؛ لكن الشكوى على الله جل وعلا.
س3/ ما اسم كتاب شيخ الإسلام في أصول التفسير؟
ج/ اسمه مقدمة في أصول التفسير هي التي سنبدأ بها إن شاء الله تعالى من الدرس القادم.
س4/ ما رأيكم في الكتب التالية: التحرير والتنوير، في ظلال القرآن، أيسر التفاسير.(3/20)
ج/ السؤال عن التفاسير ربما يطول لعله يكون أسئلة عن علم أخص من السؤال عن التفاسير لأني ذكرت لكم مدارس التفسير المختلفة.
س5/ هذا سؤال مهم يقول ذكرت أن من مدارس تفسير أهل السنة تفسير الإمام البغوي، فما تعليلكم لاضطرابه في بعض آيات الصفات؟
ج/ هو لم يضطرب، ربما نقل تفسيرا ظاهره التأويل؛ لكن يحمل على أنه تفسير باللازم، وهذا ربما وقع في تفسير ابن كثير وتفاسير بعض أهل السنة فإنهم يذكرون المعنى المراد الذي يلزم من المعنى الأصلي، مثلا في قوله تعالى ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ?[فصلت:11]، يقول ?اسْتَوَى? بمعنى قصد، ومعلوم أن الاستواء في اللغة وفي تفاسير السلف لا يكون بمعنى القصد؛ لكن هنا فسروا استوى بمعنى قصد لأنه عُدي بـ?إِلَى? والتعدية بـ?إِلَى? أفادت أنّ ?اسْتَوَى? مضمّنة معنى فعل آخر يناسب التعدية بـ?إِلَى?، ?اسْتَوَى إِلَى? استوى معناها في اللغة في تفاسير السلف على، ?اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ? يعني استوى على السماء، فلم فسرت بالقصد هنا؟ فإن هذا التفسير لا يعد تأويلا لأنه تفسير باللازم لأن المعنى الأصلي معروف وإنما هذا المعنى الثاني؛ يعني لأن الكلمة استوى مثلا مضمنة مع المعنى الأصلي معنى قصَد، فَهُم لم يذكروا المعنى الأصلي لظهروه، وإنما ذكروا المعنى الثاني لأنه هو الذي يُحتاج إليه؛ لأن التعدية بحرف (إلى) مثلا في هذا الموضوع يدل على أن المحتاج إليه لم عُديت بـ?إِلَى?، وهذا يسمى تفسير باللازم، والتفسير هذا لا ينفي المعنى الأول ولا يعد تأويلا، وإنما هو تفسير بلازم الإثبات.
فإذن يكون تفسير ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ? بقصد هذا تفسير باللازم.(3/21)
والفرق بين التفسير باللازم والتفسير بالمطابقة هذا سيأتي إن شاء الله مفصلا في قاعدة شيخ الإسلام أو في المقدمة؛ وهو أن اللفظ له دلالات: دلالة بالمطابقة، ودلالة بالتضمن، ودلالة التزام، وهذا اللازم هو خارج عن اللفظ عن مطابقته وعما تضمنه ولكن قد يكون مضمنا إذا كان معدًّى بحرف يناسب الفعل الذي ضمن فيه مثل ?اسْتَوَى إِلَى? استوى إلى إذا كانت بمعنى على فهي تكون معداة بـ: على. يعني (على) التي هي حرف جر كما قال جل وعلا ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ?[الفرقان:59] استوى تعدى بـ(على)، ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، هذا بمعنى العلو، فإذا أُريد بأن يكون مع العلو معنى آخر ضُمِّن اللفظ الأول معنىً -معنى فعل آخر- ودُلّ عليه بتعديته بحرف جر يناسب المعنى الذي ليس بمطابقة اللفظ مثل هنا ?اسْتَوَى إِلَى? لما عدى بحرف الجر (إلى) علمنا أنه ضُمن معنى قصد.
وهذا التفسير فيه إثبات للمعنى الأول فيكون المعنى (على) على السماء قاصدا إلى السماء، فليس نفي للمعنى الأول فيكون تأويلا أو تحريفا للكلم عن مواضعه وإنما فيه إثبات للمعنى الأول وإثبات معنى ثان دل عليه المقام.(3/22)
وهذا له نظائر التضمين له نظائر مثلا في قوله جل وعلا في سورة الحج ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ?[الحج:25]، قال ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ? معلوم أن كلمة (أراد) تتعدى بنفسها يقال: أراد كذا، أراد الخير، أراد الشر، ?فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ? يعني من يرد الله هدايته، تتعدى بنفسها عدى أراد بحرف جر الذي هو الباء ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ? لو كانت أراد بمعنى أراد المعروف لكانت التعدية بدون الباء: ومن يريد فيه إلحادا بظلم؛ لكن لما عداه بالباء دلّنا على أن أراد مع معناها الأصلي ضُمنت معنى فعل آخر يناسب هذا الحرف الذي عُدي به والي يناسب الباء هو الهم؛ لأنه يقال همّ بكذا، ولهذا كثيرون من أهل التفسير يقولون إن معنى قوله ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ? يعني من هم فيه بإلحاد، وهذا من خصائص مكة كما قرره ابن القيم مفصلا في أول الهدي النبوي يعني أول زاد المعاد، وهذا له نظائر.
فإذن ليس كل ما يكون ظاهره -في تفسير البغوي أو غيره- يكون ظاهره ليس تفسيرا للصفة بما هو معناها مطابقة أنه يكون تأويلا ومخالفة لمنهج السلف، لا، أحيانا يكون تفسيرا باللازم.
وهذا من العلم المهم أن يعرف، ويأتي إن شاء الله التنبيه عليه في مواضعه.
س6/ فيه ثلاثة أسئلة عن كتاب في ظلال القرآن، وسؤال عن كتاب التحرير والتوير، وسؤال عن أيسر التفاسير؟
ج/ أما كتاب التحرير والتنوير فهو كتاب اعتنى به صاحبه بالبلاغة، ومؤلفه هو ابن عاشور أحد علماء تونس المشهورين في اللغة الحفاظ، وله مؤلفات في البلاغة، منها موجز في البلاغة نفيس جدا له مطبوع في تونس قديما وطبق قواعد البلاغة في تفسير القرآن؛ لكنه ما فرق في البلاغة لين البلاغة العربية السلفية وبين البلاغة المعتزلية الخلفية؛ فإن البلاغة قسمان:(3/23)
منها بلاغة، يعني النظر في علوم اللغة في القرآن على وَفق ما وضع من قواعد البلاعة ويكون هذا صحيحا، وهذا إذا كان على وفق علوم العرب وما قرره السلف وما قرر في العقائد فهذا لاشك من العلم النافع الغزير.
ومنها أشياء مما أحدثه الناس بعد ذلك ولا يُحتاج إليها أصلا.
فهو خلط هذا؛ يعني طبق قواعد البلاغة وأسس البلاغة وتفصيلات البلاغة في القرآن وهو كتاب نافع للمتخصصين، أما طالب العلم المبتدئ، فلا يذهب إليه ولا يطّلع عليه؛ لأن فيه كثيرا من التأويلات والتحريفات التي في جنسه من كتب من لم يستق من عين عقيدة السلف رحمهم الله تعالى.
وكتاب أيسر التفاسير للجزائري هو كتاب مختصر وعليه بعض الملاحظات؛ لكن في الجملة لا بأس به، في الجملة لا بأس به وعليه بعض الملاحظات لاحظها عليه العلماء، ما يحتاج نمثل بأمثلة، موجودة الملاحظات، وهو في الجملة كتاب نافع سليم من البدع؛ لكن ربما نقل أشياء أو ظن أشياء من الحق وهي من أقوال البدع أو من أقوال أهل العصر في المحدثات وتشبيه ما في القرآن من أخبار بما في العصر من مستجدات ووسائل ونحو ذلك.
أما كتاب في ظلال القرآن فهو كتاب دعوي، ولا يصح أن يُنسب إلى كتب التفاسير وإنما هو كما ذكر صاحبه في مقدمة كتابه أنه مشاعر له وتدبُّر في الآيات، فليس من كتب التفاسير؛ لأنه لم يفسر الآية على وفق تفاسير الذين اعتنوا بالتفسير، وإن كان يسمى تفسيرا في هذا العصر؛ لأنه كثرت كتب التفاسير التي على منواله.(3/24)
هو كتاب رام صاحبه فيه أن يضع قواعد ومرجعا للدعاة ولمن يتأثرون بطريقته على القرآن الكريم، وكتابه في مواضع أحسن العبارة جدا مما يُستفاد منه، وفي مواضع أخر أساء العبارة لما فيه من تأويلات وما فيه من متابعة للمعتزلة أو متابعة للأشاعرة، وهو ليس عنده أمر واضح بل ربما انتقد السلف في اهتمامهم ببعض مسائل الاعتقاد كما ذكر في أول سورة الأنفال عند قوله ?زَادَتْهُمْ إِيمَانًا?[الأنفال:2]، فإنه ظنّ أن مبحث أو ذكر أن مبحث زيادة الإيمان ونقصانه أنه مباحث علم الكلام، وهذا في أمثاله من المآخذات الكبيرة عليه، هذا في مسائل الصفات.
وهناك فيه مسائل أخر كمسائل التكفير فإن عند مؤلفه وهو السيد قطب إبراهيم رحمه الله تعالى عنده كثير من الغلو في هذه المسائل، ففي سورة الأنعام مثلا عند قوله تعالى ?وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ?[الأنعام:121]، تكلّم بكلام على أن مجرّد طاعة الكفار يكون مشركا، ولهذا من تلمذ لكتابه هذا واقتصر عليه ربما خرج لأفكار من نحو هذه.
وفي أمثال ذلك من مثل كلامه على أن النساء اللاتي يتابعن ما تُخرجه-على حسب قوله- آلهة الأزياء في فرنسا. يقول: لم يعلم النساء أولئك -يعني به مصممي الأزياء في فرنسا في الكاتالوجات هذه المعروفة- يقول: لم يعلم أولئك النساء أنهن اتخذن أولئك المصممين آلهة؛ لأنهن أطعن أولئك المصممين في تحريم الحلال وفي تحليل الحرام، فليسن ما حرم الله طاعة لأولئك فأطعن النساء أطعن آلهة الأزياء. وسمى أولئك آلهة، وهذه لاشك أنه من الغلو ونحو ذلك.
فالكتاب فيه مواضع مفيدة، وفيه مواضع كثيرة جدا فيها أنواع من الانحراف عن جادة معتقد السلف.(3/25)
ولهذا الذي ليس عنده علم بالتفسير لا يحسن به أن يقرأ مثل هذا الكتاب والذي ليس متحصنا في عقيدة لا يحسن به أن يقرأ مثل هذا الكتاب، إلا إن اختار له أحد من أهل العلم فيه موضعا معينا أحسن فيه وأجاد، هذا ربما كان سائغا؛ ولكن في كتب أئمة السلف وفي التفاسير النافعة ما يغني عنه، وفي كلام علمائنا وأهل الحق الذين بيّنوا ما يجب بيانه من معاني كلام الله جل وعلا أو من مسائل الدعوة أو نحو ذلك فيه كفاية عن مثل هذا التفسير.
فالمقصود من هذا أن الواجب أن يعتني طالب العلم بالتفسير بتفاسير السلف؛ لأنه يريد أن يعلم علما نافعا واضحا لا إشكال فيه لمعاني كلام الله جل وعلا، فكيف يعرّض نفسه للهلكة بإقباله على كتب مختلفة، ربما لم يحسن استخراج ما خالف فيها أصحابها منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم.
لهذا في هذه البلاد كان العلماء من قديم يمنعون التفاسير الضالة مثل تفسير الفخر الرازي مثلا أو مثل تفاسير الأشاعرة ونحوها تمنع من نحو عشرين ثلاثين سنة بعد ثلاثين يعني من عشرين سنة فأكثر أو نقول خمس وعشرون سنة فأكثر كانت تمنع تفاسير مثل تفسير الفخر الرازي لا يباع أصلا، وقد ذكر لي بعض علمائنا أنه لما كان يدرس التفسير على -يعني في الكليات- وكان يدرسهم الشيخ عبد الرزاق عفيفي حفظه الله ذكروا له أنه: لِمَ لا نرجع إلى تفسير الفخر الرازي ولتفسير فلان ولتفسير فلان؟ فقال لهم كلمة من بصير حاذق ناقد قال: علماؤكم أرادوا لكم السلامة في دينكم، وتلكم الكتب فيها شوك وأنتم لا تحسنون الابتعاد عن الشوك، ولا استخراج الشوك. هذه كلمة معبرة نفيسة منه رحمه الله، مثل تفاسير الأشاعرة الكبيرة ما كانت تباع عندنا من قديم.(3/26)
ولهذا ينبغي على أهل العلم أن ينبهوا طلاب العلم على العلم النافع المستقى من كلام أئمة السلف وتفاسير السلف فيها كفاية، وإذا احتيج إلى غيرها لمسألة فيه أو لبلاغة أو لبيان أو نحو ذلك فينبغي أن يكون القارئ على أشد الحذر من التأثر بتلك الكتب.
س/ الشيخ: التفاسير كثيرة يعني لو تسألون عن كل تفسير فيه أكثر من مائة تفسير.
سؤال عن فتح البيان للصديق حسن خان، ما رأيكم في تفسير الجلالين؟
ج/ يعني الكتب كتب التفسير كثيرة فصعب أن نجيب عن هذه الأسئلة لأنني إذا أجبت أنا بإجابة مختصرة تناسب المقام ربما ما أعطيناك فكرة كافية عن تلكم التفاسير، وإذا أطلنا فيها لم يناسب المقام وربما صار فيه تضييق على بعض الأسئلة الأخرى، ولهذا حبذا لو لم يسأل عن كتب التفسير، إذا كانت فيه مسائل معينة في قواعد التفسير في أصول التفسير وكان ثم علم فيها أجيب عنها إن شاء الله تعالى.
وفقني الله جل وعلا وإياكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(((((
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري(3/27)
- - - - - - - - - - -
شرح
مقدمة في أصول التفسير
لشيخ الإسلام ابن تيمية
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[الدرس الثاني]
[مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
الدرس الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِرَحْمَتِك
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ أَنْ أَكْتُبَ لَهُ مُقَدِّمَةً تَتَضَمَّنُ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةً تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ. وَمَعْرِفَةِ تَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ وَالتَّمْيِيزِ فِي مَنْقُولِ ذَلِكَ وَمَعْقُولِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَأَنْوَاعِ الْأَبَاطِيلِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْأَقَاوِيل؛ فَإِنَّ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي التَّفْسِيرِ مَشْحُونَةٌ بِالْغَثِّ وَالسَّمِينِ وَالْبَاطِلِ الْوَاضِحِ وَالْحَقِّ الْمُبِينِ.
وَالْعِلْمُ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَنْ مَعْصُومٍ، وَإِمَّا قَوْلٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ، وَمَا سِوَى هَذَا فَإِمَّا مُزَيَّفٌ مَرْدُودٌ وَإِمَّا مَوْقُوفٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ بَهْرَجٌ وَلَا مَنْقُودٌ.
[الشرح]
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.(4/1)
هذا شروع في شرح هذه المقدمة النفيسة التي كتبها شيخ الإسلام والمسلمين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله تعالى.
وقد ذكر لك فيما سمعت أن العلم نوعان لا ثالث لهما.
إما أن يكون نقلا عن معصوم؛ يعني عن معصوم من الخطأ، وذلك هو الكتاب والسنة والإجماع، فإن الكتاب والسنة إنما هي من الله جل وعلا، والإجماع كذلك معصوم من الخطأ؛ ذلك أنه قد جاءت عدة أحاديث يعضد بعضها يعضا بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيّن أن الأمة لا تجتمع على ضلالة.
فالحجة المعصومة الكتاب والسنة والإجماع.
قال (وَإِمَّا قَوْلٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ) العلم إما نقل عن معصوم، وإما اجتهاد من أحد المتأهلين للاجتهاد عليه دليل معلوم، وهذا فيه إخراج للدليل المتوهَّم لأن بعض المتعصبين للعلماء يقولون: لابد أن يكون ثَم دليل عند العالم على هذه المسألة لكنه لم ينقل إلينا، وإنما نحن متعبدون بما دلّت عليه الأدلة؛ لأن هذا هو العلم.
وقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله تعالى في كتابه الجامع أن العلماء أجمعت على أن المقلد لا يسمى عالما، وإنما الذي يسمى عالما الذي يأخذ القول بدليله.
والعلم القول الذي عليه دليل معلوم، إما النقل المعصوم أو القول عليه دليل معلوم؛ يعني عالم يجتهد ثم يكون لقوله دليل:
إما منه بأن يتكلم بالدليل، يُعطف كلامه بالدليل وهذا سنستفيد منه في التفسير.(4/2)
وإما أن يكون الدليل واضحا لكلامه لا يكون كلامه عليه دليل يعلمه العلماء فيقولون دليل ابن عباس مثلا كذا، دليل علي في تفسيره كذا أو في غير التفسير، مثل ما ذكرنا في تفسير ابن عباس لما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وجماعة بأنه كان يقرأ ? وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ?[الأعراف:127]، ?وَيَذَرَكَ وَإِلَهَتَكَ? ما دليله؟ قال ابن عباس لأنه كان يُعبد ولا يَعبد، واستدل له العلماء بهذا القول من اجتهاد ابن عباس القراءة الصحيحة التي نقلها هو استدلوا لها بقول الله تعالى مخبرا عن قول فرعون ?مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي?[القصص:38].
فإذن العلم بالتفسير:
إما أن يكون نقلا عن معصوم وهذا أن تكون الآية مفسرة بالقرآن، القرآن مفسر بالقرآن، أو القرآن مفسر بالسنة، مثلا آية أُطلق في موضع وبُيِّن في موضع كما قال جل وعلا ?وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ?[النحل:118]، ما هو الذي حرم عليهم هو المذكور في آية الأنعام ?وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ?[الأنعام:146]، وليس المذكور في سورة النساء في قوله ?فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا?[النساء:160]، ذلك لأن هذا كان كالتفسير لما قبله ?حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ? والأنعام متقدمة على ذلك.
في القرآن إجمال في موضع وبيان في موضع آخر، وهذا كثير، مثلا في قوله تعالى في سورة طه في قصة موسى ?وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا?[طه:46]، فتناك فتونا ما هذا الفتون؟ ?وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا? ما هذه الفتون التي هي جمع فتنة التي فتن بها موسى عليه السلام؟ تبينها قصة موسى بأنواع ما حصل له من الابتلاء، وهذا هو الذي فهمه ابن عباس وساق عليه الحديث المعروف عند أهل التفسير في حديث الفتون الطويل.(4/3)
المقصود أنّ القرآن قد يجمل في موضع ويبين في موضع، يطلق في موضع يقيد في موضع إلى آخره، هذا علم نقل عن معصوم.
كذلك تفسر السنة القرآن. الإجماع، الإجماع على أن تفسير هذه الآية هو كذا، وهذا سيأتينا له أمثلة إن شاء الله تعالى.
الدليل المعلوم يعني عالم يفسر القرآن باجتهاده؛ لكن دليله له دليل صحيح، تفسيره صحيح عن اجتهاد نعم؛ لكن له دليله لم يخرج عن الأدلة، يعني بمعنى أن قوله ليس باطلا.
القسم الثالث قول ليس بنقل عن معصوم وليس بقول له دليل معلوم، فهذا القسم الثالث ليس من العلم وهو ما يوقف فيه -كما ذكر- ليس معروف بأنه منقود ولا أنه بهرج، يعني لا يعرف أنه صحيح ولا أنه فاسد ليس عليه دليل، لا نعرف دليلا عليه فهذا إذا لم يدل الدليل على بطلانه ينسب إلى قائله دون أن يعتمد عليه، وهذا مهم فيما سيأتينا إن شاء الله تعالى في هذه الرسالة من تفسير.نعم
[المتن](4/4)
وَحَاجَةُ الْأُمَّةِ مَاسَّةٌ إلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسُنُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِر،َ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ. قَالَ تَعَالَى: ?فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى? [طه:123-126].
وَقَالَ تَعَالَى: ?قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ? [المائدة:15-16].
وَقَالَ تَعَالَى: ?الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ?[إبراهيم:1-2].(4/5)
وَقَالَ تَعَالَى: ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (51)صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ?[الشورى:51-52].
وَقَدْ كَتَبْتُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ مُخْتَصَرَةً بِحَسَبِ تَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إمْلَاءِ الْفُؤَادِ وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ.
[الشرح]
هذه الجمل تضمّنت في أولها وصف القرآن بأنواع من الأوصاف معروفة عند العلماء بأنها في حديث علي -يعني علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عنْهُ-، وهذه الأوصاف التي سمعتم رُويت عن علي مرفوعة وموقوفة بوصف القرآن بأنه حبل الله المتين وصراطه القويم، من حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى آخره، من تركه من جبار قسمه الله ومن ابتغى العزة في غيره أذله الله، إلى آخره.
والصواب أنها موقوفة على علي ولا يصح رفعها كما صحح ذلك الحفاظ كابن كثير وكشيخ الإسلام وجماعة.(4/6)
القرآن وُصف بأنه نور وذلك لأن الله جل وعلا هو النور، من الأسماء، من أسماء الله جل وعلا النور وكلامه نور ودينه نور، ولاشك أنّ النور إنّما يكون مع حامله بقدر إفادته منه، ولهذا كان مهما أن نفهم القرآن حتى يعظم النور فليس كل حافظ للقرآن معه ذلك النور؛ بل العالم بالقرآن المهتدي به، الوقّاف عند حدوده، المحل لحلاله، المحرم لحرامه، معه من النور في قلبه وفي بصيرته بقدر ما حَمَل من النور من نور القرآن، ونور القرآن عظيم جدا ?قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ? وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه يهدي إلى النور وهو الإسلام، وجاء بالنور وهو القرآن، فالله جل وعلا النور وكتابه نور ورسوله نور والإسلام دينه نور، ?أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا?[الأنعام:122] فالنور هنا هو الإسلام.
فإذا كان كذلك وكان الكتاب هو النور، لاشك أنه تعظم الحاجة إلى العناية بتفهيم القرآن وبتفسير القرآن ومعرفة معاني القرآن، حتى إذا تُلي القرآن علم العبد معانيه، ولهذا من جهل الناس بالقرآن وعدم معرفتهم به أنهم ربما سَكَبَت عيونهم الدمعة مرات تلو مرات بغير القرآن وقلما يكون عند تلاوة القرآن.
والله جل وعلا وصف الذين يتلون الكتاب حق التلاوة الذين يعلمون معاني القرآن بأنهم ?إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا?[مريم:58]، القرآن له سلطانه على قلوب محبيه لاشك؛ لكن هذا إنما يكون عند من له فهم في القرآن، له معرفة، له علم به، وبقدر ما عنده وما يفتح الله جل وعلا عليه من أمور الإيمان يوفق إلى ذلك، فسبيل النور هذا والصفة في هذه الآيات التي استدل بها شيخ الإسلام رحمه الله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، إنما يكون بفهم القرآن.(4/7)
وهذه المقدمة منه تبين لك أن الاهتمام بتفسير القرآن من أهم المهمات، لفهم معاني القرآن، ولا يكون ذلك إلا بفهم أصول التفسير، فإن معرفة معاني القرآن مبنية على مقدمات هي من أصول التفسير في كثير منها.
فأصول التفسير التي سيأتي بيانها يحتاج إليها المتلقي للتفسير والمفسر جميعا.
نختم بهذا ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وأما الأسئلة التي جاءت فنجمعها مرة إن شاء الله ونجيب عليها جميعا.
(((((
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري(4/8)
- - - - - - - - - - -
شرح
مقدمة في أصول التفسير
لشيخ الإسلام ابن تيمية
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[الدرس الثالث]
[مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
الدرس الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
فَصْلٌ
[فِي أنّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ]
يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ?لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ?[النحل:44]، يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا.
وَ[قَدْ] قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا; وَلِهَذَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ.
وَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ الرَّجُلُ إذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَلَّ فِي أَعْيُنِنَا.
وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ الْبَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ قِيلَ: ثَمَانِ سِنِينَ ذَكَرَهُ مَالِكٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ?[ص:29]، وَقَالَ: ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ?[محمد:24]، وَقَالَ: ?أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ?[المؤمنون:68]، وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لَا يُمْكِنُ.(5/1)
وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ?إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ?[يوسف:2]، وَعَقْلُ الْكَلَامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِه.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنَ الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلَا يَسْتَشْرِحُوهُ فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِصْمَتُهُمْ وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؟.
وَلِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ [قَلِيلًا] جِدًّا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الصَّحَابَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ.
وَكُلَّمَا كَانَ الْعَصْرُ أَشْرَفَ كَانَ الِاجْتِمَاعُ والائتلاف وَالْعِلْمُ وَالْبَيَانُ فِيهِ أَكْثَرَ، وَمِنْ التَّابِعِينَ مَنْ تَلَقَّى جَمِيعَ التَّفْسِيرِ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ.
وَلِهَذَا يَعْتَمِدُ عَلَى تَفْسِيرِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي التَّفْسِيرِ يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.(5/2)
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّابِعِينَ تَلَقَّوْا التَّفْسِيرَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا تَلَقَّوْا عَنْهُمْ عِلْمَ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ السُّنَنِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ. ا.هـ
[الشرح]
الحمد لله، هذه الكلمات اشتملت على مسائل:
الأولى: أن الله جل جلاله أمر عباده أن يتدبروا القرآن فقال ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ? وقال ?أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ?، وهذا فيه حث وأمر لتدبر القرآن، وقال ?لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ?، ومعلوم أنّ التدبر لا يمكن أن يحصل إلا بفهم المعاني، وفهم معاني القرآن هو التفسير، فتنتج من هذه المقدمات أنّ التفسير مأمور به.
ولهذا تكون عناية أهل العلم بالتفسير بأنه مأمور به في قوله تعالى ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا?[محمد:24]، فالذي يعرض عن التفسير معناه يعرض عن التدبر؛ لأنه لا يمكن أن يتدبر إلا بعقل المعاني، وعقل المعاني لا يمكن أن يكون إلا بمعرفة أقوال المفسرين في ذلك.(5/3)
الأمر الثاني: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيّن للناس معاني القرآن، بينه للصحابة وهم كانوا يأخذون من ذلك ما يحتاجون إليه، فربما كان البيان واقعا عمّا يفهمونه فيكون في مجرى التأكيد، وربما كان البيان عما لا يعلمونه فيكون علما جديدا لا يأخذونه من اللغة، وهذا لاشك وقع كثيرا؛ ولكن المنقول عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ الأحاديث التي فيها التفسير عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قليلة جدا بالنسبة إلى التفسير المنقول عن الصحابة.(1) وذكر أن الصحابة بينوا لمن بعدهم تفسير القرآن، وتفسيرهم له إنما هو في مجموعة مأخوذ من بيان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد يتكلمون في ذلك باجتهاد والاستنباط، وأعظمهم في ذلك عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رَضِيَ اللهُ عنْهُما فإنه قد دعا له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يعلم الكتابة فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في دعائه له « اللهم علمه الكتابة» وقال «اللهم علمه الحكمة» وقال «اللهم علمه التأويل»، وهذا مما يعتني به أهل العلم لأن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ ظهرت فيه قوة فهمه بالتفسير، وقد أثني عليه في ذلك ابن مسعود حيث قال ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ: نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس.
__________
(1) انتهى الشريط الأول.(5/4)
فابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ كانت له مدرسة في مكة في التفسير، أخذ عنه التفسير جماعة من أصحابه، ومنهم من لازمه في التفسير وأطال الملازمة وهو مجاهد بن جبر أبو الحجاج التابعي الإمام المعروف؛ فإنه عرض على ابن عباس التفسير من القرآن ثلاث مرات يوقفه عند كل آية لا يعلم معناها ويسأله عن معناها، ومن أصحاب ابن عباس من تلامذته في التفسير عطاء بن رباح، ومنهم سعيد بين جبير، ومنهم طاووس بن كيسان اليماني وجماعة، فهؤلاء مدرسة، تلامذة ابن عباس أخذوا التفسير عن ابن عباس، كلهم في الغالب يقولون فيما قال ابن عباس، أو إذا استنبطوا على وفق أصول ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُما فيما قال لهم.
أما مجاهد بخصوصه فكما قال شيخ الإسلام هنا ورواه ابن جرير فيما أذكر وغيره أن سفيان الثوري (إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ) لم؟ لأن مجاهدا عرض القرآن عن ابن عباس عدة مرات فهو في مظنة من حفظ التفسير تماما، وربما فسر القرآن بدون أن يعزوه لابن عباس وربما عزاه لابن عباس.
ولهذا أهل العلم يجعلون الصحيفة الصادقة في التفسير وهي صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يجعلونها أصح المرويات عن ابن عباس في التفسير، وهي التي قال فيها الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن بمصر صحيفة في التفسير عن ابن عباس، لو رحل إليها رجل ما كان كثيرا. وهي ليست بالطويلة اعتمدها البخاري في صحيحه.(5/5)
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهي صحيفة أخذها علي بالوجادة يعني ليس بالسماع؛ لأن علي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس، وقال العلماء: علي بن أبي طلحة قد أخذها بالسماع عن مجاهد. قال الحافظ ابن حجر: فإذا علمت الواسطة لم يضر أن تكون وجادة. لأن الذي نقل ذلك عن ابن عباس هو جاهد وعلي بن أبي طلحة يروي هذه الصحيفة عن مجاهد، ولهذا تجد أن ابن جرير أكثر ما يروي عن ابن عباس ما وجد إلى ذلك سبيلا أن يقول في طريق معاوية عن علي عن ابن عباس يعني علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
ومجاهد يعتني به العلماء كثيرا، فإذا وجد من مجاهد وتفسيره موجود مطبوع تفسير مجاهد، إذا وجد عن مجاهد -يعني التفسير المجموع- عن مجاهد التفسير فإنهم يعتمدونه لأنه أصح أو أقوى من يتكلم في التفسير من التابعين وذلك لكثرة ما أخذ عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
إذن نخلص من هذا إلى أن الصحابة ربما اختلفوا في التفسير، وذلك راجع إلى تنوع نظرهم واستنباطهم واستدلالاتهم.
التابعون كذلك ربما اختلفوا، وذكر لك رحمه الله أنه كلما كان الزمن أشرف كان الاجتماع والائتلاف أكثر وأعظم، لأن شرف الزمان بشرف أهله، وإذا عقل أهل الزمان وعلموا فإنهم يكونون أحرص ما يكونون على الاجتماع في الدين وعلى الاجتماع في أمورهم؛ لأن الخلاف في أمور الدين بل وفي الأمور جميعا ليس محمود.
قال: كلما كان الزمن أشرف كان الاجتماع والائتلاف أعظم وأوسع. وهذا خذه فيما بعد ذلك من الزمن، كلما نزل الزمن تجد أن الاختلاف في التفسير يكثر، لهذا يعتد أهل العلم الأثريون في التفسير على تفاسير الصحابة وعلى تفاسير التابعين؛ لأنهم في الغالب يكونون مجتمعين على ذلك.
نعم قد يكون ثم إجماع منهم في بعض الآي وقد يكون ثم اختلاف بينهم، وسيأتي بيان أنواع الاختلاف، وأنواع الاجتماع في ذلك.(5/6)
وذكر هنا تفسير الإمام أحمد، وهذا تفسير مفقود لا يعلم وقد ذُكر أنه كبير، ذُكر أنه كبير جدا كما ذكر أن الإمام أحمد يكرر الطرق عن مجاهد في تفسيره. هكذا؟ أعد العبارة:
[المتن]
وَلِهَذَا يَعْتَمِدُ عَلَى تَفْسِيرِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي التَّفْسِيرِ يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.
[الشرح]
تفسير الإمام أحمد هذا لا نعرف له ذكرا، وقد أنكره بعض العلماء كالذهبي في تذكرة الحفاظ وفي السير أنكر كبره، وابن القيم نقل نقولا كثيرة عنه -يعني عن الإمام أحمد في التفسير- لا أدري هي عن هذا الكتاب أم عن غيره في كتاب بدائع الفوائد. نعم
[المتن]
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّابِعِينَ تَلَقَّوْا التَّفْسِيرَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا تَلَقَّوْا عَنْهُمْ عِلْمَ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ السُّنَنِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
[الشرح]
الاستنباط والاستدلال في التفسير لا يجوز إلا بشروط جمعها أهل العلم في الآتي:
الأول: أن يكون عالما بالقرآن؛ لأنه إن فسر بغير علم بالقرآن ربما جهل أن هذه الآية قد بُينت في موضع آخر قد فسرتها آية أخرى.
الثاني: أن يعلم السنة حتى لا يفسر القرآن بما بعارض السنة.
الثالث: أن يكون عالما بلغة العرب؛ لأنه إذا كان عالما بلغة العرب؛ لأنه إذا كان عالما بلغة العرب أمكنه الاستنباط، وإذا كان غير عالم بلغة العرب في مفرداتها ونحوها وبلاغتها ونحو ذلك لحقه من النقص في التفسير بقدر ذلك، فإن كان يجهل المفردات أصلا وتراكيب الكلام والنظم فإنه لا يجوز له أن يتعاطى التفسير أصلا.(5/7)
الرابع: أن يكون عالما بأدوات الاجتهاد وآلات العلوم وهي أصول فقه وأصول لغة وأصول الحديث.
أما أصول الفقه فلأن فيه تقرير القواعد أصول التفسير.
واما أصول اللغة فلأن بها معرفة كيف يفسر وعلى مقتضى اللغة، وقد يكون اللفظ له دلالة في اللغة؛ لكنه نقل إما دلالة شرعية أو دلالة عرفية، فإذا لم يعلم ترتيب الحقائق في أصول اللغة لغوية عرفية شرعية دخله الخطأ، وهكذا في أصول اللغة من الاشتقاق ونحو ذلك.
أما أصول الحديث حتى يميز الغلط من الصواب في المنعقول عن الصحابة، لهذا غلّط العلماء الفيروز آبادي صاحب القاموس في كتاب جمعه في التفسير عن ابن عباس وسمّاه تنوير المقباس -بالباء- تنوير المقباس من تفسير ابن عباس، جمعه من أوْهى الطرق في التفسير عن ابن عباس؛ طريق السُّدِّي الصغير محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي سعيد أو عن ابن صالح عن ابن عباس وهذه طريق أوهى الطرق عن ابن عباس.
فلأجل عدم علمه بأصول الحديث وكيفية إثبات الأسانيد فإنه جهل ذلك ونسب لابن عباس ما هو منه براء.
نعم هاهنا تنبيه مهم وهو أنه ليست قواعد مصطلح الحديث منطبقة دائما على أسانيد المفسرين، لهذا يخطئ كثيرون من المعاصرين في نقدهم لأسانيد التفسير على طريقة نقدهم لأسانيد الحديث؛ بل تجد أحدهم يتعّجب من ابن جرير وابن كثير والبغوي بل ابن أبي حاتم ونحو ذلك من إيرادهم التفاسير عن الصحابة والتابعين بالأسانيد التي هي على طريقة مصطلح الحديث ربما كانت ضعيفة؛ لكنها على طريقة مصطلح الحديث الذي اعتمده المفسرون تكون صحيحة.(5/8)
مثال ذلك حديث السّدي، السدي صاحب تفسير، له تفسير يفسر باستنباطه ويفسر وينقل عن غيره، يروي التفسير عنه أسباط بن نصر يروي التفسير عنه أسباط بن نصر، السدي فيه ربما كلام، وأسباط بن نصر أيضا فيه كلام ربما ضُعِّف بل جعل ممن اُنتقد على مسلم إيراد حديثه، فيأتي فيقول هذا الإسناد حسن بل ربما يقول هذا ضعيف، وهذا عند العلماء بالتفسير هذا من أجود الأسانيد؛ بل هو أجود أسانيد تفسير السدي، وإن كان أسباط فيه كلام فذلك الكلام فيه في الحديث، أما في العناية بالتفسير فلو به خصوصية خاصة تفسير السدي، وقد نقله عن كتابه وحفظه، ولهذا لما ترجم له العلماء قال راوي تفسير السدي.
مثل علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، يأتي كثيرون يقولون علي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس، فهذا منقطع فالتفسير ضعيف، وتفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هذا الذي اعتمده البخاري فيما يعلقه في التفسير عن ابن عباس في صحيحه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر كما ذكرت لكم آنفا أن الواسطة هي مجاهد وهي وجادة يعرف العلماء هذا.
فليست كل قاعدة عند أهل الحديث تطبق على أسانيد المفسرين بل المفسرون لهم في ذلك خصوصيات يعرفها المتحققون بذلك نعم.
نعم إن أصول المصطلح -مصطلح الحديث- تنطق على أسانيد المفسرين إلى حد ما؛ لكن ليست على إطلاقها، أحيانا يكون بعض الأسانيد ضعيفة على طريقة المحدثين لكن مروية من جهة [الشرف] (1) مثل الإسناد المعروف عن ابن عباس الذي فيه: حدثني أبي عن جدي عن عمه عن أبيه عن جده عن ابن عباس، إسناد يكثر في تفسير ابن جرير، وهذا الإسناد وإن كان ضعيفا من جهة ضعف الرجال لجهالة بعضهم وعدم معرفته؛ لكن اعتمده العلماء لأجل أن الغرض من ذكر هذا جهة [الشرف].
وهذا إلى تفصيل يعني أن يترك الراوي في الرواية عن أبيه وأنهم رووا التفسير دون نظر إلى أنه هل هو ثقة أو غيره فإنهم تلقوا ذلك وتتابعوا عليه.
__________
(1) أو قال: الشرع.(5/9)
على كل حال هذا المقام له مزيد تفصيل، أيضا من الشروط، الآن نتكلم عن شروط الاستنباط؟ صحيح.
من الشروط أن يكون عالما بتوحيد الله في ربوبيته وفي ألوهيته وأسمائه وصفاته، فإذا كان جاهلا بالتوحيد لم يجز له أن يفسر، فإن فسر كان من أهل الرأي المذموم، ولذلك جُعلت التفاسير المبتدعة جميعا في تفسير آيات الصفات أو التوحيد من التفاسير بالرأي المذموم لأنهم جهلوا الحق في ذلك أو لم يلتزموه.
أضاف بعضهم إلى الشروط -وهو محل تأمل- العلم بأحوال العرب، العلم بأحوال المشركين وأحوال العرب وأمورهم الدينية والاجتماعية وعلاقاتهم ببعضهم البعض ونحو ذلك.
وأضاف بعضهم العلم بأسباب النزول.
وأضاف آخرون العلم بسيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لكن هي داخلة فيما مضى بنحو أو بآخر.
نعم، التابعون اجتهدوا والصحابة اجتهدوا لتوفر ذلك فيهم، فاجتهادهم من الاجتهاد المقبول السائغ، وإن حصل من بعضهم اجتهاد عن غير دليل ولا برهان أو يرده الدليل فإنه يُرد عليه، كما رُدّ على مجاهد بعض تفاسيره فإن كان هو مجاهد رد عليه بعض التفسير؛ وذلك في تفسير قوله تعالى ?عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا?[الإسراء:79]، فإنه فسر المقام المحمود بإجلاسه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على العرش. وهذا وإن كان أهل السنة يُثبتون الخبر عن مجاهد؛ لأن فيه ردا على أهل التجهّم وأنّ أهل التجهم معاندون مخالفون للتابعين -ونحو ذلك مما بيانه في التوحيد- لكن هذه الخصوصية في التفسير لم تُرْوَ إلا عن مجاهد، وإن كان هو الإمام مجاهد بن حبر رحمه الله لكن لم يدل دليل على هذا الاستنباط؛ بل دل الدليل على خلاف قوله من أن المقام المحمود هو الشفاعة العظمى في يوم القيامة.
لهذا نقول الاجتهاد والاستنباط كثير في الصحابة، كثير في التابعين، كثير فيمن بعدهم، ولا يجوز إلا بشروط وإلا خرج إلى التفسير المذموم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
((((((5/10)
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري(5/11)
- - - - - - - - - - -
شرح
مقدمة في أصول التفسير
لشيخ الإسلام ابن تيمية
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[الدرس الرابع]
[مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
الدرس الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
فَصْلٌ
[فِي اخْتِلاَفِ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ وَأَنَّهُ اخْتِلاَفُ تَنَوُّع]
الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ قَلِيلٌ، وَخِلَافُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ أَكْثَرُ مِنْ خِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ، وَغَالِبُ مَا يَصِحُّ عَنْهُمْ مِنْ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ تَنَوُّعٍ لَا اخْتِلَافِ تَضَادٍّ، وَذَلِكَ صِنْفَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَبِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ الْمُرَادِ بِعِبَارَةِ غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي الْمُسَمَّى غَيْرِ الْمَعْنَى الْآخَرِ مَعَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَكَافِئَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ. كَمَا قِيلَ فِي اسْمِ السَّيْفِ: الصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، فَلَيْسَ دُعَاؤُهُ بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مُضَادًّا لِدُعَائِهِ بِاسْمِ آخَرَ؛ بَلْ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ?قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى?.
وَكُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْمُسَمَّاةِ وَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الِاسْمُ.
كَالْعَلِيمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْعِلْمِ.
وَالْقَدِيرُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْقُدْرَةِ.
وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالرَّحْمَةِ.(6/1)
وَمَنْ أَنْكَرَ دَلَالَةَ أَسْمَائِهِ عَلَى صِفَاتِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي الظَّاهِرَ، فَقَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يُقَالُ هُوَ حَيٌّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ؛ بَلْ يَنْفُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْقَرَامِطَةَ الْبَاطِنِيَّةَ لَا يُنْكِرُونَ اسْمًا هُوَ عِلْمٌ مَحْضٌ كَالْمُضْمَرَاتِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مِنْ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ؛ فَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَقْصُودِهِمْ كَانَ مَعَ دَعْوَاهُ الْغُلُوَّ فِي الظَّاهِرِ مُوَافِقًا لِغُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ فِي ذَلِكَ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَعَلَى مَا فِي الِاسْمِ مِنْ صِفَاتِهِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي فِي الِاسْمِ الْآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ.
وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ وَالْعَاقِبِ.
وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ: مِثْلُ الْقُرْآنِ وَالْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالشِّفَاءِ وَالْبَيَانِ وَالْكِتَابِ. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ تَعْيِينَ الْمُسَمَّى عَبَّرْنَا عَنْهُ بِأَيِّ اسْمٍ كَانَ إذَا عُرِفَ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ.
وَقَدْ يَكُونُ الِاسْمُ عَلَمًا، وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً كَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ: ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي?[طه:124] مَا ذِكْرُهُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ الْقُرْآنُ مَثَلًا أَوْ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكُتُبِ. فَإِنَّ الذِّكْرَ مَصْدَرٌ. وَالْمَصْدَرُ تَارَةً يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَتَارَةً إلَى الْمَفْعُولِ.(6/2)
فَإِذَا قِيلَ ذِكْرُ اللَّهِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي كَانَ مَا يُذْكَرُ بِهِ مِثْلَ قَوْلِ الْعَبْدِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ.
وَإِذَا قِيلَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَانَ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ وَهُوَ كَلَامُهُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي? لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ ?فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى?[البقرة:38]، وَهُدَاهُ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الذِّكْرِ وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ?قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا?[طه:125-126].
وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ كَلَامُهُ الْمُنَزَّلُ أَوْ هُوَ ذِكْرُ الْعَبْدِ لَهُ، فَسَوَاءٌ قِيلَ ذِكْرِي كِتَابِي أَوْ كَلَامِي أَوْ هُدَايَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَانَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا.
وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ مَعْرِفَةَ مَا فِي الِاسْمِ مِنْ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى تَعْيِينِ الْمُسَمَّى مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْقُدُّوسِ السَّلَامِ الْمُؤْمِنِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ اللَّهُ؛ لَكِنَّ مُرَادَهُ مَا مَعْنَى كَوْنِهِ قُدُّوسًا سَلَامًا مُؤْمِنًا وَنَحْوَ ذَلِكَ.(6/3)
إذَا عُرِفَ هَذَا فَالسَّلَفُ كَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَنْ الْمُسَمَّى بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الصِّفَةِ مَا لَيْسَ فِي الِاسْمِ الْآخَرِ كَمَنْ يَقُولُ: أَحْمَد هُوَ الْحَاشِرُ وَالْمَاحِي وَالْعَاقِبُ، وَالْقُدُّوسُ هُوَ الْغَفُورُ وَالرَّحِيمُ أَيْ إِنَّ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ لَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ هَذِهِ الصِّفَةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ اخْتِلَافَ تَضَادٍّ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ.
مِثَالُ ذَلِكَ تَفْسِيرُهُمْ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ:
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْقُرْآنُ: أَيْ اتِّبَاعُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ: «هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ».
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْإِسْلَامُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَلَى جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ، وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ، قَالَ: فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ».(6/4)
فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ؛ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ غَيْرِ الْوَصْفِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ "صِرَاطٍ" يُشْعِرُ بِوَصْفِ ثَالِثٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَشَارُوا إلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ ; لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ بِصِفَةِ مِنْ صِفَاتِهَا.
[الشرح]
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
هذا الكلام مهم جدا للناظر في كلام السلف في التفسير، وقدّم له بمقدمة؛ وهي أن كلام السلف من الصحابة والتابعين في التفسير قد يكون مختلفا؛ ولكن خلافهم واختلافهم في التفسير قليل إذ بالنسبة إلى اختلافهم في الأحكام الفقهية، فإن اختلافهم في الأحكام كثير جدا، وأما اختلافهم في التفسير فقليل.
وهذا الكلام قد لا يُسَلّم له إذا نظر إلى أن الاختلاف في كل آية موجود عن السلف موجود عنهم الخلاف في تفسير كلمات الآيات أو في تفسير الآيات بين الصحابة والتابعين، وهنا لا يُعترض بمثل هذا الاعتراض قعّد شيخ الإسلام رحمه الله هذه القاعدة التي هي من القواعد الأصولية وهي أن الاختلاف نوعان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد.
وبين لك اختلاف التنوع ببيان أصله -أصل معناه-، ثم ببين أمثلة عليها واضحة من غير القرآن، ثم مثل لذلك بالصراط المستقيم في القرآن، وقبله بالذكر في القرآن.(6/5)
وتقرير ذلك أن الاختلاف -الاختلاف في الآية بتفسيرها أو في كلمة منها- لا يعني أن يكون القول بل أقول: إن الاتفاق في تفسير الآية أو في تفسير كلمة منها لا يعني أن يكون القول من الصحابي موافقا للقول الآخر في حروفه؛ بل قد يكون الاتفاق في المعنى ولا يسمى هذا اختلافا؛ بل هو اتفاق؛ لأنه في الحقيقة اتفقوا على المعنى، أما اللفظ فجرى بينهم خلاف فيه، فمن الناس من ينظر إلى اللفظ ويقول: السلف اختلفوا في ذلك. وهذا ليس بصحيح؛ بل المفسر ينظر إلى المعنى؛ لأن من يرد التفسير إنما يبين معنى الكلام، وتبيين معنى الكلام يختلف باختلاف المفسِّر، يختلف باختلاف المعبِّر؛ لأنه تعبير عما فهمه من الكلام، قد يكون هذا التعبير بالنظر إلى حاجة المتكلم من أنه سأل عن شيء معين أو لحاجته التي فيها إصلاحه من جهة الهداية، أو بالنظر إلى عموم اللفظ وما يشمله ونحو ذلك، فقال: إن الاختلاف في التنوع هذا في منزلة الألفاظ المتكافئة التي هي بين المترادفة والمتباينة. وعند الأصوليين الألفاظ إما أن تكون متواطئة أو مشتركة أو [مشككة] أو مترادفة أو متباينة.
والترادف التام لا يوجد في القرآن ولا في اللغة، أو إن وجد عند بعض المحققين من بعض العلم فإنه نادر الترادف التام؛ يعني أن هذا اللفظ يساوي هذا اللفظ من كل جهاته، يساويه في المعنى من كل جهاته، هذا الترادف.(6/6)
أما التباين فأن تكون هذه غير تلك لفظا ومعنى، بينهما -كما ذكر شيخ الإسلام وهو اختيار له-، عند طائفة من الأصوليين غير ذلك؛ لأنهم يجعلون الأسماء المتكافئة من المتباينة، ويجعلون المتباينة قسمين؛ لكن نسير على كلامه في أن الألفاظ المتكافئة بين المترادفة والمتباينة، فهي ليست مترادفة، كل لفظ هو الآخر لفظا ومعنى، وليست هي المترادفة لأن اللفظ مع الآخر متساوية في المعنى تاما لا اختلاف فيه، وليست هي المتباينة من أن هذا اللفظ غير ذاك تماما -يعني مع معناه-؛ المعنى مختلف تماما كما أن اللفظ مختلف تماما؛ بل هي بين هذا وهذا؛ يعني هي متكافئة لاشتراك في شيء واختلاف في شيء، في دلالتها على المسمى على الذات هذه واحدة، في دلالتها على أوصاف الذات هذه مختلفة.
مثل ما ذكر من أسماء السيف أنه السيف والصارم والمهند والبتار إلى آخره، هذه هي متباينة؟ على كلامه ليست بمتباينة؛ لأن البتار والصارم والمهند كل هذا معناه السيف، وهل هي مترادفة؟ لا؛ لأن دلالتها على الذات واحدة؛ لكن مختلفة في المعنى البتار فيه أنه سيف وزيادة وصف وهو كونه بتارا، المهند سيف وزيادة كونه جاء من الهند، الصارم سيف وزيادة أن من وصفه الصّرامة وهكذا.
فإذن فيها ترادف من جهة الدلالة على المسمّى وفيها تباين من جهة المعنى فصارت بيْن بيْن، وسميت متكافئة؛ يعني يكافئ بعضها بعضا وهذا لا يقتضي التبيان ولا يقتضي الترادف.(6/7)
هذا مثل ما جاء في الأسماء الحسنى كما مثّل لك، فإن اسم الله العليم والمؤمن والقدوس والسّلام هذه بدلالة الذات، فإن العليم هو الله، والقدوس هو الله، والسلام هو الله، والرحيم هو الله، والملك هو الله، من جهة دلالتها على الذات واحدة، ومن جهة دلالتها على الصفة مختلفة، فإن اسم الله القدوس ليس مساويا في المعنى -من جهة الصفة- لاسم الله الرحيم، اسم الله العزيز ليس مساويا من جهة المعنى -يعني الصفة التي اشتمل عليها الاسم- لاسم الله القوي، ونحو ذلك، هذه تسمى متكافئة؛ يعني من حيث دلالتها على المسمى واحدة؛ لكن من حيث دلالتها على الوصف الذي في المسمى مختلفة؛ لأن المسمى الذات ذات أي شيء والمسمى هذا يختلف، فيه صفات متعددة؛ إذا نظرت له من جهة يوصف بكذا، من جهة أخرى يوصف بكذا، وهو ذات واحدة.
مثّل لهذا بالذكر ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا?[طه:124]، الذكر ما هو؟ هل هو القرآن؟ هل هو السنة؟ هل هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ هل هو ذكر الله؛ يعني التسبيح والتحميد؟ هذه كلها متلازمة؛ يعني من حيث ظاهرها مختلفة، أناس فسّروها بالقرآن، أناس فسروها بالسنة، أناس فسروها بكذا؛ لكن من حيث الدّلالة فإنها متلازمة؛ يعني من أعرض عن القرآن أعرض عن السنة، أعرض عن الإسلام، أعرض عن اتباع الرسول. من أعرض عن السنة أعرض عن القرآن أعرض عن الإسلام، إلى آخره.
فإذن الاختلاف هنا باعتبار المعنى، باعتبار ما اشتمل عليه المسمى من أوصاف.
فإذن هذا لا يسمى اختلافا بين مفسري السلف؛ بل هو اتفاق؛ لكن الاختلاف جاء في الدلالة على المعنى، وهذا له أسباب كما ذكرت بعضها.(6/8)
تفسير الصراط، مرّ معنا أن الصراط فُسر بأنه القرآن، بأنه السنة والجامعة، بأنه السنة، بأنه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه التفاسير متلازمة بعضها لازمٌ لبعض، فإن الصراط الذي هو القرآن هو دال على السنة وهو الإسلام، هل سيهتدي إلى القرآن من لم يهتد إلى السنة؟ هل سيهتدي إلى السنة من لم يهتد إلى الإسلام، وهكذا.
فإذن إذا رأيت اختلافا للسّلف في آية أو في كلمة من آية فانظر المسمّى الذي يجمع هذا الاختلاف، ثم انظر إلى هذا المسمى من جهة صفاته من جهة معانيه المختلفة.
فتنظر إلى تفاسيرهم هل بينها تلازم، فإذا كان ثم تلازم بينها، وأن الواحد يؤول إلى الآخر أو مرتبط بالآخر لا يقوم هذا إلا بهذا أو أنها صفات مختلفة كل واحد ينظر إلى جهة، فإن هذا لا يسمى اختلافا؛ بل تقول: فسرها بعضهم بكذا، لا تقول: اختلف المفسرون فيها إلا إن عنيت اختلاف التنوع؛ بل تقول: فسرها بعضهم بكذا، وفسرها بعضهم بالإسلام، فسّر بعضهم الصراط بكذا، ثم تقول بعد ذلك كما قال ابن كثير وابن جرير وجماعات العلماء بأن هذه الأقوال مؤداها واحد لأنك تجمع ذلك.
مثلا في قوله تعالى ?لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً? في سورة النحل؛ ?وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة?[النحل:41]، هذه الحسنة ما هي؟
قال بعض المفسرين من السلف هي المال، ?لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ? يعني لنعطينهم ولننزلنهم في هذه الدنيا مالا ونعطيهم مالا جزيلا.
قال آخرون هي الزوجات والجواري.
قال آخرون هي الإمارة حيث ينفذ أمرهم ونهيهم.(6/9)
هذه كلها تفاسير، نعم ظاهرها مختلف؛ لكن يجمعها الحسن، الحسن الذي يلائمهم، والحسنة فسرها العلماء بأنها ما يلائم الطبع ويسرّ النفس، وهم كانوا ظلموا من جهة أموالهم فإعادة الأموال وتوسيع الأموال عليهم وكثرة الأرزاق عندهم، هذا حسنة لاشك، والإمارة من ذلك والزوجات وكثرة الجواري لما حرموا منها في أول الإسلام من ذلك.
إذن فهذه التفاسير ترجع إلى شيء واحد، لا يعتبر هذا اختلاف لأن كل واحد ينظر إلى جهة.
ونكمل إن شاء الله بعد [الأذان].
المثال الذي ذكرته من حسنة ?لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً? ويصدق على الصنف الثاني الذي سيذكره شيخ الإسلام أكثر من دلالته على الأول لأنه من قبيل إطلاق بعض أفراد العام على العام؛ لأن الحسنة تجمع أشياء كثيرة، وتفسيرهم لها بأنها الزوجة أو المال أو الإمارة؛ ببعض أفرادها، وهذا هو النوع الثاني الذي سيذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو ليس من النوع الأول.
فإذن النوع الأول من اختلاف التنوع أن يدل كلُّ مفسر على المسمى الواحد ببعض صفاته أو ببعض ما يتَّصل به.
القسم الثاني سيأتي.
[المتن]
الصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ الِاسْمِ الْعَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِ عَلَى النَّوْعِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ.
مِثْل سَائِلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عَنْ مُسَمَّى "لَفْظِ الْخُبْزِ" فَأُرِيَ رَغِيفًا وَقِيلَ لَهُ : هَذَا. فَالْإِشَارَةُ إلَى نَوْعِ هَذَا لَا إلَى هَذَا الرَّغِيفِ وَحْدَهُ.
مِثَالُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ فِي قَوْلِهِ: ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ?[فاطر:32].(6/10)
فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ الْمُضَيِّعَ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمُنْتَهِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ.
وَالْمُقْتَصِدُ يَتَنَاوَلُ فَاعِلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَارِكَ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَالسَّابِقُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ سَبَقَ فَتَقَرَّبَ بِالْحَسَنَاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ.
فَالْمُقْتَصِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ ?وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ?[الواقعة:10-11]، ثُمَّ إنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَذْكُرُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: السَّابِقُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِي يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ إلَى الِاصْفِرَارِ.
أو يَقُولُ: السَّابِقُ وَالْمُقْتَصِدُ وَالظَّالِمُ قَدْ ذَكَرَهُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْمُحْسِنَ بِالصَّدَقَةِ وَالظَّالِمَ بِأَكْلِ الرِّبَا وَالْعَادِلَ بِالْبَيْعِ وَالنَّاسُ فِي الْأَمْوَالِ إمَّا مُحْسِنٌ وَإِمَّا عَادِلٌ وَإِمَّا ظَالِمٌ؛ فَالسَّابِقُ الْمُحْسِنُ بِأَدَاءِ الْمُسْتَحَبَّاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ وَالظَّالِمُ آكِلُ الرِّبَا أَوْ مَانِعُ الزَّكَاةِ وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَلَا يَأْكُلُ الرِّبَا.
وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ.
فَكُلُّ قَوْلٍ فِيهِ ذِكْرُ نَوْعٍ دَاخِلٍ فِي الْآيَةِ وإِنَّمَا ذُكِرَ لِتَعْرِيفِ الْمُسْتَمِعِ بِتَنَاوُلِ الْآيَةِ لَهُ، وَتَنْبِيهِهِ بِهِ عَلَى نَظِيرِهِ؛ فَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِالْمِثَالِ قَدْ يَسْهُلُ أَكْثَرَ مِنْ التَّعْرِيفِ بِالْحَدِّ الْمُطْلَقِ.
وَالْعَقْلُ السَّلِيمُ يَتَفَطَّنُ لِلنَّوْعِ كَمَا يَتَفَطَّنُ إذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى رَغِيفٍ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا هُوَ الْخُبْزُ.(6/11)
وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا؛ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفْسِيرِ.
كَقَوْلِهِمْ: إنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ.
[الشرح]
هذا النوع الثاني أو الصنف الثاني من اختلاف التنوع، وذلك أن في القرآن كثيرا ما تستعمل الألفاظ العامة التي لها معاني كثيرة، مثل ما ذكر من اسم المقتصد، من اسم الظالم لنفسه، السابق بالخيرات، مثل ما ذكرنا في لفظ الحسنة، ومثل ما ذُكر الحسنة ويقابلها السيئة ?إِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ?[الأعراف:131]، ولفظ السيئة كذلك وأتباع هذا.
فيه ألفاظ كثيرة تكون دلالات اللفظ متنوعة باعتبار أفراده يعني عام له أفراد كثيرة، فيأتي المفسر من السلف من الصحابة فيذكر لفظا منها، يذكر لفظا من أفراده تدخل تحت العام، وهذا لا يعد خلافا لأنه ذكره كالتنبيه -كما ذكر الآن شيخ الإسلام- على أن هذا اللفظ يدخل فيه -يعني اللفظ العام- يدخل فيه هذا المعين وهذا المفرد باعتبار الحاجة إلى هذا التعيين بحسب حال السائل أو حال المستمع، ومثاله كما ذكر قال ?فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ? الظالم لنفسه، ?فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ? بأكل الربا، هذا صحيح، الظالم لنفسه يدخل فيه أكل الربا؛ لكن أكل الربا ليس مساويا بالمطابقة للظالم للنفس؛ بل الظلم للنفس يكون بارتكاب أي من المنهيات أو بالتفريط في أي من الواجبات.
فإذا ذكر المفسر بعض أفراد الظلم إما بالتفريط في بعض الواجبات أو بارتكاب بعض المنهيات وذكر غيره فردا آخر من أفراد العام هذا فإن هذا لا يعد اختلافا، وإن سمي اختلافا فهو من اختلاف التنوع، وهذا كما ذكر من التعبير عن العام ببعض أفراده.(6/12)
?وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ? المقتصد من هو؟ قال: هو الذي أدى الصلاة وترك الحرام. أداء الصلاة هذه بعض الواجبات، المقتصد هو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات، فإذا تذكرت بعض أفراد المقتصدين، ذكرت أوصاف لبعض أوصاف المقتصدين فإن هذا لا يعني تعيينا لتفسير اللفظ من حيث حقيقته؛ بل ذكروا ما يتضمنه اللفظ باعتبار أنه فرد دخل تحت عام.
مثل ما مثلت لكم بالحسنة، الحسنة عند العلماء هي ما يلائم الطبع ويسر النفس، النساء من ذلك يعني الزوجات والجواري من ذلك، المال من ذلك، الإمارة والأمر والنهي من ذلك، فلما قال الله جل وعلا فيهم ?لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً?، ?وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة?[النحل:41]، فمن فسرها بأنها المال فسر الحسنة ببعض أفرادها ببعض ما يدخل فيها، قال الآخر هي المال، الزوجات قال الثالث الإمارة، قال الرابع أن يطاع والجاه ونحو ذلك، فهذا لا يعد اختلافا بل كله داخل تحت الاسم العام.
وهذا يفيد الفائدة وهو أن السلف فسّروا القرآن لأجل الهداية لا لأجل الألفاظ، وهذا مما يحتاجه المفسر جدا أن يرى حاجة السائل فيفسر الآية باعتبار حاجته أو حاجة المستمعين، فإن فسرها ببعض أفرادها فإن هذا التفسير منه صحيح وليس مخالف لتفاسير السلف، فلا يرد اعتراض من اعترض تقول أنت فسرت الحسنة بأنها المال، لا هم فسروا الحسنة بأنها الجاه مثلا أو الأمر والنهي، نقول: لا تعارض؛ فإن المفسر قد يرى أن الحاجة أن ينص على بعض الأفراد.
إذن فإذا كان اللفظ عاما يدخل فيه كثير من الأفراد فإنه لا يسوغ تخصيصه.(6/13)
مثال أيضا في سورة النحل في قوله تعالى ?وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ?[النحل:72]، ?جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً?[النحل:72] هنا الحفدة اختلف فيها المفسرون:
فمنهم من قال: الحفدة هو أولاد الأولاد، الحفيد يعني ابن الابن.
قال آخرون: الحفدة هم الأصهار؛ يعني أزواج البنات.
وقال آخرون: الحفدة هم العبيد والخدم.
هذا لا يعتبر اختلافا لأن إرجاع معنى اللفظ إلى أصل لغوي يوضح لك أن هذه جميعا من أفراد اللفظ وليست تخصيصا له.
ذلك لأن الحفْد في اللغة هو المسارعة، ومن أوصاف الخادم أنه يسارع في خدمة سيده، وقد جاء في الحديث «إليك نسعى ونَحْفِد». يعني نسرع في طاعتك بالسعي وبما هو أسرع من السعي، نحفد يعني من جهة السرعة، وسُمي الخادم خادما لأنه يسرع في إرضاء سيده، كذلك ولد الولد باعتبار صغره وحداثة سنه ونحو ذلك وما لجده من الحقوق هو يسرع في إرضاء جده.
الأصهار أزواج البنات الأصل أنهم يرضون ويسرعون في إرضاء آباء أولادهم من جهة البنات، وهكذا.
فإذن التفسير الحفدة يشمل هذا كله، فمنهم من عبر عنها بأبناء البنين، ومنهم من عبر عنها بالأصهار، ومنهم من غبر عنهم بالخدم والعبيد، وكل هذا صحيح لأن الحفدة جمع حافد، وهو اسم فاعل الحفد، والحفد المسارعة في الخدمة، وهذا يسقط على هؤلاء جميعا.
هذا من هذا القسم وهو أن يكون اللفظ عاما فيُفسر بأحد أفراده، وهذا لا يعتبر اختلاف لهذا ينظر المفسر، أو تنظر وأنت تقرأ في التفسير إلى هذا بعناية، الاختلافات حاول تجمع بينها:
إما بالجهة الأولى المسمى والصفات.
وإما من هذه الجهة العام وأفراده. ( (1)
[الأسئلة]
هذا اقتراح، نجيب على بعض الأسئلة.
س1/ يقول: أقترح قراءة مقدمة ابن كثير قبل قراءة التفسير؟
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.(6/14)
ج/ مقدمة تفسير ابن كثير لخص فيها مقدمة شيخ الإسلام هذه، وقراءتنا لهذه المقدمة لشيخ الإسلام تكفي عن قراءة مقدمة تفسير ابن كثير.
س2/ يقول هل هناك طبعة معينة -يعني لتفسير ابن كثير- أم هل هناك مختصر أو الأصل ؟
ج/ الآن نقرا في الأصل لأنه أكثر فوائد ففيه الحديث والأسانيد وفيه اللغة وفيه علوم كثيرة، والطبعة التي هي أحسن فيما ظهر لي طبعة [....] في ثمانية أجزاء هذه أصح الطبعات فيما ظهر لي والله أعلم.
س3/ هذا سؤال طويل يقول: هل هناك في القرآن مجاز وكيف ذلك؟
ج/ هذا تفصيله يحتاج إلى محاضرة كاملة؛ لكن المختصر أنّ القرآن الصحيح أن ليس فيه مجاز، ومن ادّعى المجاز في القرآن فهو على أحد قسمين:
إما أن يدعي المجاز في آيات الصفات والآيات التي فيها ذكر للغيب، هذا بدعة وضلال، وغلط أيضا في دعوى المجاز؛لأن المجاز عند من عرفه هو نقل الكلام من وضعه الأول إلى وضع ثانٍ لمناسبة بينهما، وفي هذا التعريف اشتراط أن يكون اللفظ الأول معلوما، والأمور الغيبية لا يُعلم الصفات وما يحدث يوم القيامة واليوم الآخر والأشياء التي لم تر ولم تعرف وذكرها الله جل وعلا في كتابه لا يعلم وضعها الأول، فنقلها إلى وضع ثاني غلط من جهة تطبيق المجاز كما قاله جمع من المحققين ممن ادعوا المجاز أو ممن بحثوا المجاز.
أما إن ادُّعي المجاز في غير آيات الصّفات في الألفاظ في سياق الكلام في بعض الآيات، فإن هذا غلط نقول هذا غلط وخلاف الصواب، والمحققون حققوا أن ليس في القرآن مجاز لأن أصل المجاز وقاعدته أنه يصح نفيه، إذا قال القائل: رأيت أسدا لقائل أن يقول ليس بأسد. رأيت أسدا فكلمني.
كل مجاز معياره صحة نفيه القائلين به، فإذا قال القائل: رأيت أسدا فكلمني، لمن كلمه أو سمع منه أو هو أن يقول ليس بأسد؛ يعني يصح النفي.(6/15)
والقرآن لا يجوز أن ينفى كلمة فإذا قال الله تعالى ?جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ?[الكهف:77] القائلون أن فيها مجازا على قاعدتهم يجوز أن يقال لا يريد أن ينقض لقوله تعالى ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا?[يوسف:82]، من ادعى المجاز يقال له وهو يعترف أنه يصح أن يقال ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ? ليست بقرية والعير ليست بعير وهذا نفي للقرآن، وهذا ممتنع، وهذا من أقوى الأدلة التي أقامها من يدخل المجاز في غير آيات الصفات وأخبار الغيب؛ لكن هو اختلاف أدبي إذا ادعي في غير الآيات، نقول: خلاف الصواب، لكن نقول ليس ببدعة لكثرة القائلين به من العلماء.
المجاز فيه بحوث مطولة جدا لكن أحسنها وأفضلها كتاب للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في المجاز سماه: منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز.
س4/ يسأل عن آية ما معناها إذا لم يكن في القرآن مجاز؟
ج/ البحث يطول يعني القرآن كله حقيقة، فالحقيقة قد تكون على جهة الإفراد تُفهم من جهة أفراد الكلام وقد تكون من جهة تركيب الكلام مثل الظاهر، الظاهر قد يفهم من كلمة وقد تفهمه من التركيب، فقول الله جل وعلا ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ? هذا يفهم من الظاهر ليس من اللفظ ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ? ظاهرها معلوم أن السؤال يقع على من في القرية، هذا ظاهر اللفظ، واللغة العربية حقيقة نأخذ بظاهر ألفاظها ومن ادّعى المجاز حصر الحقيقة في الألفاظ ولم يذكر الحقيقية في التركيب، وحصر الظاهر في اللفظ ولم يذكر الظاهر في التركيب، وهذا باطل؛ لأن الحقيقة قد تكون في التركيب، والظاهر الذي هو القابل التأويل هذا قد يكون أيضا في التركيب.
?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ?[الفرقان:45]، واضح لأن المراد ليس رؤية الله جل وعلا؛ لأنه قال ?كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ? وهذا يفهم من ظاهره التركيب.(6/16)
كذلك قوله تعالى في سورة النحل ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26]، ما يؤخذ من هذه الآية صفة الإتيان لله لأنه ليس المراد هنا إتيان الله جل وعلا بذاته؛ لأنه قال ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ?[النحل:26]، فظاهر الكلام الحقيقة التركيبية مفهومة تُفهم أن المراد بعذابه أو قدرته ونحو ذلك.
وهذا لا يعد تأويلا ويعد قولا بالمجاز.
س5/ ما رأيك أن تكون القراءة مختصر الرفاعي لابن كثير ؟
ج/ ليس بمناسب.
س6/ يقول: هل تقصد باختلاف التنوع أن كل مفسر نظر من زاوية فيفسره حسب المقام وحسب سؤال السائل، فلا يسمى بذلك اختلافا بل أقوالا؟
ج/ هذا جهة أن الشيء الواحد المسمى الواحد قد تكون صفات كثيرة مثلما ذكرنا السيف صارم ومهند وبتار، الأسد أسامة وله عدة أسماء.
هذا لكه باعتبار الصفات أما الذات واحدة، أسماء الله جل وعلا الحسنى، أسماء النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ الحاشر والعاقب والماحي وأحمد ومحمد، كلها دلالة على ذات واحدة وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن باعتبار الصفات تختلف.
إذا نظرت إلى كثرة صفاته المحمودة فهو محمد، إذا نظرت باعتبار تجدد صفاته المحمودة فهو أحمد، إذا نظرت إلى أنه عاقب للأنبياء فهو العاقب، إذا نظرت إلى أن الأنبياء يحشرون على عقبه فهو الحاشر، وهكذا.
فهذا باعتبار الصفات، قد يكون أيضا مثل ما ذكر الصنف الثاني الأفراد مع العام.
ونقف عند هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(((((
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري(6/17)
- - - - - - - - - - -
شرح
مقدمة في أصول التفسير
لشيخ الإسلام ابن تيمية
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[الدرس الخامس]
[مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
الدرس الخامس
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
[وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا؛ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفْسِيرِ.
كَقَوْلِهِمْ: إنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ.]
وَإِنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي عُوَيْمَرْ العَجْلاَنِي أَوْ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ.
وَأَنَّ آيَةَ الْكَلَالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ: ?وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ?[المائدة:49]، نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ: ?وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ?[الأنفال:16]، نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ: ?شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ?[المائدة:106] (1) نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الداري وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءٍ.
وَقَوْلَ أَبِي أَيُّوبَ إنَّ قَوْلَهُ: ?وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ?[البقرة:195]، نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ. الْحَدِيثَ.
__________
(1) وأيضا في البقرة الآية 181.(7/1)
وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولَئِكَ الْأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ; فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أَمْ لَا؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ. وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ إنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، فَيَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِيهَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ.
وَالْآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إنْ كَانَتْ أَمْرًا أو نَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحِ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ.(7/2)
وَمَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالسَّبَبِ يُورِثُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَا نَوَاهُ الْحَالِفُ رُجِعَ(1) إلَى سَبَبِ يَمِينِهِ وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثَارَهَا.
وَقَوْلُهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ وَيُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ كَمَا تَقُولُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ كَذَا.
[الشرح]
__________
(1) قال الشيخ صالح هنا: يعني رُجِع الحالف ببعض الأيمان يُسأل عن نيته ماذا قصد بذلك، إذا قال ما اتضح له الأمر، فيرجع، قال: والله أنا ما أدري ما عندي يقين هو كذا أو كذا فهذا يحصل كثيرا، ويرجع في ذلك إلى سبب اليمين وما هيجها، أوش السبب؟ ينظر فإذا كان غضب و[...] بحكمه، إذا كان الرضى يقول: لا، أنا والله جالس مرتاح ثم فأطلقت هذه العبارة هذا ما فيه سبب يحمله على شيء معين؛ يعني يريد أن أخذ الأحوال، المعاني، من جهة الأسباب أنه مطرد عند العلماء؛ يعني رعاية الأسباب وفهم الشيء بفهم سببه هذا موجود عند العلماء حتى في الفقه فكيف بالتفسير. نعم(7/3)
قوله هنا في أول الكلام أنه قد يجيء السبب الواحد للآية مختلفا، وقد يجيء ذكر السبب واحدا فإذا جاء السبب واحدا مثل قولهم في آية الظهار نزلت في أوس بن الصامت، فهذا لا يعني أن عموم اللفظ يُخص بهذا السبب بل إن العلوم له أفراد ومن أفراده هذه الحادثة التي حدثت، وهذا يدل له دلالة واضحة ما جاء في الصحيح أن رجلا قبل امرأة في الطريق وجاء للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال: إني لقيت امرأة في الطريق أو قال في أحد البساتين أو قال في أحد الحوائط ولا شيء يأتيه الرجل من أمراه إلا فعلته إلا النكاح. يعني إلا الوطء، فسكت النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، ثم أنزل الله جل وعلا عليه قوله ?وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ?[هود:114]، الحسنات ومنها الصلاة تذهب السيئات، فأخذها، فقال الرجل: يا رسول الله ألي وحدي. هذا السائل قال: ألي وحدي قال: «لا بل لأمتي جميعا»، وهذا يعني أن خصوص السبب لا يُخص به عموم اللفظ ?وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ? هل هو بخصوص هذا الرجل؟ لا، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بل لأمتي جميعا»فاستدل العلماء بهذا الحديث الذي في الصحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وإذن ما ذكره هنا لأن أحد قسمي اختلاف التنوع أنه يرد لفظ عام يفسّره الصحابة يفسره السلف لأحد أفراده، ذكر لك أمثلة، ثم ذكر هنا أمثلة أسباب النزول، فأسباب النزول من ذلك، يكون اللفظ عام كل واحد يقول نزلت في كذا، أحيانا يقول بعضهم نزلت في كذا وفي كذا وهذه كلها أفراد.(7/4)
نعم إن العلم بالسبب يورد العلم بمعنى الآية لأنها هي التي تسبب عنها أو التي أنزلت لهذا السبب تارة يقول الآية يقولون نزلت في كذا أو نزلت في كذا، ولا يعنون أنه سبب النزول؛ ولكن يعنون أنه يصلح للآية.
مثلا في سورة المطففين هل هي مكية أو مدنية؟ قالوا: نزلت في مكة، ثم قال بعضهم: نزلت في المدينة. وفي سورة الفاتحة قالوا: نزلت في المدينة. مثل المعوذتين قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس قالوا: نزلت في كذا لما سُحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزلت بعد ذلك، ونحو ذلك من هذه الأنواع.
هذا عند الصحابة وعند السلف يعنون به أنها تصلح لهذا المعنى، نزلت في كذا؛ يعني تلاها النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عليهم سورة المطففين لما ذهب إلى المدينة تكون نزلت بكذا لأنهم خوطبوا بها.
فإذن قولهم: نزلت في كذا -هذا كالخلاصة- نزلت في كذا يعني:
أولا تخصيص المعنى بالسبب، هذا واحد؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
الثاني أنه قد تذكر أكثر من حادثة نزلت في كذا أو في كذا، وهذه كلها أفراد للعام؛ لا يعني تخصيصها أو إلغاء معنى الآية لأجل الاختلاف في السبب؛ سبب النزول.
الفائدة الثالثة: أنهم قد يقولون أنها نزلت في كذا. ولا يعنون سبب نزولها أو مرة ولكن يعنون أن الآية صالحة لتناول هذا الذي حصل حيث تلا النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ تلك الآيات.(7/5)
السبب الثاني: يختلفون، بعضهم يقول نزلت في كذا، وبعضهم نزلت في كذا، وبعضهم يقول نزلت في كذا؛ يعني الاختلاف في هذا السبب كذا وكذا لا يلغي دلالة الآية؛ يعني لا يكون أن الآية لا تدل على ما عمّه لفظها لأجل أنه اختلفوا في سبب النزول، فأسباب النزول أفراد للعموم، مثل ما تقول مثلا القوم يدخل فيها فلان وفلان وفلان، إذا قلنا فلان وفلان وفلان اختلفنا، تقول دخل الرجال، قلت أنت: محمد وصالح وأحمد. قال الثاني: لا خالد وأحمد وعبد العزيز. قال الثالث: عبد الله ومحمد وخالد. اختلفوا في من هم الرجال؛ هل الاختلاف في هذا في تحديد المعنى هل يعني اختلاف الدخول؟ فهم دخلوا لكن التحديد هذا هو الذي الاختلاف فيه، طيب حضرت الواقعة ما الذي لم؟ قال بعضهم السبب كذا وكذا وكذا، وقال الآخرون: لا، سبب هذه الواقعة كذا وكذا وكذا، فالاختلاف في السبب لا يعني أنها لم تحصل أو أن المعنى الذي فيها ليس بمأخوذ به. لا.
فإذن اختلاف في أسباب النزول هو من قبيل ذكر أفراد العام لا من قبيل التقسيم، يريد شيخ الإسلام أن يذكر هذه القاعدة؛ لأنه ذكرها بعد ذكر العام وأفراده.
[المتن]
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ كَمَا يَذْكُرُ السَّبَبَ الَّذِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ، أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَدِ؟
فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُ لَا يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَكْثَرُ الْمَسَانِيدِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُسْنَدِ.
[الشرح](7/6)
روى الحافظ في المستدرك قال كلمة في كتاب التفسير مهمة يقول: وقول الصاحب الذي شهد التنزيل -لاحظ الكلمة الذي شهد التنزيل- نزلت في كذا حديث مسند. يعني مرفوع لأنه هو شهد ذلك هذا معناه متصل، هو شهده ورآه ويذكر ما شهده، فبناءً على هذا قول الصحابة الذين شهدوا الأمور تكون من قبيل المسند لا من قبيل الموقوف؛ يعني ليست بآثار بل هي مسندة، وهذا مثل ما ذكر ما جرى عليه الإمام أحمد في مسنده وأصحاب المسانيد، فليس كل ما فيها مرفوعة؛ بل قد يكون منها شيء يقول نزلت في كذا حصل كذا لأن مشاهدته للتنزيل مشاهدته للحادثة هذه تكفي في كونها مسندا فيكون المراد بالمسند أنه متصل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما قولا أو زمانا إما قولا أو زمانا.
[المتن]
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا؛ فَقَوْلُ أَحَدِهِمْ: نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا يُنَافِي قَوْلَ الْآخَرِ نَزَلَتْ فِي كَذَا إذَا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمِثَالِ. وَإِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمْ لَهَا سَبَبًا نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ وَذَكَرَ الْآخَرُ سَبَبًا؛ فَقَدْ يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ، أَوْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ وَمَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ.
[الشرح]
هنا يقول قد تكون نزلت مرتين، طبعا النزول الاصطلاحي يكون للمرة الأولى، نزلت لكذا التي هي المرة الأولى، أما المرة الثانية فيكون إنزالها للتذكير بها، ينزل بها جبريل عليه السلام إما سورة كاملة كسورة الفاتحة وإما بعض سورة مثل سورة ويل للمطففين وغيرها، فيكون للتذكير بشمول ما حدث لهذه الآيات أو بشمول الآيات لما حدث، بدخول ما حدث في الآية وبشمول الآية لما حدث.
[المتن]
وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَنَوُّعِ التَّفْسِيرِ:
تَارَةً لِتَنَوُّعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.(7/7)
وَتَارَةً لِذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُسَمَّى وَأَقْسَامِهِ كَالتَّمْثِيلَاتِ.
هُمَا الْغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ.
وَمِنْ التَّنَازُعِ الْمَوْجُودِ عَنْهُمْ مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا فِي اللُّغَة(1) كَلَفْظِ (قَسْوَرَة) الَّذِي يُرَادُ بِهِ الرَّامِي وَيُرَادُ بِهِ الْأَسَدُ. وَلَفْظِ (عَسْعَسَ) الَّذِي يُرَادُ بِهِ إقْبَالُ اللَّيْلِ وَإِدْبَارُهُ.
[الشرح]
يعني أن بعض الخلاف المنقول عن السلف راجع إلى اللغة، فيكون اللفظ الذي اختلفوا فيه في اللغة محتملا، احتماله لا من جهة الحقيقة والمجاز كما يدّعيه المتأخرون؛ لكن من جهة أنه مشترك يطلق على هذا وهذا، مثل لفظ (قسورة) مثل مثلا لفظ (العين) العين يطلق على أشياء كثيرة هذا عين؛ عين الإنسان وعين الذهب وعين الماء ونحو ذلك. القسورة وتطلق على الأسد، الأسد هو قسورة سمي بذلك، والقوس هذه قسورة ?كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ?[المدثر:50-51]، يعني فرت من أسد لأنها خافت منه، أو فرت من رام بقوسه؟ هذا محتمل وهذا محتمل، لاحتمال اللفظ، لاحتمال اللفظ لاشتراكه في هذا وهذا، عسعس ?وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ?[التكوير:17]، كذلك.
فإذن هذا الاختلاف -اختلاف المنقول- قد يكون سببه اللغة وهذا لا يعني أنه اختلاف تضاد؛ بل إذا كان في اللغة هذا وارد وهذا وراد، فإننا نقول إن هذا صحيح وهذا صحيح كل من القولين صحيح.
سؤال يقول: ذكرتَ أن اللام تأتي إذا كان المخاطب منكرا أو منزلا منزلة المنكر. فمن هو مخاطب في قوله تعالى ?إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ?[يس:3].
__________
(1) بعض الطبعات: اللفظ.(7/8)
الجواب: المخاطب بهذا الخطاب الخاص هو النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ؛ لكن القسم وهذه المؤكدات ليست لإعلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة وتأكيد الأمر للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ؛ لكن هي لمن أنكر رسالة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، يعني أن المخاطب الخاص هو النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، ليس المراد بالتنزيل بهذه المؤكدات النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وإنما المراد المخاطب العام الذي يسمع هذا الوحي وهم كفار قريش.
كثير من الآيات فيها مخاطبة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ويُعنى بخطابه ذكر ما عليه المشركون أو ذكر أحوالهم ونحو ذلك. نعم.
[المتن]
وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُتَوَاطِئًا فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ أَوْ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ كَالضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ : ?ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى?[النجم:8-9]، وَكَلَفْظِ: ?وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ?[الفجر:1-3] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَتْهَا السَّلَفُ، وَقَدْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛
فَالْأَوَّلُ إمَّا لِكَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً.
وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ إذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ.
وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُتَوَاطِئًا فَيَكُونُ عَامًّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ مُوجِبٌ فَهَذَا النَّوْعُ إذَا صَحَّ فِيهِ الْقَوْلَانِ كَانَ مِنَ الصِّنْفِ الثَّانِي.(7/9)
وَمِنْ الْأَقْوَالِ الْمَوْجُودَةِ عَنْهُمْ وَيَجْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ اخْتِلَافًا أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظِ مُتَقَارِبَةٍ لَا مُتَرَادِفَةٍ فَإِنَّ التَّرَادُفَ فِي اللُّغَةِ قَلِيلٌ.
وَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَإِمَّا نَادِرٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ.
وَقَلَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ وَاحِدٍ يُؤَدِّي جَمِيعَ مَعْنَاهُ؛ بَلْ يَكُونُ فِيهِ تَقْرِيبٌ لِمَعْنَاهُ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ.
فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: ?يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا?[الطور:9]، إنَّ الْمَوْرَ هُوَ الْحَرَكَةُ كَانَ تَقْرِيبًا إذْ الْمَوْرُ حَرَكَةٌ خَفِيفَةٌ سَرِيعَةٌ.
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: (الْوَحْيُ) الْإِعْلَامُ، أَوْ قِيلَ: ?أَوْحَيْنَا إلَيْكَ? أَنْزَلْنَا إلَيْك أَوْ قِيلَ: ?وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ?[الإسراء:4] أَيْ أَعْلَمْنَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيبٌ لَا تَحْقِيقٌ، فَإِنَّ الْوَحْيَ هُوَ إعْلَامٌ سَرِيعٌ خَفِيٌّ، وَالْقَضَاءُ إلَيْهِمْ أَخَصُّ مِنْ الْإِعْلَامِ فَإِنَّ فِيهِ إنْزَالًا إلَيْهِمْ وَإِيحَاءً إلَيْهِمْ.
[الشرح]
الكلام على الترادف هذا مهم للمفسر جدا، وكما ذكر شيخ الإسلام أن الترادف في القرآن قليل نادر أو معدوم، يقول في اللغة قليل وفي القرآن نادر أو معدوم، والصواب أنه معدوم لا يوجد كلمة في القرآن تساوي الكلمة الأخرى بجميع معانيها؛ بل يكون تفسيرها تقريبا لها، وهذا التقريب قد يكون فيه تنازع من جهة المفسرين؛ لأن كل واحد يقرّب المعنى ببعضه.(7/10)
فإذا فسر المور كما ذكر في قوله ?يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا? قال المور الحركة، قال آخر المور نفوذ في سرعة، فهذا وهذا كله مقرّب، المور كلمة في اللغة معناها ليس هو الحركة فقط؛ بل هو الحركة وزيادة، حركة وزيادة أشياء، كل كلمة نفسر في القرآن ليس تفسيرها تحقيقا؛ يعني أن تفسيرها هو معناها بالمطابقة؛ يعني لا تخرج منه أبدا، هذا ليس كذلك لهذا نقول إن تفسير المفسر هو نقل للمعاني.
ومن هذا الوجه مُنعت ترجمة القرآن حرفيا؛ لأنه لا يمكن أحد أن يترجم القرآن بمعانيه وإنما يمكنه أن ينقل تفسيره، ينقل معاني القرآن يذكر بعض كما دلت عليه مما يفهمه المفسر، أما اللفظ نفسه فإنه في اللغة لا يمكن أن تفسر شيء بشيء.
تقول مثلا: العهن هو الصوف ?كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ?[القارعة:5]، العهن كالصوف لا العهن صوف في حالة خاصة، العهن صوف في حالة خاصة.
مثلا في قوله ?إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ? نقول كوت صارت كرة أو كالكرة، هذا تقريب؛ لأن التكوير هو جعْلها كرة مع الزيادة أوصاف.
في قوله مثلا ?فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ?[الرحمن:37]، قال: الوردة ما كان فيه حمرة مع تفتّح. هذا تقريب أيضا؛ لأن الوردة قد يفهم العربي معناها لكن يُقرِّب المعنى في كلمتين تارة في ثلاث كلمات تارة يقرب معنى الكلمة في أربع، وهذا من عجائب أسرار اللسان العربي.
أما غيره من الألسنة فيكثر فيها أن تعبر الكلمة بأخرى.
مثل فاسعوا السعي والمشي، يقول لك: السعي هو مشي سريع هذا أيضا تقريب، السعي مشي سريع لكن فيه أيضا معنى القصد مع ذلك يعني مشي سريع من جهة القصد والرغبة، وهكذا.
فإذن نقول: مما ينبغي أن يعتني به المفسِّر والمطالِع في التفسير أن يعلم أن أخذ معنى الكلمة من معجمات اللغة أنه ليس تفسيرا للألفاظ بمعناها العام وإنما هو تقريب.(7/11)
ولهذا شَرُفَتْ تفاسير السلف؛ لأنهم يفسّرون لا من جهة اللفظ فقط ولكن من جهة فهمهم للمعنى، فَهُم يفهمون المعنى والسياق الذي جاء فيه اللفظ -يعني سياق الآية- فيفسرون ناضرين إلى الجهتين جهة اللفظ ومعناه وجهة السياق؛ لأن الجميع تقريبا تفسير اللفظ في اللغة يعني بمفردها تقريب وتفسير اللفظ بما دل عليه السياق تقريب أيضا للمعنى؛ ولكن التقريب الذي فيه الدرجتان وفيه الأمران -الذي هو لآية الأمر ولأية السياق كما عليه السلف- هذا لاشك أنه أبلغ وأبلغ.
ولهذا يشرف في التفسير العلماء، كلما زاد علم العالم لكما نال من التفسير أكثر وأكثر، لم؟ لأنه يفسر من الجهتين، إذا كان عالما باللغة فهو ينظر إلى المعنى وينظر إلى السياق ويقرب من جهتين.
وهذه مسألة مهمة من جهة التقريب.
فإذن لا تنازع في تفسير بعض الكلمات، مثلا لو فسرها بعض السلف فسر يعض الآيات بكلمة، ثم وجدت من المفسرين من ذكر معنى آخر، فهنا لا يعد هذا اختلافا للسلف بل تنظر: هل هذا المعنى الثاني مواكب لمعان السلف، أم مضاد لها، إذا كان يدور في فلكها فالعمدة جميعا التقريب تقريب المعنى، وأما إذا كان مضادا لها فإذا هو الذي ينكر، ولهذا توسع العلماء في التفسير في التقريب، التفسير بالتقريب توسعوا فيه، فيذكروا العالم فيذكر العالم ما يفهمه من الآية مقربا المعنى للناس، وهذا التقريب لابد أن يكون محكوما بأصول تفاسير السلف، وهذه طريقة المحققين من العلماء الذين يتابعون السلف في التفسير.
ويذكرون مثالا مثل ما مر معنا في قوله تعالى ?وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة?[النحل:41]، حسنة هذه ما هي؟ قال بعضهم: المال، الإمارة، الزوجة الصالحة، هذا تمثيل.
مثل الصراط المستقيم: القرآن، الإسلام، السنة والجماعة، هذا إذا فسره فإنما يعني به أن يذكر بعض أفراده؛ يعني تمثيل له حتى يتضح المعنى.
[المتن](7/12)
وَالْعَرَبُ تُضَمِّنُ الْفِعْلَ مَعْنَى الْفِعْلِ وَتُعَدِّيهِ تَعْدِيَتَهُ وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْحُرُوفِ تَقُومُ مَقَامَ بَعْضٍ كَمَا يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ [تعالى]: ?لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ?[ص:24]، أَيْ مَعَ نِعَاجِهِ و ?مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ?[آل عمران:52، الصف:14] أَيْ مَعَ اللَّهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ مِنْ التَّضْمِينِ فَسُؤَالُ النَّعْجَةِ يَتَضَمَّنُ جَمْعَهَا وَضَمَّهَا إلَى نِعَاجِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ?وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ?[الإسراء:73]، ضُمِّنَ مَعْنَى يُزِيغُونَك وَيَصُدُّونَك.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ?وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا?[الأنبياء77]، ضُمِّنَ مَعْنَى نَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ?يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ?[الإنسان:6]، ضُمِّنَ يُرْوَى بِهَا وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.
[الشرح]
هذه قاعدة عظيمة تحتاج إلى بيانها البيان المفصل، وتحتاج إلى محاضرة كاملة لأنها من أنفع علوم التفسير؛ قاعدة التضمين.
وذلك أن العلماء -علماء العربية- اختلفوا في الأحرف؛ أحرف الجر هذه وأحرف المعاني، اختلفوا فيها على قولين:
منهم من يقول: إن الأحرف قد ينوب بعضها عن بعض، مثل ما قال بعضهم في تفسير ?لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ? يقول ?إلَى? هنا بمعنى مع.(7/13)
القول الثاني أن هذا ليس بصحيح؛ بل الفعل إذا كان الجادة أن يُعدى بنفسه أو يعدى بحلاف جر ثم خولفت الجادة، وأوتي بحرف جر آخر؛ ليس معنى هذا الاختلاف من المتكلم أنه يريد بالحرف الثاني هو الحرف الذي هو حرف الجادة، مثل هنا يريد بـ?إلَى نِعَاجِهِ? مع نعاجه، هذا ما يكون في الكلام عمق؛ ولكن يقول نحاة البصرة كما ذكر وهو التحقيق وهو الصحيح وهو كثير في القرآن يقولون: إن تعدية الفعل بحرف جر لا يناسب معناه أن يثبت معنى الفعل الأصلي ومعه يثبت معنى فعل آخر مضمّن فيه في داخله يناسب حرف الجر.
فالعربي يريد أن يفهم شيئين بكلامه؛ يريد أن يفهم فعلين، كيف هل يكرر الفعل؟ هو أتى بفعل قال ?لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ? قال جل وعلا سبحانه وكلامه باللسان العربي المبين قال ?لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ?، هنا سؤال ?لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ? السؤال ما يتعدى بـ?إلَى? سأله كذا إلى كذا! فإذن يكون يريد السؤال ومع السؤال شيء آخر؛ فعل آخر نستنتجه من حرف الجر المذكور الذي هو ?إلَى?، فما الذي يناسب حرف ?إلَى?؟ في هذا يناسبه الضم} ضمّ شيئا إلى شيء، جمع شيئا إلى شيء.
فإذن هم سألوا ومع السؤال ضمّوا شيئا إلى شيء ?لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ?، إذن هم سألوا وأيضا حصل منهم الضم وحصل منهم الجمع، وهذا نبه عليه بـ?إلَى?، هذا كثير في القرآن.
مثلا قال ?وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ?[طه:71]، قالوا: ?فِي? بمعنى على. ليس كذلك، التحقيق أن ?وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ? أن التصليب أصلا لا يكون إلا على الجذع؛ ولكن ?فِي? دلّت على فعل آخر ضمنه الفعل أصلب.(7/14)
كذلك قوله ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ?[الحج:25] أراد، ما تقول بكذا، الله سبحانه وتعالى قال ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ? والجادة أن أراد تتعدى بنفسها، تقول: أردتُ الشيء، أراد الذهاب، أردتُ الظلم، أردتُ الحق. فلم عداه بالباء؟ هذا معناه أنه أراد معنى الإرادة ومع معنى الإرادة معنى فعل آخر تستنتجه بهذا الحرف المذكور.
ولهذا قال السلف في تفسيره مثلا ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ? قال أراد هامّا بظلمٍ، وهذا لأجل عدم التكرير لأجل أن مبنى اللغة على الاختصار، فبدل أن يكرر الفعلين يقول: أراد الظلم وهم بالظلم، أراد الظلم هاما به. هذا يكون فيه تطويل في الكلام.
فإذن العرب عمدة كلامها على الاختصار والقرآن العظيم كلام الله جل وعلا الذي أعجز الخلق أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا جميعا، هذا فيه من أسرار التضمين الشيء الكثير، التضمين علم مهم.
قال ?[وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] (1) مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ?[آل عمران:75]، يقولون: الباء بمعنى (على). ليس كذلك. نعم هي المعنى تأمنه على قنطار؛ لكن لماذا أتى بالباء؟ أمنه على الشيء، ما يقال أمنه بالشيء، فمعنى الباء أن هناك كلمة أخرى؛ فعل آخر دخل في كلمة ?تَأْمَنْهُ?، كيف تستنتجه؟ تذهب إلى الفعل الذي يناسب التعدية بالباء.
وانتبه لهذه القاعدة قاعدة التضمين، وانظر إلى كلام المفسرين فيها والتطبيقات عليها سترى أنها من أعظم الفوائد في التفسير، ولاشك أن علمها يكون بمعرفة حروف المعاني.
__________
(1) الشيخ قال: ومنهم.(7/15)
ذكرنا لكم مثال فيما سبق واضح مثلا قوله تعالى ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء?[البقرة:29، فصلت:11]، ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء? هنا ?اسْتَوَى إِلَى? هل ?إِلَى? بمعنى على؟ أصلا استوى الجادة أنها تعدى بـ (على) ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، ?لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ?[الزخرف:13]. هنا عداها بـ?إِلَى?، فمعنى ذلك أنه أراد الاستواء الذي هو بمعنى العلو أولا، ثم أراد فيه معنى الاستواء الذي هو بمعنى العلو فعل آخر تناسبه التعدية بـ?إِلَى? الذي هو القصد والعمد. فيكون المعنى أنه جل وعلا عَلَا على السماء قاصدا عامدا على وقصد وعمد، بخلاف المؤولين فإنهم يقولون استوى بمعنى قصد ويزيلون معنى العلو، وهذا غير طريقة أهل السنة، فأهل السنة في باب التضمين يقولون المعنى الأول مراد ومعه المعنى الثاني الذي يناسب التعدية بـ?إِلَى?. فانتبه لهذه القاعدة، فإنها مهمة للغاية.
نكتفي بهذا القدر.
[الأسئلة]
س1/ يقول هل نستطيع أن نقول أنه لا يوجد اسم يدل على صفة فعلية لله جل وعلا؟
ج/ لا، لا نستطيع؛ لأن أسماء الله جل وعلا منها ما يكون فيه الصفات الذاتية، ومنها ما يكون فيه الصفات الفعلية، نعم ليس كل صفة فعل لله جل وعلا تصاغ له منها اسم ولن قد يكون من أسمائه ما هو من قبيل الصفات الفعلية مثل الخالق والرازق والسّتير ونحو ذلك.
س2/ يقول: فُسرت كلمة (عسعس) بأقبل وأدبر. فظاهر التفسيرين التناقض، فكيف الجمع بينهما؟
ج/ ليس متناقضا، هذا يسمى الألفاظ المشتركة، يعني يرِد هذا ويرد هذا، عسعس الشيء بمعنى أقبل، عسعس الشيء بمعنى أدبر.
اللديغ هو الملدوغ واللديغ هو السليم من اللدغ، تقول فلان لديغ يعني سلم من الدغ، وفلان لديغ بمعنى ملدوغ أصابه اللدغ.
هذا يرد، بعض العلماء يجعل هذا في باب التضاد، وبعضهم لا يجعله في باب التضاد، هذا من استعمال اللفظ في معنيين فأكثر، يسمى المشترك.(7/16)
هنا ?وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)?[التكوير:17-18]، هنا الليل إذا عسعس يكون المراد بتفسير من فسّر عسعس بأنه أقبل يعني: والليل إذا أقبل. أو من فسر عسعس بالإدبار قال: والليل إذا أدبر. ورُجّح الثاني وهو الإدبار لفائدة قوله ?وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ?؛ لكن كلا القولين صحيح، يعني أن تفسير اللفظ بالمشترك لا يعدّ اختلافا؛ لأن هذا صحيح وهذا صحيح وقد يرجح أحدهما عن الآخر بأضرب من الترجيح.
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا.
(((((
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري(7/17)
- - - - - - - - - - -
شرح
مقدمة في أصول التفسير
لشيخ الإسلام ابن تيمية
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[الدرس السادس]
[مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
الدرس السادس
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
وَمَنْ قَالَ: لَا رَيْبَ لَا شَكَّ. فَهَذَا تَقْرِيبٌ، وَإِلَّا فَالرَّيْبُ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَحَرَكَةٌ، كَمَا قَالَ: «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك». وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ: مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ. فَقَالَ: «لَا يَرِيبُهُ أَحَدٌ»، فَكَمَا أَنَّ الْيَقِينَ ضُمِّنَ السُّكُونَ وَالطُّمَأْنِينَةَ فَالرَّيْبُ ضِدُّهُ ضُمِّنَ الِاضْطِرَابَ وَالْحَرَكَةَ.
وَلَفْظُ (الشَّكِّ) وَإِنْ قِيل: إنَّهُ يَسْتَلْزِمُ هَذَا الْمَعْنَى; لَكِنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. (1)
وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: ذَلِكَ الْكِتَابُ هَذَا الْقُرْآنُ فَهَذَا تَقْرِيبٌ؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَالْإِشَارَةُ بِجِهَةِ الْحُضُورِ غَيْرُ الْإِشَارَةِ بِجِهَةِ الْبُعْدِ وَالْغَيْبَةِ، وَلَفْظُ (الْكِتَابِ) يَتَضَمَّنُ مِنْ كَوْنِهِ مَكْتُوبًا مَضْمُومًا مَا لَا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ (الْقُرْآنِ) مِنْ كَوْنِهِ مَقْرُوءًا مُظْهَرًا بَادِيًا.
فَهَذِهِ الْفُرُوقُ مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ: ?أَنْ تُبْسَلَ?[الأنعام:70]، أَيْ تُحْبَسَ وَقَالَ الْآخَرُ: تُرْتَهَنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. لَمْ يَكُنْ مِنْ اخْتِلَافِ التَّضَادِّ وَإِنْ كَانَ الْمَحْبُوسُ قَدْ يَكُونُ مُرْتَهَنًا وَقَدْ لَا يَكُونُ إذْ هَذَا تَقْرِيبٌ لِلْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ.
__________
(1) انتهى الشريط الثاني.(8/1)
وَجَمْعُ عِبَارَاتِ السَّلَفِ فِي مِثْلِ هَذَا نَافِعٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ مَجْمُوعَ عِبَارَاتِهِمْ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ عِبَارَةٍ أَوْ عِبَارَتَيْنِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافٍ مُحَقَّقٍ بَيْنَهُمْ كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ.
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ مِنَ الِاخْتِلَافِ مَعْلُومٌ؛ بَلْ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ كَمَا فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرِ رُكُوعِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَفَرَائِضِ الزَّكَاةِ وَنُصُبِهَا وَتَعْيِينِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْمَوَاقِيتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ [إنَّ] اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَفِي الْمُشَرَّكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ رَيْبًا فِي جُمْهُورِ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ بَلْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَامَّةُ النَّاسِ هُوَ عَمُودُ النَّسَبِ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْكَلَالَةِ؛ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَمِنْ نِسَائِهِمْ كَالْأَزْوَاجِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي الْفَرَائِضِ ثَلَاثَ آيَاتٍ مُفَصَّلَةٍ ذَكَرَ فِي الْأُولَى الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ وَذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ الْحَاشِيَةَ الَّتِي تَرِثُ بِالْفَرْضِ كَالزَّوْجَيْنِ وَوَلَدِ الْأُمِّ وَفِي الثَّالِثَةِ الْحَاشِيَةَ الْوَارِثَةَ بِالتَّعْصِيبِ وَهُمْ الْإِخْوَةُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ وَاجْتِمَاعُ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ نَادِرٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[الشرح](8/2)
الحمد لله، هذا تتمة ما سبق الكلام عليه من أسباب اختلاف التنوع الذي يقع في تفاسير السلف رضوان الله عليهم ورحمة الله عليهم، من أسبابه أنّ الكلمة تكون لها معنى أصلي، ويكون لها معنى ضُمِّن فيها يكون التفسير برعاية المعنى المضمن.
مثل ما ذكر في (الريب) فإن (الريب) فُسِّر بأنّه الشك؛ لكن هذا كما قلنا إن الترادف لا يوجد في القرآن؛ بل لا يوجد في اللغة على التحقيق، بمعنى أن الكلمة معناها كلمة أخرى مطابقة دون زيادة كلمة مكان كلمة، نقول: هذا غير موجود.
ولهذا يكون ثم تقريب وإفهام للمعنى بأحسن عبارة تدل عليه.
ففي قوله ?ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ?[البقرة:2]، فُسِّر بأنَّ الريب الشك، فسر بأنه الشك اكنهذا كما قلنا إن الترادف لا يوجد في القرآن لا ريب فيه لاشك فيه، وفسر قوله تعالى ?وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ?[البقرة:22]، يعني إن كنتم في شك، ?وَلَا يَرْتَابَ?[المدثر:31]، قال ولا يشك، ونحو ذلك. هذا تقريب لكلمة الريب، فإن الريب هنا شك معه اضطراب وعدم هدوء، اضطراب شديد وعدم هدوء، وهذا زيادة عن معنى الشك.
فيقول هنا: إذا فسّرها بعض السلف بكلمة واحدة، وفسرها آخرون بزيادة عن تلك الكلمة أو بكلمة أخرى، فإنه قد يكون من أسباب ذلك أنه رُعي المعنى المقارب كما فُسِّر الريب بالشك أو رُعي المعنى الذي يكون أكثر قُرْبًا مثل الريب الذي هو الشك الذي فيه تردد واضطراب، أو يكون برعاية ما ضمن بالكلمة من معنى. مثل قولهم ?أَنْ تُبْسَلَ?، يعني أن تحبس، أو ?أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ?[الأنعام:70]؛ يعني أن ترتهن النفس بما كسبت، لاشك أن هذا وهذا من باب اختلاف التنوع، وليس من باب اختلاف التضاد.
إذا تقرر هذا فإن اختلاف التنوع الذي ذكره شيخ الإسلام فيما سبق وأطال فيه، هذا له فوائد منها وقد ذكرها:(8/3)
أن يكون المعنى يشمل ذلك كله؛ يعني يشمل المعنى التقريبي ويشمل المعنى الأكثر قربا ويشمل الكلمة التيس ضمنت فيكون هذا عدة للمفسر، فإن المفسر إذا رأى أن هذه الكلمة فسرت بكذا وفسرت بكذا وفسرت بكذا، فإنه يفسرها بحسب احتياج الناس لما يناسب الكلمة، فإن اختلاف السلف في التفسير يستفيد منه المفسر كثيرا؛ لأنه يكون أحيانا في رحاب بعض تفاسير رعاية لمعنى بعض الأفراد، وفي التفسير الآخر رعاية لمعنى بعض الأفراد، فإذا نُص على هذا الفرق ولم يستفد العموم كان في هذا فائدة للمفسر في التنصيص عليها بخصوصه لحاجته في الإصلاح أو لحاجته في التنبيه أو لغير ذلك من مقاصد المفسرين.
وهذا الذي ذُكر له أمثلة مثل ما ذكر في تفاسير في اختلاف في الفقهيات في الفروع فإن اختلافهم:
قد يكون من اختلاف التضاد وهو الأكثر.
وقد يكون من اختلاف التنوع وهو الأقل.
بعكس التفسير.
التفسير في اختلافهم لتفسير القرآن هذا الأكثر فيه الغالب أنه اختلاف تنوع مثل ما ذكر والأقل بل النادر جدا أن يكون اختلاف تضاد.
ووجود الاختلاف لما ذكر شيخ الإسلام الفقهيات يقول: وجود الاختلاف في الفقهيات بين السلف لا يعني أن لا يؤخذ بقول السلف لما رجح من أقوالهم، كذلك اختلافهم في التفسير لا يعني أن يقال إنهم اختلفوا فلا نأخذ بشيء من أقوالهم؛ بل يرى المفسر بمثل ما رأوا ويأخذ من حيث أخذوا، فإن هذا ليس بصحيح مطلقا بل الأفضل أن تتبع تفاسيرهم؛ لأنهم أهل الدراية بالقرآن، واختلافهم في التفسير لا يعني عدم أخذ أقوالهم في التفسير كما اختلافهم في الفقهيات لا يعني عدم أخذ أقوالهم في الفقهيات؛ بل الأئمة منهم من نزع إلى بعض الأقوال التي اختلف فيها أو التي اختلف إليها الصحابة من الأقوال المختلفة المتضادة، وذلك مصير منهم إلى أنّ الأخذ بأحد الأقوال أنه صحيح؛ لأنه إذا ترجّح عند الإمام ما يُستدل به لذلك القول فإنه يأخذ به.(8/4)
هذا مع كونها متضادة وهذا هو الأصل فيها، أما الاختلاف في التفسير بين السلف فالأصل فيه أنه اختلاف تنوع، ولهذا يعظم قدره ويتحتّم الأخذ به، ولا ينبغي الخروج عنه في أقوال التفاسير ولأنهم هم أدرى باللسان والبيان والتفسير بالرأي يعني بغير الأثر ذكرنا شروطه فيما سبق.
[المتن]
وَالِاخْتِلَافُ قَدْ يَكُونُ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ أَوْ الذُهُولِ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ سَمَاعِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْغَلَطِ فِي فَهْمِ النَّصِّ وَقَدْ يَكُونُ لِاعْتِقَادِ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ فَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّعْرِيفُ بِجُمَلِ الْأَمْرِ دُونَ تَفَاصِيلِهِ.
[الشرح]
هذا الاختلاف في الفقهيات هذه الجملة بينها شيخ الإسلام وفصلها في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام وهذه جملة أشار بها إلى جماع الأسباب اختلاف الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى أبو حنيفة رحمه الله ومالك رحمه الله والشافعي رحمه الله وأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، هذه أسباب الاختلاف، ولا يريد أنها أسباب اختلاف في التفسير لا أسباب الاختلاف الفقهي. نعم
[المتن]
فَصْلٌ
[فِي نَوْعَيْ الاخْتِلاَفِ فِي التَّفْسِيرِ الْمُسْتَنَدِ إِلَى النَّقْلِ وَإِلَى طُرُقِ الاسْتِدْلاَلِ]
الِاخْتِلَافُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى نَوْعَيْنِ:
مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ.
وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
إذْ الْعِلْمُ:
إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ.
وَإِمَّا اسْتِدْلَالٌ مُحَقَّقٌ.
وَالْمَنْقُولُ:
إمَّا عَنْ الْمَعْصُومِ.
وَإِمَّا عَنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ.
[الشرح]
هذه الجملة مر الكلام عليها في أول الرسالة، وأن العلم قسمان:
إما نقل عن معصوم وإما قول عليه دليل معلوم، إما نقل مصدق أو قول محقق، ويعبر عنها شيخ الإسلام في بعض كتبه أو بحث محقق.(8/5)
يعني أن القول يكتسب الصحة إذا كان عليه دليل معلوم، ويكتسب الصحة إذا كان نقلا عن معصوم، إذا كان القول بنقل مصدق إما من الكتاب أو السنة فهذا اكتسب صوابا وصحة، وإما أن يكون القول صوابه جاء من جهة أنه بحث محقق؛ بحث صاحبه فيه وتوصّل إلى هذه النتيجة وذلك الحكم من طريق بحث محقق مدقق، فهذا أحد طريقي الوصول إلى القول الصحيح.
الآن يأتي إلى تفصيل هذه الجملة. نعم
[المتن]
النَّوْعُ الْأَوَّلُ الخِلاَفُ الوَاقِعُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَالْمَقْصُودُ بِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْقُولِ - سَوَاءٌ كَانَ عَن الْمَعْصُومِ أَوْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ - فَمِنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ وَالضَّعِيفِ.
وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِيهِ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِن الْمَنْقُولِ، وَهُوَ مَا لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْجَزْمِ بِالصِّدْقِ مِنْهُ؛ عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ [تعالى] نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلًا.
فَمِثَالُ مَا لَا يُفِيدُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ اخْتِلَافُهُمْ فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ.
وَفِي الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ قَتِيلُ مُوسَى مِنَ الْبَقَرَةِ.
وَفِي مِقْدَارِ سَفِينَةِ نُوحٍ وَمَا كَانَ خَشَبُهَا.
وَفِي اسْمِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ.(8/6)
فَهَذِهِ الْأُمُورُ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْلُ فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَاسْمِ صَاحِبِ مُوسَى أَنَّهُ الْخِضْرُ - فَهَذَا مَعْلُومٌ. (1)
وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، - كَالْمَنْقُولِ عَنْ كَعْبٍ وَوَهْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَأْخُذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - فَهَذَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ وَلَا تَكْذِيبُهُ إلَّا بِحُجَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : «إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُ».
وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ.
__________
(1) يعني أنه أيضا فيه لفظ في الصحيح أنه الخِضْر؛ لكن المشهور أنه الخَضِر، سُمي بذلك لأنه جلس على حشيشة يابسة بيضاء فاهتزت تحته خضراء، قيل له الْخَضِر لأجل ذلك.(8/7)
وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى. وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ. وَمَعَ جَزْمِ الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ، فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ وَلَا تُفِيدُ حِكَايَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
[الشرح]
يريد شيخ الإسلام رحمه الله بما سمعتم أن يبين أن النقل على قسمين؛ يعني الأقوال في التفسير المنقولة على قسمين:
إما أن تكون منقولة عن النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا لاشك أنه نقل مصدَّق يجب المصير إليه إذا صحّ السند بذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإما أن يكون النقل عن الصحابة رضوان الله عليهم وعن التابعين.
فالنقل عن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ هذا نقل عن معصوم.
والنقل عن أفراد الصحابة رضوان الله عليهم ليس بنقل عن معصوم؛ بل هو نقل عن غير المعصوم.(8/8)
ولهذا إذا أجمع الصحابة في التفسير على قولٍ فإنه يصير هذا القول نقلا عن معصوم؛ لأن إجماع الصحابة لا يكون إلا على حق، فلا يجتمعون على ضلالة لإخبار النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بذلك عن أمته في الحديث الذي قد يكون حسنا بقوله «لا تجتمع أمتي على ضلالة» يعني أنّ إجماع الصحابة مأخوذ به، وهذا نقل الإجماع منه في التفسير في عدة في آيات كثيرة والذي يعتني بهذا كثيرا ابن جرير رحمه الله تعالى يعبّر عن ذلك بقوله يقول وإنما قلنا ذلك لإجماع الحجة من أهل التأويل على هذا.
وما أجمعوا عليه يجب المصير إليه؛ لأنه نقل عن معصوم، والمعصوم ليس هو الصحابة بالنظر إلى أفرادهم وإنما هم الصحابة بالنظر إلى إجماعهم.
القسم الثاني النقل عن أفراد الصحابة وعن أفراد التابعين، فهذا من العلوم أن هؤلاء ليسوا بمعصومين فأقوالهم فيها القوة وفيها الضعف خاصة إذا اختلفوا، فإن بعض الأقوال تجده قوية وبعض الأقوال تجده أضعف، والأكثر في اختلاف الصحابة -كما ذكرنا سالفا- أنه اختلاف تنوع فلا يوصف القول بقوة ولا ضعف، وإنما يقال هؤلاء رأوا الجهة فسروا العام بأحد أفراده، فسروا المشترك بأحد معنييه، فسروا المجمل بما يبينه، فسروا الكلمة بما تضمنته، فسروا الفعل بما عدي به يعني بالتضمين ونحو ذلك من الأنواع التي اختلف ذكرها، وهي أحد أنواع الاختلاف أو هي أنواع اختلاف التنوع الذي جرى عند الصحابة رضوان الله عليهم في تفسيرهم لكلام الله جل وعلا.
أما كلام التابعين فمن المعلوم أنه ليس بقول أحدهم حجة على أحد، كذلك قول أحد التابعين لا يؤخذ حجة مطلقا؛ بل إنما يكتسب القوة إذا كان إما مدللا عليه، وإما أن يكون أخذه عن الصحابي.(8/9)
ولهذا مجاهد مثلا تميز عن أئمة التفسير بأنه أخذ التفسير عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ، ولهذا يعتني أئمة السنة بتفسير مجاهد خاصة ويكثرون نقل تفسير مجاهد ويكثرون الأسانيد عن مجاهد خاصة كما قال سفيان الثوري وغيره: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. يعني يكفيك ذلك وذلك؛ لأن مجاهد عرض التفسير عن ابن عباس ثلاث مرات.
يعني أن تفاسير التابعين ليست بقوية في نفسها؛ بل هي قوية في غيرها.
أما الصحابة فهم أقوياء في التفسير في أنفسهم؛ لأنهم شاهدوا التنزيل، ولأنهم يعلمون معاني اللغة العربية أقوى من غيرهم، ولأن عندهم من العلم بالأحكام الشرعية وبما كان في أحوال العرب وعلى عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يكون به قولهم له القدر الذي هو أعظم من أقوال من بعدهم.
بالنسبة إلى التفاسير المنقولة عن أهل الكتاب هذه كثرت في التابعين، إذْ أن طائفة من التابعين ينقلون التفسير عن المفسرين من أهل الكتاب أو عن الذين يحكون قَصص الأولين من أهل الكتاب، كما يذكرون في اسم أو لون كلب أصحاب الكهف وفي أسماء أصحاب الكهف وفي أسماء ملوك القرى ونحو ذلك، وهذه كلها لاشك ليست من المنقول عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن الصحابة، وإنما هي منقولة عن طائفة من أهل الكتاب كما ينقل ذلك عن محمد بن إسحاق بن يسار صاحب السير في السيرة وفي غيرها وكما يقوله غيره من المفسرين ومن التابعين أو من تبع التابعين.
تفاسير الصحابة النقل فيها عن بني إسرائيل قليل جدا، وفي الغالب أنهم إذا نقلوا النقل فلا يحمل إذا نقلوا النقل الذي فيه يكون فيه ذكر أمور غيبية لا يحمل أنهم نقلوه عن بتي إسرائيل بل يحمل في الغالب مما استثني يحمل على أنه أخذوه تفقها من القرآن أو مما جاء في السنة أو سمعوه من بعض الصحابة أو نحو ذلك، هذا لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال لهم: إذا حدثكم بني إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم.(8/10)
وإذا ذكروا الشيء كتفسيرٍ للقرآن دون بيان أو دليل على أنه من كلام أهل الكتاب فإن في هذا نوعا من التصديق لهم وهذا فيما لم يرد في شرعنا ذكره.
لكن هذا الكلام الذي قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بالنظر إلى الأقوال التي تجدها في التفاسير ربما كان عليها بعض التحفظ، ذلك لأنك تجد في التفاسير كتفسير ابن جرير وكتفسير ابن كثير وابن أبي حاتم وغير تلك التفاسير تجد النقول عن الصحابة في أشياء أشبه ما تكون بالإسرائيلية، وهذا قد يُقال إنه مما لم يصح السند به عنهم؛ يعني أن المنقول عن الصحابة مما قد يكون من آثار بني إسرائيل فيجاب بأحد الجوابين:
الأول أن يكون مما لم يصح به الإسناد عنهم.
الثاني أن يقال إنهم نقلوا التفسير بالاستنباط أو بما فهموه من القرآن والسنة، ويظن الناس أن هذا عن بني إسرائيل، وهذا كثير من الأقوال التي تنسب لابن عباس خاصة، تجد أنها قد يظن أنها من الإسرائيليات ولكنها من باب الاستنباط؛ من مثل حديث الفُتون، ومن مثل نزول القرآن ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ونحو ذلك من التفسيرات؛ يعني [طبعا] هذا على من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
يأتي تفصيل لأقوال التابعين في التفسير، والأقوال التي عليها دليل معلوم، وكيف يمكن استنباط الأدلة في التفسير والاعتناء بذلك، وممن اعتنى به فيما يأتي من هذه الرسالة المباركة إن شاء الله تعالى.
في هذا القدر كفاية، وأسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(((((
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري(8/11)
- - - - - - - - - - -
شرح
مقدمة في أصول التفسير
لشيخ الإسلام ابن تيمية
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[الدرس السابع]
[مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
الدرس السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ وَلَا تُفِيدُ حِكَايَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى مِن الْحَدِيثِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، فَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْمَغَازِي أُمُورٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ، وَالنَّقْلُ الصَّحِيحُ يَدْفَعُ ذَلِكَ؛ بَلْ هَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ وَفِيمَا قَدْ يُعْرَفُ بِأُمُورِ أُخْرَى غَيْرِ النَّقْلِ.
فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الدِّينِ قَدْ نَصَبَ اللَّهُ الْأَدِلَّةَ عَلَى بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ صَحِيحٍ وَغَيْرِهِ.(9/1)
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنْقُولَ فِي التَّفْسِيرِ أَكْثَرُهُ كَالْمَنْقُولِ فِي الْمَغَازِي وَالْمَلَاحِمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ: التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي. وَيُرْوَى لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ أَيْ إسْنَادٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ والواقدي وَنَحْوِهِمْ فِي الْمَغَازِي.
فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْمَغَازِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ، ثُمَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ.
فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ. وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ غَزْوٍ وَجِهَادٍ فَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِالْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّاسُ كِتَابَ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري الَّذِي صَنَّفَهُ فِي ذَلِكَ وَجَعَلُوا الأوزاعي أَعْلَمَ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.
وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ ; لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمُجَاهِدِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَطَاوُوسِ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَمْثَالِهِمْ.
وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَمَيَّزُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ.(9/2)
وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي التَّفْسِيرِ مِثْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ مَالِكٌ التَّفْسِيرَ وَأَخَذَهُ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَخَذَهُ [عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ] عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ.
والْمَرَاسِيلُ إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا وَخَلَتْ عَنْ الْمُوَاطَأَةِ قَصْدًا أَوْ الِاتِّفَاقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَانَتْ صَحِيحَةً قَطْعًا.
فَإِنَّ النَّقْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ؛ فَمَتَى سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَانَ صِدْقًا بِلَا رَيْبٍ.
فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ جَاءَ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى اخْتِلَاقِهِ وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفَاقًا بِلَا قَصْدٍ عُلِمَ أَنَّهُ صَحِيحٌ.(9/3)
مِثْلُ شَخْصٍ يُحَدِّثُ عَنْ وَاقِعَةٍ جَرَتْ وَيَذْكُرُ تَفَاصِيلَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَيَأْتِي شَخْصٌ آخَرُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَاطِئْ الْأَوَّلَ فَيَذْكُرُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ حَقٌّ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَذَّبَهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَمْ يَتَّفِقْ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَأْتِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِتِلْكَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي تَمْنَعُ الْعَادَةُ اتِّفَاقَ الِاثْنَيْنِ عَلَيْهَا بِلَا مُوَاطَأَةٍ مِنْ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَنْظِمَ بَيْتًا وَيَنْظِمَ الْآخَرُ مِثْلَهُ أَوْ يَكْذِبَ كِذْبَةً وَيَكْذِبَ الْآخَرُ مِثْلَهَا. أَمَّا إذَا أَنْشَأَ قَصِيدَةً طَوِيلَةً ذَاتَ فُنُونٍ عَلَى قَافِيَةٍ وَرَوِيٍّ، فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّ غَيْرَهُ يُنْشِئُ مِثْلَهَا لَفْظًا وَمَعْنًى مَعَ الطُّولِ الْمُفْرِطِ؛ بَلْ يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا حَدَّثَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ فُنُونٌ، وَحَدَّثَ آخَرُ بِمِثْلِهِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاطَأَهُ عَلَيْهِ أَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ أَوْ يَكُونَ الْحَدِيثُ صِدْقًا.
وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ صِدْقُ عَامَّةِ مَا تَتَعَدَّدُ جِهَاتُهُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا كَافِيًا إمَّا لِإِرْسَالِهِ وَإِمَّا لِضَعْفِ نَاقِلِهِ.
[الشرح]
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:(9/4)
فبعد أن قرّر شيخ الإسلام أن العلم قسمان، إما نقل عن معصوم أو قول عليه دليل معلوم، إما نقل مصدق أو قول محقق يعني محقق بالأدلة، تكلّم على النقل المصدق وصلة ذلك في التفسير، وقال: إن النقل الذي ينقل في التفسير كثير ليس بنقل صحيح. وهذا واقع فإن النقول التي تكون في كتب التفسير عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأسانيد أو عن الصحابة كثير منها ليس بذي أسانيد جيدة؛ بل إما أن تكون ضعيفة لضعف أحد رواتها أو ضعيفة لجهالة بعض الرواة أو أن تكون ضعيفة بالإرسال أو نحو ذلك.
وبين أن كلمة الإمام احمد في هذا وهي قوله: ثلاثة ليس لها أصول التفسير والملاحم والمغازي. أنها كما رُويت باللفظ الآخر ثلاثة ليس لها إسناد؛ ويعني بالإسناد الإسناد المتصل الذي يعتمد على مثله، وأن أكثر الأسانيد التي نُقلت به تلك الأمور التفسير والمغازي والملاحم أنها أسانيد إما مرسلة وإما غير صحيحة.
ثم ذكر طبقات الناس في العلوم فقال مثلا في المغازي: أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ولهذا تكون روايات أهل المدينة في المغازي تكون عند أهل العلم أكثر قدرا من رواية غيرهم، مثل كلام ابن إسحاق ومثل مغازي ابن شهاب الزهري ومثل مغازي عقبة بن نافع ومثل مغازي عروة بن الزبير، ونحو ذلك من المغازي التي جمعت، ثم يليهم في ذلك أهل الشام، ثم يلي أهل الشام في ذلك أهل العراق فكل له خصوصية.
مثل السير: السير أهل الشام أعلم بها، ولهذا قال هنا أن سير الفزاري وهو كتاب جليل في السير مطبوع؛ يعني السير أحوال أحكام الحروب، أحكام المغازي من حيث هي أحكام، لا من حيث هي أخبار، فقال أن أهل الشام في ذلك أقعد؛ لأنهم قريبوا لجنب، الثغور بجنبهم، والروم بجنبهم والكفار قريبون منهم، وهم أهل الجهاد وأهل القتال، فلذلك يحتاجون إلى معرفة أحكام السير أكثر من احتياج غيرهم، ولهذا صار مثل سير الفزاري يعتمد عليها وكذلك مثل سير الأوزاعي نحو ذلك.(9/5)
التفسير مثل هذه العلوم التي ذُكرت له مدارس من جهة المدن:
من أحسنها مدرسة التفسير بمكة؛ فإنها أقوى المدارس في التفسير، وذلك لأنهم أخذوا التفسير عن ابن عباس، فابن عباس رضي الله عنهما مكث في مكة سنين طويلة منذ أن ترك عيا رَضِيَ اللهُ عنْهُ في أواخر خلافته إلى أن توفي ابن عباس أو إلى قريب من وافته كان في مكة، ثم في آخر عمره ذهب إلى الطائف؛ يعني أن مدرسته كانت في مكة قوية في التفسير، وكان يفسر القرآن كثيرا في المسجد الحرام وفي بيته وفي سوقه، ويُسأل عن ذلك وعن أخبار عنه بذلك مروية مسندة في غير ما كتاب.
ولهذا صار أهل مكة تميّزوا بمعرفة التفسير؛ بل أكثر التفسير المسند -يعني المنقول بالأسانيد ليس المسند الاصطلاحي أعني المنقول بالأسانيد- أكثره يكون عن أهل مكة، تجد أنه يروى عن ابن عباس عن مجاهد عن أبي الشعثاء عن طاووس عن عكرمة ونحو ذلك من التفسير أكثر من غيرهم، وأهل العلم يفرحون بالتفسير إن جاء عن أهل مكة؛ لأنهم في الغالب أخذوه عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
يقول: إنّ هذا كله من الأقوال المنقولة. وهذه كلها ليست بمرفوعة، إنما أكثرها يكون موقوفة أو إذا كان مرفوعا كان مرسلا، إذا كان كذلك فليس مجيء الحديث والأسانيد على هذا النحو ليس موجبا لأي منقولة ليست بصدق؛ لأن النقل الصحيح لا يقبل إلا إذا كان نقلا صدق فيه قائله أو القول كان قولا حققه صاحبه.
وهنا تكلم عن الصدق كيف يحصل على الصدق في النقل، الصدق في الإسناد، فذكر أن الصدق يكون بتحقيق الأمرين معا:
أن يحقق أن لا يكون صاحبه تعمد الكذب فيه.
الثاني أن يحقق أن يكون صاحبه لم يخطئ فيه.
لأنه إذا لم يتعمد الكذب ولم يخطئ فليس ثم إلا الثاني يعني أن يكون صادقا فيه.(9/6)
ثم قال: إن الصدق بهذا المعنى يمكن أن يكون بالنقل المتعدد الذي تكون أفراده غير كافية لإثبات الصدق، ومثّل له برواية مرسلة مثلا رواية في التفسير أو في الحديث أو في الأحكام تكون مرسلة يرسلها سعيد بن المسيب ويأتي ورواية أخرى مثلا في الأحكام يرسلها عامر بن شراحيل الشعبي، ثم مثلا رواية ثالثة في الأحكام يرسلها قتادة، ونحو هؤلاء، فهؤلاء ينظر فيهم هل يقال أنهم تواطؤوا جميعا على هذا؛ يعني اجتمعوا أو اخرجوا هذه الرواية جميعا؟ فإذا كانوا تواطؤوا عليها، هذا يحتمل أن يكون ثم خطأ أو كذب في ذلك، وإما أن يقال أنهم لم يتواطؤوا عليها وهذا هو الظن بهم، ولذلك تكون رواية الشعبي مثلا عاضدة لرواية السعيد بن المسيب، ورواية قتادة عاضدة لرواية الشعبي ورواية سعيد، ويكون الجميع من تحصيل هذه المراسيل: العلم بأن النقل هذا نقل صحيح مصدق؛ لأنه يستحيل أن يتواطؤوا على الكذب ويستحيل أيضا أن يجتمعوا على خطأ، إلا إذا قيل الثلاثة أخذوا من فك واحد فهذا يكون من الخطأ؛ لأنهم أخذوا عن شخص واحد؛ لكن فإذا كان ما أخذوه متعد مثل الأمثلة التي ذكرته فإن سعيد بن المسيب في المدينة وعامر بن شراحيل الشعبي في الكوفة، وقتادة في البصرة، فيبعد أن يأخذ هذا عن هذا أو يأخذ الجميع عن شخص واحد، فمعنى ذلك أنه يُشعر التعدد بأن النقل مصدق.
وغالب ما يكون التفسير لا تكون أسانيده في تلك القوة، فتجد الأسانيد ضعيفة، فمثلا الذي ينظر فيما ذكرت لكم من قبل لا يُنظر إلى أسانيد التفسير من جنس النظر إلى أسانيد الحديث؛ لأن أسانيد التفسير مبناها على المسامحة وأن بعضها يعضد بعضها إذا ترجّح عند الناظر أن النقل ليس فيه خطأ ولا تعمد كذب.(9/7)
فإننا نجد رواية عن ابن عباس بإسناد ضعيف أو مجهول رواية أخرى عن ابن عباس بإسناد ضعيف أو مجهول، فنحمل هذه على هذه سيما إذا تعددت المخارج عن ابن عباس وكانت الطرق غير صحيحة يعضد هذا هذا، وكذلك عن التابعين وكذلك الأعظم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا كانت مرسلة من وجه ومرسلة من وجه آخر، فإننا نعضد هذه بتلك يعني أن التفسير فيه مسامحة، والفقهاء كثير منهم يجعلون المراسيل يقوي بعضها بعضا إذا تعددت مخارجها، إذا تعددت المخارج فبعضها بقوي بعضا، وهذا هو الصحيح الذي عليه عمل الفقهاء وعمل الأئمة الذين احتاجوا إلى الروايات المرسلة في الأحكام والاستنباط.
إذن فهذا القسم الأول، وهو أن يكون النقل عن معصوم، يكون النقل مصدقا، إذا كان النقل مصدقا صح، والنقل المصدق لا تنظر إليه كنظرك المصدق إلى الحديث، لا، التفسير فيه نوع تسامح؛ لأنه يكفي فيه ما ذكر أن يظن عدم تعمد الكذب وعدم وقوع الخطأ ولا يشدد فيه التشدد في الأحكام. هذا باب واسع.
[المتن]
لَكِنْ مِثْلُ هَذَا لَا تُضْبَطُ بِهِ الْأَلْفَاظُ وَالدَّقَائِقُ الَّتِي لَا تُعْلَمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى طَرِيقٍ يَثْبُتُ بِهَا مِثْلُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَالدَّقَائِقِ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ غَزْوَةُ بَدْرٍ بِالتَّوَاتَر وَأَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ بَلْ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بَرَزُوا إلَى عُتْبة وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ، وَأَنَّ عَلِيًّا قَتَلَ الْوَلِيدَ وَأَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ قَرْنَهُ ثُمَّ يُشَكُّ فِي قَرْنِهِ هَلْ هُوَ عتبة أَوْ شَيْبَةُ.
وَهَذَا الْأَصْلُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ أَصْلٌ نَافِعٌ فِي الْجَزْمِ بِكَثِيرِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ.(9/8)
وَلِهَذَا إذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْخُذْهُ عَنْ الْآخَرِ جُزِمَ بِأَنَّهُ حَقٌّ، لَا سِيَّمَا إذَا عُلِمَ أَنَّ نَقَلَتَهُ لَيْسُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى أَحَدِهِمْ النِّسْيَانُ وَالْغَلَطُ.
فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الصَّحَابَةَ كَابْنِ مَسْعُودٍ وأبيّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ كَمَا يَعْلَمُ الرَّجُلُ مِنْ حَالِ مَنْ جَرَّبَهُ وَخَبَرَهُ خِبْرَةً بَاطِنَةً طَوِيلَةً أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَسْرِقُ أَمْوَالَ النَّاسِ وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيَشْهَدُ الزُّورَ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مِثْلَ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ وَالْأَعْرَجِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَأَمْثَالِهِمْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِي الْحَدِيثِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين أَوْالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَوْ عُبَيْدَةَ السلماني أَوْ عَلْقَمَةَ أَوْ الْأَسْوَدِ أَوْ نَحْوِهِمْ .(9/9)
وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْغَلَطِ؛ فَإِنَّ الْغَلَطَ وَالنِّسْيَانَ كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ وَمِنْ الْحُفَّاظِ مَنْ قَدْ عَرَفَ النَّاسُ بُعْدَهُ عَنْ ذَلِكَ جِدًّا كَمَا عَرَفُوا حَالَ الشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ وقتادة وَالثَّوْرِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ لَا سِيَّمَا الزُّهْرِيُّ فِي زَمَانِهِ وَالثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: إنَّ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ لَا يُعْرَفُ لَهُ غَلَطٌ مَعَ كَثْرَةِ حَدِيثِهِ وَسَعَةِ حِفْظِهِ.
والْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ إذَا رُوِيَ مَثَلًا مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا; فَإِنَّ الْغَلَطَ لَا يَكُونُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا فَإِذَا رَوَى هَذَا قِصَّةً طَوِيلَةً مُتَنَوِّعَةً وَرَوَاهَا الْآخَرُ مِثْلَمَا رَوَاهَا الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ الْغَلَطُ فِي جَمِيعِهَا كَمَا امْتَنَعَ الْكَذِبُ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ.
وَلِهَذَا إنَّمَا يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى فِي الْقِصَّةِ مِثْلِ حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعِيرَ مِنْ جَابِرٍ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ.(9/10)
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِمَّا يُقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ؛ لِأَنَّ غَالِبَهُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ; وَلِأَنَّهُ قَدْ تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ؛ فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ; وَالْأُمَّةُ مُصَدِّقَةٌ لَهُ قَابِلَةٌ لَهُ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ..
[الشرح](9/11)
هذا بحث استطرادي ليس بصلة قوية بأصول التفسير، وإنما يريد منه تقرير ما ذكر سابقا من معنى النقل المصدق وأنه قد يعرض عن النقل المصدق الخطأ؛ يعني ثم احتمال الخطأ في رواية الراوي الذي يروي التفسير لا يعني أنّ تفسيره غير مقبول؛ لأن الذي يُرد أن يكون ممن تعمد الكذب وأكثر الذين يروون التفسير فإنهم لا يتعمدون الكذب خاصة من الصحابة فالتابعين، فكثير من تبع التابعين، هؤلاء لا يتعمدون الكذب، أما الخطأ فقد يجوز على أحدهم أن يخطئ، والخطأ والنسيان عرضة لابن آدم؛ لكن هذا الخطأ والنسيان في القصص الطوال، إذا نقل تابعي قصة طويلة في التفسير أو صحابي نقلها ثم نقلها الآخر، فإن العلم بحصول أصل هذه القصة يحصل باتفاق النقلين؛ لكن قد تختلف ألفاظ هذا وألفاظ هذا فيكون البحث في بعض الألفاظ، من جهة الترجيح؛ يعني هل يرجح هذا على هذا إذا اختلفت الروايتان، أما أصل القصة فقد اجتمعوا عليه، مثل ما ذكر من المثال في قصة بيع جابر جمله على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه الرواية وما فيها من الاختلاف من حيث الشروط والألفاظ وبعضها مطولة وبعضها مختصرة، عند أهل العلم هذه الحادثة معلومة يقينا أن جابرا باع جمله على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1) بثمن، وأنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذهب إلى المدينة ردّ عليه الجمل والثمن، وهذا علم حصل لأن من نقلها كثير، وتفاصيل القصة اختلفوا فيها.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث.(9/12)
فإذن يريد أن الاختلاف في بعض الألفاظ في الأحاديث الطوال لا يعني أن أصل القصة غير صحيح؛ بل كثير من القصص الطوال التي اشتمل عليها أكثر من واحد في النقل في التفسير و في غيره، فهذا يشعر بأن أصل القصة واقع وصحيح لأنهم لا يجتمعون على الكذب بيقين، ثم إن الخطأ يبعد أن يتفق اثنان في خطإ لم يتواطأ عليه ولم يجتمع عليه، هذا يخطئ وهذا يخطئ في نفس المسألة وفي نفس اللفظة، هذا بعيد، قصة كاملة هذا يخطئ فيها وهدا يخطئ فيها من أصلها قد يخطئ بعضهم في بعض الألفاظ هذا وارد، ولهذا يؤخذ تما اجتمعوا عليه، وأما ما اختلفوا فيه فيطلب ترجيحه من جهة أخرى، وهذا كثير من جهة النقل.
نقف عند هذا.
[الأسئلة]
س 1/ هنا السؤال يقول: حبذا لو كان درس التفسير متأخر لدرس الأصول؛ أصول التفسير متقدم.
ج/ طيب إذن إن شاء الله من الأسبوع القادم يكون درس أصول التفسير هو الأول، ويكون درس التفسير بعده، وذلك لاقتراح ورد؛ لأن ما بين الأذان والإقامة يكثر من يريدون سماع التفسير، أما أصول التفسير فهو للمتخصصين كما ذكر، وهو اقتراح وجيه بارك الله في الجميع.
س2/ هنا سؤال يقول: ما الفرق بين الأحكام والتفسير مع أن التفسير يحتوي على مسائل الاعتقاد والأحكام؟ نأمل المزيد من الإيضاح.
ج/ لا، المقصود من التفسير إذا أُطلق ما لا يدخل فيه الأحكام؛ لأن استنباط آيات الأحكام، استنباط الأحكام من الآيات هذا ليس داخلا في مطلق التفسير؛ يعني إذا أطلقنا التفسير فلا نريد منه فقط آيات الأحكام، آيات الأحكام أو آيات العقائد النقل فيها يحتاج إلى النقل المتبع المعروف في الأحكام وفي العقائد؛ ولكن أكثر التفسير يكون تفسيرا للألفاظ ليس تفسيرا للأحكام أو تفسيرا للعقائد، التفسير للألفاظ.
هذا التفسير للألفاظ ما مرجعه؟(9/13)
أقوى مرجع له النقل، اللغة مرجع نعم، والنقل نقل الصحابة أو نقل التابعين الذين هم أول الناس لمعرفة اللغة لأجل عدم فشو اللحن بينهم، وقبل فشو اللحن هذا هو المعتمد.
هنا في هذه التفاسير ما الراجح؟
مثل ما مرّ معنا من خلافهم في القرية هل هي أنطاكية أو غيرها؟ هل المرسلون ممن أرسلهم المسيح أو أرسلهم الله جل وعلا؟ هذا خلاف بين السلف في التفسير، هذا الخلاف هو الذي نتكلم عليه، لأنه يرجع إلى دلالة اللفظ دلالة الألفاظ القرآن.
أما آيات الأحكام لاشك أن استنباط الأحكام من الآيات أو استنباط العقائد من آيات العقائد هذا إما أن يؤخذ بظاهرها يعني بدون ضميمة أدلة أخرى من السنة، أو أن تكون محتاجة في بيانها لأدلة من السنة وهذا لابد فيه من رعاية قواعد الأسانيد في العقيدة والأحكام. نعم.
