المطلب الثالث: أنواع التوحيد:
الله سبحانه وتعالى: هو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، فإفراده تعالى وحده بالعبادة كلها وإخلاص الدين كله لله هذا هو توحيد الألوهية: وهو معنى "لا إله إلا الله" وهذا التوحيد يتضمن جميع أنواع التوحيد(1) ويستلزمها؛ فإن التوحيد نوعان:
1 ـ التوحيد الخبري العلمي الاعتقادي(2): وهو توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وهو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتكلمه بكتبه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه، وقدره، وحكمته، وتنزيهه عما لا يليق به.
2 ـ التوحيد الطلبي القصدي الإرادي: وهو توحيد في الطلب والقصد: وهو توحيد الإلهية أو العبادة(3).
وتكون أنواع التوحيد على التفصيل ثلاثة أنواع على النحو الآتي:
النوع الأول: توحيد الربوبية وهو: الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى هو الرب المتفرد بالخلق، والملك، والرزق، والتدبير، الذي ربّى جميع خلقه بالنعم، وربى خواص خلقه – وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم المخلصين – بالعقائد الصحيحة والأخلاق الجميلة، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، وهذه التربية النافعة للقلوب والأرواح المثمرة لسعادة الدنيا والآخرة.
__________
(1) انظر: تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ص74، والقول السديد، للسعدي، ص17، وبيان حقيقة التوحيد، للشيخ صالح الفوزان، ص20.
(2) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 3/449.
(3) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم 2/94 ، ومعارج القبول، لحافظ حكمي 1/98، و فتح المجيد ،لعبد الرحمن بن حسن ،ص 17 .(17/7)
النوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله هو المنفرد بالكمال المطلق من جميع الوجوه، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلّى الله عليه وسلّم من جميع الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله من غير نفي لشيء منها، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف. ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلّى الله عليه وسلّم من النقائص والعيوب وعن كل ما ينافي كماله.
وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات قد وضحه الله في كتابه كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول سورة آل عمران، وسورة الإخلاص بكاملها، وغير ذلك(1).
النوع الثالث: توحيد الإلهية، ويقال له: توحيد العبادة، وهو الاعتقاد الجازم – مع العلم والعمل والاعتراف – بأن الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وإفراده وحده بالعبادة كلها، وإخلاص الدين كله لله، وهو يستلزم توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات ويتضمنهما؛ لأن الألوهية التي هي صفة تعم أوصاف الكمال، وجميع أوصاف الربوبية والعظمة؛ فإنه المألوه المعبود لما له من أوصاف العظمة والجلال، ولما أسداه إلى خلقه من الفواضل والإفضال، فتوحده سبحانه بصفات الكمال وتفرده بالربوبية، يلزم منه أن لا يستحق العبادة أحد سواه.
__________
(1) انظر: فتح المجيد، ص17، والقول السديد في مقاصد التوحيد لعبد الرحمن السعدي، ص14-17، ومعارج القبول، 1/99.(17/8)
وتوحيد الألوهية هو مقصود دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم. وهذا النوع قد تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(1)، وأول سورة السجدة وآخرها، وأول سورة غافر ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وغالب سور القرآن.
وكل سور القرآن قد تضمنت أنواع التوحيد، فالقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير أنواع التوحيد؛ لأن القرآن كله إما خبر عن الله وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأقواله، فهذا هو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي: "توحيد الربوبية والأسماء والصفات"، وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما يُعبد من دونه، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي –"توحيد الألوهية"-. وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة الله، وذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا من النصر والتأييد، وما يكرمهم به في الآخرة، وهو جزاء توحيده سبحانه، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في الآخرة من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه، وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم(2).
المطلب الرابع: ثمرات التوحيد وفوائده:
التوحيد له فضائل عظيمة، وآثار حميدة، ونتائج جميلة، ومن ذلك ما يأتي:
1 ـ خير الدنيا والآخرة من فضائل التوحيد وثمراته.
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 64.
(2) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 3/450، وفتح المجيد، ص17-18، والقول السديد، ص16، ومعارج القبول، 1/98.(17/9)
2 ـ التوحيد هو السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة، يدفع الله به العقوبات في الدارين، ويبسط به النعم والخيرات.
3 ـ التوحيد الخالص يثمر الأمن التام في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}(1).
4 ـ يحصل لصاحبه الهدى الكامل، والتوفيق لكل أجر وغنيمة.
5 ـ يغفر الله بالتوحيد الذنوب ويكفر به السيئات، ففي الحديث القدسي عن أنس رضي الله عنه يرفعه: “يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة”(2).
6 ـ يدخل الله به الجنة، فعن عبادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل”(3)، وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: “من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة”(4).
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 82.
(2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب فضل التوبة والاستغفار، 5/548، برقم 3540، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/176، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 127، 128.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} 4/168، برقم 3252، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، 1/57، برقم 28.
(4) مسلم، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، 1/94 برقم 93.(17/10)
7 ـ التوحيد يمنع دخول النار بالكلية إذا كمل في القلب، ففي حديث عتبان رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: “... فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله”(1).
8 ـ يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى حبة من خردل من إيمان(2).
9 ـ التوحيد هو السبب الأعظم في نيل رضا الله وثوابه، وأسعد الناس بشفاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم: “من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه”(3).
10 ـ جميع الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها، وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.
11 ـ يُسَهِّل على العبد فعل الخيرات، وترك المنكرات، ويسلِّيه عن المصائب، فالموحد المخلص لله في توحيده تخف عليه الطاعات؛ لِمَا يرجو من ثواب ربه ورضوانه، ويهوِّن عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي؛ لِمَا يخشى من سخط الله وعقابه.
12 ـ التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين.
13 ـ التوحيد يخفف عن العبد المكاره، ويهوِّن عليه الآلام، فبحسب كمال التوحيد في قلب العبد يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة، وتسليمٍ ورضًا بأقدار الله المؤلمة، وهو من أعظم أسباب انشراح الصدر.
__________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، 1/126، برقم 425، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، 1/455-456، برقم 33.
(2) انظر: صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، برقم 7410، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، 1/170، برقم 183، ورقم 193.
(3) البخاري، كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، 1/38، برقم 99.(17/11)
14 ـ يحرِّر العبد من رِقّ المخلوقين والتعلُّقِ بهم، وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا هو العزُّ الحقيقي، والشرف العالي، ويكون مع ذلك متعبدًا لله لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إيَّاه، وبذلك يتمُّ فلاحه، ويتحقق نجاحه.
15 ـ التوحيد إذا كمل في القلب، وتحقَّق تحققًا كاملاً بالإخلاص التام فإنه يصير القليل من عمل العبد كثيرًا، وتضاعف أعماله وأقواله الطيبة بغير حصر، ولا حساب.
16 ـ تكفَّل الله لأهل التوحيد بالفتح، والنصر في الدنيا، والعز والشرف، وحصول الهداية، والتيسير لليسرى، وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال.
17 ـ الله عز وجل يدافع عن الموحدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة، ويمنُّ عليهم بالحياة الطيبة، والطمأنينة إليه، والأُنس بذكره.
قال العلامة السعدي رحمه الله: "وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة، والله أعلم"(1).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وليس للقلوب سرور ولذة تامة إلا في محبة الله تعالى، والتقرب إليه بما يحبه، ولا تتم محبة الله إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله"(2).
المبحث الثاني: ظلمات الشرك
المطلب الأول: مفهوم الشرك:
__________
(1) القول السديد في مقاصد التوحيد ص25.
(2) مجموع الفتاوى، 28/32.(17/12)
الشِّرْكُ، والشِّرْكَةُ، بمعنى وقد اشتركا، وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر، وأشرك بالله: كفر فهو مشركٌ ومشركي، والاسم الشرك فيهما، ورغبنا في شرككم: مشاركتكم في النسب(1)، وأشرك بالله: جعل له شريكًا في ملكه، أو عبادته، فالشرك: هو أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، وهو أكبر الكبائر، وهو الماحق للأعمال، والمبطل لها، والحارم المانع من ثوابها، فكل من عدل بالله غيره: بالحب، أو التعظيم، أو اتبع خطواته، ومبادئه المخالفة لملة إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم فهو مشرك(2).
والشرك شركان: شرك أكبر يخرج من الملة، وشرك أصغر لا يخرج من الملة(3).
وذكر العلامة السعدي رحمه الله أن حد الشرك الأكبر الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعًا أو فردًا من أفراد العبادة لغير الله، فكل: اعتقاد، أو قول، أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر، وهذا ضابط للشرك الأكبر لا يشذ عنه شيء وأما حد الشرك الأصغر فهو: كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر، من: الإرادات، والأقوال، والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة(4).
المطلب الثاني: البراهين الواضحات في إبطال الشرك:
الأدلة القاطعة الواضحة في إبطال الشرك، وذم أهله كثيرة، منها ما يأتي:
__________
(1) انظر: القاموس المحيط، باب الكاف، فصل الشين، ص1240.
(2) الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة، لعبد الرحمن الدوسري، ص41.
(3) انظر: قضية التكفير، للمؤلف، ص119.
(4) انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد، لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص31، 32، 54.(17/13)
1 ـ كل من دعا نبيًّا، أو وليًّا، أو ملكًا، أو جنيًّا، أو صرف له شيئًا من العبادة فقد اتخذه إلهًا من دون الله(1)، وهذا هو حقيقة الشّرك الأكبر الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}(2).
2 ـ من البراهين القطعية التي ينبغي تبيينها وتوضيحها لمن اتَّخَذَ من دون الله آلهة أخرى، قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}(3).
فقد أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه آلهة من الأرض، سواء كانت أحجارًا أو خشبًا، أو غير ذلك من الأوثان التي تعبد من دون الله! فهل هم يحيون الأموات ويبعثونهم؟ الجواب: كلا، لا يقدرون على شيء من ذلك، ولو كان في السَّماوات والأرض آلهة تستحق العبادة غير الله لفسدتا وفسد ما فيهما من المخلوقات؛ لأن تعدد الآلهة يقتضي التمانع والتنازع والاختلاف، فيحدث بسببه الهلاك، فلو فُرِضَ وجود إلهين، وأراد أحدهما أن يخلق شيئًا والآخر لا يريد ذلك، أو أراد أن يُعطي والآخر أراد أن يمنع، أو أراد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه، فحينئذ يختل نظام العالم، وتفسد الحياة! و ذلك :
* لأنه يستحيل وجود مرادهما معًا، وهو من أبطل الباطل؛ فإنه لو وجد مرادهما جميعًا للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد حيًّا ميتًا، متحركًا ساكنًا.
* و إذا لم يحصل مراد واحد منهما لزم عجز كل منهما، وذلك يناقض الربوبية.
__________
(1) انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص242.
(2) سورة النساء، الآية: 48.
(3) سورة الأنبياء، الآيات: 21-23.(17/14)
* وإن وُجِدَ مراد أحدهما ونفذ دون مراد الآخر، كان النافذ مراده هو الإله القادر والآخر عاجز ضعيف مخذول.
* و اتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور غير ممكن.
وحينئذ يتعين أن القاهر الغالب على أمره هو الذي يوجد مراده وحده غير مُمانع ولا مُدافع، ولا مُنازع ولا مُخالف ولا شريك، وهو الله الخالق الإله الواحد، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ ولهذا ذكر سبحانه دليل التمانع في قوله عز وجل: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1).
وإتقان العالم العلوي والسفلي، وانتظامه منذ خلقه، واتساقه، وارتباط بعضه ببعض في غاية الدقة والكمال: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ}(2). وكل ذلك مسخر، ومدبر بالحكمة لمصالح الخلق كلهم يدل على أن مدبره واحد، وربه واحد، وإلهه واحد، لا معبود غيره، ولا خالق سواه(3).
__________
(1) سورة المؤمنون، الآيتان: 91، 92.
(2) سورة الملك، الآية: 3.
(3) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 9/352، 354، 337-382، 1/35-37، وتفسير البغوي 3/241، 316، وابن كثير 3/255، 176، وفتح القدير للشوكاني، 3/402، 496، وتفسير عبد الرحمن السعدي، 5/220، 374، وأيسر التفاسير لأبي بكر جابر الجزائري 3/99، ومناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر بن عواض الألمعي ص 158-161.(17/15)
3 ـ من المعلوم عند جميع العقلاء أن كل ما عُبِدَ من دون الله من الآلهة ضعيف من كل الوجوه، وعاجز ومخذول، وهذه الآلهة لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئًا من ضر أو نفع، أو حياة أو موت، أو إعطاء أو منع، أو خفض أو رفع، أو عزّ أو ذلّ، وأنها لا تتصف بأي صفة من الصفات التي يتصف بها الإله الحق، فكيف يُعْبدُ مَنْ هَذه حَالُه؟ وكيف يُرجى أو يُخاف من هذه صفاته؟ وكيف يُسئَل من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا(1).
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير 2/83، 219، 277، 417، 3/47، 211، 310، وتفسير السعدي 2/327، 420، 3/290، 451 ،5/279 ، 457 ،6/153 ،و أضواء البيان للشنقيطي ، 2/482، 3/101، 322، 598، 5/44، 6/268.(17/16)
وقد بيّن الله عز وجل ضعف وعجز كل ما عبد من دونه أكمل بيان، فقال سبحانه: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(1)، وقال عز وجل: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ، وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ، وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}(2)، وقال عز وجل: {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا}(3).
وهي مع هذه الصفات لا تملك كشف الضر عن عابديها ولا تحويله إلى غيرهم {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}(4).
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 76.
(2) سورة الأعراف، الآيات: 191-198.
(3) سورة الفرقان، الآية: 3.
(4) سورة الإسراء، الآية: 56.(17/17)
4 ـ ومن المعلوم يقينًا أن ما يعبده المشركون من دون الله: الأنبياء، أو الصالحين، أو الملائكة، أو الجن الذين أسلموا، أنهم في شغل شاغل عنهم باهتمامهم بالافتقار إلى الله بالعمل الصالح، والتنافس في القُرْبِ من ربهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، فكيف يُعبَدُ من هذا حاله؟(1) قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}(2).
5 ـ وقد أوضح وبيّن سبحانه أن ما عُبِدَ من دونه قد توفرت فيهم جميع أسباب العجز وعدم إجابة الدعاء من كل وجه؛ فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السَّمَاوات ولا في الأرض لا على وجه الاستقلال، ولا على وجه الاشتراك، وليس لله من هذه المعبودات من ظهير يساعده على ملكه وتدبيره، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له(3)، قال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ، وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}(4)، وقال سبحانه تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ، إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}(5).
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير 3/48، وتفسير السعدي 4/291.
(2) سورة الإسراء، الآية: 57.
(3) انظر: تفسير ابن كثير 3/37، وتفسير السعدي 6/274.
(4) سورة سبأ، الآيتان: 22، 23.
(5) سورة فاطر، الآيتان: 13، 14.(17/18)
6 ـ وقال عز وجل: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}(1).
7 ـ وقال سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ، وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(2)، وهذا وصف لكل مخلوق، وأنه لا ينفع ولا يضر وإنما النافع الضار هو الله، ومن دعا ما لا يضره ولا ينفعه فقد ظلم نفسه بالوقوع في الشرك الأكبر، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لو دعا غير الله لكان من الظالمين المشركين، فكيف بغيره(3)؟، فالنافع الضار هو المستحق للعبادة وحده {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ}(4).
__________
(1) سورة الزمر، الآية: 38.
(2) سورة يونس، الآيتان: 106-107.
(3) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص331.
(4) سورة الأنعام، الآية: 17.(17/19)
8 ـ وقال عز وجل: {وَمَنْ أَََضَلّ ممن يَدْعواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَ يَسْتَجِيب لَه إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ و هم عن دعائهم غَافِلونَ وَ إِذَا حشََِر الناس كانوا لهم أعداء و كانوا بعبادتهم كافرين }(1) فهل هناك أضل من هؤلاء الذين يعبدون من لا يستجيب لهم مدة مقامهم في الدنيا، لا ينتفعون بهم مثقال ذرة، وهم لا يسمعون منهم دعاء، ولا يجيبون لهم نداء، وهذا حالهم في الدنيا، ويوم القيامة يكفرون بشركهم، ويكونون لهم أعداء يلعن بعضهم بعضًا، ويتبرأ بعضهم من بعض(2).
9 ـ ضرب الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإيضاح والبيان في إبراز الحقائق المعقولة في صورة الأمر المحسوس، وهذا من أعظم ما يُردُّ به على الوثنيين في إبطال عقيدتهم وتسويتهم المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم؛ ولكثرة هذا النوع في القرآن الكريم سأقتصر على ثلاثة أمثلة توضح المقصود على النحو الآتي:
( أ ) قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(3).
__________
(1) سورة الأحقاف، الآيتان: 5-6.
(2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص724.
(3) سورة الحج، الآيتان: 73، 74.(17/20)
حق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره، فإنه يقطع مواد الشرك من قبله، فالآلهة التي تُعبَد من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئًا مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه ، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو أضعف المخلوقات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة الباطلة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟!
وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله تعالى في بطلان الشرك وتجهيل أهله(1).
(ب) ومن أحسن الأمثال وأدلّها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده، قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}(2).
__________
(1) انظر: أمثال القرآن، لابن القيم، ص47، والتفسير القيم، لابن القيم، ص368، وتفسير البغوي، 3/298، وتفسير ابن كثير، 3/236، وفتح القدير للشوكاني، 3/470، وتفسير السعدي، 5/326.
(2) سورة العنكبوت، الآيات: 41-43.(17/21)
فهذا مثل ضربه الله لمن عبد معه غيره يقصد به التعزز والتقَوِّي والنفع، فبين سبحانه أن هؤلاء ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء من دون الله أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت التي هي من أضعف الحيوانات، اتخذت بيتًا وهو من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفًا، وكذلك من اتخذ من دون الله أولياء، فإنهم ضعفاء، وازدادوا باتخاذهم ضعفًا إلى ضعفهم(1).
( ج) ومن أبلغ الأمثال التي تُبيّن أن المشرك قد تشتت شمله واحتار في أمره، ما بيّنه تعالى بقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}(2).
فهذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحد، فالمشرك لَمَّا كان يعبد آلهة شتى شُبِّهَ بعبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون، سيئة أخلاقهم، يتنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، فهو في عذاب.
والموحد لَمَّا كان يعبد الله وحده لا شريك له ، فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه واختلافهم، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟ والجواب: كلا، لا يستويان أبدًا(3).
__________
(1) انظر: تفسير البغوي 3/468، وأمثال القرآن لابن القيم ص21، وفتح القدير للشوكاني 4/204.
(2) سورة الزمر، الآية: 29.
(3) انظر: تفسير البغوي 4/78، وابن كثير 4/52، والتفسير القيم، لابن القيم، ص423، وفتح القدير للشوكاني 4/462، وتفسير السعدي 6/468، وتفسير الجزائري 4/43.(17/22)
10 ـ الذي يستحق العبادة وحده من يملك القدرة على كل شيء، والإحاطة بكل شيءٍ، وكمال السلطان والغلبة والقهر والهيمنة على كل شيءٍ، والعلم بكل شيء، ويملك الدنيا والآخرة، والنفع والضر، والعطاء والمنع بيده وحده، فمن كان هذا شأنه فإنه حقيق بأن يُذكَر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُطاع فلا يُعصى، ولا يُشرك معه غيره(1).
وصفات الكمال المطلق لله تعالى، لا يحيط بها أحد، ولكن منها على سبيل المثال:
( أ ) المتفرد بالألوهية: لا يستحق الألوهية إلا الله وحده، الحي الذي لا يموت أبدًا، القيوم الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع المخلوقات، وهي مفتقرة إليه في كل شيء، ومن كمال حياته وقيوميته أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وجميع ما في السَّماوات والأرض عبيده، وتحت قهره وسلطانه: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}(2).
__________
(1) انظر: تفسير البغوي 1/237، 3/71، 2/88، 372، وابن كثير 1/309، 2/572، 3/42، 2/127، 435، 570، 1/344، 2/138، وتفسير السعدي 1/313، 7/686، 2/381، 3/397، 4/204، 6/364، 1/356، 2/372، وأضواء البيان 2/187، 3/271.
(2) سورة مريم، الآيتان: 93، 94.(17/23)
ومن تمام ملكه وعظمته وكبريائه أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له، لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم، ولا يأذن إلا لمن ارتضى، وعلمه تعالى محيط بجميع الكائنات، ولا يطلع أحد على شيء من علمه إلا ما أطلعهم عليه، ومن عظمته أن كرسيه وسع السَّماوات والأرض، وأنه قد حفظهما وما فيهما من مخلوقات، ولا يثقله حفظهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القاهر لكل شيء، العلي بذاته على جميع مخلوقاته، والعلي بعظمته وصفاته، العلي الذي قهر المخلوقات ودانت له الموجودات، العظيم الجامع لصفات العظمة والكبرياء، وقد دلّ على هذه الصفات العظيمة قوله تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}(1).
(ب) وهو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه، فانقادت له المخلوقات بأسرها: جماداتها، وحيواناتها، وإنسها، وجنّها، وملائكتها {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}(2).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 255.
(2) سورة آل عمران، الآية: 83.(17/24)
( ج ) وهو الإله الذي بيده النفع والضر، فلو اجتمع الخلق على أن ينفعوا مخلوقًا لم ينفعوه إلا بما كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إذا لم يرد الله ذلك: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(1).
( د ) وهو القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(2).
(هـ) إحاطة علمه بكل شيء، شامل للغيوب كلها: يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون(3): {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ}(4)، {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(5)، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(6)، {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(7).
ولا شك أن من عرف هذه الصفات وغيرها من صفات الكمال والعظمة، فإنه سيعبد الله وحده؛ لأنه الإله المستحق للعبادة.
المطلب الثالث: الشفاعة:
__________
(1) سورة يونس، الآية: 107.
(2) سورة يس، الآية: 82.
(3) انظر: تفسير ابن كثير 1/344، 2/138، والسعدي 2/356، 2/372.
(4) سورة آل عمران، الآية: 5.
(5) سورة يونس: الآية: 61.
(6) سورة الأنعام، الآية: 59.
(7) سورة الأنفال، الآية: 75.(17/25)
أولاً: مفهوم الشفاعة لغة: يُقال شفع الشيء: ضمَّ مثله إليه، فجعل الوتر شفعًا(1).
واصطلاحًا: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرّةٍ(2).
من الحكمة القولية في دعوة من يتعلّق بغير الله تعالى ويطلب الشفاعة منه أن يبيّن له أن الشفاعة ملك لله وحده: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(3).
ثانيًا: يرد على من طلب الشفاعة من غير الله تعالى بالأقوال الحكيمة الآتية:
1 ـ ليس المخلوق كالخالق، فكل من قال: إن الأنبياء والصالحين والملائكة أو غيرهم من المخلوقين لهم عند الله جاهٌ عظيمٌ ومقاماتٌ عاليةٌ فهم يشفعون لنا عنده كما يتقرّب إلى الوجهاء والوزراء عند الملوك والسّلاطين، ليجعلوهم وسائط لقضاء حاجاتهم، فهذا القول من أبطل الباطل؛ لأنه شبه الله العظيم ملك الملوك بالملوك الفقراء المحتاجين للوزراء والوجهاء في تكميل ملكهم ونفوذ قوتهم، فإن الوسائط بين الملوك وبين الناس على أحد وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: إما لإخبارهم عن أحوال الناس بما لا يعرفونه.
الوجه الثاني: أو يكون الملِكُ عاجزًا عن تدبير رعيته فلا بد له من أعوان؛ لذُلِّهِ وعجزه.
الوجه الثالث: أو يكون الملك لا يريد نفع رعيته والإحسان إليهم، فإذا خاطبهم من ينصحه ويعظه تحركت إرادته وهمّته في قضاء حوائج رعيته.
والله عز وجل ليس كخلقه الضعفاء، فهو تعالى لا تخفى عليه خافية، وغني عن كل ما سواه، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، ومعلوم أن الشافع عند ملوك الدنيا قد يكون له ملك مستقل، وقد يكون شريكًا لهم، وقد يكون معاونًا لهم، فالملوك يقبلون شفاعته لأحد ثلاثة أمور:
أ ـ تارة لحاجتهم إليه.
__________
(1) انظر: القاموس المحيط، باب العين، فصل الشين ص947، والنهاية في غريب الحديث، 2/485، والمعجم الوسيط 1/487.
(2) انظر: شرح لمعة الاعتقاد للشيخ محمد صالح العثيمين، ص80.
(3) سورة الزمر، الآية: 44.(17/26)
ب ـ وتارة لخوفهم منه.
جـ ـ وتارة لجزاء إحسانه إليهم.
وشفاعة العباد بعضهم عند بعض من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة، والله عز وجل لا يرجو أحدًا ولا يخافه، ولا يحتاج إليه(1)، ولهذا قطع الله جميع أنواع التعلّقات بغيره، وبيّن بطلانها، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ، وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}(2).
فقد سدّت هذه الآية على المشركين جميع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك أبلغ سدٍّ وأحكمه، فإن العابد إنما يتعلّق بالمعبود لِمَا يرجو من نفعه، وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود مالكًا للأسباب التي ينتفع بها عابده، أو يكون شريكًا لمالكها، أو ظهيرًا أو وزيرًا أو معاونًا له، أو وجيهًا ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده(3).
2 ـ الشفاعة: شفاعتان:
( أ ) الشفاعة المثبتة: وهي التي تطلب من الله ولها شرطان:
الشرط الأول: إِذْن الله للشّافع أن يشفع، لقوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}(4).
الشرط الثاني: رضا الله عن الشّافع والمشفوع له، لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى}(5)، {يَومَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً}(6).
__________
(1) انظر: فتاوى ابن تيمية 1/126-129.
(2) سورة سبأ، الآيتان: 22، 23.
(3) انظر: التفسير القيم، لابن القيم ص408.
(4) سورة البقرة، الآية: 255.
(5) سورة الأنبياء، الآية: 28.
(6) سورة طه، الآية: 109.(17/27)
( ب ) الشفاعة المنفية: وهي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والشفاعة بغير إذنه ورضاه والشفاعة للكفار: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}(1)، ويستثنى شفاعته صلّى الله عليه وسلّم في تخفيف عذاب أبي طالب(2).
3 ـ الاحتجاج على من طلب الشفاعة من غير الله بالنص والإجماع، فلم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا الأنبياء من قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة، أو الأنبياء، أو الصالحين، ولا يطلبوا منهم الشفاعة، ولم يفعل ذلك أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولم يستَحِبّ ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا مجتهد يعتمد على قوله في الدين، ولا من يعتبر قوله في مسائل الإجماع، فالحمد لله رب العالمين(3).
المطلب الرابع: مسبغ النعم المستحق للعبادة:
من الحكمة في دعوة المشركين إلى الله تعالى لفت أنظارهم وقلوبهم إلى نعم الله العظيمة: الظاهرة والباطنة، والدينية والدنيوية. فقد أسبغ على عباده جميع النعم: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}(4)، وسخر هذا الكون وما فيه من مخلوقات لهذا الإنسان.
وقد بيّن سبحانه هذه النعم، وامتن بها على عباده، وأنه المستحق للعبادة وحده، ومما امتن به عليهم ما يأتي:
__________
(1) سورة المدثر، الآية: 48.
(2) انظر: البخاري مع الفتح، مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب 7/193، برقم 3883، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذابًا، 1/195، برقم 211.
(3) انظر: فتاوى ابن تيمية 1/112، 158، 14/399-414، 1/108-165، 14/380، 409، 1/160-166، 195، 228، 229، 241، ودرء تعارض العقل والنقل، له، 5/147، وأضواء البيان 1/137.
(4) سورة النحل، الآية: 53.(17/28)
أولاً: على وجه الإجمال: قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً...}(1)، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}(2)، {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(3).
فقد شمل هذا الامتنان جميع النعم: الظاهرة والباطنة، الحسّيّة والمعنوية، فجميع ما في السماوات والأرض قد سُخِّر لهذا الإنسان، وهو شامل لأجرام السماوات والأرض، وما أودع فيهما من: الشمس والقمر والكواكب، والثوابت والسيارات، والجبال والبحار والأنهار، وأنواع الحيوانات، وأصناف الأشجار والثمار، وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو من مصالح بني آدم، ومصالح ما هو من ضروراتهم للانتفاع والاستمتاع والاعتبار.
وكل ذلك دالّ على أن الله وحده هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذلّ والمحبة إلا له، وهذه أدلة عقلية لا تقبل ريبًا ولا شكًا على أن الله هو الحق، وأن ما يدعى من دونه هو الباطل(4): {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}(5).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 29.
(2) سورة لقمان، الآية: 20.
(3) الجاثية: الآية: 13.
(4) انظر: تفسير البغوي 1/59، 3/72، وابن كثير 3/451، 4/149، والشوكاني 1/60، 4/420، والسعدي 1/69، 6/161، 7/21، وأضواء البيان للشنقيطي 3/225-253.
(5) سورة الحج، الآية: 62، وانظر: سورة لقمان، الآية: 30.(17/29)
ثانيًا: على وجه التفصيل: ومن ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ، وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(1).
وقال عز وجل بعد أن ذكر نعمًا كثيرة: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2).
أفمن يخلق هذه النعم وهذه المخلوقات العجيبة كمن لا يخلق شيئًا منها؟
__________
(1) سورة إبراهيم، الآيات: 32-34.
(2) سورة النحل، الآيات: 14-18، وانظر: الآيات: 3-12 من السورة نفسها.(17/30)
ومن المعلوم قطعًا أنه لا يستطيع فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه، أو حاسة من حواسه، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه في بدنه، وكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوعها واختلاف أجناسها؟(1). ولا يسع العاقل بعد ذلك إلا أن يعبد الله الذي أسدى لعباده هذه النعم ولا يشرك به شيئًا؛ لأنه المستحق للعبادة وحده سبحانه.
المطلب الخامس: أسباب ووسائل الشرك:
حذر النبي صلّى الله عليه وسلّم عن كل ما يوصل إلى الشرك ويسبب وقوعه، وبين ذلك بيانًا واضحًا، ومن ذلك على سبيل الإيجاز ما يأتي:
1 ـ الغلو في الصالحين هو سبب الشرك بالله تعالى، فقد كان الناس منذ أُهبِطَ آدم صلّى الله عليه وسلّم إلى الأرض على الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام”(2).
وبعد ذلك تعلق الناس بالصالحين، ودب الشرك في الأرض، فبعث الله نوحًا صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى عبادة الله وحده، وينهى عن عبادة ما سواه(3)، وردّ عليه قومه: {وَقَالُواْ لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}(4).
__________
(1) انظر: فتح القدير 3/154، 3/110، وأضواء البيان 3/253.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التاريخ، 2/546، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 1/101، وعزاه إلى البخاري، وانظر: فتح الباري 6/372.
(3) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 1/106.
(4) سورة نوح، الآية: 23.(17/31)
وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدت ٍٍ ٍ(1).
وهذا سببه الغلو في الصالحين؛ فإن الشيطان يدعو إلى الغلو في الصالحين وإلى عبادة القبور، ويُلقي في قلوب الناس أن البناء والعكوف عليها من محبة أهلها من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها، وشأن الله أعظم من أن يُسأل بأحد من خلقه، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنًا تعلق عليه الستور، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويذبح عنده، ثم ينقلهم من ذلك إلى مرتبة رابعة: وهي دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدًا، ثم ينقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تَنَقَّصَ أهل هذه الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وعند ذلك يغضبون(2).
ولهذا حذّر الله عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ورفع المخلوق عن منزلته التي أنزله الله تعالى، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}(3).
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة نوح، 8/667، برقم 4920.
(2) انظر: تفسير الطبري 29/62، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص246.
(3) سورة النساء، الآية: 171.(17/32)
2 ـ الإفراط في المدح والتجاوز فيه، والغلو في الدين: حذّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الإطراء فقال: “لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله”(1)، وقال صلّى الله عليه وسلّم: “إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”(2).
3 ـ بناء المساجد على القبور، وتصوير الصور فيها: حذَّر صلّى الله عليه وسلّم عن اتخاذ المساجد على القبور، وعن اتخاذها مساجد؛ لأن عبادة الله عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم؛ ولهذا لَمَا ذكرت أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال: “إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة”(3).
ومن حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على أمته أنه عندما نزل به الموت قال: “لَعْنَةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”. قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا(4).
__________
(1) البخاري مع الفتح بلفظه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ...}، 6/478، 12/144، وانظر: شرحه في الفتح 12/149.
(2) النسائي، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى 5/260، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي 2/1008، وأحمد 1/347.
(3) البخاري مع الفتح، كتاب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد 1/523، 3/208، 7/187، وأخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور 1/375.
(4) البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب: حدثنا أبو اليمان 1/532، 3/200، 6/494، 7/186، 8/140، 10/277، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها 1/337.(17/33)
وقال قبل أن يموت بخمس: “ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك”(1).
4 ـ اتخاذ القبور مساجد: حذّر صلّى الله عليه وسلّم أمته عن اتخاذ قبره وثنًا يُعبد من دون الله، ومن باب أولى غيره من الخلق، فقال: “اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”(2).
5 ـ إسراج القبور وزيارة النساء لها: حذر صلّى الله عليه وسلّم عن إسراج القبور؛ لأن البناء عليها، وإسراجها، وتجصيصها والكتابة عليها، واتخاذ المساجد عليها من وسائل الشرك، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج”(3).
__________
(1) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور 1/377.
(2) الموطأ للإمام مالك، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة 1/172، وهو عنده مرسل، ولفظ أحمد 2/246: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا، ولعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وأبو نعيم في الحلية 7/317، وانظر: فتح المجيد ص150.
(3) النسائي، كتاب الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور 4/94، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء القبور 3/218، والترمذي، كتاب الصلاة، باب كراهية أن يتخذ على القبر مسجدًا 2/136، وابن ماجه في الجنائز، باب النهي عن زيارة النساء للقبور 1/502، وأحمد 1/229، 287، 324، 2/337، 3/442، 443، والحاكم 1/374، وانظر ما نقله صاحب فتح المجيد في تصحيح الحديث عن ابن تيمية ص276.(17/34)
6 ـ الجلوس على القبور والصلاة إليها: لم يترك صلّى الله عليه وسلّم بابًا من أبواب الشرك التي تُوصِّل إليه إلا سده(1)، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: “لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها”(2).
7 ـ اتخاذ القبور عيدًا، وهجر الصلاة في البيوت، بيّن صلّى الله عليه وسلّم أن القبور ليست مواضع للصلاة، وأن من صلى عليه وسلم فستبلغه صلاته سواء كان بعيدًا عن قبره أو قريبًا، فلا حاجة لاتخاذ قبره عيدًا: “لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم”(3).
وقال صلّى الله عليه وسلّم: “إن لله ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام”(4).
فإذا كان قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدًا، فغيره أولى بالنهي كائنًا من كان(5).
8 ـ الصور وبناء القباب على القبور: كان صلّى الله عليه وسلّم يطهر الأرض من وسائل الشرك، فيبعث بعض أصحابه إلى هدم القباب المشرفة على القبور، وطمس الصور، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ “ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته”(6).
__________
(1) انظر: فتح المجيد ص281.
(2) مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه 2/668.
(3) أبو داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، 2/218 بإسناد حسن، وأحمد 2/357، وانظر: صحيح سنن أبي داود 1/383.
(4) النسائي في السهو، باب السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم 3/43، وأحمد 1/452، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم برقم 21، ص24، وسنده صحيح.
(5) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم 6/165-174.
(6) مسلم، كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر 2/666.(17/35)
9 ـ شدّ الرّحال إلى غير المساجد الثلاثة: وكما سدّ صلّى الله عليه وسلّم كل باب يوصّل إلى الشرك فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: “لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى”(1).
فدخل في هذا النهي شدّ الرحال لزيارة القبور والمشاهد، وهو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا عندما ذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى الطور، فلقيه بصرة بن أبي بصرة الغفاري: فقال: من أين جئت؟ قال: من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: “لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد…”(2).
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلّى الله عليه وسلّم أو غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل ينهى عن ذلك"(3).
10 ـ الزيارة البدعية للقبور من وسائل الشرك؛ لأن زيارة القبور نوعان:
النوع الأول: زيارة شرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات صلاة الجنازة، ولتذكر الموت – بشرط عدم شدِّ الرِّحال – ولاتباع سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
النوع الثاني: زيارة شركية وبدعية(4)، وهذا النوع ثلاثة أنواع:
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 3/63، ومسلم بلفظه، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره 2/976.
(2) النسائي، كتاب الجمعة، باب الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة 3/114، ومالك في الموطأ، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة 1/109، وأحمد في المسند 6/7، 397، وانظر: فتح المجيد ص289، وصحيح النسائي 1/309.
(3) انظر: فتاوى ابن تيمية 1/234.
(4) انظر: فتاوى ابن تيمية 1/233، والبداية والنهاية 14/123.(17/36)
أ ـ من يسأل الميت حاجته، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام.
ب ـ من يسأل الله تعالى بالميت، كمن يقول: أتوسل إليك بنبيك، أو بحق الشيخ فلان، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام، ولا يصل إلى الشرك الأكبر، فهو لا يُخرج عن الإسلام كما يُخرِج الأول.
ج ـ من يظنّ أن الدعاء عند القبور مُستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، وهذا من المنكرات بالإجماع(1).
11 ـ الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها من وسائل الشرك؛ لِمَا في ذلك من التشبه بالذين يسجدون لها في هذين الوقتين، قال صلّى الله عليه وسلّم: “لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان”(2).
والخلاصة: أن وسائل الشرك التي توصل إليه: هي كل وسيلة وذريعة تكون طريقًا إلى الشرك الأكبر، ومن الوسائل التي لم تذكر هنا: تصوير ذوات الأرواح، والوفاء بالنذر في مكان يُعبد فيه صنم أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية، وغير ذلك من الوسائل(3).
