وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن رجلاً قال : يا رسول الله أوصني، قال : " لا تغضب " ، فردد مرارًا قال : " لا تغضب " ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/99، 100 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، وما أكثر من يندم على ما يصدر منه عند الغضب ويتمنى أنه لم يكن قال أو فعل شيئًا كان بسبب غضبه، ولكن الشيء بعد نفوذه لا يمكن استرداده .
171- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما زالت أمتي بخير ما عجلوا الفطور وأخروا السحور ) [ عند البخاري في " صحيحه " ( 2/241 ) بلفظ : " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " ، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه ] الحديث . وأنا أفطر على أول مؤذن في حَيِّنَا، وأمسك عن الأكل والشرب على آخر مؤذن يؤذن في حَيِّنَا . فهل أنا محق في ذلك وعلى صواب . أفيدوني وجزاكم الله خيرًا ؟
تعجيل الإفطار إذا تحقق غروب الشمس، وتأخير السحور إلى ما قبل أن يتحقق طلوع الفجر سنة، وأذان المؤذن لا يعتمد عليه في ذلك إلا إذا تقيد بالتوقيت الصحيح لغروب الشمس وطلوع الفجر، وإلا فإن الاعتماد عليهما لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/153 ) ، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ] وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له : أصبحت أصبحت .
172- لقد سمعت من بعض الزملاء في المكتب أنهم يتسحرون عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ثم ينامون بنية الصيام حتى الساعة التاسعة صباحًا، ثم يصلون الفجر عند هذا الوقت ثم ينطلقون إلى أعمالهم . ما حكم هذا العمل ؟
هذا العمل غير جائز من عدة وجوه :
أولاً : أن فيه مخالفة للسنة في تقديم السحور على وقته، لأن تأخير السحور إلى قبيل طلوع الفجر هو السنة .(125/5)
ثانيًا : أن فيه النوم عن صلاة الفجر في وقتها ومع الجماعة ففيه ترك واجبين عظيمين : تأخير الصلاة عن وقتها وهو إضاعة لها وعليه وعيد شديد، وترك صلاة الجماعة وهو محرم وإثم، فالواجب التوبة إلى الله من هذا الفعل وتأخير السحور إلى وقته وأداء الصلاة في وقتها ومع جماعة المسلمين . والله الموفق .
والواجب الاهتمام بالصلاة أولاً لأنها هي عمود الإسلام، والركن الثاني من أركان الإسلام فهي آكد من الصيام، بل لا يصح الصيام ولا غيره من الأعمال إلا بعد أداء الصلاة على الوجه المشروع .
173- كثير من الإخوة يسألون هذا السؤال ألا وهو تناول إبر الدواء في الوريد أو العضل أو سحب الدم هل هذا يفطر أم لا ؟
يجب على المسلم أن يحافظ على صيامه وأن يبتعد عن الأشياء المشتبهة، وإذا احتاج إلى علاج أو تعاطي شيء من الإبر فليكن هذا في الليل فإذا اضطر إلى العلاج في النهار بأن كان مريضًا ويحتاج إلى العلاج وترك العلاج يضاعف عليه المرض أو يؤخر البرء أو تشتد عليه وطأة المرض فهذا يتعالج ويقضي هذا اليوم سواء تعالج بحبوب أو بإبرة في الوريد أو بغيرها، فالإبرة إذا كانت مغذية فإنها تفسد الصيام لأنها تقوم مقام الطعام، وإذا كانت الإبرة غير مغذية ولكنها تحقن بالوريد فهذه أيضًا مفطرة على الراجح لأنها تختلط بالدم وتسير في البدن ويحصل للبدن منها تأثر وتنشيط وتنفذ إلى الجوف، وقد نص الفقهاء على أن الصائم إذا تعمد إدخال شيء إلى جوفه يفطر، أما إذا كانت الإبرة في العضل وليست في الوريد فهذه لعلها لا تفطر وعلى المسلم أن يحتاط لدينه فالإبر إذن على ثلاثة أصناف :
الصنف الأول : إبر مغذية وهذه تفطر لأنها تقوم مقام الطعام والشراب من غير إشكال .
الصنف الثاني : إبر ليست مغذية تؤخذ عن طريق الوريد، الذي أعتقده أنها تفطر لأنها تختلط بالدم وتسير في البدن وتدخل في العروق .(125/6)
والصنف الثالث : إبر غير مغذية ولا تؤخذ عن طريق الوريد وإنما تؤخذ عن طريق العضل فهذه الأحوط للإنسان أن يتركها إلى الليل وإن أخذها فلا أرى أنه يفسد صومه .
أما بالنسبة لسحب الدم فإذا كان الدم يسيرًا كالذي يؤخذ للتحليل فهذا لا يؤثر على صيامه . أما إذا كان الدم كثيرًا بأن سحب منه دم كثير لإسعاف مريض مثلاً أو لبنك الدم أو التبرع به فهذا يفطر ويفسد الصوم لأنه كالحجامة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/364 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( وفي مواضع أخرى عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 3/118 ) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه ] لما رأى رجلاً يحتجم وهو صائم فالحجامة تفطر على الصحيح من قولي العلماء بنص الحديث، ومثلها سحب الدم إذا كان كثيرًا لأنه بمعنى الحجامة، والله أعلم .
174- تطيبت قبل صلاة الظهر في رمضان فلما حضرت إلى المسجد متعطرًا نهرني الإمام وقال : إنه فسد صيامك وأنك قد تفسد صيام كل من يشم هذه الرائحة لأنها نفاذة – أي قوية جدًا – ما مدى صحة هذا الكلام ؟
لا بأس بالتطيب في حالة الصيام ولا يؤثر على الصيام إلا إذا كان الطيب بخورًا وشمه متعمدًا، لأن دخان البخور يدخل في الأنف وينشط الدماغ فيؤثر على الصيام، أما العطورات فلا بأس على الصائم في استعمالها، ولا يجوز لهذا الإمام أن يفتي بغير علم .
175- هناك بعض الأطياب ذات رائحة أيضًا قد تصل إلى أعماق الأنف مثلاً أو على الحلق هل يفطر الصائم ؟
الطيب السائل لا يؤثر على الصيام فيجوز للصائم أن يتطيب في بدنه وفي ثوبه، أما الطيب المسحوق الذي يتطاير إلى الأنف كالمسك أو البخور ( العود ) فهذا لا يتعمد شمه بل عليه أن يبعده عن أنفه وعن حلقه فإن تعمد شمه وطار إلى أنفه ودماغه فقد عدَّه كثير من العلماء من المفطرات .(125/7)
176- ما الحكم بالنسبة للقطرات التي تستخدم في العين أو في الأذن ويشعر مستعملها أنها تصل إلى حلقه ؟
نص الفقهاء رحمهم الله على أنه إذا دخل إلى جوفه شيء عن طريق الأنف أو عن أي طريق وصل إلى جوفه غير إحليله أو إلى حلقه أنه يفطر بذلك والقطرة في العين والسعوط في الأنف والبخاخ الذي يؤخذ في الحلق أو في الأنف هذه أيضًا تصل إلى الحلق وتذهب إلى المعدة فيحصل بها الإفطار على ما ذكره الفقهاء، وعلى المسلم الاحتياط لدينه وترك ما فيه ريبة لقوله صلى الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك إلى ما لا يُريبُك ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/205 ) كلاهما من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، ورواه النسائي في " سننه " ( 8/ 230، 231 ) بنحوه من حديث عبد الله رضي الله عنه ] .
177- إذا اكتحل الصائم أو تعطر أو اغتسل بصابون له رائحة فهل يؤثر هذا على صومه ؟ ويعتبر مفطرًا ؟ وإن كان صيامه ذلك في واجب فهل عليه القضاء لهذا السبب علمًا أنه فعل ذلك جاهلاً ؟
قضية التطيب للصائم أو الاغتسال بالصابون المطيب لا حرج عليه في ذلك، يباح للصائم أن يتطيب وأن يغتسل بالصابون المطيب لأن الصائم ليس ممنوعًا من الطيب وإنما هذا في حق المحرم، أما الصائم فليس ممنوعًا من التطيب إلا أنه لا يتعمد شم البخور والدخان، أما الطيب السائل فهذا لا بأس أن يتطيب الإنسان به وهو صائم، أما قضية الاكتحال للعينين للصائم فلا ينبغي لأن طائفة من أهل العلم يعدونه من المفطرات، إذا وصل الكحل أو طعم الكحل إلى حلقه فلا ينبغي للصائم أن يكتحل وهو صائم وليؤجل هذا لليل احتياطًا لصيامه .
178- الاغتسال بالصابون أو المضمضة به ؟(125/8)
كل هذا قلنا لا بأس أن يغتسل الإنسان بالصابون، وأما المضمضة به فلا ينبغي، لأنه ربما يتسرب إلى حلقه شيء من الصابون أو طعم الصابون المتحلل مع الماء فلا ينبغي أن يدخل الصابون إلى فمه وهو صائم، أما استعمال الصابون في بقية جسمه في رأسه وفي بقية جسمه والتنظف به هذا لا حرج فيه للصائم .
179- وهل يقال لمن فعل مثل هذا : عليه القضاء ؟
على كل حال هذا ليس عليه القضاء .
180- بعد صلاة الفجر في رمضان يحصل له ما يشبه التقيؤ بخروج بعض الماء أو الطعام إلى فمه فيقوم باسترجاعه إلى بطنه فيقول : هل هذا يؤثر في الصيام أم لا ؟
التقيؤ فيه تفصيل : إذا كان التقيؤ يخرج بدون اختيار الإنسان وبدون إرادته يقذف ويخرج من معدته عن طريق الفم فهذا لا يؤثر على صيامه لأنه بغير اختياره، أما إذا كان استدعاه هو وتسبب في خروجه حتى قاء فإنه يفطر بذلك، وما ورد في السؤال من أن السائل يغلبه القيء ويخرج إلى فمه ولكنه يسترجعه ويبتلعه فهذا لا يجوز له، بل يجب عليه أن يقذفه ويخرجه من فمه وإذا ابتلعه متعمدًا فإنه يفسد صومه، لأن الفم في حكم الظاهر فإذا وصل إليه شيء ثم استرجعه وبلعه فإنه بذلك كمن أكل أو شرب، فيكون قد أفطر بهذا الصنيع ويجب عليه قضاء ذلك اليوم .
181- لقد ارتكبت إثمًا في نهار رمضان وهو العادة السرية وذلك خوفًا من الوقوع في ذنب أكبر منه، فماذا عليَّ أن أفعل أفيدونا أفادكم الله ؟(125/9)
يجب على المسلم أن يحفظ صومه مما يفسده، لأن صوم شهر رمضان هو أحد أركان الإسلام وقد قال الله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ سورة البقرة : آية 185 ] وقد أباح الله مباشرة الزوجة والأكل والشرب في ليل الصيام إلى طلوع الفجر الثاني قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } ، إلى قوله تعالى : { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [ سورة البقرة : آية 187 ] .
والاستمناء باليد المسمى بالعادة السرية لا يجوز مطلقًا لا في وقت الصيام ولا في وقت الإفطار لأنه استمتاع بغير ما أباح الله الاستمتاع به من الزوجة وملك اليمين، قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [ سورة المؤمنون : الآيات 5-7 ] ، والاستمناء باليد مما وراء ذلك فهو عدوان محرم، ومن فعله وهو صائم في رمضان فإنه مع كونه فعل محرمًا وأثِمَ فإنه مع ذلك يفسد صومه، فيجب عليه التوبة من ذلك والاستغفار مما فعل وعليه قضاء ذلك اليوم الذي مارس فيه تلك العادة السيئة، وإن كان هذا الفعل وقع في رمضان سابق قبل رمضان تلك السنة فعليه مع القضاء إطعام مسكين نصف صاع من الطعام كفارة عن تأخير القضاء .
وقول السائل : إنه فعل ذلك خوفًا من الوقوع في ذنب أكبر من ذلك هو اعتراف منه بأن الاستمناء باليد ( العادة السرية ) ذنب ومحرم فهو ليس جاهلاً بالحكم، وخوفه لا يبرر له ذلك، ولكن عليه أن يتجنب الذنوب كلها، ويحافظ على صيامه .(125/10)
182- إذا بلغت الفتاة قبل حلول شهر رمضان ولكنها لم تصم رمضان في تلك السنة التي بلغت فيها لجهلها بوجوب الصيام عليها، فماذا عليها أن تفعل ؟ وهل حكمها في هذا حكم من أفطر عامدًا متعمدًا دون عذر ؟
عليها أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى وأن تقضي الصيام الذي تركته بعدد الأيام وأن تطعم عن كل يوم مسكينًا إذا كان أتى عليها رمضان آخر ولم تصم تلك الأيام فيلزمها ثلاثة أشياء :
أولاً : التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والندم على هذا الشيء والعزم على أن لا تعود إليه، والإقلاع عن هذا الذنب .
والشيء الثاني : تقضي هذه الأيام التي تركتها .
والشيء الثالث : إذا كان أتى عليها رمضان آخر فأكثر وهي لم تقض فإنها تطعم عن كل يوم مسكينًا مع القضاء عن التأخير، ومقدار الإطعام أن تدفع عن كل يوم نصف الصاع وهو كيلو ونصف من الطعام للفقراء .
183- إذا كانت المرأة حائضًا في رمضان أو في آخر فترة نفاس وطهرت من ذلك بعد الفجر من أحد أيام رمضان فهل عليها أن تكمل صيام ذلك اليوم أم لا ؟ وماذا عليها أن تفعل لو اغتسلت وبدأت في الصيام ثم ظهر شيء من ذلك بعد انتهاء المدة المعتادة لكل من الحيض والنفاس هل تقطع صيامها أم لا يؤثر ذلك عليه ؟
أما بالنسبة للنقطة الأولى من السؤال وهي ما إذا طهرت الحائض في أثناء النهار أو النفساء طهرت في أثناء النهار فإنها تغتسل وتصلي وتصوم بقية يومها، ثم تقضي هذا اليوم في فترة أخرى هذا الذي يلزمها .
وأما النقطة الثانية وهي إذا انقطع دمها من الحيض ثم اغتسلت ثم رأت بعد ذلك شيئًا فإنها لا تلتفت إليه لقول أم عطية رضي الله عنها : ( كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/81 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 1/186، 187 ) بدون ذكر ( بعد الطهر ) . عند النسائي، كلاهما من حديث أم عطية رضي الله عنها ] ، فلا تلتفت إلى ذلك .(125/11)
أما بالنسبة للنفساء فإذا كانت انقطع دمها قبل الأربعين ثم اغتسلت ثم عاد إليها شيء فإنها تعتبر نفساء، وهذا الذي عاد يعتبر من النفاس لا يصح معه صوم ولا صلاة مادام موجودًا؛ لأنه عاد في فترة النفاس، أما إذا كانت تكاملت الأربعين واغتسلت ثم عاد إليها شيء بعد الأربعين فإنها لا تلتفت إليه إلا إذا صادف أيام عادتها قبل النفاس فإنه يكون حيضًا .
الحاصل أن هذا لابد فيه من تفصيل إذا أكملت عادة الحائض واغتسلت ثم رأت شيئًا بعد ذلك لا تلتفت إليه، وإذا كانت عادتها لم تكمل رأت طهرًا في أثناء العادة واغتسلت ثم عاد إليها الدم فإنها تعتبر حيضًا؛ لأنه جاءها في أثناء العادة، وكذلك النفساء إذا كان عاد إليها في فترة الأربعين فإنه يعتبر نفاسًا، وإن كان عاد إليها بعد تمام الأربعين فإنها لا تعتبره شيئًا إلا إذا صادف أيام حيضها قبل النفاس وقبل الحمل .
184- لي والدة أنجبت طفلة قبل رمضان بسبعة أشهر ولم تصم رمضان، ليس خوفًا على طفلها بل كان بها مرض وخافت على نفسها، وصامت الأعوام التي بعد هذا الشهر إلى أن بلغت سبعة أعوام، وبعد ذلك صامت هذا الشهر فهل قضاؤها هذا صحيح وهل عليها شيء غير القضاء ؟
نعم قضاؤها صحيح ولكن لتأخيرها هذه الأيام إلى أن جاء رمضانات وقضت بعدها فإنه يجب عليها أن تطعم عن كل يوم مسكينًا إضافة إلى القضاء كفارة للتأخير الذي أخرته من غير عذر، أما إذا كانت أخرت إلى هذه المدة لعذر فإنه يكفيها القضاء لأنها معذورة في التأخير .
185- ما تفسير هذه الآية قال تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ سورة البقرة : آية 184 ] ؟(125/12)
لما أوجب الله عز وجل الصيام بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } [ سورة البقرة : آية 183، 184 ] ، قال : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ سورة البقرة : آية 184 ] ، معنى الآية الكريمة : أن الله رخص للمسافر والمريض أن يفطرا في حالة السفر وفي حالة المرض وأن يقضيا ما أفطراه من أيام أخر، وهذا من تيسير الله سبحانه وتعالى على عباده؛ لأن السفر والمرض مظنة المشقة، والله جل وعلا يريد اليسر بعباده، ولهذا قال تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ سورة البقرة : آية 185 ] .
186- رسالة من امرأة مرضت مع دخول شهر رمضان ولم تتمكن من صيامه وبقيت تتناول أدوية وعلاجات ضرورية إلى أن جاء رمضان آخر، فماذا تفعل مقابل صيام رمضان الأول هل تقضيه بعد صيامها لرمضان الحالي أو تكفر عنه ؟
هذه التي استمر بها المرض والتداوي حتى دخل عليها رمضان وعليها أيام من رمضان الذي قبله، ليس عليها إلا أن تقضي الأيام التي أفطرتها بعد أن ينتهي صيام رمضان الحاضر، وليس عليها إطعام لأنها معذورة بتأخير القضاء إلى ما بعد رمضان آخر حيث لم يأت عليها فترة تستطيع في خلالها أن تقضي ما عليها من الأيام .
187- وماذا لو حل رمضان القادم ولم تقدر أيضًا على صيامه يكون عليها شهران ؟
إذا حل عليها رمضان آخر والعذر مستمر فإنها تستمر في الإفطار، فإذا زال عنها المرض واستطاعت أن تصوم فإنها تقضي ما عليها من رمضان السابق ثم بعده ما عليها من رمضان اللاحق بالترتيب، وليس عليها غير القضاء مادامت أنها لم تؤخر وهي تستطيع قضاء الصيام .(125/13)
188- مرضت زوجتي في رمضان الماضي بعد أن صامت اثنين وعشرين يومًا وبقي عليها ثمانية أيام، وقد اشتد عليها المرض ولم تستطع إكمالها وتوفيت بعد رمضان بأيام قليلة أفيدونا ماذا نعمل في الأيام المتبقية عليها، ولكم جزيل الشكر ؟
هذه المرأة التي مرضت في شهر رمضان وتركت الصيام لأجل المرض واستمر بها المرض على أن توفيت ليس عليها شيء فيما تركت من صيام لأنها لم تفرط ولم تترك القضاء تفريطًا، وإنما المرض حال بينها وبين الصيام والقضاء فلا شيء عليها في ذلك لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ سورة البقرة : آية 286 ] .
189- التي تصوم قضاء وتتصدق عن كل يوم إطعام مسكين فهل معنى هذا أنها كل يوم تصوم فيه تتصدق أم يمكن لها أن تجمع الصدقة مرة واحدة وتعطيها مسكينًا واحدًا ؟
إذا وجب الإطعام على من عليه أيام من رمضان فإنه يجوز له أن يخرج عن كل يوم بيومه، ويجوز له أن يجمعها ويدفعها إلى المساكين دفعة واحدة لا حرج في ذلك، وله أن يدفعها إلى عدة مساكين أو إلى مسكين واحد إذا كان يحتاجها .
190- توفيت أخت لي تبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة وقد أفطرت في رمضان بعذر ثم صامت ولكنها لم تكمل صيام الأيام التي أفطرتها حيث وافتها المنية قبل إتمامها، وقد صمت عنها ثلاثة أيام مع العلم أنني لم أعلم عدد الأيام التي أفطرتها وكم الأيام التي صامتها، فما رأيكم لو نقصت هذه الأيام التي صمتها عنها أو زادت، ولو نقصت فكيف أفعل وهل صيامي عنها صحيح أخبرونا جزاكم الله خيرًا ؟(125/14)
إذا كانت أختك أفطرت أيامًا من رمضان بعذر المرض ولم تتمكن من قضائها حتى ماتت فلا شيء عليها، أما إذا كانت قد تمكنت من القضاء وتساهلت فيه حتى جاء رمضان الآخر وماتت قبل قضائها فهذه يكون عليها القضاء واجبًا في ذمتها، وإذا صمت عنها فإن ذلك يبرئ ذمتها عند بعض العلماء، والبعض الآخر يرى أن الواجب الإطعام عن كل يوم مسكينًا، فمن العلماء من يرى أنه لا يصام عن الميت إلا النذر، ومنهم من يرى أنه يصام عنه الواجب عليه بأصل الشرع أيضًا، وعلى كل حال مادمت قد صمت عنها فإنه يرجى إن شاء الله أن ينفعها الله بذلك .
وإذا كنت لا تعرف العدد فإنك تقدره وتحتاط .
191- أفطرت عدة أيام في رمضان وحينما أردت قضاءها صمت يومين ثم جاء اليوم الثالث بأول شهر رجب وقد كنت نويت أن أصوم الأول من رجب فهل أستطيع اعتبار هذا اليوم صيام نافلة عن نيتي لصيام أول رجب وقضاء في الوقت نفسه ليوم رمضان ؟
أولاً : صوم أول يوم من رجب بدعة ليس من الشريعة ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في خصوص رجب صيام، فصيام أول يوم من رجب واعتقاد أنه سنة هذا خطأ وبدعة .
ثانيًا : كونها صامَتْه وهي مترددة بين كونه لسنة رجب التي زعمتها أو عن فرض رمضان فهذا لا يجزيها لابد أن تقضي يومًا عن اليوم الذي أفطرته من رمضان؛ لأن هذا اليوم الذي صامته من أول رجب ترددت فيه هل تجعله سنة رجب كما تزعم أو عن القضاء، لابد لها أن تصوم بنية عن اليوم الذي أفطرته من رمضان .
192- والدتي سيدة كبيرة في السن ومريضة يتعسر عليها الصيام، وإذا صامت زاد عليها المرض وهي من مدة سنتين لا تصوم، وأنا ابنتها أقوم برعايتها وأعطي كفارة إفطارها عن كل يوم عشرة ريالات ولكن مجتمعة كل عدة أيام أخرجه على فقراء وأعطي أحدهم عشرة ريالات عن يوم، وأحدهم عشرين عن يومين وأحدهم خمسين عن خمسة أيام وهكذا .(125/15)
فسؤالها يقول : هل قيمة الكفارة عن اليوم الواحد عشرة ريالات تكفي وأنا من صاحبات الدخل المتوسط ؟ وهل طريقة إخراج الكفارة عن كل عدة أيام مجتمعة صحيحة أو عن كل يوم بيومه ؟ وهل توزيعها على الفقراء بالصورة التي وصفتها صحيحة، أي : أنني أدفع للفقير الواحد كفارة عدة أيام أحيانًا أو أدفع دفعة واحدة عن الشهر كافة لشخص واحد من الفقراء ؟ أخبروني جزاكم الله خير الجزاء ؟
إذا كانت والدتك عجزت عن الصيام عجزًا مستمرًا لكونها هرمة أو مريضة مرضًا لا يرجى برؤها من ذلك المرض بأن كان مرضًا مزمنًا فحينئذ يجب عليها الإطعام عن كل يوم مسكينًا، أما إذا كان هذا المرض يرجى زواله ويرجى الشفاء منه فإن الصوم يتأخر إلى أن يزول هذا المرض فتقضي والدتك الأيام بدون إطعام فالمريض له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون مرضه مزمنًا لا يرجى بُرؤه فهذا يتعين عليه الإطعام ولا قضاء عليه .
الحالة الثانية : أن يكون مرضًا غير مزمن يرجى شفاؤه وزواله فهذا يؤخر القضاء حتى يشفى ويقضي ولا شيء عليه غير القضاء .
أما ما ذكرت أنك أخرجت دراهم تريدين بها الإطعام عن الأيام التي أفطرتها والدتك فهذا تصرف غير سليم؛ لأن الواجب الإطعام بأن تشتري طعامًا وتخرجيه عن الأيام كل يوم إطعام مسكين نصف صاع من قوت البلد المعتاد، فالواجب الإطعام لا إخراج الدراهم لقوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ سورة البقرة : آية 184 ] ، فأوجب الطعام والطعام غير النقود فإخراج القيمة عن كفارة الصيام لا يجزئ، بل الواجب الطعام ويجوز أن تخرجي عن كل يوم بيومه مفرقًا، ويجوز أن تجمعي عدد الأيام وتخرجيه دفعة واحدة يجوز أن تدفع هذه الكفارة لجماعة ويجوز أن تدفع لشخص واحد مجتمعة ومتفرقة .(125/16)
193- يسأل من مات من المسلمين ذكرًا كان أو أنثى وعليه قضاء من رمضان قبل وفاته هل يصام عنه أو يطعم عنه ؟ وإذا كان الصيام عن نذر أيضًا وليس عن رمضان فما الحكم في الحالتين ؟
أما صيام رمضان إذا مات إنسان وعليه أيام من رمضان لم يصمها بسبب المرض فهذا لا يخلو من إحدى الحالتين :
الحالة الأولى : أن يكون اتصل به المرض ولم يستطع الصيام حتى توفي، فهذا لا شيء عليه ولا يقضى عنه ولا يطعم عنه لأنه معذور بذلك .
الحالة الثانية : إذا كان شفي من هذا المرض الذي أفطر بسببه وأتى عليه رمضان آخر ولم يصم ومات بعد رمضان آخر فإنه يجب أن يطعم عنه عن كل يوم مسكينًا؛ لأنه مفرط في تأخير القضاء حتى دخل عليه رمضان آخر حتى مات، وفي إجزاء الصوم عنه خلاف بين العلماء .
أما بالنسبة لصوم النذر فإنه يصام عنه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من مات وعليه صوم -وفي رواية : صوم نذر- صام عنه وليه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/240 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] .
194- سائلة تقول أجريت لها عملية جراحية في الحلق فمنعها الدكتور من صيام شهر رمضان فهل يجب عليها الكفارة أم القضاء ؟
يجب عليها قضاء الأيام التي أفطرتها، قال تعالى : { وَمَن كَانَ مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ سورة البقرة : آية 185 ] ، وهذا مرض أفطرت من أجله فتقضي الأيام التي أفطرتها .
195- الدكتور الذي يأمر بالإفطار هل يسمع أي دكتور كان أو يشترط فيه أن يكون مسلمًا ؟
إذا كان الطبيب متخصصًا في المهنة وصادقًا فيها، وقال للمريض إن الصوم يضرك، فإنه يفطر ولو كان الطبيب غير مسلم إذا لم يوجد غيره وخصوصًا إذا كان المريض بحاجة إلى الفطر .
196- قبل سنتين وفي شهر رمضان كنت مريضة ولم أستطع الصوم سبعة أيام، وبعدها قمت وأطعمت عن كل يوم مسكينًا، هل أكتفي بذلك وهل عليَّ قضاء عن تلك الأيام أفيدونا مأجورين ؟(125/17)
نعم يجب عليك القضاء، ولا يجزئ عنك الإطعام، قال الله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ سورة البقرة : آية 184 ] ، والإطعام إنما يجزئ عمن عجز عن القضاء عجزًا دائمًا قال تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ سورة البقرة : آية 184 ] .
197- سائل يقول : والدي كان قد أصيب بشلل كلي قبل دخول شهر رمضان الماضي – أعاذنا الله وإياكم من هذا المرض ومن غيره – وقد دخل عليه ذلك الشهر وهو يعاني من مرضه ولم يستطع صيامه لشديد المرض الذي ألَمَّ به إلى أن توفي، فهل تجب على والدي كفارة لإفطاره هذا الشهر ؟ وما مقدارها ؟ وأما يجوز أن أصوم عنه أنا أفيدوني وفقكم الله لما يحبه ويرضاه ؟
المريض إذا ترك الصيام من أجل المرض واستمر عليه المرض حتى مات لا شيء عليه؛ لأنه معذور في ذلك ولم يتمكن من القضاء حتى مات فلا شيء على والدك .
198- لدينا رجل مصاب بمرض شديد منذ أربع سنوات ولا يصلي ولا يستطيع الصوم طوال هذه الفترة، فماذا عليه مقابل الصلاة والصيام ؟(125/18)
أولاً : الصلاة بالنسبة للمريض لا تسقط بحال مادام عقله موجودًا لكنه يصلي على حسب حاله لقوله صلى الله عليه وسلم للمريض : ( صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب ) [ انظر " صحيح الإمام البخاري " ( 2/41 ) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ] ، فالمريض يصلي على حسب حاله، وإذا كان يستطيع الطهارة بالماء فإنه يتطهر بالماء، وإذا كان لا يستطيع ذلك للمرض فإنه يتيمم بالتراب لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } ، إلى قوله : { وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا } [ سورة المائدة : آية 6 ] ، فذكر الله أن المرض من جملة الأعذار في ترك الطهارة بالماء والتطهر بدله بالتراب تخفيفًا من الله سبحانه وتعالى، فدل على أن المريض لا تسقط عنه الصلاة بحال مادام عاقلاً، فتركه للصلاة في الفترة التي ذكر خطأ وعليه أن يقضيها .
أما قضية الصيام : فالله رخص للمريض أن يفطر وأن يصوم من أيام أخر، فإذا كان هذا المرض الذي أفطر من أجله يرجى زواله فإنه يقضي متى زال عنه ذلك ولو تأخر لعدة سنين، فمتى شفي، فإنه يقضي ما أفطره من الأيام من رمضان أو من عدة رمضانات، أما إذا كان هذا المرض مرضًا مزمنًا لا يرجى زواله فإنه حينئذ يطعم عن كل يوم مسكينًا، وليس عليه قضاء لأنه لا يستطيعه .
199- نصحني طبيب بعدم الصيام لأنه يضر بصحتي وبعد أن أفطرت 15 يومًا اتضح لي أن الطبيب غير مسلم، فماذا أفعل ؟(125/19)
يجب عليك قضاء الأيام التي أفطرتها، وقد أخطأت في اعتمادك على قول الطبيب الكافر؛ لأنه لا يوثق بخبره، والواجب استشارة الطبيب المسلم الحاذق في هذا وفي غيره من الأمور الشرعية . وعليك اعتبار ذلك في المستقبل، والأطباء المسلمون كثيرون، والحمد لله . والله الموفق .