س3/ هو يسأل عن التفسير والمغازي والملاحم؟
ج/ التفسير معروف.
المغازي ما حصل من غزوات للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وللصحابة من الفتوح أو غيرها.
والملاحم ما يكون في آخر الزمان أو ما يكون في الأزمة المتوالية من حصول المقاتل العظيمة، هذه جاءت بها أحاديث كثيرة لكن أكثرها ليس لها أصول؛ يعني فيها تسمّح في النقل.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(((((
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري(9/14)
- - - - - - - - - - -
شرح
مقدمة في أصول التفسير
لشيخ الإسلام ابن تيمية
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[الدرس الثامن]
[مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
الدرس الثامن
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
وَلِهَذَا إنَّمَا يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى فِي الْقِصَّةِ مِثْلِ حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعِيرَ مِنْ جَابِرٍ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ.
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِمَّا يُقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ؛ لِأَنَّ غَالِبَهُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ; وَلِأَنَّهُ قَدْ تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ؛ فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَالْأُمَّةُ مُصَدِّقَةٌ لَهُ قَابِلَةٌ لَهُ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبٌ، وَهَذَا إجْمَاعٌ عَلَى الخطأ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ بِدُونِ الْإِجْمَاعِ نُجَوِّزُ الْخَطَأَ أَوْ الْكَذِبَ عَلَى الْخَبَرِ فَهُوَ كَتَجْوِيزِنَا قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي ثَبَتَ بِظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ ظَنِّيٍّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي الْبَاطِنِ; بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدْنَاهُ، فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى الْحُكْمِ جَزَمْنَا بِأَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.(10/1)
وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلًا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إلَّا فِرْقَةً قَلِيلَةً مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يُوَافِقُونَ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ كَأَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ فُورَك.
وَأَمَّا ابْنُ الباقلاني فَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَ ذَلِكَ وَتَبِعَهُ مِثْلُ أَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي حَامِدٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَابْنِ الْخَطِيبِ(1) والآمدي وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ .
وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو الطَّيِّبِ وَأَبُو إسْحَاقَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ شَمْسُ الدِّينِ السَّرَخْسِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْخَطَّابِ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزاغوني وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ.
__________
(1) قال الشيخ صالح: ابن الخطيب يعني الرازي، الرازي يسمى في كثير من الكتب ابن الخطيب؛ لأن أباه كان خطيبا في الري، يقال له ابن الخطيب الري، أو اختصارا ابن الخطيب.(10/2)
وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَصْدِيقِ الْخَبَرِ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ بِهِ فَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، كَمَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَحْكَامِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ.
و الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ مَعَ عَدَمِ التَّشَاعُرِ(1) أَوْ الِاتِّفَاقِ فِي الْعَادَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ الْمَنْقُولِ؛ لَكِنَّ هَذَا يُنْتَفَعُ بِهِ كَثِيرًا فِي عِلْمِ أَحْوَالِ النَّاقِلِينَ.
وَفِي مِثْلِ هَذَا يُنْتَفَعُ بِرِوَايَةِ الْمَجْهُولِ وَالسَّيِّئِ الْحِفْظِ وَبِالْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَكْتُبُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَصْلُحُ لِلشَّوَاهِدِ وَالِاعْتِبَارِ مَا لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ.
قَالَ أَحْمَد: قَدْ أَكْتُبُ حَدِيثَ الرَّجُلِ لِأَعْتَبِرَهُ. وَمَثَّلَ هَذَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ(2)
__________
(1) قال الشيخ صالح: (مَعَ عَدَمِ التَّشَاعُرِ) يعني -إذا صحت هذه اللفظة- فكأن معناها أن طائفة من هؤلاء الذين نقلوا لم تشعر بما نقلته الطائفة الأخرى منهم؛ يعني لم يقع منهم الاشتراك في ذلك، التشاعر؛ يعني ما شعر هؤلاء بما نقله أولئك، ولم يشعر هؤلاء بما نقله أولئك؛ لكن لفظ التشاعر به غرابة، ولعله أن يكون لفظ التشاور بالواو من المشاورة؛ يعني ما شاور بعضهم بعضا ولم يقع هذا الاتفاق عن تشاور منهم؛ لأن التشاور هو الاتفاق، فالتشاور يكون أولى.
(2) قال الشيخ صالح: هو في الحقيقة ابن لهيعة في مصر أكثر أهل مصر الحديث؛ لأن علم طبقة تابعي التابعين وصغار التابعين في مصر صارت إليه وهو قاضي مصر وعالم مصر، علم المصريين آل إليه؛ عبد الله بن لهيعة رحمه الله تعالى.
ثم هل حديثه من باب الصحيح أو من باب الضعيف هذا فيه بحث معروف ليس هذا موضعه.(10/3)
قَاضِي مِصْرَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ حَدِيثًا وَمِنْ خِيَارِ النَّاسِ؛ لَكِنْ بِسَبَبِ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ وَقَعَ فِي حَدِيثِهِ الْمُتَأَخِّرِ غَلَطٌ فَصَارَ يَعْتَبِرُ بِذَلِكَ وَيَسْتَشْهِدُ بِهِ وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِنُ هُوَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَاللَّيْثُ حُجَّةٌ ثَبَتٌ إمَامٌ.
وَكَمَا أَنَّهُمْ يَسْتَشْهِدُونَ وَيَعْتَبِرُونَ بِحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ سُوءُ حِفْظٍ، فَإِنَّهُمْ أَيْضًا يُضَعِّفُون مِنْ حَدِيثِ الثِّقَةِ الصَّدُوقِ الضَّابِطِ أَشْيَاءَ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهَا بِأُمُورِ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا وَيُسَمُّونَ هَذَا عِلْمَ عِلَلِ الْحَدِيثِ؛ وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ عُلُومِهِمْ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ ضَابِطٌ وَغَلِطَ فِيهِ وَغَلَطُهُ فِيهِ عُرِفَ.
إمَّا بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ كَمَا عَرَفُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
هذا الكلام يعني به المؤلف شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن الإجماع معتبر في التفسير، وكما أن الإجماع حجة في الفقه فهو حجة في التفسير؛ لأن الإجماع لا يقع في هذه الأمة وتكون الأمة غالطة فيما أجمعت عليه؛ لأن هذه الأمة عصمت أن تجتمع على ضلالة، فكان ما اجتمعت عليه حجة بيقين، قال: من حيث الأصل فإن الإجماع يكون إما على الخبر؛ يعني على حكم الخبر، وإما أن يكون على نسبة الخبر.
فمثلا يكون الإجماع على حكم الخبر مثل الإجماع على حكم أن الصلاة مثلا يُبطلها الأكل والشرب، فإن الأكل والشرب ما جاء فيه دليل خاص في إبطال الصلاة ولكن هذا بالإجماع عرف هذا الحكم بالإجماع، والأمة أجمعت على هذا فصار هذا حقا لا محيد عنه.(10/4)
القسم الثاني أن تجتمع على الخبر؛ يعني أن تجمع على صحته، وهذا الإجماع إما أن يكون بالنقل الخبر بتواتر، وإما أن يكون بتلقي الخبر بالقبول، مثل ما تلقت الأمة أحاديث الصحيحين بالقبول، فإن أحاديث الصحيحين تلقتها الأمة بالقبول، وتلقي الأمة لأحاديث الصحيحين بالقبول أفادنا الإجماع على أن ما في الصحيحين من حيث الجملة ومن حيث العموم من حيث الجنس منسوب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما قال طائفة من العلماء: لو حلف رجل أن ما في الصحيحين صحيح النسبة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قاله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان بارا صادقا ولم يحنث.
وهذا المقصود به عامة ما في الصحيحين ما أنهم تنازعوا في بعض الألفاظ في الصحيحين.
يعني الإجماع هنا جاء على اعتبار ما في الصحيحين من الأحاديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتلقي الأمة لهذه الأحاديث بالقبول، فهذه الأحاديث تلقّتها الأمة بالقبول فكان إجماعا على صحة هذين الكتابين.
ولهذا نقول: أجمعت الأمة على أنه ليس أصح بعد كتاب الله جل وعلا من صحيح البخاري ثم صحيح مسلم، وذلك لأن ما فيهما صحيح النسبة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذا تبين ذلك فإنه كذلك أحاديث التفسير وآثار التفسير فإن نقْلها قد يكون الإجماع عليه منعقد على حكم الخبر:
يعني على ما في الخبر على مضمونه على أن الآية تفسر بكذا.
وإما أن يكون على تلقي تلك الأخبار بالقبول.(10/5)
وهذا مهم فإن في أحاديث التفسير أخبار نُوزع في صحتها من حيث الإسناد؛ لكن تلقاها علماء التفسير بالقبول، وتلقاها العلماء بالقبول من دون قدح فيها، فهذا يُكسب تلك الأخبار قوة لأنّ تتابعت لأن الأمة تتابعت على الثناء على تلك الأخبار، نعم تلك الأخبار ليس ثم حصرت لها في كتاب كما حصرت في الأحاديث غير البخاري ومسلم وتلقتها الأمة بالقبول؛ لكن من حيث الأصل هذا يعتبر، فإذا كان الحديث مشتهرا بين أهل التفسير بلا نكير فيكون هذا في القوة من جنس الأحاديث التي تلقيت بالقبول.
هذا من حيث التأصيل، ويريد بذلك ما هو أخف من هذا، وهو الإجماع معتبرا في نقل التفسير، الإجماع معتبر في الحجة في التفسير والإجماع على نوعين:
الإجماع إما أن يكون على ألفاظ التفسير.
وإما أن يكون على المعنى.
فمثلا يُجمع الصحابة أو يجمع المفسرون على أن تفسير الصراط هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه، هذا إجماع، أجمعوا على هذا اللفظ. كما قال ابن جرير أجمع أهل التأويل على أن الصراط هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه هذا إجماع لفظي.
وهناك قسم ثانٍ من الإجماع هو:
الجماع على المعنى فتكون عباراتهم مختلفة لكن المعنى واحد، وهذا يدخل فيه عند شيخ الإسلام وعند جماعة، يدخل فيه اختلاف التنوع؛ لأن اختلاف التنوع اختلاف في الألفاظ مع الاشتراك في المعنى العام:
إما من جهة أن تفسير بعض أفراد العام.
وإما أن يكون أحد معنيي اللفظ المشترك.
وإما أن يكون تفسير في بعض الحالات.
أو نحو ذلك مما مر معنا من أحوال وأنواع اختلاف التنوع بين السلف.(10/6)
يعني أنّ اختلاف التنوع هذا عند شيخ الإسلام وعند جماعة يعني الإجماع على أصل المعنى، مثل ما ذكر في حديث جابر في أول الكلام، الاختلاف في حديث جابر في إشتراء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجمله وبيعه الجمل على جابر وقع الاختلاف في القصة على ألفاظ كثيرة، بعضها يثبت وبعضها غير ثابت لكن الإجماع منعقد على ثبوت أصل القصة.
هكذا في روايات التفسير فإن الروايات في التفسير قد يكون الإجماع مأخوذا من اختلاف الألفاظ؛ لكن لأنّ الأصل واحد مثل ما مرّ معنا في تفسير قوله تعالى مثلا الذي مر معنا أو نأتي بمثال آخر - لأني نسيت الأمثلة التي مثلتُ بها- مثلا في قوله تعالى في سورة النحل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ?وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى?[النحل:62]، ?وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ?، هنا إذا قال قائل ?مَا يَكْرَهُونَ? هو البنات لله جل وعلا، هذا مصيبة لأنهم يكرهون البنات. إذا قال قائل الذي يكرهونه هو الزوجة لأن طائفة من النصارى تكره الزوجة للقساوسة وللرهبان وللكبار وينزهونهم عن هذا الأذى ومع ذلك يجعلون لله جل وعلا ما يكرهونه لكبارهم ولمعظميهم، كان هذا تفسيرا صحيحا، وكما قيل يكرهون ?وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ? يعني ما يكرهونه لرسلهم، يجعلون لله ما يكرهونه لأنفسهم يكرهون لأنفسهم أن تهان رسلهم وأن تذل رسلهم، ومع ذلك جعلوا لله ما كرهوه لأنفسهم من إهانة رسل الله وإذلال رسل الله. هذه كلها تفاسير منقولة لكن كل هذه اختلاف التنوع مثلما مثلنا؛ لأنها داخلة في عموم قوله ? وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ?.(10/7)
فهذا الاختلاف لا يعني أنه لن يقع الإجماع على التفسير، هو اختلاف في الأفراد؛ لكن الأصل المجمع عليه الذي نستطيع أن نقول أنهم أجمعوا عليه هو ما دلّ عليه ظاهر الآية وهو أن المشركين نسبوا لله جل وعلا أشياء يكرهونها لأنفسهم ويُنكرون نسبتها لهم ولا يرضون بنسبتها إليهم، مثل أن تنسب البنات لهم، مثل أن تهان الرسل، مثل أن لا تحترم كتبهم إلى آخر هذه الأمثلة.
هناك مثل المشترك في لفظ قسورة ?فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ?[المدثر:51] مرت معنا أن القسورة، إما أن تكون الأسد -السبع-، وإما أن تكون القوس الذي يرمى به، وهذا الاختلاف في المشترك لا يعني لا ينفي أصل المعنى يعني أن الأصل ?فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ? أي فرت مما يخاف منه؛ يعني أن هذا إجماع معنوي، إجماع على المعنى، وهذا مثل له شيخ الإسلام في هذه الاختلافات الطويلة التي ذكرها من أن الاختلاف في الأحاديث وتلقي الأمة لها بالقبول -يعني في أصلها- لأن هذا يمكن أن يكون أيضا في التفسير يعني تلقى لأصل تلك الأخبار وإن لم تكن أسانيدها قوية؛ بل يعتبر بها ويستشهد مثل أحاديث ابن لهيعة وأشباهه، فإن أحاديثهم تؤخذ للاستشهاد؛ لكن قد يتلقى خبره عند أهل التفسير بالقبول فيكون جاريا مجرى الإجماع بين المفسرين على ذلك.
وهذا يعني أن الإجماع مهم في علم التفسير، فمن أصول التفسير رعاية الإجماع، كيف السبيل إلى معرفة الإجماع في هذين الطريقين؟
إما أن يكون إجماع على اللفظ وهذا أعلاه؛ لكن هذا نادر.
وإما أن يكون وهو الأكثر الإجماع على المعنى، إما على المعنى العام بذكر بعض أفراده أو على المعنى الأصلي من جهة المشترك أو على المعنى العام عند ذكر بعض الأحوال.
وهذا تقدم لنا في أول الرسالة.
الإجماع الاتفاق على اللفظ الاتفاق على اللفظ أو الاتفاق على أصل المعنى؛ يعني تنظر نص على الإجماع؛ قال ابن جرير: أجمع أهل التأويل على كذا. خلاص هذا إجماع نقل الإجماع.(10/8)
قال ابن كثير: أجمع المفسرون من السلف على كذا. هذا إجماع لا يجوز مخالفته إلا لعالم يقول: [أصدع] والإجماع غير صحيح. هذا بحث آخر؛ يعني ينازع في الإجماع؛ لكن إجماعهم حجة.
وإما أن يكون الإجماع فُهِم من المعنى يعني لاتفاقهم على أصل المعنى، لم يتفقوا على اللفظ مثال ما ذكرت لكم في الصراط ونحوه، وإنما اتفقوا على أصل المعنى، وهذا هو الأكثر؛ لكن هذا فيه بحث هل يعد إجماعا أم أنه عدم خلاف تضاد. شيخ الإسلام يعده إجماع بالمعنى إجماع المعنى يأتي إن شاء الله مزيد تفصيل.
[المتن]
كَمَا عَرَفُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ. وَأَنَّهُ صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ، وَجَعَلُوا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِتَزَوُّجِهَا حَرَامًا، وَلِكَوْنِهِ لَمْ يُصَلِّ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ.
وَكَذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، وَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: إنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ، مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ.
وَعَلِمُوا أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَهُوَ آمِنٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَنَّ قَوْلَ عُثْمَانَ لِعَلِيّ: كُنَّا يَوْمَئِذٍ خَائِفِينَ. مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ.
وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ النَّارَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ. مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ.
وَهَذَا كَثِيرٌ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ طَرَفَانِ:
طَرَفٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ، لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ فَيَشُكُّ فِي صِحَّةِ أَحَادِيثَ أَوْ فِي الْقَطْعِ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا مَعْلُومَةً مَقْطُوعًا بِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ.(10/9)
وَطَرَفٌ مِمَّنْ يَدَّعِي اتِّبَاعَ الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِهِ، كُلَّمَا وَجَدَ لَفْظًا فِي حَدِيثٍ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ أَوْ رَأَى حَدِيثًا بِإِسْنَادِ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا جَزَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ حَتَّى إذَا عَارَضَ الصَّحِيحَ الْمَعْرُوفَ أَخَذَ يَتَكَلَّفُ لَهُ التَّأْوِيلَاتِ الْبَارِدَةَ أَوْ يَجْعَلُهُ دَلِيلًا لَهُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَعْرِفُونَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا غَلَطٌ.
وَكَمَا أَنَّ عَلَى الْحَدِيثِ أَدِلَّةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ صِدْقٌ وَقَدْ يُقْطَعُ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَدِلَّةٌ يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ كَذِبٌ وَيُقْطَعُ بِذَلِكَ؛ مِثْلُ مَا يُقْطَعُ بِكَذِبِ مَا يَرْوِيهِ الْوَضَّاعُونَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْغُلُوِّ فِي الْفَضَائِلِ:
مِثْلِ حَدِيثِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَأَمْثَالِهِ مِمَّا فِيهِ أَنَّه مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ كَذَا وَكَذَا نَبِيًّا.
وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والزَّمَخْشَرِي فِي فَضَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ سُورَةً سُورَةً فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
والثَّعْلَبِيُّ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَدِينٌ وَكَانَ حَاطِبَ لَيْلٍ يَنْقُلُ مَا وُجِدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَمَوْضُوعٍ.
والْوَاحِدِيُّ صَاحِبُهُ كَانَ أَبْصَرَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ; لَكِنْ هُوَ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَامَةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ.
والبغوي تَفْسِيرُهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ الثَّعْلَبِيِّ لَكِنَّهُ صَانَ تَفْسِيرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ.(10/10)
وَالْمَوْضُوعَاتُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ.
وَحَدِيثِ عَلِيٍّ الطَّوِيلِ فِي تَصَدُّقِهِ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَمِثْلُ مَا رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: ?وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ?[الرعد:7]، أَنَّهُ عَلِيٌّ ?وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ?[الحاقة:12]، أُذُنُك يَا عَلِيٌّ.
[الشرح]
وهنا كله الاستطراد عما تقدم يريد أن يقول: إن أهل الحديث أهل علم ومعرفة بفنهم، وإنهم يثبتون في الأحاديث التي اشتهر نقلها وفاضت الأمة واستفاضت على أنها غلط مقطوع به، ويثبتون في أحاديث أخر لم تستفض عند الأمة على أنها صحيح مقطوع به يعني بصحته، وهذا ليس بابه الشهرة من عدمها؛ ولكن بابه المعرفة قد يكون الأحاديث، قد تكون الأحاديث معللة بأنواع العلة التي يعرفها أهل الحديث أما من جهة جهالة الراوي؛ جهالة حاله وإما من جهة جهالة عينه وإما لمخالفة الحديث، أو نحو ذلك من العلل التي يعل بها أهل الحديث؛ لكن قد يكون مع هذا الاختلاف عندهم إشعار بثبوت أصل ذلك البحث، ففرق بين الشيء الذي وقع فيه اختلاف في ألفاظه، وبين ما هو كذب في أصله.
إذا تبين هذا فينظّر هذا على أخبار التفسير، فإنّ في أخبار التفسير ما هو مقطوع بكذبه وإن كان مشهورا، مثل الأحاديث الطويلة المروية في فضل سور القرآن التي ذكرها الثعلبي وذكرها صاحبه الواحدي وذكرها الزمخشري، والزمخشري لا يروي رواية إنما يذكرها ذكره؛ لكن الثعلبي والواحدي يذكرونها في تفاسيرهم بأسانيدهم، ولو كان هذا ذكره الثعلبي، والثعلبي اعتمد عليه كثير من المفسرين مثل البغوي وجماعة والخازن وكثير لكن مع ذلك أهل الحديث يعلمون أن تلك الأحاديث ولو كانت مشتهرة في كتب التفاسير أنها مكذوبة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تقوم الحجة بها.(10/11)
هناك قسم آخر من الأحاديث يكون موجودا في كتب التفسير ويعلها أهل الحديث بعلل لكن الإعلال لا يعني الوضع والكذب؛ بل قد يكون الإعلال لطريق بلفظ، وقد يكون اتهام الراوي بجهالة أو بسوء حفظ ونحو ذلك؛ لكن يكون معتبرا به في الشواهد، فيكون الأصل الذي دل عليه هذا الحديث الذي تكلموا عليه وأعلّوه مع غيره يكون الأصل الذي فيهما يثبته أهل الحديث؛ يعني أهل الحديث من المفسرين الذين ذكروا الأحاديث بالأسانيد. وهذا لاشك أنه موجود كثير وهو الأكثر في أحاديث المفسرين فإنك إذا نظرت في أسانيد عند ابن جرير وعند عبد الرزاق وهو أقل من ابن كثير وعند عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وأشباههم وعند ابن أبي حاتم وأشباه هؤلاء وجدت أن الأسانيد يقلّ فيها الإسناد السالم من العلة عن طريقة أهل الحديث الإسناد السالم من الإعلال من الجرح من الضعف يقلّ جدا بل أكثر أسانيد المفسّرين فيها نوع ضعف إما لجهالة وإما لسوء حفظ وإما لانقطاع أو نحو ذلك، وهذا مشهور؛ لكن هذا لا يعني أن لا تكون صحيحة عند أهل التفسير لأن أهل التفسير من أهل الحديث الذين نقلوا التفسير تلقوا أخبارا كثيرة بالقبول، فإذا تلقوها بالقبول كان ذلك حجة في أنهم عرفوا أن أصلها صحيح.(10/12)
ولهذا لا يقال في أسانيد تفسير ما يقال في أسانيد الحديث؛ أسانيد الحديث تختلف لأن فيها تفسير، أما أسانيد التفسير خصصوا فيها أهل العلم، لذلك تجد ابن أبي حاتم مثلا مع أنه صنف كتاب العلل وأعل أحاديث في الأحكام بعلل قد لا تكون قادحة عند غيره، ذكر فيه علل باب مختص لأحاديث أُعلّت في التفسير وفي فضائل السور وفي فضائل القرآن ونحو ذلك، وأعلّها بعلل دون العلل التي تكون في ذلك، يعني ما شدد فيها شدته في ذلك، كذلك كتب تفسيره المشهور تفسير ابن أبي حاتم وشرط في أوله أنه لا يحتج إلا بما هو صحيح عند أهل الحديث، أو بما هو ليس فيه ضعف أو جرح أو نحو ذلك، وفي أحاديث تفسيره -تفسير ابن أبي حاتم- أشياء كثيرة ينازع فيها على طريقة أهل الحديث.
شيخ الإسلام يريد بهذا أن يذكر لك أن التفسير التسمّح فيه كثير من حيث الأسانيد، وهذا التسمّح من جهة أن يعني سببه من جهة أن التفسير إنما ينقله من لم يعتنِ به، الأحكام الحلال والحرام اعتنى به العلماء وأهل الحديث وحفظوها وأدوها، وأما التفسير لم تكن العناية به مثل العناية بالحلال والحرام، ولهذا تجد أن في الأسانيد فيها مطاعن كثيرة؛ لكن روايتها واستفاضتها ينبئ عن أن أصلها مقبول عند أهل العلم بالتفسير، فنأخذ منها ما اشتركت فيه، وأما تفردت به الرواية مما يخالف قواعد الشرع أو أصول الاعتقاد، أو يخالف ما نقله الآخرون فإنّ هذا لا يؤخذ به، ولو كان في إسناده نوع جرح يتسمح به بغيرها.(10/13)
مثلا في حديث الكرسي ابن عباس ذكر ابن جرير عنه في التفسير آية الكرسي ذكر عنه روايتين: رواية أن الكرسي موضع القدمين، والرواية أن كرسي الرحمن علمه. وتلك الرواية رواية أن الكرسي موضع القدمين إسنادها صحيح لا مطعن فيه، والرواية الثانية بعض أهل العلم صححها وبعضهم طعن فيها، والصواب أنها مقدوح فيها؛ لأن فيها راو تفرد أو راو ليس بجيد الحفظ وخالف الرواية الثانية، فلابد أن تكون الرواية هذه والرواية هذه هاتان الروايتان متغايرتان لا يمكن أن يصحح الجميع؛ لأن هذه عن ابن عباس الكرسي العلم وتلك عن ابن عباس الكرسي موضع القدمين، فلابد أن تكون إحداهما صحيحة والأخرى باطلة، فلا تسمح بالرواية المخالفة، بخلاف الروايات التي يكون بعضها يعضد بعضا، بعضها جارٍ في بعض، إما الأولى عامة والثانية أخص منها، وإما الأولى فيها إطلاق والثانية فيها تقييد أو نحو ذلك هذا يتسمح فيه؛ لأنّ مثله كثير ولا يعد من التضاد والتضارب بين الروايات.
إذن فنخلص من هذا إلى أن أسانيد التفسير الغالب عليها أن يكون فيها مقال. هذا واحد.
الثاني أن أسانيد التفسير ينظر فيها إلى قبول العلماء أو ردهم لها، فإن قبلها علماء الشأن علماء الحديث أخذ بها، وإن ردوها لعلة تفسيرية أو علة مخالفة أو نحو ذلك فترد.
الثالث أنه يُنظر فيها إلى اتفاقها، فتعضد الرواية الأخرى فيما اشتركت فيه ولو كان نوع اشتراك؛ يعني اشتراك في أصل المعنى، اشتراك في المعنى العام، اشتراك في الدلالة على حال واحدة ونحو ذلك.
وهذا إنما يظهر لكم بالتطبيق، إذا طبقت هذا يعني نظرت في التفاسير، أنظر تفسير الطبري مثلا يلحق به الروايات التي فيه خاصة مع تعليق الشيخ أحمد شاكر والأستاذ محمود شاكر تجد أنه كثيرا يطعن في الأسانيد لكنها حجة احتج بها ابن جرير واحتج بها ابن أبي حاتم كيف يكون هذا على هذا النمط الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله.
أولا أسانيد التفسير الغالب عليها أن فيها مقالا، هذا واحد.(10/14)
الثاني يُنظر في أسانيد التفسير إلى قبول العلماء من أهل الشأن لها وردهم لها، فإن ردوها بعلة تفسيرية فإنها ترد وإن قبلوها فيؤخذ قبولهم لها ولو كان في إسناد مطعن.
الثالث أنه يُنظر في الأسانيد في الأخبار التي جاءت بالأسانيد إلى المعنى الذي اشتملت عليه دون النظر في الألفاظ فتجد الألفاظ مختلفة لكن لا تنظر إلى اختلاف الألفاظ، أنظر إلى ما اشتركت فيه من أصل المعنى، إما أن الألفاظ المختلفة أفراد للعام، وإما أن تكون نوعين أو معنيي المشترك، أو أن تكون في حالات مختلفة، مثل ما ذكرنا لكم في تفسير قوله ?وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة?[النحل:41]، (حسنة) هذه ما هي؟ كل واحد فسؤها بخال من الأحوال بعضهم فسرها بأنها المال، بعضهم فسرها بالإمارة بعضهم فسرها بالجاه ونحو ذلك.
مثل أيضا ما اختلفوا فيه التفسير في سورة الإسراء عند قوله تعالى ?رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا?[الإسراء:25]، هنا لفظ الأوابين اختلف فيه إلى الأقوال بعضها إسنادها جيد بعضها منقطع بعضها ضعيف بأنواع من العلل:
بعضهم قال: الأوابون هم الذين يصلون الضحى.
بعضهم قال: الأوابون هم الذي يرجعون إلى الله كلما عصوا.
بعضهم قال: الأواب هو الذي يتبع السيئة الحسنة، إذا أساء أتبعها الحسنة. إلى غير ذلك.
الذي فسر الأواب هو المصلي للضحى هذا راع شيء، كل هذه مختلفة في أصل المعنى وإن كان الاختلاف؛ لكن أصل المعنى واحد وهو أن الأبواب هو الذي ينيب إلى ربه بأنواع من الإنابة، إما بالتوبة، وإما بحسنات بعد السيئات وإما بصلاة الضحى أو نحو ذلك.(10/15)
فهذا ولو اختلف ولو كانت الأسانيد ضعيفة في ذلك، ما ينظر فيها إلى ضعفها؛ لأن الجميع فسروه بما يدل عليه اللفظ ببعض أفراده، وليس ببعيد أن تكون هذه التفاسير منقولة عن السلف؛ لأنها من حيث المعنى صحيحة، فهذا ينظر فيه إلى أنها ما تعارضت مشتركة هذه.
فإذن ما ينظر فيه إلى قوة الإسناد من ضعفه لأنها جميعا مشتركة في شيء واحد فيكون بعضها يعضد بعضا، هذه طريقة أئمة التفسير في إيرادهم للأسانيد.
ومر معنا كلمة للإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصول، وذكر منها التفسير؛ يعني ليس لها أصول مسندة يعني بعضها مرسل بعضها منقطع بعضها ضعيف؛ يعني أصولها ضعيفة فكأنه ليس لها أصول.
ليس جميع أهل الحديث، أهل الحديث الذين اعتنوا بالتفسير؛ لأن أهل الحديث على قسمين:
منهم من اعتنى بالتفسير.
ومنهم من لم يعتنِ بالتفسير.(10/16)
الذي لم يعتنِ بالتفسير سينظر إلى أسانيد المفسرين كأنه ينظر إلى أسانيد الحديث؛ يعني الحلال والحرام، هذا ليس كذلك؛ لأن التفسير مثل ما ذكرت لك أخص، نعم قد يكون إسناد في التفسير جاء به حديث بإثبات عقيدة، قد يكون إسناد في التفسير جاء به حديث بإثبات حكم شرعي، ليس هذا الكلام فيه، هذا الكلام عليه من جنس النظر في أسانيد الحديث؛ لأن هذا -العقيدة والحديث- كلها فيها ينبغي أن يؤخذ بالحزم؛ لكن مثل تفسير لفظ ونحو ذلك هذا ينظر فيه أهل الحديث الذين ذكروا التفسير صنفوا في التفسير مثل الإمام أحمد مثل ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن المنذر هؤلاء تجد عندهم من معرفة التفسير ما يصير حجة في نقل الأسانيد ولو كان فيها خلاف الإسناد؛ أنا ذكرت أن يكون الرد إذا رده أهل الحديث أو أهل الشأن لعلة تفسيرية هذا يؤخذ، أما إذا رده أحد من أهل الحديث لعلة حديثية، فينازع بأن صنيع أهل التفسير من أهل الحديث مقابل لإعلالهم، فمثلا هو يعل بأن الإسناد فيه فلان وفلان هذا ضعيف فلا يقبل هذه الرواية، هذا لا يؤخذ به؛ لكن من قال هذه الرواية فيها ذكر فيها تفسير اللفظ بكذا، وهذا معارض لتفسير اللفظ بكذا لأن هذا يكثر مع هذا، هذا يناقض الرواية الأخرى في التفسير، فيكون هنا الإعلال بالتفسير لا من جهة الإسناد فهذا يقبل؛ لأنه يكون من أهل الاختصاص للفن، الذي هو التفسير، قد يكون أحيانا إعلال التفسير في موضع لتفسيره في موضع أخر.
(((((
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري(10/17)
- - - - - - - - - - -
شرح
مقدمة في أصول التفسير
لشيخ الإسلام ابن تيمية
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[الدرس التاسع]
[مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
الدرس التاسع
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
فَصْلٌ
[فِي النَّوْعُ الثَّانِي الخِلاَفُ الوَاقِعُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ جِهَةِ الاسْتِدْلاَلِ]
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ مُسْتَنَدَيْ الِاخْتِلَافِ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ.
فَإِنَّ التَّفَاسِيرَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَلَامُ هَؤُلَاءِ صِرْفًا لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ مِثْلَ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ بْنِ حميد وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ دُحَيم، وَمِثْلَ تَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُويَه وبقي بْنِ مخلد وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنة وَسَنِيدٍ وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَاجَه، وَابْنِ مَرْدُويَه:
إحْدَاهُمَا(1): قَوْمٌ اعْتَقَدُوا مَعَانِيَ ثُمَّ أَرَادُوا حَمْلَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا.
__________
(1) قال الشيخ صالح: هذا كل ما مضى من التفاسير كالجملة المعترضة ، ثم قال (إحْدَاهُمَا) يعني الوجهين اللذين يدخل منهما الغلط في التفسير بالاجتهاد.(11/1)
والثَّانِيَةُ: قَوْمٌ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِمُجَرَّدِ مَا يُسَوِّغُ أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلَامِهِ، (1) مَنْ كَانَ مِنَ النَّاطِقِينَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالْقُرْآنِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَالْمُخَاطَبِ بِهِ. (2)
فالْأَوَّلُونَ رَاعَوْا الْمَعْنَى الَّذِي رَأَوْهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِنْ الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ.
والْآخَرُونَ رَاعَوْا مُجَرَّدَ اللَّفْظِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ عِنْدَهُمْ بِهِ الْعَرَبِيُّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا يَصْلُحُ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَلِسِيَاقِ الْكَلَامِ.
ثُمَّ هَؤُلَاءِ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلِينَ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الآخَرُون، وَإِنْ كَانَ نَظَرُ الْأَوَّلِينَ إلَى الْمَعْنَى أَسْبَقَ وَنَظَرُ الآخرين إلَى اللَّفْظِ أَسْبَقُ.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا وخشية، يا أرحم الراحمين، أما بعد:
__________
(1) قال الشيخ صالح: (أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلَامِهِ) يعني فسروه بمجرد احتمال إرادة المتكلم من العرب بكلامه هذا المعنى لو تكلم بهذه الجملة. هذا ما يريد. والله أعلم.
(2) انتهى الشريط الثالث.(11/2)
فهذا صلة بما سبق الكلام عليه في أصول التفسير، وكلامه فيما سمعنا متصل بتفاسير الناس بعد القرون الثلاثة المفضلة، والتفاسير المنقولة عن الصحابة وعن التابعين وعن تبع التابعين، هذه التفاسير يقلّ أو يندر فيها الغلط، وذلك لأنهم فسروا القرآن، رَعَوْا فيه المتكلم به، وهو الله جل جلاله، ورَعَوْا فيه المخاطب به وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورَعَوْا فيه المخاطَبين به أيضا وهم العرب قريش ومن حولهم في أول الأمر أو العرب بعمومهم، وأيضا رَعَوْا فيه اللفظ وراعوا فيه السياق، ولهذا تجد أن تفاسيرهم قد تبتعد في بعض الألفاظ عن المشهور في اللغة؛ لكنها توافق السياق.
أما المتأخرون -يعني ما جاء بعد هذه الطبقات الثلاث- فيكثر في تفاسيرهم الغلط، وجهة الغلط إما أن تكون أن المفسر اعتقد اعتقادات باطلة، كحال أصحاب الفرق الضالة إما المجسمة كمقاتل، أو المرجئة أو المؤولة أو المنكرين للصفات كالجهمية والمعتزلة وما شابه هؤلاء، تجد أنهم فسّروا القرآن ونزّلوه على وفق ما يعتقدون، فجاء الغلط في أنهم قرروا عقيدة عندهم وجعلوا القرآن يفهم على وفق ما يعتقدونه، وهذا نوع من أنواع التفسير بالرأي المذموم، وفي الأصل التفسير بالرأي معناه التفسير بالاجتهاد والاستنباط، والتفسير بالرأي من السلف من منعه أصلا ومنهم من أجازه واجتهد في التفسير وهؤلاء هم أكثر الصحابة، وإذا جاز الاجتهاد فتفسير القرآن بالرأي، فإنما نعني بذالك أن يُفسر القرآن بالاجتهاد الصحيح وبالرأي الصحيح؛ يعني بالاستنباط الصحيح، وأما الرأي المذموم فهو استنباط أو تفسير من ردود، وذلك لعدم توفر شروط التفسير بالرأي فيه.(11/3)
من ذلكم أن يفسر القرآن على وفق ما يعتقده، يأتي الجهمي مثلا يفسر أسماء الله جل وعلا التي جاءت في القرآن بأثر تلك الأسماء المنفصلة في ملكوت الله جل وعلا، يأتي المرجئ يفسر آيات الوعيد على نحو ما يعتقده، يأتي الرافضي يفسر الألفاظ التي في القرآن مثل قوله تعالى ?وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا?[الإسراء:60]، يفسِّرون الشجرة الملعونة بأنها معاوية رَضِيَ اللهُ عنْهُ وذريته، هذا كله من التفسير بالرأي المذموم؛ لأنه تفسير عن هوى اعتقد اعتقادات، ثم حمل القرآن عليها هذا من جهة العقيدة.
كذلك من جهة الفقه تجد أن بعض المفسرين الذين جاؤوا بعد القرون الثلاثة ينحى في الفقه منحىً، يذهب إلى مذهب يرجح في المسألة ترجيحا، ثم هو يأتي إلى الآية فيفسر الآية التي فيها الأحكام يفسرها على ما يعتقد من المذهب الفقهي؛ يعني يفسرها على ما يذهب إليه، فيأتي بذلك يأتي في ذلك بغلط أي أنه فسر الآية لا على ما تدل عليه؛ ولكن على ما يذهب إليه هو فيكون حمل القرآن على رأيه.
وهذا وأمثاله هو الذي جاء فيه قول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «من تكلم في القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار» وفي لفظ آخر «من قال في القرآن فقد أخطا لو أصاب»، وهي أحاديث أسانيدها ضعيفة لكنها بمجموعها لعلها تبلغ مرتبة الحسن.
المقصود من ذلك أن هذا من قسم التفسير بالرأي المذموم.(11/4)
إلى خلاف هذا؛ يعني من العقيدة والفقه في غير هذا، مثلا يعتقد الأصولي مسألة ويرجحها في حكم الأصولي، فإذا أتى إلى الآية التي تدل على خلاف ما يقول حمل الآية على ما يرجحه ويراه، وهذا كثير في تفاسير المتأخرين، ولهذا صنف أصحاب المذاهب العقدية كل مذهب صنّف في تفسير القرآن مصنفا ينصر به مذهبه، فصنف المجسمة تصنيفا، وصنف المعتزلة في تفسير القرآن، وصنف الماتريدية تصنيف الماتريدي موجود، وصنف الأشاعرة كذلك وصنف المرجئة وهكذا في أصناف شتى.
كذلك في المذاهب الفقهية تجد أحكام القرآن للبيهقي مثلا، أحكام القرآن للجصاص الحنفي، أحكام القرآن لابن العربي المالكي، أحكام القرآن لابن [عاد] الحنبلي مثلا إلى آخره، وهذا يدخل المفسر إلى الغلط وذلك أنه يحمل القرآن على ما يميل إليه ويعتقده ويذهب إليه، لاشك انه إذا كان المفسر على هذه الحال فإن قوله لا يقبل؛ لأن القرآن يجب أن يُفهم مع التجرد عن تلك الأمور السابقة للاستدلال بالقرآن، نعم إذا المرء اعتقد العقيدة الصحيحة المبنية على الدلائل من الكتاب والسنة فان اعتقاده على العقيدة الصحيحة المبنية للدلائل يعينه على فهم القرآن فهما صحيحا، وهذا هو الذي كان عليه اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يجتهدون ويفسرون ويكون اجتهادهم واجتهاد التابعين -أعني غالب التابعين- يكون اجتهادهم صوابا؛ وذلك لأنهم فهموا القرآن بمجموعه واستدلوا بأدلتهم باستدلالات صواب في نفسها ولهذا يفهمون ويفسرون بعض الآيات التي تشكل بما فهموه وعلموه من الآيات الأخرى هذا يختلف عن التفسير بالرأي المذموم. هذا صنف من الناس.(11/5)
والطريقة الأخرى والجهة الأخرى التي دخل الغلط إلى كثير من المفسرين من جهتها أنهم فسّروا القرآن بمجرد احتمال اللفظ في اللغة، وتفسير القرآن بمجرد احتمال اللفظ لمعانٍ، هذا ليس في مراعاة الحال، وقد ذكرنا أنّ من مميزات تفسير الصحابة أنهم رعوا حال المخاطب به ورعوا في تفاسيرهم أسباب النزول ورعوا في تفاسيرهم ما يعلمون من السنة، ورعوا في تفاسيرهم اللغة.
فإذن هم حين يفسرون لا يفسرون بمجرد اللفظ؛ بدلالة اللفظ؛ بل يفسرون بدلالة اللفظ مع العلم الذي معهم وفيما ذكرت ولهذا تجد أن تفاسيرهم في الغالب لا يكون فيه اختلاف أعني اختلاف تضاد؛ بل هي متفقة لأنهم راعوا ذلك الأصل.
أما كثير من المتأخرين فوسّعوا الأمر ففسروا بمجرد احتمال اللفظ في اللغة، واحتمال اللفظ في اللغة الذي جاء في القرآن قد يكون له عدة معاني في اللغة؛ لكن لا يصلح في التفسير إلا واحدا منها، وذلك إما مراعاة لمعنى اللفظ في القرآن، القرآن العظيم ترد فيه بعض الألفاظ في أكثر القرآن أو في كله على معنى واحد، وهذا يكون باستقراء، فتحمل الآية التي فيها اللفظ يحمل على معهود القرآن لا يحمل على احتمالات بعيدة.
لهذا صنف العلماء في ذلك مصنفات بعيدة من الوجوه والنظائر لبيان هذا الأصل فمثلا الخير في القرآن يقول العلماء الأصل فيه أنه المال ?وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ?[العاديات:8]؛ يعني لحب المال. قال ?فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا?[النور:33]؛ يعني طريقا لتحصيل المال، وهكذا فإذا إذا أتى في آية استعمال لفظ الخير فأول ما يتبادر للذهن أن المراد بالخير المال، فإذا لم بناسب للسياق صرف إلى معنى آخر هذا يسمّى المعهود؛ معهود استعمال القرآن.(11/6)
مثال آخر في الزينة، الزينة في القرآن أخص من الزينة في لغة العرب، لغة العرب فيها أن الزينة: كل ما يتزين به، وقد يكون من الذات، وقد لا يكون من الذات. يعني إذا تزيّن المرء بالأخلاق سمي متزينا، لكن في القرآن الزينة أطلقت واستعملت في أحد المعنيين دون الآخر ألا وهو الزينة الخارجة عن الذات التي جلبت لها الزينة، لهذا قال جل وعلا ?إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا?[الكهف:7]؛ لأن ما على الأرض زينة لها، فإذن الزينة ليست من ذات الأرض وإنما هي مجلوبة إلى الأرض، ?يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ?[الأعراف:31]، الزينة خارجة عن ذات ابن آدم فهي شيء مجلوب ليتزين به. ?إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ?[الصافات:6]، زينها جل وعلا بزينة هذه الزينة من ذاتها أو خارجة عنها؟ قال ?زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ?، فالكواكب هي خارجة عن ذات السماء وهي في السماء فجعلها الله جل وعلا زينة..(11/7)
فإذا أتت آية مشكلة مثل آية النور في قوله تعالى ?وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا?[النور:31]؛ يأتي لفظ الزينة هنا، فيُحمل هل يحمل على كل المعهود في اللغة أو يحمل على المعهود في القرآن؟ لاشك أنّ الأولى -كما قال شيخ الإسلام في تفصيله أن يراعى حال معهود المتكلم به والمخاطب والمخاطبين والحال، فهنا في أحد هذه فالقرآن فيه أن الزينة خارجة عن الذات، شيء مجلوب إلى الذات، إذا أتى واحد وقال ?وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا? أن ما ظهر من الزينة هو الوجه، هذا فسر الزينة بأنه شيء في الذات، وهذا معناه أنه فسرها بشيء غير معهود في استعمال القرآن للفظ الزينة، لهذا كان الصحيح التفسير المشهور عن الصحابة كابن عباس وابن مسعود وغيرهما أنّ الزينة -التفسير المشهور عن ابن عباس وهو مروي عن ابن مسعود وجماعة- أن الزينة هي القرط مثلا الكحل اللباس ونحو ذلك، ?وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا? فإذن لا تبدي الزينة؛ لكن ما ظهر منها، ما ظهر من الزينة، ما ظهر من الشيء المجلوب للتزين به فلا حرج على المرأة في ذلك.
فإذن لا تفسر الزينة بأنها الوجه لماذا؟ لأن تفسير الزينة بأنها الزوجة تفسير للزينة بشيء في الذات، وهذا مخالف لما هو معهود من معنى الزينة في القرآن، وهذا له أمثلة كثيرة نكتفي بما مر.
والمقصود بهذا أن معرفة استعمال القرآن للألفاظ التي لها في العربية معاني كثيرة هذا من أعظم العلم بالتفسير، وهذا لا يؤتاه إلا الحافظ للقرآن المتدبر له الذي يعلم تفاسير السلف؛ لأنك تأتي للكلمة ويُشكل تفسيرها فيوردها المفسر على نظائر هذا اللفظ في القرآن، ثم بعد ذلك يظهر له تفسير بعد ذلك وهذه كانت طريقة الصحابة رضوان الله عليهم فيما اجتهدوا في ذلك.(11/8)
أحيانا وفسروا الآية بخلاف حال المخاطبين، تفسر الآية باحتمال لغوي لكن هذا الاحتمال ليس بوارد على حال المخاطبين، مثلا في قوله تعالى ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ?[البقرة:189] فيأتي من يأتي من المفسرين بالرأي فيجعلون سؤالهم عن الآلهة سؤالا فلكيا معقدا، وهم إنما سألوا عن الهلال علم يبدوا في أول الشهر صغيرا ثم يكبر ثم يكبر، وكان سؤالا بسيطا؛ لأن هذه هي حال العرب لم يكن عندهم علم الفلك العلم المعقد، إنما سأله عن أمر ظاهر بيّن، فتفسير سؤالهم بأنه سؤال عن أمر فلكي معقد، هذا لم يرعَ فيه حال أولئك، وإنما فُسِّر بغرائب الأهلة ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ? فيأتي المفسر مثل الرازي وغيره يأتون ينطلقون في الأحوال الفلكية في ذلك.
هذا ليس من المعهود ولا من المعروف في حال الذين سألوا ولا حال العرب الذين نزل القرآن ليخاطبهم أول الأمر.
إذن فهنا حصل الغلط من هذه الجهة.
وهاتان الجهتان لاشك أن الغلط واقع فيهما وكلا الجهتين من التفسير بالرأي؛ لكن الأولى من التفسير بالرأي المذموم الذي توعد فاعله، والثانية من التفسير بالرأي الذي أخطأ من ذهب إليه، فيكون الضابط في التفسير بالرأي أنه فيما اتبع هواه في التفسير صار ذلك من التفسير بالرأي المذموم المردود الذي جاء الوعيد على من قال به، أما التفسير بالرأي الذي يخطئ فيه صاحبه هو ما لم يرعى فيه ما ذكره شيخ الإسلام هنا، وإنما وجهه على أحد الاحتمالات العربية وأخطأ فيما وجه إليه الكلام.(11/9)
لاشك أن هذا الكلام من شيخ الإسلام تفصيل نفيس، وهو يدل على سعة الإطلاع على كلام المفسرين واختلافهم وآرائهم المباينة لآراء السلف، فلهذا قال: إن التفاسير التي تُذكر فيها أقوال الصحابة والتابعين وتبع التابعين لا تجد فيها مثل هذه الآراء. ذكر لك جملة من التفاسير، وهذه التفاسير منها ما هو مطبوع منها ما هو مخطوط ومنها ما هو مفقود أصلا كتفسير الإمام أحمد رحمه الله تعالى. نعم
[المتن]
وَالْأَوَّلُونَ صِنْفَانِ: تَارَةً يَسْلُبُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ.
وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ.
وَفِي كَلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ مَا قَصَدُوا نَفْيَهُ أَوْ إثْبَاتَهُ مِنْ الْمَعْنَى بَاطِلًا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ.
وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ وَقَعَ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ.
فَاَلَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ - مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ - اعْتَقَدُوا مَذْهَبًا يُخَالِفُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ كَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَمَدُوا إلَى الْقُرْآنِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى آرَائِهِمْ.
تَارَةً يَسْتَدِلُّونَ بِآيَاتِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا.
وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ بِمَا يُحَرِّفُونَ بِهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ فِرَقُ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ والجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ.(11/10)
وَهَذَا كَالْمُعْتَزِلَةِ مَثَلًا فَإِنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَلَامًا وَجِدَالًا، وَقَدْ صَنَّفُوا تَفَاسِيرَ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ؛ مِثْلِ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كيسان الْأَصَمِّ شَيْخِ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُ الشَّافِعِيَّ. وَمِثْلِ كِتَابِ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي. وَالتَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَد الهمداني. والجَامِعُ لِعِلْمِ القُرْآنِ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرُّمَّانِيِّ. وَالْكَشَّافِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِي؛
فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ اعْتَقَدُوا مَذَاهِبَ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَأُصُولُ الْمُعْتَزِلَةِ خَمْسَةٌ يُسَمُّونَهَا هُمْ : التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ وَالْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَإِنْفَاذُ الْوَعِيدِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ .
وتَوْحِيدُهُمْ هُوَ تَوْحِيدُ الجهمية الَّذِي مَضْمُونُهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَعَنْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى، وَإِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ، وَلَا حَيَاةٌ، وَلَا سَمْعٌ، وَلَا بَصَرٌ، وَلَا كَلَامٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ.
وَأَمَّا عَدْلُهُمْ فَمِنْ مَضْمُونِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ وَلَا خَلَقَهَا كُلَّهَا وَلَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا؛ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ، لَا خَيْرَهَا وَلَا شَرَّهَا، وَلَمْ يُرِدْ إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ شَرْعًا وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِغَيْرِ مَشِيئَة.(11/11)
وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُتَأَخِّرُو الشِّيعَةِ كَالْمُفِيدِ وَأَبِي جَعْفَرٍ الطوسي وَأَمْثَالِهِمَا، وَلِأَبِي جَعْفَرٍ هَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ؛ لَكِنْ يُضَمُّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ وَلَا مَنْ يُنْكِرُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ.
وَمِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ الْخَوَارِجِ إنْفَاذُ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ شَفَاعَةً وَلَا يُخْرِجُ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنْ النَّارِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ الْمُرْجِئَةِ والكَرَّامِيَّة والكُلاَّبِيَّة وَأَتْبَاعِهِمْ؛ فَأَحْسَنُوا تَارَةً وَأَسَاءُوا أُخْرَى حَتَّى صَارُوا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا رَأْيًا ثُمَّ حَمَلُوا أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي رَأْيِهِمْ وَلَا فِي تَفْسِيرِهِمْ.
وَمَا مِنْ تَفْسِيرٍ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ إلَّا وَبُطْلَانُهُ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ:
تَارَةً مِنَ الْعِلْمِ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ.
وَتَارَةً مِنَ الْعِلْمِ بِفَسَادِ مَا فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ، إمَّا دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِمْ، أَوْ جَوَابًا عَلَى الْمُعَارِضِ لَهُمْ.(11/12)
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ فَصِيحًا وَيَدُسُّ الْبِدَعَ فِي كَلَامِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ وَنَحْوِهِ، حَتَّى إنَّهُ يُرُوجُ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ الْبَاطِلَ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ رَأَيْت مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ وَكَلَامِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا وَلَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ.
ثُمَّ إنَّهُ لِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ دَخَلَتْ الرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْقَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرِ فِي الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعِ لَا يَقْضِي مِنْهَا الْعَالِمُ عَجَبَهُ.
فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِمْ: ?تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ?[المسد:1] هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
[الشرح]
نكتفي لهذا القدر.
(((((
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري(11/13)
- - - - - - - - - - -
شرح
مقدمة في أصول التفسير
لشيخ الإسلام ابن تيمية
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[الدرس العاشر]
[مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
الدرس العاشر
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
ثُمَّ إنَّهُ لِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ دَخَلَتْ الرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْقَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرِ فِي الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعِ لَا يَقْضِي الْعَالِمُ مِنْهَا عَجَبَهُ.
فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِمْ: ?تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ?[المسد:1]، هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
و?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ?[الزمر:65]، أَيْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ.
و?إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً?[البقرة:67]، هِيَ عَائِشَةُ.
و?فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ?[التوبة: 12]، طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ.
و?مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ?[الفرقان:53]، عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ.
و?اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ?[الرحمن:22]، الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ.
و?وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ?[يس:12]، فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
و?عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ?[النبإ:1-2] عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
و?إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ?[المائدة:55]، هُوَ عَلِيٌّ، وَيَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ تَصَدُّقُهُ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ.(12/1)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ?أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ?[البقرة:157]، نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ لَمَّا أُصِيبَ بِحَمْزَةِ. وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: ?الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ?[آل عمران:17]، أَنَّ الصَّابِرِينَ رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّادِقِينَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَانِتِينَ عُمَرُ وَالْمُنْفِقِينَ عُثْمَانُ وَالْمُسْتَغْفِرِين عَلِيٌّ.
وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: ?مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ? أَبُو بَكْرٍ ?أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ? عُمَرُ ?رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ? عُثْمَانُ ?تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا?[الفتح:29] عَلِيٌّ.
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: ?وَالتِّينِ? أَبُو بَكْرٍ ?وَالزَّيْتُونَ? عُمَرُ ?وَطُورِ سِينِينَ? عُثْمَانُ ?وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ?[التين:1-3] عَلِيٌّ.
وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ:
تَارَةً تَفْسِيرَ اللَّفْظِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتي لَا تَدُلُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ.
وقوله تعالى: ?وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا? كُلُّ ذَلِكَ نَعْتٌ لِلَّذِينَ مَعَهُ وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. والْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهَا كُلَّهَا صِفَاتٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ وَهُمْ الَّذِينَ مَعَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا مُرَادًا بِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ!(12/2)
وَتَتَضَمَّنُ تَارَةً جَعْلَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ مُنْحَصِرًا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: إنَّ قَوْلَهُ: ?إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا? أُرِيدَ بِهَا عَلِيٌّ وَحْدَهُ.
وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَنَّ قَوْلَهُ: ?وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ?[الزمر:33]، أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ.
وَقَوْلِهِ: ?لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ?[الحديد:10]، أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ.
وَنَحْوِ ذَلِكَ.
و تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأَمْثَالِهِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَسْلَمُ مِنَ الْبِدْعَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِي، وَلَوْ ذُكِرَ كَلَامُ السَّلَفِ الْمَوْجُودُ فِي التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَنْقُلُ مِنْ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ التَّفَاسِيرِ وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا، ثُمَّ إنَّهُ يَدَعُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ السَّلَفِ لَا يَحْكِيهِ بِحَالِ، وَيَذْكُرُ مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ قَرَّرُوا أُصُولَهُمْ بِطُرُقِ مِنْ جِنْسِ مَا قَرَّرَتْ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيَعْرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ التَّفْسِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ.(12/3)
فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةَ إذَا كَانَ لَهُمْ فِي تَفْسِير الْآيَةِ قَوْلٌ وَجَاءَ قَوْمٌ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِقَوْلِ آخَرَ لِأَجْلِ مَذْهَبٍ اعْتَقَدُوهُ، وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَيْسَ مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ، صَارُوا مُشَارِكِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي مِثْلِ هَذَا.
وَفِي الْجُمْلَةِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِمْ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ بَلْ مُبْتَدِعًا وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ.
فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ طُرُقِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتِهِ وَطُرُقِ الصَّوَابِ.
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَرَأَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ.
كَمَا أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ وَفَسَّرَ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ تَفْسِيرِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ لَهُ شُبْهَةٌ يَذْكُرُهَا إمَّا عَقْلِيَّةٌ وَإِمَّا سَمْعِيَّةٌ.
كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
والْمَقْصُودُ هُنَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَثَارِ الِاخْتِلَافِ فِي التَّفْسِيرِ، وَأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ الْبِدَعَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي دَعَتْ أَهْلَهَا إلَى أَنْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَفَسَّرُوا كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ.
فَمِنْ أُصُولِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ:(12/4)
أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ الْقَوْلَ الَّذِي خَالَفُوهُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ.
وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَ السَّلَفِ يُخَالِفُ تَفْسِيرَهُمْ.
وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَهُمْ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ.
ثُمَّ أَنْ يَعْرِفَ بِالطُّرُقِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَادَ تَفْسِيرِهِمْ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ.
وَكَذَلِكَ وَقَعَ مِنْ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ شَرْحِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فهذا السياق الطويل من شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أراد به أن يمثل على نوع من أنواع التفسير بالرأي المذموم، وبيان بطلان ذلك من طريق مجمل وكذلك الإشارة إلى أنه يبطل بالطريق المفصل.
هذا التفسير بالرأي المذموم -هو كما ذكرت لكم- هو أن يفسره بما يعتقده من خالف نهج الصحابة والتابعين ونهج سلف هذه الأمة، مثل تفاسير الرافضة فيما ذكر من أنواع التفسير الذي نقله شيخ الإسلام رحمه الله عن تفاسيرهم، ولاشك أن هذه التفاسير التي فسروها باطلة لأوجه:
أولا لأن اللفظ لا يحتمل ذلك، فكونهم يفسرون آية ما بأنها (علي)، واللفظ لا يدل عليه، مثل ما ذكروا، نعم مثل ?إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً?[البقرة:67]، وتفسيرهم للجبت والطاغوت بأنهما أبا بكر وعمر ونحو ذلك.
هذه التفاسير لا يدل عليها اللفظ، كونهم فسروا لفظا معروفا معناه في اللغة بأن المراد به معين من الصحابة، هذا باطل من أوجه كما ذكرت، الأول أن هذا لا يدل عليه معنى اللفظ في اللغة. يقولون: إن هذا تأويل.(12/5)
والتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى معنى آخر لقرينة تدل على ذلك، ويقولون صرفناه لقرينة التي دلت على ذلك ، القرينة عندهم حججهم التي بين أيديهم، الحجج الباطلة التي فيها الأمر بذبح أبي بكر مثلا أو بذبح عثمان أو بذبح عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ ونحو ذلك، أو أنّ الجبت والطاغوت اللذان أضلا الناس وهما أبو بكر وعمر.
لكن التأويل عند العلماء ثلاثة أنواع؛ منه تأويل صحيح، ومنه تأويل مرجوح، ومنه تأويل باطل؛ وهو من اللعب، وذلك إذا كان التأويل لغير قرينة تدلّ عليه من اللغة أو من مقصد الشارع الصحيح.
فهذه التفاسير التي فسروها إذا سموها تأويلا يقولون: خرجنا عن ظاهر اللفظ للتأويل. كما يزعمه الرافضة، الجواب عنه: أن هذا تأويل باطل ومن اللعب والتلاعب بالقرآن وبنصوص الكتاب والسنة؛ لأن هذا تأويل لم يأت عليه دليل؛ بل الأدلة تُبطل ذلك فإن فضل أبي بكر وفضل عمر وأنهما أفضل الصحابة على الإطلاق هذا جاءت به الأدلة، فكيف يصرفونه عن ظاهره إلى غيره.
المقصود أن هذا وإن سَمَّوه تأويلا فإنه تأويل من نوع اللعب وهذا كفر عند كثير من العلماء.
الوجه الثاني أنّ هذه التفاسير باطلة لأن معتمدها أنها الهوى فهو فسروا القرآن الذي أنزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أُحْدِثَ من الاعتقادات بعد أكثر من قرن من وفاة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فتلك الاعتقادات من اعتقادات الرافضة واعتقادات المعتزلة ومن شابه هؤلاء وهؤلاء، تلك الاعتقادات أُحدثت، ولم يكن شيء منها في الصحابة ولا في كبار التابعين، وإنما أحدثت بعد ذلك، فكيف يكون المراد بالقرآن الذي أنزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ يكون المراد به التأويلات والاعتقادات المحدثة بعد أكثر من قرن من نزول هذا القرآن ومن وفاة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.(12/6)
الوجه الثالث من إبطال هذه التفاسير أنها تفاسير خرجت عن تفسير الصحابة والتابعين، وهذا هو الأصل العظيم الذي يريد شيخ الإسلام رحمه الله تقريره، هذه التفاسير خرجت عما فسر به الصحابة والتابعون لهم فإحسان تلك الآيات، فالصحابة تفاسيرهم لتلك الآيات محفوظة، وكذلك التابعين تفاسيرهم لتلك الآيات محفوظة، فمن خرج عن تفاسيرهم وأتى بمعنىً بناقض ما قالوه فإنه مردود قطعا؛ لأن أعلم الأمة بالقرآن هم صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يجوز أن يقال إن هناك معنًى في القرآن حُجب عن الصحابة وحُجب عن التابعين لهم بإحسان وأدركه من بعدهم، يكون المعنى من أصله حجبوا عنه، وأدركه من بعدهم هذا باطل، وذلك لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن خير الأمة قرنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فقال «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» والخيرية لها جهات، ومن أعظم جهات الخيرية العلم، فالعلم بالكتاب وبالسنة كان محفوظا في الصحابة رضوان الله عليهم ولم يحجب عن مجموع الصحابة علم مسألة من الكتاب والسنة، نعم قد يكون بعض الصحابة يجهل بعض معاني الكتاب والسنة؛ لكن يعلمه بعض الصحابة الآخرون، وأما بعمومهم فلا يجهل الصحابة بمجموعهم معنى آية أو معنى سنة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لهذا نقول: هذا الطريق مجمل طريق في بيان بطلان تلك الأقوال من أصلها. ما هذا الطريق المجمل؟ أن تلك الأقوال خرجت عن أخبار الصحابة والتابعين في تفاسيرهم، تفاسير الصحابة والتابعين محفوظة لدينا وليس فيها شيء من تلك البدع والضلالات التي يذكرها الرافضة أو يذكرها أهل الاعتزال.(12/7)
الطريق الثاني طريق مفصل وهذا أشار إليه شيخ الإسلام، وهو أن الأقوال التي تخالف أقوال الصحابة والتابعين في التفسير، تخالفها؛ بمعنى أن أقوال الصحابة لا تدل عليها ولا تشمل ذلك التفسير المحدث، مثل تفسير آيات الصفات بالمعان المؤولة والمحرفة، ومثل تفاسير الرافضة، ومثل تفاسير الصوفية في إشارياتهم، ومثل تفاسير أهل البدع والإسماعيلية والباطنية ونحو ذلك.
هذه التفاسير باطلة أيضا على التفصيل، وذلك أنه ما من قول وإلا وفي الكتاب والسنة من الدلائل ما يدلّ على بطلان ذلك القول الذي أحدثه المبتدعة وكل قول له دليل يبطله، فإذا قالوا مثلا: الجبت والطاغوت عمر وأبو بكر رَضِيَ اللهُ عنْهُما. أو قال المعتزلة: إن قوله ?الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? المراد به الإنعام، أو نفوا الحوض في السنة أو نفوا الميزان الذي جاء ذكره في القرآن وقالوا لا ميزان أو نفوا الصراط هذه كلها أقوال لأهل الاعتزال ومن شابههم، إذا أتت آية فيها ذكر الصراط فإنهم ينفون أن يكون ثَم صراط على متن جهنم، كذلك الميزان في قوله ?وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ?[الأنبياء:47]، وفي قوله ?فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ?[المؤمنون:102]، ونحو ذلك، ينفون وجود الميزان الحسي ويقولون هذه تشبيهات.
هذه أقوال، كل قول منها ثم أدلة مفصلة من الكتاب والسنة على بطلان ذلك القول بخصوصه. (1)
..في الآية وعلى بطلان نفي ما جاءت الأدلة بإثباته، فمثلا في الصفات الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات صفة الرحمة أكثر من إن تحصى، وهذا جواب مفصل؛ يعني رد مفصل على تأويلاتهم الباطلة التي هي من جنس اللعب وشر التحريف لآيات القرآن.
وكذلك الذين نفوا الميزان هناك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة تمنع ذلك، وهذا هو الدليل المفصل.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع.(12/8)
فإذن نقول على وجه الاختصار من خالف تفاسير الصحابة والتابعين وأتى بمعنى جديد لا يشمله تفاسير الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهذا قولهم مردود عليه من جهتين:
الجهة الأولى مجملة، الدليل الأول مجمل؛ يعني بدليلين، الدليل الأول مجمل وذلك الدليل الأول هو أن ما خرج عن تفاسير الصحابة والتابعين فهو مردود؛ لأن العلم محفوظ فيهم، ولا يمكن أن يدّخر لمن بعدهم علم ويحجب عن الصحابة؛ لأنهم خير هذه الأمة.
الثاني دليل مفصل ووجه مفصل وهو أنه ما من تفسير يخالف تفاسيرهم ويأتي بمعنى محدث إلا وثم أدلة كثيرة من الكتاب والسنة تبطل ذلك التفسير المعيَّن. نعم.
[المتن]
وَأَمَّا الَّذِينَ يُخْطِئُونَ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ؛ فَمِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْوُعَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمَعَانٍ صَحِيحَةٍ؛ لَكِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا؛ مِثْلَ كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي فِي حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَا هُوَ مَعَانٍ بَاطِلَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا حَيْثُ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوهُ فَاسِدًا.
[الشرح]
وهذا هو الذي يسمى عند الصوفية بالتفسير الإشاري، يقولون: أشارت الآية إلى كذا. فيفسرونها بما تُشير، ويجعلون ما يفهمونه من الآية بالإشارة يجعلونه تفسيرا للآية وهو مشهور باسم التفسير الإشاري.
وثَم كتب كثيرة من جنس كتاب حقائق التأويل لأبي عبد الرحمن السلمي الصوفي المشهور وهو كتاب مطبوع، وكذلك كتاب التفسير تفسير القرآن المشهور لأبي بكر ابن العربي، وكذلك ما ذكره في الإشاريات الألوسي في أواخر كل مجموعة من الآيات يفسرها في كتابه روح المعاني، هذه تسمى التفاسير الإشارية، والتفاسير الإشارية على أقسام:(12/9)
منها أن يكون المعنى الذي ذكروه صحيحا في نفسه؛ لكن كما قال شيخ الإسلام الآية لا تدل عليه، فتكون الآية مثلا في فتح من الفتوح في الجهاد، فيفسر الآية بفتح القلب؛ فتح باب المجاهدة في القلب، وأن هذا يعقب نصرا على الشيطان، فيجعل الجهاد جهاد القلب والنصر والغلبة -غلبة العدو الكافر الذي هو الشطيان-، هذا المعنى في نفسه صحيحا؛ لكن هو معنى لم يرد بالآية؛ لأن الآية فيها ذكر معاني واضحة بالعربية من ذكر مثلا جهاد المؤمنين ضد الكفار ونحو ذلك، وهذا يراد به الجهاد الظاهر لجماعة المؤمنين ضد الكفار الذي هم من البشر.
القسم الثاني أن يكون التفسير باطلا في نفسه، وهذا رده يكون من جهتين:
الجهة الأولى: أنه مخالف لما تدل الآية عليه.
الثاني: أنه باطل في نفسه؛ لأن الشرع أتى بغير هذا الكلام.
مثل ما يذكرون في أحوالهم التي لم تدل عليها السنة؛ بل كان هدي السلف على غيرها فيستدلون ببعض الآيات على ما اصطلحوا عليه، أو على ما كانت عليه أحوال الصوفية بما خالفوا فيه سيرة السلف الصالح رَضِيَ اللهُ عنْهُم في الزهد والورع والسلوك، هذا معنى باطل في نفسه.
القسم الثالث معاني يتوقف فيها لا يمكن أن تحكم عليها في نفسها بالصحة ولا بالبطلان، وذلك لاشتمالها على مصطلحات للصوفية، فيتوقف تصحيح المعنى أو إبطاله على فهم تلك المصطلحات، فإنهم لهم مصطلحات، لهم مصطلح معنى المقام عنهم له كمعنى، الحال عندهم له معنى، الرضى عندهم له تفسير خاص، وهكذا في مصطلحات كثيرة للصوفية، الشهود له معنى، الفناء له معنى، فهناك تفسيرات يفسر بها هؤلاء القوم.
والتفسير في نفسه مثلا يظهر للمتأمل الذي يعرف مصطلحات الصوفية صحة ذلك التفسير ولا بطلانه حتى يقف على مرادهم من مصطلحاتهم.
وجميع هذه الأنواع الثلاثة والأقسام الثلاثة لا تمت إلى الآية بصلة لأنها من باب الإشاريات عندهم.(12/10)
إذا تقرر هذا، فهل التفسير الإشاري مردود مطلقا؟ هل التفسير الإشاري باطل أم أن التفسير الإشاري لبعض الآيات الكتاب والسنة منه ما هو صحيح؟
الجواب: التفسير الإشاري منه ما هو صحيح، وتفسير الآية بالإشارة يؤخذ به إذا توفرت فيه شروط ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه التبيان في أقسام القرآن،(1) وأشار إليه ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه.
أول شرط من تلك الشروط التي يصح معها التفسير بالإشارة أن يكون ثم اشتراك في اللغة؛ يعني أن يكون التّفسير بالإشارة تحتمله الآية لغةً، ما يكون فيه معنى لا تعلمه الآية لغةً. مثلا إن فسر البيت بالقلب، القلب بيت، وإذا فسر آية مثلا أو حديث فيه ذكر البيت بأنه القلب، هذا له دلالة في اللغة؛ لأن القلب بيت وهذا المعنى صحيح.
الشرط الثاني أن يكون التفسير مما دلّت عليه أدلة أخرى في الشرع.
يقول: في الآية الإشارة إلى كذا، الشرط الأول أن يكون في الآية لفظ يحتمل وهذه الإشاري لغة، الثاني أن يدل على هذا التفسير دليل شرعي آخر على صحته؛ يعني أن يكون المعنى المشار غلبه أتى دليل آخر به.
الشرط الثالث أن لا يناقض دليلا من الكتاب والسنة، فإذا كان التفسير بالإشارة يُناقض دليلا آخر فإنه باطل.
ومثال ذلك من السنة كما ذكر ابن القيم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فسَّر الحديث الصحيح عن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهو قوله «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة» قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالملائكة لا تحيط بقلب قد ملئ من كلاب الشبهات وصور الشهوات.
__________
(1) قال ابن القيم في كتابه التبيان: تفسير على الإشارة والقياس وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم وهذا لا بأس به بأربعة شرائط:
أن لا يناقض معنى الآية.
وأن يكون معنى صحيحا في نفسه.
وأن يكون في اللفظ إشعار به.
وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم.
فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطا حسنا.(12/11)
فأولا البيت فسره بالقلب، هذا ذكره إشارة. الكلاب قال إشارة إلى الشبهات، وهكذا الشبهات كلاب، لماذا؟ لأن الكلب لا يزال يلهث، وهكذا الشبهة لا تزال تلهث بصاحبها أما الشهوة تعرض وتزول، أما الشبهة ملازمة له.
الثالث الصورة، الصورة من جنس الشهوات، الصورة من الشهوات، وعلى هذا يكون شيخ الإسلام في تفسير ذلك قد فسره بالشروط جميعا:
أولا دلالة الألفاظ في اللغة واردة.
الثاني أن المعنى الّذي ذهب إليه وقال إن في الحديث إشارة إليه، هذا المعنى صحيح جاءت الأدلة بذكره. فالشبهات والشهوات مرض إذا استحكم في العبد أو دخل القلب حفت الشياطين واستحوذت صاحبها وابتعدت عنه ملائكة الرحمة.
الثالث الشبهات والشهوات هي من فهم معنى الكلب والصورة.
إذن نقول التفسير الإشاري إذا استعمله أحد من أهل العلم في باب الاستنباط فإنه يكون صحيحا إذا توفرت فيه هذه الشروط الثلاثة، وأما إذا لم تتوفر فه هذه الشروط الثلاثة فهو من باب اللعب والتفسير الذي لم تدل الآية عليه، مثل صنيع الصوفية يعتقدون معتقدا يدخل في الآية على أي موضع.
بل إنهم عجب -يعني الصوفية- من إشاراتهم، حتى شكل الحروف دخلوا فيه يعني شكل حروف القرآن دخلوا فيه بدلالات عندهم وإشارات، مثلا قالوا في (بسم الله) قالوا الباء أبتدئ بها الكلام ونقطت من تحتها نقطة واحدة إشارة إلى توحيد الله جل وعلا، لا علاقة، وهذا الكلام موجود وهو تفسير صوفي بحت لا دليل عليه، موجود في كتاب توحيد الخلاّق المنسوب للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهذا الكتاب توحيد الخلاق فيه في أوله كثير من الصّوفيات وهو ليس للشيخ سليمان، وإنما هو لرجل من أهل العراق قدِم على الشيخ في الدرعية، وعُثر عليه بتهمة في الدين كأنه له شأن أو نحو ذلك فقتل في الدرعية بعد تصنيفه لهذا الكتاب.(12/12)
المقصود أنه فيه إشاريات كثيرة، هذا الكتاب الإشاريات التي فيه غلط، منها هذه، يقول: السين [شُرْشِرَت] بثلاث يعني ثلاث شرطات فسرت بثلاث بعد الباء المنقوطة من تحت ردا على المثلثة. لا علاقة، هذا كلام ما له علاقة؛ يعني بمعنى أنه أوهام جعلوها تفسيرا .
الميم دُورت حتى يحيط اسم الله بالقلب، يعني صارت دائرة فيها أيضا حتى يحيط اسم الله بالقلب هذا خرافة.
فإذن التفسير الإشاري منه ما هو تفسير معان، ومنه ما هو تفسير للخط أيضا، وهذا كله باطل إلا ما كانت المعاني توفّرت فيه الشروط التي ذكرنا.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(((((
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري(12/13)
- - - - - - - - - - -
شرح
مقدمة في أصول التفسير
لشيخ الإسلام ابن تيمية
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[الدرس الحادي عشر]
[مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
الدرس الحادي عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
[إضافة إلى ما سبق]
نعم صحيح، نذكر إضافة على ما ذكرنا، تنبيه جيد من الأخ، يعني استشكال جيد، وهو أنّ التفسير الإشاري أضف إلى شروطه أن لا يكون معه نفي المعنى الظاهر، وهذا معلوم؛ لأنه هو إشارة فيقول في الآية إشارة؛ لكن للإيضاح اشترط هذا الشرط يعني اجعله رابعا للشروط، وهو أن لا يكون فيه نفي للمعنى الأصلي، وأظن ابن القيم ذكر هذا الشرط لكن ما استحضره جيدا الآن.
إذن نفي المعنى الأصلي ليس مرادا عند من صحح التفسير الإشاري، فإذا توفرت الشروط التي منها ما أضفنا الآن وهو أن المعنى الأول مثبت وإنما هذا معنى ثاني زيادة وهو ما أشارت إليه الآية.
في الحديث الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة ما يعني شيخ الإسلام أن ينفي دخول الملائكة البيت الذي هو بيت السكن إذا كان فيه كلب أو صورة هو لا يريد أن ينفي ذلك، لا، هو يقول: هذا مثبت وفيه إشارة إلى الشيء الآخر.
فإذن المعنى الظاهر من الآية أو من الحديث هذا مراد ومثبت عند من صحّح التفسير الإشاري بشروطه المعتبرة.
فإذن هي أربعة شروط:
الأول: أن لا ينافي اللغة.
الثاني: أن يدل عليه دليل صحيح.
الثالث: أن لا يكون ثَم دليل يبطله.
الرابع: أن يكون المعنى الأول مثبتا عند من فسر التفسير الإشاري. ويفسر بالتفسير الإشاري زيادة على المعنى الأول.
ابن القيم ذكره في التبيان في أقسام القرآن وذكره الشروط فيها، وأظن هذا الشرط منها لكن الآن ما أستحضره جيدا.(13/1)
نعم يمكن.. التفسير الإشاري ليس ضروريا بعض الآيات ما يكون فيها إشارة لكن، هذا الآن بعض الزهاد من السلف جاءت عنه عبارات في التفسير الإشاري لكنها عبارات صحيحة، لهذا صحّح شيخ الإسلام وابن القيم وجماعة من العلماء صححوا التفسير الإشاري بشروطه، والتفسير الإشاري ليس مقصودا، قد يتوفر وقد لا يتوفر، وإذا جهله المرء ليس هو من العلم المرغوب فيه إنما هو من اللطائف.
نعم؛ فيه سؤال ثاني؟
هو ما فيه شك الذي يخرج عن تفاسير الصحابة والتابعين، خروجه عنها ابتداع، فأول من خرج عن هذه التفاسير أحدث بدعة في الدين، تبعه عليها أناس، قد يكون هو خرج عنها باجتهاد؛ لكن الاجتهاد أخطأ فيه، فِعله وهو خروجه عن تفاسير الصحابة والتابعين إبداع، كونه اجتهد في تفسير الآية فأخطأ هذا له أجر المجتهد أو يُغفر له لأنه مجتهد، يوصف بأنه مبتدع، يجتمع في حقه الجهتان جهة العقوبة والإثم لابتداعه وجهة المغفرة له لخطئه؛ لأنها جهتان.
التفسير الخروج عن تفاسير الصحابة هذا القدر بدعة لاحظ الخروج، قبل أن يتكلم في تفسير الآية، خرج عن تفاسير الصحابة والتابعين بدينه ورام شيئا جيدا هذا ابتداع، هذا يؤزر عليه، الآن اجتهاده في بعض الآية هذا قد يكون صوابا وقد يكون خطأ فهو إذا كان أخطأ في ذلك فقد يغفر له ويكون من جملة المجتهدين.
اتضح لك ولا ما اتضح لك؟ اتضح لكم الفرق، هذه يرددها شيخ الإسلام كثيرا، مثل ذكره في المولد في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، قال في المولد: وإن كان بعض من يعمل الموالد أو يحضرها يؤجر على ذلك. ذكر هذه العبارة التي يحتج بها أهل الموالد. نعم لكن المولد في نفسه بدعة، والحضور فيه بدعة؛ لكن قد يؤجر إذا قام في قلبه محبة نبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موطن المولد، فهو عنده جهتان: الله جل وعلا حكم عدل أسرع الحاسبين، والملائكة تكتب.(13/2)
فأولا الحضور المولد في نفسه بدعة، وحضوره في مكان البدعة هذا ذنب. هنا يأتي انتهى هذا تأثيم مجال التأثيم أو العمل الذي أثم عليه انتهى.
يأتي ما قام في قلبه من المحبة ومن تعظيم الرسول، هذا يؤجر عليه.
لهذا قال شيخ الإسلام: قد يؤجر من يحضر تلك؛ يعني لما قام في قلبه من محبة الرسول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، لكن ليس معنى ذلك أنه لا يأثم من جهة أخرى.
كذلك في هذا الموطن، شيخ الإسلام له مثل هذا في مواطن كثيرة تحل الإشكال باختلاف الجهات أراد أنه يجمع في المكلف الجهتان: جهة التأثيم لابتداعه، وجهة الأجر أو المغفرة لخطئه في نفسه أو جهة الأجر إذا قام في قلبه بعض الإيمان.
نعم، ارفع صوتك،،
لا الابتداع له جهة، وقد يجتهد في شيء له الاجتهاد فيه هذا مجتهد من جنس الذين يجتهدون في مسائل الفروع ونحو ذلك؛ لكن إذا اجتهد في مسائل الصفات، اجتهد في آيات الصفات، هل هذه ما يجتهد فيها؟ فسرها يغير تفاسير الصحابة والتابعين لها هل هذا مما يعذر فيه؟ أو هو قد أحدث رأيا وفسّر القرآن برأي خارج عن تفاسير الصحابة؟ هنا الجهة منفكة يؤزر على ابتداعه، وأمّا فعله في نفسه فجعله في نفسه وتفسيره للآية هذا قد يكون معذورا وقد لا يكون معذورا، قد تكون شبهة قامت عنده أو غير ذلك.(13/3)
لهذا شيخ الإسلام عذر بعض العلماء مثل البيهقي مثل الخطابي قال: إنهم اجتهدوا في مسائل الصفات؛ لكن ما عذر غيرهم فهناك من يعذر في هذه المسائل ومن لا يعذر، وليس معنى أنه يعذر أنه لا يؤاخذ على بدعته، فهو مبتدع من الجهة الأولى، ثم التأثيم في المسألة الثانية مرفوع عنه؛ يعني بَدَل يتراكب عليه الإثم من الجهتين هو يأثم من جهة واحدة وقد يكون يأثم من جهة الابتداع ومن الجهات الأخرى، فأما اسم المبتدع فيطلق عليه اسم المبتدع فالذين حرفوا القرآن عن ظاهره وفسروا مثلا آيات الرحمة بأنها الأنعام أو فسروا قوله تعالى ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ? أي يدي الرحمن جل وعلا هما قدرتاه ونحو ذلك تفسير مبتدع وصاحبه مبتدع في نفسه، ويؤزر على ابتداعه هذا؛ لكن الجهة الثانية وهي خطؤه في تفسير الآية هل يعذر عليه أم لا؟ هذه مسألة أخرى هذه ننبه إليها في كلام شيخ الإسلام.
وهذا التفصيل لا يذكر أئمة السلف، أئمة السلف ليس عندهم هذا التدقيق عندهم أنه أخطأ في البداية ابتدع في البداية فما ترتب على الأمر المبتدع له حكمه، هذا كلام أئمة السلف فإذا كان مبتدعا في الاجتهاد في الصفات فهو مبتدع في أوله، وما ترتب على ابتداعه فهو مأزور عليه.
شيخ الإسلام يختلف عن هذا في مواضع كثيرة يفصل بين المقامين، مثل هذا الموضع يفصل بين المنشأ وبين النتيجة، فيقول هو مبتدع الحكم عند الجميع واحد أنه مبتدع فيؤزر على بدعته الأولى، وأما اجتهاده في بعض الموارد إذا كانت قامت عنده شبهة فقد يعذر يعني عند الله حل وعلا وقد لا يعذر. واضح الكلام؟ لأن المسألة مشتبهة ودقيقة فشيخ الإسلام له طريقة في ذلك حتى نفهم كلامه وحتى لا يستدل عليك أحد بكلام شيخ الإسلام ويناقض به قول السلف، لا، شيخ الإسلام يعمل بهاتين منفكتين، والسلف جعلوا النتيجة مترتبة على الأصل.(13/4)
نعم، نعم، يعني هذا متّجه، الكلام الذي تفضّل به الأخ عبد العزيز متجه؛ يعني يريد أن يقول في عصر شيخ الإسلام كثرت الشبه، صنّف الناس وأعظموا الشبهة والاستدلالات، ولما كثرت الشبه شيخ الإسلام ذكر هذا التفريق، وأما في عهد السلف فكان قربهم عصر النبوة وقرب عهدهم من كلام الصحابة والتابعين والمخالف قليل، المخالف والخارج عن تفاسير السلف قليل ونادر سواء في الصفات أو في الإيمان أو في القدر نادر، فهم خرجوا مبتدعين، وما ظهرت لهم الحجج وما ظهرت لهم الأدلة، مثل ما ظهرت الشبه بعد ذلك، فكانت الشبه والأدلة عندهم محصورة، ورد عليهم الأئمة في ردود كثيرة، وبعد ذلك تنوعت الشبه كثيرا ولهذا راجت الشبه على بعض الأئمة المشهورين مثل النووي ونحوه من علماء المسلمين. اقرأ
[المتن]
فَصْلٌ
[في أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ]
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ:
أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ، فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَا اُخْتُصِرَ مِنْ مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
فَإِنْ أَعْيَاك ذَلِكَ فَعَلَيْك بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ؛ بَلْ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ الْقُرْآنِ.(13/5)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ?إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا?[النساء:105]، وَقَالَ تَعَالَى: ?وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ?[النحل:44]، وَقَالَ تَعَالَى: ?وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ?[النحل:64]؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» يَعْنِي السُّنَّةَ.
وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ؛ لَا أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةِ كَثِيرَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ.
َالْغَرَضُ أَنَّك تَطْلُبُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَمِنَ السُّنَّةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: بِمَ تَحْكُمُ؟
قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ.
قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟
قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ.
قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟
قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي.
قَالَ : فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:(13/6)
فهذا الفصل هو الذي من أجله أنشئت هذه الرسالة الموسومة بالمقدمة في أصول التفسير، فأحسن طرق التفسير كما ذكر العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هي تفسير القرآن بالقرآن؛ لأن القرآن الكريم كلام الله جل وعلا وكلام الله يفسر بعضه بعضا وتفسير الآية بعضها ببعض يكون على أنحاء:
الأول منها أن يكون في الآية بيان لمعنى اللفظ المشكِل فيها أو لمعنى الكلمة المشكلة فيها، فإذا كانت الآية في نفسها ما يدل على المعنى، فالمصير إليه أولى من طلب شيء خارج، وهذا الذي يسمى تفسير بالدليل المتّصل، والدليل المتصل معتبر عند الأصوليين في تقييد المطلق وفي تخصيص العام وفي تبيين المجمل، وأشباه ذلك، فاعتباره في تفسير الآي ظاهر؛ لأن الآية فيها ما يبين المعنى المراد.
الثاني أن يكون الدليل ليس في الآية، أن تكون الآية ليست متصلة أو تكون آية أخرى، ويكون ما أشكل في موضع فسر في موضع آخر، وهذا يكون باعتبار دلالة اللفظ ودلالة السياق تارة أخرى، بمعنى أنه يكون هناك إشكال في لفظ الآية وفي تفسيرها فيطلب في موضع آخر فيتحرر المقصود من الموضع الآخر إما بلفظه تفسر لفظه، أما بالسياق يحدد المراد من الآية الأخرى.
قد نأتي ببعض الأمثلة.
الثالث أن يكون التفسير بما يسمى لغة القرآن؛ بمعنى أن يكون مورد هذا اللفظ المختلَف فيه المطلوب أن يفسر، المطلوب تفسيره، أن يكون مورده في القرآن بهذا المعنى، فإذا استقرئت الآيات وُجد أنها في كل موضع المعنى هو هذا، فتفسير اللفظة في الموضع المشتبه لما جرى عله ما يسمى بلغة القرآن أولى من تفسيرها بأمر خارج عن ذلك.
الرابع من تفسير القرآن بالقرآن أن يكون تفسير الآية راجعا لما يفهم من آيات كثيرة في معنى هذه الآية، معناه أنه ليس دليلا متصلا ولا منفصلا ولا عرفا لغويا ولكن يفهم المفسر من مجموعه فهمه لآيات أن يكون هذا تفسير هذه الآية.(13/7)
نضرب مثالا على الأخير لقربه ثم نرجع لأمثلة الأولى مثلا في قوله جل وعلا في سورة طه ?وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا?[طه:46]، في قصة موسى عليه السلام ?وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا? ما هي هذه الفتون؟ فسرها ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُما في الحديث الطويل المشهور بحديث الفتون، وذكر معنى الفتون، كل ما جاء في قصة موسى من مواضع مختلفة، فصار تفسير الفتون هو ما حصل له من الافتتان بكل في كل آية في كل موضع من مواضع في القرآن، فجمعها فسُمِّي هذا الحديث الطويل في تفسير الفتون ?وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا?.
مثاله أيضا تفسير شيخ الإسلام في قوله جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا?[الفرقان:45]. أن هذه الآية نفهم من مجموع الآيات في القرآن أم المراد بها ذكر دلائل قدرة الله جل وعلا وعظمته وبديع صنعه، وليس المقصود بالرؤية الرؤية إلى ذات الله جل وعلا، فالظاهر ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ? هذا نفهم هنا أن الرؤية ليس المراد بها ظاهر التفسير، فكيف تفسر الرؤية هنا؟ الرؤية إلى صفات الله جل وعلا الظاهرة وقدرة الله جل وعلا خلقه ونحو ذلك.
تفسير الآية تارة يكون بجزء منها ويصلح مثالا لذلك في قوله في تفسير ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُما لقوله تعالى ?وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ? قال: أنا من القليل الذي يعلم، كانوا سبعة وثامنهم كلب. أخذ ذلك من السياق المذكور في الآية لأنه قال قبلها ?سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ?[الكهف:22] هنا ما جعله من الرجم، فهنا فسر هذه الآية بأنها هذا تفسيرها بدلالة السياق.(13/8)
لدلالة آية أخرى يعني هذه أمثلة عليها كثيرة، مثلا في قوله ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ?[الفاتحة:6] هذا الصراط ما هو؟ فسرته الآيات الأخرى، ?غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ?[الفاتحة:7] المغضوب عليهم هم اليهود فسرته آيات أخرى ?غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم?، الضالين النصارى فسرته آيات أخرى وهذا كثير الآية تفسرها آية أخرى.
بقي التمثيل بالثالث وهو لغة القرآن هذا مهم جدا في تفسير القرآن بالقرآن، أن يرعى المفسِّر اللغة في القرآن بمعنى أنه يعتني بما دارت عليه هذه اللفظة في القرآن، تعلمون أن عددا من أهل العلم كتبوا في الأشباه والنظائر أو الوجوه والنظائر، الأشباه والنظائر والوجوه والنظائر أسماء لكتب، وهي موضوع واحد قد تطلق عليه الأشباه والنظائر وقد يطلق عليه الوجوه والنظائر، والأكثر على أن الأشباه لما كان من قبيل التواطؤ، والوجوه لما كان من قبيل ألفاظ المشككة؛ لأن دلالة اللفظ إما أن تكون مطابقة أو موافقة أو تواطؤ تشكك مشترك تراجع، هذه دلالات الألفاظ، في الوجوه والنظائر الاشتباه والنظائر مهمة في هذا الباب، هي تساعد ما في معاني الكلمة في القرآن كله، مثل يأتي ابن الجوزي في كتابه الوجوه والنظائر يقول مثلا هذه الكلمة مثلا باب الاثنين باب الثلاثة؛ يعني الكلمة جاءت على معنيين في باب واحد كلمة لها معنى واحد، هذا بحسب اجتهاده أو حسب نظره في تفسير السلف؛ لكن يأتي المجتهد من أهل العلم يقول لا هذه اللفظة في القرآن جميعا لها معنى واحدا.(13/9)
من الأمثلة التي اختلف فيها ورجح بالسياق بالمعنى الواحد لفظ (الزينة) في القرآن، لفظ الزينة في قوله تعالى ?وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا?[النور:31]؛ فهنا اختلف أهل العلم، هل الزينة يقصد بها البدن أو المراد بها الملابس، فإذا كانت البدن صارت إلا ما ظهر منها يعني ما ظهر من البدن، فيكون هو الوجه والكفان مما يحتاج إلى إظهاره، أو يكون الزينة هنا بمعنى الملابس، فيكون ?إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا? يعني الملابس، الأصل تظهر عادة لأنها لابد أن تظهر بعض الملابس ففسر بهذا وفسر بهذا فغلى شي يرجع تفسر اللفظة بدلالته اللغوية أو بما يسمى لغة القرآن يتطلب النظر في معنى هذه الكلمة في القرآن كله، وإذا نظرنا في القرآن كله وجدنا أن لفظ الزينة يرجع إلى شيء مستجلب خارج عن الذات المزينة.
قال الله جل وعلا ?يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ?[الأعراف:31]، وأجمع العلماء في تفسير أن الزينة هي ما تستر به العورة يعني ما يتعلق بالملابس.
قال الله جل وعلا في السماء ?إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ?[الصافات:6-7]، ?بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ? جعل هناك سماء جاء شيء وزين هذه السماء وهي الكواكب.
كذلك قال فيما على الأرض ?إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا?[الكهف:7] جعل الزينة خارجة عن ذات الأرض فجعل عليها أشياء من الزينة.
تجد في القرآن كلبه أن الزينة شيء خارج عن الذات يُجلب لتزين به الذات، إذا نظرنا في الآية ?وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ?[النور:31]؛ جعلنا هذا باحتمالين:
إما أن تكون البدن.
وإما أن يكون خارج.
فسرها المحققون بأنها الخارج عن البدن وهي الملابس المعتادة؛ وذلك لأنها هي المجلوبة لتزين بها حتى يستقيم التفسير.
ولكل نوع من الأمثلة ما هو كثير مشهور في ذلك.(13/10)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن لأعياك ذلك، فتذهب إلى السنة؛ لأنها شارحة للقرآن أي موضحة له ومبينة له.
وهذا ظاهر بيّن، السنة بيان للقرآن، وبيان السنة للقرآن في طلب التفسير يكون أيضا على أنحاء:
الأول منها أن يكون في السنة تفسير للآية بظهور، كما فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيات كثيرة معروفة كتفسير ?المَغضُوبِ عَلَيهِمْ? وتفسير ?الضَّالِّينَ? وتفسير الخيط الأبيض والخيط الأسود، وأشباه ذلك من التفسير، ?وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ?[الأتفال:60] قال «ألا إنَّ القوَّة الرَّمي» وما شابه ذلك، وهذا ظاهر بيّن.
النوع الثاني من التفسير بالسنة أن يكون هناك توضيح للمعنى المختلف فيه للسنة، مثل تفسير القرء في آيات الطلاق ?وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ?[البقرة:228]، والقرء هنا اُختلِف فيه: هل هو الحيض أم هو الطهر؟ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذكر ذلك قال في المرأة «أليست تدع الصلاة أيام أقرائها» قالت: بلى. فقوله «أليست تدع الصلاة أيام أقرائها» دلّ على أن القرء هناك هو الحيض، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: السياق أنها تدع الصلاة أيام القرء، ومعناه الحائض لا تصلي، فصارت القروء هنا بمعنى الحيضات.
والجهة الثانية: هي المختلف فيها بين أهل العلم وذكر الاختلاف ابن [.....] في أول كتابه المهم الإنصاف وأطال عليها أنه هنا قال الأقراء وفي الآية جمع القرء بالقروء، وقال: أنه إذا كان المراد بالقرء هو الطهر فلا يكون جمعه قروء، وإنما يكون الجمع أقراء الطهر، وهنا دل الحديث على أن كلمة الأقراء تصلح للحيض كما أنها تصلح للطهر، فصار هنا لفظ القرء الواحد يُجمع على قروء وعلى أقراء، وهذا ظاهر في تفسير الآية بدليل من السنة ليس المقصود من تفسير الآية ولكن هو يفسر الآية.(13/11)
الثالث أم السنة تبين المجمل تقيد المطلق تخصص العام وهو نوع من التفسير كما هو معروف.
الرابع أن يكون السنة العملية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها تفسير للآية أو الآيات لوله جل وعلا ?وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ?[الأنفال:41]، الآية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف قسم ذلك، وهل قسم بالتساوي أو قسمها بهذا، السنة العملية مفسرة لهذا الأمر، وفي قوله وأتموا الحج والعمرة لله كيف فسرها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته العملية، ?فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ?[البقرة:198] كيف يكون الذكر عند المشعر الحرام بالسنة العملية.
?أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ?[الإسراء:78]، ما معنى هذا فشره بالسنة العملية وهذا كثير بين في هذا الصدد.
إذن حصل في هذا المقال لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن أعظم ما يُعتني به في التفسير تفسير القرآن بالقرآن، هذا أحد الأنحاء التي ذكرت، ثم إن أعيى ذلك فسرتها السنة بأحاديث الأنحاء وأيضا، وقلَّ ما تحتاج إذا طبقت هذين الأصلين تحتاج إلى تفاسير الصحابة بعد ذلك؛ بل ستجد أن تفاسير الصحابة مستقاة من أحد هذين الوجهين أو منهما معا ولابد.
(((((
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري(13/12)
- - - - - - - - - - -
شرح
مقدمة في أصول التفسير
لشيخ الإسلام ابن تيمية
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[الدرس الثاني عشر]
[مفرّغ](
- - - - - - - - - - - -
الدرس الثاني عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
[تَفْسِيرُ القُرْآنِ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ]
وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا؛ وَلِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري: حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ أَنْبَأَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ أَنْبَأَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ(1): وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تناوله الْمَطَايَا لَأَتَيْته.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ.
__________
(1) انتهى الشريط الرابع.(14/1)
وَمِنْهُمْ الْحَبْرُ الْبَحْرُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ حَيْثُ قَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ داود عَنْ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهِ كَذَلِكَ.
فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْعِبَارَةُ، وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَمَّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا ظَنُّك بِمَا كَسَبَهُ مِنْ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ؟.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ: اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ - وَفِي رِوَايَةِ سُورَةِ النُّورِ - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا.(14/2)
وَلِهَذَا فإنّ غَالِبَ مَا يَرْوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السّدي الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ(1) قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ.
وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية تُذْكَرُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِمَاد فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صَحِيحٌ .
و الثَّانِي: مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ.
__________
(1) يعني فيما يجمله من الحديث أنه روايات في هذا يدخل حديث ابن عباس في حديث ابن مسعود، يقول دخل حديث بعضهم في بعض يعني وهذا كثير عند ابن جرير ويميّز...(14/3)
و الثَّالِثُ: مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا وَيَأْتِي عَنْ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ:
كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلَوْنَ كَلْبِهِمْ وَعِدَّتَهُمْ وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجَرِ كَانَتْ ؟ وَأَسْمَاءَ الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَتَعْيِينَ الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنْ الْبَقَرَةِ، (1) وَنَوْعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهَا مُوسَى، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبْهَمَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا دِينِهِمْ، وَلَكِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ?سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا?
فَقَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا؛
__________
(1) هل هو الفخذ هل هو الكتف؟ هل هو ...(14/4)
فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا.
ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا: ?قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ?، فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: ?فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا? أَيْ: لَا تُجْهِدْ نَفْسَك فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ.
فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ: أَنْ تُسْتَوْعَبَ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَأَنْ يُنَبَّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَيُبْطَلَ الْبَاطِلُ وَتُذْكَرَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَثَمَرَتُهُ؛ لِئَلَّا يَطُولَ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ فَيُشْتَغَلُ بِهِ عَنِ الْأَهَمِّ.
فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا.
فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ. أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ.(14/5)
كَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحِ فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
[الشرح]
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فأسأل الله جل و علا أن يعلمنا من القرآن ما فيه انشراح صدورنا وثبات أمرنا و استقامة أحوالنا، وأن يذكرنا منه ما نسينا، وأن يعلمنا منه ما جهلنا إنه سبحانه جواد كريم.
قد ذكر المصنف رحمه الله الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى فيما سبق أنّ تفسير القرآن يكون بالقرآن، ثم يكون بالسنة، وقد يكون بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم، والصحابة رضوان الله عليهم الذين نُقل عنهم التفسير ليسوا بالكثير؛ بل كانوا قليلين فممن نقل عنهم التفسير الخلفاء الأربعة:
أبو بكر رَضِيَ اللهُ عنْهُ، كما نقل عنه تفسير قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ?[المائدة:105]، فإنه لما قرأها قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول. إلى آخر الحديث ففسر هذه الآية لأنهم ذهبوا إلى غير التفسير الصحيح فيها.
عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ أيضا نقل عنه تفسير كثير فيلك وعثمان.
وكان أكثر الخلفاء الأربعة تفسيرا الأمام الحبر علي رَضِيَ اللهُ عنْهُ؛ ولهذا صار تلامذة علي بن أبي طالب في التفسير الذين تلقوا عنه التفسير والأقوال في تفسير الآي أكثر من غيره من الخلفاء الأربعة يعني من الخلفاء الثلاثة.
وفسر القرآن أيضا من الصحابة ابن مسعود، وكان له مدرسة كبيرة في التفسير في الكوفة.(14/6)
وفسره أيضا ابن عباس، وله مدرسة كبيرة في مكة، أخذ عنه جمع كثير كما هو معروف.
وحاصل مدارس التفسير عند الصحابة ترجع إلى ثلاث مدارس:
مدرسة المدينة هي مدرسة الخلفاء الأربعة وأكثرهم علي بن أبي طالب.
ومدرسة الكوفة عبد الله بن مسعود وتلامذته.
ومدرسة مكة رفيها عبد الله بن عباس وتلامذته.
وهناك آخرون من الصحابة نُقل عنهم التفسير الكثير؛ لكنها أقل من هؤلاء كأبي بن كعب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وغير هؤلاء من الصحابة.
ولاشك أن تفسير الصحابة للقرآن هو أوثق التفاسير بعد تفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ذكر شيخ الإسلام هنا كما سمعتم عدة أسباب لذلك تُجمل في الآتي:
أولا أنهم شهدوا التنزيل شهدوا تنزيل الآي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعرفة سبب النزول ومشاهدة وقت التنزيل الآية هذا يعين كثيرا على فهم معنى الآي، لهذا أجمع العلماء على أن معرفة سبب نزول الآية يعين على فهم الآية ويحقق أو يدرك به المفسر الصحيح في معنى الآية وإن لم يصر إلى الاقتصار على ورود السبب أو على السبب، والعبرة كما هو معلوم بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب؛ لكن هذه مهمة.
لهذا الصحابة شهدوا التنزيل و عرفوا مواقعه ومتى أنزلت الآية، وهذا يعطي الدلالة عن معنى هذه الآية، والصحابة هم أولى الناس بذلك.(14/7)
السبب الثاني أنّ أعمق هذه الأمة في فهم اللغة التي نزل بها القرآن هم صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخاصة القرشيين منهم؛ لأن علماء الصحابة كانوا يعتنون بموارد التفسير في اللغة، كما جاء مثلا عن عمر رَضِيَ اللهُ عنْهُ حينما فسر قوله تعالى في سورة النحل?أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ?[النحل:47]، قام رجل وقال: يا عمر أو عمر قال: ما التخوف؟ سأل الناس على المنبر؛ لأنه كان يقرؤها يوم الجمعة كثيرا قال: ما التخوف؟ فسكت الناس فقال رجل من هذيل وقال: يا أمير المؤمنين التخوف في لغتنا التنقص، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ منها تَامِكًا قَرِدًا**** كما تَخَوَّف عُودَ النّبْعَةِ السَّفَنُ
فالتخوف التنقص؛ يعني نقص.
?أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ? قال عمر: عليكم بديوان العرب فإن به معرفة كلام ربكم؛ يعني التخوف التنقص، يأخذهم على تخوف يعني يبدؤهم ينقصهم شيئا فشيئا في النعمة مما هم فيه حتى يهلكهم.
عَلِمَ اللغة والصحابة هنا نظروا إلى اللغة ففسرها بذلك.
وهكذا بقية الصحابة ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ كان عالما بأشعار العرب، فكان يجلس في منزله في مكة ويصيح غلامه من أراد أن يسأل عن شعر العرب ولغتها فليدخل، فيدخل من يريد أن يسأل عن الأشعار فيجيب ابن عباس رضي الله عنهما وهكذا.
فالاهتمام باللغة هذا أساس التفسير لأن القرآن أنزل اللسان عربي مبين أصح الناس لفهم اللغة هم الصحابة؛ لأن اللحن لا يوجد فيهم ولم يداخلهم العجم ولم تدخلهم العجمة، ولم يتفرقوا في البلاد بمخالطة من ليس من أهل اللغة، فهم أهل اللسان الصحيح، هذا هو السبب الثاني من أن الاعتماد على تفاسير الصحابة يتعيّن وصحة تفاسيرهم في ذلك ظاهرة.(14/8)
السبب الثالث: هو أن الصحابة رضوان الله عليهم هم أسلم الأمة في التعبير عن القرآن من حيث ما يتورّع أن لا يدخل في القرآن، ولذلك كان كلامهم في التفسير قليلا كثير الفائدة فلم يكونوا يكثرون من الكلام خشبة أن يقال في القرآن ما ليس بحق، فكان كلامهم قليلا كثير الفائدة في التفسير، فهم يعرفون مواطن الزلل ومواطن الهداية فيتفعون الناس في تفسير القرآن فالصحابة رضي الله عليهم شهد لهم الله جل وعلا بعمومهم ولعلمائهم بخصوصهم.
ثم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهد للخلفاء الراشدين ولعلماء الصحابة في التفسير ومتهم ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وجماعات منهم، فقال لابن عباس «اللهم علمه التأويل» وقال لابن مسعود «من سره أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» وابن مسعود وقال عن نفسه: والله لو أعلم أن أحدا ف الأرض يعلم أية من كتاب الله جل وعلا تبلغه المطي لرحلته إليه. وشهد أبي مسعود لابن عباس كما ذكر شيخ الإسلام بإسناد الصحيح شهد له قال: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وهذه شهادة من بعضهم لبعض في ذلك.
المصير إلى تفاسير الصحابة بعد التفسير بالقرآن والسنة هو أقوى طرق التفسير ولابد من الرجوع إليه، فلا يصح لأحد أن يفسر القرآن بدون الرجوع إلى تفاسير الصحابة، قد يزيد يفصل في تفاسير الصحابة، يفصل ما أجملوه؛ لكن لا يصح أن يكون هناك تفسير للصحابة، ونذهب عنه إلى غيره؛ لأن هذا مصير إلى أنهم لم يدركوا الصواب في تفسير القرآن.
ذكر شيخ الإسلام بعد ذلك الكلام على الإسرائيليات، لما ذكر جمع إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدي الكبير تفسيرا عن ابن عباس وتفسير ابن مسعود.(14/9)
طبعا من طرق التفسير لهؤلاء الصحابة منها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن ومنها ما هر ضعيف، وطرق التفسير بمعنى الأسانيد، منها ما هو؟ جادة معروفة يروى بها التفسير آيات كثيرة عن علي رَضِيَ اللهُ عنْهُ بإسناد، عن ابن مسعود بإسناد، وهذه معروفة اسمها جواد الأسانيد في التفسير، لذلك تجد ابن جرير يكررها لأنها منقولة في نسخ، أكثرها رواية بمعنى نسخ موجودة رواها المتأخر عن تلامذة ابن مسعود، وظلت نسخة فيها تفسير آيات كثيرة جدا ثم يفرّقها من ألّف في التفسير في تفسيره، وهكذا ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنْهُ مجاهد عرض عليه القرآن من أوله إلى آخره ومعرفة أسانيد التفسير لها بحث آخر ربما يطول.
ممن نقل التفسير بأسانيد على الجادة إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدي الكبير، وقولنا هنا السُّدي الكبير؛ لأنه فيه السُّدي الصغير محمد بن مروان وهو متهم بالكذب، أما إسماعيل بن عبد الرحمن فهو صدوق في الرواية، لكنه عمدة في نقل التفسير، وهو في الحديث صدوق، وإن روى له مسلم في الصحيح لكنه هو ليس بمرتبة الثقات الرواة الضابطين؛ لكنه في التفسير صحيح الرواية إلا أنه نصرف في تفسير ابن مسعود وابن عباس ونصه على ذلك يقول: دخل حديث بعضهم في بعض. وربما قال: وربما زدتُ أشياء من غير حديثهم، فخلط. وذكر لك بن تيمية أن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي أدخل أشياء من الإسرائيليات في التفسير بما سمع لماذا أدخلها؟ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حدثوا عن بتي لإسرائيل ولا حرج» وهذا قاده إلى البحث في الكلام على الإسرائيليات وأن هذه الإسرائيليات طغت في كتب التفسير وزادت حتى دخلت في أشياء لا فائدة منها البتة كما ذكر عن أهل الكهف عدتهم، كلبهم، لون كلبهم، والشجرة التي كلم الله موسى، ونوع كذا أو نوع كذا؛ يعني تفاصيل يذكرها أصحاب الإسرائيليات، الإسرائيليات ذكر شيخ الإسلام بن تيمية أنها ثلاثة أنواع والصحيح أنها أربعة:(14/10)
أما الأول يعني ما ذكره مما يعلم أنه في شريعتنا، هذا لا بأس بروايته لأنه جاء في شريعتنا ما يؤيده.
والثاني ما نعلم في شريعتنا ما يكذّبه ويرده؛ مسائل العقائد والأخبار عن الأنبياء أو عن الكتب ونحو ذلك، فهذا يجب علينا أن لا ترويه؛ لأن روايته هي رواية ما جاء بشريعتنا خلافه، والمعتمد ما جاء في شريعتنا؛ لأن الإسرائيليات دخل فيها الكذب في ذلك.
والثالث ما لا نعلم في شريعتنا أنه صحيح أو أنه غير صحيح لا نعلم ما يؤيده أو ما يبطله، فهذا هو الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذا حدثكم بني إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذّبوهم» فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ لأنهم إذا حدثوا بشيء لا نعلم صدقه بشريعتنا ولا نعلم كذبه من شريعتنا، ولا نعلم صدقه ولا كذبه فينطبق عليه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا تصدقوهم ولا تكذبوهم»، وينطبق عليه الحديث الآخر «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»، وهذا هو الذي جعل الصحابة يروون التفسير كما فعل عبد الله بن عمرو وغيرهم؛ رووا التفسير عن الإسرائيليات خاصة في قصص الأنبياء وذكر المغيبات مما هو موجود في كتبهم وشروحهم، توسعوا فيه لأجل «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج».
أما النوع الرابع فهو ما تحيله العقول؛ يعني هو لم يرد في شريعتنا؛ لكن العقول تحيله، العقل يرفضه العقل الصحيح والعقل الصريح هنا يرفضه، هنا يجب أن يرد، من مثل تفسير ق أنه جيل محيط بالأرض أو أن الأرض صفتها كذا وأنها تنتهي إلى طرف كذا وطرف كذا، وأن الشمس كانت كذا ثم مسخت إلى الجبل؛ يعني تفاصيل تتعلق بمواقع أو تتعلق بأجرام، أكثر هذا النوع مما يتعلق بمواقع أو أجرام أكثر هذا النوع مما يتعلق بمواقع، هذا إذا أحالته العقول فيجب أن يرد ولا يدخل القسم الثالث، ما يدخل في القسم الثالث مما لا تحيله العقول، أما إذا حالته العقول فيجب رده ولا يروى.(14/11)
لذلك دخل كثير من التفسير في هذا النوع في كتب التفسير من قبيل أنه «لا تصدقوهم ولا تكذبوهم» ولكنه مما تحيله العقول.
وهذا لو قيدناه بهذا القيد صار ما ورد عن بني إسرائيل مما يدخل تحت قوله إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فيكون قليلا جدا بالنسبة لما هو موجود.
فإذا استغنينا عن القسم الأول وهو ما جاء في شريعتنا ولا حاجة لنا لمرويات بني إسرائيل فيه، وإن ذكرت فتذكر هكذا، لا حاجة لنا بما جاء في شريعتنا رده، ما جاء ما رده العقل أيضا لا حاجة لنا به، فبقي نوع واحد وهذا قليل بالنسبة للبقية.
فهذا القول هو الصحيح -ما ذكره ابن تيمية هنا- هو التوسط في مسألة النقل عن بني إسرائيل؛ لأن الناس النقل عن بني إسرائيل من زمن التابعين وزمن الأئمة على ثلاث أنحاء:
منهم من يمنعها.
ومنعم من يقبلها مطلقا.
ومنهم من ينقل ما يدخل تحت هذه الشروط التي ذكرنا، وهو أن يكون النوع الثالث، ولا يكون داخل في النوعين الآخرين الثاني والرابع.
أهل العصر اليوم كما تسمعون ينقدون أي تفسير لأن فيه إسرائيليات، يقولون: هدا فيه لإسرائيليات، ونقّوا كتب التفسير من الإسرائيليات. هذا ليس بمنهج علمي صحيح لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» وقال «إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإنه إن يكن حقا فتكذبوهم أو يكن باطلا فتصدقوهم».
وهذا جعل كثيرا الآن يعتني بتخليص كتب التفسير من الإسرائيليات، وأحيانا الإسرائيليات هذه توضح المقصود، مثل مثلا في حديث الفتون المعروف عن ابن عباس الحديث الطويل عند قوله تعالى ?وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا?[طه:46]، ذكر الحديث الطويل، بعضه من القرآن، وبعض ما ذكر ابن عباس من قصة موسى عليه السلام والفتون يعني ما تدرج به وابتلاه الله جل وعلا به؛ بعضه من بني إسرائيل؛ لكن دخل في تفسير بن عباس ويقبل في ذلك لأنه مما لم يأتِ في القرآن رده.(14/12)
فالقول بأن كل تفسير فيه إسرائيليات مردود أو ضعيف أو لا يصلح، هذا فيه نظر؛ بل ينبغي أن يقيد بهذه الضوابط التي قلنا.
المسالة الثانية التي بحثها شيخ الإسلام هي مسائل خلاف الترجيح بين الأقوال، وهذه لها ميدان بحث يطول الترجيح بين أقوال أهل التفسير في ذلك، وهو ذكر مثال في الخلاف حول عدة أصحاب الكهف، ورجح قولا واعتمد في الترجيح على نوع برهان وهو أنه في قوله ?وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ?[الكهف:22]، لم يقل بعدها (رجما بالغيب) وإنما قال ?رَجْمًا بِالْغَيْبِ?[الكهف:22]، قبلها، وهذا مما يؤيد هذا مع ضميمة قول بن عباس أنت أعلم عنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. هذا نوع من الترجيح والترجيح باللفظ لأنه قال في الأول رجما بالغيب وفي الآخر لم يقل، والترجيح يقول بقول الصحابي قول بن عباس: أنا أعلم عدتهم. طبعا ابن عباس يعلم عدتهم بناء على برهان من الفائدة في ذلك.
وأوجه الترجيح كثيرة متعددة وهي التي سيصير المصنف رحمه الله إلى الكلام عن اختلاف التنوع واختلاف التضاد، وأن اختلاف السلف في التفسير -يعني اختلاف الصحابة في التفسير- هو اختلاف تنوع ليس اختلاف تضاد؛ بمعنى أن أحدهما يسقط الآخر أو ضده، وأن اختلاف التضاد قليل جدا بالنسبة لاختلاف التنوع.
اختلاف التضاد هذا هو الذي يرجح الصواب فيه بناء على براهين وأدلة في ذلك، لكل مقام ما يناسبه.
[المتن]
فَصْلٌ
[فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ بِأَقْوَالِ التَّابِعِينَ](14/13)
إذَا لَمْ تَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا وَجَدْته عَنْ الصَّحَابَةِ فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ التَّابِعِينَ؛ كَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفْسِيرِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عَرضَات مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا.
وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ عَنْ قتادة قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إلَّا وَقَدْ سَمِعْتُ فِيهَا شَيْئًا وَبِهِ إلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عيينة عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ كُنْت قَرَأْت قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ أَحْتَجْ أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا سَأَلْت.(14/14)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، عَنْ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ(1) قَالَ: رَأَيْت مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ قَالَ: فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اُكْتُبْ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ.
وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ.
وَكَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ. وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ. وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَأَبِي الْعَالِيَةِ. وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. وقتادة. وَالضِّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ.
__________
(1) يصح أنك تقول في أي لفظ من ألفاظ التحمل أو ألفاظ الأسانيد أن تجعل قبلها (قال)، إذا قال: حدثنا تقول: قال حدثنا، إذا قال: أخبرنا، تقول قال أخبرنا، إذا قال عن. يصح أن تقول: قال عن، (عن) هذه هو يبتدئ الكلام؛ المحدث تارة يقول: حدثنا وتارة يبتدئ الكلام ويقول: عن مجاهد؛ هو قوله؛ عن مجاهد، ويصح أن تحذف أيضا وهو الأكثر عندهم أنهم قبل (عن) لا يقول قال؛ لأنه هناك احتمال أن يكون لفظ التحمل وهو حدثنا أخبرنا أنبأنا ونحو ذلك أنه من قبل، وليس مما ينسب له أنه قال عنه؛ يعني احتمال أن يقول عن مجاهد احتمال أن يكون أصله حدثنا مجاهد؛ لكن هو الأعمش قال حدثنا مجاهد أسقط وقال عن مجاهد لأجل طول الصحبة وما أشبه ذلك، تارة تحذف اللفظة من الرواة وتارة يبقونها على ما هي عليه، لذلك في (عن) يصح أن تقول: عن. وإذا قلت: قال عن. ليس فيها إشكال.(14/15)
وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛ فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِهِمْ تَبَايُنٌ فِي الْأَلْفَاظِ يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ اخْتِلَافًا فَيَحْكِيهَا أَقْوَالًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ أَوْ نَظِيرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنُصُّ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، وَالْكُلُّ بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَاكِنِ، فَلْيَتَفَطَّنْ اللَّبِيبُ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ الْهَادِي.
وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرُهُ: أَقْوَالُ التَّابِعِينَ فِي الْفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةً، فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً فِي التَّفْسِيرِ؟! يَعْنِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ، وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَلَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ.
[الشرح]
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى لآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فصلة لما سبق من الكلام عن طرق التفسير، ذكر أنّ القرآن يفسر بالقرآن، ثم القرآن يفسر بالسنة، ثم يفسر بأقوال الصحابة، هذا سبق شرحه وبيانه فيما مضى.
والآن صار إلى تفسير القرآن بأقوال التابعين، والتابعون في مآخذهم في التفسير أخذوا من عدة اتجاهات أو مدارس:(14/16)
الأولى هي مدرسة ما سمعوه من الصحابة وهي الأكثر، تجد أن الملازم للصحابي يفسر بتفسيره، الملازم لابن مسعود يفسر بتفسيره، الملازم لأبيّ يفسر بتفسيره، الملازم لعلي رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعين يفسر بتفسيره، وكذلك من لازم ابن عباس رضي الله عنهما فإنه يفسر بتفسيره.
كما لأطال هنا في الكلام عن مجاهد وهو من أوضح الصور في التزام مدرسة ابن عباس في التفسير، هذا هو المأخذ الأول.
المأخذ الثاني: أن يجتهد التابعي في التفسير فيفسر باجتهاده، وهذا الاجتهاد راجع إلى نظره في الآيات، أو نظره في السنة أو إلى ما سمعه ويكون لديه من علوم مختلفة، وهذا كثير الاجتهاد عند التابعين، كثير باعتبار ما سمعوه أو اللغة أو ما شابه ذلك، ولهذا كثر اختلافهم من أجل كثرة اجتهاداتهم.
القسم الثالث أو النوع الثالث في مآخذهم: هو حال التّابعي في التفسير؛ يعني في أثناء تفسيره، وهو تارة يفسر فيختصر بكلمة لأنه سئل عنها، وتارة يفسر فيطيل لأن المقام يقتضي ذلك، ولهذا تستغرب؛ لأن التابعين حينما فسروا، تجد أن من تفاسيرهم ما هو مقتضب جدا، ومنه ما هو مطول تجده يسهب في تفسير الآية.
وسبب ذلك اختلاف الحال التي فسر فيها، وهذه الأحوال في الغالب لا تُنقل لنا، وإنما ينقل لنا القول الذي قاله دون الحال أو بساط الحال الذي جعل التابعي يُطنب أو يختصر، كما هو أيضا في حال الصحابة رضوان الله عليهم.
وذكر لك عددا من أسماء مفسري التابعين ممن نُقل عنهم التفسير، وهؤلاء مشاهير تفاسيرهم منقولة في التفسير بالأثر.(14/17)
هذه المدرسة مدرسة التفسير القرآن بالقرآن، تفسير القرآن بالسنة، تفسير القرآن بأقوال الصحابة تفسير القرآن بأقوال التابعين، هذه تسمى مدرسة التفسير بالأثر؛ يعني بالأثر يعني من نقل عن صحابي فإنه يكون فسر بالأثر، من نقل عن التابعي فإنه يكون قد فسر بالأثر، حتى ولو كان تفسير الصحابي اجتهادا منه في اللغة، أو كان تفسير التابعي اجتهادا منه في اللغة، وليس مما نقله.
وتفسير القرآن هناك مدرستان مشهورتان مدرسة التفسير بالأثر ومدرسة التفسير بالرأي.
مدرسة التفسير بالرأي لها عدة مدارس بداخلها منها مدرسة التفسير باللغة.
والصحابة رضوان الله عليهم اجتهدوا في التفسير باللغة وكما ذكر لكم أمثلة في الماضي إن كان [ذكري] صحيحا وكذلك التابعون فسروا باللغة؛ لكن ما نقل عنهم التفسير حتى ولو كان تفسيرا لغويا لا يصنفهم في مدرسة التفسير باللغة بل هي مدرسة التفسير بالأثر، وسبب ذلك أن اجتهادهم في اللغة ليس اجتهادا راجعا إلى اجتهاد في اللغة، هذا الاجتهاد في التفسير ليس لاجتهادهم في اللغة؛ ولكن لأن اللغة العربية هي اللغة التي يتكلمون بها وهي سليقتهم وفطرتهم لم يأخذوها بالتطبع مثلما جاء في مدرسة التفسير بالرأي فشا اللحن وفشا الفساد في اللغة فيكون تفسير العالم في اللغة يكون مما تعلمه من اللغة وليس مما طبع عليه.(14/18)
ولهذا لم يعد العلماء تفسير التابعين ولا تفاسير الصحابة من التفاسير اللغوية، حتى ولو كان ما اجتهدوا فيه لغويا لهذا السبب وهو أن تفسيرهم باللغة كان عن طبع ولم عن اجتهاد، فسروا في اللغة صحيح اجتهدوا في اللغة التي هي طبعهم وهي سليقتهم لا اللغة التي تعلموها كما هو صنيع المتأخرين، ولذلك لا تجد في تفسيرهم باللغة تفسيرا بالنحو لا تجد فيه التفسير البلاغي لا تجد فيه تفسير ألفاظ اللغة عن طريق الاشتقاق الذي كان عند المتأخرين، وإنما هو بالسليقة العامة التي ينقلون فيها الكلام عن الصحابة أو عن من أدركوه من أصحاب السليقة العربية.
تفاسير التابعين قد يكون فيها اختلاف، وقد ذكر لك المصنف الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى أن ما اختلفوا فيه فيندر أو يقلّ أن يكون فيه اختلاف تضادّ في التفسير الواحد وإنما يكون التنوع في العبارات والمآل واحد، إما أن يكون بعضهم جاء بالعموم وبعضهم خص، بعضهم جاء بفرد من الأفراد والآخر أتى بالكل، واحد جاء بالكل وآخر جاء بالجزء، وهكذا فيما اختلفوا فيه اختلاف تنوع.
المسألة الثالثة التي طرقها مسألة خيالية لا مصير إليها وهي مسألة الإجماع في التفسير، والتابعون صعب بل لا أذكر أحدا من أهل العلم قال أجمع التابعون على أن تفسير هذه الكلمة هي كذا؛ لكن شيخ الإسلام فيما ذكر هذا بناء على تنظيره المعتاد أنهم إن أجمعوا على شيء فالحجة فيما أجمعوا عليه؛ لكن في الواقع لم ينقل عنهم الإجماع في تفسير آية، وإنما الصحابة رضوان الله عليهم نقل أما التابعون فإنهم لم ينقل عنهم أنهم أجمعوا في تفسير كلمة أو آية أنها كانت تفسر بكذا.
ولهذا صار خلاف المفسرين والأئمة في التفسير بتفسير التابعين سائغا لأنهم اختلفوا، وإذا كان كذلك فيرجع فيه المجتهد في التفسير إلى الحجة من القرآن أو الحجة من السنة أو طرق التفسير الأخرى.(14/19)
فتفاسير التابعين ليست حجة إلا في حال أنهم أجمعوا، وهذه حال خيالية كما قال الإمام أحمد من ادّعى الإجماع فقد كذب؛ لأن الإجماع في المسائل الفروعية صعب، فكيف عن المسائل العلمية فالتفسير عند التابعين، سيما وأن مدارس التابعين في التفسير مختلفة متباينة، مدرسة مكة، مدرسة المدينة، والكوفة والبصرة والشام، هي تفاسير لاشك أنها عرضة للاختلاف الكبير.
يمكن أن نقول هنا أن تفسير التابعين يتميز بمزايا:
الأولى أنه لا خلط فيه من حيث النواحي العقدية؛ بل تفاسيرهم فيما يتعلّق بالاعتقاد صحيحة، هذا الذي جعل عددا من أئمة السنة ينقلون بعض تفاسير التابعين في كتب العقيدة والسنة، مثل ما يروى عن عكرمة وعن مجاهد في بعض المسائل التي منها مسألة الإجْلاس ونحوها. (1) فالأصل أنهم لا يقع عندهم خلل فيما يذكرونه في أبواب الغيبيات، وهذه ميزة لتفاسيرهم قد يكون هناك نزاع بين أهل السنة في مسألة مما نقل عنهم لكن الأصل أن ما نقلوه في مسائل الاعتقاد الأصل فيه السلامة؛ لأنهم مؤتمنون على ذلك بما أثنى الله عليهم به وأثنى عليهم به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الميزة الثانية أن كلامهم قليل الألفاظ كثير المعاني كسمة تفاسير الصحابة، تجد أن تفاسير التابعين إذا تأملته يمكن أن تخرج من التفاسير إشارة أو معنى كبير جدا يتطرق له الداعية، يتطرق له العالم يتطرق له الواعظ، وهكذا في كلمات وجيزة وكثيرة المعاني.
السّمة الثالثة أن تفاسيرهم لا تخالف اللغة، تفاسير التابعين متفقة مع اللغة بخلاف تفاسير من أتى بعدهم فإنه قد فشا اللحن وقد يقع الخلل في التفسير اللغوي عندهم.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس.(14/20)
المزية الرابعة من مزايا تفسير التابعين الإجمالي أن تفاسير التابعين في كثير منها دُونت وأصبحت تنقل من طريق صحف أو من طريق أسانيد ثابتة عرفت تفاسير التابعين بها تفسير نجاهد منقول بإسناد معروف عنه، أو صحيفة مجاهد نفسها منقولة بتفسير وبإسناد واحد، وكذلك المشاهير الآخرون من التابعين، إما أن يكون عنده صحيفة في التفسير مكتوبة أو يكون هناك جادة في الإسناد واحدة منقول عنها في التفسير، ويكون الأسانيد الأخرى التي نقلت عنه في التفسير قليلة، وهذا بخلاف تفاسير الصحابة فإن الكتابة عنهم غير موجودة إلا ما ذكر عن كتابات قليلا عن ابن عباس وعلي رَضِيَ اللهُ عنْهُما وابن مسعود لكنها ليست كاملة كتفاسير التابعين، والأسانيد أيضا متنوعة في الصحابة بخلاف أسانيد التابعين.
هذا بعض ما يحضرني من مزايا تفسير التابعين رحمهم الله تعالى.
سائل: يفسرونها تفسيرا واحدا وإنما يكون الاختلاف في العبارة، هذا كثير جدا، هل هذا يعتبر إجماع؟
لا، هذا ليس إجماعا؛ لأن الإجماع أن يكون كل من عُرف بالتفسير من التابعين نُقل تفسيره للآية فاتفقوا عليه، نجد أن المنقول في الآية ينقل عن واحد اثنين فقط، لا يسوغ أن نقول أن البقية الذين لم يُنقل كلامهم متفقون معهم في ذلك، كذلك عدم ذكر الخلاف لا يعني الإجماع، بعض العلماء يسميه إجماع سكوتي وبعضهم يقول لم يعلم لهم مخالف فكان إجماعا هذه كلها فيها تجوّز وليس موافقة لشروط الأصوليين في مسألة الإجماع.(14/21)
قراءة ابن مسعود مفسرة، ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ قراءته قراءة مفسرة ابن مسعود يذكر الآية يعني الآية ويقرأ معها التفسير يعني يضيف كلمات فيها التفسير، لذلك اشتبه هذا على عدد من المتأخرين لأنهم يعتقدون أن هذه الزيادات في قراءة ابن مسعود وهذا ليس بصحيح، وإنما هي متن تفسيرات ابن مسعود مثل الآية المشهورة (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ منه) هذه في قراءة ابن مسعود، وهي تفسيرية ليست بقراءته؛ لكن يقال بالتجوّز أنها كقراءة ابن مسعود لكن ابن مسعود كان يفسر يعني يقرأ ويفسر لها أمثلة كثيرة، قد ذكر كثيرا منها الحافظ ابن أبي داوود في كتابه المصاحف؛ يعني أطنب في هذه المسألة تعرفون الكتاب المصاحف لابن أبي داوود كتاب مشهور بالأسانيد نقل كثيرا من هذا.نعم
[المتن]
[تَفْسِيرُ القُرْآنِ بِالرَّأْيِ]
فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَحَرَامٌ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ».
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنٍ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ».(14/22)
وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ القطعي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجوني عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ. وَهَكَذَا رَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فِي أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وقتادة وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ فَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْقُرْآنِ وَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ، فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَّنْ أَخْطَأَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(14/23)
وَهَكَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقَذَفَةَ كَاذِبِينَ فَقَالَ: ?فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ?[النور:13]، فَالْقَاذِفُ كَاذِبٌ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَفَ مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ؛ كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَمْ أَعْلَمْ؟
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشب عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : ?وَفَاكِهَةً وَأَبًّا?[عبس:31]، فَقَالَ : أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟ مُنْقَطِعٌ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: ?وَفَاكِهَةً وَأَبًّا? فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ ؟ ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ.(14/24)
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ فَقَرَأَ: ?وَفَاكِهَةً وَأَبًّا? فَقَالَ: مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْك أَنْ لَا تَدْرِيهِ.
وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا رَضِيَ اللهُ عنْهُما إنَّمَا أَرَادَا اسْتِكْشَافَ عِلْمِ كَيْفِيَّةِ الْأَبِّ وَإِلَّا فَكَوْنُهُ نَبْتًا مِنْ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ لَا يُجْهَلُ؛ لقوله تعالى تَعَالَى: ? فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا?[عبس:27-30].
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا. إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ: ?يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ?[السجدة:5]، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا: ?يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ?[المعارج:4]؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّمَا سَأَلْتُك لِتُحَدِّثَنِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا. فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ.(14/25)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ. فَقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْك إنْ كُنْت مُسْلِمًا لَمَا قُمْت عَنِّي أَوْ قَالَ: أَنْ تُجَالِسَنِي.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ: إنَّا لَا نَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا.
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا فِي الْمَعْلُومِ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْنِي عَنِ الْقُرْآنِ وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ يَعْنِي عِكْرِمَةَ.
وَقَالَ ابْنُ شوذب : حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ قَالَ : كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ عبدة الضبي حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْت فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّهُمْ لَيُعَظِّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ، مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ [مُحَمَّدٍ]، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَنَافِعٌ.(14/26)
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: مَا سَمِعْت أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ.
وَقَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهُشَامٌ الدستوائي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين قَالَ سَأَلْت عُبَيْدَةَ السلماني عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَاتَّقِ اللَّهَ وَعَلَيْك بِالسَّدَادِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إذَا حَدَّثْت عَنِ اللَّهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ.
حَدَّثَنَا هشيم عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفْسِيرَ وَيَهَابُونَهُ.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَاَللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا هشيم، أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: اتَّقُوا التَّفْسِيرَ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ.
فَهَذِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنْ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ.(14/27)
فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ وَلَا مُنَافَاةَ؛ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ؛ لقوله تعالى: ?لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ?[آل عمران:187]، وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ : «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ».
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا.
وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ.
وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ.
وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الشرح]
هذا ختام هذا الكتاب العظيم المفيد جدّا المسمى مقدمة في التفسير، وذكر فيه مسألة التفسير بالرأي.
والتفسير بالرأي معناه أن نفسر القرآن بلا حجة وبلا دليل يرجع إليه، وإنما بمجرد رأي رآه هو، فليس له ما يدل على كلامه من القرآن ولا من السنة ولا من أقوال الصحابة ولا من اللغة ولا من السياق والسباق، وإنما هو رأى رأيا ففسر به.
وهذا قول بلا علم، الله جل وعلا جعل القول عليه بلا علم قرين الشرك به؛ لأن الشرك به قول على الله بلا علم.(14/28)
فلا يحل لأحد أن يفسر القرآن بمجرد رأيه، فالتفسير بالرأي المجرد مذموم ومنهي عنه؛ لأنه داخل في القول على الله جل وعلا بلا علم، فالذي يفسر بالرأي هو يقول إن معنى قول الله هو كذا بغير دليل يستدل عليه وإنما لمجرد شيء بدر له وظهر بدون حجة لا نقلية ولا لغوية، ولهذا الأحاديث التي جاء فيها الوعيد فيمن فسر القرآن برأيه، معناها ما جاء في الروايات الكثيرة يعني المتعددة في النهي عن تفسير القرآن أو الوعيد بتفسير القرآن بغير علم؛ لأنه جاء لفظان «من فسر القرآن بغير علم» واللفظ الثاني «من قال في القرآن»، وجاءت رواية «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» فنرجع بالرأي إلى الرأي الذي ليس عليه علم، وهو الذي صار إليه شيخ الإسلام في آخر الكلام بعد النقول عن السلف الكثيرة:
أولا عن لأبي بكر رَضِيَ اللهُ عنْهُ بعد أن ساق الأحاديث من قال في القرآن بغير علم ذكر عن أبي بكر وإسناده عن أبي بكر حسن، وعن عمر لا تثبت في قوله ?وَفَاكِهَةً وَأَبًّا? وإنّما هي أقرب عن أبي بكر لتعدد رواياتها عنه، وفيها التحذير الشديد من أن يقال في القرآن بغير علم.
أما إذا احتج بعلم إما بآية أو بسنة أو بلغة، فإن هذا علم يصح أن يفسر بناء على فهمه من آية أو حديث أو لغة، وهذا هو الذي صار من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد اجتهدوا بناء على فهم فهموه، فهو قول في القرآن بعلم وليس بغير علم، فيحمل المروي عنهم عن الخلفاء وعن الصحابة من النهي عنه تفسير القرآن بالرأي، أو أن يقول قولا في القرآن؛ لأن هذا القول هو الذي لا يستند إلى حجة ودليل.
أما ما يستند إلى حجة ودليل عند صاحبه فهو مأذون له به كما هو الشائع في تفاسير العلماء في هذا الصدد.(14/29)
إذا تبين ذلك فيجب الحذر الشديد من أن يُقدم على القرآن بتفسير الآي بغير علم، ما يكون عند الإنسان حفظ للقرآن حيث يحمل بعض الآيات على بعض وفهم لمعانيها، أو معرفة بالسنة أو معرفة باللغة، وإنما هو يفسّر بحسب وَجْدِه أو ما يطرأ له.
فحينئذ فالعلم الذي تكون معه النجاة في هذا الأمر بحيث يستطيع أن يفسر بعلم وأنه إذا اجتهد بالتعبير يكون مقبولا أن يكون يراجح التفاسير الأثرية أولا كتفسير الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني رحمه الله تعالى وكتفسير الإمام أحمد فيما نقل عنه وكتفسير سعيد وابن جرير وتفسير ابن مردويه وتفسير ابن المنذر وما أشبهها من التفاسير الأثرية، وكذلك ما لخصت فيه هذه التفاسير كتفسير ابن الجوزي وتفسير الحافظ ابن كثير وغيرها.
ثم هو مع ذلك يكون عنده بصر بالعقيدة الصحيحة التي قررها أئمة الإسلام وأئمة السنة حتى يفهم القرآن عليها، وعنده بصر أيضا بمواقع التفسير من اللغة بمواقع اللغة حتى يعرف الإعراب يعرف المتقدم والمتأخر ويعرف طرفا من علم المعاني حتى يعرف فائدة التقديم والتأخير وفائدة الحصر وفائدة التأكيد وفائدة تنوع وحروف وأشباه ذلك مما هو مقرر في علم المعاني، إذا كان عنده طرف من علوم اللغة هذه مع معرفة بالقرآن والسنة ومراجعة لكتب التفسير فإنه إذا اجتهد يُرجى أن يكون اجتهاده ليس به تجاوزا لقولي «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار».
الأمر الثاني فيما ذكرت أن تفسير القرآن بالرأي المذموم له أشكال وله أنحاء:
تفسير القرآن بالرأي المذموم في المسائل الغيبية كمسائل صفات الله جل وعلا أو الجنة والنار أو ما يحصل يوم القيامة، القرآن مملوء بالآيات التي فيها ذكر للغيبيات، فالإقدام على تفسير هذه الغيبيات بما يخالف قاعدة أمرّوها كما جاءت، هذا تفسير بالرأي، إلا ما كان فيه علم مقتفى فإن هذا يُصار إليه كتفسير الكرسي بأنه موضع القدمين، وتفسير الميزان بأنه له كفتان وأشباه ذلك.(14/30)
الأمر الثاني أن التفسير بالرأي يكون بحمْل القرآن على ما يخالف ما علم من الآيات الأخرى كصنيع أصحاب المذاهب الرّدية والفرق المنحرفة في تفسير بعض الآيات بما يخالف آيات أخر، آيات فيها ثناء على الصحابة رضوان الله عليهم لا يأخذون لها فيفسرون آيات أخر بتفسير يضاد هذه الآيات، وهكذا في مسائل الحلال والحرام فإن تفسيرها بما يناقض غيرها هذا يعدّ من التفسير بالرأي المذموم.
المسألة الثالثة أو الشكل الثالث التفسير بالرأي المذموم هو التفسير بالتأويل المردود، والتأويل قد يكون صحيحا وقد يكون باطلا، والباطل هو أن يكون ليس هناك حجة في صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، هذا أيضا يكون تفسيرا بالرأي، من صرف لفظا عن ظاهره أو إلى غيره دون قرينة دون حجة تدل على ذلك فهذا من التأويل المذموم كما هو صنيع أصحاب المذاهب والفرق المختلفة.
إذا تبين هذا فمدارس التفسير بالرأي عند علماء التفسير وعلماء علوم القرآن تنقسم إلى قسمين شهيرين:
الأول التفسير بالرأي المقبول على ما ذكرنا.
القسم الثاني التفسير بالرأي المذموم المردود، وهو القول على الله بغير علم.
أما التفسير بالرأي المقبول فيسمونه الرأي، وصحته أن يقال بالاجتهاد} التفسير بالاجتهاد مقبول، هو ما كانت عناصر الاجتهاد فيه تامة أو متوافرة، وهذا له عدة أمثلة أو مدارس في داخله:
منها المدرسة الفقهية في التفسير، كل أصحاب مذهب فسر القرآن تفسيرا فقهيا خاصة في الآيات التي لها صلة بالفقه أو بأصول الفقه، وهذا كثير الحنابلة لهم تفاسير فقهية، والمالكية لهم تفاسير فقهية، والحنفية لهم تفاسير فقهية، والشافعية لهم تفاسير فقهية، والظاهرية لهم أيضا تفسير فقهي وهكذا، هذا تفسير بالاجتهاد الفقهي الذي له دليله لكن لم يفسر القرآن من حيث هو، لكن فسروه لكن بما يوافق المذهب الفقهي هذا داخل في هذه المدرسة.(14/31)
الثاني مدرسة التفسير بالاجتهاد النحوي، وهذا كثير ويدخل فيها الكتب المسماة إعراب القرآن، كإعراب القرآن للزجاج، وإعراب القرآن للزجاجي وإعراب القرآن للفراء، وتفاسير اعتنى فيها بالإعراب كإعراب القرآن للعكبري وتفسير البحر المحيط لأبي حيان وأشباه هذه الكتب.