المطلب السادس: أنواع الشرك وأقسامه:
أولاً: الشرك أنواع، منها:
النوع الأول: شرك أكبر يخرج من الملة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا}(4)، وهو أربعة أقسام:
__________
(1) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية 6/165-174.
(2) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، 1/568، برقم 828.
(3) انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص54-70، 113-152.
(4) سورة النساء، الآية: 116.(17/37)
1 ـ شرك الدعوة: لقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}(1).
2 ـ شرك النية والإرادة والقصد: لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(2).
3 ـ شرك الطاعة: وهي طاعة الأحبار والرهبان وغيرهم في معصية الله تعالى، قال سبحانه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(3).
4 ـ شرك المحبة: لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}(4).
والخلاصة: أن الشرك الأكبر هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله عز وجل: كأن يدعو غير الله، أو يذبح لغير الله، أو ينذر لغير الله، أو يتقرب لأصحاب القبور، أو الجن والشياطين بشيء من أنواع العبادة، أو يخاف الموتى أن يضروه، أو يرجو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصرف إلا لله عز وجل(5).
__________
(1) سورة العنكبوت، الآية: 65، وانظر: الجواب الكافي لابن القيم ص230-244، ومدارج السالكين، لابن القيم 1/339-346.
(2) سورة هود، الآيتان: 15، 16، وانظر: سورة الإسراء، الآية: 8، وسورة الشورى، الآية: 20.
(3) سورة التوبة، الآية: 31.
(4) سورة البقرة، الآية: 165.
(5) انظر: كتاب التوحيد للعلامة الفوزان ص11.(17/38)
النوع الثاني: شرك أصغر لا يخرج من الملة ومنه يسير الرياء، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}(1)، ومنه الحلف بغير الله؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: “من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك”(2)، ومنه قول الرجل: لولا الله وأنت، أو ما شاء الله؛ وشئت.
ومن أنواع الشرك: شرك خفي: “الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل”(3)، وكفارته هي أن يقول العبد: “اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم”(4)، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(5)، قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن يقول: والله وحياتِك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان(6).
__________
(1) سورة الكهف، الآية: 110.
(2) رواه الترمذي وحسنه عن ابن عمر رضي الله عنهما، في كتاب النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، 4/110، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/99.
(3) أخرجه الحكيم الترمذي، انظر: صحيح الجامع 3/233، وتخريج الطحاوية للأرنؤوط ص83.
(4) أخرجه الحكيم الترمذي، وانظر: صحيح الجامع 3/233، ومجموعة التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، وابن تيمية ص6.
(5) سورة البقرة، الآية: 22.
(6) ذكره ابن كثير في تفسيره، 1/56، وعزاه إلى ابن أبي حاتم.(17/39)
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: “من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك”(1)، قال الترمذي فُسِّرَ عند بعض أهل العلم أن قوله: فقد كفر أو أشرك على التغليظ والحجة في ذلك حديث ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: سمع عمر يقول: وأبي وأبي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: “ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم”(2). وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: “من قال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله”(3).
ولعل الشرك الخفي يدخل في الشرك الأصغر فيكون الشرك شركان: شرك أكبر وشرك أصغر، وهذا الذي أشار إليه ابن القيم رحمه الله(4).
والخلاصة: أن الشرك الأصغر قسمان:
القسم الأول: شرك ظاهر، وهو: ألفاظ وأفعال:
فالألفاظ: كالحلف بغير الله، وقول: ما شاء الله وشئت، أو لولا الله وأنت، أو هذا من الله ومنك، أو هذا من بركات الله وبركاتك ونحو ذلك. والصواب أن يقول: ما شاء الله وحده أو ما شاء الله ثم شئت، ولولا الله وحده، أو لولا الله ثم أنت، وهذا من الله وحده، أو هذا من الله ثم منك.
__________
(1) رواه الترمذي عن ابن عمر 4/110، وتقدم تخريجه ص76.
(2) رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما، في كتاب النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، 4/110، وانظر: صحيح الترمذي 2/92.
(3) رواه الترمذي عن أبي هريرة في الكتاب والباب المشار إليهما آنفًا 4/110، وانظر: صحيح الترمذي 2/92.
(4) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص233.(17/40)
والأفعال: مثل: لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه، وتعليق التمائم خوفًا من العين أو الجن، فمن فعل ذلك يعتقد أن هذه الأشياء ترفع البلاء بعد نزوله، أو تدفعه قبل نزوله فقد أشرك شركًا أكبر، وهو شرك في الربوبية حيث اعتقد شريكًا مع الله في الخلق والتدبير، وشرك في العبودية حيث تألف لذلك وعلق به قلبه طمعًا ورجاء لنفعه، وإن اعتقد أن الله عز وجل الدافع للبلاء والرافع له وحده، ولكن اعتقدها سببًا يستدفع بها البلاء، فقد جعل ما ليس سببًا شرعيًا ولا قدريًا سببًا وهذا محرم وكذب على الشرع وعلى القدر: أما الشرع فإنه نهى عن ذلك أشد النهي، وما نهى عنه فليس من الأسباب النافعة، وأما القدر: فليس هذا من الأسباب المعهودة ولا غير المعهودة التي يحصل بها المقصود، ولا من الأدوية المباحة النافعة، وهو من جملة وسائل الشرك؛ فإنه لابد أن يتعلق قلب متعلقها بها، وذلك نوع شرك ووسيلة إليه.
القسم الثاني من الشرك الأصغر: شرك خفي وهو الشرك في الإرادات، والنيات، والمقاصد، وهو نوعان:
النوع الأول: الرياء، والسمعة، والرياء: إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها، فيحمدوه عليها، والفرق بين الرياء والسمعة: أن الرياء لِمَا يُرى من العمل: كالصلاة، والصدقة، والحج، والجهاد، والسمعة لِمَا يسمع: كقراءة القرآن، والوعظ، والذكر، ويدخل في ذلك تحدث الإنسان عن أعماله وإخباره بها.
النوع الثاني: إرادة الإنسان بعمله الدنيا: وهو إرادته بالعمل الذي يُبتغى به وجه الله عرضًا من مطامع الدنيا، وهو شرك في النيات والمقاصد وينافي كمال التوحيد ويحبط العمل الذي قارنه(1).
نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
__________
(1) انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد، للسعدي، ص43، والجواب الكافي لمن سأل عند الدواء الشافي، لابن القيم، ص240، وكتاب التوحيد للعلامة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، ص11-12، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد له، ص134-143.(17/41)
ثانيًا: الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر:
1 ـ الشرك الأكبر يخرج من الإسلام والأصغر لا يخرج من الإسلام.
2 ـ الشرك الأكبر يخلد صاحبه في النار، والأصغر لا يخلد صاحبه في النار إن دخلها.
3 ـ الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، والشرك الأصغر لا يحبط جميع الأعمال وإنما يحبط الرياء والعمل للدنيا العمل الذي خالطه.
4 ـ الشرك الأكبر يبيح الدم والمال، والأصغر ليس كذلك(1).
5 ـ الشرك الأكبر يوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز للمؤمنين موالاته، ولو كان أقرب قريب، وأما الشرك الأصغر فإنه لا يمنع الموالاة مطلقًا، بل صاحبه يحب ويُوالَى بقدر ما معه من التوحيد، ويبغض ويُعادَى بقدر ما فيه من الشرك الأصغر(2).
المطلب السابع: أضرار الشرك وآثاره
الشرك له آثار خطيرة، ومفاسد جسيمة، وأضرار مهلكة، منها على سبيل الاختصار والإجمال، ما يأتي:
1 ـ شر الدنيا والآخرة من أضرار الشرك وآثاره.
2 ـ الشرك هو السبب الأعظم لحصول الكربات في الدنيا والآخرة.
3 ـ الشرك يسبب الخوف وينزع الأمن في الدنيا والآخرة.
4 ـ يحصل لصاحب الشرك الضلال في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا}(3).
5 ـ الشرك الأكبر لا يغفره الله إذا مات صاحبه قبل التوبة، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}(4).
__________
(1) انظر: كتاب التوحيد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص12.
(2) انظر: المرجع السابق، ص15.
(3) سورة النساء، الآية: 116.
(4) سورة النساء، الآية: 48.(17/42)
6 ـ الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(1)، وقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(2).
7 ـ الشرك الأكبر يوجب الله لصاحبه النار ويحرم عليه الجنة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار”(3).
وقد قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}(4).
8 ـ الشرك الأكبر يخلد صاحبه في النار، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}(5).
9 ـ الشرك أعظم الظلم والافتراء، قال الله سبحانه وتعالى يحكي قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(6)، وقال سبحانه: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}(7).
10 ـ الله تعالى بريء من المشركين ورسولُهُ صلّى الله عليه وسلّم، قال عز وجل: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}(8).
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 88.
(2) سورة الزمر، الآية: 65.
(3) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات مشركًا دخل النار، 1/94، برقم 93.
(4) سورة المائدة، الآية: 72.
(5) سورة البينة، الآية: 6.
(6) سورة لقمان، الآية: 13.
(7) سورة النساء، الآية: 48.
(8) سورة التوبة، الآية: 3.(17/43)
11 ـ الشرك هو السبب الأعظم في نيل غضب الله وعقابه، والبعد عن رحمته نعوذ بالله من كل ما يغضبه.
12 ـ الشرك يطفئ نور الفطرة؛ لأن الله عز وجل فطر الناس على توحيده وطاعته، قال سبحانه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}(1). قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه”(2)، وفي الحديث القدسي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيما يرويه عن ربه تعالى: “إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا”(3).
13 ـ يقضي على الأخلاق الفاضلة، لأن أخلاق النفس الفاضلة من الفطرة وإذا كان الشرك يقضي على الفطرة فمن باب أولى أن يقضي على ما انبنى على فطرة الله من الأخلاق الطيبة الحسنة.
14 ـ يقضي على عزة النفس؛ لأن المشرك يذل لجميع طواغيت الأرض كلها؛ لأنه يعتقد أنه لا معتصم له إلا هم، فيذل ويخضع لمن لا يسمع ولا يرى، ولا يعقل، فيعبد غير الله، ويذل له، وهذا غاية الإهانة والتعاسة، نسأل الله العافية.
__________
(1) سورة الروم، الآية: 30.
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، 2/119، برقم 1358، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، 4/2047، برقم 2658.
(3) مسلم، كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها أهل الجنة وأهل النار، 1/2197، برقم 2865.(17/44)
15 ـ الشرك الأكبر يبيح الدم والمال؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله“(1).
16 ـ الشرك الأكبر يوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز لهم موالاته ولو كان أقرب قريب.
17 ـ الشرك الأصغر ينقص الإيمان، وهو من وسائل الشرك الأكبر.
18 ـ الشرك الخفي وهو شرك الرياء والعمل لأجل الدنيا يحبط العمل الذي قارنه، وهو أخوف من المسيح الدجال؛ لعظم خفائه، وخطره على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
فاحذر يا عبد الله الشرك كله: كبيره وصغيره، نعوذ بالله منه، ونسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الفهرس
المقدمة
المبحث الأول: نور التوحيد
المطلب الأول: مفهوم التوحيد
المطلب الثاني: البراهين الساطعات في إثبات التوحيد
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا...ً}
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ...}
قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...}
قال تعالى: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}
قال تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
__________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}، 1/14، برقم 25، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، 1/53، برقم 20.(17/45)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ...}
حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا
فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله
المطلب الثالث: أنواع التوحيد
1 ـ التوحيد الخبري العلمي الاعتقادي
2 ـ التوحيد الطلبي القصدي الإرادي
أنواع التوحيد على التفصيل ثلاثة أنواع
النوع الأول: توحيد الربوبية
النوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات
النوع الثالث: توحيد الألوهية
المطلب الرابع: ثمرات التوحيد وفوائده
خير الدنيا والآخرة من فضائل التوحيد
التوحيد هو السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة
التوحيد الخالص يثمر الأمن التام في الدنيا والآخرة
يحصل لصاحبه الهدى الكامل والتوفيق لكل أجر وغنيمة
يغفر الله بالتوحيد الذنوب ويكفر به السيئات
يُدخل الله به الجنة
التوحيد يمنع دخول النار بالكلية إذا كمل في القلب
يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى حبة
التوحيد هو السبب الأعظم في نيل رضا الله وثوابه
جميع الأعمال متوقفة في قبولها وفي كمالها على
يُسهل على العبد فعل الخيرات وترك المنكرات
التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان
التوحيد يخفف عن العبد المكاره ويهوِّن عليه الآلام
يحرِّر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم
التوحيد إذا كمل في القلب وتحقق يصير به القليل
تكفَّل الله لأهل التوحيد بالفتح، والنصر في الدنيا
الله عز وجل يدافع عن الموحدين
المبحث الثاني: ظلمات الشرك
المطلب الأول: مفهوم الشرك
المطلب الثاني: البراهين الواضحات في إبطال الشرك
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ}
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ}
من المعلوم أن كل ما عُبد من دون الله من الآلهة ضعيف(17/46)
ما يعبده المشركون من دون الله: الأنبياء أو الصالحين في شغل شاغل عنهم باهتمامهم بالافتقار إلى الله بالعمل
ما عُبد من دونه قد توفرت فيهم جميع أسباب العجز
قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ...}
قال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ}
قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ...}
ضرب الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإيضاح
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ}
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ...}
قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ...}
الذي يستحق العبادة وحده من يملك القدرة على كل شيء
التفرد بالألوهية
وهو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه
وهو الإله الذي بيده النفع والضر
وهو القادر على كل شيء
إحاطة علمه بكل شيء
المطلب الثالث: الشفاعة
أولاً: مفهوم الشفاعة لغة
واصطلاحًا
ثانيًا: يرد على من طلب الشفاعة من غير الله بالأقوال الحكيمة الآتية:
1 ـ ليس المخلوق كالخالق
الوسائط بين الملوك وبين الناس على وجوه ثلاثة
الوجه الأول: الإخبار عن أحوال الناس بما لا يعرفونه
الوجه الثاني: أو يكون الملك عاجزًا عن تدبير رعيته
الوجه الثالث: أو يكون الملك لا يريد نفع رعيته
2 ـ الشفاعة: شفاعتان
( أ ) الشفاعة المثبتة وهي التي تطلب من الله ولها شرطان:
الشرط الأول: إذن الله للشافع أن يشفع
الشرط الثاني: رضا الله عن الشافع والمشفوع له
( ب ) الشفاعة المنفية: وهي التي تطلب من غير الله
3 ـ الاحتجاج على من طلب الشفاعة من غير الله
المطلب الرابع: مسبغ النعم المستحق للعبادة
أولاً: على وجه الإجمال
ثانيًا: على وجه التفصيل
المطلب الخامس: أسباب ووسائل الشرك
الغلو في الصالحين هو سبب الشرك بالله تعالى(17/47)
الإفراط في المدح والتجاوز فيه والغلو في الدين
بناء المساجد على القبور وتصوير الصور فيها
اتخاذ القبور مساجد
إسراج القبور وزيارة النساء لها
الجلوس على القبور والصلاة إليها
اتخاذ القبور عيدًا وهجر الصلاة في البيوت
الصور وبناء القباب على القبور
شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة
الزيارة البدعية للقبور، وزيارة القبور نوعان
النوع الأول: زيارة شرعية
النوع الثاني: زيارة شركية وبدعية وهذا النوع ثلاثة أنواع:
من يسأل الميت حاجته
من يسأله الله تعالى بالميت
من يظن أن الدعاء عند القبور مستجاب
الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها
المطلب السادس: أنواع الشرك وأقسامه
أولاً: الشرك أنواع منها:
النوع الأول: شرك أكبر وهو أربعة أقسام
شرك الدعوة
شرك النية والإرادة والقصد
شرك الطاعة
شرك المحبة
النوع الثاني: شرك أصغر لا يخرج من الملة
الشرك الأصغر قسمان:
القسم الأول: شرك ظاهر، وهو ألفاظ وأفعال
القسم الثاني: شرك خفي وهو الشرك في الإرادات وهو نوعان:
النوع الأول: الرياء، والسمعة
النوع الثاني: إرادة الإنسان بعمله الدنيا
ثانيًا: الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر
الشرك الأكبر يخرج من الإسلام
الشرك الأكبر يخلد صاحبه في النار
الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال
الشرك الأكبر يبيح الدم والمال
الشرك الأكبر يوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين
المطلب السابع: أضرار الشرك وآثاره
شر الدنيا والآخرة من أضرار الشرك وآثاره
الشرك هو السبب الأعظم لحصول الكربات في الدنيا والآخرة
الشرك يسبب الخوف وينزع الأمن في الدنيا والآخرة
يحصل لصاحب الشرك الضلال في الدنيا والآخرة
الشرك الأكبر لا يغفره الله إذا مات صاحبه قبل التوبة
الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال
الشرك الأكبر يوجب الله لصاحبه النار ويحرم عليه الجنة
الشرك الأكبر يخلد صاحبه في النار
الشرك أعظم الظلم والافتراء
الله تعالى بريء من المشركين وَرَسُولُهُ صلّى الله عليه وسلّم(17/48)
الشرك هو السبب الأعظم في نيل غضب الله وعقابه
الشرك يطفئ نور الفطرة
يقضي على الأخلاق الفاضلة
يقضي على عزة النفس
الشرك الأكبر يبيح الدم والمال
الشرك الأكبر يوجب العداوة بين صاحبه وبين المؤمنين
الشرك الأصغر ينقص الإيمان
الشرك الخفي وهو شرك الرياء والعمل لأجل الدنيا
الفهرس
انتهى الكتاب ولله الحمد.(17/49)
نور السنة
وظلمات البدعة
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف الفقير إلى الله تعالى
الدكتور / سعيد بن علي بن وهف القحطاني
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في "نور السنة وظلمات البدعة" بيّنت فيها: مفهوم السنة، وأسماء أهل السنة، وأن السنة هي النعمة المطلقة، وأوضحت منزلة السنة، ومنزلة أصحابها، وعلاماتهم، وذكرت منزلة البدعة وأصحابها، ومفهومها، وشروط قبول العمل، وذم البدعة في الدين، وأسباب البدع، وأقسامها، وأحكامها، وأنواع البدع عند القبور وغيرها، والبدع المنتشرة المعاصرة، وحكم توبة المبتدع، وآثار البدع وأضرارها.
ولا شك أن السنة هي الحياة والنور اللذان بهما سعادة العبد وهداه، والسنة تقوم بأهلها وإن قعدت بهم أعمالهم، {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ} [سورة آل عمران، جزء من الآية: 106]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والتفرق"(1)، وصاحب السنة حي القلب، مستنير القلب، قد انقاد لأمر الله واتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظاهراً وباطناً.
أما صاحب البدعة فهو ميت القلب، مظلمه، والظلمة مستولية على أصحاب البدع: فقلوبهم مظلمة، وأحوالهم كلها مظلمة، فمن أراد الله به السعادة أخرجه من هذه الظلمات إلى نور السنة(2).
وقد قسمت هذا البحث إلى مبحثين، وتحت كل مبحث مطالب على النحو الآتي:
المبحث الأول: نور السنة:
__________
(1) ذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، 2/39.
(2) انظر: المرجع السابق، 2/38 – 41.(18/1)
المطلب الأول: مفهوم السنة.
المطلب الثاني: أسماء أهل السنة.
المطلب الثالث: السنة نعمة مطلقة.
المطلب الرابع: منزلة السنة.
المطلب الخامس: منزلة صاحب السنة وصاحب البدعة.
المبحث الثاني: ظلمات البدعة:
المطلب الأول: مفهوم البدعة.
المطلب الثاني: شروط قبول العمل.
المطلب الثالث: ذم البدعة في الدين.
المطلب الرابع: أسباب البدع.
المطلب الخامس: أقسام البدع.
المطلب السادس: حكم البدعة في الدين وأنواعها.
المطلب السابع: أنواع البدع عند القبور.
المطلب الثامن: البدع المنتشرة المعاصرة.
المطلب التاسع: توبة المبتدع.
المطلب العاشر: آثار البدع وأضرارها.
والله عز وجل أسأل أن يجعل هذا العمل مباركاً خالصاً لوجهه الكريم، نافعاً لي في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه، فإنه خير مسؤول وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
حرر في ليلة الأربعاء، الموافق 17/10/1419هـ
المبحث الأول: نور السنة
صدق الله العظيم المطلب الأول: مفهومها:
السنة لها أهل، ولهم عقيدة، واجتماع على الحق، فمن المناسب أن أذكر التعريف لهذه الكلمات الثلاث: "عقيدة أهل السنة والجماعة".
أولاً: مفهوم العقيدة لغة واصطلاحاً:
العقيدة لغة: كلمة "عقيدة" مأخوذة من العقد والربط، والشد بقوة، ومنه الإحكام والإبرام، والتماسك والمراصة، يقال: عقد الحبل يعقده: شدّه، ويقال: عقد العهدَ والبيع: شدّه، وعقد الإزارَ: شده بإحكام، والعقد: ضد الحل(1).
__________
(1) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الدال، فصل العين، 3/296، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، باب الدال، فصل العين، ص383، ومعجم المقاييس في اللغة لابن فارس، كتاب العين، ص 679.(18/2)
مفهوم العقيدة اصطلاحاً: العقيدة تطلق على الإيمان الجازم والحكم القاطع الذي لا يتطرق إليه شكٌّ، وهي ما يؤمن به الإنسانُ ويعقد عليه قلبه وضميره، ويتخذه مذهباً وديناً يدين به؛ فإن كان هذا الإيمان الجازم والحكم القاطع صحيحاً كانت العقيدة صحيحة كاعتقاد أهل السنة والجماعة، وإن كان باطلاً كانت العقيدة باطلة كاعتقاد فرق الضلالة(1).
ثانياً: مفهوم أهل السنة:
السنة في اللغة: الطريقة والسيرة، حسنة كانت أم قبيحة(2).
والسنة في اصطلاح علماء العقيدة الإسلامية: الهدي الذي كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه: علماً واعتقاداً، وقولاً، وعملاً، وهي السنة التي يجب اتباعها ويُحمد أهلُها، ويُذمُّ من خَالَفها؛ ولهذا قيل: فلان من أهل السنة: أي من أهل الطريقة الصحيحة المستقيمة المحمودة(3).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "والسنة هي الطريقة المسلوكة، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه صلّى الله عليه وسلّم هو وخلفاؤه الراشدون: من الاعتقادات، والأعمال، والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة"(4).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه؛ بأنه طاعة لله ورسوله سواء فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو فُعِل في زمانه، أو لم يفعله ولم يفعل على زمانه، لعدم المقتضى حينئذٍ لفعله، أو وجود المانع منه"(5)، وبهذا المعنى تكون السنة: "اتباع آثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، باطناً وظاهراً، وإتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار"(6).
ثالثاً: مفهوم الجماعة:
__________
(1) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للشيخ الدكتور ناصر العقل ص 9-10.
(2) لسان العرب، لابن منظور، باب النون، فصل السين، 13/225.
(3) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة، للدكتور ناصر العقل، ص13.
(4) جامع العلوم والحكم، 1/120.
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية، 21/317.
(6) مجموع فتاوى ابن تيمية، 3/157.(18/3)
الجماعة في اللغة: مأخوذة من مادة جمع وهي تدور حول الجمع والإجماع والاجتماع وهو ضد التفرق، قال ابن فارس رحمه الله: "الجيم والميم والعين أصل واحد يدل على تضامّ الشيء، يقال: جمعت الشيء جمعاً"(1).
والجماعة في اصطلاح علماء العقيدة الإسلامية: هم سلف الأمة: من الصحابة، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين، الذين اجتمعوا على الحق الصريح من الكتاب والسنة(2).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك"، قال نُعيم بن حماد: "يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة، قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذٍ"(3).
المطلب الثاني: أسماء أهل السُّنَّةِ وصِفَاتِهم:
__________
(1) معجم المقاييس في اللغة، لابن فارس، كتاب الجيم، باب ما جاء من كلام العرب في المضاعف والمطابق أوله جيم، ص 224.
(2) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، ص68، وشرح العقيدة الواسطية لابن تيمية، تأليف العلامة محمد خليل هراس، ص61.
(3) ذكره الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان، 1/70، وعزاه إلى البيهقي.(18/4)
1- أهل السنة والجماعة: هم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وهم المتمسكون بسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم الصحابة، والتابعون، وأئمة الهدى المُتَّبِعون لَهُم، وهم الذين استقاموا على الاتِّباع وابتعدوا عن الابتداع في أي مكان وفي أي زمان، وهم باقون منصورون إلى يوم القيامة(1)، وسمَّوا بذلك لانتسابهم لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، واجتماعهم على الأخذ بها: ظاهراً وباطناً، في القول، والعمل، والاعتقاد(2). فعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقةً فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعين فرقة في النار وواحدة في الجنة، والذي نفسُ محمدٍ بيده لَتَفْتَرِقَنَّ أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، واحدةٌ في الجنة واثنتان وسبعون في النار“ قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: ”الجماعة“(3)، وفي رواية الترمذي عن عبد الله بن عمرو: قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ”ما أنا عليه وأصحابي“(4).
__________
(1) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، ص 13-14.
(2) انظر: فتح رب البرية بتخليص الحموية، للعلامة محمد بن عثيمين ص 10، وشرح العقيدة الواسطية، للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، ص 10.
(3) أخرجه ابن ماجه بلفظه، في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، 2/321، برقم 3992، وأبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة، 4/197، برقم 4596، وابن أبي عاصم، في كتاب السنة، 1/32، برقم 63، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/364.
(4) سنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 5/26، برقم 2641.(18/5)
2- الفرقة الناجية: أي الناجية من النار، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم استثناها عندما ذكر الفرق وقال: ”كلها في النار إلا واحدة“ أي ليست في النار(1).
3- الطائفة المنصورة: فعن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”لا تزال طائفةٌ من أمتي قائمةٌ بأمر الله لا يضرُّهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس“(2)، وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه نحوه(3)، وعن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك“(4)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما نحوه(5).
__________
(1) انظر: من أصول أهل السنة والجماعة، للعلامة صالح بن فوزان الفوزان، ص 11.
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب المناقب، باب: حدثنا محمد بن المثنى، 4/225، برقم 3641، ومسلم بلفظه، في كتاب الإمارة، باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم“ 2/1524، برقم 1037.
(3) متفق عليه: البخاري، كتاب المناقب، باب: حدثنا محمد بن المثنى، 4/225، برقم 3640، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خافهم“ 2/1523، برقم 1921.
(4) صحيح مسلم، كتاب الإمارة باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم“ 2/1523، برقم 1920.
(5) صحيح مسلم، كتاب الإمارة باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم“، 2/1523، برقم 1923.(18/6)
4- المعتصمون المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ولهذا قال فيهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”ما أنا عليه وأصحابي“(1)، أي هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي.
5- هم القدوة الصالحة الذين يهدون إلى الحق وبه يعملون، قال أيوب السختياني رحمه الله: "إن من سعادة الحدَثَ(2) والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة"(3)، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إن لله عباداً يُحيي بِهمُ البلادَ وهم أصحاب السنة ومن كان يعقل ما يَدخُلُ جَوفَهُ من حِلّه كان من حزب الله"(4).
6- أهل السنة خيار الناس ينهون عن البدع وأهلها، قيل لأبي بكر بن عياش من السني؟ قال: "الذي إذا ذُكِرَتِ الأهواء لم يتعصب إلى شيء منها"(5). وذكر ابن تيمية رحمه الله: أن أهل السنة هم خيار الأمة ووسطها الذين على الصراط المستقيم: طريق الحق والاعتدال(6).
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 5/26، برقم 2641.
(2) الحدث: الشاب. النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الحاء مع الدال، مادة: " حدث " 1/351.
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/66، برقم 30.
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي ، 1/72، برقم 51.
(5) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/72، برقم 53.
(6) انظر: فتاوى ابن تيمية، 3/368–369.(18/7)
7- أهل السنة هم الغرباء إذا فسد الناس: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء“(1)، وفي رواية عند الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قيل: ومن الغرباء؟ قال: ”النُّزَّاع(2) من القبائل“(3)، وفي رواية عند الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ”أناس صالحون في أناس سوءٍ كثير من يعصهم أكثر ممن يطيعهم“(4)، وفي رواية من طريق آخر: ”الذين يصلحون إذا فسد الناس“(5)، فأهل السنة الغرباء بين جموع أصحاب البدع والأهواء والفرق.
8- أهل السنة هم الذين يحملون العلم:
أهل السنة هم الذين يحملون العلم وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين؛ ولهذا قال ابن سيرين رحمه الله: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فَيُنْظَرُ إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"(6).
9- أهل السنة هم الذين يحزنُ الناسُ لفراقهم:
__________
(1) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، 1/130، برقم 145.
(2) هو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته: أي بَعُدَ وغاب، والمعنى طوبى للمهاجرين الذين هجروا أوطانهم في الله تعالى. النهاية لابن الأثير، 5/41.
(3) المسند 1/398.
(4) المسند 2/177 و222.
(5) مسند الإمام أحمد، 4/173.
(6) مسلم، في المقدمة، باب الإسناد من الدين، 1/15.(18/8)
قال أيوب السختياني رحمه الله: "إني أُخبرُ بموت الرجل من أهل السنة فكأنما أفقد بعض أعضائي"(1)، وقال: "إن الذين يتمنون موتَ أهل السُّنَّةِ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتِمّ نوره ولو كره الكافرون"(2).
- المطلب الثالث: السنة نعمةٌ مطلقة:
النعمة نعمتان: نعمة مطلقة ونعمة مقيدة:
أولاً: النعمة المطلقة: هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي: نعمة الإسلام، والسنة؛ فإن سعادة الدنيا والآخرة، مبنية على أركان ثلاثة: الإسلام، والسنة، والعافية في الدنيا والآخرة. ونعمة الإسلام والسنة هي النعمة التي أمرنا الله عز وجل أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط أهلها، ومن خصهم بها، وجعلهم أهل الرفيق الأعلى حيث يقول تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها المعنيون بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، فكان الكمال في جانب الدين، والتمام في جانب النعمة، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إن للإيمان حدوداً، وفرائض، وسنناً، وشرائع، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان"(3).
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/66، برقم 29.
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/68، برقم 35.
(3) البخاري معلقاً، في كتاب الإيمان، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”بني الإسلام على خمس“، 1/9.(18/9)
ودين الله هو شرعه المتضمن لأمره ونهيه، ومحابه، والمقصود أن النعمة المطلقة هي التي اختصت بالمؤمنين، وهي نعمة الإسلام والسنة، وهذه النعمة هي التي يفرح بها في الحقيقة، والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته: الإسلام والسنة، وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخ فيهما كان قلبه أشدَّ فرحاً، حتى أن القلب ليرقص فرحاً إذا باشر روح السنة أحزن ما يكون الناس وهو ممتلىء أمناً أخوف ما يكون الناس"(1).
ثانياً: النعمة المقيدة: كنعمة الصحة، والغنى، وعافية الجسد، وبسط الجاه، وكثرة الولد، والزوجة الحسنة، وأمثال هذا، فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر، والمؤمن والكافر؛ وإذا قيل: لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو حق، والنعمة المقيدة تكون استدراجاً للكافر والفاجر، ومآلها إلى العذاب والشقاء لمن لم يرزق النعمة المطلقة(2).
- المطلب الرابع: منزلة السنة:
__________
(1) مقتبس من كلام الإمام ابن القيم في كتابه: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية 2/33 – 36، و38.
(2) مقتبس من كلام الإمام ابن القيم في كتابه: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية 2/36.(18/10)
السنة: حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين، وبابه الأعظم الذي من دخله كان إليه من الواصلين، وهي تقوم بأهلها وإن قعدت بهم أعمالهم، ويسعى نورها بين أيديهم إذا طفئت لأهل البدع والنفاق أنوارهم، وأهل السنة هم المبيضة وجوههم إذا اسودَّت وجوه أهل البدعة، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والتفرق"(1)، والسنة هي الحياة والنور اللذان بهما سعادة العبد وهداه وفوزه، قال الله جل وعلا: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]، والله الموفق(2).
- المطلب الخامس: منزلة صاحب السنة وصاحب البدعة:
أولاً: منزلة صاحب السنة:
صاحب السنة حي القلب، مستنير القلب، وقد ذكر الله عز وجل الحياة والنور في كتابه في غير موضع وجعلهما صفة أهل الإيمان، فإن القلب الحي المستنير: هو الذي عقل عن الله، وأذعن، وفهم عنه، وانقاد لتوحيده، ومتابعة ما بعث به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) ذكره ابن القيم، في اجتماع الجيوش، 2/39، وابن كثير في تفسيره، 1/369، وانظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير، 7/93.
(2) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم، 2/38.(18/11)
وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسأل الله تعالى أن يجعل له نوراً: في قلبه، وسمعه، وبصره، ولسانه، ومن فوقه، ومن تحته، وعن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه ومن أمامه، وأن يجعل له نوراً، وأن يجعل ذاته نوراً، وفي بشره، ولحمه، وعظمه، ولحمه، ودمه، فطلب صلّى الله عليه وسلّم النور لذاته، ولأبعاضه، ولحواسه الظاهرة والباطنة، ولجهاته الست، والمؤمن مدخله نور، ومخرجه نور، وقوله نور، وعمله نور، وهذا النور بحسب قوته وضعفه يظهر لصاحبه يوم القيامة، فيسعى بين يديه، ويمينه، فمن الناس من يكون نوره: كالشمس، وآخر كالنجم، وآخر كالنخلة الطويلة، وآخر كالرجل القائم، وآخر دون ذلك، حتى أن منهم من يُعطى نوراً على رأس إبهام قدمه يضيء مرة ويطفىء أخرى، كما كان نور إيمانه ومتابعته في الدنيا كذلك، فهو هذا بعينه يظهر هناك للحس، والعيان(1).
ثانياً: علامات أهل السنة كثيرة، يدركها العقلاء من البشر ومن أهم تلك العلامات:
الاعتصام بالكتاب والسنة، والعض على ذلك بالنواجذ.
التحاكم إلى الكتاب والسنة في الأصول والفروع.
حبهم لأهل السنة والمتمسكين بها وبغضهم لأهل البدع.
لا يستوحشون من قلة السالكين؛ لأن الحق ضالة المؤمن يأخذ به ولو خالفه الناس.
الصدق في الأقوال والأفعال، بالتطبيق الصحيح لهدي الكتاب والسنة.
التأسي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي كان خلقه القرآن(2).
ثالثًا: منزلة صاحب البدعة:
__________
(1) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم، 2/38 – 41 بتصرف.
(2) انظر: عقيدة السلف وأصحاب الحديث، للإمام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، ص 147، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار، للدكتور صالح بن سعد السحيمي، ص 264.(18/12)
صاحب البدعة ميت القلب، مظلمه، وقد جعل الله الموت والظلمة صفة من خرج عن الإيمان، والقلب الميت المظلم الذي لم يعقل عن الله، ولا انقاد لما بعث به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا وصف الله سبحانه وتعالى هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها، ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم في جميع حياتهم، فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأعمالهم مظلمة، وأقوالهم مظلمة، وأحوالهم كلها مظلمة، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة، وإذا قسمت الأنوار يوم القيامة دون الجسر للعبور عليه بقوا في الظلمات، ومدخلهم في النار مظلم، وهذه الظلمة، التي خلق فيها الخلق أولاً، فمن أراد الله سبحانه وتعالى به السعادة أخرجه منها إلى النور، ومن أراد به الشقاوة تركه فيها(1).
******
المبحث الثاني: ظلمات البدعة
- المطلب الأول: مفهومها:
البدعة: لغة: الحدث في الدين بعد الإكمال، أو ما استحدث بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأهواء والأعمال(2) ويقال: "ابتدعتُ الشيء، قولاً أو فعلاً إذا ابتدأته عن غير مثال سابق"(3)، وأصل مادة "بدع" للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117، الأنعام: 101] أي: مخترعهما من غير مثال سابق متقدم(4).
والبدعة في الاصطلاح الشرعي لها عدة تعريفات عند العلماء يكمل بعضها بعضاً، منها:
__________
(1) اجتماع الجويش الإسلامية، لابن القيم، 2/39 -40 بتصرف.
(2) القاموس المحيط، باب العين، فصل الدال، ص 906، ولسان العرب 8/6، وفتاوى ابن تيمية 35/414.
(3) معجم المقاييس في اللغة لابن فارس ص 119.
(4) الاعتصام للشاطبي 1/49، وانظر: مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة " بدع " ص 111.(18/13)
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "البدعة في الدين: هي ما لم يشرعه الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم: وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب"(1).
"والبدعة نوعان: نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات، وهذا الثاني يتضمن الأول كما أن الأول يدعو إلى الثاني"(2). "وكان الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم: أن الأعمال عبادات وعادات"، فالأصل في العبادات أنه لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أنه لا يحظر منها إلا ما حظر الله"(3).
وقال أيضاً: "والبدعة ما خالف الكتاب والسنة، أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات: كأقوال الخوارج، والروافض، والقدرية، والجهمية، وكالذين يتعبدون بالرقص والغناء في المساجد، والذين يتعبدون بحلق اللحى، وأكل الحشيشة، وأنواع ذلك من البدع التي يتعبد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة، والله أعلم"(4).
2- قال الشاطبي رحمه الله تعالى: "البدعة: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي(5) الشرعيَّة، يُقصدُ بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه".
وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصُّها بالعبادات، وأما على رأي من أدخل الأعمال العاديّة في معنى البدعة، فيقول "البدعة: طريقة في الدين مخترعةٌ، تضاهي الشّرعيّة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية"(6).
__________
(1) فتاوى ابن تيمية 4/107 – 108.
(2) فتاوى ابن تيمية 22/306.
(3) فتاوى ابن تيمية 4/196.
(4) فتاوى ابن تيمية 18/346، وانظر: فتاوى ابن تيمية 35/414.
(5) تضاهي: يعني أنها تشبه الطريقة الشرعية من غير أن تكون الحقيقة كذلك بل هي مضادة لها. انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/53.