200- أصبت في شهر رمضان الماضي ببعض الآلام ولم أستطع الصيام فأفطرت وأجبرت زوجتي التي كانت مرافقة لي في فترة العلاج أجبرتها على الإفطار أيضًا والآن أود أن أطعم لعدم استطاعتي الصيام فهل يجوز لي ما قمت به اتجاه زوجتي وهل يجزئ عني الإطعام وهل يجوز لي أن أطعم عن زوجتي لأنها مرضعة في الوقت الحاضر ؟
إفطارك أنت لأجل المرض مرخص به فالله تعالى يقول : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ سورة البقرة : آية 184 ] ، وأما إجبارك لزوجتك على الإفطار فهذا لا أرى له وجهًا، لأنها ليست مريضة وليست مسافرة فليست من أهل الأعذار ولكن مادام حصل الأمر في هذا فأنت أخطأت وعليها أن تقضي هذه الأيام التي أفطرتها وإذا كان أتى عليها رمضان آخر قبل قضائها من غير عذر فإنها مع القضاء تطعم عن كل يوم مسكينًا، وإذا كانت لا تستطيع القضاء في الوقت الحاضر من أجل الإرضاع فإنها تقضي متى تمكنت .
201- قبل حوالي ثمانية أعوام تقريبًا أفطرت يومين في رمضان متعمدًا وبدون عذر وحتى الآن لم أقض هذين اليومين ولم أكفر عنهما فماذا عليَّ أن أفعل الآن ؟
لقد أخطأت في إفطارك في نهار رمضان من غير عذر شرعي، والمسلم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر لا يجوز له أن يفطر في نهار رمضان من غير عذر شرعي، لأن صيام رمضان أحد أركان الإسلام والتساهل فيه أو الإفطار من غير عذر شرعي هذا دليل على ضعف الإيمان، فعليك أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى وعليك في هذه القضية ثلاثة أمور :
الأمر الأول : التوبة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى من هذه المعصية .(125/20)
الأمر الثاني : أن تقضي هذين اليومين وتبادر بقضائهما وتفريغ ذمتك من هذا الواجب العظيم الذي تساهلت فيه .
الأمر الثالث : مادام أنه أتى عليك رمضان آخر أو أكثر من رمضان ولم تصم ولم تقض هذين اليومين فإنه يجب عليك إطعام مسكين عن كل يوم، فعليك ثلاثة أشياء :
أولاً : التوبة إلى الله سبحانه وتعالى .
ثانيًا : تقضي ما تركت من الأيام .
ثالثًا : إطعام مسكين عن كل يوم من هذه الأيام، والسبب أنك أخرته إلى أن جاء رمضان من غير عذر شرعي . والله أعلم .
202- الأيام التي دفع فيها نقودًا هل عليه أن يعيد إخراج إطعام بدلاً عنها ؟
إذا كان أفتاه أحد من أهل العلم بذلك وقنع من فتواه فلا يلزمه أن يعيد، أما إذا كان عمل هذا من نفسه أو لم يقنع بالفتوى التي أُفتي بها فعليه أن يعيد ويخرج طعامًا .
203- ماذا تقولون في هذه الإجابة التي وردت في إحدى المجلات العربية عن سؤال عمن يصوم شهر رمضان وهو يترك الصلاة، أجاب أحد الأساتذة في جامعة الأزهر بقوله : يقول الله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ سورة الزلزلة : الآيتين 7، 8 ] ومعنى ذلك أن من صام رمضان فله ثواب صيامه، وإن ترك في الوقت نفسه الصلاة فعليه إثم تركها، فكونه قد قصر في أداء فريضة لا يمنع من قبول الفريضة الثانية منه ؟
هذه الإجابة فيها إجمال؛ لأن تارك الصلاة إن كان جاحدًا لوجوبها فهذا كافر بإجماع المسلمين ولا تنفعه صلاة ولا عبادة، لأن الكفر لا ينفع معه عمل، لا صيام ولا غيره .(125/21)
لأن الله سبحانه وتعالى يقول : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا } [ سورة الفرقان : آية 23 ] ، ويقول تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ سورة إبراهيم : آية 18 ] والآيات في هذا كثيرة . أما إذا كان يترك الصلاة تكاسلاً وتهاونًا بها مع إقراره بوجوبها فهذا فيه خلاف بين أهل العلم منهم من يرى أنه يكفر الكفر الأكبر المخرج من الملّة كالأول . وعلى هذا القول فلا تصح منه صلاة ولا صيام ولا عبادة ولا أي عمل يعمله من الخير فإنه لا يقبل منه لأنه لم يبن على أساس صحيح، والدليل على كفره ما جاء في الحديث : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/355 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/283 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/342 ) ، كلهم من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهم ] ، والحديث الآخر : ( بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/88 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ] ، والآيات من القرآن كثيرة تدل على ذلك، منها قوله تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ سورة التوبة : آية 11 ] ، فدل على أن الذي لا يقيم الصلاة ليس من إخواننا في الدين ومعنى هذا أنه كافر، وأهل النار يوم القيامة إذا سئلوا : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [ سورة المدثر : آية 42 ] ، يكون جوابهم : { لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ . وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ . وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ . وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } [ سورة المدثر : الآيات 43-46 ] ، والتكذيب بيوم الدين لا شك أنه كفر فقرن ترك الصلاة معه دليل على أن ذلك كفر(125/22)
أيضًا .
والأدلة في هذا كثيرة وصريحة في أن من ترك الصلاة تهاونًا وتكاسلاً متعمدًا أنه يكفر ولو كان مقرًّا بوجوبها، وهذا هو القول الصحيح الراجح للأدلة الكثيرة، والقول الثاني لبعض أهل العلم : أنه لا يكفر الكفر الأكبر، ولكن يكون كفره كفرًا أصغر لا يخرج من الملة، ولكنه يؤخذ بالعقاب والعذاب حتى يؤدي الصلاة، فلعل المجيب قصد هذا القول، ولكن هذا قول مرجوح، والأدلة الصحيحة على خلافه، ولكن عليه أن يبين للناس ولا يلبس هذا التلبيس، ويجيب بهذه الإجابة المجملة، والله أعلم .
204- أنا رجل أعمل مزارعًا وفي رمضان أسافر من بلدي إلى مدينة جدة والتي تبعد عن بلدي حوالي 350 كيلو مترًا وإذا سافرت أواصل صيامي ولا أفطر فهل يجوز لي في مثل هذه المسافة الإفطار وما أقصر مسافة يجوز فيها الإفطار ؟
إن الله سبحانه وتعالى رخص للمسافر في شهر رمضان أن يفطر قال الله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ سورة البقرة : آية 185 ] ، فالمسافر من أهل الرخص في الإفطار في هذا الشهر وما ورد في السؤال من أن بين بلد السائل والبلد الذي يسافر غليه ( 350 كيلو مترًا ) فهل يجوز له أن يفطر في هذه المسافة ؟ نقول : له أن يفطر؛ لأن هذه المسافة تعتبر أكثر من مسافة قصر فأقل مسافة للقصر هي ( 80 كيلو مترًا ) سواء قطعت بالسيارة أو بالأقدام، فإذا كان السفر يبلغ هذه المسافة فأكثر فإنه يستحب للمسافر أن يفطر فيها .
205- ماذا على المسلم الذي أدرك من صلاة التراويح ست ركعات وصلى الوتر مع الإمام ؟(125/23)
ينبغي للمسلم أن يحضر صلاة التراويح من أولها لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 2/51 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 3/147، 148 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 3/83، 84 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/420، 421 ) ، كلهم من حديث أبي ذر رضي الله عنه ] ، لكن من فاته أول صلاة التراويح صلى مع الإمام ما أدرك منها، ويكون له من الأجر بقدر ما أدرك، والله أعلم .
206- قبل أيام وقف أحد الأشخاص في المسجد وقال : إن صلاة التراويح بهذا الشكل الجماعي غير ثابتة، وأن صلاة الرجل في بيته أفضل، ما حكم هذا الكلام ؟
صلاة التراويح في المسجد هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين وصحابته الأكرمين، وعليه عمل المسلمين سلفًا وخلفًا، وهو أفضل من فعلها في البيت؛ لأن صلاة التطوع التي تشرع لها الجماعة كصلاة التراويح وصلاة الكسوف فعلها في المسجد أفضل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإظهارًا لهذه السنة، والذي ينكر ذلك مخطئ في إنكاره يجب مناصحته وبيان خطئه، ويجب عليه أن يتعلم قبل أن يتكلم .
207- هل على المرأة أو غيرها حرج أن تُصلي التراويح بعض الأيام في مسجد وأيامًا أخرى في مسجد آخر، وهكذا طلبًا لإمام صوته حسن وتنشيطًا لأداء هذه السُّنَّة ؟(125/24)
ينبغي للمرأة أن تصلي التراويح في أقرب مسجد إلى بيتها – إذا عملت بالرخصة وخرجت إلى المسجد – وأما تجوالها بين المساجد ففيه من الخطورة ما فيه لتعرضها للفتنة، واحتياجها إلى قطع مسافات كثيرة مما قد يحوجها إلى سيارة وسائق وخلوة محرمة، وليس هناك غرض صحيح ترتكب من أجله هذه المحاذير إلا التلذذ بالأصوات، وتذوقها فتصبح مهمتها ليست من أجل الصلاة، وإنما طلب التلذذ بالأصوات وحينئذ يكون قد انتفى الغرض الذي من أجله رخص لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى المسجد، وهذه ظاهرة مع الأسف بدرت عند كثير من الرجال والنساء والشباب، أنهم يقومون بالتجوال بين المساجد لتقفر أصوات القراء وانتجاع المساجد التي يتجمهر فيها الناس، ولبعض الأئمة – هداهم الله – دور في حصول هذه الظاهرة غير المرغوب فيها لما يقوم به بعضهم من تكلفه في القراءة، ورفع الأصوات فوق المنائر وخارج المساجد، ولو ترتب على هذا أذية للمصلين في المساجد المجاورة لهم وتشويش على المصلين فيها، فالذي نراه أن يصلي كل جماعة في مسجدهم ويعمروه بالطاعة ويتركوا التكلف، ونوصي النساء خاصة بأن تصلي كل امرأة في أقرب مسجد إلى بيتها؛ لأن ذلك أحفظ لها وأبعد عن الفتنة، ونوصي الأئمة بالاعتدال وترك التكلف والإغراب، وأن لا يكون قصدهم اجتلاب الناس إلى مساجدهم، لأن هذا أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء والسمعة، وفق الله الجميع لمعرفة الحق والعمل به .
208- ما حكم صلاة المرأة للتراويح في المسجد ؟ وما الشروط التي يجب التقيد بها في حالة خروجها إلى المسجد ؟
خروج المرأة لصلاة التراويح في المسجد جائز بشرط الالتزام بالستر الكامل وعدم التطيب، وترك لباس الزينة، ولبس الحلي، وبشرط غض البصر، والتزام الحياء والحشمة .
209- هناك بعض الخلافات حول دعاء القنوت وحجم أهميته، فما المشروع في ذلك ؟(125/25)
دعاء القنوت مستحب في الوتر، وهو وارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا مجال للتشكيك في شرعيته، وهو مهم لحاجة المسلم وحاجة الأمة إليه، لأنه دعاء، والدعاء هو العبادة كما في الحديث، وقد أمر الله بدعائه ووعد بالاستجابة، قال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ سورة غافر : آية 60 ] ، وقال : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ سورة البقرة : آية 186 ] ، ويقول فيه ما ورد في حديث الحسن : ( اللهم اهدنا فيمن هديت . . . ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/199 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 2/64 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 2/109 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 3/248، 249 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/372، 373 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/451، 452 ) ، كلهم من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما ] إلخ، ويزيد عليه، لكن لا يطيل بحيث يشق على المأمومين .
210- بعض الأئمة أثناء القراءة في صلاة التراويح يكرر بعض الآيات التي فيها وعيد أو ذكر الجنة والنار ويتباكى عندها، فهل هذا العمل مشروع ؟
هذا العمل إذا كان متكلفًا، أو كان يشق على المأمومين ويتضجر منه بعضهم فإن الأولى تركه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يردد الآية أحيانًا في صلاة الليل كما رُوي أنه ردد قوله تعالى : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ سورة المائدة : آية 118 ] إلى الصباح، فهذه المسألة تعود إلى رعاية الإمام لمن خلفه، لأنه قد يجوز للإنسان في حالة انفراده ما لا يجوز له في حالة كونه إمامًا، ثم إن الشيء المتكلف قد يبدو عليه أثر التكلف فيكون في هذا إساءة ظن بالإمام، وربما يقع الناس في عرضه فيأثمون بذلك .
211- كيف تجعل المرأة رمضان شاهدًا لها لا عليها ؟(125/26)
يكون رمضان شاهدًا للمسلم لا عليه إذا استغله بالطاعات، وعرف حرمته، واستغل وقته فيما شرع فيه من الطاعات والحسنات، وتجنب ما حرم الله من الأقوال والأفعال .
212- كيف تقضي المرأة المسلمة شهر رمضان المعظم تأسيًا بنساء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
تقضي المرأة المسلمة شهر رمضان كأي مسلمة تؤمن بالله وتغتنم مواسم الخيرات في طاعة الله والتقرب إليه، وتعتبر شهر رمضان فرصة العمر، فتشغله بما يليق به من تعظيم واحترام وصلاة وصيام وذكر لله مقتدية بنساء الصحابة وما يفعلنه في هذا الشهر من خلال قراءتها لسيرتهن رضي الله عنهن .
213- ما الضوابط التي يجب أن تلتزم بها نساء المسلمين في هذا الشهر الكريم ؟
الضوابط التي يجب أن تلتزم بها النساء المسلمات في هذا الشهر الكريم هي :
1- أداء الصيام فيه على الوجه الأكمل باعتباره أحد أركان الإسلام، وإذا طرأ عليها ما يمنع الصيام من حيض أو نفاس، أو ما يشق عليها معه الصيام من مرض أو سفر أو حمل أو رضاع، فإنها تفطر مع وجود أحد هذه الأعذار مع عزمها على قضائها من أيام أخر .
2- ملازمة ذكر الله من تلاوة قرآن وتسبيح وتهليل وتحميد وتكبير وأداء الصلوات المفروضة في أوقاتها، والإكثار من صلوات النوافل في غير أوقات النهي .
3- حفظ اللسان عن الكلام المحرم من غيبة ونميمة وقول زور وشتم وسب، وغض البصر عن النظر المحرم فيما يعرض من الأفلام الخليعة والصور الماجنة والنظر إلى الرجال بشهوة .(125/27)
4- البقاء في البيوت وعدم الخروج منها إلا لحاجة مع التستر والحشمة والحياء، وعدم مخالطة الرجال والكلام المريب معهم مباشرة أو بواسطة الهاتف، قال تعالى : { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا } [ سورة الأحزاب : آية 32 ] ، فإن بعض النساء أو كثيرًا منهن يخالفن الآداب الشرعية في رمضان وغيره، حيث يخرجن إلى الأسواق التجارية بكامل زينتهن متطيبات وغير متسترات كما ينبغي، فيمازحن أصحاب المحلات، ويكشفن عن وجوههن أو يضعن عليها غطاء غير ساتر، ويكشفن عن أذرعهن، وهذا محرم ومدعاة للفتنة وإثمه في رمضان أشد لحرمة الشهر .
214- المرأة المسلمة الآن تقضي رمضان ما بين السهر أمام التلفاز أو الفيديو أو »الدش« وما بين الأسواق والنوم، بماذا تنصح هذه المسلمة ؟
المشروع للمسلم رجلاً كان أو امرأة احترام شهر رمضان، وشغله بالطاعات، وتجنب المعاصي والسيئات في كل وقت وفي رمضان آكد لحرمة الزمان، والسهر لمشاهدة الأفلام والمسلسلات التي تعرض في التلفاز أو الفيديو أو بواسطة الدش أو استماع الملاهي والأغاني كل ذلك محرم ومعصية في رمضان وفي غيره، لكنه في رمضان أشد إثمًا .
وإذا انضاف إلى هذا السهر المحرم إضاعة الواجبات والنوم في النهار عن أداء الصلوات فهذه معاصٍ أخر، وهكذا المعاصي يجر بعضها بعضًا ويدعو بعضها إلى بعض، نسأل الله العافية .
وخروج النساء إلى الأسواق محرم إلا إذا دعت حاجة إلى الخروج، فإنها تخرج بقدر الحاجة بشرط أن تكون متسترة ومحتشمة ومتجنبة للاختلاط بالرجال أو التحدث معهم إلا بقدر الحاجة ومن غير فتنة، وبشرط ألا يطول وقت خروجها بالليل فيسبب لها النوم عن الصلاة في وقتها، أو تضيع بسببه حقًّا من حقوق زوجها أو أولادها .
215- ما أهم الوسائل التي تعين المرأة على الطاعات في شهر رمضان ؟
الوسائل التي تعين المسلم رجلاً كان أو امرأة على الطاعات في رمضان هي :(125/28)
1- مخافة الله سبحانه وتعالى، واعتقاد أنه مطلع على العبد في جميع أفعاله وأقواله ونياته، وأنه سيحاسبه على ذلك، فإذا شعر المسلم بهذا الشعور اشتغل بالطاعات وترك السيئات، وبادر بالتوبة من المعاصي .
2- الإكثار من ذكر الله وتلاوة القرآن، لأن ذلك يلين القلب، قال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ سورة الرعد : آية 28 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ سورة الأنفال : آية 2 ] .
3- تجنب الصوارف التي تقسي القلب وتبعده عن الله، وهي جميع المعاصي، ومخالطة الأشرار وأكل الحرام، والغفلة عن ذكر الله عز وجل، ومشاهدة الأفلام الفاسدة .
4- بقاء المرأة في بيتها، وعدم خروجها منه إلا لحاجة مع سرعة الرجوع إليه إذا انقضت الحاجة .
5- النوم بالليل، لأنه يعين على القيام مبكرًا من آخر الليل، ويخفف النوم بالنهار حتى يتمكن من أداء الصلوات في مواقيته، ويستغل وقته بالطاعات .
6- حفظ اللسان من الغيبة والنميمة وقول الزور والكلام المحرم، وشغله بالذكر .
216- نشاهد الأسواق والمحلات التجارية تفتح أبوابها إلى ساعة متأخرة من الليل في شهر رمضان تستقبل بعض المسلمين والمسلمات مما يضطرهم لنوم نهار رمضان كله، ما حكم ذلك ؟(125/29)
أصحاب المحلات التجارية يجب عليهم المحافظة على طاعة الله ومشاركة المسلمين في مواسم الخيرات في رمضان وغيره وألا يضيعوا كل الوقت بالبيع والشراء وفتح محلاتهم، يقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ سورة المنافقون : آية 9 ] ، ويقول تعالى : { لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ } [ سورة النور : آية 37 ] ، ثم في فتحهم محلاتهم معظم الوقت إغراء للآخرين على السهر والتجوال وتعريض للفتنة بين الرجال والنساء، فيكون عليهم إثم في ذلك، لأنهم السبب، والواجب على ولاة الأمور – وفقهم الله – تحديد الوقت المناسب لفتح المحلات الذي لا يتعارض مع أداء الطاعات، ولا يكون سببًا يعرض الناس للفتن، وإضاعة الأوقات الثمينة .
217- ما المطلوب من المسلم في العشر الأواخر ؟ وكيف يستقبلها ؟
المطلوب من المسلم في العشر الأواخر زيادة الاجتهاد في العبادة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه أنه كان يخص العشر الأواخر : بمزيد اجتهاد في التهجد والاعتكاف (3) ، لأنها ختام الشهر وترجى فيها ليلة القدر، فينبغي للمسلم أن يغتنم هذه العشر المباركة ويخصها بمزيد اجتهاد يختم به اجتهاده في العشرين الأول ليعظم أجره، ولأن هذه العشر هي ليالي الإعتاق من النار، لعله يحظى بذلك، والله الموفق .(125/30)
5- كتاب الحج والعمرة
218- ما معنى قوله تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [ سورة البقرة : آية 197 ] ؟ والآية الثانية : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } [ سورة الحج : آية 28 ] ؟ وما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الحج عرفة ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 2/203 ) بنحوه، ورواه الترمذي في " سننه " ( 3/248، 249 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 5/264 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1003 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 2/82 ) ، كلهم من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه ] ؟ أفتونا مأجورين ؟(126/1)
يقول الله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ . . . } الآية [ سورة البقرة : آية 197 ] يبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة الميقات الزماني للحج، وهو شهر شوال وشهر ذي القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة، فمن أحرم في هذه الفترة فقد أحرم في أشهر الحج، وينعقد إحرامه بالحج بإجماع المسلمين، ويجب عليه أن يتجنب الرفث – وهو الجماع – ودواعيه؛ لأن ذلك محرم على المحرم، والفسوق وهو المعاصي، وإن كانت المعاصي محرمة على المؤمن دائمًا إلا أنها يشتد تحريمها وإثمها في حالة الإحرام، والجدال وهو المخاصمة؛ لأن المخاصمة تفضي إلى أمور محذورة من الأقوال والأفعال، وتوغر الصدر، وتشغل عن طاعة لله سبحانه وتعالى، فلهذا نهى عنها، إذا كان الجدال لأجل إحقاق حق وإبطال باطل، فإن الله سبحانه وتعالى يقول : { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ سورة النحل : آية 125 ] ، ويقول : { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ سورة العنكبوت : آية 46 ] أما إذا كان الجدال لغير بيان الحق ودحض الباطل فإن المسلم منهي عنه في كل أحواله، ولا سيما في حالة الإحرام، هذا ملخص معنى الآية الكريمة .
وأما قوله تعالى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } [ سورة الحج : آية 28 ] ، فإنه يبين سبحانه وتعالى الحكمة في مشروعية الحج أي ليحضروا هذه المنافع في الحج، وهي منافع دينية ومنافع دنيوية، ولم يحددها الله سبحانه وتعالى، لأنها كثيرة، وهذا دليل على أن الحج فيه خيرات كثيرة ومنافع عظيمة للمؤمن في دينه ودنياه .(126/2)
أما قوله صلى الله عليه وسلم : ( الحج عرفة ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 2/203 ) بنحوه، ورواه الترمذي في " سننه " ( 3/248، 249 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 5/264 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1003 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 2/82 ) ، كلهم من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه ] فمعناه أن الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم من أركان الحج مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء هو العبادة ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 2/77 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 8/163 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1258 ) ، كلهم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ] ، لأن الدعاء من أعظم أنواع العبادة، وليس معنى ذلك أن الوقوف بعرفة هو الحج كله، بل هناك أعمال أخرى للحج أركان وواجبات له وسنن، ولكن هذا من باب بيان أهمية الوقوف بعرفة، وأنه هو الركن الأعظم من أركان الحج، والله أعلم .
219- ما معنى قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( خذوا عني مناسككم ) [ رواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 5/125 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/943 ) بلفظ : " لتأخذوا مناسككم . . " من حديث جابر رضي الله عنه ] ؟ وما هي صفة حجة الوداع للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ؟(126/3)
فمعناه وجوب اقتداء الحاج بالنبي صلى الله عليه وسلم في أعمال الحج بأن يتعلم أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم التي فعلها في الحج وأقواله، ويقتدي به في ذلك، يعني تعلموا مني أحكام حجكم وعمرتكم فافعلوا مثل ما أفعل، وهذا خطاب لمن كان معه، ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة، فيجب على كل حاج أو معتمر أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في أداء المناسك، من كان معه من الصحابة فإنهم يشاهدونه ويرونه عليه الصلاة والسلام ويتابعونه، ومن يأتي بعده فإنه يعمل بالأحاديث الصحيحة الواردة في حجة النبي صلى الله عليه وسلم يتعلمها ويعمل على موجبها، وإن كان لا يستطيع ذلك فإنه يسأل أهل العلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ليخبروه وليبينوا له، هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( خذوا عني مناسككم ) [ رواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 5/125 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/943 ) بلفظ : " لتأخذوا مناسككم . . " من حديث جابر رضي الله عنه ] ، فهذا دليل على أن أعمال الحج توقيفية كسائر أنواع العبادة، فإنها توقيفية لا يقدم على شيء منها إلا إذا ثبت في الكتاب والسنة أنه مشروع، وأنه عبادة .
أما صفة حجة الوداع فوصفها يطول، ولكن على القارئ أن يراجع الأحاديث التي وردت في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أعظمها حديث جابر الحديث المشهور الطويل الذي وصف فيه حجة النبي صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها (4) .
220- ما هي علامات الحج المقبول ؟ أفيدونا بذلك جزاكم الله كل خير ؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 2/198 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، والحج المبرور هو الحج الذي تقبله الله سبحانه وتعالى، وعلاماته كثيرة منها :(126/4)
أن يكون نفقة الحج من كسب حلال؛ لأن النفقة عليها مدار عظيم في حياة المسلم، ولا سيما في الحج، بل ورد أن الإنسان إذا حج من مال طيب أنه ينادي مناد : ( زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور ) وعلى من كان حج من مال خبيث فإنه ينادى : ( لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مأجور ) (5)، أو ما هذا معناه .
فمن علامات الحج المبرور أن يكون من نفقة طيبة وكسب حلال، ومن علامات الحج المبرور أن يوفق الإنسان فيه لأداء مناسكه على الوجه المشروع وعلى المطلوب من غير تقصير فيها، وأن يتجنب ما نهاه الله عنه في أعمال الحج، ومن علامات الحج المبرور أن يرجع صاحبه أحسن حالاً في دينه مما كان قبل ذلك، بأن يرجع تائبًا إلى الله سبحانه وتعالى، مستقيمًا على طاعته، ويستمر على هذه الحالة، فيكون الحج منطلقًا له إلى الخير منبهًا له إلى تصحيح مساره في حياته .
221- ما المراد بالحج المبرور ؟ وما الأيام المعلومات ؟ ومال المراد بالرفث والفسوق والجدال ؟
الحج جهاد في سبيل الله، ينفق فيه المال ويتعب فيه البدن، ويترك من أجله الأولاد والبلاد إجابة لداعي الله وتلبية لندائه على لسان خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال الله له : { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ سورة الحج : الآيات 27-29 ] .(126/5)
ونحن الآن في أشهر الحج التي جعلها الله ميقاتًا للإحرام به والتلبس بنسكه، قال تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } [ سورة البقرة : الآية 197 ] .
يخبر تعالى أن الحج يقع في أشهر معلومات وهي شوال، وذو القعدة، وعشرة أيام من ذي الحجة، وقال تعالى : { مَّعْلُومَاتٌ } [ سورة البقرة : الآية 197 ] ، لأن الناس يعرفونها من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فالحج وقته معروف لا يحتاج إلى بيان كما احتاج الصيام والصلاة إلى بيان مواقيتهما .
وقوله تعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } [ سورة البقرة : الآية 197 ] معناه : من أحرم بالحج في هذه الأشهر سواء في أولها أو في وسطها أو في آخرها، فإن الحج الذي يحرم به يصير فرضًا عليه يجب أداؤه بفعل مناسكه ولو كان نفلاً قبل الإحرام .
فإن الإحرام به يصيره فرضًا عليه لا يجوز له رفضه، وقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [ سورة البقرة : الآية 197 ] بيان لآداب المحرم وما يجب عليه أن يتجنبه حال الإحرام بالحج وتصونه عن كل ما يفسده أو ينقصه . . من ( الرفث ) : وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية .
والفسوق : وهو جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام .
والجدال : وهو المحاورات والمنازعة والمخاصمة، لأن الجدال يثير الشر ويوقع العداوة ويشغل عن ذكر الله، والمقصود من الحج الذل والانكسار بين يدي الله وعند بيته العتيق ومشاعره المقدسة، والتقرب إلى الله بالطاعات وترك المعاصي والمحرمات ليكون الحج مبرورًا .(126/6)
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) ، ولما كان التقرب إلى الله تعالى لا يتحقق إلا بترك المعاصي وفعل الطاعات فإنه سبحانه بعد أن نهى عن المعاصي في الحج أمر بعمل الطاعات، فقال تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ } [ سورة البقرة : الآية 197 ] ، وهذا يتضمن الحث على أفعال الخير، خصوصًا في أيام الحج، وفي تلك البقاع الشريفة والمشاعر المقدسة وفي المسجد الحرام، فإن الحسنات تضاعف فيها أكثر من غيرها، كما ثبت أن الصلاة الواحدة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة فيما سواه من المساجد .
222- هناك من يرتكب بعض البدع والشركيات في الحج ؟ هل يؤثر ذلك على حجه ؟(126/7)
الشرك الأكبر يبطل الحج وغيره من الأعمال ويخرج صاحبه من الملة، كالذي يدعو الأموات من الأولياء والصالحين ويستغيث بهم ويذبح لهم، فهذا حجه باطل حتى يتوب إلى الله ويخلص العبادة له، قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } [ سورة البينة : آية 5 ] ، وقال تعالى : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [ سورة البقرة : آية 196 ] يعني : خالصين لوجهه ليس فيهما شرك ولا دعوة لغيره، والحاج حينما يلبي يقول : ( لبيك لا شريك لك ) ، فهو يعلن التوحيد، ويتبرأ من الشرك، فيجب عليه أن يحقق القول بالعمل، وأما البدع فإنها ضلالة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126 ) بنحوه، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319، 320 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/15، 16 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/97 ) ، كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه ] ، وعمل المبتدع مردود عليه لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/156 ) ] أي : مردود عليه لا يقبل منه شيء وهو آثم فيه غير مأجور .
223- ما الحكم إذا قضى الإنسان فريضة الحج بالدين فهل تقبل حجته ؟ علمًا بأنه يسدد الدين مباشرة بعد قضائه الفريضة ؟ أفيدونا وفقكم الله .(126/8)
قال الله سبحانه وتعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ سورة آل عمران : آية 97 ] ، والسبيل هو الزاد والراحلة، يعني : أن يتوافر له النفقة الكافية في حجه، والنفقة الكافية أيضًا لأولاده ومن يعوله إلى أن يرجع، ولا يجب على من ليس له القدرة المالية حج، ولا يستدين لأجل ذلك؛ لأنه لم يوجب عليه الله سبحانه وتعالى شيئًا وهو مثقل نفسه بالدين ويتكلف لشيء لم يلزمه، والله سبحانه وتعالى يقول : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ سورة البقرة : آية 185 ] ، فليس من الشرع أن يستدين الإنسان ليحج، ولكن مادام أنه فعل هذا واستدان وحج، فإن حجته صحيحة ويجب عليه سداد الدين، والله سبحانه وتعالى يوفق الجميع لما فيه الخير والصلاح .