الثالث مدرسة التفسير بالاجتهاد اللغوي، واللغوي يدخل فيه التفسير في المفردات، أو في البلاغة وهذه عدد من الكتب التي اعتنت بهذا التفسير، وقد تشترك مع غيرها في مدرسة مثلا مدرسة فقهية أو مدرسة عقدية ونحو ذلك، وهذه لها أمثلة متعددة كتفسير ابن الجوزي وتفسير البحر المحيط وكتفسير السمعاني وتفسير السمين الحلبي وتفاسير كثيرة في هذا الصدد، ومن المتأخرين تفسير الألوسي وما شابه ذلك، وهذه قد يكون ذلك عناية بالبلاغة أو عناية بالاشتقاق والمفردات.
الصنف الرابع فيها التفاسير العقدية وهي التي اعتنت بالاجتهاد لكنها مالت إلى تقرير العقيدة، وهذه يصح أن نقول أن ما يدخل في هذه المدرسة، مدرسة الاجتهاد المقبول هي المدرسة العقدية السلفية أو التي تكون تبعا لأئمة الحديث رحمهم الله تعالى، والتي توافق ظاهر القرآن، هذه يصح أن نقول فيها أنها تفسير بالاجتهاد المقبول.
والمدرسة الأخيرة المدرسة الإشارية، والمدرسة الإشارية هي مدرسة للتفسير بالاجتهاد لكن بذكر الإشارة، ومنها ما هو مقبول، ومنها ما يدخل في الرأي المذموم في القسم الثاني.
والتفسير بالإشارة سبق أن ذكرته لكم لكن أعيده باختصار إنه يصح التفسير الإشاري بأربعة شروط.
أما النوع الثاني وهو التفسير بالرأي المذموم فهو كل ما كان الاجتهاد فيه غير متوافر الشروط، ويدخل فيها كل التفاسير التي يذهب إليها أهل البدع، مثل تفاسير غلاة الصوفية، وتفاسير الشيعة التي ينحون فيها إلى منحى التأويل والرأي الذي لا حجة فيه، مثل تفاسير الباطنية وتفاسير المعتزلة والخوارج وما أشبه ذلك من التفاسير.(14/32)
على العموم تقسيم المدارس يعني يحتاج إلى تفصيل أكثر لكن سبق أن أشرنا إليه أظن بأحد المحاضرات يمكن أن يرجع إليه في ذلك.
وقد صار ابن تيمية رحمه الله في آخر الكلام إلى ما سبق أن ذكرناه في الأول؛ وهو أن التفسير بالاجتهاد إذا توافرت الشروط فإنه لا حرج منه.
وأما إذا كان قولا بمجرد الرأي فهو مذموم فليحذر منه؛ لأن القول على الله بلا علم شديد جدا وكبيرة من الكبائر، وقد يكون كفرا إذا كان متعلقا بإباحة ما لم يأذن به الله.
ذَكر فيما سمعتم في الأخير كلمة يجب أن توضَّح وهي أن من سُئل عن علم فإنه يجب عليه؛ سئل عن آية ولديه علم فإنه يجب عليه أن يجيب وأن يبين المعنى إذا كان لديه علم، وهذا ليس على إطلاقه، وإنما يجب عليه إذا كان ليس هناك من يعلمها إلا هو، أما إذا كان من يعلم غير المسؤول فإنه يجوز له أن يمتنع عن الجواب ويُحيل إلى غيره كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يحيل بعضهم إلى بعض، أما إذا تعينت عليه فإنه يجب عليه أن يبين، ولا يجوز له الكتمان، إذا لم تتعين عليه بوجود من يجيب غيره أو بوجود من يبين غيره فإنه حينئذ له في ذلك مندوحة.
وهذا ختام بيان بعض ما يتعلق بهذه الرسالة النفيسة.
أسأل الله جل وعلا أن يرحم مؤلفها؛ كاتبها شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن يجزيه عنا وعن الموحدين خير الجزاء، وأن يجمعنا به في دار كرامته، وأن ينفعنا بعلومه إنه سبحانه جواد كريم.
كما أسأله سبحانه أن ينور قلوبنا جميعا وأن يفيض علينا من الفهم الصحيح، وأن يقينا العثار ويجنبنا الزلل وأن يلهمنا في كل تقوى البدار إنه سبحانه خير مسؤول، وهو المعطي قبل السؤال، والمنيل قبل استحقاق النوال سبحانه وتعالى تعالى اسمه وتقدست أسماؤه لا إله إلا هو، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
[الأسئلة](14/33)
س/ قول مجاهد رحمه الله تعالى: إن الله أنزل من الكتب ألفا، ثم عادت علومها إلى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن ثم عادت علوم الأربعة إلى القرآن، ثم عادت علوم القرآن إلى المفصل منه، ثم عادت علوم المفصل منه إلى الفاتحة، ثم عادت علوم الفاتحة إلى البسملة منه، ثم عادت علوم البسملة إلينا؟
ج/ هذا لا يدخل في التفسير الإشاري؛ لأن الإشارة كما ذكر فيها أربعة شروط لصحتها، وهي غير موجودة هنا، الإشارة أن يكون هناك لفظ يقال إنه إشارة إلى كذا، إشارة إلى معنى وهذا يصح بشروطه، مثل الماء تقول الماء إشارة إلى الوحي في بعض الآيات الماء وإحياء الأرض الميتة أنه إشارة إلى الوحي ?اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا?[الحديد:17]، إحياء هنا إشارة إلى إحياء القلوب، هذا نقول صحيح، من قال هذا إحياء القلوب نقول هذا صحيحا لماذا؟ لأنه اجتمعت شروطه:
أولا أن لا يشتمل على عقيدة باطلة.
ثانيا اللفظ المنقول منه ثابت يعنى الأرض الميتة ثابت المعنى.
و فيه إشارة مزيدة على ذلك إلى القلب، والقلب أرض والإحياء صحيح، وهذا الربط صحيح.
مثل ما فسر الحديث «إن الملائكة لا تدخل بيت فيه كلب ولا صورة» قال ابن تيمية في تفسيره، وكذلك لا تدخل قلبا لأن البيت جعله قلبا، وهو صحيح القلب بيت، قال: لا يدخل قلبا قد ملئ بكلاب الشبهات وصور الشهوات. وهذا صحيح النقل يعني الربط هذا صحيح.
أما الأثر الذي ذكرته فأنا في ظني إن كان حفظي صحيحا أنه لا يصح وأنه نقله بعض المتصوفة، سيما وأن الباء ليس فيها سرّ، قد يحمل يعني فيه تكلف إذا قلنا المقصود هنا يرجع إلى معنى واحد وهو الاستعانة، وهذه الاستعانة لا ترجع لها علوم كتب الله جل وعلا، الاستعانة فيها الربوبية وهي مفتاح كل خير؛ لكن لا ترجع إليها علوم القرآن جميعا وعلوم الفاتحة جميعا.
س/....
ج/ هذا تفسير بالاجتهاد أي نعم؛ يعني بالرأي إذا استوفي الشروط فهو مقبول، أو يكون مذموما، نعم(14/34)
س/...
ج/ ثلاثة؟ يمكن جاء الوهم مني، أنا أذكر:
أن يكون أن لا يشتمل على عقيدة باطلة يعني نعلم أنها باطلة
الثاني أن يكون المعنى الأصلي ثابت.
الثالث: أن يكون المعنى المنقول إليه أيضا صحيح في نفسه في اللغة وفي نفسه.
الرابع: أن لا يكون هناك دليل يبطل هذه الإشارة.
على العموم أنا أذكرها من كتاب ابن القيم التبيان هي موجودة فيه، التبيان هو كتاب مهم مهم جدا، التبيان قل يمكن من يطالعه ويمر عليه؛ لكن فيه علوم كثيرة خاصة فيما يتعلق بالقرآن وتفسيره فيه فوائد كثيرة جدا.
ثلاثة ليس لها أصول قال: التفسير والمغازي والملاحم يعني ما لها أصول أسانيد أكثرها تنقل بدون أسانيد. نعم
س/....
ج/ لا تكون صحيحة من حيث التفسير أو من حيث النقل، لا، من حيث التفسير ما لها علاقة، قد يكون الإسناد ضعيف والتفسير صحيح؛ يعني بمعنى الإسناد هو نقل الكلام إلى قائله، طيب نقول: هذا النقل إلى القائل الإسناد ضعيف، ولا يعني كون الإسناد ضعيفا أن يكون ضعيفا في نفس الأمر لأن الضعيف قد يحصل؛ لكن من باب الاحتياط قلنا أنه ضعيف، ولذلك في الحلال والحرام نشتد في مسألة الأسانيد لكن في أسانيد التفسير لا ينبغي التشدد أولا.(14/35)
ثاني ليس كل راوي يحكم عليه في باب الحلال والحرام بأنه ضعيف أن يكون ضعيفا في التفسير، هناك رواة كثير ضعاف في حفظ أحاديث الأحكام لكنهم أصحاب قرآن، هذا كيف أضعفهم فيما هو صنعتهم؟ يجيء مثلا يقول نلقاه في التقريب يقول الضعيف تراجعه تجده ضعيف في الروايات؛ لكنه صاحب قرآن، إذا كان صاحب قرآن فأضعفه في التفسير فيه نظر، إذا إسناد ضعيفا لكن التفسير في نفسه عن ابن عباس مستقيما؛ يعني أن لا يستغرب أن يقوله ابن عباس لأنه يوافق تفسير الآية مثلا يفسر (الأب) نقول الإسناد ضعيف، يقول ما يصح عن ابن عباس ما فيه ما يستغرب، ولذلك مسألة اللجوء إلى أن الإسناد في التفسير نقول ضعيف ليس هو الأصل، الأصل أن نقبل ما جاء في التفسير إلا إذا كان هناك غرابة في التفسير.
أما التفسير هو تفسير آية، ويكون لهذا التفسير مستنده، بخلاف ما إذا كان الإسناد منكرا أو الإسناد موضوع ونحو ذلك هذا يجب صده، مثل إسناد الكلبي المشهور الذي يروى به تفسير ابن عباس الطويل المسمى تنوير المقباس، هذا في إسناده الكلبي الذي هو والسُّدي الصغير محمد بن مروان...
(((((
تم هذا الشرح المبارك
تم بحمد الله
أعدّ هذه المادّة: سالم الجزائري(14/36)
قسم التفسير(/)
?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ?
[شريطين مفرّغين]
سورة محمّد
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
?الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا(15/1)
يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (14)?
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الهدى والسداد والتوفيق والرشاد، وأسأله تبارك وتعالى أن يرينا الحق حقا ويمنّ علينا باتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويمن علينا باجتنابه وتركه.
كما أسأله جل وعلا أن يحيينا حياة طيبة، وأن يميتنا ميتة طيبة، وأن يحشرنا مع أولياء الله جل وعلا.
هذه الآيات التي سمعتموها من صدر سورة محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أقف فيها مع آيتين أو مع مسألتين:
أما الأولى: فهي قوله جل وعلا ?وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ?.
والثانية: هي قوله جل وعلا ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ?.
المسألة الأولى
أما الآية الأولى ففيها بيان أن المقتول في سبيل الله عز وجل سيهديه الله وسيصلح باله، وفي هذا دلالة ظاهرة أن الهداية تكون بعد الممات أو تكون بعد مفارقة الدنيا، فبحق الذين قتلوا في سبيل الله فهم سيُهدون، بعد تركهم لهذه الدنيا سيهديهم الله جل وعلا، وكذلك الذين ماتوا إذا كانوا على الإيمان سيهدون وسيصلح الله بالهم وسيدخلهم الجنة.
في هذا قال العلماء: إن الهداية التي جاءت في القرآن أربعة أنواع:(15/2)
النوع الأول الهداية الغريزية: وهي المذكورة في قوله تعالى ?الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى?[طه:50]، فهذه هداية جعلها الله جل وعلا رحمة منه لكل مخلوق، كل مخلوق هداه ?الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى?، هداه لما يصلحه، هداه لما قدر الله جل وعلا له في حياته.
سماها العلماء الهداية الغريزية، هذه هداية طبعية؛ طبع عليها الخلق.
النوع الثاني من الهداية هداية الدلالة والبيان والإرشاد: فإن الله جل وعلا هدى الخلق، وأقام لهم البينات الواضحة التي لا يلتبس معها النظر ولا السلوك لذي العقل ولذي اللب، فأرشد جل وعلا وبين وهدى وعلم ودلّ، وذلك بإنزال كتبه وبإرسال الرسل.
إنزال الكتب لإقامة الحجة على العباد ولهدايته ?يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ?[المائدة16].
كذلك الرسل يهدون إلى ما أمرهم الله جل وعلا به فيبينوه للناس.
فإذن هداية الدلالة والبيان لم تترك للاجتهاد، وإنما قد بينت وأوضحت لأن الله جل وعلا هو الهادي وإن الله لهادي الذين آمنوا، قال جل وعلا في حق نبيه ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?[الشورى:52]، يعين هداية البيان والدلالة والإرشاد.
إذن لا خير ولا شيء فيه الصلاح للعباد إلا وقد بُيّن ودل عليه العباد وأرشدوا إليه، في الكتب بما أنزل على الرسل وخاصة القرآن العظيم الذي أنزله الله جل وعلا على قلب خاتم المرسلين، وبما أوحى الله جل وعلا إلى نبيه من السنة.(15/3)
وهذا يعني أن من ظنّ أو زعم أن هناك طريقا يوصل إلى الله جل وعلا ويهدي إلى الله دلالة وبيان لم يرد في الكتاب ولا في السنة، في ضمن هذا المقال أن البيان والهدى والدلالة والإرشاد التي جاءت في القرآن والسنة أنها لم تكن على وجه الكمال؛ لأن القائل بأنه يمكن أن نهتدي إلى سبيل لم ينص عليه في القرآن والسنة، معنى ذلك أن هناك سبيل هداية لم يرشد إليه العباد، وهذا ولاشك باطل ومناقض لما في التنزيل والسنة، إذ تنزيل القرآن كان لهداية الخلق، والله جل وعلا ما فرّط في الكتاب من شيء، على أحد التفسيرين بأنه القرآن، وبيّن القرآن وأنزل الذكر لتبينه وهذا ليكون حجة كافية، وأعظم ما يؤخذ من القرآن العظيم ومن الرسالة، أعظم ما يؤخذ هو سبيل الهداية وسبيل النجاة.
فإذن يتقرر بهذا أن سبيل النجاة وسبيل الهداية لابد أن يكون واضحا في القرآن وفي السنة أبلغ الوضوح وأعظم الوضوح وأظهره.
النوع الثالث من الهداية هداية التوفيق والإلهام: وهذا النوع من الهداية مبتدؤه من العبد ومنتهاه من الله جل وعلا؛ يعني أن الله جل وعلا يمن بتوفيقه وبإلهامه وتسديده للعبد بسبب من العبد، قال الله جل وعلا ?وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ?[الأنفال:23]، وهذا النوع من الهداية يأخذ في تحصيله وهو توفيق الله جل وعلا وإلهامه وتسدديه يأخذ بسببه العبد إذا سلك السبيل والطريق.
أما إذا سلك طريقا آخر بتفريط منه في العلم أو بتركه سبيل الحق بعد معرفته فإنه يوكل إلى نفسه ويحرم التوفيق والسداد والإلهام.(15/4)
لهذا كان ما عند الله جل وعلا إنما يطلب منه يعني امتثال ما أمر، ولا شك أن العبد إذا سلك سبيل الهداية راغبا، فإن التوفيق على الله جل وعلا قد ووعده به العبد، وعد الله جل وعلا حق لا يخلف الله الميعاد، ولهذا كان من أسرار الدعاء العظيم الذي في الفاتحة وهو قوله تعالى ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ?[الفاتحة:6-7]، هذا الصراط فُسّر بأنه الإسلام القرآن السنة ونحو ذلك، وقيل في السؤال في الاستشكال إن المصلي قد حصلت له الهداية، الهداية إلى الصراط؛ لأنه ما دام مسلما مؤمنا مصليا قد هُدي إلى القرآن وإلى السنة وإلى الإسلام، فما فائدة هذا السؤال؟ وهو قول المصلي ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ? مع أنه مهتد إذ كان مؤمنا مسلما؟
وأجيب بأجوبة أحسنا أن الهداية إلى الصراط المستقيم هداية إلى أفراد ذلك الصراط.
والصراط الذي هو الإسلام الإيمان القرآن السنة قد يأخذ العباد منه شيئا ويتركون شيئا آخرا، فأفراده كثيرة، أفراد القرآن من حيث الالتزام بها أحكامه أخباره كثيرة، كذلك أمور الإسلام الإيمان، فسؤال العبد ربه جل وعلا أن يهديه الصراط المستقيم؛ يعني أن يوفقه ويسدده لسلوك جميع أفراد الصراط المستقيم.(15/5)
لهذا وصف ذلك الصراط بأنه صراط الذين أنعم الله عليهم فقال ? صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ? والذين أنعم الله عليهم هم الذين في سورة النساء يقوله جل وعلا ?وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا?[النساء:69-70]، فدل على أن الهداية للصراط أخص -هذا الصراط المذكور في الفاتحة- أخص من الهداية إلى مطلق الإسلام والإيمان أو مطلق الالتزام بالقرآن والسنة.
إذن فنحن في أمس الحاجة فيما يقول شيخ الإسلام وابن القيم وجماعة العلماء إلى هذا الدعاء ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ? لأنه ما من زمن إلا والصوارف فيه على الالتزام بجميع أفراد الصراط المستقيم أكثر من الزمن الذي قبله، وهذا مأخوذ من قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» ذلك الشر يكون بكثرة، يكون بأشياء منها كثيرة الصوارف عن لزوم الصراط المستقيم، لهذا كانت الحاجة عظيمة إلى أن تسأل الله جل وعلا الهداية إلى الصراط المستقيم.
الهداية يعني الالتزام وتمامه حصول التوفيق من الله جل وعلا هو الذي يعنى به هذا النوع من الهداية وهو الهداية هداية التوفيق السداد والإلهام.
إن التوفيق من الله جل وعلا، التوفيق من الله جل وعلا، ومعنى التوفيق عند أهل السنة والجماعة أن لا يكل الله العبد لنفسه، أن يمده بعون خاص به يكون قوة له على الطاعة وصرفا لقلبه عما لا يرضاه الله جل وعلا.
وغير أهل السنة يفسرون التوفيق بأنه خلق القدرة على الفعلـ ويفسرون الخذلان بأنه حرمانه من القدرة على الفعل، وهذا قول الأشاعرة وما شابههم، وهو باطل وهذا ليس محل بيان بطلان.(15/6)
المقصود أن التوفيق إعانة خاصة من الله جل وعلا للعبد، هذه الإعانة هي هداية من الله جل وعلا، لو لم يعن الله جل علا عبده عليها لم حصل على الهداية لم؟ لأن إبليس وجنده يرصدون العبد ويرصدون توجهاته ويرصدون سلوكه، وهم أحرص ما يكونون على صرفه.
فإذا كان معه عون من الله جل وعلا وتوفيق وتسديد كان قويا عليه، فإذا حُرم ذلك العون ذلك التسديد كانوا أقوى عليه من نفسه، ولذلك يكون أحوج ما يكون العبد إلى أن يهديه الله جل وعلا هداية التوفيق؛ لكن هذه مع أنها منة من الله جل وعلا وتفضل وتكرم؛ لكنها بسبب من العبد وهو أن يكون سالكا سبل الهداية.
النوع الرابع من أنواع الهداية هو الذي جاء في هذه الآية، وهو أعظم أنواع الهداية وآخرها ونتيجتها ومحصَّلها، وهو هداية المؤمنين إلى طريق الجنة، هداية المؤمنين إلى سلوك سبيل الصراط في الآخرة، كما أنهم سلكوا السبيل والصراط في الدنيا فإنهم يُهدون إلى السبيل وإلى الصراط في الآخرة؛ لأنه بيننا وبين الصراط يعني يوم القيامة ظلمة، دون الجسر ظلمة، ويُهدى المؤمنون -يهديهم الله جل وعلا- إلى الصراط، كل بحسب عمله، وهذه خاتمة الهدايات بالنسبة لأهل الإيمان، يُهدون إلى سلوك الصراط وإلى نوع مشيهم وثباتهم وقوتهم على الصراط، وتعلمون أن من وصفه أنه أدق من الشعر وأحد من السيف وإنه مزلة، وهذا يشعره في أن السير عليه عسير إن لم يكن ثم مدد وتوفيق من الله جل وعلا، وهذا من أفراد هذه الهداية.
كذلك يهدى إلى طريق الجنة ويهدى إلى منزله، قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ? لأنهم قد قتلوا فإذن الهداية هنا ليست هداية الدنيا فإنما هي هداية الآخرة.(15/7)
ويقابل ذلك في حق أهل النار قال جل وعلا ?فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ(23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ?[الصافات:23-24]، في سورة الصافات، يهدى أهل الجنة إلى الجنة ويهدى أهل النار إلى النار، وهذه ثمرة الهداية في الدنيا ثمرة من قبلها وثمرة من لم يقبلها.
المسألة الثانية
الآية الثانية هي قوله جل وعلا ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ?.
ذكرنا أن الهداية منها هداية بيان وإرشاد، وهذه لم يتركنا الله جل وعلا للاجتهاد فيها، فقد بينها لنا بيانا كافيا شافيا كاملا لا نقص فيه بوجه من الوجوه، إذْ من مقتضى الرحمة من إنزال الكتاب وإرسال الرسول أن يكون الهدى كاملا، قال جل وعلا في وصف القرآن ?قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء?[فصلت:44]، وهدى معه لا يكون الضلال ومعه لا يكون الالتباس، بالقرآن وبالسنة البينة كاملة والطريق والبيان ظاهر أتم الظهور، قال جل وعلا في وصف المؤمنين ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ? أشد الناس حظا وأكثرهم نصيبا من هذه الآية هم الذين كانوا اشد استمساكا بالبينات التي جاءت في الكتاب والسنة، وأقلهم حظا من نقص من الاستمساك بما جاء من البينات في الكتاب والسنة، حتى يكون الناس على فريقين متباينين أشد التباين.
من كان على البينة يعني على الالتزام بالقرآن والسنة والأخذ بما جاء به من البينات.
والصنف الثاني من ترك هو الذين تركوا البينات التامة وكانوا في أعلى سوء العمل أعلى صور سوء العمل وذلك هو الكفر وأعلى صور ابتاع الهوى وذلك هو اتباع الشيطان.
وبين الفريقين من يقرب من هؤلاء ومن يقرب من هؤلاء.(15/8)
فهذه الآية تصدق على كل من كان عنده التزام بالبينات، وعنده تنوع سوء عمل ونوع هوى، فلا يدخل الذي عنده سوء العمل وعنده الهوى مع من كان على بينة من ربه يحتج بما جاءه عن ربه جل وعلا وبما جاءه به نبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
فإذن في هذه الآية بيان أن المرء إما يكون على بينة من ربه، وإما أن يكون على غير بينة من ربه في بعض أمره أو في كل أمره.
وذلك من قوله ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ? والبينة تصدق على البينة الواحدة وعلى جنس البينات، وقال جل وعلا في وصف ما يقابل أولئك ?كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ? وسوء العمل يصدق على الواحد ويصدق على جنس العمل.
فإذن دلت الآية على أن كل امرئ مخاطَب بأن يكون على بينة من ربه؛ لأنّ في هذه الآية الإنكار، الاستفهام ههنا إنكاري، ينكر على الذين جعلوا من ساء عملهم واتبعوا أهواءهم مساوون أو يفضلون عن أولئك الذين هم على بينة من ربهم.
فهذا الاستفهام فيه الإنكار وفي الإنكار توبيخ أيضا، قال جل وعلا ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ? إذن نستفيد من الآية الحث والحض على أن يكون المرء في أموره كلها على بينة من ربه، وأن يكون مقتفيا البينات والهدى الذي جاء في القرآن والسنة، لا يكون سالكا مع هواه وسالكا ما زين له من العمل؛ بل إنه إذا كان سالكا ما زين له من العمل وترك اتباع البينات والهدى فله نصيب من اتباع الهوى بحسب ذلك.(15/9)
إذا تقرر هذا مع ما بينا سالفا من أن الهدى -هدى البيان والإرشاد- قد تم في القرآن وبينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته، فمعنى ذلك أنه لا يلتمس منهج السلف في الحقيقة بعدٌ عن البينات التي جاءت في الكتاب والسنة، لم؟ لأن المتبعين للسلف -الحمد لله وتوفيقه ومنته عليهم- ليس لهم مسألة في منهجهم ولا في عقيدتهم ولا في أمورهم إلا ولهم عليها بينة، لا يحتجّون بالرأي ولا بما اجتهدت فيه عقولهم؛ بل احتجاجهم بما جاءنا من البينات والهدى، والله جل وعلا قال في سورة هود ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ? قال جل وعلا بعد ما تلوتُ ?فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ?[هود:17].
إذا نظرنا إلى الذين خالفوا منهج السلف، هل كان احتجاجهم بعد أن خالفوا احتجاجا بالنصوص أو احتجاجا بالأقيسة والعقول والآراء؟ لاشك أن الجواب أنه إنما احتجوا بالأقيسة والعقول والآراء، وكل من خالف منهج السلف له نصيب من قوله تعالى ?زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ?.
أنظر إلى جميع المخالفين في باب التوحيد والصفات أو توحيد الإلهية، لهم في رد قول السلف أو في ردّ البينات التي جاءت في القرآن والسنة لهم في ردها منازع ومذاهب كلها خارجة من العقل والقياس والرأي.
وأعظم مصيبة دخلت على المسلمين تحكيم الرأي على الشرع، وهي المصيبة التي يعاني منها المسلمون اليوم.(15/10)
فالآية دلت بظهور كما سمعتم على أنه ليس بعد اتباع البينات وهي الدلائل والبراهين إلا تزيين سوء العمل وإلا ابتاع الهوى، وهذا ظاهر؛ لأن من خالف النصوص فله نصيب من اتباع الهوى، النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إنما بعث ليطاع.
إذا تأملت في هذا الزمن، وهو زمن خلافات، والخلافات فيه لا تظهر في صورة معارضة النصوص صريحة كما كان فيما مضى من الزمان.
كان فيما مضى الذين يعارضون النصوص يعارضونها بوضوح، يقولون مثلا هذه حديث آحاد لا نقبلها، هذه أحاديث حسنة لا يحتج في العقيدة إلا بالمتواتر أو إلا بالصحيح لا يقبل الحسن، هذه أقوال للسلف وهي تناسب زمنهم لا تصلح في لا نحكم بما قالوه على وفقنا، أقوال السلف أسلم ولكن أقوالنا أعلم وأحكم، ذلك كان فيما مضى من الزمان.
في هذا الزمان قلّ من يتجاسر على هذه الألفاظ؛ ولكن تجوسر على مخالفة السلف وترك البينات بأنواع أخر.
فترى عند المخالفين احترام لأقوال السلف، ترى عند المخالفين اعتداد بما ينقل عن السلف، ترى عندهم نقلا بل نقولا عما يروى عن السلف، فلا تجدهم يعارضون ذلك؛ لكنهم لا يلتزمونها، والتزموا بأشياء يخالف ما كان عليه هدي السلف، خاصة عند الجماعات الإسلامية التي ظهرت في هذا الوقت.
هذه المسألة لا شك أنها تحتاج إلى بصيرة بما كان عليه السلف، وبما عليه أولئك، أعظم مما كان من قبل، لم؟ لأن الأمر يعني في الأزمنة الماضية كان واضحا، هذا يتهجم على السلف، يقول: هؤلاء لا يصلح، أقوالهم لا تصلح، قواعد العلوم السلفية لا تصلح، وهذه منابذة واضحة، فيكون من تمسك ما عليه السلف يكون على بينة ووضوح.
في هذا الزمان التبس الأمر، اختلط الأمر، صار المنتسبون إلى السلف عندهم شيء جديد ألا وهو التفريط في ما نلتزم فيه بهدي السلف أو بمنهج السلف تفريط في المسائل.
يقولون مثلا: عقيدة سلفية، العقيدة تكون سلفية؛ ولكن المواجهة عصرية.(15/11)
وهذه كلمة من الكلمات التي ظهرت في هذا الزمن، يقولون: نأخذ بسلفية المعتقد؛ ولكن المواجهة نأخذ بها بما يناسب العصر. مواجهة من؟ المواجهة لاشك أنها مواجهة الكفر الشرك ومواجهة من حاد سبيل الله، مواجهة أهل الظلم والطغيان، ونحو ذلك.
مواجهتهم أليست من عظيم المسائل التي يحتاجها المسلم؟ الجواب: بلى؛ هي من عظيم المسائل التي يحتاجها المسلم.
إذن فادعاء أن المواجهة متروكة للاجتهاد ادّعاء بأننا في هذا الأمر لم نكن فيه على قول واضح وبينة ظاهرة؛ يعني أن هذه المسألة ترك فيها للاجتهاد، إذن فالهداية في هذه المسألة بكاملة.
لهذا أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ذكروا في عقائدهم اهتماما بهذه المسألة، ذكروا في عقائدهم كيف تكون المواجهة، أليس عند أهل السنة والجماعة المتحققين بما كان عليه السلف ليس عندهم أن المواجهة اجتهادية؛ بل عندهم أن المواجهة تبع لما جاء في النصوص من أحكام المواجهة.
المواجهة ما معناها؟ إما أن تكون مواجهة جهاد، أو تكون مواجهة إنكار منكر، أو تكون مواجهة خروج على والٍ، أو تكون مواجهة بإنكار منكر، ونحو ذلك، هذه أنواع المواجهات.
هل أنواع المواجهات من هذه مما نحن فيه على بينة من الله؟ أم مما لم تأتنَا؟ ما الجواب؟ الجواب نحن على بينة.
الآيات المكية فيها الكلام على ما يصنع المسلم مع المشركين إذا كان مستضعفا وليس ثم دار هجرة في دار كفر وليس ثم دار هجرة، ولا يستطيع إظهار دينه مثلا، بعض الآيات المكية.
الآيات المدنية فيها بيان قتال المشركين، ومجاهدتهم وما يتصل بالجهاد من مباحث.
وهذه في الواقع، واقع تميز الصف المسلم أو تميز المجتمع المسلم عن مجتمع الكفار.
إذن فهذان الحالان قد بيِّنا أتم بيان في القرآن:
حال يكون فيه المؤمنون بين المشركين؛ لكن تميز لصفهم ولا لمجتمعهم ولا لدولتهم عنهم.
والحال الثانية حال فيه بينونة وتميز للمسلمين ولمجتمع المؤمنين عن مجتمع الكافرين.(15/12)
ما الحال الثالثة؟ هل ثَم حال ثالثة في المواجهات، نعم، إنها إنكار المنكر، وإنكار المنكر بُيّن في السنة؛ بل وفي القرآن أكمل بيان.
فإذن المتّبعون للسلف؛ بل نقول إن هذه المسائل التي ذكرنا وهي مسائل المواجهات، هل هي أو هل أصحابها والمتنازعون فيها هل يدخلون في هذا الآية؟ الجواب: نعم، قال جل وعلا ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ? كل من خالف في تلك المسائل فلابد أن تجد عنده تحسينا وتزيينا لعمله، وذلك التزيين والتحسين للعمل عقوبة؛ لأنه خالف البينات، إما أن يكون خالفها عن قصد وعمد بأن عرفها ثم خالف، وإما أن تكون مخالفته لها وتركه لها عن قصور وتقصير في البحث عن الحق، قال جل وعلا ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ?[الأنبياء:24]، ولا يُعذر المرء بالإعراض عن تطلّب البينات والهدى مع إمكان ذلك، فإذن من خَالف طلب في البينات والهدى والصواب في تلك المسائل، من خالف ولم يطلب أو علم وخالف قصدا فلابد أن يعاقب، ومن أنواع العقوبة أن يزين له سوء عمله والعياذ بالله، وإذا زين له سوء العمل فمعنى ذلك أن يكون تحصيله للحق ضعيفا؛ لأن الواقع في الشيء الذي يرى ذلك الشيء الذي وقع حسنا جميلا، كيف يرى غيره حسنا جميلا فضلا عن أن يراه أحسن أو أجمل، وهذا هو الذي وقع فيه كثيرون اليوم.
إذن فالمسألة مسألة بينات وهدى، وليست مسألة تحسين وحسن وجمال، ليست المسألة آراء، إنّ هذا الأمر طيّب، ينتج نتائج طيبة؛ نراه حسنا لا ليست هذه المسألة عند أهل السنة والجماعة عند السلف، إنما السلف الصالح عندهم الاتباع، إذا اتبعوا فما ينتج عن الاتّباع هو الحسن الجميل وغيره قبيح وليس بحسن.(15/13)
اليوم تنظرون إلى المخالفين إلى منهج أهل السنة والجماعة كثيرون؛ لكن الذين تشتبه مخالفتهم تشتبه على كثيرين، وربما خدع بهم الأكثيرون أو خدع بهم كثيرون هم الذين يحترمون السلف الصالح ويقولون عقيدتنا عقيدة السلف الصالح؛ ولكنهم يخرجون عن منهج السلف في أشياء لا يستحسنونها.
منهج السلف مثلا في مسائل التغيير التي هي مسائل الساعة، ومسائل الإصلاح منهجهم واضح، وهي التي تسمى مسائل المواجهة، نقول نحن فيها: نحن على بينة من ربنا، لا نتركها، فلا تكن في مرية منه إنه الحق من ربك، ما دام أن هذا لنا عليه بيّنات والدلائل، فنحن في مرية منه، فعلينا أن ننظر إلى الاتباع والوسيلة، وليس علينا أن ننظر إلى ما نحصّله من النتائج أو ما نرومه من الغايات، لا؛ لأن الأمر إنما هو أمر عبادة.
نوح عليه السلام ما آمن معه إلا قليل، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يعلم أنه سيهاجر حتى أمره الله جل وعلا بالهجرة، لم يؤمر بعد، يعلم لأصحابه ولا يعلم ما يحكم الله جل وعلا فيه، حتى أمره ربه جل وعلا بالهجرة فهاجر.(15/14)
إذن فنصل من هذا إلى أن هذه المسائل المحدثة ننظر في إليها مطمئنين بتدبرنا في هذه الآية ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ? ناقش المخالفين في ذلك، ستجد أنهم يحيلونك على قلوبهم، يحيلونك على عواطفهم يعني يحيلونك على ما تهواه أنفسهم؛ لكن ناقش أهل السنة المتحققين بمتابعة السلف، فستجد أنه وإن كان قلبه يغلي وإن كانت عواطفه جيّاشة فيضع عواطفه وقلبه جانبا وينظر نظر علم بالنصوص، لهذا النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان يستثار في مكة أفلا نميلن، لو أمرتنا لملنا على أهل منى بأسيافنا؟ أفلا نميل على أهل منى بأسيافنا؟ شكي إليه ما يلقونه، هذه شكوى الشباب؛ لأنهم ينظرون بعواطفهم، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما مال فصبّره الله جل وعلا بقوله جل وعلا ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60]، يعني أهل الشرك، وقال جل وعلا ?حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء?[يوسف:110] الآية، قال جل وعلا في هذه الآية ?وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ?، عائشة رضي الله عنها وغيرها يقول إن القراءة ?وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُواْ? لأن الرسل لا تظن بأن الله جل وعلا يكذبهم ما وعدهم؛ ولكن القراءة المتواترة ?وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ? وهذه حال يصل إليها المرء بشدة ما يعاني، شدة ما يعاني، يظن أنه قد كذب، لا شكا في وعد الله جل وعلا؛ ولكن ظنا أنه ليس بأهل أن يحقق فيه موعود الله جل وعلا، ?وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ? هذه الحال حال نفسية، حال نفسية، لهذا ثبت النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بسورة هود وثبت بسورة يوسف هو من معه، قال جل وعلا لا في آخر سورة هود ?وَكُلاًّ نَّقُصُّ(15/15)
عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ? هو عليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أعلى الخلق مقاما وإيمانا واهتداء احتاج إلى تثبيت ?وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ?[هود:120]، كذلك مَن معه يحتاجون إلى ثبات وتثبيت، تثبيتهم وثباتهم بأي شيء؟ بمتابعة البينات والهدى، بتلاوة القرآن والتدبر فيه، وألا يخرجوا إلى أهواء أنفسهم.
لاشك أن أهل السنة والجماعة المتابعين للسلف الصالح -رضوان الله على الجميع- أنهم متحققون بذلك، إذا ناقشتهم ستناقش العالم من علماء المسلمين المتابعين للسلف الصالح ستجد أن جوابه جواب من عزل عاطفته وما يظهر فيه عن تحكيم تلك العاطفة وتلك الرغبات على النصوص.
وهذه مسألة من مسائل التوفيق العزيزة؛ وهي أن يوفق طالب العلم أو يوفق العبد إلى أن تكون متابعته للنص، لا أن يكون متابعا لهواه.
ولهذا جاء في الحديث الذي يصحّحه النووي وغيره من أهل العلم «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» يعني الإيمان الكامل، فإذا كمل الإيمان في قلب العبد، صار هواه وما بحبه ورغبته فيما جاء به الشرع تبعا لما جاء به الشرع.
أما الآخرون لأجل تربيتهم لأجل ما هم عليه، فتجد أن واقع هو يخالف ذلك، العاطفة بها يفهم النص، الظلم الواقع على العبد بها تفهم النصوص، ينزلون النصوص على الواقع الذي ضادّ أو يضاد أنفسهم وهواهم، وهذا لاشك أنه خروج بالنفس على الاتباع إلى تحكيم الهوى، بل هذا يعاقب العبد بأنواع من العقوبات، فإن أمر المتابعة وانتماء العبد لنظره إلى رغبيته وهواه هذا أمر عزيز جدا؛ لأنه هو خلاصة توحيد العبد لربه جل وعلا أن يخلص مما يشتهيه إلى ما يأمره ربه جل وعلا بهذه المسألة يعظم التباع خاصة في هذا الوقت كما ترون.(15/16)
فمن الناس من وفق إلى اتباع سبيل أهل السنة والجماعة أعني السلف الصالح؛ ولكنه لم يوفقوا إلى الطمأنينة لذلك، فتجد في نفسه تردد، في نفسه نزوع، تارة إلى هذا وتارة إلى هذا، ذلك لأنه لو خبر نفسه وتأمّل وكان طبيبا بنفسه وفي قلبه لوجد أنه تنزع عنده نوازع يحكّم فيها نفسه على الشرع، إذا سألته على البينة لم يجد بينة إلا أن يجتهد في أن يجعل الدليل نبعا لما يهواه، وأهل السنة والجماعة المتابعين للسلف الصالح هؤلاء يجعلون أنفسهم تبعا للأئمة.
الذين يكون هذه المقالة -التي هي مقالة باطلة-، يقولون: نأخذ بسلفية المعتقد وبعصرية المواجهة، فهذه المقالة تغمض على كثيرين، وهي أن المواجهة من الدين فليس ثم مواجهة عصرية ومواجهة سلفية، المواجهة كلها يجب أن تكون على منهج السلف، ولهذا تجد أن من خالف منهج السلف في نوع المواجهة يحصل له نوع عقوبة، قال جل وعلا في سورة المائدة في وصف النصارى ?فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء?[المائدة:14]، الجماعات المنفصلة عن جماعة الإخوان المسلمين مثلا بتفرعاتها وأشكالها، ألا تجد أن بينهم شيئا من العداوة والبغضاء؟ نعم، إن بينهم ذلك، بعضهم يقدح في بعض حتى إن بعض الجماعات المنفصلة عن جماعات الإخوان يكفّر أصحابُها رؤوس الإخوان لأجل دخولهم في البرلمانات ونحو ذلك، وهذا نوع من الإلقاء والإغراء للعداوة والبغضاء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى: الفرقة سببها نسيان العباد حظ مما ذكروا به. فإذا نسي العباد شيئا حظا مما ذكروا به بعد أن بينوا به وكان الحجة قائمة عليهم يعاقبون بأنواع من العقوبات وأشدها وقوع الفرقة فيما بينهم، ووقوع الفرقة فيما بينهم، الفرقة التي معها العداوة والبغضاء، ولا شك أن هذا حقا في هذه الأمة وفي تاريخها وحصل في هذا الزمان.(15/17)
التفرق الذي حصل الآن في الأمة المسلمة، طائفة من الذين يدعون إلى عودة الحياة الإسلامية يقولون لابد من اتحاد الأمة الإسلامية، اتحاد الدول الإسلامية، ونحو ذلك، أليس كذلك؟ يطلبون الاتحاد الوحدة وهذه الدول وما فرقها إلا الاستعمار، ما فرق هذه الدول إلا الاستعمار وإلا الأمة واحدة ونحو ذلك، نسألهم لم تفرقوا شيعا وأحزابا؟ أليست الفرقة مذمومة؟ فهذه الفرقة التي تمارسونها في الجماعات والأحزاب أليست فرقة؟ بل هي فرقة تصرف عن الهدى أكثر من صرف تشتت هذه الدول عن الهدى، وهذا ظاهر، سببه اتباع الهوى سببه تزيين سوء العمل، سببه أن المواجهة التي كل الجماعات واقعة فيها -يعني الجميع في مواجهة- أن المواجهة جُعلت عصرية، إذا كان المواجهة عصرية فإذن طريقتي في المواجهة اجتهادية وطريقة الآخر اجتهادية والثالث اجتهادية.
فإذن من كل جماعة لا تعجب أن تنشأ جيوب واتجاهات، لم؟ لأننا جعلنا المواجهة اجتهادية وعصرية، فإذا كان ثم ثلاثة أربعة عشرة يرون رأيا في سبيل من سبل المواجهة، وليس على هذا الرأي أهل الفرقة الأصلية أو الجماعة الأصلية فلم لا يجتهدون هم ويجعلون أنفسهم جماعة يرون أن المواجهة تكون على هذا المنوال.
لماذا خصصت هذه المسألة بالذكر؟ لأن في الوقع من معايشة الشباب في هذه البلاد وفي غيرها وُجدت أن هذه المسألة هي أكثر المسائل( } محرم { )
لا يلزمنا أن تكون مواجهتنا عصرية هذه المسألة التي البلاء فيها اليوم واقع، الناس يعني من على منهج أهل السنة فيها فريقان:
منهم ومن عنده طمأنينة والحمد لله لما دل عليه الكتاب والسنة والبينات فيما في معتقد أهل السنة في طريق إنكار المنكر والكلام على منابذة أهل السنة والجماعة المتابعين للسلف الصالح لطرق الخوارج المعتزلة في الموقف من الولاة ونحو ذلك.(15/18)
وطائفة أخرى اعتراها بعض الشكوك، اعتراها بعض عدم الطمأنينة والقناعة بما دلت عليه البينات، وما جاءت الأدلة وما ذكره أهل السنة والجماعة في عقائدهم، فصاروا إلى مسألة المواجهة والموقف من الحكام مثلا والحكومات الكافرة أو من الولاة الولاة الذين لم يسلب اسم الإسلام وفي الإيمان، ينظرون إلى أن الموقف منهم والمواجهة تكون اجتهادية، وقع في بعض القلوب بعض الاشتباه خاصة عندنا الشباب السعوديين، فذهبوا مذاهب شتى خاصة المذهب الذي يقول أو الاتجاه الذي يقول: إن المواجهة عصرية.
هذه الطائفة الواقع أنه قصّروا في العلم؛ لأن الواجب أن المرء إذا كان عنده شبهة أن يسعى في إزالتها وكشفها، لا أن يجتهد برأيه ويخرج عما دلت عليه الأدلة إلى رأي رآه، إذا ما زالت الشبهة في يوم أو في أسبوع أو في شهر، ليس معنى ذلك أن تترك ما تعلمه أنه الحق لأجل جديد؛ لأجل كثرة المتكلمين به؟ لا؛ بل الواجب أن تبقى على ما كنت عليه إذا قع في القلب شيء من الشبهة تسعى في إزالته، تسأل أهل العلم إذا سأل واحد ولم يكن عنده جواب شافي، اسأل الثاني والثالث لابد أن يكون العلم النافع محفوظا في المتابعين للسلف، إذا جهله بعضهم فلن يجهله الآخرون.
إذن فأقول إنّ هذه الآية وهي قوله تعالى ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ? تفرض علينا أن نكون على بينة من ربنا في أمورنا جميعا، وخاصة هذا الأمر العظيم الذي هو أمر المواجهة.
في مصر تعلمون الحوادث التي حصلت وإن كانت حوادث فردية في غالب الأحيان، اجتهادية لكنها قد يكون معجبون بها.(15/19)
أقول من رحمة الله جل وعلا للسلفيين أن هيأ لهم من عنده البصيرة ومعرفة للنصوص ومتابعتها حتى لا تفجعهم هذه الأمور؛ لأن هذه الأمور التي تحدث السياسية أو القلاقل من بعض الإسلاميين أو في المواجهات أو بعض الجماعات ونحو ذلك، هذه قد يعلم قوة [...] الأشخاص، فإذا كان عندك من يقوده قيادة صحيحة فهذا من أنواع منة الله جل وعلا علينا، لهذا لو كان المرء لوكل في نفسه لتخطفته الأقوال والآراء الكثيرة التي نراها اليوم.
لهذا أوصي في آخر هذه الكلمة التي طالت، أوصي أن نكون على بينة من ربنا في جميع أمورنا، البينة قائمة والحجج واضحة؛ لكن المطلوب من العبد أنه يسعى في أن تكون نفسه مطمئنة بتلك البينات؛ لأن النفس إذا كانت مطمئنة لم يصرفه أحد لا يمنة ولا يسرة.
واليوم كثرت الأقوال وكثرت الآراء وكثرت الكتب وكثرت المجلات وكثرت النشرات وكثرت المحاضرات، وإذا سمعت لكل أحد فمعنى ذلك أنك عرضت دينك للتنقل، كما قال الإمام مالك رحمه الله من أكثر الخصومات أكثر التنقل، من أكثر الخصومات يعني أكثر السؤال والخصومة في المسائل أكثر التنقل.
وقال أيضا: إذا رأيت أهل الجدل فإياك وإياهم. قال رجل له يعني للإمام مالك: أرأيت الرجل منا يكون معه السنة أيجادل عليها؟ قال: لا، يخبر بالسنة، فإن قبلت منه وإلا سكت، لم؟ لأن من ليس معه السنة، لن يجادلك بالسنة، سيجادلك بالرأي بالهوى وبالعقل، والمجادلة بالرأي والعقل والهوى تصرف كثيرين؛ لأنه ليس عند أكثر الخلق قوة العقل والإدراك ما تكون الحجة العقلية مدفوعة بحجة عقلية أخرى، فلهذا يكون الأمر على الإخبار بالسنة.(15/20)
في هذا الوقت كثرة المجادلين وكثر الآراء يجب علينا بعد أن من الله علينا تكرما منه وتفضلا، أن نكون على اطمئنان بما عليه سلفنا، على اطمئنان من عقائدنا، على اطمئنان بما جاء وذكره أئمتنا ومشايخنا وعلماؤنا، وأن ننصرف عنه، لا برأي ولا باجتهاد ولا بعقل؛ لأن هذا لا الطريق تابعنا فيه والمتابعة عبادة، وأصحاب الطرق الأخرى اجتهدوا والاجتهاد في هذه المسائل مردود مذموم إلا إذا كان اجتهادا فيما ليس فيه نص.
السلفيون إذا تابعوا فإنهم بإذن الله جل وعلا لن يعاقبوا، قد يبتلون ابتلاء من الله جل وعلا للتمحيص، لكن إذا تابعوا وحرصوا كدعوة أن يَلتزموا بها وأن يُلزموا من معهم بها بأصولها وعقائدها ومنهجها فإنهم بإذن الله وبتوفيقه لن يعاقبوا، إذا ابتلوا فالابتلاء لاشك قد يقع بأكمل الناس.
إذا نظرت إلى غيرهم فإنهم قد خلط في حقهم بين العقوبات وبين الابتلاء.
ولهذا نعود وأكرر أنه في خضمّ هذه الموجات العالية في هذا الوقت والاتجاهات المتباينة الوصية الوصية بالمتابعة للمتقدمين، والوصية الوصية بالحذر من المحدثات وأصحاب المحدثات خاصة في هذا الطريق الجديد أول كلمة جديدة التي قيل فيها عصرية المواجهة.
عصرية المواجهة أوش معناها؟ يعني إذا احتجنا في المواجهة إلى مظاهرات؟ لا بأس نعمل مظاهرات، نعمل، عصرية، إذا ما خرج السلف نخرج؛ لأن هذا من أنواع المواجهة العصرية، الزمن اقتضى ذلك، الأوضاع والارتباطات وواقع الدول ونحو ذلك اقتضى ذلك، فهذه المسائل وما يدخل تبعا لها من اجتهادات وآراء، لابد أن نكون معها على بينة.(15/21)
المسألة الأخيرة الحذر الحذر من الاستعجال؛ لأن مما يُغرى بها السلفيون أنهم بطيئون، بطيئون يمشون في دعوتهم مشي كما يقال مشي [...] بطيئين ما أحدثوا وما غيروا ما عملتم، ماذا قدمتهم؟ كيف واجهتم هذا الطغيان؟ كيف واجهتم هذا الظلم؟ كيف واجهتم هذه الحكومات الظالمة الحكومات الفاسدة التي فعلت وفعلت؟ كيف واجهت هؤلاء الطغاة والحكام؟
تأتي هذه الأسئلة ويأتي كثير من السلفين ويحتار، إذا كان على طمأنينة فيعلم أن المقصود أن يكون متابعا لا المقصود أن يصل إلى الغاية، إذا كان من أصحاب الاعتقادات من أصحاب المجادلات أو السماع فإنه قد يغرى بتلك الكلمات.
فإذن الحذر الحذر من الاستعجال، فإن ميزة المنهج السلفي في هذا الوقت أنه منهج يسير على خطاً ثابت في دلائلها ليس من المنهج العجل ولا يستخفه الحوادث ولا تستخفه المواقف ولا التغيرات، إنما سيسر بالمنهج واضح، حادثة تغيرات سياسية أقوال حوادث، يعلم دعاة السلفيين وقادة الدعوة أنه في عمر الدعوة قصيرة؛ سنة سنتين ثلاث، مثلا أزمة الخليج مرت سنة سنتين ثلاث هي في عمر الدعوة قصيرة، كيف أجعل الدعوة التي عمرها طويل أجعلها في طواعية هذه الأزمة التي ستنتهي قريبا؟ كيف أجعل الدعوة منفعلة بحادث منفعلة بموقف منفعلة بأحداث؟ لا يجوز ذلك.
الدعوة تسير على أصولها، ولا تنفعل بالأحداث ولا تتأثر بها، تؤثر الدعوة السلفية بالأحداث ولا تتأثر بها.(15/22)
وهذه الجملة لعلي أفصل الكلام عليها في المرة القادمة، وهي أعني هذه الجملة هي: أن الدعوة السلفية تتميز وتأثيرها في الأحداث وعدم تأثرها بالأحداث.بخلاف الدعوات الأخرى، الدعوات الأخرى مواقفها منفعلة بالأحداث، خططها المستقبلية الدعوية المرحلية تنفعل مع الأحداث، بحسب ما يجد يجددون، بحسب ما يحدث يفعلون، وهذا لاشك أنه ليس من طرق السلفيين، وبسب ما يظن أن طرق السلفيين وطريق الدعوة السلفية هو الذي هو الأمر الذي أمرنا به، وهو أن تكون طريقتنا على المنهج الصحيح سنصل ما نصل تحصل الغاية ما تحصل ليس علينا ذلك.
استغفر الله جل وعلا لي ولكم من زغل القول وزغل العمل وأسأله لي ولكم التوفيق والسداد.
وصلى الله وسلم وعلى نبينا محمد.
?????
هذه الآية وهي قوله تعالى ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ?[غافر:55]، فيها أن الله جل وعلا وعده حق، وهذا الوعد لا شك أنه سيكون؛ يعني ما وعد الله جل وعلا به حاصل لا محالة، وما قدّره الله جل وعلا على العباد إما من ابتلاء ومصايب أو من تأخر موعود الله جل وعلا، أو من بعض ما لا يؤنسهم في الدنيا، هذا ليس إلى العبد إنما هو من الله جل وعلا، والذي على العبد أن يسعى فيما أمر به شرعا، وأن لا ينظر إلى ما يجعله الله جل وعلا قدَرا، فثم شرع شرعه الله جل وعلا وهو أمر هذا نحن مكلفون به امتثالا له واتباعا وطاعة، وأن ما يفعله الله جل وعلا ويخلقه ويقضيه ويقدره فهذا ليس إلينا، قال جل وعلا ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60] وقال جل وعلا ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ?[الأحقاف:35].(15/23)
بهذه الآيات جميعا تلحظ فيها أن الله جل وعلا يصرف العباد عن رؤية ما قدّره إلى رؤية ما شرَعه؛ يعني امتثالا واتباعا، في آية سورة المؤمن هذه قال جل وعلا ?وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ?[غافر:55]، قبلها قال جل وعلا ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?[غافر:51]، هذا وعد الله هذا وعد، الذين آمنوا بنص الله جل وعلا أنهم منصورون ?وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ?[الصافات:171-173]، هذا وعد الله قال جل وعلا ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ? وعد الله بذلك حق وعليك الصبر، ما الذي تؤمر به؟ قال جل وعلا ?وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ? والاستغفار والتسبيح في هذا الموضع؛ يعني ملازمة الهدى وترك كل السيئات والبعد عن جميع ما لا يحب الله جل وعلا ويرضى، فأمر بالاستغفار وبملازمته والاستغفار يحدث الطمأنينة ويحدث البصيرة وينزل توفيق الله جل وعلا على العبد، فبالاستغفار يتّضح الأمر، وبالاستغفار يقوى العقل، لهذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله ابن تيمية: ربما استعصت عليّ المسالة في مسائل العلم فأستغفر الله ألف مرة حتى يفتح لي مغلقها. يستغفر لأجل الفتح، فبالاستغفار يتيسر الأمر، موعود الله جل وعلا القدري لابد أن يكون؛ لكن على العباد أن يسعوا في وسيلته، ومن وسائله أن يكونوا مستغفرين لله جل وعلا، واستغفار الله جل وعلا استغفار العبد ربه فيه أن العبد محتاج إلى ربه، فيه أن العبد يستعظم لذنبه، فيه أن العبد محتاج إلى ربه، ففي الاستغفار عبوديات قلبية متنوعة، الاستغفار فيه ذل العبد لربه، الاستغفار فيه استكانة العبد وانكساره بين يدي ربه، وفي(15/24)
التسبيح بعده ملازمة الهدى والطاعة قال ?وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ? ملازمة الطاعة، إذن فأنت مأمور بملازمة الطاعة، وأما رؤية القدر متى يكون قدر الله متى يكون ما وعد الله جل وعلا به، فهذا ليس لنا وإنما عليك وإليك الصبر لا غير. والله أعلم.
على كل حال الأخ يطلب الشريط أنه يؤذن في توزيعه يكون بشرط أن يراجعه الشيخ أحمد والشيخ وليد يراجعان الشريط مرة أخرى، فإن رأوا أنه مناسب الأخطاء لأن المتكلم قد يخطئ أو قد يوجد أخطاء ليس لها تبعة لمن يسمعه فلا بأس وإذا كان في ذلك فلا يجوز.
الشريط بالمناسبة أخاف منه أنا كثيرا، ولذلك في الدروس والمحاضرات سواء في الرياض أو في غيرها أسحب الشريط أو لا أأذن بالتسجيل، والسبب أن تبعاته كبيرة جدا لهذا إذا روجع الشريط من قبل من يحسن الفهم والتصور وقال أنه مناسب لا بأس.
بعامة أي شريط تسمعونه تسمعه لي وفيه شيء أخطاء من الأخطاء فلا أسمح بتاتا ولا أبيح من يساعد في نشره، هذه وصية للجميع سواء هنا أو في مصر في أي مكان.
هذه وصية أظن مقبولة؛ لأن هذه المسألة ليست سهلة عندي لأن الأخطاء هناك أخطاء تكون مثلا زلة لسان ما لها تبعة؛ لكن أحيانا خطأ لفهم، تكلم في مسألة ذهب ذهنه المتكلم إلى شيء آخر فقررها خطأ، هذا لا ما أسمح به؛ لأن المتكلم أحيانا يخطئ، ما بلغنا من العلم أن تكون جميع المسائل التي نذكرها من الوضوح بحيث يكون الخطأ فيها نادر أو قليل.
لهذا نقول: إن المسائل التي ذكرتها فيها خطأ ولو كان خطأ لسان لكن يُتصور عند السامع أنه ليس خطا لسان أنه تقرير؛ فهذه لا يؤذن بنسخ الشريط ولو كان خطأ واحد والبقية كله نافع. إلا إذا رأيتم حذفها ونحو ذلك بمسح الشريط هذا يرجع لكم.(15/25)
وأرى أن هذه ما تقتصر علي أيضا على جميع المشايخ وطلاب العلم؛ لأن الشريط تبعته عظيمة يسمعها ألف ألفين عشرة آلاف، موش سهلة، أليس كذلك المسألة عظيمة لهذا الكلام المسجل حجة أكثر من الكلام المسموع لأن الكلام المسموع إذا التبس عليك فهمها، خلاص انتهت سمعتها مني وانتهت فتصحيحها أو فهمها مرة أخرى فتصحح، أما شريط ترده مرة مرتين ثلاث مرات فيوقع في الالتباس.
وكثير من الذين وقعوا في التباسات في الفهم من جراء بعض المحاضرات في الأشرطة لأنهم ظنوا أن كل معلومة في الشريط ما لم تكن من العلماء الكبار المحققين أنه كلها صحيحة فينبغي الحذر في هذا.
?????
س/ سبب اللجوء ما سبب لجوء الشباب إلى هذا المصطلح الجديد عصرية المواجهة رغم سلفية معتقدهم؟
ج/ هناك أسباب عدة، منها ما رأيتم الإفصاح عنه في هذا المجلس ومنها ما لا يمكن بيانه.
من تلك الأسباب ضيق النفس في الواقع والرغبة في الخلاص منه، الواقع في الأمة اليوم ويعيشه المسلمون سواء من جهة الأحكام أو من جهة الناس أو من جهة الحكومات، هذا لاشك أنه واقع يضغط على نفس أي مؤمن في قلبه اهتمام ويَقصره ربما على أشياء أكبر، ما لم يكن عنده قوة من اليقين والعلم بتوفيق الله جل وعلا، هذا الضغط أنتج أشياء منها الرغبة في الخلاص من هذا الواقع المرير، الرغبة في الخلاص في هذا الواقع المرير، لأجل الخلاص من هذا الواقع المرير تنوعت الفئات والاتجاهات والجماعات، فصار السبيل للخلاص منه يختلف فيه الناس، أحد تلك السبل أو السبيل من تلك السبل خرجوا على المعتقد الصحيح خرجوا بهذا المصطلح فمن أسبابه ضغط الواقع.(15/26)
من أسبابه بالنسبة ظهور المصطلح قلة العلم؛ لأن العلم كلما كان قويا كلما جعل الله في نفسه أقل في الاجتهاد أكثر، فتجد أن العلماء الكبار أقل من الشباب اجتهادا والشباب أجسر في الاجتهاد من العلماء المتقدمين؛ لأن العالم كلما رسخت قدمه في العلم كلما كان أحرص على المتابعة، لم؟ لكي يخلص من التبعة، يعني تبعة الاجتهاد الآراء الأقوال ليست بسهلة، يتبعه واحد عشرة ألف ألفين ثلاثة آلاف ليست بسهلة، فكلما كانت قدم العالم أرسخ كلما كان خلوصه عن الاجتهاد أكثر، ورغبة في الاتباع إلا إذا وجد أنه لا مناص من الاجتهاد في المسألة لعدم مجيئها في النص.
س/ يقول السائل: ..سلفية معتقدهم؟
ج/ سلفية المعتقد في الواقع كلمة مطاطة، سلفية المعتقد كلمة فيها شيء من السعة، بحسب رغبة المتكلم؛ لأن السلف لهم أبواب في مسائل الإيمان باب، باب الإيمانـ الأسماء والصفات باب من أبواب المعتقد، نتهج التلقي من أبواب المعتقد، الكلام في الغيبيات وما يتعلق بها هذه من أبواب المعتقد، هذه الأبواب تجد أن الملتزم بها اليوم كثير.
لكن هناك أبواب كتب العقيدة للسلف منها مثلا في مسائل الإمامة والولاية وما يتعلق بها، منها مسائل إنكار المنكر ومخالفة أهل السنة والجماعة للمعتزلة وللخوارج وما شابههم في طرق إنكار المنكر، ومنها الكلام في الأخلاق وما يتبع ذلك، لشيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية هذه ذكر عدة أشياء، منها فصل في الإمامة وما يتعلق بها، وفصل في إنكار المنكر وما يتعلق به، مخالفة أهل السنة للمبتدعة في ذلك، ومنها كلامه في الأخلاق وما يتعلق بذلك، ومنها أن أهل السنة والجماعة يبغضون التفرق والتحزب ويأمرون بالاجتماع والائتلاف.(15/27)
إذن إذا قالوا: نحن على معتقد السلف الصالح، نقول: الاختبار أن نأخذ أبواب معتقد أهل السنة والجماعة نبحث فيها الباب الأول الباب الثاني إلى أن تصل إلى هذه الأبواب، هل يلتزم بها أولئك بهذه الأبواب، تجد أنهم مثلا إذا أتت إلى مسائل الإمامة يفسرونها بالإمامة العظمى؛ يعني بعضهم يفسرون الإمامة الإمام الذي له الحق الإمام الأعظم الذي تجتمع عليه الأمة، وهذا مخالف لما جاء في السنة، مثلا في مسائل إنكار المنكر فيه أشياء مخالفة لما ذكروا.
حتى إنه من العجيب أن بعضهم استدل للمظاهرات وتجويز المظاهرات في الدعوة وأنها وسيلة من وسائل الدعوة بأي شيء؟ بما نقل في التاريخ بأن عوام بغداد خرجوا وفعلوا كذا وكذا، يعني أهل بغداد خرجوا وفعلوا وكسروا، وأهل دمشق خرجوا وعملوا ، هذا منهج جديد من الاستدلال.
نقل عن عوام في بلد من البلاد، يقولون: لم يزل التاريخ يحدثنا أن أهل دمشق خرجوا واجتمعوا إثارة للواليـ ولم يزل التاريخ يحدثنا أن أهل بغداد خرجوا حتى ذهبوا...
ما هذا يعني دخول مسألة مقررة ويذهب يتلمس إلى شيء من التاريخ، والعجب أن يقتنع ناس بمثل هذا.
كيف فهت أنها دليل على المظاهرة، المظاهرات ما هي؟ ليست إظهار الدين، المظاهرة المطالبة بأشياء، المشكلة هذا تلمس، واحد يكون على شيء مقرر عنده شيء، ويبحث إذا قرأ في السيرة شيء قال هذا ...
عنده مبدأ السرية يأتي إلى قصة أبو بكر وأنه لما أتت أحد الصحابيات، أحد الصحابيات أتت تسأل عن أبي بكر....(15/28)
المقصود أن حال بحادث سيرة أُستدل به على السرية، سمعنا الاحتجاج به في وقت مضى، يأخذون مثل هذه الحوادث التي عند أهل العلم تحتمل أشياء كثيرة لا يكون بها الاستدلال ولا الحجة ولا البرهان، فتجد أنه يقرر عنده شيء وهذا اتباع الهوى أنه تقرر عنده شيء وطريقة اجتهادية عقلية أخذها لنفسه، وإذا ناقش أو حصل سؤاله كيف، ذهب يتلمس هذه من السيرة هذه من كلام العلماء، هذا بلا شك ليس هو سبيل الاحتجاج الصحيح، الحجة الصحيحة واضحة من الله جل وعلا وبكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كلام الصحابة ولا معارض له، أو من كلام أحد أئمة أهل السنة، وأيضا لا يخالفه في الدليل.
نختم بهذا، وأرجو أن يصير اللقاء
?????
أعد هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1]) انتهى الشريط الأول.(15/29)
مقاصد السّور وأثر ذلك
في فهم التفسير
[شريط مفرّغ]
والتفسير أبوابه كثيرة ومختلفة، ولكن قلَّت العناية في هذا الزمن بالتفسير؛ لأنّ كثيرين يظنّون أنّهم يعلمون كلام الله جل وعلا، ولا شكّ أنّ الذي يعلم كلام الله جل وعلا، ويعلم معانيه، ويدرك مراميه وإعجازه وبلاغته وما فيه، سيكون ملتذًّا بهذا القرآن مقبلا عليه، يطمئن قلبه وينشرح صدره حين يقبل على هذا القرآن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، و?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا?[الكهف:1]، حمدا كثيرا دائما ما تتابع الليل والنهار، كلّما حمد الله جل وعلا الحامدون، وكلّما غفل عن حمده سبحانه الغافلون.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل ربي جل جلاله -وهو المجيب لمن سأل، والمعطي لمن أقبل- أن يجعلني وإياكم ممن بارك قولهم عملهم، وأن لا يكلنا لأنفسنا طرفة عين، وأن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يُلزمنا كلمة التقوى في الحياة والممات، إنّه سبحانه جواد كريم.
كما أسأل ربي جل وعلا أنْ ينفعني وإياكم بما نسمع أو نقرأ من العلم، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، وأن يقيمنا على دينه ما أبقانا.
ثم إنّ من أنواع البركة التي يُفيضها الله جل وعلا على خاصة عباده أن يمن عليهم بمحبة العلم، ومحبة تداركه، والإقبال على ذلك، وحقيقة العلم هو العلم بكتاب الله جل وعلا وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذْ لا أرفع بالكلام ولا أعظم قدْرا من كلام ربنا جل وعلا، ولا أعظم ولا أرفع بعده من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم، فالموفَّق والمبارَك من علم وعمل واجتهد في ذلك حتى يصيب منه ما كتب الله له، «واعملوا فكل ميسر لما خلق له».(16/1)
ولهذا وصف الله جل وعلا كتابه بأنه مبارَك، وجعل من أصناف بركته التي أنزلها سبحانه وتعالى أنْ أنزل هذا الفرقان، كما قال سبحانه ?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا?[الفرقان:1]، وكما قال جل وعلا ?كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?[ص:29]، وقال أيضا جل جلاله ?وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ?([1]) ونحو ذلك من الآيات التي فيها وصف القرآن بأنه مبارك؛ يعني كثير الخير لمن أقبل عليه، ففيه شفاء الصدور، وفيه شفاء القلوب، وفيه الهداية، وفيه التوفيق لمن أرد الله جل وعلا أن يوفقه.(16/2)
وفي الآية التي ذكرنا وصف الله جل وعلا كتابه بأنه مبارك وأنه أنزله لأمرين فقال سبحانه في سورة ص (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) واللام هنا هي لام (كي)؛ يعني أن العلة من إنزال القرآن وجعله مباركا أن يتدبر العباد هذا القرآن؛ أن يتدبروا آياته، ثم لكي يتذكر أولوا الألباب، وهذا فيه عِظمُ شأن تدبر القرآن وعِظمُ شأن التذكر حين التلاوة، وهذا إنما يكون بالتدبر، فلا تذكر إلا بتدبر القرآن، ولكن خَصّ الله جل وعلا في التذكر؛ خَص أولي الألباب فقال (وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)، وفي الحقيقة أنّ الذي يتذكر بعد التدبر ويقبل على القرآن هو العاقل وهو ذو اللب؛ الذي بلغ الغاية في ذلك، وقد سئل أحد سادات التابعين في الكوفة، فقيل له -أظنه إبراهيم النخعي- فقيل له: من أعقل الناس؟ من أعقل الناس؟ فقال: أعقل الناس فلان الزاهد. فذهبوا لينظروا من عقله، ولينظروا من أمره، فما وجدوه إلا مقبلا على القرآن، وعلى أمر آخرته، فعُلم أن قصد إبراهيم أنّ أعقل الناس هو من أقبل على أشرف الكلام، وأقبل على أشرف مقصود وهو الدار الآخرة، ? تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ?[القصص:83] فحضّ الله جل وعلا في هذه الآية على تدبر القرآن.
وموضوع هذه المحاضرة أثر من آثار تدبر القرآن عند أهل العلم؛ لأنّ الموضوع الذي سنتناوله يبحث في: علم مقاصد سور القرآن وأثر هذا العلم بالمقاصد في فهم التفسير.(16/3)
ومعلوم أن التفسير إنما هو بتدبر القرآن، فالذي يعلم التفسير لا شك أنه قد تدبر قبل ذلك، فعلم إذا كان عنده أهلية بالعلوم التي ينبغي توفرها في المفسر، والناس بعد ذلك نقلة أو يتلقون ما قاله المفسرون، فلما حضّ الله جل وعلا على تدبر القرآن وجب حينئذ أن يُقبل العباد بعامة وأن يُقبل العلماء بخاصة على هذا القرآن، ليخرجوا كنوزه؛ لأن القرآن حجة الله الباقية إلى قيام الساعة، ويخرج منه بقدر العلوم وبقدر ما فتح الله على عبده يخرج منه من الفهوم ومن العلم؛ ما هو تفصيل وبيان لبعض كلمات المتقدمين من الصحابة والتابعين مما قد لا يدركها كل أحد، وهذه الجملة يأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
فإذن علم التفسير من العلوم المهمة، وها أنتم تستقبلون دورة علمية، أو دروسا علمية في هذا المسجد المبارك في علوم شتى؛ من علم التوحيد، والحديث، والمصطلح، ونحو ذلك مما هو معلوم، وعلم التفسير أيضا أنتم بحاجة إليه؛ لأنّ القرآن هو أعظم ما يقبل عليه، فإذا علمت القرآن علمت الشريعة، ولهذا قال طائفة من العلماء: المفسر يحتاج إلى علوم كثيرة:
?منها علم اللغة؛ لأن القرآن أُنزل بلسان عربي مبين ?حم(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ?[الزخرف:1-4]، واللغة أقسام: منها النحو، ومنها علم المفردات، ومنها البلاغة بأقسامها الثلاثة، منها [الاستقراء]، إلى آخر علوم اللغة.
?ثم علم التوحيد الذي هو الأساس، فالقرآن كله في توحيد الله جل وعلا، من أوله إلى آخره كله في التوحيد، وذلك أن القرآن:
? إما أن يكون ما فيه خبرا عن الله جل وعلا؛ وعن صفاته سبحانه وتعالى، وعما يستحقه جل وعلا من توحيده بالعبادة، والبراءة من الشرك وأهله، ونحو ذلك، فهذا واضح بأنه في توحيد الله جل وعلا.(16/4)
? وإما أن يكون ما فيه خبرا عن أنبياء الله جل وعلا وعن رسله وعن قصصهم، فهذا خبر عن أهل التوحيد، وما جعل الله جل وعلا لهم؛ جعل لهم في الدنيا من الأحوال والعاقبة ?وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[فصلت:18].
? وإما أن يكون وهو القسم الثالث؛ أمرا ونهيا؛ أمر بأداء الفرائض، ونهي عن ارتكاب المحرمات، وهذا في حقوق التوحيد ومكملاته؛ لأن من وحد الله جل وعلا أطاع الله في أمره وانتهى عن نهيه وتخلص من داعي شهوته وهواه.
? والأمر الرابع خبر عن الأمور الغيبية، وما يحصل بعد الممات من النعيم والعذاب، ومن الجنة والنار، ومن [الحظور والشرور]([2]) لطائفة، ومن العذاب والنكال لطائفة، فهذا جزاء الموحدين وهذا جزاء المشركين.
وهذا المعنى العام من العلوم المهمة للمفسر؛ لأن سور القرآن لا تخرج عن هذه الأحوال الأربعة، فكل سورة إما أن تتناول هذه الأقسام الأربعة، وإما أن يكون فيه؛ يعني في السورة بعض من هذه الأقسام.
?والعلم الثالث العلم بالسنة لأن السنة مفسرة للقرآن ومبينة له.
?والعلم الرابع العلم بالفقه وأحكام الحلال والحرام والعبادات والمعاملات؛ لأن القرآن فيه آيات كثيرة في هذا الباب.
?والعلم الذي يليه؛ علم الجزاء يوم القيامة وأحوال الناس فيه، وهذا في القرآن منه الشيء الكثير.
? ثم علم أصول الفقه والعلوم المساعدة لأصول الفقه؛ لأن بها فهم كثير من آيات الله البينات.
إذا تبين لك هذا فإن المفسر الذي تكونت عنده حصيلة راسخة من هذه العلوم يمكنه أن يتدبر القرآن، وأن يكون مستخرجا لما فيه من الدلالات والعبر وموضوعات السور ومقاصد الصور، كما سيأتي بيانه، مكتفيا في ذلك بما فسّر به الصحابة والتابعون كتاب الله جل وعلا.(16/5)
لهذا فإن موضوع هذه المحاضرة هو موضوع في التفسير، والتفسير أبوابه كثيرة ومختلفة، ولكن قلَّت العناية في هذا الزمن بالتفسير؛ لأن كثيرين يظنون أنّهم يعلمون كلام الله جل وعلا، ولا شك أن الذي يعلم كلام الله جل وعلا، ويعلم معانيه، ويدرك مراميه وإعجازه وبلاغته وما فيه، سيكون ملتذا بهذا القرآن مقبلا عليه، يزن قلبه وينشرح صدره حين يقبل على هذا القرآن.
إذن فالوصية في مقدمة هذه الدروس العلمية أن يهتم الجميع في القرآن حفظا وتلاوة، ثم الاهتمام بتدبر القرآن وتفسيره عبر كتب التفسير المعتمدة، وخاصة كلام الصحابة والتابعين وتابعيهم والمأمونين من أئمة أهل العلم والدين والتفسير.
الموضوع كما سمعتَ؛ مقاصد السور، العلم بمقاصد السور لم ينص عليه الأوائل، وإنما اعتبره الصحابة والتابعون –بالاستقراء-، اعتبروه في تفسيرهم، ولكن لم ينص على هذا العلم بهذا الاسم إلا عند المتأخرين، وذلك شأن جميع العلوم، فإن العلوم كانت ممارسة عند السلف، لكن لم تكن التسمية موجودة، فعلم النحو كان ممارسا ولم يكون موجودا، البلاغة كانت ممارسة ولم تكن موجودة، علم أصول الفقه كان ممارسا في بعض الأحكام من القواعد الأصولية ولم يكن موجودا بهذا الاسم، وهكذا في علوم القرآن في أنحاء شتى، ومصطلح الحديث وعلوم أخرى.(16/6)
فما المقصود بعلم مقاصد السور؟ معلوم أن الله جل جلاله هو الذي تكلم بهذا القرآن وأن القرآن كلامه ?وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ? فالقرآن كلام الرب جل جلاله، ومقاصد السور يُعنى بها عند أهل هذا العلم: الموضوعات التي تدور عليها آيات سورة ما. يعني أن سورة من السور التي في القرآن أو أن معظم السور أو كل السور لها موضوع تدور عليه الآيات والمعاني التي في هذه السورة، إذا عُلم هذا المقصد؛ يعني هذا الغرض هذا الموضوع، فإن فهم التفسير سيكون سهلا، بل سيفهم المرء كلام الأولين، وسيفهم كلام المحققين بأكثر مما إذا أخذ الآيات مجردة عن موضوع السورة كما سيأتي في مثال نستعرضه إن شاء الله تعالى.
وأصلا في بحث مقاصد السور لم يكن بحثه في تاريخ العلم مبكرا، فإنما بحث قبله بُحث يسمى المناسبات، والعلماء اختلفوا في موضوع المناسبات، ويعنون بها مناسبات الآي؛ هل الآية هذه جاءت بعد الآية لمناسبة؟ هل بين الآية الأولى والثانية رابط؟ والثانية والثالثة بينها مناسبة؟ هل هذه الآيات في نظامها بينها وبين موضوع السورة اتصال؟ هذا يبحث في علم التفسير ويبحث في إعجاز القرآن، ولهذا عد طائفة من العلماء أن من وجوه إعجاز القرآن، وهو المنزل آية وبرهان ومعجز للخلق أجمعين، أنّ من وجوه الإعجاز أن يكون للسورة موضوع تدور عليه، وأن يكون بين الآيات ترابط هذه الآية بعد تلك، هذه القصة بعد تلك لغرض معلوم.
لهذا قلّ من يطرق هذا الموضوع من المفسرين أو من العلماء ولعدم كثرة طرقه أسباب منها:(16/7)
أولا: فيه نوع من الجرأة على كتاب الله جل وعلا، ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أنّ السور ليس لها موضوعات، وإلى أنّ الآيات لا تناسب بينها، وهذا قال به قليلون وغُلطوا في ذلك، فموضوع السورة يحتاج إلى قراءة السورة عدة مرات وتدبر ذلك ومعرفة كلام العلماء في التفسير حتى نفهم هذه السورة ما الموضوع الذي تدور عليه.
السبب الثاني: أن كثيرين من أهل العلم لم يتناولوا التفسير إلا عبر مدرسة تفسير الآيات، ومدرسة تفسير الآيات منقسمة إلى مدرستين؛ مدرسة التفسير بالأثر ومدرسة التفسير بالاجتهاد، وكلها راجعة إلى تفسير الآية وتفسير الكلمات في الآيات، أما الربط بين الآيات فلم يكن من مدارس التفسير المعروفة، ما صار له ذكر ولا قوة عند أهل العلم بالتفسير.
والسبب الثالث في عدم اشتهار هذا الموضوع: أن من تجرأ وكتب فيه من أهل العلم، وقال: إن للآيات تناسب وإن للسور موضوعات. رد عليه طائفة من العلماء وغلطوه بل ورموه بالقول على الله جل وعلا بلا علم، فهاب كثيرون أن يدخلوا هذا المضمار؛ لأجل براءة الذمة، ولأجل ألا يحملوا أنفسهم ما لا يطيقون، وهذا مقصد صائب.
ولغير ذلك من الأسباب.
ولهذا نقول العلماء في موضوع تركيب الآيات، والتناسق بين الآيات، وأن هذه الآية بعد هذه الآية لغرض، وأن هذه القصة بعد هذه القصة لغرض، وأنّ القصة لها موضوع ومقصد، اختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقوال:
أما القول الأول: وهو أنه لا تناسب بين الآيات، بل تنزل الآية بحسب الوقائع، وتوضع في المصحف بحسب ما يأمر الله جل وعلا جبريل به فيأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ضعها في سورة كذا في موضع كذا، وأنّ هذا بحسب الوقائع وحسب الأحوال، ولا يقتضي ذلك تناسبا بين الآية والآية، وصلة بين الآية والآية.(16/8)
والقول الثاني: أنّ سور القرآن لا تخلو سورة إلا ولها موضوع، وليس ثم آية وبعد آية إلا وبينها تناسب وصلة، وأنه بين أول السورة وبين ختام السور تناسب، وأنه بين آخر السورة وأول السورة التي تليها تناسب واتساق في الموضوع، وأنه إلى آخر الأسرار واللطائف في علم التفسير، مما جعلوا ذلك لا يخرج عنه شيء البتة، وهذا قول قليلين من أهل العلم منهم البقاعي فيما صنف في نظم السور، والسيوطي وجماعة ممن قبلهم وبعدهم.
والقول الثالث: وهو القول الوسط وهو أعدل الأقوال، أنّ سور القرآن منها سور يظهر للمجتهد؛ يظهر للعالم بالتفسير، يظهر له موضوعها، ويظهر بين آياتها من التناسب، فهذا إذا ظهر لا حرج في إبدائه؛ لأنّ الله جل وعلا جعل القرآن محكما ?الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ?[هود:1]، فالقرآن كتاب لو بحثت فيه عن خلل لو بحثت فيه عن عدم اتساق لن تجد ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?[النساء:82]، فإذا ظهرت المناسبة وظهر الموضوع فلا مانع أنْ يقال هذه السورة موضوعها كذا، وهذه الآية بينها وبين ما قبلها المناسبة الفلانية، بحسب ما يظهر للعالم بالتفسير وللمجتهد، دون أنْ يكون الهمّ تطلّب ذلك والتكلف فيه؛ لأن التكلف فيه قد يُفضي إلى القول في المسألة بلا علم والاجتهاد فيما لا طائل منه وقد يكون الاختلاف فيه كبيرا.(16/9)
وهذا القول الثالث هو القول المعتدل الذي سلكه طائفة من العلماء في التفسير والعلماء بالاجتهاد، ومنهم ابن تيمية رحمه الله وابن القيم وجماعة من المحققين في التفسير، ويظهر لك صوابه فيما إذا نظرت إلى الكتب المؤلفة في مقاصد السور وتناسب الآيات والسور ونحو ذلك، فإنّ فيها أشياء متكلّفة، وفيها أشياء يتضح حسنها؛ بل إذا نظر ت إليها وتدبرت ما قيل من المناسبات والاتصال بموضوعات السور زادك يقينا بأنّ هذا القرآن إنما هو كلام الله جل وعلا، وإذا قرأت السورة أحسست بتأثير فيها ليس كتأثير من لم يعلم موضوع السورة ولا تناسب الآيات فيما يُذكر.
لهذا نقول إن هذه الأقوال الثلاثة المختار منها الثالث، وهو الذي يهم أن تعتني به من كلام أهل العلم؛ لأنّ فيه الفائدة المرجوّة إن شاء الله تعالى.
المصنفات في هذا الباب كثيرة، حتى زعم ابن العربي المالكي وهو من أهل الأندلس قد اتصل بالمشرق في فترة من عمره، زعم أنه كتب كتابا –زعم بمعنى قال؛ لأنّ زعم لا تعني التكذيب، زعم في اللغة بمعنى القول كما في الحديث الصحيح «أتانا رسولُك يزعم أنّك تزعم أنّ الله أرسلك»، قال العلماء بأن الزعم يستعمل بمعنى القول–، المقصود من هذا أن ابن العربي المالكي صاحب أحكام القرآن، وعارضة الأحوذي، وشرح الموطأ وكتب كثيرة معروفة، زعم أنه كتب كتابا في مقاصد السور وتناسب الآيات والسور وعرضه على الناس في زمانه، قال: رأيت الناس بَطَلَة لم يقبلوا عليه، ولم يهتموا له مع عظيم علمه وشرف معلومه، قال: فلما رأيت ذلك الإعراض منهم أحرقته وجعلته بيني وبين الله جل وعلا.
وكتب أيضا الرازي في تفسيره بعض المناسبات.
وإلى أنْ وصل الأمر إلى الزركشي؛ فعرض في كتابه علوم القرآن المسمى ”بالبرهان“، كتب فيه أبوابا جيدة بالتناسب والمقاصد، وهي قصيرة لكنها فيها تأصيل لهذه المسألة.(16/10)
ثم جمع ذلك مع تأمل البقاعي في كتابه الشبيه بالتفسير الذي أسماه”نظم الدرر في تناسب الآيات والسور“ وهو مطبوع في الهند، كتاب كبير في نحو اثني وعشرين مجلدا، والتزم فيه بأنْ يذكر مقصد السورة وأنْ يذكر التناسب بين كل آية والتي بعدها والتناسب بين آخر السورة والتي قبلها إلى آخر ما ذكر، مما جعله متكلفا في كثير من المواضع، حتى قال عن نفسه أنه ربما مكث شهرا في تأمل آية بعد آية ما المناسبة بينها، وعلماء عصره منهم من رد عليه لهذا التكلف الذي تكلفه في كتابه.
ثم السيوطي كتب عدة كتب في ذلك، وذكر في كتابه إعجاز القرآن الذي اسمه ”معترك الأقران في إعجاز القرآن“ ذكر من وجوه إعجاز العلم بالمقاصد، وتناسب الآيات والسور إلى آخر ذلك.
إذن فهذا العلم مكشوف بين علماء التفسير الذين كتبوا في علوم القرآن، ولكن ما بين مجيد فيه، وما بين مقصر في ذلك.
وإذا تأملت هذا الموضوع وجدتَ أنّ كثيرين من المفسرين يقولون هذه السورة فيها الموضوع الفلاني.
مثل ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية مثلا في سورة المائدة بأن هذه السورة كلها مختصة بعلم الأحكام الحلال والحرام والعقود بخاصة، حتى قصص الأنبياء التي فيها لها صلة بالأحكام، وحتى قصة ابني آدم لها صلة بهذا الموضوع.
سورة الفاتحة سُميت أم القرآن؛ لأن مقاصد القرآن التي فيه هي في سورة الفاتحة، وهكذا.
فإذن من أهل العلم من نص على الموضوع والمقصد، ومنهم من عرض له بدون التنصيص عرض له عمليا.
كيف يمكن أنْ يفهم المتدبر أو المفسّر الموضوع؟ يعني إذا أراد أن ينظر كيف يعرف الموضوع؟ الوسائل التي بها يعرف موضوع السورة؟
نذكر من ذلك بعض الأمور:
أولا أنْ ينص العلماء أو طائفة من العلماء المحققين على أنّ هذه السورة في الموضوع الفلاني.
مثلا سورة الإخلاص في توحيد الأسماء والصفات، أو في التوحيد العلمي الخبري.(16/11)
?قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ?[الكافرون:1] سورة الكافرون في التوحيد؛ توحيد الطلب توحيد العبادة.
سورة الفاتحة في بيان محامد الرب جل وعلا.
سورة النحل في النعم.
سورة الكهف في الابتلاء.
سورة العنكبوت في الفتنة.
سورة البقرة في بيان الكليات الخمس والضروريات التي تدور عليها أحكام الشريعة، وبيان عدو من أعداء الإسلام وهم اليهود.
سورة آل عمران في تكميل ذلك، مع بيان عدو جديد وهم النّصارى، والحوار معهم، ثم مجاهدة المشركين.
سورة النساء في بيان أحكام النساء والمواريث، وخُصّص ذلك في النساء لأجل هضم الجاهلية لحقوق النساء ونحو ذلك، ثم بيان أحكام العدو الثالث وهم المنافقون.
ثم سورة المائدة في بيان أحكام الحلال والحرام والعقود، إلى آخر ذلك مما هو تفصيل لأحكام الكليات الخمس وأحكام الشريعة التفصيلية.
وهكذا في أنحاء شتى، وهذا ينص عليه طائفة من العلماء بأن السورة في الموضوع الفلاني.
إذن نعلم موضوع السورة بأنْ ينص على هذا الموضوع وهذا المقصد للسورة بعض أهل العلم، فيقال هذه السورة في الموضوع الفلاني، وكذلك المناسبات بين الآي بأن ينص بعض أهل العلم المتحققين الراسخين؛ بأن هذه الآية جاءت بعد هذه الآية لأجل كذا فيما بينهما من الارتباط، وهذه السورة بعد هذه السورة لما بينهما من الارتباط وهكذا.
الوسيلة الثانية لمعرفة موضوع السورة والمقصد الذي تدور عليه السورة، المقصد نعني به الغاية أو الموضوع الكلي الذي تدور عليه السورة، أنْ يكون موضوع السورة ظاهر من أولها ثم والمفسر يقرأ يظهر له أن كل السورة مبيني على أولها.(16/12)
مثل مثلا سورة القيامة ?أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(1)وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ?[القيامة:1-2] كل ما فيها ذكر لأحوال القيامة، ثم أحوال الموت، وما يدل أو وسائل الإيمان بيوم القيامة، لهذا بُحث هنا مثلا في سورة القيامة، بُحث عند من اعترض على موضوع السورة بقول الله جل وعلا ?لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ?[القيامة:16-19]، قال طائفة من العلماء –طائفة يعني واحد أو أكثر- قال طائفة من العلماء إنّ هذه الآيات لا صلة لها بموضوع القيامة (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)قال ما صلتها بموضوع القيامة؟ ما صلتها بموضوع الموت والعاقبة إلى آخره؟ وطبعا الآخرون ذكروا مناسبة ذلك وبينوه ومما هو ظاهر بين.
نأخذ سورة الواقعة مثلا سورة الواقعة ?إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)إِذَا رُجَّتْ الْأَرْضُ رَجًّا(4)وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا(5)فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا(6)وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً?[الواقعة:1-7] سورة الواقعة صار موضوعها حول تقسم الناس يوم القيامة ينقسمون إلى أقسام ثلاثة: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال. ثم بعد ذلك أدلة تتعلق بهذا الأصل، ثم حال الناس عند النزع، وأين تذهب أرواحهم، فتلحظ من السورة أن الموضوع بين من أولها إلى آخرها، وهذا يتضح لك من أول السورة.
فإذن السبب الثاني أو الوسيلة الثانية لاستخراج المقصد أن يكون موضوع السورة ظاهرا من أولها.(16/13)
الوسيلة الثالثة لإدراك ذلك: الاستقراء؛ الاستقراء للآي من عالم بالتفسير، إما استقراء كاملا أو استقراء أغلبيا، وقد ذكر علماء الأصول أن الاستقراء الذي يُحتج به على قسمين: الاستقراء الكامل أو الاستقراء الأغلبي؛ لأنه حتى القواعد ما من قاعدة إلا ولها شواذ، فالاستقراء الأغلبي حجة كالاستقراء الكلي في الاحتجاج، لكن في القوة الاستقراء الكلي أعظم من الاستقراء الأغلبي، فإذا استقرأ الآيات واستخرج المفسر موضوعا ولو لم يسبق إلى ذلك، فإن هذه وسيلة ظاهرة من وسائل إدراج المعنى فيما إذا كان مصيبا فيه غير متكلف في ذلك.
وهناك وسائل أخر.
إذا تبين لك ذلك فنأتي إلى ما قد ينشطكم أكثر بعد هذا العرض النظري العلمي المقعّد بعض الشيء، إلى ما ينشط أكثر في بيان مثال لمقصد السورة، ثم النظر في الآيات التي تدور حول هذا المقصد، نأخذ مثالين:
الأول: سورة الفاتحة باختصار.
والثاني: سورة العنكبوت بنوع تطويل.
?أما سورة الفاتحة فهي فاتحة الكتاب، وهي أم القرآن، وتسمى أيضا سورة الحمد، افتتحها الله جل وعلا بحمده، فقال ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[الفاتحة:2]، وحمدُه جل وعلا هو الذي تدور عليه السورة؛ بل أوّل الخلق أبتدئ بالحمد، وآخر ما ينتهي إليه الخلق إلى الحمد، والناس في الأولى والأخرى بل الخلق كله من الناس وغيرهم من المكلفين وغير المكلفين يدورون بين الحمد، وله الحمد في الأولى والآخرة سبحانه وتعالى، خلق السموات والأرض بالحمد ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ?[الأنعام:1]، وحين ينتهي الجزاء ?وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[الزمر:75]، قيل؛ يعني قال الوجود، قالت الملائكة، قالت الخلائق بعد أن دخل أهل الجنةِ الجنةَ، ودخل أهل النارِ النارَ، واستقرت الأمور.(16/14)
فافتتح الله جل وعلا الكتاب بحمده كما أنه حمد نفسه على إنزال القرآن فقال ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1)قَيِّمًا?[الكهف:1-2].
فإذا كان كذلك، الحمد دارت الحياة عليه والخلق عليه وإنزال الكتب وبعث الرسل عليه، ولهذا صار الحمد هو أعظم ما يُفتتح به الكتاب الخاتم قال جل وعلا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، لهذا إذا تأملت القرآن وجدت أن الحمد يدور على خمسة معاني:
المعنى الأول: أن يحمد الله جل وعلا على ربوبيته.
والثاني: أن يحمد على ألوهيته.
الثالث: أن يحمد على أسمائه وصفاته.
الرابع: أن يحمد جل وعلا على خلْقِه سبحانه وتعالى وإحداثه وإبداعه الكائنات.
والخامس والأخير: أن يحمد الله جل وعلا على شرعه وكتابه وما أنزل.
الناس الآن؛ يقول فلان، يعني الحمد عندهم بمعنى إيش؟ بمعنى الشكر، فهل يدخل الحمد بمعنى الشكر في أحد هذه العناصر؛ في عدّ هذه الأقسام الخمسة للحمد؟ نعم وهو الحمد على خلق الله جل وعلا للصغير والكبير؛ لأنه ما من نعمة تسدى إليك إلا والله جل وعلا هو الذي خلقها، فيُحمد على ما أدى وعلى ما أرسل.
إذن سورة الفاتحة تدور في موضوعها على أركان حمد الله جل وعلا، والقرآن كله لو استوعب فإنه يدور من أوله إلى آخره على أنواع حمد الله جل وعلا، فإما أن تكون الآية أو السورة في حمده سبحانه على ربوبيته، أو على ألوهيته، أو على أسمائه وصفاته، أو على شرعه وكتابه وما انزل، أو على خلقه وقدره سبحانه وتعالى.(16/15)
ما معنى الحمد؟ قال العلماء: الحمد هو إثبات أنواع الكمالات للمحمود، إثبات أنواع الكمال للمحمود بحيث إنه فيما أُسس له من الكمال لا نقص له فيه بوجه من الوجوه، والله جل وعلا هو المثبت له أوجه الكمال في ربوبيته، وأوجه الكمال في إلهيته، وهو المثنى عليه بأوجه الكمال في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وفي شرعه وتنزيله وكتابه، وفي قدره سبحانه وتعالى وفي خلقه.
إذا كان كذلك، قال العلماء (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) معناه أن أنواع الحمد لأن الألف واللام هنا للاستغراق؛ الألف واللام تأتي لثلاثة أنواع في التفسير الألف واللام للتعريف للاستغراق للملك وللاختصار.
الأول للتعريف يشملها كأن تقول للاستغراق للملك للاختصار متى تكون الألف واللام للاستغراق إذا كانت يصح أن تضع مكانها (كل).
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) إذا قلت: كل حمد لله رب العالمين. صح أو لم يصح؟ صح فإذن هي للاستغراق، فإذن هنا نقول الحمد لله رب العالمين هذه مستغرقة لجميع أنواع المحامد لله جل وعلا، أنواع المحامد هذه الخمسة التي ذكرنا. (لله) اللام الثانية هذه إيش؟ اللام للاستحقاق يعني كل حمد لله جل وعلا فهو مستحَق له سبحانه وتعالى، طبعا (الـ) التي في الحمد هذه (الـ) للتعريف واللام هذه لام حرف جر هي التي تأتي للملك ولتمام الملك وللاختصار وإلى آخره.(16/16)
تأتي إلى (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)،([3]) أولا (رَبِّ الْعَالَمِينَ) هذا جُعل لأي شيء؟ إلى الربوبية، وقد ذكرنا لك أنّ من أركان الحمد؛ يعني ما يثنى على الله به الربوبية، فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ثم (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هذا فيه الصفات، (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فيه الصفات وفيه الشرع والكتاب، وفيه أيضا الخلق والأمر، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فيه إيش؟ الألوهية، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيه الربوبية، فيه أيضا القدر؛ لأنك تستعين بمن يعين ما يحدث فيملكوته. (نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) من النعم الدينية هو الهداية إلى الصراط المستقيم، فهو المحمود على كل نوع من أنواع الهداية للصراط المستقيم، ثم وصف قال (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وهذا من أنواع النعم التي يحمد عليها، وهي راجعة إلى أحد أركان الحمد، ثم أيضا يفصل في ذلك في الموضوع بأشياء من نظر آخر؛ بأنواع المحامد، وأنواع الصفات، وأنواع العبودية، وأنواع الاستعانة إلى آخر ما هنالك.
هذا عرض موجز لما في هذه السورة من مما يدور حولها ذكره بعض العلماء.(16/17)
?المثال الثاني سورة العنكبوت؛ سورة العنكبوت سماها بعضهم أو قال بعضهم إنها تدور حول الفتنة، الفتنة ظاهرة في أول السورة قال جل وعلا ?الم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ?[العنكبوت:1-3]، فالفتنة ذُكرت نصا في أول السورة، الفتنة تكون بأي شيء؟ المرء يفتن بعقله، يفتن بالدنيا، يفتن بوالديه، يفتن بأهله، يفتن بطول المكث وطول العمر، يفتن بعدم وجود العذاب، يفتن إذن عن إدراك الحقيقة بأنواع من الفتن كلها موجودة في هذه السورة.
فإذن في هذه السورة سورة العنكبوت ذكر الله جل وعلا أنواع وأصول الفتن، وذكر كيف ينجو المرء من هذه الفتنة؛ لأن الحقيقة أن الحياة إنما هي ابتلاء وفتنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الذي رواه مسلم في الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى «يا محمد إِنّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ» فحقيقة الحياة أنها فتنة، والفتنة هل هي بالشر أو بالخير؟ هي بالشر والخير معا، ?وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ?[الأنبياء:35].(16/18)
إذن هذه السورة ذكر الله جل وعلا في أولها (أَحَسِبَ النَّاسُ)، الناس يشمل من؟ يشمل المؤمن ويشمل الكافر، يشمل الكبير ويشمل الصغير، يشمل جميع الطبقات، جميع الطبقات في تعاملها مع الجميع، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) تقول المؤمن، فمتى يصدق الإيمان؟ إذا عرضت لك الفتنة فنجوت منها بشرع الله جل وعلا، فقد تفتتن بنفسك، فيه أناس يفتتن بجماله، يفتتن بحسنه، امرأة تفتتن بما لها بما عندها، رجل يفتتن بماله، أحد يفتتن بوالديه، لذلك تجد في هذه السورة تجد أن في هذه السورة ذكرا لجميع أنواع وأصول الفتن والجواب على ذلك.
خذ مثلا في أولها قال الله جل وعلا ? وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ [بِي]([4]) مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ?[العنكبوت:8] لاحظ الوالدان يفتنان؛ يجاهدان للشرك، يجاهدان ليشرك العبد، هذه أليست فتنة؟ فتنة عظيمة، وقد ذكر المفسرون أنها نزلت في قصة سعد بن أبي وقاص لما أرادته أمه على الكفر والشرك، ومع ذلك قال الله جل وعلا أن يصاحب والديه حسنا لكن لا يطيع؛ قال (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، وقال في أولها (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) هذه فتنة عظيمة، ما المخرج منها؟ المخرج منها في تحقيق شرع الله ألا تطيع في الكفر والشرك أو في معصية الله لكن تصاحب بالحسنى، ومن الناس من تعرض عليه الفتنة فيصاحب والديه لا بالحسنى ولكن عن عقوق، ويكون قد وقع في بعضها، لكن من يصبر على هذا الأمر العظيم، وهو أن يصاحب بالحسنى وألا يطيع، هذا النجاة من الفتنة في هذه الحال.(16/19)
من أنواع الفتن أن يكون أناس كثير يكفرون بالله جل وعلا؛ لا يؤمنون، فيأتي المرء فيظن أنه وأهل الإيمان قليل، وأنّ الكفار أو المنافقين أو المجرمين أو العصاة، أنهم كثير، كيف هو يستقيم، هذا نوع من الفتنة يعرض على القلوب، وقلّ من الناس من يثبت ينظر الناس كلهم كذا، وفي هذه السورة الخبر، وفيها العلاج فاقرؤوا وتأملوا.
من الفتن أيضا التي ذُكرت في هذه السورة أن الإنسان ينظر إلى طول مكث أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى طول مكثهم في الأرض، إلى طول مكثهم يتمتعون بالقوة، إلى طول مكثهم وهم الذين يسيطرون من أعداء الله من الكفار والمشركين، فربما يحمله ذلك على أن تُزين له الدنيا وأن يصد عن سبيل الله ?زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ?[البقرة:212] هذه في سورة البقرة، في هذه السورة في سورة العنكبوت ذكر الله جل وعلا أولا قصة نوح عليه السلام في آيتين، ما مناسبة هاتين الآيتين لموضوع السورة وهو الفتنة؟ قال جل وعلا ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ(14)فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ(15)وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ?[العنكبوت:14-16] قصة نوح في آيتين ما مناسبتها؟ طول هذا المكث تسعمائة وخمسين سنة وهو يدعوهم، والمؤمن قليل كما أنت تعلم في سور أخرى، ?وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ?[هود:40]، قال العلماء: كان المؤمنون ثلاثة عشرة نفسا. وقال آخرون: كانوا بضعة وسبعين من الرجال والنساء. مكث ألف سنة والشرك بالله جل وعلا يعلو، عبادة الأوثان ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهذا ينصحهم يدعوهم ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، ولا مستجيب إلا هذه(16/20)
الفئة القليلة، ألا يحصل للقلوب فتنة؟ يحصل فتنة، ليست مرور عشر، عشرين سنة، خمسين سنة، مائة سنة. مرّت مائة، مائتان، ثلاثمائة، أربعمائة، خمسمائة، ألف سنة إلا خمسين عاما، وثم جاء فرج الله جل وعلا، إذن فقد يفتتن المرء بطول مكث الأعداء، فهذه السورة نبهت المؤمن الصادق، ?وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ?[العنكبوت:11]، وقال في الآية التي قبلها (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا)؛ (الم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) متى يعلم؟ إذا عُرضت الفتن فنجى.
فإذن موضوع السورة عندنا الفتنة، حتى قصة النبي كان مرجعها إلى الفتنة بما ينجيك أنت من الفتنة التي تطاولت، بعض الناس يظن أن أمر الله جل وعلا يحصل له كما يريد، لا، حكمة الله ماضية، الله جل وعلا يبتلي كما ابتلى نوح عليه السلام وقومه بأنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع ذلك لم يستجب منهم إلا القليل، هذا نوع من الافتتان، المخرج منه في هذه السورة وهو الصبر (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ).(16/21)
قصة إبراهيم عليه السلام في نوع من الفتنة في من يجازف، في من يحاول في من....([5]) لا يستسلمون، وإنما يكيدون ويتخذون أشياء للمودة وللدنيا، وقال ?وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ?[العنكبوت:25]الآية، فإذن فيه مجادلات إلى آخره، وهذه يحصل فيها نوع افتتان، قلَّ من يصبر على الحق، ويمكث عليه، وأن لا يتأثر في هذه الفتنة في الشبه التي يلقيها المشركون أو التي يلقيها الكفار، وهذه الشبه تتجدد بتجدد الأزمان.
بعدها ذكر الله جل وعلا قصة لوط عليه السلام، وفيها الافتتان بالشهوة؛ الافتتان بشهوة الرجال التي هي مناقضة للفطرة، وأيضا شهوة بأنواعها، والإعلان بها، وأنه لا ضرر منها، ون نهى عنها إنما هو الذي يهجن هو الذي يرد عليه، نهاهم ?وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ? ولكن قالوا له ?ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ?[العنكبوت:29]، فتنة لأنّ زوجة لوط التي هي في بيته كانت ممن وقعوا في شراك أولئك؛ فهي تدل الرجال على الرجال الذين يأتون لوطا أو نحو ذلك، ?[لَنُنَجِّيَنَّهُ]([6]) وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ?[العنكبوت:32] هذا نوع من الفتنة من الشهوة، الشهوة ما المخرج منها؟ المخرج منها بأن يعلم الإنسان أنها فتنة، الشهوة التي في جسم الإنسان أرادها الله جل وعلا لبقاء النسل، ولأن يختبر العبد هل يصبر أم لا يصبر، هل يتحمل ويسير على ما أراد الله جل وعلا أم يتبع نفسه هواها ويطلق الحبل على ما يريد، فصارت الفتنة فأوقع الله جل وعلا العقوبة فيمن لم ينتهوا عن نهيه جل جلاله.(16/22)
من الفتنة أيضا أن يكون الناس في علم، وأن يكون المستمع يعلم، ولكنه لا يأبه بالعلم، الجاهل يُعَلَّم، لكن من يعلم أو المستمع الذي ينتشر فيه العلم، ويعلم الناس الحدود ويستفسرون، ولكن مع ذلك يخالفون، أليست هي فتنة؟ العلم لم يكن إذن في حقهم نعمة بل كان فتنة، لهذا ذكر الله جل وعلا أن عادا وثمودا كانوا علماء؛ علموا وكانوا مستفسرين، ولكنهم مع ذلك خالفوا قال سبحانه ?وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ?[العنكبوت:38]، (زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)، هل كانوا يجهلون؟ لا، كان العلم قاصرا؟ لا، يعلمون ولكن زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، والحالة أنهم كانوا مستبصرين على بصيرة، وهذه فتنة عظيمة؛ أن يكون المرء على علم ويترك العلم الموروث عن الرب جل جلاله وعن نبيه صلى الله عليه وسلم.(16/23)
القوة أيضا فتنة، المجادلة والحوار، الآن يطرح في كثير من الأحيان مباحث الحوار، الحوار مع النصارى، الحوار بين الحضارات، الحوار بين الديانات، الحوار بين المذاهب، الحوار بين الملل، إلى آخره، وهذا الحوار نوع من الفتنة، والآن تبثه بعض القنوات الفضائية؛ لأن فيه تأثيرا على من قلبه ضعيف، يرى ملل ونحل، وهذا يعبد كذا وهذا يعبد كذا، قد يشك ويفتتن، لكن المؤمن الصادق يعلم أن هذا التنوع وهذا التعدد وهذا الاختلاف إنما هو دليل من أدلة أنّ الحق واحد، وأنّ هؤلاء كما قال جل وعلا ?عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3)تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً?[الغاشية:3-4] أرادوا الطريق إلى الله جل وعلا فأخطؤوا، لكن موضوع الحوار يحاول المرء أو لا يحاول؟ يجادل أم لا يجادل؟ هذه قد تعرض عن المرء هذه الفتنة، ولكن من الذي يجادل ومن عنده علم، وليس كل أحد، ولهذا ذُكر كما يعلم بعضكم أنّ أناسا جادلوا، إما جادلوا ملحدا، أو جادلوا غير مسلم أو نصراني أو يهودي، أو جادلوا صاحب ملة من الملل أو مذهب من المذاهب الضالة، أو نحو ذلك، فربما غلب، أو ربما كان أقوى فوقع الافتتان في الناس، الله جل وعلا في هذه السورة بين أن الفتنة تقع إذا لم يكن الحوار من عالم وبالتي هي أحسن فقال جل وعلا ?وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(46)وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ?[العنكبوت:46-47] إلى أنْ قال جل وعلا ?بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ?[العنكبوت:49] –نستمع للأذان-.(16/24)
نكمل الحديث عن مثال سورة العنكبوت بأثر فهم مقصد أو موضوع السورة على العلم بالتفسير، فذكر جل وعلا النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، لكن ممن؟ ممن هو عالم بالقرآن فقال (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ولهذا من لم يعلم القرآن، وحجج القرآن، وبينات القرآن، والبراهين التي في القرآن، وكيف جاء في القرآن الحوار مع الملحد ومع المتجبر ومع الطاغوت ومع الناس بجميع أصنافهم، من لم يعلم ذلك فإنه لا يصلح للحوار، فليس كل أحد يحاور برأيه وبفكره، وإنما الحوار للعلماء، الحوار كما يسمى أو المجادلة كما في القرآن، هذه إنما هي لأهل العلم الذين يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذن تقع الفتنة؛ الفتنة بالمجادلة، يقول له جادلني، ليش أنت ما تجادل؟ ويبدأ يبقى أحدهم في الجدال والحوار ويبحثون القضايا، هذا نوع افتتان للعامة، فإذن لابد هنا أن ينظر المرء في هذه الحال؛ أن يكون معتزا بدينه، وأن يعلم أن القرآن هو الحق، وأنه الذي كان في صدره فهو الذي على الحق؛ لأنّ القرآن حجة ماضية على الجميع، ولهذا قد يكون المرء لا يعلم بعض الحجج، فإذا كان كذلك فإنه يقول كما قال الله جل وعلا (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) وهذا المجادلة الإجمالية ثم التفصيل عند من يعلم القرآن ويعلم الشريعة.(16/25)
من الفتن التي ذُكرت أيضا في هذه السورة؛ أن يجعل الله جل وعلا الحياة جميلة بلهوها ولعبها وما فيها من الملذات حتى ينسى المرء الآخرة، قال جل وعلا في آخر السورة ?وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ?[العنكبوت:64]؛ لأن كثيرين من الناس افتتنوا بالحياة؛ لهو ولعب ويظن أنها ستمتد ولا يعلم حقيقة الحياة، قال جل وعلا بعدها ?وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ?[العنكبوت:64]، (الْحَيَوَانُ) وهذا صيغة مبالغة من الحياة؛ يعني الدار الآخرة؛ يعني الجنة والنار هي ذات الحياة الباقية الكاملة، فمن أراد قمّة النعيم وكمال النعيم والتلذذ فهو في الجنة في الآخرة، ومن أراد الهرب من المؤذيات فهو المؤذيات كلها في النار، والذي يريد الهرب يهرب من النار، ولهذا قال طائفة من العلماء ما ذكر الله جل وعلا في القرآن -هذه ذكرها ابن الجوزي وجماعة- ما ذكر الله جل وعلا في القرآن من أنواع نعيم الدنيا، لتنظر إلى نعيم الدنيا أو لتتذكر به نعيم الآخرة، فكل مثال في الدنيا للنعيم أو للتلذذ هو حجة عليك في تذكرك نعيم الجنة، وكل مثال في الدنيا لأنواع المؤذيات ولو كانت الحشرة الصغيرة أو كان حرا يسيرا فهو مثال يذكرك الله جل وعلا به لما يكون في الآخرة من النكال ومن العذاب ومن الحرمان، فمن أراد حقيقة الحياة والسعادة فليبحث عن السعادة الأبدية، والحياة الدنيا هذه من اللهو واللعب (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) تحدث فتنة، وما الناس الآن ما افتتن الناس إلا باللهو واللعب بهذه الحياة الدنيا، لماذا قست القلوب؟ لأجل أن الناس أقبلوا على اللهو واللعب، لماذا أعرضوا عن الآخرة؟ لأنهم أقبلوا على اللهو واللعب، لماذا قل نصيبهم من القرآن؟ لأنهم أقبلوا على اللهو واللعب، والجاد العاقل هو الذي ينظر إلى قوله (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ(16/26)
كَانُوا يَعْلَمُونَ).
من الفتن التي ذُكرت في هذه السورة وذُكر فيها المخرج من الفتنة؛ الفتنة بالأمن؛ أمن الحرم أمن ما حوله يحصل الأمن سنوات وسنوات وسنوات، فيغتر الناس بأننا لن يصيبنا ما أصاب غيرنا، الزلازل تصيب الآخرين أما أهل الحرم فلا تصيبهم، الموبقات، ضيق المعيشة يصيب الآخرين، النكد يصيب الآخرين أما أهل الحرم فيقولون نحن أبناء الله وأحبَاؤه أو يقولون نحن الخاصة، أو يقولون أو يقولون، قال جل وعلا في بيان هذه الفتنة في آخر السورة ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ?[العنكبوت:67] نفس النظر إلى هذا النوع من الإنعام من الله جل وعلا وألاّ يكون هذا الإنعام سببا للافتتان بهذه النعمة وهذا الرخاء الذي جعل اله جل وعلا أهل مكة فيه زمن النبوة وما شاء الله من الأزمان بعده قالوا ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ? ما الغرض من هذا؟ ?أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ?[العنكبوت:67]، أفبالباطل يؤمنون بعد هذا الإنعام؟ يؤمنون بالباطل، بالشرك والكفر، وإنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإطاعة الشياطين، أو بما هو دون ذلك من المعاصي والموبقات والآثام، وبنعمة الله هم يكفرون، من الذي أنعم؟ الله جل وعلا ?وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ?[النحل:53]. إذن من الافتتان الذي قد يصيب الله به بعض العباد كما ذكر في هذه السورة أن يظن العبد أن البلاء إنما هو للآخرين، أما هو لن يبتلى، فنقص الرزق يكون لفلان من الناس أما هو لا، المرض يكون لفلان أما هو لا، الإصابة بالأمراض الشديدة -أجارنا الله وإياكم منها- إنما يصاب به الآخرون أما هو صاحب صحة وعافية، السكتة، الغضب، إلى آخره، يصاب به الآخرون أما هو لا يتذكر، قال جل(16/27)
وعلا في بيان هذا المثال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ).
هذه أمثلة من أنواع الافتتان وأنواع البلاء، وما في هذه السورة مما يتصل بهذا الموضوع، ثم يتعانق في هذه السورة الابتداء مع الختام ليدلك على قول من قال من أهل العلم: إن موضوع السورة يتعانق فيه البداية مع النهاية. فقال جل وعلا في بدايتها (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ما المخرج في جميع هذه الحالات؟ الجواب في آخر السورة في آخر آية ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ?[العنكبوت:69].
موضوع مقاصد السور وأثر ذلك في التفسير له شعب من جهة التنظيم، وله أيضا شعب من جهة التطبيق، وإذا تأملت ما ذكرت من هذين المثالين في سورة الفاتحة وسورة العنكبوت، يكون لك به نظرة ورؤية إلى ما يذكره العلماء في موضوعات السور وما تشتمل عليه، ففهم إذن كما اتضح لك الآن أنّ فهم آيات سورة العنكبوت الآن تقرأها ربما يكون لك تدبر آخر، يكون تأثرك بالسورة وبالنظر إليها آخر، تشوف الآيات غير ما كنت تقرأ سابقا، لماذا؟ لأنه اتصل عندك الموضوع وفهمت هذه الآية ولماذا أتى بقصة النبي فلان، ولماذا أتى بقصة النبي الآخر عليهم جميعا السلام، إلى آخر ما هو معلوم.
فإذن هذا الموضوع وهو موضوع مقاصد السور من العلم النادر العزيز، لكنه مهم لكل طالب علم في التفسير بقدر ما ذكرنا، وهو أن ينص أحد من العلماء على المقصد والموضوع، وأن يكون ظاهرا في دور آيات السورة عليه.(16/28)
أسأل الله جل وعلا أن يبارك لي ولكم فيما سمعنا، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذي هم أهله وخاصته، وأن يزيدنا منه علما، وأن يذكرنا منه ما نسينا، وأن يجعلنا من المحلين لحلاله، المحرمين لحرامه، المعتقدين لما فيه من الغيب إنه سبحانه جواد كريم.
كما أني في الختام أرجو لكم جميعا بإقبال هذه الدروس العلمية أن تنتفعوا من أصحاب الفضيلة المشايخ الذين يشاركون فيها، جزاهم الله خيرا، وأنا بهذه المناسبة أشكر كل الإخوة في هذا المسجد؛ إمام المسجد الأخ خالد.... وجميع الإخوة الذين معه، وكذلك أصحاب الفضيلة الإخوة المشايخ الذين يشاركون في هذه الدورة على ما يتعبون وما يبذلون في الجلوس للإخوان وفي طلب العلم؛ لأننا في زمن نحتاج فيه بذل الدعوة وإلى بذل العلم إلى جهاد، أما الراحة فهي الوقت واسع للراحة، ولكن نحتاج إلى بذل وبذل كل في مجاله وكل فيما يستطيعه.
أسأل الله لجميع الهدى والتوفيق، وأن يبارك في الجهود، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى إنه سبحانه ولي ذلك.
كما أسأل ربي سبحانه أن يوفق ولاة أمورنا لكل خير، وأن يرزقهم البطانة الصالحة التي تذكرهم بالخير والصلاح وتدلهم عليه، وأن يبارك في ما يعملون من الخير وأن يجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
كما أسأله جل جلاله أن يباعد بيننا وبين سبل المضلين، وأن يرد كيدهم إلى نحورهم إنه سبحانه على كل شيء قدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(16/29)
[مقدم المحاضرة] شكر الله معالي الشيخ هذا البيان الضافي الجليل الذي وفى وكفى بإذن الله وجعله في موازين حسناته، وقبل أن نبدأ بطرح الأسئلة أودّ أن أعتذر للإخوة الحضور حيث ما وردنا من الأسئلة أكثر من أن يكفيه الوقت المتاح، هذا من جانب، ومن جانب آخر أن بعض الأسئلة لم تكن في مجال وموضوع المحاضرة، ومعالي الشيخ طلب أن تكون الأسئلة في نطاق المحاضرة حفظا لوقت الذين جاؤوا لسماع هذا الموضوع بالذات.
[الشيخ] الأسئلة الأخرى آخذها الأسئلة التي تلقى أستفيد منها في موضوع محاضرات أخرى يعني أن بعض الأخوة جزاهم الله خيرا يطرح أسئلة جيدة، نجعلها عنصرا أو فقرة في محاضرة أخرى هذه نستفيد منها جزى الله الجميع خيرا. نعم.
[مقدم المحاضرة] يسدي جميع السائلين تحياتهم إلى معاليكم ثم يخبركم الكثير منهم بمحبتهم لكم في الله.
[الشيخ] أحبهم الله.
[مقدم المحاضرة] هناك اقتراح من أحد الأخوة أن تُجعل هذه المحاضرة على شكل كتيب في متناول الجميع.
1/ فضيلة الشيخ ما الأفضل للمبتدئ قراءته من الكتب التي تتناول التفسير، ثم يسأل يقول قلتم في كلامكم أنه يمكن أن يستخرج المعنى بالاستقراء الجزئي للسورة، فكيف يستخرج المعنى للسورة مع عدم الإلمام بالسورة؟(16/30)
أنا ما قلت هذا، أنا الذي قلته، أنا لم أقل إن المعنى أو المقصد يستخرج بالاستقراء الجزئي، وإنما قلت يستخرج بالاستقراء التام أو الأغلبي، أما الاستقراء الجزئي فليس بحجة، والاستقراء الجزئي هو الذي يقع فيه الناس اليوم، وليس جزئيا قد يكون استقراء لحالتين ثم يحكم، يقول والله كل الناس كذا وكذا، كل الموضوع، كم نظر في الكتاب ؟ نظر صفحتين، كم درس من حالات الناس؟ شاف له حالة حالتين وقال كل الناس وقعوا في كذا، الاستقراء حجة إذا كان كليا أو أغلبيا، ولا يجوز للمسلم أيضا أن يقفو ما ليس له به علم، وأن يقول والله يعمل قضية كلية وهو لا يعرف إلا حالة أو حالتين، وهذا خلاف حتى المنهجية الصحيحة في التفكير، وإذا وجدت في المرء الخلل في المنهجية حتى في رؤية الأشياء يقع من ذلك منهجيته في العلم؛ يكون تصوره للعلم غير صحيح؛ لأنه أصلا يتصور الأشياء باستقراء جزئي، يسرع في الحكم، ويسرع في تقييم الأشياء بما يسمع أو بحالة حالتين يجعلها قضية كلية.
إذن تعقيبا على السؤال إنما ذكرنا أنه يدرس الاستقراء الكلي أو الأغلبي، وعلماء الأصول بحثوا هذا، قالوا أن الاستقراء الكلي أو الأغلبي حجة، الاستقراء الكلي والأغلبي ممن؟ ليس من كل مسلم بل من عالم بالتفسير، والعالم بالتفسير هو الذي عنده العلوم التي ذكرنا، هذا في الغالب لا يخطئ، لهذا العلماء ذكروا أشياء من مقاصد السور، داروا فيها حول استقرائهم وتدبرهم وقراءتهم للسورة أكثر من مرة مع علمهم بالتفسير فاستخرجوا مقصدا وموضوعا ثم فصلوا في ذلك. نعم
2/ لما ذا لا نقول بترجيح قول من قال أن لكل سورة مقصدا، وأن بين كل آية وآية تناسبا على الإطلاق؛ لأن ذلك يدل على كمال القرآن وإعجازه، ولكن نقيد هذا القول بنقطتين:
الأولى: أنه ليس لكل أحد أن يُلِمَّ بجميع المقاصد والمناسبات، فقد يعلم بعضا ويجهل بعضا.
والثانية: نقيده بعدم الجزم بالمقصد والمناسبة بل يقال بأنه اجتهاد وأنه محتمل.(16/31)
فما رأي فضيلتكم؟
هذا وجيه، لكن السبب الثاني لا نحب أن يدخل الناس فيه؛ لأنه «من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ ولو أصاب»، وفي الحديث الآخر «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»، أبو بكر رضي الله عنه يقول: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
فإذن الأصل في هذه كما ذكرت لك لا يكون اجتهادا مجردا، وإنما يكون استقراء كلي أو أغلبي، أما مجرد الاجتهاد ظهر له بادر، بادر الرأي أو عاجل الرأي، وقال هذه السورة موضوعها كذا، هذا فيه تجني على القرآن، ولهذا قد يقال أنه يقال من جهة تنزيل القرآن أن القرآن محكم كل سورة لها مقصد علمها من علمها وجهلها من جهلها من جهلها وأن الآية بينها وبين ما قبلها وبعدها تناسق وتناسب علمه من علمه وجهله من جهله وأن في ذلك دلالة على إعجاز القرآن العظيم، هذا قد يقال من جهة العموم، لكن بالقيد الذي ذكرنا أنه لا يُقبل من كل أحد أن يقتحم هذا الباب. نعم
3/ يقول هل هناك علاقة بين التفسير الموضوعي للقرآن وبين علم المقاصد للسور؟
التفسير عند المتأخرين يعني في القرن الأخير هذا، جُعل منه التفسير الموضوعي، ومنه التفسير التحليلي، هذا تقسيم خاص تعليمي.
ويراد بالتفسير التحليلي كما تقرأ في تفسير ابن كثير وتفسير ابن جرير؛ يعني الآية وتفسيرها والكلمات وتحليلها لغة ونحوا إلى آخره أو بيان سبب النزول يعني كل آية تأخذ على حدا، تفسير السورة تفسيرا تحليليا.
أما التفسير الموضوعي فيراد به موضوع في القرآن يعني مثلا توحيد الربوبية في القرآن، القرآن في هذا الموضوع توحيد الربوبية، الفتنة في القرآن الوسطية في القرآن، العدل في القرآن، الظلم في القرآن، قصص الأنبياء في القرآن، هذا يسمى تفسير موضوعي، بمعنى أن يأتي إلى موضوع فيجمع كل ما فيه من الآيات، ثم يقسم ذلك تقسيما منهجيا ويتحدث عنه.(16/32)
لا صلة لهذا بعلم المقاصد لأن مقاصد السور راجع إلى السورة في نفسها، والتفسير الموضوعي يجمع أطراف الموضوع في جميع سور القرآن.
4/ هل القرآن نزل وفسره الرسول صلى الله عليه وسلم كاملا وبما نرد على النصارى فيقولهم أن الرسول لم يفسره كله والجمع بينه وبين حديث الرسول «تركتكم على المحجة البيضاء ».
ينبغي على القائل أو المتكلم أو الكاتب أو السائل إذا كتب اسم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه صلى الله وسلم عليه تسليما كثيرا، حتى ولو لم يكتب فإنه يصلى عليه والمرء ما يخسر كتابة صلى الله عليه وسلم ولو ألف مرة، لهذا أهل الحديث مما زاد في مقدارهم أنهم يكتبون في الحديث الواحد صلى الله عليه وسلم ويقولونها كذا مرة، وقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من صلى عليّ واحدة صلى الله عليع بها عشرا» ما معنى ذلك؟ يعني من أثنى عليّ؛ يعني من قال اللهم صلي على محمد، دعا لي بأن يثني الله علي في الملك الأعلى مرة واحدة، صلى الله بها عشرا؛ أثنى الله عليه بتلك الصلاة عشر مرات ، اللهم صلي وسلم على محمد كلما صلى عليه المصلون وكلما غفل عن الصلاة عليه الغافلون. ما هو السؤال؟
هل نزل القرآن وفسّره الرسول صلى الله عليه وسلم.(16/33)
النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن كله، وإنما فسر آيات قليلة، لما؟ لأنّ التفسير يتبع الحاجة، يُفسر بمعنى يبين المعاني، لمن لا يفهم المعاني، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، فقهته العرب فهمت الآي، فهمته الصحابة، إلا في بعض الآيات لم تفهم ففسرها النبي صلى الله عليه وسلم فالمنقول من تفسيره عليه الصلاة والسلام قليل، تفسير الصحابة أكثر من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، لما؟ لأنّ الصحابة نقلوا للتابعين، والتابعون أقلّ علما بالقرآن من الصحابة لا من جهة اللغة، ولا من جهة أسباب النزول، ولا من جهة معرفة علوم القرآن، والعلوم المختلفة التي دار عليها القرآن، ولا من جهة السيرة، والتاريخ وأحوال العرب والجاهلية، إلى آخره، ففسروا القرآن أكثر، تفسيرهم أكثر، التابعون تفسيرهم لمن بعدهم أكثر من تفسير الصحابة لشدة الحاجة، هكذا إلى زمن التأليف والتصنيف كثرت التفاسير رغبة في أن يفهم الناس القرآن ويقبلوا عليه.
فإذن عدم تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن لوضوحه، وعدم الحاجة إلى تفسيره، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعلمون التفسير، وربما لم يعلموا ففسر بعضهم لبعض أوفسر لهم النبي عليه الصلاة والسلام. نعم
5/ فضيلة الشيخ نأمل إرشادنا إلى أحسن الكتب التي تناولت الحديث عن مقاصد الصور.
ذكرت لك الكتب. نعم.
6/ أرجو إلقاء الضوء على مسألة تفسير الآيات بالكشوفات الكونية الحديثة، وعلاقة ذلك بمقصود الآيات وفهم خطابها.(16/34)
لو لم ترجو لكان أفضل، لأن هذا الموضوع ما يحتاج؛ لأنه لو تكلمنا في دقيقة أو دقيقتين نظلم هذا الموضوع، وهو موضوع شائك كما تعلمون، الآن كثير من الناس يعرضون المسائل الكونية ويربطونها بالآيات القرآنية، ويجعلون القرآن كتاب كون، كتاب فلك، كتاب زراعة، كتاب رياضيات، كتاب، وهذا ليس بصحيح ، لهذا أنا كما رجى السائل جزاه الله خيرا أنا أيضا أرجوه أن يؤجل جواب هذا السؤال إلى موضوع محاضرة -مستقل- عن تفسير القرآن بالعلوم الكونية أو بالطبيعيات أو بالمكتشفات الحديثة؛ لأنه يحتاج إلى بسط وتفصيل.
7/ ذكرتم أن طالب العلم لابد له من تعلم التفسير، وأن هذا التحصيل مربوط بفهم اللغة ومنها النحو، وللأسف فإن غالبية الناس في وقتنا الحاضر ويعنون من الضعف في النحو حبذا لو تنصحوننا بكتاب في هذا المجال خاص بالمبتدئين في مجال النحو.
المهم أنك تقبل على طالب علم؛ على أستاذ في النحو يعلمك، تكن جاد، النحو سهل، لكن يصعب على غير المقبل هو في الحقيقة سهل، لو أقبلت عليه لكان سهلا، كتب النحو كثيرة دائما نذكر من أوائلها الآجرّومية، وقطر الندى وشرحه، ومنظومة الحريري الملحة، والألفية، وشروح الألفية، ثم يتطور بعد ذلك إلى التسهيل وشروح التسهيل ثم يتطور إلى..... ([7]) ثم كتاب سبويه، يعني أن يبتدئ بالنحو بالكتب المختصرة عند المتأخرين، ثم إذا أتمها يرجع إلى المتقدين، وهذه مجالات ومدارك بعضها فوق بعض، وكما قال الله جل وعلا ?هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ?[ آل عمران:163].
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا أن يكتب لي ولكم الخير أينما كنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، إنه سبحانه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري.
---
([1])الأنعام:92، و155، الشيخ قال (وَهَذَا كِتَابٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ).
([2])لم أسمعها جيدا.
([3])انتهى الوجه الأول من الشريط.
([4]) الشيخ قال (به).(16/35)
([5]) كلمة لم أفهمها.
([6]) الشيخ قال (فأنجيناه).
([7])كلمة لم أفهمها.(16/36)
مناهج المفسرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا وهو القائل {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فهذه الدّورة متخصصة في التفسير وعلوم القرآن وإنّ من مباحث هذه الدورة الكلام على مناهج المفسرين والكلام على مناهج المفسرين مهم لأنّ التفاسيرلكتاب الله جلّ وعلا كثرت جدّا حتى بلغت أكثر من مائة من التفاسير الموجودة بين أيدينا اليوم،ـ والتفاسير المفقودة كثيرة والتي لم تطبع أيضا كثيرة وهكذا فلابدّ لطالب العلم الذي يحرص على معرفة معاني كلام الله جلّ وعلا أن يعلم مناهج أولئك المفسرين وطرائقهم حتى إذا راجع تفسيرا لأحد أولئك يعلم مع ما يتميز به ذلك التفسير ويعلم منهج المؤلف حتى لا يضيع بين كثرة التفاسير.
منهج أو مناهج المفسرين المقصود بها الطرائق والخصائص التي يتميز بها التفسير والمناهج جمع منهج والمنهج والنّهج هو الطريق الملتزم يعني أنّ مناهج المفسرين هي الطرق والشروط التي اتبعوها في تفاسيرهم وهذه المناهج متنوعة متعددة والمفسرون منهم من يذكر شرطه في تفسيره ومنهم من لا يذكر ذلك فإذا كانت المناهج هي الطرق التي سلكها المفسر في تفسيره فأصبحت قواعد له في التفسير أو أصبحت مميزات وخصائص له في تفسيره.
هذه المناهج كيف نعلمها؟ كيف نعلم منهج ابن جرير مثلا في تفسيره؟ أو منهج القرطبي في تفسيره.؟ أو منهج ابن كثير في تفسيره؟ إلى آخر تلك التفاسير.
لمعرفة المنهج أحد طريقين:(17/1)
الطريق الأول: أن ينص المفسر على شرطه في التفسير في أول تفسيره أو أن ينص عليه في مواضع متفرقة من تفسيره مع خطبة الكتاب فإذا نص على شرطه كما نص ابن كثير رحمه الله على شرطه وطريقته في أول التفسير وكما نص القرطبي على ذلك بوضوح حيث قال: وشرطي فيه أني كذا وكذا وكما نص عليه أبو حيان الأندلسي في كتابه البحر المحيط وهكذا في عدة من التفاسير ينص المفسر على شرطه في تفسيره فإذا نص المفسر على شرطه في تفسيره صارت تلك الشروط المنصوصة منهجا له فنقول منهجه في التفسير كذا وكذا بناء على شرطه الذي نص عليه في تفسيره.
الطريق الثانية: أن يعلم شرطه في التفسير ويعلم المنهج عن طريق الاستقراء والاستقراء كما هو معلوم قسمان:(17/2)
- استقراء تام أو أغلبي والنوع الثاني استقراء ناقص والاستقراء حجة إذا كان تاما أو أغلبيا لأنه يكون دالا على صحة ما بحث بالاستقراء فإذا استقرأ أحد أهل العلم تفسيرا من التفاسير وقسم طريقه ذلك المفسر في العقيدة يسلك هذا الطريق وفي الحديث والأثر يسلك هذا الطريق وفي النحو يسلك هذا الطريق وفي الإسرائيليات يسلك هذا الطريق واستقرأ ذلك استقراء تاما بتتبع التفسير من أوله إلى آخره أو استقرأه استقراء أغلبيا فتقول هنا منهجه في التفسير كذا وكذا أما إذا كان الاستقراء ناقصا فتش في التفسير صفحة أو صفحتين أو ثلاثة أو مجلد أو مجلدين ولم يستقرأ التفسير بتمامه فلا يجوز أن يعتمد على ذلك الاستقراء الناقص ويقال طريقة فلان في التفسير كذا أو طريقة التفسير الفلاني كذا إذ لابدّ لكون الاستقراء حجة أن يكون استقراء تاما أو أغلبيا كما هو مقرر في موضعه من علم أصول الفقه وهذا وهذا وجد شروط ومناهج للمفسرين عرفنا تلك المناهج عن طريق شرط المؤلف أو عن طريق الاستقراء التام أو الأغلبي وإذا لم يمكن الاستقراء ولم يوجد الشرط فنستعمل عبارة أخرىغير منهج المفسر في تفسيره كذا وكذا نقول تميز التفسير الفلاني بكذا وكذا من خصائص التفسير الفلاني كذا وكذا تميز تفسير فلان بكذا وكذا مثلا من خصائص الدر المنثور كذا وكذا تميز الدّر المنثور بكيت وكيت من الطريقة فإذن نعدل عن استعمال لفظ المنهج إلى لفظ المميزات والخصائص والمميزات إذا لم يكن مشروطا أو إذا لم يكن مستقرأ استقراء تاما أو أغلبيا والنبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه القرآن على سبعة أحرف فثبت عنه بالتواتر عليه الصلاة والسلام أنّه قال: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف)) ونزوله على سبعة أحرف يستفاد منه في التفسير فوائد كثيرة والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه من التفسير الشيء الكثير وإنما نقل عنه تفسير كثير من الآيات ولكنه ليس بالأكثر والصحابة رضوان الله عليهم نقل عنهم من(17/3)
التفسير أكثر مما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم فسر آيات كثير بحسب الحاجة ففسر مثلا قوله جلّ وعلا {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} بأنّ الزيادة هي النظر لوجه الله الكريم جلّ وعلا وفسر قوله تعالى {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} بأن المغضوب عليهم هم اليهود والضالون هم النصارى وكذلك فسر صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة} بأنّ القوة الرمي ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((ألا إنّ القوة الرمي ألا إنّ القوة الرمي)) وهكذا في أشياء من هذا القبيل كما فسر الخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله جلّ وعلا {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} بأنّ الخيط الأبيض والخيط الأسود هما سواد الليل وبياض الصبح أول ما ينفجر.
الصحابة كانوا يهابون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفسير وكانوا يعلمون أكثر معاني كلام الله جلّ وعلا وذلك لأنّهم رضي الله عنهم شهدوا التنزيل ومشاهدة التنزيل ومعرفة أسباب النزول تورث العلم بمعاني الآيات كما هي القاعدة عند أهل العلم أنّ معرفة السبب يورث العلم بالمسبب.(17/4)
ثانيا: الصحابة رضوان الله عليهم في عهده عليه الصلاة والسلام كانوا يرتحلون معه يغزون معه يجاهدون معه ويسمعون كلامه عليه الصلاة والسلام من جهة السنة فالسنة مفسرة للقرآن كذلك ما يعلمونه من تنوع الأحرف وأنّ هذه الآية أتى تفسير لها في الحرف الآخر من القرآن، أو أتى تفسيرها في موضع آخر من القرآن كما نقول مثلا في قوله جلّ وعلا {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} في أولها قال: {ولا تقربوهنّ حتى يطهرن} هنا هل يكتفى في جواز إتيان المرأة الحائض أن تطهر أم لابدّ أن تغتسل لا بد لهذا من تفسير في القراءة الأخرى {ولا تقربوهنّ حتى يطّهرن فإذا تطهرن فاتوهنّ من حيث أمركم الله} في شواهد كثيرة لذلك يعني أن القرآن يفسر بعضه بعضا والقرآن منه الأحرف السبعة التي أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ومن الأحرف السبعة القراءات السبع المعروفة والعشرة التي بقيت في الأمة من مجموع الأحرف السبعة فإذن القرآن يفسر بعضه بعضا والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يرجعون الآية التي يحتاجون إلى تفسيرها إلى موضع آخر أو إلى قراءة أخرى فيتضح المعنى لهم وهم أهل تدبر للقرآن لأنهم امتثلوا قول الله جلّ وعلا: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} بعد عهده عليه الصلاة والسلام كثر التابعون واحتاج الناس إلى أن يفسر لهم القرآن وسبب زيادة التفسير في عهد الصحابة عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الحاجة إليه دعت وذلك أنّ الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يشهدون التنزيل ويعلمون كثيرا من السنة ويعلمون القرآن والأحرف وذلك بخلاف زمن التابعين فإنهم كانوا أقل في ذلك من الصحابء رضوان الله عليهم فلذلك احتاج من بعدهم إلى أن يفسر الصحابة لهم ذلك.(17/5)
أيضا من المهمّات في التفسير التي تميز بها الصحابة رضوان الله عليهم في عهده عليه الصلاة والسلام وبعد عهده العلم بلغة العرب لأنّ القرآن، أنزل بلسان عربي مبين ومن سبل فهم هذا القرآن أن يكون المتدبر له على علم بلغة العرب فلغة العرب سبيل فهم القرآن لأنّ القرآن جاء بلسان العرب قال جلّ وعلا: {وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبين لهم} فاللسان يبين المعنى معنى الكتاب معنى ما أنزل الله جلّ جلاله ولهذا يحتاج الصحابة إلى معرفة موارد الكلمة في القرآن، في لغة العرب فيفسرونها بما دلت عليه في اللغة وعمر رضي الله عنه على سبيل المثال في ذلك لما كان يتلو سورة النحل في يوم الجمعة على المنبر وقف مرّة عند قوله جلّ وعلا: {أو يأخذهم على تخوف فإنّ ربكم لرؤوف رحيم} فقال عمر: ما التخوف؟ كأنّه أشكل عليه معنى التخوف في هذه الآية فقام: رجل من المسلمين فقال له يا أمير المؤمنين التخوف في لغتنا التنقص قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:
تخوف الرحل منها تامكا فردا
كما تَخَوَّف عودُ النّبعة السَّفِنُ(17/6)
وابن عباس رضي الله عنه يقول: كنت لا أعلم معنى {فاطر السموات والأرض} حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها يعني ابتدأتها قبله ففهم منها معنى فاطر السموات والأرض يعني ابتدأهما على غير مثال سابق لهما وابن عباس له في الاحتجاج بالشعر وباللغة الميدان الواسع وبمطالعة قصته مع نافع بن الأزرق وصاحبه وأسئلة ذينك الرجلين لابن عباس يتضح هذا فإنهما رأيا ابن عباس رضي الله عنهما يعني عن ابن عباس وعن أبيه يفسر القرآن ولا يسأل عن آية حتى يفسرها وهو في ذلك حري لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك فقال نافع لصاحبه قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن نسأله عن مَصَادِقِهِ من لغة العرب فأتيا ابن عباس فقالا له يا ابن عباس إنّا سائلوك عن آيٍ من القرآن لتخبرنا بمعناها على أن تبين لنا مصادق كلامك من كلام العرب فقال: اسألا عما بدا لكما؛ قالا: ما معنى قول الله جلّ وعلا: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} ما الوسيلة هنا فقال ابن عباس الوسيلة الحاجة؛ فقالا له: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم ألم تسمعا إلى قول عنترة:
إنّ الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
قالا: فما معنى قول الله جلّ وعلا {عن اليمين وعن الشمال عزين} ما العزون؟ فقال ابن عباس: العزون الجماعات في تفرقة، جماعة هنا وجماعة هنا وجماعة هنا؛ فقالا له وهل تعرف العرب ذلك؟ -وهما يسألانه ليس للاستفادة من ابن عباس ولكن ليحرجاه- قال: نعم ألم تسمعا إلى قول الشاعر:
فجاءوا يهرعون إليه حتى يكونوا حول منبره عزينا
واحتجاج الصحابة في التفسير بلغة العرب كثير في ذلك فإذن يكون عندنا هنا أنّ مصادر الصحابة رضوان الله عليهم في التفسير عدة فمن مصادرهم في التفسير القرآن بأحرفه السبعة وبالقراءات لأنّ القرآن يفسر بعضه بعضا لأنه مثاني.(17/7)
ومن مصادر الصحابة في التفسير السنة فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم فسر لهم آيا تنصيصا وسنته تفسر لهم آيات كثيرة من القرآن لا على وجه التنصيص.