(6) الاعتصام لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي 1/50 – 56.(18/14)
ثم قرر رحمه الله تعالى على تعريفه الثاني أن العادات من حيث هي عادية لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبد بها، أو توضع وضع التّعبُّد تدخلها البدعة، فحصل بذلك أنه جمع بين التعريفين ومثل للأمور العادية التي لابد فيها من التعبُّد: بالبيع، والشراء، والنكاح، والطلاق، والإيجارات، والجنايات ... لأنها مقيدة بأمور وشروط وضوابط شرعية لا خيرة للمكلف فيها(1).
3- وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى(2): "والمراد بالبدعة ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً، وإن كان بدعة لغةً، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة. أما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك قال: "نعمة البدعة هذه"(3)... ومراده رضي الله عنه أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها.
__________
(1) الاعتصام لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي 2/568، 569، 570، 594.
(2) جامع العلوم والحكم 2/127 – 128 بتصرف يسير جداً.
(3) انظر: صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 2/308، برقم 2010.(18/15)
فمنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحث على قيام رمضان، ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحداناً، وهو صلّى الله عليه وسلّم صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك مُعللاً، بأنه خشي أن يُكتب عليهم فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أُمن بعده صلّى الله عليه وسلّم(1).
ومنها: "أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بإتباع سنة خلفائه الراشدين وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين"(2).
والبدعة بدعتان: بدعة مكفرة تخرج عن الإسلام، وبدعة مفسقة لا تخرج عن الإسلام(3).
- المطلب الثاني: شروط قبول العمل:
لا يقبل أي عمل مما يتقرب به إلى الله عز وجل إلا بشرطين:
الشرط الأول: إخلاص العمل لله وحده لا شريك له، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمريء ما نوى“(4).
الشرط الثاني: المتابعة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد“(5).
__________
(1) انظر: صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 2/309، برقم 2012.
(2) جامع العلوم والحكم 2/129.
(3) انظر: الاعتصام للشاطبي 2/516.
(4) متفق عليه: البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، 1/9، برقم 1، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”إنما الأعمال بالنيات“ 2/1515، برقم 1907.
(5) مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، 3/1344، برقم 1718، ولفظ البخاري ومسلم ”من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد“ البخاري برقم 2697، ومسلم برقم 1718.(18/16)
فمن أخلص أعماله لله، متبعاً في ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهذا الذي عمله مقبول، ومن فقد الإخلاص، والمتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو أحدهما فعمله مردود داخل في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]، ومن جمع الأمرين فهو داخل في قوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]، وفي قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، فحديث عمر رضي الله عنه: ”إنما الأعمال بالنيات“ ميزان للأعمال الباطنة، وحديث عائشة رضي الله عنها: ”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد“ ميزان للأعمال الظاهرة، فهما حديثان عظيمان يدخل فيهما الدين كله: أصوله، وفروعه، ظاهره وباطنه، أقواله، وأفعاله(1).
__________
(1) انظر: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، للسعدي، ص 10.(18/17)
وقد تكلم الإمام النووي على حديث عائشة رضي الله عنها كلاماً نفيساً، قال فيه: "قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد“، وفي الرواية الثانية: ”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد“، قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتد به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم، فإنه صريح في رد كل البدع، والمخترعات(1)، وفي الرواية الثانية زيادة وهي: أنه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سُبِقَ إليها، فإذا احتج عليه بالرواية الأولى يقول: أنا ما أحدثت شيئاً، فيحتج عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل أو غيره سبق بإحداثها"(2).
- المطلب الثالث: ذم البدعة في الدين:
جاء في ذم البدعة نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، وحذر منها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن ذلك على سبيل الإيجاز ما يلي:
أولاً: من القرآن:
1- قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران: 7]، وقد ذكر الشاطبي رحمه الله آثاراً تدل على أن هذه الآية في الذين يجادلون في القرآن، وفي الخوارج ومن وافقهم(3).
__________
(1) المخترعات: أي في الدين.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 14/257، وانظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 6/171.
(3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/70-76.(18/18)
2- وقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة، والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط وهم أهل البدع(1)، فهذه الآية تشمل النهي عن جميع طرق أهل البدع(2).
3- وقال سبحانه وتعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] فالسبيل القصد هو طريق الحق، وما سواه جائر عن الحق: أي عادل عنه، وهي طرق البدع والضلالات(3).
4- وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]، وهؤلاء هم أصحاب الأهواء، والضلالات، والبدع من هذه الأمة(4).
5- وقال عز وجل: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31-32].
6- وقال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
7- وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} [الأنعام: 65].
__________
(1) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/76.
(2) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/78.
(3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/78.
(4) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/179.(18/19)
8- وقال الله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118-119]، والله عز وجل أعلم(1).
ثانياً: من السنة النبوية:
جاءت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذم البدع والتحذير منها، ومن ذلك ما يأتي:
1- حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد“(2).
2- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في خطبته: ”أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة“(3).
3- وفي رواية النسائي: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول في خطبته: يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: ”من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار“(4).
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ”من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً“(5).
__________
(1) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/70-91.
(2) متفق عليه: البخاري، برقم 2697، ومسلم برقم 1718.
(3) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، 1/592، برقم 867.
(4) أصله في صحيح مسلم في الحديث السابق، وأخرجه النسائي بلفظه، في كتاب صلاة العيدين، باب كيف الخطبة، 3/188، برقم 1578.
(5) مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، 4/2060، برقم 2674.(18/20)
5- وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ”من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجب من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء“(1).
6- وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا؟ قال: ”أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة“(2).
__________
(1) مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، 2/705، برقم 1017.
(2) أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4/201، برقم 4707، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/44 برقم 2676، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، 1/15-16، برقم 42، 43، 44، وأحمد 4/46-47.(18/21)
7- وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم" فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ”نعم وفيه دخنٌ“ فقلت: وما دَخَنُهُ؟ قال: ”قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغي هديي تعرف منهم وتنكر“ فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ”نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها“ فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: ”نعم: قوم من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا“، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: ”تلزم جماعة المسلمين وإيمامهم“ فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ”فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك“(1)، قال الإمام النووي رحمه الله: قوله: ”يهدون بغير هديي“ الهدي الهيئة، والسيرة، والطريقة، قوله: ”دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها“ قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعون إلى بدعة ضلالة آخر الخوارج، والقرامطة، وأصحاب المحنة"(2).
__________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، 8/119، برقم 7084، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة، ومفارقة الجماعة، 3/1475، برقم 1847.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 12/479.(18/22)
8- وفي حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، [هو حبل الله المتين من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة] فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به“ فحث على كتاب الله ورغب فيه(1).
9- وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ”يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم“(2).
ثالثاً: من أقوال الصحابة رضي الله عنهم في البدع:
1- ذكر ابن سعد رحمه الله بإسناده أن أبا بكر رضي الله عنه قال: "أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوِّموني"(3).
2- وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا"(4).
__________
(1) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، 4/1873، برقم 2408.
(2) مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، 1/12، برقم 6، 7، وابن وضاح في ما جاء في البدع، ص 67، برقم 65.
(3) الطبقات الكبرى، 3/136.
(4) أخرجه اللالكائي، في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/139، برقم 201، والدارمي في سننه، 1/47، برقم 121، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 2/1041، برقم 2001، ورقم 2003، ورقم 2005.(18/23)
3- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، كل بدعة ضلالة"(1).
رابعاً: من أقوال التابعين وأتباعهم بإحسان:
1- كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى رجل فقال: "أما بعد، أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، وإتباع سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته"(2).
2- وقال الحسن البصري رحمه الله: "لا يصح القول إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة"(3).
3- وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام"(4).
4- وقال الإمام مالك رحمه الله: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلّى الله عليه وسلّم خان الرسالة، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً"(5).
__________
(1) أخرجه ابن وضاح في ما جاء في البدع، ص43، برقم 14، 12، والطبراني في المعجم الكبير، 9/154، برقم 8770، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 1/181: "ورجاله رجال الصحيح"، وأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/96، برقم 102، وانظر: آثارًا أخرى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في ما جاء في البدع لابن وضاح ص 45، ومجمع الزوائد، 1/181.
(2) سنن أبي داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة، 4/203، برقم 4612، وانظر: صحيح سنن أبي داود، للألباني، 3/873.
(3) أخرجه اللالكائي، في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/63، برقم 18.
(4) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 9/116.
(5) الاعتصام، للإمام الشاطبي، 1/65.(18/24)
5- وقال الإمام أحمد رحمه الله: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والإقتداء وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين"(1).
خامساً: البدع مذمومة من وجوه:
1- قد علم بالتجارب أن العقول غير مستقلة بمصالحها دون الوحي، والابتداع مضاد لهذا العمل.
2- الشريعة جاءت كاملة، لا تحمل الزيادة ولا النقصان.
3- المبتدع معاند للشرع ومشاق له.
4- المبتدع متبع لهواه، لأن العقل إذا لم يكن متبعاً للشرع لم يبق له إلا أتباع الهوى.
5- المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع وألزم المكلفين بالجري على سننها(2).
- المطلب الرابع: أسباب البدع:
البدع لها أسباب أدت إليها ومن هذه الأسباب(3) ما يلي:
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لللالكائي، 1/176.
(2) انظر: الاعتصام، للشاطبي، 1/61 –70.
(3) انظر كثيراً من هذه الأسباب: الاعتصام للشاطبي، 1/287–365.(18/25)
أولاً: الجهل، فهو آفة خطيرة، قال الله عز وجل: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”إن الله لا ينتزع العلم من الناس انتزاعاً، ولكن يقبض العلماء فيرفَعُ العلم معهم، ويُبقي في الناس رُؤوساً جُهَّالاً يفتنون بغير علم فَيَضِلُّون ويُضِلُّون“(1).
__________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، 8/187، برقم 7307، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن آخر الزمان، 4/2058، برقم 2673.(18/26)
ثانياً: إتباع الهوى، من الأسباب الخطيرة التي توقع الناس في البدع، والأهواء قال الله عز وجل: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، وقال سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وقال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، وقال عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: 50]، وقال عز وجل: {إِن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].
ثالثاً: التعلق بالشبهات: فإن المبتدعة يتعلقون بالشبهات فيقعون في البدع، قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [آل عمران: 7].(18/27)
رابعاً: الاعتماد على العقل المجرد، فإن من اعتمد على عقله وترك النص من القرآن والسنة أو من أحدهما ضل، والله عز وجل يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]، وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].
خامساً: التقليد والتعصب: فإن أكثر أهل البدع يقلدون آباءهم ومشايخهم، ويتعصبون لمذاهبهم، قال الله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170]، وقال عز وجل: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]، وأهل البدع زينت لهم أعمالهم، قال الله عز وجل: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، وقال الله عز وجل مبيناً حال أهل البدع والأهواء: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاْ، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 66-68].(18/28)
سادساً: مخالطة أهل الشر ومجالستهم، من الأسباب المؤدية إلى الوقوع في البدع وانتشارها بين الناس، وقد بين الله عز وجل أن المجالس لأهل السوء يندم، قال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27-29]، وقال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، وقال سبحانه وتعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة“(1).
__________
(1) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب السمك، 6/287، برقم 5534، ومسلم، في كتاب البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين، ومجانبة قرناء السوء، 4/2026، برقم 2628.(18/29)
سابعاً: سكوت العلماء وكتم العلم، من أسباب انتشار البدع والفساد بين الناس، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159-160]، وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]، وقد أوجب الله على طائفة من الأمة الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان“(1)، وهذا الحديث يبين أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على كل أحدٍ على حسب هذه
__________
(1) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، 1/69، برقم 49.(18/30)
الدرجات.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ”ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حورايُّون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبهم فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّةُ خردل“(1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”من سُئِلَ عن علم يعلمُهُ فكتمه ألجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار“(2).
__________
(1) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، 1/70، برقم 50.
(2) الترمذي، في كتاب العلم، باب ما جاء في كتمان العلم، 5/29، برقم 2649، وأبو داود، في العلم، باب كراهية منع العلم، 3/321، برقم 3658، وابن ماجه، في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه، 1/98، برقم 266، ومسند أحمد، 2/263، 305، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/336، وصحيح سنن ابن ماجه، 1/49.(18/31)
ثامناً: التشبه بالكفار وتقليدهم من أعظم ما يحدث البدع بين المسلمين، ومما يدل على ذلك حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حنين، ونحن حديثو عهدٍ بكفر، وكانوا أسلموا يوم الفتح، قال: فمررنا بشجرة فقلنا يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ وكان للكفار سدرة يعكفون حولها، ويعلقون بها أسلحتهم يدعونها ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”الله أكبر وقلتم، والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، لتركبن سنن من كان قبلكم“(1)، وهذا الحديث فيه دلالة واضحة على أن التشبه بالكفار هو الذي حمل بني إسرائيل على أن يطلبوا هذا الطلب القبيح، وهو الذي حمل أصحاب النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم على أن يسألوه أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها من دون الله عز وجل، وهكذا غالب الناس من المسلمين قلدوا الكفار في عمل البدع والشركيات، كأعياد المواليد، وبدع الجنازئز، والبناء على القبور، ولا شك أن اتباع السَّنَن باب من أبواب الأهواء، والبدع(2) ويزيد ذلك وضوحاً حديث أبي سعيد
__________
(1) أخرجه بلفظه، أبو عاصم في كتاب السنة، 1/37، برقم 76، وحسن إسناده الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة، المطبوع مع كتاب السنة، 1/37، وأخرجه الترمذي بنحوه، في كتاب الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، 4/475، برقم 2180، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وانظر: النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد، لجاسم بن فهيد الدوسري، ص64–65.
(2) انظر: تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص147، ورسائل ودراسات في الأهواء والافتراق والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر العقل، 2/170، وكتاب التوحيد، للدكتور العلامة صالح الفوزان ص87.(18/32)
الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”لَتتَّبِعُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم: شِبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراعٍ، حتى لو دخلوا في جحر ضبٍّ لاتبعتموهم“ قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ”فمن“؟(1)، قال الإمام النووي رحمه الله: "السَّنَن، بفتح السين والنون: وهو الطريق، والمراد بالشبر، والذراع، وجحر الضب: التمثيل بشدة الموافقة في المعاصي والمخالفات، لا في الكفر، وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد وقع ما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم"(2).
فظهر أن الشبر، والذراع، والطريق، ودخول الجحر تمثيل للإقتداء بهم في كل شيء مما نهى عنه وذمه(3)، وقد حذر النبي صلّى الله عليه وسلّم عن التشبه بغير أهل الإسلام فقال: ”بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلُّ والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم“(4).
__________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”لتتبعن سنن من كان قبلكم“، 8/191، برقم 7320، ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، 4/2054، برقم 2669.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/460.
(3) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 13/301.
(4) أحمد في المسند، 2/50، 92، وصحح إسناده أحمد محمد شاكر في شرحه للمسند برقم 5114، 5115، 5667، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(18/33)
تاسعاً: الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، من الأسباب التي تؤدي إلى البدع وانتشارها؛ فإن كثيراً من أهل البدع اعتمدوا على الأحاديث الواهية الضعيفة، والمكذوبة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها، وردوا الأحاديث الصحيحة التي تخالف ما هم عليه من البدع، فوقعوا بذلك في المهالك والعطب، والخسارة، ولا حول ولا قوة إلا بالله(1).
__________
(1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 22/361-363، والاعتصام للشاطبي، 1/287-294، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص848، ورسائل ودراسات في الأهواء والافتراق والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر العقل، 2/180.(18/34)
عاشراً: الغلو أعظم أسباب انتشار البدع، وظهورها، وهو سبب شرك البشر؛ لأن الناس بعد آدم عليه الصلاة والسلام كانوا على التوحيد عشرة قرون، وبعد ذلك تعلق الناس بالصالحين، وغلوا فيهم حتى عبدوهم من دون الله عز وجل؛ فأرسل الله تعالى نوحاً صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى التوحيد، ثم تتابع الرسل عليهم الصلاة والسلام(1)، والغلو يكون: في الأشخاص، كتقديس الأئمة والأولياء، ورفعهم فوق منازلهم، ويصل ذلك في النهاية إلى عبادتهم، ويكون الغلو في الدين، وذلك بالزيادة على ما شرعه الله، أو التشدد والتكفير بغير حق، والغلو في الحقيقة: هو مجاوزة الحد في الاعتقادات والأعمال، وذلك بأن يزاد في حمد الشيء، أو يزاد في ذمه على ما يستحق(2)، وقد حذر الله عن الغلو فقال عز وجل لأهل الكتاب: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]، وحذر النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغلو في الدين، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين“(3)، فظهر أن الغلو في الدين من أعظم أسباب الشرك، والبدع، والأهواء(4)؛ ولخطر الغلو في
__________
(1) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير، 1/106.
(2) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، 1/289.
(3) النسائي، كتاب المناسك، باب التقاط الحصى 5/268، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي 2/1008، وأحمد 1/347، وصحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم 1/289.
(4) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، 1/289، والاعتصام للشاطبي، 1/329–331، ورسائل ودراسات في الأهواء والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر العقل، 1/171، 183، والغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، للدكتور عبد الرحمن ابن معلا اللويحق، ص77-81، والحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل، لسعيد بن علي [الكاتب]، ص379.(18/35)
الدين حذر النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإطراء فقال: ”لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله“(1).
- المطلب الخامس: أقسام البدع:
البدع أقسام مختلفة باعتبارات مختلفة، وإليك التفصيل بإيجاز واختصار:
القسم الأول: البدعة الحقيقية والإضافة:
1- البدعة الحقيقية: وهي التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا استدلال معتبر عند أهل العلم، لا في الجملة ولا في التفصيل؛ ولذلك سميت بدعة؛ لأنها شيء مخترع في الدين على غير مثال سابق(2)، ومن أمثلة ذلك: التقرب إلى الله عز وجل بالرهبانية: أي اعتزال الخلق في الجبال ونبذ الدنيا ولذاتها تعبداً لله عز وجل، والذين فعلوا ذلك ابتدعوا عبادة من عند أنفسهم وألزموا أنفسهم بها(3)، ومن أمثلة ذلك: تحريم ما أحل الله من الطيبات تعبداً لله عز وجل(4)، وغير ذلك من الأمثلة(5).
2- البدعة الإضافية: وهي التي لها جهتان أو شائبتان:
إحداهما: لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة.
__________
(1) البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واذكر في الكتاب مريم...}، 4/171، برقم 3445.
(2) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/367.
(3) انظر: الاعتصام للشاطبي 1/370، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 4/316، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص 782.
(4) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/417.
(5) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/370-445.(18/36)
والأخرى: ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية: أي أنها بالنسبة لإحدى الجهتين سنة لاستنادها إلى دليل، وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل، ولأنها مستندة إلى شيء، والفرق بينهما من جهة المعنى أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات، أو الأحوال، أو التفاصيل لم يقم عليها مع أنها محتاجة إليه؛ لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العادات المحضة(1)، ومن أمثلة ذلك: الذكر أدبار الصلوات، أو في أي وقت على هيئة الاجتماع بصوت واحد، أو يدعو الإمام والناس يؤمنون أدبار الصلوات، فالذكر مشروع، ولكن أداؤه على هذه الكيفية غير مشروع وبدعة مخالفة للسنة(2) ومن ذلك تخصيص يوم النصف من شعبان بصيام وليلته بقيام، وصلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من رجب، وهذه بدع منكرة، وهي بدعة إضافية؛ لأن عبادات الصلاة والصيام الأصل فيها المشروعية، لكن يأتي الابتداع في تخصيص الزمان، أو المكان، أو الكيفية؛ فإن ذلك لم يأت في كتاب ولا سنة، فهي مشروعية باعتبار ذاتها بدعة باعتبار ما عرض لها(3).
القسم الثاني: البدعة الفعلية والتَّركية:
__________
(1) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/367، 445.
(2) انظر الاعتصام للشاطبي 1/452، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص 96.
(3) انظر: أصول في البدع والسنن، للشيخ العدوي، ص30، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للسحيمي، ص96.(18/37)
1- البدعة الفعلية: تدخل في تعريف البدعة: فهي طريقة في الدين مخترعة، تشبه الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه(1)، ومن أمثلة ذلك: الزيادة في شرع الله ما ليس منه، كمن يزيد في الصلاة ركعة، أو يدخل في الدين ما ليس منه، أو يفعل العبادة على كيفية يخالف فيها هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم(2)، أو يخصص وقتاً للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع: كتخصيص يوم النصف من شعبان بصيام وليلته بقيام(3).
__________
(1) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/50-56.
(2) انظر: الاعتصام للشاطبي 1/367–445، وتنبيه أولي الأبصار، للدكتور صالح السحيمي، ص99، وحقيقة البدعة وأحكامها، لسعيد الغامدي، 2/37، وأصول في البدع والسنن للعدوي ص70، وعلم أصول البدع، لعلي بن حسن الأثري، ص107.
(3) انظر: كتاب التوحيد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص82.(18/38)
2- البدعة التَّركية: تدخل في عموم تعريف البدعة، من حيث إنها "طريقة في الدين مخترعة"(1)، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك، أو غير تحريم؛ فإن الفعل – مثلاً – قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه أو يقصد تركه قصداً، فهذا الترك إما أن يكون لأمر يُعتبر شرعاً أو لا: فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه؛ لأنه ترك ما يجوز تركه أو ما يُطلب بتركه، كالذي يمنع نفسه من الطعام الفلاني من أجل أنه يضره في جسمه، أو عقله، أو دينه، وما أشبه ذلك، فلا مانع هنا من الترك، وهذا راجع إلى الحمية من المضرات، وأصله قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء“(2)، وكذلك لو ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وهذا كترك المشتبه حذراً من الوقوع في الحرام، واستبراءً للدين والعرض.
وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تديُّناً أو لا؛ فإن لم يكن تديناً فالتارك عابث بتحريمه الفعل، أو بعزيمته على الترك، ولا يسمى هذا الترك بدعة؛ لأنه لا يدخل تحت لفظ الحد، إلا على الطريقة الثانية القائلة: إن البدعة تدخل في العادات، وأما على الطريقة الأولى، فلا يدخل، لكن هذا التارك يكون مخالفاً بتركه، أو باعتقاده التحريم فيما أحل الله، وإثم المخالفة يختلف باختلاف درجات المتروك: من حيث: الوجوب، والندب.
__________
(1) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/57.
(2) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: البخاري، كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، 2/280، برقم 1905، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنته، 2/1018، برقم 1400.(18/39)
أما إن كان الترك تديُّناً فهو الابتداع في الدين، سواء كان المتروك مباحاً أو مأموراً به، وسواء كان في العبادات، أو المعاملات، أو العادات: بالقول، أو الفعل، أو الاعتقاد، إذا قصد بتركه التعبد لله كان مبتدعاً بتركه(1)، ومن الأدلة على أن الترك في مثل ذلك يكون بدعة: قصة الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها، فكأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ”أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له؛ لكني: أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني“(2).
والمراد بالسنة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء: الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: من ترك طريقتي، وأخذ بطريقة غيري فليس مني(3).
__________
(1) انظر: الاعتصام، للشاطبي، 1/58.
(2) متفق عليه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، 6/142، برقم 5063، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، 2/1020، برقم 1401.
(3) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 9/105.(18/40)
واتضح مما سبق أن البدعة على قسمين: بدعة فعلية، وبدع ة تركية، كما ظهر أن السنة على قسمين: سنة فعلية وسنة تركية، فسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم كما تكون بالفعل تكون بالترك، فكما كلفنا الله باتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم في فعله الذي يتقرب به إلى الله – إذا لم يكن من باب الخصوصيات – كذلك طالبنا باتباعه في تركه – فيكون الترك سنة، والفعل سنة، وكما لا نتقرب إلى الله بترك ما فعل، لا نتقرب إليه بفعل ما ترك، فالفاعل لما ترك، كالتارك لما فعل، ولا فرق بينهما(1).
القسم الثالث: البدعة القولية الاعتقادية، والبدعة العملية:
1- البدعة القولية الاعتقادية: كمقالات الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، وسائر الفرق الضالة، واعتقاداتهم، ويدخل في ذلك الفرق التي ظهرت كالقاديانية، والبهائية، وجميع فرق الباطنية المتقدمة: كالاسماعيلية، والنصيرية، والدروز، والرافضة وغيرهم.
2- البدعة العملية وهي أنواع:
النوع الأول: بدعة في أصل العبادة، كأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع كأن يحدث صلاة غير مشروعة، أو صياماً غير مشروع، أو أعياداً غير مشروعة، كأعياد المواليد وغيرها.
النوع الثاني: ما يكون من الزيادة على العبادة المشروعة، كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلاً.
__________
(1) انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/57-60، و 479، 485، 498، والأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع، لجلال الدين السيوطي، ص205، وأصول في البدع، للشيخ محمد أحمد العدوي، ص70، وحقيقة البدعة وأحكامها، لسعيد بن ناصر الغامدي، 2/37-58، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي ص97، وعلم أصول البدع للشيخ علي بن حسن الأثري، ص107، وتحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين، للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي، ص83.(18/41)
النوع الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة المشروعة، بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، وكذلك أداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة، وكالتعبد بالتشديد على النفس في العبادات إلى حد يخرج عن سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
النوع الرابع: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع: كتخصيص يوم النصف من شعبان بصيام، وليلته بقيام؛ فإن أصل الصيام والقيام مشروع، ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج على دليل(1).
صدق الله العظيم المطلب السادس: حكم البدعة في الدين:
لاشك أن كل بدعة في الدين ضلالة، ومحرمة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة“(2)، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد“، وفي رواية لمسلم: ”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد“(3)، فدل الحديثان على أن كل محدث في الدين فهو بدعة وكل بدعة ضلالة مردودة، فالبدع في العبادات محرمة، ولكن التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة:
فمنها: ما هو كفر: كالطواف بالقبور تقرباً إلى أصحابها، وتقديم الذبائح والنذور لها، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وكأقوال غلاة الجهمية، والمعتزلة، والرافضة.
ومنها: ما هو من وسائل الشرك: كالبناء على القبور، والصلاة والدعاء عندها.
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 18/346، 35-414، وكتاب التوحيد للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص 81-82، ومجلة الدعوة، العدد 1139، 9 رمضان، 1408، مقال الدكتور صالح الفوزان في أنواع البدع، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص 100.
(2) أبو داود، 4/201، برقم 4607، والترمذي، 5/44، برقم 2676، وتقدم تخريجه ص42.
(3) متفق عليه: البخاري، 3/222، برقم 2697، ومسلم، 3/1343، برقم 1718، وتقدم تخريجه ص33.(18/42)
ومنها: ما هو من المعاصي: كبدعة التبتل – ترك الزواج – والصيام قائماً في الشمس، والخصاء بقصد قطع الشهوة، وغير ذلك(1)، وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله: أن إثم المبتدع ليس على رتبة واحدة، بل هو على مراتب مختلفة واختلافها يقع من جهات، على النحو الآتي:
1- من جهة كون صاحب البدعة مُدَّعياً للاجتهاد أو مقلداً.
2- من جهة وقوعها في الضروريات: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال أو غيرها.
3- من جهة كون صاحبها مستتراً بها أو معلناً.
4- من جهة كونه داعياً إليها أو غير داعٍ لها.
5- من جهة كونه خارجاً على أهل السنة أو غير خارج.
6- من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية.
7- من جهة كون البدعة بيِّنة أو مشكلة.
8- من جهة كون البدعة كفراً أو غير كفر.
9- من جهة الإصرار على البدعة أو عدمه.
وبيّن رحمه الله أن هذه المراتب تختلف في الإثم على حسب النظر إلى دركاتها(2)، وأوضح رحمه الله أن هذه المراتب منها ما هو محرم، ومنها ما هو مكروه، وأن وصف الضلال ملازم لها وشامل لأنواعها(3)، ولا شك أن البدع تنقسم على حسب مراتبها في الإثم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: كفر بواح(4).
القسم الثاني: كبيرة من كبائر الذنوب(5).
القسم الثالث: صغيرة من صغائر الذنوب(6)، وللبدعة الصغيرة شروط، هي:
الشرط الأول: لا يداوم عليها، فإن المداومة تنقلها إلى كبيرة في حقه.
الشرط الثاني: لا يدعو إليها؛ فإن ذلك يعظم الذنب لكثرة العمل بها.
الشرط الثالث: لا يفعلها في مجتمعات الناس، ولا في المواضع التي تقام فيها السنن.
__________
(1) انظر: كتاب التوحيد للعلامة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، ص 82.
(2) انظر: الاعتصام، 1/216 – 224، و2/515 – 559.
(3) انظر: الاعتصام للشاطبي، 2/530.
(4) انظر: الاعتصام للشاطبي، 2/516.
(5) انظر: الاعتصام للشاطبي، 2/517 و 2/543 – 550.
(6) انظر: الاعتصام للشاطبي، 2/517 و 2/539، 543 – 550.(18/43)
الشرط الرابع: لا يستصغرها ولا يستحقرها، فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب(1).
واسم الضلالة يقع على هذه الأقسام الثلاثة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل كل بدعة ضلالة، وهذا يشمل البدعة المكفرة، والبدعة المفسقة: سواء كانت كبيرة أو صغيرة(2).
ومنهم من قسم البدع إلى أقسام أحكام الشريعة الخمسة: فقال: قسم من البدع واجب، وقسم محرم، وقسم مندوب إليه، والقسم الرابع: بدعة مكروهة، والقسم الخامس: البدع المباحة. وهذا التقسيم مخالف لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة“(3)، وقد رد على هذا التقسيم الإمام الشاطبي رحمه الله بعد أن ذكر التقسيم وصاحبه: "والجواب أن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو في نفسه متدافع؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي: لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هناك ما يدل من الشرع على وجوبٍ، أو ندبٍ، أو إباحةٍ؛ لما كان ثم بدعة، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخير فيها، فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها، أو ندبها، أو إباحتها جمع بين متنافيين. أما المكروه منها والمحرم فمسلَّمٌ من جهة كونها بدعاً لا من جهةٍ أخرى(4).
صدق الله العظيم المطلب السابع: أنواع البدع عند القبور:
__________
(1) انظر هذه الشروط مع شرحها النفيس: الاعتصام للشاطبي، 2/551 – 559.
(2) انظر: الاعتصام للشاطبي، 2/516.
(3) أبو داوود، 4/201، برقم 4607، والترمذي، 5/44، برقم 2676، وتقدم تخريجه، ص42.
(4) الاعتصام، 1/246.(18/44)
النوع الأول: من يسأل الميت حاجته(1)، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، وقد قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [سورة الإسراء، الآيتان، 56-57]. فكل من دعا نبياً، أو ولياً، أو صالحاً وجعل فيه نوعاً من الإلهيّة فقد تناولته هذه الآية، فإنها عامة في كل من دعا من دون الله مدعوّاً وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتاً، أو غائباً: من الأنبياء، والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة، أو غيرها فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من العبادة مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أعني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليُعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر.
__________
(1) انظر: تعريف البدعة لغة واصطلاحاً، ص 27 من هذا الكتاب.(18/45)
النوع الثاني: أن يسأل الله تعالى بالميت، وهو من البدع المحدثة في الإسلام وهذا ليس كالذي قبله فإنه لا يصل إلى الشرك الأكبر. والعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين كقول أحدهم: أتوسل إليك بنبيك، أو بأنبيائك، أو بملائكتك، أو بالصالحين من عبادك، أو بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، وهذه الأمور من البدع المحدثة المنكرة والذي جاءت به السنة هو التوسل والتوجه بأسماء الله تعالى، وصفاته، وبالأعمال الصالحة كما ثبت في الصحيحين في قصة الثلاثة (أصحاب الغار)، وبدعاء المسلم الحي الحاضر لأخيه المسلم.(18/46)
النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عند القبور مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد القبر لذلك فإن هذا من المنكرات إجماعاً ولم نعلم في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين وهذا أمر لم يشرعه الله، ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين ولا أئمة المسلمين وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أجدبوا مرات ودهمتهم نوائب ولم يجيئوا عند قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بل خرج عمر بالعباس فاستسقى بدعائه وقد كان السلف ينهون عن الدعاء عند القبور فقد رأى علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فيدخل فيها فيدعو فيها فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: ”لا تجعلوا قبري عيداً ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا عليَّ وسلموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم“(1)، ووجه الدلالة أن قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيداً فغيره أولى بالنهي كائناً ما كان(2)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم“(3).
- المطلب الثامن: البدع المنتشرة المعاصرة:
البدع المنتشرة المعاصرة كثيرة جداً، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
__________
(1) رواه إسماعيل القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم ص34، وصححه الألباني في نفس المرجع وله طرق وروايات ذكرها في كتابه تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، ص140.
(2) انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم 6/165-174.
(3) رواه أبو داود، واللفظ له، في كتاب المناسك، باب زيارة القبور، 2/218، برقم 2042، وأحمد، 2/367، وحسنه الشيخ الألباني في كتابه: تحذير الساجد، ص142.(18/47)
أولاً: بدعة الاحتفال بالمولد النبوي:
الاحتفال بالمولد بدعة منكرة، وأول من أحدثها العبيديون في القرن الرابع الهجري، وقد بيّن العلماء قديماً وحديثاً بطلان هذه البدعة والرد على من ابتدعها وعمل بها، فلا يجوز الاحتفال بالمولد، لأمور وبراهين منها:
أولاً: الاحتفال بالمولد من البدع المحدثة في الدين التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يشرعه لا بقوله، ولا فعله، ولا تقريره، وهو قدوتنا وإمامنا، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد“(1).
ثانياً: الخلفاء الراشدون ومن معهم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يحتفلوا بالمولد، ولم يدعوا إلى الاحتفال به، وهم خير الأمة بعد نبيها، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في حق الخلفاء الراشدين: ”عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة“(2).
__________
(1) متفق عليه: البخاري، برقم 2697، ومسلم، برقم 1718، وتقدم تخريجه ص33.
(2) أبو داود، برقم 4607، والترمذي، برقم 2676، وتقدم تخريجه ص42.(18/48)
ثالثاً: الاحتفال بالمولد من سنة أهل الزيغ والضلال؛ فإن أول من أحدث الاحتفال بالمولد الفاطميون، العبيديون في القرن الرابع الهجري، وقد انتسبوا إلى فاطمة رضي الله عنها ظلماً وزوراً، وبهتاناً؛ وهم في الحقيقة من اليهود، وقيل من المجوس، وقيل من الملاحدة(1)، وأولهم المعز لدين الله العبيدي المغربي الذي خرج من المغرب إلى مصر في شوال سنة 361هـ، وقدم إلى مصر في رمضان سنة 362هـ(2)، فهل لعاقل مسلم أن يقلد الرافضة ويتبع سنتهم ويخالف هدي نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم؟.
__________
(1) انظر: الإبداع في مضار الابتداع، للشيخ علي محفوظ، ص251، والتبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع، ص359-373، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، للدكتور صالح السحيمي، ص232.
(2) انظر: البداية والنهاية: لابن كثير، 11/272-273، 345، 12/267-268، و 6/232، 12/63، 11/161، 12/13، 12/266، وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 15/159–215، وذكر أن آخر ملوك العبيدية: العاضد لدين الله، قتله صلاح الدين الأيوبي سنة 564هـ، قال: "تلاشى أمر العاضد مع صلاح الدين إلى أن خلعه وخطب لبني العباس واستأصل شأفة بني عبيد ومحق دولة الرفض، وكانوا أربعة عشر متخلفاً لا خليفة، والعاضد في اللغة: القاطع، فكان هذا عاضداً لدولة أهل بيته، 15/212.(18/49)
رابعاً: إن الله عز وجل قد كمل الدين فقال سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة، ومعلوم أن نبينا صلّى الله عليه وسلّم هو أفضل الأنبياء، وخاتمهم، وأكملهم بلاغاً، ونصحاً لعباد الله، فلو كان الاحتفال بالمولد من الدين الذي يرضاه الله عز وجل لبيَّنه صلّى الله عليه وسلّم لأمته، أو فعله في حياته، قال صلّى الله عليه وسلّم: ”ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم“(1).
خامساً: إحداث مثل هذه الموالد البدعية يفهم منه أن الله تعالى لم يكمل الدين لهذه الأمة، فلا بد من تشريع ما يكمل به الدين! ويفهم منه أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يبلغ ما ينبغي للأمة حتى جاء هؤلاء المبتدعون المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به سبحانه، زاعمين أن ذلك يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على الله عز وجل، وعلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم. والله عز وجل قد أكمل الدين وأتم على عباده نعمته.
سادساً: صرح علماء الإسلام المحققون بإنكار الموالد، والتحذير منها عملاً بالنصوص من الكتاب والسنة، التي تحذر من البدع في الدين، وتأمر بإتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتحذر من مخالفته في القول وفي الفعل والعمل.
__________
(1) مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء: الأول فالأول، 2/1473، برقم 1844.(18/50)
سابعاً: إن الاحتفال بالمولد لا يحقق محبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإنما يحقق ذلك: اتباعه، والعمل بسنته، وطاعته صلّى الله عليه وسلّم، قال الله عز وجل: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].
ثامناً: الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً فيه تشبه باليهود والنصارى في أعيادهم، وقد نُهينا عن التشبه بهم، وتقليدهم(1).
تاسعاً: العاقل لا يغتر بكثرة من يحتفل بالمولد من الناس في سائر البلدان، فإن الحق لا يعرف بكثرة العاملين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقال عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال سبحانه: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
__________
(1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، 2/614-615، وزاد المعاد، لابن القيم، 1/95.(18/51)
عاشراً: القاعدة الشرعية: رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، وقال عز وجل: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10]، ولا شك أن من رد الاحتفال بالمولد إلى الله ورسوله يجد أن الله يأمر بإتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم كما قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، ويبين سبحانه وتعالى أنه قد أكمل الدين وأتم النعمة على المؤمنين. ويجد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر بالاحتفال بالمولد، ولم يفعله، ولم يفعله أصحابه، فعلم بذلك أن الاحتفال بالمولد ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة.