224- هل يصح الحج لمن عليه دين وكذلك العمرة ؟ وهل تصح العمرة قبل الحج أو الحج أولاً، أفيدونا بذلك مأجورين ؟
أما من عليه دين فهذا يختلف باختلاف أحوال الناس، فإذا كان من عليه دين ليس عنده ما يكفي للحج ولسداد الدين فإنه يقدم سداد الدين ولا يجوز له أن يحج إلا إذا أذن له صاحب الدين بذلك، وفي هذه الحالة لا يجب عليه الحج، لأن الحج إنما يجب على المستطيع وهذا غير مستطيع، أما إذا كان في ماله سعة يتسع للدين وللحج، فلا بأس أن يحج لكن بشرط أن يوثق للدين ما يسدده ويؤمن له من المال ما يسدده، والله تعالى أعلم، ولا مانع من أداء العمرة قبل الحج فيعتمر قبل الحج إما عمرة يتمتع بها إلى الحج في أشهره أو عمرة يؤديها في أي وقت من السنة لا مانع من ذلك أن تكون العمرة قبل الحج .
225- ماذا يجب على إنسان يريد الحج لأول مرة ؟ وبما تنصحونه ؟(126/9)
يجب على الإنسان الذي يريد الحج لأول مرة أن يؤدي الحج على الوجه المشروع، وأن يصحب أناسًا من أهل الخير يعينونه على طاعة الله ويبصرونه بمناسك الحج إذا كان يجهلها، لأن الذي يحج لأول مرة يخفى عليه بعض أعمال الحج أو غالبها، فهو بحاجة إلى من يبين له، فيختار من الرفقة من يكون صالحًا لذلك .
226- إذا ارتدى الحاج ملابس الإحرام ونوى الحج والعمرة ما هي الأعمال التي يجب عليه القيام بها ؟
إذا نوى الدخول في الحج والعمرة معًا من بداية الإحرام أو نوى العمرة أولاً، ثم نوى الحج وأدخله عليهما فإنه يكون بذلك قارنًا بين الحج والعمرة، بمعنى أنه أحرم بنسكين معًا، أو أنه أحرم بنسك العمرة وأدخل عليه نسك الحج، فصار قارنًا، والذي يلزمه من العمل هو أن يبقى على إحرامه، فإذا قدم مكة فإنه يطوف طواف القدوم وهو سنة، ثم إن سعى بعده سعي الحج والعمرة مقدمًا فلا بأس بذلك، ثم يبقى على إحرامه إلى أن يأتي يوم عرفة ويخرج لعرفة ويقف بها ويؤدي مناسك الحج بوقوف عرفة والمبيت بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة، وحلق رأسه أو تقصيره، ثم طواف الإفاضة والسعي بعده إذا لم يكن قد سعى بعد طواف القدوم، ويلزمه ذبح هدي التمتع؛ لأنه جمع بين نسكين .
227- إذا نويت الحج فقط فماذا يجب عليَّ ؟(126/10)
إذا نوى الحج فقط فإنه يعتبر مفردًا ويبقى على إحرامه حتى يؤدي مناسك الحج، لكن المفرد ليس عليه هدي، لأنه لم يجمع بين نسكين، وإنما نوى نسكًا واحدًا فقط، فليس عليه هدي واجب، والأحسن للقارن والمفرد أن يفسخ نية الإفراد ونية القران إلى نية التمتع، فإذا وصل إلى مكة فإنه يُحوَّل إحرامه إلى عمرة بأن يطوف ويسعى، ويقصر من رأسه ويحلل من إحرامه، فإذا كان يوم التروية، وهو اليوم الثامن أحرم بالحج وأدى مناسك الحج فيكون أدى العمرة أولاً، ثم بعد ذلك أدى الحج بعدها، ويكون عليه فدية، هذا هو الأفضل والأكمل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين أحرموا معه ولم يسوقوا الهدي، أمرهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة (6)، فدل ذلك على استحباب فسخ نية الحج إلى العمرة، هذا هو الأفضل والأكمل .
228- ذهبت إلى مكة المكرمة لأول مرة ولم أعمل عمرة ولم يكن عندي علم بأن ذلك حرام أو حلال، وكان ذهابي إلى مكة المكرمة عبارة عن زيارة لأحد أقاربي هناك، الرجاء أفيدوني ماذا أفعل جزاكم الله خيرًا ؟
الحج والعمرة واجبان على المسلم المستطيع في العمر مرة واحدة، وما زاد عن ذلك فهو تطوع، وليس على المسلم شيء في دخوله إلى مكة بدون إحرام إذا لم يكن قاصدًا الحج أو العمرة، لكن من لم يسبق له أن حج أو اعتمر وجاء إلى مكة فإنه قد سنحت له الفرصة لأداء نسكه فيجب عليه المبادرة بذلك، وإذا لم يفعل فإنه يأثم ويبقى الواجب في ذمته .
229- توجهت إلى مكة المكرمة بنية أداء العمرة وكان طريقي على ميقات أهل اليمن وحينما أردت الإحرام من الميقات لم أجد ماء أتوضأ أو أغتسل به، فتعديت الميقات وأحرمت من بعده بعد أن وجدت الماء، فهل عليَّ شيء في هذا ؟ وهل يشترط التطهر للإحرام سواء بالوضوء أو بالاغتسال ؟(126/11)
إن التطهر للإحرام لا يشترط، وإنما يُستحب الاغتسال قبل الإحرام لإزالة العرق والأوساخ والروائح الكريهة إذا أمكن، أما إذا لم يمكن أو لم تجد ماء أو حتى لو وجدت ماء فليس هذا بواجب، ولا يجوز لإنسان أن يتجاوز الميقات بدون إحرام بحُجة أنه لم يجد ماء كحالتك التي ذكرت، فإنك أخطأت في هذا؛ فالواجب على من مر بالميقات وهو يريد الحج أو العمرة أن يحرم من الميقات ولا يتجاوزه بدون إحرام، وعدم وجود الماء ليس بعذر كما ذكرنا، وما فعلته بأنك تجاوزت الميقات وأحرمت بعده، فهذا خطأ، وقد تركت واجبًا من واجبات النسك فعليك فدية، فدية جبران، بأن تذبح شاة توزعها على فقراء الحرم، وإحرامك صحيح .
230- يقول السائل : أتمنى في هذه السنة أن أؤدي فريضة الحج إن شاء الله، وحيال هذا الأمر كان لابد أن أقرأ عن فريضة الحج فبخصوص ميقات أهل العراق قرأت في كتاب أنه على الحاج المسافر إلى السعودية بالطائرة يجوز له أن يحرم من مدينة جدة ولما كنت أنوي زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنويت الزيارة أولاً وأيضًا أحرم من ميقات أبيار علي، ولكن لو وصلت إلى جدة يوم الثامن والعشرين من ذي القعدة ولم أتمكن من الزيارة قبل الحج، فبهذا لا يصبح أمامي سوى الإحرام من جدة ومررت على ميقات الحديبية ولبَّيْتُ عندها وأنا متجه من جدة إلى مكة المكرمة فأعود مرة أخرى بشأن الكلام الذي قرأته في هذا الكتاب وهو أنه على من أراد الحج بالطائرة فعليه أن لا يتجاوز الميقات وهو أمام إحدى ثلاث : إما أن يحرم من بيته أو يحرم من المطار ( مطار بلد الحاج ) ، أو يحرم بالطائرة في الميقات أو موازيًا للميقات إن كان الأمر غير صعب .
وسؤالي هل لو أحرمت من الحديبية بعدما وصلت إلى مطار جدة أكون بذلك قد تجاوزت ميقات الإحرام ؟ وماذا عليَّ فعله بعد ذلك ؟ وإذا كان ذلك تجاوزًا للميقات فما هي الكفارة وما هي كيفية القضاء ؟(126/12)
من قدم في الطائرة يريد الحج فإنه يحرم إذا حاذى الميقات الذي يمر به في الجو في طريقه ولا مانع أن يتهيأ للإحرام قبل ركوب الطائرة ويعمل السنن التي تفعل قبل الإحرام من الاغتسال والتنظف والتطيب وإعداد الإنسان نفسه للإحرام، ثم إذا قارب الميقات فإنه يحرم من حذائه أو قبله بقليل احتياطًا ويتلبس بالنسك الذي يريد ولا يؤخر الإحرام إلى مطار جدة كما يتوهمه بعض الناس، فإن جدة ليست ميقاتًا إلا لأهلها ولمن نوى النسك منها، ولم يسبق له نيته قبل وصوله إليها .(126/13)
وبمناسبة ما ذكرت من أنك تريد زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، قبل الحج وتحرم من ميقات أهل المدينة إذا رجعت فهذا عمل جائز، فمن قدم إلى جدة وهو يريد الذهاب إلى المدينة فإنه يحرم من ميقات المدينة إذا رجع منها، ولكنك تذكر أن الزيارة تعذرت في هذا الوقت، وأنك لم يبق أمامك إلا الإحرام للحج، فالواجب في هذه الحالة عليك أن تحرم من المكان الذي عزمت على الذهاب إلى مكة منه، وهو جدة، أما تأخير الإحرام إلى الحديبية فهذا خطأ، لأن الواجب أن تحرم من المكان الذي عزمت على الذهاب إلى مكة منه ولا تؤخره إلى مكان آخر قريب من مكة فبتأخيرك للإحرام إلى الحديبية تكون قد أحرمت بعد الميقات بالنسبة لك، فعليك فدية وهي ذبح شاة توزعها على مساكين الحرم سواءً ذبحتها بنفسك أو وكلت من يذبحها عنك، وإذا كنت لا تستطيع الذبح ماليًّا فإنك تصوم عشرة أيام، لأنك تركت الإحرام من المكان الذي يجب عليك الإحرام منه وأخرته إلى مكان دونه مما يلي مكة، والزيارة التي يشرع السفر لها هي زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لا زيارة قبره، فلا يجوز السفر بنية زيارة القبور لا قبره صلى الله عليه وسلم، ولا قبر غيره، فقولك : " كنت أنوي زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم " قول غير صحيح لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/56 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، فالزيارة التي يسافر لها إنما تكون لأحد المساجد الثلاثة، أما القبور فإنها لا يسافر لأجل زيارتها لا قبور الأنبياء ولا غيرهم، وإنما تكون زيارة القبور بدون سفر، والقصد منها السلام على الميت والدعاء له والاستغفار له والاعتبار بأحوال الموتى هذا القصد من الزيارة الشرعية للقبور، وهذا حكمها أما أن يسافر لأجل قصد زيارة قبر من القبور سواء كان قبر نبي أو ولي أو غير ذلك،(126/14)
فهذا حرام؛ لأنه من وسائل الشرك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسائل التي تؤدي إلى الشرك وخص السفر لزيارة المساجد الثلاثة، وإذا زار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وصلى فيه فإنه يزور قبره تبعًا لذلك .
231- يقول السائل : أنا أعمل بمدينة الرياض منذ ثلاث سنوات وفي موسم الحج السابق سافرت بطريق البر أنا وزوجتي إلى جدة والتي كانت حاملاً في ذلك الوقت، والحمل بالنسبة لها كان أمرًا متعبًا، وكانت النية إذا وصلنا إلى جدة بالسلامة وكانت صحة زوجتي تتحمل مشاق وأتعاب الحج أن ننوي من جدة، وبعد أن وصلنا وسألتها : هل تستطيع أن تؤدي الفريضة ؟ فأجابت بالإيجاب، مع العلم أنني أديت فريضتي بعون الله في وقت سابق، فخرجنا للحج من جدة، وأحرمنا مع أهل جدة، ولم نحرم من ميقات أهل الرياض، مع العلم أننا مكثنا يومين في جدة قبل الحج عند أقاربنا، أفيدونا هل بفعلنا هذا هل ارتكبنا مخالفة بالنسبة للإحرام ؟ وفي حالة ارتكابنا مخالفة فماذا يجب علينا فعله ؟(126/15)
إذا كان هؤلاء كما ذكر أنهم لم يعزموا على الحج، بل هم مترددون فيه، وقد أوقفوا الأمر على معرفة حال المرأة عند وصولها إلى جدة فإن كانت تستطيع الحج حجوا هذا العام، وإن لم تستطع لم يحجوا فإنه يكون ميقاتهم من المكان الذي عزموا على الحج منه، فما دام أنهم لم يعزموا على الحج إلا في جدة فيكون محل إحرامهم في جدة، أما إذا كانوا قدموا من الرياض إلى جدة يريدون الحج هذا العام فحينئذ لا يجوز لهم تجاوز الميقات بدون إحرام، وإنما يحرمون من الميقات إذا مروا به بالسيارة أو مروا به من الجو يحرمون من محاذاته، ولا مانع أن يذهبوا إلى جدة وهم محرمون، ثم ينزلوا إلى مكة، المهم أن لا يتجاوزوا الميقات بدون إحرام إذا كانوا أنشئوا السفر من الرياض بقصد الحج، ويكون في هذه الحالة على كل واحد منهم دم لتجاوزهم الميقات بدون إحرام، والذبح : ذبح شاة تجزي في الأضحية يذبحها في مكة ويوزعها على فقراء الحرم، ومن لم يستطع ذبح هذه الفدية فإنه يصوم عشرة أيام .
232- لقد قدمت إلى مكة المكرمة لأول مرة ولم أحرم من الميقات لأخذ عمرة لعدم قدرتي المادية على شراء الإحرام، فدخلت مكة في ثيابي العادية، وبعد مضي عشرة أيام وأنا في مكة تمكنت من أداء العمرة من مكة، فهل عليَّ شيء في هذا أم لا ؟(126/16)
الواجب على المسلم أن يسأل عندما يحصل له إشكال ولا يعمد إلى رأيه وما يمليه عليه جهله، فلو أنك سألت قبل أن تقدم على هذا الشيء لكان هو الواجب عليك، فالمسلم إذا جاء يريد الحج أو العمرة لا يجوز له أن يتجاوز الميقات بدون إحرام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدد هذه المواقيت قال : ( هن لهن، ولمن أتى عليهن من غيرهِنَّ ممن أراد الحج والعمرة ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/142 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] ، وأما أنك لا تقدر على شراء ملابس الإحرام، فالإحرام ليس ملابس الإحرام، وإنما هو نية الدخول لنسك، فلو أنك نويت الدخول في النسك ولبيت بالعمرة من الميقات فإنك تكون بذلك أحرمت ولو لم تخلع ملابسك العادية، وإذا كان ليس معك ما تشتري به ملابس الإحرام فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص لمن لم يجد الإزار أن يلبس السراويل، فلو أبقيت السراويل عليك وخلعت ما عليك من بقية الثياب وجعلت على أعلا جسدك شيئًا تلفه به لكفى هذا إلى أن تجد ما تشتري به إزارًا ورداءً، أما وقد أخطأت وتجاوزت الميقات بدون إحرام، ثم أحرمت من مكة، فإن إحرامك صحيح أيضًا، إلا أنه ناقص، لأنك تركت واجبًا وهو الإحرام من الميقات فيكون عليك فدية أن تذبح شاة، أو تأخذ سبع بدنة أو سبع بقرة وتوزعه على فقراء الحرم فإن لم تجد فإنك تصوم عشرة أيام، والله أعلم .
233- أنا رجل مقيم في مدينة الرياض ولي أقارب في مدينة جدة وأنوي أداء العمرة مرورًا بأقاربي في جدة لزيارتهم، فهل عليَّ أن أحرم من جدة أم أن أحرم من الميقات وأبقى على إحرامي في جدة حتى لو مكثت بها عدة أيام ؟(126/17)
إذا سافرت تريد العمرة من الرياض، وكان لك أقارب في جدة تريد المرور بهم وزيارتهم، فالواجب عليك أن تحرم من الميقات بأن تحرم من السيل ( قرن المنازل ) ، أو ما يوازيه، ولا بأس أن تمر بأقاربك وأن تزورهم وأنت محرم وتبقى في إحرامك، ثم إذا انتهت زيارة أقاربك فإنك تذهب إلى مكة تؤدي مناسك العمرة، وإن ذهبت إلى مكة من أول وهلة، وأديت العمرة وحللت من إحرامك، ثم ذهبت إلى أقاربك فلا بأس، بل تكون المبادرة بالعمرة أحسن، فالمهم ألا تتعدى الميقات إلا وأنت محرم، لقوله صلى الله عليه وسلم في هذه المواقيت : ( . . هن لهن، ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة . . ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/142 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] .
234- ما هي الأشياء المحرمة على المحرم بحج أو عمرة ؟(126/18)
الأشياء المحرمة على المحرم بحج أو عمرة أنه يجب على الذكر أن يتجنب لبس المخيط حالة إحرامه، ويقتصر على لبس الإزار والرداء، ويخلع جميع أنواع المخيطات عن جسمه، ويحرم على الذكر أيضًا تغطية رأسه بملاصق من عمامة أو غيرها من الملابس التي توضع على الرأس، بل يكون رأسه مكشوفًا طيلة إحرامه، ويحرم على المرأة تغطية وجهها في البرقع أو النقاب، ويحرم عليها تغطية يديها بالقفازين، ويجب عليها أن تغطي وجهها عن الرجال الأجانب بغير البرقع وبغير النقاب، بل تغطيه بثوبها أو خمارها، وكذلك تغطي كفيها بثيابها لا بالقفازين – وهما الجوارب المنسوجة أو المخيطة على قدر الكفين – ويحرم على الذكر والأنثى في حالة الإحرام التطيب بجميع أنواع الطيب في حالة الإحرام، وكذلك يحرم عليهما إزالة الشعر من الرأس أو من جميع أجزاء الجسم في حالة الإحرام، ويحرم عليهما تقليم الأظافر، ويحرم على الذكر والأنثى في حالة الإحرام الصيد لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } [ سورة المائدة : آية 95 ] ، فلا يجوز له الاصطياد وهو محرم أو الإعانة على الاصطياد بقول أو فعل، ويحرم على المحرم ذكرًا أو أنثى الجماع ودواعيه، ويحرم على المحرم ذكرًا أو أنثى عقد النكاح، كل هذه تحرم على المحرم وهي ما تسمى بمحظورات الإحرام .
235- ما الحكم فيمن ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام ناسيًا أو جاهلاً هل يلزمه فدية أم لا ؟
إذا كان هذا المحظور لا إتلاف فيه مثل الطيب وتغطية الرأس ولبس المخيط فهذا إذا فعله ناسيًا أو جاهلاً وذكر إذا كان ناسيًا أو علم إذا كان جاهلاً، فإنه يتجنب المحظور من حينه ولا شيء عليه .
أما ما كان فيه إتلاف كقص الشعر، وتقليم الأظافر، وقتل الصيد، فهذا على قولين لأهل العلم :(126/19)
القول الأول : أنه لا يعذر بالجهل والنسيان، بل يجب عليه به فدية ذلك المحظور، لأنه إتلاف، وإتلاف يستوي فيه عندهم العامد وغير العامد فيها كقتل الخطأ وإتلاف المال يضمنان، ولو كان القاتل والمتلف غير متعمد .
القول الثاني : أنه إذا كان جاهلاً أو ناسيًا فلا حرج عليه في ذلك، أخذ من عموم قوله تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } [ سورة الأحزاب : آية 5 ] ، ومن قوله تعالى في الصيد : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } [ سورة المائدة : آية 95 ] مفهومه أن غير المتعمد لا شيء عليه، ولعل هذا الرأي هو الصحيح إن شاء الله .
236- رجل قام بعمرة عن والده في شهر شوال، ثم يريد أن يحج مفردًا عن نفسه، فهل عليه هدي ؟ وإذا كان عليه هدي فما الحكم إذا رمى جمرة العقبة وقصر وتحلل قبل ذبح الهدي ؟
إذا كان أدى العمرة في شوال وانتظر الحج حتى أحرم به في عامه فإنه يكون متمتعًا، ويجوز في التمتع أن تكون العمرة عن شخص والحج عن شخص آخر، ويجب أن يهدي المتمتع في حق غير المكي، وإذا رمى الحاج الحجر يوم العيد وحلق رأسه أو قصر ولو لم يذبح هديه فإنه يكون قد تحلل التحلل الأول الذي يبيح له ما حرم عليه بالإحرام إلا الاستمتاع بزوجته حتى يطوف طواف الإفاضة، فذبح الهدي لا دخل له في التحلل .
237- هل يشترط في وجوب دم المتمتع ألا يخرج من مكة بعد العمرة ؟(126/20)
الخروج من مكة إذا كان قريبًا فإنه لا يؤثر على وجوب دم المتمتع إذا كان دون مسافرة قصر، أما إذا كان مسافة قصر فأكثر فهذا موضع خلاف بين أهل العلم، والصحيح أنه لا يؤثر على وجوب دم المتمتع إلا إذا رجع إلى بلده، ثم سار من بلده وأحرم بالحج في هذا العام، فهذا لا يعتبر متمتعًا، لأن سفره إلى بلده فصل بين الحج والعمرة في أن تكون العمرة بسفر مستقل والحج بسفر مستقل، فلا يكون عليه هدي في هذه الحالة .
238- لو وكل رجل عنه رجلاً مكيًّا ليحج عنه فهل يجب على هذا الوكيل المكي الإحرام من ميقات أهل اليمن أم يحرم من مكة ؟
الأكمل – وخروجًا من الخلاف – أنه إذا كان الحج فريضة وعجز عن مباشرته بنفسه أن يوكل من يحج عنه من بلده هذا هو الأفضل، وخروجًا من خلاف من أوجب ذلك عليه، وقالوا : إن المنوب عنه يجب عليه الحج من بلده، وكذلك النائب عنه .
239- هل يجوز لمسلم أن يحج أو يعتمر عن والديه وهما على قيد الحياة ؟
في المسألة تفصيل : أما الحج الواجب والعمرة الواجبة كحجة الإسلام وعمرة الإسلام فهذا لا يجوز أن يُناب عن الحي فيهما إلا إذا كان عاجزًا عجزًا لا يستطيع أداء الحج أو العمرة بصفة دائمة، فهذا الحج عنه كالمريض مرضًا مزمنًا لا يستطيع معه الركوب للحج وأداء أعمال الحج، أو الكبير الهرم بدليل الحديث أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن والدها أدركته فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع الثبات على الراحلة، أفأحج عنه ؟ قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( حجي عن أبيك ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 2/167 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الترمذي في " سننه " ( 3/241-243 ) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ] .
أما حج النافلة فالأمر فيه واسع، فلا بأس أن يفعل عنه الحج وإن كان مستطيعًا عند جماعة من العلماء .(126/21)
240- نويت أداء العمرة لأخي الأكبر حيث إنه متوفى، فأريد أن أعرف هل هذا العمل من الأعمال الدينية التي تصل للميت ؟
نعم، لأن هذا شيء طيب، أداؤك العمرة عن أخيك المتوفى سواء كانت واجبة أو مستحبة، فهذا عمل جليل، ولكن بشرط أن تكون أديت عمرة الإسلام عن نفسك أولاً، والله أعلم .
241- هل يجوز لي أن أؤدي العمرة عن زوجتي وهي على قيد الحياة ؟
النيابة في العمرة أو في الحج عمن هو على قيد الحياة فيها تفصيل، إن كان الحج فريضة أو العمرة فريضة فإنه لا تجوز النيابة فيهما إلا عند عجز المنوب عنه مباشرتهما بنفسه، إما لهرم وكبر، وإما لمرض مزمن لا يستطيع معه القيام بالحج أو العمرة ولا ينتظر منه ذلك، حينئذ يوكل من يؤدي عنه حجة الإسلام وعمرة الإسلام، لأنه تعذر أداؤه لهما، فينيب من يحج عنه أو يعتمر، أما مادام ينتظر منه أن يباشر ذلك بنفسه فإنه لا يجوز له أن يوكل في حجة الإسلام وعمرة الإسلام، أما النافلة في الحج والعمرة حج النافلة أو عمرة النافلة فالأمر فيهما واسع إذا وكل فيهما فلا حرج في ذلك، وإن كان الأولى بل الواجب عند بعض العلماء أن يباشر الحج والعمرة لنفسه إذا كان قادرًا ولو كان ذلك نافلة، والله أعلم .
242- والدي شيخ كبير في السن وكفيف البصر هل يجوز لي أن أحج عنه ؟ أرشدوني وفقكم الله إلى سواء السبيل ؟
إذا كان والدك كبيرًا وهو لا يستطيع الذهاب إلى الحج للكبر فإنه لا بأس أن تحج عنه بشرط أن تكون قد أديت فريضة الإسلام عن نفسك أولاً، أما إذا كان والدك لا يمنعه الكبر من الذهاب إلى الحج بأن كان عنده بقية من القوة يستطيع بها أن يذهب إلى الحج بنفسه فإنه يجب عليه أن يحج بنفسه إذا كانت عنده الاستطاعة المالية أو أنت تريد أن تساعده بالمال للقيام بالحج أو العمرة .(126/22)
243- لي والدة تبلغ من العمر أربعين عامًا ولم تؤد فريضة الحج، وذلك لعدم استطاعتها على القيام من ألم في قدميها منذ طفولتها، هل يجوز لي أن أحج عنها ؟ وهل عليها إثم بتأخيرها الحج إلى هذا الوقت ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا .
إذا كانت والدتك لا تستطيع القيام لمرض في قدميها من الصغر وهي مقعدة لا تستطيع المشي والقيام، فإن كان يمكن أن تحج معكم ويطاف بها محمولة، ويسعى بها محمولة، وترموا عنها الجمار، وتقف معكم في عرفات وفي مزدلفة ومنى، فإنه يتعين ذلك، أما إذا كانت لا تستطيع أن تحمل في الطريق إلى الحج فحينئذ يعتبر هذا مرضًا مزمنًا فيجوز لها أن توكل من يحج عنها بشرط أن يكون الوكيل قد أدى حجة الإسلام عن نفسه أولاً .
244- والدتي متوفاة، وأنا الآن متوجه لأداء فريضة الحج عنها، فما الحكم ؟ وهل يجوز أن أحج بعد هذه المرة أم لا ؟
لا بأس بذلك بشرط أن تكون قد حججت عن نفسك حجة الإسلام، فإن لم تكن حججت عن نفسك فابدأ بنفسك أولاً، ثم إذا كان في العام القادم أو ما بعده فإنك تحج عنها إن أمكنك ذلك، وذلك من برها والإحسان إليها، وإن أنبت غيرك ممن قد حج عن نفسه وهو تقي ثقة فلا بأس .
245- هل يجوز تغيير النية للمفرد بعد الطواف والسعي ليصبح متمتعًا ؟
لا مانع من ذلك، بل الأحسن أن يتحول من كونه مفردًا إلى كونه متمتعًا، فإذا طاف وسعى يقصر من رأسه ويتحلل ويعتبرها عمرة، ثم يحرم بالحج بعد ذلك ويكون متمتعًا، وهذا يسمى فسخ الحج إلى العمرة، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بعدما طافوا وسعوا أن يقصروا ويجعلوها عمرة يحرمون بعدها بالحج ليكون متمتعين إلا من كان ساق الهدي، فإنه يبقى على إحرامه (7).
246- هناك بعض الأخطاء التي تقع في الطواف، ما هي هذه الأخطاء ؟
1- كثير من الحجاج يلتزم أدعية خاصة في الطواف يقرؤها من مناسك، وقد يكون مجموعات منهم يتلقونها من قارئ يلقنهم إياها ويرددونها بصوت جماعي، وهذا خطأ من ناحيتين :(126/23)
الأولى : أنه التزام دعاء لم يرد التزامه في هذا الموطن، لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف دعاء خاص .
الثاني : أن الدعاء الجماعي بدعة وفيه تشويش على الطائفتين، والمشروع أن يدعو كل شخص لنفسه وبدون رفع صوته .
2- بعض الحجاج يقبل الركن اليماني، وهذا خطأ، لأن الركن اليماني يستلم باليد فقط ولا يقبل، وإنما يقبل الحجر الأسود، فالحجر الأسود يستلم ويقبل إن أمكن أو يشار إليه مع الزحمة إليه، والركن اليماني يستلم ولا يقبل ولا يشار إليه عند الزحمة، وبقية الأركان لا تستلم ولا تقبل .
3- بعض الناس يزاحم لاستلام الحجر الأسود وتقبيله، وهذا غير مشروع، لأن الزحام فيه مشقة شديدة وخطر على الإنسان وعلى غيره، وفي فتنة بمزاحمة الرجال للنساء، والمشروع تقبيل الحجر واستلامه مع الإمكان، وإذا لم يتمكن أشار إليه بدون مزاحمة ومخاطرة وافتتان، والعبادات مبناها على اليسر والسهولة، ولا سيما أن استلام الحجر وتقبيله مستحب مع الإمكان، ومع عدم الإمكان تكفي الإشارة إليها، والمزاحمة قد يكون فيها ارتكاب محرمات فكيف ترتكب محرمًا لتحصيل سنة ؟ ! .
247- هل يجوز الطواف بدون وضوء رغم أنني بدأت الطواف على طهارة وفي أثناء الطواف انتقض وضوئي فلم أستطع التيمم ولا الخروج لإعادة الوضوء ؟ إذا كان لا يصح فماذا أفعل الآن ؟(126/24)
من شروط صحة الطواف الطهارة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف، فقال : ( افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 2/171 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] ، فالطهارة شرط من شروط الطواف، ولا يكفي التيمم كما يقول السائل، بل لابد من الوضوء، لأن الماء متوفر، إلا في حالة العجز عن استعمال الماء لمرض فإنه يتيمم، وإذا بدأ الطواف بطهارة وانتقض أثناء الطواف عليه أن يخرج ويتوضأ ويطوف من جديد، وإذا كان هذا الطواف الذي طافه طواف حج أو عمرة، فعليه أن يرجع إلى مكة ويعيد الطواف وما بعده من سعي وطواف وداع، وعليه أيضًا أن يتجنب جماع زوجته إلى أن يطوف ويسعى، وإن كان قد جامع فإنه يكون عليه فدية يذبحها في مكة ويوزعها على فقراء الحرم .
248- ما حكم من طاف ستة أشواط حول الكعبة والسابع من داخل حجر إسماعيل، ثم سعى سبعة أشواط وتحلل بعد ذلك ؟ فما يجب عليه حتى تكمل حجته أو عمرته ؟
هذا يعتبر لم يكمل السبعة الأشواط، لأن الشوط الذي جاء به من داخل الحجر لم يكن مستوفيًا للكعبة فهو لم يكمل الطواف بالبيت، وإذا لم يتم طوافه لم يصبح سعيه كاملاً، لأن السعي يشترط أن يكون بعد طواف صحيح، فيجب عليه أن يعيد الطواف والسعي .