كذلك من مصادر التفسير عند الصحابة أسباب النزول ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه ما من آية أنزلت إلا وأنا أعلم متى أنزلت وأين أنزلت والله لو أنّ أحدا على ظهر الأرض عنده علم بالقرآن، ليس عندي تبلغه المطي لرحلت إليه، وابن مسعود كان من أعلم الصحابة بأسباب النزول وهكذا غيره.(17/8)
فمن مصادر التفسير عند الصحابة أنهم كانوا يعلمون أسباب النزول كذلك معرفتهم بلغة العرب فإنهم كانوا أهل علم باللسان العربي كما ذكرنا لكم شواهد ذلك كذلك من مصادر التفسير عند الصحابة رضوان الله عليهم العلم بأحوال العرب لأنّ القرآن نزل يفصل أحوال الناس ففيه حديث عن العرب فيه حديث عن مشركي العرب فيه حديث عن أهل الكتاب فيه حديث عن أنكحة العرب فيه حديث عن بيوع العرب منه حديث عن علاقات القبائل بعضها ببعض وهكذا في أشياء شتى فالعلم بأحوال العرب، العلم بتاريخ العرب بقصص العرب هذا يورث العلم بمعاني القرآن مثلا في قوله تعالى: {وأتوا البيوت من أبوابها} أمر بإتيان البيوت من الأبواب وترك الإتيان للبيوت من ظهرها بمعرفة تاريخ العرب وحال العرب في ذلك نعلم معنى هذه الآية، كذلك فيما يتعلق بالأنكحة كذلك فيما يتعلق بأحوال البيوعات والتجارات التي كانت عند العرب وهكذا في أنحاء شتى فمن مصادر التفسير عند الصحابة يعني من مراجع الصحابة في التفسير العلم بأحوال العرب التي كانوا عليها فإنّ من لم يعلم أحوال العرب كانوا عليها في عقائدهم وفي دياناتهم وفي تعبداتهم وفي علاقاتهم الاجتماعية وفي تجاراتهم إلى آخر هذه الأحوال فإنّه لن يحسن التفسير لأنه سيجعل التفسير يناسب قوما آخرين غير الأوائل والقرآن نزل للأولين والآخرين (ومعرفة السبب يورث العلم بالمسبب) (والعبرة كما هو معلوم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) ولكن لابدّ من معرفة ما تشتمل عليه الآية أولاً ويدخل فيها من جهة المعنى من باب الأولية كذلك من مصادر التفسير عند الصحابة سؤال بعضهم بعضا فإنّ ابن عباس سأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله جلّ وعلا: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} فقال عمر: عائشة وحفصة فالصحابة يسأل بعضهم بعضا عن التفسير فيسأل الصغير(17/9)
الكبير ويسأل من لا علم عنده من عنده علم فصار عندهم احتجاج في التفسير بالقرآن وبالسنة وباللغة وكذلك بأقوال الصحابة إلى تفاصيل في ذلك يضيق المقام عن بسطها.
الصحابة رضوان الله عليهم توسعوا في التفسير وكان من مشاهدهم في التفسير عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وكانت ولادته في شعب أبي طالب قبل الهجرة بثلاث سنين ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات بأن يعلمه الله التأويل وأن يعلمه الفقه فقال: اللهم فقهه في الدين اللهم علمه الحكمة اللهم علمه التأويل فبرز ابن عباس في التفسير كثيرا وكذلك عبد الله بن مسعود وكذلك عائشة وكذلك عمر رضي الله عنه وكذلك علي رضي الله عنه فهؤلاء الخمسة يكثر النقل عنهم في التفسير ابن عباس وابن مسعود وعائشة وعمر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
تميزت تفاسير الصحابة بأنّها اشتملت على الألفاظ القليلة والمعاني الكثيرة ولهذا من أتى بعدهم إنما يحوم حول كلام الصحابة ولهذا قال ابن رجب في كتابه فضل علم السلف على علم الخلف قال: كلام السلف قليل كثير الفائدة وكلام الخلف كثير قليل الفائدة، فمما يظهر لك في تفاسير الصحابة أنّها كلمات قليلة ولكن تحتها المعاني الكثيرة.
تميزت تفاسير الصحابة بأنها سليمة من البدع سليمة من الضلال في الاعتقاد لأنهم أئمة المتقين وأئمة السلف وإليهم المرجع في التوحيد والعقيدة فتفاسيرهم مضمونة لا غلط فيها ولا إشكال فيها فمن أخذها فهو يأخذ مطمئن فأما تفاسير من بعدهم فحصل فيها الانحراف بقدر ما عند من بعدهم.(17/10)
تفاسير الصحابة تميزت بأنها يكثر فيها اختلاف تنوع ويقل فيها اختلاف التضاد، واختلاف التنوع معناه أن يكون يعبر عن تفسير الآية الله هو من مفرداتها لا بشيء كلي يشمل جميع المعاني لكن ببعض مفرداتها كما فسروا مثلا الصراط المستقيم فسره بعضهم بالقرآن، وفسره بعضهم بالسنة وفسره بعضهم بالإسلام وهذه من اختلافات التنوع لأنّ القرآن والسنة والإسلام بعضها يدل على بعض ولا يتصور قرآن بلا سنة أو سنة بلا إسلام هذا يسمى من اختلاف التنوع في مباحث هذا العلم اختلاف التنوع واختلاف التضاد فصلها الشيخ تقي الدين ابن تيمية في رسالته في أصول التفسير بعد زمن الصحابة تكونت مدارس لا شك أنّ كل صحابي له تلامذة أخذوا عنه ابن مسعود في الكوفة له تلامذة أخذوا عنه التفسير وابن عباس في مكة له تلامذة أخذوا عنه التفسير فمثلا من تلامذة ابن مسعود عبيدة السلماني والربيع بن خثيم في غيره من علماء التابعين في التفسير من تلامذة ابن مسعود في التفسير سعيد ابن جبير وعكرمة وطاوس وغيره أولئك فإذن الصحابة الذين فسروا القرآن كذلك على في المدينة كل منهم صار له تلامذة أخذوا عنه التفسير من أبرز تلامذة ابن عباس في التفسير مجاهد بن جبر أبو الحجاج وقد عرض التفسير على ابن عباس ثلاث مرات عرض القرآن من أوله إلى آخره يسأل ابن عباس عن التفسير يجيبه ابن عباس عن التفسير ولهذا قال عدد من أئمة السلف إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به لأنّ مجاهدا رحمه الله عرض التفسير على ابن عباس ثلاث مرات كما ذكرت هذه المدارس صار فيها نوع اختلاف مدرسة ابن مسعود فيها اختلاف عن مدرسة ابن عباس من أوجه الاختلاف مثلا أن ابن مسعود كان ينحى كثيرا في التفسير منحى التفسير بأسباب النزول وبالقراءات ابن عباس كان ينحى في التفسير بالسنة وباللغة العربية بالاجتهاد فهنا توسع صارت هناك مدرسة ومدرسة كل مدرسة لها خصائصها التي تميزها عن غيرها.(17/11)
بعد التابعين أتى تبع التابعين فتوسعوا أيضا في التفسير ومن ثمّ بدأ تدوين التفسير بدأت كتابة التفسير كان التفسير ينقل حفظا ينقله الصحابة عن الصحابة ينقله التابعون عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقله تبع التابعين عن التابعين عن الصحابة ثم ابتدأ تدوين التفسير بدأ هناك من يصنف في التفسير كما صنف السدي تفسيره أعني به إسماعيل بن عبد الرحمن الكبير وصنف أيضا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم تفسيره وهكذا كغيرهم هذه الكتابات في التفسير انتقلت على شكل كتب ثم توسعت الكتابة في التفسير إلى أن وصلنا إلى تفاسير جمعت المأثور عن الصحابة وعن التابعين عن تب التابعين في التفسير مثل تفسير عبد بن حميد وتفسير عبد الرزاق مطبوع وتفسير عبد بن حميد لم يطبع ومثل تفسير الإمام أحمد ومثل تفسير ابن أبي حاتم ومثل تفسير ابن جرير الطبري هذه التفاسير دونت تفاسير الصحابة بالأسانيد هذه المدرسة تسمى مدرسة التفسير بالأثر، يعني المدرسة التي يفسر فيها المفسر بناء على ما ينقله من كلام السلف على الآية فينقل بإسناده عن الصحابة وينقل بإسناده عن التابعين في تفسير الآيات ولا تجد في تلك التفاسير الكثير التفسير الخارج عن تفاسير السلف، هناك في خضم هذه الفترة يعني نهاية القرن الثالث تقريبا بدأت كتابات مختلفة فيها تفسير القرآن بالنحو لأنّه نشأت مدارس نحوية نشأت مدرسة نحاة البصرة سيبويه ومن معه نشأت مدرسة نحاة الكوفه ثم بعد ذلك نحاة بغداد وإلى آخره والنحو معتمد على القرآن والمدرسة النحوية يؤثر نظرها النحوي في التفسير فصار هناك رأي في التفسير من جهة النحو ورأى في التفسير من جهة اللغة فصنفت عدة مصنفات كمعاني القرآن للأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة وكذلك مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى في كتب على هذا النحو، أتى هذا ابن جرير وهو إمام المفسرين فصنف كتابه جامع البيان وهو أعظم كتاب ألف في تفسير القرآن بالإجماع وبه عُدّ ابن جرير(17/12)
إمام الأئمة في التفسير وهو محمد بن جرير رحمه الله تعالى المولود سنة 224هـ والمتوفى سنة 310هـ صنف التفسير وجمع فيه ما تكلم عليه العلماء قبله في التفسير غلب عليه الأثر ولكنه اعتنى بالتفسير بالنحو والتفسير باللغة يعني أنّ تفسيره صار فيه عليه لمدرسة التفسير بالأثر ولكن المدرسة الأخرى التي حدثت هي مدرسة التفسير بالرأي ومدرسة التفسير بالأثر كانت قبل ابن جرير وبعده فمن تفاسير العلماء التي تنتمي إلى مدرسة التفسير بالأثر كما ذكرت لك ثم البغوي وابن كثير والدر المنثور إلى غير ذلك.
مدرسة التفسير بالرأي حدثت واختلف في تعريف الرأي فيها ما معنى التفسير بالرأي؟
ويجمعها أن يقال التفسير بالرأي معناه التفسير بالاجتهاد والاستنباط والاجتهاد الذي عمله أصحاب هذه المدرسة اجتهاد محمود واجتهاد مذموم مردود على صاحبه وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث حسنها بعض أهل العلم وضعفها آخرون أنّه قال: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) وفي لفظ قال: ((من فسر القرآن برأيه فقد أخطأ ولو أصاب)) ففيه ذم التفسير بالرأي لأنّ في الأول أنّه إن فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار وفي الثاني أنه إن فسر القرآن برأيه فقد أخطأ ولو أصاب قال العلماء: هذا محمول على المعنى التالي وهو أنّ التفسير بالرأي إذا كان عن هوى وعن انحراف فإنّه يكون تفسيرا برأي يتبوأ صاحبه مقعده من النار فحملوا قوله عليه الصلاة والسلام: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النّار)) بمن قال في القرآن برأيه الذي نشأ عن هوى لا عن أدلة صحيحة كما قدمنا لأنّ الصحابة اجتهدوا في التفسير وقالوا في التفسير بأشياء لم ينقلوها عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قلنا إنه يذم جميع أنواع التفسير بالرأي بالاجتهاد والاستنباط يلزم من ذلك ذم الصحابة على باجتهادهم في التفسير وهذا باطل طبعا.(17/13)
فإذن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) يكون محمول على من فسره عن هوى كقول أهل الفرق المنحرفة كقول المرجئة والقدرية في القرآن وكقول الخوارج وقول المعتزلة وقول الأشاعرة وأشباه هذه الأقوال في القرآن فمن قال في القرآن برأيه وحمل معاني القرآن على رأي حادث خارج عن الإجماع بعد زمن النبوة بمائة سنة أو أكثر فإنّه متوعد بأن يتبوأ مقعده من النار وأما قوله عليه الصلاة والسلام من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ وإن أصاب، قال العلماء معناه من قال في القرآن برأيه وكان رأيه عن جهل لا عن علم فوافق الصواب اتفاقا ولم يأتي للصواب عن علم ويقين للآية عن علم وبينة مثلا واحد يفسر القرآن هكذا بمزاجه بما يطرأ في ذهنه يظهر له معنى للآية فيفسر فهذا وإن أصاب المعنى الصحيح لكنه أخطأ ومتوعد لأنه تجرأ على القرآن ففسره بغير علم.
إذن مدرسة التفسير بالرأي لها اتجاهان:
القسم الأول: الذين فسروا القرآن بالرأي الناشئ عن هوى كما فسرت المعتزلة بآرائهم وأهوائهم وكما فسرت الخوارج والإباضية والرافضة وكما فسر الأشاعرة والماتريدية القرآن بآرائهم وأهوائهم وتركوا تفاسير السلف إلى تفاسير محدثة فهؤلاء مذمومون لأنهم فسروا القرآن برأي لا دليل عليه ولا حجة فيه وإنما نشأ ذلك التفسير عن هوى منهم في ذلك التفسير فهذا رأي مذموم ومردود على صاحبه.
وتمثله عدة تفاسير من التفاسير المعروفة التي ينتمي أصحابها إلى شيء من الفرق التي ذكرت لكم بعضها.
القسم الثاني: من مدرسة التفسير بالرأي الذين فسروا القرآن بالاجتهاد والاستنباط وكان اجتهادهم واستنباطهم صحيحا وهذا إنما يسوغ إذا كمل المفسر شروط جواز التفسير بالاجتهاد والاستنباط وقد تجمع الشروط التي بها يجوز للمفسر أن يفسر القرآن بالاجتهاد والاستنباط فيما يلي:(17/14)
الشرط الأول: أن يكون عالما بعقيدة السلف عالما بالتوحيد بأقسامه الثلاثة بذلك أن يؤمن المفسر من أن يفسر القرآن عن هوى أو على نحو من أراء الجهمية والخوارج والمعتزلة والقدرية والمرجئة إلى آخر تلك الفرق.
الشرط الثاني: أن يكون عالما بالقرآن حافظا له يمكنه أن يفسر القرآن بالقرآن أو يستطيع أن يرد إلى المتشابه في موضع وإلى المحكم في موضع وحبذا لو كان عنده علم بالقراءات.
الشرط الثالث: أن يكون عالما بالسنة حتى يجتهد في آية والتفسير فيها منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الشرط الرابع: أن يكون عالما بأقوال الصحابة حتى لا يفترع تفسيرا ويظهر تفسيرا الصحابة على خلافه وباليقين أنّ التفسير الذي أحدث والصحابة على خلافه نقطع ببطلانه وابن جرير رحمه الله من المهتمين بهذا فمثلا عند قوله جلّ وعلا في سورة الأعراف: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما} نقل عن الصحابة والتابعين أنّ المراد هنا بالضمير هنا في الآية آدم وحواء ونقل عن الحسن أنّه قال المراد بهم اليهود والنصارى من جهة الجنس قال ابن جرير وهذا القول باطل وإنما حكمنا ببطلانه لإجماع الحجة من الصحابة على خلافه فيكون القول به محدثا على خلاف أقوال الصحابة فمن المهم للمفسر أن يرعَ أقوال الصحابة حتى لا يحدث قولا بخلاف أقوال الصحابة لأننا نجزم أنّه لا يمكن أن يكون ثمّ تفسير يغيب عن الصحابة البتة ويكون عند من بعدهم لأنّ الصحابة هم أولى بإدراك الصواب فإذا كان تفسير الآية لا يعرف عند الصحابة والصحابة يفسرون بخلاف هذا التفسير الذي اجتهد فيه صاحبه أو استنبطه فإن نجزم بأنّ هذا التفسير غلط فالحق لابدّ أن يكون محفوظا في الصحابة لأنّهم أهل العلم بالقرآن وأولى من يعلم القرآن.
الشرط الخامس: أن يكون عالما بأحوال العرب كما ذكرنا حتى لا ينزل آيات القرآن، على غير تنزيلها.(17/15)
الشرط السادس: أن يكون عالما باللغة العربية في نحوها وفي مفردتها وفي صرفها وفي علم المعاني من علوم البلاغة وهذا العلم الأفضل أن يكون بالقوة الذاتية بالعلم الذاتي في نفسه وأما إن كان بالقوة القريبة يعني بالمراجعة والكتب فلا بأس إذا استقامت له أصوله وهناك شروط أخر ذكرها طائفة من أهل العلم.
المقصود من هذا أن لا يجترئ من يظن نفسه يحسن التفسير على التفسير بالاجتهاد والاستنباط ولم تكتمل عنده آلاته لأنّ القول في التفسير شديد ولهذا حرّم جماعة من السلف القول في القرآن بالاجتهاد وقالوا لا نفسر القرآن إلا بالنقل عن الصحابة وبعد الصحابة ليس لأحد حق من أن يفسر القرآن وهو مذهب جماعة قليلة من التابعين.
هذه المدرسة مدرسة التفسير بالرأي بقسيمها (الرأي المحمود والرأي المذموم) يمكن أن نجمل التفاسير التي تنتمي لهذه المدرسة إلى أربع مدارس كبرى وذلك لأنّ التفسير بالرأي أكثر بكثير جدا من التفسير بالأثر التفاسير المنقولة بالأثر قليلة بالنسبة للتفاسير المبنية على الآراء فالتفسير بالرأي له عدة مدارس:
المدرسة الأولى: فسرت القرآن بالنظر إلى العقائد وهذه متنوعة فكل أصحاب عقيدة خاضوا في تفسير القرآن على حسب اعتقادهم فالرافضة لهم تفاسير في القرآن تفسير الطبرسي وتفسير الطوسي وهلمّ جرا.
- المعتزلة فسروا القرآن يريدون بذلك أن يبثوا عقائدهم في تفسير القرآن في أغراض معلومة من طالع أوائل كتب التفاسير التي تفسر على هذا النحو علم ذلك.
- الخوارج لهم تفاسير على هذا النحو الأشاعرة لهم تفاسير كثيرة على هذا النحو مثل القرطبي ومثل تفسير أبي السعود ومثل تفسير الرازي وأشباه هذه التفاسير.
- الماتوريدية أيضا لهم تفاسير مثل تفسير النسفي وتفسير الآلوسي روح المعاني وغير هذه التفاسير هذا قسم فسروا القرآن من جهة العقيدة وقد يكون لهم اعتناء بأشياء أخر مثل الاعتناء بالفقه لهم اعتناء باللغة الخ.(17/16)
لكن لهم اعتناء بالعقيدة بثوا العقائد في التفسير وكان لهم هم أن يقرروا عقائدهم في كتب التفسير.
المدرسة الثانية: المنتمية إلى مدرسة التفسير بالرأي مدرسة التفسير الموسوعي ونعني به الذي لم يشترط صاحبه في تفسيره على نفسه نوعا من أنواع علوم بل تجده يطرق كلّ علم من علوم التفسير فهو يفسر القرآن بالأثر ويفسره بأسباب النزول ويفسره باللغة ويفسره بالأحكام الفقهية ويفسره بالأحوال العامة بالعلوم المختلفة (بالتاريخ بالفلك بالرياضيات إلى آخره) كل علم عنده يدخله في التفسير هذا يسمى التفسير الموسوعي ومن أشهر التفاسير التي تنتمي إلى هذه المدرسة (تفسير مفاتيح الغيب) لفخر الدين الرازي وتفسير الآلوسي روح المعاني فإنهم جمعوا فيها كل شيء حتى قيل عن تفسير الرازي فيه كل شيء إلا التفسير وهذه المدرسة تمتاز بكبر تفاسيرها فتفسير الرازي اثنين وثلاثين جزء وتفسير الآلوسي ثلاثين جزء كبير.
المدرسة الثالثة: التفاسير اللغوية وهذه يعتني أصحابها بالنحو بالإعراب باللغة بالاستقاء مثل تفسير أبي حيان الأندلسي (البحر المحيط) ومثل (إعراب القرآن) للنّحاس وأشباه هذه الكتب.
القسم الرابع: والأخير التفاسير الفقهية وهي الموسومة بتفاسير أحكام القرآن لأنهم جعلوا همهم في التفسير أن يقرروا أحكام القرآن وذلك في الغالب يكونون فقهاء والفقيه يعتني بعلمه فإذا فسر القرآن يأتي علمه الذي برز فيه في التفسير فتجده يطيل ويعتني بآيات الأحكام أو الآيات التي فيها أحكام فقهية أو قواعد فقهية أو أصولية.(17/17)
وهذه المدرسة متنوعة بحسب المذاهب فالحنفية لهم تفاسير والشافعية لهم تفاسير فقهية يذكرون فيها أحكام القرآن على طريقتهم يعني على طريقة مذهبهم الفقهي فالحنابلة كذلك والمالكية كذلك فمثلا من تفاسير الحنفية في ذلك "أحكام القرآن" للجصاص ومن تفاسير الشافعية "أحكام القرآن" لإلكيا وللمالكية "أحكام القرآن" لابن العربي "وأحكام القرآن" للقرطبي وللحنابلة "أحكام القرآن" لعبد الرزاق الرسعني وأحكام القرآن لابن عادل الحنبلي فكل مذهب اعتنى بالأحكام الفقهية على مذهبه وجعلها تفسيرا للقرآن هذه مجموع مدارس التفسير بالرأي كل تفسير من هذه التفاسير له منهج وطريقة اعتمدها في تفسيره.
لو عرضنا لتفسير واحد من هذه التفاسير سواء في مدرسة التفسير بالأثر أو مدرسة التفسير بالرأي لنبين شروطه وطريقته لاحتاج إلى درس خاص في ساعة أو ساعتين نبين شروط فلان في تفسيره، تفسير ابن جرير نحتاج فيه إلى درسين أو ثلاثة تفسير ابن كثير نحتاج فيه أيضا لبيان منهجه وكذا أحكام القرآن للقرطبي نحتاج إلى وقت فيها لكن المقصود الإشارات التي بها يمكن أن تدخل هذا العلم الواسع (علم مناهج المفسرين) هذه المدارس استمرّت على هذا المنوال وفي خضمها ظهر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم فشيخ الإسلام كان يفسر القرآن لكنه لم يؤلف تفسيرا والذي كتبه ووجدت في مجلدة مستقلة أنه كان يعتني رحمه الله بتفسير آيات أشكلت على المفسرين (كثر فيها الخلاف بين المفسرين ولم يتضح الراجح فيها) فيجتهد ابن تيمية رحمه الله في حلّ ما أشكل عليهم في تفسيرها.(17/18)
وقد ندم شيخ الإسلام رحمه الله آخر عمره على أنه لم يجعل النصيب الأوفر في عمره للتفسير لأنّه بالتفسير يستطيع المصلح والمجدد ويستطيع الإمام والعالم أن يقرر ما يريد يقرر مناهج السلف يقرر التوحيد يقرر العبادات يقرب الناس إلى ربهم يذكر بالآخرة يعظ بالتفسير يستطيع أن يصل الناس في جميع مشاربهم شيخ الإسلام وابن القيم لم يفسرا كل القرآن وإنما فسرا واعتنيا بآيات إن أشكلت وبما يهم تفسيره من آيات أو سور في التوحيد مثل تفسير سورة الإخلاص تفسير سورة سبح اسم ربك الأعلى تفسير المعوذتين وأشباه ذلك آية الكرسي أو آيات أشكل تفسيرها.
إذن شيخ الإسلام وابن القيم تميزت تفاسيرهم بشيئين:
أولا: أنهم اعتنوا بتفسير سور فيها التوحيد والعقيدة بعامة.
ثانيا: اعتنوا بتفسير آيات أشكل تفسيرها على العلماء من قبل.
هذه المدارس ظلّت مستمرّة والخلف يقلدون من قبلهم فيها وهكذا إلى أن وصلنا إلى مشارف العصر الحديث أنا سرت بكم تاريخيا مرورا بمدارس التفسير حتى يكون عندكم تصور إجمالي للتفاسير واتجاهاتها منذ نشأة التفسير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا الحاضر.
فلمعرفة العصر الحديث نحتاج: إلى ضابط فبالنظر إلى اختلاف وجهة التفسير يمكن أن نقول إنّ العصر الحديث للتفسير يبدأ ببداية القرن الرابع عشر (من ألف وثلاثمائة هجرية فما بعد) وذلك لأنّ التفاسير فيما قبل هذا التاريخ سارت على نمط التفاسير قبل ذلك فمثلا في القرن الثاني عشر أو في القرن الثالث عشر الهجري ظهر تفسير الآلوسي قد سار على نحو ما قبله وظهر تفسير الخطيب الشربيني على نحو ما قبله وظهر تفسير صديق حسن خان على طريقة ما قبله وظهر تفسير الشوكاني "فتح القدير" على طريقة ما قبله يعني أنه منذ ابتداء تميز التفاسير في مدرسة التفسير بالرأي على نحو ما ذكرنا لم يظهر اختلاف كثير في مدارس التفسير حتى ابتدأنا في العصر الحديث.(17/19)
العصر الحديث ظهرت تفاسير مختلفة ومتنوعة المشارب واجتهادات كثيرة في التفسير وكان لذلك سبب ولابد من معرفة السبب حتى يتصور لمَ ظهرت تلك التفاسير؟
لمّا جاءت الحملة الاستعمارية على البلاد الإسلامية وبخاصة حملة نابليون على مصر وصار فيها ما صار من ضرب لأصول العلوم الإسلامية نشأت ناشئة طلب منهم أن يذهبوا إلى فرنسا ليدرسوا فيها العلوم (الأدب أو علوم حديثة) ما شابه ذلك وكان الأزهر إذ ذاك يمانع أن يرسل أحد من أبناء المسلمين إلى أوربا فصار هناك اقتراح أن يذهب مع كل طائفة عالم من علماء الأزهر حتى يشرف على أولئك الطلبة وحتى يعلمهم ويحجزهم من الانحراف إن كان فذهب في مقدمات من ذهب بعض علماء الأزهر (من غير تسمية) وهؤلاء لما رجعوا مع التلامذة تأثروا بما عند الغرب (صار عندهم شيء من الإحراج) في ذلك الوقت الغرب عنده تقدم في الحضارة وبلاد المسلمين في تأخر وعدم تطور مدني فصاروا في إحراج من جهة أنّ بعض الجهلة من ذوي الثقافة الغربية عزوا التأخر في ذلك الوقت إلى الدين واتباع الناس للكتب القديمة وللتفاسير القديمة والناس ظلّوا على ذلك المنحى وهي التي أخرتهم عن التطور فظهرت هناك أقوال كثيرة تشكك في الإسلام وتشكك في القرآن وتشكك في السنّة إلى غير ذلك حتى صار ذلك شائعا في الناس بعض ضعاف النفوس في ضوء ذلك ظهرت فئات كثيرة من المسلمين تشككت في الدين في القرآن في السنة وبسبب تلك البعثات وخروج مدارس اللغات الاعتناء باللغات الأجنبية والاعتناء بالآداب الغربية والاهتمام ببحوث المستشرقين إلى غير ذلك.(17/20)
فمن العلماء من نظر إلى هذا الداء فوجد أنّ سبيل ارجاع المسلمين إلى دينهم أن يعتني بتفسير القرآن بتفسير عقلي يعظم القرآن في نفوس الناس حتى لا يبعدوا عن الدين وظهرت في هذا مدرسة محمد عبده أحد مشايخ الأزهر الكبار وأحد الذين اعتنوا بتفسير القرآن ومن امتداد مدرسته محمد رشيد رضا الذي كتب (تفسير المنار) معتمدا في كثير منه على تفاسير شيخه محمد عبده، هذا الوصف الذي ذكرنا نتج منه ضعافا في نفس بعض العلماء جعلهم يحملون القرآن على ما عند الغرب من العلوم فمثلا الآيات التي فيها ذكر لبعض المعلومات الفلكية ينزلونها على المكتشفات الحديثة وبالتالي يجعلونها دليلا على صحة القرآن وأن القرآن سبق الغرب لذلك وكذلك المعلومات الطبية أو المعلومات الغيبية وهكذا...ففسروا القرآن بتفسير عقلي خرجوا فيه عن التفاسير السابقة وعن تفاسير السلف وعما يجوز لأجل أن لا يتشكك الناس في القرآن وأن يقبل الناس القرآن وأن يعظموا القرآن ففسروا الآيات التي فيها بعض الكلام على الأجنّة في ما عند الغرب في ذلك وبعض الآيات الغيبية في الطب مثلا أو في الفلك أو في حال المطر أو ما أشبه ذلك أو في العيون في الأرض أو الأشجار أو النبات أو الجبال إلى غير ذلك...بتفسيرات توافق ما عند الغرب من العلوم وانهال الناس على محمد عبده ويحضرون تفسيره لأنه جعل تفسيره فيه الإصلاح وجعل فيه جدة على ما كان عليه المفسرون من قبل وضم إليه تلك التفاسير وانحرف في كثير منها إذ جعل القرآن تبع لمكتشفات الغرب ومن المعلوم أنّ تلك المكتشفات أو تلك النظريات تصلح في وقت وربما أتى ما هو أفضل منها فأبطل تلك النظرية أو ما هو أعمق بحثا واستقراء فصارت الأولى غير صحيحة فحمل القرآن على النظريات العلمية وتفسير القرآن بالنظريات العلمية هذا لا يسوغ لأنه حمل للقرآن الذي هو حق ثابت لا يتغير بشيء قد يتغير، نعم إنّ القطعي لا يناقض قطعيا واليقيني لا يناقض اليقيني فالعلم اليقيني لا(17/21)
يمكن أن يأتي في القرآن شيء بخلافه وكذلك العلم القطعي لا يمكن أن يأتي في القرآن بخلافه لكن تلك النظريات حملت عليها آيات من القرآن لضعف في نفوس أصحاب هذه المدرسة فنشأت أولى مدارس التفسير في العصر الحديث وهي تفسير القرآن بطريقة عقلانية يجمع فيها ما بين مكتشفات الغرب والمكتشفات العصرية وما بين المتقدمين فجعلوا خليطا واهتموا بالأشياء الحديثة وظهر لذلك تفسير طنطاوي جوهري وتفسير كما ذكرنا محمد عبده وفي خضم ذلك أنكرت بعض الغيبيات وفسر القرآن بتفاسير باطلة وأنكرت أشياء ظاهرة وكان في ذلك شيء من الانحراف في التفسير هذا نوع من مدارس التفسير التي ظهرت في العصر الحديث وقد ذكرنا سبب ظهور هذا النوع من التفاسير.
المدرسة الثانية: هي مدرسة تفسير القرآن على هامش المصحف وكان هذا ممنوعا في الزمن الأول أن يجعل القرآن في هامش المصحف لأنّ القرآن يجب أن يبقى كما هو وألاّ يدخل عليه ولكن لما توسع العصر وصار الناس بحاجة إلي شيء يبين لهم معاني القرآن مع آي القرآن فجعلوا تلك التفسيرات في هامش المصحف فصارت هناك تفاسير مختصرة طبعت مع المصحف وهذا نوع انتشر فصار هناك من اختصر مثلا تفسير الطبري وجعله في هامش المصحف في السنوات الأخيرة ومنهم من ألف تفسيرا لنفسه وجعله على هامش المصحف ومنهم من اختصر أو طول إلى آخره بهذا الشكل وهذا شيء جديد لم يسبق له مثيل في الزمن الأول.(17/22)
المدرسة الثالثة: مدرسة: التفاسير الدعوية وكان لظهورها سبب وهو أنه في هذا العصر ونعني به ما بعد سنة ألف وثلاثمائة هجرية مع ظهور الفساد وبعد الناس عن الدين وتسلط الاستعمار والغزو الثقافي الذي حصل للمسلمين وإبعادهم عن دينهم وعن القناعة بشرع الله جلّ وعلا ظهرت هناك جماعات مختلفة في العالم الإسلامي العربي وغير العربي فيها الدعوة لإرجاع الناس إلى الدين ولا شك أنّ الداعية يحتاج إلى أن يكون اعتماده على القرآن لهذا احتاجت تلك الدعوات إلى أن يفسر بعض منهم القرآن فاعتنى كبار بعض أصحاب تلك الدعوات بتفسير القرآن وتلك التفاسير كان المفسر يفسر فيها مراعيا أسباب الدعوة التي ينتمي إليها فمثلا فسر بعضهم تفسيرا موافقا لأصول جماعة التبليغ وبعضهم فسر القرآن على طريقة الإخوان المسلمين وبعضهم على طريقة جماعة النور في تركيا وبعضهم فسر على طريقة العلماء (جمعية العلماء أو رابطة العلماء في الجزائر) وهكذا في الباكستان والهند ظهرت مدارس كتفاسير الجماعة الإسلامية تفسير المودودي وغير ذلك هذه التفاسير فيها تفسير بالرأي يعني (الواقعي) نظروا في التفسير من جهة التأثير الدعوي في الناس ففسروا القرآن وهم ينظرون إلى الواقع لكي يؤثروا على الناس من طريق القرآن.
وهذه الطريقة خطأها أضعاف أضعاف صوابها لمَ؟
لأنّها أولا: مبنية على رأي مجرد من الأثر بل قد يكون مخالفا للأثر.
ثانيا: يخضعون نصوص القرآن للواقع فيجعلون الواقع هو الحاكم على القرآ، يجعلون الآيات تبعا لأحداث وتطورات الواقع.
ثالثا: بعض أصحاب هذه الطريقة يحكم على أمور لم تنجلّ بعد ويكون مبناها على أمور مستقبلية متكهنة.
رابعا: تأثر بعضها بعقائد منحرفة تصدع بالعقيدة السلفية.
ظهر من خلال هذه التفاسير وغرس الجوانب الدعوية في تلك الجماعات المختلفة في تفاسير أصحابها.(17/23)
هذه المدرسة ومن أمثلة تفاسير هذه المدرسة تفسير المودودي "ترجمان القرآن" وتفسير في ظلال القرآن لسيد قطب، وأشباه هذه التفاسير وتفسير "الأساس في التفسير" لسعيد حوى وأشباه تلك التفاسير.
من التفاسير أيضا التي ظهرت في العصر الحديث تفاسير المعاني للغات أخر وهي المسماة ترجمات القرآن وهي تراجم لمعاني القرآن فظهر في أغلب اللغات الحية في العالم تفسير والبعض يسمّيه تفسير القرآن وهذا غلط لأن القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين لا يمكن لأحد أن يترجمه لأي لغة كانت ولكن الصواب أنها تراجم لتفسير القرآن فيأتي هذا الذي ترجم بنظر إلى الآية ويفهم تفسيرها بمراجعة كتب التفسير ثم يترجم مافهمه من التفسير وإلا فإنّ القرآن لا يمكن أن يترجم إلى أي لغة كانت لأنّ لغة العرب شريفة وفوق كلّ اللغات فمثلا في قول الله جلّ وعلا في سورة البقرة {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ} فاللباس كيف يفسر باللغات الأخر؟ اللغة العربية فيها سعة لأصول الكلمات وكليات المعاني ولهذا إذا أتت الترجمة فلا بدّ أنّ المترجم يترجم بالنظر إلى تفسير الآية فكل ترجمة للقرآن تعد بمثابة تفسير ولهذا ظهرت في التراجم المختلفة تأثر تلك الترجمة بمذهب صاحبها إذا كان صاحبها قاديانيا أثر في ترجمته وهناك ملاحظات على بعض الترجمات من جهة مذهب صاحبها فإذا أتى لنعيم الجنة وجحيم النار فسرها على مشربه إذا أتى إلى الرقم تسعة عشر عظم ذلك وإذا أتى لبعض الغيبيات فسرها على طريقته ونحلته وبعضها تراجم لمعاني القرآن سلفية طيبة لبعض اللغات الحية وبعضها تفاسير أشعرية وبعضها تفاسير ماتوريدية وبعضها تفاسير دعوية إذن تراجم معاني القرآن التي تراها هي شيء محدث في هذا العصر وتنتمي إلى مدرسة التفسير بالرأي ويمكن للناظر فيه أن يجعله تفسيرا وأن يدرجه ضمن أي مدرسة من مدارس التفسير التي ذكرنا حسب عقيدة ومنهج وطريقة المترجم.(17/24)
وامتدادا للمدارس التي ذكرناها نهج من وجد من المفسرين المعاصرين كل واحد سلك مدرسة من تلك المدارس ولكل قوم وارث فمثلا التفسير:
بالنظر إلى الأحكام الفقهية وهذا ظهرت له عدة تفاسير مثل تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن فإنّه اعتنى بالفقهيات جدا وتفسير القرآن باللغويات بالبلاغة أو بالنحو له عدّة تفاسير مثل تفسير التحرير والتنوير للطّاهر بن عاشور والتفاسير الأثرية التي اعتمد فيها صاحبها على الأثر مثل تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وغيره ومنها تفاسير اعتمد أصحابها عقائد في فرقهم الباطلة كتفاسير الرافضة وتفاسير الإباضية تفاسير الخوارج إلى غير ذلك يعني أنّ كل التفاسير القديمة جاءتنا من جديد.
وبناء على ما ذكرنا: ينبغي على طالب العلم المهتم بالقرآن إذا أراد أن يراجع تفسيرا أو أن يجعل في بيته تفسيرا لكتاب الله جلّ وعلا عليه أن يحرص أتمّ الحرص على أن يسأل أهل العلم هل هذا التفسير تفسير مأمون أم لا؟ لأنّ من التفاسير ما لا يحمد وربما أضل من ينظر فيه فلا بد أن تسأل حتى لا تأخذ تفسيرا منحرفا في العقيدة تفسير للمعتزلة أو تفسير للأشاعرة مثل تفسير الفخر الرازي وتنظر فيه ربما هذا حصلت عند شبه كثيرة في التفسير، التفاسير كما رأيت كثيرة جدا تبلغ مئات من التفاسير أعداد كبيرة هذا من جهة التفاسير التي فسرت القرآن كاملا، أما من فسر سورة من القرآن فسر جزء من القرآن فهذا ليس حديثنا فيه مع أنه يمكن أن يدرج ضمن مدرسة من المدارس التي ذكرنا.(17/25)
إذا تبين فما من شك أن الراجح والمفضل من التفاسير المختلفة التي كثرت في الأمة جدا التفاسير التي تعتمد على أقوال السلف وعلى أقوال الصحابة والتابعين (التفاسير المنتمية إلى مدرسة التفسير بالأثر) ومدرسة التفسير بالرأي مفيدة لأنّ فيها استنباط وفيها لغويات وفيها نكت ولطائف والنكت هي الفوائد المهمة لكن لا تؤمن لأنّ أكثر من تعاطى التفسير بالاجتهاد والاستنباط (التفسير بالرأي) عنده انحراف في العقيدة أو عنده انحراف في السنة ولهذا لابد من الانتقاء وأقل التفاسير في الاجتهاد والاستنباط بالرأي خطأ حتى تكون أخطاؤه معدودة تفسير الشوكاني (فتح القدير) الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير الرواية يعني بها التفسير بالأثر والدراية يعني بها التفسير باللغة والنّحو والاستنباط وبتفسير القرآن بالقرآن وبتفسير القرآن بأصول الففه إلى غير ذلك من المباحث فمن احتاج إذن إلى أن ينظر في تفسير من التفاسير بالرأي فليكن تفسير الشوكاني فتح القدير يتلوه وهو أصعب منه تفسير أبي حيان الأندلسي (البحر المحيط) فإنه في العقيدة يغلب عليه السلامة وأما غيرها فيها انحرافات كثيرة مع كثرة الفوائد التي فيها لكن لا تصلح إلا لطالب علم متمكن يميز التفسير الصحيح من الباطل.
هذا عرض موجز مختصر يمكن أن تعتبره مدخلا لمعرفة مناهج المفسرين على جهة التفصيل ولا شك أنّ هذا العلم علم مهم وواسع ولا يمكن طرقه في محاضرة أو درس أو اثنين أو عشرة أو عشرين لابد له من سعة في الوقت وأيضا استعدادات عند المتلقين لأننا إذا دخلنا في التفاسير وذكرنا مميزاتها ومناهجها لابن من التفصيل ولأن ّ من التعرض لعلوم متنوعة تلحظ مما ذكر أنه عرض مختصر من بداية نشأة التفسير إلى وقتك الحاضر.(17/26)
أسأل الله جلّ وعلا أن ينفعك وإياي بما ذكرت وأن يجعلنا من المتبصرين في العلم الجادين فيه وأن ينعم علينا بالإقبال على القرآن وأن يتفضل علينا بفهم تفسيره وتدبر آياته وأسأل الله جلّ وعلا لي ولكم العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(17/27)
شرح معاني سورة الفاتحة
[(02) شريطان مفرغان]
علينا لِزاما أنْ نتدبّر هذه السورة العظيمة الجليلة، التي افتتح الله بها كتابه، إذن أيها الإخوان فكلامنا مهما كُرِّر، ومهما كان معروفا في هذه المسائل، فإنما هو لتثبيتها، إذْ هي القضية الأولى، القضية العظمى، والمسألة المهمة، بل هي المسألة الرأس التي بُعث الأنبياء بها؛ توحيد الله بالعبادة، أن لا يعبد إلا الله.
أَعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (4) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (6) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)?
بسم الله الرحمن الرحيم
...ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةٌ أنس بها القلب فحالفها وألفها وصدّ عن من كرهها وخالفها، وأشهد.... ([1]) الذي لم يدع فسادا إلا أصلحه، ولا مُغلَقا من الأمور إلا فتحه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وعلى صحبه وسلّم تسليما كثيرا.
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة المقال، كما نعوذ بك من فتنة الفِعال، ونعوذ بك اللهم من العِيِّ والحَصَر، كما نعوذ بك اللهم من السّلاطة والهذر، فإن في كل منهما أدواء يعزّ لها الطبيب، وتعصي على الرفيق أعني المداوي.(18/1)
ليتنا حين نقدم لبعض المحاضرات كهذه، ليتنا نُخلي تقديمنا من الثناء في وجه المحاضر أو المتكلم، فإن السلف الصالح رضوان الله عليهم لم يكن هذا من هديهم، إنّ المحبة في القلوب، وإنها وإنْ كانت المحبة التي في القلوب تأبى إلا وأنْ تظهر، لكن الأفضل ألاّ تظهر في وجه من هو لها، لذا قال السلف: اتقوا المدح فإنه الذبح.
اللهم إنا نعوذ بك؛ نعوذ بك أن يؤثر فينا المقال، وإن كان حقا، كما نعوذ بك من أن تلين أنفسُنا إلى المدح، وإن كان صدقا.
حديثُنا الليلة أيها الإخوان الأكارم عن آيات من كتاب الله، نحاول أنْ نلتمس فيها ومنها بعض المعاني، التي تنير القلوب، وتحيي النفوس، وتَلْقَحُ الأفهام، وتنير الأفكار.
كتاب الله -أيها الأخوان- هو الكتاب الذي أنزله الله علينا لنتدبره، أنزله الله علينا لنتفهّم آياته، أنزله الله علينا ليكون لنا عبرة بما فيه، أنزله الله علينا لنأخذ منه كلَّ علومنا صغيرها وكبيرها.(18/2)
يقول الله جل وعلا ?أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الْأَوَّلِينَ?[المؤمنون:68]، وقال جل وعلا في آية سورة محمد ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا?[محمد:24]، وقال جل وعلا في آية النساء ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?[النساء:82]، إذن فحقّ علينا أنْ لا نقرأ القرآن قراءة الأمانيّ؛ قراءة الذين لا يعرفون ما تحت كلماته من المعاني العظيمة؛ المعاني التي لو كانت أُلقيت على الجبال لخرت الجبال هدًّا و لتصدعت الصخور منها، القُرَّاء؛ قُرّاء القرآن قد يكونون كثرة، ولكن من منا يتدبر، من منا يؤثر فيه هذا القرآن كما أثر في ذلك الجيل الكريم؛ جيل الصحابة رضوان الله عليهم، فأثمر فيهم قلوبا؛ قلوبا جاهدت في سبيل الله، نصرت دين الله لم تأخذها في ذلك محبة الأرض ولا محبة النساء ولا محبة الأهل ولا محبة المساكن ولا غير ذلك من المحابّ، تركوا ذلك، تركوا ذلك وتجردوا لنشر هذا الدين، لنشر ما جاء به القرآن.(18/3)
وإنّ أول سور القرآن هي سورة الفاتحة؛ أمّ القرآن؛ والسبع المثاني التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة أول ما نَزلت، وشُرعت بها قراءة في الصلاة، لا تصح الصلاة إلا أن تُقرأ الفاتحة في كل ركعة من ركعاتها، ثبت في صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله أنّ رسول صلى الله عليه وسلم قال «كلّ صَلاَة لا يَقْرَأْ فِيهَا بفَاتِحَة الكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ، خِدَاجٌ، خِدَاجٌ »، فقراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، الفاتحة التي نكرّرها في كل يوم وليلة أكثر من سبعَ عشرة مرة، هل تدبرنا ما فيها من المعاني؟ أم قرأناها قراءة من يبدؤها يريد إنهاءها ؟ إنه لمن العجب، لمن العجب أنْ نقرأ سورة سبعَ عشرة مرة، ثم لو سألنا سائل: ما المعاني المندرجة في هذه السورة؟ وما التي تفيده هذه السورة، ما الذي يفيده قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)؟ ما الذي يفيده قوله تعالى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)؟ ما الذي يفيده قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؟ إلى غير ذلك من آيات السورة.
إذن أيها الإخوان كان علينا لزاما أنْ نتدبّر هذه السورة العظيمة الجليلة، التي افتتح الله بها كتابه، ونرجو أنْ ينفعنا الله جل وعلا في هذه الليلة ببعض ما ورَّثه لنا علماؤنا الأوائل وسلفنا من المعاني التي اشتملت عليها هذه السورة العظيمة.
إذا أراد القارئ أن يقرأ القرآن شُرِع له أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم كما قال جل وعلا في سورة النحل ?فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ?[النحل:98].
وهذه الكلمة (أَعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) معناها ألتجئ وأعتصم وألتصق بجناب الله جل وعلا وبالله جل وعلا من شرّ الشيطان. (الرَّجِيمِ) يعني المرجوم؛ المطرود من رحمة الله، ألتجئ بالله وأعتصم من شر الشيطان أنْ يضرني في أمر من أمور ديني، أو أن يضرني في أمور من أمور دنياي.(18/4)
فإنّ الشيطان نصب نفسه لعداوتكم، فانصبوا أنفسكم لعداوته، الشيطان طلب من ربكم جل وعلا حين عصى -عصى ربه في السجود لآدم- طلب من ربكم أن يؤخره إلى يوم يبعثون، فأجابه ربكم حكمة وابتلاء، الشيطان لم تهدأ عداوته لبني آدم، لم تهدأ ولن تهدأ حتى يُدخل من يدخل منهم النار، ولن ينجو من الناس إلا صنف واحد ? قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ?[ص:82-83]، إذن لن ينجوا من حبائل الشيطان إلا أهل الإخلاص، وأهل الإخلاص هم الذين استعاذوا بالله؛ بالله وحده من شر الشيطان، استعاذوا بالله وحده من الشرور التي قد يحدثها الشيطان، وقد يحدثها أولياء الشيطان.
فإن الاستعاذة بمعناها الذي قدمناه، إنّ الاستعاذة بمعناها الذي قدمناه نوع من العبادة، لا تصح إلا لله جل وعلا، نوع من العبادة لا يجوز أنْ تصرف لغير الله؛ بمعنى أنه لا يجوز لمسلم؛ يحرم على المسلم أن يستعيذ بغير الله جل وعلا من أي شر وقع أو متوقع، وهذا المحرم رتبته الشّرك، فإنّ المحرمات درجات أعلاها الشّرك بالله ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[الأنعام:151]، يقول جل وعلا في سورة الجن ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا?[الجن:6]، أي إثما لأنهم فعلوا الشرك، وذلك أيها الإخوان أنّ الاستعاذة؛ وهي طلب اللجوء والاعتصام بالله جل وعلا، هي عمل القلب لابد وأنْ يكون المستعيذ، لا بد أن يكون في قلبه من تعظيم المستعاذ به ومن تقديره ومن محبته والخضوع له، لابد وأن يكون في قلبه من هذا شيء كثير، وكل هذه لا تصلح إلا لله جل وعلا، فالاستعاذة إذن حقٌّ لله جل وعلا، لا يجوز بأي حال أن تصرف لغير الله جل وعلا، لا يستعاذ من إنس أيا كانت درجته، ولا يستعاذ بملك، ولا يستعاذ بجنيّ.(18/5)
قد يقول بعض الإخوان: وهل يوجد هذا اليوم ؟ نقول قد يوجد، ولكن التحذير منه هو سنة الأنبياء، التحذير منه هو الذي ورّثه لنا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، بل كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يخافون أكثر ما يخافون من الوقوع في الشرك، وهم الأنبياء الذين عصمهم الله جل وعلا من الوقوع في حبائل الشياطين بالشرك، قال إبراهيم الخليل داعيا ربه له ولبنيه قال?وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ?[إبراهيم:35]، إبراهيم الخليل؛ خليل الله يسأل ربَّه أن يجنبه هو وبنيه أن يعبدوا الأصنام، هل كان خائفا؟ نعم، كان خائفا وَجِلاً، وهذه هي مرتبة المخلصين، أما مرتبة المغرورين فإنهم إذا ذُكروا بالتوحيد وذُكروا بترك الشرك، قالوا وهل نحن واقعون فيه حتى تنهانا؟ وهل نحن فيه خائضون حتى تنهانا؟ هذه هي مرتبتهم، فانظر البون الشاسع والفرق بين حال الأنبياء الذين يسألون ربهم أنْ يجنبهم هم وبنيهم من عبادة الأصنام، وبين حال القوم الذين ترى، يستكبرون عليهم أن يتكلم في التوحيد؛ توحيد الله، وذلك لأنه لم يجدوا اللذة التي وجدها أولئك الذين وحّدوا الله حق توحيده، فإن التوحيد أيها الإخوان له لذة تخالط القلوب، تخالط القلوب يعرفها من يعرفها، قال إبراهيم التَّيْمي أحد السلف الصالح عند هذه الآية: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) قال إبراهيم: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم.
إذن أيها الإخوان فكلامنا مهما كُرِّر، ومهما كان معروفا في هذه المسائل، فإنما هو لتثبيتها، إذْ هي القضية الأولى، القضية العظمى، والمسألة المهمة، بل هي المسألة الرأس التي بُعث الأنبياء بها؛ توحيد الله بالعبادة، أن لا يعبد إلا الله.(18/6)
تأمل سورة الأعراف وسورة هود وغيرها من السور، تجد ذلك جليا، ففي سورة الأعراف حكى الله جل وعلا عن نبيه نوح أنه قال لقومه ?لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[الأعراف:59]، (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) هذه أول كلمة قالها نوح لقومه، ثم بعد هود قال لقومه ?اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[الأعراف:65]، ثم بعد ذلك صالح ?وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ?[الأعراف:73]الآيات، ثم بعد ذلك شعيب ?وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[الأعراف:58]، إذن هذه المسألة؛ مسألة التوحيد مسألة فهم معنى (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) جديرة بل واجب أنْ نعتني بها أيما اعتناء، نعتني بها فوق اعتنائنا بأي شيء، إذْ هي الغرض وهي الغاية من وجودك، وهي تحقيقها، وجب تحقيقها سوف يأتي إن شاء الله جل وعلا معنى هذه الكلمة العظيمة عند قوله سبحانه وتعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).
والشياطين نوعان: شياطين الإنس وشياطين الجن.
شياطين الجن قد لا يُروا كما قال جل وعلا ?يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ?[الأعراف:27] شياطين الجن مكرهم قد يخفى على كثير من الناس أعني المسلمين.
والصنف الآخر من الشياطين الذين يدخلون في عموم الآية في عموم الاستعاذة (أَعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) يدخلون في حكم الشيطان بالتّبع؛ لأن الشيطان هنا ما دام أنه عرف ووصف بالرجيم أنه إبليس، لكن يدخل فيه أولياؤه.(18/7)
إذن وأنت تستعيذ الله من شر الشيطان الرجيم استحضر في قلبك استعاذتك من شر أوليائه، من شر أوليائه من الإنس ومن الجن قال جل وعلا في سورة الأنعام ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ?، ما أوصافهم؟ ?يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا?[الأنعام:112]، هذه صفاتهم، وتأمل هذه الصفات تدبرها، وانظر الواقع تعلم وتعرف من هي الشياطين التي تصدك عن دينك.
(أَعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
البسملة آية من كتاب الله، وقولك (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) معناه أبتدئ، إن كنت تقرأ؛ تتلو القرآن، فمعناها أبتدئ تلاوتي متبركا باسم الله، متبركا بكل اسم لله جل وعلا؛ لأن قولَك (بِسْمِ اللَّهِ) هذه نكرة، (بِسْمِ) نكرة، فدخلت فيها جميع أسماء الله جل وعلا، ابتدئ تلاوتي متبركا بكل اسم لله جل وعلا، ابتدئ تلاوتي مستعينا بالله جل وعلا، متبرئا من الحول والقوة، فإنه لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يتبرأ من الحول والقوة، بعض الناس يفخرون بما عندهم، وهذا دليل القصور إما قصور العقل أو ضعف الإيمان، يعتقدون أنهم هُدُوا بحولهم وقوتهم، يعتقدون ما عندهم من زخرف وأموال بحولهم وقوتهم، يعتقدون أن ما عندهم ما لهم من الصحة الآتية بحولهم وقوتهم، والمؤمن يتبرأ من الحول والقوة فإنه لا يستقيم الإيمان، إيمان العبد حتى يتبرأ من الحول والقوة، ولذا جاء في الأثر الذي أخرجه الترمذي في جامعه «من قال لا حول ولا قوة إلا بالله غُرست نخلة في الجنة» وإسناده لا بأس به، (من قال لا حول ولا قوة إلى بالله غرست له نخلة في الجنة) قيل للحسن: إذن نُكثر. قال: فالله أكثر.(18/8)
حَذف المتعلق الذي تعلق به الجارّ والمجرور؛ أعني (بِسْمِ اللَّهِ) حذفه أيضا دلّ على العموم، والحذف شائع معروف في كلام العرب، إذا حُذف الفعل الذي تعلق به الجار والمجرور قد بالمناسب، وهنا حذف ليدل على عموم الأفعال وعلى عموم المتعلَّقات، فإنك تطلب البركة وتطلب العون بقولك (بِسْمِ اللَّهِ) وتطلب أشياء كثيرة.
نزل أضياف من الجن على أحد العرب وهو كان في البرية، فخاف منهم، فلما قدَّم الطعام، سألهم قال: مِنُونَ أنتم؟ قالوا: الجن. قلت: علم ظلامَ. فقلت: إلى الطعام. فقال منهم فريق نحسد الإنس الطعام، فقد فضلتم الأكل فينا، ولكن ذاك يعقبكم سقما. ([2])
الشاهد من هذا أنه قال: إلى الطعام؛ يعني هيا إلى الطعام؛ قوموا إلى الطعام.
فالمحذوف في قولك (بِسْمِ اللَّهِ) تقدره أنت بما يناسب حالك، فإذن من يقول (بِسْمِ اللَّهِ) متدبرا لحاله، ومتدبرا للبركة الحاصلة من هذه الكلمة لابد أن يكون قلبه حاضرا بالكلام، لا يقول (بِسْمِ اللَّهِ) وقلبه بين الأودية أودية الدنيا يسيح، لا.
البركة التي قلنا إنها متعلقة هنا وأنك تقول أبدأ تلاوتي مثلا، أو شربي، أو طعامي، أو لباسي، أو قراءتي، أو نحو ذلك، متبركا لكل اسم هو لله جل وعلا، ما معنى البركة هنا؟ البركة هي طلب النماء والزيادة؛ يعني أنك حين سألت الله جل وعلا وطلبت منه البركة؛ طلبت منه جل وعلا وحده أن يعطيك وحده نماء وزيادة في أجر عملك هذا الذي عملته، وربنا جل وعلا من لطفه بنا ورحمته بنا، أمرنا بأن نفتتح ونقول (بِسْمِ اللَّهِ)، ثم مع ذلك، الدعوة خير لنا، فانظر هذه الرحمة العظيمة بعباد الله، يأمرنا سبحانه أن نسمى، وفي هذه التسمية مصلحة لنا، أي مصلحة، وهي طلب النماء والزيادة في عملنا؛ طلب الزيادة من الخير ومن الثواب في صلاتك، في تلاوتك، طلب المنفعة في شرابك، طلب المنفعة ودفع المضرة في طعامك، ونحو ذلك.(18/9)
والبركة لله جل وعلا، البركة من الله يعطيها عباده، ليست البركة للعباد يعطونها من شاءوا، لا، البركة لله جل وعلا يعطيها من شاء من عباده، ولذلك قال جل وعلا ?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ?[الفرقان:1] (تَبَارَكَ) هذه الصيغة تَفَاعَل تُفيد أعلى وأعظم، تفيد أعلى وأعظم أنواع البركة وأعمها متعلقا وأثرا، البركة لله هو الذي سبحانه يعطيها من شاء من خلقه؛ فأعطاها الأنبياء، قال جل وعلا?رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ? يعني بركات الله ?عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ?[هود:73] في سورة هود، وقال جل وعلا في سورة الصافات ?وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ?[الصافات:113] (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ) من المبارِك؟ هو الله، أليس كذلك؟ ومن المبارَك عليه وعلى إسحاق؟ يعني على إبراهيم وإسحاق، أو على إسماعيل وإسحاق، وقال جل وعلا في سورة فصلت ?وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا?[فصلت:10].
المقصود من هذا أنّ البركة لله جل وعلا يعطيها من شاء من خلقه، وقد دلت الآيات ودلت السنة النبوية على أن البركة نوعان: بركة في الذوات، وبركة في الأعمال.
أما بركة الذوات: فهي للأنبياء والرسل لا يَشركهم فيها غيرهم، ولا يدخل فيها غيرهم، فلا تُطلب البركة؛ بركة الذات؛ يعني أن يُتَمَسَّح ببعض الناس، أو تُقَبَّل أيديهم دائما، أو يُغتسل بوضوئهم، ونحو ذلك، هذا ليس إلا للأنبياء؛ لأن الله جل وعلا أخبر في كتابه أنه أعطى البركة للأنبياء، ولم يخبر جل وعلا ولم تدل السنة؛ سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أن البركة أُعطيت -أعني بركة الذوات- لغير الأنبياء.(18/10)
صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يطلبوا البركة بهذا المعنى أعني بشرب بقية الماء مثلا، أو بالوَضوء أعني بالتوضؤ بالوَضوء؛ وهو الماء، أو التمسح، أو تقبيل اليد، فإن هذا كله منكر، وهذا ممنوع في الشريعة ومحرم لأمور كثيرة.
النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنّ الصحابة كانوا يتبركون بذاته، يتبركون بذاته أو بأجزاء ذاته، يُقَبِّلون يده، يقبلون بطنه؛ يعني طلبا للفضل والبركة، يشربون بقية الماء، يَتَبَرَّكون بشعره، ونحو ذلك، وهذا حق لا شك فيه؛ لأنهم الأنبياء الذين أخبر الله بإعطائهم البركة.
أما غيرهم فليس لهم بركة؛ بركة ذوات، فغير الأنبياء لا يتمسح بهم مطلقا، ولا يعظمون مطلقا، ولا يتبرك بهم مطلقا، لأنه ليس لهم بركة؛ بركة ذات، ولذا فإن الصحابة لم يكونوا يعملون مع أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانوا يفعلونه معه،لم يكونوا يفعلون مع أبي بكر الصديق ما كانوا يفعلونه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الشاطبي أحد العلماء الأجلاء الأندلسيين وهو من أهل القرن الثامن توفي من قبل سنة خمس وتسعين وسبعمائة (795)، يقول حين تعرض لهذه المسائل قال : إلا أنه قاطعنا، إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه، وذلك أنّ الصحابة لم يكونوا يفعلون بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يفعلونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا يشربون سؤر بعض الصحابة مهما كان جليلا، ولم يكونوا يتبركون بشعرهم أو بوَضوئهم، أو بنحو ذلك من الأعمال التي كانوا يعملونها مع رسول الله، -يقول- فهذا خير الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، لم يكن يُفعل بهم شيء مما كان يُفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم.(18/11)
إذن فالمسألة مسألة إجماع؛ أنه لا يتبرك بغير رسول الله بركة ذات، ولكن أحدث قومٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثوه في هذه المسائل وأشباهها، والعبرة كل العبرة بما كان عليه الأمر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين قال فيهم ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أعمق هذه الأمة علما، وأقلها تكلفا، وأقربها إلى الصراط المستقيم. هكذا قال من هو بهم خبير رضي الله عنهم أجمعين.
والنوع الثاني من أنواع البركة هو بركة العمل: ذلك أنّ الله جل وعلا أخبرنا في كتابه أن ذكره مبارك، قال جل وعلا ?وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ?[الأنبياء:50]، وأخبر أن كتابه كتاب مبارك، والسنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصِّل الإجمال الذي في القرآن ?وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ?[النحل:44]، (الذِّكْرَ) هو السنة، فإذن السنة مباركة، والقرآن مبارك، فكانت العلوم الناشئة منهما والتدبر فيهما والتحقيق في معانيهما، كانت تلك العلوم علوم مباركة.
إذن البركة الحاصلة لأهل العلم إنما هي بركة عمل؛ بركة عمل لأنهم تفقهوا في دين الله، وتفقهوا في آيات الله، وتفقهوا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت البركة التي عندهم هي بركة عمل، تُطلب منهم هذه البركة قولا لا ذاتا، تسألهم عن حكم الله في المسألة فيجيبوك، إذن فهم مباركون بركة عمل، وليست ذواتهم مباركة، أبدا، فكيف يكون ذلك، وخيرة الخلق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا كذلك.
هذه بعض المسائل المتعلقة بالمحذوف المقدّر في قولنا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)(18/12)
يقول جل وعلا في أول آية من الفاتحة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(1)الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2)مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(3)إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تأمل ذَكَرَ الله جل وعلا في الآية الأولى أنّ الحمد لله رب العالمين فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وهذا يُورِث في النفس؛ يورث المحبة لمن يُحمد سبحانه وللذي ربى العالمين بنعمه، أليس كذلك؟ تورث المحبة الآية الأولى؛ المحبة لله جل وعلا الذي هو رب العالمين سبحانه.
والآية الثانية (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تورث في القلب الرجاء بأن يكون التَّالي؛ بأن تكون أنت وأنت تتلو هذه الآية في الصلاة أو في غير الصلاة أنْ تكون ممن شملتهم رحمة الله جل وعلا في الدنيا والآخرة، الآية الثانية تورث في القلب؛ القلب المتدبر المتأمل المتفحص لمعاني الله، تورث في القلب الرجاء بأنْ تكون ممن شملتهم الرحمة في الدنيا والآخرة.
والآية الثالثة (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وفي القراءة السبعية الأخرى المتواترة (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (مَلِكِ) و(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) سبحانه وتعالى، (يَوْمِ الدِّينِ) يوم الجزاء، يوم الحساب يَوْمَ ?تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ?[الحاقة:18]، يوم يظهر ما استتر به المستترون من المعاصي، يظهر عند ذاك عيانا، يوم تنطق الألسن، يوم تنطق الجلود، وتنطق الأرجل، وتنطق الأيدي بما كان يفعله أصحابها، ذلك اليوم الذي قال الله فيه (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يورث في القلب ماذا؟ يورث في القلب الخوف من الله جل وعلا.(18/13)
ثم قال بعد ذلك (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، تأمل كيف بدأ بالآية تورث في القلب المحبة، ثم ثنى بالآية التي تورث في القلب الرجاء، ثم ثلّث بالآية التي تورث في القلب الخوف، ثم قال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وليُقِرَّ في قلبك أيها العبد أنه واجب عليك أن تعبد الله محبة لله، ورجاء في الله، وخوفا من الله، تعبده لهذه الثلاث مجتمعة؛ بالحب والرجاء والخوف، لا تغلب جانبا عن جانب، فإنّ من الناس من تلاعبت بهم الشياطين فعبدوا الله بالحب وحده حتى تركوا الطاعة، ومن الناس من غلّبوا على قلوبهم الرجاء فخاضوا في معاصي الله وفي الآثام، ثم بعد ذلك يقولون ربُّنا أرحم الراحمين.... ([3])
... هو العذاب الأليم ?حم(1)تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2)غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ?[غافر:1-3]، تأمل إذن هذه الآيات وكيف رُتِّبت هكذا، كتاب الله، كتاب حكيم، حكيم بمعنى محكم، حكيم بمعنى حاكم، حكيم بمعنى محكوم فيه، فهو حكيم بمعنى محكم، كما قال جل وعلا في أول سورة هود ? الر كِتَابٌ [أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ]([4]) مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ?[هود:1-2] فهو كتاب أحكمت آياته، إذن أن تكون الآية الأولى، ثم الآية الثانية، ثم الآية الثالثة تفيد هذه الفائدة، اعلم أن هذا من فضل الله عليك أن عرفك أهل العلم هذه المعارف، فلا تكن منك بعيدة، ولتكن منك على ذُكر دائما.
ثم تأمل أيضا، تدبر أن الله جل وعلا افتتح كتابه العزيز بقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ثم ذكر بعد ذلك صفة أنه جل وعلا (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، فذكر ثلاث صفات تدور عليها الأسماء الحسنى، ثلاثة أسماء، ذكر سبحانه ثلاثة أسماء:
الأول: الله.
الثاني: أنه الرب.(18/14)
الثالث: أنه مالك يوم الدين، سبحانه وتعالى.
افتتح الله كتابه بهذه الثلاثة أسماء، واختتم كتابه جل وعلا بهذه الثلاثة أسماء عينها، قال جل وعلا في آخر سورة ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ(2)إِلَهِ النَّاسِ?[الناس:1-3]، الربوبية والملك والألوهية في آخر سورة وفي أول سورة من القرآن، هذه الثلاثة أسماء تدور عليها وتتفرّع منها معاني كثيرة من الصفات والأسماء الحسنى، فإذن لتكن منا على بال، ولعله يأتي بعد ما فيها من المعاني.
كونه جل وعلا الله، هو الله أي المألوه المعبود كما سيأتي.
والرب الذي ربى عباده بنعمه جل وعلا، خالقهم، وسيدهم، والمتصرف في شؤونهم، وأنه مالك يوم الدين، كل ملك فهو له، وأنت إنْ ملكت شيئا في الدنيا فإنك لا تملكه حقيقة؛ إنما تملكه بالإضافة إلى بني جنسك، وإلا فالملك حقيقة لمن؟ لله جل وعلا، ستذهب وتتركه يملكه غيرك، فإذن ليس ملكا حقيقيا إنما هو ملك إضافي.(18/15)
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، (الْحَمْدُ) يقول أهل العلم إنّ الألف واللام تفيد الاستغراق في أول الحمد، معناه أن قولك (الْحَمْدُ لِلَّهِ) قد شمل كل حمد يستحقه الله جل وعلا، كل أنواع المحامد ثابتة لله جل وعلا، تُقِرُّ وأنت تصلي وأنت تتلو هذه الآية تقر بأن جميع أنواع المحامد لله جل وعلا، المحامد لله جل وعلا وحده، وهو المستحق للحمد وحده جل وعلا، فالله جل وعلا يُحمد؛ يُحمد سبحانه بأسمائه، ويحمد سبحانه بصفاته، ويحمد سبحانه بأفعاله؛ الأفعال التي تدور بين الإنعام والإحسان وبين العدل والحكمة، ويحمد سبحانه على خلقه وأمره، ويحمد سبحانه على قدره وشرعه، كل هذه من أنواع المحامد التي يحمد الله جل وعلا عليها، يقول جل وعلا في أول سورة الأنعام ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ?[الأنعام:1] فحمد الله، فحمد سبحانه وتعالى، أخبر أن الحمد لله لأنه الذي خلق السموات والأرض، فهذا حمد بصفاته سبحانه وتعالى، ولكن قد يقول القائل ما معنى الحمد؟ الحمد معناه الثناء، الحمد معناه الثناء على الله باللسان، معناه الثناء على الله باللسان مع المحبة والتعظيم، فإنّ الحمد لا يسمى حمدا حتى يكون ثناء حتى يكون ثناء فيه المحبة والتعظيم، وإلا فإن الثناء أخص من الحمد، ولذا عطف عليه في حديث صحيح مسلم الحديث المعروف «قَسَمْتُ الصّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ.. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لله رَبّ الْعَالَمِينَ) قَالَ الله جل وعلا: حَمِدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: (الرّحْمَنِ الرّحِيمِ). قَالَ الله جل وعلا: أَثْنَىَ عَلَيّ عَبْدِي.» هذا من عطف الخاص على العام، فالحمد يشمل الثناء وزيادة فالثناء على الله مع الحب لله جل وعلا والتعظيم له سبحانه ما له من الأسماء الحسنى والصفات العليا(18/16)
والأفعال التي محض إحسان أو محض عدل وحكمة وعلى شرعه جل وعلا، كل هذه من أنواع المحامد التي يحمد الله جل وعلا عليها.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وإلا أيها الإخوان فإن المحامد التي يستحقها الله جل وعلا لا تحيط بها الأقلام مهما أوتيت؛ لأن الحمد لأسمائه الحسنى ولصفاته العليا، وخذ مثلا أنك تحمد الله على صفة الكلام له سبحانه؛ أي تثني على الله جل وعلا بها ثناء مع المحبة والتعظيم له سبحانه جل وعلا، هل تنفذ كلمات الله؟ لا تنفذ، فإن الحمد لا ينفذ، ولذا أخبر جل وعلا بأنه يسبح له ما في السموات وما في الأرض، وأنه سبح له ما في السموات وما في الأرض، فقال جل وعلا في أول سورة التغابن? يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[التغابن:1]، قال أهل العلم: قوله (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) هذه جملة استئنافية واقعة موقع التعليل للتسبيح. أي أنه سبحانه يسبح له ما في السموات وما في الأرض لعلة أنه جل وعلا مستحق أن يحمد أكمل حمدٍ، حمدا دائما لا ينقطع وإن انقطعت أجيال البشر؛ بل هو يسبح لله جل وعلا ما في السموات وما فيالأرض، ولذا ورد التسبيح بهذه الصيغة ورد مرة بالماضي ومرة بالمضارع.
قال جل وعلا في سور ?سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ?([5]).
وقال في سور ?يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ?([6])
ليُعلمك أن التسبيح لله المستحق، لأنه سبحانه جل وعلا حقيق بأن يحمد جل وعلا بأن هذا التسبيح كان ولم يزل، كان في الماضي (سَبَّحَ) لأن صيغة الماضي (سَبَّحَ) تفيد كون الفعل حادثا في زمن الماضي، و(يُسَبِّحُ) تفيد كون الفعل حادثا وحاصلا في الزمان الحاضر وفي الزمان المستقبل.(18/17)
فإذن التسبيح لا ينقطع، كل المخلوقات تسبح بحمد الله، فهذا شيء ما يجب أن نستشعره حين قولنا (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، الْحَمْدُ لِلَّهِ ولفظ الجلالة (الله) معناه المعبود، الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ معناه المعبود سبحانه وتعالى، ذلك أنّ الله يعني هذه اللفظة مشتقة في كلام العرب على الصحيح من قول أهل العلم مشتقة من قولهم أله يأله إلهة؛ بمعنى عبد يعبد عبادة، أله يأله إلهة؛ معناها عبد يعبد عبادة ، سواء بسواء، (الله) معناه إله لكن خففت الهمزة لكثرة الاستعمال كما قال أهل العلم، فإذن لفظ الجلالة مشتق من أله يأله إلهة؛ بمعنى عبد يعبد عبادة -خلوكم معي بأسأل بعد قليل، إِلِّي شارد ذهنه يكون حاضر-، قرأ ابن عباس رضي الله عنه آية الأعراف في قول قوم فرعون له ?وَيَذَرَكَ وَإِلَهَتَكَ? يعني وعبادتك، آية سورة الأعراف ? أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَإِلَهَتَكَ?[الأعراف:127] هكذا قرأها ابن عباس يعني ويذرك وعبادتك، ذلك أن فرعون ماذا قال لقومه؟ قال لقومه –فرعون- ?مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي?[القصص:38] يعني ما علمت لكم أحدا يستحق أن تعبدوه إلا أنا، فلذلك قالوا له (وَيَذَرَكَ وَإِلَهَتَكَ) يعني عبادتك.
هذا فكون الإله -أيها الإخوان- بمعنى معبود، وكون أله بمعنى عبد، هذا هو معنى لغة العرب التي أنزل الله بها القرآن، فنحن إذا أردنا أن نتبصّر في كتاب الله وفي معاني كتاب الله يجب أن نعلم ماذا قال العرب وكيف استعملت العرب هذا الكلام، فقولنا الإله، معقول أن يكون مسلم يقول لا إله إلا الله ولا يعلم معنى الإله؟ من الناس من يظن أن معنى لا إله إلا الله يعني لا رب إلا الله، وقد بلغ الجهل بالمسلمين مبلغا يأسى له ذووا القلوب الحية، كيف تؤول حالهم إلى هذه الحال.(18/18)
سألت مرة أحد الناس في غير بلادنا، قلت له وهو يدعي الثقافة، قلت له ما معنى لا إله إلا الله؟ وهو يريد أن يظهر أنه مثقف ويقرأ ويعلم، قال: معنى لا إله إلا الله! هذا واضح. قلت: أريد أن تخبري بهذا الواضح. قال: يعني ربنا موجود. سبحان الله العظيم، قال: يعني ربنا موجود. قلت: له ما معنى لا إله إلا الله؟ قال: معناه ربنا موجود. قلت: سبحان الله العظيم.
إذن ما الفائدة أن ترسل الرسل؟ ما الفائدة من أن ترسل الرسل؟ قريش، العرب أخبر الله عنهم بقوله أنهم ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?([7]) وفي آية الزخرف ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9]، وقال جل وعلا في آيات كثيرة كما في سورة المؤمنون ?قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ?[المؤمنون:86-87]، فإذن أولئك الأقوام كانوا يقولون ربنا موجود أم لا يقولون؟ يقولون، واضح من كلام الله، فإذن فهل معنى لا إله إلا الله التي حاجوا بها رسول الله، وقالوا قل ما شئت من الكلام نطعك إلا هذه الكلمة، ولما دعاهم إليها قالوا ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5] كانوا يفهمون إذن ما معنى لا إله إلا الله.
إذن معنى الإله فِعَال بمعنى مفعول يعني معبود، فالإله بمعنى المعبود، فالله معناه المعبود الذي يستحق سبحانه أن نعبده مع الخوف منه والتعظيم له والمحبة له جل وعلا والرجاء بعفوه وكرمه ورحمته.(18/19)
هذا هو معنى الإله، ومعنى لا إله إلا الله معناها لا معبود إلا الله، لا معبود حق إلا الله جل وعلا، ويدله لذلك دلالة ظاهرة أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس ألا تعبدوا إلا الله، فقال جل وعلا في الآية التي سمعتموها قبل قليل في أول سورة هود ?الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ?[هود:1-2]، عندنا هذه الكلمة (لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) وعندنا (لا إله إلا الله) أليستا متساويتين؟ لا تعبدوا إلا الله، لا إله إلا الله، متساويتين، أليس كذلك؟ إلا أنّ (إله) وضع بدلها (تعبد)، فإذن الإله هو معنى العبادة، الإله بمعنى المعبود والإلهة بمعنى العبادة، هذا هو المعنى، نوح قال لقومه ?اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[الأعراف:59]، وقال عنه جل وعلا في سورة هود (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ)، قال لقومه –نوح- (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ).(18/20)
فإذن الرسل بُعثوا بهذه الكلمة العظيمة؛ لا إله إلا الله؛ ومعناها لا معبود إلا الله، فإننا أيها الإخوان إنما خلقنا لأجل عبادة الله جل وعلا، ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ?[الذاريات:56-57]، ما خُلقنا إلا لأجل عبادة الله، ولكن الله سبحانه وتعالى رأفة بنا ورحمة شرع لنا وأباح لنا أن نتمتع ببعض الطيبات في الدنيا أو بالطيبات جميعا في هذه الدنيا دون إسراف ولا مخيلة منة منه وتكرما، وإلا فإننا خلقنا للعبادة لعبادة اله وحده فقط، ?وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131)وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى?[طه:131-132].(18/21)
قوله جل وعلا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) حين تُقرأ ينبغي أن تُستحضر بعض هذه المعاني، بعضها، وقد تتزاحم في قلب البصير، ولكن كل واحد يأخذ منها بمقدار ما يسعه عقله ولبّه، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قلنا إنّ هذه الكلمة كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) أفادت ماذا ؟ توحيدا لله جل وعلا في كونه الإله؛ في كونه المعبود وحده، وهذا الشيء هو الذي سماه أهل العلم منذ القديم سموه توحيد الألوهية، ذلك لأننا وجدنا أنّ الله جل وعلا أخبر سبحانه أنّ القوم الذين بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يوحدون الله بنوع من التوحيد، ويأبون أن يوحدوه في النوع الآخر، وهذا لم يقله أهل العلم من عند أنفسهم، وإنما قالوه حين تدبروا القرآن ورأوا آيات الله، يقول جل وعلا عن أولئك الأقوام الذين بعث لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في سورة الصافات ?إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ?[الصافات:35]، إذن هم يستكبرون عند ماذا؟ عند قول لا إله إلا الله؛ يعني عند إثبات هذا النوع من التوحيد وهو توحيد الألوهية، هذا واضح؟ أخبر سبحانه وتعالى عنهم أنهم يوحدون الله بنوع آخر وهو ما سماه أهل العلم بتوحيد الربوبية كما أشرنا إليكم الآيات كقوله ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?([8]) وكما قال جل وعلا في سورة يونس في آيات في آية آخرها ?وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31] إذا كنتم تقرون بأنّ الله هو المحيي وحده، وهو المميت وحده، وهو الخالق وحده، وهو الرازق وحده،كل هذه كان يعتقدها مشركوا العرب -يعني أكثر مشركوا العرب- أنه الخالق وحده، وأنه الرازق وحده، وأنه رب السموات والأرض ورب العرش العظيم، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، كل هذه يقرون بها لله وحده، ماذا قال الله لهم،(18/22)
?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(31)فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ(32)كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ?[يونس:31-33]، كانوا مقرون بالتوحيد؛ توحيد الربوبية وأبوا أن يقروا بتوحيد الألوهية، حاجهم الله جل وعلا بنوع آخر من الحجج بعد هذه الآية مباشرة، قال جل وعلا في سورة يونس ?قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ?[يونس:34] الجواب أنهم سيقولون: لا. لأنهم يقرون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، ?قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ?[يونس:34]، ?قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي? يعني آلهتهم ?إِلَّا أَنْ يُهْدَى? يعني في الأصل لأنهم إما رسل أو رجال صالحين كانوا يُهْدَون إلى الطريق؛ لم يكونوا يملكون الهداية ?أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[يونس:35]، إذن لماذا قالوا ذلك؟ قال الله بعدها ?وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا?[يونس:36]، ولذلك ينبغي أن نتنبه لمسألة مهمة وهي أنّ أهل الباطل الذين قد يدافعون عن المعتقدات الخرافية الباطلة، قد يكون لديهم في اتّباعهم ظنّ وهو خلاف العلم، وقد يكونوا هم يحسبون ما عندهم علم، لكن العبرة لما قاله الله وقاله رسوله، ولذلك أخبر جل وعلا في آخر سورة غافر، قال جل وعلا ?فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ?[غافر:83] هم عندهم علم في ظنهم، لكنه ليس علما مجديا، ليس علم الحق، إنما هو(18/23)
علم بالباطل، ولذلك فإن أهل الباطل لديهم كتب وحجج، ولكن حَجّتهم الرسل وحجهم أهل الحق، ومن لم يتدبر بالحجج القرآنية في الرد على أهل الشرك وأهل الأهواء وأهل الضلال، من لم يتدبر سيختلط عليه الطريق، وسوف يظن كل من انتسب إلى العلم عالما، وهذا ليس صحيحا، فالعالم إذا انتسب إلى العلم فزنه بالسنة، زنه بالسنة، فإذا اتبع السنة؛ يعني الطريقة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته بالفهم والعلم والعمل والفقه، فهو محق، فهو عالم من علماء الحق، وإلا إنْ كان من أهل الأهواء ممن يحب أن يُعظم ويُبجل ويلتف الناس حوله، وهذا يُقَبِّل وهذا يتمسَّح وهو ساكت راض، فاعلم أنه ليس من علماء الحق، هذا من علماء الضلال؛ لأن هذه الأمور من محرمات أفعال القلوب ولا يرضى بها حقيقة؛ لأن العلم الصحيح يقود إلى العمل، ومن تعلم علما صحيحا ورأى الناس يعظمونه ثم هو ساكت معناه أن قلبه غير حي؛ قلبه ميت، بل هو يريد الرّفعة والجاه والسمعة، وكل هذه من المفسدات، في الحديث الذي رواه الترمذي في جامعه «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ» ورواه الإمام أحمد وغيرهما «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ في غَنَمِ بِأَفْسَدَ لهَا مِنْ حِرْصِ الْرّجل عَلَى الْمَالِ وَالشّرَفِ لِدِيِنِه» فلينتبه المنتسبون للعلم خاصة من هذا الداء، فإنهم قد يرفعون، لكن السلف الصالح رضي الله عنهم، لكن الشكوى إلى الله قلوبنا ليست كقلوب أولئك، من السلف من إذا رأى الحلقة قد غصّت وامتلأ المسجد بالناس تركهم وذهب؛ خاف الشهرة على نفسه، خاف على قلبه، كل هؤلاء أتوا يستمعون كلامي، إذن عندي شيء إذن أنا وأنا، السلف كانوا يهربون من هذا هربا، إنما كانوا يدعون إلى الله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وكانوا أهرب ما يكونون عن السمعة، وعن الجاه، وعن الرفعة، وعن حب التبجيل والتعظيم، هذه كلمة أتت عرضا قادنا لها الكلامُ.(18/24)
ومما يدلك -نرجع إلى موضوعنا الأول- مما يدلك على فساد قول أولئك الذين ساووا بين توحيد الألوهية والربوبية؛ أو فسروا لا إله إلا الله بقولهم معناه ربنا موجود؛ أو لا رب إلا الله، أو نحو ذلك، أنّ الله جل وعلا قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) في أول سورة في كتاب الله وفي أول آية من كتاب، ففرّق الله جل وعلا بين الله وبين الرب، والشيء، الأمر لا توصف بنفسها، إنما توصف بشيء مغاير، أليس كذلك؟ هكذا قررّ أهل العلم، وهكذا هي اللغة، لا تصف الشيء بنفسه، لا تقول الكريم الكريم، هذا يسمى تأكيدا ما يسمى وصف، وقوله جل وعلا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) غاير بين الربوبية والألوهية، فإذن الألوهية شيء والربوبية شيء، فما الألوهية وما الربوبية؟ الألوهية هي أن تعبد الله وحده؛ يعني توحد الله جل وعلا بأفعالكَ أنت، بأفعالكَ أنت، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لا تعبدوا إلا الله، توحده بأفعالك، أمثال هذه الأفعال الدعاء فلا يدعا إلا الله جل وعلا، الرجاء لا يرجى إلا الله، الاستغاثة، الاستعانة، الذبح، النذر، ونحو ذلك من أنواع العبادة، فكما أنك لا تصلي إلا لله فلا يدعا إلا الله؛ لأن الصلاة هي الدعاء، قال جل وعلا ?وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ?[التوبة:103] (صَلِّ عَلَيهِمْ) يعني أدعو لهم، فقال جل وعلا في الآية الأخرى (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) يعني أن دعاءك سكن لهم، وقال جل وعلا في سورة الأحزاب ?إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ?[الأحزاب:56]، ما معنى الصلاة هنا؟ الدعاء، وكما أنه لا تصلي أيها العبد إلا لله فكذلك لا تدعو إلا الله، ومن فرق بين الصلاة والدعاء فقد فرق بين فردين ومتآخيين فلا سبيل إلى التفريق بينهما، يقول الأعشى؛ أعشى قيس، الشاعر المعروف في شعره:
تقول بنتي وقد قرَّبْتُ مرتحلا يا رب جنِّب أبي الأوصاب والوجع(18/25)
ما ذا قالت البنت؟ يا رب جنب أبي الأوصاب والوجع، فقال:
عليك مثل الذي صليتِ......... ............................. ([9])
يعني دعوتِ، فالذين يفرقون بين الدعاء والصلاة يقولون صل لله وحده، ثم الدعاء أُدعو من شئت من الأنبياء والصالحين أو الأولياء ونحو ذلك. هؤلاء جهلة في الحقيقة لأنهم لا فهموا القرآن ولا السنة ولا اللغة، وإنما ما أتوا من شهواتهم الخفية التي الله أعلم بها، وإلا فإن الحق واضح، والحق أبلج كما أن الباطل لجلج، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، لأجل ضيق الوقت سنأخذ مقتطفات لبعض معاني السورة، وإلا فإن هذه السورة الكلام عليها يحتاج أياما؛ لأن كل كلمة منها تحتها أصول؛ أصول تكلم القرآن عنها، وأصول جاءت في القرآن وتكلم الله بها، ولذلك سميت أم القرآن، لماذا؟ لأن فيها الأصول التي جاءت في الكتاب كلها، ولكن من الناس من تدبر وقرأها...
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)،
(الرَّحْمَنِ)و (الرَّحِيمِ) اسمان من أسماء الله متضمنان بصفة من صفات الله جل وعلا وهي صفة الرحمة، وأهل السنة يثبتون هذه الصفة على حقيقتها لله جل وعلا، مع التنزيه لله أن يكون اتصافه بهذه الصفة مشابها لاتصاف المخلوقين بها، ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، لكن هنا أريد أنْ أنبه إلى مسألة وهي أنّ الإيمان بالأسماء والصفات؛ لأننا ذكرت هنا نوعين من التوحيد: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية في أول آية، ثم في الآية الثانية نذكر توحيد الأسماء والصفات.(18/26)
الإيمان بالأسماء والصفات أيها الإخوان الإيمان الحقيقي؛ الإيمان الصحيح الذي كان على نور وبينة وعلم، هذا يُثمر في القلب، وتُرى آثاره على القلب وعلى العمل وعلى العلم، وذلك أن الإيمان أعني الإيمان بالأسماء والصفات ليس إيمانا مجردا بألفاظ لا معاني لها؛ بل إيمان بالألفاظ وما تحتها من المعاني، إيمان بالصفات وما فيها من المعاني، فالقلب الذي قرأ صاحبه (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كم سيتعلق به من المشاعر حين يمرّ في ذهنه ويحضر في قلبه سعة رحمة الله جل وعلا, كم سيكون تعلقه بالله طمعا في أن يكون من المرحومين، كم سيكون لهذا الإيمان بهذه الصفة وأن الله رحيم بعباده أرحم من الوالدة بولدها، كم سيثمر هذا في قلبه من الأمور والمعاني الخيرة التي تقوده إلى العمل الصحيح، فالإيمان بالأسماء والصفات، الإيمان يُثمر في القلوب، ولذلك الذين يعنون بهذا النوع من العلم ينبغي أن يتنبهوا حين يقرؤه ويدرسون، ينبغي أن يقرنوه دائما بأثر الإيمان بالصفات، لا ينبغي ولا يصح أن تدرس هذه الأمور خلوا من هذه الآثار؛ الآثار الإيمانية المترتبة عليها.
الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال «يضحك ربنا» إلى آخر الحديث، قال له أعرابي أوَ يضحك ربنا؟ قال : «نعم»، قال: لن نعدم من رب يضحك خيرا.
معلوم أن ضحك الخالق جل وعلا ليس كضحكنا وحاشاه جل وعلا، ننزهه سبحانه عن الشبيه والمثيل والنديد، نثبت له سبحانه وتعالى ما أثبت لنفسه وما أثبته له رسوله مع التنزيه عن المشابهة.(18/27)
إذن أنظر كيف هذا الصحابي كيف انطبعت هذه الصفة في قلبه وأثنى على الله بها (لن نعدم من رب يضحك خيرا) سبحان الله، فكم منا من يقرأ ويسمع الأسماء والصفات ولا تثمر في قلبه، يمر عليه قول الله جل وعلا ? إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ?[هود:90] فلا يثمر في قلبه، ?حَمِيدٌ مَجِيدٌ?[هود:73] فلا يثمر في قلبه، يمر عليه اسم الله ?الرَّقِيبَ?[المائدة:117] فلا يثمر في قلبه، يمر عليه اسم الله العزيز، الحكيم، القدير، فلا يثمر في قلبه، الشعور بعظمة الله جل وعلا، وأنك أيها الإنسان ليس لك عِزّ إلا بطاعة الله جل وعلا، ليس لك فخر إلا بطاعة الله جل وعلا، فأنت تفخر إن كنت واعيا لنفسك بأن تكون من الطائعين؛ لأنك انتسبت لمن؟ لطاعة الله جل وعلا، ومن هو الله؟ ? هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ?[الحشر:23] كل هذه وغيرها من الأسماء والصفات العليا، كل هذه، تثمر في القلوب ثمرات يُرى أثرها في الاعتقاد والعمل، يرى أثرها في الرقابة والتمجيد والعظمة والتحميد والتعظيم لله جل وعلا.
قوله جل وعلا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) هذه فيها توحيد العبادة؛ توحيد الألوهية وكيف فهم منها أهل العلم ذلك؟ لأنه قدم المعبود يعني المفعول على العامل يعني الفعل، قدم (إِيَّاكَ) ما قال نعبد إياك، قال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يعني نعبدك وحدك لا نعبد معك غيرك.
والعبادة ما هي؟ العبادة التي لا يجوز أن تُصرف إلا لله جل وعلا، هي كل عمل فيه مرضاة لله جل وعلا مما هو مختص به جل وعلا من أفعالك أيها العبد، كالتي قدمنا؛ دعاء، وطلب الشفاعة، والنذر، الذبح، غير ذلك مما ذُكر.
العبادة بمعنى آخر تعرف بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.(18/28)
إذن العبادة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) هذه العبادة ليست كما يفهمها بعض الناس اليوم، ليست هي الشعائر التعبدية أو الأركان الخمسة فقط؛ الشهادة والصلاة، لا، والزكاة والصوم والحج، لا، العبادة أوسع كل ما فيه رضا لله جل وعلا؛ اسم جامع لكل ما يرضاه جل وعلا من الأقوال والأعمال. إذن فأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر عبادة، صلتك للرحم إن أحسنت النية فيها عبادة، دراستك للعلم الشرعي عبادة، دراستك لعلم غيره إن أحسنت النية فيها عبادة، كل هذا... ([10])
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول الله جل وعلا (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) في الحديث الذي رواه مسلم في حديثه «قَسَمْتُ الصّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي إلى نِصْفَيْنِ قَالَ العبد: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). قَالَ الله: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ». (هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ) فانظر وتأمل هذا الفضل العظيم الذي حذاك به خالقك، ومولاك، وربك، أنزل عليك كتابا فيه هذه السورة العظيمة، ثم أمرك أن تتعبده بأن تقرأها في كل ركعة في الصلاة، ثم بعد ذلك ومع ذلك إذا دعوت الله بها قال الله جل وعلا (هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ) فأيّ كرم فوق هذا، وأي رحمة للعبد فوق هذه الرحمة، وأيّ فضل كهذا الفضل، هل يعرف العباد حق ربهم عليهم؟ خلقك وشرفك بعبادته، وأرسل لك الرسل يدلوك الطريق حتى لا تضل، ثم بعد ذلك إذا اتبعت الرسل نلت رضا الله، ونلت الجنة بعفوه ورحمته، فأي فضل فوق هذا الفضل؛ يأمرك بالشيء ويجزيك عليه، يا له من فضل، يا له من فضل وإنعام تنكسر له القلوب وتحنّ بطاعة خالقها.(18/29)
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) الصراط هو الطريق، ووصف الطريق هنا بأنه المستقيم؛ يعني الذي جمع مع وضوحه القرب؛ قرب الوصول إلى البُغية، فإن المستقيم كما هو معروف هو أقرب، أو كما يقول أهل الرياضيات، يقولون فأقصر خط يصل بين نقطتين، فهذا حقيقة هو وصفه؛ وصف الصراط المستقيم، إذْ على أول الطريق أنت أيها العبد، وآخر الطريق فيه رضا الله، والجنة وأقصر طريق يوصلك؛ بل هو الطريق الوحيد هو ماذا؟ اتباع الرسول؛ واتّباع شرع الله.(18/30)
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) تسأل ربك الهداية؛ هداية التوفيق والإلهام للصراط المستقيم، وهذا يجعل القلب يتفكر ويسأل: ألسنا مهتدين؟ نحن على خير إن شاء الله، فما فائدة هذا السؤال (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) نكرره في كل يوم وليلة كذا وكذا مرة؟ ما فائدة هذا التَّكرار؟ يعلمك ربك أنك لا تظن أنّ هذا الصراط؛ أنك إذا هديت عليه أول الأمر، أنك لا تحتاج إلى تثبت له، تثبيت لسيرك عليه؟ فإنّ هذا الصراط المستقيم تحتاج دائما إلى العناية بنفسك عليه، وأن تسأل ربك الثبات عليه سؤالا حينا بالهداية، وسؤالا حينا بالعبادة، وسؤالا حينا بالطاعة، وسؤالا حينا بالدعوة، كل هذه من وسائل التثبيت على الصراط المستقيم؛ لأن هذا الصراط قد انتصب عليه شياطين الإنس والجن ?لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ? قول إبليس في سورة الأعراف ? ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ?[الأعراف:16-17] إذن هذا الصراط قد انتصب عليه -يعني هذا الدين، اتّباع الشريعة هذا القرآن هوالصراط- قد انتصب لك عليه شياطين الإنس يضلوك ويثبطوك عن المُضِي فيه، فاحذر منه، اسأل الله دائما الثبات عليه، فاسأل الله دائما، وأنت تقول (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) اسأله حقيقة لا لفظا، اسأله مستشعرا حاجتك الملحة للثبات على صراط الله.
والصرط المستقيم هو الإسلام والقرآن والشريعة، ونحو ذلك من تفاسير السلف، والصراط تنوّع في القرآن:
أحيانا يطلق كهذه الآية.(18/31)
وأحيانا يضاف –صراط المستقيم-، وأحيانا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى كما في قوله جل وعلا في آخر سورة الشورى ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52)صِرَاطِ اللَّهِ?[الشورى:52] فمرة أضافه إلى الله قال (صِرَاطِ اللَّهِ)، ومرة قال جل وعلا (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، فمرة قال (صِرَاطِ اللَّهِ) ومرة قال (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أضافه مرة إلى الله؛ لأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب الذي يُفسر به الصراط، وهو الذي تعبدنا بالإسلام، وأضافه حينا إلى الذين أنعمت عليهم (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)؛ لأنهم هم الذين يسلكون، هم الذين يسرون عليه، يسيرون على صراط الله، الذين أنعم الله عليهم يسيرون على صراط الله، فهذا تشريف فوق التشريف؛ أنهم يسيرون على صراط هو صراط الله، هو الطريق الموصل إلى الله (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).(18/32)
واعلم أن ها هنا عجيبة دلت عليها هذه الآية، وهو أن الله جل وعلا سمّى الإسلام، وسمّى شرعه، وسمّى دينه، وسمّى قرآنه صراط مستقيما، كما أنه جل وعلا نصب يوم القيامة على متن جهنم طريقا وجسرا سماه صراطا، فهنا في هذه الدنيا هناك صراط هو الإسلام، وفي الآخرة هناك صراطا منصوب على متن جهنم أعاذنا الله وإياكم منها، واعلم أنه لن تعبر ذاك الصراط الذي هو على متن جهنم إلا بهذا الصراط إذا سلكته في الدنيا؛ صراط الله الإسلام الإيمان، لا يعبر ذاك الصراط إلا بهذا الصراط، وذاك الصراط أيضا جعل الله في جنبتيه كلاليب تخدش وتخطف من هو سائر عليه يوم القيامة، وكذلك على هذا الصراط في الدنيا؛ هناك كلاليب تخطف السائر على الصراط المنصوب على متن جهنم، وكذلك في هذه الدنيا على هذا الصراط الذي هو الإسلام أو الشريعة أو القرآن أو التوحيد فيه وفي جنبتي الصراط كلاليب أيضا تخطفك عن السير فيه، فتنبه لها إنها المعاصي، إنها الآثام، إنها حظوظ النفس، إنها الشهوات، إنها طاعة الهوى، طاعة إبليس، عبادته؛ لأن إبليس يعبد بالطاعة فمن أطاعه فقد عبده عبادة طاعة، كما قال جل وعلا في سورة يس ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(60)وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ?[يس:60-61] فلهذا فعبادة الشيطان هي طاعته، فهذا الصراط عليه كلاليب في الدنيا من المعاصي الآثام فزن نفسك يا عبد الله عند قراءة هذه الآية في صلاة، في كل مرة، وفي كل فرض فزن نفسك بما حصل منك ما بين الفرض والفرض، وكرره، فهل مشيت على هذا الصراط مشيا جادا حثيثا أم تخطفتك كلاليب، فإذا تخطفتك كلاليب بين الفرض والفرض من عبادة الشيطان أو طاعته أو المعاصي، فاعلم أنك إن لم تبادر بالتوبة فستخطفك الكلاليب هناك، هذا حق يجب أن نستشعره ونحن نتلو هذه الآية، وعلى قدر سيرك على هذا الصراط في الدنيا يكون سيرك على(18/33)
ذاك الصراط في الآخرة، واعلم أنه جل وعلا وحد الصراط هنا فقال (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) يعني هو صراط واحد، وسبحانه وتعالى ذكر في آخر سورة الأنعام أنّ غير سبيله سبل، غير صراطه سبل متفرقة، فقال جل وعلا في أول الآية، الآية محفوظة يعني ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي? هذا أول الآية ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي? هذه الآية كان يسميها السلف أو بعض العلماء يقول إنها آية الوصايا العشر، وهذه هي آخر الوصية ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ?[الأنعام:153] فإذن غير صراط الله هناك سبل، فهناك سبل، فصراط الله جل وعلا واحد، صراط الله جل وعلا واحد، وسيرك عليه على هذا الصراط الواحد تتجه فيه إلى واحد هو الله جل وعلا، فالصراط واحد وأنت تتجه إلى واحد جل وعلا، فلا تشرك في سيرك معه غيره سبحانه وتعالى أبدا، بل كما أن الصراط واحد فإذن هذا الصراط يوصل إلى الله جل وعلا وهو واحد، وأيضا سيرك على هذا الصراط يحتاج إلى شيء، يحتاج إلى أمر، وهو أن تسير عليه على بينه؛ أن تسير عليه على دليل ووضوح، وهذا هو التوحيد الآخر الذي دلت عليه هذه الآية وهو توحيد المتابعة؛ متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي دلت عليه الذي دل عليه القسم الثاني من الشهادة، وهو قولنا وأشهد أن محمدا رسول الله؛ يعني أن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته وشرعه هو المقتفى وحده، لا نقتفي غيره أبدا.
فإذا كان السبيل واحد وهو الصراط، والمرجو والمراد واحد وهو الله جل وعلا، والدليل واحد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، فجمعت هذه الآية بلوازمها ثلاثة أنواع من التوحيد، فانظر قلبك كيف إذا عالما بهذه المعاني كيف تشعر.... وتعظيمه وما يجب له من أنواع الجلال والتعظيم، ولذا قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
فلواحد كن واحدا في واحد
أعني سبيل الحق والإيمان(18/34)
(فلواحد) لله جل وعلا، (كن واحدا) في قصدك وإرادتك، (في واحد) في سبيل واحد وهو طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفسرها قال (أعني سبيل الحق والإيمان) وهو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.
الكلام على هذه السورة وعلى هذه الآيات وما يخطر بالبال عند تلاوتها كثير، ولكن لعل قليلا ينفع خير من كثير يذهب، فإن القلة معها النفع، وإنّ الكثرة قد يكون معه الزلل، ولذا أستغفر الله وأتوب إليه في آخر مقالي هذا، وأدعو الله سبحانه وتعالى لي ولكم بالثبات على دينه، وبالتبصر في طريق الحق، وبمعرفة حق الله علينا؛ فإن حق الله علينا عظيم، فيجب أن نفكر فيه –في هذا الحق-، وكيف نعبد الله جل وعلا ونتذلل له ونخضع له، ونكسر بين يديه، وتنكسر قلوبنا لله جل وعلا، عسانا نكون من الناجين المفلحين، فإن هذه الحياة أيها الإخوان ليست بشيء؛ فمن عاش مائة سنة كمن عاش عشرين سنة؛ يعني عند حلول الممات، ولكن الشأن كل الشأن فيما يستقدمه الإنسان في حياته، ربّ امرئ غرغر يعني حضرته الوفاة فمرت عليه حياته يودّ أنه يرجع ليعمل غير الذي كان يعمل، ولما كان الموت والأجل خفيّا عنا أوجب لذوي القلوب التي تخاف الآخرة وتعمل حق الله عليها، أوجب عليها التوبة الآن وحينا، ولكن ما نقول في زمن إذا أتينا فيه إلى المساجد رقّت قلوبنا وإذا رأينا خارج المساجد قست قلوبنا.
فنسأل الله العليم الجليل بأسمائه الحسنى وبصفاته العليا أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وأن يذكرنا منه نسينا، وأن يعلمنا به ما جهلنا، وأن يرزقنا تلاوته على الوجه الذي يرضيه عنا، تلاوة فيها التدبر ومعرفة كلامه سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الأسئلة: أنتقي من الأسئلة لأني تأخرت عليكم وأطلت، لكن نرى الذي له اتصال بالمحاضرة والذي فيه فائدة.(18/35)
1/ سائل يقول: قلتم أنه –وبعد القول تكسر الهمزة- قلتم إنه لا يجوز تقبيل الأيدي تبركا. فما حكم تقبيل يد العالم أو الأبوين تقديرا واحتراما لمكانتهم؟
? أمّا الوالدان فتقبَّل أيديهم احتراما لا تبركا، والعالم لا تُقبَّل يده دائما، وإنما الذي ثبتت به السنة في تقبيل اليد هو التقبيل أحيانا، هذا جائز بشرط أن يؤمَن أنْ يرى المقبَّلة يده؛ أنْ يرى نفسَه أنه أهل لشيء، إذا أمن ذلك جاز تقبيله حينا وليس دائما؛ يعني ليس كلما لُقي قُبلت يده، بل يقبل مرة، وهذا جاءت به السنة كما قبّل اليهوديان رِجلا النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قبل كعب بن مالك يد أو رِجل النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قبل بعض الصحابة ..... ([11])، وكما فُعل بزيد ابن ثابت حينما قبل يده ابن عباس رضي الله عنه، هذا أحيانا؛ يجوز مرة، مرتين، ونحو ذلك، أما دائما فلا يجوز، وهذا قد تقرر عند أهل العلم لا مخالف لهم من بينهم إلا شذاذ أهل البدع الذين أرادوا أن يتكبروا وأن يغلوا الناس فيهم.
فتقبيل اليد للوالدين جائز؛ لأنه من الاحترام ومن البر والإحسان المأمور بهما، أما تقبيل غيرهما فيجوز حينا، حينا مع أمن خطر التعظيم، ومع أمن خطر الإعجاب؛ إعجاب المقبَّلة يده بنفسه أو بدينه أو بعلمه أو نحو ذلك.
2/ فيه بعض الناس يا شيخ....... ([12]) الانحناء صباحا مساء استدلالا بهذا الآداب.
? الانحناء عبادة، الركوع عبادة من العبادات، وصرفها لغير الله جل وعلا إن كان مع قصد التعظيم والمحبة والخضوع شرك، وإن كان لأجل التحية -وهذا ما لا يوجد عند المعظمين- لأجل التحية فهو من الشرك الأصغر المحرم؛ الذي لا يخرج من الملة، لكن إن كان مع الإنحاء أو السجود تعظيم ومحبة وخضوع للمسجود له كما يسجد بعض الصوفية؛ أعني بعض المريدين لشيوخهم أو نحو ذلك، فهذا شرك بالله جل وعلا، كما نصّ على ذلك أهل العلم.(18/36)
3/ بعضهم يقول أنّ من خصائص الرسول جل وعلا له مقاليد السموات والأرض، فما حكم من اعتقد هذا أو قال هذا.
? الله سبحانه وتعالى قال في سورة الشورى ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(11)لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ?[الشورى:11-12]، فهذه الآيات في سياق توحيد الله جل وعلا في الصفات، وفي الأفعال، وفي العلم، إذا كان كذلك، ([13]) كان قوله تعالى (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) خاصا به جل وعلا، ومن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم له مقاليد السموات والأرض فقد رفعه عما أعطاه الله جل وعلا، وجعله في مرتبة الألوهية، وهذا شرك بالله جل وعلا، وهذا وهؤلاء الأقوام رأوا ما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم من حق، فرفعوه عنه إلى مقام الربوبية، وهذا غلو قاد إلى شرك، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما أحب أن ترفعوني عن منزلتي التي أنزلني الله إياها»، فقال في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري في صحيحه «لا تُطْروني كما أطرَتِ النصارَى عيسى بنَ مريمَ, فإِنما أنا عبد, فقولوا: عبد اللهِ ورسوله«
4/ ما هي الكتب المبسطة في العقيدة تنصحونا بقراءتها، وما هي الكتب التي تحذرون منها؟
الكتب في العقيدة كثيرة، ولكن أضرب لك مثلا لكل فن منها:
أما في توحيد العبادة؛ يعني توحيد الألوهية: فأنصحك بقراءة رسالة العبودية لشيخ الإسلام، وبقراءة رسالة كشف الشبهات للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، هذان الكتابان متكاملان؛ يكمل أحدهما الآخر.
وأما في توحيد الأسماء والصفات: فتقرأ العقيدة الواسطية؛ فإنها عقيدة على اختصارها ووجازتها مباركة، وفيها علوم كثيرة تحت ألفاظها، وقد شرحها جمع من أهل العلم، فهذه الكتب نافعة للمبتدئ الذي يريد أن يسلك هذا السبيل.(18/37)
أما الكتب التي يحذر منها فهي كل كتاب ليس على طريقة السلف؛ ليس على طريقة أهل السنة والجماعة، وهي كتب كثيرة لا حصر لها، والمؤمن إذا وجد كتابا لا يعلم عقيدة صاحبه ولا يعلم صحة ما فيه، أو لا يأمن قراءته فيسأل عنه أهل العلم، فهم يجيبوه، وإلا فهي كثر ولا يمكن تحديدها.
5/ يسأل عن توضيح مسألة الحَلِف أو القسم.
? الحلف لا يكون إلا بالله جل وعلا أو بأسمائه أو بصفاته بأحد أحرف الحلف اليمين الثلاثة الباء أو التاء أو الواو، هذه هي اليمين البارّة التي تنعقد وتجب في الحنث بها الكفارة، أما الحلف بغير الله وبغير أسمائه وصفاته فمحرّم وشرك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» والشرك هنا شركا أصغرا غير مخرج من الملة، وإنما هو قائد لتعظيم المحلوف به ومحبته واعتقاد أن له من خصائص الألوهية شيء، وهذا من الشرك الأصغر.
والشرك الأصغر: ضابطه كل ما يتوسل به، ويتوصل به ويتطرق به إلى الشرك الأكبر، كل وسيلة إلى الشرك الأكبر تسمى شركا أصغر.
وهذا ضابط جيد يمكن معه الراحة في كثير من المسائل التي يَلتبس فيها الشرك الأصغر بالشرك الأكبر.
6/ لكن بعض الناس المحلوف به يعظم كتعظيم الله.
? الحلف إذا كان مع التعظيم، فهذا اقترن به التعظيم، فيكون صرفا لعبادة أخرى معه، فمسألة الحلف قد توصل إلى الشرك الأكبر؛ الحلف بغير الله، ولكن هي بإطلاقها يقال: الحلف بغير الله شرك أصغر.(18/38)
لكن قد يقترن مع أي شيء من الشرك الأصغر ما يجعله من الشرك الأكبر، ولذلك قلنا كل وسيلة إلى الشرك الأكبر تسمى شركا أصغرا، فالحلف بغير الله وسيلة إلى أن يعظَّم المحلوف، ويظن أن له من خصائص الألوهية شيء، ولذلك قلنا إنّه شرك أصغر، فإذا بُلغت الغاية وهي أن يظن أن المحلوف به له من خصائص الألوهية شيء؛ كأنْ يكون له مقاليد السموات والأرض، أو عنده مفاتيح الغيب، أو هو يملك تصرفا في جزء من العالم ونحو ذلك، فلذلك يقسم به، وهذا شرك مخرج من الملة؛ ردة والعياذ بالله.
7/ يقول هنا: هناك أناس يضعون أسماءهم المشتملة على اسم من أسماء الله في الدبلة أي”الخاتم“، ويدخلون بها بيت الخلاء، فهل يجوز ذلك؟ بما فيها من مشقة من إخراج الخاتم كلما دخل بيت الخلاء أو أن يكون الخاتم أو الدبلة ضيقة إلى آخره.
? الخاتم وما شاكله إذا كان مكتوبا فيه اسما من أسماء الله فإنه يكره أن يدخل به بيت الخلاء، هكذا يقول أهل العلم، وإذا دخل به بيت الخلاء فليجعل الاسم في باطن كفه، يجعل الاسم؛ اسم من أسماء الله في باطن كفه، وكذلك الأوراق ونحوها التي فيها اسم من أسماء الله أو نحو ذلك، فإنه يكره الدخول بها إلى أماكن الخلاء، فإن أُستطيع أن تُجعل في الخارج مع الأمن فهذا لاشك أنه أفضل وأكمل تنزيها لاسم الله جل وعلا أن يكون في الأماكن القذرة، وإن لم يُستطع فإن الإثم مرفوع إن شاء الله.
8/ ولو كانت الدبلة من ذهب يجوز للرجل أن يلبسها؟
? هذه مسألة أخرى بارك الله فيكم.
9/ هذا السؤال وإن كان الأوْلى به الفقهاء؛ العلماء، لكن لعل للسائل حاجة للجواب عليه، يقول: هل يجوز شرعا أن يبيع الرجل من دمه، من غير أن يضرّه ذلك نظرا لحاجته للمال، وهل يقاس ذلك على تأجير الإنسان نفسه إلى آخره؟(18/39)
? الدم ، الدم نجس، والنجاسات يحرم بيعها، الدم نجس، والنجاسات يحرم بيعها، ولكن لأجل الضرورة قلنا بجواز التبرع بالدم، ونحو ذلك، لإنقاذ المصابين، أما بيعه فلا أعلم له وجها من الدليل الشرعي.
10/ الأسئلة كثيرة لكن مررت عليها لأجل الوقت، هذا السؤال يقول: ما حكم الاتجار بالعملات النقدية عن طريق البنوك؟
? العملات النقدية، كل عملة منها نقد مستقل بذاته، فلذلك عند صرفها والتبايع بها يشترط فيها التقابض، يشترط فيها شرط واحد وهو التقابض لاختلافها. ولا يقال إن أصولها واحدة وهي مغطاة بالفضة مثلا أو بالذهب مثلا؛ ذلك لأن التغطية -تغطية النقد- اختلفت الحال فيها بين اليوم وعشرين أو ثلاثين سنة مضت، فالآن يُغطى النقد بأشياء أخرى ليس لها علاقة بالذهب، قد يكون الذهب أحدها، ولذا فإنّ الصواب من أقوال أهل العلم في هذه المسألة: أنّ العملات كل عملة مستقلة بذاتها، وتعتبر نقد بذاته، ولذلك يشترط فيها التقابض«إذَا اخْتَلَفَتْ الأَصْنَافُ, فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ, إذَا كَانَ يَداً بِيَدٍ» حديث متفق عليه، «إذَا اخْتَلَفَتْ الأَصْنَافُ, فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ, إذَا كَانَ يَداً بِيَدٍ» والذي يجري في بعض البنوك، بعض الناس يستسهل المسألة ويبيع ويشتري دون قبض، بل بالتحاويل ونحو ذلك، وهذا الأولى اجتنابه وتركه، لأجل أن فيه نوعا من الربا؛ لأنّ بعض أهل العلم يقول إنّ التبادل بالعملات؛ بالحوالات ونحو ذلك لدى البنوك هي إحالة على مليك، وهذه الإحالة صحيحة، وكأنها عندك؛ يعني كأنك قبضت، فيقيم هذه الحوالات مقام القبض، وهذا فيه توسع قد يكون مع الضرورة، لكن الأولى أن لا تتبع هذه، وأن يتجر المسلم في العملات، فليشتري وليبع بعد القبض ورؤية المال، فإن هذا أنقى لنفسه وأنقى لدينه وأبين للحلال والحرام.
وأصلي وأسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أعدّ هذه المادّة:
سالم الجزائري عبدالمالك فؤاد
---(18/40)
([1]) الظاهر أنّ الشريط مقطوع.
([2])أظن أنها أبيات شعرية.
([3])انتهى الوجه الأول من الشريط الأول.
([4])الشيخ قال (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ أُحْكِمَتْ).
([5])الحشر:1، الصف:1، ووردت في أول سورة الحديد بصيغة (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
([6])الجمعة:1، التغابن:1، ووردت أيضا بصيغة:
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)[الإسراء:44]
(يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)[النور:36]
(أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[النور:41]
(يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الحشر:24].
([7])لقمان:25، الزمر:38.
([8])لقمان:25، الزمر:38.
([9])ذكر الشيخ البيت كاملا في شرحه لمتن الورقات
عليك مثل الذي صليتِ فاغتمضي نوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا.
([10])انتهى الشريط الأول.
([11])كلمة غير مفهومة.
([12])كلام غير واضح.
([13])انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.(18/41)
- <xml xmlns:o="urn:schemas-microsoft-com:office:office">
<o:MainFile HRef="../4.htm" />
<o:File HRef="image001.gif" />
<o:File HRef="filelist.xml" />
</xml>(19/1)
- - - - - - - - -
إعجاز القرآن
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
[مفرّغ](
- - - - - - - - - -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم إنا نسألك علما نافعا، وعملا صالحا، وقلبا خاشعا، ودعاء مسموعا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا، يا أرحم الراحمين.
وكالعادة ريثما يجتمع الإخوة نجيب عن بعض الأسئلة.
س1/ قال: ما حكم سب الدهر؟
ج/ سب الدهر محرم؛ لأنه إيذاء لله جل وعلا، كما قال جل وعلا في الحديث القدسي «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار»، فسب الدهر بمعنى أن يتنقّصه أو أن ينسب إليه الأفعال القبيحة وأشباه ذلك، فهذا في الواقع لا يتوجه للدهر؛ لأن الدهر يقلَّب الدهر ليس يفعل شيئا، وإنما يتوجه إلى من جعل الدهر على هذه المثابة، ومن جعل الدهر على هذه الصفة، وهو الله جل وعلا، لهذا قال «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار»، فمسبة الدهر حرام وإيذاء لله جل وعلا.
وقوله جل وعلا في الحديث القدسي (وأنا الدهر) لا يُفهم منه أن الدهر من أسماء الله جل وعلا؛ بل يعلم أن الذي سب الدهر وقعت مسبته على الله جل وعلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يُصرِّف الدهر كيف يشاء.(20/1)
إذا تبين ذلك قد ذكرنا مرارا أنّ وصف الدهر بأوصاف مما يقع فيه من الأوصاف المشينة ليست مسبّة للدهر، فقول القائل هذا يوم أسود أو هذا الشهر شهر نحس أو نحو ذلك، فإن هذا ليس بمسبة للدهر لأن هذا وصف لما يقع في الدهر لما يقع في اليوم أو ما وقع فيه، لما يقع في الشهر أو لما يقع فيه، وهذا كما قال جل وعلا ?فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ?[القمر:19]، وقال سبحانه ?فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا?[فصلت:16] فوصف الله جل وعلا الأيام التي عزز بها الكفرة أنها أيام نحيسة، فمثل هذا ليس بسب للدهر؛ لأن هذا لأنه وصف لما وقع فيه بالإضافة إلى المخلوق.
س2/ قال: هل يدخل في سب الدهر قول القائل الدهر باطل والزمان غدار ونحو ذلك؟
ج/ الجواب: نعم أن هذا من التنقص، وهذا من سب الدهر؛ لأن الدهر لا يبغي على أحد ولكن الذي قدر الدهر وقدر فيه ما قدر هو الله جل جلاله.
س3/ هل آية الرجم المعروفة تعتبر من كلام الله، غير أنها منسوخة ولا يجوز التعبد يتلاوتها؟
ج/ الجواب: نعم، كل آية نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام فهي من كلام الله جل وعلا، سواء أكانت باقية أم كانت منسوخة، كما قال جل وعلا ?مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا?[البقرة:106]، وفي القراءة الأخرى (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) فالآية التي نُسخت قرآن ولكن نسخت تلاوتها والتعبد بذلك، وحكمها منسوخة، وهذا إذا كانت منسوخة، وإذا لم تكن الآية منسوخة فإنه قد تُترك آية بغير النسخ كما قال (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا).
س4/ يستخدم بعض الكُتاَّب ألفاظ منسوبة إلى القرآن كقولهم: قال القرآن، أو تحدث القرآن، فَنَّدَ القرآن هذه الشبهة، هل يصح الحكم عليها بأنها متفرعة عن القول بخلق القرآن؟(20/2)
ج/ الجواب:لا؛ لأنّ هذه الكلمات جرت على كثير من أئمة أهل العلم السابقين، يقولون قال القرآن، ورد القرآن ونحو ذلك، فينسبون الفعل إلى القرآن، ومعلوم أن القرآن كلام الله جل وعلا، وفي الحقيقة القائل هو الله جل وعلا، كأنهم قالوا قال الله في القرآن، تحدث الله بالقرآن، وردّ الله في القرآن، وأشباه ذلك.
س5/ ما حكم تقليد الأئمة أثناء قراءة الإمام في الصلاة؟ بلغنا عنك أنك تحرم ذلك ونريد التأكد.
ج/ المشكلة في بعض الشباب أنه يأخذ الحكم وما يفهم الصورة التي انجر الكلام عليها، تقليد الأئمة!! إيش معنى تقليد الأئمة، ما معناه؟ سمع مقطع بحث في الموضوع بحثناه هنا في المسجد، وما فهم المسألة فقال أنت تحرم تقليد الأئمة، ولو سألناه ما معنى تقليد الأئمة؟ ما عرف الجواب، لهذا دائما أوصيكم بأن تحرص على فهم المسألة قبل الحكم؛ لأنك قد تنزل الحكم الحل أو التحريم على غير المسألة التي تكلم عليها العلماء، فالكلام ينبغي أن يفهم أولا تفهم الصورة، ما الذي تتحدث عنه قبل أن تعرف الحكم والدليل، حتى إذا اتضحت الصورة بعد ذلك يأتي الدليل ويأتي الحكم، وقد ذكرنا لكم في كيفية دراسة الفقه، كيفية دراسة العقيدة، أنّ أول مرحلة لدراسة العقيدة ولدراسة الفقه:
أن تعرف ألفاظ الكلام لغة أهل العقيدة، لغة أهل الفقه التي يتحدثون بها.
ثم ثانيا أنْ تفهم صورة المسألة التي تتحدث بها.
ذكرنا لكم سبع نُقاط في الفقه وفي العقيدة التي من تدرج فيها أحسن تصور المسائل وفهم الدليل والتدليل والخلاف إلى غير ذلك.(20/3)
فهذه المسألة تقليد الأئمة أثناء القراءة -قراءة الإمام في الصلاة- هذه غير واضحة وإن كنت أعرف ماذا تحدثنا به، تقليد الأئمة ما معناه، تقليد الأئمة، الذي تكلمنا عنه التلفيق بين قراءة القرّاء في الصلاة الواحدة؛ يعني أن يقرأ قارئ بقراءة عاصم برواية حفص ويقرأ أيضا بورش، هذا تلفيق ولا يصلح، يقرأ بالقراءة التامة حتى وهو منفرد يعني في غير جماعة، إذا قرأ منفردا ما يجوز له أن يلفق يقرأ آية بقراءة حفص عن عاصم ثم يقلب بقالون عن نافع ثم يقلب إلى كذا، هذا تلفيق، والقراءة سَنَن قال جل وعلا ?فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ?[القيامة:18]، أنت تتبع قراءة القارئ التي نقلها عن الصحابة رضوان الله عليهم ولا تلفق في القراءة، التلفيق في القراءة لا يجوز.
نعم... إذا كان يقصد تقليد الأئمة يعني محاكاة الصوت: أن يقرأ مثلا بقراءة الشريم أو بقراءة السديس أو بقراءة علي جابر، هذا ما [ظننت] أن تكلمت فيه بحل أو بحرمة.
س6/ كان من الردود على المعتزلة في الدرس الماضي أنهم إذا أرادوا تأويل صفة الكلام فإنه يترتب عليه نفي الصفات التي أثبتها المعتزلة، مع أنه قد تقرر في كثير من الدروس أنّ المعتزلة لا يثبتون أي صفة من الصفات، فما الجواب؟
ج/ الجواب: أن الذي قررناه وهو المعروف أنّ المعتزلة يثبتون ثلاثة صفات، وأنّ الذين لا يثبتون إلا صفة الوجود المطلق بشرط الإطلاق هم الجهمية.
وكل من اثبت صفة من الصفات ونفى الباقي فإنه يطعن بإثباته على ما نفاه.(20/4)
مثلا يقال لمن أثبت صفة الوجود قالوا إن الله جل وعلا ليس له إلا صفة الوجود فقط؛ الوجود المطلق، يقال له: لم نفيتَ غيرها من الصفات؟ لم نفيت صفة العلم؟ لم نفيت صفة الكلام؟ لم نفيت صفة المحبة؟ بل سيقول: إن هذه الصفات تستلزم المشابهة التمثيل أو التشبيه، فيقال: لم؟ فيقول: لأن المخلوق يتكلم، فكيف نقول إن الله يتكلم والمخلوق يتكلم، معناه فيه تشبيه. يقول: إن الله يحب والمخلوق يحب معناه إن هذا فيه تشبيه. فكذلك يقال: الصفة التي أثبتها وهي الوجود أيضا مشتركة، فالمخلوق موجود وتقول الله جل وعلا موجود، المعتزلة يثبتون القدرة لله جل وعلا، والمخلوق عنده قدرة، فما الفرق ما بين ما أثبت وما بين ما نفى؟ الوجود أيضا مشترك في التشبيه، إذا قلنا إن وجود الصفة من حيث هي في المخلوق في الله جل وعلا هذا تشبيه فإذن الوجود فيه تشبيه، والله جل وعلا موجود والبشر موجودون إذن ثَم تشبيه، فالصفة التي أثبتها فيها تشبيه وهو يريد أن ينفي التشبيه أن ينفي الصفات الأخرى لأجل التشبيه.
كذلك نأتي للأشاعرة نقول أنتم أثبتم سبع صفات السمع والبصر والعلم والكلام... إلى آخره، فنقول لم أوَّلتم صفة الوجه؟ لم أوَّلتم صفة اليدين؟ لم أوّلتم صفة الغضب، صفة الرضا، صفة المحبة، صفة الرحمة، إلى غير ذلك، يقولون؛ لأنّ هذه تستلزم التشبيه، نقول: كذلك صفة السمع تستلزم التشبيه، كذلك صفة البصر تستلزم التشبيه، كذلك صفة الإرادة؛ الله جل وعلا يريد والإنسان يريد، لماذا نقول إن هذا فيه تشبيه؟ يريد الجميع منهم على اختلاف فرقهم بأن إرادة الله جل وعلا مختلفة عن الإرادة المخلوق، وأن قدرة الله جل وعلا مختلفة عن قدرة المخلوق.(20/5)
نقول إذن كل باقي الصفات مثل هذا الأصل فكلام الله جل وعلا يختلف عن كلام المخلوق ورحمة الله تختلف عن رحمة المخلوق فإثبات الصفات إثبات وجود؛ إثبات لفظ ومعنى لا إثبات كيفية، فلا اشتراك في الكيفية، الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، فكما أنه سبحانه له سمع يليق بجلاله وعظمته فكذلك له بصر يليق بجلاله وعظمته، له كلام يليق بجلاله وعظمته، وسمع الإنسان وبصر الإنسان وكلام الإنسان هذا يليق بحال الإنسان.
فإذن الاشتراك في أصل الصفة، أما الكيفية وتمام المعنى فهذه لا اشتراك فيها.
فإذن كل مؤول للصفات من الفرق يلزمه التناقض، كل من أول يلزمه التناقض؛ بل كل أهل البدع دائما في التناقض؛ لأنه يتناقض، ولو أعملوا القاعدة وأمعنوا النظر للقرآن والسنة وما قاله السلف والصالح لما صار التناقض في أبواب الاعتقاد أبدا، ولكنهم تارة يثبتون وتارة يتأولون بعقولهم لأنهم خلطوا قولا سنيا وآخر عقليا.
س7/ هل معنى قول من قال أن القرآن مخلوق يعني مثل أعضائنا وغير ذلك من المخلوقات ؟
ج/ الجواب: لا، يقولون القرآن مخلوق؛ يعني أنّ الله سبحانه خلق هذا الكلام وسماه قرآنا، أو أنّ الله جل وعلا خلقه في نفس جبريل فعبر جبريل بذلك، ليس يعني أن ثَم شيء مخلوق صفته يعني يمس ويحس مثل الأعضاء، لا، خلق هذا شيء يعني أنه ليس صفة له خلقه في نفس جبريل وعبر جبريل عما وجده في نفسه.
س8/ كيف نوفق بين كون الله تكلم بالقرآن وأنّ القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ؟(20/6)
ج/ الجواب: أن مرتبة الكتابة أو جهة الكتابة للقرآن غير جهة الكلام، فالله جل وعلا يعلم ما سينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ?فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ?[هود:14]، فالله سبحانه يعلم أن هذا القرآن -هذا الكلام- سينزله على عبده عليه الصلاة والسلام، فجعل هذا الذي سينزله مكتوبا تشريفا له وتعظيما لمكانته لمكانة هذا القرآن؛ ولأنه حجة الله الباقية إلى قيام الساعة، أما التكلم فكلام الله جل وعلا بالقرآن إنما هو حين أراد أن يبعث محمدا عليه الصلاة والسلام، أو حين أراد أن ينبهه.
أما نزول القرآن جملة في السماء الدنيا فهذا أيضا عند من قال به مكتوب لا نزول مسموع.
س9/ هذا يقول: إذا خلوت بنفسي تراودني نفسي على فعل المعصية وأحاول المجاهدة لكنها تغلبني، مع أن ظاهري الصلاح، فهل يعدّ هذا من الخلوة بمحارم الله علما بأني أستر على نفسي؟
ج/ الجواب: أن العبد المؤمن إذا من الله عليه بالنفس اللوامة فإنه على خير، النفس التي تلومه على فعل الذنب وتحسن له فعل الخير، وقد جاء في الأثر: إذا سرّتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت المؤمن، أو المؤمن تسره حسنته وتسوؤه سيئته.(20/7)
وإذا ابتلى الله جل وعلا العبد بذنب فإنه إذا عمله في خلوة أيسر مما إذا عمله في علن أو جهر به؛ لأن الله جل وعلا يستر على عبده، قد ثبت في صحيح البخاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «كل أمتي معافى -يعني يغفر له بالأسباب- إلا المجاهرون»، «كل أمتي معافى إلا المجاهرون»، قالوا: ومن المجاهرون يا رسول الله؟ قال «من يصبح وقد ستر الله عليه ذنبه فيصبح يتحدث للناس بما فعل في ليلته»، فالعبد إذا أبتلي بمعصية فإن المعصية إذا كانت سرا لم تضر إلا صاحبها، ويمنّ الله جل وعلا على عبده المنيب بالمغفرة، وأما إذا تحدث بها فإنها المجاهرة بمعصية الله يتحدث فعلت وفعلت من باب الاستعلاء وعدم رعاية حق الله في المعصية والاستهانة بالمعصية والتهاون بها.
لهذا قال بعض أهل العلم: إن العبد قد يعمل كبيرة من الكبائر فتظل نفسُه تلومه وتلومه وتلومه حتى يغفر الله جل وعلا له تلك المعصية الكبيرة باستغفاره وبإنابته، وإن العبد ليفعل المعصية من الصغائر فيظل يتهاون بها يتهاون بها ولا يراها شيئا حتى تؤول به إلى كبيرة.
وقد ثبت في الصحيح أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الرجل الكافر -أو قال المنافق- إذا همّ بالمعصية فكأنما مرّ على أنفه ذباب فقال به هكذا –يعني ليست بشيء، بعد فترة قليلة كأنه ما عمل شيئا- وإن العبد المؤمن أو قال الصالح إذا فعل معصية فكأنما على رأسه جبل يخشى أن يقع عليه. فالعبد المؤمن إذا كان تسرّه حسنته..... (1) وفعلت وقابل ونظر وغشيت وكذا وكذا وإلى آخر ذلك مفاخرا بذلك متهاونا به.
نسأل الله جل وعلا للجميع المغفرة والتوبة والإنابة وأن يمن علينا بالعمل الصالح وبمغفرة الذنوب جميعها. اقرأ
(((((
__________
(1) يوجد قطع في الشريط.(20/8)
- فمن سمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كلامُ البشرِ، فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّهُ الله وعابَهُ وأوعَدهُ بسَقَر، حيث قال تعالى?سَأُصْلِيهِ سَقَرَ?[المدثر:26]، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللهُ بِسَقَرٍ لمنْ قال ?إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ?[المدثر:25]، عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر.
وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته ليسَ كالبشر.
[الشرح]
الحمد لله حق حمده وصلى الله وسلم على نبيه وعبده، وعلى آله وصحبه وسلم اللهم تسليما مزيدا.
أما بعد:
قد مضى الكلام في الدرس الماضي عن كلام الله جل وعلا، وعلى أن القرآن كلام الحق سبحانه وتعالى، وعلى أنّ القرآن كلام الله جل وعلا بحروفه ومعانيه، وأنّ الله سبحانه تكلم به، فمنه بدأ فسمعه منه جبريل عليه السلام، وبلغه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
وتقدم لنا إبطالَ قول القائل إن القرآن مخلوق، أو أنَّ الكلام عبارة عن كلام الله، أو قال أن كلام الله جل وعلا [محدث] وكلام الله جل وعلا قديم، ونحو ذلك من أقوال أهل البدع والضلالات؛ من أقوال المعتزلة والأشاعرة والفلاسفة وغلاة الصوفية، وتقدم لنا ذلك مختصرا في أوجه الرد على أولئك.
وفي مسألة الكلام النفسي ذكرنا بعض الأوجه، وسبق أن تقدم لنا في شرح الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية ردود مزيدة على ما ذكرنا، وقد ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية على من قال بالكلام النفسي بتسعين وجها، في رسالة مطبوعة سميت التسعينية؛ لأنها اشتملت على تسعين وجها تردّ قول من قال إن كلام الله جل وعلا نفسي؛ يعني أنه لم يتكلم بصوت يسمع وإنما ألقى ما أراده بروع جبريل.(20/9)
هذه الجملة التي سمعناها الليلة متصلة بالبحث نفسه، قال (فمن سمِعَهُ-يعني القرآن- فَزَعَمَ أَنَّهُ كلامُ البشرِ، فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّهُ الله وعابَهُ وأوعَدهُ بسَقَر، حيث قال تعالى? سَأُصْلِيهِ سَقَرَ?[المدثر:26]، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللهُ بِسَقَرٍ لمنْ قال ?إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ?[المدثر:25]، عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر، وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته ليسَ كالبشر.)
هذه الجمل مشتملة على تقرير مسألة عظيمة، وهي أن كلام الله جل وعلا لا يشبه قول البشر، وكيف يشبه قول البشر وهو كلام الباري جل وعلا الذي لا يشبه بصفاته البشر، فالبشر لهم صفاتهم في كلامهم وفي سمعهم وبصرهم وإدراكاتهم وأعضائهم، والله جل وعلا له صفات في كلامه وفي سمعه وبصره وجميع صفاته فلا يشبه في صفاته -التي منها كلامه- لا يشبه صفات البشر.
فمن قال عن القرآن إنه قول بشر، أو إنه مخلوق، أو هو قول جبريل، أو نحو ذلك، وليس بقول الله جل وعلا، أو أنه كلام جبريل وليس بكلام الله جل وعلا فإنّ هذا كافر بالله العظيم؛ لأن من قال إنّ القرآن كلام البشر فإن هذا كفر، كما قال سبحانه ?إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)سَأُصْلِيهِ سَقَرَ?[المدثر:25-26] لقول الوليد.
إذا تبين لك ذلكن فإنهم قالوا أيضا -أي المشركون- قالوا: إنما يعلمه بشر. كما قال سبحانه ?وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ?[النحل:103]، فالذين أبوا هداية القرآن وأبوا الإذعان له وصفوا القرآن بصفات:
قال بعضهم: هو كِهانة.
وقال بعضهم: هو شعر.
وقال بعضهم: هو قول بشر.
وقال بعضهم: أساطير الأولين.(20/10)
وكل هذه الأقوال يعلمون أنما هي لتنفير الناس عن قبول هذا القرآن، فلقد تواعد كما هو معلوم في القصة ثلاثة من كفار قريش ألا يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل قبل ذلك وكلهم كان يراد بالقرآن، ذهب أحد هؤلاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام في الليل يسمع قراءته للقرآن، ولما ذهب وجد فلانا وفلانا فإذا بهم ثلاثة يسمعون القرآن لما له من سلطان على نفوسهم، ثم لما رجعوا تقابلوا في الطريق، فتواعدوا ألا يسمعوا مرة أخرى لهذا القرآن؛ لأجل ألا يراهم بعض العامة وبعض الناس فلا يقبل قولهم في رد القرآن، ثم لما جاء من الليلة الثانية اجتمعوا أيضا ثم صارت أيضا ثالثة حتى رأوا أنهم لابد أن يتفارقوا على ذلك، ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ(26)فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا?[فصلت:26-27].(20/11)
كذلك لما أرسل الوليد أو عقبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفاوضه في شأن القرآن وأن يترك هذا الأمر، قال له: يا محمد إن أردت ملكا ملكناك، وإن أردت مالا جمعنا لك من المال ما تكون به أغنى العرب، وإن أردت نساء نظرنا في أجمل نساء العرب فأتينا بهن إليك. فقال عليه الصلاة والسلام له هذا الذي عندك؟ اسمع فتلا عليه صدر سورة فصلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ? حم(1)تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2)كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3)بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ?[فصلت:1-4] ومر عليه الصلاة والسلام في التلاوة حتى بلغ قوله تعالى ?فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ?[فصلت:13] فالتفت إليه الرجل وقال حسبك الآن، فرجع إلى قومه لما رأوه مقبلا، قالوا لقد أتاكم فلان بوجه غير الوجه الذي ذهب به، فلما حضر، قالوا ما عندك يا فلان؟
فقال: إني سمعت كلاما ليس هو بالشعر، وليس هو بالكهانة، وليس هو بالكلام الذي نألف، إن له لحلاوة، وإن عليه لطُلاوة -أو طَلاوة أو طِلاوة مثلثة- وإن أسفله لمورق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه.
فتبين بذلك أن أولئك الذين قالوا هو كهانة هو شعر وهو قول البشر أنهم هم الذين ردوا على أنفسهم ?وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا?[النمل:14].(20/12)
هذه المسألة يمكن أن نمر عليها فيما ذكر بشيء من التقرير العام كما فعل الشارح؛ لكن هذه المسألة متصلة ببحث عظيم، وهو بحث دلائل النبوة؛ لأن كون القرآن لا يشبه كلام البشر ولا يشبه قول البشر هو المسألة الموسومة عند العلماء بمسألة إعجاز القرآن وأن القرآن معجز، وهذه ولاشك مسألة مهمة قلّ بل أن تتعرض لها كتب العقائد، ولها صلة ببحث دلائل النبوة فهي في التوحيد؛ لأن صلتها تارة بدلائل النبوة من كون القرآن معجزا ودليلا على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه منزل من عند الله، ومن جهة أخرى لها صلة بمبحث كلام الله جل وعلا وهو أن القرآن لا يشبه كلام البشر وأن كلام الله جل وعلا ليس ككلام البشر.
فلا بأس إذن أن نقرر هذه المسألة وهي المسألة الموسومة بإعجاز القرآن؛ لأجل ندرة الكلام عليها في كتب العقائد مفصلة، ونذكر منها بعض ما يناسب هذه الدروس المختصرة.
لتقرير هذه المسألة وهي مسألة إعجاز القرآن، وقد تكلم فيها أنواع من الناس من جميع الفرق والمذاهب، نجعل البحث فيها في مسائل، نقول:
المسألة الأولى: أن لفظ الإعجاز لم يرد في الكتاب ولا في السنة، وإنما جاء في القرآن وفي السنة أنّ ما يعطيه الله جل وعلا للأنبياء والرسل وما آتاه محمد عليه الصلاة والسلام هو آية وبرهان على نبوته، فلفظ المعجزة لم يأتِ كما ذكرنا من قبل في الكتاب ولا في السنة وإنما هو لفظ حادث ولا بأس باستعماله إذا عني به المعنى الصحيح الذي سيأتي.(20/13)
الذي جاء في القرآن الآيات والبراهين؛ لكن العلماء استعملوا لفظ الإعجاز لسبب، وهو أن القرآن تحدى الله جل وعلا به العرب، تحدى الله جل وعلا العرب بأن يأتوا بمثله، أو أن يأتوا بعشر سور مثله أو أن يأتوا بسورة من مثله، فلما تحداهم فلم يغلبوا، ولم يأتوا بما تحداهم به، فدل ذلك على عجزهم، وذلك بسبب أن القرآن معجز لهم فلم يأتوا بمثله، قال جل وعلا ?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88]، وقال جل وعلا ?قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(13)فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[هود:13-14].
إذا تبين ذلك فالتحدي لما وقع وعجزوا، وهم يريدون أي وسيلة لمعارضة القرآن وإثبات أنه قول البشر، فاتوا بمثل عشر سور، ائتوا بمثله، ائتوا بسورة من مثله، لما عجزوا سمى العلماء فعلهم ذلك أو عجزهم سموه: مسألة إعجاز القرآن؛ لأجل التحدي وعجز الكفار أن يأتوا بمثله.
المسألة الثانية: أن كلام الله جل وعلا هو المعجز، وليس أنّ الله جل وعلا أعجز لأجل السماع، أعجز لما أنزل القرآن.
والفرق بين المسألتين أن الإعجاز صفة القرآن، ولكن لا يقال أن الله جل وعلا أعجز البشر عن الإتيان بمثل هذا القرآن؛ لأن هذا القول يتضمن، بل يدل على أنهم قادرون لكن الله جل وعلا سلبهم القدرة على هذه المعارضة.
فإذن الإعجاز والبرهان والآية والدليل في القرآن نفسه لم؟ لأنه كلام الله جل وعلا، ولا يقال إنّ الله جل وعلا أعجز الناس، أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو صرفهم عن ذلك، كما هي أقوال يأتي بيانها.(20/14)
فإذن تنتبه على أن تعبير أهل العلم في بهذه المسألة أن القرآن آية فآية محمد عليه الصلاة والسلام القرآن، آية نبوته وآية رسالته القرآن؛ بل محمد عليه الصلاة والسلام لما سمع كلام الله جل وعلا خاف عليه الصلاة والسلام، فلما فجأه الوحي وهو بغار حراء فأتاه جبريل فَقَالَ له: اقْرَأْ. قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ». قَالَ ?اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ?[العلق:1-2] إلى آخر ما أنزل في أول ما نبئ النبي عليه الصلاة والسلام، فرجع بها عليه الصلاة والسلام يرجف بها فؤاده؛ لأن هذا الكلام لا يشبه كلام أحد، ولم يتحمله عليه الصلاة والسلام لا في ألفاظه ومعانيه ولفظه، ولا أيضا في صفة الوحي والتنزيل، فما استطاع عليه الصلاة والسلام أن يتحمل ذلك فرجع بهن -يعني بالآيات- يرجف بها فؤاده عليه الصلاة والسلام إلى آخر القصة.