الحادي عشر: إن المشروع للمسلم يوم الاثنين أن يصوم إذا أحب، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: ”ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت، أو أنزل عليَّ فيه“(1)، فالمشرع التأسي بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في صيام يوم الإثنين، وعدم الاحتفال بالمولد.
الثاني عشر: عيد المولد النبوي لا يخلو من وقوع المنكرات والمفاسد غالباً، ويعرف ذلك من شاهد هذا الاحتفال ومن هذه المنكرات على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:
__________
(1) صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة وعاشوراء، والإثنين والخميس، 2/819، برقم 1162.(18/52)
1- أكثر القصائد والمدائح التي يتغنَّى بها أهل المولد لا تخلو من ألفاظ شركية، والغلو والإطراء الذي نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ”لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله“(1).
2- يحصل في الاحتفالات بالموالد في الغالب بعض المحرمات الأخرى: كاختلاط الرجال بالنساء، واستعمال الأغاني والمعازف، وشرب المسكرات والمخدرات، وقد يحصل فيها الشرك الأكبر كالاستغاثة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو غيره من الأولياء، والاستهانة بكتاب الله عز وجل فيشرب الدخان في مجلس القرآن، ويحصل الإسراف والتبذير في الأموال، وإقامة حلقات الذكر المحرف في المساجد أيام الموالد مع ارتفاع أصوات المنشدين مع التصفيق القوي من رئيس الذاكرين، وكل ذلك غير مشروع بإجماع علماء أهل الحق(2).
__________
(1) البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ...} 4/171، برقم 3445.
(2) انظر: الإبداع في مضار الابتداع، للشيخ علي محفوظ، ص 251-257.(18/53)
3- يحصل عمل قبيح في الاحتفال بمولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك يكون بقيام البعض عند ذكر ولادته صلّى الله عليه وسلّم إكراماً له وتعظيماً، لاعتقادهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحضر المولد في مجلس احتفالهم؛ ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلا عليين عند ربه في دار الكرامة(1)، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15-16]، وقال عليه الصلاة والسلام: ”أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع“(2)، فهذه الآية، والحديث الشريف وما جاء في هذا المعنى من الآيات والأحاديث كلها تدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة. قال سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله: "وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين، ليس فيه نزاع بينهم"(3).
ثانياً: بدعة الاحتفال بأول ليلة جمعة من شهر رجب:
__________
(1) انظر: التحذير من البدع، لسماحة العلامة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، ص13.
(2) مسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم على جميع الخلائق، 4/1782، برقم 2278.
(3) التحذير من البدع، ص14، وص7-14، وانظر: الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ ص250-258، والتبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع، ص358-373، وتنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، ص228-250.(18/54)
الاحتفال بأول ليلة جمعة من شهر رجب بدعة منكرة، فقد ذكر الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: أنه أخبره أبو محمد المقدسي فقال: "وأما صلاة رجب فلم تحدث عندنا في بيت المقدس إلا بعد سنة ثمانين وأربعمائة [480هـ] وما كنا رأيناها ولا سمعنا بها قبل ذلك"(1)، وقال الإمام أبو شامة رحمه الله: "وأما صلاة الرغائب فالمشهور بين الناس اليوم أنها هي التي تصلى بين العشائين ليلة أول جمعة من شهر رجب"(2)، وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة، تختص به، والأحاديث المروية في صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذبٌ وباطل لا تصح، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء"(3)، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معيَّن، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه، حديث صحيح يصلح للحجة"(4)، ثم بيّن رحمه الله أن الأحاديث الواردة في فضل رجب أو فضل صيامه أو صيام شيء منه على قسمين: ضعيفة، وموضوعة(5)، ثم ذكر حديث صلاة الرغائب، وفيه: أنه يصوم أول خميس من رجب ثم يصلي بين العشائين ليلة الجمعة اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة، و{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ثلاث مرات، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} اثنتي عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، ثم ذكر كلاماً طويلاً في صفة التسبيح والاستغفار، والسجود، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم بيّن بأن هذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبيّن أن من يصلِّيها يحتاج إلى أن يصوم،
__________
(1) الحوادث والبدع، لأبي بكر الطرطوشي، ص267، برقم 238.
(2) كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، للإمام أبي شامة، ص138.
(3) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، ص228.
(4) تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، ص23.
(5) انظر: تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، ص23.(18/55)
وربما كان النهار شديد الحر، فإذا صام لم يتمكن من الأكل حتى يصلي المغرب، ثم يقف في صلاته، ويقع في ذلك التسبيح الطويل، والسجود الطويل، فيتأذى غاية الأذى، وقال: "وإني لأغار لرمضان ولصلاة التراويح كيف زوحم بهذه، بل هذه عند العوام أعظم وأجل؛ فإنه يحضرها من لا يحضر الجماعات"(1)، وقال الإمام ابن الصلاح رحمه الله، في صلاة الرغائب: "حديثها موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي بدعة حدثت بعد أربعمائة من الهجرة"(2)، وأفتى الإمام العز بن عبد السلام سنة سبع وثلاثين وستمائة [637هـ] أن صلاة الرغائب بدعة منكرة، وأن حديثها كذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم"(3).
وأختم كلام الأئمة بتلخيص لكلام الإمام أبي شامة في بطلان صلاة الرغائب ومفاسدها، فقد بيَّن رحمه الله ذلك على النحو الآتي:
1- مما يدل على ابتداع هذه الصلاة أن العلماء الذين هم أعلام الدين وأئمة المسلمين: من الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، وغيرهم ممّن دوَّن الكتب في الشريعة مع شدة حرصهم على تعليم الناس الفرائض والسنن لم ينقل عن واحد منهم أنه ذكر هذه الصلاة، ولا دوّنها في كتابه، ولا تعرض لها في مجلسه، والعادة تحيل أن تكون هذه سنة وتغيب عن هؤلاء الأعلام.
2- هذه الصلاة مخالفة للشرع من وجوهٍ ثلاثة:
__________
(1) انظر: تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، ص54.
(2) كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، للإمام أبي شامة، ص145.
(3) كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، للإمام أبي شامة، ص 149.(18/56)
الوجه الأول: مخالفة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم“(1)، فلا يجوز أن تخص ليلة الجمعة بصلاة زائدة على سائر الليالي لهذا الحديث(2)، وهذا يعم أول ليلة جمعة من رجب وغيرها.
الوجه الثاني: صلاة رجب وشعبان صلاتا بدعة قد كُذِبَ فيهما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بوضع ما ليس من حديثه، وكُذِبَ على الله بالتقدير عليه في جزاء الأعمال ما لم يُنَزِّل به سلطاناً، فمن الغيرة لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم تعطيل ما كُذِبَ فيه على الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وهجره واستقباحه، وتنفير الناس عنه؛ فإنه يلزم من الموافقة على ذلك مفاسد هي:
المفسدة الأولى: اعتماد العوام على ما جاء في فضلها وتكفيرها فيحمل كثيراً منهم على أمرين:
أحدهما: التفريط في الفرائض.
والثاني: الانهماك في المعاصي، وينتظرون مجيء هذه الليلة ويصلون هذه الصلاة فيرون ما فعلوه مجزئاً عما تركوه وماحياً ما ارتكبوه، فعاد ما ظنه واضع الحديث في صلاة الرغائب حاملاً على مزيد الطاعات: مكثراً من مزيد ارتكاب المعاصي والمنكرات .
المفسدة الثانية: إن فعل البدع مما يغري المبتدعين في إضلال الناس إذا رأوا رواج ما وضعوه وانهماك الناس عليه، فينقلونهم من بدعة إلى بدعة، أما ترك البدع ففيه زجر للمبتدعين والواضعين عن وضع البدع.
__________
(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة، 2/303، برقم 1985، ومسلم، كتاب الصيام، باب كراهة صوم يوم الجمعة منفرداً، 2/801، برقم 1144.
(2) انظر: كتاب الباعث على إنكار البدع، لأبي شامة، ص 156.(18/57)
المفسدة الثالثة: إن الرجل العالم إذا فعل هذه البدعة كان موهماً للعامة أنها من السنن فيكون كاذباً على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلسان الحال، ولسان الحال قد يقوم مقام لسان المقال، وأكثر ما أُوتي الناس في البدع بهذا السبب.
المفسدة الرابعة: إن العالم إذا صلى هذه الصلاة المبتدعة كان متسبباً إلى أن تكذب العامة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقولون هذه سنة من السنن.
الوجه الثالث: إن هذه الصلاة البدعية مشتملة على مخالفة سنن الشرع في الصلاة لأمور:
الأمر الأول: مخالفة لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة بسبب عدد السجدات، وعدد التسبيحات، وعدد قراءة سورتي: "القدر" و"الإخلاص" في كل ركعة.
الأمر الثاني: مخالفة لسنة خشوع القلب وخضوعه وحضوره في الصلاة، وتفريغه لله، والوقوف على معاني القرآن.
الأمر الثالث: مخالفة لسنة النوافل في البيوت، لأن فعلها في البيوت أولى من فعلها في المساجد، وفعلها على الانفراد، إلا صلاة التراويح في رمضان.
الأمر الرابع: إن من كمال هذه الصلاة البدعية عند واضعيها صيام يوم الخميس ذلك اليوم، فيلزم بذلك تعطيل سنتين: سنة الإفطار، وسنة تفريغ القلب من ألم الجوع والعطش.
الأمر الخامس: إن سجدتي هذه الصلاة بعد الفراغ منها سجدتان لا سبب لهما(1).
وكل ما تقدم من الأدلة، وأقوال الأئمة، وأوجه البطلان، وأقسام المفاسد يبين للعاقل أن صلاة الرغائب بدعة منكرة قبيحة، محدثة في الإسلام.
ثالثاً: بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج:
__________
(1) انظر: كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، لأبي شامة، ص 153-196، وهذه المفاسد، وأوجه البطلان تشمل صلاة الرغائب في أول جمعة من رجب، وليلة النصف من شعبان، كما صرح بذلك أبو شامة في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص174.(18/58)
ليلة الإسراء والمعراج من آيات الله عز وجل العظيمة الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعظم منزلته عند الله، وعلى عظم قدرة الله الباهرة، وعلى علوِّه عز وجل على جميع خلقه، قال عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الإسراء: 1].
وتواتر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنه عرج به إلى السماء، وفتحت له أبوابها، حتى جاوز السماء السابعة، فكلمه ربه عز وجل كما أراد سبحانه وتعالى، وفرض عليه الصلوات الخمس، وكان الله عز وجل فرضها خمسين صلاة، فلم يزل نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم يراجع ربه ويسأله التخفيف حتى جعلها خمساً في الفرض وخمسين صلاة في الأجر؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها، فلله الحمد والشكر على جميع نعمه التي لا تعد ولا تحصى(1).
وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء لا يحتفل بها ولا تخص بشيء من أنواع العبادة التي لم تشرع، لأمور منها:
__________
(1) انظر: التحذير من البدع، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، ص16.(18/59)
أولاً: هذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ خبر صحيح في تحديدها ولا تعيينها لا في رجب ولا في غيره، فقيل: إنها كانت بعد مبعثه صلّى الله عليه وسلّم بخمسة عشر شهراً، وقيل: ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة، وقيل: كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين(1) وقيل: ليلة سبعة وعشرين من شهر ربيع الأول(2)، وقال الإمام أبو شامة رحمه الله: "وذكر عن بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب، وذلك عند أهل التعديل والتخريج عين الكذب"(3)، وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن ليلة الإسراء لا يعرف أي ليلة كانت(4).
قال العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله: "وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها لا في رجب ولا في غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عند أهل العلم بالحديث ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها"(5)، ولو ثبت تعيينها لم يجز أن تخص بشي من أنواع العبادة بدون دليل(6).
__________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2/267-268.
(2) انظر: كتاب الحوادث والبدع، لأبي شامة، ص232.
(3) كتاب الحوادث والبدع، لأبي شامة، ص232، وانظر: تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، لابن حجر، ص 9، 19، 52، 64، 65.
(4) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، 1/58.
(5) التحذير من البدع، ص17.
(6) التحذير من البدع، ص17.(18/60)
ثانياً: لا يعرف عن أحد من المسلمين: أهل العلم والإيمان أنه جعل ليلة الإسراء فضيلة عن غيرها؛ ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، والتابعين وأتباعهم بإحسان لم يحتفلوا بها ولم يخصوها بشيء من العبادة، ولم يذكروها، ولو كان الاحتفال بها أمراً مشروعاً؛ لبيّنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للأمة: إما بالقول وإما بالفعل، ولو وقع أمر من ذلك؛ لعرف واشتهر، ونقله الصحابة رضي الله عنهم إلينا(1).
ثالثاً: قد أكمل الله لهذه الأمة دينها، وأتم النعمة، قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال سبحانه وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21].
رابعاً: حذر النبي صلّى الله عليه وسلّم من البدع، وصرح بأن كل بدعة ضلالة، وأنها مردودة على صحابها، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد“(2)، وفي رواية لمسلم: ”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد“(3)، وحذر السلف الصالح من البدع؛ لأنها زيادة في الدين وشرعٌ لم يأذن به الله، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتشبه بأعداء الله: من اليهود والنصارى في زياداتهم في دينهم(4).
رابعاً: الاحتفال بليلة النصف من شعبان:
__________
(1) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/58، والتحذير من البدع، للعلامة ابن باز، ص17.
(2) البخاري 3/222، برقم 2697، ومسلم، 3/344، برقم 1718، وتقدم ص33.
(3) مسلم، 3/344، برقم 1718، وتقدم تخريجه.
(4) انظر: التحذير من البدع، لابن باز، ص19.(18/61)
أخرج الإمام محمد بن وضاح القرطبي بإسناده عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال: لم أدرك أحداً من مشيختنا، ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولم ندرك أحداً منهم يذكر حديث مكحول(1) ولا يرى لها فضلاً على ما سواها من الليلالي"(2).
__________
(1) يعني بحديث مكحول ما أخرجه ابن أبي عاصم في السنة برقم 512، وابن حبان برقم 5665 [ 12/481]، والطبراني في الكبير 20/109، برقم 215، وأبو نعيم في الحلية، 5/191، والبيهقي في شعب الإيمان، 5/272 برقم 6628، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه يرفعه: "يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشركٍ أو مشاحن"، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: حديث صحيح روي عن جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضاً، وهم: معاذ بن جبل، وأبو ثعلبة الخشني، وعبد الله بن عمرو، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وأبي بكر الصديق، وعوف بن مالك، وعائشة رضي الله عنهم، ثم خرج هذه الطرق الثمانية، وتكلم على رجالها في أربع صفحات. قلت: فإن صح هذا الحديث في فضل ليلة النصف من شعبان كما يقول الألباني حفظه الله فليس فيه ما يدل على تخصيص ليلتها بقيام ولا يومها بصيام، إلا ما كان يعتاده المسلم من العبادات المشروعة في أيام السّنَة، لأن العبادات توقيفية.
(2) كتاب فيه ما جاء في البدع، للإمام ابن وضاح، المتوفى سنة 287هـ ص100، برقم 119.(18/62)
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: "وأخبرني أبو محمد المقدسي، قال: "لم تكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة [448هـ]، قَدِمَ علينا في بيت المقدس رجل من أهل نابلس يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان فأحرم خلفه رجل ثم انضاف إليهم ثالث، ورابع، فما ختمها إلا وهم في جماعة كبيرة، ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير، ثم جاء من العام القابل فصلى معه خلق كثير، وشاعت في المسجد، وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى وبيوت الناس، ومنازلهم ثم استقرت كأنها سنة إلى يومنا هذا"(1).
وأخرج الإمام ابن وضاح بسنده أن ابن أبي ملكية قيل له إن زياداً النميري يقول إن ليلة النصف من شعبان أجرها كأجر ليلة القدر فقال ابن أبي ملكية: لو سمعته منه وبيدي عصاً لضربته بها، وكان زيادُ قاضياً"(2).
__________
(1) كتاب الحوادث والبدع، للطرطوشي، المتوفى سنة 474هـ، ص266، برقم 238.
(2) كتاب فيه ما جاء في البدع، لابن وضاح، ص101، برقم 120، ورواه الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع عن ابن وضاح، ص263، برقم 235.(18/63)
وقال الإمام أبو شامة الشافعي رحمه الله: "وأما الألفية فصلاة النصف من شعبان سميت بذلك لأنها يقرأ فيها ألف مرة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لأنها مائة ركعة, في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة, وسورة الإخلاص عشر مرات. وهي صلاة طويلة مستثقلة لم يأتِ فيها خبر, ولا أثر, إلا ضعيف أو موضوع, وللعلوم بها افتتان عظيم, والتزم بسببها كثرة الوقيد في جميع مساجد البلاد, التي تصلَّى فيها ويستمر ذلك الليل كله, ويجري فيه الفسوق والعصيان, واختلاط الرجال بالنساء, ومن الفتن المختلفة ما شهرته تُغني عن وصفه, وللمتعبدين من العوامِّ فيها اعتقاد متين, وزيّن لهم الشيطان جَعْلَها من أصل شعائر المسلمين"(1).
وقال الحافظ بن رجب رحمه الله بعد كلام نفيس: "وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام: كخالد بن معدان, ومكحول, ولقمان ابن عامر, وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها العبادة, وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها, وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثارٌ إسرائيلية, فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف تعظيمها، فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عبّاد أهل البصرة، وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم: عطاء، وابن أبي مليكه، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة، واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:
إحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، كان خالد بن معدان، ولقمان بن عامر، وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم، ويتبخرون، ويكتحلون، ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد ليس ذلك ببدعة، نقله عنه حرب الكرماني في مسائله.
__________
(1) كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، لعبد الرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة، المتوفى سنة 665هـ، ص124.(18/64)
والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص، والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي، إمام أهل الشام، وفقيههم، وعالمهم، وهذا الأقرب إن شاء الله تعالى..."، ثم قال: "ولا يعرف للإمام أحمد كلامٌ في ليلة نصف شعبان، ويخرَّج في استحباب قيامها عنه روايتان، من الروايتين عنه في قيام ليلة العيد؛ فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة؛ لأنه لم يُنقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، واستحبها في رواية؛ لفعل عبد الرحمن بن زيد بن الأسود لذلك، وهو من التابعين، فكذلك قيام ليلة النصف من شعبان، لم يثبت فيها شيء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا عن أصحابه، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام"(1).
قال الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله: "وأما ما اختاره الأوزاعي رحمه الله من استحباب قيامها للأفراد، واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول فهو غريب وضعيف؛ لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعاً لم يجزْ للمسلم أن يحدثه في دين الله، سواء فعله مفرداً أو جماعة، وسواء أسره أو أعلنه، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد“(2)، وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها"(3)، فمما تقدم من كلام الإمام ابن وضاح، والإمام الطرطوشي، والإمام عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة، والحافظ ابن رجب رحمهم الله، وإمام هذا الزمان عبد العزيز ابن باز حفظه الله، يتضح أن تخصيص ليلة النصف من شعبان بصلاة أو غيرها من العبادة غير المشروعة بدعة لا أصل له من كتاب، ولا سنة، ولا عمله أحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
خامساً: التبرك:
__________
(1) لطائف المعارف، لابن رجب، ص263.
(2) مسلم، 3/344، برقم 1718، وتقدم تخريجه ص33.
(3) التحذير من البدع، ص26.(18/65)
التّبرُّك: هو طلب البركة، والتبرك بالشيء: طلب البركة بواسطته(1).
ولا شك أن الخير والبركة بيد الله عز وجل، وقد اختص الله عز وجل بعض خلقه بما شاء من الفضل والبركة، وأصل البركة: الثبوت واللزوم، وتطلق على النماء والزيادة، والتبريك: الدعاء، يقال: برَّك عليه: أي دعا له بالبركة، ويقال: بارك الله الشيءَ وبارك فيه أو بارك عليه: أي وضع فيه البركة، وتبارك لا يوصف به إلا الله تبارك وتعالى، فلا يقال: تبارك فلان؛ لأن المعنى عَظُمَ وهذه صفة لا تنبغي إلا الله عز وجل، واليُمْنُ: هو البركة: فالبركة واليُمن لفظان مترادفان، وقد ظهر من معاني ألفاظ القرآن الكريم أن المقصود بالبركة عدة أمور، منها:
1- ثبوت الخير ودوامه.
2- كثرة الخير وزيادته واستمراره شيئاً بعد شيء.
3- وتبارك لا يوصف بها إلا الله، ولا تسند إلا إليه، وذكر ابن القيم رحمه الله أن تباركه سبحانه وتعالى: دوام جوده، وكثرة خيره، ومجده وعلوِّه، وعظمته وتقدسه، ومجيء الخيرات كلها من عنده، وتبريكه على من شاء من خلقه، وهذا هو المعهود من ألفاظ القرآن أنها تكون دالة على جملة معان(2).
والأمور المباركة أنواع منها:
1- القرآن الكريم مبارك: أي كثير البركات والخيرات؛ لأن فيه خير الدنيا والآخرة، وطلب البركة من القرآن يكون بتلاوته حق تلاوته والعمل بما فيه على الوجه الذي يرضي الله عز وجل.
2- الرسول صلّى الله عليه وسلّم مبارك، جعل الله فيه البركة، وهذه البركة نوعان:
__________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، باب الباء مع الراء، مادة "برك"، 1/120، والتبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص30.
(2) انظر: جلاء الإفهام ص180، وتيسير الكريم الرحمن في تفسيره كلام المنان، للسعدي، 3/39.(18/66)
( أ ) بركة معنوية: وهي ما يحصل من بركات رسالته في الدنيا والآخرة، لأن الله أرسله رحمة للعالمين، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور, وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وختم به الرسل، ودينه يحمل اليسر والسماحة.
(ب) بركة حسّيّة، وهي على نوعين:
النوع الأول: بركة في أفعاله صلّى الله عليه وسلّم، وهي ما أكرمه الله به من المعجزات الباهرة الدالة على صدقه.
النوع الثاني: بركة في ذاته وآثاره الحسية: وهي ما جعل الله له صلّى الله عليه وسلّم من البركة في ذاته؛ ولهذا تبرك به الصحابة في حياته، وبما بقي له من آثار جسده بعد وفاته(1).
والتبرك بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في حياته لا يقاس عليه أحد من خلق الله عز وجل؛ لما جعل الله فيه من البركة، ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد جعل الله فيهم البركة، وكذا الملائكة، والصالحين، ولكن لا يتبرك بهم لعدم الدليل، وكذلك بعض الأماكن مباركة: كالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ثم سائر المساجد، وقد جعل الله في بعض الأزمنة بركة: كرمضان، وليلة القدر، وعشر ذي الحجة، والأشهر الحرم، ويوم الإثنين والخميس، والجمعة، ووقت النزول الإلهي في الثلث الآخر من الليل، وغير ذلك من الأزمنة المباركة، التي لا يتبرك بها المسلم وإنما يطلب البركة من الله عز وجل بقيامه بالأعمال الصالحة المشروعة فيها(2).
3- هناك أشياء مباركة: كما زمزم، وكالمطر؛ لأن من بركاته: شرب الناس منه والأنعام والدواب، وإنبات الثمار والأشجار وشجرة الزيتون مباركة، واللبن مبارك، والخيل مباركة، والغنم مباركة، والنخيل مباركة(3).
والتبرك المشروع يكون بأمور، منها ما يأتي:
__________
(1) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص21-96.
(2) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص70-182.
(3) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص 183-197.(18/67)
1- التبرك بذكر الله وتلاوة القرآن الكريم، ويكون ذلك على الوجه المشروع، وهو طلب البركة من الله عز وجل بذكر القلب، واللسان، والعمل بالقرآن والسنة على الوجه المشروع؛ لأن من بركات ذلك اطمئنان القلب، وقوة القلب على الطاعة، والشفاء من الآفات، والسعادة في الدنيا والآخرة، ومغفرة الذنوب، ونزول السكينة، وأن القرآن يكون شفيعاً لأصحابه يوم القيامة، ولا يتبرك بالمصحف كوضعه في البيت أو في السيارة وإنما التبرك يكون بالتلاوة والعمل به(1).
__________
(1) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع، ص 201-241.(18/68)
2- التبرك المشروع بذات النبي صلّى الله عليه وسلّم في حياته؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مبارك في ذاته وما اتصل بذاته؛ ولهذا تبرك الصحابة رضي الله عنهم بذاته صلّى الله عليه وسلّم، ومن ذلك، ما ثبت عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك"(1)، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: ”خذ“ وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس"، وفي رواية: ”ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر“(2)، فقال: ”احلق“ فحلقه، فأعطاه أبا طلحة فقال: ”أقسمه بين الناس“(3)، وكان الصحابة يتبركون بثياب النبي صلّى الله عليه وسلّم ومواضع أصابعه، وبماء وضوئه، وبفضل شربه، وهو كثير(4)، ويتبركون بالأشياء المنفصلة منه: كالشعر، والأشياء التي استعملها وبقيت بعده: كالثياب، والآنية، والنعل، وغير ذلك مما اتصل بجسده صلّى الله عليه وسلّم(5).
__________
(1) البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، 4/200، برقم 3553.
(2) أي: ناول الحلاق.
(3) مسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق، والابتداء في الحلق بالجانب الأيمن من رأس المحلوق، 2/947، برقم 1305.
(4) انظر: التبرك، أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 248-250.
(5) انظر: التبرك، أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 252-260.(18/69)
ولا يقاس عليه غيره صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه لم يؤثر عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه أمر بالتبرك بغيره من الصحابة رضي الله عنهم أو غيرهم، ولم ينقل أن الصحابة رضي الله عنهم فعلوا ذلك مع غيره لا في حياته ولا بعد مماته، ولم يفعلوه مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا مع الخلفاء الراشدين المهديين، ولا مع العشرة المشهود لهم بالجنة، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه الصلاة والسلام، لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها"(1)، ولا شك أن الانتفاع بعلم العلماء، والاستماع إلى وعظهم، ودعائهم، والحصول على فضل مجال الذكر معهم فيها من الخير والبركة والنفع الشيء العظيم، ولكن لا يتبرك بذواتهم وإنما يعمل بعلمهم الصحيح، ويقتدى بأهل السنة منهم(2).
__________
(1) الاعتصام للشاطبي، 2/8، 9، ونظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 261-269.
(2) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 269-278.(18/70)
3- التبرك بشرب ماء زمزم؛ لأنه أفضل مياه الأرض، ويُشبع من شربه ويكفيه عن الطعام، ويُستشفى بشربه مع النية الصالحة من الأسقام؛ لأنه لما شرب له؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في ماء زمزم: ”إنها مباركة، إنها طعام طعم [وشفاء سقيم]“(1)، وعن جابر رضي الله عنه يرفعه: ”ماء زمزم لما شرب له“(2)، ويذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم "كان يحمل ماء زمزم في الأداوي والقرب، فكان يصب على المرضى ويسقيهم"(3).
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه، 4/1922، برقم 2473، وما بين المعكوفين عند البزار، والبيهقي، والطبراني، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رجاله ثقات"، 3/286.
(2) أخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الشرب من زمزم، 2/1018، برقم 3062، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/183، وإرواء الغليل، 4/320.
(3) الترمذي بنحوه، عن عائشة رضي الله عنها، كتاب الحج، باب: حدثنا أبو كريب، 3/286، برقم 963، والبيهقي، 5/202، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/284، والأحاديث الصحيحة، 2/572.(18/71)
4- التبرك بماء المطر، لا شك أن المطر مبارك لما جعل الله فيه من البركة: من شرب الناس منه، والأنعام، والدواب، وإنبات الأشجار، والثمار، وأحيى به الله كل شيء، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من حديث أنس رضي الله عنه، قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطر. قال: فحسر(1) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: ”لأنه حديث عهد بربه“(2)، قال الإمام النووي رحمه الله: "ومعنى حديث عهد بربه: أي بتكوين ربه إياه، ومعناه أن المطر رحمة وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها، فيتبرك بها"(3).
والتبرك الممنوع منه ما يأتي:
1- التبرك بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته ممنوع إلا في أمرين:
الأمر الأول: الإيمان به وطاعته وإتباعه، فمن فعل ذلك حصل له الخير الكثير والأجر العظيم والسعادة في الدنيا والآخرة.
الأمر الثاني: التبرك بما بقي من أشياء منفصلة عنه صلّى الله عليه وسلّم: كثيابه، أو شعره، أو آنيته، وقد تقدم بيان ذلك.
__________
(1) أي: كشف بعض بدنه. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/448.
(2) أخرج مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، 2/615، برقم 898.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، 6/448.(18/72)
وما عدا ذلك من التبرك فلا يشرع، فلا يترك بقبره، ولا تشد الرحال لزيارة قبره، وإنما تشد الرحال لزيارة أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي، وإنما تستحب الزيارة لقبره لمن كان في المدينة، أو زار المسجد ثم زار قبره، وصفة الزيارة: إذا دخل المسجد صلى تحية المسجد، ثم يذهب إلى القبر ويقف بأدب مستقبلاً الحجرة فيقول بأدب وخفض صوت: "السلام عليك يا رسول الله" وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يزيد على ذلك، وإن زاد "السلام عليك يا رسول الله، يا خيرة الله من خلقه، أشهد أنك رسول الله حقاً، وأنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، وجاهدت في الله حق جهاده، ونصحت الأمة" فلا بأس بذلك لأن ذلك من صفاته(1)، ولا يدعو عند القبر؛ لظنه أن الداء عنده مستجاب، ولا يطلب منه الشفاعة، ولا يتمسح بالقبر ولا يقبله ولا شيء من جدرانه، ولا يتبرك بالمواضع التي جلس فيها أو صلى فيها، ولا بالطرق التي سار عليها، ولا بالمكان الذي أنزل عليه فيه الوحي، ولا بمكان ولادته، ولا بليلة موله، ولا بالليلة التي أسري به فيها، ولا بذكرى الهجرة، ولا غير ذلك مما لم يشرعه الله ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم(2).
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن باز في الحج والعمرة، 5/289.
(2) انظر: التبر: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 315-380.(18/73)
2- من التبرك الممنوع: التبرك بالصالحين، فلا يتبرك بذواتهم، ولا آثارهم، ولا مواضع عباداتهم، ولا مكان إقامتهم، و بقبورهم، ولا تشد الرحال إلى زيارتها، ولا يصلى عندها، ولا تطلب الحوائج عند قبورهم، ولا يتمسح بها، ولا يعكف عندها، ولا يتبرك بمواليدهم، وغير ذلك ومن فعل شيئاً من ذلك تقرباً إليهم فقد أشرك بالله شركاً أكبر، إذا اعتقد أنهم يضرون أو ينفعون، أو يعطون أو يمنعون، أما من فعل ذلك يرجو البركة من الله بالتبرك بهم فقد ابتدع بدعة نكراء، وعمل عملاً قبيحاً(1).
3- من التبرك الممنوع: التبرك بالجبال والمواضع، لأن ذلك يخالف ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتبرك بذلك يسبب تعظيم هذه الجبال والمواضع، ولا يجوز القياس على تقبيل الحجر الأسود أو الطواف بالبيت، فإن ذلك عبادة لله عز وجل توقيفية، ولا يمسح غير الحجر الأسود والركن اليماني من الكعبة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يستلم من الأركان إلا الركنين، اليمانيين باتفاق العلماء(2)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ليس عل وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه وتحط الأوزار فيه غير الحجر الأسود والركن اليماني"(3).
__________
(1) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 381-418.
(2) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، 2/799.
(3) زاد المعاد في هدي خير العباد، 1/48.(18/74)
وقال رحمه الله عند كلامه على خصائص مكة: "ليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيها غيرها"(1)، وقال شيخ الإسلام في حكم الطواف بغير الكعبة: "وأما الطواف بذلك فهو من أعظم البدع المحرمة، ومن اتخذه ديناً يستتاب، فإن تاب وإلا قتل"(2)، ولا يجوز التمسح ولا تقبيل مقام إبراهيم ولا الحجر، ولا شيئاً من جدران المسجد، ولا يتبرك بجبل حراء، ويسمى جبل النور، ولا تشرع زيارته، ولا الصعود إليه ولا قصده للصلاة، ولا يتبرك بجبل ثور، ولا تشرع زيارته، ولا جبل عرفات، ولا جبل أبي قبيس، ولا جبل ثبير، ولا يتبرك بالدور: كدار الأرقم ولا غيرها، ولا تشرع زيارة جبل الطور، ولا تشد الرحال إليه، ولا يتبرك بالأشجار والأحجار ونحوها(3).
وأسباب التبرك الممنوع: الجهل بالدين، والغلو في الصالحين، والتشبه بالكفار، وتعظيم الآثار المكانية(4).
وآثار التبرك الممنوع كثيرة منها: الشرك الأكبر، وهو أعظم الآثار وأشدها خطراً، إذا كان الترك في حد ذاته شركاً، وإذا كان التبرك يؤدي إلى الشرك فيكون من وسائل الشرك الأكبر. ومن آثار التبرك الممنوع الابتداع في الدين، واقتراف المعاصي، والوقوع في أنواع الكذب، وتحريف النصوص وتحميلها ما لا تحمل، وإضاعة السنن، والتغرير بالجهال، وإضاعة الأجيال، كل هذه الأمور من آثار التبرك المحرم المذموم.
__________
(1) زاد المعاد، 1/48.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، 26/121.
(3) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص419-464.
(4) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 420-481.(18/75)
أما وسائل مقاومة التبرك الممنوع، فمنها: نشر العلم، والدعوة إلى منهج الحق، وإزالة وسائل الغلو ومظاهر التبرك، وتحطيم كل وسيلة من هذه الوسائل(1).
قال العلامة السعدي رمه الله في تعليقه على كتاب التوحيد: باب من تبرك بشجرة أو حجرة أو نحوهما: "أي فإن ذلك من الشرك ومن أعمال المشركين، فإن العلماء اتفقوا على أنه لا يشرع التبرك بشيء من الأشجار، والأحجار، والبقع، والمشاهد وغيرها؛ فإن هذا التبرك غلوٌّ فيها، وذلك يتدرج به إلى دعائها وعبادتها وهذا هو الشرك الأكبر كما تقدم انطباق الحديث عليه، وهذا عام في كل شيء حتى مقام إبراهيم، وحجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصخرة بيت المقدس، وغيرها من البقع الفاضلة.
وأما استلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني من الكعبة المشرفة فهذا عبودية لله وتعظيم لله، وخضوع لعظمته، فهو روح التّعبُّد. فهذا تعظيم للخالق وتَعبُّدٌ له، وذلك تعظيم للمخلوق، وتألُّه له. والفرق بين الأمرين كالفرق بين الدعاء لله الذي هو إخلاصٌ وتوحيدٌ، والدعاء للمخلوق الذي هو شرك وتنديد"(2).
سادساً: بدع منكرة مختلفة، كثيرة جداً:
منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:
__________
(1) انظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، ص 483-506، واقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، ص 795-802، وكتاب التوحيد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص 93.
(2) القول السديد في مقاصد التوحيد، ص51.(18/76)
1- الجهر بالني: كأن يقول المسلم: نويت أن أصلي لله كذا وكذا، أو نويت أن أصوم هذا اليوم فرضاً أو نفلاً لله تعالى، أو يقول نويت أن أتوضأ، أو نويت أن أغتسل، أو نحو ذلك، وهذا التلفظ بالنية بدعة؛ لأن ذلك ليس من هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ ولأن الله عز وجل يقول: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16]، والنية محلها القلب، فهي عمل قلبي لا عمل لساني، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "النية هي: قصد القلب ولا يجب التلفظ بما في القلب في شيء من العبادات"(1).
2- الذكر الجماعي بعد الصلوات؛ والمشروع أن يقول كل واحد الذكر الوارد منفرداً، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكر الله عز وجل أدبار الصلوات، وكما عمله الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم المطبقون لسنته عليه الصلاة والسلام، فلا شك أن الذكر الجماعي بدعة مخالف لهدي النبي صلّى الله عليه وسلّم.
3- طلب قراءة الفاتحة على أرواح الأموات، أو تقرأ على الأموات، أو قراءتها بعد الدعاء للأموات أو عند خطبة النكاح، كل ذلك من البدع المنكرة التي لم ترد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يفعلها الصحابة رضي الله عنهم، وهم أعلم الناس بأحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، فعلم بذلك أن هذا الفعل بدعة محدثة منكرة.
4- إقامة المآتم على الأموات وصناعة الأطعمة، واستئجار المقرئين لقراءة القرآن، يزعمون أن ذلك من باب العزاء، وأنه ينفع الميت، وكل ذلك من البدع، والأغلال التي ما أنزل الله بها من سلطان.
__________
(1) جامع العلوم والحكم، 1/92.(18/77)
5- الأذكار الصوفية بأنواعها التي تخالف هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم، سواء كانت المخالفة في الصيغة، والهيئة، أو الوقت، لقوله عليه الصلاة والسلام: ”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد“(1).
6- البناء على القبور: واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، ودفن الأموات فيها، والصلاة إلى القبور، وزيارتها لأجل التبرك بها، والتوسل بأصحابها أو غيرهم من الموتى، والتبرك بالصلاة عند قبورهم، أو الدعاء عندها، وزيارة النساء للقبور، واتخاذ السرج عليها كل ذلك من البدع المنكرة القبيحة(2).
صدق الله العظيم المطلب التاسع: توبة المبتدع:
__________
(1) مسلم، 3/344، برقم 1718، وتقدم تخريجه ص33.