249- امرأة مريضة سعت بعد طواف القدوم، ولكنها لم تستطع إتمام السعي لمرضها، فما الحكم في هذه الحالة ؟
المريض إذا شرع في السعي أو في الطواف ولم يستطع إكماله فإنه يكمل به محمولاً، بأن يحمل ويطاف به، وإذا لم يتيسر حمله في هذه الحالة وقطع الطواف أو السعي فإنه يستأنف الطواف والسعي من جديد إن صح في جسمه وقوي على الطواف أو السعي بنفسه أو يطاف ويسعى به محمولاً من جديد، ولا يبني على الأشواط السابقة إذا طال الفصل أو انتقض وضوءه في حالة الطواف .(126/25)
250- أنا من إحدى قرى جيزان، وقد ذهبت إلى مكة المكرمة للبحث عن عمل، وفعلاً عملت هناك، واستقررت بها وأخذت أهلي معي، وفي البداية لم تكن والدتي معنا، وقد حضرت إلينا لزيارتنا، وأخذت عمرة ولكنها أثناء العمرة وفي السعي تعثرت في المشي فوقعت على الأرض وأصيبت، فنقلناها إلى المستشفى، ولكنها توفيت على أثر ذلك، وقد أكملت عمرتها تلك نيابة عنها، فهل ما فعلته صحيح أم لا ؟ كذلك حججت عنها وقد أديت جميع أركان الحج وواجباته إلا السعي بعد طواف الإفاضة لم أستطع أداءه لعجزي البدني، فأنا أسير على قدمي الواحدة وبدل الأخرى عصا أتكئ عليها، ولم يكن معي من المال ما يكفي لأستأجر عربة، فماذا عليَّ في ذلك ؟
أما بالنسبة للشق الأول من السؤال وهو أن والدتك ماتت قبل إكمال مناسك العمرة، فإنها تكون باقية في إحرامها ولا يكمل عنها النسك الذي أحرمت به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي وقصته راحلته ومات في عرفة وهو محرم أمر بدفنه بثيابه ونهى عن تغطية رأسه، ونهى عن أن يمس الطيب، وقال عليه الصلاة والسلام : ( إنه يُبعث يوم القيامة ملبيًا ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 2/75 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] ، فدل أن المحرم إذا مات في أثناء إحرامه قبل استكمال مناسك الحج والعمرة فإنه يبقى في إحرامه إلى أن يبعث، وأنه لا يكمل عنه النسك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بأن يكملوا عنه بقية النسك .(126/26)
أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال وهو أنك حججت عنها بعد وفاتها من باب البر بها والإحسان إليها، فهذا شيء تشكر عليه ونرجو من الله عز وجل أن يتقبله منك، وأما بالنسبة لترك السعي، فهذا غلط، لأنه يجب عليك إتمام المناسك، والسعي ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، فإن كنت قد أحرمت مفردًا بالحج أو قارنًا بين الحج والعمرة وسعيت بعد طواف القدوم فإنه ليس عليك سعي آخر بعد طواف الإفاضة، أما إن كنت متمتعًا أو كنت قارنًا أو مفردًا ولم تسع بعد طواف القدوم فإن السعي باق عليك، فيجب عليك أن تذهب وأن تسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط بنية سعي الحج، وإذا كان حصل منك مواقعة لزوجتك في هذه المدة فإنك تذبح شاة دم جبران توزعه على فقراء مكة وإذا أردت العودة إلى بلدك فإنك تطوف للوداع .
251- ما هي أقصر مدة للإقامة في منى لمن يريد التعجيل بالسفر ؟
أقصر مدة للإقامة بمنى في أيام الحج هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر؛ يومان بعد العيد، وهذا هو التعجل، والأكمل أن يبقى اليوم الثالث عشر وهذا هو التأخر، قال تعالى : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى } [ سورة البقرة : آية 203 ] ، فالتعجل معناه أن يخرج وينفر من منى بعد رمي الجمرات في اليوم الثاني عشر بعد الزوال من قبل غروب الشمس؛ هذا التعجل، وإذا أدركه الغروب ولم يرحل من منى فإنه يتعين عليه المبيت فيها ليلة الثالث عشر والرمي في اليوم الثالث عشر بعد الظهر، والله أعلم .
252- لو كان لي عمل يلزمني حضوره مثلاً في جدة أثناء أيام الحج التي يلزم فيها المبيت بمنى، فهل يجوز لي أن أذهب لقضاء عملي ذلك ثم أعود إلى منى للمبيت فقط ؟ وما هو الوقت الذي يشمله المبيت من الليل ؟(126/27)
نعم يجوز لك أن تذهب إلى قضاء حاجتك في جدة أو غيرها، لأنها تعتبر قريبة في النهار أيام منى، ثم ترجع بالليل وتبيت بمنى، وإن كان البقاء في منى ليلاً ونهارًا في هذه الأيام أفضل، ولكن المتعين والواجب هو المبيت بها، أما النهار فيجوز لك أن تذهب لحاجتك وترجع لتبيت فيها، أما الوقت الكافي من المبيت لمن كان بمنى من أول الليل إلى نصف الليل فإذا بتَّ في منى إلى منتصف الليل، ثم خرجت بعد منتصف الليل منها فلا مانع من ذلك .
253- بعد رجوعي من عرفة قدمت إلى منى، ولكني لم أجد مكانًا بها، ثم ذهبت إلى مزدلفة، فما الحكم ؟
يقول الله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] ، فإذا حاولت أن تجد مكانًا تنزل فيه بمنى ولم تجد وتعذر عليك هذا، فإنك تنزل في أقرب مكان إليها من مزدلفة أو غيرها متصلاً بمنازل الحجاج، وهذا منتهى استطاعتك ولا شيء عليك – إن شاء الله – لكن ما يفعله بعض الحجاج من التساهل في طلب النزول بمنى والبحث عن مكان ويذهبون وينزلون في شقق في العزيزية أو في مكة من أجل الرفاهية فهذا عمل لا تبرأ به ذممهم .
254- لاحظنا أن بعض الحجاج الذين لا يتمكنون من الصلاة في مسجد نمرة يصلون في أماكنهم ويقوم أحدهم بإلقاء الخطبة والصلاة بهم كما في المسجد، فهل يجوز عقد خطبتين أو أكثر في عرفة ؟
الخطبة في يوم عرفة خطبة واحدة يقوم بها إمام المسلمين أو نائبه في مكان واحد وهو نمرة، وليست مشروعة على كل مجموعة من الحجاج وإنما بقية الحجاج الذين لا يحضرون مع الإمام في مكان الخطبة يصلون الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، جمع تقديم، بدون خطبة وما فعله هؤلاء الذين ذكرهم السائل تعتبر بدعة لا يجوز فعله ويجب تركه والنهي عنه وبالإمكان سماع الخطبة من المسجد بواسطة المذياع .
255- هناك أخطاء تقع من الحجاج في الوقوف بعرفة، ما هي ؟(126/28)
1- بعض الحجاج لا يتأكد من مكان الوقوف ولا ينظر إلى اللوحات الإرشادية المكتوب عليها بيان حدود عرفة فينزل خارج عرفة وهذا إن استمر في مكانه ولم يدخل عرفة أبدًا وقت الوقوف لم يصح حجه، فيجب على الحاج الاهتمام بهذا الأمر والتأكد من حدود عرفة ليكون داخلها وقت الوقوف .
2- يعتقد بعض الحجاج أنه لابد في الوقوف بعرفة من رؤية جبل الرحمة أو الذهاب إليه والصعود عليه، فيكلفون أنفسهم عنتًا ومشقة شديدة، ويتعرضون لأخطار عظيمة من أجل الحصول على ذلك، وهذا كله غير مطلوب منهم، وإنما المطلوب حصولهم في عرفة في أي مكان منها لقوله صلى الله عليه وسلم : ( وعرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة ) [ رواه الإمام مالك في " الموطأ " ( 1/388 ) بلاغًا، ورواه الإمام أحمد ( 4/82 ) من حديث جبير بن مطعم، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 5/115 ) من حديث محمد بن المنكدر، وعند مسلم ( 2/893 ) من حديث جابر رضي الله عنه بدون ذكر : " وارفعوا عن بطن عرنة " ] سواء رأوا الجبل أو لم يروه، ومنهم من يستقبل الجبل في الدعاء والمشروع استقبال الكعبة .
3- بعض الحجاج ينصرفون ويخرجون من عرفة قبل غروب الشمس وهذا لا يجوز لهم، لأن وقت الانصراف محدد بغروب الشمس، فمن خرج من عرفة قبله ولم يرجع إليها فقد ترك واجبًا من واجبات الحج ويلزمه به دم مع التوبة إلى الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مازال واقفًا بعرفة حتى غروب الشمس (8) ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( خذوا عني مناسككم ) [ رواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 5/25 ) من حديث جابر بن عبد الله، ورواه مسلم في " صحيحه " ( 2/943 ) بلفظ : " لتأخذوا مناسككم " ، من حديث جابر رضي الله عنه ] .
256- أحد أصحابنا ذهب للحج ولكنه عندما ذهب إلى عرفة في اليوم التاسع وجد الزحام شديدًا قبل الوصول إليها فقرر الرجوع إلى عمله، فماذا يجب عليه الآن ؟(126/29)
إذا أحرم الإنسان بالحج أو العمرة وجب عليه المضي فيهما إلى أن يكمل مناسكهما ولا يجوز له رفض الإحرام ولا يعفيه ذلك من إتمام نسكه، قال تعالى : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [ سورة البقرة : آية 196 ] ، وقال تعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ } [ سورة البقرة : آية 197 ] الآية – ومعنى فرض : أحرم – فإذا أحرم الإنسان بالنسك صار فرضًا عليه إكماله كما ورد في السؤال، فإنه يعتبر الآن قد فاته الحج فعليه أن يعيد ملابس الإحرام ويتحلل بعمرة، ثم في العام القادم يقضي هذا الحج الذي رفضه ويذبح فدية .
257- حججت هذا العام ولم أتمكن من شدة زحام السيارات من المبيت بمزدلفة وإنما مررت عليها صبيحة اليوم العاشر، فماذا يجب عليَّ ؟
المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج لا يجوز تركه مع الاستطاعة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها هو وأصحابه وقال : ( خذوا عني مناسككم ) [ رواه البيهقي " السنن الكبرى " ( 5/125 ) من حديث جابر بن عبد الله، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/943 ) بلفظ : " لتأخذوا مناسككم . . " من حديث جابر رضي الله عنه ] ، لكن من كان متجهًا بسيارته إلى مزدلفة يقصد المبيت بها، ثم حبسه سير السيارات ولم يتمكن من الوصول إليها حتى طلع الفجر فهذا ليس عليه شيء، لأنه معذور، والله أعلم .
258- وما الأخطاء التي تقع من بعض الحجاج في مزدلفة ؟(126/30)
المطلوب من الحاج إذا وصل إلى مزدلفة أن يصلي المغرب والعشاء جمعًا، ويبيت فيها فيصلي بها الفجر، ويدعو إلى قبيل طلوع الشمس، ثم ينصرف إلى منى، ويجوز لأهل الأعذار خاصة النساء وكبار السن والأطفال ومن يقوم بتولي شؤونهم الانصراف بعد منتصف الليل، ولكن يحصل من بعض الحجاج أخطاء في هذا النسك، فبعضهم لا يتأكد من حدود مزدلفة ويبيت خارجها، وبعضهم يخرج منها قبل منتصف الليل ولا يبيت فيها، ومن لم يبت بمزدلفة من غير عذر فقد ترك واجبًا من واجبات الحج يلزمه به دم جبران مع التوبة والاستغفار .
259- هل هناك مكان معين للإقامة فيه أو حوله في مزدلفة أم أن أي مكان فيها يصلح أن يقيم فيه الحاج ومتى يتجه إلى منى ؟
مزدلفة كلها موضع للمبيت لا يختص جانب منها عن الجانب الآخر، بل كل عرصاتها مشعر وموضع للمبيت لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( جمع كلها موقف ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 2/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 3/240-243 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1100 ) بنحوه، كلهم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ] ، فالمسلم إذا وصل إلى مزدلفة، فإنه ينزل في أي مكان تيسر له النزول فيه ويصلي بها المغرب والعشاء جمعًا عند وصوله ويذكر الله سبحانه وتعالى ويدعو، أما وقت الدفع من مزدلفة إلى منى فهو قبيل طلوع الشمس إذا أسفر جدًّا، ويجوز للضعفة الدفع من مزدلفة إلى منى بعد منتصف الليل من ليلة النحر .
260- هل يجوز التقاط حصيات لرمي الجمرات من حولها مما قد رمى به سابقًا لمن فقد شيئًا من الحصى التي أتى بها لغرض الرمي، أو وقعت من يده ؟ وهل لابد من إصابة رأس الجمرة أو لا مانع حتى لو لم تصب إلا أسفلها ؟
لا مانع من أخذ الحصى مما قرب من الجمرات إلا أنه لا يأخذ من حصى ( حوض الجمرة ) ، أما إذا أخذ من الحصى المتناثر في الطريق إليها أو حولها فلا مانع من ذلك .(126/31)
وأما موضع الرمي فهو الحوض فيشترط أن تسقط الحصاة في حوض الجمرة سواء استقرت فيه بعد ذلك أو تدحرجت وسقطت، أما رمي الشاخص أو العمود فهو غير مشروع، فإذا فعل ذلك ولم تقع الحصاة في الحوض فإنها لا تجزيه فإذا ضرب العمود وطارت ولم تقع في الحوض فإنها لا تجزيه، لأنه ليس المقصود رمي العمود إنما المقصود رمي الحوض والعمود، إنما جعل علامة على الرمي فقط، وليس هو المقصود بالرمي، وإذا لم يتأكد وقوعها في الحوض فإنه يرمي بدلها، لأنه الواجب ولا يسقط إلا بيقين .
261- ما حكم رمي الجمار قرب منتصف الليل هل يجوز أم لا ؟
رمي الجمار الثلاث بَيَّنَه صلى الله عليه وسلم (9) بأنه يبدأ بزوال الشمس فإذا زالت الشمس في اليوم الحادي عشر وما بعده فإنه يكون قد دخل وقت الرمي، وأما الرمي بالليل فمحل إشكال وخلاف وفي الوقت متسع للرمي بالنهار، ولله الحمد، لأنه يبدأ من زوال الشمس إلى غروب الشمس، فهذا وقت واسع يتحين الإنسان الأخف والأرفق به ويرمي به ولا يعرض نسكه للخطر والخلاف، ويجوز أن يؤخر رمي يوم إلى يوم بعده من أيام التشريق ويبدأ به مرتبًا قبل رمي اليوم الحاضر .
262- في صباح اليوم العاشر من ذي الحجة يوم العيد بدأت برمي جمرة العقبة في الصباح، ثم عقبتها برمي بقية الجمرات في الصباح أيضًا فهل فعلي هذا صحيح أم عليَّ شيء في ذلك ؟
يوم العيد ليس فيه رمي إلا جمرة العقبة فقط، أما ما حصل منك من أنك رميت بقية الجمرات في هذا اليوم فهذا خطأ ولا حكم له وجوده كعدمه، وإنما ترمي الجمرات الثلاث الصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى في اليوم الحادي عشر وما بعده من أيام التشريق .
263- ما حكم من رمى حصاتين في وقت واحد عند الجمرتين الوسطى أو أي جمرة ؟ وماذا يجب عليه فعله الآن لو حصل منه ذلك ؟(126/32)
الذي يرمي حصاتين جميعًا لا تجزيانه إلا عن واحدة، والواجب أن ترمى الحصيات السبع متتابعة كل واحدة بعد الأخرى، فإذا تبين له أنه أخل في الرمي في وقت الرمي في أيام التشريق فإنه يعيد الرمي مرتبًا على الصفة المشروعة، أما إذا لم يتبين له الخطأ إلا بعد فوات أيام التشريق فإنه حينئذ يكون عليه فدية وهي ذبح شاة في مكة يوزعها على فقراء الحرم .
264- هل يشترط إصابة الجمرات في الرمي ؟
يشترط أن يقع الحصى في المرمى وهو الحوض سواء استقر فيه أو سقط بعد مروره على الحوض والتي لا تقع في الحوض لا تحسب، وكثير من الحجاج يظنون أن الذي يُرمى هو العمود الشاخص فيصوبون إليه حصاهم فيتطاير هنا وهناك ولا يقع في الحوض، وهذا خطأ كبير .
265- قمت بفريضة الحج أثناء الموسم المنصرف ومن جملة المناسك التي قمت بها أنني رميت جمرة العقبة وتحللت التحلل الأول بحلق بعض الشعر وجئت من الغد لأرمي الجمرات الثلاث فتبينت أني رميت من خلف النصب وأصبت ظهرها فأعدت رمي جمرة العقبة يوم الثاني عشر من ذي الحجة، فهل يعتبر عملي هذا صحيحًا أم ماذا يجب عليَّ أن أفعله حتى يكون عملي صحيحًا ؟
أولاً : الواجب في الحلق أو التقصير تعميم الرأس ولا يكفي أن يأخذ بعض الشعرات .
وثانياً : إعادته لرمي جمرة العقبة في اليوم الثاني بأن تبين له بأنه في اليوم الأول رماها في غير محل الرمي، وأن الحصى لم يصل إلى حوض الجمرة، فعمله هذا صحيح وهذا هو المتعين عليه، فمن لم يرم الجمرة في اليوم الأول لعذر من الأعذار أو تبين له أن رميه غير صحيح فعليه إعادته في اليوم الثاني لكن يبدأ أولاً بالرمي الماضي – رمي اليوم الأول – ثم يرمي جمرات اليوم الحاضر .
266- بعد أن أديت فريضة الحج هذا العام وبعدما رميت جمرة العقبة في أول وثاني أيام العيد ذهبت من منى قبل غروب الشمس ووكلت صديقًا لي يرمي الجمرات في اليوم الثالث نظرًا لظروف عملي، فهل عليَّ دم ؟(126/33)
الواجب على الحاج أن يباشر أعمال الحج بنفسه من رمي وغيره إلا إذا احتاج للتوكيل بأن لا يقدر على رمي الجمرات لضعفه أو لمرضه أو امرأة تخشى من الزحام، تخشى من الفتنة، أو الطفل الصغير الذي لا يطيق الرمي بنفسه في هذه الحالة يجوز التوكيل أو إنسان أو مثل ما ذكر السائل ظروف العمل تحول بينه وبين الرمي في وقته فليوكل، لكن ليس معنى هذا أنه يوكل على الرمي أو على بقية الرمي ويسافر، لأن الحج لم ينته والسفر إنما يكون بعد نهاية أعمال الحج التي آخرها طواف الوداع، فهو يوكل لعذر من الأعذار الشرعية من يرمي عنه، فإنه لا ينفر ولا يسافر إلا بعد أن تنتهي أعمال الحج ويطوف بعد ذلك، وفي ختام أعمال الحج يطوف للوداع، أما لو سافر قبل نهاية أعمال الحج فإنه يكون قد سافر قبل جواز السفر له شرعًا، ويكون قد أدى طواف الوداع في غير وقته، فيكون عليه دم، لأن طواف الوداع قبل نهاية أعمال الحج لا تجزي صاحبه فيكون في حكم التارك له، ومن ترك واجبًا من واجبات الحج فإنه يكون عليه دم يذبح شاة في مكة ويوزعها على مساكين الحرم جبرانًا لما ترك من طواف الوداع في وقته، وعليه دم آخر لترك المبيت بمنى، والله أعلم .
267- هناك أخطاء في رمي الجمرات ما هي ؟
رمي الجمرات واجب من واجبات الحج، وذلك بأن يرمي الحاج جمرة العقبة يوم العيد، ويجوز بعد منتصف الليل من ليلة العيد، ويرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد زوال الشمس، لكن يحصل من بعض الحجاج في هذا النسك أخطاء، وبيانها كما يلي :
1ـ فمنهم من يرمي في غير وقت الرمي، بأن يرمي جمرة العقبة قبل منتصف الليل في ليلة العيد، أو يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق قبل زوال الشمس، وهذا الرمي لا يجزئ، لأنه في غير وقته المحدد له، فهو كما لو صلى قبل دخول وقت الصلاة المحدد لها .
2ـ ومنهم من يخل بترتيب الجمرات الثلاث، فيبدأ من الوسطى، ثم الكبرى وهي الأخيرة .(126/34)
3ـ ومنهم من يرمي في غير محل الرمي وهو حوض الجمرة، وذلك بأن يرمي الحصى من بُعد فلا تقع في الحوض، أو أن يضرب بها العمود فتطير ولا تقع في الحوض، وهذا رمي لا يجزئ، لأنه لم يقع في الحوض، والسبب في ذلك الجهل أو العجلة أو عدم المبالاة .
4ـ ومنهم من يقدم رمي الأيام الأخيرة مع رمي اليوم الأول من أيام التشريق، ثم يسافر قبل تمام الحج، وبعضهم إذا رمى لليوم الأول يوكل من يرمي عنه البقية ويسافر إلى وطنه، وهذا تلاعب بأعمال الحج وغرور من الشيطان، فهذا الإنسان تحمل المشاق، وبذل الأموال لأداء الحج، فلما بقي عليه القليل من أعماله تلاعب به الشيطان فأخل به وترك عدة واجبات من واجبات الحج، وهي رمي الجمرات الباقية، وترك المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، وطوافه للوداع في غير وقته، لأن وقته بعد نهاية أيام الحج وأعماله .
فهذا لو لم يحج أصلاً وسلم من التعب وإضاعة المال لكان أحسن، لأن الله تعالى يقول : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [ سورة البقرة : آية 196 ] ، ومعنى إتمام الحج والعمرة إكمال أعمالهما لمن أحرم بهما على الوجه المشروع، وأن يكون القصد خالصًا لوجه الله تعالى .
5ـ من الحجاج من يفهم خطأ في معنى التعجل الذي قال الله تعالى : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ سورة البقرة : آية 203 ] ، فيظن أن المراد باليومين يوم العيد ويوم بعده، وهو اليوم الحادي عشر فينصرف في اليوم الحادي عشر ويقول : أنا متعجل، وهذا خطأ سببه الجهل، لأن المراد يومان بعد يوم العيد، هما اليوم الحادي عشر والثاني عشر، من تعجل فيهما فنفر بعد أن يرمي الجمار بعد زوال الشمس من اليوم الثاني عشر وقبل غروب الشمس فلا إثم عليه، ومن تأخر إلى اليوم الثالث عشر فرمى الجمار بعد زوال الشمس فيه، ثم نفر فهذا أفضل وأكمل .(126/35)
268- نساء مستطيعات لرمي الجمار ولكن منعهن زحام فهل يتعين عليهن الرمي بأنفسهن أم يجوز لهن التوكيل ؟
إذا كان فيه زحمة شديدة ولا يستطعن المزاحمة أو يخشى من الفتنة، لأن مزاحمة المرأة للرجال فيها تعرض لفتنة الرجال بالنساء والنساء بالرجال، ففي هذه الحالة توكل من يرمي عنها، وكذا إذا وجد في الرمي زحمة شديدة وكانت المرأة لا تتحمل من ناحية صحتها، أن تتأخر أو تأخر بها وليها إلى وقت آخر وتحين فرصة أخرى يكون الرمي فيها أخف، فهذا أسن وأحوط .
269- تعلمون شدة الزحام عند الجمرات، فهل يجب على النساء رمي الجمار بأنفسهن أم يجوز لهن التوكيل خوفًا من الزحام وتلافيًا للفتنة ؟
يجب على المرأة الحاجة أن ترمي الجمار بنفسها إذا تمكنت من ذلك، أما إذا لم تتمكن من الرمي لمرضها أو كبر سنها أو لشدة الزحام التي لا تطيقها أو تخشى من الفتنة عليها وعلى غيرها في المزاحمة، فلا بأس في هذه الحالات أو تُوكل من يرمي عنها، لكن بالإمكان أن تتحين الأوقات التي ليس فيها زحمة شديدة، ثم ترمي وتتجنب أوقات الزحمة، والله أعلم .
270- هل يجوز التوكيل في رمي جمرة العقبة عمن لا يقدر على تحمل متاعب الزحام حولها ؟
يجوز التوكيل عند العجز لرمي جمرة العقبة وغيرها، ويجوز له عند الرمي أن يوكل من يرمي عنه .
271- إذا أخرت الحلق أو التقصير ناسيًا إلى اليوم الحادي عشر، فقمت بالتقصير، فهل يجوز ذلك أم عليَّ شيء في هذا ؟(126/36)
تأخير الحلق أو التقصير إلى اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر لا حرج فيه – إن شاء الله – وإن كان الأفضل المبادرة، وأن يفعله يوم العيد بعد ذبح الهدي إذا كان عليه هدي، وهو الأفضل، لكن لو أخره فلا مانع من ذلك، لكن لا يتم تحلله من الإحرام إلا بفعل هذه الثلاثة : رمي جمرة العقبة، والحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، والسعي بعده لمن عليه سعي، فإن فعل اثنين من هذه الثلاثة تحلل التحلل الأول الذي يبيح له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء .
272- ما هو الوقت الأفضل لأداء طواف الإفاضة فيه ؟
الأفضل أن يطوف طواف الإفاضة يوم العيد إذا أمكن، ويجوز تأخيره عن يوم العيد ويجوز أن يطوف في الليل ليلة الحادي عشر أو ما بعدها، كما أنه يجوز لأهل الأعذار ومن في حكمهم أن يطوفوا بعد منتصف الليل من ليلة النحر، فوقت طواف الإفاضة يبدأ من بعد منتصف ليلة النحر ولا حد لنهايته، والأفضل أن يؤدى في يوم العيد .
273- هل يجوز تأخير طواف الإفاضة في الليل إذا لم أتمكن من أدائه في النهار ؟
نعم يجوز فعل طواف الإفاضة ليلاً ونهارًا في أيام التشريق وبعدها إلا أنه من الأفضل والأحسن أن يأتي به يوم العيد إذا أمكن، وإذا لم يتمكن من ذلك، فالأمر واسع، والحمد لله .
274- هل يجوز للمتمتع تقديم سعي الحج في اليوم الثامن مقدمًا على طواف الإفاضة ؟
المتمتع لا يجوز له أن يقدم السعي على طواف الإفاضة، لأن السعي في حق المتمتع إنما يكون بعد طواف الإفاضة، فتقديمه قبل طواف الإفاضة جاء في غير محله فلا يجزئ .
275- ماذا عن الأخطاء التي تقع في الحلق أو التقصير ؟(126/37)
بعض الحجاج يكتفي بقص شعرات من رأسه وهذا لا يكفي ولا يحصل به أداء النسك؛ لأن المطلوب التقصير من جميع الرأس، لأن التقصير يقوم مقام الحلق، والحلق لجميع الرأس، قال تعالى : { مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ } [ سورة الفتح : آية 27 ] ، والذي يقصر بعض رأسه لا يقال : إنه قصر رأسه، وإنما يقال : قصر بعضه .
276- إذا حلقت شعري بماكينة حلاقة، وقد لا تأخذ الشعر من أصله، فهل أعتبر مقصرًا أو حالقًا ؟
إذا كانت الماكينة تقص الشعر من أعلاه وتبقي منه شيئًا كثيرًا فهذا يعتبر تقصيرًا، أما إذا كانت الماكينة تأخذ الشعر من أسفله ولا تبقي إلا أصوله فهذا يعتبر حلقًا أو قريبًا من الحلق، والأولى أن يحلق بالموسى عملاً بالسنة، والله أعلم .
277- يقول السائل : أدى والدي وخالي حجة الإسلام – بحمد الله – في العام الماضي، وفي اليوم العاشر من ذي الحجة، وبعد رمي جمرة العقبة طلبت منهما أن يحلقا، فكنت أظن أن الحلق سنة عملاً بالحديث الشريف : ( اللهم ارحم المحلقين ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/188 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ] ، وكنت مصرًّا على أن يحلقا، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كرر عبارة : ( رحم الله المحلقين ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/188 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ] ثلاث مرات، ولكنهما أجاباني بأنهما سوف يحلقان بعد أن يؤديا العمرة، وبعد أداء العمرة كان الوقت ضيقًا فلم يتمكنا من الحلق، وهكذا افترقنا، فعدت إلى مقر عملي وتركتهما يتأهبان للعودة إلى الوطن، علمًا بأن كلاً منهما أخذ شيئًا يسيرًا من شاربه ولحيته، وعند عودتي علمت أن الحلق محظور، يجبر بالدم، ماذا أفعل الآن إذا كانت الإجابة هي أن ذلك يجبر بالدم في شهور الحج ؟ وما هي كيفية التلبية التي يجب أن يتلفظ بها الإنسان ؟(126/38)
أما قضية حلق الشعر لنسك الحج أو العمرة فهو الأفضل كما ذكر السائل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثًا، وللمقصرين مرة واحدة، والله تعالى يقول : { مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ } [ سورة الفتح : آية 27 ] ، فقدم الحلق على التقصير، مما يدل على أن الحلق أفضل، وما ذكره من حال أصحابه الذين أمرهم بالحلق ولم يحلقوا فإن كانوا قصروا فالتقصير يكفي للنسك، وإن كان الحلق أفضل منه، وأما إذا كانوا لم يقصروا ولم يحلقوا فحينئذ يكون قد بقي عليهم نسك من مناسك الحج، فيجب عليهم إذا علموا أن يبادروا بالحلق أو التقصير بنية النسك، وإذا كان حصل منهم جماع لزوجاتهم في هذه الفترة فيكون عليهم فدية ذبح شاة يوزعونها على المساكين في الحرم، وإذا كان القصد بأنهم أخذوا من شواربهم أو من اللحية مع أن الأخذ من اللحية أمر لا يجوز، فإذا كانوا فعلوا هذا بعد رمي جمرة العقبة، والحلق أو التقصير، فليس عليهم شيء في ذلك إلا الإثم في الأخذ من اللحية، لأن من فعل شيئين من ثلاثة جاز له ما منع منه بالإحرام سوى مقاربة النساء، أما إذا كانوا أخذوا من شواربهم ولحاهم قبل فعل اثنين من الثلاثة فيكون عليهم فدية وهي ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين في الحرم أو صيام ثلاثة أيام .
أما التلبية المشروعة أن يقول : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك، وإن زاد عليها بعض الألفاظ الواردة فلا مانع من ذلك، هذه التلبية المشروعة ويرفع بها صوته .
278- من نسي أن يطوف طواف الوداع ولم يذكر إلا بعد وصوله إلى بلده البعيد عن مكة أو كان جاهلاً ولم يعلم إلا بعد وصوله فماذا عليه أن يفعل في تلك الحالتين ؟(126/39)
إذا ترك طواف الوداع وسافر ولم يفطن إلا بعد وصوله إلى بلده أو بعد بلوغه مسافة القصر ثمانين كيلو مترًا فأكثر، فهذا يتقرر في حقه الفدية ( الدم ) ، وهو ذبح شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة يذبحها في مكة ويوزعها على مساكين الحرم .