إذن فالنبي عليه الصلاة والسلام أول ما جاء الوحي لم يتحمل هذا الذي جاءه، لم؟ لأنه كلام الله جل وعلا، وأما كلام البشر فإنه يتحمله لما سمع منه.
المسألة الثالثة: أقوال الناس في إعجاز القرآن.
مسألة إعجاز القرآن -كما ذكرنا- لها صلة بدلائل النبوة، والقرآن معجز لمن؟ للجن والإنس جميعا؛ بل معجز لكل المخلوقات لم؟ لأنه كلام الله جل وعلا، كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام الخلق، وكون القرآن معجزا، راجع إلى أشياء كثيرة يأتي فيها البيان.
فاختلف الناس في وجه الإعجاز لجل أن إعجاز القرآن دليل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام في أقوال:(20/15)
القول الأول: ذهب إليه طائفة من المعتزلة ومن غيرهم حتى من المعاصرين الذين تأثروا بالمدرسة العقلية في الصفات والكلام، قالوا: إنّ القرآن الإعجاز فيه إنما هو بصرف البشر عن معارضته، وإلا فالعرب قادرة على معارضته في الأصل؛ لكنهم صُرفوا عن معارضته، فهذا الصرف هو قدرة الله جل وعلا، لا يمكن للنبي عليه الصلاة والسلام أن يصرفهم جميعا عن معارضته، وهذا الصرف لابد أن يكون من قوة تملك هؤلاء جميعا وهي قوة الله جل وعلا.
فإذن الصرفة التي تسمع عنها، القول بالصرفة؛ يعني أن الله صرف البشر عن معارضة هذا القرآن، وإلا فإن العرب قادرون على المعارضة.
وهذا القول هو القول المشهور الذي ينسب للنظام وجماعة بما هو معلوم.
وهذا القول يرده أشياء نقتصر منها على دليلين: الدليل الأول سمعي نقلي من القرآن، والدليل الثاني عقلي.
أما الدليل القرآني فهو قول الله جل وعلا ?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88]، فالله جل وعلا أثبت أنّ الإنس والجن لو اجتمعت على أن تأتي بمثل هذا القرآن وصار بعضهم لبعض معينا بالإتيان بمثل هذا القرآن أنهم لن يأتوا بمثله، وهذا إثبات لقدرتهم على ذلك؛ لأن اجتماعهم مع سلب القدرة عنهم بمنزلة اجتماع الأموات لتحصيل شيء من الأشياء، فالله جل وعلا بيّن أنهم لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وكان بعضهم لبعض معينا وظهيرا على المعارضة، فإنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فأثبت لهم القدرة لو اجتمعوا قادرين وبعضهم لبعض يعين، لكنهم سيعجزون عن قدرهم التي ستجتمع وسيكون بعضهم لبعض معينا على المعارضة، وهذه الآية هي التي احتج بها المعتزلة على إعجاز القرآن، ففيها الدليل ضدهم على بطلان الصرفة.(20/16)
أما الدليل الثاني وهو الدليل العقلي أن الأمة أجمعت من جميع الفرق والمذاهب أن الإعجاز ينسب ويضاف إلى القرآن ولا يضاف إلى الله جل وعلا، فلا يقال إعجاز الله بالقرآن، وإنما يقال باتفاق الجميع وبلا خلاف هو إعجاز القرآن، فإضافة الإعجاز إلى القرآن تدل على أن القرآن معجز في نفسه، وليس الإعجاز من الله بصفة القدرة؛ لأننا لو قلنا الإعجاز إعجاز الله بقدرته الناس عن الإتيان بمثل هذا القرآن، فيكون الإعجاز بأمر خارج عن القرآن، فلما أجمعت الأمة من جميع الفئات والمذاهب على أنّ الإعجاز وصف للقرآن علمنا بُطلان أن يكون الإعجاز صفة لقدرة الله جل وعلا؛ لأن من قال بالصرفة بأن الله سلبهم القدرة هذا راجع الإعجاز -يعني تعجيز أولئك- راجع إلى صفة القدرة وهذه صفة الربوبية.
إذن لا يكون القرآن معجزا في نفسه، وإنما تكون المعجزة في قدرة الله جل وعلا على ذلك، وهذا لاشك أنه دليل قوي في إبطال قول هؤلاء.
لهذا المعتزلة المتأخرون ذهبوا على خلاف قول المتقدمين في الإعجاز بالصرفة؛ لأن قولهم لا يستقيم لا نقلا ولا عقلا.
المذهب الثاني: من المذاهب في إعجاز القرآن، من قال القرآن معجز بألفاظه، فألفاظ القرآن بلغت المنتهى في الفصاحة؛ لأنّ البلاغيين يعرفون الفصاحة:
فصاحة المفرد في سلامته من نُفرة فيه من غرابته
فالقرآن مشتمل على أعلا الفصيح في الألفاظ، ولما تأمل أصحاب هذا القول جميع أقوال العرب في خطبهم وأشعارهم، وجدوا أن كلام المتكلم لابد أن يشتمل على لفظ داني في الفصاحة، ولا يستقيم في كلام أي أحد -في المعلقات وفي خطب العرب ولا نثرهم ولا في مراسلاتهم إلى آخره- لا يستقيم أن يكون كلامهم دائما في أعلى الفصاحة، فنظروا إلى هذه الجهة فقالوا الفصاحة هي دليل إعجاز القرآن لأن العرب عاجزون.(20/17)
وهذا ليس بجيد؛ لأن القرآن اسم للألفاظ والمعاني، والله جل وعلا تحدى أن يؤتى بمثل هذا القرآن، أو بمثل عشر سور مثله مفتريات -كما زعموا- وهذه المثلية إنما هي باللفظ وبالمعنى جميعا وبصورة الكلام المتركبة.
فإذن وكونه معجزا بألفاظه نعم لكن ليس وجه الإعجاز الألفاظ وحدها.
القول الثالث: من قال إنّ الإعجاز في المعاني وأما الألفاظ فهي على قارعة الطريق، مثل ما يقول الجاحظ وغيره؛ يعني فيما ساقه في كتاب الحيوان يقول: الشأن في المعاني أما الألفاظ فهي ملقاة قارعة الطريق. يعني أنّ الألفاظ يتداولها الناس؛ لكن الشأن في الدلالة بالألفاظ على المعاني، وهذا لاشك أنه قصور لأن القرآن معجز بألفاظه وبمعانيه وبصورته العامة كما سيأتي في وق من القوال الآتية.(1)
القول الرابع: من قال إن القرآن معجز في نظمه، ومعنى النظم الألفاظ المتركبة والمعاني التي دلت عليها الألفاظ وما بينها من الروابط؛ يعني أن الكلام يحتاج فيه إلى أشياء، يحتاج فيه على ألفاظ وإلى معانٍ في داخل هذه الألفاظ يعبر بها، يعبر بالألفاظ عن المعاني وإلى رابط يربط بين هذه الألفاظ والمعاني بصور بلاغية، وفي صور نحوية عالية، وهذا المجموع سماه أصحاب هذا القول النَّظم.
وهذا هو مدرسة الجُرجاني المعروفة العلامة عبد القادر الجرجاني فيما كتب في دلائل الإعجاز وفي أسرار البلاغة، وهذا القول لما قال به الجرجاني وهو مسبوق إليه من جهة الخطّابي وغيره يعني في كلمة، هو أراد به الرد على عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني، فإنه ألف كتاب المغني وجعل مجلدا كاملا في إعجاز القرآن، وردّ عليه بكتاب دلائل الإعجاز وأن الإعجاز راجع إلى اللفظ والمعنى والروابط؛ يعني إلى النظم نظم القرآن جميعا، المقصود بالنظم يعني تآلف الألفاظ والجمل مع دلالات المعاني البلاغية واللفظية وما بينها من صلات نحوية عالية.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط.(20/18)
وهذا القول قول جيد؛ ولكن لا ينبغي أن يُقصر عليه إعجاز القرآن.
القول الخامس: من قال في إعجاز القرآن فيما اشتمل عليه، فالقرآن اشتمل على أمور غيبية لا يمكن أن يأتي بها النبي عليه الصلاة والسلام؛ بأمر الماضي وبأمر المستقبل، واشتمل القرآن أيضا على أمور تشريعية لا يمكن أن تكون من عند النبي عليه الصلاة والسلام، واشتمل القرآن على هداية ومخالطة للنفوس لا يمكن أن تكون من عند بشر، وهذا قول لبعض المتقدمين وجمع من المعاصرين بأن القرآن محتمل على هذه الأشياء جميعا..
ولكن هذا القول يُشكل عليه أنّ إعجاز القرآن الذي تُحديت به العرب، والعرب حينما خوطبوا به خوطبوا بكلام مشتمل على أشياء كثيرة، وكان التحدي واقعا أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بمثل سورة أو بعشر سور مثله مفتريات كما زعموا، وهذا يؤول إلى ما تميزت به العرب، وهو مسألة البلاغة وما تميزوا به من رِفعة الكلام فصاحته وبلاغته، والعرب لم تكن متقدمة عارفة بالأمور الطبية ولا بالأمور الفلسفية ولا بالأمور العقدية ولا بالغيبيات، وليس عندهم معرفة بالتواريخ على تفاصيلها ونحو ذلك، حتى يقال إن الإعجاز وقع من هذه الجهة؛ لكنهم خوطبوا بكلام من جنس ما يتكلمون به -يعني من جهة الألفاظ والحروف-؛ لكنهم عجزوا عن الإتيان بذلك كلام الله جل وعلا.(20/19)
القول الأخير –والأقوال متنوعة؛ لأن المدارس كثيرة-: أن القرآن معجز لأنه كلام الله جل وعلا، وكلام الله جل وعلا لا يمكن أن يشبه كلام المخلوق، وهذا القول هو الذي ذكره الطحاوي هنا قال (عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر، وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته-التي منها القرآن- ليسَ كالبشر) وهذا القول الذي أشار إليه لو يتفرغ إليه الشارحون -شارحوا هذه الرسالة سواء من السلفيين أو من المبتدعة من الماتريديين وغيرهم- في تقرير هذه المسألة، وهو من أرفع وأعظم الأقوال؛ بل هو قول الحق في هذه المسألة: أنّ كلام الله جل وعلا لا يمكن أن يشبه كلام البشر.
خذ مثلا فيما يتميز به المخلوقات ترى فلانا فتقول هذا عربي، وترى آخر فتقول هذا أوروبي، وترى ثالثا فتقول هذا من شرق آسيا، لم؟ لأنّ الصفة العامة دلت على ذلك، ولو أخذ الآخذ يعدد لأخذ يعدد أشياء كثيرة متنوعة دلته على أن هذه الصورة هي صورة عربي، وهذه الصورة صورة أوربي، وهذه الصورة الخَلقية صورة من شرق آسيا وهكذا.
فإذن الصورة العامة بها تتفرق الأشياء، فالذي يدل على الفرقان ما بين شيء وشيء، وأهمها الصورة العامة له.
كلام الناس –إذا انتقلنا من الصورة الخَلقية- كلام الناس يختلف بعضه عن بعض، قول الصحابة إذا سمعنا كلاما نقول هذا من قول الصحابة أو من قول السلف؛ لأن كلامهم لا يشبه كلام المتأخرين، كما قال ابن رجب: كلام السلف قليل كثير الفائدة وكلام الخلف كثير قليل الفائدة. فكلام السلف له صورة عامة تعلم أن هذا من كلام السلف، فلو أتينا بكلام إنسان معاصر وبكلمات له كثيرة وقارناها بكلام السلف لاتضح الفرق.(20/20)
فإذن المخلوق البشر في كلامه متباين إذا رأيت كلام الإمام أحمد تقول هذا ليس كلام ابن تيمية، ترى كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تقريره تقول هذا ليس بكلام مثلا النووي، إذا رأيت كلام الإمام أحمد تقول هذا ليس كلام أبي حنيفة وهكذا.
فإذن الكلام له صورة له هيئة من سمعها ميز هذا الكلام، وهذا هو الذي أشار إليه الطحاوي بأنّ كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام البشر.
إذا تبين ذلك فإن كلام الله جل وعلا صفته، فهذا القرآن من سمعه أيقن بأنه ليس بكلام البشر، ولهذا بعض الأدباء الغواة مثل ابن المقفع والمعري ونحو ذلك أرادوا معارضة القرآن بصورة أدبية فظهر؛ بل افتضحوا في ذلك فغيروا منحاهم إلى منحى التأثير إلى ما أشبه ذلك في كتبهم المعروفة وهي مطبوعة، أرادوا المعارضة من جهة المعاني من جهة الألفاظ أن يأتوا شيء لكن افتضحوا لأن كلام البشر لا يمكن أن يكون مثل كلام الله جل وعلا.
العرب عندهم معرفة بالبيان هم الغاية في البيان، هم الغاية في معرفة الفصاحة هم الغاية في معرفة تركيب الكلام؛ لكنهم لما سمعوا القرآن ما استطاعوا أن يعارضوه لم؟ لأنّ الكلام لا يشبه الكلام، لا يمكن، لا يمكن أن يعارضوا؛ لأن كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام المخلوق.
إذا تبين لك ذلك، فنقول إذن: ما نقرره هو أنّ وجه الإعجاز في كلام الله جل وعلا هو أن كلام الله سبحانه وتعالى لا يشبه كلام البشر، ولا يماثل كلام البشر، وأن البشر لا يمكن أن يقولوا شيئا يماثل صفة الله جل وعلا، والناس لا يستطيعون على اختلاف طبقاتهم وتنوِّع مشاربهم أن يتلقوا أعظم من هذا الكلام، وإلا فكلام الله جل وعلا في عظمته لو تحمّل البشر أعظم من القرآن لكانت الحجة أعظم؛ لكنهم لا يتحملون أكثر من هذا القرآن، لهذا تجد التفاسير من أول الزمان إلى الآن وكل واحد يُخرج من عجائب القرآن ما يُخرج، والقرآن كنوزه لا تنفذ ولا يفتر على كثرة الرد لا من جهة التِّلاوة ولا من جهة التفسير.(20/21)
إذا تبين لك ذلك فكلام الطحاوي هذا من أنفس ما سمعت وأصح الأقوال في مسألة إعجاز القرآن وهو أن الكلام لا يشبه الكلام.
إذا تبين هذا فنقول كلام الله جل وعلا في كونه لا يشبه كلام البشر له خصائص، فأوجه إعجاز القرآن التي ذكرها من ذكر، نقول هي خصائص لكلام الله جل وعلا أوجبت أن يكون كلام الله جل وعلا ليس ككلام البشر.
مثل ما يقول الواحد:والله هذا الشعر موزون هذا البيت فيه كسر، حرف واحد نقص قال فيه كسر، أو هذا البيت ما يمكن أن يكون كذا، لماذا؟ في هيئته العامة؛ لكن برهان يأتيك، يقول لأنه كذا، وكذا، وكذا.
فلان بخصاله دلنا بصفاته حركاته تصرفاته على أنه ليس بعربي، هذه القضية العامة لم؟ له أدلة عليها؛ لكن هذه الخصائص العرب وما تميزوا به عن غيرهم.
نقول هذا الحديث ضعيف أو هذا الحديث معلول، ما وجه علته؟ مثل ما قال أبو حاتم وغيره ممن تقدمه: إنّ أهل الحديث يعرفون العلة كما يعرف صاحب الجوهر الزيف من النقي، أنت ترى هل هذا الألماس نقي أو ليس بنقي؟ يأتيك صاحب الخبرة ويقول هذا ألماس ليس بنقي، أنت ترى ما تعرف تفرق هل هذا نقي؟
هذا الكتاب طبعته طبعة حجرية، الذي لا يعرف ما يعرف، هذا الكتاب مطبوع في روسيا كيف عرفته أنه مطبوع وليس فيه اسم البلاد؟ هذا الكتاب مطبوع في بلدة كذا في الهند لماذا؟ هذه البرهان ولكن الصفة العامة هي هذه.
ولهذا نقول وانتبه لهذا حتى تخلص من إشكال عظيم في هذه المسألة -مسألة إعجاز القرآن- لتنوع الخطاب فيها وتنوع المراس فيها نقول:
إنّ كلام الله جل وعلا ليس ككلام البشر، وكلام الله جل وعلا له خصائص ميزته عن كلام البشر.
ما هذه الخصائص كل ما قيل داخل في خصائص القرآن:(20/22)
أولا: القرآن كلام الله جل وعلا، واشتمل القرآن على ألفاظ العرب جميعا، تجد القرآن فيه كلامات بلغة قريش، وفيه كلامات بلغة هذيل، وفيه كلمات بلغة تميم، وفيه كلمات بلغة هوازن، وفيه كلمات بلغة أهل اليمن، وفيه بلغات كثيرة بلغة حِمْيَر، ?وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ?[النجم:61]، قال ابن عباس: السمود الغناء بلغة حمير.
بعض قريش خفي عليها بعض الكلمات مثل ما قال عمر رضي الله عنه لما تلا سورة النحل في يوم الجمعة -يعني في الخطبة-، تلا سورة النحل فوقف عند قوله تعالى ?أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ?[النحل:47]، نظر فقال: ما التخوف؟ فسكت الحاضرون، فقام رجل من هذيل فقال: يا أمير المؤمنين التخوّف في لغتنا التَّنَقُّص قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:
تخوّف الرَّحْلُ منها تامكا فردا كما تَخَوَّف عودُ النّبعة السَّفِنُ
تنقص، يعني (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) يعني يبدأ يتنقص شيئا فشيئا، ينقصون عما كانوا فيه من النعمة شيئا فشيئا، حتى يأتيهم الأجل، عمر القرشي خفيت عليه هذه الكلمة؛ لأنها بلغة أخرى.
هل يستطيع أحد من العرب أن يحيط بلغة العرب جميعا؟ لا يمكن، أن يحيط بلغة العرب جميعا بألفاظتها وتفاصيلها؟ لا يمكن، ولهذا تجد في القرآن الكلمة بلغة مختلفة، وتجد فيه التركيب النحوي بلغة من لغات العرب، فيكون مثلا على لغة حمير في النحو، أو على لغة [سدوس] في النحو، أو أعلى لغة هذيل في النحو.
فإذن الألفاظ والمعاني والتراكيب النحوية والبرهان تنوَّعت ودخلت كل لغات في العرب، هذا لا يمكن أن يكون من كلام أحد، لا يمكن أن يحيط هذه الإحاطة إلا من خلق الخلق وهو رب العالمين.(20/23)
الثاني: الألفاظ، كما ذكرنا ألفاظ القرآن بلغت الأعلى في الفصاحة، والقرآن كله فصيح بألفاظه، والفصاحة راجعة إلى الكلمات جميعا؛ الأسماء والأفعال والحروف، حتى ?الم?(1) فصيح.
إذن من خصائص القرآن التي دلت على إعجازه أن ألفاظه جميعا فصيحة، وما استطاع أحد -من العرب الذين أنزل عليهم القرآن- أن يُعيبوا القرآن في لفظه مما فيه كما عابوا كلام بعضهم بعضا، بل قال قائلهم: إن له لحلاوة وإن عليه لطُلاوة. إلى آخر كلامه.
الوجه الثالث: من خصائصه المعاني، المعاني التي يتصورها البشر عند قول كلامه لابد أن يكون فيها قصور، فإذا تكلم البشر في المعاني العَقدية فلابد أن يكون عنده لاشك قصور، إذا تكلم في العاني التشريعية لابد أن يظهر خلل، إذا تكلم في المعاني الإصلاحية التهذيبية لابد أن يكون فيها خلل، ولهذا قال جل وعلا ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?[النساء:82].
فإذن تنوع المعاني على هذا الوجه الثاني بما يناسب المعاني الكثيرة التي يحتاجها الناس يدل على أن هذا كلام الله جل وعلا؛ يعني أنه صفته.
هذه خصائص كرم الله جل وعلا، فلو قيل تقديرا: إننا سنصف القرآن الذي هو كلام الله جل وعلا وبه فارق كلام البشر فستعدد هذه جميعا، فهي خصائص أو أوجه للإعجاز بها صار القرآن معجزا بجميعها، لا بواحدة منها.
الوجه الرابع: أو الخصيصة الرابعة للقرآن: أنَّ القرآن فيه النَّظم مثل ما قال الجرجاني وهو من أحسن النظريات والكلام في إعجاز القرآن من جهة البيان، القرآن فيه القمة في فصاحة الألفاظ وفي البلاغة، البلاغة متركبة من أشياء؛ متركبة من ألفاظ ومن معاني ومن روابط -الحروف التي تربط بين ألفاظ والمعاني وتصل الجمل بعضها ببعض-.
__________
(1) البقرة, آل عمران, العنكبوت, الروم, لقمان, السجدة: الآية1.(20/24)
فالقرآن إذن من أوجه إعجازه أو من صفاته وخصائصه أن نظمه؛ يعني أن تركيب الكلام والآيات وتركيب الجمل في الآية الواحدة يدل على أنه الغاية في البيان، ولا يمكن لبشر أو لا يمكن للجن والإنس لو اجتمعوا أن يكونوا دائما على أعلى مستوى في هذا النظم، ولهذا تجد أن تفاسير القرآن حارت في القرآن، حتى التفاسير المتخصصة في النحو تجده ينشط في أوله تجده يعجز في آخره، ما تجده ينشط، آخر تجده في البلاغة يريد أن يبين بلاغة القرآن فيجود في موضع ثم بعد ذلك تأتي مواضع يكسل، ما يستطيع أن يبين ذلك.
لهذا قال من قال من أهل العلم: العلوم ثلاثة:
علم نضج واحترق.
وعلم نضج ولم يحترق.
وعلم لم ينضج ولم يحترق.
والثالث هو التفسير، لم ينضج ولم يحترق؛ لأنه على كثرة المؤلفات في التفسير وهي مئات فإنها لم تأتِ على كل ما في القرآن، لم؟ لأن الإنسان يعجز، يعجز المبين أن يبين عن كل ما في القرآن.،
إذن نظرية النظم التي ذكرها أبي الطاهر الجرجاني في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة -على تفصيل ما فيها- لا شك أنها دالة على صفة من صفات القرآن.
الوجه الخامس: أنَّ القرآن له سلطان على النفوس، وليس ثَمَّ من كلام البشر ما له سلطان على النفوس في كل الكلام، ولكن القرآن له سلطان على النفوس بما تميز به من كلام الله جل وعلا؛ لأنه كلام الله جل وعلا، مثل ما صار السلطان على ذلك المشرك؛ يعني أنه يرغم الأنوف.
ولقد كان مرة أحد الدعاة يخطب بالعربية وفي أثناء خطبته يورد آيات من القرآن العظيم يتلوها، فكانت امرأة كافرة لا تحسن الكلام العربي ولا تعرفه، فلما انتهى الخطيب من خطبته استوقفته -وكانت خطبته في سفينة-، لما انتهى من خطبته استوقفته، وقالت: كلامك له نمط، وتأتي في كلامك بكلمات مختلفة في رنتها وفي قرعها للأذن عن بقية كلامك، فما هذه الكلمات؟ فقال: هي القرآن.(20/25)
وهذا لاشك إذا سمعت القرآن تجد له سلطان على النفس ينبئ النفس على الاستسلام له، إلا لمن ركب هواه.
هذا السلطان تجده في أشياء:
أولا أن آيات القرآن -الدرس قد يطول عشر دقائق بقي مسألتان- أن آيات القرآن في السورة الواحدة -كما هو معلوم- لم تجعل آيات العقيدة على حدا، وآيات الشريعة على حدا؛ الأحكام، وآيات السلوك على حدا، إلى آخره؛ بل الجميع كانت هذه وراء هذه، فآية تخاطب المؤمنين، وآية تخاطب المنافقين، وآية تخاطب النفس، وآية فيها العقيدة، وآية فيها قصص الماضين، وآية تليها فيها من سيأتي، وآية فيها الوعد وآية فيها الوعيد، وآية فيها ذكر الجنة وذكر النار، وآية فيها التشريع، وثم يرجع إلى آية أخرى فيها أصل الخلق قصة آدم، وهكذا في تنوع.
وهذا من أسرار السلطان الذي يكون للقرآن على النفوس؛ لأن الأنفس متنوعة، بل النفس الواحدة لها مشارب، فالنفس تارة يأتيها الترغيب وتارة يأتيها الترهيب، وتارة تتأثر بالمثل، تارة تتأثر بالقصة، تارة هي ملزمة بالعمل، تارة هي ملزمة بالاعتقاد، فَكَوْنُ هذه وراء هذه وراء هذه تُغْدِقُ على النفس البشرية أنواع ما تتأثر به، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من كلام من خلق هذه النفس البشرية، ?أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك:14]، فتجد أن القرآن يحاصرك، فأيُّ إنسان أراد أن يفر لا يمكن أن يفر من القرآن، سيأتيه قوة بآية فيها وصف الكافرين، آيات فيها قوة بوصف الكافرين، آيات فيها قوة بوصف المؤمنين، آيات فيها العقيدة، فيها الماضي، فيها الحاضر، فيها النبوة، فيها الرسالة، فيها الدلائل، فيها حال المشركين، إلى آخر ما يحصل على النفس الحية والعقل الواعي الذي يتحرك وعنده همة يحصر عليه الهروب، وهذا لا يمكن أن يحصره في أنواع النفس البشرية الواحدة إلا من خلق هذه النفس وتكلم بهذا القرآن لإصلاحها، ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ?[الإسراء:9].(20/26)
فكيف إذن بأنواع الأنفس المختلفة، هذا الذي يصلح له الترغيب، وهذا الذي يصلح له الترهيب، وهذا الذي يصلح له وصف الجنة، وهذا الذي ينشأ عنده الإيمان بالحب وإلى آخره، وذلك الذي ينشأ عنده الإيمان بالجهاد، ونحو ذلك، تنوع الأنفس وخطاب القرآن للناس جميعا على تنوع أنفسهم هذا دليل ثانٍ على أن القرآن له سلطان على النفوس.
أيضا تجد أن القرآن خُوطب به من عنده فن الشعر وما يسميه بعض الناس موسيقى الكلام؛ يعني رنات الكلام، بعض الناس عندهم شفافية بالتأثر باللحن، بالرنات، بالصعود والنزول في نغمة الكلام، هذا أيضا هذا النوع من الناس تجد في القرآن ما يجبره على أن يستسلم له.
لَبيد بن رَبيعة صاحب معلقة وصاحب ديوان مشهور، قيل له: ألا تنشدنا من قصائدك، لم وقفت عن الشعر؟ قال أغناني عن الشعر وتذوقه -أو كما قال- سورتا البقرة وآل عمران؛ لأن هذا الشيء هو له تذوق في هذا الفن بخصوصه، فيأتي القرآن فيجعل سلطانه على النفس فيقصره قصرا، لهذا قال جل وعلا ?وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41)لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ?[فصلت:41-42]، وقال سبحانه ?وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ?[فصلت:44].(20/27)
الوجه السادس: أو الصفة السادسة للقرآن أو الخاصية السادسة للقرآن التي تميز بها عن كلام الناس، أن القرآن فيه الفصل في الأمور الغيبية، فثم أشياء في القرآن أُنزلت على محمد عليه الصلاة والسلام وكان أميا عليه الصلاة والسلام، ما لم يظهر وجه بيانها وحجتها في كمال أطرها إلا في العصر الحاضر، وهو الذي اعتنى به طائفة من الناس وسموه الإعجاز العلمي في القرآن، والإعجاز العلمي في القرآن حق؛ لكن له مواضع توسع فيه بعضهم فخرجوا به عن المقصود إلى أن يجعلوا آيات القرآن خاضعة للنظريات، وهذا باطل؛ بل النظريات خاضعة للقرآن لأن القرآن حق من عند الله والنظريات من صنع البشر، لكن بالفهم الصحيح للقرآن، فثَم أشياء من الإعجاز العلمي حق لم يكن يعلمها الصحابة رضوان الله عليهم على كمال معناها وإنما علموا أصل المعنى، فظهرت في العصر الحاضر في أصول من الإعجاز العلمي.
الإعجاز الاقتصادي، الإعجاز التشريعي، الإعجاز العَقدي أشياء تكلم عنها الناس في هذا العصر -ما نطيل في بيانها- وكل واحدة منها دالة على أن هذا القرآن من عند الله جل وعلا ?وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?[النساء:82].(20/28)
الوجه السابع والأخير وبه تختم هذا الدرس: أنّ القرآن من صفاته أنّ الإنسان المؤمن كلما ازداد من القرآن ازداد حبا في الله جل وعلا، وهذا راجع إلى الإيمان، وراجع إلى أن صفة القرآن فيها زيادة في الهدى والشفاء للقلوب، فالأوامر والنواهي والأخبار التي في القرآن هي هدى وشفاء لما في القلوب، كما قال سبحانه ?قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ?[فصلت:44]، وهذا سلطان خاص على الذين آمنوا في أنه يهديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور في المسائل العلمية وفي المسائل العملية، لهذا ما تأتي فتنة ولا اشتباه إلا وعند المؤمن البصيرة لما في هذا القرآن؛ ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ?[الإسراء:9].
فإذن صفة كلام الله جل وعلا في أن المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعلم حدوده ويعلم معانيه، أن عنده النور في الفصل في المسائل العلمية والعملية، وهذه لا يُلقاها إلا أهل الإيمان ?قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ?[فصلت:44]، ?وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا?[الإسراء:82]، وهذا أيضا سلطان خاص يزيد المؤمن إيمانا، لهذا إذا تليت على المؤمن آيات الله جل وعلا ?زَادَتْهُمْ إِيمَانًا?[الأنفال:2]، زادتهم إيمانا لما فيه من السلطان على النفوس.(20/29)
إذا تبين لك ذلك فكلام الله جل وعلا قديم النوع حادث الآحاد، والقرآن من الحادث الآحاد وقت التنزُّل كما قال جل وعلا ?مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2)لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا?[الإسراء:2-3] إلى آخر الآيات؛ يعني أنّ الله جل وعلا تكلم به وكلام الله جل وعلا أوسع من الكلام بالقرآن، والقرآن جاء على هذا النحو؛ لأنه هو الذي يتحمله الإنسان، الإنس والجن لا يتحملون أكثر من هذا، وإلا لصار عليهم كلفة وعنف.
بهذا يتبين لك ما ظهر لي من تحصيل أقوال أهل العلم بهذه المسألة العظيمة التي خاض فيها المعتزلة، وخاض فيها الأشاعرة، وقل بل نذر من أهل السنة من خاض فيها على هذا النحو، بل لا أعلم من جمع فيها الأوجه على هذا النحو في كتب العقائد؛ بل تجدها متفرقة في كتب كثيرة في البلاغة، وفي الدراسات في إعجاز القرآن، وفي التفسير، وفي كتب متنوعة.
وما أجمل قول الطحاوي رحمه الله رحمة واسعة (أَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر) وهذا هو الحق فالقرآن بصورته وهيئته وصفته لا يمكن أن يشبه قول البشر، حتى في رسمه وتنوع آياته وسوره بل لا يشبه قول البشر.
أسال الله جل وعلا أن يغرس الإيمان في قلوبنا غرسا عظيما، وأن يجعلنا من أوليائه الصالحين، وأن يهيئ لنا من امرنا رشدا.
وأسأله سبحانه أن يوفقنا وأن يوفق ولاة أمورنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى.
كما أسأله سبحانه أن ينور قلوبنا بالدعاء وأن يجعلنا من أوليائه إنه سبحانه جواد كريم، وصلى والله وسلم وبارك على نبينا محمد.
[الأسئلة]
نجيب على ثلاثة أسئلة.
نريد أن نرجع إلى موضع في مسألة إعجاز القرآن، مسألة طويلة الذيول وما ذكرت متفرق بين مراجع كثيرة.
س1/ ما هي [...] أبا العتاهية؟(20/30)
ج/ رحم الله أبا العتاهية، فهو من الصالحين، ولا تسل عن شيء ليس فيه مصلحة، أبو العتاهية شاعر من الشعراء الزهاد وديوانه مطبوع.
س2/ هل يوجد في القرآن ألفاظ أعجمية، وما معنى ?حم?، ?المر?؟
ج/ الجواب: الكلمات الأعجمية في القرآن أعجمية الأصل لكنها عربية الاستعمال، ومعلوم أنّ العرب لما استعملوا هذه الكلمات صارت عربية كالسندس والإستبرق وأشباه ذلك؛ لأنها لم تأت على أوزان العرب.
فأهل العلم في هذه المسألة لهم قولان:
منهم من ينفي وجود الكلمات الأعجمية أصلا.
ومنهم من يقول هي موجودة لكنها بالاستعمال صارت عربية، وهذا هو الصحيح.
وأما الأحرف المقطعة في أوائل السور ?الم?، ?الر?، ?حم? فهي دالة على إعجاز القرآن، فالحجة فيها عظيمة (الر)، (الم) فصيحة ألفاظُها؛ يعني هذه الأحرف من حيث الاستعمال، ودالة على أعظم أنواع الإعجاز، أو عن دليل عظيم من أدلة الإعجاز، كيف ?المر?، ?حم?، ?كهيعص? هذه الأحرف هي الأحرف التي بها يتكلم العرب وينشئون بها الكلام الذي يفاخرون به، فأشعار العرب من هذه الأحرف، وكلمات العرب وخطب العرب من هذه الأحرف، وما تفاخروا فيه من البيان والبلاغة والخطاب والفصاحة إنما هو مكوَّن من هذه الأحرف، فالله جل وعلا في بعض السور -في أول بعض السور- افتتحها بالأحرف المقطعة لينبه أنّ هذا القرآن كلماته وآياته من هذه الأحرف التي بها تنشئون كلامكم البليغ الذي تتحدون به، فهيا استعملوا هذه الأحرف في إنشاء كلام مثل هذا القرآن، ولهذا تجد أنَّ الأحرف المقطعة في افتتاح السور أغلبها والغالب منها يكون بعد الأحرف المقطعة يكون ذكر الكتاب والقرآن، لا تجد سورة فيها ذكر الأحرف المقطعة إلا فيها ذكر القرآن، والأغلب أن تكون بعد الحرف المقطعة مباشرة.(20/31)
خُذ مثلا ?الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ?[البقرة:1-2]، ?ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ?[ق:1]، ?حم(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ?، (1) ?يس(1)وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ?[1-2]، ?حم(1)تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ?[فصلت:1-2]، ?الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ?[هود:1]، ?المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ?[الرعد:1]،(2) كلما ذكر الكتاب كلما ذكرت الأحرف ذكر بعدها الكتاب، وتارة تكون بعد ذلك كسورة مريم ?كهيعص? يأتي ذكر القرآن بعدها.
فإذن إيراد هذه الأحرف المقطعة في أوائل السور لتحدي العرب لتكوين كلام من هذه الأحرف التي يكونون منها كلامهم وينشئون بها خطبهم وأشعارهم وأن يعارضوا القرآن بمثل هذا الكلام.
س3/ ما رأيكم بمن يقول إن الله ليس له لغة بدليل أنه يخاطب جميع البشر كلا حسب لغته؟
ج/ نقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللغة اصطلاحية، اللغة من آياته ?وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ?[الروم:22]، البشر احتاجوا للغات ليتفاهموا فيما بينهم، الله جل وعلا هو الذي خلق البشر وخلق لغات البشر وجعل اختلاف الألسن دليلا على عظم الباري جل وعلا.
الله سبحانه أعظم من أن يقال فيه إنه يتكلم بكل اللغات، أو أنه ليس له لغة الله جل وعلا أعظم وأجل من ذلك أو نحو ذلك، وما قدروا الله حق قدره سبحان ربي وتعالى، سبحان ربي وتعالى.
س4/ ما رأيك بقول الشخص الآخر –هذا مو متعلق بالدرس لكن الجواب عليه مهم- قول الشخص الآخر: لك خالص شكري؟
__________
(1) الزخرف والدخان:1-2.
(2) الشيخ قال: والقرآن المبين.(20/32)
ج/ الجواب: هذا نبهنا عليه مرارا أنّ الشكر عبادة؛ الشكر عبادة لله جل وعلا، أمر الله بها ?أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ?[لقمان:14]، ?وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ?[البقرة:152]، ولما أمر الله جل وعلا به فهو عبادة عظيمة من العبادات التي يتقرب إلى الله جل وعلا بها، والعبادات من الدين، والدين الخالص لله جل وعلا، ?أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ?[الزمر:3]، فلا يجوز أن يقال لأحد: لك خالص شكري. لأن خالص الشكر لله سبحانه وتعالى، أو: لك خالص تحياتي. أو: خالص تقديري. هذه كلها لله جل وعلا، خالص التحيات وخالص التقدير والقدر والتعظيم، وخالص الرجاء، ومثل ما يقول وفيك خالص رجائي، الرجاء والشكر، ومثل هذه الأشياء هي عبادة وخالصها لله جل وعلا.
فلا يجوز أن يقول القائل مثل ما هو شائع في كثير من الرسائل والمؤلفات وتقبل خالص شكري وتقدري؛ لأن هذا إنما هو لله جل وعلا.
فالشكر الخالص لله، يقال للبشر ولك عظيم شكري، أو يقال له مع عظيم شكري لك مع جزيل شكري، ونحو ذلك، نعم يشكر البشر على ما يقومون به من أنواع الخير، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»، الذي لا يشكر الناس لا يشكر الله جل وعلا.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل مني ومنكم، وأن يزيدنا من العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
(((((
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري.(20/33)
قسم العقيدة(/)
شرح
كتاب ثلاثة الأصول
لشيخ الإسلام الإمام المجدد
محمد بن عبد الوهاب المشرفي التميمي
1115هـ - 1206هـ
-رحمه الله تعالى-
[(6.) أشرطة مفرّغة]
ينبغي لنا أن نحرص على هذه الرسالة؛ تعليما لها للعوام، وللنساء في البيوت، وللأولاد ونحو ذلك، على حسب مستوى من يخاطب في ذلك، وقد كان علماؤنا رحمهم الله تعالى يعتنون بثلاثة الأصول هذه تعليما وتعلما، بل كانوا يلزمون عددا من الناس بعد كل صلاة فجر أن يتعلموها، أن يحفظوا هذه الأصول ويتعلموها، وذلك هو الغاية في رغبة الخير، ومحبة الخير لعباد الله المؤمنين، إذْ أعظم ما تُسدي للمؤمنين من الخير، أن تسدي لهم الخير الذي ينجيهم حين سؤال الملكين للعبد في قبره، لأنه إذا أجاب جوابا حسنا -جوابا صحيحا- عاش بعد ذلك سعيدا، وإن لم يكن جوابه مستقيما ولا صحيحا عاش بعد ذلك، والعياذ بالله على التوعد بالشقاء والعذاب.[صالح آل الشيخ]
?????????????????
نسأل الله جل وعلا أن يبصرنا بالحق وأن يمن علينا بالالتزام به، وبالثبات عليه، حتى يتوفانا وهو راضٍ عنّا.
هذه الدروس متنوعة، منها درس في ثلاثة الأصول وهي رسالة لإمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وبعدها درس في الورقات للجويني في أصول الفقه, وهذا بعد العصر, وبعد المغرب إن شاء الله تعالى, يكون ثَم درسان؛ الأول في التفسير؛ وسنفسر إن شاء الله تعالى سورة تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير؛ المسماة سورة الملك، وبعدها درس في الحديث؛ نشرح فيه إن شاء الله تعالى، ما نتمكن من شرحه من الأربعين النووية، على وجه الاختصار والإيضاح إن شاء الله تعالى.(21/1)
سبب الاختيار، أن هذه الدروس مدتها وجيزة أولا من حيث الزمن؛ لأنها مُقْتَطَعة من هذه العطلة، وبالتالي هي غير متصلة، فلهذا يناسب أن يشرح فيها أشياء تُنبه طلاب العلم إلى ما يجب أن يسلكوه في طلب العلم؛ لأن الكثير من الشباب يحب العلم، ويروم طلبه, لكنه لا يوفق إلى الطريق الصحيح لطلب العلم، فمنهم من مضى عليه سِنُون عددا يقرأ وربما يبحث، لكن لو فتّش في نفسه لوجد أنه لم يحصل من العلم، ما به يكون على أرض يمكنه المشي عليها في طريق العلم اللاّحد الطويل، وسبب ذلك أنه فقد التأصيل العلمي الذي كان يعتني به العلماء منذ قرون كثيرة.
رسالة ثلاثة الأصول, رسالة مهمّة لكل مسلم، وكان العلماءُ -أعني علمائنا- يعتنون بها شرحا، في أول ما يشرحون من كتب أهل العلم، ذلك؛ لأن فيها الجواب عن أسئلة القبر الثلاث؛ ألا وهي سؤال الملكين العبد عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه، وهي ثلاثة الأصول يعني معرفة العبد ربه؛ وهو معبوده، ومعرفة العبدِ دينه؛ دين الإسلام بالأدلة، ومعرفة العبد نبيه عليه الصلاة والسلام، فمن هاهنا جاءت أهمية هذه الرسالة؛ لأن فيها من أصول التوحيد والدين الشيء الكثير.
وأصول الفقه مهمة أيضا والعناية بها ضعيفة فيما أحسب وأسمع، وتأتي أهميتها لأنه كثر المجتهدون دون معرفةٍ لأصول الاستنباط، والاستنباط له أصوله؛ أصول الاستنباط هي أصول الفقه, فكم سمعنا من متكلم في مسائل شرعية, لم يحسن الكلام عليها تأصيلا و لا استنباطا, ويظن أنه محسن مصيب في استدلاله, لما؟ من أين أتاه الغلط؟ أتاه من ضعفه بأصول الفقه, نعم, إن هذه الورقات مقدمة في أصول الفقه, لم تشتمل من أصول الفقه إلا على أشياء يسيرة, فلا تهيئ تلك الرسالة طالب العلم إلى أن يفهم الأصول كما ينبغي, ولكنها تعطيه مفاتيح يدخل بها بيت أصول الفقه.(21/2)
وأما التفسير, تأملتُ فترة فيما أختاره في التفسير, هل أختار تفسير سورة الفاتحة؟ أم أختار تفسير جزء عم؟ باعتبار أنه كثيرا ما يقرأ في المساجد في الصلوات الجهرية, وربما قرأه كثيرا من المسلمين, بله طلاب العلم, في صلاتهم، وربما لم يدركوا، أو لم يعلموا كثيرا من معاني التي يتلونها كثيرا ويسمعونها كثيرا, لكن لقصر الوقت نظرت في أن سورة تبارك اشتملت على أصول عظيمة, ويمكن ببيان وتفسير آياتها ما يُنبه طلاب العلم على ضرورة الاعتناء بالتفسير, خاصة تفسير الآيات التي تحفظُها, والتي تقرأُها في صلاتك والتي تسمعها، فكم يُعاب المرء أن يَسمع كلاما يردد عليه وهو يجهل معناه، تُردد عليه قصار السور وربما جهل بعض تلك المعاني ليس الجهل عيبا, لكن الإصرار على الجهل هو العيب, وما أحسن قول أبي الطيب المتنبي حيث قال:
ولم أر في عيوب الناس عيبا
كنقص القادرين على التمام
وأنتم أيها الشّبَبَة قادرون بلا شك على التعلم، قادرون على الفهم, قادرون على الفقه, لكن العيب يأتي من إضاعة الوقت في غير ما ينفع, التفسير مهم ومعرفة معاني الآيات وسيلة, لاشك من وسائل الثبات على الإيمان, وتحصيل العلم النافع.
بعد التفسير الأربعون النووية, وهذه الأربعون النووية جمعت أحاديث، شهد العلماء بعد محي الدين يحيى بن زكريا النووي -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- على حسن اختياره لها, وعلى أنها جمعت الأحاديث التي عليها مدار الإسلام, لهذا اعتنى العلماءُ بشرحها هذه الأربعون, ينبغي لنا أن نحفَظَها, وينبغي أن نفهم معانِيَها, وأن نقرأَ ما قاله العلماء في شرحها.(21/3)
هذه مقدمات لهذه الدروس, هذه المقدمات التي قدمتُ بها, أردتُّ منها أن أرشدك إلى أن العلم لا يُنال مرة واحدة, وإنما يُنال العلم على مر الأيام والليالي, كما قال ابن شهاب الزهري رحمه الله تعالى، فيما رواه ابن عبد البر في كتاب الجامع قال: "من رام العلمَ جملة ذهب عنه جملة، إنما يُطلب العلم على مرِّ الأيام والليالي" وهذا حق, العلم يبدأ بتحصيل صغاره قبل كباره، إذا حصلت صغار المسائل قبل الكبار فأنت على طريق العلم، وأما إذا ابتدأت بالكبار دون معرفة الصغار؛ صغار المسائل؛ واضحات المسائل, وابتدأت بالكبار التي فيها خلاف، تحتاج إلى بحث، تحتاج إلى ترتيب, تنازع العلماء فيها, كما هو ديدن بعض طلبة العلم، أو بعض المبتدئين في العلم، فإنه يذهب عنك العلم، لهذا أأكد على ضرورة تأصيل العلم والسير فيه خطوة فخطوة, وإنما يطلب العلم على مر الأيام والليالي:
اليوم علم وغدا مثلُه
من نُخب العلم التي تُلتقط
يُحصِّل المرء بها حكمة
وإنما السيل اجتماع النقط
وهذا واقع وقد ذكر الخطيب البغدادي بإسناده في كتاب الجامع ببيان أدب السامع، ذكر حكاية عن أحد رواة الأحاديث، بأنه طلب العلم، وحرص على لقاء الشيوخ، وأخذ عنهم، لكنه لم يحفظ، مرت عليه الأيام ولم يحفظ، لم يفهم، ومضى الوقت وهو على هذا فظن أنه لا يصلح للعلم فترك العلم، فبينما هو يسير مرة إذا بماء يتقاطر على صخرة، وهذا الماء قد أثَّر في الصخرة، فحفر فيها حفرة، فنظر متأملا فقال: هذا الماء على لطافته أثر في هذا الصخر على كثافته، فليس العلم بألطفَ من الماء، يعني بأخف من الماء، وليس قلبي وعقلي بأكثف من الصخر، ورجع يطلب العلم من جديد، وحصَّل وأصبح من رواة الحديث الذين لهم شهرة، إذن فالعلم يحتاج إلى مواصلة ما نيأس نواصل, نواصل, نحفظ، ندارس, لكن ينبغي بل يجب أن يكون على أصوله خطوة فخطوة، ومن بدأ من الأهم ثم أعقبه بالمهم، فإنه يحصل إن شاء الله تعالى.(21/4)
نبدأ بثلاثة الأصول نفعني الله جل وعلا وإياكم بها:
[هذا سؤال لطيف يقول ما إعراب ثلاثة الأصول وأدلتها ولماذا لم يقل المصنف: الأصول الثلاثة وأدلتها وما هي العبارة الأصح؟
الشيخ رحمه الله تعالى له رسالة أخرى بعنوان الأصول الثلاثة رسالة صغيرة أقل من هذه علمًا؛ ليعلمها الصبيان والصغار تلك يقال لها الأصول الثلاثة, وأما ثلاثة الأصول فهي هذه التي نقرأها، ويكثر الخلط بين التسميتين، ربما قيل لهذه ثلاثة الأصول، أو الأصول الثلاثة، لكن تسميتها المعروفة أنها ثلاثة الأصول وأدلتها.
إعراب ثلاثة الأصول وأدلتها:
ثلاثة: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه (هذه ثلاثة) خبر مرفوع بالابتداء وعلامة رفعه الضمّة الظاهرة على آخره وهو مضاف.
الأصول: مضاف إليه مجرور بالتبعية وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره.
الواو: عاطفة.
أدلةُ: معطوف على ثلاثة مرفوع بالتبعية؛ تبعية العطف، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره وهو مضاف.
ها: ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالاضافة.]([1])
?????
بسم الله الرحمن الرحيم.
اعلمْ -رحمكَ اللهُ- أَنَّهُ يجبُ علينَا تَعَلُّمُ أربعِ مسائلَ؛ الأُولى: العِلْمُ؛ وهوَ معرفةُ اللهِ، ومعرفةُ نبيِّهِ، ومعرفةُ دينِ الإسلامِ بالأدلةِ. الثانيةُ: العملُ بهِ. الثالثةُ: الدعوةُ إليهِ. الرابعةُ: الصبرُ علَى الأَذى فيهِ.
والدليلُ قولُه تعالَى: بسم الله الرحمن الرحيم ?وَالْعَصْرِ*(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)?[العصر]، قالَ الشافعيُّ رحمَهُ اللهُ تعالَى: لوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هذِه السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ.(21/5)
وقال البخاريُّ رحمَهُ اللهُ تعالى: بابٌ العلمُ قبلَ القولِ والعملِ والدليلُ قولُه تعالَى ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ?[محمد:19]، فبدأَ بالعلمِ قبلَ القولِ والعملِ.
الحمد لله رب العالمين، قال الشيخ رحمه الله تعالى في أول هذه الرسالة (اعلمْ -رحمكَ اللهُ-), أو (اعلم رحمني الله وإياك) وهذا فيه التلطف، وفيه تنبيه إلى أن مبنى هذا العلم على التلطف، وعلى الرحمة بالمتعلمين, لأنه دعا له بالرحمة, وكان العلماء يَروُون ويُروُّون لمن بعدهم فيمن طلب الإجازة في الحديث, رواية حديث «الراحمون يرحمهم الرحمان»، وهذا الحديث هو المعروف عند أهل العلم بالحديث بالمسلسل بالأولية لما؟ لأن كل راو يقول لمن بعده "وهو أول حديث سمعته منه"(فعلماء الحديث يروون هذا الحديث لتلامذتهم ويكون أول حديث فيما يروون ألا وهو حديث «الراحمون يرحمهم الرحمان» ففي الإجازات ترى أن كل شيخ يقول عن شيخه حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال حدثني شيخي فلان وهو أول حديث سمعته منه، إلى أن يصل إلى منتهاه قال الرسول صلى الله عليه وسلم «الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»، قال العلماء سبب ذلك أن مبنى هذا العلم الرحمة، ونتيجته الرحمة في الدنيا، وغايته الرحمة في الآخرة، لهذا الشيخ رحمه الله نبه على ذلك تنبيها لطيفا دقيقا حيث قال (اعلمْ -رحمكَ اللهُ-)؛ دعاء للمتعلم بالرحمة, ذلك لأن مبنى التعلم بين المعلم والمتعلم هو التراحم كلٌّ بما يناسبه.(21/6)
(يجبُ علينَا تَعَلُّمُ أربعِ مسائلَ) الوجوب ها هنا المقصود به ما يشمل الوجوب العيني والوجوب الكفائي؛ أما بالنسبة للأول ألا وهو العلم، فما ذكره واجب علينا أن نتعلمه وجوبا عينيا، ألا وهو معرفة ثلاثة الأصول؛ معرفة العبد ربه، ومعرفة العبد دينه، ومعرفة العبد نبيه، هذا واجب فمثل هذا العلم لا ينفع فيه التقليد، واجب فيه أن يحصله العبدُ بدليله، والعبارة المشهورة عند أهل العلم: أن التقليد لا ينفع في العقائد, بل لابد من معرفة المسائل التي يجب اعتقادها بدليلها, هذا الدليل أعم من أن يكون نصا من القرآن, أو من سنة, أو من قول صاحب, أو من إجماع, أو قياس, وسيأتي تفصيل الدليل إن شاء الله تعالى في موضعه.
التقليد هذا لا يجوز في العقائد عند أهل السنة والجماعة, وكذلك لا يجوز عند المبتدعة من الأشاعرة والماتريدية والمتكلمة، لكن ننتبه إلى أن الوجوب عند أهل السنة يختلف عن الوجوب عند أولئك في هذه المسألة، والتقليد عند أهل السنة يختلف عن التقليد عند أولئك, فأولئك يرون أن أول واجب هو النظر, فلا يصح الإيمان إلا إذا نظر، ويقصدون بالنظر؛ النظر في الآيات المرئية؛ في الآيات الكونية، ينظر إلى السماء، يستدل على وجود الله جل وعلا بنظره، أما أهل السنة فيقولون يجب أن يأخذ الحق بالدليل, وهذا الدليل يكون بالآيات المتلوّة, أولئك يحيلون على الآيات الكونية المرئية بنظرهم, بنظر البالغ، وأما أهل السنة فيقولون لابد من النظر في الدليل، لا لأجل الاستنباط، ولكن لأجل معرفة أن هذا قد جاء عليه دليل، في أي المسائل؟ في المسائل التي لا يصح إسلام المرء إلا به؛ مثل معرفة المسلم أن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة دون ما سواه، هذا لابد أن يكون عنده برهان عليه، يعلمه في حياته, ولو مرة، يكون قد دخل في هذا الدين بعد معرفةٍ الدليل, ولهذا كان علماؤنا يعلمون العامة في المساجد، ويحفظونهم هذه الرسالة ثلاثة الأصول لأجل عظم شأن الأمر.(21/7)
أول المسائل الأربع التي يجب علينا تعلُّمها العلم: والعلم أجمله هاهنا بما سيأتي تفصيله في الرسالة، رسالة ثلاثة الأصول شرح لهذا الواجب الأول.
الثاني العمل: العمل بالعلم, والعمل بالعلم منه ما تركه كفر، ومنه ما تركه معصية، ومنه ما تركه مكروه، ومنه ما تركه مباح، كيف يكون ذلك؟ العلم ينقسم، فالعلم بالتوحيد؛ بأن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده، إذا علمه العبد ولم يعمل بهذا العلم بأن أشرك بالله جل وعلا لم ينفعه علمه، فكان ترك العمل في حقه كفرا، وقد يكون معصية بأن علم مثلا أن الخمر حرام شُرْبها، حرام بيعها، حرام شراؤها، حرام سقيها، حرام استسقاؤها, ونحو ذلك, وخالف العلم الذي عنده، عَلِمَ أنه حرام فخالف، فتكون مخالفته معصية، يعني ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب في هذه المسألة، منه ما هو مكروه؛ إذا علم أن النبي عليه الصلاة والسلام، كان يصلي على هيئة, وصِفة معينة، فخالفه في سنة من السنن بعد عِلمه بها، ترك العمل بالعلم الذي عنده هذا مكروه؛ لأنه ترك العمل بسنة ليس بواجب، فيكون تركه مكروه، ويكون العمل بذلك مستحبا، وقد يكون العمل بالعلم مباحا، وتركه مباح أيضا، بمثل المباحات، والعادات ونحو ذلك، كأن بلغنا من العلم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان من هيئته في لباسه كذا وكذا، كانت مشيته على نحو ما، هذه الأمور الجبلية الطبيعية، فيما نتعلمه، مما لم نخاطب فيها بالإقتداء، إذا ترك العمل بها, كان تركه مباحا له لأنه لم يخاطب المسلم أن يقتدي بمثل هذه الأمور بنحو سير النبي عليه الصلاة والسلام, بصوته, بالأمور الجبلية التي كان عليها عليه الصلاة والسلام, فيكون العمل بذلك مباح، وقد يُؤجر عليه إذا نوى الإقتداء, بنية الإقتداء, فيكون ترك العمل أيضا مباحا. العمل هذا أخذه من قوله جل وعلا?إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ?([2]) [العصر:3]كما سيأتي.(21/8)
الثالث الدعوة إليه: إذا علم وعمل فإنه يدعو إلى ذلك والدعوة قد تكون بالمقال، وقد تكون بالفعال؛ لأن الامتثال بالفعل دعوة, فإذا امتثل المسلم لما أُمر به, فإن هذا يجعله يرشد غيره إرشادا صامتا, بالفعل إلى أن هذا مطلوب, والثاني الدعوة بالقول؛ باللسان، والدعوة باللسان قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة، فيتفرع عن الدعوة باللسان أنواع من الدعوة منها الدعوة بالكتابة بالقلم؛ في تأليف، أو في رسائل أو نحو ذلك، منها النصائح المختلفة، والمواعظ، ونحو ذلك.
بعد الدعوة الواجب الرابع أن يتعلم الداعية، الذي علم، ثم عمل ثم دعا، أنه يجب عليه أن يصبر: لأن سنة الله جل وعلا في خلقه لم يجعل القبول حاصلا للنبيين والمرسلين الذين هم أفضل الخلق وأعلاهم درجة، لم يجعل القبول لهم، وإنما عورضوا، و أوذوا، وحصل لهم ما حصل، فالداعية يحتاج إلى أن يصبر كما صبر المرسلون, بل إن النبي عليه الصلاة والسلام, أُمر بأن يحتذي حذو الصابرين بقول الله جل وعلا ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ?[الأحقاف:35]، فالصبر, الصبر في غاية المهمات لمن علِم، فعمل، فدعا، يحتاج إلى أن يصبر، فإن لم يصبر، كان من الذين يستخفهم الذين لا يوقنون، قال جل وعلا?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60]؛ قد حذر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه من العجلة قال: «ولكنكم قوم تستعجلون».(21/9)
هذه المسائل الأربع واجب تعلمها، والعمل بها؛ العلم، والعمل، والدعوة، والصبر، ودليل ذلك قول الله جل وعلا بسم الله الرحمن الرحيم ?وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ?[العصر]، قال جل وعلا (وَالْعَصْرِ), العصر هو الزمان, أقسم الله جل وعلا به لشرفه؛ الزمان المطلق، والعصر يعني والزمن, والعمر, والوقت؛ لأنه أشرف شيء أُعطيه الإنسان, أنْ أعطي عمرا فيه يعبد الله جل وعلا, ويطيعه, فبسبب العمر عبَدَ الله، وبسبب العمر شرُف، إن كتب الله جل وعلا له الجنة أن يكون من أهل الجنة، فهو شريف القدر، عظيم القدر، (وَالْعَصْرِ) جواب القسم، يعني ما معنى جواب القسم؟ يعني لأي شيء جاء القسم؟ لما أقسم الله جل وعلا بالعصر؟ قال جل وعلا ?إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ?[العصر:2], فجواب القسم هو (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، وأكد ذلك، بـ(إنَّ) وباللام في قوله (لَفِي خُسْرٍ)، ومن المتقرر في علم المعاني من علوم البلاغة, أن(إنّ واللام من أنواع المؤكدات), اجتمع هاهنا أنواع من المؤكدات, أولا القسم، الثاني مجيء إنّ، الثالث مجيء اللام التي تسمى المزحلقة, أو المزحلفة, مجيء اللام في خبر إنّ، قال جل وعلا ?إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ?[العصر:2]، وأهل العلم يقولون يعني أهل العلم بالمعاني يقولون "إن مجيء المؤكدات يصلح إذا كان المخاطَبُ منكِرا لما اشتمل عليه الكلام". فمثلا تقول لمن لم يكن عنده الخبر، فلان قادم، لا يصلح أن تقول "إنّ فلانا لقادم" وذاك لم ينكر الكلام، ويريد أن يستقبل الخبر، تقول "فلان قادم"، فأخبرته بقدوم فلان، لكن إن كان منكرا له، أو منزل منزلة المنكر له، فإنه تؤكد الكلام له، لكي يزيد انتباهه، ويعظم إقراره لما اشتمل عليه.(21/10)
المشركون لأجل ما هم فيه من شرك، وما عاندوا فيه الرسالة، حالهم بل ومقالهم أنهم هم أصحاب النجاة ?وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى?[فصلت:50]، فهم ينكرون أنهم سيكونون في خسارة، و ينكرون -طائفة أخرى منهم- أن يكون الإنسان سيرجع إلى خسارة، وأنه لن ينجوا إلا أهل الإيمان، فأكد الله جل وعلا ذلك لأجل إنكارهم بالمقال والفعل وبالحال، بقوله ?إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ?[العصر:2]، يعني إن جنس الإنسان، الألف واللام هذه للجنس (الـ) الجنسية، (الْإِنسَانَ) يعني جنس الإنسان (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ), جنس الإنسان في خسر، يعني في خسارة عظيمة، إلا ما اُستثني، وهذا نوع آخر من شد الذهن لقبول الكلام، (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)؛ كل الناس، كل الإنسان في هلاك وخسارة، ثم استثنى فقال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، هؤلاء الذين استثناهم الله جل وعلا هم أصحاب هذه المسائل الأربعة التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)،؛ والإيمان علم وعمل، أليس كذلك؟ الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ هذا الاعتقاد هو العلم، لأن العلم مورده القلب والعقل، هذا العلم، فأهل العلم ناجون من الخسارة ?إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? [العصر:3]، ألم نقل: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وهنا قال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فعطف بالواو العمل على الإيمان، وأهل اللغة -النحاة- يقولون إن الواو تأتي كثيرا للمغايرة، فهل معنى ذلك أن العمل غير الإيمان؟ وأن مسمى الإيمان لا يدخل فيه العمل؟ الجواب لا, ذلك لأن المغايرة تكون بين حقائق الأشياء, وحقيقة الإيمان أكبر من حقيقة العمل؛ لأن العمل جزء من الإيمان؛ العمل بعض الإيمان، وعطف الخاصّ بعد العام يأتي كثيرا، وكذلك عطف العام بعد الخاص يأتي كثيرا بالواو, من مثل قول الله جل وعلا ?مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ(21/11)
وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ?[البقرة:98]، هنا (وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) أليسا من الملائكة؟ لما عطفهم على الملائكة؟ عطفٌ للخاص بعد العام، إذن لماذا يعطف الخاص على العام مع دخول الخاص في العام؟ لابد يكون له قصد، لابد يكون ثَم فائدة، الفائدة التنبيه على أنه في الحكم مثل الأول، ولهذا قال جل وعلا هنا (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، والشيخ رحمه الله تعالى فهم ذلك؛ فقال (يجب علينا تعلم أربع هذه المسائل)، فذكر العلم ثم العمل؛ لأنه قال وعملوا الصالحات، فلما عطف الخاص على العام دل على شرفه، وعلى أنه يهتم به، وعلى مزيد مكانته، ثم لأنه في الحكم مثل الأول، قال جل وعلا بعد ذلك، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) يعني دعا بعضهم بعضا إلى الحق، ودعا بعضهم بعضا إلى الصبر، وهذه هي المسائل الأربعة.
الصبر (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)؛ الصبر أقسام ثلاثة: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على قدر الله المؤلم بل صبر على أقدار الله التي تسرّ والتي تؤلم، هذه أنواع الصبر الثلاثة؛ صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على قدر الله، وكلها يحتاج إليها العالمون، العاملون، الدعاة.(21/12)
قال الشافعي رحمه الله بما ذكر الشيخ هاهنا (لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم) يعني لو ما أنزل الله جل وعلا من القرآن، لو ما أنزل الله حجة على الخلق، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذه السورة، لكفى بها حجة، لما ؟ لأنها اشتملت على أن كل الناس آيلون إلى خسارة ووبال وهلاك، إلا أهل هذه الأوصاف؛ وهم المؤمنون. معنى ذلك إذا خوطبنا بهذه السورة، لو خوطبنا بها وحدها، مؤمنون بمن؟ لابد هناك شيء يؤمن به، ثم يعملون, يعملون على أي شيء؟ وبأي شيء؟ لابد أن هناك سبيلا؛ وهو سنة النبي عليه الصلاة والسلام، هناك تواصي بالحق، دعوة إلى ذلك، وتواصي بالصبر؛ صبر على هذا، فترى أن هذه السورة اشتملت على كل ما يدل الخلق على ربهم جل وعلا، ويقودهم إلى إتباع رسالة النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم ذكر قول البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، كما نقل الشيخ رحمه الله، (باب العلم قبل القول والعمل) وساق قول الله جل وعلا ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ?[محمد:19]، فبدأ بالعلم قبل العمل والقول؛ الذي هو الاستغفار، لما ذكر الشيخ هذا؟ لأي شيء؟ لأجل أن هذه الرسالة؛ رسالة علم، كلها شرح وبيان للمسألة الأولى، للواجب الأول، ألا وهو العلم، فينبه طالب العلم أن العلم مهم, مهم للغاية، حتى إنه قبل القول والعمل، فقبل أن يستغفر العبد، لابد أن يعلم العلم الواجب عليه، وهذا العلم هو الذي ينجيه بنفسه، هو الذي ينجي به نفسَه -بفضل الله جل وعلا- إذا سئل عن هذه المسائل الثلاثة. الشيخ رحمه الله تعالى يريد أن يبين لك، ثلاثة الأصول هذه، والمسائل المتعلقة بها، فأكد لك أهمية العلم بقوله، فيما ساق عن البخاري (باب العلم قبل القول والعمل)، العلم قبل ولاشك؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى، وما أحسن ما قال، يقول:والجهلُ داءٌ قاتل. صدق؛ الجهل داء قاتل، قال:
والجهلُ داء قاتلٌ وشفاؤه(21/13)
أمران في التركيب متفقانِ
[نص من القرآن أو من سنة
وطبيب ذاك العالم الرباني
والعلم أقسام ثلاث]([3]) مالها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والكلُّ في القرآن والسنن التي
جاءت عن المبعوث بالفرقان
والله ما قال امرؤ متحذلق
بسواهما إلا من الهذيان
بين أن الجهل داء قاتل، بما يُزال الجهل؟ قال (بنص من القرآن أو من السنة), من طبيب ذاك الذي يرشدك ويبين لك؟ قال(وطبيب ذاك العالم الرباني), ليس كل منتسب للعلم ولكن هو العالم الرباني، الذين وصفهم الله جل وعلا في سورة آل عمران، بقوله ?وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ?[آل عمران:79], ثم بين العلم هذا ما هو -الذي تسعى إليه-؟، فقال (علم بأوصاف الإله وفعله وكذلك الأسماء للديان)، هذه شملت التوحيد؛ توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، ثم قال العلم الثاني ما هو؟ قال(والأمر والنهي الذي هو دينه) يعني الفقه؛ الأمر والنهي، الأحكام؛ الحلال والحرام، هذا مأمور به، وهذا منهي عنه، هذا افعله، وذاك لا تفعله، هذا النوع الثاني من العلم النافع. والثالث (وجزاءه يوم المعاد الثاني)(الذي هو العلم بما يكون يوم القيامة، ووسائل ذلك.(21/14)
الشيخ رحمه الله تعالى يقول (العلم قبل القول والعمل)، نعم، وصدق رحمه الله، فالعلم إذا كان قبل القول والعمل بورك لصاحبه في القليل، وإن كان العملُ و القول قبل العلم ربما كانت الأعمال و الأقوال جبالا، ولكنها ليست على سبيل نجاة، ولهذا روى الإمام أحمد في الزهد وأبو نعيم وجماعة عن أبي الدّرداء أنه قال: «يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبِطُنا سهر الحمقى وصومهم، ولمثقال ذرة مع بِرٍّ ويقين أعظم عند الله من أمثال الجبال عبادةً من المغترين» يقول يا حبذا، يعني يتمنى نوم الأكياس, الأكياس من؟ (إن لله عبادا فطنا) هؤلاء هم الأكياس الذين حيوا؛ قلوبهم صحيحة، عقولهم صحيحة، يقول يا حبذا نوم الأكياس؛ أهل العلم، وإفطارهم، ناموا، والحمقى على كلام أبي الدرداء سهروا ليلهم في صلاة، لكن هؤلاء لا يستوون عند أبي الدرداء مع أولئك؛ لأن أولئك عبدوا الله جل وعلا على جهل، وهؤلاء عبدوا الله بعبادات قليلة، ولكنها مع علم وبصيرة فكانوا أعظم أجرا، بحيث قال أبو الدرداء رضي الله عنه: «ولمثقال ذرة مع بر ويقين أعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين»، لهذا نقول العلم في غاية الأهمية, العلم في غاية الأهمية، ويُبدأ به قبل أي شيء, خاصة العلم الذي يصحح العبادة، يصحح العقيدة، يصحح القلب، ويجعل المرء في حياته يسير على بيِّنة وفق سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ليس على جهالة.
?????
اعلمْ رحِِمكَ اللهُ: أنَّهُ يجبُ على كلِّ مسلم ومسلمة تَعَلُّمُ هذه الثلاث مسائل والعملُ بهنَّ:
الأولى: أنَّ اللهَ خَلَقنا ورَزَقَنا ولم يتركْنا هملاً(بل أرسلَ إلينا رسولاً فمنْ أطاعَهُ دخلَ الجنَّةَ ومنْ عصاهُ دخلَ النّارَ. والدليلُ قولُهُ تعالى ?إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا(15)فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا?[المزمل:15-16].(21/15)
الثانية: أنَّ اللهَ لا يرضى أن يُشْرك معهُ أحدٌ في عبادتِه لا مَلَكٌ مُقَرَّب ولا نبيٌّ مُرْسَل والدليلُ قولُهُ تعالى ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18].
الثالثة: أنَّ مَنْ أطاعَ الرسولَ ووحَّدَ اللهَ لا يجوزُ لهُ مُوالاةُ مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَهُ ولو كان أقْرَبَ قريبٍ. والدليلُ قوله تعالى?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[المجادلة:22].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فهذه المسائل الثلاث التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى صلة لما قبلها، وتمهيد لما بعدها، فأعاد وكرر بقوله (اعلم رحمك الله)، وفي هذا ما فيه من التلطف بالمتعلمين، اعلم أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل مع المسائل الأربع التي سبقت، وهذه المسائل يجب أن يتعلمها كل مسلم وكل مسلمة؛ لأن فيها بيان أصل الدين وقاعدة الدين:(21/16)
· الأولى من تلكم المسائل: أن الله جل جلاله خلق الخلق لغاية، لم يخلقهم لغير غاية، لم يخلقهم سدا ولا عبثا سبحانه وتعالى عما يصفون، بل إنما خلق الخلق لغاية، قال جل وعلا ?الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً?[الملك:2]، وقال جل وعلا?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا?[المؤمنون:115]، يعني لغير غاية ولغير حكمة ?وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ?[المؤمنون:115]، وأنه لن يكون بعث بعد خلقكم، وأنه لن يكون إرجاع لكم إلى من خلقكم، هذا فيه قدح، هذا الظن فيه قدح في حكمة الله جل وعلا، لذلك قال جل وعلا بعدها ?فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ?([4]) تعالى عما يصفه به المبطلون، تعالى عما يظنه عليه الجاهلون القادحون في حكمته، فإذن الخلق مخلوقون لغاية، ما هذه الغاية؟ هي ما بينها في قوله جل وعلا ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ?[الذاريات:56-58]، الله جل وعلا ما خلق الجن والإنس إلا لغاية واحدة وهي الابتلاء؛ ?لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا?([5]) الاختبار اختبار في أي شيء ؟ في عبادته هل يعبد وحده لا شريك له أم يتخذ المخلوق هذا آلهةً أخرى مع الله جل وعلا؟ وهذه مسألة ولا شك عظيمة.(21/17)
الإنسان خُلق لهذه الغاية، لكن يحتاج إلى من يُبَصِّره بهذه الغاية، ويعلّمه القصد من خلقه، ويعلمه كيف يصل إلى عبادة ربه على الوجه الذي يرضى به اللهُ جل وعلا عنه، فبعث الله جل وعلا رسلا مبشرين ومنذرين يدلون الخلق إلى وعلى خالقهم، يعرفونهم بمن يستحق العبادة وحده، ويعرفونهم بالطريق التي أذن من خلقهم أن يعبدوه بها؛ قال جل وعلا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا?[سبإ:28]، وقال جل وعلا ?إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا?[المزمل:15]، وكل أمة قد خلا فيها نذير، كما قال جل وعلا ?وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ?[فاطر:24]، نذير ينذرهم ويبشرهم؛ يبَشِّر من أطاع وينذر من النار، ويخوف من النار ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، فثبت بهذه النصوص أن الله جل وعلا لم يترك الخلق وشأنهم بعد أن خلقهم، بل بعث لهم رسلا يعلمونهم ويهدونهم ويبصّرونهم الطريق التي يرضى الله جل وعلا بها أن يعبدوه بها دون ما سواها من الطرق الموصلة، وتلكم الطريق طريق واحدة، ليست بطرق متعددة كما قال جل وعلا ?اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ?[الفاتحة:6] فهو صراط واحد، وهناك صُرط أخرى، هي صُرط أهل الضلال والجهل والغِواية، والهوى أما الطريق الموصلة إلى الله جل وعلا فهو طريق المرسلين الذي جاءوا به من عند الله جل وعلا؛ وهو دين الإسلام العام، كما قال جل وعلا ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران:19]، الاستسلام لله جل وعلا بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله, الرسل بينوا للناس هذه الغاية، ودلُّوهم على عبادة الله جل وعلا وحده دون ما سواه، فقامت العداوةُ بين الرسل وبين أقوامهم(21/18)
في هذا الأصل؛ حيث إن الخلق يريدون أن يعبدوا الله جل وعلا بالطريقة التي يحبون لا بالطريقة التي يحبها الله جل وعلا، ولهذا قال بعض أئمة السلف «ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب»؛ ليس الشأن أن تحب الله، فإن محبة الله جل وعلا يدعيها المشركون، يدعيها الضالون، كل قوم بُعث فيهم الرسل يدعون أنهم يريدون وجه الله، يريدون ما عند الله يحبونه, ربما يتصدقون ويُصَلُّون ويدعون ويَصِلُون ويتقربون، وما فِعل أهل الجاهلية؛ جاهلية العرب مِنَّا ببعيد، لكن ليس الشأن أن يُحب المحبُّ ربَّه، ولكن الشأن أن يُحب العبدَ ربُّه؛ الشأن أن يحب الله جل وعلا العبد متى يكون ذلك؟ لابد أن يبحث العبد عن سبيل محبة الله جل وعلا له، هذا السبيلُ بيَّنه الله جل وعلا في قوله ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ? زعمًا ? فَاتَّبِعُونِي? طاعةً ?يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ?[آل عمران:31]. فإذن سبيل محبة الله للعبد هي طاعة الرسل، واتباع الرسل وخاتم المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ببعثته وبرسالته نُسخت جميع الرِّسالات ونسخت جميع الكتب من قبله عليه الصلاة والسلام، فبقي للناس طريق واحد يصلون به إلى ربهم جل وعلا؛ ألا وهو طريق محمد عليه الصلاة والسلام، إذ هو الواسطة العملية للاتباع؛ لاتباعه للوصول إلى الله جل وعلا، فمن اتبع واهتدى بغير هدي النبي عليه الصلاة والسلام، هذا النبي الخاتم، فهو من الضالين الذين تنكبوا سبيل الحق.
هذا الأصل الأول، وهذه المسألة الأولى عظيمة جدا؛ لأنها إذا استقرت في قلب العبد قادته إلى كل خير، يعلم أنه ما خلق إلا لغاية. ما هذه الغاية؟ هي عبادة الله وحده دون ما سواه. كيف أعرف طرق هذه العبادة؟ باتباع النبي عليه الصلاة والسلام. فتلخص الدين في هذه المسألة العظيمة، وما أحسن قول شمس الدين بن القيم في نونيته بعد أبيات قال:
فلواحد كن واحدا في واحد
أعني سبيل الحق والإيمان(21/19)
(لواحد) لله جل وعلا وحده دون ما سواه, (كن واحدا) في قصدك وإرادتك وتوجهك وطلبك, (في واحد) في طريق واحد، قال بعدها (أعني سبيل الحق والإيمان) الذي هو سبيل النبي عليه الصلاة والسلام.
· المسألة الثانية: أن الله جل وعلا لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، بل كلٌّ عبيد لله جل وعلا. الله جل وعلا إنما يرضى التوحيد، يرضى أن يعبد وحده دون ما سواه، فمن أشرك مع الله جل وعلا إلها آخر فقد نقض الغاية العملية التي كُلِّف بها من خلقه ومن إيجاده؛ قال جل وعلا ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، (فَلَا تَدْعُوا) دعاء مسألة، ودعاء عبادة مع الله أحدا.
المساجد يفعل فيها شيئان:
? سؤال الله جل وعلا، دعاء الله جل وعلا دعاء المسألة، هذا نوع.
? والثاني عبادة الله جل وعلا بأنواع العبادات من الصلاة؛ الفرض و النفل، ومن التلاوة، ومن الذكر، ومن التعلم والتعليم، ونحو ذلك.
قال جل وعلا ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ? (الْمَسَاجِدَ) أقيمت لله جل وعلا؛ لعبادته وحده دون ما سواه، فلا تدعو دعاء مسألة أحدا غير الله، ولا تدعو دعاء عبادة أحدا غير الله، وكما أن المصلي لا يصلي إلا لله، فكذلك في المسجد وفي غيره فلا يسأل ولا يدعو إلا الله جل وعلا.
دعاء المسألة: هو الذي يسميه العامّة أو يسمِّيه الناس الدعاء، وهو المقصود به، إذا قيل دعا فلان يعني سأل به الله جل وعلا قال: اللهم اعطني، اللهم قني، اللهم اغفر لي. ونحو ذلك، هذا يسمى دعاء المسألة.(21/20)
أمَّا دعاء العبادة: فهو العبادة نفسُها؛ لأن المتعبد لله جل وعلا بصلاة أو بذكر هو سائل لله جل وعلا، لأنه إنما عبد أو صلى، أو صام، أو زكى، أو ذكر، أو تلا، رغبةً في الأجر، كأنه سأل الله جل وعلا الثواب، لهذا يُقال الدعاء قسمان: دعاء مسألة ودعاء عبادة، قال جل وعلا ?وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ?[غافر:60]، قال في أول الآية (ادْعُونِي)، وقال في آخرها (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) فدل على أن الدعاء عبادة، أو هو العبادة، ولهذا فسر السلف قوله (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الاستجابة هنا فُسِّرت بتفسيرين: (أَسْتَجِبْ) بمعنى أُعطكم ما سألتم، أو أُثِبْكُم؛ أدعوني أثبكم، إذا كانت في هذا التقسيم (أدعوني أثبكم) بهذا المعنى فيكون الدعاء هنا الدعاء بمعنى العبادة، لأنها هي التي يتعلق بها الثواب. وإذا كانت الإجابة هنا بمعنى إعطاء السُّول يكون الدعاء هنا دعاء مسألة.
وهذه المسألة مقررة تقريرا واضحا في كتب أهل العلم؛ ألا وهي أن قوله تعالى ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، أنه يشمل نوعي الدعاء؛ دعاء المسألة ودعاء العبادة. وقد جاء في الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الدعاء هو العبادة»، وفي معناه ما جاء عن أنس مرفوعا «الدعاء مخ العبادة».(21/21)
الله جل وعلا لا يرضى أن يشرك معه أحد، قد يُتَوهَّم أن المخلوق إذا بلغ إلى غاية عظيمة أنه يمكن أن يوصل إلى الله جل وعلا باتخاذه واسطة، باتخاذه وسيلة، وأعلى المخلوقات مقاما عند الخلق الملائكة والرسل والأنبياء، لهذا نفى الشيخ رحمه الله تعالى هذين فقال: (الله جل وعلا لا يرضى أن يشرك معه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل)، (لا ملك مقرب) حتى ولو كان جبريل الذي هو سيد الملائكة وأشرفهم وأعظمهم. (ولا نبي مرسل) حتى النبي عليه الصلاة والسلام. دليل ذلك ?فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، وجه الاستدلال أن (أَحَدًا) نكرة جاءت في سياق النفي، وقد تقرر أن النكرات إذا أتت في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام، فإنها تعُم. قال (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) يدخل في (أَحَدًا) الملائكة، ويدخل فيه الأنبياء.
هذا الأصل يجب على كل مسلم ومسلمة أن يعلمه علما يقينيا لاشك فيه ولا شبهة، بدليله وهو قوله ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، فلا يخطر على قلب المسلم أو المسلمة أنه يمكن أن يدعو غير الله، أو أن يستغيث بغير الله، أو أن يتوجه إلى غير الله، بأي نوع من أنواع العبادات، حتى ولو كان المتوجه إليه ملك مقرب، أو نبي مرسل.
ومن المتقرر أن ثمَّ فرقا بين النبي والرسول؛ فليس كل نبي رسولا، بينما كل رسول نبي، وقول الشيخ هنا (ولا نبي مرسل)؛ لأن الرسالة أرفع درجة من النبوة. والفرق بينهما أن:
النبي: هو من أوحي إليه بشرع، وأُمر بتبليغه إلى قوم موافقين له، أو لم يؤمر بالتبليغ.
والرسول: هو من أوحي إليه بشرع، أو كتاب، وأُمر بتبليغه إلى قوم مخالفين.
فإذن النبي مرسل، وقد يكون مرسلا إلى نفسه، لكنه ليس بالرسول بالمعنى الأخص.(21/22)
وبهذا يتضح المقام بقوله، وذلك لقول الله تعالى ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ?[الحج:52]، فأثبت أن الرسول مُرسل، وأن النبي أيضا يقع عليه الإرسال قال (وما أرسلنا من قبلك من رسول)، (الرسول) يقع عليه الإرسال (ولا نبي) أيضا النبي يقع عليه الإرسال، يعني يؤمر أن يبلغ ذلك لمن؟ لمن يوافقه هذا النبي، مثل أنبياء بني إسرائيل إذا مات فيهم نبي؛ خلفه نبي يبلغ من يوافقه في عقيدته، من يوافقه في إتباعه لشريعة النبي؛ الرسول الذي قبله، إذا بلَّغ موافقا، وكان هذا التبليغ مأمورا به من الله جل وعلا، ومعه شرع، أو بعض شرع، فإن هذا نبي. وقد لا يكون مأمورا بتبليغه إلى قوما موافقين، فقد يُبَلِّغ نفسَه، وعلى هذا يحمل بأحد تفاسير أو شروح العلماء، ما جاء في الحديث «أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد» قد يكون لأنه لم يُستجب له، وقد يكون بأنه إنما أُمر أو أوحي إليه لنفسه لا لغيره.(21/23)
· المسألة الثالثة: أن من وحد الله وأطاع الرسول واتبع دين الإسلام لا يجوز له أن يوالي من حاد اللهَ ورسولَه, ولو كان أقرب قريب، لا يجوز له أن يوالي من حاد الله ورسوله, ولو كان ذلك أباه أو أمه أو أخاه أو أخته أو قريبه, وذلك لقول الله تعالى ?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ?[المجادلة:22]، إلى آخر الآية, وقال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ?[التوبة:23]، وقال جل وعلا ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51] لمّا ذكر اليهود والنصارى، فأصل الدين الذي هو من معنى كلمة التوحيد الولاء والبراء؛ الولاء للمؤمنين وللإيمان، والبراءة من المشركين والشرك، ولهذا يُعِّرف علمائنا الإسلام: بأنه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
وها هنا تنبيه أنها في بعض نسخ كتاب الشيخ أنه عرّف الإسلام بهذا وقال في آخره (والخلوص من الشرك وأهله)، والمعروف عنه في النسخ الصحيحة التي قُرِأت على العلماء (البراءة من الشرك وأهله)؛ لأن البراءة تشمَل الخلوص وزيادة، وهي الموافقة لقول الله جل وعلا ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي?[الزخرف:26-27].(21/24)
هنا قال (لا يجوز لمن وحد الله، وأطاع الرسول، واتبع دين الإسلام، أن يوالي أحدا من المشركين). (الموالاة) معناها أن تتخذه وليا، وأصلها من الوَلاية، والوَلاية هي المحبة، قال جل وعلا ?هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ?[الكهف:44]، يعني هنالك المحبة والمودة والنُّصرة لله الحق، فأصل الموالاة المحبة والمودة، ولهذا استدل بقوله ?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ?[المجادلة:22]، ففسَّر الموالاة بأنها المُوادّة، وهذا معناه أن أصل الموالاة في القلب، وهو محبة الشرك أو محبة أهل الشرك والكفر. فأصل الدين أن من دخل في (لا إله إلا الله) فإنه يحب هذه الكلمة وما دلت عليه من التوحيد، ويحب أهلها، ويُبغض الشرك المناقض لهذه الكلمة، ويبغض أهله. فكلمة الولاء والبراء هي معنى الموالاة والمعاداة، وهي بمعنى الحب والبغض، فإذا قيل الولاء والبراء في الله هو بمعنى الحب والبُغض في الله، وهو بمعنى الموالاة والمعاداة في الله؛ ثلاثة بمعنىً واحد، فأصله القلب؛ محبة القلب، إذا أحبَّ القلبُ الشرك صار مواليا للشرك، إذا أحب القلبُ أهل الشرك صار مواليا لأهل الشرك، كذلك إذا أحب القلبُ الإيمان صار مواليا للإيمان، إذا أحب القلبُ اللهَ صار مواليا لله، إذا أحب القلبُ الرسول صار وليا ومواليا للرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أحب القلبُ المؤمنين صار مواليا ووليا للمؤمنين؛ قال جل وعلا ? إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:55-56]، يعني من يحب وينصر اللهَ ورسولَه والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.(21/25)
الموالاة؛ موالاة المشركين والكفار محرمة وكبيرة من الكبائر، وقد تصل بصاحبها إلى الكفر والشرك، ولهذا ضبطها العلماء بأن قالوا تنقسم المولاة إلى قسمين: الأول التولِّي. والثاني المولاة. الموالاة باسمها العام تنقسم: إلى التولي وإلى موالاة.
?أما التولِّي فهو الذي جاء في قوله تعالى ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، تولاه توليا؛ التولي معناه محبة الشرك وأهل الشرك، محبة الكفر وأهل الكفر، أو نصرة الكفار على أهل الإيمان، قاصدا ظهور الكفر على الإسلام، بهذا الضابط يتضح معنى التولي. والتولي -كما ذكرتُ لكم- تولِّي الكفار والمشركين كفر أكبر، وإذا كان من مسلم فهي ردة. ما معنى التولِّي؟ معناه محبة الشرك وأهل الشرك (لاحظ الواو)؛ يعني يحب الشرك وأهل الشرك جميعا مجتمعة، أو أن لا يحب الشرك ولكن ينصرُ المشركَ على المسلم، قاصدا ظهور الشرك على الإسلام، هذا الكفر الأكبر الذي إذا فعله مسلم صار رِدَّة في حقه والعياذ بالله.(21/26)
?القسم الثاني الموالاة: والموالاة المحرّمة من جنس محبة المشركين والكفار، لأجل دنياهم، أو لأجل قراباتهم، أو لنحو ذلك، وضابطه أن تكون محبة أهل الشرك لأجل الدنيا، ولا يكون معها نصرة؛ لأنه إذا كان معها نصرة على مسلم بقصد ظهور الشرك على الإسلام صار توليا، وهو في القسم المُكَفِّر، فإن أحب المشرك والكافر لدنيا، وصار معه نوع موالاة، معه لأجل الدنيا، فهذا محرم ومعصية، وليس كفرا؛ دليل ذلك قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1]، قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: أثبت الله جل وعلا في هذه الآية أنه حصل ممن ناداهم باسم الإيمان اتخاذ المشركين والكفار أولياء بإلقاء المودة لهم. وذلك كما جاء في الصحيحين، وفي التفسير في قصة حاطب المعروفة حيث إنه أرسل بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -هذه عظيمة من العظائم- للمشركين لكي يأخذوا حِذْرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كُشِفَ الأمر، قال عمر رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله دعني أضرب عنقَ هذا المنافق. قال النبي عليه الصلاة والسلام لعمر: أتركه يا عمر، يا حاطب ما حملك على هذا؟ فدل على اعتبار القصد؛ لأنه إن كان قصد ظهور الشرك على الإسلام، وظهور المشركين على المسلمين، فهذا يكون نفاقا وكفرا، وإن كان له مقصد آخر فله حكمه. قال عليه الصلاة والسلام -مستبينا الأمر- ما حملك يا حاطب على هذا ؟ قال: يا رسول الله والله ما حملني على هذا محبة الشرك وكراهة الإسلام، ولكن ما من أحد من أصحابك إلا وله يد يحمي بها ماله في مكة، وليس لي يدٌ أحمي بها مالي في مكة، فأردتُ أن يكون لي بذلك يد أحمي بها مالي في مكة. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقكم. الله جل وعلا قال في بيان ما فعل حاطب ?وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ(21/27)
السَّبِيلِ?[الممتحنة:1]، يعني حاطبا، ففِعْلُه ضلال. وما منع النبي عليه الصلاة والسلام من إرسال عمر أو ترك عمر إلا أن حاطبا لم يخرج من الإسلام بما فعل، ولهذا جاء في رواية أخرى قال: إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: افعلوا ما شئتم لقد غَفَرْتُ لكم. قال العلماء: لعلمه جل وعلا بأنهم يموتون ويبقون على الإسلام. دلت هذه الآية وهي قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1]، مع بيان سبب نزولها من قصة حاطب، أن إلقاء المودة للكافر لا يسلب اسم الإيمان؛ لأن الله ناداهم باسم الإيمان، فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مع إثباته جل وعلا أنهم ألقَوا المودة.
ولهذا استفاد العلماء من هذه الآية، ومن آية سورة المائدة ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، ومن آية المجادلة التي ساقها الشيخ ?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ?[المجادلة:22]، إلى أنَّ الموالاة تنقسم إلى تولٍّ وموالاة؛ الموالاة بالاسم العام منه تولٍ وهو المُكَفِّر بالضابط الذي ذكرتُه لك، ومنه موالاة وهو نوع مودة لأجل الدنيا ونحو ذلك.
والواجب أن يكون المؤمن محبا لله جل وعلا ولرسوله وللمؤمنين، وأن لا يكون في قلبه مودة للكفار ولو كان لأمور الدنيا، إذا عَامَلَ المشركين أو عَامَلَ الكفار في أمور الدنيا، إنما تكون معاملة ظاهرة بدون ميل القلب، ولا محبة القلب لما؟ لأن المشرك حمل قلبا في مسبَّة الله جل وعلا, لأن المشرك سابٌّ لله جل وعلا بفعله، إذ اتخذ مع الله جل وعلا إلها آخر، والمؤمن متولٍّ لله جل وعلا ولرسوله وللذين آمنوا، فلا يمكن أن يكون في قلبه مُوادَّة لمشرك حمل الشرك والعياذ بالله.
هذه الثلاث مسائل من المهمَّات العظيمات:(21/28)
· الأولى: أن يعلم المرء الغاية من خلقه، وإذا علم الغاية، أن يعلم الطريق الموصلة لانفاذ هذه الغاية.
· الثانية: ليعلم أن الطريق واحدة، وأن الله جل وعلا لا يرضى الشرك به، حتى بالمقربين عنده، والذين لهم المقامات العالية عنده جل وعلا، لا يرضى أن يشرك معه أحد.
· الثالثة: أن لا يكون في قلب الموحِّد؛ الذي وحَّد الله، وأطاع الرسول، وخلص من الشرك، أن لا يكون في قلبه محبة للمشركين.
هذه الثلاث هي أصول الإسلام بأَحد الاعتبارات، أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن تحققوا بها قولا وعملا واعتقادا وانقيادا.
?????
اعلَمْ -أرشدَكَ اللهُ لطاعتِه- أنَّ الحنيفيةَ: مِلَّةَ إبراهيمَ، أنْ تعبدَ اللهَ وحدَهُ مخلصًا له الدِّين، وبذلك(أَمَرَ اللهُ جميعَ الناس وخلَقهم لها، كما قال تعالى ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?[الذرايات:56]، ومعنى (يَعْبُدُونِ) يوحِّدون وأعظمُ ما أَمرَ اللهُ به التوحيدَ وهو: إفرادُ اللهِ بالعبادة وأعظمُ ما نهى عنه الشركُ؛ وهو دعوةُ غيرهِ معهُ والدليل قوله تعالى ?وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[النساء:36].
هذا فيه تلطّف ثالث منه رحمه الله تعالى؛ حيث دعا للمتعلم بقوله (اعلم أرشدك الله)، وهذا الذي ينبغي على المعلمين أن يكونوا متلطفين بالمتعلمين؛ لأن التلطف والتعامل معهم بأحسن ما يجد المعلم هذا يجعل قلبَ المتعلم قابلا للعلم، مُنفتحا له، مُقبلا عليه.(21/29)
ويقول (إن الحنيفية ملة عليه السلام) هي التي أمر الله جل وعلا نبيه، وأمر الناس أن يكونوا عليها، قال جل وعلا ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا?[النحل:123]، وملة إبراهيم هي التوحيد؛ لأنه هو الذي تركه فيمن بعده؛ حيث قال جل وعلا ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ?[الزخرف:26-27]، هذه الكلمة (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) اشتملت على نفي في الشق الأول، وعلى إثبات في الشق الثاني، (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) البراءة نفيٌ، ثم أثبت فقال (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فتبرأ من المعبودات المختلفة، وأثبت أنه عابد للذي فطره وحده، وهذا هو معنى كلمة التوحيد، ولهذا قال جل وعلا بعدها ?وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:28]، يعني لعلهم يرجعون إليها، وعقب إبراهيم عليه السلام منهم العرب، أليس كذلك؟ ومنهم أتباع الأنبياء، فهو أبو الأنبياء، ومعنى ذلك، أنه أبٌ لأقوام الأنبياء، (جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إليها، وهذه الكلمة هي كلمة التوحيد لا إله إلا الله؛ لأن التوحيد هو ملة إبراهيم، لا إله إلا الله معناها ما قال إبراهيم عليه السلام ? إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي?[الزخرف:26-27]، فـ (لا إله) مشتملة على البراءة من كل إله عُبد، و(إلا الله) إثبات للعبادة؛ إثبات لعبادة الله وحده دونما سواه، ولهذا يقول العلماء (لا إله إلا الله) معناها لا معبود حقٌّ أو بحق إلا الله. معنى ذلك أن كل المعبودات إنما عُبدت بغير الحق، قال جل وعلا ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ(21/30)
اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[الحج:62]، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)، ولكونه جل وعلا هو الحق كانت عبادته وحده دون ما سواه هي الحق, قال (لا إله)، لا إله بحق, لا معبود بحق، لكن ثَم معبودات بغير الحق، ثَمَّ معبودات بالباطل، ثمَّ معبودات بالبغي، بالظلم والعدوان، لكن المعبود بحق يُنفى عن جميع الآلهة إلا الله جل وعلا، فإنه هو وحده المعبود بحق. هذه الكلمة هي التي ألقاها إبراهيم عليه السلام في عقبه، وهذا مراد الشيخ رحمه الله تعالى بما ذَكر، وبَيَّن أن أعظم الواجبات، أعظم ما أمر به إبراهيم الخليل عليه السلام، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد، وأعظم ما نهى عنه الشرك، ومعنى ذلك أن أعظم دعوة الأنبياء والمرسلين من إبراهيم عليه السلام، بل من نوح عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أعظم ما يُدعا إليه بالأمر هو الأمر بتوحيد الله جل وعلا، وأعظم ما ينهى عنه ويؤمر الناس بتركه هو الشرك، فأعظم ما أمر به التوحيد، وأعظم ما نهي عنه الشرك، لما ؟ لأن التوحيد هو حق الله جل وعلا، ومن أجله بُعثت الرسل، ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، فالغاية من بعث الرسل أن تُبيِّن للناس، وأن تقول للناس أعبدوا الله وحده دون ما سواه، هذا الأمر، (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) يعني أتركوا الشرك ومظاهر الشرك.(21/31)
إذن أعظم مأمور به هو التوحيد، أعظم ما دعا إليه الرسل والأنبياء من نوح عليه السلام إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، أعظم ما دُعي إليه من المأمورات التوحيد، وأعظم ما نُهي عنه من المنهيات هو الشرك، لما؟ لأن الغاية من خلق الإنسان هي عبادة الله وحده، فصار الأمر بالتوحيد هو الأمر لهذا المخلوق بأن يَعلم وأن يُنْفِذَ غاية الله جل وعلا من خلق هذا المخلوق. والنهي عن الشرك معناه النهي عن أن يأخذ هذا المخلوق بطريق أو بفعل يخالف الغاية بفعله، وهذا ولا شك كما ترى يقود إلى فهم التوحيد، وإلى فهم حق الله جل وعلا، وفهم دعوة الحق بأعظم ما يكون الفهم؛ لأنك تنظر إلى أن إنفاذ المرء ما خُلق من أجله هو أعظم ما يُدعا إليه، ونَهيُ المرء عن ما يصده عما خُلق من أجله هذا أعظم ما يُنهى عنه، ولهذا كانت دعوة المصلحين، ودعوات المجددين على مر العصور بهذه الأمة هي في الدعوة إلى التوحيد ولوازمه و النهي عن الشرك وذرائعه.
أسأل الله جل وعلا أن يزيدني وإياكم العلم النافع وأن يمن علينا بالعمل الصالح وبالفهم والسداد وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
فَإِذَا قِيلَ لَكَ مَا الأُصُولُ الثلاثةُ التي يجبُ على الإنسانِ معرفتُها؟ فقُلْ معرِفةُ العبدِ رَبَّهُ، ودينَهُ، ونبيَّهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم.
فإذا قيلَ لكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فقلْ ربيَّ اللهُ الذي ربّاني ورَبَّى جميعَ العالمينَ بنعمِهِ، وهو معبودي ليس لي معبودٌ سواهُ، والدليلُ قوله تعالى ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?([6]) وكلُّ ما سِوَى اللهِ عالََمٌ وأنا واحدٌ من ذلكَ العالَمِ.(21/32)
فإذَا قيلَ لكَ بما عرفْتَ ربَّك؟ فقُل بآياتِه ومخلوقاتِه؛ ومِنْ آياتِه الليلُ والنهارُ والشمسُ والقمرُ، ومِنْ مخلوقاتِه السمواتُ السَّبْعُ والأَرْضُونَ السَّبع ومَنْ فيهنَّ وما بينهما، والدليلُ قولُه تعالى ?وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ?[فصلت:37]، وقولُهُ تعالى ?إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[الأعراف:54].
والرَّبُّ هو المعبودُ، والدليلُ قولُه تعالى ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:21-22]، قالَ ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ تعالى: الخالقُ لهذهِ الأشياءِ هو المستحقُّ للعبادةِ.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فهذا ابتداء من المصنف رحمه الله تعالى، لبيان المقصود من تأليف هذه الرسالة، وما قبله من المهمات التي هي موطئات لهذا المقصود؛ من بيان الواجبات الأربع، ثم الواجبات الثلاث، ثم ما يتصل بذلك.(21/33)
هذه الرسالة صنفت لبيان الأصول الثلاثة؛ ألا وهي مسائل القبر؛ من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ والجواب عليها في هذه الرسالة، بل إن هذه الرسالة من هذا الموضع إلى آخرها جواب على هذه الأسئلة الثلاث، فمن كان عالما بما في هذه الرسالة من بيان تلك الأصول العظام، كان حَرِيًّا أن يُثبت عند السؤال، ذلك لأنها قُرنت بأدلتها، وقد جاء في الحديث الذي في الصحيح أن من المسؤولين في القبر من يقول: ها, ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. استدل العلماء بقول هذا المفتون في قبره (سمعت الناس يقولون شيئا فقلته) على أن التقليد لا يصلح في جواب هذه المسائل الثلاث؛ جواب (من ربك؟) يعني من معبودك؟ جواب (ما دينك؟), جواب (من نبيك؟) ولهذا يذكر الشيخ الإمام رحمه الله تعالى بعد كل مسألة مما سيأتي، يذكر الدليل من القرآن، وقد بينا في أول هذا الشرح؛ أن المؤمن يخرج من التقليد، ويكون مستدلا بما يعلمه، ويعتقده من هذه المسائل بالحق، إذا علم الدليل عليها مرة في عمره، ثم اعتقد ما دل عليه الدليل، فإن استقام على ذلك حتى موته، فإنه يكون مؤمنا؛ يعني مات على الإيمان؛ لأن استمرار استحضار الدليل والاستدلال لا يُشترط، لكن الذي هو واجب أن يكون العبد في معرفته للحق في جواب هذه المسائل الثلاث، أن يكون عن دليل واستدلال ولو لِمرّة في عمره، ولهذا يعلم الصغار والأطفال عندنا رسالة الأصول الثلاثة الأخرى التي فيها جواب أيضا مع بعض الاستدلال بأقصر مما هنا، يُعلَّمون جواب هذه المسائل الثلاث، حتى إذا بلغ الغلام أو الجارية، إذا هو قد عرف عن دليل واستدلال.(21/34)
قال رحمه الله تعالى (فإذا قيل لك ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم)، (معرفة العبد ربه) يعني معرفة العبد معبوده؛ لأن الربوبية في هذا المقام يُراد بها العبودية، لما؟ لأن الابتلاء للأنبياء والمرسلين لم يقع في معاني الربوبية، ألم ترَ أن الله جل وعلا قال؟ ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ? هذه مقتضيات الربوبية ?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31]. المشركون في كل زمان لم يكونوا ينازعون في تَوَحُّدِ الله جل وعلا في ربوبيته، ولهذا فسر العلماء سؤال القبر من ربك؟ بمن معبودك؟ لما؟ لأن الابتلاء لم يقع في الربوبية، وقد سئل الشيخ الإمام رحمه الله تعالى عن الفرق بين الربوبية والألوهية في بعض النصوص -في أحد الأسئلة التي وجهت إليه- فكان من جوابه أن قال: هذه مسألة عظيمة، وذلك أن الربوبية إذا أطلقت، أو إذا أفردت فإنه يدخل فيها الألوهية؛ لأن الربوبية تستلزم الألوهية، وتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، والألوهية تتضمن الربوبية. لأن الموحد لله جل وعلا في ألوهيته هو ضمنا مقر بأن الله جل وعلا هو واحد في ربوبيته، ومن أيقن أن الله جل وعلا واحد في ربوبيته استلزم ذلك أن يكون مقرا بأن الله جل وعلا واحد في استحقاق العبادة، ولهذا تجد في القرآن أكثر الآيات فيها إلزام المشركين بما أقروا به ألا وهو توحيد الربوبية على ما أنكروه ألا وهو توحيد الإلهية، من مثل قول الله جل وعلا في سورة الزمر?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?([7]) هذا توحيد الربوبية قال بعدها ?قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي(21/35)
اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ?[الزمر:38]، قال (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ) والفاء هنا رتبت ما بعدها على ما قبلها؛ وما قبلها هو توحيد الربوبية وما بعدها هو توحيد الإلهية، ولهذا في القرآن يكثر أن يحتج على المشركين بإقرارهم بتوحيد الربوبية على ما أنكروه ألا وهو توحيد الإلهية، لهذا قال جل وعلا ?وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[آل عمران:80], المعنى بـ(أَرْبَابًا) أي معبودين وكذلك قوله تعالى?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ?[التوبة:31]، يعني معبودين لأن عدي ابن حاتم لما قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إنا لم نعبدهم. ففهم معنى الربوبية في الآية معنى العبادة، وهذا هو الذي يفهمه من يعرف اللسان العربي، قال النبي عليه الصلاة والسلام -كما هو معروف-: «ألم يحلوا لكم الحرام فأحللتموه، ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه» قال: بلى. فقال: «فتلك عبادتهم».
إذن الربوبية تطلق ويراد منها العبودية في بعض المواضع، تارة بالاستلزام، وتارة بالقصد. وبعض علمائنا قال إن لفظ الألوهية والربوبية يمكن أن يُدخل في الألفاظ التي يقال إنها إذا اجتمعت تفرقت وإذا تفرقت اجتمعت، وهذا وجيه.(21/36)
قال الشيخ رحمه الله تعالى هنا (فقل معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم) والمعرفة ترادف العلم في حق المخلوق في أكثر المواضع، أما في حق الله جل وعلا فإن الله جل وعلا يُوصف بالعلم، ولا يوصف بالمعرفة، وذلك لأن العلم قد لا يسبقه جهل، بينما المعرفة يسبقها جهل؛ عرف الشيء بعد أن كان جاهلا به، لكن العلم قد لا يسبقه جهل به، ولهذا يوصف الله جل وعلا بالعلم، ولا يوصف بالمعرفة. أيضا يقال إن التعبير بالعلم أوجه في المواضع التي يُحتاج فيها إلى التعبير بالمعرفة وذلك لأن المعرفة أكثر ما جاءت في القرآن مذمومة لأنه يتبع المعرفة الإنكار، أما العلم فأوتي به في القرآن ممدوحا، قال جل وعلا ?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ?[الأنعام:20]، فهنا وصفهم بالمعرفة ثم بين أن معرفتهم تلك لم تنفعهم، وقال جل وعلا ?يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83]، لكن العلم أُثني عليه في القرآن، وأما المعرفة فربما بل أكثر المواضع فيها نوع ذم لها، لكن هذا ليس على إطلاقه، لأنه قد جاء في صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى في بعض طرق حديث ابن عباس الذي فيه إرسال معاذ إلى اليمن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يعرفوا الله فإن هم عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات»إلى آخره، فصارت المعرفة هنا بمعنى العلم بالتوحيد كما في الروايات الأخر، لكن التعبير بالمعرفة كما استعمله الشيخ رحمه الله تعالى هنا صحيح، وذلك لأنه قد ورد الاستعمال به، وإن كان أكثر ما جاء استعمال لفظ المعرفة في كونه مذموما.
قال هنا (معرفة العبد ربه) يعني معبوده، (معرفة العبد دينه، معرفة العبد نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم) هذه الأصول الثلاثة هي التي سيأتي تفصيلها والجواب عليها.(21/37)
ثم بدأ يشرح رحمه الله تعالى، ويفصل (معرفة العبد ربه)عن طريق السؤال والجواب، لأن هذا أوقع في النفس، وأقرب إلى التعليم.
(إن قيل لك من ربك ؟ فقل ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته) لفظ الربوبية فيه معنى التربية, رباه تربية ومعنى التربية تدريج المربى في مصاعد الكمال، كل كمال بحسبه، وأعظم أنواع التربية التي ربى بها الله جل وعلا الناس أن بعث لهم الرسل يعلمونهم، ويرشدونهم ما يقربهم إلى الله جل وعلا، وهذه هي أعظم نعمة، قال جل وعلا ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:58]، فأعظم النعم المسداة إرسال الرسل، ولهذا كان من أنواع التربية التي ربى بها الله جل وعلا العالمين، ربى بها الله جل وعلا الناس، أن بعث لهم رسلا يبشرون و ينذرون، وهناك أنواع كثيرة من التربية؛ تربية الأجسام، تربية الغرائز، تربية الفكر، تربية العقل، كل هذا قد مَنَّ الله جل وعلا على ابن آدم به، وكذلك إذا نظرت إلى أوسع من ذلك من خلق الله جل وعلا الواسع، والعالمون الذين هم كل ما سوى الله جل وعلا، فتجد أن معاني الربوبية والتربية بالنعم والتربية في تدريجها في مدارج الكمال بما يناسبها، والله جل وعلا أعلم بما يَصلح ?وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ?[القصص:68]، وجدت أن معاني الربوبية في هذا المعنى الذي هو التربية ظاهر جدا، أيضا الربوبية لها معنى آخر، وهو الذي سلف من معنى توحيد الربوبية؛ يعني اعتقاد أن الله جل وعلا هو الخالق لهذا الخلق وحده، وهو الرزّاق وحده، وهو الذي يدبر الأمر، وهو القاهر، وهو ذو الملك، إلى آخر معاني الربوبية.(21/38)
قال جل وعلا ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? استدل الشيخ بهذه الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) معنى (الْحَمْدُ) كل حمدٍ، لأن الألف واللام هنا للاستغراق؛ استغراق أنواع الحمد، وكل حمدٍ موجود، أو وجد، أو يوجد، والحمد معناه الثناء بصفات الكمال، فهذا الحمد وهو الثناء بصفات الكمال لله، واللام هنا للاستحقاق يعني مستحَقًّا لله جل وعلا، الحمد لله كل أنواع الحمد وجميع أنواع المحامد مستحقة لله، لأن اللام هنا لام الاستحقاق.
اللام تارة تكون:
· للملك وهذا إذا كان ما قبلها من الأعيان.
· وتارة تكون للاستحقاق، وهي إذا كان ما قبلها من المعاني.
إذا قلت الدار لفلان، الدار عين، فتكون اللام لفلان يعني ملك. إذا كان ما قبل اللام معنى صارت اللام للاستحقاق، تقول الفخر لفلان يعني الفخر يستحقه فلان. (الْحَمْدُ لِلَّهِ), الحمد معنى لهذا صارت اللام بعده للاستحقاق، فكل حمد مستحق لله، الإله الذي لا يُعبد بحق إلا هو هذا الإله نعته أنه رب العالمين.
(رَبِّ الْعَالَمِينَ) و(الْعَالَمِينَ) جمع عالم، والعالم اسم لأجناس ما يُعلم، وهو كل ما سوى الله جل وعلا، كما قال الشيخ رحمه الله تعالى: (وكل من سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم) عالم الإنسان، عالم الطير، عالم النبات، عالم الملائكة، عالم الجن، عالم السموات، عالم الأراضين، عالم الماء، إلى آخره، (كل ما سوى الله جل وعلا عالم وأنا واحد من ذلك العالم) والعالمون جمع عالم، والعالم كل ما سوى الله جل وعلا من الأجناس المختلفة، إذن ما دام أنك واحد من ذلك العالم فأول من يخاطب بهذه الآية المؤمن، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فيستيقن المؤمن بتلاوته لهذه الآية ربوبية الله جل وعلا له واستحقاقه للحمد واستحقاقه جل وعلا لكل ثناء ولكل وصف بالكمالات.(21/39)
ثم قال رحمه الله (فإذا قيل لك بما عرفت ربك؟ ) الربوبية تحتاج إلى معرفة، تحتاج إلى علم، وهذا العلم جاء في القرآن الدِّلالة عليه، قال جل وعلا ?قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?[يونس:101]، وقال جل وعلا ?أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ?[الأعراف:185]، فالدعوة إلى النظر في الملكوت في القرآن، بما أستدل على الله جل وعلا على ربوبيته؟ قال الشيخ هنا (فإذا قيل لك بما عرفت ربك؟ فقل بآياته ومخلوقاته، ومن آياته الشمس والقمر والليل والنهار، ومن مخلوقاته السماوات والأرض)، لا شك أن الليل والنهار والشمس والقمر من آيات الله، كما قال جل وعلا?وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ?[فصلت:37]، وكذلك السماوات والأرض هي آيات لله جل وعلا، كما قال أبو العتاهية في شعره السائر:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد(21/40)
والشيخ رحمه الله ها هنا فرق بين الآيات والمخلوقات، مع أنه في القرآن ما يثبت أن السماوات والأرض من الآيات. فلما فرَّق؟ الجواب أن تفريق الشيخ رحمه الله تعالى بينهما دقيق جدا، وذلك أن الآيات جمع آية، والآية هي البينة الواضحة الدالة على المراد، ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ?[الشعراء:190] يعني دلالة بينة واضحة على المراد منها، ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ?[الحجر:75] يعني لدلالات واضحات بينات على المراد منها، وهنا ننظر إلى أنه بالنسبة لمن سئل هذا السؤال، كون الليل والنهار والشمس والقمر آية أظهر منه عند هذا المسؤول أو المجيب من السموات والأرض، لما؟ لأن تلكمُ الأشياء التي وصفت بأنها آيات متغيرة متقلبة، تذهب وتجيء، أما السماء فهو يصبح ويرى السماء، ويصبح ويرى الأرض، فإِلفُه للسماء وللأرض يحجب عنه كون هذه آيات، لكن الأشياء المتغيرة التي تذهب وتجيء، هذه أظهر في كونها آية، ولهذا إبراهيم الخليل عليه السلام طلب الاستدلال بالمتغيرات، قال جل وعلا ?وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ?[الأنعام:75-76]، لما؟ لأنه استدل بهذه الحركة على الحدوث، استدل بهذا التنقل على أنه آية لغيره، فلما رأى القمر بازغا -استدل بالقمر-، فلما رأى الشمس بازغة -استدل بالشمس- لأنها متغيرات، أما السماوات والأرض فهي آيات، لكنها في الواقع عند الناظر ليست مما يدل دلالة ظاهرة واضحة على المراد عند مثل المسؤول هذا السؤال، مع كونها عند ذوي الفهم وذوي الألباب العالية أنها آيات، كما وصفها الله جل وعلا في كتابه، الشمس والقمر والليل والنهار متغيرات تقبل وتذهب، فهي آيات ودلالات على الربوبية، وأن هذه الأشياء(21/41)
لا يمكن أن تأتي بنفسها، لكن السماء ثابتة، الأرض ثابتة ينظر إلى هذه وهذه، وتلك متغيرات والتغير يثير السؤال، لما ذهب؟ ولما جاء؟ لما أتى الليل؟ ولما أتى النهار؟ لما زاد الليل؟ ولما نقص النهار؟ وهكذا فهي في الدلالة أكثر من دلالة المخلوقات مع أن في الجميع دليلا ودلالة، لهذا قال (فإذا قيل لك بما عرفت ربك ؟ قل بآياته ومخلوقاته) فالآيات تدل على معرفة الله والعلم بالله، وكذلك المخلوقات تدل على العلم بالله والمعرفة بالله، لكن ما سمّاه آيات أخص مما سمّاه مخلوقات، وهذا جواب اعتراض قد اعترض به بعضهم على الشيخ رحمه الله تعالى، في تفريقه بين الآيات والمخلوقات. وتفريقه رعاية لحال من يُعَلَّم هذه الأصول، تفريق دقيق مناسب رحمه الله تعالى.(21/42)
(الدليل قوله تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) يعني مما يدل عليه دلالة واضحة ظاهرة بينة جلية الليل والنهار والشمس والقمر، فإن المتأمل إذا تأمل الليل والنهار، وجد هذا يدخل في هذا، وذاك يدخل في ذاك، وهذا يطول وذاك يقصر، علم أن الليل من حيث كونه ليلا، والنهار من حيث كونه نهارا، أنها أشياء لا يمكن أن تأتي بنفسها، بل هي مفعول بها، ظاهر الليل ما هو؟ ذهاب الضوء. والنهار ما هو؟ مجيء الضوء. الشمس أتت بضيائها فصار نهارا، لما ذهبت الشمس أتى القمر فصار ليل، هذا لا شك يدلّ على أن هذه الأشياء مفعول بها، وإذا كانت مفعولا بها، فمن الذي فعلها؟ هذا السؤال، الجواب عليه سهل ميسور لأكثر الناظرين، بل لكل ناظر، ألا أن هذه تدل على أنها محدثة، ولابد لها من محدث، وأن محدثها هو الذي خلقها وسيرها على هذا النحو الدقيق العجيب، وهو رب العالمين، لهذا قال في الآية الأخرى آية الأعراف ?إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا?[الأعراف:54]، يغشي الليل يجعل الليل غشاء للنهار، يطلبه؛ هذا يذهب وهذا يطلب الآخر، يجيء مرة يأخذ الليل من النهار، ويجذبه جذبا ويطلبه طلبا حاثا، ومرة النهار يأخذ ويطلب من الليل طلبا حاثا، قال يُغشي من المُغشِي والمُغشِّي؟ هو الله جل وعلا؛ ?يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[الأعراف:54]، فذكر الربوبية في العالمين بعد ذكر هذه الأصناف من الآيات والمخلوقات.(21/43)
ثم ذكر أن معنى الربوبية هو العبادة والدليل قوله جل وعلا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) وهذه الآية بها أمر وهو أول أمر في القرآن, أول أمر في القرآن الأمر بعبادة الله؛ قال (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) الرب وقعت عليه العبادة لأنه مفعول به؛ أعبدوا ربكم، فالعابد هم الناس، والمعبود هو الرب، أليس كذلك؟ فتلخص أن الرب هو المعبود؛ لأنه قال (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ)؛ فالرب مفعول به ما الذي فعل؟ العبادة فصار معبودا، ولهذا ساق عن ابن كثير رحمه الله تعالى أن من فعل هذه الأشياء هو المستحق للعبادة، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً...) إلى آخر الآية، قال ابن كثير: الذي فعل هذه الأشياء هو المستحق للعبادة. لهذا جاء ما بعدها ما بعد الأمر بالعبادة كقوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) وهو قوله (الَّذِي خَلَقَكُمْ) جاء تعليلا لما سبق، لما كان مستحقا للعبادة؟ قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ), كأن سائلا سأل: لما كان مستحقا للعبادة؟ لما أمرنا أن نعبده؟ قال (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً) إلى آخره فهذه أشياء من معاني ربوبيته، وقد ذكرنا من قبل أن الربوبية تستلزم الألوهية، وبهذا صارت الربوبية هنا في قوله (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) هي العبودية، والرب هو المعبود، والفاعل لتلك الأشياء هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، لأنه هو وحده الذي خلق، وهو وحده الذي رزق، وهو وحده الذي جعل الأرض فراشا، وهو وحده الذي جعل السماء بناء، وهو وحده الذي أنزل من السماء ماء، والخلق جميعا لم يعملوا شيئا من ذلك، فالمستحق(21/44)
للعبادة هو الذي فعل وخلق وصنع وبرأ وصور وأبدع تلك الأشياء.
الأسئلة
? الأخ يسأل سؤال وجيه وهو أنه جاء في حديث ابن عباس: «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة». وهنا يقول الأخ وُصف الله بأنه ذو معرفة، وأنه يَعرف.
وهذا فيه نظر لأنه المتقرر في القواعد في الأسماء والصفات؛ أن باب الأفعال أوسع من باب الصفات، وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، وباب الأخبار أوسع من باب الأفعال وباب الصفات وباب الأسماء، فقد يطلق ويضاف إلى جل وعلا فعل ولا يضاف إليه الصفة، كما أنه قد يوصف الله جل وعلا بشيء ولا يشتق له من الصفة اسما، ولهذا يدخل في هذا كثير مما جاء، مثل ما وَصف الله جل وعلا به نفسه في قوله ?وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ?[الأنفال:30], يستهزئون والله يستهزئ بهم، إن الله لا يمل حتى تملوا، ونحو ذلك مما جاء مقيدا بالفعل، ولم يذكر صفة للاسم، فهذا يقال فيه أنه يطلق مقيدا، ويمكن أن يحمل عليه حديث ابن عباس هذا (تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، نقول إن الله جل وعلا يعرف في الشدة من تعرف إليه في الرخاء، على نحو تلك القاعدة، كما يقال إن الله جل وعلا يمكر بمن مكر به, يستهزئ بمن استهزأ به، يخادع من خدعه, ولا يقال إن الله جل وعلا ذو مكر، وذو استهزاء، وذو مخادعة هكذا مطلقا بالصفة، وإنما كما هي القاعدة أن باب الأفعال أوسع من باب الصفات.
? أخ يسأل ما الفرق بين الحمد والشكر؟
هناك فروق كثيرة بين الحمد والشكر، لكن الذي يضبطها هو:
· أن الحمد هو الثناء باللسان، والثناء على كل جميل.
· وأما الشكر فمورده اللسان والعمل.
فلا يُقال مثلا فلان حمد الله جل وعلا بفعله، بل لابد أن يكون الحمد باللسان، لكن الشكر يمكن أن يكون باللسان ويمكن أن يكون بالعمل، قال جل وعلا?أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ?[لقمان:114]، وقال جل وعلا?اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا?[سبإ:13].(21/45)
فمن حيث المورد الشكر أعم من الحمد، لأنه يشمل حمد الثناء، والمدح باللسان وبالعمل.
والحمد أخص لأنه لا يكون إلا باللسان.
ومن حيث ما يحمد عليه أو ما يثنى عليه، وما يمدح، فإن الحمد أعم فهذا من الأشياء التي يقول فيها العلماء إن بينهما عموم وخصوص؛ يجتمعان في شيء ويفترقان في شيء آخر.
?????
وأنواعُ العبادةِ التي أَمَرَ اللهُ بها: مثلُ الإسلامِ، والإيمانِ، والإحسانِ؛ ومنهُ الدعاءُ، والخوفُ، والرجاءُ، والتوكلُ، والرغبةُ، والرهبةُ، والخشوعُ، والخَشيةُ، والإنابةُ، والاستعانةُ، والاستعاذةُ، والاستغاثةُ، والذَّبْحُ، والنذرُ، وغيرُ ذلك من العبادةِ التي أَمرَ اللهُ بها كلُّها لله تعالى. والدليلُ قوله تعالى ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، فمَنْ صَرَفَ منها شيئًا لغير الله فهو مشرِكٌ كافرٌ، والدليلُ قوله تعالى ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، وفي الحديثِ «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة» والدليلُ قوله تعالى ?وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ?[غافر:60].
لما تقرر أن الرب هو المعبود، كان من المناسب أن تذكر أنواع العبادة التي يعبد الله جل وعلا بها، والتي يجب إفراد الله جل وعلا بها. والعبادة عُرِّفت بعدة تعريفات:
فمنها أنها عرِّفت بأن العبادة: هي كلُّ ما أُمِرَ به مِنْ غير اقتضاءٍ عقليٍّ ولا اطِّرادٍ عرفيٍّ. وهذا هو تعريف الأصوليين في كتبهم، ومعنى ذلك أن الشيء الذي أُمر به من غير أن يقتضي العقل المجرد الأمر به، ومن غير أن يَطَّرِدَ به عرف، هذا يسمى عبادة.(21/46)
يفسر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى للعبادة في أول رسالته العبودية حيث قال: إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهذا التعريف مناسب؛ لأنه أيسر في الفهم أولا, والثاني أنه قريب المأخذ من النصوص، فقال: إن العبادة اسم جامع؛ يجمع أشياء كثيرة, جامع لأي شيء ؟ لكل ما يحبه الله ويرضاه، كيف نصل إلى أن هذا العمل أو القول يحبه الله ويرضاه؟ لابد أن يكون مأمورا به، أو مخبَرا عنه بأن الله جل وعلا يحبه ويرضاه. أنواعها، قال: من الأقوال والأعمال؛ فهناك قول وعمل. فإذن العبادات تنقسم إلى:
· عبادات قولية.
· وعبادات عملية.
ليس ثمَّ قسم ثالث، إما أن تكون قولية، وإما أن تكون عملية. قال: الظاهرة والباطنة؛ قد يكون القول ظاهرا، وقد يكون باطنا، وقد يكون العمل ظاهرا، وقد يكون باطنا.
فتحصل أن أنواع العبادات هي الأقوال والأعمال التي يحبها الله ويرضاها:
والقول: قد يكون باللسان، وقد يكون بالجنان.
قول اللسان أعمال كثيرة مما أمر الله جل وعلا به مثل الذكر والتلاوة، كلمة المعروف ونحو ذلك، هذه كلها من أنواع العبادات اللسانية.
قول القلب هو نيته, قصده، التبست النية على قوم فكانوا يتلفظون بها، نعم النية قول، لكنها قول القلب، إذا قصد القلب وتوجه إلى شيء كان قائلا به، ليس متكلما، لأن الكلام من صفات اللسان؛ كلام ظاهر، أما القول قد يكون ظاهرا وقد يكون باطنا.
العمل: عمل القلب وعمل الجوارح.
وهذه الأنواع التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى ممثلا بعضها من الأقوال والأعمال، بعضها ظاهر، وبعضها باطن، بعضها لساني، وبعضها قلبي، وبعضها عملي قلبي، وبعضها من عمل الجوارح.(21/47)
فمثلا الإخلاص هذا عمل القلب، التوكل عمل القلب، لا يصلح الإخلاص إلا لله جل وعلا؛ إخلاص العبادة، إخلاص الدين إلا لله جل وعلا كما قال تعالى ?تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ?[الزمر:1-3], ?قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي?[الزمر:14]، التوكل كذلك من أعمال القلب التي ليست إلا لله، الخوف من أعمال القلب التي ليست إلا لله، يعني خوف العبادة، خوف السر سيأتي إيضاحه إن شاء الله في موضعه، الرغبة، الرهبة، الإنابة، الخضوع, الذل؛ ذل العبادة, خضوع العبادة، إلى آخره وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
هذه كلها من أعمال القلب هي داخلة في أنواع العبادة.
الأعمال الظاهرة مثل الاستغاثة؛ الاستغاثة طلب الغوث, طلب الغوث طلب ظاهر, مثل الاستعانة؛ طلب العون، هذه من الأعمال الظاهرة، الذبح واضح أنها عمل الجوارح, النذر واضح أنه قول اللسان وعمل الجوارح، ونحو ذلك، فإذن هذه العبادات التي مَثَّل بها، أراد أن يشمل تمثيله أقسام العبادات القولية، والعملية؛ الظاهرة والباطنة، يجمعها جميعا أنها عبادات.
والعبادة لا تصلح إلا لله جل وعلا، العبادة الظاهرة أو الباطنة، القلبية أو اللسانية، أو التي موردها الجوارح، فهي لا تصلح إلا لله؛ فمن صرف شيئا منها لغير الله فقد توجّه بالعبادة لغير الله منافيا لما قال الله جل وعلا ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ?[البقرة:21]، ومنافيا لإقراره بأن معبوده هو الله جل وعلا، إذا أقر العبد بأن قوله من ربك؟ يعني من معبودك؟ وأن الله جل وعلا قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) يعني وحده دون ما سواه، فإنه إذا توجه بشيء من هذه الأنواع لغير الله جل وعلا كان متوجها بالعبادة لغير الله، وذلك هو الشرك.(21/48)
(الدليل قوله تعالى ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18])، (فَلَا تَدْعُوا) الدعاء هو العبادة، كما جاء في الحديث الذي استدل به الشيخ وهو قوله عليه الصلاة والسلام «الدعاء مخ العبادة» وهو حديث أنس بن مالك، وإسناده فيه ضعف، لكن معناه هو معنى الحديث الصحيح؛ حديث النعمان بن بشير الذي رواه أبو داوود والترمذي وجماعة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام «الدعاء هو العبادة» (هو العبادة) يعني مخ العبادة، لأن الدعاء هو العبادة بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة»، قال تعالى?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، (فَلَا تَدْعُوا) يعني كما ذكرت لكم من قبل: لا دعاء مسألة، ولا دعاء عبادة. (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) يعني لا تعبدوا مع الله أحدا، (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا), هذا نهي أن يدعوَا الناسُ أحدا مع الله جل وعلا، يعني أن يعبدوا أحدا مع الله جل وعلا، وإذا كان الدعاء هنا بمعنى دعاء المسألة فيكون معنى الآية وأن المساجد لله فلا تسألوا سؤال عبادة مع الله أحدا، لا تطلبوا طلب عبادة مع الله أحدا. ولفظ (تَدْعُوا) يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، فهذه الآية دليل على وجوب إفراد الله جل وعلا بالعبادة.
فإن قال قائل لك حين الاستدلال بها: إن الدعاء هنا هو دعاء المسألة، وغيره من أنواع العبادة التي تزعمون من الذبح والنذر ومن الاستغاثة والاستعاذة ونحو ذلك أنها لا تدخل في النهي في هذه الآية.(21/49)
فيكون جوابُك: أن الدعاء في القرآن جاء بمعنيين، جاء ويراد به العبادة، وجاء ويراد به المسألة. فمثلا في قوله تعالى?وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي?[غافر:60]، ظاهر أن الدعاء المراد به العبادة؛ لأنه قال ?إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ?[غافر:60]، وكذلك في قوله تعالى مخبرا عن قول إبراهيم عليه السلام ?وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا?[مريم:48]، قال جل وعلا بعد ذلك ?فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[مريم:49]، وفي الآية الأولى أخبر عن إبراهيم أنه قال (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ) ثم قال جل وعلا (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ) فدل على أن إبراهيم عليه السلام حين قال (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ) أي وما تعبدون؛ لأن الله جل في وعلا قال بعدها (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ)، وهذا من الأدلة الظاهرة من أن الآية هذه تشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
وقد أُورد على أئمتنا رحمهم الله تعالى -حين قرروا التوحيد في مقالهم وفي كتبهم- أن هذه الآية إنما هي دليل للمسألة، وأما غيرها مما تَدَّعون أنه عبادة وأن هذه الآية فيها نهي عنه؛ كالذبح والنذر ونحو ذلك أنه لا يدخل في الآية.
فكان الجواب: أن الدعاء نوعان؛ دعاء عبادة ودعاء مسألة، هذا يأتي في القرآن وذاك يأتي في القرآن، والآية تشمل النوعين؛ لأن الدعاء إذا كان في القرآن يأتي تارات لهذا وتارات لهذا، فتحديده في هذه الآية بأحد النوعين ونفي النوع الآخر، هذا نوع تحكم وهو ممتنع.
نقف عند هذا القدر، ونكمل إن شاء الله غدا، أسأل الله جل وعلا أن ينفعني إيّاكم.
الأسئلة(21/50)
? هذا سؤال بالمناسبة قال: هل يصح أن يُقال توكلت على الله ثم عليك؟
والجواب: أن هذا لا يصلح؛ لأن الإمام أحمد وغيره من الأئمة صرحوا بأن التوكل عمل القلب.
ما معنى التوكل؟ هو تفويض الأمر إلى الله جل وعلا بعد بذل السبب؛ إذا بُذل السبب فوض العبد أمره إلى الله، فصار مجموع بذله للسبب وتفويضه أمره لله مجموعها التوكل، ومعلوم أن هذا عمل القلب كما قال الإمام أحمد.
ولهذا سئل الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية السابق رحمه الله تعالى عن هذه العبارة فقال: لا تصح لأن التوكل عمل القلب، لا يَقبل أن يقال فيه (ثُمَّ)؛ توكلت على الله ثم عليك. إنما الذي يقال فيه (ثُمَّ) ما يسوغ أن يُنسب للبشر.
بعض أهل العلم في وقتنا قالوا: إن هذه العبارة لا بأس بها؛ توكلت على الله ثم عليك، ولا يُنظر فيها إلى أصل معناها وما يكون من التوكل في القلب، إنما ينظر فيها إلى أن العامة حينما تستعملها ما تريد التوكل الذي يعلمه العلماء، وإنما تريد ممثل معنى اعتمدت عليك، ومثل وكَّلْتُك ونحو ذلك، فسهلوا فيها باعتبار ما يجول في خاطر العامة من معناها وأنهم لا يعنون التوكل الذي هو لله؛ لا يصلح إلا لله، لكن مع ذلك فالأولى المنع لأن هذا الباب ينبغي أن يُسد، ولو فتح باب أنه يستسهل في الألفاظ لأجل مراد العامة، فإنه يأتي من يقول مثلا ألفاظ شركية ويقول أنا لا أقصد بها كذا، مثل الذين يظهر ويكثر على لسانهم الحلف بغير الله بالنبي أو ببعض الأولياء أو نحو ذلك يقولون لا نقصد حقيقة الحلف، ينبغي وصف ما يتعلق بالتوحيد، وربما ما يكون قد يخدشه أو يضعفه، ينبغي وَصْدُ الباب أمامه حتى تخلص القلوب والألسنة لله وحده لا شريك له.
نكتفي بهذا القدر و ننتقل إلى الأصول.
?????(21/51)
فمَنْ صَرَفَ منها شيئًا لغيرِ الله فهو مُشرِكٌ كافرٌ، والدليلُ قوله تعالى ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، وفي الحديثِ «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة» والدليلُ قوله تعالى ?وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ?[غافر:60].
ودليلُ الخوفِ قوله تعالى ?فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:185].
ودليلُ الرَّجاءِ قوله تعالى ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110].
ودليلُ التَّوكُّلِ قوله تعالى?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[المائدة:23]، وقوله?وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ?[الطلاق:3].
ودليلُ الرَّغْبَةِ والرَّهبَةِ والخُشوعِ قولُه تعالى ?إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ?[الأنبياء:90].
ودليلُ الخَشيةِ قوله تعالى ?فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي?[البقرة:150].
ودليل الإنابةِ قوله تعالى ?وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ?[الزمر:54].
ودليل الاستعانةِ قوله تعالى ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5]، وفي الحديثِ «إذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ».
ودليل الاستعاذةِ قوله تعالى ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ?[الفلق:1]، ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ?[الناس:1].
ودليل الاستغاثةِ قوله تعالى ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ?[الأنفال:9].(21/52)
ودليل الذَّبْحِ قوله تعالى ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ?[الأنعام:162-163]، ومِنَ السُّنَّةِ «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ».
ودليلُ النَّذْرِ قوله تعالى ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا?[الإنسان:7].
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, اللهم هب لنا من لدنك رحمة, وهيَّأ لنا من أمرنا رشدا, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علما وعملا, يا أكرم الأكرمين.
أما بعد: فهذه صلة لما سبق الكلام عليه؛ من أن العبادة حق لله جل وعلا, وأن كل معبود سوى الله جل وعلا فإن عبادته بغير الحق وأنها بالباطل والظلم والطغيان والجور والتعدي من الخلق, فالله جل وعلا هو الذي يستحق العبادة وحده دونما سواه من خلقه.(21/53)
وبعد أن ذكر أنواع العبادات التي موردها اللسان والقلب والجوارح قال رحمه الله (فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك كافر والدليل قوله تعالى ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117])، (من صرف) يعني من توجه بشيء من أنواع تلك العبادات لغير الله فهو مشرك كافر، يريد الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة، والشرك حقيقته اتخاذ الند مع الله جل وعلا، وهو المذكور في قوله ?فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:22]، والتنديد يعني أن يُجعل لله مِثْل للاستحقاق؛ استحقاق التوجه, استحقاق العبادة، إذا جُعل لله ند إما بالقول أو بالعمل فذلكم هو الشرك، وكل نوع من هذه الأنواع، وغيرُها من الأنواع التي تدخل في مسمى العبادة، صرْفها لغير الله جل وعلا شرك أكبر يخرج من الملة، وصاحبه مشرك كافر؛ إما الكفر الظاهر، وإما الكفر الظاهر والباطن معا. وهذا الذي ذكره برهن له بقوله تعالى (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) وقوله هنا (لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) هذا بيان لحقيقة من دعي مع الله جل وعلا، قال (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) هذا الإله الآخر، وهذا الداعي منعوت بأنه لا برهان له بما فعل، ولا دليل، وإنما فعل ما فعل من دعوة غير الله لخواص وبتعديه. وقوله (لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) ليس مفهومه أن ثم دعوة لغير الله تعالى ليس لها برهان وإنما كل دعوة لغير الله، (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) أيَّ إله كان، فإن ذلك الداعي لا برهان له بما فعل، والدليل على أن دعوة غير الله جل وعلا كفر؛ قوله جل وعلا في الآية نفسها (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) فدل على أن دعاء غير الله -كما أنه شرك- إذ دُعي إله آخر مع الله جل وعلا فهو كفر؛ لأنه قال(21/54)
(إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).
والشرك أقسام والعلماء يَقْسِمون الشرك باعتبارات مختلفة.
· فتارة يُقسم الشرك إلى شرك ظاهر وشرك خفي.
· وتارة يُقسم الشرك إلى شرك أكبر وشرك أصغر.
· وتارة يُقسم إلى شرك أكبر وأصغر وخفي.
وهذه تقسيمات معروفة عند العلماء, وكل تقسيم باعتبار، وهي تلتقي في نتيجة كل قسم والتعريف؛ لكنه اختلاف في التقسيم باعتبارات مختلفة.
فمثلا من يقسمون الشرك إلى ظاهر وخفي؛ إلى جلي وخفي:
· فيكون الجلي منه ما هو أصغر ومنه ما هو أكبر، الجلي الظاهر الذي يُحَس مثل الذبح لغير الله, النذر لغير الله هذا جلي، هذا من نوع الشرك الأكبر, هو جلي أكبر، كذلك مثل الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كذلك هذه من نوع الشرك الجلي الأكبر, الحلف بغير الله تعالى شرك جلي ولكنه أصغر، هذا قسم شرك جلي.
· قَسِيمُه الشرك الخفي منه ما هو أكبر كشرك المنافقين، فإن شركهم خفي لم يظهروه وإنما أظهروا الإسلام، فما قام في قلوبهم من التنديد والشرك صار خفيا لأنهم لم يُظهروه، فهو شرك خفي ولكنه أكبر، وهناك شرك خفي أصغر مثل يسير الرياء، فإن كان الرياء كاملا كان ذلك شركا أكبر كشرك المنافقين، وإن كان يسيرا كتصنُّع المرء للعبادة لمخلوق مثله لغير الله فهذا إذا كان يسيرا فإنه شرك أصغر خفي.
هذا نوع من أنواع التقاسيم.
بعض العلماء يقول الشرك قسمان أكبر وأصغر:
· فإذا كان أكبر: قَسم الأكبر إلى جلي وخفي.
· وقسم الأصغر إلى جلي وخفي.
والأوضح أن يقسم إلى ثلاثة إلى أكبر وأصغر وخفي:
· ويكون الخفي مثل يسير الرياء.
· والأصغر مثل الحلف بغير الله، تعليق التمائم ونحو ذلك.
· والأكبر مثل الذبح والنذر والاستغاثة و دعاء ودعوة غير الله جل وعلا.
هذه تقسيمات للشرك قد تجد هذا أو ذاك في كلام طائفة من أهل العلم، لكن كلّها محصلها واحد، وإنما التقسيم باعتبارات، وهي ملتقية في التعريف وفي النتيجة.(21/55)
مُراد الشيخ رحمه الله تعالى هاهنا بقوله (فمَنْ صَرَفَ منها شيئًا لغيرِ الله فهو مُشرِكٌ كافرٌ) يريد الشرك الأكبر الذي يُخرج من الملة، فكل شيء صح عليه قيد العبادة فإن صرفه لغير الله -يعني التوجه به، التعبد به لغير الله- هذا كفر؛ مثل نداء الموتى، أو نداء الغائبين، أو خوف السر، أو الذبح لغير الله، أو النذر لغير الله، أو الاستغاثة بالأموات، أو أنواع الطلب المختلفة من الاستعانة ونحوها، أو بعض أعمال القلوب مثل الاستعاذة ونحو ذلك. هذه كلها أنواع للعبادات بعضها في القلب وبعضها للجوارح، جميعا من توجه بشيء منها لغير الله فهو مشرك الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة. البرهان قوله (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) وقد قدمت لك أن (يَدْعُ) والدعاء في القرآن قد يكون دعاء مسألة وقد يكون دعاء عبادة، فإذا لم يكن في الدليل، في النص قرينة تحدد أحد المعنيين، حُمل على المعنيين جميعا؛ لأن حمل النص على أحد المعنيين دون دليل وبرهان تحكُّم في النص وذلك لا يجوز.
قال رحمه الله (وفي الحديثِ «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة»)، (الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة) يعني لبُّها وجوهرها، وهو كما جاء في الحديث الآخر الصحيح؛ حديث النعمان «الدُّعَاءُ هُوَ العبادة» وكما قال جل وعلا (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وسبق أن أوضحت لكم هذه المسألة بتفصيل فيما مضى.
بعد ذلك شرع المؤلف -رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة- في بيان أدلة كون تلك التي ذكر من العبادات, وذكر الخوف, وذكر الرجاء, وذكر الرغبة, وذكر الرهبة, وذكر الخشوع, وذكر التوكل, وذكر أشياء, والذبح والنذر, إلى آخره.
فكأنَّ قائلا قال: ما الدليل على أن هذه من العبادات التي من صرَفها لغير الله جل وعلا كَفر؟ هو يسوق الأدلة, والأدلة على هذه المسألة على نوعين:(21/56)
الأول: أن يُستدل بدليل يُثبت كون تلك المسألة من العبادة, يثبت كون الخوف من العبادة، يثبت كون الرجاء من العبادة، فإذا ثبت كونه من العبادة، أُستدل بالأدلة السابقة كقوله ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، وقوله «الدعاء هو العبادة», « الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة », ? إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي?[غافر:60]، ونحوها من الأدلة العامة؛ بأن من توجه بالعبادة لغير الله فهو مشرك.