(2) انظر: كتاب التوحيد، للعلامة الدكتور صالح الفوزان، ص94.(18/78)
لاشك أن البدعة أخطر من المعاصي؛ فإن المعاصي إذا اجتمعت على الإنسان وأصر عليها أهلكته، والبدعة أشد هلاكاً من المعاصي، كما قال سفيان الثوري رحمه الله: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها"(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومعنى قولهم: إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسناً فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه، وبأنه ترك حسناً مأمور به أمر إيجاب أو استحباب؛ ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسناً وهو سيء في نفس الأمر؛ فإنه لا يتوب"(2)، ثم قال: "ولكن التوبة ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين، وطوائف أهل البدع والضلال"(3)، وقال رحمه الله: ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقاً فقد غلط غلطاً منكراً"(4)، فقد فسر شيخ الإسلام حديث حجب التوبة عن صاحب البدعة بكلامه هذا تفسيراً واضحاً ولله الحمد، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إن الله حجب التوبة عن صاحب كل بدعة“(5)، وقد وضح المعنى لهذا الحديث في كلام ابن تيمية رحمه الله آنفاً، ولا شك أن النصوص يفسر بعضها بعضاً، والله عز وجل بيّن لعباده أنه يقبل توبة التائبين إذا
__________
(1) شرح السنة، للبغوي، 1/216.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 10/9.
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 10/9-10.
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 11/685.
(5) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، 8/62، برقم 4713 [مجمع البحرين في زوائد المعجمين. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله رجال الصحيح، غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة، 10/189، وصحح إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/154، برقم 1620، وذكر طرقه الأخرى.(18/79)
أقلعوا عن جرائمهم، وندموا وعزموا على أن لا يعودوا، وردوا الحقوق إلى أهلها إن وجدت فقال سبحانه بعد أن ذكر المشركين والقتلة، والزناة وتوعدهم بالإهانة: {إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 70]، وقال عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 110]، وهذه التوبة تعم من تاب من الملحدين والكافرين، والمشركين، والمبتدعين، وغيرهم ممن تاب من أهل المعاصي، إذا اكتملت شروط التوبة، ولله الحمد.
المطلب العاشر: آثار البدع وأضرارها
البدع لها آثار خطيرة، وعواقب وخيمة، وأضرار مهلكة، منها ما يأتي:(18/80)
1- البدع بريد الكفر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراعٍ“ فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ”ومن الناس إلا أولئك“(1)، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”لتتبعُنَّ سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراعٍ، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم“ قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ”فمن“(2).
2- القول على الله بغير علم؛ لأن الناظر في سير المبتدعة يجدهم أكثر الناس كذباً على الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقد حذر الله تعالى عن التّقوُّل عليه فقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44-46] وحذر النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الكذب عليه، وتوعد من فعل ذلك بالعذاب الشديد، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”من تعمد علي كذباً فليتبوأ مقعده من النار“(3).
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”لتتبعن سنن من كان قبلكم“، 8/191، برقم 7319.
(2) متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”لتتبعن سنن من كان قبلكم“، 8/191، برقم 7320، ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، 4/2054، برقم 2669.
(3) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه: البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلّى الله عليه وسلّم، 1/41، برقم 108، ومسلم في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، 1/7، برقم 2.(18/81)
3- بغض المبتدعة للسنة وأهلها، وهذا مما يدل على خطورة البدع، قال الإمام إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رحمه الله: "وعلامات أهل البدع ظاهرة على أهلها بادية، وأظهر آياتهم وعلاماتهم: شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم، واحتقارهم لهم"(1).
4- رد عمل المبتدع؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية للمسلم: ”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد“(2).
5- سوء عاقبة المبتدع؛ لأن الشيطان يريد أن يظفر بالإنسان في عقبة من عدة عقبات: العقبة الأولى: الشرك بالله تعالى، فإن نجا العبد من هذه العقبة طلبه الشيطان على عقبة البدعة، وهذا يؤكد أن البدع أخطر من المعاصي(3)، ولهذا قال سفيان الثوري رحمه الله: "البدعة أحب على إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها"(4)، وهذا في الغالب، والله عز وجل يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
6- انعكاس فهم المبتدع، فيرى الحسنة سيئة، والسيئة حسنة، والسنة بدعة، والبدعة سنة، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "والله لتفشُوَنَّ البدع حتى إذا تُرِكَ منها شيء قالوا: تُرِكت السنة" [أخرجه الإمام محمد بن وضاح، في كتاب فيه ما جاء في البدع، ص124، برقم 162، وانظر: آثاراً في ذلك لابن وضاح في كتابه هذا ص124-156].
__________
(1) عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث ص299.
(2) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: البخاري، 1/9، برقم 1، ومسلم، 2/1515، برقم: 1907، وتقدم تخريجه ص33.
(3) انظر: مدارج السالكين، لابن المقيم، 1-222.
(4) شرح السنة، للبغوي، 1/216.(18/82)
7- عدم قبول شهادة المبتدع وروايته، فقد أجمع أهل العلم من المحدِّثين والفقهاء وأصحاب الأصول على أن المبتدع الذي يكفر ببدعته لا تقبل روايته، وأما الذي لا يكفر ببدعته فاختلفوا في قبول روايته، ورجح الإمام النووي رحمه الله أن روايته تقبل إذا لم يكن داعية إلى بدعته، ولا تقبل إذا كان داعية [انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 1/176].
8- المبتدعة أكثر من يقع في الفتن، وقد حذر الله عز وجل من الفتن فقال: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]، وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، فهل هناك فتنة أخطر من مخالفة سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعصيان أمره؟.
وقد حث النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأعمال الصالحة قبل وقوع الفتن فقال: ”بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم. يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا“ [مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، 1/110، برقم 118].
9- المبتدع استدرك على الشريعة؛ لأنه ببدعته نصب نفسه مشرعاً مكملاً للدين، والله عز وجل قد أكمل الدين وأتم النعمة، قال سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، وبيَّن سبحانه وتعالى في القرآن الكريم كل شيء، قال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].(18/83)
10- المبتدع يلتبس عليه الحق بالباطل، لأن العلم نور يهدي الله به من يشاء من عباده، والمبتدع حُرِمَ التقوى التي يُوفَّقُ صاحبها لإصابة الحق، قال الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
11- المبتدع يحمل إثمه وإثم من تبعه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ”من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا على ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلم من آثامهم شيئاً“ [مسلم، 4/2060، برقم 2674، وتقدم تخريجه ص41].
12- البدعة تُدخِل صاحبها في اللعنة، ففي الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال فيمن أحدث في المدينة: ”من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً“ [متفق عليه: البخاري، كتاب الاعتصام، باب إثم من آوى محدثاً، 8/187، برقم 7306، ومسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة، ودعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها بالبركة، 2/994، برقم 1366]، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "وهذا الحديث في سياق العموم فيشمل كل حدث أحدث فيها مما ينافي الشرع، والبدع من أقبح الحدث" [الاعتصام، 1/96].(18/84)
13- المبتدع يحال بينه وبين الشرب من حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم، يوم القيامة، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردنَّ عليَّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم“ [متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب في حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم، 7/264، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلّى الله عليه وسلّم وصفاته، 4/1793، برقم 2290]، وفي لفظ فأقول: ”إنهم مني“ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: ”سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي“ [البخاري، كتاب الرقاق، باب في حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم، 7/264، برقم 6583]، وعن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”يا ربّ أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك“ [متفق عليه: البخاري، كتاب الرقائق، باب في حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم 7/262، برقم 6575، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلّى الله عليه وسلّم، 4/1796، برقم 2297]، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليَّ منكم، وسيؤخذ ناسٌ من دوني فأقول: يا ربِّ مني ومن أمتي فيقال: هل شَعَرْت ما عملوا بعدك والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم“، فكان ابن أبي ملكية يقول: "اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن في ديننا" [متفق عليه: البخاري، كتاب الرقائق، باب في حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم، 7/266، برقم 6593، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلّى الله عليه وسلّم وصفاته، 4/1794، برقم 2293].(18/85)
14- المبتدع معرض عن ذكر الله، لأن الله عز وجل شرع لنا أذكاراً و دعوات في كتابه وعلى لسان رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، فمنها ما هو مقيد: كأذكار أدبار الصلوات، وأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم والاستيقاظ منه، ومنها ما هو مطلق لم يحدد بزمان ولا مكان، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 41-42]، فالمبتدعة معرضون عن هذه الأذكار: إما بانشغالهم ببدعهم وافتتانهم بها، وإما باستبدال الأذكار المشروعة بأذكار بدعية، استغنوا بها عما شرع الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فأعرضوا بها عن ذكر الله تعالى [انظر: تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار، للدكتور صالح بن سعد السحيمي، ص189].
15- المبتدعة يكتمون الحق ويخفونه على أتباعهم، وقد توعد الله هؤلاء وأمثالهم باللعنة، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} [البقرة: 159].
16- عمل المبتدع يُنَفِّر عن الإسلام، فإذا عمل بخرافات بدعته سَبَّبَ ذلك سخرية أعداء الإسلام بالدين الإسلامي، وهو من هذه البدع بريء [انظر: تنبيه أولي الأبصار، لدكتور صالح السحيمي، ص195].
17- المبتدع يفرق الأمة؛ فإنه ببدعته يفرق هو وأتباعه المسلمين، فيوجد بسبب ذلك أحزاباً وشيعاً متفرقة، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].(18/86)
18- المبتدع المجاهر ببدعته تجوز غيبته؛ لتحذير الأمة من بدعته، ولا شك أن من أظهر بدعته فهو أشد خطراً ممن أظهر فسقه، والغيبة محرمة بالكتاب والسنة، ولكن تباح بغرض شرعي لستة أسباب [انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 16/142، وانظر: تنبيه أولي الأبصار، للدكتور السحيمي، ص 153-198]: التظلم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، وتحذير المسلمين من الشر، وإذا جاهر بفسقه، وبدعته، والتعريف [انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، 10/471، 7/86]، وقد جمع بعضهم هذه الأمور الستة في قوله:
القدحُ ليس بغيبةٍ في ستةٍ
متظلمٍ ومعرفٍ ومحذرٍ
ومجاهر فسقاً ومستفت ومن
طلب الإعانة في إزالة منكر(*)
(*) [انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، ص43].
19- المبتدع متبع لهواه معاند للشرع، ومشاق له [انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/61].
20- المبتدع قد نزَّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الله وضع الشرائع وألزم المكلفين بالجري على سننها [انظر: الاعتصام للشاطبي، 1/61-70].
والله أسأل لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المصادر والمراجع
* القرآن الكريم:
1- الإبداع في مضار الإبداع، للشيخ علي محفوظ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
2- اجتماع الجيوش الإسلامية، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد ابن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي الشهير بابن قيم الجوزية، ت 751هـ، تحقيق عواد عبد الله المعتق، الطبعة الأولى، 1408هـ، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، المملكة العربية السعودية.
3- أربعون حديثاً في مدح السنة وذم البدعة، يوسف بن إسماعيل النبهاني، بعناية بسام بن عبد الوهاب الجابي، الطبعة الأولى، 1415هـ، دار ابن حزم، بيروت، لبنان.(18/87)
4- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1399هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
5- إصلاح المساجد من البدع والعواند، محمد بن جمال الدين القاسمي، تخريج ناصر الدين الألباني، الطبعة الخامسة، 1403هـ المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
6- أصول في البدع والسنن، محمد بن أحمد العدوي، الطبعة الأولى، 1415هـ، دار الفتح، الشارقة.
7- الاعتصام، للإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي، ت 790هـ، تحقيق سليم الهلالي، الطبعة الأولى، 1412هـ، دار ابن عفان، الخبر، المملكة العربية السعودية.
8- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، للإمام أبي عبد الله بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت751هـ، تحقيق محمد حامد الفقي، بدون تاريخ، مكتبة حميدو، الإسكندرية، مصر.
9- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم، ابن تيمية، ت728، تحقيق الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، الطبعة الأولى، 1404هـ، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية.
10- الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع، للحافظ جلال الدين السيوطي، تحقيق مشهور بن حسن بن سلمان، الطبعة الثانية، 1416هـ، دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية.
11- البداية والنهاية، للافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير، ت774هـ، الطبعة الثالثة، 1979م، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان.
12- البدع والمحدثات وما لا أصل له، لابن باز، وابن عثيمين ومجموعة العلماء، جمع حمّود بن عبد الله المطر، الطبعة الأولى، 1419هـ، دار ابن خزيمة، الرياض، المملكة العربية السعودية.
13- البدع: أسبابها ومضارها، للشيخ محمود شلتوت، ت 1383هـ، تحقيق علي بن حسن عبد المجيد، الطبعة الأولى، 1408هـ، مكتبة ابن الجوزي، الأحساء، المملكة العربية السعودية.(18/88)
14- بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376هـ، تخريج بدر البدر، الطبعة الثالثة، 1408هـ، مكتبة السندس، الكويت.
15- التبرك أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع، الطبعة الثانية، 1413هـ دار الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية.
16- تبين العجب بما ورد في شهر رجب، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق طارق بن عوض الدارعي، طبع ونشر مؤسسة قرطبة، الندلس.
17- تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة: 1398هـ، المكتب الإسلامي، بيروت.
18- تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين، أحمد بن حجر آل بوطامي، الطبعة الثانية، 1403هـ، مكتبة ابن تيمية، الكويت.
19- التحذير من البدع، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، الطبعة الثانية، 1412هـ، دار إمام الدعوة، الرياض، المملكة العربية السعودية.
20- تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم)، للإمام أبي الفداء إسماعيل ابن الخطيب عمر ابن كثير القرشي الدمشقي، ت774هـ، طبعة 1407هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان.
21- تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ت 310هـ، تحقيق محمود وأحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، دار المعارف بمصر.
22- تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من أخطار، الدكتور صالح بن سعد السحيمي، الطبعة الأولى، 1410هـ، دار ابن حزم، الرياض، المملكة العربية السعودية.
23- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376هـ، تحقيق محمد زهري النجار، طبعة 1404هـ، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية.(18/89)
24- جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، للإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد ابن رجب الحنبلي، ت 795هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1411هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان.
25- جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر، ت 463هـ، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، الطبعة الأولى 1414هـ، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.
26- جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام، للإمام شمس الدين أبي عبد الله بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي الشهير بابن القيم، ت 751هـ، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1407هـ دار العروبة، الصفاة، الكويت.
27- حقيقة البدعة وأحكامها، سعيد بن ناصر الغامدي، الطبعة الأولى، 1412هـ، دار الرشد، المملكة العربية السعودية.
28- الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، الطبعة الثالثة، 1417هـ، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض، المملكة العربية السعودية.
29- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، ت430 هـ، بدون تاريخ، دار الكتب العربية، بيروت، لبنان.
30- دراسات في الأهواء والفرق والبدع وموقف السلف منها، للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، الطبعة الأولى، 1418، مركز الدراسات والإعلام، دار إشبيليا، الرياض، المملكة العربية السعودية.
31- الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ت1392هـ الطبعة الثانية، 1385هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
32- زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية، ت 751هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1399هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، بنان.(18/90)
33- سلسلة الأحاديث الصحيحة، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية، 1399هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
34- سنن أبي داود، لسليمان بن الأشعث السجستاني، ت 275هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بدون تاريخ، دار الفكر، بيروت، لبنان.
35- سنن ابن ماجه، لمحمد بن يزيد القزويني، ت 275هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
36- سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، ت279هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية 1398هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، مصر.
37- سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ت 255هـ، طبعة 1404هـ، تحقيق عبد الله بن هاشم اليماني، توزيع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية.
38- سنن النسائي، لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب، 303هـ، بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، ت 911هـ، وحاشية السندي، ت 1138هـ، الطبعة الأولى، 1406هـ، اعتنى به ورقمه عبد الفتاح أبو غدة، الطبعة الثانية، 1406هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان.
39- سير إعلام النبلاء، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت 748هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الرابعة، 1406هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان.
40- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام أبي القاسم هبة الله ابن حسن الطبري اللالكائي، ت418هـ، تحقيق د. أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، الطبعة الرابعة، 1416،هـ، دار طيبة، الرياض، المملكة العربية السعودية.
41- شرح السنة، للإمام الحافظ أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، ت 519هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1396هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.(18/91)
42- شرح العقيدة الطحاوية، للعلامة علي بن علي بن محمد بن أبي العز الدمشقي، ت 792هـ، تخريج محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة، 1390هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
43- شرح العقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت728هـ، بقلم العلامة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، الطبعة الخامسة، 1411هـ، طبع تحت إشراف الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية.
44- شرح العقيدة الواسطية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف العلامة محمد خليل هراس، تخريج علوي السقاف، الطبعة الأولى، 1411هـ، دار الهجرة، الرياض، المملكة العربية السعودية.
45- شرح صحيح مسلم للنووي، لمحيي الدين أبي زكريا بن شرف النووي، ت 676هـ، تحقيق لجنة من العلماء بإشراف الناشر، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ، دار القلم، بيروت، لبنان.
46- شرح لمعة الاعتقاد، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، ت620هـ، بقلم الشيخ محمد بن صالح العثيمين، الطبعة الأولى، 1407هـ، دار ابن القيم.
47- شعب الإيمان، للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت 458هـ، تحقيق أبي هاجر محمد السعيد بسيوني زغلول، الطبعة الأولى، 1410هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
48- صحيح ابن حيان بترتيب ابن بلبان، للإمام أبي حاتم محمد بن أحمد ابن حيان البستي، ت354هـ، رتبه الأمير علاء الدين علي بن سليمان بن بلبان الفارسي، ت739هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1414هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان.
49- صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري، ت 256هـ، طبعة 1414هـ، دار الفكر، بيروت لبنان. وطبعة 1315هـ، المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا، والنسخة المطبوعة مع فتح الباري، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية.(18/92)
50- صحيح سنن أبي داود باختصار السند، ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1409هـ، المكتب الإسلامي، بيروت لبنان.
51- صحيح سنن ابن ماجه باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1407هـ، المكتب الإسلامي، بيروت لبنان.
52- صحيح سنن الترمذي باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى: 1408هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
53- صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت 261هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
54- الطبقات الكبرى: لمحمد بن سعد بن منيع الهاشمي البصري، ت 230هـ، تحقيق محمد عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، 1410هـ، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.
55- ظلال الجنة في تخريج السنة، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1400هـ المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
56- عقيدة السلف وأصحاب الحديث، الإمام إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، ت 449هـ، تحقيق ناصر بن عبد الرحمن الجديع، الطبعة الأولى 1415هـ، دار العاصمة الرياض، المملكة العربية السعودية.
57- علم أصول البدع، علي بن حسن بن عبد الحميد، الطبعة الثانية، 1417هـ، دار الراية، الرياض، المملكة العربية السعودية.
58- الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، الدكتور عبد الرحمن معلا اللويحق، الطبعة الثانية، 1416هـ مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان.
59- فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852هـ، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية.
60- فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ت 1285هـ، دار الصميعي، الرياض، المملكة العربية السعودية، وطبعة دار المنار، بعناية صادق بن سليم بن صادق، الرياض، المملكة العربية السعودية.(18/93)
61- فتح رب البرية بتلخيص الحموية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت728هـ، بقلم العلامة محمد بن صالح العثيمين، الطبعة الثانية، 1404هـ، مطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية.
62- فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم: إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي، ت 282هـ، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة، 1397هـ المكتب الإسلامي.
63- القاموس المحيط، للعلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، ت 817هـ الطبعة الأولى، 1406هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان.
64- القول السديد في مقاصد التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت 1376هـ، بعناية وتخريج د. المرتضي الزين أحمد، الطبعة الأولى، 1416هـ، مجموعة التحف النفائس الدولية، الرياض، المملكة العربية السعودية.
65- كتاب الباعث على إنكار البدع البدع والحوادث، للإمام، شهاب الدين أبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة، ت 665هـ، تحقيق مشهور بن حسن بن سلمان، الطبعة الأولى، 1410هـ، دار الراية، الرياض، المملكة العربية السعودية.
66- كتاب التوحيد للدكتور صالح بن فوزان الفوزان، طبعة خيرية بدون تاريخ.
67- كتاب الحوادث والبدع، للعلامة إبراهيم بن أحمد الطرطوشي، ت 579هـ تحقيق عبد المجيد تركي، الطبعة الأولى، 1410هـ، دار الغرب الإسلامية، بيروت، لبنان.
68- كتاب السنة، للحافظ أبي بكر عمر بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، ت 287 هـ، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة لمحمد بن ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1400هـ المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
69- كتاب فيه ما جاء في البدع، للإمام محمد بن وضاح القرطبي، ت 287هـ، تحقيق بدر البدر، الطبعة الأولى، 1416هـ، دار الصميعي، الرياض، المملكة العربية السعودية.(18/94)
70- لسان العرب، للإمام أبي الفضل جمال الدين بن مكرم بن علي بن منظور، ت 711هـ، الطبعة الثالثة، 1414هـ، دار صادر، بيروت، لبنان.
71- لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، للحافظ عبد الرحمن ابن أحمد بن رجب، ت 795هـ، تحقيق ياسين بن محمد السواس، الطبعة الثالثة، 1416هـ، دار ابن كثير، بيروت.
72- مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، الطبعة الأولى، بدون تاريخ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية .
73- مجمع البحرين في زوائد المعجمين، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق عبد القدوس بن محمد نذير، الطبعة الثانية، 1415هـ، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية.
74- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، ت 807هـ، الطبعة الثالثة، 1402هـ، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان.
75- مجموع فتاوى ابن تيمية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، ت 728هـ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، بدون تاريخ، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب.
67- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة: للعلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، جمع وترتيب د. محمد بن سعد الشويعر، الطبعة الأولى 1408هـ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء. المملكة العربية السعودية.
77- مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الطبعة الولى، بدون تاريخ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
78- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن أيوب ابن قيم الجوزية، ت 751هـ، تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة بدون تاريخ، مكتبة السنة المحمدية، ومكتبة ابن تيمية، القاهرة.
79- مسند الإمام أحمد بشرح أحمد شاكر، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ت 241هـ، شرحه وضع فهارسه أحمد محمد شاكر، بدون تاريخ، دار المعارف، مصر.(18/95)
80- مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ت 241هـ، بدون تاريخ، المكتب الإسلامي، دار صادر بيروت، لبنان.
81- معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، ت 377هـ، تخريج عمر بن محمود أبو عمر، الطبعة الثانية، 1413هـ، دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية .
82- معجم الطبراني الكبير، للحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ت 360هـ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالجمهورية العراقية.
83- معجم المقاييس في اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ت 385هـ، تحقيق شهاب الدين أبي عمرو، الطبعة الأولى، 1415هـ، دار الفكر، بيروت لبنان.
84- مفردات ألفاظ القرآن، العلامة الراغب الأصفهاني، ت 502هـ، تحقيق صفوان عدنان داوودي، الطبعة الأولى: 1412هـ، دار القلم، دمشق، دار الشامية، بيروت.
85- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، ت 656هـ، تحقيق محيي الدين مستو وجماعة، الطبعة الأولى، 1417هـ، دار ابن كثير، دمشق، بيروت.
86- النهاية في غريب الحديث، للإمام أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير، الجزري، ت 606هـ، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، بدون تاريخ، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان.
87- النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير لعزيز الحميد. للدوسري.
الفهرس
الموضوع ... ... ... ... ... الصفحة
المقدمة. ...
المبحث الأول: نور السنة. ...
* المطلب الأول مفهومهما. ...
أولاً مفهوم العقيدة لغة واصطلاحاً. ...
ثانياً: مفهوم أهل السنة. ...
ثالثاُ: مفهوم الجماعة. ...
* المطلب الثاني: أسماء أهل السنة وصفاتهم. ...
1- أهل السنة والجماعة. ...
2- الفرقة الناجية. ...
3- الطائفة المنصورة. ...
4- المعتصمون المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله. ...(18/96)
5- هم القدوة الصالحة الذين يهدون إلى الحق. ...
6- أهل السنة خيار الناس ينهون عن البدع. ...
7- أهل السنة هم الغرباء إذا فسد الناس. ...
8- أهل السنة هم الذين يحملون العلم. ...
9- أهل السنة هم الذين يحزن الناس لفراقهم. ...
* المطلب الثالث: السنة نعمة مطلقة. ...
* المطلب الرابع: منزلة السنة. ...
* المطلب الخامس: منزلة صاحب السنة وصاحب البدعة. ...
أولاً: منزلة صاحب السنة. ...
ثانياً: علامات أهل السنة. ...
ثالثاً: منزلة صاحب البدعة. ...
المبحث الثاني: ظلمات البدعة. ...
* المطلب الأول: مفهومها. ...
* المطلب الثاني: شروط قبول العمل. ...
* المطلب الثالث: ذم البدعة في الدين. ...
أولاً: من القرآن. ...
ثانياً: من السنة النبوية. ...
ثالثاً: من أقوال الصحابة رضي الله عنهم في البدع. ...
رابعاً: من أقوال التابعين وأتباعهم بإحسان. ...
خامساً: البدع مذمومة من وجوه. ...
* المطلب الرابع: أسباب البدع. ...
أولاً: الجهل، آفة خطيرة. ...
ثانياً: إتباع الهوى. ...
ثالثاً: التعلق بالشبهات. ...
رابعاً: الاعتماد على العقل المجرد. ...
خامساً: التقليد والتعصب. ...
سادساً: مخالطة أهل الشر ومجالستهم. ...
سابعاً: سكوت العلماء وكتم العلم. ...
ثامناً: التشبه بالكفار وتقليدهم. ...
تاسعاً: الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والموضوعة. ...
عاشراً: الغلو أعظم أسباب انتشار البدع. ...
* المطلب الخامس أقسام البدع. ...
القسم الأول: البدعة الحقيقة والإضافية. ...
1- البدعة الحقيقية. ...
2- البدعة الإضافية. ...
القسم الثاني: البدعة الفعلية والتركية. ...
1- البدعة الفعلية. ...
2-البدعة التركية. ...
القسم الثالث: البدعة القولية الاعتقادية والبدعة العملية. ...
1- البدعة القولية الاعتقادية. ...
2- البدعة العملية وهي أنواع. ...
النوع الأول: بدعة في أصل العبادة. ...
النوع الثاني: ما يكون من الزيادة على العبادة. ...(18/97)
النوع الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة. ...
النوع الرابع: ما يكون بتخصيص وقت العبادة. ...
* المطلب السادس: حكم البدعة في الدين. ...
فمنها ما هو كفر. ...
فمنها ما هو من وسائل الشرك. ...
ومنها ما هو من المعاصي. ...
* المطلب السابع: أنواع البدع عند القبور. ...
النوع الأول: من يسأل الميت حاجته. ...
النوع الثاني: أن يسأل الله تعالى بالميت. ...
النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عند القبور مستجاب. ...
* المطلب الثامن: البدع المنتشرة المعاصرة. ...
أولاً: بدعة الاحتفال بالمولد النبوي. ...
ثانياً: بدعة الاحتفال بأول ليلة جمعة من شهر رجب. ...
ثالثاً: بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج. ...
رابعاً: الاحتفال بليلة النصف من شعبان. ...
خامساً: التبرك. ...
التبرك المشروع. ...
التبرك الممنوع. ...
أسباب التبرك الممنوع. ...
آثار التبرك الممنوع. ...
وسائل مقاومة التبرك الممنوع. ...
سادساً: بدع منكرة مختلفة. ...
1- الجهر بالنية. ...
2- الذكر الجماعي بعد الصلوات. ...
3- طلب قراءة الفاتحة على أرواح الأموات. ...
4- إقامة مآتم على الأموات. ...
5- الأذكار الصوفية بأنواعها. ...
6- البناء على القبور، واتخاذها مساجد. ...
* المطلب التاسع: توبة المبتدع. ...
* المطلب العاشر: آثار البدع وأضرارها. ...
1- البدع بريد الكفر. ...
2- القول على الله بغير علم. ...
3- بغض المبتدعة للسنة وأهلها. ...
4- رد عمل المبتدع. ...
5- سوء عاقبة المبتدع. ...
6- انعكاس فهم المبتدع. ...
7- عدم قبول شهادة المبتدع وروايته. ...
8- المبتدعة أكثر من يقع في الفتن. ...
9- المبتدع استدرك على الشريعة. ...
10- المبتدع يلتبس عليه الحق بالباطل. ...
11- المبتدع يحمل إثمه وإثم من تبعه. ...
12- البدعة تدخل صاحبها في اللعنة. ...
13- المبتدع يحال بينه وبين الشرب من حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم. ...
14- المبتدع معرض عن ذكر الله. ...(18/98)
15- المبتدعة يكتمون الحق ويخفونه عن أتباعهم. ...
16- عمل المبتدع ينفر على الإسلام. ...
17- المبتدع يفرق الأمة. ...
18- المبتدع المجاهر ببدعته تجوز غيبته. ...
19- المبتدع متبع لهواه معاند للشرع. ...
20- المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع. ...
المصادر والمراجع. ...
الفهرس. ...
تمّ الكتاب ولله الحمد.(18/99)
وداع الرسول لأمته
دروس، وصايا، وعبرٌ، وعظات
تأليف الفقير إلى الله تعالى
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فهذه الرسالة مختصرة في وداع النبي الكريم والرسول العظيم صلّى الله عليه وسلّم لأمته، بينت فيه باختصار: خلاصة نسب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وولادته، ووظيفته، واجتهاده وجهاده، وخير أعماله، ووداعه لأمته في عرفات، ومنى، والمدينة، ووداعه للأحياء والأموات، ووصاياه في تلك المواضع، ثم بداية مرضه، واشتداده، ووصاياه لأمته ووداعه لهم عند احتضاره، واختياره الرفيق الأعلى، وأنه مات شهيداً، ومصيبة المسلمين بموته، وميراثه، ثم حقوقه على أمته، وذكرت الدروس والفوائد والعبر والعظات المستنبطة في آخر كل مبحث من هذه المباحث.
والله أسأل أن يجعله عملاً مقبولاً نافعًا لي ولإخواني المسلمين؛ فإنه وليُّ ذلك والقادر عليه, وأن يعلمنا جميعًا ما ينفعنا, ويوفق جميع المسلمين إلى الاهتداء بهدي سيد المرسلين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله وعلى آله و أصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
المؤلف
حرر في ليلة الخميس 21/3/1416هـ
المبحث الأول: خلاصة نسبه ووظيفته صلّى الله عليه وسلّم(19/1)
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كِلاَب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مُضر بن نزار بن معدَ بن عدنان(1)، فهو عليه الصلاة والسلام من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام(2).
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم 7/162.
(2) انظر نسب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى آدم: البداية والنهاية لابن كثير 2/195، وسيرة ابن هشام 1/1.(19/2)
ولد صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل بمكة في شهر ربيع الأول(1) يوم الاثنين(2) الموافق 571م(3)، وتوفي صلّى الله عليه وسلّم وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها: أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيّاً رسولاً، نُبِّئَ بإقرأ، وأرسل بالمدثر، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد، أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عُرج به إلى السماء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أُمِر بالهجرة إلى المدينة، فلما استقر بالمدينة(4) أُمِر ببقية شرائع الإسلام مثل: الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، أخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلّى الله عليه وسلّم، ودينه باقٍ وهذا دينه، لا خير إلا دلَّ
__________
(1) هذا هو الصحيح المشهور أنه ولد صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل في شهر ربيع الأول، وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك، انظر: تهذيب السيرة للإمام النووي ص 20.
(2) التحديد بيوم الاثنين ثابت؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم حينما سئل عن صومه: "فيه ولدت وفيه أُنزِل عليَّ" مسلم 2/820. أما تحديد تاريخ اليوم ففيه عدة أقول: فقيل في اليوم الثاني، وقيل لثماني، وقيل لعشر، وقيل: لسبعة عشر، وقيل في الثاني عشر، وقيل غير ذلك، وأشهر وأقرب الأقوال قولان: الأول: أنه ولد لثماني مضين من ربيع الأول، ورجحه ابن عبد البر عن أصحاب التأريخ: انظر: البداية والنهاية 2/260 وقال: "هو أثبت". القول الثاني: أنه ولد في الثاني عشر من ربيع الأول، قال ابن كثير في البداية والنهاية: "وهذا هو المشهور عند الجمهور" 2/260، وجزم به ابن إسحاق: انظر: سيرة ابن هشام 1/171.
(3) انظر: الرحيق المختوم ص 53.
(4) وصل إلى المدينة صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين من شهر ربيع الأول وحدده بعضهم باليوم الثاني عشر من ربيع الأول، انظر: فتح الباري 7/224.(19/3)
أمته عليه، ولا شر إلا حذَّرها منه، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين لا نبي بعده، وقد بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على الجن والإنس، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار(1).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر والعظات في هذا المبحث كثيرة منها:
إن النبي صلّى الله عليه وسلّم خيار من خيار من خيار، فهو أحسن الناس وخيرهم نسباً، وأرجح العالمين عقلاً، وأفضل الخلق منزلة في الدنيا والآخرة، وأرفع الناس ذكراً، وأكثر الأنبياء أتباعاً يوم القيامة.
إن إقامة الاحتفالات بمولد النبي صلّى الله عليه وسلّم كل عام في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول بدعة منكرة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفعل ذلك في حياته، ولم يفعله الصحابة من بعده رضي الله عنهم، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، ومع ذلك فإن تحديد ميلاد النبي باليوم الثاني عشر من ربيع الأول لم يُجْزَم به، وإنما فيه خلاف وحتى ولو ثبت فالاحتفال به بدعة لما تقدم؛ ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد“(2). وفي رواية لمسلم: ”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد“(3).
إن وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم هي الدعوة إلى التوحيد، وإنقاذ الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن ظلمات المعاصي والسيئات إلى نور الطاعات والأعمال الصالحات، ومن الجهل إلى المعرفة والعلم، فلا خير إلا دلَّ أمته عليه، ولا شر إلا حذَّرها منه صلّى الله عليه وسلّم.
المبحث الثاني: جهاده واجتهاده وأخلاقه
__________
(1) انظر: الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص75، 76.
(2) البخاري برقم 2697، ومسلم 1718.
(3) انظر: رسالة التحذير من البدع لسماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز.(19/4)
كان صلّى الله عليه وسلّم أسوة وقدوة وإماماً يُقتدى به؛ لقوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(1)؛ ولهذا كان صلّى الله عليه وسلّم يصلي حتى تفطَّرت قدماه وانتفخت وورمت فقيل له: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ”أفلا أكون عبداً شكوراً“(2). وكان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، وربما صلى ثلاث عشرة ركعة(3)، وكان يصلي الرواتب اثنتي عشرة ركعة(4) وربما صلاها عشر ركعات(5)، وكان يصلي الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله(6)، وكان يطيل صلاة الليل فربما صلى ما يقرب من خمسة أجزاء في الركعة الواحدة(7)، فكان ورده من الصلاة كل يوم وليلة أكثر من أربعين ركعة منها الفرائض سبع عشر ركعة(8).
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية 21.
(2) البخاري برقم 1130، ومسلم برقم 2819.
(3) البخاري برقم 1147، ومسلم برقم 737.
(4) مسلم برقم 728.
(5) مسلم برقم 729، والبخاري برقم 1172.
(6) مسلم برقم 719.
(7) مسلم برقم 772.
(8) كتاب الصلاة لابن القيم ص 140.(19/5)
وكان يصوم غير رمضان ثلاثة أيام من كل شهر(1) ويتحرَّى صيام الاثنين والخميس(2)، وكان يصوم شعبان إلا قليلاً، بل كان يصومه كله(3)، ورغَّب في صيام ست من شوال(4)، وكان صلّى الله عليه وسلّم يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم(5)، وما استكمل شهر غير رمضان إلا ما كان منه في شعبان، وكان يصوم يوم عاشوراء(6)، وروي عنه صوم تسع ذي الحجة(7)، وكان يواصل الصيام اليومين والثلاثة وينهى عن الوصال، وبيَّن أنه صلّى الله عليه وسلّم ليس كأمته؛ فإنه يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه(8)، وهذا على الصحيح: ما يجد من لذة العبادة والأنس والراحة وقرة العين بمناجاة الله تعالى؛ ولهذا قال: ”يا بلال أرحنا بالصلاة“(9)، وقال: ”وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة“(10).
وكان يكثر الصدقة، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة حينما يلقاه جبريل عليه الصلاة والسلام(11)؛ فكان يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة؛ ولهذا أعطى رجلاً غنماً بين جبلين فرجع الرجل إلى قومه وقال: يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة(12)، فكان صلّى الله عليه وسلّم أكرم الناس، وأشجع الناس(13)، وأرحم الناس وأعظمهم تواضعاً، وعدلاً، وصبراً، ورفقاً، وأناة، وعفواً، وحلماً، وحياءً، وثباتاً على الحق.
__________
(1) مسلم برقم 1160.
(2) الترمذي برقم 745، والنسائي 4/202 وغيرهما.
(3) البخاري رقم 1969 و1970، ومسلم برقم 1156 و1157.
(4) مسلم برقم 1164.
(5) البخاري برقم 1971، ومسلم 1156.
(6) البخاري برقم 2000 – 2007، ومسلم برقم 1125.
(7) النسائي 4/205، وأبو داود برقم 2437، وأحمد 6/288، وانظر صحيح النسائي رقم 2236.
(8) البخاري برقم 1961 - 1964 ومسلم 1102 - 1103.
(9) أبو داود برقم 8549، وأحمد 5/393.
(10) النسائي 7/61، وأحمد 3/128، وانظر: صحيح النسائي 3/827.
(11) البخاري برقم 6، ومسلم رقم 2308.
(12) مسلم 4/1806.