279- هل على من يقيم بمكة طواف وداع أو لا ؟
الحاج الذي يقيم في مكة بعد الحج ليس عليه طواف وداع، إنما الوداع عند المغادرة إذا أنهى أعماله وأراد أن يسافر إلى بلده، فإنه يطوف طواف الوداع سواء كان سفره بعد الحج مباشرة، أو تأخر عن الحج فإنه يطوف طواف الوداع، لأنه واجب من واجبات الحج .
280- من يقيم في جدة مثلاً هل يجوز له تأجيل طواف الوداع إلى ما بعد أيام الحج، أي بعد أن يخف الزحام حول البيت وفي هذه الأثناء يتوجه إلى جدة، ثم يعود لتأدية طواف الوداع ؟
إذا فرغ من أعمل الحج فإنه لا يغادر مكة حتى يطوف طواف الوداع، وإذا كان في زحام فإنه ينتظر ويتحين الفرصة، ثم يطوف طواف الوداع ويخرج إلى جدة أو إلى غيرها .
281- وهذا الحكم حتى في العمرة ؟
العمرة ليس لها وداع على الصحيح إنما الوداع من واجبات الحج، أما العمرة إن حصل وتيسر أن طاف عند خروجه فحسن، وإن لم يحصل فإنه غير متعين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بطواف الوداع في حق المعتمرين، وإنما أمر به الحجاج (10).
282- طواف الوداع للحج، من يريد تأدية عمرة بعده هل يكون قبل العمرة أو بعدها قبل السفر أو يصح في الحالتين ؟(126/40)
طواف الوداع يكون آخر شيء عندما يريد مغادرة مكة إذا أنهى أشغاله كلها وأموره، وإذا كان يريد عمرة بعد الحج فإنه يأتي بها، فإذا أراد أن يخرج فإنه عند الركوب يطوف طواف الوداع، أما لو أنه طاف طواف الوداع، ثم راح وجاء بعمرة بعد طواف الوداع فإن تأخر في مكة بعد العمرة فعليه أن يعيده، لأنه لم يكن حينئذ الوداع آخر عهده بالبيت، والحديث ينص على أنه أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت (11) ، وإن سافر بعد العمرة مباشرة، فإن طوافها يكفي عن الوداع، لأنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة رضي الله عنها بطواف الوداع لما أدت العمرة من التنعيم بعد الحج .
283- نويت الحج وأحرمت من الميقات ودخلت مكة، ثم البيت الحرام وسعيت ووقفت في عرفة، وبعد عودتي من عرفات مكثت في منى طوال أيام التشريق ورميت الجمار، ولكني أخرت طواف الإفاضة حتى آخر أيام التشريق، ثم طفت طواف الإفاضة وسعيت، ثم طفت للوداع وانصرفت ولم أذبح لا في منى ولا في غيرها، لأنني وكلت عني من يذبح لي أضحية بمنزلي في بلدي، مع العلم بأنني نويت الحج مفردًا، فأرجو إفادتي هل حجي صحيح أم عليَّ إعادته مرة أخرى ؟
المفرد ليس عليه فدية، فإذا كنت نويت الحج مفردًا فإنه حينئذ لا فدية عليك .
284- ذهبت للحج وقيل لي : إن الحاج المفرد لا يذبح وإني إنسان لست بالغني، فنويت الحج مفردًا وبقيت إلى أن رميت الجمرات، فهل هذا الحج صحيح ؟ أم أنها ناقصة ؟ إن كان كذلك فما عليَّ الآن ؟
ما ذكرته من أنك حججت مفردًا وبقيت في إحرامك حتى أديت الحج، فهذا عمل صحيح ولا تجب عليك الفدية، لأن الفدية إنما تجب على المتمتع والقارن، أما المفرد فليس عليه فدية، ولكن إذا لم تكن اعتمرت فإن العمرة باقية في ذمتك تؤديها إن شاء الله في أي وقت تتمكن فيه .(126/41)
285- أنا حججت وأديت فريضة الحج كاملة، ولكن أنا مصري وعدت إلى أرض العراق وعليَّ فداء، هل يجوز ذبح الفداء في العراق أم في مصر، علمًا أنني لم أنزل مصرًا إلا بعد عيد الأضحى المبارك، أفيدونا مأجورين ؟
لا يجوز ذبح الفدية إلا في مكة، لأن مكة هي محل ذبح الهدي لقوله تعالى في الهدي : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ سورة الحج : آية 33 ] ، وقوله تعالى : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ سورة الفتح : آية 25 ] ، فمحل ذبح الهدي هو الحرم الشريف ويوزع على مساكين الحرم إذا كان دم جبران كفارة لخلل واقع في الحج، وإن كان دم متعة أو قران يذبحه في الحرم ويأكل منه ويتصدق ولا بأس أن يحمل منه إلى بلده، وعليه فالهدي باق في ذمتك ولابد من ذبحه في مكة ويكون قضاء .
286- إذا أحرمت لأداء العمرة لنفسها، ثم بعد الانتهاء منها أرادت أن تؤدي عمرة لأبيها، وأخرى لعمها، فهل يكفي أن تطوف وتسعى فقط لكل واحد منهما وذلك بإحرامها الأول الذي عقدته في الميقات أم لابد من العودة للميقات والإحرام من جديد لكل واحد منهما ؟
أولاً : تكرار العمرة في وقت متقارب فيه ما فيه من التوقف، فإن تكرار العمرة في وقت متقارب أنكره بعض العلماء، ولو أن المسلم إذا أدى العمرة يدعو لوالديه وأقاربه في طوافه وفي سعيه وفي غير ذلك في المسجد الحرام، فهذا يكفي إن شاء الله ونرجو أن يصلهم نفعه وبره، لكن لو فعلت ما ذكرت من تكرار العمرة لوالدها، ثم لعمها وهكذا، فلا بأس بذلك ولو كان خلاف الأولى، لكن لو فعلته لابد من إحرام مستقل لكل عمرة بأن تخرج إلى الحل ( إلى التنعيم أو عرفات أو الجعرانة ) ، وتحرم بالعمرة من هناك ولا تحرم بها من مكة ولا ترجع إلى الميقات .(126/42)
287- منذ سنتين ذهبت للحج وأديت فريضة الحج ولم أنوِ فيها الحج ولم أفدِ – ربما كانت تقصد أنها لم تلبِّ – علمًا أنني لا أعرف ماذا يقول الحاج عندما ينوي الحج، وعندما رجعت للمنزل صمت خمسة أيام، علمًا أن زوجي متوفى وليس لي أي محرم أحج معه، بل ذهبت مع جماعة من المعارف وحججت معهم، أفيدوني هل يصح حجي هذا أم لا ؟ وأيضًا ذهبت للحج في السنة الأخرى وأديت فريضة الحج وكما سبق وقلت ليس لدي محرم ونويت الحج وقلت : إني قارنة ولم أفدِ أيضًا وصمت بعد رجوعي للمنزل خمسة أيام، وبالنسبة للرجم وكلت السائق أن يرجم عني، فهل يصح هذا الحج بهذه الصورة أم يلزمني إعادته ؟(126/43)
أولاً : سفرها للحج في المرتين دون محرم حرام عليها ومعصية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة ) [ رواه الإمام البخاري ( 2/35 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، والحج وغيره في هذا سواء لعموم الحديث، والمرأة لا يجب عليها الحج إلا إذا وجدت المحرم، فيشترط لوجوبه على المرأة زيادة على الشروط المعتبرة في حق الرجل وجود المحرم، فإذا كانت تقدر بمالها وبدنها على الحج، ولكنها لا تجد المحرم فإنها تؤخره حتى تجد المحرم، لأن سفرها بدون محرم قد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه المرأة قد أخطأت في فعلها، ولكن حجها صحيح في حد ذاته مع الإثم، أما أنها لم تفد في المرة الأولى والمرة الثانية، ففي المرة الثانية وضحت أنها قارنة بين الحج والعمرة، ولكن في المرة الأولى لم توضح هل هي مفردة أو قارنة، وعلى كل حال إذا كانت قارنة أو متمتعة ولم تفد، فإن كانت لا تستطيع الفدية ماديًّا فإنها يجب عليها صيام عشرة أيام لقوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [ سورة البقرة : آية 196 ] ، فالواجب الصيام بدل فدية التمتع والقران، وقد ذكرت أنها صامت خمسة أيام، فعليها خمسة أيام أخر تصومها لكي تتكامل العشرة .
288- ما الحكم فيمن أخر الحج وذلك للسفر إلى الخارج من أجل النزهة ؟(126/44)
السفر إلى بلاد الكفار من أجل النزهة حرام في حق من حج ومن لم يحج، لما فيه من الخطر على الدين والعقيدة والأخلاق، ومن لم يكن أدى فريضة الحج وهو قادر على ذلك وجب عليه الحج على الفور، ولا يجوز له تأخيره لا من أجل سفر إلى الخارج ولا لغيره، ولكن إذا أجَّله من أجل السفر إلى الخارج لمجرد النزهة فهو آثم زيادة على إثم تأخير الحج عن الفورية خصوصًا إذا كان هذا السفر إلى بلاد الكفار لمجرد النزهة، فإنه يكون قدَّم سفرًا محرمًا على سفر واجب وقدم معصية على طاعة .
289- ما حكم صيام اليوم الثالث عشر من ذي الحجة ؟
الذي يصادف أيام التشريق من أيام البيض هو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، لأن أيام البيض تبدأ من اليوم الثالث عشر من الشهر وتنتهي باليوم الخامس عشر، فلا يجوز صوم اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، لأنه من أيام التشريق، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامها عن غير دم متعة أو قران (12) ، والمستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولا يتعين أن تكون أيام البيض، وإنما جعلها في أيام البيض أفضل إذا لم يصادف نهيًا، كهذه الحالة .
290- نويت الحج هذا العام أنا وزوجتي، وحاولت والدتي الذهاب معنا، ولكني رفضت لأني لا أقدر على مساعدة أمي وزوجتي معًا، هل أنا آثم برفض طلب أمي ؟
ينبغي أن تحج بأمك وتؤجل الحج بزوجتك، لأن البر بوالدتك واجب عليك إلا إذا سمحت لك والدتك بأن تتركها وتحج بزوجتك، فلا بأس بذلك، والله الموفق .
291- بعض العوام يقول : سأحج ولو أني هرم وكبير في السن لعلي أموت حاجًّا فأبعث يوم القيامة ملبيًا، ما رأي فضيلتكم ؟(126/45)
قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ سورة آل عمران : آي 97 ] ، فاشترط لوجوب الحج على المسلم أن يكون مستطيعًا وهو القادر بماله وبدنه، فالذي لا يستطيع الحج بماله لا يجب عليه، والذي يستطيعه بماله دون بدنه بسبب عجز مستمر معه، فإنه يوكل من يحج عنه فريضة الإسلام ويقوم بتكالفيه المالية، أما حج النافلة فإذا كان عاجزًا عنه ببدنه أو يشق عليه مشقة شديدة فإنه لا يكلف نفسه، خصوصًا في وقتنا الحاضر، وما يحصل في الحج من زحام شديد وأخطار، ومجالات فعل الخير كثيرة غير الحج مثل المشاريع التي تنفع المسلمين، والله الموفق .
292- الكتيبات والنشرات التي مع الحاج حول الأمور الشرعية بعضها متعارض، لأن الفقهاء يختلفون في المذاهب والاجتهادات، بماذا تنصح الحاج ؟
أنصح الحاج وغيره بأن يعمل بما يوافق الدليل من النشرات والكتيبات، فما قام عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عمل به، وما خالف الدليل لا يعمل به، وأحسن كتاب مختصر في هذا الموضوع – حسب علمنا – هو منسك شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنسك سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز، فينبغي للحاج أن يقرأ هذين المنسكين ويستفيد منهما .
293- نصراني نطق بالشهادتين وأعلن إسلامه ويؤدي الصلاة، ولكن لم تسجل أوراقه رسميًّا أنه مسلم، هل يحج وهو مقتدر على ذلك ؟
نسأل الله لهذا الرجل الذي أسلم أن يثبته الله على الإسلام، وإذا استطاع الحج وجب عليه المبادرة إليه، لأنه ركن من أركان الإسلام، وعليه أن يعمل الإجراءات اللازمة نظاميًّا لأجل أداء الحج، والله الموفق .
394- تتنافس حملات الحج في تقديم تسهيلات وراحة ورفاهية للحاج، ما حكم هذا العمل ؟ وهل الأفضل الحج مع هؤلاء أو الحج بجهود ذاتية مع المشقة ؟(126/46)
لا بأس بالحج مع إحدى الحملات التي تقوم بخدمته وتسهيل إجراءات الحج ومتطلباته، وإذا حج منفردًا بجهوده الذاتية فلا بأس، وخصوصًا إذا كان لا يستطيع التكاليف التي تطلبها الحملة، فالأمر راجع إليه وإلى استعداده، والله الموفق .
295- بعض الخادمات تحج عن طريق حملات الحج بدون محرم، ما حكم هذا الحج ؟ وماذا تقولون لهؤلاء ؟
لا يجوز للمرأة المسلمة خادمة أو غيرها أن تسافر للحج أو غيره بدون محرم لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/35 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .
واستقدامها بدون محرم لا يجوز لما في ذلك من الخطر على دينها وعرضها والخطر منها على غيرها، وهذه مسألة غفل عنها الكثير من المسلمين، فلا حول ولا قوة إلا بالله .(126/47)
6- أحكام الأضحية والعقيقة
296- هل يجوز طبخ ثلث الأضحية الخاص بالفقير ودعوة المسلمين إليه في أيام العيد ؟
لا بأس بطبخ لحم الأضحية ودعوة المحتاجين إليها، لأن هذا يدخل في مسمى الصدقة، وإن دفع اللحم للفقير يتصرف فيه فلا بأس، بل قد يكون أحسن من أجل أن يتصرف فيه الفقير على حسب مصلحته .
297- الطالب الأعزب الذي ينفق على أسرته ( والده ووالدته وإخوانه ) ، هل يكفي أن يضحوا عنه في بلادهم ؟ وكذلك الطالب المتزوج ولكن أهله ليسوا معه، هل يضحي هنا أم يضحي عن أهله في بلادهم ؟
الأضحية تذبح في بلد المضحي وفي بيته يأكل منها هو وأهل بيته ويهدي منها على جيرانه وأصدقائه ويتصدق منها على الفقراء، وإذا كان أهله في بلد آخر فإن الأضحية تذبح عنه وعنهم في بيته وفي بلده، وإن كان هو في بلد آخر .
298- هنا – في أمريكا – أعداد كبيرة من الطلبة المبتعثين وهم على أبواب عيد الأضحى المبارك، ويسألون عن الأضاحي، وخصوصًا أن الضأن في أمريكا تقطع أليتها وهي صغيرة حتى يكون الدهن في ظهورها، فهل يجزئ أن نضحي من هذه الأنواع من الضأن، مع العلم أنه توجد الأبقار، ولكن البعض لا يحب أكل لحمها ؟
لا بأس بذبح الأضحية من الأغنام المذكورة، وإن كانت مقطوعة الألية، لأن قطعها من أجل تطييب لحمها، فهو مثل خصاء الذكور لأجل تطييب لحمها، وقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بالخصي من الغنم (1) .
299- يقوم بعض الجيران في عيد الأضحى بالذبح وإعطاء الجيران من هذه الذبيحة كهدية، ونعلم فيهم الشرك وعدم الالتزام بالدين، فهل يجوز لنا قبول هذه الذبيحة وأكلها ؟ وما هي شروط الذبيحة على الطريقة الإسلامية ؟(127/1)
إذا كانوا يُعرفون أنهم مشركون بالله فإن ذبيحتهم لا تجوز إلا إذا كانوا من أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذبحوا على الطريقة الشرعية، فإن ذبيحة أهل الكتاب حلال، قال تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } [ سورة المائدة : آية 5 ] ، والمراد بطعامهم هو ذبائحهم، وهذا بإجماع علماء المسلمين، فذبائح أهل الكتاب حلال لنا لهذه الآية الكريمة وللإجماع على ذلك، ولكن إذا توفرت فيها شروط الذكاة الشرعية .
أما المشركون غير أهل الكتاب وسائر الكفار على اختلاف مللهم ومذاهبهم فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين وهي ميتة، لأن الله لم يستثن من ذبائح الكفار إلا ذبيحة أهل الكتاب، وهذا لا اختلاف فيه بين أهل العلم .
أما الطريقة الشرعية للذبح فهي أن تتوفر شروط الذكاة بأن يكون الذبائح مسلمًا أو كتابيًّا يعني أن يكون ذا دين سماوي، وأن يكون عاقلاً تتأتى منه النية والقصد، ولو كان مميزًا، إذا كان يتأتى منه النية وقصد الذكاة سواء كان ذكرًا أو أنثى .
كما يشترط أن تكون الآلة صالحة للذبح بأن تقطع بحدها لا بثقلها، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 3/110 ) من حديث عباية بن رفاعة بن رافع عن خديج عن جده، رضي الله عنهم ] ، وأن لا تكون الآلة سنًّا أو ظفرًا، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوا ليس السن والظفر ) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 3/110 ) من حديث عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده، رضي الله عنهم ] .(127/2)
ويشترط أن يكون الذبح في محل الذكاة وهو الحلق من غير الإبل أو اللبة من الإبل، وأن يقطع من الرقبة المريء والحلقوم وأحد الودجين؛ والمريء وهو مجرى الطعام والشراب، والحلقوم وهو مجرى النفس، وأحد الودجين وهما عرقان في جانبي العنق يجري فيهما الدم، فإذا قطع ثلاثة من هذه الأربعة فقد حصلت الذكاة الشرعية على الصحيح ولو قطع الودجين مع الحلقوم والمريء فهذا أكمل وتحصل به الذكاة إجماعًا .
ويشترط أن يذكر اسم الله عليه بأن يقول عند الذبح : باسم الله، وكذلك لا يحل ما ذبح للقبور أو للجن أو الشياطين .
وعليه إذا توفرت شروط الذكاة التي ذكرناها وهي :
1ـ أن يكون الذابح من أهل الذكاة وهو المسلم أو الكتابي الذي يميز ويقصد الذكاة .
2ـ أن تكون الآلة صالحة للذبح .
3ـ أن يذكر اسم الله عليها عند تحريم يده للذبح .
4ـ قطع ما يجب قطعه في الذكاة وهي : المريء، والحلقوم، والودجين، أو ثلاثة من هذه الأربعة .
فهذه الذبيحة حلال، أما إذا اختل شرط من هذه الشروط فإن الذبيحة لا تحل .
300- رزقني الله بثلاث بنات، ثم توفين وهن صغار، ولكن لم أعق عنهن، وقد سمعت أن شفاعة الأطفال مقرونة بالعقيقة، فهل يصح أن أعق عنهن بعد وفاتهن ؟ وهل أجمع العقيقة في ذبيحة واحدة أم لكل واحدة ذبيحة منفردة ؟(127/3)
العقيقة عن المولود سنة مؤكدة، والقول بها قول جمهور أهل العلم، ومشروعيتها في حق الأولاد الأحياء لا إشكال فيها، لأنها سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما العقيقة عن الأولاد الأموات فلا يظهر لي أنها مشروعة، لأن العقيقة إنما تذبح فدية للمولود وتفاؤلاً بسلامته ولطرد الشيطان عن المولود، كما قرر ذلك العلامة ابن القيم في " تحفة الودود في أحكام المولود " ، وهذه المعاني مفقودة في الأولاد الأموات، وأما ما أشار إليه السائل من أن العقيقة تدخل في الشفاعة ( شفاعة المولود ) لأبيه إذا عق عنه، فهذا المعنى غير صحيح، وقد ضعفه ابن القيم يرحمه الله، وذكر أن السر في العقيقة هو :
أولاً : أن فيها إحياء لسنة إبراهيم عليه السلام حينما فدى إسماعيل .
ثانيًا : أن فيها طردًا للشيطان عن هذا المولود، وأن معنى الحديث : ( كل غلام رهينة بعقيقته ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 3/105 ) من حديث سمرة رضي الله عنه، وانظر " صحيح الإمام البخاري " ( 6/216، 217 ) من حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه ] أنه مرهون فكاكه من الشيطان، فهذا معنى ما قرره ابن القيم (2).
على كل حال إن أراد السائل أن يعق عن بناته الميتات واستحسن هذا الشيء فله ذلك، لكنني أنا يترجح عندي عدم المشروعية .
301- بالنسبة للعقيقة في حق الحي ما هو أفضل وقت لتأديتها ؟
الأفضل يوم سابعه، هذا هو الأفضل المنصوص عليه، فإن تأخرت عن ذلك فلا بأس بذلك ولا حد لآخر وقتها إلا أن بعض أهل العلم يقول : إذا كبر المولود يفوت وقتها، فلا يرى العقيقة عن الكبير، والجمهور على أنه لا مانع من ذلك حتى ولو كبر .(127/4)
302- إذا كنت في بلدي ورزقني الله بمولود أو مولودة ولن أرجع إلى زوجي في البلد الآخر الذي يقيم فيه إلا بعد مرور شهر أو أكثر، فهل يلزمني عمل العقيقة في اليوم السابع أو الرابع عشر أو الحادي والعشرين كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها أم يجوز لي تأخيرها لحين العودة إلى زوجي وأعملها وأنا عنده ؟
لا مانع من تأخير ذبح العقيقة إلى وقت يكون أنسب وأيسر في حق الوالدين أو أحدهما وإنما ذبحها في اليوم السابع أو الحادي والعشرين إنما يكون فضيلة إذا أمكن ذلك وتيسر، أما إذا لم يتيسر فلا بأس بتأخيرها إلى وقت آخر حسب الإمكان، مع العلم أن ذبح العقيقة يقوم به والد الطفل فهو من حقوق الولد على والده .
303- لي ولد ولم أذبح عنه العقيقة وهو صغير إلا بعد أن بلغ من العمر ثلاثة عشر سنة ولم أذبح عنه أيضًا العقيقة الثانية فقد سمعت من بعض الناس أنهم يقولون : الولد له عقيقتان ؟ أفيدونا أفادكم الله هل هذا صحيح ؟
نعم، الذكر : الأولى أن تذبح عنه شاتان وعن الأنثى شاة واحدة هذا هو الأفضل والأكمل، ولو ذبح واحدة اليوم والثانية ذبحها بعد أيام أو بعد ويم فلا مانع وليس اللازم أن تكون الشاتان مجتمعتين في وقت واحد .
304- ما حكم العقيقة التي تذبح عن الكبير الذي لم يذبحها له والده في الصغر ؟
حكم العقيقة سُنَّة وهي ذبح شاتين عن المولود الذكر، وشاة عن المولودة الأنثى في اليوم السابع من ولادته أو فيما بعده من الأيام وهي سنة في حق والد الطفل شكرًا لله تعالى وتقربًا إليه وفكاكًا له من الشيطان ورجاء سلامة المولود وحلول البركة عليه، يأكل منها ويهدي ويتصدق كالأضحية، وما يجزئ في الأضحية سنًّا ونوعًا وسلامة من العيوب، وإذا لم يفعلها الوالد فقد ترك سنة، وإذا لم يعق عنه والده وعق عن نفسه فلا بأس بذلك فيما أرى، والله أعلم .(127/5)
7- أحكام الجهاد
305- من أحكام الجهاد في سبيل الله أنه إذا هجم العدو على بلد من بلاد الإسلام أصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم، وإن الروس قد هاجموا إخواننا المسلمين الأفغان وإن عندي والدايَ وهما لا يريداني أن أذهب للجهاد معهم فهل لي أن أذهب بدون إذنهما ؟
ما ذكرته من رغبتك في الجهاد وإعانة إخوانك المسلمين في صد عدوان الكفار على بلادهم هذا شيء طيب تؤجر عليه – إن شاء الله – أما بالنظر لظروفك التي ذكرت وأن لك والدين لا يسمحان بذهابك، فالواجب عليك طاعة والديك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل يستأذنه في الجهاد قال : ( أحي والداك ؟ ، قال : نعم، قال : ففيهما فجاهد ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 4/18 ) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ] ، فحق الوالدين مقدم ويجب عليك طاعتهما والبقاء معهما خصوصًا إذا كانا يحتاجان إليك وإلى حضورك بجانبهم لخدمتهم والقيام بمصالحهم، وأنت تؤجر على نيتك الصالحة ورغبتك في الجهاد، نرجو لك في ذلك الأجر والثواب إن شاء الله، وتؤجر على برك بوالديك وبقائك معهما عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وكون الجهاد فرض إذا حاصر العدو بلاد المسلمين إنما ذلك في حق أهل البلد المحاصر أنفسهم ومن كان فيه من المسلمين .(128/1)
8- أحكام البيوع
306- هل هناك نسبة معينة ومحددة شرعًا للربح بالتجارة أم لا حدود فيه مشروعة حتى لو بلغ الضعف أو ضعفين ؟
لا حدود للربح في التجارة، لأن الله أباح التجارة والبيع والشراء من غير تقيد بربح معين، قال تعالى : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } [ سورة النساء : آية 29 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } [ سورة البقرة : آية 282 ] ، ولم يحدد الربح إذا كان هذا الربح يجري على الوجه الصحيح وعلى الوجه المشروع، أما إذا كان على غير الوجه المشروع كأن يكون ربحًا ربويًّا أو فائدة ربوية أو كان فيه استغلال لحاجة الفقير والمضطر فإنه يكره أن يستغل الإنسان حاجة المضطر ويزيد عليه زيادات باهظة، لأنه محتاج ومضطر، فإنه يكره له هذا، أما إذا كان الربح مما جرت به العادة أو كان بسبب ارتفاع السعر فلا بأس .
307- وحتى لو وصل الربح إلى الضعف مثلاً من القيمة أو ضعفين ؟
لا تحديد وخصوصًا إذا كان كثرة الربح لارتفاع الثمن وغلاء الأسعار فلا شيء في هذا، إنما كما ذكرنا ينبغي للمسلم أن يتسامح مع أخيه المسلم وأن لا يثقله بالدين والثمن، خصوصًا إذا كان مضطرًّا ومحتاجًا .
308- هل البيع بالمزاد العلني ( الحراج ) هل يعتبر من قبيل شراء الرجل على شراء أخيه المنهي عنه أم لا ؟
السوم على السوم فيه تفصيل إن كان المزاد لم يزل مفتوحًا والسلعة ينادى عليها ويطلب المزيد، فلا بأس أن يزيد الإنسان على سوم آخر، لأن الزيادة مطلوبة والزيادة مفتوح بابها، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَن يزيد ؟ ) في بعض البيعات التي تولاها [ كما في " سنن الترمذي " ( 4/214 ) ، و " سنن النسائي " ( 7/259 ) ، و " سنن ابن ماجه " ( 2/740، 741 ) ، كلهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ] .(129/1)
وأما إذا كان السوم قد انتهى وأراد صاحب السلعة أو وكيله أن يبعه على شخص وقطع السوم وانتهى فحينئذ لا يجوز لأحد أن يتقدم ويسوم على سوم أخيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ولا يسم على سوم أخيه ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 3/24 ) من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ] .
309- ما حكم بيع الكلب وأكل ثمنه ؟
بيع الكلب حرام وأكل ثمنه حرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي (3) . فهذه الأمور حرام ومنها ثمن الكلب .
310- أنا أقيم هنا في المملكة بحثًا عن الرزق ولي أملاك في اليمن بيني وبين أخي الذي لا يزال هناك، بعضها مقسم وبعضها لا يزال مشاعًا بيننا إلا أن أخي هذا قام ببيع بعض الممتلكات المشتركة بيننا دون أن يأخذ إذنًا مني أو موافقة وقد باع حتى بعض أملاكي الخاصة مستغلاً غيابي، فهل يجوز له ذلك وهل هذا البيع صحيح وإن كنت غير راغب في بيع ما يخصني، فهل لي الحق في استرجاعه من المشتري أم لا ؟
يجب على المسلم أن يكون أمينًا ولا سيما القريب مع قريبه فلا يعتدي على شيء من ماله بدون إذنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/72، 73 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 6/100 ) ، كلاهما من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه ] ، فهذا الذي فعله أخوك على ظاهر ما ذكرت لا يحل له، والواجب عليه أن يحترم مال أخيه وأن لا ينقصه بشيء، وتصرفه هذا لا يصح مادام أنك لم تأذن له بالبيع وهذا التصرف، فإنه تصرف باطل ولا يصح ولكن إذا كان بينكما نزاع في هذا الموضوع أو خصام فلا يحل هذا إلا المحكمة الشرعية .(129/2)
311- يقوم أحد الأشخاص الذين يعملون في التجارة عندنا إذا أحس أن هناك نوعًا من البضائع بدأ سعره يتحسن في السوق يقوم بشراء كل ما في السوق من تلك البضاعة ويتحكم في سعرها بالزيادة أكثر، فما حكم هذا العمل ؟ وهل ما يكسبه بهذه الطريقة حلال أم حرام ؟
لا شك أن الذي يضايق المسلمين فيما يحتاجون إليه من السلع الضرورية ويشتريها كلها من السوق ويضطر الناس إلى أن يشتروها منه بثمن مرتفع يتحكم فيهم لا شك أن هذا لا يجوز وهو احتكار منهي عنه، ويجب الأخذ على يده ومنعه من ذلك، إذا كان الأمر كما ذكر السائل أنه ليس هناك في السوق غير هذه السلعة التي يحتاج إليها الناس وهو يشتريها ويحضرها عنده ليتحكم فيها فهذا أمر لا يجوز ويجب على ولاة الأمور منعه من ذلك، أما إذا كانت هذه السل من الكماليات والناس ليسوا في حاجة إليها أو كان هناك سوق آخر وسلع أخرى والناس يجدون غيرها في مكان آخر من غير مشقة عليهم فإن هذا لا يحرم، ولكن لا ينبغي للمسلم أن يضايق الناس .
312- نعمل في تربية المواشي والمتاجرة فيها ويحدث أحيانًا أن تصاب بعض الأغنام أو الإبل ببعض الأمراض فنبيعها في الأسواق وهي مصابة بذلك المرض، فهل علينا شيء في ذلك ؟
البيع والشراء مما أباحه الله سبحانه وتعالى لعباده وهو من قوام مصالحهم ومنافعهم، ولكن يجب أن يكون البيع والشراء قائمًا على الصدق والأمانة والنصيحة، قال صلى الله عليه وسلم : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 3/10 ) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه ] .(129/3)
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الغش فقال : ( ومن غشنا فليس منا ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/99 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، وقال : ( ولا تناجشوا، ولا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/24 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، والأحاديث في هذا كثيرة، فإذا بعت سلعة وفيها عيب من العيوب وجب عليك أن تبينه للمشتري ولا تكتمه وتدلسه عليه، فهذه الأغنام التي تبيعونها وفيها مرض يجب عليكم أن تبينوا ما فيها من المرض وأن تبيعوها على أنها معيبة وتطلعوا المشتري على ما فيها حتى يكون بيعكم قائمًا على الصدق وعدم الكتمان، والله أعلم .