إذن النوع الأول متركب من شيئين، الأول أن يقام الدليل على أن هذه المسألة من العبادة؛ على أن الخوف من العبادة، على أن الرجاء من العبادة، فإذا استقام الدليل والاستدلال على أن هذه المسألة من العبادة، استدللتَ بالأدلة العامة على أن من صرف شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك، هذا نوع.
النوع الثاني: خاص؛ وهو أن كل نوع من تلك الأنواع له دليل خاص، يُثبت أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك، وأنه يجب إفراد المولى جل وعلا بذلك النوع من أنواع العبادة.
وهذا مما ينبغي أن يتنبه له طالب العلم في مقامات الاستدلال، لأن تنويع الاستدلال عند الاحتجاج على الخرافيين والقبوريين وأشباههم مما يقوي الحجة. تُنوِّع الاستدلال مرة بأدلة مجملة، مرة بأدلة مفصلة، مرة بأدلة عامة، مرة بأدلة خاصة حتى لا يُتوهَّم أنه ليس ثم إلا دليل واحد يمكن أن ينازع المستدل به الفهم، فإذا نوعتها صارت الحجة أقوى والبرهان أجلى.
بدأ في ذكر هذه الأدلة، بعضها من النوع الأول وبعضها من النوع الثاني:(21/57)
قال رحمه الله (دليلُ الخوفِ) يعني دليل كون الخوف عبادة (قوله تعالى ?فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:185]) هذا الدليل فيه أن الخوف من غير الله منهي عنه، وأن الخوف من الله جل وعلا مأمور به، قال جل وعلا (فَلَا تَخَافُوهُمْ) نهي عن الخوف من غير الله، ثم قال (وَخَافُونِي) وهذا أمر بالخوف من الله جل وعلا، وما دام أن الله جل وعلا أمر بالخوف منه فإنه يصدق على الخوف إذن تعريف العبادة؛ لأنه إذ أمر بالخوف منه فمعنى ذلك أن الخوف منه محبوب له مرضي عنده، فيصدق عليه تعريف شيخ الإسلام للعبادة أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وهذا ما دام أنه أمر به فمعناه أن الله جل وعلا يحبه، لأنه إنما يأمر شرعا بما يحبه ويرضاه، وفي هذه الآية دليل من النوع الثاني؛ وهو أن الخوف يجب أن يفرد به الله جل وعلا، قال ها هنا (وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فجعل حصول الإيمان مشروطا بالخوف منه جل وعلا، قال (وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)؛ إن كنتم مؤمنين فخافوني ولا تخافوهم، وهذا فيه دليل على إفراد الله جل وعلا بهذا النوع من الخوف، والخوف الذي يجب إفراد الله جل وعلا به، ومن لم يفرد الله جل وعلا به فهو مشرك كافر هو نوع من أنواع الخوف وليس كل أنواع الخوف وهو خوف السر؛ وهو أن يخاف غير الله جل وعلا بما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، وهو المسمى عند العلماء خوف السر؛ وهو أن يخاف أن يصيبه هذا المخوف منه، أن يصيبه ذلك الشيء بشيء في نفسه-يعني في نفس ذلك الخائف- كما يصيبه الله جل وعلا بأنواع المصائب من غير أسباب ظاهرة ولا شيء يمكن الاحتراز منه، فإن الله جل وعلا له الملكوت كله، وله الملك وهو على كل شيء قدير، بيده تصريف الأمر، يرسل ما يشاء من الخير، و يمسك ما يشاء من الخير، يرسل المصائب، وكل ذلك دون أسباب يعلمها العبد، وقد يكون لبعضها أسباب، لكن هو في الجملة من دون أسباب(21/58)
يمكن للعبد أن يعلمها, يموت هذا، ينقضي عمر ذاك، هذا يموت صغيرا، ذاك يموت كبيرا, هذا يأتيه مرض، وذاك يصيبه بلاء في ماله ونحو ذلك، الذي يفعل هذه الأشياء هو الله جل وعلا، فيُخاف من الله جل وعلا خوف السر أن يصيب العبد بشيء من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، المشركون يخافون آلهتهم خوف السر؛ أن يصيبهم ذلك الإله، ذلك السيد، ذلك الولي، أن يصيبهم بشيء كما يصيبهم الله جل وعلا بالأشياء، فيقع في قلوبهم الخوف من تلك الآلهة من جنس الخوف الذي يكون من الله جل وعلا، يوضح ذلك أن عُبَّاد القبور وعباد الأضرحة وعباد الأولياء يخافون أشد الخوف من الولي أن يصيبهم بشيء إذا تُنُقِّص الولي، أو إذا لم يُقَم بحقه.
وقد حُكِيَ لي في ذلك حكاية من أحد طلبة العلم، أنه كان مجتازا مرة مع سائق سيارة أجرة ببلدة (قنطة) المعروفة في مصر التي فيها قبر البدوي؛ والبدوي عندهم معظم، وله من الأوصاف ما لله جل وعلا؛ يعني يعطونه من الأوصاف بعض ما لله جل وعلا، هم اجتازوا بالبلدة فأتى صغير -متوسط في السن- يسأل هذا؛ يسأله صَدقة، فأعطاه شيئا، فحلف له بالبدوي أن يعطيه أكثر، وكان من العادة عندهم أنه من حلف له مثل ذلك فلا يمكن أن يرد، فلا بد أن يعطي؛ لأنه يخاف أن لا يقيم لذلك الولي حقه، فقال هذا -وهو من طلبة العلم والمتحققين بالتوحيد- فقال: هات ما أعطيتك. فظن ذلك أنه يريد أن يعطيه زيادة, فأخذ ما أعطاه وقال: لأنك أقسمت بالبدوي فلن أعطيك شيئا، لأن القسم بغير الله شرك.
هذا مثال للتوضيح ليس من باب القصص لكنه يُوضِح المراد من خوف السر وضوحا تاما.(21/59)
سائق الأجرة علاهُ الخوف في وجهه، ومضى سائقا وهو يقول: أُسْتُر أُسْتُر، أُسْتُر أُسْتُر. فسأله ذاك قال: تخاطب من؟ قال: أنت أهنت البدوي، وأنا أخاطبه -أي أدعوه- بأن يستر، فإن لم...، فإننا نستحق مصيبة، وسيرسل علينا البدوي مصيبة؛ لأننا أهناه. وكان في قلبه خوف بحيث أنه مشوا أكثر من مئة كيلو ولم يتكلم إلا بأُستر، أستر. يقول فلما وصلنا سالمين معافين توجهت له فقلت: يا فلان أين ما زعمت؟ وأين ما ذكرت من أن هذا الإله الذي تألهونه أنه سيفعل ويفعل؟ فتنفس الصعداء وقال: أصل السيد البدوي حليم !!!
هذه الحالة هي حالة تعلق القلب بغير الله، الذي يكون عند الخرافيين، خوف من غير الله خوف السر، البدوي ميت في قبره، يخشى أن يرسل إليه أحد يقسمه، أو مصيبة في سيارته أو في نفسه، هذا هو خوف السر، وهذا هو الذي جاء في مثل قول الله جل وعلا ?وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ?[الأنعام:81], قال (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) لأنهم يخافون آلهتهم هذا النوع من الخوف، لهذا تجد قلوبهم معلقة بآلهتهم لأنهم يخافونهم خوف السر، وقال جل وعلا مخبرا عن قول قوم هود حيث قالوا لهود ?إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ?[هود:54]، فهم خافوا الآلهة، عندهم أن الآلهة تصيب بسوء، وكان الواجب على حد زعمهم أن يخاف هذا من الآلهة أن تصيبه بسوء، فقالوا له (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) يعني بمصيبة في نفسك اختل عقلك، أو اختلت جوارحك أو نحو ذلك، هذا النوع من الخوف هو الذي إذا صرف لغير الله جل وعلا فهو شرك أكبر.(21/60)
هناك أنواع من الخوف خوف جائز وهو الخوف الطبيعي: أن يخاف من الأسباب العادية التي جعل الله فيها ما يخاف ابن آدم منه، أن يخاف من النار أن تحرقه, يخاف من السبع أن يعدو عليه, من العقرب أن تلدغه, يخاف من ذي سلطان غشوم أن يعتدي عليه ونحو ذلك, هذا النوع خوف طبيعي من الأشياء, لا يُنقص الإيمان؛ لأنه مما جبل الله جل وعلا الخلق عليه.
هناك نوع، خوف محرم, هذا القسم الثالث لأن الخوف أربعة أقسام([8]), قسم منه شركي؛ شرك أكبر, وقسم منه جائز, وقسم محرم وهو أن يخاف من الخلق في أداء واجب من واجبات الله, يخاف من الخلق في أداء الصلاة, يخاف إن قام للصلاة من مجلس يقطنه كثيرون أن يعاب, فإذا خاف هذا الخوف, فإن هذا الخوف يكون محرما, وفي مثله نزل قوله تعالى ?الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ?[آل عمران:173]، وفي قوله?فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:185]، لأن الواجب أن يُجَاهَدوا, فإذا خافوهم عن أداء ذلك الواجب, خوف ليس بمأذون به في الشرع وإنما هو من تَسْوِيل الشيطان كما قال ?إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ?[آل عمران:175]، هذا النوع من الخوف محرم, لا يجوز؛ لأن فيه تفويت فريضة من فرائض الله لأجل الخوف, خاف من غير الله لكنه ليس خوف السر, وإنما هو خوف ظاهر, وهذا محرم من المحرمات.
هذه أقسام ثلاثة مشهورة, وبها تجمع مسائل أقسام الخوف، والشرك منه وما ليس بشركي منه, وهذه المسألة مما يكثر فيها اضطراب طلاب العلم؛ لأنه ليس عندهم ضبط, للخوف الذي يحصل به إن صُرف لغير الله جل وعلا الشرك، الذي يوصف به من قام به أنه مشرك، أيُّ خوف هذا؟ هو خوف السِّر, ووصفه وضبط حاله هو ما ذكرته لك من قبل, فكن منه على ذكر وبينة في فهمك لهذه المسألة العظيمة.(21/61)
الخوف عبادة قلبية موردها القلب، قد يظهر أثره على الجوارح.
قال بعد ذلك (ودليلُ الرَّجاءِ قوله تعالى ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]) الرجاء أيضا عبادة قلبية، حقيقتها الطمع بالحصول على شيء مرجو, الرغبة بالحصول على شيء، يرجو أن يحصل على هذا الشيء.
فإن كان الرجاء لشيء ممن يملك ذلك الشيء فإن هذا رجاءٌ طبيعي؛ أرجو أن تحضر لأنه يمكنك أن تحضر، أرجوك أن تفعل، يمكنك أن تفعل، هذا الرجاء ليس هو رجاء العبادة.
النوع الثاني هو رجاء العبادة، وهو أن يطمع في شيء لا يملكه إلا الله جل وعلا، أن يطمع في شفائه من مرض، يرجو أن يشفى، يرجو أن يدخل الجنة وينجو من النار، يرجو أن لا يصاب بمصيبة ونحو ذلك، هذه أنواع من الرجاء، لا يمكن أن تُرجى وتُطلب وتُؤمل إلا من الله جل وعلا، وهذا هو معنى رجاء العبادة.
فالرجاء منه ما هو رجاء عبادة ومنه ما هو رجاء ليس من العبادة، والمقصود ها هنا هو رجاء العبادة.(21/62)
قال جل وعلا (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) هذا النوع من الرجاء امتدح الله جل وعلا من قام به، قال (مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) فدل على أن هذا الرجاء ممدوحٌ مَنْ رجاهُ، وإذا كان ممدوحا قد مدحه الله جل وعلا فهو مرضي عند الله جل وعلا، فيصدق عليه حد العبادة من أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وهذا -من نص هذه الآية- داخل فيما يرضاه الله جل وعلا، لأنه أثنى على من قام به ذلك الرجاء، وقوله هنا (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ)، (اللقاء) فُسر بالملاقاة، وفُسر بالمعاينة، وفُسر بالرؤية؛ رؤية الله جل وعلا, (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ) لملاقاة الله جل وعلا والرجوع إليه، أو فمن كان يرجو رؤية ربه، لأن اللقاء يحتمل هذا وذاك وهما تفسيران مشهوران عن السلف.
قال بعدها (ودليلُ التَّوكُّلِ قوله تعالى ?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[المائدة:23]) التوكل أيضا من العبادات القلبية، حقيقته أنه يجمع شيئين:
الأول: تفويض الأمر إلى الله جل وعلا.
الثاني: عدم رؤية السبب بعد عمله.
والتفويض وعدم رؤية السبب شيئان قلبيان، فالعبد المؤمن إذا فعل السبب، وهو جزء بما تحصل به حقيقة التوكل، فإنه لا يلتفت لهذا السبب، لأنه يعلم أن هذا السبب لا يُحَصِّل المقصود، ولا يحصل المراد به وحده، وإنما قد يحصل المراد به وقد لا يحصل؛ لأن حصول المرادات يكون بأشياء:
?منها السبب.
?ومنها صلاحية المحل.
?ومنها خلو الأمر من المضاد.
فثَم ثلاثة أشياء تحصل بها المرادات:
أول سبب: نعلم ِبمَا خلق الله جل وعلا خلقه عليه أن هذا السبب يُنتج المسبَّب؛ النتيجة.
الثاني: صلاحية المحل لقيام الأمر به؛ الأمر المراد.
الثالث: خلو الأمر أو المحل من المضاد له.(21/63)
مثاله الدواء، النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالدواء فقال «تداووا عباد الله» فالمسلم الموحد يتناول الدواء باعتباره سببا للشفاء، لكنه ليس سببا أو ليس علة وحيدة، بل لا يحصل الشفاء بهذا وحده، وإنما لابد من أشياء أخر، منها أن يكون المحل الذي هو داخل الإنسان-باطن متناول الدواء- يكون صالحا لقبول ذلك الدواء، وهذا معنى قولي: أن يكون المحل صالحا. أيضا من العلل التي يكمل بها المراد أن يكون السبب هذا الذي عمل خاليا من المعارض له، قد يكون يتناول شيء وفي البدن ما يفسد ذلك الشيء، فلا يصل إلى المقصود.
? ومنها وهو الأعظم أن يأذن الله جل وعلا بأن يكون السبب مؤثرا منتجا للمسبّب، وهذا يعطيك أن فعل السبب ليس كافيا في حصول المراد.
من الأمثلة التي نُمَثِّلُ بها كثيرا في هذا الباب غير مثال الدواء, رجل رام سفرا على سيارة، فأعد العدة، وفعل أسباب السلامة جميعا؛ من رعاية مثلا للكابحات (الفرامل)، ومن رعاية للإطارات ونحو ذلك، فعل أسباب السلامة جميعا، وسار على مهل، هذا كل ما يمكنه أن يفعله، لكن هل هذا وحده يحصل السلامة؟ لا يحصل السلامة هذا وحده، فهناك من قد يكون معتديا عليه، تأتيه سيارة كبيرة، هو قد بذل أسباب السلامة، وتأتيه في طريقه، ويصاب بالمصيبة من جرّاء ذلك، فهو فعل ما يمكنه أن يفعله، لكن هناك أشياء بيد الله جل وعلا تتم السلامة باجتماعها، وليس بهذا السبب الوحيد الذي عمله العبد، لا يجوز للعبد أن يتخلى عن بذل السبب لأن بذل السبب من تمام التوكل ولكن لا يُلتفت إلى السبب ولهذا قال علماؤنا -علماء التوحيد من أئمة السلف فمن بعدهم-: الالتفات إلى الأسباب قدح في التوكل. الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد, ومحو الأسباب أن تكون أسبابا قدح في العقل, إذا التفت القلب إلى السبب وأنه ينتج المسبب هذا قدح في التوحيد.(21/64)
لهذا نقول التوكل هو ما يجمع شيئين أولا تفويض الأمر إلى الله جل وعلا, لأن الله هو الذي بيده الملك. الثاني عدم رؤية السبب الذي فُعل.
إذن لا بد من فعل السبب, ويقوم بالقلب عدم رؤية لهذا السبب أنه ينتج المقصود وحده, وإنما يعلم أنه جزء مما ينتج المقصود, والباقي على الله جل وعلا ثم يفوض الأمر لله جل وعلا, هذا ينتج لك أن التوكل عبادة قلبية محضة, ولهذا صار صرفه لغير الله جل وعلا شرك, بمعنى أن يفوض الأمر لغير الله جل وعلا, كما يقول بعض مشايخ الصوفية لبعض مريديهم: إذا أُصبت بمصيبة فاذكرني فإني أخلِّصك منها. أذكرني يقم بالقلب ذلك المتذكَّر, ذلك المذكور, وإذا قام به أنه يخلصه من ذلك الشيء, فمعناه أنه فوض الأمر إليه, وصار متوكلا على غير الله جل وعلا, وهذا هو حقيقة ما يفعله المشركون في الجاهلية ومن شابههم ممن بعدهم, (ودليل التوكل قوله تعالى ?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[المائدة:23])، ففي هذه الآية الأمر بالتوكل, وما دام أنه أمر به فهو عبادة؛ لأن العبادة ما أُمر به من غير اقتضاء عقلي ولا اطراد عرفي, وما دام أنه أمر به فهو راض له أن يُتوكل عليه, وهذا معناه كونه عبادة, ثم أيضا في هذا الدليل أنه جعل التوكل شرطَ الإيمان, فقال (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) فمعنى ذلك أنه لا يحصل الإيمان إلا بالتوكل على الله وحده. أيضا هنا قدم الجارّ والمجرور فقال (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) وتقديم ما حقه التأخير في علم المعاني يفيد الحصر والقصر, أو يفيد الاختصاص، وهنا يفيدهما؛ يفيد الاختصاص, ويفيد القصر والحصر, فمعنى هذه الآية بقوله (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) يعني أحصروا توكلكم في الله, اقصروا توكلكم على الله إن كنتم مؤمنين, خُصُّوا الله بتوكلكم إن كنتم مؤمنين, وهذه الآية، هذا الدليل مركب من نوعي الدليل الذَين ذكرتهما لك من قبل, النوع الأول: إثبات(21/65)
أن هذا الأمر عبادة, الثاني: إثبات أن هذه العبادة يجب صرفها لغير الله جل وعلا بدليل خاص, فهو المستفاد من قوله (فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) وكذلك في قوله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) هذا فيها الثناء على من يتوكل على الله, ففيها الدليل على أن التوكل على الله عمل يحبه الله ويرضاه، ومعنى ذلك أنه من أنواع العبادات, هذا هو توكل العبادة.
وهناك شيء آخر ليس من توكل العبادة, وهو التوكيل وهو المعروف في باب الوكالة عند الفقهاء, وكلت فلانا في أمري, (ووكل علي) كما جاء في الحديث «ووكل علي عقيلا في خصومة» هذا من باب الوكالة, وهو شيء آخر غير التوكل، التوكيل والوكالة باب آخر, أما التوكل فهو عبادة قلبية, يضبط ذلك أن الوكالة فيها المعنى الظاهر, فيها شيء ظاهر, أما التوكل فهو عمل قلبي.
على كل حال، لهذه الجمل مزيد تفصيل لكن المقام يضيق عن تفصيلات ما يتعلق بهذه الأنواع من العبادات, وتفصيلها في كتاب التوحيد؛ لأن كل واحدة منها عُقد لها باب في كتاب التوحيد.(21/66)
قال رحمه الله تعالى (ودليلُ الرَّغبةِ والرَّهبةِ والخشوع قوله تعالى ?إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ?[الأنبياء:90]) هذه الآية فيها المسارعة للخيرات, الدعاء رغبا ورهبا ووصفُهم بأن حالهم أنهم كانوا خاشعين لله, ففيها أنواع من العبادات, خصّ الشيخ منها بالاستدلال الرغبة والرهبة والخشوع, ووجه الاستدلال من الآية أن الله جل وعلا أثنى على الأنبياء والمرسلين الذين ذكرهم في سورة الأنبياء, التي هذه الآية في أواخرها بقوله (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا), يعني ويدعوننا راغبين, ويدعوننا ذوي رغبة وذوي رهبة وذوي خشوع, وهذا في مقام الثناء عليه؛ الثناء على الأنبياء والمرسلين, وما دام أنه أثنى عليهم فإن هذه العبادات من العبادات المرضية له فتدخل في حد العبادة.
الرغبة رجاء خاص, والرهبة خوف خاص وَجَلٌ خاص، والخشوع هو التطامن والذل, قال تعالى ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً?[فصلت:39]، يعني ليس فيها حركة للنبات, ليس فيها حياة؛ متطامنة ذليلة ?فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ?([9])[فصلت:39] ، فالخشوع سكون فيه ذل وخضوع, هذا الخشوع الذي هو نوع من أنواع العبادة, وتلك الرغبة وتلك الرهبة هذه من العبادات القلبية, التي يظهر أثرها على الجوارح.(21/67)
لو تأملت أو رأيت حال المشركين عند آلهتهم, حال عباد القبور -مثلا- عند أوثانهم, عند المشاهد, لوجدت أنهم في خشوع, ليسوا عليه في مساجد لله ليس فيها قبر ولا قبة, وهذا مشاهد, فإنه يكون عنده وَجَلٌ خاص, رهبة, ومزيد رجاء هو الرغبة، وخشوع وتطامن وعدم حركة وسكون في الجوارح والأنفاس وحتى في الألحاظ في الرؤية، وهذا كله مما لا يسوغ أن يكون إلا لله، لأن المسلم في صلاته إذا صلى فإنه يكون يقوم به الرغبة، يقوم به الرهبة المستفادة من قوله تعالى ?الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3)مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ?[الفاتحة:3-4], (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تفتح له باب الرغبات وباب الرجاء، و(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يفتح عليه باب الرغبة, باب الخوف من الله جل وعلا، فتأتي عبادته حال كونه راغبا راهبا، والخشوع سكونه وخضوعه وعدم حراكه في صوته وفي عمله، هذا لله جل وعلا في عبادة الصلاة، والخشوع يكون بالصوت، ويكون بالأعمال كما قال جل وعلا ?وَخَشَعَتْ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا?[طه:108]، فالهمس لا ينافي الخشوع في الصوت، وهذه حال المصلي حين يناجي ربه جل وعلا، فهو في حال رغبة ورجاء، وفي حال رغبة ورهبة، وفي حال خشوع لربه جل وعلا، يزيد هذا في القلب، وربما غلب عليه حتى نال المقامات العالية في تلك العبادة، وربما قلَّ وَضَعُف حتى لم يُكتب من صلاته إلا عشرها أو إلا تسعها، هذا لأنه من أنواع العبادات التي يحبها الله جل وعلا ويرضاها.(21/68)
فإذن وجه الاستدلال: أن الله جل وعلا أثنى على أولئك الأنبياء، وعلى أولئك المرسلين؛ لأنهم ذووا رغب، وذووا رهب، وذووا خشوع لله جل وعلا، وبالأخص هذا الدليل العام، وبالدليل الخاص في الخشوع وحده، قال هنا (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) وكما قدمت أن الجارّ والمجرور هنا قدم على ما يتعلق به وهو اسم الفاعل (خاشع)؛ لأن الجارّ والمجرور -كما أسلفت لك- يتعلق بالفعل أو ما فيه معنى الفعل فهو اسم الفاعل أو اسم المفعول أو ما أشبهه من مصدر ونحو ذلك، وهنا قال (كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) أصل سَبْقِ الكلام: كانوا خاشعين لنا. فلما قدم ما حقه التأخير كان ذلك مفيدا للاختصاص وللحصر وللقصر كما هو معلوم في علم المعاني.
نقف عند هذا، ونأخذ شيء من الأصول، أو نجيب عن بعض الأسئلة.
الأسئلة
? متى يكون التوكل شركا أكبر ومتى يكون شركا أصغر؟
التوكل عبادة مطلوبة؛ التوكل على الله عبادة مطلوبة واجبة، يسأل هو عن التوكل على غير الله, يكون شركا أكبر إذا فوض أمره لغير الله؛ فوض هذا الأمر؛ المصيبة التي وقع فيها، أو ما يريد إنجاحه تجارة، أو عبادة أو درس أو نحو ذلك، فوّض إنجاح هذا الأمر لغير الله، وقام بقلبه هذا التعلق، يكون شركا أكبر، ولا يكون التوكل على غير الله شركا أصغر، إنما هو شرك أكبر.
(?يوجد كتاب باسم حكم تمني الموت صحة أحكام تمني الموت للشيخ محمد عبد الوهاب، وقد قرأت هذا الكتاب فوجدت فيه من القصص الغريبة والأحاديث الضعيفة.
فهل هذا الكتاب فعلا للشيخ محمد بن عبد الوهاب علما بأن دار النشر المكتبة الإعدادية بمكة المكرمة؟(21/69)
هذا سؤال جيّد، وإن كان الجواب عليه قد يطول، لأن المسألة تحتاج إلى إيضاح وبسط، لكن ألخص الجواب: بأن هذا الكتاب ليس للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وإنما الواقع أن الجامعة؛ جامعة الإمام، رأت أن النسخة هذه التي طبعوا عنها، أنها بخط الشيخ رحمه الله تعالى، وعندي صورة منها وهي بخط الشيخ رحمه الله، وقد جلبها العلماء منذ عقود مضت من لندن من المتحف البريطاني؛ جلبوها لا لأنها من تأليف الشيخ، ولكن لأجل أنها بخط الشيخ، مجموع كبير بخط الشيخ رحمه الله، جلبوها من هناك وصوروها وأودعوها في المكتبة السعودية في الرياض، لأنها بخط الشيخ والعلماء منذ ذلك الوقت يعلمون أنها ليست للشيخ، وإنما هي بخطه وسيأتي لما كتبها الشيخ، ولهذا لم يسعوا إلى نشرها ولا إلى طبعها.(21/70)
الشيخ رحمه الله تعالى في هذه من جنس المجاميع التي كتبها بخطه، ولأنه كان يتجول في رحلاته، فإذا رأى كتابا -كما تعلمون في ذلك الوقت يصعب شراء الكتب، تكون نسخة عند واحد من الناس فيصعب شرائها- فالعالم ماذا يصنع، يأخذ هذا الكتاب ويختصره؛ ينتخب منه، فهو الذي صنع في هذا المجموع أنه انتخب منه أشياء تتعلق بأوله، بأحكام تمني الموت، ثم بعد ذلك انتخب أشياء من هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي يحتج بها الخرافيون في بعض المسائل حياة الموتى وتعلق أرواح الأحياء بالموتى ونحو ذلك، أخذها من كتاب للسيوطي مطبوع الآن بأحوال أهل القبور، أخذ هذه الأحاديث لما؟ ليكون على بينة في تخريجها فيما إذا أوردها عليه الخصوم؛ خصوم الدعوة فهو لم ينتخبها تأليفا وإنما انتخبها انتقاء، حتى يكون على بينة منها، كعادته في أشياء كثيرة مما انتقاه وانتخبه، والذي غرَّ الذين طبعوه أنه موجود بخط الشيخ رحمه الله تعالى، وكونه بخط الشيخ لا يعني أنه تأليف له، وسموه بهذا الاسم (أحكام تمني الموت) لأن أول صفحة منه في حكم تمني الموت، فتمني الموت في ذلك الكتاب استغرق صفحة أو صفحتين أو قريبا منها، والباقي كلها من الأحاديث التي ذكرها هذا السائل جزاه الله خيرا، والشيخ رحمه الله كما ذكرت لك انتخب هذه ليعلمها، من كتاب للسيوطي موجود، لو طابقت بين هذه الرسالة المزعومة وكتاب السيوطي لوجدت أنها نقل عنه حرفا بحرف، الأحاديث المتوالية نقلها عنه ليكون على بينة مما فيها فيما لو احتج بها الخرافيون، ولهذا قال من قال من علماء الحديث: أهل الحديث يكتبون كل شيء؛ يكتبون حتى الموضوعات، حتى إذا احتج بها أحد بينوا له حكمها، وبينوا له وجه معناها.
? هل يُقدَّم السبب على التوكل على الله، وما معنى قوله عليه السلام «اعقلها وتوكّل»؟(21/71)
السبب يكون قبل، تريد أمرا من الأمور تفعل السبب الذي يحصل المسبب عادة به؛ شفاء من مرض، السبب أن تذهب إلى الطبيب فهذا السبب, إذا فعلت السبب يقوم بالقلب شيئان:
أولا: تفويض أمر الشفاء لله جل وعلا.
الثاني: أن لا يرى القلب هذا السبب محصلا للمقصود وحده، لا يرى القلب هذا السبب الذي هو الذهاب للطبيب محصلا للشفاء وحده، ولكن يعلم أنه ثم أسباب أخرى كلها جميعا بيد الله جل وعلا.
فهذا السبب يتلوه شيئان هما التوكل، وفعل السبب من تمام التوكل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره فيما ساقه السائل «اعقلها وتوكّل» توكَّلَ على الله جل وعلا في حفظ ناقته بدون أن يعقلها، فسرحت وذهبت وبعُدت عنه، فقال: اعقلها وتوكل. يعني ابذل السبب ثم بعد ذلك فوض الأمر إلى الله جل وعلا أن ينفع بهذا السبب، إذ بيده ملكوت كل شيء، وليكن بقبك عدم رؤية أن هذا السبب وهو العقل كافيا في حصول المراد وهو حفظ تلك الناقة.
(?يقول هل البيت المعروف عند الناس وامعتصماه، شرك في الاستغاثة ولماذا؟
هذا الذي يقول: ((رُبَّ وامعتصماه انطلقت))، القصة هذه لا نُثبتها، أي أن المرأة نادت المعتصم وقالت: وامعتصماه، أو أين المعتصم مني، أو يا معتصماه، هذه ليست بثابتة تاريخيا، لكن أخبار التاريخ كما هو معلوم كثيرة لا يمكن أخذ التثبت منها.(21/72)
وامعتصماه هذه لها احتمالات، احتمال أن تكون نُدْبَة، واحتمال أن تكون نداء واستغاثة. وعلى كل إذا كان هذا الغائب لا يسمع الكلام، أو لا يعتقد أن الكلام سيصل إليه، فإنه يكون شركا؛ لأنه استغاث بغير الله جل وعلا، فإن كان من باب النُّدبة فإن باب الندبة فيه شيء من السعة، والأصل أن الندبة تكون لسامع، كذلك الاستغاثة لما يُقْدَرُ على الاستغاثة فيه تكون لحي حاضر سامع يقدر أن يغيث، وهذا كان على القصة هذه لو كانت المرأة قالتها المعتصم لا يسمعها وليس قريبا منها، فيحتمل إن كان مرادها أنه يمكن أن يسمعها؛ يقوم بقلبها أنه يمكن أن يسمعها دون واسطة طبيعية، ودون كرامة خاصة لها من الله جل وعلا، هذا شرك من جنس أفعال المشركين، وإن كان مقصودها أن يوصل ويصل إلى المعتصم طلبها واستغاثتها بواسطة من سمعها كما حصل فعلا فهذا ليس بشرك أكبر مخرج من الملّة.
فتلخص أن هذه الكلمة محتملة، والأصل؛ القاعدة في مثل هذه الكلمات المحتملة لا يجوز استعمالها-المحتملة لشرك- لا يجوز استعمالها؛ لأن استعمالها يخشى أن يوقع في الشرك أو يفتح باب الشرك.
? بعض الناس يخاف أن يُنْكِر المنكر، إذا كان في مجلس -مثلا- فيقوم من المجلس ويكتفي بإنكار القلب، فهل يدخل هذا في الخوف المحرم؟(21/73)
لو جلس كان هذا داخلا في الخوف المحرم، وذلك بشرط أن لا يكون مستطيعا أن ينكر بيده، أو مستطيعا أن ينكر بلسانه، فإن كان بوسعه أن ينكر بيده إذ له مقدرة على الإنكار بيده؛ بأن يكون الأمر في بيته أو عند من له عليهم سلطة من قرابته ونحو ذلك، هذا ينكر بيده، إن لم يستطع ذلك ينكر بلسانه، وبعد ذلك يفارق المكان إن لم يُغَيَّر, الثالث إن لم يستطع الإنكار باللسان ينكر بقلبه لبغضه لهذا المنكر، وإن تمكن من الخروج من مكان المنكر فإنه يجب عليه الخروج، إن خاف الناس في إنكاره بيده مع استطاعته أن ينكر بيده، فهذا من الخوف المحرم الذي هو المرتبة الثالثة، إن خاف أن ينكر بلسانه؛ خاف الناس، مع إمكانه أن ينكر بلسانه، فهذا من الخوف المحرم، إن خاف أن يفارق مع إمكانه أن يفارق دون مفسدة راجحة تحصل ولم يفارق كان هذا من الخوف المحرم، والله المستعان غفر الله لنا جميعا.
قد وقفنا على الإنابة:(21/74)
قال (ودليلُ الإنابة قوله تعالى ?وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ?[الزمر:54]) وحقيقة الإنابة الرجوع؛ رجوع القلب عما سوى الله جل وعلا إلى الله جل وعلا وحده، والإنابة إذ كان معناها الرجوع، فإن القلب إذا توجه إلى غير الله جل وعلا قد يتعلق به تعلقا، بحيث يكون ذلك القلب في تعلقه تاركا غير ذلك الشيء، وراجعا ومنيبا إلى ذلك الشيء، كما يحصل عند الذين يتعلقون بغير الله؛ تتعلق قلوبهم بالأموات والأولياء أو بالأنبياء والرسل أو بالجن ونحو ذلك، فتجد أن قلوبهم قد فُرِّغَت إما على وجه التمام، أو على وجه كبير، أن فُرِّغَت من التعلق إلا من ذلك الشيء، هذا الذي يسمى الإنابة, أَنَابَ رجع، ترك غيره ورجع إليه، وهذا الرجوع ليس رجوعا مجردا، ولكنه رجوع للقلب مع تعلقه ورجائه، فحقيقة الإنابة أنها لا تقوم وحدها، القلب المنيب إلى الله جل وعلا إذا أناب إليه فإنه يرجع، وقد قام به أنواع من العبودية منها الرجاء والخوف والمحبة ونحو ذلك، فالمنيب إلى الله جل وعلا هو الذي رجع إلى الله جل وعلا عما سوى الله جل وعلا، ولا يكون رجوعه هذا إلا بعد أن يقوم بقلبه أنواع من العبوديات أعظمها المحبة والخوف والرجاء؛ محبة الله, الخوف من الله, الرجاء في الله, فإذن الإنابة صارت عبادة بهذا الدليل وسيأتي بيان وجه الاستدلال، وأيضا لأنها شيء متعلق بالقلب، ولأنها لا تقوم بالقلب إلا مع أنواع أخر من العبوديات، ولهذا استدل له بقوله تعالى (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) ووجه الاستدلال أن الله جل وعلا قال (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ) فأمر بالإنابة، وإذ أمر بها فمعنى ذلك أنه يحبها ويرضاها ممن أتى بها، فهي إذن داخلة في تعريف العبادة سواء عند الأصوليين أو عند شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهذا الدليل العام على كونها من العبادة, ما الدليل على كون هذه العبادة يجب إفراد الله جل وعلا بها؟ فإن في هذا: الأمر بالإنابة(21/75)
إلى الله جل وعلا. ما دليل كون هذه العبادة وهي الإنابة لا يجوز ولا يسوغ أن يتوجه بها إلى غير الله جل وعلا؟ هناك دليل عام ألا وهو أنه إذ ثبت أنه عبادة، فالأدلة العامة كقوله تعالى ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، وقوله ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، وغير ذلك، وقوله عليه الصلاة والسلام «الدعاء هو العبادة», «الدعاء مخ العبادة» ونحو هذه الأدلة، تدل على أن أي نوع من العبادة لا يجوز أن يتوجه به إلى غير الله، ومن توجه به إلى غير الله جل وعلا فقد كفر, فهذا الاستدلال العام، وهناك دليل خاص في الإنابة أنه يجب إفراد الله جل وعلا بالإنابة، وذلك في قوله تعالى ? عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ?[هود:88]([10]) في سورة هود (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) قالها شعيب عليه السلام، وأخبر الله جل وعلا بها عن شعيب، في معرض الثناء عليه، قال (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)؛ عليه وحده لا غير توكلت, فوَّضت أمري وأخليت قلبي من الاعتماد على غيره، ومجيء الجارّ والمجرور متقدم على ما يتعلق به وهو الفعل، دل على وجوب حصرها وقصرها واختصاصها بالله جل وعلا، ثم قال وإليه أنيب، فقال إليه وحده لا إلى سواه أنيبُ؛ أرجعُ محبًّا راجيًا خائفًا عن كل ما سوى الله جل وعلا إلى الله وحده، فلما قدم الجارّ والمجرور على ما يتعلق به وهو الفعل، دل على أن هذه العبادة وهي الإنابة مختصة بالله جل وعلا، وهذا أتى في معرض الثناء على شعيب، وهناك أدلة أخرى.(21/76)
فإذن هذه المسألة مع غيرها، أحيانا يورد الشيخ دليلا عاما على كونها من العبادة، وأحيانا يورد دليلا عاما على كونها عبادة وخاصا في أنه يجب إفراد الله جل وعلا بها، والحمد لله ما من مسألة من مسائل العبادة القلبية أو العملية، عمل الجوارح أو عمل القلب أو عمل اللسان، ما من مسألة إلا وثَم دليل عام على أنها من العبادة، وثم دليل خاص على أن من صرفها لغير الله جل وعلا فقد أشرك، وهذا والحمد لله بيِّن ظاهر، وهذا التوحيد في بيانه ووضوحه وظهور براهينه وأدلته وآياته مما هو بمكان واضح ظاهر، لا يكون معه بعد ذلك حجة للمخالفين، الذين تنكبوا هذا الطريق، ولم يسلموا وجوههم لله جل وعلا، ويخلصوا دينهم لله جل وعلا وحده.(21/77)
بعد الإنابة ذكر الاستعانة حيث قال (ودليل الاستعانة قوله تعالى ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5]) هذا دليل عام في العبادات جميعا حيث قال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) و(إِيَّاكَ)، كما هو معلوم ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم، أصل الكلام (نَعْبُدُ إِيَّاكَ) ومن المعلوم أن المفعول به يتأخر عن فعله، فإذا قُدّم كان ثم فائدة في علم المعاني من علوم البلاغة ألا وهي أنه يُفيد الاختصاص، وطائفة من البلاغيين يقولون يفيد الحصر والقصر، وعلى العموم الخطب يسير يفيد الاختصاص أو يفيد الحصر والقصر، هنا أفاد أن العبادة من خصوصيات الله جل وعلا؛ خاصة بالله جل وعلا. (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يعني لا نعبد إلا أنت، ثم قال بعدها وهو مراد الشيخ بالاستدلال (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهذه الآية من سورة الفاتحة؛ السورة العظيمة التي هي أم القرآن، التي يرددها المسلمون في صلواتهم، فيها إفراد الله جل وعلا بالعبادة، وعقد العهد والإقرار على النفس بأن القائل لتلك الكلمات لا يعبد إلا الله جل وعلا. قال (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) كذلك لا يستعين إلا بالله جل وعلا، وجه الاستدلال أنه قدم الضمير المنفصل الذي هو في محل نصب مفعول به على الفعل الذي هو العامل فيه، وتقديم المعمول على العامل يفيد الاختصاص أو يفيد الحصر والقصر، فإذن هنا أثبت أنها عبادة، وأثبت أنه لا يجوز صرفها لغير الله إذ هي مختصة بالله جل وعلا.(21/78)
وها هنا قال العلماء؛ شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم: إن عبادة غير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله. مع أن جنس الاستعانة قد يكون من الربوبية يعني طلب الإعانة هو طلب لمقتضيات الربوبية, لأن الله جل وعلا هو مدبر الأمر, إياك نعبد هذا فيه معنى الألوهية, وإياك نستعين طلب الإعانة من الله؛ استعانة المسلم بالله، هذا فيها طلب لمقتضى الربوبية، ومن حيث كون الاستعانة طلبا صارت عبادة، ولهذا قال إن عبادة غير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، وهذا لأجل أن العبادة إذا صرفت لغير الله جل وعلا فإنها يكون معها تحول في القلب الذي هو المضغة إذا صلحت -صلح العمل كله- صلح الجسد كله، إذا توجه بقلبه لغير الله في عبادته هذا صار قلبه فاسدا، ومقتضيات الربوبية أحيانا تطرأ، ولهذا الإشراك في الإلهية في بعض أوجهه أعظم من إنكار بعض أفراد الربوبية ألم تر ذلك الرجل من بني إسرائيل الذي قال في وصيته إن مت فأحرقوني ثم ذروني في البحر فوالله إن قدر الله علي ليعذبني عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين. وغفر الله جل وعلا له لأنه شك في بعض أفراد القدرة والتي هي راجعة إلى شيء من معنى الربوبية كذلك قال جل وعلا عن حواريي عيسى?هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ?[المائدة:112]، وأُجيبوا ولم يؤاخذوا بكلمتهم تلك؛ لأنها شك في بعض أفراد القدرة, وهذا راجع إلى شك في بعض مقتضيات الربوبية, أما العبادة لغير الله جل وعلا فهي التي لا يُقبل من أحد أن يصرف شيئا منها لغير الله, قال جل وعلا ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:116]، وعيسى عليه السلام قال لقومه?إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72] وقال جل وعلا لعيسى في(21/79)
آخر السورة؛ سورة المائدة: ?يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ?[المائدة:116-117] إلى آخر الآيات, المقصود من هذا أن ما قاله شيخ الإسلام وجماعة, أن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله, هذا صحيح ومتّجه، ولهذا قدمت في سورة الفاتحة العبادة على الاستعانة؛ لأنها أعظم شأنا وأجل خطرا لأنها هي التي وقع فيها الابتلاء, ولهذا كان حريا بأهل الإيمان أن يعتنوا بأمر إخلاص القلب لله جل وعلا, وتوجُّه المرء في عباداته وعبودياته لله وحده دون ما سواه.
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (وفي الحديث «إذا استعنت فاستعن بالله») وجه الاستدلال: أن الأمر بالاستعانة بالله رُتِّبَ على إرادة الاستعانة، قال (إذا استعنت فاستعن بالله) يعني إذا كنت متوجها للاستعانة فلا تستعن بأحد إلا بالله؛ لأن الأمر جاء في جواب الشرط, قال (إذا استعنت), (إذا) هذه شرطية غير جازمة, و(استعنت) هذا فعل الشرط, (إذا استعنت) إذا حصل منك حاجة للاستعانة فاستعن -هذا الأمر- فاستعن بالله, لما أمر به علمنا أنه من العبادة ثم لما جاء في جواب الشرط صار مُتَرَتِّبًا مع ما قبله لما يفسد الحصر والقصر.
ما معنى وإياك نستعين؟ ما حقيقة الاستعانة؟ الاستعانة طلب العون.(21/80)
· لأن كثيرا فيما أوله السين والتاء يدل على الطلب, استعان، استغاث، استسقى ونحو ذلك, استعان: يعني طلب الإعانة. استغاث: طلب الغوث. استعاذ: طلب العوذ. استقام: ما فيها طلب، هذه من النوع الثاني. استسقى: طلب السقيا. ?وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ?[البقرة:60] يعني وإذ طلب موسى السقيا لقومه, هذا نوع.
· النوع الثاني؛ تأتي استفعل ويراد بها الفعل بدون طلب, كقوله واستغنى الله, وغني الله, والله غني حميد في أمثال ذلك
المقصود أن كثيرا ما يأتي استفعل بطلب الفعل, هنا استعان طلب العون, استعاذ طلب العوذ, استغاث طلب الغوث, وهكذا.
فإذن إذ كان جميعا في معنى الطلب, أو فيها معنى الطلب, يصلح دليلا لها كل ما فيه وجوب إفراد الله جل وعلا بما يحتاجه المرء في طلباته, الدعاء؛ جميع أدلة الدعاء تصلح لما كان فيه نوع طلب؛ أي دليل فيه وجوب إفراد الله جل وعلا بالدعاء يصلح دليلا بإفراد الله جل وعلا بأنواع الطلب ?وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ?[غافر:60]، يصلح دليلا للاستغاثة, والاستعاذة والاستعانة ونحو ذلك.
بعد ذلك قال (ودليل الاستعاذة قوله تعالى ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ?[الناس:1-2]) الاستعاذة كما ذكرت لك هي طلب العوذ, وأعوذ: معناها ألتجئُ وأعتصمُ وأتحرز, تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, معناها ألتجئ وأعتصم وأتحرز بالله من شر الشيطان الرجيم, فإذن الاستعاذة طلب العوذ طلب المعتصَم, طلب الحِرز, طلب ما يعصم, طلب ما يحمي, هذه الاستعاذة. وإذن هي من حيث كونها طلب، هذه ظاهرة, ومن حيث كونها فيها الاعتصام والالتجاء والتّحرُّز صارت عبادة قلبية, ولهذا قال كثير من أهل العلم: إن الاستعاذة عبادة قلبية.(21/81)
وطلب العوذ -نعم- يكون باللسان, بقول أحد لآخر: أعوذ بك, أعذني ونحو ذلك. ولكنها هي تقوم بالقلب؛ يعني يقوم بالقلب الاعتصام بهذا المطلوب منه العوذ, يقوم بالقلب الالتجاء لهذا المطلوب منه العوذ, يقوم بالقلب التحرز بهذا المطلوب منه العوذ, فإذا قام بالقلب هذه الأشياء وهذه الأمور صار مستعيذا، ولو لم يُفصح لسانه بطلب العوذ, يعني أنها عبادة قلبية, الاستعاذة عبادة قلبية؛ لأن حقيقتها طلب العوذ, فإذا قام بالقلب اعتصامه بالله احترازه وتحرُّزُه بالله, التجاءه إلى الله من شر من فيه شر, صار ذلك استعاذة، قد يُفصح اللسان عنها, يطلب اللهم أعذني من مُضِلاَّت الفتن, بقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, أعوذ برب الفلق. ونحو ذلك, أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، يعني ألتجئ وأعتصم وأتحرز بكلمات الله الكونية التامة التي لا يلحقها نقص من شر كل من فيه شر, مما خلقه الله جل وعلا ونحو ذلك.
لأجل هذا المعنى قال جمع من أهل العلم: إنه لا يجوز أن يقول قائل أعوذ بالله ثُم بك. وذلك لأن العوذ عبادة قلبية, وهذا هو الصحيح, فإن العوذ إذا قيل أعوذ بالله ثم بك, الاستعاذة عمل قلبي بحت, لهذا لا يصلح أن يتعلق بغير الله جل وعلا.
وقال آخرون من أهل العلم: الاستعاذة طلب للَّجَئ والاحتراز والاعتصام, وقد يكون المطلوب منه يمكن ويملك أن يعطي هذا معتصما, وأن يقيه شرا, مثلا: يأتي واحد من الناس إلى قوي من الناس إلى كبير, ملك, أو أمير أو رئيس قبيلة أو نحو ذلك, فيقول له أعوذ بك، أو أعوذ بالله ثم بك من شر هذا الذي أتاني؛ رجل مثلا يأتي يطلبه بشيء, يقولون هذا يمكن أن يكون؛ يعني أن يقيه شرا أن يمنعه ممن يريد به سوءا, يمكن أن يكون ممن يقدر عليه البشر, فإذا كان بهذا المعنى يجوز أن يقول أعوذ بك بمخلوق, أعوذ بالله ثم بك بمخلوق.(21/82)
ولكن قَول أعوذ بك, هذا أبعد في الإجازة, وأما قول أعوذ بالله ثم بك, فهذا من راع المعنى الظاهر, وإمكانَ المخلوق أن يعيذ صححه وقال لا بأس أن يقول: أعوذ بالله ثم بك، ولكن الأظهر أن العوذ عبادة قلبية, وأنها إنما تكون بالله جل وعلا, وهذا على نحو ما مرنا بقوله: توكلت على الله ثم عليك ونحو ذلك, فمن أهل العلم من يجيز مثل هذه الألفاظ مع أن أصلها عمل قلبي؛ عبادة قلبية, مراعيا الظاهر ما يراعي تعلق القلب, مُراعيا الحماية الظاهرة، مُراعيا التحرز الظاهر, مُراعيا الاعتصام الظاهر, ومنهم من لم يجزْها مراعيا أنها عبادة قلبية, وأنك إذا أجزتها في الظاهر فإنه قد يكون تبعا لذلك الإجازة تعلق القلب عند من لا يفهم المراد.
وعلى العموم هما قولان مشهوران حتى عند مشايخنا المفتين في هذا الوقت ومن قبل.
يقابل الاستعاذة التي هي طلب العوذ, لأن طلب العوذ من شيء فيه شر, لهذا قال تعالى ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ(2)إِلَهِ النَّاسِ(3)مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ?[الناس:1-4], فالاستعاذة مما فيه شر. وأما اللّياذ, واللَّوذ فإنه مما فيه خير, قال: ألوذ بك. يعني إذا كنت مؤملا خيرا, وإذا كنت خائفا من شر تقول لربك جل وعلا: أعوذ بك, وإذا كنت مؤملا خيرا تقول ألوذ بك وهكذا, ثم ذكر الاستغاثة، أولا الدليل, قال (دليل الاستعاذة قوله تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) وجه الاستدلال أنه أمر نبيه الكريم أن يستعيذ برب الناس, ما دام أنه أمر به فهو عبادة قلبية, لأنه لا يأمر إلا بشيء يحبه ويرضاه, فذلك قوله تعالى ? فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ?[النحل:98] أمر بالاستعاذة به فدل على أنها عبادة.(21/83)
قال الشيخ رحمه الله (ودليل الاستغاثة قوله تعالى ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ?[الأنفال:9]) الاستغاثة: طلب الغوث, والغوث يُفسر بأنه الإغاثة, المدد، النصرة ونحو ذلك, فإذا وقع مثلا أحد في غرق ينادي أَغثني أغثني, يطلب الإغاثة, يطلب إزالة هذا الشيء, يطلب النصرة.
الاستغاثة عبادة؛ وجه كونها عبادة أن الله جل وعلا قال هنا (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) وجه الاستدلال أنه أتى بها في معرض الثناء عليهم, وأنه رتّب عليها الإجابة, وما دام الله جل وعلا رتّب على استغاثتهم به إجابته جل وعلا دل على أنه يحبها, وقد رضيها منهم, فنتج أنها من العبادة، و(إِذْ) هنا بمعنى حين (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) يعني حين (تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)، وتلاحظ أنّ الآية هنا (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) وقبلها (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) الاستغاثة -كما ذكرت لك- والاستعاذة والاستعانة ونحو ذلك, تتعلق بالربوبية كثيرا, هنا (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) قال قبلها (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) لأن حقيقتها من مقتضيات الربوبية, من الذي يُغيث؟ هو المالك، هو المدبر، هو الذي يُصرِّف الأمر, وهو ربّ كل شيء جل وعلا. الاستغاثة عمل ظاهر, ولهذا يجوز أن يستغيث المرء بمخلوق, لكن بشروطه, وهي أن يكون هذا المطلوب منه الغوث, أن يكون حيا، حاضرا، قادرا، يسمع, فإذا لم يكن حيا كان ميتا صارت الاستغاثة بهذا الميت كفرا, ولو كان يسمع ولو كان قادرا, مثل الملائكة أو الجن, قلنا أن يكون حيا حاضرا قادرا يسمع, صحيح؟ طيّب، إذا لم يكن حيا كان ميتا، ولو اعتقد المستغيث أنه يسمع وأنه قادر، فإنه إذ كان ميتا فإن الاستغاثة به شرك. الأموات جميعا لا يقدرون على الإغاثة لكن قد يقوم بقلوب المشركين بهم أنهم يسمعون، وأنهم أحياء مثل حال الشهداء، وأنهم يقدرون مثل ما يزعم في حال النبي عليه(21/84)
الصلاة والسلام ونحو ذلك، فنقول إذ كان ميتا فإنه لا يجوز الطلب منه، قالوا فما يحصل يوم القيامة من استغاثة الناس بآدم ثم استغاثتهم بنوح إلى آخر أنهم استغاثوا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، نقول هذا ليس استغاثة بأموات، يوم القيامة هؤلاء أحياء، يُبعث الناس ويُحيَوْن من جديد، كانوا في حياة ثم ماتوا ثم أعيدوا إلى حياة أخرى. فهي استغاثة بمن؟ بحي، حاضر، قادر، يسمع. بهذا ليس فيما احتجوا به من حال أولئك الأنبياء يوم القيامة حُجة على جواز الاستغاثة بغير الله جل وعلا، والاستغاثة بغير الله جل وعلا أعظم كفرا من كثير من المسائل التي صَرْفها لغير الله جل وعلا شرك, إذن فالشروط:
? أن يكون حيا: إذا كان ميّتا لا يجوز الاستغاثة به.
? أن يكون حاضرا: إذا كان غائبا لا يجوز الاستغاثة به؛ حي قادر لكنه غائب. مثل لو استغاث بجبريل عليه السلام فليس بحاضر, حي نعم، وقادر قد يطلب منه ما يقدر عليه، ولكنه ليس بحاضر. مثل أن يطلب من حي قادر من الناس؛ يَطلب من ملك يملك أو أمير يستغيث به أغثني يا فلان، وهو ليس عنده، مع أنه لو كان عنده لأمكن بقوَّته, لكنه لما لم يكن حاضرا صارت الاستغاثة-تعلُّق القلب- بغير حاضر هذا شرك بالله جل وعلا.
? أن يكون قادرًا: إذا لم يكن قادرا فالاستغاثة به شرك، ولو كان حيا حاضرا يسمع، مثل لو استغاث بمخلوق بما لا يقدر عليه، وهو حي حاضر يسمعه، وتعلق القلبُ -قلب المستغيث- على هذا النحو، تعلق قلبُه بأن هذا يستطيع ويقدر أن يغيثه، بمعنى ذلك أنه استغاث بمن لا يقدر على الإغاثة، فتعلق القلب بهذا المستغاث به، فصارت الاستغاثة وهي طلب الغوث شركا على هذا النحو.
? وكذلك يسمعُ: لو كان حيا قادرا، ولكنه لا يسمع، حاضر لا يسمع كالنائم ونحوه، كذلك لا تجوز الاستغاثة به.(21/85)
وقد تلتبس بعض المسائل بهذه الشروط في أنها في بعض الحالات تكون شركا أكبرا، وفي بعض الحالات يكون منهي عنها من ذرائع الشرك، ونحو ذلك. مثل الذي يسأل ميت، يسأل أعمى بجنبه، أو يسأل مشلول بجنبه أن يغيثه ونحو ذلك.
المقصود أن العلماء اشترطوا لجواز الاستغاثة بغير الله جل وعلا: أن يكون المستغاث به حيا حاضرا قادرا يسمع.
قال رحمه الله تعالى (ودليل الذبح قوله تعالى ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ?[الأنعام:162-163]) الذبح الذي هو النحر، والذبح يشمل النحر الخاص ويشمل الذبح الذي هو قسيم النحر لأن:
النحر: هو الطعن بسكين أو بالحَرْبَة في الوَحدة، مثل ما يُفعل بالإبل كما تعلمون هي لا تذبح ذبحا، لكن هي تطعن في وَحدتها وإذا طُعنت وحُرِّكت السكين واندثر الدم وماتت، ليس ثَم ذبح. كذلك البقر قد تُنحر.
وأما الذبح: فيكون في الغنم من الظأن والماعز وكذلك في البقر.
الذبح والنحر عبادة، المقصود منها إراقة الدم، وإراقة الدم -من حيث هو- لا يكون إلا بتعلقٍ للقلب، فإذا أراق الدم لله جل وعلا تعلق القلب بالله جل وعلا. فالذبح عبادة ظاهرة يتبعها أو يكون معها عبادة باطنة قلبية، فمن ذبح لغير الله وقع في شرك ظاهر؛ لأن هذه عبادة صرفها لغير الله، وكذلك قلبه تعلق بغير الله فصار شركه من جهتين.
وجه الاستدلال من قوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أنه قال (وَنُسُكِي) والنسك فُسِّرت بعدة تفسيرات عن السلف منها الذبح والنحر وهذا كما قال جل وعلا في الآية الأخرى ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(1)فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?[الكوثر:1-2]، (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أمره بأن يوحد الله جل وعلا بالصلاة، وكذلك أمره بالنحر لربه جل وعلا وحده، إذن النسك هنا الذبح.(21/86)
قال (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ) الصلاة لمن؟ لله. وجه اللام هنا أنها لام الاستحقاق، قل إن صلاتي لله، يعني صلاتي مستحقة لله، هذا وجه الاستدلال. ونسكي لله، يعني نسكي الذي هو ذبحي مستحق لله وحده لا شريك له. ومحياي لله ومماتي لله، هذه لام أخرى وهي لام المِلك، الصلاة والنسك لله استحقاقا، والمحيى والممات لله مُلكا؛ لأننا اللام قلنا أنها تأتي للاستحقاق وتأتي للملك تذكرون؟ في هذه الآية جعل هذه الأفعال الأربعة الصلاة والنسك والمحيى والممات جعلها جميعا باللام مؤخرة، بقوله (لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لكن تختلف، الصلاة والنُّسُك لله استحقاقا، والمحيى والممات لله جل وعلا مُلكا، فجمعت هذه الآية بين توحيدي الله جل وعلا: في إلهيته وهو الأول، وفي ربوبيته وهو الثاني. قل إن صلاتي ونسكي لله، هذا توحيد لله جل وعلا في إلهيته، ومحياي ومماتي لله هذا توحيد لله جل وعلا في ربوبيته، فكما أنه جل وعلا هو مالك محياي ومماتي، فكذلك هو المستحق لصلاتي ونسكي، قال جل وعلا لنبيه قل إن صلاني ونسكي مستحقة لله، ومحياي ومماتي ملك لله جل وعلا (رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ) فذكر الربوبية ثم ذكر الألوهية، ثم بيَّن أن هذا من علامات الإسلام العظيمة فقال (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) وهذا وجه استدلال آخر إذ أن هذه مأمور بها، قال (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
الذبح كما أنه عمل ظاهر وهو إراقة الدم، والدم الذي بَثَّهُ في أعضاء المذبوح هو الله جل وعلا، وهو علامة الحياة، فلا يُزهق إلا لمن خلَقه، ولمن بثه في أعضاء من به الحياة.
ولهذا قال العلماء إن العبد حال الذبح يجتمع في قلبه أنواع من العبوديات:
? منها الذل لربه جل وعلا.
? ومنها التعظيم له جل وعلا.
? ومنها الرجاء؛ رجاء ما عنده حال ذبحه.
? ومنها طلب البركة؛ لأنه ما ذبح إلا لله.(21/87)
وهذه كلها عبادات قلبية، فكما أن الذبح عمل ظاهر؛ به تحريك اليد، تحريك اللسان ببعض القول، كذلك يقوم بالقلب حال الذبح أنواع من العبوديات، قد ما يقوم بالقلب شيء البتة، مثل ما يُذبح لضيافة أو نحو ذلك، فهذا يجب أن يكون ظاهرا لله جل وعلا وحده، وإذا اجتمع أن يكون في الذبيحة، أن تكون اجتمعت فيها العبادة الظاهرة والعبادة الباطنة؛ العبادة القلبية، كانت أكمل في رجاء ثواب الذبح، ولو كان في الأمور العادية من ضيافة ونحوها، فيكون الذبح لله جل وعلا ظاهرا لم يُرد بهذا إلا الله جل وعلا، وباسمه لم يذكر إلا اسم الله جل وعلا، ثم يكون بالقلب ذل لله جل وعلا وخضوع وتعظيم ورجاء المثوبة منه وحده، فتجتمع العبادات القلبية وعبادات الجوارح حال الذبح.
لهذا، الذبح من العبادات العظيمة، لكن قد يغفل الناس عن تعلق القلب وفعل الجوارح حين الذبح، وكيف تكون لله جل وعلا، ولهذا على طالب العلم أن يتعلم هذا إن لم يحسنه، يتعلم كيف يكون حال الذبح؛ حال ذبحه لذبيحته للأضحية وهي آكد وآكد وآكد، أو لغيرها، أن يكون موحدا تماما، يرجو في ذبحه أن يكون على غاية من العبودية في لسانه وقلبه وجوارحه؛ لأنه فيه حركة لسان للتسمية والتكبير، وفيه عمل القلب بأنواع من العبوديات ذكرت بعضها، وفيه أيضا حركة اليد، وهذا كله مما يجب أن يكون لله جل وعلا وحده.
قال (ومن السنة «لعن الله من ذبح لغير الله») وجه الاستدلال: أن من ذبح لغير الله لم يذبح لله، وإنما ذبح لغيره، أنه ملعون لعنه الله, وهذا الدعاء من النبي عليه الصلاة والسلام بقوله (لعن الله من ذبح لغير الله) يدل على أن الذبح لغير الله كبيرة من الكبائر، وإذا كانت كذلك فهي إذن يُبغضها الله جل وعلا، وإذا كان يُبغض الله جل وعلا الذبح لغيره، معنى ذلك أن الذبح له وحده محبوب له، في مقابلة، فيستقيم بذلك الاستدلال.(21/88)
قال بعدها (ودليل النذر قوله تعالى ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا?[الإنسان:7]) النذر: هو إيجاب المرء على نفسه شيئا لم يجب عليه، وتارة يكون النذر مطلقا، وتارة يكون بالمقابلة مُقيّد، والنذر المطلق غير مكروه، والنذر المقيد مكروه.
لهذا استشكل جمع من أهل العلم؛ استشكلوا كون النذر عبادة مع أن النذر مكروه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في النذر «إنه لا يأتي بخير وإنما يُستخرج به من البخيل» يقولون: إذا كان مكروها كيف يكون عبادة؟ ومعلوم أن العبادة يحبها الله جل وعلا، والنذر يكون مكروها كما دل عليه هذا الحديث، فكيف إذا كان مكروها يكون عبادة؟ وهذا الاستشكال منهم غير وارد أصلا؛ لأن النذر ينقسم إلى قسمين: نذر مطلق، ونذر مقيد.
النذر المطلق: لا يكون عن مقابلة، وهذا غير مكروه، أن يوجب على نفسه عبادة لله جل وعلا بدون مقابلة، فيقول لله عليَّ نذر، مثلا يقول قائل: لله عليَّ نذر أن أصلّي الليلة عشرة ركعات طويلات. بدون مقابلة، هذا إيجاب المرء على نفسه عبادة لم تجب عليه دون أن يقابلها شيء، هذا النوع مطلق، وهذا محمود.(21/89)
النوع الثاني المكروه: وهو ما كان عن مقابلة، وهو أن يقول قائل مثلا: إن شفى الله جل وعلا مريضي صُمْتُ يوما، إن نجحت في الاختبار صليت ركعتين، إن تزوجت هذه المرأة تصدقت بخمسين ريالا -مثلا- أو بمائة ريالا. هذا مشروط يوجب عبادة على نفسه، مشروطة بشيء يحصل له قدرا، من الذي يحصل الشيء ويجعله كائنا؟ هو الله جل وعلا. فكأنه قال إن أعطيتني هذه الزوجة، وإن يسرت لي الزواج بها، صليت لك ركعتين أو تصدقت بكذا. إن أنجحتني في الاختبار صمت يوما ونحو ذلك، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «إنما يُستخرج به من البخيل» لأن المؤمن المقبل على ربه ما يعبد الله جل وعلا بالمقايضة، يعبد الله جل وعلا ويتقرب إليه لأن الله يستحق ذلك منه، فهذا النوع مكروه. النوع الأول محمود، وهذا النوع مكروه.
والوفاء بالنذر في كلا الأمرين واجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» فتحصل عندنا أن النذر في أربعة أشياء: نذر محمود -نحن ما نقول نذر مشروع فيفهم أحد أنه واجب أو مستحب, لا, نقول محمود، غير مكروه في الشرع، محمود وهو المطلق الذي ما فيه مقايضة ولا مقابلة-. النوع الثاني مكروه وهو الذي يكون عن مقابلة, الوفاء بالأول بنذر التبرّر والطاعة واجب, الوفاء بالثاني حتى ولو كان مكروها واجب، وهو الذي أثنى الله جل وعلا على أهله في الحالين بقوله (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) لأنه أوجب على نفسه، فلما كان واجبا صار الوفاء به واجبا، فامتثل للوجوب الذي أوجبه على نفسه لأنه يخشى عقابه، فتحصّل من هذه الأربع منها اثنتان واجبتان وهما الوفاء، وواحد محمود، وواحد مكروه، ولهذا صار غالب الحال-إذ كان عبادة- صار غالب الحال هو الحال التي أنه محمود فيها أو واجب.
وبهذا صار النذر عبادة من العبادات التي يرضاها الله جل وعلا ويحبها، إلا في حال واحدة وهي حال نذر المقابلة.(21/90)
اتضح لكم هذا المقام؟ لأن بهذا التحرير تخلصون من إشكالات عِدَّة، ربما أوردها عليكم خصوم الدعوة والخرافيون في مسألة النذر. ظاهر؟ تأملوها لأنه قد لا تجد هذا التحرير في كثير من الكتب.
قال (ودليل النذر قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) وجه الاستدلال: أن الله جل وعلا امتدحهم بذلك بأنهم يوفون بالنذر، وإذ امتدحهم بذلك دل على أن هذا العمل منهم وهو الوفاء بالنذر أنه محبوب له جل وعلا، فثبت أنه عبادة لله جل وعلا.
والنذر له شقان: الشق الأول النذر والثاني الوفاء به، وكلا الأمرين إذا صُرفت لغير الله جل وعلا فهي شرك.
· من نذر لغير الله، أن ينذر لأصحاب المشاهد والأولياء أو القبور، ينذر للمشهد الفلاني، ينذر مثلا للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أن ينذرَ لأحد من الموتى، ينذر لفاطمة رضي الله عنها، أو ينذر لأحد آل البيت، أو لخديجة، أو ينذر لأحد من الأولياء أو نحو ذلك، يقول: عليَّ نذر للولي الفلاني، ولو كان غير مقابلة هذا إيجاب على نفسه عبادة لمن؟ لغير الله فصار شركا أكبر.
· القسم الثاني أن يقول: إن شفى الله-لاحظ- إن شفى الله مريضي فللولي الفلاني عليَّ نذر بكذا وكذا، فهذا على المقابلة، ولو كان على هذا النحو, فصرفه لغير الله جل وعلا شرك؛ لأن القول الأول منه وهو قوله (إن شفى الله مريضي) هذا ربوبية، وقوله (فللولي الفلاني علي نذر) هذا شرك في العبودية, هو أقر بالربوبية ولكنه أشرك بالعبودية, هذا جهة النذر, الوفاء لأصحاب القبور أو نحوهم, أو الجن, أو الملائكة, هذا كله شرك, فلو حصل منها النذر لغير الله فلا يجوز أن يوفِي به, فإن وفَّى به لغير الله سيكون ذلك شرك بعد شرك, لهذا قال عليه الصلاة والسلام «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه», يدخل في ذلك إذا كان النذر لغير الله جل وعلا, قال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) مدحهم بذلك, فدل أن وفائهم بالنذر عبادة يحبها الله جل وعلا.(21/91)
ونكتفي بهذا القدر اليوم, ونقف على الأصل الثاني وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الانتفاع والسداد.
?????(
الأصلُ الثَّاني: معرفةُ دينُ الإسلامِ بالأدلةِ، وهو الاستسلامُ للهِ بالتوحيدِ، والانقيادِ له بالطاعةِ، والخُلوصُ مِنَ الشِّركِ وأهلِهِ؛ وهو ثلاثُ مراتبَ: الإسلامُ، والإيمانُ، والإحسانُ، وكلُّ مرتبةٍ لها أركانٌ.
فأركانُ الإسلامِ خمسةٌ: شهادةُ أنْ لا إله إلاّ اللهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وصومُ رمضانَ، وحجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ.
فدليلُ الشّهادةِ قولُهُ تعالى ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[آل عمرا:18]، ومعناها لا معبودَ بحقٍّ إلا اللهُ وحده؛ (لا إله) نافيًا جميعَ مَا يُعْبدُ مِنْ دونِ اللهِ (إلا الله) مُثْبِتًا العبادةَ للهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ في عبادتِهِ، كما أنَّه ليس له شريك في مُلْكِهِ، وتفسيرُها الذي يوضِّحُها قولُه تعالى ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:26-28]، وقولُه تعالى ?قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ?[آل عمران:26].(21/92)
ودليلُ شهادةِ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ قولهُ تعالى ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[التوبة:128]، ومعنى شهادةِ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ: طاعتُهُ فيما أَمَرَ، وتصديقُهُ فيما أَخْبَرَ، واجتنابُ ما عنْهُ نهى وزَجَرَ، وأنْ لا يعبدَ اللهَ إلاَّ بما شَرَعَ.
ودليلُ الصلاةِ، والزكاةِ، وتفسيرُ التَّوحيدِ قولُه تعالى ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ?[البينة:5].
ودليلُ الصيامِ قولُه تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[البقرة:183].
ودليلُ الحجِّ قولُه تعالى?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ?[آل عمران:97].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:(21/93)
فهذه الرسالة تسمى ثلاثة الأصول وأدلتها، وقد ذكر -رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة- الأصل الأول، فيما مرّ معنا وهو معرفة العبد ربه، ومعرفة العبد ربه، يعني به معرفة العبد معبوده؛ لأن الرب هنا بمعنى المعبود، والربوبية بهذا الموقع بمعنى العبادة، لأن الابتلاء وقع فيها، هذا أصل من الأصول، والمقبور أو الميِّت يُسأل أول سؤال عن ربه، يعني عن معبوده الذي كان يعبده، من هو؟ فإن كان يعبد الله وحده لا شريك له، أجاب بأن معبودي ربي الله يعني وحده لا شريك له، وإن كان يعبد مع الله آلهة أخرى والعياذ بالله، قال: ربي الله، وربي فلان، وربي فلان، وربي فلان. من المعبودات المختلفة، يعني معبودي فلان، ومعبودي فلان، ومعبودي فلان، مع الله جل وعلا فيسأله منكر ونكير عن دينه: ما دينك؟ فلهذا كان لزاما أن يتعلم العبد دينه بأدلة ذلك، حتى يخرج عن التقليد، ويكون اعتقاده بهذا عن علم ومعرفة وبصيرة، لا على وجه المتابعة للناس، ولهذا جاء في بعض طرق السؤال وأما المنافق أو قال الفاجر فيقول ها, ها، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. وهذا يدل على أنه يرى معهم، على التقليد، وأن التقليد لا يسوغ في أصول الدين، هذه الأصول الثلاثة، التقليد في دين الإسلام، التقليد في العبادة, التقليد في الشهادة بأن محمد رسول الله، لا يكفي؛ فإذا قال قائل: أنا مسلم بحكم أني في بلد إسلام. وهو لم يعتقد هذه الأمور اعتقادا عن علم، ولو لمرة في حياته، ولو كانت قبل البلوغ فإنه لا يخلص من التبعة، فلا بد أن يعتقد ما يجب اعتقاده عن معرفة، وهي هذه الأصول الثلاثة، وعن معرفة وعلم ودليل، ولهذا الشيخ رحمه الله كما ترى توسّع في الأدلة، كل مسألة يذكرها يذكر دليلا عليها، لأن المتعلم لهذا يخرج به عن رِقَّة التقليد لمن علّمه، فيكون اعتقاده كان عن دليل، ولهذا ينبغي تعليم الصغار المميزين هذه الرسالة أو الكبار، يُعلَّمونها بأدلتها لا على وجه التفصيل كما نذكر في(21/94)
هذا الشرح، لكن نتعلم أن العبادة معناها كذا ودليلها كذا، فيعتقدها بدليلها، يعلم أن الله جل وعلا هو الذي فرض هذا الشيء، وهذا دليل المسألة، فيخرج عن رِبقَة التقليد بهذه المسائل العظام.
قال هنا رحمه الله تعالى (الأصل الثاني: معرفة دين الاسلام بالأدلة) ما هو الإسلام؟ قال (وهو الاستسلامُ للهِ بالتوحيدِ، والانقيادِ له بالطاعةِ، والخُلوص من الشرك) وهذه العبارة، وهي الأخيرة (والخلوص من الشرك) الصواب أنها (والبراءة من الشرك وأهله) هذا هو الموجود في النسخ المعتمدة، أما (والخلوص من الشرك) فهذه ليست في النسخ المعتمدة، وهي في هذه الطبعة التي بين يدي، والصحيح في النسخ المعتمدة أن (الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله) ومن المعلوم أن (البراءة من الشرك وأهله) أدل على المراد من لفظ (الخلوص من الشرك), لأن الخلوص من الشرك إنما هو خروج عن الشرك، وليس فيه معنى البراءة من الشرك وأهله، ولهذا كان الأصح أن يُجعل بدل (الخلوص من الشرك) في هذه النسخة، ما هو في النسخ المعتمدة الأخرى وهي أن (الإسلام الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله) وهذا هو الذي يناسب الاستدلال الذي استدل به الشيخ وهو قوله تعالى في سورة الزخرف (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فذكر البراءة وهو الذي يناسب هذا التعريف.
والإسلام يُراد به تارة الإسلام العام، ويراد به تارة الإسلام الخاص؛ يأتي هذا في القرآن وهذا.(21/95)
فالإسلام العام: يراد به الإسلام الذي خوطب به جميع الناس من لدن آدم عليه السلام إلى أن يرث الله جل وعلا الأرض ومن عليها، بل خوطب به جميع المخلوقات كما قال جل وعلا ?أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ?[آل عمران:98] أسلم له كل شيء كما قال ورقة بن نفيل في ما أحسب قال:
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمني
له المزن تحملُ عذبًا زلالاً
فالإسلام هذا العام، (الاستسلام لله) استسلام لله عن طواعية واختيار, هذا الإسلام العام الذي خوطب به جميع الخلق، حصل التكليف على آدم وبنيه قال جل وعلا?وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ?[الأحزاب:72]، يعني حمل الإنسان الأمانة، وهي أمانة التكليف بالإسلام، قال جل وعلا?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران:19]، وهذا هو الإسلام العام الذي دعا إليه كل رسول وكل نبي من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، الجميع يدعو إلى الإسلام، وهذا الإسلام يسميه العلماء الإسلام العام؛ الذي يشترك فيه جميع الرسل.
أما الإسلام الخاص: فهو القسم الثاني، وهو المراد ها هنا، فمعرفة دين الإسلام لا يريد دين الإسلام العام، وإنما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم صار المقصود بالإسلام الذي طُلب من الناس أن يدينوا به، وأن يعتقدوه، هو الإسلام الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وهو دين الإسلام الخاص، حتى صار الإطلاق؛ إذا أطلق الإسلام لا يراد به إلا دين الإسلام الذي بعث به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي يشمل عقيدة الإسلام وشريعة الإسلام.(21/96)
ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أكبّه الله في النار»، (لا يسمع بي) يعني ببعثتي برسالتي، وبما أرسلت به، ثم لا يؤمن بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني، وفي الرواية الأخرى «أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني»، المراد أمة الدعوة، «ثم لا يؤمن بي إلا أكبه الله في النار», فمن كان على دين الإسلام العام، وقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقبل منه, لا يقبل بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أحد إلا أن يتبع دين الإسلام الخاص، يعني الذي بُعث به النبي عليه الصلاة والسلام، وهو المراد ها هنا، وهو الذي يحصل به الابتلاء في القبر والفتنة في القبر, يحصل الابتلاء والفتنة بدين الإسلام الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم.
قال(هو الاستسلام لله بالتوحيد) الاستسلام أن يكون فاعله؛ فاعل الاستسلام كهيئة المستسلم، والمستسلم لغيره تابع له لا يفعل إلا ما يريد، خلُص قلبه إلا من رغبة من استسلم له، ولو قال وهو الإسلام لله بالتوحيد لصح تعريفه، فالاستسلام هنا بمعنى الإسلام، وله أسلم، ?وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ?[الزمر:54]، كلها بمعنى الاستسلام والإسلام؛ الإسلام لله والاستسلام لله بمعنى واحد قيَّدَها في هذا الموضع بقوله (بالتوحيد) والتوحيد يشمل توحيد الله جل وعلا في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته، والمقصود الأخص من هذه الثلاثة توحيد العبادة لأن الخصومة وقعت فيه، ومعلوم أن توحيد العبادة متضمن لتوحيد الربوبية ولتوحيد الأسماء والصفات.(21/97)
ثم قال (والانقياد له بالطاعة) الانقياد لله جل وعلا بالطاعة، يعني أن يكون منقادا غير ممانع ولا متولٍّ عن طاعة الله جل وعلا، إنما ينقاد ويذعن، كما قال جل وعلا ?قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ?[النور:54], أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، يعني الانقياد لله وللرسول،فيما أمر الله جل وعلا به وفيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، قال فإن تولوا وأعرضوا ولم يذعنوا ولم ينقادوا (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ) يعني على الرسول (مَا حُمِّلَ) ما حمل إياه وهو الرسالة، (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) وهو الاستجابة لله وللرسول، فإذن هنا الانقياد له، بالطاعة لله جل وعلا، بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي بعث بهذا الإسلام الأخير.(21/98)
قال (والبراءة من الشرك وأهله)، فُسّرت البراءة بعدة تفسيرات أصلٌ وفروعه؛ أصل البراءة البُغض في القلب، يعني بغض الشرك وأهله، ويتبع ذلك؛ يتبع بُغضَهم معاداتُهم وتكفير من كفره الله جل وعلا ورسوله؛ تكفير المشركين ومقاتلتهم عند مشروعية ذلك، وهذا هو معنى الكفر بالطاغوت أيضا, فإن الكفر بالطاغوت هو بُغضه ومعاداة أهله، وتكفير أهل الطاغوت؛ وهم أهل عبادة غير الله جل وعلا, وقتالهم عند مشروعية ذلك، البراءة من الشرك أصلها البغض، يتبع البغض أشياء, أولا المعاداة, ثانيا التكفير ومعلوم أن التكفير تَبَعٌ للعلم، ثم قتالهم عند مشروعية ذلك وذلك أيضا مستلزم للعلم، فتلخص أن على العامة وهم من ليسوا علماء عليهم من البراءة، أصلها وهو البُغض، وأما فروعها فإنما هي بحسب درجات العلم، البغض لا بد أن يُبْغِض فإن لم يبغض الشرك فإنه ليس بمسلم، إذا كان يحب الإسلام وأهله، ويحب التوحيد وأهله، ولكن لا يبغض الشرك وأهله فإنه ليس بمسلم. لكن قد يبغض الشرك وأهل الشرك باعتبار الأصل، لكنه يحب بعض المشركين لغرض من أغراض الدنيا، فهذا ليس بمشرك، وإنما ناقص إسلامه، كما أوضحت لكم فيما سبق في تقسيم الموالاة إلى موالاة وتولي، المقصود من هذا أن مسألة البراءة هذه؛ من الشرك وأهله، أصل البراءة البغض يتبعها أشياء المعاداة التكفير المقاتلة وكلها تبع للعلم، ويتنوع ذلك بحسب الناس، وأسهل ما يكون في الموحدين، عند الموحدين، عند عامتهم، معاداة المشركين، ولو لم يكن عندهم من الحجة أو من بيان تكفيرهم، ومن إقامة الدلائل على مشروعية مقاتلة أهل الشرك، فإنه قائم في قلبه بغضهم ومعاداتهم، وهذا به يحصل الإسلام.
إذن تعريف الإسلام شمل ثلاثة أشياء:
أولا: الاستسلام لله بالتوحيد.
ثانيا: الانقياد لله بالطاعة.
الثالث: البراءة من الشرك وأهله.
نلاحظ أنه بهذا شمل هذا التعريف معنى الشهادتين كما سيأتي.(21/99)
هذا الدين؛ دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث مراتب, قال الشيخ رحمه الله (وهو ثلاث مراتب الإسلام) هذه مرتبة في دين الإسلام نتيجة هذه المرتبة أن يحكم لأهلها بأنهم مسلمون، (والإيمان)، ونتيجة هذه المرتبة أن يحكم لأهلها بأنهم مؤمنون، (والإحسان)، ونتيجتها أن يحكم لأهلها أنهم محسنون، فالمحسن والمؤمن والمسلم، الجميع من أهل دين الإسلام، لكن لكل مرتبتُه الخاصة به، هم درجات عند الله.
فالإسلام: هو إقامة الأعمال الظاهرة؛ الشهادتين مع الأركان الأربعة المعروفة؛ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، مع بعض الإيمان الذي يُصحح هذا الإيمان الظاهر.
والإيمان: الإيمان بأركانه الستة؛ لله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره مع بعض الإسلام الظاهر مع بعض العمل الظاهر الذي معه يصح هذا الإيمان الباطن.
والإحسان: هو مقام المراقبة لله جل وعلا.
قال(وكل مرتبة لها أركان فأركان الإسلام خمسة) ذكرها ثم ذكر الأدلة على ذلك فقال (فدليل الشهادة قوله تعالى ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[آل عمرا:18]) وجه الاستدلال: أن الله جل وعلا شهد بذلك لنفسه، وشهد له بذلك الملائكة، وهم عُمَّار السماء، وشهد له بذلك أيضا أولوا العلم من الثقلين، قال جل وعلا (قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فبعد أن شهد بذلك لنفسه، وأخبر بشهادة ملائكته له بذلك، بشهادة أولي العلم له بذلك، أخبر مرة أخرى بمضمون ذلك فقال (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) واضح ظاهر وجه الاستدلال من هذه الآية.(21/100)
ما معنى لا إله إلا الله؟ قال (معناها لا معبود بحق إلا الله وحده)، لا إله إلا الله، أربع كلمات: (لا) ثم (إله) ثم (إلا) ثم (الله)، معنى (لا) هذه حرف لنفي الجنس، وهي من أخوات إنَّ، أو تعمل عمل إنَّ كما قال ابن مالك
عَمَلَ إنَّ اجْعَلْ لِلا فِي نَكِرَة
ويكون اسمها نكرة، كما قال هنا لا إله، إله؛ الإله فعال بمعنى مفعول يعني معبود، إله بمعنى مألوه يعني معبود؛ لأن الإلهة بمعنى العبادة، والألوهة بمعنى العبودية، وأصلها من أَلَهَ يَأْلَهُ، إِلَهَةً، وألوهة؛ إذا عبد مع الحب والخوف والرجاء؛ إذا عبد عابد ما يعبده خائفا راجيا محبا فإنه يكون قد ألهه، قال الراجز برجزه المشهور:
لله درّ الغانيات المُدّهِ
سبّحن واسترجعن من تألهي(21/101)
يعني من عبادتي التأله هو العبادة يعني (لا إله) كما قال هنا، معناها لا معبود، فسر الإله بمعنى المعبود، لأن ذلك الذي يقتضيه لسان العرب، وكذلك هو الذي جاء في القرآن، قال جل وعلا ?الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ?[هود:1-2]، والذي جاء من عند الله جل وعلا هو لا إله إلا الله قال هنا (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) فتفسير الإله بالمعبود، هذا موافق للقرآن وموافق للغة العرب، وبه تعلم أن من فسر الإله بالرب يعني بأنه القادر على الاختراع، كما هو تفسير أهل الكلام المذموم والأشاعرة والماترودية ونحوهم، فإن هذا من أبطل ما يكون؛ لأنه مناقض للغة العرب وتردُّه لغة العرب، ومناقض للقرآن ويردُّه القرآن والسنة، فإن مادة الإله غير مادة الرب، والإله هو المعبود كما أوضحت لكم في الاشتقاق، يقولون معنى (لا إله) أي لا قادر على الاختراع إلا الله، ولهذا لا يكفرون من أشرك مع الله جل وعلا إله آخر في العبادة، يقولون ما دام أنه مقر بتوحيد الربوبية، وبأن الله جل وعلا هو المتوحّد في أفعاله؛ برَزقه وإحيائه وإماتته، وفي تدبيره الأمر، وفي ملكه، وفيما يفعل، فإن هذا مؤمن. وهذا باطل، وبعضهم يفسر الإله بتفسير آخر يرجع إلى معنى الربوبية، يقول أحد كبار وأئمة الأشاعرة، وهو السَّنوسي في كتابه المعروف بأم البراهين في العقائد الأشعرية يقول: فالإله هو المستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه. يقول فمعنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرا إليه كلّ ما عداه إلا الله. فصار معنى كلمة التوحيد عندهم؛ توحيد الله جل وعلا، توحيد الله جل وعلا في ربوبيته. وهذا من أبطل الباطل؛ لأن المشركين قد أخبر الله جل وعلا في كتابه بأنهم مقرون بهذا الذي جعله معنى كلمة التوحيد، يقول معنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا(21/102)
الله. أرأيتم أبا جهل وصحبه ألم يكونوا موقنين بأنه لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله؟ هم يؤمنون بذلك كما بينه الله جل وعلا في القرآن في آيات كثيرة جدا كقوله?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[العنكبوت:61], ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[الزخرف:87]، ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ?إلى آخر الآية قال ?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31]، ?قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ?[المؤمنون:86]، ?قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ?[المؤمنون:88-89] إلى آخر ما جاء في هذه الآيات.(21/103)
إذن فتفسير لا إله إلا الله بأنها لا معبود إلا الله هذا التفسير ليس تفسيرا اجتهاديا، وإنما هو تفسير قرآني لهذه الكلمة قال جل وعلا ?مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ?[هود:1-2]، فمن زعم أن هذا التفسير من اجتهادات إمام هذه الدعوة، فهذا مناقض أو راد أو جاهل بالقرآن العظيم، فإن الذي فسر الإلهية بهذا المعنى هو الله جل وعلا في كتابه في غير ما آية، قال جل وعلا ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[المؤمنون:23] وهذا واضح (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) أتى بعد أمرهم بعبادة الله جل وعلا وحده دون ما سواه، وهذا مبين كثير في الكتاب والسنة والنبي صلى الله عليه وسلم قال لحصين بن عبد الرحمن: «كم إله تعبد؟» قال: أعبد سبعة, ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: «فمن ذا الذي تعد لرغبك ولرهبك؟» قال: الذي في السماء. فهذا معنى الإله، وهذا معنى لا إله، أي لا معبود، فهذا التفسير تفسير من القرآن، تفسير جاء من الله جل وعلا ومن نبيه صلى الله عليه وسلم، ليس تفسيرا اجتهاديا من أئمة هذه الدعوة كما زعمه الخرافيون وأعداء التوحيد.(21/104)
إذن هنا قال (معناها لا معبود بحق إلا الله) الكلمة الثانية (إله) الكلمة الثالثة (إلا) و(إلا) هذه عند بعض العلماء أداة استثناء، وعند بعضهم أداة حصر، فصار معنى (لا إله إلا الله) لا معبود إلا الله، خبر (لا) أين هو؟ لا معبود إلا الله، يعني لا معبود موجود إلا الله؟ لا معبود بحق إلا الله؟ لا معبود يُعبد إلا الله؟ خبر (لا) أين هو؟ قال العلماء: خبر لا محذوف، ذلك لأن العرب ترى في لغتها أن لا النافية للجنس يحذف خبرها إذا كان واضحا. ومن الواضح أن المشركين لم ينازعوا في وجود آلهة أخرى يعلمون أن هناك آلهة كثيرة موجودة، لهذا لا يصح أن يقال: أن خبر (لا إله) موجود؛ لأنهم قالوا ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5] لو كان خبر (لا إله) موجود، قالوا له هذه الآلهة موجودة، فكلمتك هذه ليست بصحيحة، لكن الخبر معلوم لأنه زبدة الرسالة، وهو ما قدره الشيخ هنا (بحق) أو يقدر (حق) بدون الباء، وذلك لأن خبر (لا) إذا حذف قُدر بالمناسب الذي يعلم، وإذا حذف الخبر كان لأجل العلم به ولوضوحه، كما قال ابن مالك في الألفية في آخر باب لا النافية للجنس يقول: وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ يعني باب لا النافية للجنس؛
وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ إِسْقَاطُ الخَبَر
إِذَا الْمُرَادُ مَعْ سُقُوطِهِ ظَهَر(21/105)
إذا ظهر المراد مع الحذف فإنه يُحذف، ولهذا لا يحذف خبر لا النافية للجنس إلا إذا كان واضحا، إذا كان الخبر واضحا، وهنا الخبر واضح لأنه هو زبدة الرسالة؛ زبدة ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو عين ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، أن يكون تقدير الكلام: لا معبود حق إلا الله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام بُعث لتوحيد الله جل وعلا بالعبادة ولإبطال عبادة غيره، وأنه لا معبود حق إلا الله وأن كل معبود سوى الله جل وعلا فعبادته بالباطل والظلم والطغيان والتعدي من الخلق. إذن هنا حُذِف لأنه معلوم، فصار تقديره لا إله حق -أو لا إله بحق- إلا الله، وذلك لأن الله جل وعلا قال ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[لقمان:30]، وفي الآية الأخرى ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[الحج:92] قال (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ)، فلما كانت هذه الآية وقد جاءت في القرآن في سورتين مشتملة على أن عبادة الله حق، وأن عبادة غيره باطلة، ناسب أن يكون المحذوف هنا كلمة (حق) أو كلمة (بحق)؛ لا إله بحق أو لا إله حق، لأنها هي التي دلت عليها الآيات.
إذن فصار معنى لا إله إلا الله لا أحد يستحق العبادة إلا الله جل وعلا، لا معبود بحق إلا الله، هناك معبودات غير الله عز وجل، ولكنها معبودات بحق أو بالباطل؟ معبودات بالباطل، وصار التقدير هذا من أنسب ما يكون.(21/106)
قال (معناها لا معبود بحق إلا الله وحده) فسر ذلك بقوله (لا إله نافيا جميع ما يعبد من دون الله) يعني الذي يقول لا إله إلا الله، ماذا يقول حين يقول لا إله؟ يقول أنفي جميع ما يعبد من دون الله، إلا الله تقول وأُثبت العبادة لله وحده، لأن لا إله إلا الله نفي وإثبات؛ نفي لاستحقاق العبادة عما سوى الله وإثبات للعبادة المستحقة لله جل وعلا.
قال رحمه الله هنا (لا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه) عدم الشَّرِكَة في الملك تتنوع أحيانا؛ تكون -الشركة في الملك يعني مطلقا دون إضافتها إلى الله طبعا- الشركة في الملك تكون:
? بأن يكون لكل شريك قسم خاص ليس مشاعا، له قسم خاص مما اشتركا فيه؛ اشتركت أنا وأنت في ملك إبل مثلا لك خمسون و لي خمسون معروفة، هذه خمسيني معروفة بأعيانها، وهذه خمسون لك معروفة بأعيانها، أو اشتركت أنا وأنت في كتب معروفة، هذه الكتب لك وهذه الكتب لي، هذه شركة، كل من الشريكين له قسمه استقلالا.
? الثاني أن تكون شركة مشاعة؛ للشريكان شركة مشاعة، هذا وهذا مشتركان في ملك لا يتميز منه أحدهما عن الآخر، بل هو لهما جميعا.(21/107)
الله جل وعلا بَيَّن في القرآن أنه لو كان له شريك في الملك -في ملكه- لابتغى إليه سبيلا، قال جل وعلا ?لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا?[الإسراء:52], ولو كان معه آلهة؛ معبودات تستحق العبادة فعلا، ما الذي يلزم من ذلك؟ يلزم أنه لهم نصيبا في ملك الله، بأنه لا يستحق العبادة إلا من يملك النفع والضر (لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا)، قال ?سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا?[الإسراء:43], ليس مع الله أحد في ملكه، بل هو المتوحد في ملكه، ينتج من ذلك ويلزم أنه هو المستحق للعبادة وحده، لهذا قال له هنا (لا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه)، لهذا يقول العلماء: إن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، الإقرار أن الله عز وجل ليس له شريك في ملكه لا على وجه الاستقلال ولا على وجه الإشاعة؛ شيوع، هذا يلزم منه لزوما أكيدا أن الله جل وعلا وهو واحد في استحقاقه العبادة، لا يستحق العبادة إلا هو، هو وحده المستحق للعبادة لا شريك له, كما أنه هو وحده له الملك لا شريك له، كما جاء في آية الأنعام ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ?[الأنعام:162-163] قد بينت لكم معناها، وأن معناها (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي) لله استحقاقا (وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ) ملكا (لَا شَرِيكَ لَهُ) في عبادته و(لَا شَرِيكَ لَهُ) في ملكه (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) هذا معنى الآية، وهذا التفسير للشيخ لكلمة التوحيد تفسير ضابط ظاهر.(21/108)
أيضا قال (وتفسيرُها الذي يُوضِّحُها قوله تعالى ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:26-28])، قال (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) ماذا قال إبراهيم؟ المقول سيأتي، قال (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) اشتملت كلمته هذه على نفي وإثبات؛ على بُغض ومحبة، فشقها الأول؛ جزؤها الأول نفي وبغض قال(إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) هذا فيه نفي ما دام أنه تبرأ منها في نفي لاستحقاقها العبادة، ومن معنى البراءة البغض، أو معنى البراءة البغض، فاشتمل قوله (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) على النفي والبغض، ثم أتى بالإثبات والمحبة فقال (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)؛ أُثبت له العبادة، ثم أتى بما يدل على المحبة فقال (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)، محبة فيها الرجاء. هذه كلمة وهي معنى لا إله إلا الله لأنه اشتملت على براءة وعلى ولاء، اشتملت على بغض و على محبة، اشتملت على نفي وعلى إثبات. قال (وَجَعَلَهَا) يعني تلك الكلمة (كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) يعني في ولد إبراهيم، ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء، والأنبياء من بعده جاؤوا لتقرير هذه الكلمة، قال (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يرجو أن يرجع إليها عقبه من بعده، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يعني إليها، أيضا يفسرها قوله تعالى ?قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ?[آل عمران:64], قل -يا محمد- يا أهل الكتاب؛ يا أهل التوراة ويا أهل الإنجيل ويا أهل الزبور، (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) إلى كلمة وسط، كلمة عدل بيننا وبينكم، نعلم أنه قد جاء بها رسولكم،(21/109)
وقد جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، ما هذه الكلمة؟ ?أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا?[آل عمران:64], وجه الاستدلال: أن هذه الكلمة بيننا وبينهم وهي كلمة التوحيد، تفسيرها أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، هذا واضح؛ التفسير لكلمة التوحيد، قال مؤكدا معناها ?وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ?[آل عمران:64], يعني آلهة من دون الله، لأنهم ما ادعوا في الخلق أنه رب، بمعنى أنه يخلق استقلالا، ويرزق استقلالا، ويحيي ويميت استقلالا، هذا ما اُدعي، وكان تفسير الربوبية هنا بالإلهية، قال ?فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ?[آل عمران:64], آخر الآية يبين أن من ترك ما دل عليه أولها فإنه ليس بمسلم، لأنه قال (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) إذْ خالفناكم، وإذْ لم تذعنوا لهذه الكلمة سواء التي بيننا وبينكم (ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا)، فأنتم لستم من أهل الإسلام.(21/110)
قال بعد ذلك (ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[التوبة:128])، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ) هذا قسم، اللام هذه هي التي تسمى الموطئة للقسم، دائما تصحب قد؛ (لَقَدْ)، نعلم أن ثم قسما محذوفا: والله لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ، هنا المقسِم هو الله جل وعلا، أقسم بأنه قد جاءكم رسول، وهذا لتأكيد الكلام وتعظيمه بأنفس السامع؛ لأنه أُكد بالقسم، والمقسِم هو الله، والمقسَم به هو الله جل وعلا، على مجيء الرسول لنا من أنفسنا، (مِنْ أَنفُسِكُمْ) يعني من جنسكم، من بني جلدتكم، يتكلم بلسانكم وتعقلون عنه، هذا واضح الدلالة على الشهادة بأن محمدا رسول الله، لأن معنى شهادة أن محمدا رسول الله أن تعتقد أن محمدا أرسله الله جل وعلا بدين الإسلام، تعتقد ذلك اعتقادا يصحبه قول وإخبار عنه، وهذه الآية واضحة الدلالة على المراد.(21/111)
بيّن معنى شهادة أن محمدا رسول الله، قال (ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله طاعته فيما أمر) هذا التفكير والمعنى بالمقتضى، يعني معناها التي تقتضيه؛ تقتضي طاعته فيما أمر، إذن فمعنى شهادة أن محمدا رسول الله طاعته فيما الأمر، كونك شهدتَّ أنه مرسل من عند الله، معنى ذلك أنه إذا أمرك فإن الآمر هو الله جل وعلا، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داوود وغيره، الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام «ألا إن ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله» إذا اعتقدت أن هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لم يأتِ به من عنده وإنما هو رسول, فمعنى ذلك أن تطيعه فيما أمر، هذا مقتضى لكونك شهدت بأنه رسول الله، فإن لم تطعه فيما أمر اعتقادا أنه لا يطاع، كان ذلك تكذيبا لشهادته، فمن قال أشهد أن محمدا رسول الله، وهو يعتقد أنه لا تلزمه طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فحاله حال المنافقين؛ شهادته مردودة، كاذب في شهادته، وأما إذا اعتقد أنه تجب عليه طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر وخالف لغلبة هوى، فهذا يكون عاصيا قد نقص من تحقيقه لشهادة أن محمد رسول الله بقدر مخالفته.(21/112)
قال (وتصديقه فيما أخبر) ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الغيب وحي من عند الله، ولا يتخرّف عليه الصلاة والسلام، لهذا ما أتى من أخبار الغيبيات، يعني الكلام على الله جل وعلا، أسمائه وصفاته وأفعاله، عن الجنة والنار، عن أخبار الغيب، عن قصص الماضين، هو كله بوحي من الله جل وعلا، فمقتضى أنك شهدت أنه رسول الله أن تصدقه فيما أخبر، وألا يكون في قلبك شك، في أن ما أخبر به حق، وأن كل خبر أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم نقول: عليه الصلاة والسلام فيه صادق. ولو كنا لا نرى ذلك الشيء، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه قال: حدثني الصادق الصدوق. يعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمؤمن يصدق رسول الله بما أخبر به، سواء عقل ذلك أو لم يعقله، وسواء أدرك ذلك بنظره أو لم يدركه، فقد كان الصحابة يتناقلون فيما بينهم الأخبار الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عيسى بن مريم عليه السلام سينزل، وكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث يقول لأصحابه، ولمن ينقل عنه الحديث من تلامذته، يقول: فإذا لقيه أحدكم فليقرئه مني السلام. تصديق لا يصاحبه شك، إذا كان المؤمن يعتقد أنه رسول الله، فمعنى ذلك أن كل خبر أخبر به فهو حق، بلا شك وبلا ريب عليه الصلاة والسلام.(21/113)
قال (ومن معناها اجتناب ما عنه نهى وزجر) والأصل في النهي والزجر التحريم؛ لأنها نهي زاجر كما هو مقرر في الأصول، فما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أو زجر عنه أو حرمه فإنه يجب اجتنابه طاعة له عليه الصلاة والسلام، كما قال جل وعلا ?وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا?[الحشر:7], وما أتاكم الرسول من الأوامر أو من الأخبار فخذوه امتثالا للأمر وتصديقا بالخبر، وما نهاكم عنه فانتهوا، ما نهاكم عنه يجب عليكم أن تتركوه طاعة لله جل وعلا ولرسوله، وهنا نقول مثل ما قلنا أولا أن من لم يجتنب ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وزجر، اعتقادا أنه لا يجب عليه الانتهاء، يعني لم يلتزم ذلك، لم يلتزم أنه مخاطب بهذه المنهيات، فهذا قدح في الشهادة، فلا يكون شاهدا بأن محمدا رسول الله، وإن كان يقولها بلسانه، وإن التزم ذلك، قال: نعم، نلتزم بالذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ويجب تركه. لكن غلبته نفسه وخالف ذلك قليلا كانت المخالفة أو كثيرا في نفسه أو في غيره، فإن ذلك يكون نقصا في شهادته ومعصية لله ولرسوله.
قال (وألا يعبد الله إلا بما شرع ) يعني لا يُعبد بالبدع والأهواء والمحدثات، وإنما يُعبد الله جل وعلا بالطريق وعلى الطريق التي بينها نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يُعبد الله جل وعلا بالأهواء والآراء والاستحسانات المختلفة، إنما يُعبد الله جل وعلا عن طريق واحدة وهي طريق الرسول صلى الله عليه وسلم بما شرعه هذا الرسول، فإذا اعتقد المسلم ذلك كمُلت له شهادته بأن محمدا رسول الله وصار مسلما حقا.(21/114)
بعد ذلك قال(ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد قوله تعالى ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ?[البينة:5]) بين أن هذه الأشياء مأمور بها، وهي دليل على أنها من دين الإسلام، ثم ذكر دليل الصيام، ثم ذكر دليل الحج وهذه واضحة ظاهرة.
بهذا يتبين المرتبة الأولى من الأصل الثاني؛ ألا وهي مرتبة الإسلام، وأعظم أركان الإسلام الشهادتان، فعلى طالب العلم أن يكون معنى الشهادتين واضحا في قلبه، واضحا في ذهنه، فاهما له، بحيث يستطيع أن يعبر عن ذلك بأيسر عبارة وبتنوع العبارة، لأن أعظم ما يدعا إليه ما دلت عليه الشهادتان، فعلى طالب العلم أن يعوّد لسانه على تفسير الشهادتين بتنويع العبارة، وعلى حفظ الأدلة التي فيها معنى الشهادتين، وعلى تفسير ذلك، وإذا دَرَبَ على ذلك، فسوف يرى أنه ستفتح له أبواب بفضل الله جل وعلا وبرحمته بمعرفة التوحيد وحسن التعبير عنه، وأما أن يترك طالب العلم نفسه لفهم ما دلّت عليه، دون أن يمرن نفسه على تأدية المعنى وتعليمه لأهله وللصغار، ولمن حوله ولمن يلقاه ممن لا يعلم حقيقة معنى هذه الكلمة، فإن هذا تضيعه النفس ولا يصدق على فاعله أنه طالب العلم؛ لأن العامي هو الذي يفهم ذلك؛ يفهم ذلك فهما، لكن لا يستطيع أن يعبر عن فهمه بالتعبير العلمي الصحيح، وأما طالب العلم فعليه أن يهتم بأصل الأصول هو تفسير الشهادتين، ومر معنا بعض ما يتصل بتفسيرها.
أسأل الله جل وعلا أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأن يجعل ألسنتنا لاهجة بالثناء عليه وبذكره، وجوارحنا مقيمة على طاعته، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????(21/115)
مرتبةُ الإيمانِ: الإيمانُ، وهو بضعٌ وسبعونَ شعبَة، فأعلاها قولُ لا إله إلاّ الله، وأدْناها إماطةُ الأذَى عنِ الطريقِ، والحياءُ شعبةٌ مِنَ الإيمانِ، وأركانُهُ سِتَّة: أنْ تؤمنَ بالله، وملائكَتِهِ، وكتبِهِ، ورُسُلِهِ، واليومِ الآخرِ، وبالقَدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ، والدليلُ على هذه الأركانِ الستَّةِ قولُه تعالى ?لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ?[البقرة:177], ودليلُ القَدَرِ قوله تعالى ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ?[القمر:49].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قد ذكر المؤلف -رحمه الله وأجزل له المثوبة- أن الأصل الثاني من ثلاثة الأصول العظيمة: هو معرفة دين الإسلام بالأدلة، وذكر أن دين الإسلام مبني على ثلاث مراتب، فالأولى هي مرتبة الإسلام، وبيّن ذلك وفسره, وذكر الأدلة على ذلك, ثم قال رحمه الله (المرتبة الثانية الإيمان وهو بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان وأركانه ستة أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى ?لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ?[البقرة:177], ودليل القدر قوله تعالى ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ?[القمر:49]) انتهى كلامه رحمه الله.
هذه المرتبة الثانية، وهي مرتبة الإيمان، والإيمان أصله:
في اللغة: كما سبق أن ذكرت لكم هو التصديق الجازم، فهو تصديق وجزم.(21/116)
وفي الشرع: الإيمان قول وعمل واعتقاد, أو نقول الإيمان في الشرع قول وعمل؛ لأن القول هو قول اللسان وقول القلب, والعمل عمل القلب وعمل الجوارح.
فإذا قال من قال من أهل السنة: إن الإيمان قول وعمل. فهو بمعنى من يقول: قول وعمل واعتقاد.
لأن القول ينقسم إلى قول اللسان وقول القلب:
· قول اللسان: هو النطق والإقرار ظاهرا بنطقه.
· وقول القلب: النية.
عمل القلب وعمل الجوارح:
· عمل القلب: أقسامه كثيرة، منها أنواع الاعتقادات، ومنها أنواع العبادات القلبية؛ الخشية والخوف والرجاء، فالعلم أنواع العلميات هذه من أعمال القلب، وكذلك عبادات القلب المتنوعة هذه أعمال قلبية.
· وكذلك عمل الجوارح.
وهذا بمعنى قول من قال: إن الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بطاعة الرحمان، وينقص بطاعة الشيطان.
قال أهل العلم إن هذا الإيمان الشرعي هو الذي حصل الابتلاء به، فهو من الأسماء التي نقلت من اللغة إلى الشرع، وصارت حقيقتها الشرعية هو ما وصفت لك من أن الإيمان يشتمل على قول اللسان والعمل بالأركان والاعتقاد وأنه يزيد وينقص.
الإيمان كثيرا ما يأتي في القرآن ويراد به اللغوي، وكثيرا ما يأتي في القرآن ويراد به الشرعي، بمثل الألفاظ الأخرى كالصلاة فإنها تأتي ويراد بها اللغوي؛ الصلاة اللغوية وهي الدعاء والثناء، ويأتي ويراد بها الصلاة المعروفة ومما ذكره بعض أهل العلم المحققين، ومما ذكره بعض أهل العلم من ذوي التحقيق:
? أن الإيمان اللغوي في القرآن كثيرا ما يُعدّى باللام كقوله تعالى ?وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ?[يوسف:17], كقوله ?فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ?[العنكبوت:26], ونحو ذلك من الأمثلة وما سبق أن ذكرت لك.(21/117)
?والإيمان الشرعي المنقول عن أصله اللغوي الذي يراد به العمل والقول والاعتقاد هذا يُعدى كثيرا بالباء ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ?[البقرة:285]، إلى آخر الآية قال?فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا?[البقرة:137], ونحو ذلك من الآيات وكقوله ?وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا?[النساء:136].
هذا الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويراد به تارة الاعتقادات الباطنة، وهو الذي يناسب المرتبة الثانية، لأن المرتبة الأولى هي الإسلام، وهي ما يشمل العمل الظاهر كما جاء في حديث جبريل, فقد جاء في بعض طرقه أنه ذكر عليه الصلاة والسلام لجبريل أن من الإسلام بعد الحج الغُسل من الجنابة، ومنه الذكر، ونحو ذلك مما هو من جنس الأعمال الظاهرة. وأما الإيمان: فهو العقائد الباطنة؛ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر.(21/118)
الشيخ رحمه الله تعالى هنا قال (الإيمان بضع وسبعون شعبة) وهذا يعني به اسم الإيمان العام الذي يدخل فيه الإسلام؛ لأن الإيمان أوسع من الإسلام، والإسلام بعض الإيمان، وأهل الإيمان أخص مرتبة من أهل الإسلام، لهذا الإيمان يشمل الإسلام وزيادة، بهذا المعنى ولهذا المعنى قال الشيخ رحمه الله (وهو بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله) ومن المعلوم أن قول لا إله إلا الله أنه أول أركان الإسلام؛ شهادة لله بالتوحيد بقول لا إله إلا الله مع توابع ذلك هذا الركن الأول، فهنا عدَّ قول لا إله إلا الله أعلى شعب الإيمان، وهذا لأن الإيمان يشمل الإسلام وزيادة، وهذا قد جاء مبينا في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «الإيمان بضع وستون أو قال بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» فذكر أن أعلى شُعب الإيمان لا إله إلا الله، وقوله شُعب هذا تمثيل للأيمان بالشجرة التي لها شعب ولها فروع، وقد مثل عليه الصلاة والسلام بأعلى الشعب وبأدنى الشعب، ومثّل بشعبة من الشعب، وهذه الثلاث التي ذكرها عليه الصلاة والسلام متنوعة:
· فالأول وهو أعلاها قول: قول لا إله إلا الله.
· وأدناها إماطة الأذى عن الطريق هذا عمل.
· والحياء شعبة من الإيمان، الحياء عمل القلب.
فذكر في هذا قول لا إله إلا الله، وهذا قول باللسان، ولا شك أنه يتبعه اعتقاد بالجنان، وذكر الحياء أيضا وهو عمل بالقلب، وذكر إماطة الأذى عن الطريق وهو عمل الجوارح، فتمثيله عليه الصلاة والسلام لذلك لأجل أن يُستدل لكل واحد من هذه الثلاثة؛ لكل شعبة من هذه الشعب على نظائرها:
فيُستدل بكلمة التوحيد بقول لا إله إلا الله على الشعب القولية.
ويُستدل بإماطة الأذى عن الطريق بالشعب العملية؛ عمل الجوارح.
ويُستدل بذكره الحياء على الشعب القلبية.(21/119)
وهذا من أبلغ ما يكون من التشبيه والتمثيل، وذلك لأن التنويع -كما نوع عليه الصلاة والسلام- يجعل الناظر يُعدِّي هذا الذي ذكر إلى أمثال تماثلها كثيرة، ولهذا العلماء اختلفوا في شعب الإيمان بِعَدِّها، عَدَّها جماعة وصنفوا فيها مصنفات كما صنف الحليمي كتابه، الشيخ البيهقي كتابه، كتاب الإيمان؛ المنهاج في شعب الإيمان وهو مطبوع، وتلاه على ترتيبه وعلى نصقه البيهقي موسعا داعما بالأدلة في كتابه شعب الإيمان، ونحو ذلك، عدُّوها على اجتهاد منهم، وهذا الاجتهاد يختلف فيه العلماء، فمنهم من يعد خصالا من شعب الإيمان، ومنهم من يعد أخرى، وسبب ذلك اجتهادهم في قياس ما لم يذكر على ما ذكر، فيجعل بعضا منها قولية، ويجعلون بعضا منها عملية، ويجعلون بعضا منها لعبادات القلب، وهم يقسمونها في الغالب أثلاثا: فيجعلون للقوليات نحوًا من خمس وعشرين شعبة، ويجعلون للعمليات نحوًا من خمس وعشرين شعبة، ويجعلون لأعمال القلوب نحوًا من سبع وعشرين أو خمس وعشرين شعبة، يزيدون و ينقصون.
المقصود أن هذا اجتهاد، اجتهاد من العلماء، لكن هذا التمثيل يدل على ما ذكرت لك من استيعابه للأقوال وأعمال الجوارح وأعمال القلوب، إذن فيدخل في هذه الشعب، شعب الإسلام: إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، صوم رمضان، الحج، الجهاد، الغسل، الطهارة، ونحو ذلك، يدخل فيها الأعمال الاجتماعية التي أُمر بها؛ صلة الأرحام، بر الوالدين إلى آخره، يدخل فيها أعمال القلوب من الخشية والإنابة والحياء والمحبة والرجاء والخوف والرهب والرغب إلى آخر هذه الأمثلة، فكل هذه من الإيمان ودليل ذلك الحديث الصحيح الذي جاء في الصحيحين.
بعد أن ذكر ذلك قال رحمه الله تعالى (وأركانه ستة أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) أوضحت لكم في شرح الأربعين النووية تفصيل شرح هذه الأركان، لكن أذكر ذلك باقتضاب, ليكمل الشرح لهذا الكتاب.(21/120)
الإيمان بالله يشمل: الإيمان بوجود الله؛ بأن الله واحد في ربوبيته, وأنه واحد في إلهيته لاستحقاقه العبادة، أنه واحد في أسمائه وصفاته، يعني ليس كمثله شيء في أسمائه, وليس كمثله شيء في صفاته كما قال تعالى ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، فبيان قوله أن تؤمن بالله هو شرح التوحيد كله.
قال (وملائكته) الملائكة جمع ملك، وهو المرسل لأن أصلها (مَأْلَكَ) من (أَلَكَ) يعني أرسل رسالة خاصة، أَلَكَ يألك أَلُوكَةً، والمرسل مألك أو مَلْأَك، وأصلها مألك؛ لأنها من أَلَكَ، خُففت الهمزة كما تخفف كثيرا فصارت ملَك، وجمعها ملائكة، لهذا ظهر في الجمع الهمز؛ لأن أصله في المفرد موجود، الملك جمعه ملائكة ظهر الهمز، ومفرد الملائكة ملأك إلى آخره. يعني المرسلون الموكلون بما وكلهم الله جل وعلا به.
هذا الركن من أركان الإيمان تحقيقه يكون بأن يؤمن المسلم بأن لله جل وعلا ملائكة، خلق من خلقه جل وعلا، جعلهم موكلين بتصريف هذا العالم، يأمرهم فينفذون ?بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ?[الأنبياء:26], ?لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ?[التحريم:6], فمن أيقن أن هذا الجنس من خلق الله موجود، وآمن بذلك، وأن منهم من ينزل بالوحي إلى الرسل، يبلِّغهم رسالات الله فقد حقق هذا الركن من أركان الإيمان، ثم بعد ذلك يكون الإيمان التفصيلي على نحو ما فصلت لكم في شرح الأربعين، يكون الإيمان التفصيلي، وهذا يختلف فيه الناس بحسب العلم، لكن المقصود هنا أن تحقيق هذا الركن من أركان الإيمان يكون بتحقيق ما ذكرت، وبعد ذلك الإيمان بكل ما جاء بالكتاب والسنة من أوصاف الملائكة ومن أحوالهم؛ صفة خلقهم ومقامهم عند ربهم، وأنواع أعمالهم وأعمال ما وكلوا به، فكله من الإيمان التفصيلي، من علم شيئا من النصوص في ذلك وجب عليه الإيمان، لكن تحقيق الركن يكون بالمعنى الأول.(21/121)
كذلك الإيمان بالرسل، إذا آمن المسلم بأن الله جل وعلا أرسل رسلا؛ بعثهم بالتوحيد، يدعون أقوامهم إلى التوحيد، وأنهم بلغوا ما أمروا به، وأيدهم الله بالمعجزات، بالبراهين والآيات الدالة على صدقهم، وأنهم كانوا أتقياء بررة، بلّغوا الأمانة وأدوا الرسالة. بهذا يكون آمن بالرسل جميعا، ثم يؤمن إيمانا خاصا بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم الرسل، وأنه جل وعلا بعثه بالحنيفية السمحة، بعثه بدين الإسلام الذي جعله خاتم الأديان وآخر الرسالات، القسم الثاني الإيمان التفصيلي بالرسل على نحو ما أوضحت لكم، فيه مقامات كثيرة في ذلك, يتبع العلم التفصيلي بأحوال الرسل وأسمائهم وأحوالهم مع أقوامهم وما دعوا إليه وكتبهم ونحو ذلك.(21/122)
قال بعدها (وكتبه) الكتب قبل الرسل (وكتبه ورسله) الإيمان بالكتب أيضا إيمان إجمالي، يتحقق الإيمان بهذا الركن بأن يؤمن العبد أن الله جل وعلا أنزل كتبا مع رسله إلى خلقه، جعل في هذه الكتب الهدى والنور والبينات وما به يصلح العباد، وأن هذه الكتب التي أُنزلت مع الرسل كلها حق؛ لأنها من عند الله جل وعلا، والله جل وعلا هو الحق المبين، وما كان من جهة الحق فهو حق، ويوقن بذلك يقينا تاما، ثم يوقن ويؤمن إيمانا خاصا بآخر هذه الكتب ألا وهو القرآن، فكما أنه يؤمن بالكتب السابقة التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى ونحو ذلك, يؤمن بها إيمانا عاما على ما أنزله الله جل وعلا على أنبيائه ورسله، فإنه يؤمن به إيمانا خاصا بهذا القرآن، وأنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود، وأنه حجة الله على الناس إلى قيام الساعة، وأنه به نُسخت جميع الرسالات وجميع الكتب من قبل، وأنه حجة الله الباقية على الناس، وأن هذا الكتاب مهيمن على جميع الكتب وما فيه مهيمن على جميع ما سبق, كما قال جل وعلا في وصف كتابه ?وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ?[المائدة:48], وأن ما فيه من الأخبار يجب تصديقها، وما فيه من الأحكام يجب امتثالها, وأن من حكم بغيره فقد حكم بهواه, ولم يحكم بما أنزل الله. هذا كله من الإيمان الخاص بالقرآن.(21/123)
قال بعد ذلك (واليوم الآخر) هذا هو الركن الخامس؛ الإيمان باليوم الآخر يعني الإيمان بيوم القيامة، وتحقيق هذا الركن يكون بأن يوقن هذا العبد يؤمن بغير شك بأن ثَم يوم يعود الناس إليه، يُبعثون فيه وإليه، يحاسبون فيه، وأن كل إنسان مَجْزِيٌّ بما فعل، لأن الأمر ليس منتهيا بالموت، بل ثَم يوم يجتمع فيه الناس فيقتص من الظالم إلى المظلوم ويحاسب الناس على أعمالهم، كما قال تعالى ?وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ?[الزمر:70], إذا آمن بهذا القدر، وأن هناك يومٌ سيكون، وأنه سيبعث من جديد، فإنه قد حقق هذا الركن. بعد ذلك الإيمان التفصيلي باليوم الآخر هذا يتبع العلم بما جاء في الكتاب والسنة من أحوال يوم القيامة، من أحوال القبور، أحوال ما يكون يوم القيامة، الإيمان بالحوض، بالميزان، الإيمان بالصحف، الإيمان بالصراط، الإيمان بأحوال الناس في العرصات، أحوال الناس بعد أن يجوزوا الصراط يعني المؤمنين الذين يدخلون الجنة، وما يكون بعد أن يجوزوا الصراط، ومن يدخل الجنة أولا، وأحوال الناس في النار ونحو ذلك، أحوال الظُّلمة، أحوال الجسر، هذه كلها أمور تفصيلية لا يجب الإيمان بها على كل أحد، إلا من سمعها في النصوص فإنه يجب عليه الإيمان بما سمع، لكن لو قال قائل: أنا لا أعلم هل ثَمَّ حوض أم لا؟ لا أدري هل ثم ميزان أم لا؟ ونحو ذلك، يُعرف بالنصوص فإن عرف فأنكر وكذَّب فيكون مُكذِّبا بالقرآن وبالسنة، أما تحقيق هذا المقام الذي هو اليوم الآخر، يؤمن بأن ثم يوم يعود فيه الناس، فيجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. فلو سألت أحدا قلت له: هل ثم يوم آخر يعود فيه الناس؟ قال: بلا شك هناك يوم القيامة يُبعث فيه ويحاسب الناس، فيه أهوال. وسكت، بهذا حقق الركن وهو الإيمان باليوم الآخر، إذا سألته هل تؤمن بالحوض؟ قال: أُوشْ الحوض؟ أنا ما أعرف هذا الحوض. هل تؤمن بالميزان؟ أنا ما أعرف. يُعرَّف(21/124)
النصوص الدالة على ذلك, لأن هذا من العلم التفصيلي الذي إنما يجب العلم به بعد إخباره بما جاء في النصوص عليه.
السادس قال (وبالقدر خيره وشره) الإيمان بالقدر، تحقيق هذا الركن أن يعلم ويعتقد؛ يؤمن بأن كل شيء يحدث في هذا الملكوت بخلق الله، قد سبق به قدر، وأن الله جل وعلا عالم بهذه الأحوال وتفصيلاتها بخلقه قبل أن يخلقهم، وكتب ذلك، وإذا آمن أن كل شيء قد سبق به قدر الله فيكون حقق هذا الركن، والإيمان بالقدر؛ الإيمان الواجب يكون على مرتبتين:
? المرتبة الأولى الإيمان بالقدر السابق لوقوع المقدر: وهذا يشمل درجتين:
الأولى العلم السابق: فإن الله جل وعلا يعلم ما كان وما سيكون وما يكون وما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، علم الله السابق بكل شيء بالكليات و بالجزئيات، بجلائل الأمور وبتفصيلات الأمور، هذا العلم السابق كما قال جل وعلا في آخر سورة الحج ?أَلَمْ تَعْلَمْ([11]) أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ?[الحج:70], وقال جل وعلا ?وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ?[الأنعام:59], فبيَّن الله جل وعلا أن علمه بالأشياء سابق، وأنه يعلم كل شيء؛ الكليات والجزئيات، الأمور الجلية وتفاصيل الأمور، هذا العلم الأول، وهذا العلم لم يزل الله جل وعلا عالما به، علمه جل وعلا بهذه الأشياء بجميع تفاصيل خلقه، عِلْمُه بها أَوَّل يعني ليس له بداية.(21/125)
الدرجة الثانية الكتابة: أن يؤمن العبد أن الله جل وعلا كتب ما الخلق عاملون، كتب أحوال الخلق وتفصيلات ذلك قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وذلك عنده في كتاب جعله في اللوح المحفوظ، كما قال جل وعلا (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) فأثبت أنه في كتاب وقال جل وعلا ?وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ?[القمر:53], يعني قد سُطِّر وكُتِب في اللوح المحفوظ، وقال جل وعلا ?أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ?[الحج:70]، بيّن أن كل شيء إنما هو في كتاب، وهذا قد جاء أيضا في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قدر الله مقادير الخلائق يعني بالكتابة قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة».
هاتان الدرجتان في المرتبة الأولى؛ المرتبة الأولى تسبق وقوع المقدر، هذه المرتبة الأولى تحوي درجتين.
? المرتبة الثانية أيضا تحوي درجتين وهي تواكب أو تقارن وقوع المقدر:(21/126)
أولى الدرجتين الإيمان بأن مشيئة الله جل وعلا نافذة: وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون، فليس ثم شيء يحدث ويحصل في ملكوت الله جل وعلا إلا وقد شاءه الله جل وعلا، وقد أراده الله جل وعلا كونا، سواء في ذلك طاعات المطيعين أو عصيان العاصين، سواء في ذلك إيمان المؤمنين أو كفر الكافرين، فكل شيء يحصل في ملكوت الله إنما هو بإذنه ومشيئته وإرادته الكونية؛ لأن المشيئة ما تنقسم، التي تنقسم الإرادة, بإذنه ومشيئته وإرادته الكونية، ومشيئة الله إذا أطلقت يُعنى بها الإرادة الكونية، الإرادة تنقسم إلى إرادة كونية وإرادة شرعية، فأما المشيئة فهي مشيئة الله جل وعلا في كونه، هذه الدرجة الأولى هذه تواكب وقوع المقدر، فلا يمكن أن يعمل العبد شيء يكون مقدرا من الله جل وعلا إلا وهذا الشيء قد شاءه الله جل وعلا.
الدرجة الثانية أن يؤمن بأن الله جل وعلا خالق كل شيء: كل شيء مخلوق الله جل وعلا خالقه؛ أعمال العباد، أحوال العباد, السماوات، الأرض، من في السماوات ومن في الأرض, ما في السماوات وما في الأرض, الجميع الذي خلقه هو الله جل وعلا، فإذا أراد العبد أن يعمل شيئا فإنه لا يكون إلا إذا شاءه الله جل وعلا, وخلق الله جل وعلا ذلك الشيء، طاعات المطيعين خلقها الله جل وعلا، عصيان العاصين خلقه الله جل وعلا، إذا توجه العبد بإرادته إلى أن يفعل شيء إذا شاءه الله كونا وقع بعد خلقه له، إذا لم يشأه ولو أراده العبد لم يقع، كما قال جل وعلا ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[التكوير:29]، قال ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا?[الإنسان:30]، مرتبة الخلق عامة.(21/127)
إذن هذا الإيمان الواجب يصح أن نقول أنه إيمان تفصيلي، مرتبة قبل وقوع المقدر، العلم الأزلي؛ العلم الأول، والكتابة التي هي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم ما يواكب وقوع المقدر وهو أنّ العبد عنده إرادة وعنده قدرة؛ إذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقدرة التامة حصل منك الفعل، توجهت إلى الفعل حصل منك الفعل لكن لا يحصل منك إلا بعد أن يشاء الله جل وعلا ذلك منك، وإلا بعد أن يخلق الله جل وعلا ذلك الفعل منك، الفعل فعل العبد حقيقة، لكن الخالق لهذا الفعل هو الله جل وعلا، لما؟ لأن من العبد لا يكون إلا بإرادة جازمة وبقدرة تامة، والإرادة والقدرة قد خلقها الله جل وعلا، الله جل وعلا خلق ما به يكون الفعل ويخلق الفعل نفسه إذا توجه إليه العبد.
فحصل بهذا الإيمان التفصيلي الواجب بالقدر.
وبهذا البيان تتضح لك أركان الإيمان الستة؛ الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.(21/128)
قال الشيخ بعد ذلك رحمه الله (والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ)-يعني الذي يُمدح أصحابُه- (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) النبيين يعني الرسل، وهنا ذكر الخمسة هذه، آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين فهذه الآية دليل على خمسة من أركان الإيمان، وكثيرا ما تأتي هذه الخمسة مقترنة كقوله جل وعلا في آخر سورة البقرة ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ?[البقرة:285]، ذكر الأربعة ?لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ?[البقرة:285]، وكقوله ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا?[النساء:136]، وكقوله جل وعلا ?الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا(150)أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا?[النساء:150-151]، ونحو ذلك من الآيات، وقد جاءت أيضا في حديث جبريل المشهور.(21/129)
بقي القدر، القدر أدلته في القرآن أدلة عامة بذكر القدر، وأدلة مفصلة لكل مرتبة من مراتب القدر، فمن الأدلة العامة ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى وهو قوله تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) وجه الاستدلال: مجيء (كُلَّ شَيْءٍ) يعني ليس ثم مخلوق من مخلوقات الله إلا وقد خلق بقدر سابق من الله جل وعلا، لا يخرج شيء عن هذه الكلية (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) و(كُلَّ) من ألفاظ الظهور في العموم، ومنه قوله تعالى ?وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا?[الفرقان:2]، وكل دليل فيه ذكر مرتبة من المراتب التي ذكرت يصلح دليلا على القدر لأنه دليل لبعضه.
هذا ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى في بيان المرتبة الثانية من مراتب الدين ألا وهي مرتبة الإيمان.
?????
المرتبةُ الثالثةُ: الإحسانُ، ركنٌ واحدٌ، وهو أنْ تعبدَ اللهَ كأنَّك تَراهُ فإنْ لم تكنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ، والدليلُ قولُهُ تعالى ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128], وقولُهُ تعالى ?وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[الشعراء:217-220], وقولُهُ تعالى ?وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ?[يونس:61] الآية.(21/130)
المرتبة الثالثة الإحسان قال(المرتبةُ الثالثةُ: الإحسانُ، ركنٌ واحدٌ، وهو أنْ تعبدَ اللهَ كأنَّك تَراهُ فإنْ لم تكنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ، والدليلُ قولُهُ تعالى ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128], وقوله تعالى ?وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[الشعراء:217-220], وقوله تعالى ?وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيه وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍِ?[يونس:61])
الإحسان الذي هو مرتبة من المراتب؛ إحسان العابد أثناء عبادته؛ وهو مقام المراقبة؛ مراقبة العابد لله جل وعلا؛ لربه جل وعلا أثناء عباداته، بل في أحواله كلها، لأنه إذا راقب ربه، بأنه قد علم أن الله جل وعلا مطلع عليه، كأنه يرى الله جل وعلا، فإن هذا يدعوه إلى إحسان العمل، وأن يجعل عمله أحسن ما يكون، وأن يجعل حاله في إقبال قلبه، وإنابته، وخضوعه، وخشوعه، ومراقبته لأحوال قلبه، وتصرفات نفسه، يجعل ذلك أكمل ما يكون لحسنه وبهائه، لأنه يعلم أن الله جل وعلا مطلع عليه.(21/131)
هذا المقام -مقام المراقبة- ركن واحد، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. أن تكون عابدا لله على النحو الذي أمر اللهُ جل وعلا به وأمر به رسولُه، وحالتك أثناء تلك العبادة التي تكون فيها مخلصا موافقا للسنة، حالتك أن تكون كأنك ترى الله جل وعلا، فإن لم تكن تراه، فلتعلم أن الله جل وعلا مطلع عليك، عالم بحالك، يرى ويبصر ما تعمل، يعلم ظاهر عملك وخفيه، يعلم خلجات صدرك، ويعلم تحركات أركانك وجوارحك. وبضعفه تضعف المراقبة لله جل وعلا، إذن فمقام الإحسان -مرتبة الإحسان- تعظم بعظم مراقبة الله جل وعلا، وتضعف بضعف مراقبة الله جل وعلا، فالعبد المؤمن أثناء عبادته إذا كان يعبد الله جل وعلا مخلصا على وَفق السنة، وحاله كأنه يرى الله عالم بأنه مطلع عليه يراه، هذه تجعله يحسن عمله، بل يجعل عمله وحاله أثناء العمل أحسن ما يكون.
(والدليل قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128]) وجه الاستدلال أن الله جل وعلا ذكر ها هنا معيته للذين اتقوا ولمن هم محسنون قال (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) وهذه المعية تقتضي في هذا الموضع شيئين:
الأول: أنه جل وعلا مطلع عليهم، عالم بهم، محيط بأحوالهم، لا يفوته شيء من كلامهم، ولا من أحوالهم، ولا من تقلباتهم.
والثاني: أنه جل وعلا معهم ناصر لهم بتأييده، ونصره وتوفيقه, المعية ها هنا معية خاصة بالمؤمنين، ومعلوم أن المعية الخاصة للمؤمنين تُفسر بما تقتضيه، وهو أنها معية نصر وتأييد وتوفيق وإلهام ونحو ذلك، وهذا متضمن للمعية العامة، وهي معية الإحاطة والعلم ونحو ذلك.
إذن وجه الاستدلال:
أولا: أنه ذكر المعية.(21/132)
الثاني: أنه ذكر معيته للمحسنين فقال (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) والمحسنون ها هنا جمع المحسن، والمحسن اسم لفاعل الإحسان، ففاعل الإحسان اسمه محسن، والإحسان هو الذي نتكلم عليه؛ المرتبة الثالثة.
فإذن وجه الاستدلال من جهتين: أولا ذكر المعية، الثانية ذكر المحسنين.
(وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) وجه الاستدلال من هذه الآية أنه ذكر رؤية الله جل وعلا لنبيه حال عبادة نبيه، وأنه يراه في جميع أحواله حين يقوم وتقلَّبَه في الساجدين من صحابته أثناء صلاته بهم عليه الصلاة والسلام؛ قال واصفا نفسه جل وعلا (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) وهذا دليل الشق الثاني من ركن الإحسان وهو قوله (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، دليل الرؤية ها هنا قوله (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يعني في المصلين.
قال أيضا (وقوله تعالى ?وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ?[يونس:61]) وجه الاستدلال قوله تعالى هنا (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) وشهود الله جل وعلا بما يعمله العباد من معانيه رؤيته جل وعلا لهم وإبصاره جل وعلا بهم، رؤيته جل وعلا من معانيه كونه جل وعلا شهيدا، قال جل وعلا هنا (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) هذا الاستدلال ظاهر؛ لأن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تراه فإنه يراك.(21/133)
قال جل وعلا هنا (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي شأن تكون فيه (وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أنواع تلاوتك للقرآن، وأحوال ذلك في الصلاة، خارج الصلاة، وأنت على جنبك، وأنت قائم، أحوال ذلك (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) أحوال عملكم، كل ذلك منكم الله جل وعلا شهيد عليه، يرى أحوالكم فيه على تفصيلاتها، شاهد وشهيد عليكم، يرى أعمالكم، يسمع كلامكم، ويبصر أعمالكم جل وعلا، وهذا دليل أيضا ظاهر الاستدلال.
?????(21/134)
والدليلُ مِنَ السُّنَّة حديثُ جبريل المشهور عن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن جُلوسٌ عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذا طلع علينا رجلٌ شديدٌ بياضِ الثياب، شديد سوادِ الشَّعر، لا يُرى عليه أثَرُ السَّفر، ولا يعرفه مِنَّا أحد، حتّى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاسند رُكبَتَيْه إلى رُكبَتَيْه، ووضع كَفَّيْه على فخذيه، وقال: «يا مُحَمَّدُ؛ اَخْبِرْنِي عَنِ الإسلام» فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « الإِسْلاَمُ أن تَشْهَدَ أَن لا إلَهَ إلاَّ ا لله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ ا لله، وَتُقِيمَ الصَلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اِسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا»، قال: «صَدَقْتَ». فعجبنا له: يسأله ويُصَدِّقُه ! قال: «فأخبرني عن الإيمان ؟»، قال:«أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُِلهِ وَاليَوْمِ الآخِرْ،وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ»، قال: «صدقت». قال: «فأخبرني عن الإحسان؟» ، قال: «أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهْ فَإِِنَّهُ يَرَاكْ». قال: «فََأَخْبِرِْني عَنْ السَّاعة؟» قال: «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ». قال: «فََأَخْبِرِْني عَنْ أَمَارَاتِهَا ؟» قال: «أَنْ تَلِِدَِِ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاَةََ الْعُرَاةَ الْعَالَةََ رِعاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ». ثُمّ انْطَلَق. فَلَبِثتُ مَلََََََََِيا، ثم ّ قال:« يَا عُمَرُ, أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قلت: الله ورسوله أعلَم، قال: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ, أَتَاكُمُ يُعَلِمُكُمْ ِدينَكُمْ ».(21/135)
ثم ذكر رحمه الله الدليل من السنة، وهو حديث جبريل المشهور عن عمر رضي الله عنه، وهو الذي شرحناه في الأربعين النووية، وهو ثاني الأحاديث النووية الأربعين، وبهذا يتم ذكر الأصل الثاني من أصول دين الإسلام، ألا وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة.
ملخص ذلك: ذكر الشيخ أن الأصل؛ الأصل الثاني معرفة دين الإسلام بالأدلة، عرّف الإسلام، وذكر أركانه، وذكر معنى الشهادتين، معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فسّر التوحيد وأدلة ذلك شهادة أن محمدا رسول الله، وبين معنى الشهادة بأن محمدا رسول الله، ثم بين أدلة أركان الإسلام الباقية، ثم ذكر المرتبة الثانية وهي الإيمان كما ذكرنا لكم هذا اليوم، ثم ذكر المرتبة الثالثة وهي الإحسان، ودلائل ذلك كله على نسق ووضوح يسهل معه الفهم ويسهل معه الإفهام.
ولهذا ينبغي لنا أن نحرص على هذه الرسالة؛ تعليما لها للعوام، وللنساء في البيوت، وللأولاد ونحو ذلك، على حسب مستوى من يخاطب في ذلك، وقد كان علماؤنا رحمهم الله تعالى يعتنون بثلاثة الأصول هذه تعليما وتعلما، بل كانوا يلزمون عددا من الناس بعد كل صلاة فجر أن يتعلموها، أن يحفظوا هذه الأصول ويتعلموها، وذلك هو الغاية في رغبة الخير، ومحبة الخير لعباد الله المؤمنين، إذْ أعظم ما تُسدي للمؤمنين من الخير، أن تُسدي لهم الخير الذي ينجيهم حين سؤال الملكين للعبد في قبره، لأنه إذا أجاب جوابا حسنا -جوابا صحيحا- عاش بعد ذلك سعيدا، وإن لم يكن جوابه مستقيما ولا صحيحا عاش بعد ذلك، والعياذ بالله على التوعد بالشقاء والعذاب.
أسأل الله جل وعلا أن يُنَوِّر بصائرنا، وأن يقينا الزلل والخطل، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????(21/136)
الأصلُ الثالثُ: معرفةُ نبيكُمْ محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وهو محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطلبِ بنِ هاشمٍ، وهاشمُ مِنْ قريشٍ، وقريشٍ مِنَ العربِ، والعربُ مِنْ ذرّيّةِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ، عليْهِ وعلى نبيّنا أفضلُ الصَّلاةِ والسّلامِ، وله مِنَ العُمْرِ: ثلاثٌ وسِتُّونَ سنةً، منها أربعون قبل النُّبُوَّةِ، وثلاثُ وعشرون نبيّا رسولا، نُبِّئَ بِـ (اقرأ) وأُرْسِلَ بـ(المدّثر)، وبلدُهُ مكّةَ، وبعثَهُ اللهُ بالنَّذَارَةِ عنِ الشِّركِ، ويدعُو إلى التَّوحيدِ، والدليلُ قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنذِرْ(2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3)وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6)وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ?[المدثر:1-7] ومعنى (قُمْ فَأَنذِرْ) يُنْذِرُ عنِ الشِّركِ ويدعُو إلى التَّوحيدِ، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي: عَظِّمْهُ بالتَّوحيدِ، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي: طَهِّرْ أعمالَكَ عنِ الشِّركِ، (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرُّجْزُ: الأصنامُ، وهجرُها تَرْكُها وأهلَها، والبراءَة منها وأهلِها.
أخذَ على هذا عشْرَ سِنينَ يدعُو إلى التوحيدِ، وبعدَ العشْرِ عُرِجَ به إلى السماءِ وفُرِضَتْ عليه الصلواتُ الخمسُ، وصلَّى في مكّةَ ثلاثَ سنينَ، وبعدَها أُمِرَ بالهجرةِ إلى المدينةِ.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق الحمد وأعلاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أما بعد:(21/137)
فبقي من هذه الرسالة ما يحتاج شرحه إلى أكثر من مجلس، ولهذا رغبة في إتمامها قبل انقضاء هذه الدروس، فإننا غدا إن شاء الله تعالى سيكون هناك درس فيها فقط لمدة ساعة إلا ربع تقريبا، وكذلك إن لم نُتِمَّها غدا سيكون أيضا يوم الخميس بعد العصر مباشرة في قريب من تلك المدة، لأن إلمام مثل هذه الرسالة، وعدم إرجاء الإنهاء إلى وقت آخر من المهمات، ولهذا قد يكون الكلام فيه بعض الاختصار، ليس على نسق أوله للرغبة في إنهاء ما تبقى إن شاء الله تعالى ويَسَّرَ وأَعانَ.
قال رحمه الله تعالى (الأصل الثالث معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم) الأصل الأول: معرفة العبد ربه يعني معبوده، والأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، والأصل الثالث: معرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد ها هنا بالمعرفة العلم به على نحو ما أوضحت لكم في الكلام على الأصل الأول، فمعرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم معناه العلم به وبحاله؛ العلم بنسبه، وأنه من العرب، بل من أشرف العرب قبيلةً، وأنه كان في عمره له كذا وكذا، نبئ وأرسل، قام داعيا يدعو إلى التوحيد، وينذر عن الشرك، وما يتصل بذلك من المباحث.
فحقيقة هذا الأصل العلم ببعض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا العلم متعلق لتكون الشهادة بأن محمدا رسول الله على علم ومعرفة، فإنه إذا قال أشهد أن محمدا رسول الله، فإذا قيل له من محمد هذا؟ فلم يعرفه، كانت شهادته مدخولة، ولهذا فإن معرفة هذا الأصل يكون به الجواب بتوفيق الله على سؤال القبر الثالث؛ ألا وهو من نبيك؟ يشهد المسلم أن محمدا رسول الله، لكن هذه الشهادة يتبعها أن يكون عالما وعارفا بمحمد هذا من هو عليه الصلاة والسلام.