(13) البخاري مع الفتح 10/455، ومسلم 4/1804.(19/6)
وجاهد صلّى الله عليه وسلّم في جميع ميادين الجهاد: جهاد النفس وله أربع مراتب: جهادها على تعلم أمور الدين، والعمل به، والدعوة إليه على بصيرة، والصبر على مشاق الدعوة، وجهاد الشيطان وله مرتبتان: جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات، ودفع ما يلقي من الشهوات، وجهاد الكفار وله أربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، واليد. وجهاد أصحاب الظلم وله ثلاث مراتب: باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب. فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، وأكمل الناس فيها محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه كمل مراتب الجهاد كله، فكانت ساعاته موقوفة على الجهاد: بقلبه، ولسانه، ويده، وماله؛ ولهذا كان أرفع العالمين ذكراً وأعظمهم عند الله قدراً(1). وقد دارت المعارك الحربية بينه وبين أعداء التوحيد، فكان عدد غزواته التي قادها بنفسه سبع وعشرون غزوة، وقاتل في تسع منها، أما المعارك التي أرسل جيشها ولم يقدها فيقال لها سرايا فقد بلغت ستة وخمسين سرية(2).
وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس معاملة، فإذا استسلف سلفًا قضى خيراً منه؛ ولهذا جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يتقاضاه بعيراً فأغلظ له في القول، فهم به أصحابه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً“ فقالوا: يا رسول الله: لا نجد إلا سنًّا هو خير من سنّه فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”أعطوه“ فقال الرجل: أوفيتني أوفاك الله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”إن خير عباد الله أحسنهم قضاءً“(3). واشترى من جابر بن عبد الله رضي الله عنه بعيراً، فلما جاء جابر بالبعير قال له صلّى الله عليه وسلّم: ”أتراني ماكستك“؟ قال: لا يا رسول الله، فقال: ”خذ الجمل والثمن“(4).
__________
(1) زاد المعاد 3/5، 10، 12.
(2) انظر: شرح النووي 12/95، وفتح الباري 7/279 - 281، و8/153.
(3) البخاري رقم 2305، ومسلم 1600.
(4) البخاري مع الفتح 3/67، ومسلم 3/1221.(19/7)
وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس خلقاً؛ لأن خلقه القرآن، لقول عائشة رضي الله عنهما: ”كان خلقه القرآن“(1)؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: ”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“(2).
وكان صلّى الله عليه وسلّم أزهد الناس في الدنيا، فقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه اضطجع على الحصير فأثَّر في جنبه، فدخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولما استيقظ جعل يمسح جنبه فقال: رسول الله لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها“(3). وقال: ”لو كان لي مثلُ أُحُدٍ ذهباً ما يَسُرُّني أن لا يمر عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيء، إلا شيءٌ أرصُدُهُ لدين“(4).
__________
(1) مسلم 1/513.
(2) البيهقي بلفظه 10/192، وأحمد 2/381، وانظر: الصحيحة للألباني رقم 45.
(3) الترمزي وغيره، وانظر: الأحاديث الصحيحة برقم 439، وصحيح الترمذي 2/280.
(4) البخاري برقم 2389، ومسلم برقم 991.(19/8)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض"(1). والمقصود أنهم لم يشبعوا ثلاثة أيام بلياليها متوالية، والظاهر أن سبب عدم شبعهم غالباً كان بسبب قلة الشيء عندهم على أنهم قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم(2)؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير"(3). وقالت: "ما أكل آل محمد صلّى الله عليه وسلّم أُكلتين في يوم إلا إحداهما تمر"(4). وقالت: "إنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أُوقدت في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار. فقال عروة: ما كان يقيتكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء"(5). والمقصود بالهلال الثالث: وهو يُرى عند انقضاء الشهرين. وعن عائشة رضي الله عنهما قالت: ”كان فراشُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أدَم وحشوُهُ ليفٌ“(6). ومع هذا كان يقول صلّى الله عليه وسلّم: ”اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتاً“(7).
__________
(1) البخاري مع الفتح 9/517 و549.
(2) انظر فتح الباري 9/517 و549 برقم 5374، ومن حديث عائشة رضي الله عنها برقم 5416.
(3) البخاري مع الفتح 9/549.
(4) البخاري مع الفتح 11/283.
(5) البخاري مع الفتح 11/283.
(6) البخاري برقم 6456.
(7) البخاري برقم 6460، ومسلم برقم 1055 والقوت: هو ما يقوت البدن من غير إسراف وهو معنى الرواية الأخرى عند مسلم "كفافاً" ويكف عن الحاجة، وقال أهل اللغة: القوت: هو ما يسد رمق، وفي الكفاف سلامة من آفاق الغنى والفقر جميعاً والله أعلم. الفتح 11/293، وشرح النووي 7/152, والأبي 3/537.(19/9)
وكان صلّى الله عليه وسلّم من أورع الناس؛ ولهذا قال: ”إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي أو في بيتي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها“(1). وأخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”ِكَخْ ِكَخْ ارمِ بها أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة“؟(2).
ومع هذه الأعمال المباركة العظيمة فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا، وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل“ وكان آلُ محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا عَمِلُوا عملاً أثبتوه(3). ”وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صلى صلاة داوم عليها“(4). وقد تقالَّ عبادة النبي صلّى الله عليه وسلّم نفر من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: وأين نحن من النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال بعضهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال بعضهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال بعضهم: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً [وقال بعضهم: لا آكل اللحم] فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فجاء إليهم فقال: ”أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم الله أتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني“(5). والمراد بالسنة الهدي والطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره. ومع هذه الأعمال الجليلة فقد كان يقول عليه الصلاة والسلام: ”سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله“ قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ”ولا
__________
(1) مسلم 2/751.
(2) مسلم 2/751.
(3) البخاري مع الفتح 4/213، 11/294، ومسم 1/541 برقم 782، و2/811.
(4) البخاري مع الفتح 4/213، وانظر: صحيح البخاري حديث رقم 6461 – 6467.
(5) البخاري مع الفتح 9/104، ومسلم 2/1020 وما بين المعكوفين من رواية مسلم.(19/10)
أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل“. وفي رواية: ”سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيءٌ من الدُّلجة، والقَصْدَ القَصْدَ تبلغوا“(1). وكان يقول: ”يا مقلّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك“(2). ويقول: ”اللهم مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك“(3).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر والعظات في هذا المبحث كثيرة منها:
إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدوة كل مسلم صادق مع الله تعالى في كل الأمور؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(4).
__________
(1) البخاري برقم 6463، 6464، ومسلم 4/2170.
(2) الترمزي 5/238 وغيره، وانظر: صحيح الترمزي 3/171.
(3) مسلم 4/2045.
(4) سورة الأحزاب، الآية: 21.(19/11)
إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس خَلْقاً، وخُلُقاً، وألينهم كفّاً، وأطيبهم ريحاً، وأكملهم عقلاً، وأحسنهم عشرة، وأعلمهم بالله وأشدهم له خشية(1)، وأشجع الناس، وأكرم الناس، وأحسنهم قضاء، وأسمحهم معاملة، وأكثرهم اجتهاداً في طاعة ربه، وأصبرهم وأقواهم تحمّلاً، وأشدهم حياء، ولا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، ولكنه إذا انتُهِكت حرمات الله، فإنها ينتقم الله تعالى، وإذا غضب الله لم يقم لغضبه أحد، والقوي والضعيف، والقريب والبعيد، والشريف وغيره عنده في الحق سواء، وما عاب طعاماً قطاً إن اشتهاه أكله، وإن لم يشتهه تركه، ويأكل من الطعام المباح ما تيسر ولا يتكلف في ذلك، ويقبل الهدية ويكافئ عليها، ويخصف نعليه ويرقع ثوبه, ويخدم في مهنة أهله, ويحلِبُ شاته, ويخدِمُ نفسه، وكان أشد الناس تواضعاً، ويجيب الداعي: من غني أو فقير، أو دنيء أو شريف، وكان يحب المساكين ويشهد جنائزهم ويعود مرضاهم، ولا يحقر فقير لفقره, ولا يهاب مَلكاً لملكه, وكان يركب الفرس, والبعير, والحمار, والبغلة, ويردف خلفه, ولا يدع أحداً يمشي خلفه(2). وخاتمه فضة وفصه منه, يلبسه في خنصره الأيمن وربما يلبسه في الأيسر، وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض، ولكنه اختار الآخرة، وكان يكثر الذكر، دائم الفكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ويحب الطيب ولا يرده، ويكره الروائح الكريهة، وكان أكثر الناس تبسماً، وضحك في أوقات حتى بدت نواجذه(3) ويمزح ولا يقول
__________
(1) ولهذا قال عبد الله بن الشَّخِّير: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المِرجل من البكاء، أبو داود برقم 904، وصححه الألباني في مختصر الشمائل برقم 276, ومعنى: أزير المرجل: أي غليان القدر.
(2) أحمد 3/398، وابن ماجه برقم 246, والحاكم 4/481، وابن حبان موارد 2099 , وانظر: الأحاديث الصحيحة برقم 1557.
(3) النواجذ: الأنياب.(19/12)
إلا حقّاً، ولا يجفو أحداً، ويقبل عذر المعتذر إليه، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقهن، ويتنفس في الشرب ثلاثاً خارج الإناء، ويتكلم بجوامع الكلام، وإذا تكلم تكلَّم بكلام بيِّنٍ فَصْلٍ، يحفظه من جلس إليه، ويعيد الكلام ثلاثاً إذا لم تفهم حتى تُفهم عنه، ولا يتكلم من غير حاجة، وقد جمع الله له مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، فكانت معاتبته تعريضاً، وكان يأمر بالرفق ويحثّ عليه، وينهي عن العنف، ويحث على العفو والصفح، والحلم، والأناة، وحسن الخلق ومكارم الأخلاق، وكان يحب التيمن في طهوره وتنعُّله، وترجُّله، وفي شأنه كله، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى، وإذا اضطجع اضطجع على جنبه الأيمن، ووضع كفه اليمنى تحته خده الأيمن، وإذا عرَّس(1) قُبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه، وكان مجلسه: مجلس علم، وحلم، وحياء، وأمانة , وصيانة, وصبر, وسكينة, ولا ترفع فيه الأصوات، ولا تنتهك فيه الحرمات، يتفاضلون في مجلسه بالتقوى، ويتواضعون، ويًوقِّرون الكبار، ويرحَمُون الصغار، ويؤثرون المحتاج، ويخرجون دعاة إلى الخير، وكان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، وكان يمشي مع الأرملة والمسكين، والعبد، حتى يقضي له حاجته. ومر على الصبيان يلعبون فسلَّم عليهم، وكان لا يصافح النساء غير المحارم. وكان يتألف أصحابه ويتفقدهم، ويكرم الكريم كل قوم، ويقبل بوجهه وحديثه على من يحادثه، حتى على أشرِّ القوم يتألفهم بذلك، ولم يكن فاحشاً ولا متفحشأ ولا صخَّاباً(2)، ولا يجزي بالسيئة السيئة بل يعفو ويصفح ويحلم, ولم يضرب خادماً ولا امرأة ولا شيئاً قط, إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى, وما خُيِّر بين شيئين
__________
(1) التعريس: نزول مسافة آخر الليل نزلةً للنوم والاستراحة. انظر: النهاية في غريب الحديث 3/206.
(2) الصّخَّاب: الصخب والسخب: الضجة واضطراب الأصوات للخصام، فهو صلّى الله عليه وسلّم لم يكن صخَّاباً في الأسواق ولا في غيرها. النهاية 3/14.(19/13)
إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً, فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه.
وقد جمع الله له كمال الأخلاق ومحاسن الشيم وآتاه من العلم والفضل وما فيه النجاة والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة ما لم يؤت أحداً من العالمين, وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب, ولا معلم له من البشر، واختاره الله على جميع الأولين والآخرين، وجعل دينه للجن والناس أجمعين إلى يوم الدين، فصلوات الله وسلامه عليه صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين؛ فإن خلقه كان من القرآن.
فينبغي الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم والتأسي في جميع أعماله، وأقواله، وجده واجتهاده، وجهاده، وزهده، وورعه، وصدقه وإخلاصه، إلا في ما كان خاصّاً به، أو ما لا يُقدر على فعله؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا(1)“(2)؛ ولقوله: ”ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم“(3).
المبحث الثالث: خير أعماله وخواتمها
كان صلّى الله عليه وسلّم إذا عمل عملاً أثبته وداوم عليه؛ ولهذا قال: ”إن أحب الأعمال إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه وإن قل“(4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ”كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً، وكان يعرض عليه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قُبض فيه عرض القرآن مرتين“(5).
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر: تهذيب السيرة النبوية للإمام النووي ص 56، ومختصر السيرة النبوية للحافظ عبد الغني المقدسي ص 77، وحقوق المصطفى للقاضي عياض 1/77 – 215، ومختصر الشمائل المحمدية للترمذي ص 112-188.
(3) البخاري برقم 7288، ومسلم برقم 2619.
(4) البخاري مع الفتح 9/43، برقم 4998، و 4/213، ومسلم 2/811 وتقدم تخريجه.
(5) البخاري برقم 4433، ومسلم 2450.(19/14)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر القول قبل أن يموت: ”سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك“. قالت: قلت: يا رسول الله، ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقولها؟ قال: ”جُعلت لي علامةٌ في أمتي إذا رأيتها قلتها {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}(1). وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما لعمر عن هذه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إنها: أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه إياه, فقال: ما أعلم منها إلا ما تعلم“(2). وقيل: نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} يوم النحر والنبي صلّى الله عليه وسلّم في منى بحجة الوداع(3)، وقيل: نزلت أيام التشريق(4)، وعند الطبراني أنها لما نزلت هذه السورة أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدَّ ما كان اجتهاداً في أمر الآخرة(5)؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ”سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي“ يتأول القرآن(6). ومعنى ذلك أنه يفعل ما أمر به فيه وهو قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}(7).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة، ومنها:
__________
(1) مسلم 1/351.
(2) البخاري مع الفتح 8/130.
(3) انظر: الفتح 8/734، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوماً. فتح 8/734.
(4) انظر: المرجع السابق 8/130.
(5) انظر: فتح الباري 8/130.
(6) البخاري برقم 794، ومسلم برقم 484.
(7) انظر: شرح النووي 4/447.(19/15)
1 ـ الحث على المداومة على العمل الصالح، وأن قليلاً دائماً خير من كثير منقطع؛ لأن بدوام العمل الصالح القليل تدوم الطاعة والذكر، والمراقبة، والنية، والإخلاص, والإقبال على الخالق، والقليل الدائم يثمر؛ لأنه يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة(1).
2 ـ من أجهد نفسه في شيء من العبادات لا يطيق العمل به خُشِيَ عليه أن يمل فيفضي ذلك إلى تركه(2).
3 ـ الإنسان المسلم كلما تقدم في العمر اجتهد في العمل على حسب القدرة والطاقة، ليلقى الله على خير أحواله؛ ولأن الأعمال بالخواتيم، وخير الأعمال الصالحة خواتيمها(3).
المبحث الرابع: وداعه لأمته ووصاياه في حجة الوداع
1 ـ أذانه في الناس بالحج:
__________
(1) انظر: فتح الباري 1/103، وشرح النووي 6/318.
(2) انظر: فتح الباري 4/215.
(3) انظر: فتح الباري 4/285، و 9/46.(19/16)
1 ـ بعد أن بلَّغ صلّى الله عليه وسلّم البلاغ المبين وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أعلن في الناس وأذَّن فيهم وأعلمهم أنه حاج في السنة العاشرة – بعد أن مكث في المدينة تسع سنين كلها معمورة بالجهاد والدعوة والتعليم – وبعد هذا النداء العظيم الذي قصد به صلّى الله عليه وسلّم إبلاغ الناس فريضة الحج، ليتعلموا المناسك منه صلّى الله عليه وسلّم؛ وليشهدوا أقواله، وأفعاله، ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب، وتشيع دعوة الإسلام، وتبلغ الرسالة القريب والبعيد(1). قال جابر رضي الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذَّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجٌّ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعمل مثل عمله... وساق الحديث وفيه: حتى إذا استوت به ناقته على البيداء(2) نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك(3), ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله وما عمل به من شيء عملنا به... وساق الحديث وقال: حتى إذا أتى عرفة فوجد القبة قد ضُرِبت له بنمرة فنزل بها.
2 ـ وداعه ووصيته لأمته في عرفات:
__________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 8/422 , وشرح الأبي 4/244.
(2) البيداء: اسم للمفازة والصحراء التي لا شيء فيها، وهي هنا موضع بذي الحليفة. فتح الملك المعبود 2/9.
(3) قيل كان عددهم تسعين ألفاً، وقيل مائة وثلاثين ألفاً. انظر: المرجع السابق 2/9، و 105.(19/17)
قال جابر رضي الله عنه: حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: ”إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع(1) ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دمٍ أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله(2) فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله(3) ولكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم(4) أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرِّح(5) ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله(6)
__________
(1) والمعنى أنه أبطل كل شيء من أمور الجاهلية وصار كالشيء الموضوع تحت القدمين فلا يعمل به في الإسلام، فجعله كالشيء الموضوع تحت القدم من حيث إهماله وعدم المبالاة به. انظر: شرح النووي 8/432، وشرح الأبي 4/255، وفتح الملك المعبود 2/18.
(2) والمعنى الزائد على رأس المال باطل أما رأس المال فلصاحبه بنص القرآن، انظر: شرح النووي 8/433.
(3) قيل: الكلمة هي: الأمر بالتسريح بالمعروف أو الإمساك بإحسان، وقيل: هي لا إله إلا الله، وقيل: الإيجاب والقبول، وقيل: هي قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ}، سورة النساء، الآية: 3. قال النووي 8/433، وشرح الأبي 4/256، وفتح الملك المعبود 2/19.
(4) والمعنى لا يأذن لأحد من الرجال أو النساء تكرهون أن يدخل منازلكم، وليس المراد من ذلك الزنا؛ لأنه حرام سواء كرهه الزوج أو لم يكرهوه؛ ولأن فيه الحد. شرح النووي 8/433، والأبي 4/257, وفتح الملك المعبود 2/20.
(5) غير المبرِّح: لا شديد ولا شاق، انظر: فتح الملك المعبود 2/19، وشرح النووي 8/434.
(6) والمعنى قد تركت فيكم أمراً لن تخطئوا إن تمسكتم به في الاعتقاد والعمل وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه، وسكت عن السنة؛ لأن القرآن هو الأصل في الدين، أو لأن القرآن أمر باتباع السنة كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}. سورة النساء، الآية: 59. وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}. سورة الحشر, الآية: 7. انظر: فتح الملك المعبود 2/20، وقد جاء عند الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الوصية ب "... كتاب الله وسنة نبيه.." وصححه الألباني في صحيحه الترغيب برقم 36.(19/18)
, وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون“؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت, ونصحت. فقال بإصبعه السبَّابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ”اللهم اشهد، اللهم اشهد“ ثلاث مرات(1). وقد كان في الموقف جمٌّ غفير لا يُحصي عددها إلا الله تعالى(2).
وأُنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم عرفة يوم الجمعة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}(3) وهذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره, ولا إلى نبي غير نبيهم صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء, وبعثه إلى الجن والإنس فلا حلال إلا ما أحلَّه، ولا حرام إلا ما حرَّمه، ولا دين إلا ما شرعه, وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق, لا كذب فيه ولا خلف, {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}(4) أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي, فلما أكمل الله لهم الدين تمت عليهم النعمة(5).
وقد ذُكر أن عمر بكى عندما نزلت هذه الآية في يوم عرفة, فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا, فأما إذا أُكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص(6), وكأنه رضي الله عنه توقع موت النبي صلّى الله عليه وسلّم قريباً.
3 ـ وداعه ووصيته لأمنه عند الجمرات:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم 1218.
(2) قيل: مائة وثلاثون ألفاً. انظر: فتح الملك المعبود 2/105.
(3) سورة المائدة, الآية: 3, والحديث أخرجه البخاري برقم 45, ومسلم برقم 3016, 3017.
(4) سورة الأنعام, الآية: 115.
(5) تفسير ابن كثير 2/12.
(6) ذكره ابن كثير في تفسيره 2/12 وعزاه بإسناده إلى تفسير الطبري. وهذا يشهد له قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريبًا كما بدأ...“.(19/19)
قال جابر رضي الله عنه: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: ”لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلِّي لا أحُجُّ بعد حجتي هذه“(1).
وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: حججت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة... فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قولاً كثيراً ثم سمعته يقول: ”إن أُمِّر عليكم عبد مجدَّع أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا“(2).
4 ـ وصيته ووداعه لأمته يوم النحر:
__________
(1) مسلم برقم 1297.
(2) مسلم برقم 1298.(19/20)
عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قعد على بعيره وأمسك إنسان بحطامه – أو بزمامه – وخطب الناس فقال: ”أتدرون أيُّ يوم هذا“؟ قالوا: الله ورسوله أعلم [فسكت] حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه, فقال: ”أليس بيوم النحر“؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: ”فأي شهر هذا“؟ قلنا: الله ورسوله أعلم [فسكت] حتى ظننا أنه سيسمه بغير اسمه, فقال: ”أليس بذي الحجة“؟ قلنا بلى يا رسول الله. قال: ”فأي بلد هذا“؟ قلنا الله ورسوله أعلم [فسكت] حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: ”أليست البلدة الحرام“؟ قلنا: بلى يا رسول الله , قال: ”فإن دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا, في شهركم هذا, في بلدكم هذا [وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم, فلا ترجعوا بعدي كفاراً [أو ضُلاَّلاً يضرب بعضكم رقاب بعض, ألا ليبلغ الشاهد [منكم] الغائب [فَرُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامع] ألا هل بلَّغت [ثم انكفأ(1) إلى كبشين أملحين فذبحهما..“(2) قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته فليبلغ الشاهد الغائب(3).
وسكوته صلّى الله عليه وسلّم بعد كل سؤال من هذه الأسئلة الثلاثة كان لاستحضار فهومهم, وليقبلوا عليه بكليتهم, وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه(4).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وقف النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم النحر بين الجمرات... وقال: ”هذا يوم الحج الأكبر“ وطَفِق(5) النبي يقول: ”اللهم اشهد“ وودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع"(6).
__________
(1) انكفأ: أي انقلب. انظر: شرح النووي 11/183.
(2) البخاري 3/26 برقم 67, 105, 1741, 3197, 4406, 4662, 5550, 7078, 7447, ومسلم برقم 1679 والألفاظ من هذه المواضع.
(3) البخاري برقم 1739.
(4) انظر: فتح الباري 1/159.
(5) طفق: جعل وشرع بقول.
(6) البخاري برقم 1742.(19/21)
وقد فتح الله أسماع جميع الحجاج بمنى حتى سمعوا خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم النحر, هذا من معجزاته أن بارك في أسماعهم وقوَّاها حتى سمعها القاضي الداني حتى كانوا يسمعون وهم في منازلهم(1). فعن عبد الرحمن بن معاذ التيمي رضي الله عنه قال: "خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن بمنى فَفُتِحت أسماعُنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا.."(2).
5 ـ وصيته صلّى الله عليه وسلّم لأمته في أوسط أيام التشريق:
__________
(1) انظر: عون المعبود 5/436, وفتح الملك المعبود 2/106.
(2) أبو داود برقم 1957 وفي آخره قصة تدل على أنه يوم النحر, والحديث صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم 1724, 1/369.(19/22)
وخطب صلّى الله عليه وسلّم الناس في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة وهو ثاني أيام التشريق ويقال له: يوم الرؤوس؛ لأن أهل مكة يسمونه بذلك؛ لأكلهم رؤوس الأضاحي فيه, وهو أوسط أيام التشريق(1), فعن أبي نجيح عن رجلين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم, وهما من بني بكر, قالا: رأينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب بين أوسط أيام التشريق, ونحن عند راحلته, وهي خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي خطب(2) بمنى(3), وعن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم وسْطَ أيام التشريق فقال: ”يا أيها الناس إن ربكم واحد, وإن أباكم واحد, ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود, ولا لأسود على أحمر على أحمر إلا بالتقوى, أبلغت“؟ قالوا: بلَّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم قال: ”أي يوم هذا“؟ قالوا: يوم حرام. ثم قال: ”أيُّ شهر هذا“؟ قالوا: شهر حرام. ثم قال: ”أي بلد هذا“؟ قالوا: بلد حرام. قال: ”فإن الله قد حرَّم بينكم دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, كحرمة يومكم هذا, في شهركم هذا, في بلدكم هذا، أبلغت“؟ قالوا بلَّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: ”ليبلغ الشاهد الغائب“(4)
__________
(1) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 5/432, وفتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود 2/100, وفتح الباري 3/574.
(2) ومعنى قوله: "وهي خطبته التي خطب بمنى" أي مثل الخطبة التي خطبها يوم النحر بمنى, فالخطبتان: في يوم النحر, وفي ثاني أيام التشريق اليوم الثاني عشر متحدتان في المعنى. انظر: عون المعبود 5/431، وفتح الملك المعبود 2/100.
(3) أبو داود برقم 1952 ويشهد له حديث سرَّاء بنت نبهان برقم 1953 وصحح حديث أبي نجيح الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/368 برقم 1720.
(4) أحمد بترتيب عبد الرحمن البناء 12/226 وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح 3/266. وانظر: حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه قال: كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أوسط أيام التشريق أذود عنه الناس... وذكر فيه جملاً تراجع ويراجع سند الحديث في مسند أحمد 5/72.(19/23)
.
وهناك جمل من خطبه صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع في الأماكن المقدسة منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس في حجة الوداع فقال: ”إن الشيطان قد يئس أن يُعبد بأرضكم ولكن رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا, إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً, كتاب الله وسنة نبيه...“ الحديث(1). وحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو يخطب الناس على ناقته الجدعاء في حجة الوداع يقول: ”يا أيها الناس أطيعوا ربكم, وصلّوا خمسكم, وأدّوا زكاة أموالكم، وصوموا شهركم, وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم“(2).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ إن كل من قدم المدينة إجابة لأذان النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحج فقد حج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لقول جابر رضي الله عنه: "فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعمل مثل عمله"(3).
2 ـ استحباب نزول الحاج إلى عرفات بعد زوال الشمس إن تيسر ذلك.
3 ـ استحباب خطبة الإمام بالحجاج بعرفات, يبين فيها للناس ما يحتاجون إليه، ويعتني ببيان التوحيد, وأصول الدين, ويحذر فيها من الشرك والبدع والمعاصي, ويوصي الناس بالعمل بالكتاب والسنة.
__________
(1) ذكره المنذري في الترغيب وعزاه إلى الحاكم, وحسنه الألباني صحيح الترغيب 1/21 برقم 36 وله أصل في صحيح مسلم. انظر: حديث رقم 2812, وانظر: مسند أحمد 2/368 والأحاديث الصحيحة برقم 472.
(2) الحاكم 1/473 وصحيحه على شرط مسلم, ووافقه الذهبي.
(3) تقدم تخريجه من حديث جابر رضي الله عنه.(19/24)
وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب في حجة الوداع ثلاث خطب: خطبة يوم عرفة, والخطبة الثانية يوم النحر في منى, والخطبة الثالثة في منى يوم الثاني عشر من ذي الحجة. ومذهب الشافعي أن الإمام يخطب يوم السابع من ذي الحجة كذلك(1), ويعلم الإمام الناس في كل خطبة ما يحتاجون إليه إلى الخطبة لأخرى.
4 ـ تأكيد غلظ تحريم الدماء, والأعراض, والأموال, والأبشار الجلدية.
5 ـ استخدام ضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا“.
6 ـ إبطال أفعال الجاهلية, وربا الجاهلية, وأنه لا قصاص في قتلى الجاهلية.
7 ـ إن الإمام ومن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يجب أن يبدأ بنفسه وأهله؛ لأنه أقرب لقبول قوله, وطيب نفس من قرب عهده بالإسلام.
8 ـ الموضوع من الربا هو الزائد على رأس المال, أما رأس المال فلصاحبه.
9 ـ مراعاة حق النساء, ومعاشرتهن بالمعروف, وقد جاءت أحاديث كثيرة بذلك جمعها النووي أو معظمها في رياض الصالحين.
10 ـ وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وجواز تأديبها إذا أتت بما يقتضي التأديب لكن بالشروط والضوابط التي جاءت بالكتاب والسنة، وأن لا يحصل منكر من أجل ذلك التأديب.
11 ـ الوصية بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
12 ـ قوله: ”لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه“ ففي ذلك لام الأمر, والمعنى خذوا مناسككم, وهكذا وقع في رواية غير مسلم, وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال، والأفعال، والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها, واحفظوها واعملوا بها، وعلموها الناس, وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج, فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”صلوا كما رأيتموني أصلي“(2).
__________
(1) انظر: فتح الملك المعبود في تكملة المنهل المورود 2/20.
(2) البخاري برقم 7246.(19/25)
ـ وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”لعلي لا أحج بعد حجتي هذه“ إشارة إلى توديعهم, وإعلامهم بقرب وفاته صلّى الله عليه وسلّم, وحثهم على الأخذ عنه, وانتهاز الفرصة وملازمته, وبهذا سميت حجة الوداع.
14 ـ الحث على تبليغ العلم ونشره, وأن الفهم ليس شرطاً في الأداء, وأنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدم ولكن بقلة, وأن الأفضل أن يكون الخطيب على مكان مرتفع؛ ليكون أبلغ في سماع الناس ورؤيتهم له.
15 ـ استخدام السؤال ثم السكوت والتفسير يدل على التفخيم, والتقرير والتنبيه.
16 ـ الأمر بطاعة ولي الأمر مادام يقود الناس بكتاب الله تعالى, وإذا ظهرت منه بعض المعاصي والمنكرات, وُعِظَ وَذُكِّر بالله وخُوِّف به لكن بالحكمة والأسلوب الحسن.
17 ـ الوصية بطاعة الله, والصلاة, والزكاة, والصيام, وأنه لا فرق بين أصناف الناس إلا بالتقوى.
18 ـ معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الظاهرة الدالة على صدقه, وذلك بسماع الناس لخطبته يوم النحر وهم في منازلهم(1) فقد فتح الله لأسماعهم كلهم لها.
19 ـ الضحية سنه مؤكدة على الصحيح من أقوال أهل العلم, وهي في حق الحاج وغير الحاج فلا يجزئ عنها الهدي, وإنما هي سنة مستقلة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن خطب الناس بمنى انقلب فذبح كبشين أملحين(2) وهذا غير الهدايا التي نحرها بيده وأشرك عليّاً في الهدي وأمره بنحر الباقي من البدن.
المبحث الخامس: توديعه للأحياء والأموات
__________
(1) البخاري, ومسلم برقم 1679 وتقدم تخريجه.
(2) انظر: فتح الباري 3/574, 577, وشرح النووي 8/422 – 434 و9 /51-52 و11/182, وفتح الملك المعبود في تكملة المنهل المورود شرح سنن أبي داود 2/20 و2/54, 2/99-206.(19/26)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما كان ليلتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: ”السلام عليكم دار قول مؤمنين, وآتاكم ما توعدون, غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون, اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد“(1). وفي رواية أنه قال صلّى الله عليه وسلّم: ”فإن جبريل أتاني.. فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم“ قالت عائشة: يا رسول الله, كيف أقول لهم؟ قال: ”قولي: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون“(2).
وقد ذكر الإمام الأبي رحمه الله تعالى أن خروجه هذا كان في آخر عمره صلّى الله عليه وسلّم(3) وهذا والله أعلم يدل على توديعه للأموات كما فعل مع شهداء أحد؛ ولهذا والله أعلم كان يخرج في الليل ويقف في البقيع يدعو لهم كما قالت عائشة رضي الله عنها: ”ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف...“(4).
__________
(1) البقيع هو مدفن أهل المدينة, وسمي بقيع الغرقد, لغرقد كان فيه, وهو ما عظم من العوسج. انظر: شرح النووي 7/46, وشرح الأبي على مسلم 3/390.
(2) أخرجه مسلم برقم 974.
(3) انظر: شرح الأبي على صحيح مسلم 3/388, وفتح الباري 7/349.
(4) مسلم برقم 974.(19/27)
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج يوماً فصلى على قتلى أُحد صلاة الميت(1) بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع علي المنبر فقال: ”إني بين أيديكم فرط لكم, وأنا شهيد عليكم, وإن موعدكم الحوض, وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن مقامي هذا, وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض, أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي(2), ولكني أخاف عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها [وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم] قال عقبة: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [على المنبر]“(3).
فتوديعه صلّى الله عليه وسلّم للأحياء ظاهر؛ لأن سياق الأحاديث يشعر أن ذلك كان آخر حياته صلّى الله عليه وسلّم, وأما توديعه للأموات فباستغفاره لأهل البقيع ودعائه لأهل أحد, وانقطاعه بجسده عن زيارتهم(4).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة, منها:
1 ـ حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على نفع أمته, والنصح لهم في الحياة, وبعد الممات؛ ولهذا صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنوات، وزار أهل البقيع ودعا لهم, وأوصى الأحياء ونصحهم, ووعظهم وأمرهم ونهاهم فما ترك خيراً إلا دلهم عليه, ولا شرًا إلا حذرهم منه.
__________
(1) الأحاديث الصحيحة دلت أن شهداء المعركة لا يصلى عليهم, أما هذا الحديث فكأنه صلّى الله عليه وسلّم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعاً لهم بذلك, كما ودع أهل البقيع بالاستغفار لهم. انظر: فتح الباري 3/210 و7/349 ورجح ذلك العلامة ابن باز في تعليقه على فتح الباري 6/611.
(2) أي لا أخاف على مجموعكم؛ لأن الشرك قد وقع من بعض أمته بعده صلّى الله عليه وسلّم. فتح الباري 3/211.
(3) البخاري من الألفاظ في جميع المواضع, برقم 1344, 3596, 4042, 4085، 6426, 6590، ومسلم برقم 2296, وما بين المعكوفين من صحيح مسلم.
(4) الفتح 7/349.(19/28)
2 ـ التحذير من فتنة زهرة الدنيا لمن فتحت عليه, فينبغي له أن يحذر سوء عاقبتها, ولا يطمئن إلى زخارفها, ولا ينافس غيره فيها, ويستخدم ما عنده منها في طاعة الله تعالى(1).
المبحث السادس: بداية مرضه صلّى الله عليه وسلّم وأمره لأبي بكر أن يصلي بالناس
رجع صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقية الشهر, والمحرم, وصفراً, وجهز جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه, فبينما الناس على ذلك ابتدئ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشكواه في ليال بقين من صفر: قيل في الثاني والعشرين منه, وقيل: في التاسع والعشرين , وقيل: بل في أول شهر ربيع الأول, وقد صلى على شهداء أحد فدعا لهم كما تقدم, وذهب إلى أهل البقيع وسلم عليهم ودعا لهم مودعاً لهم, ثم رجع مرة من البقيع فوجد عائشة وهي تشتكي من صداع برأسها وهي تقول: وارأساه. فقال: ”بل أنا والله يا عائشة وارأساه“. قالت عائشة رضي الله عنها: ثم قال: ”وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك, وصليت عليك, ودفنتك“ قالت: قلت: والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك. قالت: ”فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم“(2) وتتام به وجعه حتى استعزبه(3) وهو في بيت ميمونة, فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي(4)
__________
(1) انظر: فتح الباري 11/245 .
(2) ابن هشام بسند ابن إسحاق, انظر: سيرة ابن هشام 4/320, وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/224, وفتح الباري 8/ 129 - 130, وأخرجه أحمد 6/144 و228 لابن ماجه, والبيهقي, وقال الألباني: إن ابن إسحاق قد صرح بالتحديث في رواية ابن هشام فثبت الحديث والحمد لله. أحكام الجنائز ص 50.
(3) استعزبه: اشتد عليه وغلبه على نفسه.
(4) انظر: سيرة ابن هشام 4/320 والبداية والنهاية لا بن كثير 5/223 - 231, وقيل: كان ذلك في التاسع والعشرين من شهر صفر يوم الأربعاء, فبقي في مرضه ثلاثة عشر يوماً وهذا قول الأكثر.
انظر: الفتح 8/129.(19/29)
.
وأول ما اشتدَّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه في بيت ميمونة رضي الله عنها فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها(1), فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذنَّ له فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر(2) وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما دخل بين واشتد به وجعه قال: ”هَرِيقوا(3) عليَّ من سبع قرب(4) لم تُحْلَلْ أوكيتهن لعلي أعهد(5) إلى الناس, فأجلسناه في مِخضَب(6) لحفصة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم طفقنا(7) نصب عليه من تلك القرب, حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن, ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم“(8).
__________
(1) صحيح مسلم برقم 418, وانظر: فتح الباري 8/129.
(2) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما قال ابن عباس في آخر حديث البخاري رقم 687 ومسلم 418.
(3) وفي رواية: أهريقوا: أي أريقوا وصبوا. الفتح 1/303.
(4) هذا من باب التداوي؛ لأن لعدد السبع دخولاً في كثير من أمور الشريعة, وأصل الخلقة, وفي رواية لهذا الحديث عند الطبراني: ”... من آبار شتى“. الفتح 1/303 و8/141.
(5) أعهد: أي أوصي. الفتح 1/303.
(6) المخضب: هو إناء نحو المركن الذي يغسل فيه وتغسل فيه الثياب من أي جنس كان. النووي 4/379 والفتح 1/301 و303.
(7) طفقنا: أي شرعنا: يقال: طفق يفعل كذا إذا شرع في فعل واستمر فيه. الفتح 3/303.