313- أنا رجل أعمل لدى إحدى الصيدليات ويوجد على الأدوية أسعار مختلفة فمثلاً إذا أتى إليَّ من يشتري علاجًا وقيمته ( 12 . 60 ) اثنا عشر ريالاً وستون هللة أقول : إنه بسعر ( 13 ) ثلاثة عشر ريالاً وأعتذر للمشتري بقولي : ليس لديَّ هلل، فيترك ذلك رغمًا عنه، والبعض لا يعلم فيأخذ العلاج ويذهب، فهل الذي يبقى دون علم المشتري حلال عليَّ مع العلم أن الذي يبقى لا آخذ منه شيئًا سوى ما آخذه من صاحب الصيدلية ؟ وماذا عليَّ أن أعمله نحو صاحب الصيدلية ؟
لا يجوز أن تأخذ من مشتري الدواء غير القيمة المكتوبة على العلبة إلا إذا أخبرته وسمح لك بالزيادة، وكونك لا تأخذ الزيادة ذلك لا يعفيك من المسؤولية ولو كانت الزيادة يسيرة لقوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } [ سورة البقرة : آية 188 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/72، 73 ) ، وروه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 6/100 ) ، كلاهما من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه ] ، والقليل إذا اجتمع صار كثيرًا .(129/4)
314- أنا وقعت في ضائقة مادية واضطررت بعدها لشراء سيارة بثمن مؤجل لأبيعها وأنتفع بقيمتها، فذهبت إلى إحدى الأماكن المخصصة لبيع السيارات، فاشتريت سيارة من صاحب المعرف بسعر عشرين ألف ريال منها خمسة آلاف نقدًا والبقية في نهاية العام، أي عند نهاية شهر ذي الحجة، وبعد أن تم الاتفاق على ذلك قمت ببيعها على شخص وأنا في مقعدي لم أقم منه وفي نفس المكتب الذي تم فيه البيع والشراء الأول بخمسة عشر ألف ريال نقدًا، سددت منها الخمسة آلاف التي عليَّ لصاحب السيارة الأصلي، وقبضت عشرة آلاف علمًا أنني لم أتبايع مع هذا الشخص الذي اشتراها مني ولكني أفهمت أن شخصًا سيشتريها كذلك، أنا لم أر السيارة في الأساس وأشك أن تكون هناك سيارة أصلاً، والذي أعطاني المبلغ هو نفسه الذي أخذ مني الخمسة آلاف التي دفعت مقدمًا حسب الاتفاق، أي أنها أعيدت في نفس الخزينة التي أخرجت منها، ويعلم الله أنني مضطر لذلك أشد الاضطرار فأسألكم عن حكم ذلك البيع والشراء وهل يلحقني إثم وما الذي يجب علي فعله ؟
ما جاء في مطلع السؤال من كون المحتاج يذهب إلى صاحب معرض أو صاحب بضائع ويشتري منه بضاعة ليبيعها على غيره ويرتفق بثمنها بمعنى أن يشتريها من صاحب المحل بثمن مؤجل، ثم يقبضها قبضًا صحيحًا ويبيعها على آخر غير الذي باعها عليه بثمن حال ويقبضه وينتفع به هذا عمل لا بأس به عند جمهور أهل العلم وهو المسمى بمسألة التورق، وذلك بدفع حاجة المحتاج لأنه إذا لم يجد من يقرضه القرض الحسن الذي ليس فيه ربًا فليس أمامه وسيلة إلا هذه المعاملة، فإذا روعيت فيها الضوابط الصحيحة التي ذكرناها فلا حرج فيها إن شاء الله .(129/5)
أما ما ذكرته في قضيتك من أنك لم تستلم السيارة، وبعتها وأنت في مجلسك لم ترها ولم تقبضها فهذا بيع غير صحيح، لأنك اشتريت سيارة، بثمن مؤجل فلابد أن تقبضها، ولابد أيضًا أن تكون السيارة في ملك البائع حين العقد، فلا يجوز له أن يبيعها عليك وليس مالكًا لها ليذهب ويشتريها من السوق، لابد أن تكون السيارة وغيرها من البضائع تكون في ملك البائع حين العقد في مثل هذه الصورة، فأنت ذكرت الآن مانعين من موانع الصحة في هذه الصورة :
أولاً : أن السيارة مشكوك في وجودها وما كان كذلك فإنه لا يصح؛ لأنها ليست في ملك البائع والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تبع ما ليس عندك ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 3/281 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/228 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 7/289 ) ، كلهم من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه ] .
القضية الثانية : أنك بعتها وأنت لم تقبضها، فهذا التعامل الذي ذكرته غير صحيح .
315- رجل يريد شراء أرض لبناء سكن عليها له، وذهب إلى شركة تقسيط فقالت له : اذهب وانظر إلى الأرض وسوف نشتريها لك ونقسطها عليك على أن تدفع نسبة 20% من القيمة كل شهر، فهل هذا جائز ؟ جزاكم الله خيرًا ؟(129/6)
لا يجوز للإنسان أن يبيع شيئًا معينًا لا أرضًا ولا غيرها إلا إذا كان في ملكه وتحت تصرفه لقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه : ( لا تبع ما ليس عندك ) [ رواه أبو داود في " سننهط ( 3/281 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/228 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 7/289 ) ، كلهم من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه ] ، وذلك أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتيه الرجل يسأله البيع وليس هو عنده فيذهب ويشتريه من السوق فقال : ( لا تبع ما ليس عندك ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 3/281 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/228 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 7/289 ) ، كلهم من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه ] .
316- أردت شراء عملة أجنبية أو ذهب وحسبت القيمة بالدولار ودفعت السعر بالريال السعودي ثم أعطاني البنك مقابل العملة شيكًا بالعملة التي اتفقت على شرائها مع البنك، هل هذا جائز أم لا ؟
بيع العملة بالعملة يسمى صرفًا، إن اتحد الجنس بين العملتين اشترط الحلول والتقابض في المجلس والتساوي في المقدار، وإن اختلف الجنس بين العملتين جاز التفاضل ووجب التقابض في المجلس بأن يسلم العملة ويستلم العملة لا بديلة عنها في المجلس والشيك لا يعتبر قبضًا وإنما هو سند فقط، لو ضاع أو تلف رجع على من أعطاه إياه يطالب بحقه ولو كان قبضًا ما ساغ له الرجوع لأنه قبض حقه، والحل الصحيح أن يقبضه العملة البديلة ويحولها إلى البلد الذي يريد .
317- اقترضت من أحد الأصدقاء مبلغ مائة جنيه على أن أوفيه بعد سنة مائة وخمسين، وحينما حان وقت الوفاء حاولت إعطاءه مائة فقط ولكنه أصر على أخذ زيادةٍ قدرها خمسون جنيهًا مقابل التأجيل، فما الحكم في هذه الزيادة ؟ وإن كان هذا من قبيل الربا فهل علي أنا إثم وكيف أتخلص من ذلك علمًا أن تلك النقود التي اقترضتها منه قد اختلطت مع مالي فماذا عليَّ أن أفعل ؟(129/7)
الله سبحانه وتعالى حرم الربا وشدد الوعيد فيه، قال سبحانه وتعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [ سورة البقرة : آية 275 ] ، إلى أن قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ سورة البقرة : الآيتين 278، 279 ] .
والربا له صور وأنواع ومن أنواعه هذا الذي ذكرته في السؤال وهو القرض بالفائدة؛ لأن القرض الشرعي هو القرض الحسن الذي تقرض به أخاك لينتفع بالقرض ثم يرد عليك بدله من غير زيادة مشترطة ولا نقص هذا هو القرض الحسن، أما القرض الذي يجر نفعًا أو القرض الذي يقصد من وراءه الزيادة الربوية فهذا حرام بإجماع المسلمين حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين وعلى فاعله الوعيد الشديد، فالواجب هو رد مثل المبلغ الذي اقترضه أما الزيادة التي اشترطها عليك وأخذها منك فهي حرام وربًا، والنبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه (4) فلعن صلى الله عليه وسلم من أكل الربا ومن أعانه على أكله من هؤلاء، فهذا الذي فعلتموه حرام وكبيرة من كبائر الذنوب وعليكم التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وعليه هو أن يرد عليك هذه الزيادة التي أخذها منك لأنها لا تحل له، وأنت فعلت محرمًا بإعطائه الزيادة، وكان الواجب عليك أن تمتنع من إعطائه الزيادة، وإذا أصر أن ترفع أمره إلى الحاكم المسلم ليردعه عن جريمته، فهذا الذي أقدمتما عليه هو صريح الربا، فعليكما جميعًا التوبة إلى الله سبحانه وتعالى وعدم الرجوع إلى هذا التعامل، وعلى الآخر أن يرد الزيادة التي أخذها، والله أعلم .(129/8)
318- تقول السائلة : لقد كان معي قطع من الذهب، فذهبت إلى أحد الصاغة وقد قمت بتبديل ذلك الذهب القديم بجديد ودفعت الزيادة ثمنًا نقدًا وقد سمعت في برنامجكم أن هذا قد يعد ربًا فماذا عليَّ الآن أن أعمل إذا كان ذلك غير صحيح ؟
النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلاً بمثل ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1212 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] فأمر صلى الله عليه وسلم بأن يباع الذهب بالذهب متساويًا بالوزن ولا يزاد أحد العوضين على الآخر، وإذا احتاجت المرأة إلى أن تبيع المصاغ الذي معها وتشتري أجود منه فإنها لا تبيعه بذهب أكثر منه وزنًا، وإنما في هذا الحال تبيع مصاغها بدراهم وتشتري بالدراهم مصاغًا آخر أكثر منه وزنًا أو أحسن منه صنعة .
319- لدي كثير من المال – والحمد لله – وعندي معرض لبيع السيارات، وأحيانًا يأتيني بعض الناس يطلب مني شراء سيارة على رأس السنة ثم أبيعها عليه بمبلغ خمسة وعشرين ألف ريال، مع العلم أن قيمتها بالنقد أقل من ستة عشر ألف ريال فهل يعتبر هذا من الربا أم جائز ؟ أفتوني أثابكم الله .(129/9)
لا بأس ببيع السلعة كالسيارة وغيرها بثمن مؤجل أكثر من ثمنها الحال، لأن الأجل والتأخير في مقابل الزيادة في القيمة، ولا شك أن بيع الأجل يختلف عن بيع الحاضر إلا أنه ينبغي مراعاة حال المحتاج فلا يزاد عليه زيادة باهظة تثقله وتجحف به، فينبغي للبائع مراعاة حال المشتري المحتاج والمضطر فيزيد عليه زيادة معقولة، ولكن لابد أن تكون السلعة التي تبيعها موجودة فبل البيع، لأن بعض الناس قد لا تكون عنده السلعة وقت العقد وإنما يشتريها للمستدين بعد نهاية عقد الدَّيْن وهذا لا يصح لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تبع ما ليس عندك ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 3/281 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/228 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 7/289 ) ، كلهم من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه ] .
320- المصارف الإسلامية تعطي ما يسمى بالربح المتغير وهو يعني إعطاء ربح غير ثابت شهريًّا يتراوح بين 12%، 17% فهل هذا التعامل مع هذا النوع من الأرباح حلال ؟ وجزاكم الله خيرًا .
الربح غير المحدد بنسبة معلومة ثابتة لا بأس به، وهو الذي يقدر بجزء مشاع معلوم كالنصف والربع . . . إلخ، ويزيد وينقص ويرتفع وينخفض بسبب الأسعار والمحاصيل، وتارة لا يكون هناك ربح هذا هو الذي لا بأس به . والله أعلم .(129/10)
9- أبواب في : الشفعة، الشركات، الإجارة، السبق، اللقطة، الوقف، الهبة والعطية
321- اقتسم هو وأخوه عقارًا بينهما وعرف كل منهما نصيبه وأخذ يعمل فيه وينميه إلى أن مات أحدهما، والآخر أراد أن يبيع نصيبه لأجنبي عنهم رغم رغبة أبناء أخيه في نصيبه، فهل لهم حق الشفعة في ذلك أم لا ؟
الشفعة إنما تثبت في العقار الذي لم يقسم، فإذا كان العقار مشاعًا لم يقسم، وباع أحد الشركاء نصيبه، فلبقية شركائه الشفعة عليه، أما إذا اقتسم العقار وحددت الحدود وقامت الطرق وباع أحد الجيران نصيبه فإنه لا شفعة لجاره عليه؛ لأنه انفصل عنه، وصار جارًا له وليس شريكًا له، إلا إذا كان بين الملكين شيء مشترك من المرافق كالمسيل والممر وغير ذلك، فالصحيح من أقوال أهل العلم أن الشفعة تثبت في مثل هذا الوجود للاشتراك بين الملكين في أحد المرافق، أما إذا كانت القسمة فارزة للنصيبين ولم يبق بينهما اشتراك في شيء فإنه لا شفعة للجار .
322- لي مبلغ من المال وقد تركته عند صديق لي ليتاجر فيه ولم نتفق على نسبة معينة من الربح علمًا بأنني راضٍ بأي قدر من الربح يدفع إليَّ أو حتى الخسارة فهل في مثل هذا النوع من الشركة شيء شرعًا ومن يدفع الزكاة هو أم أنا وهل أزكي عن رأس المال فقط أم حتى عن الربح ؟
هذا النوع الذي ذكرته من أنك دفعت دراهم إلى شخص ليتاجر بها بجزء من الربح هذا النوع من شركة المضاربة وهو تعامل مباح في الإسلام ولكن من شروط صحة شركة المضاربة تعيين نصيب العامل من الربح بأن يكون له جزء مشاع من الربح كالثلث أو الربع أو الخمس يزيد بزيادة الربح وينقص بنقصه ويعدم إذا لم يكن هناك ربح، هذه هي المضاربة الصحيحة .(130/1)
أما إذا لم يعين نصيب العامل من الربح فإن الشركة لا تصح لفقد الشرط ويكون الربح كله لصاحب المال ويكون للعامل أجرة مثله؛ وأما قضية الزكاة فأنت تزكي نصيبك من الربح، إذا بلغ نصابًا، وأما صاحب رأس المال فإنه يزكيه ويزكي نصيبه من الربح ولو كان قليلاً لأنه يتبع رأس المال .
323- في منطقتنا عمل يطلق عليه ( شرجة عظم ) مثلاً رجل يشتري مائة رأس من الغنم بسعر السوق ويعطيها لرجل آخر حيث يقوم بتربية هذه الأغنام ويبيع من صوفها وحليبها وذكور صغارها ويعطي هذه النقود صاحب الغنم المشتري إلى أن يوفيه جميع نقوده، وأخيرًا يأخذ المشتري نصف الغنم من المربي ويترك له النصف الآخر فما الحكم في ذلك ؟
لا بأس إذا اشترى غنمًا ودفعها لآخر يقوم عليها ويرعاها ويقوم بمصالحها مدة معينة إذا تمت هذه المدة يكون له قسم منها لا بأس بذلك، لأن هذا من باب الإجارة حسب الشرط الذي بينهما، إذا كانت مهمة الأجير رعيها وحفظها ونفقتها على مالكها، أما إذا كانت مهمته الإنفاق عليها هذه المدة فهذا لا يصح فيما يظهر لي . والله أعلم .
324- جرت العادة في بلدنا أن يقوم الشخص بتلقيح النخل على أن تكون أجرته من الثمرة بأن يعطى ثمره عرجون من كل نخلة، فهل هذا جائز، وما الحكم إذا تلفت الثمرة قبل استلامها منه ؟
إذا أجره على تلقيح النخل بأن تكون أجرته من نفس الثمرة مثلاً الربع أو العشر وما أشبه ذلك بأن يكون جزءًا مشاعًا في الثمرة فهذا عقد صحيح .
أما إذا أجره بثمرة نخلة معينة أو جزء من ثمرة نخلة معينة فهذا غير صحيح؛ لأنه كما أشار السائل ربما تلفت ثمرة هذه النخلة المعينة أو الجزء المعين منها فيضيع تعبه هدرًا .
325- من العادات عندنا أيضًا أن يعطي صاحب الأرض الزراعية أرضه إلى شخص يقوم بزراعتها مقابل جزء من المحصول وكذلك يعطي صاحب الماكينة الذي يسقي الزرع بواسطتها جزءًا من المحصول، فهل هذا جائز شرعًا ؟(130/2)
نعم هذا جائز شرعًا إذا كان هذا الجزء مشاعًا في المحصول كالربع والخمس والعشر، إنما الممنوع أن يعين ثمرة شجرة معينة أو زرع ناحية معينة فهذا ممنوع .
326- إنني رئيس في إحدى الدوائر ولدي موظفون وسائقون وفي بعض الأحيان أستخدم أحدهم في أعمال خاصة بي، فهل في هذا شيء عليّ ؟
لا يجوز لك أن تستخدم الموظفين والسائقين الذين هم تبع للدائرة الحكومية في مصالحك الخاصة، لأن هذا الاستخدام خارج عما خصصوا له من ناحية، واستغلال لموظفي الدولة لمصالحك الخاصة، وإذا كان عندك عمل خاص فاستأجر له على حسابك الخاص .
327- شخص انتدب في مهمة ولمدة معينة وقضى أكثرها في هذه المهمة الموكلة له مع بقية زملائه وبقي يوم أو يومان، وقال المسئول عن هذه المهمة للمنتدبين : هذا اليوم تنتهي المهمة وغدًا الذي يرغب المغادرة إلى أهله بإمكانه أن يرجع، فهل يصح أن يأخذ قيمة انتداب هذا اليوم أو اليومين اللذين لم يجلس فيهما للمهمة ؟
لا يجوز أن يأخذ من قيمة الانتداب إلا بمقدار الأيام التي كان يعمل فيها، أما الأيام التي تركها ورجع إلى أهله فلا يجوز له أن يأخذ عنها شيئًا، لأنه في غير مقابل، وإذن المسئول له بالرجوع إلى أهله لا يسوغ له الأخذ عن الأيام التي تركها، لأنه لما رجع انقطع انتدابه، نعم يعتبر يوم الذهاب ويوم الرجوع إذا كان المكان بعيدًا .
328- الأعذار التي يقدمها الموظف لرئيسه قد تكون في أكثر الأحيان كذبًا؛ ما رأي فضيلتكم ؟
الواجب على المسلم أن يتقي الله ويترك الكذب والحيل التي يتذرع بها إلى ترك العمل الوظيفي الذي وكل إليه في مقابل راتب يتقاضاه، وعلى المسئولين عن دوام الموظفين من رؤساء الدوائر أن يتقوا الله ويدققوا في الإجازات التي يمنحونها لموظفيهم بأن تكون جارية على المنهج الصحيح والنظام الوظيفي وأن يسدوا الطريق على المحتالين والمتلاعبين لأن هذه أمانة في أعناق الجميع، يسألون عنها أمام الله سبحانه وتعالى .(130/3)
329- رجل من قراء القرآن الكريم استأجره شخص آخر ليقرأ القرآن الكريم كاملاً ويهدي ثواب ذلك لأمواته مقابل إكرامية شهرية يعطيها له، أخذ هذا القارئ يقرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات فقط ويتظاهر للذي استأجره بأنه قد ختم القرآن فيعطيه الإكرامية المتفق عليها من المال ويفعل ذلك كل شهر واستمر القارئ على ذلك فترة من الزمن بل سنين فما حكم ذلك وماذا يجب في هذه الحالة ؟
أولاً : استئجار المقرئين لقراءة القرآن للأموات من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان ومن أكل أموال الناس بالباطل، لأن القارئ إذا قرأ القرآن بقصد أخذ الأجرة فإن عمله باطل، لأنه أراد بعمله المال وأراد بعمله الحياة الدنيا والله تعالى يقول : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ سورة هود : الآيتين 15، 16 ] فأمور العبادة ومنها تلاوة القرآن لا تفعل لأجل طمع الدنيا وأخذ المال وإنما تفعل تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى .(130/4)
فالقارئ إذا قرأ لأجل الأجرة فإنه لا ثواب له، ولا يصل إلى الميت من ذلك شيء، وإنما هذا مال ضائع، فلو تصدق به على الميت بدلاً من استئجار القارئ كان هذا هو المشروع الذي ينتفع به الميت؛ والواجب على هؤلاء المقرئين أن يردوا هذه الأموال التي سلبوها من الناس أجرة على تلاوة القرآن للأموات، فإن هذا من أكل أموال الناس بالباطل، عليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى ويطلبوا الرزق بغير هذه الطريقة المحرمة، وعلى المسلم أن لا يأكل أموال الناس بمثل هذه الطرق غير المشروعة، صحيح أن تلاوة القرآن من أفضل الأعمال ومن قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ولكن ذلك لمن صحت نيته،وأراد بذلك وجه الله ولم يرد بذلك طمع الدنيا .
فاستئجار المقرئين للقراءة للأموات هذه أولاً : أنه بدعة؛ لأنه لم يكن السلف الصالح يعملون هذا الشيء، والأمر الثاني : أن هذا أكل للمال بالباطل، لأن أعمال القرب والطاعات لا يؤخذ عليها أجرة، والله تعالى الموفق، وقراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات لا تكفي عن قراءة القرآن كله .
330- لدي مبلغ من النقود وصلت إليَّ في شهر رمضان المبارك من أناس كان بعضهم يأتي إليَّ واتفقت أنا وهو على أن أقرأ القرآن كاملاً بمبلغ ستمائة ريال ( 600 ) وأنوي بما قرأت إلى روح الأموات مثل أبيه وأمه وبعضهم يعطيني المبلغ ويقول : اقرأ لي القرآن وانو لي بثوابه وبعضهم يقول لي : أنا نذرت على نفسي إن شفاني الله أن أدفع مبلغًا لمن يتلو القرآن فأقوم أنا بأخذ المبلغ وأقرأ القرآن كاملاً لكل واحد منهم، وأنوي بثواب ما قرأته على نية كل منهم فهل يحل لي هذا المال وأن أذهب به لأداء فريضة الحج بما جمعت من قراءة القرآن مع أنه لا يوجد لديَّ نقود إلا ما أخذته مقابل قراءة القرآن ؟(130/5)
تلاوة القرآن من أفضل الأعمال قال صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 8/115، 116 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] ، وقال الله سبحانه وتعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ سورة فاطر : آية 29 ] .
فتلاوة القرآن عمل صالح وعبادة عظيمة مع التدبر والتفكر بآياته والعمل بما فيه من الأحكام، وأخذ الأجرة على تلاوة القرآن لا تجوز، لأن تلاوة القرآن قربة وعبادة، وأخذ الأجرة على القرب والعبادات لا يجوز، وقراءة القرآن على أرواح الأموات بدعة لا دليل عليها، فلا يجوز أن تتخذ قراءة القرآن حرفة يتكسب بها؛ لأنه إذا قرأ القرآن لأجل الأجرة فإنه ليس له أجر عند الله سبحانه وتعالى، قال تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ سورة هود : الآيتين 15، 16 ] ؛ والذي يريد عمل الدنيا بعمل الآخرة، ويريد الدنيا بالعبادة عليه وعيد عظيم وعمله باطل، فلا يجوز للسائل الاستمرار على مثل هذا ويجب عليه التوبة إلى الله سبحانه وتعالى مما حصل، ولا يجوز له أن يحج من هذا المال الذي جمعه من هذا الكسب .
ومع الأسف قد اتخذت تلاوة القرآن حرفة ليتكسب بها كثير من المقرئين في عصرنا الحاضر يقرءونه في المآتم ويقرءونه على القبور ويقرءونه على الأموات نظير أجور يتقاضونها أو مطامع يحصلون عليها وهذا عمل باطل ومكسب لا يحل، فقراءة القرآن للأموات في مقابل أجرة .(130/6)
أولاً : لا دليل عليها حتى ولو كان بدون أجرة .
وثانيًا : أخذ الأجرة على ذلك أخذ لا يجوز وأكل للمال بالبطل والذي ننصح به إخواننا المسلمين وحملة القرآن أن يبتعدوا عن مثل هذه الأمور وأن يطلبوا الرزق من الوجوه المباحة والمكاسب الطيبة، وأن يتخذوا كتاب الله دليلاً لهم ويتلونه بنية خالصة لله سبحانه وتعالى لا يريدون من ذلك طمعًا من مطامع الدنيا . والله الموفق .
331- يتبرع بعض التجار بتقديم هدايا لنادي الفروسية عبارة عن سيارات أو أشياء عينية أخرى وربما مالية تعطى للفائزين في السباق ما حكم هذا العمل ؟
أخذ الجائزة على المسابقة على الخيول جائز شرعًا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 3/29 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 6/23 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 6/226، 227 ) ، كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] والمراد بالنصل السباق بالرمي والمراد بالخف السباق على الإبل والمراد بالحافر السباق على الخيل، وذلك لما في السباق بهذه الأنواع من التدريب على الجهاد، فإذا سبق أحد الخيول استحق صاحبه الجائزة شرعًا، وبالله التوفيق .
332- سلمت إلى أحد أقربائي أمانة لكي يحفظها لي إلى وقت طلبها وحاجتي إليها وهي عبارة عن صك شرعي وقد بقيت عنده وأردت استعادتها منه ولكنه رفض إلا أن أعطيه مبلغ خمسة آلاف ريال مقابل حفظه لها، وحاولت إعطاءه ألف ريال شكرًا وتقديرًا على أمانته ولكنه رفض إلا الخمسة آلاف، وإلا هددني بإحراق الصك وإنكاره .
ولم يكن عندي شهود يوم أن سلمته إليه فهل لو لبيت طلبه وأعطيته الـ5 آلاف فهل هذا حلال له أم حرام عليه ؟ وهل يجوز أخذ مال مقابل حفظ الوديعة أم لا ؟(130/7)
إذا كان بينك وبينه اتفاق على أن يحفظها لك بالأجر فإنه يجب عليك أن تعطيه ما التزمته له، أما إذا لم يكن هناك اتفاق بينكما دفعت إليه الأمانة ليحفظها بدون أن يكون بينكما اتفاق على جرة، فإنه يحرم عليه أن يطلب منك شيئًا، لأن هذه أمانة، والله تعالى يقول : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [ سورة النساء : آية 58 ] ويقول سبحانه : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } [ سورة البقرة : آية 283 ] ، فحفظ الأمانة هذا من الإحسان ومن التعاون على البر والتقوى، ويحرم عليه أن يطلب منك شيئًا، ولكن إذا أبى أن يعطيك ما أودعته عنده، فإنه لا مانع من أن تعطيه، تفادي لحقك واستنقاذ الحق منه، وهو يحرم عليه ذلك الشيء فما تدفعه إليه في هذه الحالة من قِبلك فهو جائز، ومن قِبله هو فهو محرم .
333- كنت ذات يوم سائرًا في طريق عام فعثرت على قطع من المفروشات الثمينة وبعض الأغراض وقد سألت لمن تكون ولم أعثر على صاحبها فهل يجوز لي الانتفاع بها أم لا وما الحكم لو ظهر صاحبها بعد تلفها ؟
الحكم في الأشياء التي يجدها الإنسان من الأموال الضائعة وهي ذات قيمة معتبرة أن يأخذها إذا أمن على نفسه وقام بحقها التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم (5) وهو أن يعرف العلامات المميزة لهذا المال الضائع وأن ينادي عليه مدة حول كامل في مجامع الناس حتى يتسنى لصاحبه أن يأتي ليأخذه ممن وجده فهذه الفرش التي ذكرت أنها ثمينة فإذا كنت قد قمت بالواجب نحوها وناديت عليها لمدة سنة ولم يأت صاحبها فإنها تكون لك تنتفع بها وإذا جاء صاحبها بعد ذلك فإن كانت موجودة تدفعها إليه وإن كانت مستهلكة تدفع قيمتها .(130/8)
334- عندنا رجل أوقف أرضًا لمسجد جامع وعند كتابة ورقة الوقف لعن من يبيع شيئًا من هذا الوقف وكان أحد أولاده قائمًا على هذا الوقف فقط دون بقية إخوانه من ذكور وإناث وقد قام أحد إخوته بمنازعته في هذا الوقف إلى أن حصل منه على الثلث، ولأن الباقين لم ينازعوا فلم يحصلوا على شيء ولهذا فقد أصبح هذا الوقت تحت يد الاثنين فقط يستفيدان منه رغم حاجة المسجد لإصلاحات وتجديدات، فقد أصبح خربًا، فما حكم استفادة هذين الأخوين دون بقية إخوانهما وأخواتهما ومع حاجة المسجد إليه ؟
إذا كان وقفًا على المسجد فإنه يصرف ريعه وغلته لصالح المسجد ولا يجوز لأحد أن يستثمره لنفسه فيجب صرفها لما أوقفت عليه وما ذكرت من تصرف هؤلاء واستغلالهم للوقف لصالحهم وحرمان المسجد هذا شيء لا يجوز وهذا منكر يجب عليك أن ترفع بشأنه إلى القاضي أو إلى المحكمة التي بجهتكم للتفاهم مع هؤلاء أو قيِّم المسجد إذا كان للمسجد قيِّم أو إمام فإنه هو أيضًا يطالب بهذا الشيء للمسجد .
الحاصل أنه لا يجوز أن يتصرف في غلة الوقت لصالح أقارب الواقف، وهو قد نص على أنها للمسجد، فلابد من مراجعة المحكمة في هذا الأمر لمعرفة الحكم الصحيح والتصرف الصحيح منه إذا كان فيه إثبات أو وثيقة أو شهادة شهود يعتمد عليها .
335- ما حكم من بنى له بيتًا في مقبرة المسلمين، وهو لم يجد له من الأرض قيد شبر ولم يكن له مال يشتري به مكسن بيت له ؟(130/9)
لا يجوز للمسلم أن يبني في المقبرة، لأنه بذلك يضايق الأموات في قبورهم التي هي منازلهم من هذه الأرض، هذا من ناحية فهو يؤذي القبور ويؤذي الموتى وحرمة المسلم ميتًا كحرمته حيًّا؛ والأمر الثاني : أن هذه المقبرة أصبحت وقفًا عامًّا ( لأموات المسلمين ) ، ولا يجوز أن يأخذ من هذا الوقف ويقتطع منه شيئًا حتى لو كان على جانب منها ليس فيه قبور لا يجوز له، لأن هذه البقعة أو هذه المساحة كلها صارت مقبرة وتابعة للمقبرة، وصارت وقفًا للمسلمين، ويجب على المسلمين أن يساعدوا هذا الفقير في الحصول على مسكن له .