فقال رحمه الله تعالى موضحا هذا الأمر (وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم) تسميته عليه الصلاة والسلام بمحمد:(21/138)
· قال طائفة من أهل العلم: لم يُسمّ قبله عليه الصلاة والسلام في العرب أحد بهذا الاسم، وإنما كانت العرب تسمي أحمد، وتسمي حَمْد، وكل ذلك مشتق من الحمد، يعني رغبة في أن يكون هذا الولد من ذوي الحمد، يعني ممن يحمده الناس على خصاله.
· وقال آخرون: بل العرب تَسَمَّت بمحمد، لكن قليل، إمّا اثنان أو ثلاثة، وهذا الثاني صحيح، إن صح النقل عن أهل التاريخ بتسمية أولئك النفر بمحمد، ممن هم في عصره عليه الصلاة والسلام، أو قبل ذلك بقليل.
محمد معناه كثير الخصال التي يستحق عليها الحمد، فذو العرش محمود وهذا محمد؛ ذو العرش الله جل وعلا صفاته وأفعاله وأسمائه كلها يُحمد عليها؛ يُثنى عليه بها، وتسمية المولود بمحمد تسمية جد النبي عليه الصلاة والسلام له بمحمد، على رجاء أن يكون من أهل خصال الخير، التي يكثر من أجلها حمد الناس له عليها، وهذا كان وصار ظاهرا، فإنه عليه الصلاة والسلام خصاله كلها, وصفاته كلها يُحمد عليها, لأن خصاله عليه الصلاة والسلام خير, حتى ما كان منه قبل البعثة قبل النبوءة وقبل الرسالة. وقد كان كثير صفات الخير, فإذن التسمية بمحمد تسمية من قبيل التفاؤل, كانت العرب تعرف ذلك, كانوا يسمون خالدا تفاؤلا بأن يكون من أهل المكث الطويل في الدنيا؛ يعني من أهل الأعمار الطويلة, كانوا يسمون عاصيا تفاؤلا بأن يكون على أعدائهم من ذوي العصيان, كانوا يسمون صخرا ليكون شديدا كالصخر على أعدائهم... وهكذا, فكثير من العرب إذا سموا رأوا المعنى, وتسمية النبي عليه الصلاة والسلام لوحظ فيها ذلك, على رجاء أن يكون عليه الصلاة والسلام أن يكون كثير الصفات التي يحمد عليها, وكان ما أمّله جده في تسميته بمحمد, أمّل ما أمّله، فأعظم ذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام رسولا منزلا من عند الله جل وعلا.(21/139)
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي, وقريش أفضل العرب وصفوتهم, فأفضل قبائل العرب قريش, وهذا كما جاء في الحديث «إن الله اصطفى قريشا من كنانة», وأفضل قريش بنو هاشم, وأفضل بني هاشم محمد عليه الصلاة والسلام, فكما جاء في الحديث الصحيح قال بعد ذلك «فأنا خيار من خيار من خيار». قريش من العرب, والمراد بالعرب العرب المستعربة, لأن العرب قسمان عند أهل النسب:
عرب عاربة: وهؤلاء انقرضوا إلاّ قحطان في اليمن.
وعرب مستعرِبة: وهم الذين لم يكونوا أصلا من العرب, لكنهم دخلوا وصاروا عربا بانفتاق لسانهم عن العربية, وبتكلمهم بالعربية, وأكثر قبائل العرب من هذا الجنس؛ العرب المستعربة وهم العرب، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:«أول من فُتِق لسانُه بالعربية الفصحى إسماعيل عليه السلام» وذلك كما هو معلوم أن إسماعيل لما أتى به أبوه إبراهيم, وأتى بأمه وجعله في مكة, ناسب العرب فصار مُلْهَما من عند الله جل وعلا بالانفتاق؛ بانفتاق اللسان عن العربية الفصحى, وهذا كما جاء في الحديث على أن كثير من أهل النسب ينازعون في هذا الأخير.
قال (والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل) يعني أن قبائل العرب, القبائل المعروفة؛ قريش, وهذيل, بنو تميم, بنو دوس إلى آخره، أن هؤلاء جميعا من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام, النسَّابون يصلون بالنسب تارات بأنساب القبائل إلى إسماعيل, ولكن المعروف عند العرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقبله, أنهم يمكنهم وصل أنسابهم إلى عدنان, وأما بعد ذلك إلى إسماعيل فإنه لا يثبت ولا يمكن التصديق به.(21/140)
العرب كثيرون، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث من العرب كما قال جل وعلا ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ?[التوبة:128] (مِنْ أَنفُسِكُمْ) يعني من جنسكم, من قبائلكم من جنسكم العربي، ?عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ?[التوبة:128] وقال جل وعلا ?لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ?[آل عمران:164]، ونحو ذلك من الآيات, فإذن النبي عليه الصلاة والسلام ابنٌ لعبد الله, وهو والده الأدنى, وابن لإسماعيل بن إبراهيم, وهو والده الأعلى، وهذان وهما عبد الله وإسماعيل هما الذبيحان, فقد جاء في حديثٍ ضعيف السند لكنه صحيح المعنى, أنه قال «أنا ابن الذبيحين» المراد بالذبيحين عبد الله لأنه كما تعلمون قصة أبيه لما استقصم فنذر أن يذبح إن خرج....([12]) فنذر أن يذبح ولده, ثم حصل قصة ما هو معروف فصار ذبيحا, يعني قد كاد أن يذبح، إسماعيل كذلك, فهو الذي جاء فيه قول الله جل وعلا ?يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى?[الصافات:102] وهذا هو الصحيح, فإن الابن الذي استسلم لأبيه, صابرا, محتسبا, مطيعا, لأبيه ومطيعا لربه جل وعلا, هو إسماعيل أبو العرب.(21/141)
واليهود تزعم أن الذبيح هو إسحاق, وهذا باطل, ذلك لأن الله جل وعلا قال في سورة الصافات هذه ?فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ(101)فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى?[الصافات:101-102]، فوصف هذا الابن بأنه حليم, وهذا الوصف بالحلم في القرآن لإسماعيل عليه السلام, وأما إسحاق فإنه يوصف بأنه عليم؛ قال (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) هذا من صفة إسماعيل, ولهذا في هذه الآيات بعدها قال ?وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ?[الصافات:113] فبشّر إسحاق بعد ذلك, فالصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم هو ابن الذبيح عبد الله والده الأدنى، وهو ابن الذبيح إسماعيل والده الأعلى, وأما القول بأن الذبيح إسحاق, فإن هذا باطل, وإنما دسه اليهود في المسلمين, حتى كثُر في كتب التفسير, حتى يأخذوا هذا الفخر وهو أن إسحاق عليه السلام هو الذي صبر, واحتسب واستسلم وابتلي بهذا البلاء العظيم.
قال (والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام) الخليل هو إبراهيم كما قال جل وعلا ?وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا?[النساء:125]، ووُصف بالخُلَّة إبراهيم ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم, فإبراهيم هو خليل الله, وموسى كليم الله, وأمّا محمد عليه الصلاة والسلام نبيُّنا فإنه اجتمع فيه الوصفان اللذان خُصَّ بهما إبراهيم وموسى, فهو خليل الله, كما أن إبراهيم خليل الله, وهو كليم الله, كما أن موسى كليم الله, كلّمه الله جل وعلا ليلة المعراج.(21/142)
قال هنا (وله من العمر ثلاث وستون سنة) يعني من مبدأ ميلاده إلى وفاته عليه الصلاة والسلام عمره ثلاث وستون سنة, ولد عليه الصلاة والسلام عام الفيل, العام المعروف, وعاش أربعين سنة, ثم بعد ذلك نُبئ وبعدها أُرسل, ولما مضى عليه بعد ذلك عشر سنين عرج به كما ذكر, وبعد ذلك بثلاث سنين ترك مكة إلى المدينة مهاجرا, فصار عمره إذن حين الهجرة ثلاثا وخمسين سنة, ومكث في المدينة عشرة أعوام وأشهر, وصار عمره ثلاثا وستين سنة عليه الصلاة والسلام، فصَّل ذلك فقال (منها أربعون قبل النبوة) النبوّة تسبق الرسالة, (أربعون قبل النبوة, وثلاث وعشرون نبيا رسولا) قال بعض أهل العلم: أنه عليه الصلاة والسلام مكث ثلاث سنين نبيا, ثم عشرون سنة نبيا رسولا, لأنه كما قال الشيخ هنا (نبئ بـ(قرأ) وأرسل بـ (مدثر)) قال (أربعون قبل النبوة) ثم قال(نبئ) وهذان لفظان مختلفان الأول النبوة, والثاني قال نُبئ، نبئ من النبوءة بالهمز، ونُبِّيَ من النبوة, وفرق بين النبوة والنبوءة, وفرق بين النبي والنبيء لغة, أما من حيث الشرع فالنبي والنبيء واحد, وهما قراءتان مشهورتان سبعيتان متواترتان بالقرآن كله ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ?[التحريم:01]، القراءة الأخرى ?يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ?[التحريم:01]، والنبيين, والقراءة الأخرى والنبيئين ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ?[الأحزاب:01]، ?يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ اتَّقِ اللَّهَ?[الأحزاب:01]، قراءتان مشهورتان, أشهر من يقرأ بالنبي عاصم وأشهر من يقرأ بالنبيء نافع، النبوة من الارتفاع, كأنه صار في نَبْوَة من المكان, يعني في مرتفع منه, وسبب هذا الارتفاع الإنباء, والنبوءة من الإنباء أنبأه فصار نبيئا, يعني منبئا قال (نبئ بإقرأ) هذا من الإنباء، (نُبِّيَ بإقرأ ) لا يصلح؛ لأن نبي من الارتفاع, ليس من الإنباء والإخبار والإيحاء, نبي من(21/143)
الارتفاع فيقال: نبوة فإذا أردت الفعل تقول نبئ، أنبئ لأنه من الإنباء فإذن نقول يأيها النبي، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, لأنه صار مرتفعا عن غيره من أهل الأرض بما أوحى الله جل وعلا إليه, أو النبوءة وهي التي هنا قال (نبئ ) بمعنى أوحي إليه منبئا به، نبئ بإقرأ، قبل ذلك قال (ثلاث وعشرون نبيا رسولا)يعني يريد بعضا منها نبيا, وبعضا منها نبيا رسولا.
مرّ معنا الفرق بين النبي والرسول, وأن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه, أو أمر بتبليغه لقوم موافقين, معلوم أنه إذا قلنا لم يؤمر بتبليغه, أن هذا على سبيل الوجوب, لكن قد يبلغ ولا يكون التبليغ واجبا عليه, فالنبي هو من أوحي إليه بشرع, يعني بدين, وأمر بتبليغه أو لم يؤمر بتبليغه. إذا قلنا لم يؤمر بتبليغه يعني وجوبا, وقد يبلغ ذلك استحبابا, فالنبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يرسل بالمدثر بلغ ما أوحى الله جل وعلا إليه, بلغه خاصته كأبي بكر, وكخديجة, ونحو ذلك. وهذا التبليغ على التعريف ليس على سبيل الوجوب, بل هذا من جهة الاستحباب, لأن هذه فترة النبوة, فإذا كان تعريف النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه, يعني وجوبا, أو أمر بتبليغه لقوم موافقين فإنه يكون تبليغه فيما لو بلغ يكون على وجه الاستحباب, ليس على وجه المطالبة من الله جل وعلا له بذلك, وقد يطالَب؛ يؤمر بتبليغه، فإذا أمر بتبليغه لقوم يخالفونه, لقوم مشركين, فإنه يكون ذلك الأمر إرسالا, ولهذا قال (نُبِّئَ بِـ(اقرأ)) قال جل وعلا بسم الله الرحمن الرحيم ?اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ?[العلق:01] كما هو معروف في حديث عائشة المشهور أنها قالت -وهذا في أول الصحيح-: أول ما بُعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حُبِّبَ إليه الخلاء فكان يتحنث؛ أي يتعبد الليالي ذوات(21/144)
العدد. وساقت خبر إتيانه بالوحي, ورجوعه إلى خديجة, وما حصل في ذلك. فنبئ باقرأ جاءه الوحي, فقال«ما أنا بقارئ»، قال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» ظنّ عليه الصلاة والسلام أن جبريل يريد أن يقرأ شيئا مكتوبا, فقال: «ما أنا بقارئ»، يعني لست من أهل القراءة, خلافا لما قد يظن, أو ما حمل عليه بعضهم أن قوله «ما أنا بقارئ»، لست بقارئ يعني لن أقرأ, ولم يرفض هذا الطلب عليه الصلاة والسلام, لكن قال «ما أنا بقارئ»، يعني لست بقارئ, لست من أهل القراءة, لأنه لا يقرأ ولا يكتب عليه الصلاة والسلام, فقال له مرة أخرى: اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ»، ثم جاءه في الأخيرة ككل مرة غطّه, ثم قال ?اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ?[العلق:1-4]، فنزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من غار حراء الذي كان يتحنث فيه يرجف بها فؤادُه, حتى أتى خديجة, فقصّ عليها الخبر، فقالت له: كلا والله لا يخزيك الله أبدا, إنك لتحمل الكلّ, وتعين على نوائب الدهر, وتصل الرحم. أو كما قالت، ثم قالت لورقة بن نوفل ما قاله لها عليه الصلاة والسلام، وقص عليه -عليه الصلاة والسلام- الخبر, فقال: هذا والله هو الناموس الذي كان يأتي موسى. الناموس يعني ملك الوحي الذي كان يأتي موسى ليتني كنت فيها -يعني في مكة- حيا, إذ يخرجك قومُك، قال: أو مخرجي هم؟ قال: لم يأتِ أحد بمثل ما جئت به إلا عُودي. فما لبث ورقة أن توفي وفتر الوحي. أو كما جاء في الحديث, حديث عائشة المعروف المخرج في الصحيحين, وهو في أوائل صحيح البخاري.(21/145)
(نبئ بـ(اقرأ)) فمكث فيها مدة, وهذه المدة فتر فيها الوحي, ثم بعد ذلك أرسل بالمدثر, أنزل الله جل وعلا عليه ?يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنذِرْ?[المدثر:1-2]، فصار الواجب هنا الإنذار, والإنذار يكون كما سيأتي, يكون لقوم وقعوا في شيء ينذرون عنه، فصار هذا علامة على الرسالة، (قُمْ فَأَنذِرْ) أنذر من؟ جاء مبينا في الآية الأخرى حيث قال ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ?[الشعراء:214]، هذه كانت بداية الإرسال وبداية الإنذار عليه الصلاة والسلام.
(وأُرسِل بـ(المدثر))؛ أرسل يعني صار رسولا بنزول أول سورة المدثر عليه.
(وبلده مكة) هو من أهل مكة عليه الصلاة والسلام؛ فقد كان يقول في مكة «إنك لأحب بلاد الله إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت منك» بلده مكة، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها، وذكر لما هاجر إلى المدينة أو قبل ذلك -وَهْمٌ مني الآن- قال: «إني لأعرف حجرا بمكة ما لقيته إلا سلَّم علي» كانت أحجار مكة تحبه عليه الصلاة والسلام، وهذا الحجر بخصوصه أنطقه الله للسلام عليه، عليه الصلاة والسلام قال: «إني لأعرف حجرا بمكة ما مررت عليه إلا سلم علي» يعني بصريح السلام: السلام عليك يا رسول الله.
(وبلده مكة) وهذه البلد هي التي نبئ فيها، وهي التي أرسل فيها، وهي التي بها عشيرته وقومه وأهله وقرابته، وبعثه الله جل وعلا ينذر ويبشر ?يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنذِرْ?[المدثر:1-2]، أوضح الشيخ هنا قال (بعثه الله بالنذارة عن الشرك يدعو إلى التوحيد)، (قُمْ فَأَنذِرْ) ينذر عن أي شيء؟ ينذر عن الشرك ، يخوّف، الإنذار إعلامٌ فيه تخويف عن شيء يمكن تداركه، لكن وقت تداركه يطول بخلاف الإشعار، هناك عندنا ثلاثة ألفاظ: إعلام، إنذار، إشعار:
الإعلام: مجرد إيصال العلم؛ خبر.
الإنذار: إعلام فيه تخويف، وهناك فترة يمكن تصحيحها.
الإشعار: إعلام فيه تخويف، لكن مدة استدراكه قليلة كما قال الشاعر:(21/146)
أنذرتَ عمرا وهو في مَهَل
قبل الصباح فقد عصى عمرُو
فدل على أن الإنذار يكون بعده مدة يمكن الاستدراك بها، (ينذر عن الشرك) أيضا يخوف من النار، يخوف من عذاب الله، يخوف من سخط الله كما قال جل وعلا ?فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ?[فصلت:13] فإذا الإنذار يكون عن الشرك، وعما يكون عقابا لأهل الشرك من أنواع العقوبات، في الدنيا بالهلاك والاستئصال، وفي الآخرة بالعذاب والنكال، (بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد) الإنذار والنهي عن الشرك مقدم هنا، قدمه على الدعوة إلى التوحيد، وهذا التقديم هو المفهوم من كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وهو المفهوم من قوله تعالى (قُمْ فَأَنذِرْ(2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)، (قُمْ فَأَنذِرْ) يعني أنذر عن الشرك، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)كما سيأتي معناه، أن معناه عظمه بالتوحيد، فإذن قال (بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد) هو معنى لا إله إلا الله، ذكر العلماء أن ثمَّ مناسبة ها هنا وهي أن الإنذار عن الشرك هذا فيه تخلية، والدعوة إلى التوحيد تحلية، ومن القواعد المقررة أن التَّخْلِيَة تسبق التَّحْلِيَة، لهذا النهي عن الشرك والإنذار عن الشرك إخراج لكل ما يتعلق به القلب؛ لأنه قال لا يتعلق القلب بأي أحد من هذه الآلهة، ثم إذا خلا القلب من التعلق بأحد، أمره بأن يتعلق بالله جل وعلا وحده دون ما سواه.(21/147)
قال هنا (والدليل قوله تعالى يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) الْمُدَّثِّرُ هو المتغطي؛ المتدثر بأغطيته وأكسيته وملابسه أو نحو ذلك. قال(قُمْ فَأَنذِرْ) هذا للوجوب، قال الشيخ رحمه الله (ومعنى (قُمْ فَأَنذِرْ) ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) عظمه بالتوحيد) يعني أن قوله تعالى (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) معناه خُصَّ ربك بالتكبير, لأنه قدم المفعول؛ أصل الكلام: كبِّر ربك. فقدَّم المفعول على العامل فيه وهو الفعل, فدل على الاختصاص, فقال (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) قال الشيخ معنى (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظّمه بالتوحيد, وهذه لاشك من الشيخ رحمه الله تعالى من العلم الغزير العظيم الذي يحتاج إلى إيضاح وبسط, ذلك أن التكبير جاء في القرآن وله خمسة موارد:
1- فتكبير الله جل وعلا يكون في ربوبيته, يعني اعتقاد أنه أكبر من كل شيء يُرى أو يُتوهم أو يُتصور أنه موجود, هو أكبر من كل شيء في ربوبيته, في ملكه, في تصريفه لأمره, في خلقه، في رزقه, في إحيائه, في إماتته, إلى آخر معاني الربوبية هذا الأول، قال جل وعلا ?وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا?[الإسراء:111]، الله أكبر يشمل هذا المعنى, ويشمل غيره من معاني التكبير التي ستأتي، إذن قوله هنا (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) يدخل فيه أولا اعتقاد أن الله جل وعلا أكبر من كل شيء في مقتضيات ربوبيته.
2- الثاني أن الله جل وعلا أكبر من كل شيء في استحقاقه الإلهية والعبادة وحده دونما سواه, فإن العبادة صُرفت لغير الله، وهو جل وعلا أكبر وأعظم وأجل من كلِّ هذه الآلهة التي صرفت لها أنواع من العبادة، فالتكبير يرجع إلى الربوبية وهو الأول, وهذا التكبير يرجع إلى استحقاقه إلى الإلهية.(21/148)
3- وتكبير وهو الثالث اعتقاد -كما قال (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)- أنَّ ربك أكبر من كل شيء في أسمائه وصفاته، فإنه في أسمائه أكبر من كل ذوي الأسماء، الأشياء لها أسماء، لكن أسماء الله جل وعلا أكبر من ذلك، أكبر يرجع الكبر هنا لأي شيء؟ لما فيها من الحسن، والبهاء، والعظمة، والجلال، والجمال ونحو ذلك، وكذلك في الصفات، فصفاته عُلا، كما قال جل وعلا ?وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?[الروم:27]، وقال جل وعلا ?وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى?[النحل:60] يعني له الاسم الأعلى، وله النعت الأعلى، وقال جل وعلا ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:4]، وقال جل وعلا ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا?[مريم:65]، ونحو ذلك، فهو جل وعلا أكبر من كل شيء في أسمائه وصفاته.
4- كذلك قوله (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) يعني في قضائه وقدره الكوني، فالله جل وعلا في قضائه وقدره الكوني أكبر؛ يعني أن قضاءه وقدره له فيه الحكمة البالغة، وأما ما يقضيه ويقدّره العباد لأنفسهم، يقدر الأمر بنفسه، ويفعل الأمر لنفسه، فإن هذا يناسب نقص العبد، والله جل وعلا في قضائه وقدره بما يحدثه في كونه فهو أكبر.
5- الأخير تكبير الله جل وعلا في شرعه وأمره.
قال (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) تدخل فيها هذه الخمسة، الأخير يعني اعتقاد الله جل وعلا أكبر فيما أمر به ونهى، وفيما أنزله من هذا القرآن العظيم، أكبر وأعظم من كل ما يشرعه العباد، أو يحكم به العباد، أو يأمر العباد به و ينهون عنه، ولهذا صارت هذه الكلمة (الله أكبر) من شعارات المسلمين العظيمة، يدخلون في الصلاة بها، ويرددونها في الصلاة، وهي من الأوامر الأولى التي جاءت للنبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى له (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ).(21/149)
إذا لحظت هذه المعاني الخمسة، وكل واحدة منها لها أدلة كثيرة من القرآن، تدبّر وأنتَ تقرأ القرآنَ، الآيات التي فيها ذكر تكبير الله تجد أن بعضها فيه ذكر الربوبية، وبعض الآيات فيه ذكر الألوهية، وبعضها فيه ذكر الأسماء والصفات، وبعضها فيه ذكر قضاء الله الكوني؛ أفعال الله جل وعلا، وبعضها فيه شرع الله جل وعلا، إذا اجتمعت هذه الخمس رأيت أن هذا التفسير من أحسن وأعظم ما يكون.
قال ((وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) عظِّمْه بالتوحيد) إذا اجتمعت هذه الخمس في الفهم، قال ((وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) عظِّمْه بالتوحيد) لأن معاني التكبير هي معاني التعظيم، وتلك المتعلقات هي التوحيد بأنواعه، فصار تفسير الشيخ هنا بقوله ((وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي: عظِّمه بالتوحيد) وهو من التفاسير المنقولة عن السلف، أنه صار ها هنا اختيارا مناسبا ملائما واضح الدلالة.(21/150)
قال بعدها ((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهر أعمالك عن الشرك)، فسّر الثياب بالعمل، الثوب أصله في اللغة ما يثوب إلى صاحبه، يعني ما يرجع إلى صاحبه، سمي اللباس -سواء كان قميصا أو إزارا أو كان سراويل، أو نحو ذلك، أو كانت عمامة-، يسمى ثوبا، لأنه يرجع إلى صاحبه في التباسه به حال لبسه، هذا أصل الثوب، ولهذا يقال للعمل أيضا ثوب، وتجمع على ثياب، باعتبار أنه يرجع إلى صاحبه، لهذا فسر قوله تعالى هنا ((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهر أعمالك) فسر الثياب بالأعمال، لأنها راجعة إلى صاحبها باعتبار أصلها اللغوي، أو يقال إن العمل مشبه بالثوب لملازمته لصاحبه، فالثوب يلازم لابسه، والعمل كذلك يلازم عامله، كما قال جل وعلا ?وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ?[الإسراء:13]، الطائر هو ما يطير منه من العمل من خير أو شر، أُلزم به، صار ملازما له كملازمة ثوبه له، هنا اختار الشيخ أحد التفسيرين المنقولين عن السلف، وهو أن معنى ((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهر أعمالك عن الشرك)، وفُسِّرت بِـ:طهّر ثيابك من النجاسات، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) هذا التفسير الأعم أنسب ها هنا، لأنه يناسب ما قبله وما بعده، فإن ما قبله فيه الإنذار وتعظيم الله بالتوحيد، وما بعده فيه تركٌ للرُّجْزِ وهجر للأصنام والبراءة منها، بقي قوله (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) فاتساق الكلام وكونه جميعا جاء بمعنى مترابط يقضي بأن يختار تفسير الثياب بالأعمال، لأن ما قبله (قُمْ فَأَنذِرْ) لينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) يعني وعظمه بالتوحيد، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)، ثم قال (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) التي هي الأصنام والأوثان، أتركها وتبرأ منها، الجميعُ في البراءة من الشرك، والبعد عن الشرك، والنهي عنه، والدعوة والالتزام بالتوحيد، بقي قوله (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) لها تفسيران؛ تفسير للثياب بالثياب المعروفة؛ ثياب تطهرها من النجاسة،(21/151)
وثيابك التي هي الأعمال، طهرها من الشرك، فصار الأنسب للثياب أن يفسر (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) بطهر أعمالك من الشرك، وهذا مما يعتني به المحققون من المفسرين، أنهم يختارون في التفسيرِ التفسيرَ الذي يناسب السياق، يناسب ما بعده وما قبله، واللغة لها محامل كثيرة، ولهذا اختلف السلف في تفسيراتهم.
قال ((وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرجز الأصنام وهجرها تركها وأهلها والبراءة منها وأهلِها) يعني ترك الأصنام، وترك أهلها، والبراءة من الأصنام، والبراءة من أهلها، قال (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرّجز: اسم عام لما يعبد من دون الله، قد يكون صنما، وقد يكون وثنا، قال ها هنا (الرجز الأصنام) يعني قوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي الأصنام أُتْرك، ويلزم من ذلك أن يترك أهلها ويتبرأ منها ومن أهلها، (الرجز الأصنام) الأصنام: جمع صنم، والصنم اسم لما عُبِد من دون الله، مما كان على هيئة صورة، عند كثير من العلماء، يعني الصنم يكون مصور على هيئة صورة؛ صورة كوكب، أو صورة جني، أو صورة شجرة، أو صورة آدمي، أو صورة نبي، أو صورة صالح، أو طالح، أو صورة حيوان، أن يكون على هيئة صورة، فإذا كان هناك شيء مصنوع على هيئة صورة -إما صورة كوكب, أو صورة مما هو على الأرض مما يعبد من دون الله- صار صنما، فإن كان ما يعبد من دون الله ليس على هيئة صورة صار اسمه الوثن لهذا قال عليه الصلاة والسلام «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» لا يصلح صنما يعبد, لأن القبر لا يكون على هيئة مصورة، قال (وثنا يعبد) لأن الوثن اسم لما يعبد من دون الله على هيئة صورة، أو على غير هيئة صورة، الوثن: اسم لما يعبد من دون الله إذا لم يكن مصورا على هيئة صورة. قال بعض أهل العلم الوثن قد يكون أيضا على هيئة صورة، فيكون الصنم ما له صورة، والوثن: يشمل ما كان له صورة وما لم يكن له صورة. وهذا هو القول الثاني، فيكون كل صنم وثنا، وليس كل وثن صنما، وأخذوا هذا من قوله تعالى في سورة(21/152)
العنكبوت، قال جل وعلا مخبرا عن قول إبراهيم لقومه ?إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا?[العنكبوت:17]، فحصر فقال (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا) قد بين الله جل وعلا في آيات أخر أن إبراهيم سألهم عن عبادتهم قال ?مَا تَعْبُدُونَ?[الشعراء:70]، قالوا ?قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ?[الشعراء:71]، صار الوثن يشمل الصنم وغير الصنم، فهذا القول أدق وهو الذي أختاره أن الوثن يشمل الصنم وغير الصنم، يعني ما له صورة مما عبد من دون الله وما ليس له صورة، وأما الصنم فهو في الغالب ما كان على هيئة صورة، قال (والرجز الأصنام) ومعلوم أنه إذا نهاهم عن عبادة الأصنام، فإنه بذلك ينهاهم عن عبادة الأوثان، لأن العلة فيهما واحدة، وهي عبادة غير الله جل وعلا، وهجرها تركها وأهلها، والبراءة منها وأهلها.(21/153)
قال (أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد ) يعني بذلك أنه مكث عليه الصلاة والسلام عشر سنين يدعو قومه، ويدعو عشيرته الأقربين وجوبا لقوله تعالى ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ?[الشعراء:214]، يدعو إلى التوحيد قبل أن تنزل الفرائض، لم تنزل فريضة الصلاة على هذا النحو، ولا فريضة الزكاة على هذا النحو، ولا سائر التشريعات على هذا النحو، لم تحرم الخمر، ولم يحرم الزنا، ولم يحرم الربا في تلك المدة، وهذا معنى قوله (أخذ على هذا) يعني على الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، (أخذ على هذا) على الإنذار عن الشرك، والدعوة إلى التوحيد، أخذ عشر سنين يدعو إلى التوحيد، ما كان يدعو فيها إلى الأعمال، لا إلى صلاة ولا إلى زكاة مع أنه كان له صلاة في ذلك، قال كثير من أهل العلم كانت الصلاة المفروضة في العشر سنين تلك صلاتين في اليوم والليلة، أحدها في إقبال النهار، والأخرى في إقبال الليل، يعني أحدها الفجر، والثاني المغرب، وحملوا عليه قوله تعالى في سورة طه ?وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا?[طه:130]، كذلك قوله في سورة ق ?وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ?[ق:39]، ونحو ذلك من الآيات، أما الصلوات الخمس فلم تُفرض إلا بعد ذلك.(21/154)
قال (وبعد العشر عُرج به إلى السماء)كانت الصلاة ركعتين، أول النهار وآخره، على قول كثير من العلماء، قال (وبعد العشر عرج به إلى السماء) المعراج معناه الصعود، (عُرج به إلى السماء) يعني صُعد به إلى السماء، ومن أسماء السّلم والمِرقاة التي يُرتقى عليها المعراج، فمعنى المعراج السلم الذي يُصعد عليه، (عُرج به) أي صُعد به، ليلة المعراج يعني الليلة التي صُعد بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها على المعراج يعني على السلم، تسمية الليلة بوسيلة الصعود وهو المعراج، عليه الصلاة والسلام أسري به تلك الليلة من مكة إلى بيت المقدس، وبعد ذلك (عُرج به)، الدابة رُبطت عند بيت المقدس، ثم أخذه جبريل وعرج به بالمعراج -يعني بالسلم الخاص الذي يصعد عليه- إلى السماء، (إلى السماء) المقصود به جنس السماء، يعني السماوات- حتى ارتفع في مستوى يسمع فيه [صريف الأقلام]([13]) عليه الصلاة والسلام، حتى إنه قرُب من ربه جل وعلا، وكلمه ربه جل وعلا بدون واسطة، رأى عليه الصلاة والسلام تلك الليلة نور الله جل وعلا، ورأى الحجاب الذي احتجب الله جل وعلا به عن خلقه فلا يرونه، كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل هل رأيت ربك؟ -يعني ليلة المعراج- فقال: «رأيت نورا». وفي رواية أخرى قال: «نور أنّا أراه». يعني ثَم نور فكيف أراه؟ وهذا من الفضل العظيم له عليه الصلاة والسلام؛ أنه ارتفع من الأرض إلى ما بعد السماء السابعة، ورأى الجنة، ورأى النار، في ليلة، ورجع، والسماء الواحدة لا يقطعها القاطع إلا بمسيرة خمسمائة سنة، وما بين السماء والسماء لا يقطعها القاطع إلا بمسيرة خمسمائة سنة، وهكذا حتى تصل إلى السماء السابعة، ثم بعد ذلك الماء، وبعد ذلك الكرسي إلى آخره([14])، وهو عليه الصلاة والسلام لا شك أن المعراج له عليه الصلاة والسلام مما يدل على عظم قدره عند ربه جل وعلا، لهذا قال تعالى في الإسراء وهو من العجب بما كان(21/155)
?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا?[الإسراء:1]، يعني في بعض الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم رجع، هذا من مكة إلى بيت المقدس محل عجب عند العرب ولا شك أنه محل عجب، حيث ما كان عندهم من المركوبات، فكيف من بيت المقدس إلى ما بعد السماء السابعة، ثم يرجع إلى بيت المقدس، ثم يرجع من بيت المقدس إلى مكة، وفراشه لم يبرد بعد، هذا لاشك أنه مما أكرم الله جل وعلا به نبيه عليه الصلاة والسلام.
قال (فرضت عليه الصلوات الخمس) يعني على هذا النحو، بعد أن فرضت عليه خمس صلوات وأصبح صباحه في مكة، نزل عليه جبريل يعلمه أوقات الصلوات وأنواعها.
قال (فصلى في مكة ثلاث سنين وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة)يعني صلى السنة العاشرة، الحادية عشر، الثانية عشر، من البعثة، ثم بعد ذلك أمر بالهجرة إلى المدينة.
وعلى هذا نقف أسأل الله أن ينفعني وإياكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????(21/156)
والهجرةُ: الانتقالُ مِنْ بلدِ الشِّركِ إلى بلدِ الإسلامِ، والهجرةُ فَرِيضةٌ على هذه الأمّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّركِ إلى بلدِ الإسلامِ، وهي باقيةٌ إلى أنْ تقومَ الساعةُ، والدليلُ قوله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97)إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98)فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا?[النساء:97-99]، وقوله تعالى ?يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ?[العنكبوت:56]، قالَ البَغَوِيُّ رحمهُ اللهُ: سببُ نزولِ هذه الآيةِ في المسلمين الذين بمكَّةَ لم يهاجِرُوا؛ ناداهُم اللهُ باسمِ الإيمانِ.
والدليلُ على الهجرةِ من السُّنَّةِ قولُهُ صلى الله عليه وسلم «لا تَنْقَطِعُ الهجرَةُ حتَّى تَنْقَطعَ التَّوبةُ ولا تنقطعُ التّوبةُ حتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا، ودعاء مسموعا، وقلبا خاشعا، أما بعد:(21/157)
قال الإمام رحمه الله تعالى (فصلى في مكة ثلاث سنين وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة) صلى في مكة عليه الصلاة والسلام ثلاث سنين، يعني بعد أن فرضت عليه الصلاة، صلى الصلوات الخمس على هذا النحو الذي نصليه، قد حُدّت صفاتها، أركانها، واجباتها، وحُدَّت أوقات الصلوات كليا، جاء إلى النبي جبريل وبين له أوقات الصلوات، بعد ثلاث سنين من فرض الصلاة هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، بعد أن أُمر بذلك وبعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ابتدأ التاريخ الهجري كما هو معروف, لما أتى إلى هذا الموضع، فسّر الهجرة فقال (والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) هذا تعريفها الاصطلاحي, والهجرة في اللغة الترك, وفي الشرع ترك ما لا يحبه الله ويرضاه إلى ما يحبه ويرضاه, ويدخل في هذا المعنى الشرعي هجر الشرك, يدخل فيه ترك محبة غير الله ورسوله, يدخل فيه ترك بلد الكفر, لأنّ المُقام فيها لا يرضاه الله جل وعلا ولا يحبه, أما في الاصطلاح قال (الهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام)؛ الانتقال يعني ترك بلد الشرك والذهاب إلى بلد الإسلام, وسبب الهجرة يعني سبب إيجاب الهجرة, أو سبب مشروعية الهجرة أن المؤمن يجب عليه أن يُظهر دينَه، معتزا بذلك, مبينا للناس، مخبرا أنه يشهد شهادة الحق؛ لأن الشهادة لله بالتوحيد ولنبيه بالرسالة فيها إخبار الغير, وهذا الإخبار يكون بالقول والعمل, وإظهار الدين به يكون إخبار الغير عن مضمون الشهادة ومعنى الشهادة, فلهذا كانت الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام واجبة إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه, لأن إظهار الدين واجب في الأرض, وواجب على المسلم أن يظهر دينه, وأن لا يستخفي بدينه, فإذا كان إظهاره لدينه غير ممكن في دار وجب عليه أن يتركها, يعني وجب عليه أن يهاجر, قال (الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) بلد الشرك هي كل بلد يظهر فيها الشرك ويكون غالبا؛ إذا ظهر الشرك في بلد(21/158)
وصار غالبا كثيرا أكثر من غيره, صارت تسمى بلد شرك, سواء كان هذا الشرك في الربوبية, أو كان في الإلهية, أو كان في مقتضيات الإلهية من الطاعة والتحكيم ونحوها. بلد الشرك هي البلد التي يظهر فيه الشرك ويكون غالبا.
هذا معنى ما قرره الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله حينما سئل عن دار الكفر ما هي؟ قال: دار الكفر هي الدار التي يظهر فيها الكفر ويكون غالبا.
إذن إذا ظهر الشرك في بلدة وصار ظهوره غالبا, معنى ذلك أن يكون منتشرا ظاهرا بينا غالبا الخير, فإن هذه الدار تسمى بلد شرك, هذا باعتبار ما وقع وهو الشرك, أما باعتبار أهل الدار فهذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم أن يُنظر في تسمية الدار بدار إسلام ودار شرك إلى أهلها.
وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن بلد تظهر فيها أحكام الكفر, وتظهر فيها أحكام الإسلام, فقال هذه الدار لا يحكم عليها دار كفر, ولا أنها دار إسلام, بل يعامل المسلم فيها بحسبه، ويعامل فيها الكافر بحسبه.(21/159)
وقال بعض العلماء الدار إذا ظهر فيها الأذان وسُمع وقت من أوقات الصلوات فإنها دار إسلام, لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يغزو قوما أن يصبحهم, قال لمن معه: «انتظروا» فإن سمع أذانا كفّ، وإن لم يسمع أذانا قاتل، وهذا فيه نظر, لأن الحديث على أصله، وهو أن العرب حينما يُعلون الأذان، معنى ذلك أنهم يقرون ويشهدون شهادة الحق لأنهم يعلمون معنى ذلك، وهم يؤدون حقوق التوحيد الذي اشتمل عليه الأذان، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله ورفعوا الأذان بالصلاة، معنى ذلك أنهم انسلخوا من الشرك وتبرؤوا منه، وأقاموا الصلاة، وقد قال جل وعلا ?فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ?[التوبة:11]، (فَإِنْ تَابُوا) من الشرك، (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)، ذلك لأن العرب كانوا يعلمون معنى التوحيد، فإذا دخلوا في الإسلام وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، دل ذلك أنهم يعملون بمقتضى ذلك، أما في هذه الأزمنة المتأخرة فإن كثيرين من المسلمين، يقولون لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا يعلمون معناها، ولا يعملون بمقتضاها، بل تجد الشرك فاشيا فيهم، ولهذا نقول إن هذا القيد أو هذا التعريف وهو أن دار الإسلام هي الدار التي يظهر فيها الأذان بالصلوات، أنه في هذه الأزمنة المتأخرة أنه لا يصح أن يكون قيدا، والدليل على أصله وهو أن العرب كانوا ينسلخون من الشرك، ويتبرؤون منه ومن أهله، ويقبلون على التوحيد، ويعملون بمقتضى الشهادتين، بخلاف أهل هذه الأزمان المتأخرة.(21/160)
والأظهر هو الأول في تسمية الدار، ولا يلزم من كون دارٍ ما دار شرك أو دار إسلام، أن يكون هذا حكم على الأفراد الذين في داخل الدار، بل قلنا إن الحكم عليها بأنها دار كفر، أو دار شرك هذا في الأغلب بظهور الشرك والكفر، ومن فيها يعامل كل بحسبه، خاصة في هذا الزمن، لأن ظهور الكفر، وظهور الشرك بكثير من الديار، ليس من واقع اختيار أهل تلك الديار، بل هو ربما كان عن طريق تسلط، إما الطرق الصوفية مثلا، أو عن تسلط الحكومات، أو نحو ذلك، كما هو مشاهد معروف، لهذا نقول إن اسم الدار على نحو ما بينت وأما أهلها يختلف الحال. قال (والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) الهجرة من حيثُ مكانُها تنقسم إلى هجرة عامة وإلى هجرة خاصة.
الهجرة العامة: هي التي عرّفها الشيخ هنا ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، بلد الشرك أيَّ بلد إلى أن تطلع الشمس من مغربها، أيَّ بلد ظهر فيها الشرك، وظهر فيها أحكام الشرك، وكان ذلك غالبا، فإن الهجرة منها تسمى هجرة، وهذه الهجرة عامة، من حيث المكان يمكن أن تكون متعلقة بأي بلد.
أما الهجرة الخاصة: فهي الهجرة من مكة إلى المدينة، ومكة لما تركها النبي عليه الصلاة والسلام تركها وهي دار شرك، وذهب إلى المدينة، لأنه فشى فيها الإسلام فصار كل بيت من بيوت المدينة دخل فيه الإسلام، فصارت دار إسلام، فانتقل من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، هاجر هجرة خاصة، وهذه الهجرة الخاصة هي التي جاء فيها قوله عليه الصلاة والسلام «لا هجرة بعد الفتح بل جهاد ونية» كما ثبت في الصحيح, فقوله (لا هجرة بعد الفتح) يعني لا هجرة من مكة، الهجرة الخاصة هذه من مكة إلى المدينة.
أما الهجرة العامة -الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام- فهي باقية إلى طلوع الشمس من مغربها؛ إلى قيام الساعة، إذا وجد بلد شرك، ووجد بلد إسلام، توجب الهجرة، هذا من حيث المكان.(21/161)
ومن حيث الحكم، فإن الهجرة تارة تكون واجبة، وتارة تكون مستحبة؛ تكون الهجرة واجبة، يعني من بلد الشرك إلى بلد الإسلام: تكون واجبة: إذا لم يمكن للمسلم المقيم بدار الشرك أن يظهر دينه، إذا ما استطاع أن يظهر التوحيد، ويظهر مقتضيات دينه، والصلاة وإتباع السنة، كل بلد بحسبه؛ بحسب ما فيه من الشرك، يظهر ما يخالف فيه هذا البلد، ويكون متميزا فيهم، إذا لم يستطع ذلك، فإن الهجرة تكون واجبة عليه، وعليه حمل قوله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ?[النساء:97]، يعني لم نستطع إظهار الدين، الاستضعاف هنا بمعنى عدم استطاعة إظهار الدين ?قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:97]، فدل هذا على أنها واجبة، لأنه توعدها عليهم بجهنم، فمعنى هذا أن ترك الهجرة إذ لم يستطع إظهار الدين أنه محرم، وأن الهجرة واجبة.(21/162)
القسم الثاني المستحب: وتكون الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام مستحبة، إذا كان المؤمن في دار الشرك يستطيع أن يظهر دينه، تكون مستحبة، وذلك لأن الأصل الأول من الهجرة أن يتمثل المؤمن من إظهار دينه، وأن يعبد الله جل وعلا على عزة، قد قال جل وعلا ?يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ?[العنكبوت:56]، نزلت في من ترك الهجرة، وناداهم باسم الإيمان. هذه الأحكام متعلقة بالهجرة من دار الكفر والشرك إلى دار الإسلام، وهناك هجرة أخرى من دار يكثر فيها المعاصي والبدع إلى دار ليس فيها معاصي وبدع أو تقل فيها المعاصي والبدع، وهذه ذكر الفقهاء -فقهاء الحنابلة رحمهم الله- ذكروا أنها مستحبة، وأن البلد إذا كثر فيها الكبائر والمعاصي، فإنه يستحب له أن يتركها إلى دار يقل فيها ذلك أوليس فيها شيء من ذلك، لأن بقاءه على تلك الحال مع أولئك، يكون مع المتوعدين بنوع من العذاب الذي يحيط بأهل القرى الذين ظلموا.
وقد هاجر جمع من أهل العلم من بغداد لما علا فيها صوت المعتزلة وصوت أهل البدع، وكثرت فيها المعاصي والزنا وشرب الخمر، تركوها إلى بلد أخرى، وبعض أهل العلم بقي لكي يكون قائما بحق الله؛ بالدعوة وببيان العلم وبالإنكار وبنحو ذلك، أيضا كثير من العلماء تركوا مصر لما تولت عليها الدولة العبيدية، وخرجوا إلى غيرها، وهذا قد يحمل على أنها من الهجرة المستحبة، أو من الهجرة الواجبة، بحسب الحال في ذلك الزمن.
قال هنا رحمه الله (والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) فرض بقيد أن لا يستطيع إظهار دينه، فإن كان يستطيع كما ذكرت لك فإن الهجرة في حقه مستحبة. قال (وهي باقية إلى أن تقوم الساعة)يريد إلى قرب قيام الساعة وهو طلوع الشمس من مغربها، كما جاء في الحديث «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».(21/163)
قال رحمه الله مستدلا (والدليل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) ظلم النفس بترك الهجرة، لأنهم عصوا الله جل وعلا في ترك الهجرة، ومكة لم يعد في إمكان المؤمنين أن يظهروا دينهم فيها، فقد تسلط الكفار على أهلها، فلم يستطيعوا أعني المؤمنين أن يظهروا دينهم، وهذا هو قائم من أول الدعوة، تسلطوا فترة وكان إظهار الدين في أول الدعوة ليس واجبا، ثم أمروا بذلك بقوله تعالى ?فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ(94)إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ?[الحجر:94-95]، فابتلي من ابتلي من المؤمنين فلم يستطيعوا إظهار دينهم، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، فأذن بالهجرة إلى الحبشة؛ الهجرة الأولى ثم الثانية وقيل ثَم هجرة ثالثة، ثم لما لم يعد في الإمكان أن يظهر الدين في مكة، وقد قامت بلد الإسلام في المدينة صارت الهجرة متعينة وفرضا من مكة إلى المدينة، لهذا قال جل وعلا هنا (ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا) يعني الملائكة مخاطبين هؤلاء الذين توفتهم الملائكة وقد تركوا الهجرة (فِيمَ كُنتُمْ) يعني على أي حال كنتم (قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) فأجابت الملائكة (قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) وهذا إنكار عليهم - أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا - لأن الاستفهام هنا في (أَلَمْ) استفهام للإنكار وضابطه أن يكون ما بعده باطلا، إذا أزلت الهمزة وقرأت ما بعده فإذا كان ما بعده غير صحيح صارت الهمزة إذن للإنكار، إذا تركت الهمزة صار الكلام لم تكن أرض الله واسعة هل هذا صحيح؟ ليس بصحيح، فأرض الله جل وعلا واسعة، ولما أتى الاستفهام في الهمزة بعدها كلام يكون بدون الهمزة باطلا، يصير الهمزة للإنكار، كما هو مقرر في موضعه في كتب شروح المعاني في اللغة قال (فَتُهَاجِرُوا(21/164)
فِيهَا) فدل على أنهم تركوا الهجرة، فهذه الآية على أن من ترك الهجرة مع القدرة على ذلك أنه مشرك وكافر من دين من أقام معهم، وهذا ليس بصحيح، بل إن هذه الآية في المؤمنين لأنه قال في أولها (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) فهؤلاء ظلموا أنفسهم, ليس الظلم الأكبر, ولكن الظلم الأصغر بترك الهجرة, قال جل وعلا بعدها (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا) رجال مستضعفون, لا يمكنهم أن يعرفوا الطريق، لا يهتدون سبيلا إلى البلد الآخر ولا يستطيعون حيلة, ليس عندهم ما يركبون, وليس عندهم مال ينقلهم, فهم مستضعفين يريدون الهجرة, ولكنهم مستضعفون من جهة عدم القدرة على الهجرة من المال, والمركب, والدليل ونحو ذلك, فقال جل وعلا في هؤلاء (فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) ويلحق بهؤلاء من لم يستطع الهجرة في هذا الزمن بالمعوّقات القائمة من أنواع التأشيرات وأشباهها, لأن هذا لا يستطيع حيلة, هو يرغب أن يترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام, لكن لا يمكنه ذلك لوجود المعوّقات لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا, أو طريقا إلى بلد الإسلام فهؤلاء قال جل وعلا في حقهم (فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) ثم ساق دليلا آخر وهو قوله تعالى (?يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ?[العنكبوت:56]، قال البغوي رحمه الله سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان) تركوا الهجرة فناداهم الله باسم الإيمان, فدل على أن ترك الهجرة لا يسلب الإيمان, فمعنى ذلك أن ترك الهجرة ليس شركا أكبرا, وليس كفرا أكبرا, وإنما هو معصية من المعاصي, لأنه نادى من ترك الهجرة(21/165)
باسم الإيمان, (يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)، قال البغوي نزلت هذه الآية في الذين لم يهاجروا من مكة ناداهم الله باسم الإيمان، دل أن من ترك الهجرة من مكة ليس كفرا ولا شركا, وأن قوله في الآية التي قبلها (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أن هذا لأجل أنهم تركوا واجبا من الوجبات, وارتكبوا كبيرة من الكبائر, لكن لا يسلب منهم الإيمان بترك الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. قال (والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها») من الواضح أن التوبة لا تنقطع إلا إذا طلعت الشمس من مغربها, وطلوع الشمس من مغربها هو المراد بقوله تعالى في آخر سورة الأنعام ?أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا?[الأنعام:158]، قال المفسرون إن معنى (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) أنه طلوع الشمس من مغربها, فإذا طلعت (لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا), فلا تنفع التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها, كما قال هنا (ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، فالهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة, والتوبة لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها, وذلك لأن تارك الهجرة حتى طلعت الشمس من مغربها قد ترك فرضا عليه, إذا طلعت الشمس من مغربها ليس ثم عمل ينفع العبد قال ?لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا?[الأنعام:158]، والعمل بعض الإيمان.
?????(21/166)
فلمَّا استقرَّ بالمدينةِ أُمِرَ ببقيَّةِ شرائعِ الإسلامِ مثلُ الزكاةِ، والصّومِ، والحجِّ، والأذانِ، والجهادِ، والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ وغيرِ ذلكَ مِنْ شرائعِ الإسلامِ. أخذَ على هذا عَشَرَ سنينَ وبعدَها تُوُفِّيَ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ ودينُهُ باقٍ. وهذا دينُه، لا خيرَ إلاَّ دَلَّ الأمَّةَ عليهِ، ولا شَرَّ إلاَّ حَذَّرَهَا منْه، والخيُر الذي دلَّهَا عليْه: التَّوحيدُ، وجميعُ ما يُحِبُّهُ اللهُ ويرضاهُ. والشَّرُّ الذي حَذَّرَهَا منه: الشِّركُ وجميعُ ما يكرَهُهُ اللهُ ويأباهُ. بعثَهُ اللهُ إلى الناسِ كافَّة، وافترضَ طاعَتَه على جميعِ الثّقلينِ: الجنِّ والإنسِ، والدليلُ قولُهُ تعالى ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا?[الأعراف:158]، وكمَّلَ اللهُ به الدينَ والدليلُ قوله تعالى ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:03]. والدليلُ على موتِهِ صلى الله عليه وسلم قولُهُ تعالى ?إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ?[الزمر:30-31]. والناسُ إذَا ماتُوا يُبْعَثُونَ، والدليلُ قولُهُ تعالى?مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى?[طه:55]، وقولُهُ تعالى ?وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ نَبَاتًا(17)ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا?[نوح:17-18]، وبعدَ البَعْثِ محاسبُونَ ومَجزيُّونَ بأعْمالِهمْ والدليلُ قولُهُ تعالى?وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى?[النجم:31]، ومَنْ كَذَّبَ بالبعثِ كَفَرَ، والدليلُ قولُهُ تعالى?زَعَمَ(21/167)
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ?[التغابن:07].
قال (فلما استقر بالمدينة أُمر ببقية شرائع الإسلام مثل الزكاة) الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة، أريد بالزكاة التي فرضت في السنة الثانية من الهجرة هذه الزكاة على هذا النحو المقدر؛ زكاة بشروطها، وبأنصبائها، وقدر المخرَج، وأوعية الزكاة ونحو ذلك, هذا فُرض في السنة الثانية من الهجرة, أما جنس الزكاة فقد فرض في مكة، جنس الزكاة غير مقدر مثل الصلاة التي كانت في مكة, وهذا جاء في آخر سورة المزمل, قال جل وعلا في آخرها وهي مكية ?وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[المزمل:20]، فأمر بإيتاء الزكاة قال (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) والصواب من أقوال أهل العلم أن الزكاة أوجبت في مكة, ومنها بذل الماعون الذي جاء النهي عنه, في قوله ?وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ?[الماعون:7]، ومنها الصدقة, منها إعطاء الفقير, ونحو ذلك، وهذه الزكاة غير محدودة, لا بقدر, ولا بصفة, وإنما يصدق عليها اسم الزكاة, أما الزكاة على هذا النحو المقدر الذي استقر فهذا فرض في السنة الثانية من الهجرة. قال (والصوم) الصوم كذلك، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم «لما تصومون هذا اليوم؟» قالوا: يوم نجى الله فيه موسى، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه كما صام موسى. فقال عليه الصلاة والسلام: «نحن أحق بموسى منكم» فصامه عليه الصلاة والسلام، وأَمَر بصيامه، يعني كان صوم يوم عاشوراء فرضا، ثم لما فرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وهي(21/168)
السنة التي كان فيها وقعة بدر، صار صوم عاشوراء على الصحيح مستحبا، والفرض هو صيام شهر رمضان، كما قال جل وعلا في سورة البقرة ?فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ?[البقرة:185] وبها كان صيام رمضان واجبا. قال(والحج) من أهل العلم من يقول أنه فرض في السنة السادسة، وهي السنة التي نزل فيها قول الله تعالى ?وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ?[البقرة:196]، ومنهم من قال أنه لم يفرض إلا في السنة التاسعة، وهذا هو الصحيح، فإن الحج فرض متأخرا، وذلك بعد فتح مكة، فأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحج في سورة آل عمران، وهي إنما نزلت في سنة الوفود أو في عام الوفود، وهي السنة التاسعة، والنبي عليه الصلاة والسلام ترك الحج تلك السنة، وأمر أبا بكر أن يحج بالناس، وبعث معه عليا رضي الله عنهم أجمعين، ثم حج عليه الصلاة والسلام بعد ذلك في السنة العاشرة حجة يتيمة لم يحج بعدها.
قال(والأذان) كذلك فُرض الأذان في أول العهد المدني.
(والجهاد) كان هناك تدرج في فرضه.(21/169)
(والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام)، يعني أن شرائع الإسلام الظاهرة إنما فرضت في المدينة، وأما في مكة فمكث عليه الصلاة والسلام، يدعو إلى التوحيد، وينهى عن الشرك عشر سنين، ثم فرضت الصلاة في السنة العاشرة، وأما بقية الشعائر؛ شعائر الإسلام الظاهرة، فإنما كانت في المدينة، حتى تحريم المحرمات من الزنا والخمر والربا ونحو ذلك، فإنما كان في المدينة، وهذا يدلك على عظم شأن التوحيد في هذا الدين، وأن هذه الرسالة رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، حيث بلغها للناس، مكث يدعو إلى التوحيد في عشر سنين، والتوحيد من حيث هو، أمر واحد، دعوة إلى التوحيد ونهي عن الشرك، أمر واحد، وتلك الأوامر التي فرضت فيما بعد، والمناهي التي نهي عنها فيما بعد، كثيرة جدا، عددها كثير مئات الأشياء من أمور الإسلام الظاهرة، وأمور المعاملات، والصلاة الاجتماعية، والنكاح، وتلك الأحوال، تلك بالمئات، فكان العهد المدني وهو عشر سنين متسعا لتلك الأمور جميعا، وأما التوحيد فمع أنه أمر واحد، وهو الدعوة إلى توحيد الله والنهي والنذارة عن الشرك، فقد مكث فيه عليه الصلاة والسلام عشر سنين، وهذا من أعظم الأدلة على أن شأن التوحيد في هذا الدين هو أعظم شيء، وأن غيره من أمور الإسلام الظاهرة، أنه يليه بكثير في الاهتمام به في هذا الشرع، فالدعوة إنما تكون في توحيد الله؛ لأن القلب إذا وحد الله جل وعلا أحب الله وأحب رسوله، أطاع الله بعد ذلك وأطاع رسوله فرضا، ترك الشرك، أبغض الشرك، ويُبغض كل ما لا يحبه الله جل وعلا ولا يرضاه، وهذا من مقتضيات التوحيد.
قال (أخذ على هذا عشر سنين) يعني مكث في المدينة عليه الصلاة والسلام عشر سنين يدعو إلى التوحيد وإلى أمور الإسلام الظاهرة.(21/170)
(وتوفي صلاة الله وسلامه عليه ودينه باق وهذا دينه)، (صلاة الله) الصلاة من الله جل وعلا على نبيه، أو على المؤمنين هي ثناؤه عليهم في الملأ الأعلى، هذا هو الصحيح أن الصلاة من الله جل وعلا هي الثناء؛ لأن حقيقة الصلاة في اللغة الدعاء والثناء، وأما من قال أن الصلاة بمعنى الرحمة هذا ليس بصحيح، قال جل وعلا ?إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ?[الأحزاب:56]، الملائكة لا يمكنهم أن يرحموه، لكن يمكن أن يثنوا عليه، أو أن يدعوا له، والله جل وعلا في حقه الثناء، فمعنى صلاة الله جل وعلا على نبيه هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، لهذا جاء في الحديث الصحيح «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا» يعني من أثنى عليّ، من قال: اللهم صلي على محمد. سأل الله جل وعلا أن يثني على نبيه في الملأ الأعلى، فإن الله جل وعلا يجزيه من جنس دعائه، وهو أنه يثني عليه بذلك عشر مرات في ملئه الأعلى، أسأل الله الكريم من فضله، وصلى الله على نبينا محمد، اللهم صلي وسلم على نبينا محمد. قال (ودينه باق)، عليه الصلاة والسلام توفي ودفن في حجرة عائشة، ودينه باق إلى قيام الساعة، لا يقبل الله جل وعلا من أحد دينا إلا هذا الدين، (وهذا دينه) الضمير يرجع إلى أي شيء؟ إلى ما سبق إيضاحه في هذه الرسالة، هذا الذي وصف لك فيما قبل هو دينه؛ معرفة العبد ربه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة، ومعرفة العبد نبيه صلى الله عليه وسلم. (وهذا دينه) عليه الصلاة والسلام، (لا خير) -هذا من صفاته عليه الصلاة والسلام- أنه (لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه والخير الذي دلها عليه التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه والشر الذي حذرها منه الشرك وجميع ما يكره الله ويأباه) وعليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رؤوف رحيم، ومن رأفته بالمؤمنين ورحمته بهم أنه اجتهد أن يؤدي الأمانة كاملة، لا خير يقرب إلى الله، ويكون محبوبا إلى الله إلا بينه عليه(21/171)
الصلاة والسلام لهذه الأمة، وأعلى ذلك التوحيد، ويتبع ذلك جميع الأمور من الفرائض والواجبات والمستحبات، ومن المناهي التي اجتنابها فرض ونحو ذلك، المسنونات، حتى قال رجل لسلمان: لقد علَّمكم رسولُكم كل شيء حتى الخراءة، قال: نعم. يعني حتى هيئة الجلوس أثناء قضاء الحاجة، فإنه علمنا عليه الصلاة والسلام كيف يكون ذلك؛ إقبال واستدبار، وما ينبغي أن يكون إذا ذهب المرء أين يذهب، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره، كان عليه الصلاة والسلام إذا ذهب المذهب أبعد، يعني لقضاء حاجته ونحو ذلك، علمنا عليه الصلاة والسلام كل شيء، من أعلى أمر وهو التوحيد؛ بيّنه بيانا شافيا مفصلا، إلى أقل الأمور، كلها بينها عليه الصلاة والسلام، فالحجة قائمة على أمته، وأنه عليه الصلاة والسلام سيكون شهيدا على هذه الأمة، وأنه بلَّغهم الرسالة، ودلهم على كل خير، يحبه الله ويرضاه، كذلك لا شر إلا حذرها منه، لا شر كان أو لا شر سيكون في هذه الأمة إلا حذرها منه، فحذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته من الشرور التي كانت في وقته؛ من الشرك بالله بأنواعه، ومن أنواع المعاصي وأنواع الآثام، وأنواع المعاملات الباطلة، وكذلك ما سيحدث في المستقبل، فإن الله جل وعلا أطلع نبيه على ما سيكون، فحذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته من ذلك، مثلا كما جاء في الحديث «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال: «فمن الناس إلا أولئك» أو كما جاء في غير هذه الرواية، لها ألفاظ كثيرة، فحذرها من تقليد فارس والروم، حذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته من الفتن التي ستظهر بأنواعها، ومنها فتنة الخوارج الذين خرجوا على الصحابة وخرجوا على ولاة أمر المسلمين، حذّر من البدع بأنواعها، كما جاء في تفسير قول الله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي(21/172)
شَيْءٍ?[الأنعام:159]، وكما قال عليه الصلاة والسلام «وإن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» ونحو ذلك من أنواع ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام أمته محذرا، فهو عليه الصلاة والسلام لهذه الأمة رحيم رؤوف، لا خير إلا دلها عليه وأرشد، ولا شر إلا حذر منه ونهى، سواء في ذلك ما حدث في وقته، أو ما سيحدث بعد موته عليه الصلاة والسلام بقليل، أو ما سيكون إلى قيام الساعة، حتى إنه حذر أمته وشدد، حذرها وشدد التحذير في أمر المسيح الدجال، حتى إنه قال عليه الصلاة والسلام «إن خرج فيكم وأنا حي فأنا حجيجه دونكم وإن خرج عليكم بعدي» -يعني بعد وفاته عليه الصلاة والسلام- «فامرؤ حجيج نفسه» وهذا يدل على عظم ما دل النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأمة عليه.
قال رحمه الله بعد ذلك (وافترض طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس والدليل قوله تعالى ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا?[الأعراف:158]) طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فرض على الجن والإنس، لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس جميعا، قال جل وعلا (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) وقال جل وعلا ?وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ?[الأحقاف:29]، لأنهم اتبعوا هذا الرسول، بعد أن سمعوا هذا القرآن، (وكمّل الله به الدين)، الدين كمل، والدين هو ما يدين به المرء، يعني ما يكون عادة له في عبادته، عادة له في عبادته يألفه ويعتاده، لأن أصل الدين هو العادة، كما قال الشاعر:
تقول وقد برأتُ لها وظيني هذا دينه أبدا وديني([15])(21/173)
هذه عادته، وسمي الدين دينا لأنه يلتزمه الإنسان، وما كان من الاعتقادات، وما كان من العبادات يفعله بتكرر، حتى يصبح له عادة، نعم الدين ليس عادة، لكن أصل تسمية الدين سمي به لأنه له شبه بالعادة، حيث لزومها وكثرة فعلها وترداد صاحبها لها.
(كمل الله به الدين) إذن فليس في الدين نقصان، ليس فيه مجال للزيادة، فمن أراد التقرب إلى الله جل وعلا، فإنما يكون ذلك بالتقرب عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني أن يكون متبعا لسنته عليه الصلاة والسلام، لأن الدين كمل فلا سبيل إلا هذا السبيل، كما قال ابن القيم:
فلواحد كن واحدا في واحد أعني سبيل الحق والإيمان(21/174)
والهجرة من الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته، واتباع سنته، وامتثال أمره، والانتهاء عن نهيه، والاهتداء بهديه، وألا يعبد الله إلا بما شرع، ينسلخ القلب ويترك كل ما سوى الله جل وعلا، وسوى رسوله من الذين يطاعون، ويتجه بطاعته إلى الله جل وعلا ورسوله، قال (والدليل قوله تعالى ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:03]، والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ?إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ?[الزمر:30-31]) مات عليه الصلاة والسلام، الذين يدّعون أنه عليه الصلاة والسلام حي لم يمت، وأنه يحضر، روحه تحضر، وهو يحضر، وينتقل، ونحو ذلك، هؤلاء مكذبون للقرآن، كفرة بالله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا قال لنبيه (إِنَّكَ مَيِّتٌ) يعني ستموت (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) إنهم سيموتون، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) إنكم جميعا أنت وهم (عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) وقال جل وعلا في الآية الأخرى ?وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ?[آل عمران:144]، ومن المعلوم ما حصل من قيام أبي بكر في الناس، بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم خطيبا، قائلا فيما يروى: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ). قال عمر: كأني لم أسمع الآية إلا حين تلاها أبو بكر رضي الله عنه. لكن هو بعد موته؛ في حياة برزخية، هي أكمل أنواع الحياة البرزخية، فهو حي، حياته أكمل من حياة الشهداء، وهو قد مات،(21/175)
توفاه الله جل وعلا، انقطع عن هذه الدنيا، حياته أكمل من حياة الشهداء، فهو عليه الصلاة والسلام قد توفي وانقضى أجله، وهو بالرفيق الأعلى بالجنة، وعند الله جل وعلا بأعلى المقامات عليه الصلاة والسلام.
قال لما ذكر موته عليه الصلاة والسلام (والناس إذا ماتوا يبعثون) خص هنا البعث بذكر، مع أن مناسبته هي في ذكر اليوم الآخر؛ المرتبة الثانية من الأصل الثاني، اليوم الآخر معناه أنه يبعث الناس بعد الموت، هنا قال (والناس إذا ماتوا يبعثون) وذلك لسبب وهو أنه في وقت الشيخ رحمه الله تعالى كان يكثر في البادية إنكار البعث بعد الموت، قد جاء في رسائل للشيخ من العلماء, رسائل كثيرة فيها بيان أن البعث بعد الموت حق, وأن من كفر بالبعث وأنكر البعث فهو كافر بالله العظيم, ليس بمؤمن ولا مسلم, وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم, نص هنا على هذا لأجل الاهتمام بالمسألة ووضعها في هذا الموضع المناسب, لأنه ذكر وفاة النبي عليه الصلاة والسلام, وذكر قوله (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) فناسب أن يقرر البعث بعد الموت لجميع الناس, قال (والناس إذا ماتوا يبعثون والدليل قوله تعالى?مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى?[طه:55]، وقوله تعالى(21/176)
?وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ نَبَاتًا(17)ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا?[نوح:17-18]، وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم والدليل قوله تعالى?وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى?[النجم:31]) قال (ومن كذب بالبعث كفر) مثل أولئك الأعراب في البادية, الذين كانوا في وقت الشيخ رحمه الله, ويكثر إلى الآن في بوادي بعض البلاد العربية أنهم يكذبون بالبعث, يعتقدون أن التزام الدين, أنه إنما يحصل له الإنسان السعادة في دنياه, وأن روحه تكون في نعيم أو في جحيم, لكن بعث بعد الموت, يكذبون بذلك قال هنا (ومن كذب بالبعث كفر والدليل قوله تعالى?زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ?[التغابن:07]) وجه الاستدلال أنه قال (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فوصف الذين يزعمون أنهم لن يبعثوا بأنهم من الذين كفروا.
?????(21/177)
وأرسلَ اللهُ جميعَ الرُّسلِ مبشِّرينَ ومُنذرينَ، والدليلُ قولُهُ تعالى ?رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165]، وأولُهُمْ نوحٌ عليهِ السلامُ، وآخِرُهُم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهو خاتِمُ النَّبيينَ والدليلُ على أنَّ أوَّلُهُم نوح قوله تعالى ?إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ?[النساء:163]، وكلُّ أمَّةٍ بعثَ اللهُ إليها رسولاً مِنْ نوحٍ إلى محمدٍ، يأمُرُهُمْ بعبادةِ اللهِ وحدَهُ، ويَنْهَاهُمْ عنْ عبادَةِ الطاغوتِ، والدّليلُ قولُهُ تعالى ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، وافترضَ اللهُ على جميعِ العبادِ الكفرَ بالطاغوتِ والإيمانَ باللهِ، قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: معنى الطاغوت ما تجاوزَ بِهِ العبدُ حدَّهُ مِنْ معبودٍ، أو متبوعٍ، أو مطاع.
والطواغيتُ كثيرونَ ورؤوسُهُمْ خمَسةٌ: إبليسُ لعنَهُ اللهُ، ومَنْ عُبِدَ وهو راضٍ، ومَنْ دعا الناسَ إلى عبادَةِ نفسِهِ، ومَنِ ادَّعى شيئًا مِنْ عِلمِ الغيْبِ، ومَنْ حكمَ بغيِر مَا أنزلَ اللهُ، والدليلُ قولُهُ تعالى ? لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ?[البقرة:256]، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، وفي الحديثِ «رأسُ الأمْرِ الإسلامُ وعمودُهُ الصَّلاةُ وذروةُ سنَامِهِ الجهادُ في سبيلِ اللهِ» واللهُ أعلمُ. تمت هذه الرسالة.(21/178)
قال(وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين والدليل قوله تعالى ?رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165]، وأولهم نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم) من كذب برسول من الرسل فقد كذب بالرسل أجمعين, ومحمد عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين وخاتم المرسلين, كل دعوة لنبوة أو دعوة للرسالة بعده فهي ضلال, وهي كفر بالله جل وعلا, فمن ادعى في وقت الصحابة وبعدهم إلى يومنا هذا لم يزل يظهر من يدعي النبوة, والنبي عليه الصلاة والسلام خاتم المرسلين وخاتم النبيين وخاتمهم؛ خاتَمهم و خاتِمهم (والدليل على أن أولهم نوح قوله تعالى ?إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ?[النساء:163]) هذا وحي خاص وحي رسالة, والمراد بالنبيين هنا المرسلين.(21/179)
قال(وكل أمة بعث الله إليها رسولا من نوح إلى محمد يأمرهم بعبادة الله وحده وينهاهم عن عبادة الطاغوت والدليل قوله تعالى ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36])، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ) ما يأتي بعدها هو مضمون البعث، بعثهم لأي شيء؟ لما يأتي بعد (أَنْ) وهو (اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) عبادة الله سبق تفسيرها مفصلا في الأصل الأول وهو معرفة العبد ربه, هنا لمّا ذكر الطاغوت كان مناسبا لأهميته, أن يذكر معنى الطاغوت قال هنا (وافترض الله على جميع العباد -بهذا الدليل- الكفر بالطاغوت والإيمان بالله) ما معنى الطاغوت إذن؟ (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: معنى الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع) الطاغوت صيغة مبنية للكثرة والسَّعة, لأنها من طغى يطغى طغيانا, ومعنى ذلك التجاوز تجاوز الحد، يقال طغى الماء إذا تجاوز الحد, طغى الرجل إذا تجاوز حدّه, والطاغوت مبني من الطغيان, لكنه للكثرة مثل ملكوت, رحموت ونحو ذلك. ما هو الطاغوت؟ الطاغوت اسم لكل ما تجاوز به العبد حدّه, كل ما تجاوز به العبد حدّه؛ أي الحد الشرعي له, معلوم أن الشرع حدّ للأشياء حدودا, وبين علاقة المسلم بها, فإذا تجاوز العبد بشيء ما حده, فذلك الشيء طاغوت, قال (ما تجاوز به العبد حده من معبود) إذا عبد أحد غير الله جل وعلا فذلك الغير طاغوت هذا العابد, متى يكون طاغوتا؟ إذا كان راضيا بهذه العبادة, أما إذا كان يكرهها فإنه لا يسمى طاغوتا, لأنه يتبرأ منه والمتبرأ من الشيء ليس من أهله, كما قال جل وعلا ?إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا?[الأنبياء:98-99], فلما نزلت هذه الآية فرح المشركون, قالوا سنكون وعيسى وعزير-(21/180)
وعدّوا آلهة- سنكون جميعا في جهنم فنعم الصحبة, أنزل الله جل وعلا بعده ?إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ(102)لَا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ?[الأنبياء:101-103], فدل على أن الذي لا يرضى بعبادته فإنه ليس بمذموم, لهذا عُبدت الأنبياء والرسل, وعُبد الصالحون, وكلهم يتبرؤون, عيسى عليه السلام أُله بعد رفعه, وقال له ربه جل وعلا ? وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي?[المائدة:116-117]، (تَوَفَّيْتَنِي) يعني قبضتني؛ قبضت بدني ورفعتني عنهم, واستوفيت مدتي على الأرض؛ المدة الأولى, كنت أنت الرقيب عليهم, ?فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117)إِنْ تُعَذِّبْهُمْ... ?[المائدة:117-118] إلى آخر الآيات، (معنى الطاغوت ما تجاوز العبد حده من معبود أو متبوع) من يُتبع، يُقلَّد، يهتدى بهديه (أو مطاع) إذا كان اتبع أحد فجاوز العبد بهذا المتبع حده الذي أذن به شرعا, فقد صار ذلك طاغوتا له إذا كان راضيا بذلك, وإن كان لا يرضى فهذا هو الذي إتخذه طاغوتا, وذاك ليس بطاغوت أو مطاع.(21/181)
بين ذلك بقوله (والطواغيت كثيرون ورؤوسهم خمسة إبليس لعنه الله ومن عبد وهو راض ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه) إبليس لعنه الله هو رأس الطواغيت لما؟ لأنه عُبد, ولأنه متبوع، ولأنه مطاع وهو راض بذلك, أطيع أو لم يطع؟ أطيع في معصية الله وهذه مأذون بها, أو غير مأذون بها؟ ويعتبر عند من أطاعه أنه مقدم, وأن طاعته هَنِيَّة, ولهذا قال جل وعلا في سورة إبراهيم ?وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي?[إبراهيم:22]، الاستجابة هنا في المتابعة والطاعة, وقال جل وعلا في آية سورة يس ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ?[يس:60]، (أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) يعني بالطاعة كما هو تفسيرها (ومن عُبد وهو راض) هذا القيد مهم, من عبد من دون الله, ورضي بهذه العبادة فهو من الطواغيت, من رؤوس الطواغيت. (من دعا الناس إلى عبادة نفسه) هذا أعظم، الأول يُعبد وهو ساكت لم يدعُ إلى عبادة نفسه, يُطاع وتكون طاعته دينا، في غير طاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله, ويرضى بذلك, هذا طاغوت, الأعظم منه أن يدعو، ذاك ساكت-الأول-يكون فُعل به ذاك وهو راض, الأعظم أن يدعو إلى نفسه, مثل ما يفعل مشايخ الطرق الصوفية, يعني بعض من مشايخ الطرق الصوفية, ورؤوس الضلال.ورؤوس الرافضة, ورؤوس الإسماعيلية, ونحو ذلك. كل هؤلاء يعظمهم أتباعهم فوق الحد الشرعي, فيتخذونهم مطاعين, فيتخذونهم متابَعين من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال (ومن ادعى شيئا من علم الغيب ومن حكم بغير ما أنزل الله) من ادعى شيئا من علم الغيب فهو من جنس الشياطين, فهو كاهن من الكهنة, أو ساحر من السحرة, أو مدعي لعلم الغيب, هذا من الطواغيت.(21/182)
قال(ومن حكم بغير ما أنزل الله) الحاكم بغير ما أنزل الله فيه تفصيل:
· إذا حكم بغير ما أنزل الله معتقدا أن حكمه جائز, وأن له أن يحكم, وحكمه قرين لحكم الله أو مساوٍ لحكم الله, أو أفضل من حكم الله أو نحو ذلك. فإن هذا يعد طاغوتا.
· أما إن حكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم أنه عاص في حكمه, وأن حكم الله جل وعلا أفضل, وأن حكم الله جل وعلا هو المتعين, ولكن غلبته نفسه وشهوته بأن حكم بغير ما أنزل الله ببعض المسائل، كما يحصل لبعض المفتونين من القضاة, أنهم يحكمون في مسائل بشهوتهم, كما كان يحدث في نجد من قرون قبل الدعوة, أنه كان يُرشى القاضي -يرشى بمال- فيحكم لأحد الخصمين بغير حكم الله جل وعلا, ويحكم بغير حكم الله, وهذا هو الذي جاء فيه الحديث الذي رواه أبو داوود وغيره بإسناد قوي, أنه عليه الصلاة والسلام قال«القضاة ثلاثة قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة، رجل قضى بغير الحق وهو يعلم الحق فذاك في النار» والعياذ بالله، هذا النوع يحكم لأجل مال, يحكم لأجل رِشوة بغير ما أنزل الله, هذه معصية من المعاصي, ولا شك أن معصية سمّاها الله جل وعلا كفرا, أعظم من معصية لم يسمها الله جل وعلا كفرا, كما يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في رسالته تحكيم القوانين فإذن هذا الصنف من الناس فعلهم معصية.(21/183)
· هناك نوع آخر حدث في هذا الزمن، وهو تحكيم القوانين؛ أن يستبدل الشرع بقوانين وضعية، يستبدل الشرع استبدالا بقوانين، يأتي بها الحكام من عند غير الله ورسوله، يترك الدين، ويؤتى بتلك القوانين، فهذه كما يقول الشيخ رحمه الله تعالى محمد ابن إبراهيم في أول رسالته تحكيم القوانين يقول ما نصه: إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزل به الوحي الأمين، على قلب سيد المرسلين، للحكم به بين العالمين، وللرد إليه عند تنازع المتخاصمين، معاندة ومكابرة، لقول الله جل وعلا?فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا?[النساء:59]. ورسالته هذه بسَط فيها القول، وهي رسالة دقيقة مهمّة في هذا الباب، إذن فصار تحكيم القوانين كفرا أكبر بالله، لأنه استبدال شريعة مكان شريعة، بدل شريعة الإسلام يأتون بشريعة فرنسا، أو شريعة أوروبا، أو شريعة إنجلترا، شريعة أمريكا، هذا استبدال، فإذا كان الحكم به غالبا صار تحكيما، يعني صار الحكم في أكثر أمور الشريعة بهذه الأحكام القانونية صار استبدالا، فمتى يكون كفرا؟ إذا كان استبدالا، ومتى يكون استبدالا؟ إذا كان تحكيم القوانين غالبا، كما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى في فتاويه -الشيخ محمد بن إبراهيم- أيضا مقيِّدا: متى يكون الحكم بالقانون كفرا؟ قال إذا كان غالبا فاشيا. لما؟ لأنه استبدل شريعة مكان شريعة، فإذا غلب ذلك صار استبدال، وهذا قيد مهم، وهذه المسألة يكثر فيها الكلام في هذا العصر، بين كلام متعلمين وعلى سبيل تعلم، وبين كلام جهال، وقلّ من يحرر الكلام فيها على نحو ما بينه العلماء بدقة وتفصيل.(21/184)
قال هنا (والدليل قوله تعالى ?لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ?[البقرة:256]) قال بعد ذلك (وهذا هو معنى لا إله إلا الله) ما معنى لا إله إلا الله؟ هو قوله (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) لأن الكفر بالطاغوت هو معنى النفي بـ(لا إله) والإثبات وهو قوله (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) هو المستفاد من قوله (إلا الله).
قال بعد ذلك (وفي الحديث«رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله»والله أعلم تمت هذه الرسالة) وأسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم لما سمعنا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يجعلنا من المتعلمين حق التعلم، العاملين بما نعلم.
نسأله اللهم أن يجعلنا من أهل التوحيد؛ الذين يُعلون رايته، وينافحون عنه، ويُدافعون عنه وعن أهله، وأسأله لي ولكم العفو والغفران من جميع الزلل والسيئات، وأستغفر الله لذنبي ولذنوب جميع المسلمين، وأسأله أن يعفو عني ما حصل مني، في هذا الشرح الموجز من غلط لسان، أو سهو جنان، أو انتقال للذهن، وقد اختصرنا في الآخر, وكان حقها أن تبسط أكثر من ذلك بكثير، لكن لأجل انتهاء هذه الدروس.
وهذا هو يوم الأربعاء الثامن من ربيع الأول لعام أربعة عشر وأربعمائة وألف [08/03/1414هـ].
اللهم اجعل بقية أعمالنا خيرًا مما سلف منها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
قام بتفريغ الأشرطة: سالم الجزائري
---
(1) مابين المعكوفتين مأخوذ من الوجه الأول من الشريط الأول لشرح متن الورقات للشيخ صالح آل الشيخ.
(1) هذه العبارة موجودة أيضا في السور التالية: الشعراء:227، ص:24، الانشقاق:25, التين:6.
(1) غير موجودة فربما الشريط هو المقطوع.
(1) طه:114، المؤمنون:116.
(2) الملك:2، هود:7.(21/185)
(1) الفاتحة:2، يونس:10، الزمر:75، غافر:65
(1) وهي أيضا موجودة في سورة: لقمان:25.
(1) لعله يقصد ثلاثة. قال في شرحه لكتاب التوحيد تحت باب(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه): والخوف من غير الله جل وعلا ينقسم إلى ما هو شرك وإلى ما هو محرم وإلى ما هو مباح فهذه ثلاثة أقسام.
(1) هذه العبارة موجودة في الآية:5 من سورة الحج.
(1) وهي أيضا في سورة الشورى الآية:10.
(1) الشيخ قال ألم تر.
(1) كلمة غير واضحة.
(1) لعله قال كما أُثبت والله أعلم.
(2) لعله سبق لسان لأنه قال في شرح الباب الأخير من كتاب التوحيد: فالأرض التي أنت فيها, وأنت فيها في نقطة صغيرة صغيرة, هي بالنسبة إلى السماء هذا وصفها, والأرض والسماوات بالنسبة للكرسي هذا وصفه, والكرسي أيضا فوقه ماء، وفوق ذلك العرش؛ عرش الرحمان جل وعلا.
([15]) كلمات البيت غير مسموعة جيدا.(21/186)
الأجوبة الجلية على أسئلة
العقيدة الواسطية
[شريط مفرغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الأسئلة
1/ذكرتم أن الفرقة الطائفة هم أهل الحديث وأهل الأثر، فهل يخرج بذلك أهل الرأي من الحنفية؟
2/ هلاَّ دللتنا على بعض كتب الآداب والسلوك التي ينتفع بها طالب العلم؟
3/ هل تعلمون أحدات من الأئمة نص على أن لله تعالى خمسة أصابع صفة له جل جلاله، أم أن طريقتهم رحمهم الله الإثبات؛ إثبات الأصابع دون تحديد العدد؟
4/ عدة أسئلة تسأل عن الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
5/ هل الطائفة المنصورة هي أخص من الفرقة الناجية؟
6/هل العفو يُتصور من غير القادر على الانتقام؟
7/ كيف يَفتخر المتصدق بصدقته؟
8/قول المؤلف ويأمرون ببر الوالدين، هل يعني هذا طاعة الوالدين حتى وإن ظلموا أبناءهم, حتى في أبسط حقوقهم وهل يحق للابن أن يمنع والده من أخذ ماله علما أن الأب لم يصرف على ابنه هذا لأنه عاش في كنف والدته بحكم أنها مطلقة؟
9/ من كان في عقيدته انحراف عن هدي السلف الصالح، وكذا في أخلاقه مع الناس، ما حكم مساعدته في الخروج من المصائب التي تحلّ به وزيارته والوقوف بجانبه؟ وهل من رفض مساعدته بحجة ما عنده من الانحراف في العقيدة على صواب؟
10/ من يأمر بالمعروف ولا يأتيه هل يؤجر؟ ومن ينهى عن المنكر ويأتيه هل يؤجر؟
11/ هل يصح يا شيخ الإسلام أنه قال: إن الأشاعرة لم يوافقوا أهل السنة إلا في السيف, حيث نُقل عنكم ذلك؟
12/ما هو الرابط بين ما يجوز تأويله وما لا يجوز؟ وهل يجوز تأويل قول الله تعالى ?فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا?[الحشر:2] وتأويل قوله?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26]؟
13/ هناك كلام لشيخ الإسلام وهو أن أهل السنة يرون أنه لا مانع في وجود حوادث لا أول لها كما يوجد حوادث لا آخر لها؟(22/1)
14/... بل هو أسلوب من أساليب العرب والقائلين به يقولون هم مجاز، وعليه الخلاف لفظي ولا مشاحة في الاصطلاح؛ لأن الخلاف لا أثر له، فما هو جوابكم؟
15/هنا قال هل يوصف الله جلا وعلا أو يخبر عنه بأنه ساكت؟
16/ ما رأيك في من استحب التغيير بلفظ السلف الصالح بدلا من مذهب أهل السنة والجماعة؟
17/ ذكرت أنّ الجهمية يخرجون من اثنين وسبعين فرقة ولم تذكر الأشاعرة؟
18/ قد علم من طريقة السلف أنهم لا يردفون نزول الله بأنه ينزل بذاته، إلا ما قاله ابن منده: ينزل بذاته من العرش. لكن هل في قولنا إنه ينزل بذاته محذور أو فساد للمعنى، وذلك أننا نعلم أن هذه الصفة صفة اختيارية قائمة بالنفس؟ وأيضا لماذا لا ينسحب هذا على صفة الاستواء؟
19/ نرجو فتح مجال لحفظ كشف الشبهات.
20/ هل الخوارج كفار؟
21/ هل ورد أثر في أن مسح رأس اليتيم من أسباب ترقيق القلوب؟
22/ كيف أجمع بين حديث الرسول عليه الصلاة والسلام «صنفان من أهل النار لم أرهما...» الحديث، وغيرها من الأحاديث وبين قول أهل السنة بعدم خلود أهل الكبائر في النار؟
23/ كيف يعرف الرجل البلاء إذا نزل به من المصيبة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
موضوع هذا الدرس إجابة للأسئلة الواردة منكم حول ما سمعتم من شرح العقيدة الواسطية، والتي منّ الله جل وعلا بتمام شرحها في الأسبوع الماضي، وحبذا لو راعت الأسئلة أن تكون في الموضوعات التي سبق الكلام عليها في هذه العقيدة المباركة، حتى تكون جِلاء لبعض ما قد يغمض أو بيانا لبعض ما قد يكون مُبهما أو مجملا. نبتدئ.
اليوم فيما يتعلق بالإجابة عن الأسئلة العلمية أما الاقتراحات فقررنا أن يكون الدرس –إن شاء الله تعالى- في شرح كتاب كشف الشبهات.(22/2)
الأسئلة في العقيدة أي الأسئلة في العقيدة؛ لأن مما تطرقنا له إما نصا أو إشارة.
1/ قال: ذكرتم أن الفرقة الطائفة هم أهل الحديث وأهل الأثر، فهل يخرج بذلك أهل الرأي من الحنفية؟
الجواب: أنّ أهل الرأي من الحنفية ومن بعض أهل المدينة كأتباع ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك وغير هؤلاء من علماء الأمصار، إذا قيل أهل الرأي فإنما يُعنى به من أعملوا الرأي في الفقهيات من حيث تقديم القياس أو النظر في المسائل الفقهية والإفتاء بالقواعد والأقيسة دون النظر في الأدلة الشرعية.(22/3)
فقول السائل: فهل يخرج بذلك أهل الرأي؟ هذا على اعتبار أن أهل الرأي من الفرق أو من الطوائف العقدية، وهذا ليس كذلك، أما الحنفية فهم فئات ومنهم الأولون من المرجئة، والمتأخرون منهم الماتريدية، وقد ذكرتُ لكم أن أهل السنة والجماعة لا يدخل فيهم على التحقيق من لم يسلك سبيلهم في مسائل الاعتقاد من الأشاعرة والماتريدية فضلا عن المرجئة والخوارج ونحو ذلك، وإنما نبهنا على خروج الأشاعرة والماتريدية ردا على السَّفَّاريني ومن نحى نحوه ممن اعتبر أهل السنة والجماعة ثلاث طوائف؛ قال: هم أهل الأثر والأشاعرة والماتريدية. وهذا لاشك أنه غلط لأنّ الأشاعرة والماتريدية خالفوا أهل السنة والجماعة، خالفوا النصوص في التأصيل؛ تأصيل أخذ المسائل، وأيضا في التفريق فمن حيث التأصيلات هم يقولون بقول جهم في تقديم العقل على النص في إثبات وجود الله جل وعلا وفي الصفات وفي غير ذلك، وأيضا هم في باب الصفات مُقَوِّلة وإن كانوا صِفَاتِية لأنهم يثبتون بعض الصفات لكنهم يؤولون ما لم يتفق مع القاطع العقلي، وعندهم أنّ العقل قاضٍ والنص والشرع شاهد، ولهذا قال بعضهم في مقدمة كتاب له في الأصول: لما كان العقل هو القاضي المحتم والشاهد هو الشرع والشرع هو الشاهد المعدَّل كان كذا وكذا. فمن أصولهم أن العقل حاكم قاض وأن الشرع شاهد معدل بتعديل العقل له، وهذا هو الذي أصله الرازي في قانونه الذي ردّ عليه فيه طول وتفصيل شيخ الإسلام في كتاب العقل والنقل؛ حيث أصل الرازي في ذلك أن أصل الشرع هو النقل وإنما عرفت صحة الشرع بالعقل، وإذا كان كذلك كان تقديم الشرع على العقل تقديما للمدلول على الدليل، وهذا باطل فلزم أن يقدم العقل على النقل، فردّ عليه شيخ الإسلام بوجوه كثيرة في ذلك الكتاب العظيم الذي قال فيه تلميذه ابن القيم في النونية:
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له مثيلٌ ثانٍ
يعني مما أُلِّف في زمنه من الكتب.(22/4)
أيضا في أبواب الإيمان الأشاعرة مرجئة، والماتريدية كذلك مرجئة، وفي أبواب القدر الأشاعرة جبرية متوسطة يقولون بالجبر الباطن دون الجبر الظاهر، والجبرية الغلاة هم الجهمية وغلاة الصوفية الذين يقولون بالجبر الظاهر والباطن، وأما الأشاعرة فعندهم كما ابتدع أبو الحسن الأشعري في ذلك ما سماه بالكسب، ومحصلَّه عند محققيهم أنه جبر في الباطن مع بقاء الاختيار ظاهرا، وجعل حركات المكلف وتصرفات المكلف كما تتصرف الآلة في يد من يحركها، وهكذا في مسائل أخر معروفة.
المقصود أنّ الأشاعرة والماتريدية خلاف أهل السنة ولا يدخلون في السنة والجماعة وإنْ زعموا، ولا يدخلون في اتباع الأثر والحديث لكن بالنظر إلى المعتزلة هم من أهل الأثر والحديث بالنظر على المعتزلة، وهم من أهل السنة بالنظر إلى الرافضة، ولهذا قد يجد بعض القرّاء في كلام الأئمة من يقول: إنّ الأشاعرة من أهل الحديث. وهذا باعتبار المعتزلة، فإذا صنّف المتكلمون في الصفات أو في العقائد إلى من يحترم الحديث ومن لا يحترمه، فإنّ الأشاعرة من الذين يعتنون بالحديث والسنة، فإذا نظرت إلى الخطّابي والبيهقي وأشباه هؤلاء وجدت أنهم يعتنون بالحديث والسنة، ولهذا قد يُقال إنهم من أهل الحديث؛ يعني من رواة الحديث ممن يعتنون بالحديث مقابلة بالمعتزلة، أما أنهم من طائفة أهل الحديث الذين هم الفرقة الناجية الطائفة المنصورة فليسوا كذلك لمخالفتهم لهم في مسائل الاعتقاد.
طبعا من جهة العلماء علماء الأشاعرة طبقات، منهم من يكون قريبا جدا من أهل الحديث كالبيهقي ونحوه، ومنهم من يكون بعيد جدا، وهم درجات عند الله.
2/ هلاَّ دللتنا على بعض كتب الآداب والسلوك التي ينتفع بها طالب العلم؟(22/5)
لاشك أنّ العناية بكتب الأدب والسلوك والأخلاق من المهمات، ومن أعظم ما يدلك على ذلك فتنتفع به كتاب رياض الصالحين، فإنه من أنفع الكتب في الأدب والسلوك النبوي والإرشاد إلى الأخلاق والآداب والواجبات في التعامل والخلق والأدب، ومن جهة الزهديات كتب السلف في الزهد كالزهد لابن المبارك، والزهد للإمام أحمد، وككتاب الرِّقاق في صحيح البخاري، والبر والصلة في كتب أهل الحديث، هذه فيها -مع شروح أهل العلم عليها- ما ينتفع به طالب العلم كثيرا.
ومن الكتب المتأخرة في ذلك ابن القيم ”مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين“ شرح به كتاب منازل السارين للشيخ الهروي رحمهما الله تعالى، وكذلك كتاب شيخ الإسلام التحفة العراقية، وكذلك كتاب شرح كلمات من فتوح الغيب له أيضا -لشيخ الإسلام-، ونحو ذلك من الكتب المفيدة العظيمة.
ومن جهة تطبيق السلوك تنظر في سير أهل العلم، تنظر في التراجم في سير أعلام النبلاء أو في تذكرة الحفاظ أو في حلية الأولياء مع الانتباه لمواقع الغلو أو الجفاء في بعض التراجم هذه، تنتفع بها من الجهة العملية جدا، والمسألة فيها طول من حيث المراجع والاستفادة منها.
3/ هل تعلمون أحدات من الأئمة نص على أن لله تعالى خمسة أصابع صفة له جل جلاله، أم أن طريقتهم رحمهم الله الإثبات؛ إثبات الأصابع دون تحديد العدد؟(22/6)
الذي أعلمه من طريقة أهل السنة أنهم يثبتون الأصابع لله جل وعلا صفة دون تحديد عدد معين، وذلك لأنّ الحديث الذي جاء فيه لما رواه البخاري ومسلم وغيرهما أنّ الحبر ممن أخبار اليهود جاء فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: إننا نجد عندنا أن الله جل وعلا يجعل السماوات على ذه والأرض على ذه والجبال على ذه. وفي رواية: يجعل السماوات على إصبع والأرض على إصبع والشجر على إصبع وإلى آخره. وهذه الروايات بينها اختلاف في العدد، بعضها فيها ستة، بعضها خمسة، بعضها ثلاثة، فيعلم من ذلك أن المراد منه ذكر الجنس دون العدد، وقال الراوي بعد ذلك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا أو قال تعجبا من قول الحق.
4/ عدة أسئلة تسأل عن الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
وهذا سبق الكلام عليه في شرح الواسطية ولا ينبغي أن يكرر السؤال عن مثل ذلك نمثل هذا الاهتمام لأن المسألة واضحة ولله الحمد.
5/ هل الطائفة المنصورة هي أخص من الفرقة الناجية؟
نفس الشيء.
6/هل العفو يُتصور من غير القادر على الانتقام؟
نعم من حيث التصور: العفو يكون من قادر على الانتقام من قادر على العقوبة ومن غير قادر. ولذلك يكون العفو كمالا إذا كان من قادر على إيقاع العقوبة لمن خالفه أو من مكر به، والله جل وعلا قادر وقدير وعفو سبحانه وتعالى وعفوه عن كمال؛ كمال قدرته وكمال عزته وكمال جبروته سبحانه وتعالى، ولذلك كان صفة كمال لذلك.
ومن القواعد المقررة أنّ قياس الأَولى يجري في حق الله جل وعلا بخلاف قياس الشمول وقياس التمثيل؛ لأنّ الأقيسة ثلاثة:
قياس الأَولى.
قياس التمثيل.
قياس الشمول.
وقياس الأَولى: يجري في حق الله جل وعلا بمعنى أن كل كمال في حق العبد, الله جل وعلا أولى أن يتصف به سبحانه وتعالى، هذا قد جاء في القرآن.
أما قياس الشمول: وهو قياس المناطقة فباطل في حق الله جل وعلا.(22/7)
وكذلك قياس التمثيل: الذي هو قياس الأصوليين فهو باطل أيضا في حق الله جل وعلا.
وكل كمال في حق المخلوق، إذا قلت كل كمال لا نقص فيه، الكمال لا يكون كمالا حتى لا يكون فيه نقص، لكن بعضهم يزيد هذه العبارة توهما من..., أو إخراجا للولد؛ لأنّ بعضهم يرى أن الولد كمال بالنسبة للآدمي؛ يقول: الولد، بمعنى ممن طعنوا في القياس الأولى قالوا: الولد كمال بالنسبة للآدمي ومن لا ولد له من بني أدم فهو ناقص. لذلك كيف يُنفى عن الله جل وعلا باعتبار هذه القاعدة؟ وهذا البحث ناقص؛ لأن الحقيقة ليست كذلك لأنّ الولد نقص بالنسبة للآدمي لم يريد الولد؟ يريده لأشياء إما لنفعه, لكي ينتفع منه إذا كبر، أو ليحمل اسمه خشية من طي اسمه ونسيان اسمه وعدم بقاء اسمه, أو لأجل أنه يحتاج للتفاخر به, وكل هذه صفات نقص, والله جل وعلا له صفة كمال, فلا نحتاج إلى هذا القيد الذي ذكره الأخ من أنّ الكمال يقيد بكمال لا نقص فيه، بل الكلام معلوم أنه لا نقص فيه.
7/ كيف يَفتخر المتصدق بصدقته؟(22/8)
يفتخر المتصدق بصدقته بأنْ يكون أدلى بها في الظاهر في العلن وأعجبه ذلك هذا لابتأس به, لكن الافتخار غير الاختيال، فالفخر هنا إذا افتخر بذلك فخرا شرعيا كما ذكرنا فإنّ هذا يكون من باب الدلالة، ولهذا إبداء الصدقات وإظهارها محمود في الشرع ?إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ?[البقرة:271]، ومن السنن أنّ المتصدق في المسجد إذا كان تصدقه بحثّ الإمام الحاضرين على الصدقة أن يُعلن ذلك كما كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بدليل حديث مجتابي النمار؛ حيث جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة وملابسهم مقطعة وقد اجتابوا نمارهم فعرف ذلك في وجه النبي عليه الصلاة والسلام، فأمر وحث بالصدقة بعد الصلاة فقام رجل وتصدق بصدقة، فقالوا: تصدق فلان بكذا. فتابع الناس في الصدقة، فقال عليه الصلاة والسلام «مَنْ سَنّ فِي الإِسْلاَمِ سُنّةً حَسَنَةً, كانَ لَهُ أَجْرُهَا, وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة» فهذا المجال لا بأس به، لكن الفخر يكون من جهة دلالة الخلق على ذلك والفرح بفضل الله جل وعلا بذلك, لا فخرا مذموما، كما ذكرنا لكم من كلام ابن القيم في التفريق بين صورتي الفخر أن هناك فخرا مذموما وهناك فخرا ممدوحا.
8/قول المؤلف ويأمرون ببر الوالدين، هل يعني هذا طاعة الوالدين حتى وإن ظلموا أبناءهم, حتى في أبسط حقوقهم وهل يحق للابن أن يمنع والده من أخذ ماله علما أن الأب لم يصرف على ابنه هذا لأنه عاش في كنف والدته بحكم أنها مطلقة؟(22/9)
برّ الوالدين أصل من الأصول وقربة من القرب العظيمة قرن الله جل وعلا حقهما بحقه جل وعلا دون تفصيل في الحال?وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا?[النساء:31]، ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23)وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ?[الإسراء:23-24] وهذا فيه إطلاق في جميع الحالات, فعقوق الوالدين كبيرة من الكبائر مقارنة لكبيرة الشرك والعياذ بالله, قرن الله جل وعلا بينهما تعظيما لهذا, فكما أنّ عقوق الوالدين مقترن بالشرك, إذا حصل من الوالدين ما لم يحمد لم يطيعا الله جل وعلا في العبد -في الابن- فإنّ الابن يطيع الله جل وعلا فيهما لا يفرط في الأمر الشرعي لأجل أنهما فرّطا, بل لو جاهداه على أن يشرك, لو جاهداه على أن يزيغ, لو جاهداه على أن ينحرف, لو جاهداه على أن يكفر, فإنه لا يطيعهما فيما أرادا ويصاحبهما في الدنيا معروفا، كما قال جل وعلا?وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا?[لقمان:15]، وهذا من القواعد العامة في بر الوالدين, أما أخذ الوالد الأب أو الأم في قول كثير من أهل العلم, أَخْذَ الأب بعض مال ولده هل له ذلك؟(22/10)
الصواب: أن له ذلك، لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال «أنت ومالك لأبيك» لأنك جئت بسبب الأب، فأنت ومالك لأبيك، لكن الفقهاء قيّدوا ذلك بفهم ما جاء في السنة والقواعد وعمل الصحابة رضوان الله عليهم بقولهم في باب الهبة –عبارة الزاد- وللأب أن يتملّك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه. فللأب أن يتملك من مال الولد ما لا يضره ولا يحتاجه، فإذا كان الأخذ يضر الولد أو يحتاجه الولد في معيشته فإن الأب ليس له ذلك، لكن إذا كان شيئا زائدا فإن له أن يتملك ذلك، وكذلك الأم على الصحيح من قولي أهل العلم هنا.
9/ من كان في عقيدته انحراف عن هدي السلف الصالح، وكذا في أخلاقه مع الناس، ما حكم مساعدته في الخروج من المصائب التي تحلّ به وزيارته والوقوف بجانبه؟ وهل من رفض مساعدته بحجة ما عنده من الانحراف في العقيدة على صواب؟
هناك تنبيه عام في الأسئلة، وهذا لعلِّي أعرض له إن شاء الله تعالى في درس عام يلقى قريبا إن شاء الله بعنوان أدب السؤال.(22/11)
كثير من الأسئلة يكون عند ملقيه أو عند السائل حالة معينة، فيأتي بصيغة عامة وهذا غير مناسب أن نسأل أحد أهل العلم أو أحد طلبة العلم، وأنت في ذهنك حالة خاصة تصوغ السؤال بصيغة عامة وأنت تعني هذه الحالة الخاصة، هذا يجعل المجيب في غير علم بما في ذهنك، فيجيب إجابة بقدر السؤال وأنت تنزلها على ما في ذهنك من الواقع، وهذا يَحصل منه بلبلة كثيرة، وكثير من الأسئلة التي وجهت لأهل العلم في هذا لزمن من جهة العموم فيجيب العالم أو طالب العلم فيها بجواب فيستدل منها السائل على أشياء في صالحه فيما يزعم، وهذا ليس من أدب السؤال، بل السائل مستفتٍ السائل مسترشد، لا يسوغ له أن يسأل أن يحظى من المسؤول بالجواب الذي يلائمه، لأن السؤال في أصله أن تريد منه أخذ الحق، ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?([1]) أما إذا كنت تعلم أو عند شيئا مقررا وتريد أن تسأل لتجعل الجواب في صالحك أو مقويا لك فإن هذا ليس من أدب السؤال.
فلهذا نقول حبذا أن تكون الأسئلة في مثل هذا السؤال أن تكون مخصوصة بالحالة، من كان في عقيدته انحراف عن هدي السلف الصالح، وكذا في أخلاقه ما حكم مساعدته في الخروج من المصائب؟ هو يعني حالة معينة، لكن المسألة هذه تحتاج إلى تفصيل، كل حالة لها ما يناسبها من الجواب، لأنها قد تكتنفها أشياء يعلمها السائل ويعلمها المسؤول، بإيضاح هذه الأشياء يكون الجواب، فالجواب ليس في المسائل هذه بأمر عام بل بمعرفة الحالة الخاصة، وهذا حبذا لو يعتني به الإخوان، جزاهم الله خيرا.
10/ من يأمر بالمعروف ولا يأتيه هل يؤجر؟ ومن ينهى عن المنكر ويأتيه هل يؤجر؟
نعم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير مرتبط بعمل المعروف أو الانتهاء عن المنكر؛ لأن الواجب على العبد واجبان:
1- واجب في أنْ يأتي المعروف وأن ينتهي عن المنكر.
2- والواجب الثاني أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر.(22/12)
فإذا ترك أحد الواجبين فإنه لا يسوغ له شرعا أنْ يترك الواجب الآخر، إذا كان واقعا في المنكر, وتاركا للمعروف الذي يأمر به, فإنه لا يترك الأمر والنهي ويفرّط في هذا الواجب لأجل أنه فرط في الامتثال، هذا واجب, وهذا واجب, ولهذا ذكرتُ لك قول الإمام مالك رحمه الله تعالى: لو لم يأمر بالمعروف إلا من أتاه ولم ينهى عن المنكر إلا من انتهى عنه لن تجد آمرا ناهيا. لأنّ الدين عظيم ومسائل الشرع والواجبات والمستحبات كثيرة, كذلك المحرمات والمكروهات كثيرة, فالعبد يجب عليه أن يأمر وينهى فإنه إذا فرط فإنه يستغفر الله جل وعلا ويكون قد فرط في واجب أو مستحب أو ارتكب محرما, ونحو ذلك.
فلهذا لا صلة بين هذا وهذا, هذا واجب, وهذا واجب, فمن وفقه الله جل وعلا لامتثال الواجبين فإنه هو الذي حظي بالفضل, وأما من خالف فهذا فيه تفصيل:
إن كانت هذه المخالفة دائمة معه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, وهو يواقع المنكر ولا يأتي ولا يأتي بالمعروف طول حياته, يعني ملازم لذلك فهذا هو الذي جاء في مثله قول النبي عليه الصلاة والسلام الحديث الذي رواه مسلم وغيره «إنه يؤتى بالرجل يوم القيامة, فيلقى في النار فتندلق أقتابه-يعني أمعاؤه- فيقال له: يا فلان ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر, قال: بلا, ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه, وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه» هذا في حال من لازمه وغلب عليه.
أما من أمر ثم استغفر ويجاهد نفسه, هذا له حكم أمثاله ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يعفو عنه.
11/ هل يصح يا شيخ الإسلام أنه قال: إن الأشاعرة لم يوافقوا أهل السنة إلا في السيف, حيث نُقل عنكم ذلك؟(22/13)
ما ادري، أنا ما أذكر أني قلت هذه الكلمة, ولا أحفظها من كلام شيخ الإسلام –رحمه الله-، لكنهم وافقوا أهل السنة في السيف يعني جمهور الأشاعرة أنه لا يجوز الخروج، وافقوا أهل السنة في السيف؛ لكن لم يوافقوهم إلا في هذه غير صحيح؛ لأنهم وافقوا أهل السنة في مسائل كثيرة.
12/ما هو الرابط بين ما يجوز تأويله وما لا يجوز؟ وهل يجوز تأويل قول الله تعالى ?فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا?[الحشر:2] وتأويل قوله?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26]؟
الجواب: أن هذه المسألة مسألة عظيمة ودقيقة وبعدم معرفتها يكون الخلط بين التأويل والقول بظاهر الكلام أو ما يتضمنه الكلام أو لازم الكلام.
وأذكر أني في أثناء الشرح لما تكلمنا على الصفات, عرضتُ لهذه المسألة لكن أعيدها حتى تتكرر الفائدة:
فالتأويل: هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره, صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره، لدليل دل عليه أو لقرينة.
فإذن في التأويل عندنا ظاهر, وهناك صرف اللفظ عن ظاهره, فعِماد فهم التأويل على فهم كلمة (الظاهر).
كما أن المجاز عندهم هو نقل اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثانٍ لعلاقة بينهما, ففهم المجاز الذي يقابله الحقيقة مبني على فهم: الوضع الأول, الوضع الثاني، العلاقة.
والتأويل مبني على فهم الظاهر والقرينة.
فإذن في التأويل شيئان؛ ظاهر وقرينة, مهم أن تعتني بهذين حتى تفهم المسألة.و
في الحقيقة والمجاز هناك ثلاثة ألفاظ؛ وضع أول, وضع ثان, وعلاقة.
الظاهر في التأويل نوعان؛ الظاهر في الكلام نوعان: هناك ظاهر اللفظ, وظاهر تركيبي.
ظاهر يظهر من لفظ واحد.
وظاهر يظهر من الكلام؛ من الجملة.(22/14)
ولهذا تعريف التأويل قالوا نقل الكلام أو صرف اللفظ, نقل الكلام من ظاهره المتبادر منه إلى غيره بقرينة، أو صرف اللفظ، فنقل الكلام أو صرف الكلام عن ظاهره هذا راجع إلى الظاهر التركيبي, وصرف اللفظ عن ظاهره هذا راجع إلى اللفظ الإفرادي فمثلا في قول الله جل وعلا ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، قالوا استوى بمعنى: استولى أو هيمن, هذا تفسير لكلمة استوى, هنا نقل اللفظ من ظاهره إلى معنى آخر بقرينة, ظاهر اللفظ هنا أن استوى بمعنى: علا. هذا معناها في اللغة, فأولوها بمعنى استولى فصار هذا تأويلا, هل هذا تأويل سائغ أم غير سائغ؟ نقول هذا تأويل باطل غير سائغ؛ لأنه نقل اللفظ عن ظاهره المتبادر منه بغير قرينة, القرينة التي يدّعونها, القرينة العقلية, والقرينة العقلية مبنية على أنْ يكون العقل تصوَّر امتناع إثبات ظاهر اللفظ, فلذلك نقله, ومن المتقرر أنّ علوّ الله جل وعلا على عرشه لا يمتنع عقلا –اليس كذلك؟- ما نقول ثابت عقلا، العلو ثابت عقلا الاستواء على العرش لا يمتنع عقلا، فعلى تقدير مجاراتهم في كلامهم نقول هو جائز عقلا, وإذا كان كذلك فيكون نقل اللفظ من ظاهره إلى غيره يكون تأويلا باطلا.(22/15)
هناك تأويل صحيح ممثل ما ذكر من الآيات مثل قول الله جل وعلا ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26]، ظاهره؛ ظاهر اللفظ أن الإتيان هنا لله جل وعلا (أَتَى اللَّهُ) يعني أنّ الله يأتي لكن أجمع أهل السنة على أنّ هذه الآية ليست من آيات صفة الإتيان، لم؟ لأن الظاهر هنا ظاهر تركيبي ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26] معلوم أنّه لما قال(مِنَ الْقَوَاعِدِ) بأن الله جل وعلا لم يأتِ من القواعد بذاته ?فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ?[النحل:26]، وإنما أتى الله جل وعلا بصفاته يعني بقدرته, بعذابه, بنكاله, كذلك قول الله جل وعلا?أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ?[الفرقان:45], (أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ) ليس معناه رؤية الله جل وعلا حيث يمد الظل, وإنما تُرى قدرته جل وعلا حيث يمد الظل، فهذا الظاهر تركيبي، هذا لا يُسمى تأويلا أصلا؛ لأنه القول بظاهر الكلام فما نقلنا الكلام وما صرفنا الكلام عن ظاهره.
فإذن القاعدة المقررة عند أهل السنة أنه في نصوص الغيبيات؛ في الصفات أو في ما يكون يوم القيامة, أو في الملائكة, إلى غير ذلك، لا تأويل فيها، فنأخذ بالظاهر, هذا الظاهر تارة يكون ظاهرا من جهة اللفظ, و تارة يكون ظاهرا من جهة التركيب.
في قول الله جل وعلا? تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[الملك:1]، قد تجد من يفسرها بقوله (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) يعني في قبضته وتحت تصرفه, وهذا التفسير إذا كان مع إثبات صفة اليد لله جل وعلا فهو تفسير سائغ؛ لأن الملك بيده, بمعنى أنه تحت تصرفه، لكن في الآية إثبات صفة اليد.(22/16)
في قول الله جل وعلا ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ?[الفتح:10]، قال ابن كثير وغيره: هذا تشديد في أمر البيعة. هذا فيه إثبات صفة اليد لله جل وعلا ومعنى الكلام في ظاهره التركيبي مع إثبات صفة اليد أنّ فيه تشديد أمر البيعة.
فإذا كان أحد من المفسرين فسر بالظاهر التركيبي أو فسر بالمتضمن للكلام، أو فسر باللازم فتنظر فيه هل يؤول الصفات أو لا يؤولها؟ فمثلا لو نظرت إلى هذه الآية (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ووجدت أن في هذه الآية لم يثبت صفة اليد وإنما قال هذا تشديد في أمر البيعة لأجل أن لا ينكث بها أحد.
تنظر في الموضع الآخر لقوله جل وعلا ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وفي قوله ?يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ?[المائدة:64]، هل في ذلك إثبات صفة اليد عند هذا المفسر أو لا؟ فإن أوّل في ذلك الموضع علمنا أنه في هذا الموضع أوّل، وإن أثبت في ذلك الموضع علمنا أنه في هذا الموضع فسّر باللازم والمتضمن.(22/17)
وهذا من دقيق المسائل إذا لم تفهمه وجاوزه، ولا تأخذ فيه بعدم فهم له؛ لأنّ هذه من دقيق المسائل ولهذا بعضهم يقول البغوي أوّل، أو مثل واحد ألّف ابن كثير بين التفويض أو قال ابن كثير بين التأويل والتفويض أو بين التفويض والتأويل، ويظن أنّ بعض الناس أن ابن كثير فوّض بعض الآيات؛ فوض بعض الصفات أو أوّل، هذا غير صحيح، كذلك البغوي فوّض أو أوّل هذا غير صحيح، لم؟ لأنه قد يفسر باللازم، قد يفسر بالمتضمن، قد يفسر بالظاهر التركيبي، كيف تعلم الفرق بين المؤلف وغيره؟ كما فعل السائل هنا بدقة جيدة قال: ما هو الضابط بين ما يجوز تأويله وما لا يجوز تأويله؟ يلتبس في حق بعض المفسرين فلا تأخذ في الموضع المشكل الذي يحتمل أن يُفسَّر باللازم ولكن أنظر إلى الموضع الذي فيه التنصيص على الصفة فإذا أثبت الموضع الذي فيه التنصيص على الصفة، فإنه هنا ما أول الصفة ولكنه فسر بالمتضمن أو اللازم أو فسر بالظاهر التركيبي، وهذا بحث يحتاج إلى مزيد بسط لكن هذه أصوله.
13/ هناك كلام لشيخ الإسلام وهو أن أهل السنة يرون أنه لا مانع في وجود حوادث لا أول لها كما يوجد حوادث لا آخر لها؟
الزمان مخلوق والله جل وعر هو الأول والآخر وهو سبحانه وتعالى حي قيوم فعال لما يريد، فلابد لظهور أثر صفاته وأثر أسمائه الحسنى في بريته، فلابد إذن أن توجد برية فيتناهى الزمان، ينتهي الزمان، ويكون هو جل وعلا أوّل بصفاته وهو آخر أيضا ?هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ?[الحديد:3]، وهذه هي المسألة التي يسميها بعضهم قِدم الحوادث، أو تسلسل الحوادث أو نحو ذلك من الأسماء.(22/18)
ومن مذهب أهل الحديث والسنة فيها: أن الله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلا وأنّ أسماؤه وصفاته لابد أن يظهر أثرها في خليقته، فلا يكون متصفا بصفات وله أسماء متضمنة لصفات ثم يكون معطَّلا جل وعلا عن الفعل حتى يخلق الزمان ويخلق المكان، وهذا فيه دخولٌ في قول الجهمية والمعتزلة.
فأهل الحديث يقولون هو جل وعلا لم يزل حيا سبحانه وتعالى، وهو فعال لما يريد، ولابد أن يكون له إرادة سبحانه وتعالى، فإرادته أن يفعل؛ معنى ذلك أن يحدث فعل، وصفاته جل وعلا لابد أن يكون له أثر في الخليقة فصارت حوادث.
أول هذه الحوادث متى؟ نقول الزمان وجد بعد ذلك، والله جل وعلا أعلم بهذا الأمر، تقاصر العقل والفهم عن هذه الأشياء؛ لكن من الظلم ما قالوه من أن شيخ الإسلام وأهل الحديث قالوا بقول الفلاسفة؛ حيث يقول الفلاسفة بقدم هذا العالم، وأن هذا القول الذي ذكرناه من مذهب أهل الحديث هو قول الفلاسفة، هذا باطل وإنما أوتوا من جهة عدم الفهم، الفلاسفة والضلال في هذا الباب قالوا بقدم هذا العالم -فيها الإشارة- هذا العالم المنظور، هذا العالم الذي تراه؛ السموات والأفلاك والأرض قالوا هي قديمة.
وأما أهل السنة فقالوا خلق الله جل وعلا قديم، ليس هذا العالم، هناك جنس مخلوقات، أما هذا العالم فهو محدث مبتدئ ابتداءً نعلمه مما جاءت النصوص. ([2])
وأما فعل الله جل وعلا وجنس مخلوقاته فهذا علمه إلى الله جل وعلا، ولا يجوز لأحد أن يدخل في ذلك بتعطيل الله جل وعلا عن فعله لما يريد فهو سبحانه وتعالى الحي القيوم قائم على ما خلق سبحانه وتعالى، ولا بد أم يظهر أثر الصفات وأثر الأسماء في الخلق، وهذه مسألة عظيمة خاض فيها من لم يحسن، وهدى الله جل وعلا أهل السنة فيها بتعظيمه وعدم حدّ صفاته وأفعاله.
14/... بل هو أسلوب من أساليب العرب والقائلين به يقولون هم مجاز، وعليه الخلاف لفظي ولا مشاحة في الاصطلاح؛ لأن الخلاف لا أثر له فما هو جوابكم؟(22/19)
نقول هذا القول باطل وغلط كبير, المجاز كما عرفته لك بنقل تعريف الأصوليين هو: نقل لفضي من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة بينهما.
إذا كان النص في أمور غيبية ممثل صفات الله جل وعلا، أو صفات الملائكة, أو صفة الجنة والنار, أو صفة ما يحدث يوم القيامة, أو ما في البرزخ, في القبور ونحو ذلك, إذا كان اللفظ في أمور غيبية، فإنه لا يجوز دعوى المجاز فيه فهو من جملة أهل البدع, لم؟ لأنّ المجاز في تعريفه نقلُ اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة, لم نقلوه؟ لعدم المناسبة, الوضع الأول لابد أن يكون معلوما, ثم يُنقل من الوضع الأول إلى الوضع الثاني لعلاقة بينهما, لعدم مناسبة الوضع الأول, نقول هذا لو طبّقوه لرجح عليهم الإبطال كل ما ادعوا فيه المجاز من المسائل الغيبية؛ لأن كل من قال بالمجاز في آية, أو في حديث في أمر غيبي قل له, لم؟ فيقول لأن هذا اللفظ ليس لائقا, وننقله عن ذلك, فتقول له وما أدراك عن الوضع الأول؟ الوضع الأول يعني اللفظ الذي وضعته العرب أول ما وضعت الكلام لهذا المعنى، فمثلا لفظ الأسد هو للحيوان المفترس, نُقل من الحيوان المفترس إلى الرجل الشجاع, فإذا قلت رأيتُ أسدا إحتمل الكلام أن تكون رأيت الحيوان المفترس المعروف أو رأيت الرجل الشجاع, لكن إذا قلت رأيتُ أسدا فكلمني هذا انتهى الأول, هذا ظاهر لم؟ لأن دلالة السياق حددت لك المراد, لكن في مثل قوله جل وعلا?الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ?([3]), قالوا الرحمة مجاز عن الإنعام, يعني أن الرحمة لها معنى في أوله وهو الذي يحس به المخلوق حين يَرحم, ثم نُقل إلى وضع ثان وهو الإنعام لعدم مناسبة الوضع الأول لله جل وعلا، فتسأل هذا الذي ادعى المجاز تقول له: ومن قال لك إن الرحمة وضعت أولا في كلام العرب للرحمة التي يحس بها الإنسان؟ هذه دعوى لا يمكن لأحد أن يقول: الوضع الأول في المعان هو كذا. هذا من العسير أن يقول الوضع الأول هو كذا, تقول له ما الدليل على أن الوضع(22/20)
الأول هو كذا؟ ?وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ?[الإسراء:24]، قال: هذا مجاز. لم؟ قال: لأن الجناح للطائر. فنقول بأنه مجاز لأن الجناح للطائر, فننقله من وضعه الأول إلى الوضع الثاني للاستعارة كما يقولون, الآية فيها استعارة, نقول ومن قال إنّ العرب وضعت لفظ الجناح للطائر، ما الدليل؟ يقف معك، لا دليل، وهكذا في مثل يعني مسائل كثيرة في الصفات والغيبيات إلى آخره.
فالمقصود من ذلك أن دعوى المجاز في الصفات باطلة, ولا دليل واضح علمي بتطبيق ما قرروه في تعريف المجاز على ما ادعوه.
فمن قال: إن في آيات الصفات الآيات الغيبية مجاز. فنقول: هذا باطل مخالف للعقيدة عقيدة السلف الصالح.
إذا قال في غير آيات الصفات إنه مجاز, نقول: الخلاف هنا أدبي. من قال: في لفظ من الألفاظ في غير القرآن إن هذا فيه مجاز. نقول: المسألة سهلة. أنه لا تعرض فيها للصفات ولا للغيبيات فمن قال هذه الكلمة فيها مجاز, بيت الشاعر هذا فيه مجاز ونحو ذلك. نقول: الأمر سهل. لأنه ما ينبني عليه خلل في العقيدة.
فإذن إذا ادّعى المجاز في المسائل الغيبية؛ في الصفات أو في الغيبيات فهذا مخالف للعقيدة.
إذا قيل بالمجاز في غير آيات الصفات والمسائل الغيبية فتقول هذا خلاف أدبي، منهم من يرجح أنه لا مجاز، ومنهم من يرجح أن فيه يعني في اللغة مجازا.
وهل القرآن فيه مجاز أم لا؟ أيضا ثَم خلاف, من القواعد المقررة عند القائلين بالمجاز أن كل مجاز يصحّ نفيه، فإذا قلت رأيت أسدا فكلمني جاز أن تقول بعدها مباشرة ولكنه ليس بأسد؛ تعني الوضع الأول, جدارا أو( جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ), يصح أن تقول بعدها عندهم ولكنه ليس بجناح، تريد جناح الطائر, ومن المجمع عليه أنه لا يجوز أن يُنفى شيء في القرآن, وهذا من المرجحات لعدم جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز.
هذه قاعدة عند البلاغين, كل مجاز يصح نفيه.(22/21)
مجاز لفظي، لا, إذا كان في غير آيات الصفات والغيبيات يعني يصير سهل؛ لكن في القرآن كله لا ليس لفظيا، النزاع حقيقي, هل تأول آيات الصفات أم لا؟ تأوّل, إذا كان أخرج آيات الصفات قلنا الخلاف يكون أدبيا, يعني الخلاف بين أهل العلم، التحقيق أنه لا مجاز في اللغة أصلا، كما أنه لا ترادف في اللغة، وإنما كل مسألة ادعوا فيها المجاز فنقول هي حقيقة, ولكن الحقيقة منها ما تفهم باللفظ ومنها ما تفهم بالتركيب.
15/هنا قال هل يوصف الله جلا وعلا أو يخبر عنه بأنه ساكت؟
الجواب: أنّ السكوت له معنيان:
المعنى الأول: سكوت مقابل للكلام؛ تكلم وسكت.
والمعنى الثاني: سكوت عن إظهار الحكم, عن إظهار الكلام, عن إظهار الشيء.
أما الأول فلا أعلم أن أهل السنة يصفون الله جل وعلا بالسكوت الذي هو مخالف للكلام؛ يعني يتكلم ويسكت بمعنى يترك الكلام أصلا، فلا أعلم أن أحدا من أهل السنة قال به.
وأما المعنى الثاني وهو السكوت بمعنى عدم إظهار الخبر أو ترك إظهار الحكم، أو إظهار الكلام، هذا جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ، غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا» سكت عن أشياء هنا السكوت بمعنى عدم إظهار الحكم لأنه قال « إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ» فالسكوت هنا عدم إظهار حكم تلك الأشياء، ليس هو السكوت الذي هو ضد الكلام، فهذا النوع ثابت سكت الله جل وعلا عن هذا الحكم يعني لم يظهر حكمه لا في الكتاب والسنة، تركها جل وعلا، فيرجع الأمر إلى القواعد إما أن أصلها الإباحة أو إلى آخر ما هو معلوم.
وهذا هو المراد بقول من قال من السلف يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء دعاية لهذا الحديث، هذا تحقيق القول في هذه المسألة والله أعلم.
16/ ما رأيك في من استحب التغيير بلفظ السلف الصالح بدلا من مذهب أهل السنة والجماعة؟(22/22)
أهل السنة والجماعة لفظ ادعاه الكثيرون، فالأشاعرة يقولون عن أنفسهم إنهم هم أهل السنة والجماعة، والماتريدية كذلك؛ لأن لفظ السنة والجماعة لفظان محببان جميلان، فأهل السنة والجماعة كل يدعيها، ولذلك إذا قلت عند الأشاعرة، فلا بد أن نذهب إلى ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة يسلم لك لا خلاف في هذا؛ لأن اللفظ كل يدعيه أهل لفظ السلف الصالح فإنه يتميز به المراد بأهل السنة والجماعة، السلف الصالح لا ينتسب إليه الأشاعرة والماتريدية والمبتدعة؛ لأنهم يؤصلون أن طريقة السلف أسلم ولكن طريقة الخلف أعلم وأحكم، فلا ينتسبون إلى السلف الصالح لأجل أنهم أرادوا السلامة والسلامة عندهم خلاف العلم والحكمة، نسأل الله العافية والسلامة.
والواقع أن السلف طريقتهم أسلم وأعلم وأحكم رحمهم الله تعالى وجزاهم عنا وعن الإسلام خير الجزاء.
ولهذا ينبغي التنبه عند إطلاق أهل السنة والجماعة بتقييده، وإذا أطلق ولم يقيد في بعض الأحيان فلا بأس، لكن تقييده في بعض الحيان هذا هو طريق المحققين من أهل العلم، فيطلقونه من غير تقييد وتارة يقيدونه حتى يحمل المطلق على المقيَّد.
17/ ذكرت أنّ الجهمية يخرجون من اثنين وسبعين فرقة ولم تذكر الأشاعرة؟
الأشاعرة هم من هذه الأمة، الأشاعرة ليسوا بخارجين عن الإسلام، الأشاعرة إنما هم مخالفون مبتدعة.
18/ قد علم من طريقة السلف أنهم لا يردفون نزول الله بأنه ينزل بذاته، إلا ما قاله ابن منده: ينزل بذاته من العرش. لكن هل في قولنا إنه ينزل بذاته محذور أو فساد للمعنى، وذلك أننا نعلم أن هذه الصفة صفة اختيارية قائمة بالنفس؟ وأيضا لماذا لا ينسحب هذا على صفة الاستواء؟
لو ترك (ينسحب هذا) لكان أحسن، لو قال: ولكن لماذا لا يصلح هذا في صفة الاستواء؟ أو لماذا لا يقال هذا في صفة الاستواء؟ ونحو ذلك.(22/23)
معلوم أن طريقة السلف متابعة النصوص، والتصريح ببعض الألفاظ الزائدة عما جاء في النصوص مما يفهم منها في الصفات، لا يكون إلا عند الحاجة، لا يكون هكذا من غير حاجة، لهذا ترى أن الإمام أحمد قال في أول أمره: من قال إن القرآن غير مخلوق فهو مبتدع ومن قال إنه مخلوق إنه مبتدع. ثم لما استحكم القول بخلق القرآن قال إذا سئل هل القرآن مخلوق قال: لا، ليس بمخلوق.
الفترة الأولى حين قال من قال إن القرآن ليس بمخلوق فهو مبتدع، لأنه لا حاجة إلى ذكر هذه اللفظة؛ لأن ذكر هذا اللفظ يستدعي البحث في خلق القرآن، هل هو مخلوقأو غير مخلوق؟ ليس بمخلوق ، لماذا نفى؟ فلا تدخل في العقائد بألفاظ مبتدعة، بل تتابع النصوص، وهذا هو الواجب وخاصة في الحديث مع العامة والناس ومع طلبة العلم، إلا فيما يحتج إليه، ولهذا قد يتحاشى طالب العلم أن يفصل بعض المسائل لبعض المتعلمين وطلبة العلم لأنه لا حاجة إلى تفصيلها.(22/24)
وهذا الباب باب العقائد الأصل فيه أن يتابع الكتاب والسنة، وأن لا يزاد عليه تذكر المسالة ويذكر دليلها فقط؛ لكن توسع أهل العلم ردا على المخالفين، ولهذا من زاد بعض الكلمات استوى على عرشه بذاته، أو قال هل استوى بحد؟ قال نعم بحد، أو ينزل بذاته، أو يأتي بذاته، أو نحو ذلك، فهذا لحاجة كانت في ذلك الزمان، فما لم تكن الحاجة قائمة في مقابلة أهل البدع فإنه لا يتجاوز القرآن والحديث، ولهذا مما ينبغي أن يفهم وأن يستحضره طالب العلم جيدا أن كتب الردود لا تأخذ منها تقعيد عقائدي وإنما تأخذ منها فهم مرادات السلف بتقرير العقائد، وفرق بين المسألتين، فكتب الردود قد يحتاج فيها العالم الذي رد من أئمة السلف إلى ألفاظ لا يقولها عن الابتداء والاختيار، وإذا قرر العقيدة من دون ردّ فإنه لا يأتي بتلك الألفاظ، ولهذا نقم بعض أهل البدع على بعض أئمتنا كعثمان بن سعيد الدارمي وابن منده ونحو هؤلاء الأئمة بألفاظ أوردوها، وإنما أحوجهم إيراد تلك الألفاظ الرد على المخالفين، فتنتبه أن كتب الردود يكون فيها زيادة، فيها استطراد، فيها أنه يلتزم بشيء لا داعي له، لكن في مقام الرد يلتزمه ليبين أنه على ثبت ويقين من الأصل الذي أصله.(22/25)
فإذن أعيد لكم هذا الأصل وهذه القاعدة هي: أن كتب الردود لا يؤخذ منها تقرير عقائد أهل السنة، وإنما يؤخذ منها فهم تقرير العقائد، التقرير نفسه ما تأخذ منها؛ يعني التقعيد لا تأخذه من كتب الردود، وإنما كيف تفهم النصوص كيف تفهم القواعد؟ تفهمها من الردود، فإذا احتجت ذكرت ما ذكروا إذا لم تحتج فلا تتوسع في ذلك فباب الصفات باب إنما يتابع في النصوص لا تزيد على النصوص، إلا إذا كان ثم حاجة، ولهذا بعض طلبة العلم يستأنس بهذا الباب إلى ذكر خلافيات دقيقة في نصوص الصفات، وكلام أهل العلم، ويتجادلون في ذلك، ويتركون بعض الواجب عليهم في مسائل الدين الأخرى لا يتعلمونه وبالتالي لا يعملون به، فهذا غير سائغ؛ لأنّ طلب العلم في الحقيقة له لذة ومن سار في طلبه للعلم على لذته حُرِم -بعض الشباب وهذه سبق أن ذكرتها لكم وهي أن بعضهم يطلب العلم للذة يعني من الزمن القديم- له لذة في البحث في الصفات فيبحث ويدقق؛ لكن باب الإيمان لا يعرفه، لكن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعرف كلام أهل السنة فيه، لكن باب الأخلاق ما يعرف كلام أهل السنة فيه، وهكذا فالإيغال في بحث شيء وقد فرط في واجب وذاك الذي أوغلت فيه ليس بواجب عليك فهو من باب تقديم المستحب على الواجب، فتقديمك المستحب على الواجب لم؟ لأنّ لك لذة فيه، ولشيخ الإسلام رسالة في هذا الأصل عنوانها ”قاعدة فيما للعبد فيه محبة“ يعني من الأعمال، وهذا من دقائق البحث في أصول العمل والنيات وما يصلح به القلب، وهذه الرسالة غير موجودة في الفتاوى ولا رسائل شيخ الإسلام، وإنما موجودة في مجموع اسم رسائل عرابية أو بحوث عرابية وإسلامية مهداة إلى أديب العربية محمود محمد شاكر، مجموعة من تلامذة الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر، كتبوا تحقيقات ومن ضمن تلامذته محمد رشاد سالم حقق هذه الرسالة وأودعها هذا المجموع وهي رسالة وجيزة.(22/26)
بعض الناس يطلب العلم للذته تجده يبحث في المصطلح ويحقق في المصطلح، لماذا؟ لأن له لذة في ذلك يجد استمتاع يخرج الأحاديث، ويجلس للأحاديث شهر أسبوعين وثلاثة وأسبوع، لم؟ لأن له لذة في ذلك، يحفظ حفظا مطولا كذا هل لأنه الواجب عليه؟ لا، لأن له لذة في ذلك، تجد يحفظ في كتب الحديث، هل حفظت القرآن؟ لا، لم؟ صار لذاك؛ لأن له لذة فيه ، تجده يوغل في البحث في مسائل الأسماء والصفات ويأتي فيها ببحوث غريبة يعني من جهة أنها غير مشهورة وذلك لأن له لذة في ذلك فإن كان هذا الاستقصاء بعد تمكن فيما يجب عليه فهذا فضل الله يؤتيه ما يشاء، أما أن يفرط بالواجب ويذهب إلى مستحب أو يذهب إلى مباح في بعض من الإطلاع على بعض التفاصيل فهذا ليس بحسن.
نعود إلى أصل الموضوع وهو أن مثل هذه الألفاظ بذاته أو نحو ذلك هذه يذكرها بعض أهل العلم للحاجة إليها، فإذا إذا لم يكن ثم حاجة فلا مجاوزة للقرآن والحديث فنحن نقول الله جل وعلا مستوي على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، وينزل إلى السماء الدنيا كما أخبر عن ذلك كما يليق بجلاله وعظمته، ولا حاجة إلى القول بذاته لأن النص ظاهر واضح.
19/ نرجو فتح مجال لحفظ كشف الشبهات.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الإعانة هذا من أعظم ما يُعمل في طلب العلم أن تحفظ لمتون هذه، خاصة كشف الشبهات وكتاب التوحيد وثلاثة الأصول؛ لأن فيها من أصول التوحيد ما تحتاج إليه دائما، ومن حفظ فأراد أن يتقدم ونسمع له ما عندنا مانع.
20/ هل الخوارج كفار؟
ليسوا بكفار على الصحيح، بل كما قال علي رضي الله عنه من الكفر فرّوا وقول النبي عليه الصلاة والسلام « يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ» لا يُعنى به أصل في الدين وإنما يعني به أكثر الدين.
21/ هل ورد أثر في أن مسح رأس اليتيم من أسباب ترقيق القلوب؟
هذا ليس على شرط الليلة.(22/27)
22/ كيف أجمع بين حديث الرسول عليه الصلاة والسلام «صنفان من أهل النار لم أرهما...»الحديث، وغيرها من الأحاديث وبين قول أهل السنة بعدم خلود أهل الكبائر في النار؟
دخول النار لمن لم يغفر الله جل وعلا له أو لم ترجح حسناته على شيئاته أو لم يُشفع له، هذا يكون دخولا مؤقتا لمن كان من أهل السنة، أهل التوحيد ربما عذبوا في النار لكن تعذيبا مؤقتا، فتعذيبهم ليس بخلود فيها، الذي يخلد هو الكافر الخارج من الإسلام.
23/ كيف يعرف الرجل البلاء إذا نزل به من المصيبة؟
يعني إذا نزل بالعبد شيء هل يعتبره بلاء أم يعتبره مصيبة؟ هو في الواقع أراد أن يقول هل هو بلاء أم عقوبة؟ فيما يظهر. أم هو: بلاء أو مصيبة؟ هو يكون بلاء وهو مصيبة في نفس الوقت؛ لأنّ المصيبة يبتلى بها، لكن الذي يقارن يقال هل هو بلاء أم عقوبة، هذا الذي أفهم أليس كذلك؟ ليشتبه هل هذا بلاء أم عقوبة هل هو ابتلاء أم عقوبة، أما المصيبة فاله جل وعلا يبتلي بالمصائب كما هو معلوم.(22/28)
الأصل أنّ المسلم ما يصيبه ابتلاء لقول النبي عليه الصلاة والسلام «عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ. إِنّ أَمْرَهُ كُلَّهُ له خَيْرٌ. إِنْ أَصَابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْراً لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرّاءُ صَبَرَ, فَكَانَ خَيْراً لَهُ» السراء والضراء صارت خيرا للمؤمن، فتكون إذن من الابتلاء أبتلي بالسراء فشكر فكانت خيرا له، وابتلي بالضراء فشكر فكانت خيرا له، هذا الأصل بالمؤمن أنه يبتلى بذلك، ويقال يُخشى أن تكون عقوبة، فإن كان المسلم في نفسه يعلم أنه من أهل العصيان فقد يترجّح له أنه من أهل العقوبة، كما قال بعض السلف حينما أُصيب بمرض شديد في آخر عمره، قال مما أصبتُ بهذا؟ فجعل يتذكر هل له ذنب يعاقب عليه، هل له ذنب يعاقب عليه، فتذكر فقال: ربما كانت من نظرة نظرتُها وأنا شاب، هذا مما يخشاه العبد، يخشى أن يكون ما أصابه عقوبة وهو ابتلاء يصبر عليه فإذا كان ذلك يتذكر معصيته وذنبه فليبادر بالتوبة والإنابة؛ لأن هذه المصائب كفارات وتذكر العبد وتمحو الخطايا، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يدعه وليس عليه خطيئة، فقد جاء في البخاري وغيره «من يُردِ الله به خَيراً يُصبْ منه».
فإذن نقول الأصل أنه ابتلاء لكن ما يجوز أن نقول هذه عقوبة، عاقب الله فلانا؛ لأنّ هذا ما تدري أنت، عاقب الله أهل البلد الفلاني، ما تدري هل هي عقوبة أم لا، لأن هذا علمه عند الله جل وعلا، تحديد هل هي ابتلاء أو عقوبة، قد تكون ابتلاء وقد تكون عقوبة، وقد تكون هذه وهذه جميعا في حق البعض كذا وفي حق البعض كذا.
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والهدى والاهتداء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
e-mail: Abdelmalek.salem@caramail.com
---
([1])النحل:43، الأنبياء:7.
([2])انتهى الوجه الأول من الشريط.
([3])الحشر:22, فصلت:2, النمل30, البقرة:163, الفاتحة: 1-3.(22/29)
أشراط الساعة
خطبتي جمعة
[وجه شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
[الخطبة الأولى]
الحمد لله الذي بين في كتابه مصالح العباد في أعمالهم وفي عقيدتهم وفيما يصلح دينهم ودنياهم.
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله.
نشهد أنه بلع الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف علينا من الدين الغُمة، وجاهد في الله حق الجهاد، لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه, صلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق تقاته.
عباد الله: إنَّ مما يجب الإيمان به لإخبار الله جل وعلا به ولإخبار النبي صَلَّى الله عليه وسلم به الإيمان بأشراط الساعة.
فإن للساعة إن ليوم القيامة أشراطا، والله جل وعلا بيت في كتابه بعض تلك الأشراط؛ يعني بعض علامات الساعة، التي تؤذن بأن الساعة قريبة، وأن ميعادها قد قرُب، وأن لقاء الله آتٍ، وإن كان أكثر الناس في غفلاتهم [سادرون] إن الإيمان بأشراط الساعة فرض؛ لأن الله جل وعلا قال في كتابه ?فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ?[محمد:18]، فقوله (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) يعني قد جاءت علاماتها.
ومن علاماتها التي قد كانت جاءت في عهد المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم انشقاق القمر، وكذلك من علاماتها بعثة النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقد قال عليه الصلاة والسلام «بعثت أنا والساعة كهاتين» يعني من شدة القرب بينه عليه الصلاة والسلام وبين قيام الساعة.
والله جل جلاله إذْ أخبر بذلك فإنّ للساعة علامات:
منها علامات تكون قرب حصولها، تكون قريبة جدا منها وهي التي يسميها العلماء أشراط الساعة الكبرى.(23/1)
ومنها علامات تتباعد من بعثته صلى الله عليه وسلم إلى أن يكون أول أشراط الساعة الكبرى، وهذه يسمى العلماء أشراط الساعة الصغرى.