(8) البخاري برقم 198 وذكر هنا له ستة عشر موضعاً, وقد جمع بين هذه المواضع الألباني في مختصر البخاري 1/170, ومسلم برقم 418.(19/30)
وعنها رضي الله عنها قالت: "ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ”أصلى الناس“؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قال: ”ضعوا لي ماء في المخضب“ قالت: ففعلنا. فاغتسل فذهب لينوءَ(1) فأُغمي عليه, ثم أفاق فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”أصلى الناس“؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: ”ضعوا لي ماء في المخضب“ قالت: ففعلنا [فقعد] فاغتسل. ثم ذهب لينوء فأُغمي عليه. ثم أفاق فقال: ”أصلى الناس“؟ فقلنا: لا , هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: ”ضعوا لي ماء في المخضب“ ففعلنا [فقعد] فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه, ثم أفاق فقال: ”أصلى الناس“؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلّى الله عليه وسلّم لصلاة العشاء الآخرة, قالت: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي بكر؛ ليصلي بالناس, فأتاه الرسول(2) فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تصلي بالناس. فقال أبو بكر – وكان رجلاً رقيقاً – يا عمر! صلِّ بالناس. فقال له عمر: أنت أحقُّ بذلك. قالت: فصلَّى بهم أبو بكر تلك الأيام. ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد من نفسه خِفَّة فخرج بين رجلين – أحدهما العباس(3)– لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس, فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر, فأومأ إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يتأخر , وقال لهما: ”أجلساني إلى جنبه“ فأجلساه إلى جنب أبي بكر, فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم يأتم بصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلّى الله عليه وسلّم قاعد“(4). وهذا صريح في أن هذه الصلاة هي صلاة الظهر(5)
__________
(1) لينوء: أي لينهض بجهد. الفتح 2/174.
(2) أي الذي أرسله إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم ليصلي بالناس.
(3) والآخر علي رضي الله عنه كما تقدم.
(4) البخاري برقم 687 ومسلم برقم 418 وقد اخترت بعض الألفاظ من البخاري وبعضها من مسلم.
(5) وزعم بعضهم أنها الصبح, واستدل برواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس: ”وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القراءة من حيث بلغ أبو بكر, وهذا لفظ ابن ماجه وإسناده حسن؛ لكن في الاستدلال به نظر؛ لاحتمال أن يكون صلّى الله عليه وسلّم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي انتهى إليها أبو بكر خاصة, وقد كان هو يسمع الآية أحياناً في الصلاة السرية كما في حديث أبي قيادة, ثم لو سلم لم يكن فيه دليل على أنها الصبح بل يحتمل أن تكون المغرب فقد ثبت في الصحيحين من حديث أم الفضل قالت: "سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفاً, ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله" البخاري برقم 763 و4429, ومسلم برقم 462 قال ابن حجر: لكن وجدت في النسائي أن هذه الصلاة التي ذكرتها أم الفضل كانت في بيته وقد صرح الشافعي أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يصلِّ بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة وهي هذه التي صلى فيها قاعداً وكان أبو بكر فيها أولاً إماماً ثم صار مأموماً يسمع الناس التكبير. انظر: الفتح 2/175.(19/31)
. وقد كان صلّى الله عليه وسلّم حريصاً على أن يكون أبو بكر هو الإمام وردد الأمر بذلك مراراً, فمن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثَقُل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء بلال يؤذنه بالصلاة, فقال: ”مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“ فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف(1) وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر؟ فقال: ”مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“ قالت: فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر, فقالت له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إنكنَّ لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“ فقالت حفصة لعائشة: [ما كنت لأصيب منك خيراً]. قالت عائشة: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نفسه خفة, فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر, فأومأ إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”قم مكانك“ فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جلس عن يسار أبي بكر, فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر“(2).
__________
(1) أسيف: شديد الحزن: والمراد أنه رقيق القلب إذا قرأ غلبه البكاء فلا يقدر على القراءة. فتح 2/152, 165, 203.
(2) البخاري برقم 713 , 2/204 ومسلم برقم 418, قول حفصة رضي الله عنها: ما كنت لأصيب منك خيراً. البخاري برقم 679.(19/32)
والسبب الذي جعل عائشة رضي الله عنها تراجع النبي صلّى الله عليه وسلّم في إمامة أبي بكر بالصلاة هو ما بيَّنَتْه في رواية أخرى قالت رضي الله عنها: ”لقد راجعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً, ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به, فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أبي بكر“(1)؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم لها ولحفصة: ”إنكن لأنتن صواحب يوسف“(2).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وتقديمه صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر معلوم بالضرورة من دين الإسلام وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة, وأقرؤهم لما ثبت في الصحيح: ”يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله..“(3) الحديث. نعم قد اجتمعت في أبي بكر هذه الصفات رضي الله عنه...(4).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ استحباب زيارة قبور الشهداء بأحد وقبور أهل البقيع والدعاء لهم بشرط عدم شد الرحال, وعدم إحداث البدع.
2 ـ جواز تغسل الرجل زوجته وتجهيزها والزوجة كذلك.
__________
(1) البخاري برقم 198, و4445, ومسلم برقم 418 رواية 93.
(2) البخاري برقم 713, مسلم برقم 418 وتقدم تخريجه.
(3) مسلم برقم 673.
(4) البداية والنهاية 5/234 وروى البيهقي عن أنس رضي الله عنه أنه كان يقول: ”آخر صلاة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع القوم في ثوب واحد ملتحفاً به خلف أبي بكر“ قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية 5/234: ”وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح“ ورجح العلامة ابن باز حفظه الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يصلِّ خلف أحد من أمته إلا عبد الرحمن بن عوف. قلت: أما الصلاة التي صلاها مع أبي بكر فإنه هو الإمام كما تقدم والله أعلم.(19/33)
3 ـ جواز استئذان الرجل زوجاته أن يُمرِّض في بيت إحداهن كان الانتقال يشق عليه, وإذا لم يأذنَّ فحينئذ يقرع بينهن.
4 ـ جواز المرض والإغماء على الأنبياء بخلاف الجنون فإنه لا يجوز عليهم؛ لأنه نقص, والحملة من مرض الأنبياء؛ لتكثير أجرهم، ورفع درجاتهم, وتسلية الناس بهم؛ ولئلا يفتتن الناس بهم فيعبدونهم؛ لما يظهر على أيديهم من المعجزات والآيات البينات, وهم مع ذلك لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً إلا ما شاء الله.
5 ـ استحباب الغسل من الإغماء؛ لأنه ينشط ويزيل أو يخفف الحرارة.
6 ـ إذا تأخر الإمام تأخراً يسيراً ينتظر, فإذا شق الانتظار صلى أعلم الحاضرين.
7 ـ فضل أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة رضي الله عنهم, وتنبيهه وتنبيه الناس أنه أحق بالخلافة من غيره؛ لأن الصلاة بالناس للخليفة؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: ”رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا“.
8 ـ إذا عرض للإمام عارض أو شغل بأمر لا بد منه منعه من حضور الجماعة فإنه يستخلف من يصلي بهم ويكون أفضلهم.
9 ـ فضل عمر رضي الله منه؛ لأن أبا بكر وثق به, ولهذا أمره أن يصلي ولم يعدل إلى غيره.
10 ـ جواز الثناء والمدح في الوجه لمن أُمِنَ عليه الإعجاب والفتنة؛ لقول عمر رضي الله عنه: ”أنت أحق بذلك“.
11 ـ دفع الفضلاء الأمور العظيمة عن أنفسهم إذا كان هناك من يقول بها على وجه مقبول.
12 ـ يجوز للمستخلف في الصلاة ونحوها أن خلف غيره من الثقات لقول أبي بكر: ”صلِّ يا عمر“.
13 ـ الصلاة من أهم ما يسأل عنه.
14 ـ فضل عائشة رضي الله عنها على جميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم الموجودات ذلك الوقت وهن تسع إحداهن عائشة رضي الله عنهن.
15 ـ جواز مراجعة ولي الأمر على سبيل العرض والمشاورة والاستشارة بما يظهر أنه مصلحة, لكن بعبارة لطيفة تحمل الحكمة وحسن الأسلوب.(19/34)
16 ـ جواز وقوف المأموم بجنب الإمام لحاجة أو مصلحة: كإسماع المأمومين التكبير في الجم الغفير الذين لا يسمعون الصوت, أو ضيق المكان, أو علة أخرى كصلاة المرأة بالنساء, أو المنفرد مع الإمام، أو إمام العراة.
17 ـ جواز رفع الصوت بالتكبير فينقل المبلغ للناس صوت الإمام إذا لم يسمع الناس تكبير الإمام.
18 ـ التنبيه على الحرص على حضور الصلاة مع الجماعة إلا عند العجز التام عن ذلك.
19 ـ الأعلم والأفضل أحق بالإمامة من العالم والفاضل.
20 ـ إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالساً صلي الناس جلوساً, وإذا صلى قائماً صلوا قياماً.
21 ـ البكاء في الصلاة من خشية الله لا حرج فيه لكن لا يتكلف ذلك ولا يطلبه, فإذا غلبه البكاء في الصلاة بدون اختياره فلا حرج(1).
المبحث السابع: خطبته العظيمة ووصيته للناس
__________
(1) انظر: شرح النووي 4/379 – 386 , وشرح الأبي 2/301- 302, وفتح الباري 2/ 151, 152, 164 و166, 173, 203, 206.(19/35)
خطب عليه الصلاة والسلام أصحابه في يوم الخميس قبل أن يموت بخمسة أيام خطبة عظيمة بيَّن فيها فضل الصدِّيق من سائر الصحابة, مع ما قد كان نص عليه أن يؤم الصحابة أجمعين, ولعل خطبته هذه كانت عوضاً أراد يكتبه في الكتاب, وقد اغتسل عليه الصلاة والسلام بين يدي هذه الخطبة العظيمة, فصبوا عليه من سبع قرب لم تُحلل أوكيتهن, وهذا من باب الاستشفاء بعدد السبع كما وردت به الأحاديث(1) والمقصود أنه صلّى الله عليه وسلّم اغتسل ثم خرج وصلى بالناس ثم خطبهم. قال جندب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ”إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل(2)؛ فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً, كما اتخذ إبراهيم خليلاً, ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً, ألا وألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد, ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك“(3). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ”إن الله خيَّر عبداً بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عند الله“, فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: فديناك بآبائنا وأُمهاتنا, فعجبنا له, وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عبدٍ خيَّرَه الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك
__________
(1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/228.
(2) الخُلَّة: الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خِلاله؛ أي في باطنه, وهي أعلى المحبة الخالصة, والخليل: الصديق الخالص؛ وإنما قال ذلك صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن خلته كانت مقصوره على حب الله تعالى فليس فيها لغيره متسع ولا شركة من محاب الدنيا والآخرة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/72, والمصباح المنبر 1/180, وشرح النووي 5/16, شرح الأبي 2/426.
(3) مسلم برقم 532.(19/36)
بآبائنا وأمهاتنا, فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو [العبد] المخيَّر, وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”[يا أبا بكر لا تبكي] إن من أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله(1) أبو بكر, ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر, ولكن أُخوَّةُ الإسلام, ومودته, لا يَبْقَينَّ في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر“(2).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب إلا باب أبي بكر من جملة الإشارات التي تدل على أنه هو الخليفة.
2 ـ فضل أبي بكر رضي الله عنه وأنه أعلم الصحابة رضي الله عنهم, ومن كان أرفع في الفهم استحق أن يطلق عليه أعلم, وأنه أحب الصحابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
3 ـ الترغيب في اختيار ما في الآخرة على ما في الدنيا, وأن الرغبة في البقاء في الدنيا وقتاً من الزمن إنما هي للرغبة في رفع الدرجات في الآخرة وذلك بالازدياد من الحسنات لرفع الدرجات.
4 ـ شكر المحسن والتنويه بفضله وإحسانه والثناء عليه؛ لأن من لم يشكر الناس لا يشكر الله تعالى.
5 ـ التحذير من اتخاذ المساجد على القبور وإدخال القبور في المساجد أو وضع الصور فيها, ولعن من فعل ذلك, وأنه من شرار الخلق عند الله كائناً من كان(3).
6 ـ حب الصحابة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر من النفس والولد والوالد والناس أجمعين ولهذا يفدونه بآبائهم وأمهاتهم.
المبحث الثامن: اشتداد مرضه صلّى الله عليه وسلّم ووصيته في تلك الشدة
__________
(1) معناه: أكثرهم جوداً لنا بنفسه وماله, انظر: فتح الباري 1/559, وشرح النووي 15/160.
(2) البخاري برقم 466, 3654, 3904, ومسلم برقم 2382.
(3) انظر: فتح الباري 1/559, 7/14, 16, والنووي 15/16.(19/37)
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات(1) وينفث فلما اشتد [الذي توفي فيه] كنت أقرأ [وفي رواية أنفث] عليه بهن وأمسح بيده نفسه رجاء بركتها. قال ابن شهاب: ”ينفث على يديه ثم يمسح يهما وجهه“(2). وفي صحيح مسلم قالت: ”كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي“(3). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: اجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يغادر منهن امرأة فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: ”مرحباً بابنتي“ فأجلسها عن يمينه أو عن شماله, ثم إنه أسرَّ إليها حديثاً فبكت فاطمة. ثم إنه سارّها فضحكت أيضاً, فقلتُ لها ما يبكيك؟ فقالت: ما كنتُ لأفشي سرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حُزْنٍ، فقلت حين بكت أخصَّك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحديثه دوننا ثم تبكين؟ وسألتها عما قال: فقالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت: عزمتُ عليك بمالي من الحق لما حدثتيني ما قال لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت: أما الآن فنعم: أما حين سارَّني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن كل عام مرة وإنه عارضه به في العام مرتين ولا أُراني(4)
__________
(1) المراد بالمعوذات: قل هو الله أحد, وقل أعوذ برب الفلق, وقل أعوذ برب الناس. انظر: الفتح 8/131 و9/62.
(2) البخاري برقم 4439, 5016, 5735, 5751, ومسلم برقم 2192 وكان يفعل ذلك صلّى الله عليه وسلّم أيضاً إذا أوى إلى فراشه "فيقرأ بقل هو الله أحد, وبالمعوذتين جميعاً ثم يمسح يهما وجهه وما بلغت من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات" البخاري برقم 5748.
(3) مسلم برقم 2192.
(4) أي لا أظن.(19/38)
إلا قد حضر أجلي فاتقي الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك, قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت, فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: ”يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين, أو سيدة نساء هذه الأمة“؟ قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت"(1) وفي رواية: ”فأخبرني أني أول من يتبعه من أهله فضحكت“(2).
وسبب ضحكها رضي الله عنها أنها سيدة نساء المؤمنين, وأول من يلحق به من أهله, وسبب الكباء أنه أخبرها بموته صلّى الله عليه وسلّم, قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وروى النسائي في سبب الضحك الآمرين"(3) أي بشارتها بأنها سيد ة نساء هذه الأمة, وكونها أول من يلحق به من أهله. وقد اتفقوا على أن فاطمة رضي الله عنها أول من مات من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده حتى من أزواجه(4).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحداً أشدَّ عليه الوجع(5) من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم"(6).
__________
(1) البخاري برقم 4433, 4434, ومسلم برقم 2450, واللفظ لمسلم.
(2) البخاري برقم 4433, 4434, ومسلم 2450.
(3) انظر: فتح الباري 8/138.
(4) انظر: فتح الباري 8/136.
(5) المراد بالوجع: المرض, والعرب تسمي كل مرض وجعاً. انظر: الفتح 10/111, وشرح النووي 16/363.
(6) البخاري برقم 5646, ومسلم 2570.(19/39)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يوعك(1) فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً, فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”أجل إني أُوعك كما رَجُلان منكم“ قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه [شوكة فما فوقها] إلا حط الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها“(2).
وعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نُزِلَ(3) برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طفق(4) يطرح خميصة(5) له على وجهه فإذا اغتم(6) كشفها عن وجهه وهو كذلك يقول: ”لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد“ يُحذرُ ما صنعوا(7).
وعن عائشة رضي الله عنها أنهم تذاكروا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه فذكرت أمُّ سلمة وأمُّ حبيبة كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصوير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة“(8).
__________
(1) يوعك: قيل الحمى, وقيل ألمها , وقيل إرعادها الموعوك وتحريكها إياه. الفتح 10/111.
(2) البخاري مع الفتح 10/111 برقم 5647, 5648, 5660, 5661, 5667, ومسلم 4/1991 برقم 2571 واللفظ له إلا ما بين المعكوفين.
(3) نُزِل: أي لما حضرت المنية والوفاة. انظر: شرح السنوسي على صحيح مسلم بهامش الأبي 2/425, وفتح الباري 1/532.
(4) طفق: أي شرح وجعل, انظر: شرح النووي 5/16, وشرح الأبي 2/425, حاشية السنوسي, وفتح الباري 1/532.
(5) خميصة: كساء له أعلام.
(6) اغتم: تسخن بالخميصة وأخذ بنفسه من شدة الحرارة.
(7) البخاري مع الفتح 8/140 برقم 4443، 4444, ومسلم برقم 531.
(8) البخاري برقم 427 و434, 1341, 3878, ومسلم برقم 528.(19/40)
وعن عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت: "قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي لم يقم منه: ”لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد“ قالت: فلولا ذلك لأبرزوا قبره, غير أني أخشى أن يُتخذ مسجداً"(1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”لا تجعلوا بيوتكم قبوراً, ولا تجعلوا قبري عيداً, وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم“(2).
وعن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل يتغشاه(3), فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أباه(4) فقال لها: ”ليس على أبيك كرب بعد اليوم“ فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه, يا لأبتاه من جنة الفردوس مأواه , يا أبتاه إلى جبريل ننعاه(5). فلما دُفن قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس! أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التراب“؟(6).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة ومنها:
1 ـ استحباب الرقية بالقرآن, وبالأذكار, وإنما جاءت الرقية بالمعوذات؛ لأنها جامعة للاستعاذة من كل المكروهات جملة وتفصيلاً, ففيها الاستعاذة من شر ما خلق الله عز وجل, فيدخل في ذلك كل شيء, ومن شر النفاثات في العقد, ومن شر السواحر, ومن شر الحاسدين, ومن شر الوسواس الخناس(7).
__________
(1) البخاري برقم 435, 1330، 1390, 3453, 4441, 4443, 5815, ومسلم برقم 529 ولفظ مسلم ”غير أنه خُشِيَ“, وعند البخاري برقم 1390 ”غير أنه خَشِيَ أو خُشِيَ“.
(2) أبو داود 2/218, وأحمد 2/367, وانظر صحيح أبي داود 1/383.
(3) يتعشاه: يغطيه ما اشتدّ به من مرض فيأخذ بنفسه ويغمه.
(4) لم ترفع صوتها رضي الله عنها بذلك, وإلا لنهاها صلّى الله عليه وسلّم. انظر: الفتح 8/149.
(5) ننعاه: نَعَى الميت إذا أذاع موته وأخبر به.
(6) البخاري برقم 4462.
(7) انظر: شرح النووي 14/433, والأبي 7/375.(19/41)
2 ـ عناية النبي صلّى الله عليه وسلّم ببنته فاطمة ومحبته لها؛ ولهذا قال: ”مرحباً بابنتي“ وقد جاءت الأخبار أنها كانت إذا دخلت عليه قام إليها وقبَّلها, وأجلسها في مجلسه, وإذا دخل عليها فعلت ذلك رضي الله عنها, فلما مرض دخلت عليه وأكتب عليه تقبله(1).
3 ـ يؤخذ من قصة فاطمة رضي الله عنها أنه ينبغي العناية بالبنات, والعطف عليهن, والإحسان إليهن, ورحمتهن, وتربيتهن التربية الإسلامية, اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم, وأن يختار لها الزوج الصالح المناسب.
4 ـ عناية الولد بالوالد كما فعلت فاطمة رضي الله عنها, فيجب على الولد أن يحسن إلى والديه, ويعتني ببرهما, ولا يعقهما, فيتعرض لعقوبة الله تعالى.
5 ـ معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي تدل على صدقه وأنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, ومن ذلك أنه أخبر أن فاطمة أول من يلحقه من أهله, فكانت أول من مات من أهله بالاتفاق.
6 ـ سرور أهل الإيمان بالانتقال إلى الآخرة, وإيثارهم حب الآخرة على الدنيا لحبهم للقاء الله تعالى, ولكنهم لا يتمنون الموت لضر نزل بهم؛ لرغبتهم في الإكثار من الأعمال الصالحة؛ لأن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث كما بين النبي عليه الصلاة والسلام.
7 ـ المريض إذا قرب أجله ينبغي له أن يوصي أهله بالصبر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة: ”فاتقي الله واصبري“.
8 ـ فضل فاطمة رضي الله عنها وأنها سيدة نساء المؤمنين.
__________
(1) انظر: فتح الباري 8/135, 136.(19/42)
9 ـ المرض إذا احتسب المسلم ثوابه, فإنه يكفر الخطايا, ويرفع الدرجات, ويزاد به الحسنات, وذلك عام في الأسقام, والأمراض ومصائب الدنيا, وهمومها وإن قلت مشقتها, والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أشد الناس بلاء, ثم الأمثل فالأمثال؛ لأنهم مخصوصون بكمال الصبر والاحتساب، ومعرفة أن ذلك نعمة من الله تعالى ليتم لهم الخير ويضاعف لهم الأجر, ويظهر صبرهم ورضاهم, ويُلحق بالأنبياء الأمثال فالأمثل من أتباعهم؛ لقربهم منهم وإن كانت درجتهم أقل, السر في ذلك والله أعلم أن البلاء في مقابلة النعمة, فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد؛ ولهذا ضوعف حد الحر على حد العبد, وقال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}(1). والقوي يُحمَّل ما حمل, والضيبف يرفق به, إلا أنه كلما قويت المعرفة هان البلاء, ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء, وأعلى من ذلك من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ويرضى ولا يعترض(2).
10 ـ التحذير من بناء المساجد على القبور ومن إدخال القبور والصور في المساجد, ولعن من فعل ذلك, وأنه من شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة, وهذا من أعظم الوصايا التي أوصى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل موته بخمسة أيام(3).
المبحث التاسع: وصايا النبي صلّى الله عليه وسلّم عند موته
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 30, وانظر: شرح النووي 16/238, 365, 366, 5/14, والأبي 8/326.
(2) انظر: فتح الباري 8/136, و10/112, و3/208.
(3) انظر: فتح الباري 8/136, و10/112, و3/208.(19/43)
عن ابن عباس رضي عنهما قال: يوم الخميس وما يوم الخميس(1) اشتد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: ”ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً“ فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي التنازع [فقال بعضهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله,] [فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده, ومنهم من يقوم غير ذلك, فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "[قوموا] وفي رواية: ”دعوني فالذي أنا فيه خير(2) مما تدعونني إليه] أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب, وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به“(3) وسكت عن الثالثة أو قال فأنسيتها"(4) قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وأوصاهم بثلاث" أي في تلك الحالة, وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن أمراً
__________
(1) يوم الخميس وما يوم الخميس؛ معناه: تفخيم أمره في الشدة والمكروه, والتعجب منه , وفي رواية في أواخر كتاب الجهاد عند البخاري: ”ثم بكى حتى خضب دمعه الحصى“. وفي رواية لمسلم: ”ثم جعلت تسيل دموعه حتى رأيتها على خديه...“ انظر: فتح الباري 8/132، وشرح النووي على صحيح مسلم.
(2) المعنى: دعوني من النزاع والاختلاف الذي شرعتم فيه فالذي أنا فيه من مراقبة الله تعالى والتأهب للقائه, والفكر في ذلك خير مما أنتم فيه, أو فالذي أعانيه من كرامة الله تعالى الذي أعدها لي بعد فراق الدنيا خير مما أنا فيه من الحياة.. وقبل غير ذلك. انظر: فتح الباري 8/134, وشرح النووي.
(3) وأجيزوا الوفد: أي أعطوهم, والجائزة العطية, وهذا أمر منه صلّى الله عليه وسلّم بإجازة الوفود وضيافتهم وإكرامهم تطييباً لنفوسهم وترغيباً لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم, وإعانة لهم على سفرهم. انظر: فتح الباري 7/135 وشرح النووي.
(4) البخاري برقم 4431, 4432, ومسلم برقم 1637.(19/44)
متحتماً؛ لأنه لو كان مما أُمر بتبليغه لم يتركه لوقوع اختلافهم ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه, ولبلَّغه لهم لفظاً كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك، وقد عاش بعد هذه المقالة أياماً وحفظوا عنه أشياء لفظاً فيحتمل أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبه والله أعلم(1).
والوصية الثالثة في هذا الحديث يحتمل أن تكون الوصية بالقرآن, أو الوصية بتنفيذ جيش أسامة رضي الله عنه. أو الوصية بالصلاة وما ملكت الأيمان, أو الوصية وما ملكت الأيمان، أو الوصية بأن لا يتخذ قبره صلّى الله عليه وسلّم وثناً يُعبد من دون الله, وقد ثبتت هذه الوصايا عنه صلّى الله عليه وسلّم(2).
وعن عبد الله بن أبي أوْفَى رضي الله عنه أنه سئل هل أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟... قال: ”أوصى بكتاب الله عز وجل“(3). والمراد بالوصية بكتاب الله: حفظه حسّاً ومعنى, فيكرم ويصان, ويتبع ما فيه: فيعمل بأوامره, ويجتنب نواهيه, ويداوم على تلاوته وتعلمه وتعليمه ونحو ذلك(4).
__________
(1) فتح الباري 8/134.
(2) المرجع السابق 8/135.
(3) مسلم برقم 1634, البخاري برقم 2740, 4460, 5022.
(4) الفتح 9/67.(19/45)
وأمر عليه الصلاة والسلام وأوصى بإنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه, وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى أنه كان تجهيز جيش أسامة يوم السبت قبل موت النبي صلّى الله عليه وسلّم بيومين, وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم, فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر, ودعا أسامة وقال: ”سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل, فقد وليتك هذا الجيش...“ فبدأ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه في اليوم الثالث فعقد لأسامة لواء بيده فأخذه أسامة, وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار, ثم اشتد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: ”أنفذوا جيش أسامة“ فجهزه أبو بكر بعد أن استخلف فسار عشرين ليلة إلى الجهة التي أمر بها, وقتل قاتل أبيه ورجع الجيش سالماً وقد غنموا..“(1).
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثاً وأمَّر عليهم أسامة بن زيد فطعن بعض الناس في إمارته فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل, وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة(2) وإن كان لمن أحبِّ الناس إليَّ, وإنَّ هذا لمن أحبّ الناس إليَّ بعده“(3). وقد كان عُمْرُ أسامة رضي الله عنه حين توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم ثمان عشر سنة(4).
__________
(1) انظر: فتح الباري 8/152, وسيرة ابن هشام 4/328.
(2) خليقاً: حقيقاً بها. النووي 15/205.
(3) البخاري 7/86, برقم 3730, 4250, 4468, 4469, 6627, 7187, ومسلم برقم 2426.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 15/205.(19/46)
وأوصي صلّى الله عليه وسلّم بالصلاة وما مكلت الأيمان, فعن أنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت: ”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم“ حتى جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغرغر صدره ولا يكاد يفيض بها لسانه“(1).
وعن علي رضي الله عنه قال: كان آخر كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم“(2).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة ومنها:
1 ـ وجوب إخراج المشركين من جزيرة العرب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى بذلك عند موته, وقد أخرجهم عمر رضي الله عنه في بداية خلافته, أما أبو بكر فقد انشغل بحروب الردة.
2 ـ إكرام الوفود وإعطاؤهم ضيافتهم كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى بذلك.
3 ـ وجوب العناية بكتاب الله حسّاً ومعنى: فيكرم, ويصان, ويتبع ما فيه في فيعمل بأوامره ويجتنب نواهيه, ويداوم على تلاوته, وتعلمه وتعليمه ونحو ذلك؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى به في عدة مناسبات, فدل ذلك على أهميته أهمية بالغة مع سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
4 ـ أهمية الصلاة؛ لأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ ولهذا أوصى بها النبي صلّى الله عليه وسلّم عند موته أثناء الغرغرة.
5 ـ القيام بحقوق المماليك والخدم ومن كان تحت الولاية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى بذلك فقال: ”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم“.
6 ـ فضل أسامة بن زيد حيث أمَّره النبي صلّى الله عليه وسلّم على جيش عظيم فيه الكثير من المهاجرين والأنصار, وأوصى بإنفاذ جيشه(3).
__________
(1) أحمد بلفظه 3/117, وإسناده صحيح, ورواه ابن ماجه 2/900, وانظر صحيح ابن ماجه 2/109.
(2) أخرجه ابن ماجه 2/901, وأحمد برقم 585, وانظر: صحيح ابن ماجه 2/109.
(3) انظر: فتح الباري 8/134 - 135 و9/67.(19/47)
7 ـ فضل أبي بكر حيث أنفذ وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جيش أسامة فبعثه؛ لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1).
المبحث العاشر: اختياره صلّى الله عليه وسلّم الرفيق الأعلى
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخيَّر بين الدنيا والآخرة, فسمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بُحَّةٌ(2) [شديدة] يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}(3) قالت فظننته خير حينئذ(4).
__________
(1) سورة النور، الآية: 63.
(2) البُحةُ: غِلظٌ في الصوت. انظر: شرح النووي 15/219.
(3) سورة النساء، الآية: 69.
(4) البخاري برقم 4436, 4437, 4463, 4586، 6348, 6509, ومسلم برقم 2444.(19/48)
وفي رواية عنها رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو صحيح يقول: ”إنه لم يقبض نبي قط حتى يُرى مقعده من الجنة ثم يخيَّر“ قالت: فلما نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم(1) ورأسه على فخذي غُشِيَ عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصرهُ إلى السقف ثم قال: ”اللهم في الرفيق الأعلى“ فقلت: إذاً لا يختارنا, وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح, قالت: فكان آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”اللهم مع الرفيق الأعلى“(2). وقالت رضي الله عنها: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو مسند إليَّ ظهره يقول: ”اللهم اغفر لي وارحمني, وألحقني بالرفيق الأعلى“(3) وكان صلّى الله عليه وسلّم متصل بربه وراغباً فيما عنده, ومحبّاً للقائه, ومحبّاً لما يحبه سبحانه, ومن ذلك السواك؛ لأنه مطهرة للفم مرضاة للرب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي في بيتي, وفي يومي, وبين سحري(4), ونحري(5)، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته, دخل عليَّ عبد الرحمن [بن أبي بكر] وبيده السواك وأنا مسندة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [إلى صدري](6) فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك, فقلت: آخذه لك؟ ”فأشار برأسه أن نعم“ فتناولته فاشتد عليه, وقلتُ أُليّنه لك؟ ”فأشار برأسه أن نعم“ فلينته [وفي رواية: فقصمته, ثم مضغته(7) [وفي رواية فقضمته ونفضته وطيبته(8) ثم دفعته إلى النبي صلّى
__________
(1) وفي البخاري ”فلما اشتكى وحضره القبض“ رقم 4437.
(2) البخاري برقم 4437, 4463 ومسلم 2444.
(3) البخاري برقم 4440, 5664.
(4) سحري: هو الصدر, وهو في الأصل: الرئة وما تعلق بها. الفتح 8/139, والنووي 15/218.
(5) ونحري: النحر هو موضع النحر. الفتح 8/139.
(6) في البخاري رقم 4438.
(7) في البخاري برقم 980.
(8) طيبته: بالماء, ويتحمل أن يكون تطييبه تأكيداً للينه, الفتح 8/139.(19/49)
الله عليه وسلّم فاستنَّ به(1) فما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استن استناناً قَطْ أحسن منه](2) وبين يديه ركوة(3) أو علبة(4) فيها ماء, فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ”لا إله إلا الله إن للموت سكرات“ ثم نصب يده فجعل يقول: ”في الرفيق الأعلى“ حتى قبض ومالت يده"(5) صلّى الله عليه وسلّم.
وقالت عائشة رضي الله عنها: مات النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنه لبين حاقنتي(6) وذاقنتي(7), فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم(8).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ إن الرفيق الأعلى: هم الجماعة المذكورون في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}(9) فالصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم أن المراد بالرفيق الأعلى هم الأنبياء الساكنون أعلى عليين. ولفظة رفيق تطلق على الواحد والجمع؛ لقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}(10).
__________
(1) أي استاك به وأمره على أسنانه.
(2) في البخاري برقم 4438.
(3) الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/260.
(4) شك بعض الرواة وهو عمر, انظر: الفتح 8/144.
(5) البخاري 2/377, برقم 890, وأخرجه البخاري في تسعة مواضع, انظر: 2/377, ومسلم برقم 2444.
(6) الحاقنة: ما سفل من الذقن وقيل غير ذلك, الفتح 8/139.
(7) والذاقنة: ما علا من الذقن وقيل غير ذلك, الفتح 8/139, والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة: هو ما بين السحر والنحر, والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها. الفتح 8/139.
(8) البخاري برقم 4446 , ومسلم برقم 2443.
(9) سورة النساء، الآية: 69.
(10) انظر: فتح الباري 8/138, وشرح النووي 15/219.(19/50)
2 ـ إن النبي صلّى الله عليه وسلّم اختار الرفيق الأعلى حين خُيِّر حبّاً للقاء الله تعالى, ثم حبّاً للرفيق الأعلى، وهو الذي يقول صلّى الله عليه وسلّم: ”من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه“(1).
3 ـ فضل عائشة رضي الله عنها حيث نقلت العلم الكثير عنه صلّى الله عليه وسلّم, وقامت بخدمته حتى مات بين سحرها ونحرها؛ ولهذا قالت: ”إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي في بيتي وفي يومي, وبين سحري ونحري“.
4 ـ عناية النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسواك حتى وهو في أشد سكرات الموت, وهذا يدل على تأكد استحباب السواك؛ لأنه مطهرة للفم مرضاة للرب.
5 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في سكرات الموت: ”لا إله الله إن للموت سكرات“ وهو الذي قد حقق لا إله إلا الله, يدل على تأكُّدِ استحبابها والعناية بها والإكثار من قولها وخاصة في مرض الموت؛ لأن ”من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة“.
6 ـ حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على مرافقة الأنبياء ودعاؤه بذلك يدل على أن المسلم ينبغي له أن يسأل الله تعالى أن يجمعه بهؤلاء بعد الموت في جنات النعيم, اللهم اجعلنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
7 ـ شدة الموت وسكراته العظيمة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فما بالنا بغيره.
المبحث الحادي عشر: موت النبي صلّى الله عليه وسلّم شهيداً
__________
(1) البخاري برقم 6507, ومسلم برقم 2683.(19/51)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في مرضه الذي مات فيه: ”يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام(1) الذي أكلت بخيبر(2), فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَري(3) من ذلك السم“(4).
__________
(1) ما أزال أجد ألم لطعام: أي أحس الألم في جوفي بسبب الطعام. الفتح 8/131.
(2) وذلك أنه عندما فتح خيبر أُهديت له صلّى الله عليه وسلّم شاة مشوية فيها سم, وكانت المرأة اليهودية سألت: أي عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل لها الذراع فأكثرت فيها من السم, فلما تناول الذراع لاك منها مضغة ولم يسغها, وأكل معه بشر بن البراء فأساع لقمته, ومات منها, وقال لأصحابه: أمسكوا عنها فإنها مسمومة, وقال لها: ما حملك على ذلك؟ فقالت: أردت إن كنت نبيّاً فيطلعك الله, وإن كنت كاذباً فأريح الناس منك... انظر: فتح الباري 7/197, والقصة في البخاري برقم 3169, و4249, 5777, والبداية والنهاية لابن كثير 4/208.
(3) الأبهر عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. الفتح 8/131.
(4) البخاري مع الفتح 8/131 برقم 4428 وقد وصله الحاكم والإسماعيلي. انظر: الفتح 8/131.(19/52)
وقد عاش صلّى الله عليه وسلّم بعد أكله من الشاة المسمومة بخيبر ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قُبض فيه(1) وقد ذُكِرَ أن المرأة التي أعطته الشاة المسمومة أسلمت حينما قالت: من أخبرك؛ فأخبر صلّى الله عليه وسلّم أن الشاة المسمومة أخبرته, وأسلمت وعفى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولاً ثم قتلها بعد ذلك قصاصاً ببشر بن البراءة بعد أن مات رضي الله عنه(2) وقد ثبت الحديث متصلاً أن سبب موته صلّى الله عليه وسلّم هو السم, فعن أبي سلمة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبل ولا يأكل الصدقة فأهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية سمَّتها, فأكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها وأكل القول فقال: ”ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة“ فمات بشر بن البراء معرور الأنصاري, فأرسل إلى اليهودية: ”ما حملك على الذي صنعت“؟ قالت: إن كنت نبيّاً لم يضرك الذي صنعت, وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك ”فأمر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقتلت“ ثم قال في وجعه الذي مات فيه: ”ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري“(3). وقالت أم بشر للنبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي مات فيه: ما يتهم بك يا رسول الله؟ فإني لا أتهم بابني إلا الشاة المسمومة التي أكل معك بخيبر. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”وأنا لا أنهم بنفسي إلا ذلك فهذا أوان انقطاع أبهري“(4).
__________
(1) انظر: الفتح 8/131 فقد ساق آثاراً موصولة عند الحاكم وابن سعد. الفتح 8/131.
(2) انظر: التفصيل في ففتح الباري 7/497, والبداية والنهاية لابن كثير 4/208- 212.
(3) أبو داود برقم 4512, وقال الألباني: حسن صحيح. انظر: صحيح سنن أبي داود 3/855.
(4) أبو داود برقم 4513 وصحح إسناده الألباني. انظر: صحيح سنن أبي داود 3/855.(19/53)
وقد جزم ابن كثير رحمه الله تعالى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مات شهيداً(1), ونقل: ”وإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة“(2). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لئن أحلف تسعاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتل قتلاً أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل, وذلك؛ لأن الله اتخذه نبيّاً واتخذه شهيداً“(3).
وعن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصلي بهم في وجع النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي توفي فيه حتى إذا كلن يوم الاثنين وهم صفوف [في صلاة الفجر] ففجأهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد كشف سِترَ حجرةِ عائشة رضي الله عنها [وهم في صفوف الصلاة] وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف(4) ثم تبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك [وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً] [برؤية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] [فنكص(5) أبو بكر رضي الله عنه على عقبيه ليصل الصف, وظنَّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خارج إلى الصلاة] [فأشار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [بيده] أن أتموا صلاتكم [ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] [الحجرة] وأرخى الستر فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يومه ذلك.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية 4/210 و211 و4/210 – 212 و5/223 – 244.