336- أنا رجل عندي عدة أولاد من بين الأولاد بنت فقدت بصرها فوهبت لها قطعة من الأرض وذلك رحمة وشفقة عليها وقلت : لعلها تستعين بها حيث دعت الحاجة فهل عليَّ شيء في تخصيصي هذه الهبة لها دون البقية ؟(130/10)
لا يجوز أن تخص بعض أولادك بالعطية دون الآخرين لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/151 ) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما بنحوه، وللحديث روايات أخرى ] ، ولمَّا جاء أحد الصحابة يريد أن يشهد على عطية أعطاها لبعض أولاده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أكُلُّ ولدك أعطيته مثل هذا ؟ ، قال : لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : استشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/151 ) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما بنحوه، وللحديث روايات أخرى ] ، وفي رواية أنه قال : ( أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ ، قال : نعم، قال : فلا إذن ) (6) ، هذا إذا كان التخصيص لغير معنى يختص بالمعطى، أما إذا كان التخصيص لمعنى يختص بالمعطى كما لو كانت البنت عمياء كما في السؤال أو الابن فيه عاهة فهذا محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال : لا يجوز تخصيصه دون إخوته بالعطية، والله سبحانه وتعالى أرحم به والأرزاق بيد الله عز وجل، فتوكل على الله عز وجل، ومنهم من أجاز ذلك واختار ذلك الموفق في " المغني " ، والذي يقتضيه عموم الدليل هو المنع، والله أعلم .
337- والدي متزوج من اثنتين، الأولى لها ولدان وأربع بنات، والثانية لها ولدان وابنتان، فحين أراد الذهاب لقضاء فريضة الحج أوصى للأولى بقطعة أرض مما يملك زاعمًا أنه أكل من مالها وأراد أن تسامحه، ومنذ عدة سنوات توفيت قبل أن نقتسم الميراث، ومنذ عام بالتحديد أراد والدي أن يقسم بيننا الأرض، فأبقى ما أوصى به للزوجة خارج الميراث وأضافه لأبنائها مما أثارنا نحن أولاد الزوجة الثانية، واحتججنا على ذلك، فهل يحق لوالدي أن يعطي زوجته الأولى على الرغم أنها توفيت قبل أن يقسم الميراث ؟ وهل يحق لولديها فقط أن يأخذوا نصيبها دون أخواتهما ؟(130/11)
إذا كان على الصفة التي ذكرتها من أن أباكم أعطى قطعة هذه الأرض لزوجته في مقابل أنه أكل شيئًا من مالها فهذا يكون من باب المعاوضة وتكون الأرض ملكًا لها، لأنه دفعها إليها في مقابل ما تمول من مالها، فهذه الأرض التي أُعطيت لها عوضًا عن مالها تكون ملكًا لها، وإذا ماتت تكون لورثتها من بعدها وليس لكم فيها أي استحقاق .
أما بالنسبة لقسم والدكم بقية الأراضي وهو على قيد الحياة فهذا لا يسمى ميراثًا، وإنما يسمى هذا من باب العطية، فإذا كان سوَّى بينكم في العطية ولم يخصص بعضكم دون بعض فهذا لا بأس به، أما إذا كان فيه تفضيل لبعض الأولاد على بعض فهذا حرام ولا تنفذ هذه العطية .
338- هل يجوز لزوجة الأب أن تأخذ شيئًا من مهر بنات زوجها من امرأة غيرها إذا قامت هي بتربيتهن ورعايتهن برضاهن ورضا والدهن ؟ أم ليس لها الحق في أخذ شيء منه ؟
لا بأس بأن تأخذ شيئًا سمح به بنات زوجها، لأن المهر ملك لهن، فإذا سمحن بشيء منه لزوجة أبيهن أو غيرها فلا بأس بذلك لقوله تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا } [ سورة النساء : آية 4 ] .
339- بعد أن توفي والدي ولم تتزوج والدتي بعده، بل كانت تعيش معي وقد مرضت مرضًا شديدًا فكنت أقوم بمصاريف علاجها إلى أن شفاها الله وهي تملك نصف فدان زراعي، فقالت : سأكتب لك نصف الفدان مقابل عنايتك بي وما صرفته في سبيل علاجي، ولكني رفضت أن أقبله لوحدي دون أخواتي الخمس، فهل يجوز لأمي أن تخصني بذلك دون أخواتي أم لا ؟(130/12)
أنت قمت بعلاجها احتسابًا لوجه الله سبحانه وتعالى وبرًّا بها، فجزاك الله خيرًا على هذا، وهذا تحمد عليه، ولا يُجَوِّز ذلك أن تأخذ في مقابله شيئًا منها، لأنك عملته لوجه الله سبحانه وتعالى متبرعًا به وبرًّا بوالدتك، فلا يجوز لك أن تأخذ في مقابله شيئًا هذا من ناحيتك أنت، أما من ناحيتها هي فلا يجوز لها أن تخصك بشيء دون أخواتك، لأنه يجب العدل بين الأولاد في العطية لقوله صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) [ روه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/134 ) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ] .
340- ما الحكم الشرعي في رجل جمع أمواله النقدية وقدرها حوالي أربعة وعشرين ألف دينار ووزعها بين أبنائه الثلاثة وزوجته الجديدة التي ليس لها أولاد وحرم بناته الثلاث قائلاً إذا نوقش : هذه أموالي وأنا حر بها وأعطي من أشاء وأحرم من أشاء، فهل هذا الفعل يجوز في دين الله ؟ ولا أعلم ماذا قد فعل أيضًا بأمواله المنقولة وغير المنقولة فهو يحب أبناءه الذكور ويحرم بناته من أبسط الحقوق حتى في معاملته في أشياء أخرى في غير الأمور المادية يفرق بين الأولاد والبنات ؟(130/13)
هذا التصرف من هذا الوالد حرام، فإن تخصيص بعض الأولاد دون بعض، أو تخصيص الذكور دون الإناث بالعطية هذا محرم في دين الله عز وجل، والواجب على الوالد أن يعدل بين أولاده بالعطية فيعطي الذكر مثل حظ الأنثيين اقتداء بقسم الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على بشير حينما وهب النعمان ابنه عطية فأبت أمه إلا أن يشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ليشهده فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألك ولد سواه ؟ قال : نعم قال : فأراه قال : لا تشهدني على جور ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/151 ) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما . وللحديث روايات أخرى ] ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ قال : نعم قال : فلا إذن ) [ رواه الإمام مسلم ( 3/1244 ) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ] ، وفي رواية أنه قال صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 3/134 ) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ] فعطية بعض الأولاد دون بعض أو عطية الذكور منهم دون الإناث هذا من الجور والحرام الذي لا يجوز .
والواجب على هذا الوالد أن يتقي الله سبحانه وتعالى وأن يعدل في عطية أولاده ولا يحرم الإناث من العطية، وقوله : وإنما هذا مالي وأنا حر فيه هذا ليس بصحيح بل التصرف في المال يكون حسب المشروع، فالإنسان ليس حرًّا يتصرف في ماله التصرف المحرم وإنما هو حر بأن يتصرف فيه حسب الوجه المشروع الذي أباحه الله ورسوله، أما أن يتصرف فيه تصرفًا محرمًا فهذا ممنوع وليس حرًّا فيه .(130/14)
341- لي ستة من الإخوة وأنا سابعهم ووالدنا يملك قدرًا من الأموال لا بأس به وقد زوجهم جميعًا وأعطى كل واحد منهم جزءًا من المال كنصيب له سوى أنا لم يزوجني إلى الآن ورفض أن يعطيني كما أعطاهم وقد بلغت من العمر 24 عامًا فهل لي الحق في مطالبته بهذا ؟ وهل يلزمه أن يعاملني مثل ما عامل إخوتي وما الحكم لو لم يحصل لي ذلك ؟
أما التزويج فإنه من النفقة فمن احتاج إلى التزويج من أولاده فإنه يزوجه ومن لم يحتج إلى ذلك فلا يلزمه، والتزويج يتبع الحاجة مثل النفقة تمامًا ولا يلزمه أن يزوج الجميع وإنما يزوج من احتاج إلى الزواج فقط، لأن هذا من النفقة ومن استغنى منهم وكان عنده مال يستطيع أن يتزوج من ماله، فإنه لا يلزم الوالد أن يزوجه مثل الإنفاق إذا كان عند الابن ما ينفق به على نفسه ويستغني به فإنه لا يلزم الوالد أن ينفق عليه .
أما قضية العطية فهذا يجب على الوالد أن يسوي بين أولاده فيه لقوله صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 3/134 ) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ] ، ولما جاءه بعض الصحابة يشهده على بعض عطية أعطاها لأولاده أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( أكل ولدك أعطيته هذا ؟ قال : لا، قال : أليس تريد منهم البر مثل ما تريد من ذاك ؟ قال : بلى، قال : فإني لها أشهد على جور ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1244 ) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وللحديث روايات أخرى ] . وسماه صلى الله عليه وسلم جورًا، وامتنع عن الشهادة عليه وأمر بالعدل بين الأولاد في العطية، فما دام أن والدك أعطى إخوتك شيئًا من الأموال تمليكًا لهم فإنه يجب عليه أن يعطيك مثلهم أو أن يسحب عطيته للآخرين . أما أن يعطي البعض ويحرم البعض الآخر فهذا جور وحرام عليه . والله أعلم .(130/15)
342- سمعت حديثًا عن المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول : ( أنت ومالك لأبيك ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/204 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/287 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/769 ) ، كلهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم ] وقد سمعت أن في هذا الحديث ضعف . ما صحة هذا يا فضيلة الشيخ ؟
هذا الحديث ليس بضعيف لشواهده، ومعنى ذلك أن الإنسان إذا كان له مال فإن لأبيه أن يتبسط بهذا المال وأن يأخذ من هذا المال ما يشاء لكن بشروط :
الشرط الأول : ألا يكون في أخذه ضرر على الابن، فإن كان في أخذه ضرر كما لو أخذ غطاءه الذي يتغطى به من البرد أو أخذ طعامه الذي يدفع به جوعه فإن ذلك لا يجوز للأب .
الشرط الثاني : أن لا تتعلق به حاجة للابن، فلو كان عند الابن أمة يتسراها فإنه لا يجوز للأب أن يأخذها لتعلق حاجة الابن بها . وكذلك لو كان للابن سيارة يحتاجها في ذهابه وإيابه وليس لديه من الدراهم ما يمكنه أن يشتري بدلها فليس له أن يأخذها بأي حال .
الشرط الثالث : أن لا يأخذ المال من أحد أبنائه ليعطيه لابن آخر لأن في ذلك إلقاء للعداوة بين الأبناء ولأن فيه تفضيلاً لبعض الأبناء على بعض إذا لم يكن الثاني محتاجًا، فإن كان محتاجًا فإن إعطاء الأب أحد الأبناء لحاجة دون إخوته الذين لا يحتاجون ليس فيه تفضيل بل هو واجب عليه .
على كل حال هذا الحديث حجة أخذ به العلماء واحتجوا به ولكنه مشروط بما ذكرنا، فإن الأب ليس له أن يأخذ من مالك ابنه ما يضره، وليس له أن يأخذ من مال ولده ما يحتاجه الابن، وليس له أن يأخذ من مال ولده ليعطي ولدًا آخر . والله أعلم .(130/16)
10- كتاب المواريث
343- أوصت والدة زوجتي إن توفاها الله أن أتولى عدد أربع رؤوس من الغنم كانت تملكها في حياتها بأن أجعل منها أضحية لوجه الله على رأس كل سنة يستمر ذلك مادام نتاج هذه الغنم مستمرًا، وقد وافها الأجل وتوفيت منذ أربع سنوات وبعد وفاتها وفي حالة غيابي عن البلد أخذ زوجها تلك الغنم عنده ولم أتمكن مما أوصتني به فهل يلحقني أو يلحقها إثم في ذلك ؟ وما العمل الآن أرشدونا بارك الله فيكم ؟
الوصية إنما تصح بالثلث فأقل مما تركه الميت فتصح هذه الوصية بثلث الغنم وما ذكرته من تصرف الزوج وعدم تمكنك من تنفيذ ما أوصتك به فإذا كان عندك إثبات على هذه الوصية إما بوثيقة مكتوبة أو بشهادة شاهدين على هذه الوصية وصدورها من الميتة في حال حياتها فإنك تتقدم بها إلى القاضي الذي في جهتكم وهو يقوم بالنظر فيها والأمر بما يلزم إن شاء الله، والله الموفق .(131/1)
344- سائلة تقول : توفي والدي منذ حوالي 26 سنة وله أولاد من زوجة أخرى في دولة أخرى وقد أوصى أمام كاتب عدل من المحكمة بوجود 6 أشخاص أوصى بما هذا نصه : إنني حينما سافرت من وطني تركت فيها أولادًا : فلانًا وفلانًا، وتركت جميع أموالي هناك من أثاث ومنقولات وعقارات وبيوت وأراضي وبساتين وحجج العقارات لديهم فلذلك جميع أموالي هناك لهم وخاصة بهم، وأموالي هنا في المملكة من أثاث ومنقول وغيره بعد سداد ديوني يقسم بين ورثتي بالمملكة هنا ولا يحق لأحد معارضتهم فيها مهما كانت صفته، ولا يحق لأحد من ورثتي تغيير هذا، ومضت هذه الأعوام الطويلة وقال لنا البعض : إن هذه الوصية غير جائزة وأنه يجب أن يشاركونا بما ورثنا ونحن نشاركهم بما ورثوه هناك في الدولة الأخرى، فما رأيكم في هذا ؟ وكيف يمكن حساب ما لنا وما علينا خلال هذه الأعوام الطويلة فنحن قد بعنا المنزل الذي ورثناه واشترينا آخر واستفدنا منه، وقد توظف بعضنا والبعض الآخر ليس له دخل ؟ كما أن معظم الأملاك لإخوتنا هناك يقال : إنها أخذت عليهم اغتصابًا وهم الآن يعيشون في حاجة شديدة والبعض منهم قد توفي فما هو الحل في هذه الحالة ؟(131/2)
هذه الوصية باطلة ومال الميت من بعده يكون لورثته جميعًا ولا تجوز الوصية لوارث ولا يجوز للإنسان أن يقسم ماله بهذه الصفة المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتركة الميت ولو كانت متفرقة في بلاد متباعدة فإنها شيء واحد يضم بعضها إلى بعض، وأول شيء يجب في تركة الميت مؤنة تجهيزه من غسله وتكفينه ودفنه على الوجه الشرعي، أما الأمور البدعية والمنكرات التي تعمل مع بعض الجنائز فهذه مخالفة للشرع ولا ينفق عليها من تركة الميت، لأنها نفقة في محرم، إنما النفقة في تجهيز الميت توافق الشرع : الغسل والتكفين والدفن ومؤنة الحفر ثم تقضى ديونه سواء كانت لله كالزكاة والكفارات والنذور، أو كانت للآدميين بقضاء ديون الميت وبعد ذلك، الوصية التي أوصى بها في حدود الثلث فأقل لغير وارث ثم بعد ذلك يأتي دور الميراث فيما بقي بعد هذه الأمور فما بقي يكون للورثة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
فما وقع من والدكم وحصل منكم أنتم فيه بين أمرين : إما أن تصطلحوا ويسامح بعضكم البعض فيما حصل، وإما أن ترجعوا للمحاكم الشرعية للنظر في قضيتكم .
345- إذا عقد نكاح رجل على فتاة ولم يدخل بها ومات أحدهما عن الآخر فهل يرث أحدهما الآخر أم لا ؟ وما الحكم من ناحية العدة لو مات الرجل قبل الدخول بالزوجة فهل عليها عدة أم لا ؟(131/3)
إذا تم عقد الزواج مستوفيًا لشروطه وأركانه ثم مات أحد الزوجين قبل الدخول فإن عقد الزواج يكون باقيًا، ويقع به التوارث بين الزوجين لعموم قوله تعالى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } [ سورة النساء : آية 12 ] .
الآية عامة فيمن توفي عنها أو عامة في الوفاة قبل الدخول أو بعد الدخول فإذا تم عقد الزواج ومات أحد الزوجين قبل الدخول فإن الزوجية باقية، والتوارث بينهما مشروع لعموم الآية الكريمة، وأما من ناحية العدة فكذلك تلزمها عدة الوفاة لو توفي زوجها الذي عقد عليها قبل الدخول فإنها تلزمها عدة الوفاة لعموم قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [ سورة البقرة : آية 234 ] هذه تعم من توفي عنها قبل الدخول أو بعد الدخول ولها الميراث كما ذكرنا .
346- امرأة لها زوج وبنت من غير الزوج الحالي بل من زوج آخر قبله ولها بنات أخ متوفى . . فمن يرثها من هؤلاء وما نصيب كل منهم ؟
يكون للزوج منها الربع وللبنت النصف والباقي للعصبة الأولى رجل ذكر، فإذا لم يكن هناك من العصبة أحد يرد ذلك على البنت، وبنات أخيها ليس لهن شيء؛ لأنهن من ذوي الأرحام .
347- كيف تقسم تركة أخي المتوفى عن زوجته وأمه وإخوته الذين هم : أخ ذكر وخمس أخوات ؟(131/4)
للزوجة الربع وللأم السدس والباقي للإخوة والأخوات إذا كانوا أشقاء أو لأب كلهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فتكون المسألة من اثنى عشر : لزوجته الربع ( 3 ) ولأمه السدس ( 2 ) والباقي سبعة لأخيه منها اثنان ولأخواته على واحد، أما إذا كان الإخوة كلهم لأم فلهم الثلث أربعة والباقي ثلاثة للعاصب، وتصح من ستة وثلاثين للزوجة تسعة، وللأم ستة، وللإخوة لأم اثنا عشر لكل واحد اثنان ويبقي تسعة للعاصب .
348- جدي لأبي توفي وله أرض زراعية وخلف ورثة سبع بنات وابن واحد، وبعد أن تزوج الجميع بقي ابنه مستوليًا على هذه الأرض وقد كلفته ما يقارب قيمتها في تعميرها وتصليحها وإيصال الماء إليها . فهل للبنات نصيب أم لا ؟
نعم للبنات نصيب من أصل الأرض، أما كلف التعمير التي أنفقها أخوكم إذا اصطلحتم فيما بينكم على أن تدفعوا له شيئًا من الكلف فلا بأس، وإن اختلفتم فلابد من الرجوع إلى القاضي وهو ينظر في القضية، والله أعلم .
349- توفي والدي وترك بنتًا عمرها ثلاث سنين، وابنًا عمره أربع سنين، وقد تزوجت أمهما وتركت ليس مسئولية تربيتهما، وقد أخذت ما يخصهما من الإرث بعد والدي، والآن تزوج الولد والبنت، وأصبحا يطالبانني فيما اكتسبته بعد وفاة والدي، علمًا بأنني الوحيد الذي شاركته الاكتساب في حياته فهل لهم الحق في المطالبة فيما اكتسبته بعد وفاته ؟ أم أنه يخصني وحدي فقط ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا ؟(131/5)
أما ما كان لوالدك فهذا يعتبر لإخوتك الصغار نصيب فيه، لأنه من تركة ميتهم فكان الواجب عليك أن تحصره، وأن تحصيه، وأن تحفظه لهما حتى يكبرا وتنفق عليهما منه، وإذا بقي شيء بعد النفقة عليهما تدفعه إليهما إذا كبرا . أما ما كسبته بعد وفاة والدك، فهذا إن كان رأس المال هو الذي كان مع والدك قبل وفاته فلهم نصيب أيضًا من ربحه؛ لأنه يعتبر كالمضاربة، وإن كان من مالك الخاص وتصرفت في مالك الخاص بعد وفاة والدك، فإنه لا علاقة لهم به، لأنه يعتبر كسبك ومالك، وعلى كل حال القضية فيها طرفان، وإذا رجعتما إلى المحكمة الشرعية، فهي – إن شاء الله – ستدرس ملابسات القضية وتبين لكل ذي حق حقه . والله أعلم .
350- عندنا في بلدنا عادة حينما يتوفى الرجل ويترك خلقه بنات وأبناء ولهم إرث منه، العادة هي أن يطلب من البنات التنازل عن إرثهن لإخوانهن، وغالبًا ما يتنازلن مجاملة وحياء فما حكم هذه العادة فقد جرت معي ومع إخوتي الاثنين فقد تنازلت أختانا عن نصيبهما وأخذناه نحن الذكور فقط فهل علينا في ذلك إثم ؟(131/6)
لا يجوز الإلحاح على البنات حتى يتركن إرثهن لإخوانهن وهذه عادة سيئة لاسيما وأنك ذكرت أنهن يتركنه حياء ومجاملة فيكون هذه قريبًا من الإكراه فلا يجوز مثل هذا العمل، بل الله سبحانه وتعالى أعطى البنات حقهن كما قال سبحانه وتعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } [ سورة النساء : آية 11 ] ، كما أعطى الأخوات وغيرهن من النساء حقهن من الميراث، فالله جل وعلا جعل للبنات نصيبًا من الميراث وجعل للأولاد نصيبًا من الميراث، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ) [ رواه الإمام أحمد ( 4/187 ) من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/113 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 6/294، 295 ) ، ورواه ابن ماجة في " سننه " ( 2/905 ) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 6/264، 265 ) من حديث أنس بن مالك، ورواه سعيد بن منصور في " سننه " ( 1/125 ) ، من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ] ، والأنثى قد تكون أحوج إلى الميراث من الذكر لضعفها وعجزها عن الاكتساب، بخلاف الذكر فإنه يقوى على الاكتساب وعلى السفر لطلب الرزق، فعلى كل حال هذا التصرف لا يجوز ولا يصح استضعاف النساء والتغلب عليهن وأخذ نصيبهن ولو كان هذا بصورة التبرع منهن، ولأنهن لا يتبرعن بهذا عن طيب نفس وإنما يتبرعن به كما ذكرت عن حياء ومجاملة .
351- توفي رجل وخلف تركة ورثه فيها ابنه ولكن أكثر هذه التركة مغتصبة فهل ينتفع منها هذا الولد وإثمها على أبيه أم يعيدها إلى أهلها . وتبرأ ذمة أبيه منها أم كيف يتصرف بها ؟(131/7)
التركة إذا كانت مغتصبة ويعرف أصحابها فإنه يجب عليه أن يردها إليهم لأنها مظالم لا يجوز إبقاؤها والاستيلاء عليها بل يجب أن ترد إلى أهلها ويتخلص من شرها وإن كان أهلها غير موجودين فإنهم يتصدقون بها ويكون أجرها لأصحابها .(131/8)
11- كتاب النكاح
352- ما حكم الدين في أن يرى الخطيب خطيبته بدون حجابها بتدبير منه ومن أهلها، وإن كان بتدبيره هو أو تدبير أهلها خفية، فهل هناك فرق في الحكم ؟
ستر النساء عن الرجال وعدم رؤية الرجل لشيء من بدن المرأة التي لا تحل له أو التي ليست من محارمه أمر واجب، ولكن عندما يخطب امرأة ويغلب على ظنه أنه يجاب إلى خطبته فقد رخص له النبي صلى الله عليه وسلم في أن ينظر منها ما جرت العادة بكشفه كوجهها وكفيها (7) ، والأحسن أن يكون ذلك بغير علمها بأن يترصد لها مثلاً في مكان لا تعلم به حتى يتمكن من رؤيتها من غير تصنع منها، أما لو علمت ربما تتصنع وربما يحصل شيء من الخداع وتظهر بالمظهر غير الحقيقي . وقد تخفي عيوبًا، فالرخصة جاءت بحدود، وهي أن يرى منها ما جرت العادة بكشفه مما يرغب في تزوجها، ويجوز أن يكون نظره إليها عن اتفاق وبحضور أهلها من غير خلوة بها، أما ما وقع فيه كثير من المتساهلين من خلوة الخطيب مع خطيبته أو سفرها معه هذا لا يقره الإسلام ولا يجيزه الدين، لأنها لم تكن زوجة له ولا هو محرم لها فلا يجوز أن يخلو بها ولا أن يسافر معها، وإنما يكون ذلك في حدود الرخصة الشرعية التي ذكرها أهل العلم وبينوا حكمها .
والأمر – ولله الحمد – واضح ليس فيه إشكال ولا تستغل السنن أو الرخص استغلالاً سيئًا كما يفعله بعض الناس من التوسع في هذا، وخلوة الخطيب بخطيبته وسفرها معه أو ما أشبه ذلك من تبادل الكلام الكثير والكلام المثير أو غير ذلك من أسباب الفتنة فلا يجوز .(132/1)
353- تقدم شاب متدين صفاته حميدة لخطبتها، ولكن والدها رفض قبوله بحجة عدم كفاءته حسبًا ونسبًا، فهو يريد لها شابًّا من العوائل العريقة ذات المال والجاه، بينما هي راضية به ولا تريد سواه . وتقول : هل يجوز لها أن تنكح نفسها منه بدون ولي أمرها، فقد قرأت في »فقه السنة« لأبي حنيفة أنه يجوز ذلك، ثم إن الله ولي أمور العباد كلها ومنها الزواج، فإذا كان والدها سيحرمها من الزواج بمن هو مناسب لها وحريص على كرامتها وصيانة عرضها ومتمسك بدينه، ثم يزوجها ممن لا يتصف بهذه الصفات، أفليس لها الحق في عدم استئذانه في زواجها بشخص صالح وتقوم هي بتزويج نفسها عند القاضي أو تستأذن أحد أقربائها الآخرين المقتنعين بوجهة نظرها ؟
أولاً : لا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها، فإن زوجت نفسها فنكاحها باطل عند جمهور أهل العلم سلفًا وخلفًا، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى خاطب بالتزويج أولياء أمور النساء قال : { وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ } [ سورة النور : آية 32 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 4/41، 42 ) ، ورواه ابن ماجة في " سننه " ( 1/632، 633 ) ، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ) [ رواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 10/148 ) من حديث عائشة رضي الله عنها، ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " ( 3/454-456 ) ] .(132/2)
أما ما ذكرت السائلة من أنها قرأت في بعض كتب الفقه أن المرأة تزوج نفسها فهذا قول مرجوح والصحيح الذي يقوم عليه الدليل خلافه . وأما ما ذكرت من واقعتها وأن لها رأيًا يخالف رأي أبيها لأن أباها يريد لها زوجًا حسبًا ونسبًا يكافئها، وهي لا ترى ذلك، وإنما تميل إلى أن تتزوج شخصًا ترى أنه ذو دين وإن لم يكن ذا حسب ونسب، فالحق مع أبيها في هذا وأبوها أبعد منها نظرًا فقد يخيل إليها أن هذا الشخص يصلح لها في حين أنه لا يصلح، فليس لها أن تخالف أباها مادام أنه ينظر في مصلحتها، وإذا تحقق أن شخصًا غيره يصلح لها ويكافئها في مقامه وحسبه ودينه وأبى أبوها أن يزوجها به فإنه حينئذ يكون عاضلاً وتنتقل الولاية إلى من بعده من بقية الأولياء، ولكن هنا لابد فيه من مراجعة القاضي لينقل الولاية من الأب العاضل إلى من بعده من بقية الأولياء، وليس لها هي أن تتصرف أو يتصرف أحد أوليائها بدون رضا أبيها، لابد من الرجوع إلى القاضي الشرعي وهو ينظر في الموضوع وملابسات الواقعة، وإذا رأى نقل الولاية إلى آخر نقلها حسب المصلحة، فلابد من ضبط الأمور في الزواج، ولابد من القيام على النساء، لأن النساء نظرهن قاصر، وأولياء أمورهن من الرجال عندهم من الحرص على صيانتهن والغيرة عليهن ما ليس عندهن فينبغي مراعاة هذا، والله أعلم .
354- هل للوالد إجبار ابنته على الزواج ؟
ليس له أن يجبرها، ولكن ينبغي لها ألا تعصي والدها مادام أنه نظر في مصلحتها واختار لها كفؤًا دينًا، فلا ينبغي لها أن تخالف والدها، أما مسألة الإجبار فليس له أن يجبرها إذا كانت ثيبًا بالاتفاق أو كانت بكرًا على الصحيح، والله تعالى أعلم .(132/3)
355- ما رأيكم في إجبار الفتاة على الزواج من شاب يقبله والدها حيث إن فتيات هذا اليوم لو استأذنتها للزواج من الشاب الذي تقدم لخطبتها تجدها ترفضه، خاصة إذا كان ابن عمها وأنه يوجد لها فتى أحلام تريده وإذا وقفت وراء حقيقة أحلامها تجده من ذلك النوع الذي ليس له عمل سوى اللعب بعواطف الفتيات المراهقات متسترين وراء شيء اسمه الحب ؟ أفيدونا رعاكم الله .
أولاً : يجب على الأب وولي المرأة أن ينظر في مصلحتها في الزواج، وأن يختار لها الكفء الذي تبرأ به الذمة ويصونها ويكرمها ويحفظها مما لا ينبغي، ويجب على المرأة أن تطيع وليها بالمعروف إذا اختار لها كفؤًا صالحًا فتوافقه فيما رأى، لأن المصلحة ظاهرة في هذا . وهذا يترتب عليه مصالح في المستقبل، فكل من الولي والمرأة مأمور بأن ينظر في المصلحة الدينية والدنيوية في نفسه، ولمن ولي عليه .
أما ما ورد في السؤال من أن ولي المرأة يختار لها كفؤًا يصلح لها، وهي تمتنع وتريد شخصًا آخر لا يصلح، وهو ممن لا يرغب فيهم من الناحية الدينية والخلقية فهذا لا يجوز للمرأة أن تفعله، ولا يجوز للبنت أن تذهب إليه، ولا يجوز للولي أن يمكنها من ذلك؛ لأنه ينظر في مصلحتها وهو مسؤول عنها، وهو الرقيب عليها في هذا الشأن وفي غيره، فلا يجوز للولي أن يمكنها من أن تتزوج من شخص لا يليق بها دينًا وخلقًا .
وقضية علاقة الحب هذه نشأت عن اختلاط النساء بالرجال، وعن خلع الحجاب، وعن النظر في الصور الفاتنة، وعن سفر الفتاة وحدها بدون محرم، وعن استماع الأغاني وغير ذلك من أسباب الفتنة التي تزخر بها دنيا العالم اليوم .
356- وهل يجوز له أن يجبرها على الزواج بمن لا تريده ؟(132/4)
لا يملك الإجبار في هذا وإنما يمتنع من أن يزوجها من لا يصلح، وأما مسألة الإجبار فلا يجوز إلا ما ذكر من أن الأب له أن يجبر البكر ولكن الصحيح خلاف هذا، وأنه ليس للأب ولا لغيره أن يجبر موليته على الزواج بمن لا تريده، ولكن يعرض عليه ويكرر عليه وينصحها في هذا إلى أن تقتنع، فلابد أن تستشار ولا بد أن يؤخذ رأيها في هذا . لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى من زُوِّجَتْهُ بغير رضاها حق الفسخ (8) .