فأشراط الساعة وهي علاماتها منها كبرى ومنها صغرى، وقد ثبت في الصحيح أن عوف بن مالك قال له النبي صَلَّى الله عليه وسلم «اعْدُدْ سِتّاً بَيْنَ يَدَي السّاعَةِ مَوْتي ثم فَتْحُ بَيْتِ المقدِسِ ثم مَوْتانٌ يأخُذُهُمْ فيكم مِثُلُ كقُعاصِ الغَنم ثم استفاضة المال حتى يعطي الرّجُلَ مائةَ دينارٍ فيظلّ ساخطا» إلى آخر ما ذكر، وهذا من أشراط الساعة الصغرى، فإن بعثته عليه الصلاة والسلام مؤذنة بقرب الساعة، وإن تطاول الزمان ?وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ?[الحج:47]، ثم بعد ذلك فتح بيت المقدس ،ثم بعد ذلك أتى المرض العام الطاعون فأصاب الناس كما أخبر بذلك النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ثم كذلك استفاض المال في لصحابة فمن بعدهم حتى حصل ما قاله الرسول صَلَّى الله عليه وسلم.
ومن أشراط الساعة الصغرى ما أخبر به النبي صَلَّى الله عليه وسلم جبريل في حديث عمر المشهور حيث سأل جبريل النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم فقال له «فََأَخْبِرِْني عَنْ السَّاعة؟» فقال «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ». قال «فََأَخْبِرِْني عَنْ علامَاتِهَا؟» قال «أَنْ تَلِِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاَةََ الْعُرَاةَ رِعاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ».(23/2)
وهكذا في أنواع كثيرة من أشراط الساعة الصغرى التي تتوالى في الزمان تحدث شيئا فشيئا، تحدث كما أخبر النبي صلى اله عليه وسلم، وقد أخبر من ذلك عليه الصلاة والسلام أنها «لن تقوم الساعة حتى تخرج نار في المدينة تضيء لها أعناق الإبل ببُصرى» وهي قرية بالقرب من دمشق من الشام فحصل ذلك في القرن السابع من الهجرة بعد سنة خمسين وستمائة (650هـ)، وعلم العلماء ذلك وعلمه الناس فكان ذلك من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام.
وكان من أشراط الساعة أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن منها «أن تترك القلاص فلا يُسعى عليها» يعني أن تترك الجمال والرواحل التي اعتادها الناس فلا يسعون عليها ولا يتخذونها رواحل، وقد استعجب كثير من العلماء هل يترك الناس أن يترحّلوا على الإبل، فقال قائلون منهم: لعل ذلك أن تكون الإبل تكثر تكثر جدا حتى تكون نسبة المركوب فيها إلى ما لا يركب كلا شيء، فتكون القلوص قد تركت فلا يسعى عليها، وقد رأينا في هذا الزمان صدق خبر الرسول صَلَّى الله عليه وسلم.
إلى أخبار كثيرة فيها أشراط الساعة الصغرى التي تحدث شيئا فشيئا، وإن الإيمان بذلك فرض لازم إذْ تصديق النبي صَلَّى الله عليه وسلم فرض لازم واجب على كل أحد، ومن كذّب في خبره الصادق فإنه كذب برسالته صَلَّى الله عليه وسلم.
ثم أشراط الساعة الكبرى وهي الأشراط والعلامات التي تكون تباعا كعِقد كان فيه خرز فانقطع فتسلسل ذلك الواحدة تلوى الأخرى، فيها عشرٌ هي عشر بينات، هي عشر أشراط الساعة الكبرى، إذا حصلت الأولى فانتظر الأخرى ثم الثانية ثم الثالثة إلى العاشرة حتى تقوم الساعة.(23/3)
وأول ذلك خروج الدجال والدجال خارج في هذه الأمة، وما من نبي إلا وأنذر أمته المسيح الدجال، وإن فتنة المسيح الدجال في الناس هي أعظم فتنة، إنّ فتنته هي أعظم فتنة أدركتهم، يدّعي أنه الرب والإله، معه جنة ونار، يُحيي ويميت، ويرزق ويفقر، يعطي ويمنع، معه فتنة عظيمة، معه فتنة يكون الناس فيها منهم المؤمنون ومنهم الكفار، ولا يخرج حتى لا يذكر وحتى يحذر منه، وقد كان كل الأنبياء يحذرون فنته ويحذرون أقوامهم بأن يحذروا فتنته، ونبينا صَلَّى الله عليه وسلم حذرنا فتنته فقال «إن يخرج فيكم وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج فيكم وأنا لست فيكم فامرؤ حجيج نفسه» يعني كل أحد حجيج عن نفسه، فلا تغفلوا عن ذلك بأن المسيح الدجال فتنته عظيمة فتنته جد عظيمة، ومن أدركته الفتنة وليس بذي علم فيها فإنه سيكون من الذين يؤمنون بهذا الدجال انه الرب الإله الذي يعبد ويطاع الذي يعبد ويطاع.(23/4)
أيها المؤمنون: وبعد ذلك وفي أثناء وجود المسيح الدجال على الأرض ينزل عيسى بن مريم عليه السلام؛ لأن عيسى بن مريم توفاه الله ولم يمت، توفاه الله بتوفي مدته على الأرض ?إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ?[آل عمران:55]، وبقي حيا في السماء، ثم ينزله الله جل وعلا إلى الأرض في آخر الزمان بعد خروج المسيح الدجال، قال الله جل وعلا عليه الصلاة والسلام?وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا?[الزخرف:61]، فلما ذكر عيسى ابن مريم عليه السلام قال الله فيه في سورة الزخرف ?وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَة?[الزخرف:61]، وفي القراءة الأخرى ?وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَة?[الزخرف:61]، يعين لدليل وشرط من أشراطها، وقد أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام وقال «إنه ينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق» قبل أن تفتح دمشق، وقبل أن تكون ثَم منارة بيضاء فيها، فينزل عيسى فيؤمن به أهل الكتاب، ويأمر بالإسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويأمر بالإسلام، ويأتمّ بالإمام من هذه الأمة من المسلمين، ويقول لهم: إمامكم منكم. حين ينزل والناس يصلون، وقد قال جل وعلا في عيسى عليه السلام ?وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا?[النساء:159]، (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) يعني ليؤمنن بعيسى عليه السلام قبل موته قبل موت عيسى عليه السلام؛ لأنه لم يمت، فكل أحد من أهل الكتاب يرى نزول عيسى عليه السلام سيؤمن به؛ لأنه سيعلم أنه هو عيسى رسول الله، وسيبطل التثليث وسيبطل الإشراك به ويأمر عيسى بالإسلام وينتشر الإسلام في الأرض.
يقتل عيسى عليه السلام الدجال عند باب لُد من أرض فلسطين، ويتبع الدجال قوم كثير من اليهود.(23/5)
ثم يعيش عيسى في الناس زمن تفيض الخيرات، ويكون فيه المال، ويكون فيه السعة في الأرزاق، حتى يكون من ذلك شيء عجيب عجيب، كما أخبر بذلك تفصيلا النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم.
ثم يكون خروج يأجوج ومأجوج، وهم من الناس بشر من البشر، كما قال جل وعلا في يأجوج مأجوج مأجوج ?[حَتَّى إِذَا]([1]) فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ(96)وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا?[الأنبياء:96-97]، إلى آخر الآيات، فيخرج يأجوج ومأجوج ومعهم بلاء عظيم عظيم في الناس لا يمرُّون على ماء إلا شربوه ولا على مأكل إلا أكلوه، فيدعو عليهم عيسى عليه السلام فيقتلهم الله جل وعلا حتى تُنتِن الأرض بريحهم، فيبعث الله ريحا فتحمل أجسادهم فتلقيها في البحر.
ثم بعد ذلك وهو الرابع يحدث خسف بالمشرق خسف عظيم لم يسبق له مثال.
ثم يحدث وهو الأمر الخامس خسف بالمغرب لم يحدث فيما سبق مثال.
ثم يحدث خسف بجزيرة العرب لم يسبق أن حدث مثلُه. وهذا من أمر الله العجيب.
فهذه من أشراط الساعة الكبرى هذه تَلِي هذه.
ثم يكون ما يكون من خروج الدخان.
ومن طلوع الشمس من مغربها.
ومن خروج الدابة على الناس ضحى تسِم الناس.
فإذا خرجت الشمس من مغربها لم يقبل من الناس توبة، كما قال جل وعلا ?يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا?[الأنعام:158]، لا ينفع الذي لم يكن مؤمنا، لا ينفعه إيمانه بعد أن رأى طلوع الشمس من مغربها، تنقطع التوبة ويبقى المؤمن ينتظر الريح التي تميت المؤمنين، ويبقى الناس كفارا لا يقال فيهم الله الله، كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام؛ يعني لا يقول أحد لأحد اتق الله اتق الله، ليبقى الناس في ذلك يتهارجون كما تتهارج الحُمُر.(23/6)
ثم يبعث الله النار تبدأ في جنوب الجزيرة من قعر عدن ثم تنتشر في الأرض تحشر الناس إلى أرض محشرهم يجتمعون، تبيت معهم يخافون منها، وهم يُقْبلون على أرض المحشر، يخافون ويهابون منها وهي تبيت معهم إذا باتوا وتسير معه إذا ساروا، تكتنفهم من جوانبهم، والناس يتقدمون إلى محشرهم.
ثم يأذن الله ويأمر إسرافيل بأن يَنْفَخ في الصور نفخة الفزع أونفخة الصعق فيصعق الناس، ويعود من كان على الأرض حيا يعود ميتا وإنما يعود ميتا، كما يقول الله جل وعلا ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ?[الزمر:68]، بعد هذه النفخة يبقى الناس موتىـ فيغير الأرض فإذا الأرض ليست هي الأرض ويغير السموات فإذا السموات ليست هي السموات ?إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ?[التكوير:1]، وتغير السماء ?إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ?[الانفطار:1]، وتتغير الأرض ?وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ?[الانشقاق:3]، فيستوي من دفن بين الجبال كمن دفن في السهل تبقى الأرض متغيرة، فالله جل وعلا يغير معالم الأرض ويغير معالم السماء، وإنه لأمر عجيب، ويبقى الناس موتى تحت الأرض كل شيء بلي منهم إلا عجب الذنب منهم وهو آخر فقرة من فقار الظهر يكون كالبذرة لهم، فيأمر الله السماء فتنشئ سحابا -سحابا ثِقَالاً- فيحمل ماء كمني الرجال فإذا حملت الماء أمر الله السماء فتمطر على الأرض بذلك الماء، فتنبت منه الأجسام بعد أن أمطرت على الأرض أربعين، أربعين لا ندري هل هي أربعون شهرا؟ أم أربعون سنة؟ أم أربعون أسبوعا؟ تُمطر أربعين فتنبت الأجسام
...........................
مثل النبات كأجمل الريحان
حتى إذا ما الأم حان ولادها
وتمخّضت فنفاسها متداني
أوحى لها رب السماء فتشققت
فإذا الجنين كأكمل الشبان(23/7)
ثم يأمر الله جل وعلا إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث فتعود الأرواح إلى الأجسام، فتهتز الأجسام فيقول الكفار والمؤمنون: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ ثم يجيب المؤمنون وغيرهم: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
فيُساق الناس المؤمنون إلى الجنة والكافرون إلى النار، وقبل ذلك أمور عظام من أمور المحشر.
أسأل الله جل وعلا أن يؤمِّننا يوم الفزع، وأن يجعلنا من المتفقهين في كتابه وفي سنة رسوله، وأن يجعل قلوبنا مطمئنة بالإيمان، وأن يربط على قلوبنا، نعوذ به من الرّيب والشك، نعوذ به من الرّيب والشك.
ونسأله أن نكون مطمئنين بالإيمان مصدقين بما أخبر مصدقين بما أخبر به رسوله صَلَّى الله عليه وسلم.
وأسأل الله لي ولكم ولكل المسلمين نسأله النجاة يوم الفزع نسأله النجاة يوم الخوف، نسأله أن يخفف علينا الحساب وأن يعفو عنا، وأن يجعلنا من الذين يتوفاهم وهو راض عنهم إنه ولي الغفران، ونحن أصحاب المعصية والله ولي الغفران، اللهم فاغفر جما، اللهم فاغفر جما، اللهم فاغفر جما.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ?إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا(3)يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4)بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5)يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)?[الزلزلة].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه حقا، وتوبوا إليه صدقا، إنه هو الغفور الرحيم.
[الخطبة الثانية](23/8)
الحمد لله حمدا كثيرا طيِّبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أنّ أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإنّ يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم التقوى فإن بالتقوى فخارَكم، إن في التقوى جاهكم عند ربكم، إنّ في التقوى رفعتكم عند الله.
فاتقوا الله حق تقاته، وعظموا الله في السّر والعلن، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، ذلك اليوم العصيب اتقوه، واتقوا الله الذي خلقكم، واتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الله الذي عنده الجنة والنار.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أنّ الله جل جلاله أمركم بالصلاة على نبيه فقال جل وعلا قولا كريما ?إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر.
وارض اللهم على الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعن الصحابة أجمعين وعن الآل وعن التابعين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك فأنت أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين ونصر عبادك الموحدين.
اللهم نسألك وأنت القوي العزيز وأنت ناصر عبادك المتقين نسألك أن تنصر المؤمنين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين وسائر أصناف المرتدين يا رب العالمين.(23/9)
اللهم نسألك أنْ تثبتهم وأن تربط على قلوبهم وأن تكون وليا لهم، اللهم أقم بهم دينك وتوحيدك، اللهم أهدهم إلى الرشاد وأعزهم، اللهم أعزهم، اللهم أعز المجاهدين، وأنصرهم واجعلهم في إعدادهم وفي نصرهم عزا للإسلام والتوحيد وأهله يا أرحم الراحمين.
اللهم نسألك أن تؤمننا في أوطاننا وأن تصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح أئمتنا وأصلح ولاة أمورنا، ودلهم على الرشاد وباعد بينهم وبين سبل أهل الكفر والبغي والفساد، يا أرحم الراحمين.
اللهم نسألك أن تمن عليهم بالمستشار الصالح الذي يدلهم على الخير ويهديهم إليه ويبغِّض إليهم الشر والمنكر، وأنت أرحم الراحمين وأجود الأجودين.
اللهم يسر لهم من يقول لهم كلمة الحق، اللهم يسر لهم من يشير لهم الحق والهدى، اللهم باعد بينهم وبين المنافقين والمضلين وأنت أرحم الراحمين.
اللهم نسألك أن تؤمِّننا يوم تفزع الخلائق، الهم أمنا يوم تفزع الخلائق، اللهم أمنا يوم البعث والنشور.
نسألك صلاحا في قلوبنا قبل الممات.
اللهم أنت ولي السائلين أنت المجيب للدعوات، نسألك أن تربط على قلوبنا، اللهم اربط على قلوبنا، ومُنَّ علينا بتوبة نصوح قبل الممات.
ربنا لا تدخلنا القبور إلا وقد رضيت عنا، وقد وفقتنا لتوبة نصوح، وأنت أرحم الراحمين.
عباد الرحمن إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على النعم يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
?????
أعد هذه المادة سالم الجزائري
---
([1]) الشيخ حفظه الله: وَ.(23/10)
الأصول الشرعية عند حلول الشبهات
المقدمة
الحمد لله رب العالمين . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لا شريك له وأشهد أن محمدَ بنَ عبدِ الله نبيُّه ورسولُه وصفيُّه وخليلُه ، أرسلَه اللهُ بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا ، مبشرًا بالجنة لمَنِ اتقى اللهَ – جل وعلا – وأطاعَ الرسولَ ، ومنذرًا ومخوفًا من عذابِ الله والنار لمن خالفَ أمرَ اللهِ – جل وعلا – وعصى الرسولَ – عليه الصلاة والسلام - .
واللهَ أسألُ أن يجعلَ الجميعَ ممّن مَنَّ اللهُ عليهم بالبصرِ النافذِ عند حلولِ الشبهاتِ ، وبالعلمِ النافعِ ، الذي هو للقلوبِ حياةٌ ومددٌ .
واللهُ - جل وعلا – جعلَ الوحيَ في القرآن مُمَثَّلاً بالماء ؛ لأنَّ به حياةَ القلوب ، ولأنَّ به صحةَ النظرِ والإدراكِ عند حلولِ المشتبهاتِ وظهورِها . ([1])
- - - - -
تمهيد
الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ
يؤمن المسلم :
( 1 ) بأنّ ما أصابه لم يكنْ ليخطئه ، وأنّ ما أخطأه لم يكنْ ليصيبَه .
( 2 ) وبأن القضاءَ والقدرَ ماضيان .
ولكنَّ قضاءَ اللهِ – جل وعلا - وقدرَه مرتبطانِ بالعللِ الكونيةِ ، والعللِ الشرعيةِ .
أسبابُ الابتلاءِ ، وأنواعُه :
( 1 ) يُصيبُ اللهُ – جل وعلا – أمةَ الإسلام بما يصيبُها بسببِ ذنوبها تارةً ، وابتلاءً واختبارًا تارةً أخرى .
( 2 ) يُصيب اللهُ – جل وعلا – الأُممَ غيرَ المسلمةِ بما يصيبُها إما عقوبةً لما هي عليه من مخالفةٍ لأمرِ الله – جل وعلا – وإما لتكون عبرةً لمن اعْتَبَرَ ، وإما لتكونَ ابتلاءً للناس ، هل يَنْجَوْنَ أو لا يَنْجَوْنَ ؟
قال اللهُ – تعالى - : ( فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ([2]) .(24/1)
وهذا في العقوباتِ التي أُصِيبَتْ بها الأُممُ ، العقوباتِ الاستئصاليةِ العامةِ ، والعقوباتِ التي يكونُ فيها نكايةٌ ، أو يكونُ فيها إصابةٌ لهم .
( 3 ) تُصاب الأمةُ بأن يبتليَها اللهُ - عز وجل - بالتفرُّقِ فِرَقًا ، بأن تكونَ أحزابًا وشِيَعًا ؛ لأنها تركتْ أمرَ الله – جل وعلا - .
( 4 ) تُصاب الأمةُ بالابتلاء بسببِ بَغْيِ بعضِهم على بعضٍ ، وعدمِ رجوعِهم إلى العلمِ العظيمِ الذي أنزله اللهُ – جل وعلا – .
قال الله – تعالى – فيما قصَّه علينا من خبر الأُمَمِ الذين مَضَوْا قبلَنا : ( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) ([3]) .
وقال - سبحانه - : ( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) ([4]) .
عندَ أهلِ الكتابِ العلمُ النافعُ ، ولكن تَفَرَّقُوا بسببِ بَغْيِ بعضِهم على بعضٍ ، وعدمِ رجوعِهم إلى هذا العلمِ العظيمِ الذي أنزلَه اللهُ – جل وعلا - ، تَفَرَّقُوا في العملِ ، وتركُوا بعضَه .
( 5 ) يُصاب قومٌ بالابتلاءِ بسببِ وجودِ زيغٍ في قلوبهم ، فَيَتَّبِعُونَ المتشابِه .
قال اللهُ – جل وعلا – في شأنهم : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ) ([5]) .
فليس وجودُ المتشابه سببًا في الزيغ ، ولكنَّ الزيغَ موجودٌ أولاً في النفوسِ .
فاللهُ – سبحانَهُ – أثبتَ وجودَ الزيغِ في القلوبِ أوَّلاً ، ثم اتباعِ المتشابه ثانيًا ، وقد جاءت ( الفاءُ ) في قوله – جل وعلا – : (فَيَتَّبِعُونَ ) لإفادةِ الترتيبِ والتعقيبِ .(24/2)
ففي النصوصِ ما يَشْتَبِهُ ، لكن مَنْ في قلبه زيغٌ يذهبُ إلى النصِّ فيستدلُ به على زَيْغِهِ ، وليس له فيه مُسْتَمْسَكٌ في الحقيقةِ ، لكن وَجَدَ الزيغَ فذهبَ يتلمَّسُ له .
وهذا هو الذي ابْتُلِيَ به الناسُ - أي : الخوارجُ - في زمنِ الصحابةِ ، وحصلتْ في زمن التابعينَ فتنٌ كثيرةٌ تَسَبَّبَ عنها القتالُ والملاحِمُ مما هو معلومٌ .
فوائد الابتلاء
الأمةُ الإسلاميةُ والمسلمون يُبْتَلَوْنَ .
وفائدةُ هذا الابتلاءِ معرفةُ مَنْ يَرْجِعُ فيه من الأمةِ إلى أمرِ اللهِ – جل وعلا – معتصِمًا بالله ، متجرِّدًا ، متابعًا لهدي السلفِ ممّن لا يرجعُ ، وقد أصابته الفتنةُ ، قلّتْ أو كَثُرَتْ .
( 1 )
تحقيقُ الشَّهادتينِ
من معتقدِ أهلِ السنةِ والجماعةِ تحقيقُ الشهادتينِ
( شهادة أن لا إلهَ إلا اللهُ ، وأن محمدًا رسولُ اللهِ )
- بل هذه الشهادةُ هي أساسُ العقيدةِ ، وفيها موالاةُ اللهِ – جل وعلا – ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - والدينِ .
وفيها البَراءُ من الكُفْرِ والشِّركِ .
وهذا يستلزمُ عقدَ الموالاةِ بين أهلِ الإيمانِ .
- - - - -
عقيدةُ الولاءِ والبراءِ
عقيدةُ الولاءِ والبراءِ أصلٌ يجب على كلِّ مسلمٍ أن يتمسكَ بها ؛ لأنها أساسُ دينه وأساسُ الملَّةِ ، لكنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان محقِّقًا لها وهو في مكةَ ، وكان محقِّقًا لها وهو في المدينةِ ، وكان محقِّقًا لها – عليه الصلاة والسلام – في كلِّ أحوالِهِ .
وهو – عليه الصلاة والسلام – الأسوةُ والقدوةُ الحسنةُ .
لهذا في قصةِ الحديبيةِ - كما هو معروفٌ - لما أتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مريدًا مكةَ وجاءه المشركونَ – وهم في ذلك الوقتِ ضعفاءُ – وطلبوا منه أن يرجِعَ .
وحَصَلَ بينه وبينهم عَهْدٌ غليظٌ أقرَّهُ – عليه الصلاة والسلام – حتى إنه كان فيه :
« أنه مَنْ يأتِنا مسلمًا يُرجَعُ إليهم ، ومن يأتِهم منا فلا يُرْجَعُ إلى المسلمينَ »(24/3)
وهذا استنكره عمرُ - رضي الله عنه - وقال : يا رسولَ اللهِ : أَلَسْنَا على الحقِّ وهم على باطلٍ ؟
قال : بلى . قال : فعلامَ نقبلُ الدَّنِيَّةَ في ديننا ؟ ([6])
فكان الحقُّ ما أمرَ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعَمِلَ به الصحابةُ .
وقد قال – جل وعلا – في شأنِ بعضِ المسلمينَ : ( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) ([7]) .
قال ابنُ كثير – رحمه الله – في تفسيره : يقول – تعالى - : ( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ ) هؤلاءِ الأعرابُ الذين لم يهاجروا ، في قتالٍ ديني ، على عدوٍّ لهم فانصروهم فإنه واجبٌ عليكم نصرُهم ، لأنهم إخوانُكم في الدينِ ، إلا أن يستنصروكم على قومٍ من الكفار ( بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) أي : مهادنةٌ إلى مُدَّةٍ ، فلا تَخْفِرُوا ذِمَّتَكُمْ ، ولا تَنْقُضُوا أيمانَكم مع الذينَ عاهدْتم . وهذا مرويٌّ عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنه - .
والواجبُ الاستمساكُ بهذا الأصلِ . والكمالُ في الرجوعِ إلى هَدْيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أحوالِه كلِّها ، فهو – عليه الصلاة والسلام – وصحابتُه هم الأساسُ والقُدوةُ في الولاءِ والبراءِ .
وعلى الدعاةِ أن يترسَّموا هذا الهَدْيَ ، ويتمسَّكُوا بهذا الأصلِ ، وليستِ الشِّدَّةُ والغِلْظَةُ على الدوامِ في كل زمانٍ ومكانٍ هي المحققةَ لمعتقدِ الولاءِ والبراءِ .
وهناك مسائلُ لا تُطرحُ على العامَّةِ في الخُطَبِ ، أو من خلالِ الوسائلِ المختلفةِ . وإنما يبحثُها العلماءُ فيما بينهم .(24/4)
قال الشيخُ العلامةُ عبدُ اللطيفِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ حسنِ ابنِ محمدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ : « وخُضْتُمْ في مسائلَ من هذا البابِ – كالكلامِ في الموالاةِ والمعاداةِ والمصالحةِ والمكاتباتِ وبذلِ الأموالِ والهدايا والحُكْمِ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ عند البَوادي ونحوِهم من الجُفاةِ – لا يَتَكّلَّمُ فيها إلاَّ العلماءُ من ذوي الألبابِ ، ومَنْ رُزِقَ الفهمَ عن اللهِ ، وأُوتِيَ الحكمةَ وفصلَ الخطابِ » اهـ ([8]) .
حكمُ إزهاقِ الأرواحِ
أجمعَ العلماءُ ذوو النظرِ الصحيحِ في الفِقْهِ من جميعِ الأمصارِ على أن إزهاقَ الأنفُسِ بغير حقٍّ مخالفٌ للشريعةِ .
وأنَّ الاعتداءَ على الأنفسِ المعصومةِ - سواءٌ أكانتْ عِصْمَتُهَا بالإسلامِ أم كانتْ عصمتُها بالعهدِ والأمانِ - مخالفٌ للشريعة الإسلامية ، بل هو مخالفٌ لكلِّ الشرائعِ التي جاءتْ من عند الله – جل وعلا - .
والعقلاءُ أيضًا متفقونَ على هذا ؛ لهذا حَصَلَ ما تعلمونَ من نَفْيِ أن يكونَ ما حصلَ في أمريكا من الاعتداء موافقًا للشريعة الإسلامية ، أو تُقِرُّه ، أو يرضاه أهلُ الإسلام .
قال الله – تعالى - : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ([9]) .
والمطلوبُ من الجميعِ وجوبُ النظرِ في هذا الأصلِ نظرًا بالغًا ، وقد قال الله - تعالى - : وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ([10]) .
الثقةُ بوعدِ اللهِ – جل وعلا –
إننا واثقونَ بوعدِ اللهِ – جل وعلا – ؛ لأنَّ وَعْدَ اللهِ – جل وعلا – لا يُرَدُّ . وقد قال – تعالى - : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) ([11]) .(24/5)
فدينُ الإسلامِ انتشرَ في السنواتِ الأخيرةِ انتشارًا بَيِّنًا ، فَوُجِدَتِ الأعمالُ الإسلاميةُ ، من إنشاءِ المساجِدِ والدعوةِ ، وتبيينِ معالِمِ الدينِ في العالمِ كلِّهِ ، وصارَ له صوتٌ كبيرٌ وقويٌّ .
وهذه البلادُ بخاصةٍ كان لها النصيبُ الأكبرُ مِنْ حَمْلِ الدعوةِ الإسلاميةِ إلى الغربِ وأوربا وأمريكا ، وإلى مشارقِ الأرضِ ومغاربها .
وهذا بفضلِ الله - عز وجل - ، ثم بفضلِ توجيهاتِ ولاةِ أمورِنا – وفَّقهم اللهُ جل وعلا - .
ونَشْرُ هذا الدينِ أصلٌ من الأصولِ العظيمةِ ، لأنه جهادٌ دائمٌ ماضٍ ، وهو جهادُ الحُجَّةِ والبيانِ .
- - - - -
( 2 )
العلماءُ والدعاةُ قدوةُ هذه الأمة
وَصَفَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ – رحمه الله تعالى – الصحابةَ وساداتِ التابعين بما وَصَفَهم به ، ومنها قوله :
« إنهم على عِلْمٍ وَقَفُوا ، وببصرٍ نافِذٍ كَفُّوا » .
وإنَّ ما جَرَى لهذه الأمةِ ابتلاءٌ عظيمٌ وكبيرٌ .
فهل ترجعُ فيه إلى الأصلِ الأصيلِ وهو :
كتابُ اللهِ – جل وعلا – وسنةُ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وهَدْيُ السلفِ الصالحِ ، وكلامُ أهلِ العلمِ الراسخينَ فيه .
أمْ أنهَّا لا تَرْجِعُ إلى الأصلِ الأصيلِ ؟ فيحصُلُ في قلبِها زيغٌ فَتَتَّبِعُ المتشابِهَ .
- - - - -
الواجبُ معرفةُ منهجِ السلفِ
وهو الفِقْهُ في الكتابِ والسنةِ
الواجبُ على طلابِ العلمِ أن يتعرَّفُوا على منهجِ السلفِ عند حلولِ تَقَلُّباتِ الدهرِ .
واللهُ – جل وعلا – يبتلي عبادَه ، ولا بُدَّ أن نَرْجِعَ إلى منهجِ السلفِ بعدَ التعرُّفِ عليه ، والتفقُّهِ في الكتابِ والسنةِ .
وهذا أصلٌ أصيلٌ .
اليقظةَ اليقظةَ عندَ الأراجيفِ والشائعاتِ :
إنَّ هذه التقلباتِ التي حصلتْ ، والكلامَ الذي تسمعونَه ممن ينتسبُ إلى الإسلامِ ، من علماءَ ، ودعاةٍ ، ومتحمسينَ ، ومتعجلينَ ، ومن أصحابِ الإرجافِ في القنواتِ الفضائيةِ المختلفةِ بحاجةٍ إلى يَقَظَةٍ .(24/6)
وإنه ليُخْشَى على من أَدْمَنَ النظرَ إلى القنواتِ الفضائيةِ المختلفةِ وتَابَعَها أن يَنْحَرِفَ عن المنهجِ إلاَّ إذا كان قوِّيَ الصِّلَةِ بالقرآنِ والسنةِ وبمنهجِ السلفِ الصالحِ .
إلقاءُ الكلامِ من دونِ نظرٍ فيه
ولْيَحْذَرْ طلابُ العلمِ والدعاةُ والوُعَّاظُ والمرشدونَ من إلقاء حَجَرٍ يسببُ فُرْقَةَ هذه الأمةِ ، وإيغارَ الصدورِ في بلادِ الإسلامِ .
ولْيَحْذَرُوا من الانسياقِ وراءَ القنواتِ ، والإعلامِ المسموعِ والمقروءِ والمرئيِّ .
وعلى دعاةِ الإسلامِ أن يوجِّهوا الناسَ إلى ما يَنْفَعُهُمْ .
- - - - -
الحذرُ من جرِّ المعركةِ إلى داخلِ الأُمَّةِ
إنّ جَرَّ المعركةِ إلى داخلِ البلادِ الإسلاميةِ أمرٌ جَلَلٌ عظيمٌ .
سوف تحصلُ في كلِّ بلدٍ مصيبةٌ ، وسيتطاحنُ الناسُ .
وذلك مثلُ ما حَصَلَ في أفغانستانَ بعدَ ما انتهتِ الحربُ مع الاتحاد السوفيتي ، وطَعَنَ بعضُهم في بعضٍ ، وبقيتِ الخلافاتُ ، ولم يجتمعِ الأفغانُ على وِلايةٍ ، فهذا لا يُقِرُّ لهذا ، وهذا لا يُقِرُّ لهذا . وهكذا ..
وإن وجدتْ عندَهم وِلايةٌ فليس هناك اتفاقٌ من الجميع ، ففيها تنازعاتٌ وقتلٌ ، كما أنه قُتِلَ الكثيرُ من زعماءِ الفِرَقِ والفصائلِ .
- - - - -
تفْويتُ الفُرصةِ على الأعْداءِ نَبَاهَةٌ
الواجبُ على كلِّ داعيةٍ من دعاةِ الإسلامِ ، وكلِّ مرشدٍ ، وكلِّ واعظٍ ، وكلِّ طالبِ علمٍ أن يحافظَ على حمايةِ بَيْضَةِ المسلمينَ ، وأن يكونَ مع الجماعةِ ، ويَحْرِصَ على الاجتماع على وُلاةِ الأمورِ .
لأن بهذا تحقيقَ المصالحِ ، ودرءَ المفاسدِ ، ويُفَوِّتُ الفرصةَ أو الغرضَ على أعداءِ الإسلامِ ممن يتربصونَ الدوائرَ بهذه الأمةِ .
- - - - -
عدمُ شَحْنِ النفوسِ
مهمةُ دعاةِ الإسلامِ توجيهُ الناسِ إلى ما ينفعُهم .(24/7)
ولكنَّ بعضَ الدعاةِ نَسِيَ المهمةَ الملقاةَ على عاتقه ، فَتَرَاهُ في أوقاتٍ يزيدُ على ما قالتْهُ القنواتُ والإعلامُ ، ويسيرُ على نفسِ الوتيرة لجعلِ النفوسِ تغلي .
تارةً باسم الولاءِ والبراءِ غيرِ المنضبطِ شرعًا .
وتارةً باسم الدعوةِ للجهادِ في سبيلِ اللهِ – تعالى - .
وتارةً كذا ، وتارةً كذا .
وكلُّ هذا يشحَنُ النفوسَ دونَ توجيهٍ صحيحٍ فيما ينفَعُ الأمةَ ثم ينتِجُ عن ذلك التشاحُنُ والتفرُّقُ .
وعلى الدعاةِ الانتباهُ في كلماتهم إلى ما ينفعُ الناسَ ، والحذرُ من شَحْنِ النفوسِ ، وهم لا يعرفونَ ما ستكون الأبعادُ لهذا الشحنِ الذي قد لا يكونُ منضبِطًا بالضابطِ الشرعيِّ .
وإرشادُ الناسِ ، أو بيانُ الواقعِ يحصلُ إذا كانتِ النفوسُ خاليةً .
لكن إذا كانتِ النفوسُ مليئةً ، وهم يُتَابِعُونَ هذه القنواتِ ليلَ نهارَ ، ثم يأتي الداعيةُ أو الخطيبُ يزيدُ في اشتعالِها .
فنتساءلُ : إلى أينَ تريدُ – يا خطيبُ – أن يتّجِهَ الناسُ ؟
والجوابُ : ليس ثَمَّةَ اتجاهٌ إلاّ إلى زيادةِ ما في النفوس من اختلافاتٍ ، وإلاَّ إلى سوءِ الظن ، وإلاَّ إلى تركِ الجماعةِ .
فالحذرَ فالحذرَ من أن يدعو الداعيةُ إلى مثل ما يضرُّ الناسَ ولا ينفعُهم .
وعلى الدعاةِ أن يعلمُوا أنَّ ما دارَ بينَ الصحابةِ من حروبٍ كعليٍّ - رضي الله عنه - ومعاويةَ - رضي الله عنه - في وقعة ( صفين ) ، وعائشةَ – رضي الله عنها – في وقعة ( الجَمَلِ ) وغير ذلك فمعتقدُ أهلِ السنة والجماعة أن هذه الحروبَ ليس الصحابةُ طرفًا فيها ، فالصحابةُ وَجَدُوا أنفسَهم يتقاتلونَ وهم لا يَشْعُرونَ .
والذي أشعلَ هذه الحروبَ هم الخوارجُ .
ذكر ذلك شيخُ الإسلامِ ، وشارحُ الطحاوية وكتبُ العقيدةِ .(24/8)
فسعى الخوارجُ بين الطرفَيْنِ ، سَعَوْا هنا بشيء ، وسَعَوْا هنا بشيء آخر ؛ لإعلاءِ ما يزعمونَه حقًّا من رَفْعِ رايةٍ ظاهرُها حقٌّ وباطنُها باطِلٌ ، وهي ( لا حكمَ إلا لله ) ، وهم لا يريدون القتالَ بين الصحابةِ ، ولكنَّ السعيَ الذي لم ينتبهوا إلى نتائجه أوقعَ الصحابةَ في القتالِ .
وقتالُ الصحابةِ أعظمُ مصيبةٍ في التاريخِ الإسلاميِّ .
وصار من عقائدِنا سلامةُ ألسنتِنا وقلوبِنا من الغِلِّ ، وعدمُ النيلِ ممن حَصَلَ بينهم القتالُ .
سؤال : إذن مَنْ أشْعَلَ هذه الفتنةَ ؟
الجواب : هم الخوارجُ .
سؤال : كيف يكون ذلك ؟
الجواب : ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة ، النفوسُ إذا زادَ شحنُها ، ثم زادَ حَصَلَتِ الفتنُ ..
فإنه يحصُلُ من فئة إمّا بإدراكٍ أو بغيرِ إدراكٍ ، وإما بقَصْدٍ أو بغير قصدٍ أن توقعَ الناسَ في صراعاتٍ ومقاتِلَ ومعارِكَ وهم لا يشعرونَ ، ولن ينتبهوا إلا إذا وقعتْ ، وإذا وقع السيفُ فمتى يُرْفَعُ ؟
فالحذَرَ الحذَرَ من هذا الأمرِ ، والتنبهَ واليقظةَ إلى اتِّباعِ هَدْيِ السلفِ ، وإلى العبرةِ من الفتنِ التي حصلتْ ، والمقاتِل في ذلك .
القدوةُ الحسنةُ
الواجبُ على أهلِ الإيمانِ بعامةٍ ، وعلى طلبةِ العلمِ من دعاةٍ ومرشدينَ ووعاظٍ ، ومسؤولينَ عن الأمور الدينية بخاصةٍ أن يكونوا هم القدوةَ الحسنةَ للناسِ حين تَحْدُثُ الحوادثُ ، وتختلِطُ الأمورُ .
- - - - -
( 3 )
الوَسَطِيَّةُ أصلٌ من أُصولِ أهلِ السنةِ والجماعةِ(24/9)
لنا في سلفنا الصالحِ الأسوةُ الحسنةُ فإنهم - رحمهم الله – من صحابةٍ ومن تابعينَ ومِمَّنْ بعدَهم كلَّما أتتِ الفِتَنُ أو تقلبتِ الأمورُ أَوْصَوْا فيها بما هو الحقُّ ، وهو البعدُ عن طرفَيِ الغُلُوِّ والجفاءِ ، فهم أهلُ وَسطيةٍ في الأمورِ ، ليسُوا مع أهلِ الغُلُوِّ في غُلُوِّهِم ، وليسوا مع أهلِ الجفاءِ في جفائهم ، وليسوا مع أهلِ الخوفِ حين يخافُ الناسُ إلا من اللهِ – جل وعلا – وليسوا مع أهل الأمنِ من مكرِ اللهِ – جل وعلا – حين يأمنُ الناسُ ويكونون في دَعَةٍ .
إننا ننطلقُ من شريعَتِنَا .
فلا نزيدُ في الأمرِ ولا نُحَمِّلُهُ ما لا يَحْتَمِلُ . ولا نذهبُ إلى أمورٍ غيرِ مقبولةٍ من التكفيرِ ، ومن تحميلِ الأمورِ فوقَ ما تحتملُ .
ومن إساءةِ الظنِّ بعلماءِ المسلمين ، ووُلاةِ أمورِهم .
والحذرَ الحذرَ من اللوبي العالمي الإعلامي الذي يعتبر مصدرَ المعلوماتِ التي تنشرها القنواتُ الفضائيةُ .
وعلى المسلمينَ أن يقفوا وقفةَ تأمُّل متسائلينَ :
ما الذي يُرَادُ شحنُهُ في نفوسِ أهلِ الإسلامِ حتى يُوصَلَ إليه ؟ .
والحذرَ الحذرَ من وقوعِ بأسِ الأمةِ بينهم ، فَتَنْشَبُ الأمةُ في نفسها ، وتَتَحَوَّلُ الأمةُ في البلاد إلى فِرَقٍ وأحزابٍ ، ويبغي بعضُهم على بعضٍ ، ويقتلُ بعضُهم بعضًا .
ولابدَّ من التوسُّط في الأمور الذي هو معتقد أهل السنة والجماعة .
وفي التأني والرفقِ تُدْرَكُ الأمورُ ، وتُنالُ المقاصدُ .
علينا أن نمضي في دعوتنا بعيدين عن أهلِ الغُلُوِّ في غُلُوِّهم ، وعن أهلِ الجفاءِ في جفائهم .
نحن أمةٌ وسطٌ ، نُرْشِدُ ونُعَلِّمُ ما ينفعُ الأمةَ ولا يضرُّها .
- - - - -
( 4 )
الجِهادُ صِفةُ هذه الأُمّةِ
الجهادُ في سبيل الله – جل وعلا – من صفة هذه الأمةِ كما ذَكَرَ اللهُ – جل وعلا – في كتابه وبَيَّنهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، لكن له أحكامٌ في كُتُبِ العلماءِ والتفاسيرِ ، وشروحِ الأحاديث .(24/10)
أما الأمرُ الأولُ في مسألة الجهاد فاللهُ – جل وعلا – قال : ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَ قَلِيلاً . فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) ([12]) .
جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - كما في الحديث الصحيح المعروف - يستأذِنُهُ في الجهادِ ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : « أحيٌّ والداكَ ؟ » .
قال : نعم . قال : « ففيهما فجَاهِدْ » . ([13])
- وأجمعَ أهلُ السنةِ والجماعةِ على أن الجهادَ ماضٍ مع كلِّ إمامٍ إلى قيامِ الساعةِ .
ليس للأفراد مهما كانوا أن يَدْعُوا إلى الجهادِ .
والذي يَدْعُو إلى الجهادِ هو وليُّ الأمرِ لقولِ اللهِ – جل وعلا – لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - : ( وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) .
وليس لأحدٍ من الرعيَّةِ أن يفتئِتَ على وليِّ الأمرِ فيما أعطاهُ اللهُ – جل وعلا – من خصوصيَّاته .
وقد فَهِمَ الصحابةُ ذلك ؛ لذا جاء رجلٌ يستأذنُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الجهادِ ... ولم يذهب من دون إذن .
- وليس الجهادُ مع فئاتٍ أو جماعاتٍ ، وإنما الجهادُ مع وليِّ الأمرِ ، مع الإمامِ إذا دعا إليه .
- والجهادُ من أعظمِ وأكبرِ ما يختصُّ به وليُّ الأمرِ .
أما لو دَعَى إلى الجهادِ آحادُ الناسِ لحلَّتِ الفوضى .
- والعلماءُ والدعاةُ يدعونَ إلى الجهاد إذا دعا إليه وليُّ الأمرِ ؛ لهذا قال الله - عز وجل - : .
فالمؤمنونَ تبعٌ لوليّ أمرهم في ذلك .
قال « موفقُ الدينِ بنُ قُدامةَ » في « المغني » ([14]) :(24/11)
« فصلٌ : وأَمْرُ الجِهادِ مَوْكُولٌ إلى الإمامِ واجتهادهِ ويلزمُ الرعيّةَ طاعتُهُ فيما يراهُ من ذلك .. » .
وهنا مسألةٌ أصوليةٌ مهمةٌ في تصرفاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - :
أقوالُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعمالُه تُحْمَلُ على أمور :
أ – تارةً يقولُ ويعملُ ويتصرفُ - صلى الله عليه وسلم - لكونه رسولاً نبيًّا ، وهذا فيما يتعلقُ بالوحي وتبليغه ، والتشريعِ ، والأمرِ والنهي ، والحلالِ والحرامِ … .
ب – وتارةً يتصرفُ ويفعلُ ويقولُ - صلى الله عليه وسلم - لاعتباراتٍ متنوعة :
( 1 ) باعتباره وليًا للأمر ، إمامًا للمسلمين .
( 2 ) باعتباره قاضيًا .
( 3 ) باعتباره مفْتيًا .
( 4 ) باعتباره مرشِدًا .
( 5 ) باعتباره ناصِحًا . وهكذا …
لهذا قال الله – جل وعلا – لعمومِ الأمةِ : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) ([15]) .
فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أسوةٌ حسنةٌ لأئمةِ المسلمينَ ، أسوةٌ حسنةٌ للقضاةِ ، أسوةٌ حسنةٌ للمفتينَ ، أسوةٌ حسنةٌ للمرشدينَ ، أسوةٌ حسنةٌ للدعاةِ ، أسوةٌ حسنةٌ للرجلِ في بيته ، أسوةٌ حسنةٌ لعامةِ الناسِ في تصرفاتهم .
وهكذا فهو – عليه الصلاة والسلام – أسوةٌ حسنةٌ لكلِّ الطبقاتِ والفئاتِ .
إذًا فلا يَحِقُّ لأحدٍ منا أن يدعوَ الناسَ إلى الجهادِ إلا إذا دَعَا إليه وليُّ الأمرِ .
فرعايةُ النصوصِ وقواعدِ أهلِ السنةِ والجماعةِ في هذا الأمرِ واجبٌ علينا شرعًا .
فليحذرِ الواحدُ منا مِنْ أن تَزِلَّ قدمُه ، ويعطيَ الناسَ ما لا ينبغي .
ولقد حَثَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الناسَ على الجهادِ بقوله : « جاهِدُوا المشركينَ بأموالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ وأَلْسِنَتِكُمْ » ([16]) وهذا أمرٌ مربوطٌ بالنصوصِ ، وبمعتقدِ أهلِ السنةِ والجماعةِ .
- - - - -
( 5 )(24/12)
الاجتماعُ على هَدْيِ السلفِ عندَ ظهورِ الفتنِ
لابدَّ من رعاية هَدْيِ السلفِ كما جاء في النصوصِ في أحوالِ تقلباتِ الزمانِ والأحوالِ وظهورِ الفتنِ .
فإذا ظهرتِ المشتبِهاتُ فالتجاسرُ مذمومٌ ، والتأني والرفقُ هو المحمودُ ، كما وَصَفَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ – رحمه الله – الصحابةَ بقوله : إنَّهم على عِلْمٍ وَقَفُوا – يعني : فيما أقدموا عليه – وببصرٍ نافذٍ كَفُّوا – يعني : فيما كَفُّوا عنه في أمرِ الدينِ والعملِ - .
ومن المهم والضروريِّ أن يتفقهَ الداعيةُ في الدينِ ، وبذلك يحصُلُ له كلُّ خيرٍ ، ومن ذلك :
أ – أن يكونَ في زمنِ الاختلاف مُنْجِيًا لنفسه ، متقيًا لله – جل وعلا – .
ب – أن لا يوقعَ غيرَه في شبهةٍ أو فتنةٍ .
وإذا حَصَل اشتباهٌ فعليهِ أن يلتزمَ بالحديثِ الذي يدورُ عليه رَحَى الإسلامِ ، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصولِ
الإسلامِ ، وهو قولُه - صلى الله عليه وسلم - : « دعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ » ([17]) .
أي : إذا لم تظهرْ لك الأمورُ بَيِّنَةً واضحةً بأدلتِها ومعتقدِها ونصوصِها في زمنِ البلاءِ والاختلافِ والفتنةِ فدعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَرِيبُكَ .
جـ – تركُ تقليدِ مَنْ لا يُرْكَنُ إلى قولِهِ .
فمثلاً : كان الناسُ في زمنِ الإمامِ أحمدَ في فتنةٍ عظيمةٍ ، فما كان من الإمامِ أحمدَ إلا أن ثَبَتَ على الأمرِ العتيقِ .
وقد قال جَمْعٌ من السلف :
« إذا التبستِ الأمورُ فعليكُمْ بالأمرِ العتيقِ » .
فالأمرُ العتيقُ هو الهديُ العتيقُ .
أما أنْ يدخُلَ الناسُ في أمرٍ من أجل صنيعِ بعضِهم فهذا مرفوضٌ ولا يصِحُّ أن تَستجِرَّ فئةٌ قليلةٌ الدعاةَ ، والجماعاتِ الإسلاميةَ والدولَ إلى حربٍ وجهادٍ عامٍّ منقادِينَ دونَ علمٍ وحكمةٍ .
وهنا سؤال : هل يسوغُ أن يَتَصَرَّفَ أحدٌ ثم ينجرَّ الجميعُ إلى تصرُّفِهِ ؟
الجوابُ : معلومٌ أن الشريعةَ جاءتْ لتحصيل المصالحِ ، ودرءِ المفاسِدِ .(24/13)
وهذا أصلٌ عظيمٌ لا نُسْتَجَرُّ إلى شيء لا نُريده ، ولابُدَّ أنْ يُوَضَّحَ للناسِ أن لا ينجرَّ الناسُ في زمنِ الفتنةِ .
الجميعُ يحمِّس ، التقيُّ ، والفاجرُ ، والقنواتُ ، حتى القنواتُ غيرُ الإسلاميةِ والمشبوهةُ تزيدُ مما في النفوسِ .
لماذا هذا ؟! هل هو حُبٌّ في أنْ يَتَّجِهَ الناسُ للجهادِ ؟! .
لا ، بل لهم أغراضٌ لا تَخْدُمُ الأُمَّةَ .
قال اللهُ - تعالى - : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ([18]) .
- - - - -
الخاتمة
أيُّها الإخوةُ :
الحديثُ متشعبٌ كثيرٌ ، ولكنَّ التوسطَ التوسطَ والتوازنَ التوازنَ ، ونحن مع المؤمنينَ ، وضِدُّ الكافرينَ ، لكنْ على منهجِنا ، ولسنا على منهجِ غيرِنا لا نُسْتَجَرُّ ، والناسُ تَبَعٌ في ذلك لولاةِ أمورهم ، لأن من مهماتِ الإمامِ ووليِّ الأمرِ الحفاظُ على الدينِ ، والحفاظُ على بَيْضَةِ الأمةِ ؛ كيلا يعتدي عليهم معتدٍ .
فإذا تجاسرَ بعضُ الناسِ وتجاهلَ وُلاةَ الأمرِ والعلماءَ حدثتْ فتنةٌ عظيمةٌ وانحرافٌ عن منهجِ السلف . فاللهَ اللهَ بهذا الأمر ، وأن لا يُجَرَّ أحدُنا بحسنِ قَصْدٍ .
أسألُ اللهَ – جل وعلا – أن يوفِّقَ الجميعَ إلى ما فيه رضاه ، وأن يجعلنا ممن يرى الحقَّ حقًا ، وأن يمُنَّ علينا باتِّباعه ، ويرى الباطلَ باطلاً ، ويمُنَّ علينا باجتنابِه .
كما نسألُ اللهَ – جل وعلا – أن يوفِّقَ الجميعَ لما فيه الرشدُ والسدادُ ، وأن يؤيدَ - سبحانه وتعالى - ولاةَ أمورِنا بالحقِّ ، وأن يجزيَهم عن الإسلامِ والمسلمينَ خيرَ الجزاءِ .
---
([1]) أصل هذا المؤلَّف كلمة لمعالي الشيخ موجهة إلى طلاب العلم والدعاة والوعاظ والخطباء والمرشدين بالوزارة في الرياض في شعبان 1422هـ .
([2]) العنكبوت : 40 .
([3]) آل عمران : 19 .
([4]) البينة : 4 .
([5]) آل عمران : 7 .(24/14)
([6]) قطعة بالمعنى من حديث طويل أورده « البخاريُّ » في « صحيحه » في ( كتاب الشروط – باب الشروط في الجهاد ، والمصالحة مع أهل الحرب ، وكتابة الشروط ) . انظر « فتح الباري » ( 5 : 403 – 408 ) ط : دار السلام .
([7]) الأنفال : 72 .
([8]) مجموع الرسائل ص11 .
([9]) النحل : 90 .
([10]) المائدة : 8 .
([11]) الفتح : 28 .
([12]) النساء : 83 ، 84 .
([13]) أخرج البخاري في « صحيحه » في ( كتاب الجهاد ) من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال : « جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد ، فقال : أحيٌّ وَاِلَداكَ ؟ . قال : نعم . قال : ففيهما فجاهدْ » . انظر « فتح الباري » ( 6 : 169 ) .
([14]) في ( 13 : 16 ) .
([15]) الأحزاب : 21 .
([16]) أخرجه « أبو داود في « سننه » في ( كتاب الجهاد – باب كراهية ترك الغزو ) رقم ( 2504 ) ط : دار السلام .
و« النسائي » في « سننه » في ( كتاب الجهاد – باب وجوب الجهاد ) ( 6 : 7 ) من حديث أنس - رضي الله عنه - .
([17]) أخرجه « الترمذيُّ » في « جامعه » في ( كتاب صفة القيامة ) وقال : حسن صحيح ، برقم ( 2518 ) ، و« النسائي » في « سننه » في ( كتاب الأشربة – باب الحث على ترك الشبهات ) ( 8 :328 ) من حديث الحسن بن عليّ – رضي الله عنهما - .
([18]) يوسف : 108 .(24/15)
التحذير من البدع وعواقبها الوخيمة
أو (موضوع البدع، وبيان حقيقتها، وأثر البدع في حياة المسلم)
علق عليها فضيلة الشيخ:
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد.
ونشهد أنه لا خير إلا دلّ الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه، فصلوات الله وسلامه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قاله المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم.
إنّ هذا الموضوع وهو:
موضوع البدع، وبيان حقيقتها، وأثر البدع في حياة المسلمين
إنه لموضوع غاية في الأهمية؛ ذلك لأن كل انحراف في الدين إنما كان سببه إحداث بدعة لم يكن عليها الأمر الأول في حياة النبي عليه الصلاة والسلام:
· في أمور الاعتقاد.
· وفي الأمور العملية الشركية.
· وفي وسائل الشرك.
· وفي أنواع البدع العملية التي ظن أصحابها أنها تقربهم إلى الله جل جلاله.
ولا شك أن كل مسلم شهد أنْ لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله رغِب بإسلامه أن يسلم في الدنيا وأن يسلم في الآخرة؛ لأن لقاء الله والحساب وما يكون هنالك في الدار الأخرى أمر عظيم عظيم، فالمسلم يهرب من كل ما يشينه في ذلك ليوم أو يخِّف موازينه.
ولهذا كان من الواجب على كل مسلم أن يسعى في تعلم تحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا الله والشهادة بأنّ محمدا رسول الله؛ لأن كل سعادة ستحوزها إذا حققت هاتين الشهادتين.(25/1)
وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله بالتوحيد بأنواعه توحيد الإلهية بالمطابقة وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات بما تضمنته تلك الكلمة العظيمة.
وأما تحقيق شهادة أن محمدا رسول فهو في أنحاء وفي جهات:
ومنه أن لا تكون عبادة ولا تقربا إلى الله جل وعلا إلا عن طريق المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم، فالعبادة إنما هي التي شرعها المصطفى عليه الصلاة والسلام والتي سلكها وأمر بها أو دل عليها أصحابه وأمته عليه الصلاة والسلام، وهو عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رؤوف رحيم.
وقد أمره الله جل وعلا بإبلاغ الدين وبألاَّ يكتم شيئا من الدين فبلّغ الدين وبلّغ الرسالة وجاهد في ذلك، فكان مما بلَّغ أشياء مفصّلة في أمور العبادات، ومما بلّغ النهي عن أشياء مجملة نهى عنها مما لا يجوز إحداثه أو التقرب إلى الله جل وعلا به، وتلكم هي البدع.
فكان عليه الصلاة والسلام آمرا بأشياء مفصلة من أمور الخير كثيرة تكفي من أراد أن يتقرب إلى الله جل جلاله بها.
ونهى بإجمال عن كل غير تلك العبادات، فنهى عن البدع ونهى عن أن يُتقرب إلى الله جل جلاله بغير ما سنّه المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم.
ولهذا قال العلماء: معنى شهادة أن محمدا رسول الله أن يُطاع فيما أمر، وأن يُصدق فيما أخبر، وأن يُجتنب ما عنه نهى وزجر، وأنْ لا يُعبد الله إلا بما شرعه رسوله صَلَّى الله عليه وسلم.
فكل عبادة يُتعبد بها الله جل جلاله لم يكن عليها أمر المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم فهي باطلة وسالكها قد انقدح في سلوكه قد انقدح في أمره وعبادته تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، قد قُدِح في ذلك ونقص بمقدار تلك البدعة وربما كانت بدعة كفرية فخرج من أصل الدين والعبادة والعياذ بالله.(25/2)
لهذا الأصل قال العلماء: إن أعظم آية في هذا الأمر وهي آية سورة المائدة هذه الآية لو تأملها أهل الإسلام لكفتهم عن أن يكونوا على غير السنة، قال جل وعلا ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:3]، قال يهودي لعمر رضي الله عنه: آية أو أنزل علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم الذي أنزلت فيه عيدا. قال: وما هي؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ). قال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والساعة التي نزلت فيها، والمكان الذي نزلت فيه. لأنها نزلت يوم الجمعة، نزلت يوم عرفة وهذا اليوم هو يوم عيد للمسلمين.
فهذه الآية فيها بيان أنّ الله جل وعلا أكمل لنا الدين قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يعني أن الدين وهو ما يتدين به المرء ليقربه إلى الله جل وعلا قد كَمُل، فإذا كان كاملا فهل ثَم وسيلة لإدخال شيء فيه حتى يتقرب به إلى الله جل جلاله؟ إن هذا مناقض لمعنى هذه الآية، ولهذا قال الشاطبي وغيره من أهل العلم قالوا: إنَّ أهل البدع ليس عندهم لهذه الآية معنى وهي قوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)؛ لأن معنى الإكمال أنه ليس فيه مجال لآن يدخل فيه شيء يقرب إلى الله جل جلاله.
وإذا كان كذلك فكل شيء أُحدث بعد الرسول عليه الصلاة والسلام بعد زمنه فإنه بدعة ضلالة يدَّعي صاحبها أن الدين ناقص وأنه يريد إكماله؛ لأنه لم يأتِه ما جاءت به الشريعة.
لهذا قال الإمام مالك فيما رواه عنه ابن الماجشون قال: قال مالك رحمه الله تعالى: من زعم أن في الدين بدعة حسنة فقد زعم أن محمدا عليه الصلاة والسلام خان الرسالة، والله جل جلاله يقول ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:3].(25/3)
لهذا كان كل محدِث لبدعة مدَّع بأن الدين لم يكمل إن بلسان حاله أو بلسان مقاله وهو أعظم والعياذ بالله.
لهذا وجب عليك أن تتعرف إلى البدع:
· من جهة معناها.
· ومن جهة أسبابها.
· ومن جهة القواعد التي بها تعرف البدعة وتعرف السنة.
· ومن جهة الضوابط في هذه المسألة .
· وتتعلم الشبهات التي أثارها أهل البدع، وما أكثرهم لا كثرهم الله جل جلاله، تتعلم تلك الشبهات والرد عليها؛ لأنه قد يأتي من يحسن البدع عندك بأنواع من التحسينات أو يلقي شبهة، فإذا كشفت الشبهة بتعلم وتعليم كنت في حيازة وحراسة من أهل البدع؛ أتباع الهوى.
· وكذلك تعرف أنواعا مما أحدثه الناس من أنواع البدع حتى إذا مرّ عليك شيء منها أو سمعت بأحد يعمل بشيء منها كنت منها على بغض وحذر وكذلك أنكرتها لعلم لك بها.
لهذا تقول إن البدعة مأخوذة من ابتدع الشيء يعني اخترعه، تقول هذا أمر مبتدع يعني جديد مخترع ليس له مثال سابق، ولهذا قال الله جل وعلا ?بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ?([1]) يعني قد اخترعهما وأنشأهما من غير مثال سابق، وقال جل وعلا آمرا نبيه صَلَّى الله عليه وسلم ?قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ?[الأحقاف:9]، يعني ما كنت مخترعا من الرسل ليس قبلي رسول؛ بل ثَم رسل من قبلي فلم تنكرون رسالتي وتقرون بأن ثمة رسلا أرسلهم الله جل وعلا؟ (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) يعني ليست رسالتي بمخترعة ولا جديدة لم يُسبق أن أرسل الله جل وعلا؛ بل أرسل الله جل وعلا رسلا وأنا لست ببدع فيهم لست بجديد في الرسل.
لهذا أصل البدعة أنها شيء مخترع جديد هذا في اللغة.(25/4)
قد يكون في أصل اللغة معنى يكون هذا الاختراع في أمور محمودة وقد يكون في أمور مذمومة؛ لكن إذا اخترع شيئا وابتدعه فإنه يقال هذه بدعة، ولهذا استعمل عمر رضي الله عنه الخليفة الراشد الثاني استعمل لفظ البدعة في المعنى اللغوي فقال رضي الله عنه لما اجتمع الناس على إمام واحد يصلون خلفه في أيام رمضان قال لما رآهم يجتمعون يصلون التراويح: نِعْمَ البدعة هذه بدعة. بدعة من جهة اللغة؛ لأنهم لم يكونوا يفعلونها فاجتمعوا على إمام واحد، وليست ببدعة في الشرع لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قد جمّع بهم في رمضان وصلوا خلفه بضع ليال عليه الصلاة والسلام، فعنى عمر بهذه الكلمة المعنى اللغوي لها لأنهم اجتمعوا بعد أن كانوا متفرقين على عدد من الأئمة في مسجده صَلَّى الله عليه وسلم.
أما في الاصطلاح يعني في عُرف أهل الشرع فإن البدعة عُرِّفت بأنواع من التعاريف:
منها أن البدعة طريقة في الدين مخترعة يُضَاهى بها الطريقة الشرعية، ويُقصد بها المبالغة في التعبُّد لله جل وعلا. وهذا تعريف الشاطبي رحمه الله في كتابه الاعتصام وهو كتاب نفيس في هذا الباب في معرفة البدع والرد على أهل الشبهات فيها.
وعرّفها آخرون بقولهم بأن البدعة هي ما أُحدث على خلاف الحق المتلقَّى عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بقول أو اعتقاد أو حال بنوع شبهة أو استحسان.
ولا بأس أن ننظر إلى التعريف الأول لأن كثيرين من أهل العلم يعتمدون ذلك التعريف.
فما هي البدعة في الشرع؟ قال الشاطبي لنا: البدعة هي طريقة في الدين مخترعة.
(طريقة) الطريق هو المسلوك، طريق يعني قد طرقته الأقدام فسُلك، فمعنى ذلك أن البدعة لم تفعل مرة بل طُرقت وطرقت كثيرا، فصار أمرها مطروقا؛ يعني فُعلت كثيرا حتى صارت طريقة.(25/5)
(طريقة في الدين) يعني أنها ليست في الدنيا، فإذا أحدث الناس في أمور دنياهم ما يعينهم على تحسين أمور دنياهم فليست تلك من البدع المنهي عنها؛ بل البدعة المنهي عنها في الدين، (طريقة في الدين) لأن أمر الدنيا على الإباحة لكن أمر الشريعة والعبادات على الحظر حتى يكون عن المصطفىصَلَّى الله عليه وسلم.
(مخترعة) يعني جديدة لم يكن لها مثال سابق في عهده عليه الصلاة والسلام.
قال (تضاهى بها الطريقة الشرعية) يعني تجعل مماثلة للطريقة الشرعية، فماذا يقصد الناس بالطريقة الشرعية؟ يعني بالالتزام بأمر شرعي بعبادة من العبادات، يقصدون بذلك أن يتقربوا إلى الله جل وعلا بتلك العبادة وأن يكون فعلهم الذي فعلوه مقتدًى به؛ يعني يقتدي الناس به ويكونون هم قد اقتدوا برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فيه إما من جهة الإذن بالقول أو الإذن بالحال، فإذن يقصد أصحاب البدع بها مضاهات الطريقة الشرعية، قد تأتي إلى مبتدع وتقول: أنت تريد مضاهات الطريقة الشرعية؛ منافسة الطريقة الشرعية، يقول:لا، ولكن المقصود الحال فإنه حين تعبد بعبادة جديدة فإنه ضاهى الطريقة الشرعية؛ يعني جعل شيئا يتعبد به فيه وبه هو على شكل وهيئة الطريقة الشرعية.
قال (تضاهى بها الطريقة الشرعية، ويقصد بها المبالغة في التعبد) وهذا أمر مهم، لأن الذين تعبدوا بالبدع لماذا تعبدوا بالبدع؟ يريدون المبالغة في التعبد.(25/6)
مرَّ ابن مسعود رضي الله عنه على قوم بعد أن أخبر عنهم في مسجد الكوفة، فإذا هم يسبحون بحصى، يأتون بحصى ويجمعون كل عشرة حصيات أو مائة حصاة، ثم يعدون سبحان الله مائة؛ واحد اثنان ثلاثة إلى آخره، فلما رآهم غضب وقال: إما أن تكونوا أهدى من صحابة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، أو أن تكونوا محدثي ضلالة، هذه آنية رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لم تكسر وهذه ثيابه لم تبلَ، فكيف -يعني معنى كلامه- فكيف تحدثون ذلك مع القرب بعهد النبوة؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير.
فهذا قصد الشاطبي حين قال (يقصد بإحداث البدعة المبالغة في التعبد لله جل وعلا) فإنه حين أحدث البدعة لم يحدِثها وهو يعلم أنه مخالف للدين؛ بل هو يقول أنا أريد الزيادة في الخير. لكن هل أُذِن له بأن يزيد ما شاء دون إذن من الشرع؟ لم يؤذن له بذلك.(25/7)
لهذا نقول أن أدلة الشرع دلت على وجوب الالتزام بالسنة، وعلى حرمة مخالفة السنة، والإتيان بالبدع يعني مخالفة الطريقة التي يُتعبد بها والتعبد لله جل وعلا بالبدع، قال الله جل وعلا ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ?[آل عمران:31]، قال بعض السلف ليس الشأن أن تُحِبَّ ولكن الشأن أن تحب ليس الشأن أن تحب أنت الله جل وعلا. ليس الشأن أن تحب الرسول صَلَّى الله عليه وسلم ليس الشأن أن تحب الدين، ولكن الشأن أن يحبك الله جل وعلا، والله جل وعلا لا يحب العبد إلا إذا كان عمله حسنا، قال جل وعلا ?لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا?([2]) قال الفضل في كلمته المشهورة العمل الحسن هو الذي كان خالصا صوابا. خالصا لله جل وعلا لا لغيره، صوابا على سنة المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم، وقد قال جل وعلا ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[الأنعام:153]، قال (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) فصراط الله واحد، سبل الضلال قال (فَاتَّبِعُوهُ) يعني اتبعوا هذا الصراط (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فسبيل الله واحد، وأما السُّبل سبل البدع والشبهات فهي كثيرة، ولهذا فسرها مجاهد بن جبر أبو الحجاج التابعي المعروف تلميذ ابن عباس فسَّر هذه الآية بقوله: هي البدع والشبهات. قال (فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).(25/8)
وقال جل وعلا في سورة آل عمران ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ?[آل عمران:7]، من هم الذين يتركون لأمر الواضح البين ويأخذون بالمشتبهات والمتشابهات؟ هم أهل الزيغ، وأهل الزيغ قال فيهم عليه الصلاة والسلام «إذا رأيتهم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم».
فإذن الذين يتركون الأمر الواضح ويأخذون بالمشتبهات فهؤلاء أصحاب الزيغ؛ لأنهم تركوا الأمر البين الذي بينه عليه الصلاة والسلام وأخذوا بالأمور المشتبهات أو لم يأتِ بها شرع المصطفى عليه الصلاة والسلام.
لهذا كان في خطبة الحاجة التي يذكِّر بها النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه دائما كان فيها قوله عليه الصلاة والسلام «أما بعد فإن أحسن الحديث كلام الله -أو كتاب الله- وخير الهدي هدي محمد صَلَّى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) هذه خطة الحاجة كان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يعلمها أصحابه، يعلمهم أن كل محدثة بدعة ول بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، هذا تأكيد على هذا الأمر حتى لا يُحدث في الدين شيء.(25/9)
ولهذا جاء في حديث العرباض بن سارية الحديث المشهور قال فيه العرباض بن سارية رضي الله عنه: وعَظَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً بليغة، ذَرفَت منها العيونُ، وَجِلَت منها القلوبُ فقلنا: يا رسول الله؛ كَأنّها مَوعظةُ مُوَدَّعٍ، فَأوصِنا. فأوصاهم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وكان مما أوصاهم به أن قال «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا» إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الْخُلفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ من بعدي تمسكوا بها وعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» يعني لا تفكونها عظوا عليه بالنواجذ يعني بأقوى ما عندكم «وعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ محدثة بدعة».
وهذه وصيته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بعد موعظته التي ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فما كان أنصحه لأمته وما كان أرأفه بأمته لا خير إلا دلهم عليه ولا شر إلا حذرهم منه، كما جاء في مسلم أنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وأن يحذر أمته عن شر ما يخافه عليهم» وهكذا كان المصطفى عليه الصلاة والسلام.
إذن فأمر البدع أمر عظيم وجامعتها والدليل الذي يجب عليك أن يكون معك دائما في هذا الأمر هو قول المصطفى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بميزان تزن به الأمور وتزن به الأفعال قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فيما روته عائشة وأخرجه صاحبا الصحيح «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وفي رواية لمسلم وعلقه البخاري في صحيحه «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».(25/10)
قال العلماء: ثَم حديثان هما ميزانان لأعمال أما الأول فهو ميزان للأعمال في باطنها.
تزن عملك في الباطن الذي لا يظهر للناس وهو قول المصطفى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» هذا ميزان باطن أنت تقوم نفسك به (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) فإن كانت نيتك صالحة خالصة لله جل وعلا فهذا معناه أن الجهة الباطنة صحيحة.
والميزان الظاهر الذي تزن به العمل في الظاهر الذي يُرى قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في هذا الحديث «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ -وفي رواية (مَا لَيْسَ فيه)- فَهُوَ رَدٌّ) هذا هو ميزان للظاهر.
إذن تزن الأعمال في الباطن من جهة صلاحيتها وكونها حسنة مقبولة وهل أنت مخلص فيها أم لا.
وتزن العمل الظاهر فيما يرى الناس بـ: هل هو على أمر النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أم ليس على أمره.
فهما ميزانان لا يشذ عنها شيء من الأعمال واحد للباطن وواحد للظاهر.
[أسباب البدع]
إذن إذا كان الأمر كذلك والبدع بهذا الشأن وهذه الأدلة التي جاءت فيها، فلم أحدثت البدع؟ المسلمون يحبون الخير ويحبون نبيهم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فما أسباب حدوث البدع؟ ولم حدثت البدع في هذه الأمة؟
أول أسباب حدوث البدع الجهل بالسُّنن: إذا جهل المرء الذي يزن الخير بالسنة فإنه جهله هذا يأتي الشيطان من جهته ويحبب له الخير بشيء مبتدَع، مثل ما قال أولئك لابن مسعود: يا ابن مسعود ما أردنا إلا الخير. ما أرادوا إلا الخير، وإذا كانوا ما أرادوا إلا الخير فالأمر جائز، وهذا ليس بصواب.
إذن فأهم أسباب البدع أن المحُدث لها يقول ما أردنا إلا الخير وهو جاهل بالسنة.(25/11)
ما سمعنا مبتدعا يقول: أنا أردت مخالفة السنة. هل سمعتم؟ ما أحد يقول أنا أردت مخالفة السنة. كلهم يقولون ما أردنا إلا الخير. نحن نبغي التقرب إلى الله، كيف تقول إن هذا الفعل كذا وكذا وتنهى عنه هو صالح، اجعل الناس يتذكرون، اجعل الناس يعبدون، اذهب إلى الفسقة إلى الفجرة وانههم، أما الذين يريدون الخير فاجعلهم يتعبدون لأنهم ما أرادوا إلا الخير.
هل كل مريد للخير يحصله؟ لا، لابد أن يكون على هذا الطريق وهو طريق المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[الأنعام:153].
السبب الثاني من وجود البدع واستمرار البدع الهوى والتقليد؛ لأنك تجد أن الذي استمر على البدع وعمل بها إذا سألته: النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ألم يقل كذا؟ هل فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الشيء؟ فيقول العالم الفلاني قال كذا، وشيخنا قال كذا، وهذا كان في القرية كان فيها كذا وكذا والبلد، هؤلاء ضلال، فيأتيه الهوى الذي من أجله نصر من قبله نصر أسلافه، يأتيه التقليد يأتيه التعصب فيجعله ينتصر لهذا الأمر الباطل، ولم ينتصر إلى السنة فسأل نفسه هل كان النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على هذا الأمر أم لا؟ فيكون عنده هوى وتقليد وتعصّب، جعله هذا الهوى والتقليد والتعصب ينتصر للرجال ولا ينتصر لسنة النبي العدنان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ هذا سبب مهم.(25/12)
ومن أسباب حدوث البدع أمور سياسية: وهذا الأمر السياسي كان من أعظم فشوِّ البدع في المسلمين لم؟ لأن الشيء إذا أيدته دولة فإنه ينتشر، البدع وذلك على أصنافها المختلفة أيدتها دولة فنشرتها في المسلمين وهي الدولة الفاطمية، التي حقيقة اسمها الدولة العبيدية، هم ينتسبون إلى العبيديين ولا ينتسبون إلى علي رضي الله عنه على الصحيح، هذه الدولة جاءت وتكلم العلماء فيها وقالوا إنها كذا ودولة باطنية وهي على غير الإسلام ولها معتقدات مكفِّرة، إلى آخره، فكيف يقنعون الناس أنهم محبون للدين ومحبون للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وأنهم من آل البيت أول ما بدأ أحدثوا الاحتفالات البدعية، فهم أول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، جاءوا قالوا هذا يوم المولد لابد أن نحتفل به، فلما رأى العوام أن هؤلاء هذه الدولة تحتفل بمولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتتلوا سورته، ويفعلون في المولد صرخات وأكل وطعام ونحو ذلك قالوا هؤلاء محبون للشريعة محبون للسنة، والعوام ليس عندهم من تقييم الأمور ما عند أهل العلم، وابتدأ ذلك فبدل أن يكون يوم واحد من الاحتفالات في السنة صار كما قال المؤرخون عندهم في كل يوم مولد في كل يوم احتفال في الدولة العبيدية، فأيدتها الدولة وانتشرت في الناس ذلك شيئا فشيئا حتى عمّ في الناس.
إذن من الأسباب التي دعت إلى انتشار البدع ما أيدت به البدع الدولة العبيدية، وأعظم البدع التي أيدتها الدولة العبيدية من جهة العمل الاحتفالات بأنواعها مع ما هم عليه من البدع في الاعتقاد.(25/13)
من الأسباب أيضا لإحداث البدع ولبقائها ولانتشارها الاستحسان العقلي في مقابلة النص الشرعي: الدين كامل فلا يجوز أن تستحسن فيه بالعقل في عبادة؛ لأن العبادات في الأصل لا تعلم عللها، لم جُعلت صلاة الظهر أربعا والمغرب ثلاثا، لم المغرب ثلاثا وبعد ساعة ونصف العشاء أربع؟ لم صار التقييد في التسبيح بكذا وكذا؟ هذه العبادات لا نعلم عللها.
فلهذا وجب أن يقتصر فيها على نص الشارع؛ لأنه لا علة معلومة فيها، ولهذا يقول العلماء العبادات هي غير معلومة العلة يعني في الغالب، الحكمة غير العلة، الحكمة وصف قاصر، أما العلة هي الأمر الذي أو الوصف المناسب الذي تستخرج منه حكما لغير المسألة بجامع بينها وبين المسألة المنصوص عليها، الحكم شيء والعلل شيء آخر.
إذن من أسباب البدع الاستحسان العقلي، والشريعة كاملة والعبادات لا مجال فيها للعقل أصلا.
إذا قال قائل: أنا أريد أن أدعوا الله بالطريقة الفلانية. فقل: لماذا لا تصلي الظهر خمسا؟ فهو يقول: الظهر خمسا!! ما صلى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ خمسا.
فإذن هل فعل النبي هذا الدعاء أو هذه الهيئة أو هذا الذكر؟ أو هل اجتمع الصحابة على هذا النحو؟ ما الفرق بين هذه وهذه؟
أدخل تحسينه العقلي في أشياء ولم يدخله في أشياء لأنه هابه؛ هاب المخالفة فيه لعظم المخالفة.
ولهذا من أسباب البدع الدخول فيه بالتحسين العقلي، يدخل في العقل يقول هذا الشيء نفعل كذا حتى نجيب الناس نجمعهم بهذه الطريقة.
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
إذن هذه خمسة أسباب لحدوث البدع ولاستمرار البدع في هذه الأمة.
[القواعد التي تعرف بها السنة والبدعة]
هناك قواعد مهمة إذا علمتها سهُل عليك القوة في أمر السنة والرد على أهل البدع.(25/14)
أما القاعدة الأول منها: فهي أن الأصل في العبادات الحظر حتى يأتي الدليل، الأصل في العبادات المنع حتى يأتي الدليل بها، لم؟ لأن العبادة شُرعت على غير تعليل عقلي، فالأصل أن لا يتعبد أحد بشيء حتى يأتي الدليل به لقول الله جل وعلا ?وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا?[الحشر:7] ما آتاكم من الأقوال والأعمال والاعتقادات فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.
هذه قاعدة مهمة أن الأصل في العبادات الحظر حتى يأتي الدليل، فإذا أتى آتٍ وقال لك أن هذه البدعة طيبة، فقل: الأصل في العبادة المنع حتى يأتي الدليل، فهل أتى بهذه دليل هل أجمع عليها العلماء؟ هل ذكرها الصحابة؟ هل فعلها الصحابة؟ كما سيأتي في القواعد الأخرى هذه قاعدة مهمة.
القاعدة الثانية في أصول معرفة البدع والرد على أهلها:
أنّ البدعة التي أُحدثت لو كانت خيرا لفعلها خير هذه الأمة، وخير هذه الأمة هم صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتابعوهم وتابعوهم، هم خير هذه الأمة.
فإذن إذا أتى واحد وفعل بدعة فتسأله: هل فعلها الصحابة؟ هل فعلها التابعون؟ فإذا قال: لا. فتقول: إذن لو كانت خيرا تُقَرِّبُ إلى الله لفعلها خير هذه الأمة؛ بل لفعلها النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ولفعلها أصحابه في وقته، فلو كانت خيرا لفعلوها، فما دام أنهم ما يفعلوها، فدلنا ذلك على أنها ليست بطريقة مرضية؛ لأنهم خير هذه الأمة، ومقتضى أنهم خير هذه الأمة أن الأمور الخيرة قد عملوها في أمور العبادات والاعتقادات والجهاد وغير ذلك.
من القواعد أيضا المهمة في ذلك:
أنْ تعلم أن فعل النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أو سنة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نقول سنة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على قسمين:
· سنة فعلية.
· وسنة تركية.(25/15)
كما حققها العلامة ابن القيم في كتابه معالم الموقعين عن رب العالمين سنة فعلية وسنة تركية، الناس يهتمون بسنن الفعل النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، روي عنه أنه فعل كذا فنصلي، صلى الراتبة نصليها، أمر بالذكر فنذكر على هذا النحو، هذه سنة فعلية واضحة، فأمر أو أتى أو رغب فهذه سنن الأفعال، أو فعل ذلك بنفسه أو أقر غيره فهذه السنن الفعلية.
لكن المهم في قواعد البدع أن تعلم من سنته سنة الترك، وتركه سنة كما أن فعله سنة لأن الترك في الحقيقة فعل، هو ترك للفعل، فهو فعل ترك.
فلهذا نقول سنة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ منها الترك.
وإذن الذي يرد اتباع السنة فإنه يفعل ما فعل عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ويترك ما ترك؛ لأن سنته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ منها سنة تركية.
هذه قاعدة مهمة، فتأتي إلى أهل البدع وتقول لهم: النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فعل وهذه سنة فعلية تقتدي بها أولا تقتدي؟ يقول: نعم أقتدي بها. فتقول: أيضا النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ترك وهذه سنة تركية، فإذا كانت سنة تركية فنترك لأنه ترك، كما أننا نفعل لأنه فعل.
فالسنة ترجع إلى الشيئين، وإقتداء المكلف بالنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ الذي يؤجر عليه من جهة النية ومن جهة الفعل أن يفعل لأجل أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فعل،وأن يترك لأجل أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ترك .
هذه بعض القواعد والمقام يقصر عن تفسير هذا المقال.
[الضوابط التي تفرق بين البدعة وغيرها]
نذكر بعد القواعد شيئا من الضوابط التي تفرق بين البدعة وغيرها.
البدعة من تعريفها الذي ذكر يظهر أنه يعني يغني من فعلها يلتزم بها.(25/16)
ولهذا قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في موضع ضابط البدعة أنها ملتزم بها، قال الفرق بين ترك السنة وفعل البدعة أو بين مخالفة السنة والبدعة أن مخالفة السنة تقع أحيانا ونادرا، وأما البدعة فهي ملتزم بها.
وهذا ضابط مهم.
مثلا نوضح لك هذا الضابط مثلا لو رأيت رجلا يدعو بعد الصلاة رفع يديه فدعا، مرة رفع يديه فدعا هذا بدعة أو مخالف للسنة، تنظر:
إذا التزم بهذا الفعل فكان دائما عليه فنعماه أنه جعله من الدين وأراد بذلك التقرب إلى الله جل وعلا فكان بدعة.
وأما إذا فعله مرة فيكون خطأ مخالف للسنة لكن لا يكون بدعة.
فضابط الالتزام مهم في الفرق بين البدعة ومخالفة السنة، فمن خالف السنة وفعل فعلا مخالفا للسنة في أمر التعبد مرة أو مرتين بحسب ما ظهر له فإنه يقال أخطأ وخالف السنة؛ لكنه لا يسمى مبتدعا حتى يكون ملتزما بهذا الفعل فإذا التزمه صار فعله طريقة في الدين مخترعة تضاهي بها الطريقة الشرعية يقصد بها المبالغة في التعبد بها لله جل وعلا، وهكذا أفعال أخر من أمور التسبيح والأذكار، فينكر عليه تارة لمخالفته للسنة، وينكر عليه بأشد إذا كان على بدعة، فمن فعل شيء مخالفا للسنة ينكر عليه وينصح ويبين له لكن لا يسمى مبتدعا حتى يلتزم بذلك، فيكون التزامه طريقة في الدين مخترعة.
وهذا ضابط مهم في هذا البحث.
شبهات تتعلق بالنهي على البدع
قد علمنا النصوص التي دلت على التحذير من البدع والنهي عنها، وأنّ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وأنّ ما عمل أحد عملا ليس عليه أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وهو رد يعني مردود عليه، «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ -وفي رواية (مَا لَيْسَ فيه)- فَهُوَ رَدٌّ» يعني مردودا عليه.
فهناك شبهات حسّنها أهل البدع وعلماء البدعة والضلالة.(25/17)
من هذه الشبهات: أنهم قالوا الصحابة رضوان الله عليهم فعلوا أشياء لم تكن في عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ما هي؟ قالوا: جمع القرآن، هل النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أذن بجمع القرآن؟ هل جمع القرآن في عهده؟الصحابة أحدثوا الجمع جمع القرآن في كتاب واحد، وهو في عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان مفرقا في الصحف والعظام والألواح ونحو ذلك، فجمعهم لهم تقربوا به إلى الله جل وعلا ولم يجعله أحد بدعة مذمومة، فدل على أنه وإن كان بدعة لكنه بدعة حسنة.
هذه شبهة، وهي ناتجة عن الجهل أو عدم فقه الشرع كما ذكرنا لكم في أسباب البدع.
الله جل وعلا دلنا في كتابه على أن القرآن سيكون كتابا، فقال جل وعلا ?الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ?[البقرة:1-2]، الكتاب إشارة إلى أي شيء؟ الكتاب اسم للمجموع، وقال?تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ?[الحجر:1]، (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في عهده لم يكن ثمة مصحف مجموع في شيء واحد، قال فيما رواه مسلم في الصحيح يعني نهى عن أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو أين المصحف؟ أين الكتاب؟ الذي قال الله فيه (ذَلِكَ الْكِتَابُ)؟ هل هو إشارة إلى اللوح المحفوظ أو الكتاب الذي سيجمع؟
فهذا فيه دليل على أنه يجب أن يجمع حتى يكون كتابا؛ ولكن في عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ما قام المقتضي بجمعه فيما بين دفتين لم؟ لأن الوقت يتنزل ما انتهى الوقت بعد، هل تم تنزل القرآن؟ ما تم في حياته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
ولهذا نقول في عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ القرآن ينزل والآيات تنزل، فإذا كان سيجمع في مصحف واحد معنى ذلك أنه ستدخل آية في هذا الموضع وتدخل آية في ذلك الموضع، وسيكون تلاوته ليست متواترة بل ستحتاج إلى أن ينسخ مرة ثانية وثالثة بعد نزول مجموعة من الآيات أو بعض السور.(25/18)
فأُخِّر جمعه لتلك الدلالة إلى ما بعد عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حتى يتم تنزل القرآن وإيحاء الله جل وعلا لنبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
فلهذا نقول إنه ليس لهذه الشبهة معنى؛ لأن الصحابة فعلوه من جهة الفقه في النص، ففعلوا ما دل النص بالإشارة وباللفظ على أنه يجب أن يُفعل، فهم امتثلوا الأمر الذي دُل عليه بالإشارة.
شبهة ثانية: قالوا النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يقول «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»، (من سن في الإسلام سنة حسنة) فهذا يدل على أن من جاء بشيء جديد ولكنه حسن فإن له أجرا. والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ثبت عنه ذلك كما رواه مسلم في صحيحه وغيره فقال (من سن في الإسلام سنة حسنة).
الجواب فيما لو طرح أحد عليك سمعت هذه الشبهة. الجواب على ذلك: أن هذا الحديث له سبب وسببه يوضح معناه، والعلماء يقولون: العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. إذا علمت السبب فهمت الكلام.
وسببه أن قوما مجتابي النمار يعني كانت عليهم ملابس مجتابة أي محرقة أتوا إلى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فلما رآهم رق لحالهم وعُرف ذلك في وجهه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فحث على الصدقة وأمر بها، فقام رجل فقال: عليَّ يا رسول الله كذا. فلما فعل ذلك تبادر الناس وفعلو مثل فعله فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حين ذلك «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عل بها إلى يوم القيامة» معنى (من سن في الإسلام سنة حسنة) يعني ترك العمل بها هي من الدين لكن ترك العمل بها مثل التصدق؛ لأنه قالها حتى تصدق ذاك فتبعه الناس على ذلك.
فالذي يبتدئ بالأمر الذي شُرع في الدين ويتبعه الناس على إحياء هذا الأمر الذي شرع في الدين يكون ذلك الفاعل الأول سن في الإسلام سنة حسنة، ما ابتدع ولكنه أحيى تلك السنة.(25/19)
ومن معلوم في قواعد اللغة أنه يطلق الشيء على مُلاَبسه فيقال من سن ويراد من أحيي السنة كما قال عز وجل ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا?[المائة:6]، يعني إذا أردتم القيام للصلاة كقوله ?وَقَبِضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا?[طه:96]؛ يعني قبضت قبضة من أثر [حافر] الرسول فنبذتها، ونحو ذلك مما هو معلوم في اللغة.
إذن هذه الشبهة لا وجه لها.
ومن الشبه التي يقولونها: إن هؤلاء ما أرادوا إلا الخير.
هذا سبق ن ذكرته لكم؛ يعني ذكرت لكم جوابه وأنه ليس بشيء لأنه ليس الأمر على أن تريد الخير الأمر على أن يكون عملك خالصا صوابا .
من الشبهات أيضا: هذه مهمة أنهم قالوا: الصحابة أحدثوا أشياء والمسلمون أحدثون أشياء في أمورهم، فأحدث عمر وضع الدواوين، وأحدثوا في المساجد؛ يعني في تنظيم بعض الأشياء المتعلقة بالإمام وبالأئمة، وأحدثوا بعض أنواع الإدارة، وأحدثوا ديوان الجند، وأحدثوا المدارس، وأحدثوا كذا وكذا... إلى آخره.
يعني أنهم فعلوا أشياء ونظَّموا أشياء جديدة، وهذه لاشك أنهم يريدون بها أنها من الدين لأنها تقرب إلى الله جل وعلا، فلم يجعلوها من البدع.
والجواب عن ذلك: أن هناك فرقا مهما بين البدع، وبين ما سماه الإمام مالك وأتباعه وطائفة من أهل العلم المصالح المرسلة.
هناك شيء اسمه البدع كما ذكرنا، وهناك مصالح مرسلة.
المصالح المرسلة مثل فعل الصحابة، نظموا الإدراة، نظموا أمور دنياهم، نظموا الدواوين، عملوا أشياء أحدثوا التاريخ وكتابة التاريخ ونحو ذلك، هذه من المصالح المرسلة.
والمصالح المرسلة مرعية في الدين ويُحثُّ عليها لأن فيها رفع الحرج.
الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة أن المصلحة المرسلة راجعة إلى أمر به حفظ أمرٍ ضروري من الدين، والضروريات خمس، وإلى رفع حرج عن المسلمين في شيء.(25/20)
إذن فهي راجعة إلى جهة المعاملة إلى جهة العمل إلى جهة التنظيم، لا إلى جهة العبادة، وأما البدعة فليست راجعة إلى هذه الأشياء، وإنما هي راجعة لإحداث أمر في الدين، يعني في العبادات.
ففرق بين شؤون وبين أمور المعاملات وما يفعله الناس، فالصحابة ما أثبتوا أمرا في العبادات وإنما أحدثوا أمر في دنياهم، وقد قدمت لك القاعدة أما الأصل في العبادات الحظر حتى يرد دليل الجواز، والأصل في المعاملات الجواز حتى يرد دليل الحظر.
أيضا من الفرق المهم بين المصلحة المرسلة وبين البدعة:
أن المصلحة المرسلة راجعة إلى الوسائل وسيلة.
وأما البدعة فهي غاية.
وهذا فرق مهم البدعة غاية؛ يعني هي في نفسها مرادة يتعبد الله بها، وأما المصلحة المرسلة فهي وسيلة لتحصيل أمر مشروع.
ففرق ما بين الإذن بالوسائل التي تدخل تحت قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان المقصد وهو حفظ أمر ضروري مطلوبا في الشرع فإن وسيلته وهي المصلحة المرسلة مطلوبة، وإذا كان المقصد وهو إزالة الحرج مطلوبا في الشرع فكذلك وسيلته التي هي المصلحة المرسلة مطلوبة، فهذا فرق مهم.
فإذن الذي يحتجون به في مسألة المصالح المرسلة والبدع لا وجه له لأن الفرق بينهما قائم، وقد حقق العلماء ذلك بتفصيل وإيضاح.
نختم كلامنا بذكر:
طائفة من البدع
هذا الذي سبق تأصيل، والتأصيل مهم لأنك به تعرف ما لا نذكره، قد نذكر أشياء من البدع ليست على وجه الحصر ولكن على وجه التمثيل، فإذا عرفت القواعد والتأصيلات في هذا الأمر المهم فإنك تعرف البدعة من السنة إن شاء الله تعالى.
من البدع المحدثة بدع متعلقة بالأزمنة:
فهناك في شهر محرم أحدثوا بدع مثل بدع الرافضة في ضرب الصدر ونحو ذلك في أيام عاشوراء يعني اليوم العاشر في محرم وفي غيره.(25/21)
هناك بدع متعلقة بشهر ربيع الأول ومن أظهرها بدعة الاحتفال بالمولد، الاحتفال بيوم مولد النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فيجتمعون ليلته ويقرَؤون سيرته وبعض القصائد التي في مدح النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وربما كان منها ما فيه شرك أكبر بالله جل وعلا، وقد ذكرت لك فيما سبق أن أول من أحدث بدعة الاحتفال بمولد النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وبالموالد جميعا من؟ الدولة العبيدية.
ومنها بدع في شهر رجب مثل بعض الصلوات فيه، وبعض العبادات التي يتقربون إلى الله جل وعلا فيها، فشهر رجب ليس له مزية عن غيره من الشهور.
ومنها بدع متعلقة بغيرها من الأشهر كشهر شوال ونحو ذلك.
هناك بدع راجعة إلى هيئات العبادة:
مثل الاجتماع على الذكر على نحو معين، تقول نجتمع على الذكر ويذكرون الله على شكل جماعي واحد، يقول: سبحان الله، والجميع: سبحان الله، سبحان الله.
هذا الفعل هيئة التسبيح في أصله مشروع لكن هذه الهيئة غير مشروعة لم؟ لأن سنة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ جاءت بشيئين:
· جاءت بالفعل في نفسه؛ يعني بالحكم في نفسه من حيث الفعل أو الترك.
· وجاءت بهيئة الفعل.
فجاءت بالتسبيح من حيث هو، وكذلك هيئة التسبيح أنه يكون مثلا باليد.
فثم شيئان الكيفية والهيئة، والأمر في نفسه العبادة في نفسها.
فإذا كانت الهيئة في أصلها مشروعة لابد أن تكون الهيئة مشروعة، فإذا كانت الهيئة غير مشروعة فإن ذلك من البدع التي تسمى البدع الإضافية، ولو كان أصلها مشروعا؛ لكن لما كانت الهيئة مبتدعة كان ذلك دليل عدم الجواز.
من ذلك أيضا: بعض الأذكار مثل أن يذكر الله عز وجل في أعلى المنارة؛ يعني على المناير يصلون على النبي بعد الآذان، أو يذكرون الله على المآذن على نحو ما.
أو يجتمعون في الصلاة على النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على صفة ما.
هذا كله من هيئة البدع؛ لأن أصل هذه الأعمال مشروع ولكنها مبتدعة.(25/22)
أعظم البدع البدع الشركية ووسائل الشرك:
ومن وسائل الشرك التي هي داخلة في البدع الاعتناء بالقبور، من البدع ومن أخطر أنواعها وسائل الشرك الأكبر، ومن ذلك العناية بالقبور، وذلك تشييدها أو تجصيصها أو التسريج عليها أو بناء الأبنية عليها أو وضع القباب عليها أو بناء المساجد عليها وهو أشدها وقد قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «لَعْنَة اللّهُ على الْيَهُودَ وَالنّصَارىَ. اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ أَلاَ فَلاَ تَتّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ. إِنّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ».
هذه بدعة وخيمة ووسيلة من وسائل الشرك، لما حدثت في هذه الأمة آل الأمر بالناس إلى أن يعظموا ذلك المقبور، فيخترعوا له من الصفات ما تضاهى به صفات الله جل وعلا، ثم عبدوهم وتوجهوا إليهم.
من البدع المتعلقة بوسائل الشرك أن يدعو المرء الله جل وعلا متوسلا إليه بذات أحد من الخلق أو بجاهه أو بحرمته، مثلا يقول: اللهم إني أسألك بجاه نبيك، أسألك بحرمة أهل بدر، أسألك بأبي بكر، بالعالم الفلاني، فيجعل التوسل بذات أو بجاه أو بحرمة . لظنه أن ذاك عند الله عز وجل له جاه وله حرمة، وإذا كان كذلك جاز أن يكون وسيلة وهذا من الاعتداء في الدعاء وبدعة ووسيلة من وسائل الشرك.
فلهذا لم يأتِ بأن أحدا من الصحابة ولا من السلف توسل بهذا التوسل البدعي؛ لأنه توسل بأمر خارجي فلان أو عمل فلان أو جاه فلان له وأنت ليس لك إلا ما سألت ?وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى?[النجم:39] فتوسلت بأمر خارج عنك، فكان ذلك اعتداء في الدعاء وبدعة، يؤول الأمر بهذه البدعة حتى يعظم ذلك الذي يُتوسل به دائما فيسأل أو يجعل له صفات من التعظيم لا يجوز أن تجعل لبشر.(25/23)
كذلك كم الابتداع العظيم الابتداع في أنواع الاعتقاد، الابتداع في مسائل الصفات، بأن يجعل العقل محكما في صفات الله جل وعلا، وهذه بدعة أحدثها الجهمية والمعتزلة، فإنهم جعلوا العقل محكما على الغيبيات، وجعْل العقل محكما على الغيبيات فيه تقديم العقل على ما جاء به النقل، وهذا فيه قدح صريح فيما جاء عن الله جل وعلا أو عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذن الواجب ألا يتعرض للصفات بتأويل يخرجها عن ظاهرها، ولا أن يتعرض لها بمجاز يخرجه عن حقيقتها فالإيمان بها على ما دله عليه ظاهرها وعلى ما دل عليه حقيقة اللفظ الافرادية أو التركيبية مع نفي المثيل عن الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].
من البدع ما حدث في أبواب القدر من أن يُجعل الإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه، أو أن يجعل الإنسان مجبورا على فعله كقول غلاتهم من الجهمية، أو قول متوسط الجبرية من الأشاعرة ونحوهم.
كذلك في أبواب الإيمان ابتدعت أشياء كثيرة من أقوال الخوارج ونحو ذلك .
وزمن البدع المحدثة أيضا التي أُحدثت في الدين أن يفرق في أبواب الإمامة في الاعتقاد ما بين الإمامة العظمى والإمامة الخاصة، قال بعضهم: الإمامة العظمى لها حقوق هي التي جاءت في الحديث، وأما الإمام أو ولي الأمر إذا كان في بلد معين فهذا له السمع والطاعة، وليس له حقوق الإمامة العظمى من البيعة ونحو ذلك.
وهذه بدعة وخيمة خطيرة خالف فيها أصحابها ما أجمع عليه سلف هذه الأمة وأجمعت عليه كتب الاعتقاد مِن أن الإمام هو الذي له البيعة وله والسمع والطاعة بلا تفريق، وأن الإمامة سواء كانت خاصة أو عامة الحقوق واحدة فيها البيعة وفيها السمع والطاعة ونحو ذلك.(25/24)
لهذا أجمع المسلمون على أن بيعة وإمامة أهل الأندلس للأمويين فيها صحيحة ماضية، وعلى أن بيعة من في الشرق من أهل بغداد أي العراق والحرمين ودمشق ومصر...إلى آخره، أن بيعته للعباسيين ماضية فقام إمامان هنا وهنا، وكل منهما إمامته إسلامية والبيعة منعقدة لهذا وهذا، كل بحسب محله ولم يفرقوا في هذا الأمر فيما بين الإمامة العظمى والإمامة الخاصة.
هذا والحديث في هذا الباب يطول، فالحذر الحذر ما كل سبيل فيه مخالفة السنة.
فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف(25/25)
وأهل البدع قال الله عز وجل فيهم ?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءَ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ? فكل ما اخترع شيئا في الدين أو جعل شيئا في العقيدة؛ لأن العقيدة تسمى شريعة، من جعل شيئا في ذلك على غير ما عليه الأمر الأول فقد جعل نفسه شريكا لصاحب الرسالة في التشريع، وهذا والعياذ بالله من أشد ما يكون خطرًا من جهة المبتدع كذلك البدع تفرق بين الناس، ويعاقب الله الناس بالبدع يعني إذا سلكوا البدع بالتفريق بين قلوبهم وقد قال جل وعلا ?الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ?[الأنعام:159]، فهؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا يدخل فيهم كل من سعى في التفرقة باتخاذ طريقة في الدين مبتدعة كالطرق الصوفية المختلفة هذه الطريقة شاذلية هذه قادرية هذه نقشبندية وهذه بشتية وهذه وهذه، وكل هذا من التفريق في الدين، وسبيل المصطفى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ واحد ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[الأنعام:153]، فهل نقبل وصية الله جل وعلا؟ وهل نقبل وصية المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ الله الله في السنة، الله الله في الالتزام بها، الله الله في الحذر من البدع وفي الإنكار على أهلها، وفي المجاهدة في ذلك فإن ذلك من أعظم أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المقدِّم: شكر الله فضيلة الشيخ صالح على هذا التوجيه الطيب والمحاضرة القيمة، سوف نستمع الآن إلى تعليق فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ على المحاضرة، ونعرض عليه بعد ذلك ما تيسر من الأسئلة إن شاء الله.
فليتفضل فضيلته جزاه الله خيرا.
تعليق فضيلة الشيخ(25/26)
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
وبعد: فلقد استمعنا إلى هذه المحاضرة القيمة التي عنوانها البدع تعريفها والتحذير منها وإيراد الشبه التي حسنها أهل المبتدع، ووضع القواعد والضوابط التي تحث المرء منها وتميز بين البدعة في الدين وبين المصالح المانعة وبين المعاملة والعبادات التي قدمها لنا فضيلة الشيخ صالح بن الشيخ عبد العزيز ووفق الله الجميع إلى ما يحب ويرضى....، لا شك أن المسلم الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا رسولا، هذا المسلم يعلم....... محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن العمل لا يكون محمودا إلا إذا ..... ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، فالعمل لابد أن يكون خالصا لله ومع إخلاصه لابد أن يوافق شرع الله فلا يكن مبنيا على الهوى والآراء ?أفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ?[الجاثية:23]، قال الله تعالى ?اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قِلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ?[الأعراف:3]، فنحن مأمورون باتباع شرع الله واعتقاد أن هذا الدين كامل أكمله الله فلا ينقص ولا يحتاج إلى إضافة ورضيه الله فلا يسخطه وأتمه الله علينا.
فإذا كان هذا الدين كاملا تاما، إذن فمن حاول أن يزيد فيه باستحسان فإن هذا خطأ منه وبدعة في دين الله، والبدعة -وإن صغرت في الأنظار- فإن الشيطان يفرح بها أعظم من فرحه بكبائر الذنوب؛ لأن:
كبائر الذنوب قد يقترفها الإنسان وهو يشعر في نفسه بالتقصير ويرى نفسَه مقصرة وعاصية ومذنبة، ويتمنى من الله التوبة وأن يعامله بالعفو فهو يعد نفسه من المخطئين والمقصرين.(25/27)
أما صاحب البدعة فيرى نفسه من المتعبدين ويرى نفسه من المجتهدين ويرى نفسه من المصلحين ويرى نفسه من المحسنين. وهذا أشد البلاء لأنها تنبعث أحيانا من إرادة خير لمن لا فقه عنده ولمن لا علم عنده، وكما قال ابن مسعود: كم من مريد للخير لم يصبه. هو يريد خيرا لكن لما أتى بخلاف الشرع كان خطأ في نفسه، وقد يعذر بقصور فهمه وقلة إدراكه وعدم إرادته الشر، قد يعذر في نفسه؛ لكن غيرُه إذا علم أن تلك بدعة وجب عليه أن يفارقها وأن لا يقتدي بمبتدع ابتدع في دين الله خلاف ما شرع الله، وأهل البدع قسمان:
هناك جهلة وقاصرو نظر وعلم أخطؤوا في تصوراتهم.
وهناك مبتدعة ابتدعوا على علم وعلى قصد لأجل إضلال الأمة وإبعادها عن دينها.
فنفاة الصفات الذين أنكروا أسماء الله وصفاته وسلبوا الله كل أوصافه وأسمائه هؤلاء لم يأتوا لم يكونوا على جهل ولا على قصور علم ولكنهم في زيغ وضلال نسأل اله العافية.
والمبتدعون سواء من العباد أو غيرهم بدعهم لا شك أنها ضارة و سيئة، وأنه قد يأتي الشيطان لهم بالبدعة ويحسنها لهم في أنظارهم حتى يتوصل بالبدعة إلى الشرك، فقوم نوح لم يعبدوا الأصنام لأول وهلة، إنما الشيطان زين لهم أن يصوروا صور صالحيهم وعن التقى والعبادة منهم قائلا لهم إن صورهم تذكركم أفعالهم ومحاسنهم وفضائلهم فتقتدوا بهم، ففعلوا، ثم جاء لمن بعدهم وقال إن تلك الصور لم تصور إلا ليستنزل بها المطر ويستجلب بها النفع ويستدفع بها الضرر فمازال بهم حتى عبدوهم من دون الله، فالبدع أصل الشرك وبريد للكفر والضلال وكل بدعة فهي خطر عظيم وإن صغرت وإن كبرت فلا يستهان بشيء منها و لا يغتر بشيء منها.(25/28)
وما أشار الشيخ إليه من بدع زمانية أو بدع أو من صور تلك العبادة فمثلا ما ابتدع في محرم أو في ربيع أو في شعبان أو في رجب أو في غيرها كلها بدع؛ يعني ابتدعوا في شعبان صلاة الرغائب وفي رجب كذلك، وابتدعوا ذكرى الإسراء والاحتفال بالموالد والاحتفال بكذا وبكذا حتى أدخلوا في دين الله ما ليس منه.
مثلا ليلة السابع والعشرين من رمضان ليلة مباركة عظمها الله في كتابه وحثنا رسول الله على قيامها حقا «من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» هذا حق لاشك فيه لكن لو أتخذ لها منظرا خاصا وأتخذ لها مجتمعا خاصا واتخذ لها خطبا خاصة واتخذ لها يعني أنواع من المظاهر التي تخالف ما جاء بالسنة لقلنا هذه بدعة؛ لأنا أخبرنا أن (من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) هكذا أمرنا وما زاد على هذا وما عدى هذا مما قد يستحسنه الناس يقال إن هذا بدعة؛ لأن هذا أمر زائد فنحن مأمورون بالاقتصار على السنة والاكتفاء بها والثبات عليها وأن لا نفتح لأنفسنا باب بدعة.
يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم الأمر. كفيتم المهمة».
إذا كان ابن مسعود أنكر على من عدوا التسبيح والتكبير والتحميد وعابهم وذر التراب في وجوههم واشتد نكيره عليهم، فإنه لما أتاه أبوا موسى وقال: يا أبا عبد الرحمن وجدت أناسا في المسجد يجتمعون حلقا سبحوا الله عشرا كبروا الله عشرا احمدوا الله عشرا. قال: ما قلتَ لهم؟ قال ما قلت لهم شيئا. فأتاهم ابن مسعود فنثر التراب في وجوههم وقال: يا قوم بئس ما فعلتم، هذه آنيته لم تكسر وثيابه لم تبل وأصحابه لا يزالوا موجودون. قالوا: يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا خيرا. قال: عدوا سيآتكم فإني ضامن لكم أن لا يضيع شيء من حسناتكم.(25/29)
قال بعض السلف: ولقد رأيت معظم أولئك يطاعنوننا في النهروان مع الخوارج فما زالت تلك البدع بهم حتى استحلوا دماء الصحابة وأموالهم وقاتلوا عليا رضي الله عنه وخرجوا عليه وهم فرقة الخوارج الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وقراءتكم عند قراءتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» لأن البدع وإن قلت فإنها لا تزال بأصحابها حتى تخرج بهم عن منهج الله وعن دينه لأنهم يعتقدون نقصان هذا الدين حتى أتوا ببدعتهم، والله أكمل الدين وأتم النعمة ورضي الإسلام دينا، فلسنا بحاجة إلى هذه البدع.
نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منها.
المقدم: شكر الله للشيخ نسأل أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا.
[الأسئلة]
س1/ يقول هذا السائل: أن هناك جماعة يعتقدون أن الدعاء بعد الصلاة في جماعة فإذا لم يدع الإمام لهم ينكرون عليه ويقولون إن الصلاة ناقصة، لذلك وينكرون على أهل السنة لذلك، فما الرد الصحيح على هؤلاء؟ ونرجو التوضيح إذا لم يدعو المسلم بعد الصلاة على قولهم فمتى يدعو وقد أمر الله تعالى بالدعاء؟
ج/ الشيخ أجاب في المحاضرة عن هذا، وقال إن رفع اليدين عقب الصلاة قسمان:
· إن استمر في هذا الأمر دائما وواصلها صار بدعة.
· وإن أتى به وقتا دون وقت كان مخطئ .(25/30)
فمثلا السنة نعلم بعد الصلاة أن نستغفر الله ثلاثا، وأن نقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ربي قني عذاب يوم يجمع عبادك. ثلاث مرات، ثم تسبح الله وتحمده وتكبره ثلاث وثلاثين، وتقول تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وتقرأ آية الكرسي والمعوذتين وسورة الإخلاص هذه السنة، فإذا أتيت بهذه الأذكار ثم دعوت ما فيه شيء، أما أن تترك السنن الثابتة وتأتي بأدعية بعد الصلاة والدعاء على هيئة شكل جماع هذا مخالف للسنة، ومن أصر عليه فهو مبتدع وينكر عليه. نعم
حتى إن ابن القيم ذكر أن رفع اليدين عقب الفريضة بدعة؛ لأنه ما فعله رسول الله؛ لكن من أتى بالأذكار عقب الصلاة ثم دعا ورفع يديه ما ينكر عليه؛ لكن ينكر أن ترفع الأيدي بعد السلام من الفريضة مباشرة، أو كما يقول: تقبل الله منك تقبل الله منك. كل هذه لم يرد بها شيء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
س2/ هذا السائل يقول هل تجوز صلاة تحية المسجد في وقت النهي؟ وما هي ذوات الأسباب، ما هو الجمع بين حديث صلاة تحية المسجد وبين النهي أفيدونا بارك الله فيكم؟
ج/ المسألة هذه للعلماء فيها أراء، فحديث «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين»، وأمر النبي سبيك الغطفاني وهو فوق المنبر لما دخل قال «أصليت؟» قال: لا. قال «قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما».(25/31)
من العلماء من هذا العموم، وقال إن تحية المسجد تفعل في كل الأوقات ولا تقيَّد بوقت دون وقت؛ لأن اللفظ عام فلا يقيده شيء، وما سواه فإنه خاص في غير تحية المسجد، وحملوا أحاديث النهي في غير تحية المسجد.
من العلماء من قال أحاديث عموم أحاديث النهي أيضا عامة فتخصِّص عموم حديث أبي قتادة، وإن كانت عامة في لفظها لكنها خاصة من حيث الوقت، فنخصص بها حديث أبي قتادة، فيصلى تحية المسجد في غير أوقات.
ولكن هنا للنهي وقتين وقت مضيق ووقت موسع ففي حديث عقبة بن عامر ثلاث ساعات نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نصلي فيها أو أن نقبر فيها موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتهيأ للغروب.
فالذي يظهر في الأوقات الثلاثة ينبغي أن تتقيد بترك الصلاة فيها، وهو إذا ما دخلنا والشمس في أول طلوعها إلى أن ترتفع قيد رمح، وإذا كان قبيل الظهر بدقائق نمتنع حتى يؤذن الظهر وإذا دخلنا قبيل المغرب بدقائق فينتظر حتى تغرب الشمس.
أما بعد صلاة العصر وبعد صلاة الفجر فمن ترجح عنده العمل بعموم حديث أبي قتادة وصلى ركعتي تحية المسجد ورأى أنها خاصة مستثناة فلا ينكر عليه.
س3 / يسأل هذا الأخ يقول: ما رأيكم فيما يفعله بعض الشباب من أنهم يجتمعون ويخرجون للدعوة حددوا ذلك بثلاثة أيام أو أربعين يوما أو أشهر ويجعلون هذا قاعدة لدعوتهم فما توجيهكم لهذا الأمر وفقكم الله؟
ج/ الدعوة إلى الله مطلوبة ومرغب فيها وعمل صالح، وينبغي للدعاة إلى الله إذا أرادوا إنجاح دعوتهم أن يكون منهجهم موافقا لسنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما عليه الدعاة المصلحون بعده المقتدون بأثره السائرون نهجه.(25/32)
وأما تحديد الخروج بأيام أو بأشهر معينة ونحو ذلك، فهذا قد يكون فيه شيء؛ لأن إن كانوا يظنون أن هذا التحديد شرعيا وأنه عبادة، فلا، فأما إن كانوا يرونه من باب هذه أوقات هم فارغون فيها وأنها تناسب وقتهم دون أن يربطوها بالشرع فهذا موضع نظر.
إما إن جعلوها هذا الخروج مقيدا بأربعين أو الأربعة ونحو ذلك بأن هذا عبادة وأن هذا مأخوذ ومن القرآن أو من السنة فإن هذا مما ابتدعوه في دين الله.
وهذه طريقة جماعة التبيلغ نسأل الله للجمع الهداية، يقيدون أنفسهم بهذه الأوقات ثلاث أيام أو أشهر أو أربعين يوم أو ثلاث أشهر أربع أشهر؛ لكن إن كانوا يظنون أن هذا شرع تعبد فهذا خطأ، أما إن كانت تناسب أوقاتهم أو أحوالهم، فهذا لعله أيسر من غيره.
إنما الواجب على كل حال إتباع السنة والسير على منهج النبي وأن تكون الدعوة تهتم بالتوحيد قبل كل شيء وبتأسيس العقيدة وبتثبيتها أما الدعوة المعتمِدة على مجرد الأذكار وأوراد صباحية مسائية ومناهج خططها ورسمها ونظمها أناس مشكوك في كثير من أحوالهم فإنما هي أوراد وأذكار ولا يهتمون بدعوة التوحيد ولا يفقهون الناس في دين الله ولا بأمر بخير ولا بنهي عن شر.
وإنما هي مجرد تجمعات وأمور الله أعلم بها وكثير من هذه الأمور لم تثمر خيرا ولم تتحقق خيرا لأنها لم تكن موافقة في المنهج إلى ما كان عليه محمد بن عبد الله وصحابته الكرام والدعاة المصلحون السائرون على نهجه.
س4/السؤال الأخير يقول: يتخذ بعض الشباب من بعض الوسائل كالتمثيل والكرة وما يسمى بالفيديو الإسلامي والرحلات وغيرها وسيلة من وسائل الدعوة ويذكرونها على الدين ويضعونها لدعوة الشباب ويقولون إن هذه الأمور ترغبهم كما توجه فضيلتهم في ذلك؟
ج/ الدعوة إلى الله تحتاج إلى أمور:
أولا الإخلاص إلى الله وأن تكون الدعوة خالصة لله ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ?[يوسف: 108]، فالإخلاص هو الأصل لله.(25/33)
ثانيا أن تكون على وفق منهج الله (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) أي على علم وهدى.
ينبغي للمسلم أن يتقي الله في أموره كلها، وينبغي للداعين لله أن يلتزموا بالعلم النافع وينظر في وسائل يستحسنها، لا يجعل استحسانه ومحبته للشيء لا ينبغي أن ينسبه للدين؛ بل يعرض منهجه ووسائله على شرع الله، ويبدأ يقارن بين المصالح والمفاسد، بين النافع والضر بين ما يغلب خيره وما يغلب شره، بين ما خيره راجح وبين ما شره راجح.
فإذا كان الداعي إلى الله كلما علم له من وسيلة سلكها دون النظر إلى عواقبها ونتائجها وما يترتب عليها، إذا كان كلما علمه سلكه دون أن يفكر أو يتدبر هذا قد تزل قدمه المهم ينظر، الدعوة إلى الله إيضاح الحق وبيان وعرضه العرض الصحيح بالقول والعمل فيكون قوله حق وعمله خير فيقتفي الناس آثاره مما يرون من سلوكهم الحسن وأعماله الصالحة.
أما أن يزج بالدعوة كل شيء وربما ارتكب بعض الأمور التي قد يكون فيها شيء من المخالفة، ويقول هذه وسائل الدعوة وهذه طرق دعوة وإلى آخره.
ويقول نحن قوم متحضرون لا نرى كذا وكذا إنما نتخذ الوسائل المختلفة المتعددة المتنوعة إلى آخره.
أخشى من هذه الطرق إذا تكاثرت أن تزول الدعوة وأن لا يكون لها الفاعلية الصحيحة ولا التأثير الحسن، وإنما تكون يعني القشور فيها أكثر من اللب، والأمور التي لا فائدة فيها أكثر مما هي فائدة.
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل الناس دعوة إلى الله لما أمرهم الله أن يصدع بدعوته كان يأتي القبائل ومجامع العرب ويتلو القرآن عليهم ويقول «من يأويني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة» وكان يغشى الناس في مجالسهم ليعلن دعوته ويوضح لهم كتاب الله ويبين الحق.(25/34)
فالداعية ينبغي أن ينظر منهج محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما استطاع أن يقتدي به في منهجه فهو المنهج الحق والطريق الواضح، ولا يزج بالدعوة في أمور قد لا تحقق هدفها ولا تؤدي الغاية المطلوبة منها.
وأسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
المقدِّم: نسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا وصلى الله على نبينا محمد.
?????
أعدَّ هذه المادة: سالم الجزائري وأبو همام عبد اللطيف
---
([1]) البقرة:117، الأنعام:101.
([2])سورة هود: 7، الملك:2.(25/35)
التَّعْلِيقَاتُ الحِسَان([1]) على
الفرقان
بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية
-رحمه الله تعالى-
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد([2]) أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة، وبصّر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميا وآذانا صُمًّا وقلوبا غلفا، وفَرَقَ به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغيّ، والمؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، وبين أولياء الله وأعداء الله، فمن شهد له محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه من أولياء الله فهو من أولياء الرحمن، ومن شهد له بأنه من أعداء الله فهو من أعداء الله ومن أولياء الشيطان.(26/1)
قد بين سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء، ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فقال تعالى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[يونس:62-64]،([3]) وقال تعالى ?اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?[البقرة:257]، وقال تعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ([4]) إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أو أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ(52)وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ(53)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ(26/2)
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(54)إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:51-56]، وقال تعالى ?هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا?[الكهف:44]، ([5]) وذكر أولياء الشيطان فقال تعالى ?فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98)إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99)إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ?[النحل:98-100]، وقال تعالى?الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا?[النساء:76]، وقال تعالى?وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا?[الكهف:50]، وقال تعالى?وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا?[النساء:119]، وقال تعالى?الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ(26/3)
عَظِيمٍ(174)إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:173-175]، وقال تعالى?اإِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ(27)وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا? إلى قوله ?إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ?[الأعراف:27-30]، وقال تعالى?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ?[الأنعام:121]، وقال الخليل عليه الصلاة والسلام?يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا?[مريم:45]، وقال تعالى?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ? الآيات إلى قوله?إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[الممتحنة:1-5]. ([6])
فصل
وإذا عُرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما فرق الله ورسوله بينهما، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63](26/4)
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله من عادى لي وليا [فقد بارزني بالمحاربة] ([7]) أو فقد آذنته بالحرب وما تقرّب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» وهذا أصح حديث يُروي في الأولياء فبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من عادى وليا لله فقد بارز الله بالمحاربة. ([8])
وفي حديث آخر: «وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحَرِب» أي آخذ ثأرهم ممن عادهم كما يأخذ الليث الحرب ثأره، وهذا لأن أولياء الله هم الذين أمنوا به ووالوه فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض ورضوا بما يرضى وسَخِطُوا بما يسخط وأمروا بما أمر ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع، كما في الترمذي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله».
وفي حديث آخر رواه أبو داود قال «ومن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» والوَلاية ضد العداوة، [وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد]([9]) وقد قيل أن الولي سُمِّي وليا من موالاته للطاعات أي متابعته لها والأول أصح والولي القريب فيقال هذا يلي هذا؛ أي يقرب منه.(26/5)
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - «ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر» أي لأقرب رجل إلى الميت، وأكده بلفظ الذكر ليبين أنه حكم يختص بالذكور ولا يشترك فيه الذكور والاناث كما قال في الزكاة «فابن لبون ذكر»، فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معاديا له كما قال تعالى ?لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1]، فمن عادى أولياء الله فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه فلهذا قال ومن عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، ([10]) وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضل المرسلين أولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وعليهم وسلم، قال تعالى ?شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ?[الشورى:13]، وقال تعالى ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا(7)لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا?[الأحزاب:7-8]. وأفضل أولي العزم([11]) محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد وصاحب الحوض المورود وشفيع الخلائق يوم القيامة وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه الله بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن(26/6)
قبلهم([12]) وهم آخر الأمم خلقا وأول الأمم بعثا، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «نَحْنُ الآخِرُونَ السابقون, بَيْدَ أَنّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ, فهذا اليوم الذي كتب الله عليهم, فاختلفوا فيه, -يعني يوم الجمعة- فهدانا الله له، فالنّاسُ لَنَا تَبَعٌ فِيهِ, غَداً للْيَهُودُ, وَبَعْدَ غَدٍ للنّصَارَى»، وقال - صلى الله عليه وسلم - «وَأَنَا أَوّلُ مَنْ تَنْشَقّ عَنْهُ الأرْضُ» وقال - صلى الله عليه وسلم - «آتِي بَابَ الْجَنّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَأَسْتَفْتِحُ. فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمّدٌ. فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لاَ أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ» وفضائله - صلى الله عليه وسلم - وفضائل أمته كثيرة ومن حين بعثه الله جعله الله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه، فلا يكون وليا لله إلا من آمن به وبما جاء به واتبعه باطنا وظاهرا، ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان، قال تعالى?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ?[آل عمران:31]. قال الحسن البصري رحمه الله: ادعى قوم إنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم، وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فان الله يحبه ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليس من أولياء الله، وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله، فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه قال تعال ?قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ?[المائدة:18] الآية، وقال تعالى ?وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ? إلى قوله ?وَلَا(26/7)
هُمْ يَحْزَنُونَ?[البقرة:111-112]، وكان مشركوا العرب يدعون إنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى?قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ(66)مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ?[المؤمنون:66-67]، وقال تعالى?وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أو يَقْتُلُوكَ? إلى قوله ?وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ?[الأنفال:30-34]، فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون.(26/8)
وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول جهارا من غير سر «إنّ آل فلان ليسوا لي بأولياء» يعني طائفة من أقاربه «إنما ولي الله وصالح المؤمنين» وهذا موافق لقوله تعالى?فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ?[التحريم:4]الآية، (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ([13]) هو من كان صالحا من المؤمنين، وهم المؤمنون المتقون أولياء الله، ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا ألفا وأربعمائة وكلهم في الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال«لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة»([14]) ومثل هذا الحديث الآخر «إن أوليائي المتقون أيا كانوا وحيث كانوا»، كما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله وليس وليا لله بل عدو له، فكذلك من المنافقين الذين يُظهرون الإسلام يقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه مرسل إلى جميع الإنس بل إلى الثقلين الإنس والجن، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك مثل أن لا يقروا في الباطن بأنه رسول الله وإنما كان ملكا مطاعا ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك، أو يقولون إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب كما يقوله كثير من اليهود والنصارى، أو أنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يُرسل إليهم ولا يحتاجون إليه بل لهم طريق إلى الله من غير جهته كما كان الخضر مع موسى، أو أنهم يأخذون عن الله كلَّ ما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة، أو أنّه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها، وأما الحقائق الباطنية فلم يُرسل بها أو لم يكن يعرفها، ([15]) أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته، ([16]) وقد يقول بعض هؤلاء أن أهل الصُّفَّة كانوا مستغنين عنه ولم يرسل إليهم، ومنهم من يقول أن(26/9)
الله أوحى إلى أهل الصُّفَّة في الباطن ما أوحى إليه ليلة المعراج فصار أهل الصفة بمنزلته، وهؤلاء من فرط جهلهم لا يعلمون أن الاسراء كان بمكة كما قال تعالى ?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ?[الإسراء:1]. وأن الصفة لم تكن إلا بالمدينة، وكانت صفة في شمالي مسجده - صلى الله عليه وسلم - ينزل بها الغرباء الذين ليس لهم أهل وأصحاب ينزلون عندهم، فإن المؤمنين كانوا يهاجرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فمن أمكنه أن ينزل في مكان نزل به، ومن تعذّر ذلك عليه نزل في المسجد إلى أن يتيسر له مكان ينتقل إليه، ولم يكن أهل الصفة ناسا بأعيانهم يلازمون الصفة بل كانوا يَقِلُّون تارة ويكثرون أخرى، ويقيم الرجل بها زمانا ثم ينتقل منها، والذين ينزلون بها هم من جنس سائر المسلمين ليس لهم مزيّة في علم ولا دين بل فيهم من إرتد عن الإسلام وقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - كالعُرَنِيِّين الذين اجتووا المدينة أي استوخموها، فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاح أي إبل لها لبن وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلبهم فأتى بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسُمِرَت أعينهم وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، وحديثهم في الصحيحين من حديث أنس وفيه أنهم نزلوا الصفة فكان ينزلها مثل هؤلاء، ونزلها من خيار المسلمين سعد بن أبي وقاص وهو أفضل من نزل بالصفة، ثم انتقل منها ونزلها أبو هريرة وغيره، وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي تاريخ من نزل الصفة.(26/10)
وأما الأنصار فلم يكونوا من أهل الصفة وكذلك أكابر المهاجرين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن ابن عوف وأبي عبيدة وغيرهم لم يكونوا من أهل الصفة. وقد روى أنه بها غلام للمغيرة بن شعبة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا واحد من السبعة. وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم وإن كان قد رواه أبو نعيم في الحِلْيَة، وكذا كل حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة الأولياء والأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد والأقطاب مثل أربعة أو سبعة أو انثي عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيءصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال، وروى فيهم حديث أنهم أربعون رجلا وانهم بالشام وهو في المسند من حديث علي كرم الله وجهه وهو حديث منقطع ليس بثابت ومعلوم أن عليا ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر علي. وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق» وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة علي فقتلهم علي بن أبي طالب وأصحابُه، فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي بن أبي طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه، وكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما. وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أنشد منشد:
قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقِ
إلا الحبيب الذي شُغفت به فعنده رقيتي وترياقي(26/11)
وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تواجد حتى سقطت البردة عن منكبه، فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وأكذب منه ما يرويه بعضهم أنه مزق ثوبه، وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش، فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أظهر الأحايث كذبا عليه - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك ما يروونه عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجي، وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. والمقصود هنا أنه فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر ومن يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك فيكون منافقا وهو يدَّعي في نفسه وأمثاله أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إما عنادا، وإما جهلا، كما أن كثيرا من النصارى واليهود يعتقدون أنهم أولياء الله، وأن محمدا رسول الله، لكن يقولون إنما أرسل إلى غير أهل الكتاب، وأنه لا يجب علينا إتباعه لأنه أرسل إلينا رسلا قبله فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله، وإنما أولياء الله الذين وصفهم الله تعالى بوَلايته بقوله?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، ولابد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ([17]) ويؤمن بكل رسول أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله كما قال تعالى ?قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136)فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ(26/12)
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[البقرة:136-137]، وقال تعالى ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ?[البقرة:285]إلى آخر السورة، وقال في أول السورة ?الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[البقرة:1-4]، ([18]) فلابد في الإيمان من اأن تؤمن أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين لا نبي بعده، وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين، ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن كما قال الله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا(150)أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(151)وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?[النساء:150-152]، ([19]) ومن الإيمان به الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده وحلاله وحرامه، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما(26/13)
شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو كافر من أولياء الشيطان.
وأما خلق الله تعالى للخلق ورَزْقُه([20])إياهم وإجابته لدعائهم وهدايته لقلوبهم ونصرهم على أعدائهم وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار فهذا لله وحده يفعله بما يشاء من الأسباب لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل. ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فليس بمؤمن، ولا ولي لله تعالى كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعُبَّادهم، وكذلك المنتسبون إلى العلم والعبادة من المشركين؛ مشركي العرب والترك والهند وغيرهم ممن كان من حكماء الهند والترك وله علم أو زهد وعبادة في دينه، وليس مؤمنا بجميع ما جاء به محمد فهو كافر عدو لله، وإن ظن طائفة أنه ولي لله، كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارا مجوسا، وكذلك حكماء اليونان مثل أرسطو وأمثاله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب، وكان أرسطو قبل المسيح عليه السلام بثلاثمائة سنة، وكان وزيرا للإسكندر بن فيلبس المقدوني، وهو الذي يؤرخ له تواريخ الروم واليونان وتؤرخ به اليهود والنصارى، وليس هذا هو ذو القرنين الذي ذكره الله في كتابه كما يظن بعض الناس أن ارسطو كان وزيرا لذي القرنين لما رأوا أن ذاك اسمه الإسكندر وهذا قد يسمى بالإسكندر ظنوا أن هذا ذاك كما يظنه ابن سينا وطائفة معه، وليس الأمر كذلك بل هذا الإسكندر المشرك الذي قد كان أرسطو وزيره، متأخر عن ذاك ولم يبن هذا السُّور ولا وصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج وهذا الإسكندر الذي كان أرسطو من وزرائه يؤرخ له تاريخ الروم المعروف وفي أصناف المشركين من مشركي العرب ومشركي الهند والترك واليونان وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة ولكن ليس بمتبع للرسل ولا يؤمن بما جاءوا به ولا يصدقهم بما أخبروا(26/14)
به ولا يطيعهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ولا أولياء الله وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتَنَزَّل عليهم فيكاشفون الناس ببعض الأمور ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين قال الله تعالى ?هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ?[الشعراء:221-223]، وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات، إذْ لم يكونوا متبعين الرسل فلابد أن يكذبوا وتُكَذِبُهم شياطينهم، ولابد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، ([21]) قال الله تعالى ?وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ?[الزخرف:36]، وذِكر الرحمن هو الذِّكر الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مثل القرآن فمن لم يؤمن بالقرآن ويصدق خبره ويعتقد وجوب أمره فقد أعرض عنه فيقيض له الشيطان فيقترن به قال تعالى ?وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ?[الأنبياء:50]، وقال تعالى ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) ([22])قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى?[طه:124-126]، فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها، ولهذا لو ذكر الرجل الله سبحانه وتعالى دائما ليلا ونهارا مع غاية الزهد، وعَبَدَه مجتهدا في عبادته، ولم يكن متبعا لذكره الذي أنزله وهو القرآن كان من أولياء الشيطان، ولو طار في الهواء أو مشى على الماء فإن الشيطان يحمله في(26/15)
الهواء، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
فصل
ومن الناس من يكون فيه إيمان وفيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أربعٌ مَنْ كُنّ فيهِ كان مُنافِقاً خالصاً, وَمَنْ كانتْ فيهِ خَصْلةٌ مِنهنّ كانتْ فيهِ خَصْلةٌ مِنَ النفاقِ حتى يَدَعَها: إذا حدّثَ كَذَبَ, وإذا وعد أخلف، وإذا ائْتُمِنَ خان, وإذا عاهَدَ غدرَ».([23])
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من كان فيه خصلة من هذه الخصال ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها.
وقد ثبت في الصحيحين أنه قال لأبي ذر وهو من خيار المؤمنين «إنك إمرؤ فيك جاهلية» فقال: يا رسول الله أعلى كبر سني قال «نعم».
وثبت في الصحيح عنه أنه قال «أربع في أمتى من أمر الجاهلية الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت والاستسقاء بالنجوم».([24])
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال«آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان». وفي صحيح مسلم «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».(26/16)
وذكر البخارى عن ابن أبي مليكة قال أدركت ثلاثين من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه وقد قال الله تعالى?وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ(166)وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أو ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ?[آل عمران:166-167]، فقد جعل هؤلاء إلى الكفر أقرب منهم للإيمان فعلم أنهم مخلطون وكفرهم أقوى، وغيرهم يكون مخلطا وإيمانه أقوى، وإذا كان أولياء الله هم المؤمنين المتقين([25]) فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيمانا وتقوى كان أكمل وَلاية لله، فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسَب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق، قال الله تعالى ?وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124)وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ?[التوبة:124-125]، وقال تعالى?إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ?[التوبة:37]، وقال تعالى?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ?[محمد:17]، وقال تعالى في المنافقين?فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا?[البقرة:10].(26/17)
فبين سبحانه وتعالى أن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية الله بحسب إيمانه، وقد يكون فيه قسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه، وقال تعالى?وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا?[المدثر:31]، وقال تعالى?لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ?[الفتح:4]. ([26])
فصل
وأولياء الله على طبقتين، سابقون مقربون وأصحاب يمين مقتصدون، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وآخرها، وفي سورة الإنسان، والمطففين، وفي سورة فاطر، فإنه سبحانه وتعالى ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها، وذكر القيامة الصغرى في آخرها فقال في أولها ?إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)إِذَا رُجَّتْ الْأَرْضُ رَجًّا(4)وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا(5)فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا(6)وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً(7)فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ(8)وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ(9)وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(12)ثُلَّةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ(13) وَقَلِيلٌ مِنْ الْآخِرِينَ?[الواقعة:1-14]، فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين، كما وصف الله سبحانه ذلك في كتابه في غير موضع ثم قال تعالى في آخر السورة ?فَلَوْلَا? أي فهَلَّا ?إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ(83)وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ(84)وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ(85)فَلَوْلَا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ(86)تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(87)فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ(88)فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ(89)وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(90)فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ(26/18)
الْيَمِينِ(91)وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ(92)فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ(93)وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ(94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ(95)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ?[الواقعة:83-96]، وقال تعالى في سورة الإنسان ?إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلًا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا(4)إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا(5)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا(6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا(7)وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(8)إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا(10)فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا(11)وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا?[الإنسان:3-12]الآيات، وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال?كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ? إلى أن قال ?كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ(18)وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ(19)كِتَابٌ مَرْقُومٌ(20)يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ(21)إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(22)عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ(24)يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ(25)خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ(26)وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ(27)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ?[المطففين:18-28].(26/19)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف قالوا يمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشرب بها المقربون صرفا، وهو كما قالوا فإن الله تعالى قال (يَشْرَبُ بِهَا) ولم يقل يشرب منها لأنه ضمَّن ذلك قوله (يَشْرَبُ) يعنى يروى بها فإن الشارب قد يشرب ولا يروى. فإذا قيل يشربون منها لم يدل على الري فإذا قيل يشربون بها كان المعني يروون بها، فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى مادونها، فلهذا يشربون منها صرفا، بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجا وهو كما قال تعالى في سورة الانسان?كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا(5)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا?الإنسان:5-6]، فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ نَفّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدّنْيَا, نَفّسَ اللّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ يَسّرَ عَلَىَ مُعْسِرٍ, يَسّرَ اللّهُ عَلَيْهِ فِي الدّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً, سَتَرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَاللّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً, سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إلى الْجَنّةِ. وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللّهِ, يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ, وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ, إِلاّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السّكِينَةُ, وَغَشِيَتْهُمُ الرّحْمَةُ وَحَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ, وَذَكَرَهُمُ اللّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. وَمَنْ أَبَطأَ بِهِ عَمَلُهُ, لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» رواه مسلم في صحيحه.(26/20)
وقال - صلى الله عليه وسلم - «الرّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرّحْمَنُ. ارْحَمُوا مَنْ في اْلأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السّماءِ» قال الترمذي حديث صحيح.
وفي الحديث الآخر الصحيح الذي في السنن «قال الله تَعالى: أَنَا الرّحْمنُ, خَلَقْتُ الرّحِم وَشَقَقْتُ لَهَا مِنْ اْسِمي, فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ». وقال «ومن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله» ومثل هذا كثير. وأولياء الله تعالى على نوعين: مقربون وأصحاب يمين كما تقدم.(26/21)
وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل القسمين في حديث الأولياء فقال «يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها». فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات ولا الكف عن فضول المباحات. وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبًّا تاما. كما قال تعالى ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ يعني الحب المطلق([27]) كقوله تعالى ?اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ?[الفاتحة:6-7]، أي أنعم عليهم الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى ?وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا?[النساء:69]، فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل فكانت أعمالهم كلها عبادات لله، فشربوا صرفا، كما عملوا له صرفا، والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم فلا يعاقبون عليه ولا يثابون عليه فلم يشربوا صرفا بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا.(26/22)
ونظير هذا إنقسام الانبياء عليهم السلام إلى عبدٍ رسولٍ ونبيِ ملك، وقد خير الله سبحانه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون نبيا ملكا، فاختار أن يكون عبدا رسولا؛ فالنبي الملك مثل داود وسليمان ونحوهما عليهما الصلاة والسلام، قال الله تعالى في قصة سليمان الذي قال ?قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أو أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ?[ص:35-39] أي إعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك. فالنبي الملك يفعل ما فرض الله عليه ويترك ما حرم الله عليه ويتصرف في الولاية والمال بما يحبه ويختار من غير إثم عليه.
وأما العبد الرسول فلا يعطي أحدا إلا بأمر ربه ولا يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، بل يعطي من أمره ربه بإعطائه، ويولي من أمره ربه بتوليته، فأعماله كلها عبادات لله تعالى كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت» ولهذا يضيف الله الأموال الشرعية إلى الله والرسول كقوله تعالى ?قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ?[الأنفال:1]، وقوله تعالى ?مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ?[الحشر:7]، وقوله تعالى ?وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ?[الأنفال:41].(26/23)
ولهذا كان أظهر أقوال العلماء أن هذه الاموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله بحسب اجتهاد ولي الأمر كما هو مذهب مالك وغيره من السلف. ويذكر هذا رواية عن أحمد، وقد قيل في الخمس أنه يقسم عل خمسة كقول الشافعي وأحمد في المعروف عنه، وقيل على ثلاثة كقول أبي حنيفة رحمه الله، والمقصود هنا أن العبد الرسول هو أفضل من النبي الملك كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام أفضل من يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، كما أن المقربين السابقين أفضل من الأبرار أصحاب اليمين الذين ليسوا مقربين سابقين فمن أدى ما أوجب الله عليه وفعل من المباحات ما يحبه فهو من هؤلاء، ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه ويقصد أن يستعين بما أُبيح له على ما أمره الله فهو من أولئك. ([28])
فصل(26/24)
وقد ذكر الله تعالى أولياءه المقتصدين والسابقين في سورة فاطر في قوله تعالى ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34)الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ?[فاطر:32-35]، لكن هذه الأصناف الثلاثة في هذه الآية هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة كما قال تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)، وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة، وليس ذلك مختصا بحفّاظ القرآن بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء، وقسّمهم إلى ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، بخلاف الآيات التي في الواقعة والمطففين والإنفطار فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة كافرهم ومؤمنهم، وهذا التقسيم لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالظالم لنفسه أصحاب الذنوب المصرون عليها، والمقتصد المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، والسابق للخيرات هو المؤدي للفرائض والنوافل، كما في تلك الآيات، ([29]) ومن تاب من ذنبه أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين والمقتصدين كما في قوله تعالى ?وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ(26/25)
لِلْمُتَّقِينَ(133)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134) وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135)أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ?[آل عمران:133-136]، والمقتصد المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، والسابق بالخيرات هو المؤدي للفرائض والنوافل كما في تلك الآيات، وقوله ?جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا?([30]) مما يستدل به أهل السنة على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد.(26/26)
وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما تواترت به السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تواترت بخروجهم من النار وشفاعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكبائر، وإخراج من يخرج من النار بشفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وشفاعة غيره، ([31]) فمن قال أن أهل الكبائر مخلدون في النار وتَأَوَّلَ الآية على أن السابقين هم الذين يدخلونها، وأن المقتصد أو الظالم لنفسه لا يدخلها، كما تأوله من المعتزلة، فهو مقابل بتأويل المرجئة الذين لا يقطعون بدخول أحد من أهل الكبائر النار، ويزعمون أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب، ([32]) وكلاهما مخالف للسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولإجماع سلف الأمة وأئمتها وقد دل على فساد قول الطائفتين قول الله تعالى في آيتين من كتابه وهو قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48]، فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء، ولا يجوز أن يراد بذلك التائب كما يقوله من يقوله من المعتزلة، لأن الشرك يغفره الله لمن تاب، وما دون الشرك يغفره الله أيضا للتائب، فلا يتعلق بالمشيئة. ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين، قال تعالى ?قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ?[الزمر:53]، فهنا عمم المغفرة وأطلقها فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له، ففى آية التوبة عمم وأطلق، وفي تلك الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما سواه على المشيئة، ومن الشرك التعطيل للخالق، وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب، ونبه(26/27)