(2) انظر: المرجع السابق 4/211.
(3) ذكره ابن كثير وعزاه بإسناده إلى البيهقي. انظر: البداية والنهاية 5/227.
(4) كأن وجهه ورقة مصحف: عبارة وكناية عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته. شرح الأبي على صحيح مسلم 2/310.
(5) فنكص على عقبيه: أي رجع القهقرى فتأخر, لظنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج ليصلي بالناس, الفتح 2/165.(19/54)
وفي رواية: [وتوفي من آخر ذلك اليوم](1). وفي رواية: [لم يخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثاً](2). فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم, فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم حين وضح لنا, فأومأ النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجاب فلم يُقدر عليه حتى مات(3).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ موت النبي صلّى الله عليه وسلّم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى شهيداً؛ لأن الله اتخذه نبيّاً واتخذه شهيداً صلّى الله عليه وسلّم.
2 ـ عداوة اليهود للإسلام وأهله ظاهرة من قديم الزمان فهم أعداء الله ورسله.
3 ـ عدم انتقام النبي صلّى الله عليه وسلّم لنفسه, بل يعفو ويصفح؛ ولهذا لم يعاقب من سمَّت الشاة المصلية, ولكنها قُتِلتْ بعد ذلك قصاصاً ببشر بن البراء بعد أن مات بِصُنعها.
4 ـ معجزة من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم وهي أن لحم الشاة المصلية نطق وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه مسموم.
__________
(1) وقد ذكر ابن إسحاق أنه صلّى الله عليه وسلّم مات حين اشتد الضحى, ويجمع بينهما بأن إطلاق الأخير بمعنى: ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار وذلك عند الزوال واشتداد الضحي يقع قبل الزوال ويستمر حتى يتحقق زوال الشمس, وقد جزم موسى بن عقبة عن ابن شهاب بأنه صلّى الله عليه وسلّم مات حين زاغت الشمس. الفتح 8/143 -144.
(2) ابتداء من صلاته بهم قاعد الخميس كما تقدم. انظر: فتح الباري 2/165, والبداية 5/235.
(3) البخاري برقم 608, 681, 754, 1205, 4448, ومسلم برقم 419 والألفاظ مقتبسة من جميع المواضع, وانظر: مختصر صحيح الإمام البخاري للألباني 1/174 برقم 374.(19/55)
5 ـ فضل الله تعالى على عباده أنه لم يقبض نبيهم إلا بعد أن أكمل به الدين وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
6 ـ محبة الصحابة رضي الله عنهم لنبيهم صلّى الله عليه وسلّم حتى أنهم فرحوا فرحاً عظيماً عندما كشف الستر في صباح يوم الاثنين وهو ينظر إليهم وصلاتهم فأدخل الله بذلك السرور في قلبه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه ناصح لأمته يحب لهم الخير؛ ولهذا ابتسم وهو في شدة المرض فرحاً وسروراً بعملهم المبارك.
المبحث الثاني عشر: من يعبد الله فإن الله حي لا يموت
قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(1). {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}(2). {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}(3). {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}(4).
مات محمد بن عبد الله أفضل الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليه وسلّم وكان آخر كلمة تكلم بها عند الغرغرة كما قالت عائشة رضي الله عنها: أنه كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء, فجعل يدخل يده صلّى الله عليه وسلّم في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ”لا إله إلا الله إن للموت سكرات“ ثم نصب يده فجعل يقول: ”في الرفيق الأعلى“ حتى قبض ومالت يده(5). فكان آخر كلمة تكلم بها: ”اللهم في الرفيق الأعلى“(6).
__________
(1) سورة الزمر, الآية: 30.
(2) سورة الأنبياء, الآية: 34.
(3) سورة آل عمران, الآية: 185.
(4) سورة الرحمن, الآيتان: 26, 27.
(5) البخاري برقم 890 وما بعدها من المواضع, ومسلم 2444.
(6) البخاري برقم 4437, 463, ومسلم 2444.(19/56)
وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات وأبو بكر بالسُّنح(1) فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قالت: وقال: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك, وليبعثنَّه الله فلقطع أيدي رجال وأرجلهم(2), فجاء أبو بكر رضي الله عنه [على فرسه من مسكنه بالسُّنْح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم(3) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مغشَّى بثوب حِبرة(4) فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله(5) [ثم بكى] فقال: بأبي أنت وأمي [يا نبي الله] [طبت حيّاً وميتًا والذي نفسي بيده] [لا يجمع الله عليك موتتين](6)
__________
(1) السُّنح: العالية وهو مسكن زوجة أبي بكر رضي الله عنه وهو منازل بني الحارث من الخزرج بيته وبين المسجد النبوي ميل. الفتح 8/145 و7/19, 29.
(2) أي يبعثه في الدنيا ليقطع أيدي القائلين بموته. انظر: الفتح 7/29.
(3) أي قصد. الفتح 3/115.
(4) وفي رواية للبخاري: وهو مسجَّى ببرد حبرة. البخاري برقم 1241, ومعنى مغشى ومسجى أي مغطى, وبرد حبرة: نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن. الفتح 3/115.
(5) أي قبله بين عينيه كما ترجم له النسائي. انظر: الفتح 3/115, وانظر: ما نقله ابن حجر من الروايات في أنه قبل جبهته. الفتح 8/147.
(6) قوله: لا يجمع الله عليك موتتين: فيه أقوال: قيل هو على حقيقته وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال..؛ لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى.. وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها, وقيل أراد لا يموت موته أخرى في القبر كغيره إذ يحيا ليسئل ثم يموت, وهذا أحسن من الذي قبله؛ لأن حياته صلّى الله عليه وسلّم لا يعقبها موت بل يستمر حيّاً والأنبياء حياتهم برزخية لا تأكل أجسادهم الأرض, ولعل هذا هو الحكمة في تعريف الموتتين... أي المعروفتين المشهورتين الواقعتين لكل أحد غير الأنبياء. انظر: فتح الباري 3/114 و7/29.(19/57)
[أبداً] [أما الموتة التي كُتبت عليك قد مُتَّها] [ثم] [خرج وعمر رضي الله عنه يكلم الناس فقال: [أيها الحالف على رسلك] [اجلس] [فأبى فقال: اجلس فأبى] [فتشهد أبو بكر] [فلما تكلم أبو بكر جلس عمر] [ومال إليه الناس وتركوا عمر] [فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه] وقال: [أما بعد فمن كان منكم يعبد محمداً صلّى الله عليه وسلّم فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت, وقال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(1) وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(2) [فوا لله لكأن الناس لم يكونوا يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها [وأخبر سعيد بن المسيب] [أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت(3) حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد مات] [قال: ونشج الناس(4) يبكون, واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منَّا أمير ومنكم أمير(5), فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح, فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو
__________
(1) سورة الزمر، الآية: 30.
(2) سورة آل عمران, الآية: 144.
(3) عقِرت: دهشت وتحيرت, أما بضم العين فالمعنى هلكت. الفتح 8/146.
(4) نشج الناس: بكوا بغير انتحاب, والنشج ما يحصل للباكي من الغصة. انظر: الفتح 7/30.
(5) إنما قالت الأنصار رضي الله عنهم: منا أمير ومنكم أمير على ما عرفوه من عادة العرب أنه لا يتأمر على القبيلة إلا من يكون منها فلما سمعوا حديث الأئمة من قريش رجعوا إلى ذلك وأذعنوا. الفتح 7/32.(19/58)
بكر , وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيَّأت كلاماً قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر. ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء, فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل منَّا أمير ومنكم أمير, فقال أبو بكر: لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء, هم أوسط العرب داراً وأعربهم أحساباً(1) فبايعوا عمر أو أبا عبيدة فقال عمر: بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس, فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة, فقال عمر: قتله الله(2).
قالت عائشة رضي الله عنها: في شأن خطبة أبي بكر وعمر في يوم موت النبي صلّى الله عليه وسلّم: فما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها, فلقد خوَّف عمر الناس وإن فيهم لنفاقاً فردهم الله بذلك, ثم لقد بصَّر أبو بكر الناس الهُدى وعرَّفهم الحق الذي عليهم وخرجوا به يتلون {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(3). وخطب عمر ثم أبو بكر يوم الثلاثاء خطبة عظيمة مفيدة نفع الله بها والحمد لله.
__________
(1) أي قريش. انظر: الفتح 7/30.
(2) البخاري برقم 1141, 142, 3/113, و3667, 3668, 7/19 و4452, 4453, 4454, 8/145. وقد جمعت هذه الألفاظ من هذه المواضع لتكتمل القصة وأسأل لله أن يجعل ذلك صواباً.
(3) البخاري برقم 3669, 3671, والآية من سورة آل عمران, 144.(19/59)
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر, وقام عمر فتكلم قبل أبي بكر, فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله, ثم قال: أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة(1) ما كانت وما وجدتها في كتاب الله, ولا كانت عهداً عهدها إليَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا – يقول: يكون آخرنا – وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله, فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له, وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, وثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه, فبايع الناس أبا بكر رضي الله عنه البيعة العامة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلم أبو بكر, فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: ”أما بعد, أيها الناس فإني وليت عليكم ولست بخيركم(2) فإن أحسنت فأعينوني, وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة, والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته(3) إن شاء الله, والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله, لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل, ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء, أطيعوني ما أطعت الله ورسوله, فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم, قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله“(4) ثم استمر الأمر لأبي بكر والحمد لله.
__________
(1) هي خطبته التي خطب يوم الاثنين حينما قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يمت.
(2) وهذا من باب التواضع منه رضي الله عنه وإلا فهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رضي الله عنه. البداية والنهاية 5/248.
(3) والمعنى: الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له وأنصره وأعينه.
(4) البداية والنهاية 5/248 وساق سند بن إسحاق قال: حدثني الزهري, حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر... الحديث. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح 5/248.(19/60)
وقد بُعِثَ صلّى الله عليه وسلّم فبقي بمكة يدعو إلى التوحيد ثلاث عشرة سنة يُوحى إليه, ثم هاجر إلى المدينة وبقي بها عشر سنين, وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة صلى الله عليه وآله وسلم(1).
ورجح الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى أن آخر صلاة صلاها صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه رضي الله عنهم هي صلاة الظهر يوم الخميس, وقد انقطع عنهم عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة, والسبت, والأحد، وهذه ثلاثة أيام كوامل(2).
__________
(1) انظر: البخاري مع الفتح 8/15 برقم 4466, وفتح الباري 8/151 مختصر الشمائل للترمذي للألباني ص192.
(2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير, 5/235.(19/61)
وبعد موته صلّى الله عليه وسلّم وخطبة أبي بكر رضي الله عنه دارت مشاورات – كما تقدم – وبايع الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في سقيفة بني ساعدة, وانشغل الصحابة ببيعة الصديق بقية يوم الاثنين, ويوم الثلاثاء, ثم شرعوا في تجهيز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(1) وغُسل من أعلى ثيابه, وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة, ثم صلى عليه الناس فرادى لم يؤمهم أحد, وهذا أمر مجمع عليه: صلى عليه الرجال, ثم الصبيان, ثم النساء, والعبيد والإماء, وتوفي يوم الاثنين على المشهور(2), ودفن ليلة الأربعاء, أُلحد لحداً صلّى الله عليه وسلّم ونصب عليه اللبن نصباً(3), ورُفع قبره من الأرض نحواً من شبر(4), وكان قبره صلّى الله عليه وسلّم مسنماً(5), وقد تواترت الأخبار أنه دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها شرقي مسجده صلّى الله عليه وسلّم في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة, ووسع المسجد النبوي الوليد بن عبد الملك عام 86هـ وقد كان نائبه بالمدينة عمر بن عبد العزيز فأمره بالتوسعة فوسعه حتى من ناحية الشرق فدخلت الحجرة النبوية فيه(6).
__________
(1) انظر: المرجع السابق 5/245.
(2) توفي صلّى الله عليه وسلّم سنة إحدى عشرة للهجرة في ربيع الأول يوم الاثنين, أما تاريخ اليوم فقد اختلف فيه: فقيل لليلتين خلتا من ربيع الأول, وقيل لليلة خلت منه, وقيل غير ذلك, وقيل مرض في التاسع والعشرين من شهر صفر, وتوفي يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة , فكان مرضه ثلاثة عشر يوماً, وهذا قول الأكثر. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/255 – 256, وتهذيب السير للنووي ص 25, وفتح الباري 8/129-130.
(3) مسلم برقم 966.
(4) ابن حبان في صحيحه 14/602، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح.
(5) كما قال سفيان التمار في البخاري مع الفتح 30/255.
(6) انظر: البداية والنهاية 5/271-273، وفتح الباري 8/129-130.(19/62)
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها:
1 ـ إن الأنبياء والرسل أحب الخلق إلى الله تعالى وقد ماتوا؛ لأنه لا يبقى على وجه الكون أحد من المخلوقات, وهذا يدل على أن الدنيا متاع زائل, ومتاع الغرور الذي لا يدوم, لا يبقى للإنسان من تعبه وماله إلا ما كان يبتغي به وجه الله تعالى, وما عدا ذلك يكون هباءً منثوراً.
2 ـ حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون مع الرفيق الأعلى؛ ولهذا سأل الله تعالى ذلك مرات متعددة، وهذا يدل على عظم هذه المنازل لأنبيائه وأهل طاعته.
3 ـ استحباب تغطية الميت بعد تغميض عينيه, وشد لحييه؛ ولهذا سجِّي وغطي النبي صلّى الله عليه وسلّم بثوب حبرة.
4 ـ الدعاء للميت بعد موته؛ لأن الملائكة يؤمنون على ذلك؛ ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ”طبت حيّاً وميتاً“.
5 ـ إذا أصيب المسلم بمصيبة فليقل: ”إنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها“.
6 ـ جواز البكاء بالدمع والحزن بالقلب.
7 ـ النهي عن النياحة وشق الجيوب وحلق الشعر ونتفه والدعاء بدعوى الجاهلية وكل ذلك معلوم تحريمه بالأدلة الصحيحة.
8 ـ إن الرجل وإن كان عظيماً قد يفوته بعض الشيء ويكون الصواب مع غيره, وقد يخطئ سهواً ونسياناً.
9 ـ فضل أبي أبو بكر وعلمه وفقهه؛ ولهذا قال: ”من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت“.
10 ـ أدب عمر رضي الله عنه وأرضاه وحسن خلقه؛ ولهذا سكت عندما قام أبو بكر يخطب ولم يعارضه بل جلس يستمع مع الصحابة رضي الله عن الجميع.
11 ـ حكمة عمر العظيمة في فض النزاع في سقيفة بني ساعدة, وذلك أنه بادر فأخذ بيد أبي بكر فبايعه فانصب الناس وتتابعوا في مبايعة أبي بكر, وانفض النزاع والحمد لله تعالى.
12 ـ بلاغة أبي بكر فقد تكلم في السقيفة فأجاد وأفاد حتى قال عمر عنه: ”فتكلم أبلغ الناس“.(19/63)
13 ـ قد نفع الله بخطبة عمر يوم موت البني صلّى الله عليه وسلّم قبل دخول أبي بكر فخاف المنافقون، ثم نفع الله بخطبة أبي بكر فعرف الناس الحق.
14 ـ ظهرت حكمة أبي بكر وحسن سياسته في خطبته يوم الثلاثاء بعد الوفاة النبوية, وبين أن الصدق أمانة والكذب خيانة, وأن الضعيف قوي عنده حتى يأخذ له الحق, والقوي ضعيف عنده حتى يأخذ منه الحق, وطالب الناس بالطاعة له إذا أطاع الله ورسوله, فإذا عصى الله ورسوله فلا طاعة لهم عليه.
15 ـ حكمة عمر رضي الله عنه وشجاعته العقلية والقلبية حيث خطب الناس قبل أبي بكر ورجع عن قوله بالأمس واعتذر, وشد من أزر أبي بكر، وبين أن أبا بكر صاحب رسول الله وأحب الناس إليه, وثاني اثنين إذ هما في الغار.
16 ـ استحباب بياض الكفن للميت, وأن يكون ثلاثة أثواب ليس فيها قمص ولا عمامة, وأن يلحد لحداً, وأن ينصب عليه اللبن نصباً, وأن يكون مسنماً بقدر شبر فقط.
المبحث الثالث عشر: مصيبة المسلمين بموته صلّى الله عليه وسلّم
من المعلوم يقيناً أن محبة النبي صلّى الله عليه وسلّم محبة كاملة من أعظم درجات الإيمان الصادق؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: ”لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده, ووالده, والناس أجمعين“(1). فإذا فقد الإنسان أهله, أو والده, أو ولده, لا شك أن هذه مصيبة عظيمة من مصائب الدنيا, فكيف إذا فقدهم كلَّهم جميعاً في وقت واحد؟
__________
(1) البخاري مع الفتح 1/58 برقم 5, ومسلم 1/67.(19/64)
ولا شك أن مصيبة موت النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم المصائب على المسلمين؛ ولهذا جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك, فعن عائشة رضي الله عنها قالت: فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باباً بينه وبين الناس, أو كشف ستراً فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر, فحمد الله على ما رآه من حسن حالهم, ورجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم, فقال: ”يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أُصيب بمصيبة فلْيتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أُمتي لن يُصاب بمصيبة أشدَّ عليه من مُصيبتي“(1).
وعن أنس رضي الله عنه قال: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أضاء منها كل شيء(2), فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء, وما نفضنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأيدي(3) وإنا لفي دفنه(4) حتى أنكرنا(5) قلوبنا"(6).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه برقم 1599, وغيره وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 1/267, والأحاديث الصحيحة برقم 1106, وانظر: البداية والنهاية 5/276.
(2) أضاء منها كل شيء: أشرق من المدينة كل شيء. انظر: تحفة الأحوذي 10/87.
(3) وما نفضنا: من النفض: وهو تحريك الشيء ليزول ما عليه من التراب والغبار ونحوهما. انظر تحفة الحوذي 10/88.
(4) وإنا لفي دفنه: أي مشغولون بدفنه بعد. انظر: تحفة الحوذي 10/88.
(5) حتى أنكرنا قلوبنا: يريد أنهم لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من الصفاء والألفة لانقطاع مادة الوحي وفقدان ما كان يمدهم من الرسول صلّى الله عليه وسلّم من التأييد والتعليم, ولم يرد أنهم لم يجدوها على ما كانت عليه من التصديق؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم أكمل الناس إيماناً وتصديقاً. انظر: تحفة الحوذي 10/88.
(6) الترمذي وصححه 5/589, وأحمد 3/68, وابن ماجه برقم 1631, وقال ابن كثير في البداية والنهاية: إسناده صحيح على شرط الصحيحين 5/274, وانظر: صحيح ابن ماجه 1/273.(19/65)
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه – بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم – لعمر: انطلق بنا إلى أمِّ أيمن نزورها كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزورها، فلما انتهيا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ فما عند الله خير لرسوله صلّى الله عليه وسلّم. قالت: إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلّى الله عليه وسلّم, ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء, فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها(1).
وما أحسن ما قال القائل:
اصبر لكلِّ مصيبة وتجلد
واعلم بأن المرء غير مخلَّد
فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها
فاذكر مصابك بالنبي محمد
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستفاد هذا المبعث كثيرة, ومنها:
1 ـ موت النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم مصيبة أصيب بها المسلمون.
2 ـ إنكار الصحابة قلوبهم بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لفراقهم نزول الوحي وانقطاعه من السماء.
3 ـ النبي صلّى الله عليه وسلّم أحب إلى المسلمين من النفس, والولد, والوالد, والناس أجمعين, وقد ظهر ذلك عند موته بين القريب والبعيد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم, بل وجميع المسلمين.
4 ـ محبة الصحابة للإقتداء والتأسي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كل شيء من أمور الدين حتى في زيارة النساء كبار السن, كما فعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
المبحث الرابع عشر: ميراثه صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) مسلم برقم 2454, وابن ماجه برقم 1635, واللفظ من المصدرين. وانظر: شرحه في النووي 16/242.(19/66)
عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه قال: "ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته: دِرْهماً, ولا ديناراً, ولا عبداً, ولا أمَةً, ولا شيئاً, إلا بغلته البيضاء [التي كان يركبها] وسلاحه, [وأرضاً بخيبر] جعلها [لابن السبيل] صدقة"(1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ديناراً، ولا درهماً، ولا شاة، ولا بعيراً، ولا أوصى بشيء(2)"(3).
وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”لا نورث ما تركنا فهو صدقة“(4) وذلك لأنه لم يبعث صلّى الله عليه وسلّم جابياً للأموال وخازناً إنما بعث هادياً, ومبشراًًً، ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه, وسراجاً منيراً, وهذا هو شأن أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: ”إن العلماء ورثة الأنبياء, إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر“(5).
__________
(1) البخاري 5/356, برقم 2739, 2873, 2912, 3098، 4461, واللفظ من هذه المواضع.
(2) مسلم برقم 1635.
(3) أي لم يوص بثلث ماله ولا غيره إذ لم له مال, أما أمور الدين فقد تقدم أنه أوصى بكتاب الله وسنه نبيه, وأهل بيته, وإخراج المشركين من جزيرة العرب, وبإجازة الوفد, والصلاة وملك اليمين وغير ذلك. انظر: شرح النووي 11/97.
(4) البخاري في عدة مواضع من حديث عائشة ومالك بن أوس, وأبي بكر رضي الله عنهم, برقم 3093, 3712, 4036, 4240, 5358, 6726, و6727, 7305. ومسلم برقم 757, و1758, 1759, و1761, واللفظ لعائشة عند مسلم.
(5) أبو داود 3/317, والترمذي 5/49, وابن ماجه 1/80, وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/43.(19/67)
وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم ذلك, فعن سليمان بن مهران: بينما ابن مسعود رضي الله عنه يوماً معه نفر من أصحابه إذ مرّ أعرابي فقال: على ما اجتمع هؤلاء؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه: "على ميراث محمد صلّى الله عليه وسلّم يقسّمونه"(1).
فميراث النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الكتاب والسنة والعلم والاهتداء بهديه صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا توفي صلّى الله عليه وسلّم ولم يترك درهماً, ولا ديناراً, ولا عبداً, ولا أمة, ولا بعيراً, ولا شاة, ولا شيئاً, إلا بغلته وأرضاً جعلها صدقة لابن السبيل.
__________
(1) أخرجه الخطيب البغدادي بسنده في شرف أصحاب الحديث ص 45.(19/68)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير"(1). وهذا يبين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتقلل من الدنيا, ويستغني عن الناس؛ ولهذا لم يسأل الصحابة أموالهم أو يقترض منهم؛ لأن الصحابة لا يقبلون رهنه وربما لا يقبضوا منه الثمن, فعدل إلى معاملة اليهودي؛ لئلا يضيِّق على أحد من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم(2). وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يصيبه الجوع وهو حي؛ ولهذا يمر ويمضي الشهر والشهران وما أوقدت في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار, قال عروة لعائشة رضي الله عن الجميع: ما كان يقيتكم؟ قالت: "الأسودان: التمر والماء..."(3). ومع هذا كان يقول صلّى الله عليه وسلّم: ”مالي وللدنيا ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها“(4).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا لجمع الأموال وإنما بعثوا لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ لهذا لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
2 ـ زهد النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا وحطامها الفاني؛ وإنما هو كالركب الذي استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
3 ـ استغناء النبي صلّى الله عليه وسلّم عن سؤال الناس فهو يقترض ويرهن حتى لا يكلف لي أصحابه؛ ولهذا مات ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعاً من شعير.
__________
(1) البخاري برقم 2068 وكرره بفوائده في عشرة مواضع , ومسلم برقم 1603 , وانظر: جميعها في مختصر البخاري للألباني 2/21.
(2) انظر: شرح النووي 11/43.
(3) انظر: البخاري مع الفتح 11/283.
(4) أحمد 6/154 وقال ابن كثير في البداية والنهاية 5/284, وإسناده جيد, وأخرجه الترمذي وغيره, وانظر: الأحاديث الصحيحة برقم 439, وصحيح الترمذي 2/280.(19/69)
4 ـ شدة الحال وقلة ما في اليد عند النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا يمضي الشهر والشهران ولم توقد في أبياته نار, وإنما كان يقيتهم الأسودان.
فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار, وأسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا من أتباعه المخلصين, وأن يحشرنا في زمرته يوم الدين.
المبحث الخامس عشر: حقوقه صلّى الله عليه وسلّم على أمته
للنبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم حقوق على أمته وهي كثيرة, منها: الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم قولاً وفعلاً وتصديقه في كل ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم, وجوب طاعته والحذر من معصيته صلّى الله عليه وسلّم، ووجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه, وإنزاله منزلته صلّى الله عليه وسلّم بلا غلو ولا تقصير, واتباعه واتخاذه قدوة وأسوة في جميع الأمور, ومحبته أكثر من النفس, الأهل والمال والولد والناس جميعاً, واحترامه وتوقيره ونصر دينه والذب عن سنته صلّى الله عليه وسلّم, والصلاة عليه؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه: خلق آدم, وفيه النفخة, وفيه الصعقة, فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليَّ“ فقال رجل: يا رسول الله! كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يعني بليت. قال: ”إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء“(1).
وإليك هذه الحقوق بالتفصيل والإيجاز كالتالي:
__________
(1) أبو داود 1/275, وابن ماجه 1/524, والنسائي 3/91, وصححه الألباني في صحيح النسائي 1/197.(19/70)
1 ـ الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه فيما أتى به قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(1), {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(2), {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(3), {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا}(4), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به“(5).
والإيمان به صلّى الله عليه وسلّم هو تصديق نبوته, وأن الله أرسله للجن والإنس, وتصديقه في جميع ما جاء به وقاله, ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان, بأنه رسول الله, فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة باللسان ثم تطبيق ذلك العمل بما جاء به تمَّ الإيمان به صلّى الله عليه وسلّم(6).
__________
(1) سورة التغابن, الآية: 8.
(2) سورة الأعراف, الآية: 158.
(3) سورة الحديد, الآية: 28.
(4) سورة الفتح, الآية: 13.
(5) مسلم 1/52.
(6) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم للقاضي عياض 2/539.(19/71)
2 ـ وجوب طاعته صلّى الله عليه وسلّم والحذر من معصيته, فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ}(1), {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(2), {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}(3), {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(4), {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(5), {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا}(6), {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(7).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله“(8), وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى, قالوا يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى“(9).
__________
(1) سورة الأنفال, الآية: 20.
(2) سورة الحشر, الآية: 7.
(3) سورة النور, الآية: 54.
(4) سورة النور, الآية: 63.
(5) سورة الأحزاب, الآية: 71.
(6) سورة الأحزاب, الآية: 36.
(7) سورة النساء, الآيتان: 13, 14.
(8) البخاري مع الفتح 13/111 برقم 7137.
(9) البخاري مع الفتح 13/249 برقم 7280.(19/72)
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له, وجُعِلَ رزقي تحت ظلِّ رمحي, وجُعِلَ الذِّلُّ والصَّغارُ على من خالف أمري, ومن تشبه بقول فهو منهم“(1).
3 ـ اتباعه صلّى الله عليه وسلّم واتخاذه قدوة في جميع الأمور والاقتداء بهديه, قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2), {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(3), وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(4) فيجب السير على هديه والتزام سنته والحذر من مخالفته, قال صلّى الله عليه وسلّم: ”فمن رغب عن سنتي فليس مني“(5).
__________
(1) أحمد في المسند 1/92, والبخاري مع الفتح معلقاً 6/98, وحسنه العلامة ابن باز, وانظر: صحيح الجامع 3/8.
(2) سورة آل عمران, الآية: 31.
(3) سورة الأحزاب, الآية: 21.
(4) سورة الأعراف, الآية: 158.
(5) البخاري مع الفتح 9/104 برقم 5063.(19/73)
4 ـ محبته صلّى الله عليه وسلّم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين, قال الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(1), وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين“(2). وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته الاجتماع معه في الجنة وذلك عندما سأله رجل عن الساعة فقال: ”ما أعددت لها“؟ قال يا رسول الله ما أعددت لها كبير صيام, ولا صلاة, ولا صدقة, ولكني أحب الله ورسوله. قال: ”فأنت مع من أحببت“(3). قال أنس فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”فإنك مع من أحببت“, فأنا أحب الله ورسوله, وأبا بكر, وعمر. فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم(4).
__________
(1) سورة التوبة, الآية: 24.
(2) البخاري مع الفتح 1/58 برقم 15, مسلم 1/67.
(3) البخاري مع الفتح 10/557 و13/131, ومسلم 4/2032.
(4) مسلم 4/2032.(19/74)
ولما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك“, فقال له عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”الآن يا عمر“(1), وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”المرء مع من أحب“(2).
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً, وبالإسلام ديناً, وبمحمد رسولاً“(3).
وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان اللهُ ورسولهُ أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار“(4).
ولاشك أن من وفَّقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان ووجد حلاوته, فيستلذ الطاعة ويتحمل المشاقة في رضى الله عز وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم, ولا يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه رضي به رسولاً, وأحبه، ومن أحبه من قلبه صدقاً أطاعه صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا قال القائل:
تعصي الإله وأنت تُظْهر حُبَّهُ
هذا لعمري في القياسِ بديعُ
لو كان حُبَّكَ صادقاً لأطعته
إن المُحبَّ لمن يُحِبُّ مُطيعُ(5)
__________
(1) البخاري مع الفتح 11/523.
(2) البخاري مع الفتح 10/557.
(3) مسلم في صحيحه 1/62.
(4) البخاري مع الفتح 1/72, ومسلم 1/66 وتقدم تخريجه ص66.
(5) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم 2/549 و2/563.(19/75)
وعلامات محبته صلّى الله عليه وسلّم تظهر في الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم, واتباع سنته, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, والتأدب بآدابه, في الشدة والرخاء, وفي العسر واليسر, ولا شك أن من أحب شيئاً آثره, وآثر موافقته, وإلا لم يكن صادقاً في حبه ويكون مدّعياً(1).
ولا شك أن من علامات محبته: النصيحة له؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”الدين النصيحة“ قلنا لمن؟ قال: ”لله, ولكتابه, ولرسوله, ولأئمة المسلمين وعامتهم“(2), والنصيحة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: التصديق بنبوته, وطاعته فيما أمر به, واجتناب ما نهى عنه, ومُؤازرته, ونصرته وحمايته حياً وميتاً, وإحياء سنته والعمل بها وتعلمها, وتعليمها والذب عنها, ونشرها, والتخلق بأخلاقه الكريمة, وآدابه الجميلة(3).
5 ـ احترامه وتوقيره ونصرته كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}(4), {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(5), {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا}(6).
وحرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موته, وتوقيره لازم كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه, وسنته, وسماع اسمه وسيرته, وتعلم سنته, والدعوة إليها, ونصرتها(7).
__________
(1) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم 2/571 –582.
(2) مسلم 1/74.
(3) الشفاء بتعريف حقوق المصطفي صلّى الله عليه وسلّم للقاضي حياض 2/582 -584.
(4) سورة الفتح, الآية: 9.
(5) سورة الحجرات, الآية: 1.
(6) سورة النور, الآية: 63.
(7) الشفاء 2/595 و612.(19/76)
6 ـ الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(1), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”.. من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً“(2), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تجعلوا بيوتكم قبوراً, ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم“(3), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليّ“(4), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”ما جاس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه, ولم يصلّوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة, فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم“(5), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام“(6), وقال جبريل عليه السلام للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ”رغم أنف عبد – أو بَعُد – ذُكِرتَ عنده فلم يصلّ عليك“ فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”آمين“(7), وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”ما من أحد يسلّم عليَّ إلا ردّ الله عليَّ روحي حتى أردّ عليه السلام“(8).
__________
(1) سورة الأحزاب, الآية: 56.
(2) أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما 1/288.
(3) أبو داود 2/218, وأحمد 2/367, وانظر: صحيح أبي داود 1/383.
(4) الترمذي 5/551, وغيره, وانظر: صحيح الترمذي 3/177.
(5) الترمذي, وانظر: صحيح الترمذي 3/140.
(6) النسائي 3/43, وصححه الألباني في صحيح النسائي 1/274.
(7) ابن خزينة 3/192, وأحمد 2/254, وصححه الأرنؤوط في الأفهام.
(8) أخرجه أبو داود 2/218 برقم 2041, وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 1/283.(19/77)
* وللصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم مواطن كثيرة ذكر منها الإمام ابن القيم رحمه لله تعالى واحداً وأربعين موطناً منها على سبيل المثال: الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم عند دخول المسجد, وعند الخروج منه, وبعد إجابة المؤذن, وعند الإقامة, وعند الدعاء, وفي التشهد في الصلاة، وفي صلاة الجنازة، وفي الصباح والمساء، وفي يوم الجمعة, وعند اجتماع القوم قبل تفرقهم, وفي الخطب: كخطبتي صلاة الجمعة, وعند كتابة اسمه, وفي أثناء صلاة العيدين بين التكبيرات, وآخر دعاء القنوت, وعلى الصفا والمروة, وعند الوقوف على قبره, وعند الهم والشدائد وطلب المغفرة, وعقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه, وغير ذلك من المواطن التي ذكرها رحمه الله في كتابه(1).
ولو لم يرد في فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا حديث أنس رضي الله عنه لكفى ”من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات(2). [كتب الله له بها عشرة حسنات](3) وحط عنه بها عشر سيئات, ورفعه بها عشر درجات“(4).
__________
(1) راجع كتاب جلاء الأفهام في الصلاة واللام على خير الأنام صلّى الله عليه وسلّم للإمام ابن القيم رحمه لله تعالى.
(2) السياق يقتضي "و".
(3) هذه الزيادة من حديث طلحة في مسند أحمد 4/29.
(4) أحمد 3/261, وابن حبان الرقم 2390 (موارد), والحاكم 1/551، وصححه الأرنؤوط في تحقيقه لجلاء الأفهام ص 65.(19/78)
7 ـ وجوب التحاكم إليه والرضي بحكمه صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(1), {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(2) ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) سورة النساء الآية: 59.
(2) سورة النساء, الآية: 65.(19/79)
8 ـ إنزاله مكانته صلّى الله عليه وسلّم بلا غلو ولا تقصير فهو عبد لله ورسوله, وهو أفضل الأنبياء والمرسلين, وهو سيد الأولين والآخرين, وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود, ولكنه مع ذلك بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله كما قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}(1), وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(2), {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا، قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا}(3), وقد مات صلّى الله عليه وسلّم كغيره من الأنبياء ولكن دينه باقٍ إلى يوم القيام {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(4), {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}(5), وبهذا يعلم أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(6).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
الفهرس
الموضوع
الصفحة
المقدمة
المبحث الأول: خلاصة نسبه وولادته ووظيفته صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) سورة الأنعام, الآية: 50.
(2) سورة الأعراف, الآية: 188.
(3) سورة الجن, الآيتان: 21، 22.
(4) سورة الزمر, الآية: 30.
(5) سورة الأنبياء, الآيتان: 34, 35.
(6) سورة الأنعام, الآيتان: 162, 163.(19/80)
- الدروس والعبر
المبحث الثاني: اجتهاده وجهاده صلّى الله عليه وسلّم وأخلاقه
كان صلّى الله عليه وسلّم أسوة لكل مسلم
صلاته صلّى الله عليه وسلّم
صومه صلّى الله عليه وسلّم
صدقته صلّى الله عليه وسلّم
جهاده صلّى الله عليه وسلّم
معاملته صلّى الله عليه وسلّم
خلقه صلّى الله عليه وسلّم
زهده صلّى الله عليه وسلّم
ورعه صلّى الله عليه وسلّم
توسطه صلّى الله عليه وسلّم
- الدروس والعبر
المبحث الثالث: خير أعماله خواتمها
- الدروس والعبر
المبحث الرابع: وداعه لأمته صلّى الله عليه وسلّم ووصاياه في حجة الوداع
أذانه في الناس بالحج
وداعه ووصاياه لأمته في عرفات
وداعه ووصاياه لأمته عند الجمرات
وداعه ووصيته لمته يوم النحر
وداعه ووصيته لأمته في أوسط أيام التشريق
- الدروس والعبر
المبحث الخامس: توديعه للأحياء والأموات
- الدروس العبر
المبحث السادس: بداية مرضه وأمره لأبي بكر أن يصلي بالناس
- الدروس والعبر
المبحث السابع: خطبته العظيمة ووصاياه للناس
- الدروس والعبر
المبحث الثامن: اشتداد مرضه ووداعه ووصيته في تلك الشدة
- الدروس العبر
المبحث التاسع: وصاياه صلّى الله عليه وسلّم عند وفاته
- الدروس العبر
المبحث العاشر: اختياره للرفيق الأعلى
- الدروس العبر
المبحث الحادي عشر: موته شهيداً صلّى الله عليه وسلّم
- الدروس والعبر
المبحث الثاني عشر: من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت
- الدروس والعبر
المبحث الثالث عشر: مصيبة المسلمين بموته صلّى الله عليه وسلّم
- الدروس العبر
المبحث الربع: ميراثه صلّى الله عليه وسلّم
- الدروس العبر
المبحث الخامس: حقوقه على أمته صلّى الله عليه وسلّم
الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم
وجوب طاعته صلّى الله عليه وسلّم والحذر من معصيته
اتباعه واتخاذه قدوة صلّى الله عليه وسلّم
محبته صلّى الله عليه وسلّم أكثر من الأهل والولد والوالد(19/81)
احترامه وتوقيره ونصرته صلّى الله عليه وسلّم
الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم
وجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه صلّى الله عليه وسلّم
إنزاله مكانته بلا غلو ولا تقصير صلّى الله عليه وسلّم
الفهرس(19/82)