357- هل للوالد أن يجبر ابنته على الزواج ؟
ليس له أن يجبرها، ولكن ينبغي لها ألا تعصي والدها مادام أنه نظر إلى مصلحتها واختار لها كفؤًا دينًا، فالواجب عليها ألا تخالف والدها، أما مسألة الإجبار : فليس له أن يجبرها إذا كانت ثيبًا بالاتفاق أو كانت بكرًا على الصحيح، والله تعالى أعلم .
358- تزوجت من فتاة عمرها ثلاثة عشر عامًا، وعند الكتابة على هذه الفتاة رفض المأذون أن يكتب لي عليها نظرًا لصغر سنها وكتب لي على اسم شقيقتها المتوفاة لأنها أكبر منها سنًّا فما حكم هذا الزواج ؟
هذا يحتاج أن يرجع فيه إلى القاضي ليحضرهم ويحقق في القضية، أما مجرد سؤال في الإذاعة عن عقد حصل فيه ارتباك فهذا لا يناسب الجواب عليه في الإذاعة بل لابد أن يكون الحكم عليه عند القاضي وعند حضور الطرفين في القضية . والله أعلم .
359- تقدم شاب لخطبة أختي وسبق أن سمعت أنه يختلس أحيانًا، واستشارني أهلي بذلك فأخبرتهم بما سمعت عنه ونصحتهم ألا يستجيبوا لذلك، والآن تم الزواج مع العلم أنه كان في وسعي أن أوقف هذا الزواج ؟ فماذا أفعل لأكفر ما حدث ؟
ما دمت قد أديت النصيحة وبيَّنت ما في هذا الشخص ولكن أهلك لم يقبلوا النصيحة وأقدموا على تزويجه، فقد أديت الواجب ولا يلزمك أكثر من هذا، إلا أنه يلزمك أن تواصل النصيحة للشخص نفسه، وأن تحذره من هذا الأمر، وأن تخوفه بالله عز وجل، هذا الذي يسعك، والله تعالى أعلم .(132/5)
360- ماذا يجب فعله على من تزوج امرأة أبيه علمًا أن لها منه أولادًا ؟
الله تعالى حرم زواج امرأة الأب :
قال الله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً } [ سورة النساء : الآية 22 ] .
فمن استحل هذا كفر وارتد عن دين الإسلام . أما إذا فعله عن جهل ولم يستحله فهذا مخطئ خطأ كبيرًا، والنكاح هذا باطل ويجب التفريق بينهما على الفور، ويجب أن يغلظ عليه في هذا الشأن .
والأولاد إذا كان لزوجها عن جهل ولم يتعمد هذا الشيء يكونون شرعيين لأن هذا بشبهة .
361- قال تعالى في سورة النساء : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً } [ إلى قوله تعالى : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ سورة النساء : الآيتين 22، 23 ] ما معنى ذلك ؟
في هذه الآية الكريمة بيَّن الله عز وجل المحرمات في النكاح، وأسباب التحريم يعود في هذه الآيات إلى ثلاثة أشياء :
1ـ النسب . 2ـ الرضاع . 3ـ المصاهرة .
فقوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ سورة النساء : آية 22 ] تفيد أنه لا يجوز للإنسان أن يتزوج من تزوجها أبوه أو جده وإن علا سواء كان الجد من قِبل الأم أو من قِبل الأب وسواء دخل بالمرأة أم لم يدخل بها .
فإذا عقد الرجل على امرأة عقدًا صحيحًا حرمت على أبنائه وأبناء أبنائه وأبناء بناته وإن نزلوا .(132/6)
وفي قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ } [ سورة النساء : آية 23 ] ، هذا بيان ما يحرم بالنسب وهن سبع : الأمهات وإن علون من الجدات من قِبل الأب أو من قِبل الأم، والبنات وإن نزلن من بنات الابن، وبنات البنات وإن نزلن، والأخوات سواء كن شقيقات أم لأب أم لأم، والعمات وهن أخوات الآباء والأجداد وإن علوا سواء كن عمات شقيقات أو عمات لأب أو عمات لأم .
فالعمات الشقيقات أخوات أبيك من أمه وأبيه، والعمات لأب أخواته من أبيه، والعمات لأم أخواته من أمه .
والخالات هن أخوات الأم والجدة وإن علت سواء كن شقيقات أم لأب أم لأم . فالخالات الشقيقات أخوات أمك من أمها وأبيها، والخالات لأب أخواتها من أبيها، والخالات لأم أخواتها من أمها .
واعلم أن كل خالة لشخص أو عمة لشخص فهي خالة له ولمن تفرع منه، وعمة له ولمن تفرع منه فعمة أبيك عمة لك، وخالة أبيك خالة لك، وكذلك عمة أمك عمة لك وخالة أمك خالة لك . وكذلك عمات أجدادك أو جداتك عمات لك، وخالات أجدادك أو جداتك خالات لك .
وبنات الأخ وإن نزلن سواء كان الأخ شقيقًا أو لأب أو لأم، فبنت أخيك الشقيق أو لأب أو لأم محرمة عليك، وبنت بنتها حرام عليك وبنت ابنها حرام عليك وإن نزلن وكذلك نقول في بنات الأخت .
هؤلاء سبع من النسب، { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ } [ سورة النساء : آية 23 ] ، وإن شئت حصرها فقل يحرم على الإنسان من النساء الأصول وإن علون والفروع وإن نزلن . وفرع الأب والأم وإن نزلن وفروع الجد والجدة لصلبهم خاصة .(132/7)
وفي قوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ } [ سورة النساء : آية 23 ] إشارة إلى ما يحرم بالرضاعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/149 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] فما يحرم من النسب يحرم نظيرهن من الرضاع وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت . فنظير هؤلاء من الرضاع محرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/149 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] .
وقوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } [ سورة النساء : آية 23 ] فهؤلاء الثلاث محرمات بالصهر فقوله : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } يعني أنه يحرم على الرجل أم زوجته وجدتها وإن علت سواء من قبل الأب أم من قبل الأم وتحرم عليه بمجرد العقد .(132/8)
فإذا عقد الرجل على امرأة حرمت عليه أمها وصار من محارمها وإن لم يدخل بها يعني وإن لم يدخل بالبنت، فلو قدر أن البنت ماتت أو طلقها فإنه يكون محرمًا لأمها . ولو قدر أنه تأخر دخوله على المرأة التي تزوجها فإنه يكون محرمًا لأمها تكشف وجهها عنده ويسافر بها ويخلو بها ولا حرج عليها، لأن أم الزوجة وجداتها يحرمن لمجرد العقد لعموم قوله تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ } [ سورة النساء : آية 23 ] المراد بذلك بنات الزوجة وبنات أولادها وإن نزلوا . فمتى تزوج الإنسان امرأة فإن بناتها من غيره حرام عليه ومن محارمه، وكذلك بنات أولادها من ذكور وإناث فبنت ابنها وبنت بنتها كبنتها، ولكن الله عز وجل اشترط هنا شرطين : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ } [ سورة النساء : آية 23 ] .
فاشترط في تحريم الربيبة أن تكون في حجر الإنسان .
واشترط شرطًا آخر أن يكون دخل بأمها أي جامعها .
أما الشرط الأول : فهو عند جمهور أهل العلم شرط أغلبي لا مفهوم له ولهذا قالوا : إن بنت الزوجة المدخول بها حرام على زوجها الذي دخل بها وإن لم تكن في حجره .
وأما الشرط الثاني : وهو قوله تعالى : { اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ } [ سورة النساء : آية 23 ] فهو شرط مقصود ولهذا ذكر الله تعالى مفهومه ولم يذكر مفهوم قوله : { اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم } [ سورة النساء : آية 23 ] فدل هذا على أن قوله : { اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم } [ سورة النساء : آية 23 ] لا يعتبر مفهومه .
أما قوله : { اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ } [ سورة النساء : آية 23 ] فقد اعتبر الله مفهومه فقال : { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [ سورة النساء : آية 23 ] .(132/9)
أما قوله : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } [ سورة النساء : آية 23 ] فالمراد بذلك زوجة الابن وإن نزل حرام على أبيه بمجرد العقد وزوجة ابن الابن حرام على جده بمجرد العقد، ولهذا لو عقد شخص على امرأة عقدًا صحيحًا ثم طلقها في الحال كانت محرمة على أبيه وجده وإن علا لعموم قوله تعالى : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } [ سورة النساء : آية 23 ] والمرأة تكون حليلة لزوجها لمجرد العقد .
فهذه ثلاثة أسباب توجب التحريم، النسب، والرضاع، والمصاهرة . والمحرمات بالنسب سبع والمحرمات بالرضاع نظير المحرمات بالنسب لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) والمحرمات بالصهر أربع في قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ } [ سورة النساء : آية 22 ] ، وقوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ } [ سورة النساء : آية 23 ] .
والرابعة قوله تعالى : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } [ سورة النساء : آية 23 ] .
وأما قوله تعالى : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } [ سورة النساء : آية 23 ] فهذا التحريم ليس تحريمًا مؤبدًا، لأن التحريم هو الجمع فليست أخت الزوجة محرمة على الزوج لكن محرم عليه أن يجمع بينها وبين أختها . ولهذا قال تعالى : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ } [ سورة النساء : آية 23 ] ولم يقل : وأخوات نسائكم .(132/10)
فإذا فارق الرجل امرأته فرقة بائنة بأن تمت العدة فله أن يتزوج أختها . لأن المحرم الجمع، وكما يحرم الجمع بين الأختين فإنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، كما ثبت ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (9). فاللاتي يحرم الجمع بينهن ثلاث : الأختان، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها . وأما بنات العم وبنات الخال يعني أن تكون امرأة بنت عم لأخرى أو بنت خال لأخرى فإنه يجوز الجمع بينهما .
362- ما هي العلة الشرعية في تحريم نكاح المتعة وما الحكم في شخص كان يجهل هذا الحكم وقد تزوج امرأة زواج متعة وطلقها بعد أن حملت بمولود . وما الحكم في هذا المولود أهو شرعي وينسب إليَّ ويرث ويورث منه ؟
نكاح المتعة باطل محرم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه عام الفتح (10) نهيًا صريحًا وناسخًا لما سبق من الإذن بالمتعة، وأجمع على ذلك علماء المسلمين لم يخالف منهم أحد إلا من شذ من الفرق الضالة ولا عبرة بخلافهم . فالمتعة حرام ونكاح باطل بإجماع العلماء والخلاف الذي فيها خلاف شاذ لا عبرة به ولا ينقض الإجماع مع النصوص الصريحة الصحيحة في تحريم المتعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تواتر بذلك وتضافرت ودلت على بطلان نكاح المتعة، والحكمة في ذلك – والله أعلم – أن المطلوب في النكاح أن يكون لرغبة واستدامة بين الزوجين، والنكاح المؤقت – وهو نكاح المتعة – لا يحصل به المطلوب، وإنما هو لفترة معينة ثم يزول، ولا يكون بذلك عشرة ولا يكون بذلك بقاء للتزاوج والتوالد، والإسلام حريص على الزواج وحريص على إنجاب الذرية، وحريص على بقاء الزوجية، فالمتعة تخالف هذا كله، لأنها عبارة عن رغبة مؤقتة ونكاح مؤقت لا تحصل به المصالح الزوجية فلذلك أبطله الإسلام .(132/11)
أما حكم من فعل ذلك وجاءه ولد بهذا النكاح . هل يلحق به أو لا فهذا إن كان فعله مع معرفته بالحكم وأن نكاح المتعة بطل، فإن هذا الولد لا يلحق به، لأن النكاح في حقه يكون سفاحًا أما إذا كان فعل هذا عن جهل وتقليد لمن يقول بذلك ظنًّا منه أن هذا صحيح فهذا يعتبر شبهة ويلحق به الولد .
363- عندما يزوج الرجل ابنته لرجل آخر على أن يزوجه أخته فهل يسمى هذا شغارًا ؟ وهل هو محرم ؟ وهل ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا ؟
إذا زوج الرجل موليته لرجل آخر على أن يزوجه الآخر موليته ولم يكن بينهما مهر فهو نكاح الشغار حيث جعلت أنثى في مقابل أنثى، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (11) وهو نكاح باطل يجب أن يفرق بينهما . أما إذا زوج كل واحد منهما الآخر موليته من غير اشتراط وإنما تم عن طريق التراضي ورغبة كل من المرأتين في زوجها، وكان هناك صداق تام فليس هذا من الشغار لانتفاء الضرر .
364- لديَّ أخت وأنا رجل أعزب ويوجد من جماعتي رجل متزوج ولديه أخت ويرغب في أن يتزوج أختي وأنا أتزوج أخته، وذلك بناء على رغبة البنات أيضًا بهذا العمل، وكلنا سوف يدفع مهر خطيبته كاملاً دون أن يكون ملزمًا بمهر الأخرى، بل كلٌّ على حدة، أفيدونا هل هذا حلال أم حرام ؟ وما الحكم الشرعي في عمل هكذا ؟(132/12)
ما ذكر من اتفاق رجلين على أن يزوج أحدهما الآخر موليته ومع تمام المهر لكل منهما ورضاها التام فهنا إذا كان زواج كل واحدة ليس مشروطًا في زواج الأخرى، وليس متوقفًا على زواج الأخرى، وبذل لها كما يبذل لأمثالها في هذه الحالة لا بأس؛ لانتفاء الضرر وهو أن يكون زواج إحداهما مشروطًا بزواج الأخرى ومتوقفًا عليه كأن يقول : لا أزوجك أختي إلا على أن تزوجني أختك، فهذا لا يجوز ويدخل في الشغار الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم (12)، وكذلك إذا كان بغير رضا المرأة في الزوج الذي يراد أن تزوج به هذا أيضًا لا يجوز، لأنه لابد من رضاها وإذنها، وكذلك لا يكون مهر كل منهما ناقصًا عن أمثالها فإذا انتفت هذه المحاذير الثلاثة فلا بأس بالزواج .
365- أراد أخي الزواج من إحدى الفتيات من قريتنا فاشترط أخوها أن يزوجه أخي أخته، واتفقا على ذلك، وبعد ذلك وبعد مدة وقبل العقد لأي منهما سمعنا أن مثل هذا النكاح محرم وأنه شغار، فأخبرناهم بذلك فقال أخو الفتاة التي خطبها أخي : مادام الأمر كذلك فتزوجني أختك وبعد سنة أزوجك أختي، فوافق أخي على أن يعطيه أخته مقابل مهر قدره ستون ألف ريال على أن يتزوج أخت صهره بعد سنة بمثل ذلك المهر أو أكثر أو أقل، فهل هذا النكاح على مثل هذه الصورة جائز أم لا ؟(132/13)
إن الأمر كما سمعتم مثل هذا التصرف من المذكورين هو نكاح شغار، وذلك بأن يزوجه موليته بشرط أن يزوجه الآخر موليته، وهذا إذا كان بدون مهر بأن جعلت إحدى المرأتين في مقابل الأخرى وهذا شغار بلا إشكال، وهو محرم، والنكاح باطل وكذلك على الصحيح يكون شغارًا حتى ولو سمي لكل واحدة منهما مهر، لأن الضرر واقع على المرأتين بكل حال، ولعموم الأحاديث التي تنهى عن نكاح الشغار وهو كما ذكرنا أن يكون زواج إحدى المرأتين مشروطًا بزواج الأخرى ولا يفيد ما ذكرتم من تأخير زواج إحداهما عن زواج الأخرى إلى سنة، فإن هذا من التحايل وهذا لا يرفع الحرمة ولا يفيد بجواز مثل هذا التصرف، فعليكم بالابتعاد عن هذا وكلٌّ يزوج موليته زواجًا صحيحًا لها فيه منفعة ولها فيه اختيار ولها فيه مهر المثل بدون أن يربط زواجها بزواج امرأة أخرى تقابلها .
366- إذًا على هذا لا عبرة لجعل مهر لكل منهما مادام في الأمر اتفاق أو شرط ؟
على الصحيح أنه ولو كان لكل واحدة منهما مهر لا يخرجه عن الشغار .
367- حتى ولو اختلف المهر يعني إحداهما أكثر من الأخرى ؟
سواءً اختلف أو تساوى، فهذا لا يؤثر أو عقد لهما جميعًا أو تأخر عقد إحداهما عن الأخرى الحكم واحد مثل هذا التصرف لا يجوز .
368- يعني مثل هذه الصورة يعتبر هذا شغارًا ؟
نعم في مثل هذه الصورة يعتبر هذا شغارًا .
369- إذًا لو فرضنا أنه قد حصل زواجًا للأولى فماذا نقول لهم ؟
يراجعون القاضي في جهتهم أو مفتي يخبرونه بحقيقة الحال لينظر في ملابسات الأمور ويجري العقد الصحيح إن شاء الله .
370- رجل تزوج من فتاة وقد دفع لها مهرًا من مال جمعه بطريقة غير مشروعة، وقد أنجبت منه زوجته الآن، فما الحكم في هذا الزواج، وفي الذرية ؟(132/14)
يجب على المسلم أن يقتصر في الكسب على ما أحل الله من الرزق الحلال الذي يستعين به على طاعة الله وعلى مصالحه الدنيوية والأخروية، فإن الكسب الحلال كسب مبارك وآثاره حميدة على المسلم إن تصدق منه وإن أنفق منه على نفسه، وعلى أقاربه، وإن تزوج منه وإن ورثه لمن خلفه، فله في ذلك أجر عظيم، وأن يبتعد عن الكسب المحرم الكسب الخبيث : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } [ سورة المائدة : آية 100 ] .
الكسب المحرم آثاره سيئة على الإنسان، وهو آثام على كاسبه في الدنيا والآخرة، والسائل يذكر أنه اكتسب كسبًا محرمًا وتزوج منه، لا شك أنه يأثم في ذلك وأنه فعل محرمًا، ولكنه إذا تاب إلى الله وندم على ما حصل، وعزم على أن لا يعود إلى مثل هذا، وتاب توبة صحيحة، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، وزواجه صحيح، ولكنه يأثم على ما بذل فيه من المال المحرم، فإن كان هذا المال المحرم مغصوبًا أو مأخوذًا بغير حق من أهله فيجب عليه أن يرد عليهم بدله، مع التوبة إلى الله، وهذا من شروط التوبة ردُّ المظالم إلى أهلها .
371- يقول الله تعالى في سورة النساء : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [ سورة النساء : آية 25 ] ، ما معنى هذه الآية ؟ وما المقصود بقوله : { أُجُورَهُنَّ } أهو المهر ؟ أم أجرة مقدرة على قدر الاستمتاع بها ؟
هذه الآية وردت في حكم تزوج الحر بالأمة، فأباحته بثلاثة شروط :(132/15)
أولاً : أن لا يقدر على الطول وهو المهر للحرة وذلك في قوله : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [ سورة النساء : آية 25 ] ، وذلك إذا كان لا يستطيع على مهر الحرة لغلائه أو لفقر الرجل .
والشرط الثاني : أن يخاف على نفسه من عنت العزوبة بأن يخاف إذا لم يتزوج أن يقع في الحرام .
والشرط الثالث : أن تكون الأمة التي يتزوجها مؤمنة عفيفة عن الحرام وعن الفواحش .
فإذا توافرت هذه الشروط جاز للحر أن يتزوج أمة، وأما قوله تعالى : { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ سورة النساء : آية 25 ] ، فالمراد بالأجور هنا المهور، فالمهور تسمى أجورًا، لأنها في مقابل الاستمتاع .
372- ما رأيكم في الذين يقولون : إن زواج الفتاة من ابن عمها أو قريبها يسبب إنجاب أطفال مشوهين وهذه البادرة تثير الفزع في نفوس الفتيات وتجعلهن يرفضن الزواج من أقاربهن مما يتسبب في إثارة المشكلات بين الأقارب، فما مدى صحة هذا الادعاء ؟ وما رأي الإسلام فيه ؟
هذه الشائعة غير صحيحة، فليس زواج المرأة من ابن العم أو ممن هو قبيلتها يسبب ولادة أطفال مشوهين أو متخلفين عقليًّا أو مصابين بغير ذلك من الأمراض، وهذا اعتقاد فاسد وشائعة باطلة، نعم يرى بعض العلماء أنه ينبغي أن يتزوج بامرأة من غير أقاربه، قالوا : لأن ذلك أنجب للولد، فهذا شيء ذكر، وقال به بعض أهل العلم، ولكن ليس معنى هذا أن يولد مشوهًا، هذا لم يقله أحد منهم فيما أعلم ولا أصل له، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها من ابن عمها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتزوج الصحابة من قريباتهم .
373- إذا كانت الفتاة لا تريد الزواج من رجل سمعت من أهلها أنه ذو دين وأخلاق حسنة، ولكنها لا تريده ليس بغضًا فيه بل في أهله الذين رأتهم هي، وتعرف أنهم يغتابون الناس وفيهم النميمة فهل لها الحق أن ترفضه ؟(132/16)
إذا كان أهلها يعرفون هذا الشخص بدينه وأمانته واختاروه زوجًا لها، فإنه ينبغي لها أن تجيب إلى ذلك، أما حالة أهله وكونهم يغتابون الناس فهذا شيء يتعلق بهم ويحرم عليهم، ولكن هي لا تفوت الزواج بالرجل الكفء الصالح لها من أجل حالة أهله، فإن استصلاح الخلل في أهله ممكن بمناصحتهم وتخويفهم بالله عز وجل، أو أن تعتزل مجلسهم الذي تدور فيه الغيبة والنميمة وتجلس في مكان آخر، وليست ملزمة أن تجلس معهم إذا كانوا في حالة يغتابون فيها الناس ولا تفوت فرصة الزواج بالرجل الكفء الذي يختاره لها أهلها من أجل ذلك، لأنه بإمكانها تدارك المحذور كما ذكرنا، وأن تأخذ بالصالح لها وهو الزواج بهذا الرجل الكفء الصالح لها، والله أعلم .
374- رجل تزوج بامرأة ولها بنت عند زواجه منها ورزق منها بأولاد، فهل يحل لابن الرجل من غيرها أن يتزوج بنت هذه المرأة التي تزوجها أبوه ؟
لا بأس بذلك، لأنه لا علاقة بينه وبينها من ناحية القرابة فهي أجنبية منه، وهو أجنبي منها، فيجوز للشخص أن يتزوج بنت زوجة أبيه من رجل آخر، لقوله تعالى لما ذكر المحرمات في النكاح : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } الآية [ سورة النساء : آية 24 ] .
375- لي أخت من الأب ولها أخت من الأم فهل يجوز لي أن أتزوج من أخت أختي لأمها ؟
إذا كان لك أخت من الأب فإنه يجوز لك أن تتزوج بأختها من الأم، لأنه ليس بينك وبين أختها من الأم علاقة فلا مانع من ذلك لقوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ سورة النساء : آية 24 ] .(132/17)
376- هي امرأة مسلمة وقد قرأت في كتاب " فقه العبادات " أن تارك الصلاة كافر ومشكلتها أنها هي وزوجها لم يكونا يصليان قبل الزواج تساهلاً منهما، وحتى بعد الزواج وبعد إنجاب بعض الأطفال لكنهما اكتشفا خطورة إهمالهما وعادا إلى الله وتابا وندما وأصبحا يقيمان الصلاة بمواظبة وفي أوقاتها، فما الحكم في زواجهما وهما تاركان للصلاة ؟ هل هو صحيح أم يلزمهما تجديد العقد أم ماذا ؟
نعم ترك الصلاة كفر والعياذ بالله، لأن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين ومن تركها فقد كفر، والحمد لله أنهما اكتشفا هذا الخطأ الذي وقع منهما، وأنهما تابا إلى الله سبحانه وتعالى وندما على ما حصل، وأنهما يحافظان على الصلاة، هذا شيء نرجو الله لهما القبول والإثابة عليه والمداومة عليه والتوبة تجب ما قبلها ويغفر الله بها ما سبق من الذنوب ولو كانت عظيمة، فالتائب يغفر الله له إذا صحت توبته ما كان له من الذنوب مهما كثرت، قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ سورة الزمر : آية 53 ] .
377- في قريتنا رجل كان متزوجًا من امرأة ولها بنت من رجل قبله، وبعد مدة توفيت زوجته، وبعد وفاتها بفترة تزوج ابنتها، فهل يجوز له ذلك ؟ وما معنى قوله تعالى في عرض بيان من يحرم التزوج بهن : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم } الآية [ سورة النساء : آية 23 ] ؟(132/18)
الربيبة من جملة المحرمات كما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية التي ذكرتها، والربيبة هي بنت الزوجة أو بنت أولادها مهما نزلت بنتها لصلبها أو بنت أولادها مهما نزلت فهي ربيبة لزوج الأم لا يجوز له أن يتزوجها، وهذا الذي ذكرت إن كان واقعًا فالعقد باطل على قول جماهير أهل العلم وقوله تعالى : { اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم } [ سورة النساء : آية 23 ] ، وصف لا مفهوم له، وإنما هو لبيان الواقع، وإلا فإن بنت الزوجة التي دخل بأمها أو بنت ولدها تحرم على زوج الأم، ولو لم تكن في حجره حرمة أبدية، ولو لم تكن في بيته، ولو جاءت من زوج آخر بعد أن طلقها فإنها لا تحل له مادام أنه دخل بأمها، هذا قول جماهير أهل العلم ولم يقل بمفهوم هذا الوصف إلا قلة وهو قول شاذ لا يعمل به، والله أعلم .
378- لدي أربعة أولاد ونحن في غربة عن بلدنا والسفر بهم قطعة من العذاب والدخل محدود، فما حكم تنظيم الأسرة بالنسبة لي وذلك لأجل معين حتى نستقر ؟
تحديد النسل خوفًا من ضيق الرزق لا يجوز، لأن الرزق بيد الله عز وجل، فهو الذي قدر الآجال والأرزاق وما من مولود يولد إلا وقد قدر له رزقه كما قدر له أجله، والله سبحانه وتعالى يقول : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } [ سورة الأنعام : آية 151 ] ، فهذا فيه شبه من فعل الجاهلية الذين يقتلون أولادهم خشية الفقر، إلا أن هذا يعتبر منعًا لحصول الأولاد خشية الفقر والجاهلية يقتلون الأولاد الموجودين خشية الفقر .(132/19)
وعلى كلٍّ فالعلة واحدة ولا يجوز مثل هذا، والأرزاق بيد الله عز وجل، وتحديد النسل خوفًا من الفقر فيه إساءة ظن بالله عز وجل، فعليك أن تتوكل على الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب، فأحسن الظن بربك ولا تتطرق إليك هذه الهواجس، فأنت لا تدري الخير والمصلحة، يقول الله سبحانه وتعالى : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ سورة البقرة : آية 216 ] ، وإذا كان هذا التنظيم أو تأخير الحمل لداعٍ صحي بالمرأة ككون المرأة مثلاً لا تطيق الحمل والولادة في حالة خاصة أو ظرف خاص لمرضها فإنه لا مانع من أن تعطي ما يمنع الحمل مؤقتًا حتى تزول هذه الحالة التي يشق عليها فيها الحمل والولادة، فهذا يكون من باب الوقاية والعلاج لا من باب تحديد النسل أو تأخير النسل خشية الفقر .
379- امرأة متزوجة من رجل فرض عليها بالقوة، وقد عاشت معه إلى أن انجبت منه الأبناء والبنات، وقد أصيب بمرض في إحدى رجليه، فقامت على رعايته والمراجعة به بالمستشفيات، ولكنه يتنكر لها ولمعروفها ويعاملها أسوأ معاملة ويتهمها بأمور هي منها بريئة، زيادة على إهماله في أمور دينه وارتكابه الكثير من المحرمات حتى المال الذي جمعه أكثره من طرق محرمة، فعندما تطالب بشيء من حقوقها أو مصروفها أو مصروف أولادها يمنعها ويهددها بالطلاق وهي لا تريد الطلاق حفاظًا على أولادها من الضياع، فما الحكم في هذا الشيخ ؟ وما هي نصيحتكم له ولأمثاله ؟(132/20)
الذي ننصح به هذا الشخص أن يتقي الله سبحانه وتعالى في معاشرة زوجته، قال تعالى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ سورة النساء : آية 19 ] ، وقال تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ سورة البقرة : آية 229 ] ، فالواجب عليه أن يعاشر زوجته بالمعروف، وألا يسيء إليها لا سيما إذا كان لها معه مواقف جيدة كما ذكرت في حالة مرضه ومصاحبتها له وحسن صبرها معه في حالة المرض، فإنه يجب عليه أن يكافئها بالمعروف، وأن يعاشر زوجته، والأمر الثاني أنها أحسنت إليه في حالة حاجته ومرضه فليحسن إليها ولا يحرجها ويضايقها ويعكر صفوها، لا سيما وأنها أم أولاده فهو يضر نفسه ويضر أولاده ويعرض نفسه للعقوبة، كما نوصيه أن يتوب إلى الله مما نسبت إليه من ارتكاب لبعض المعاصي أو اكتسابه لبعض المحرمات في المال نوصيه بتقوى الله، وأن يتوب إلى الله من ذلك، وأن يطيب كسبه وأن يحسن عمله إن كان مسلمًا حقًّا .
380- كان متزوجًا من امرأة وقد أصيب بمرض أفقده بعض قواه العقلية ثم سافر من بلده إلى هنا في المملكة للعلاج وقد مكث اثني عشر عامًا متواصلة، وبعد شفائه عاد إلى بلده فوجد زوجته مازالت في بيته ولم يكن يسأل عنها مدة غيابه ولا ينفق عليها بسبب مرضه العقلي، وبعد عودته طلقها وتزوج بأخرى، ويسأل هل عليه شيء من ناحية النفقة عليها في مدة غيابه ( اثنا عشر عامًا ) ، أم لا ؟ فإن كان يجب عليه فكم يقدرها وكم يعطيها ؟
أما النفقة في مدة غيابه وبقائها في عصمته فإن لها عليه النفقة ولا تسقط بمضي المدة فهي دين في ذمته لها يجب عليه أداؤها لها إلا إذا سمحت بها وأسقطتها عنه، وأما كيف يقدرها فهذا يرجع فيه إلى العرف المتعارف عليه في البلد وما يليق بمثلها وحالتها، ومرجع هذا إلى القاضي .
381- ما هي المدة التي يمكن أن يبتعد فيها الرجل عن زوجته في السفر بحثًا عن لقمة العيش ؟(132/21)
المدة التي يمكن أن يبتعد فيها الرجل عن زوجته بحثًا عن لقمة العيش أو للجهاد في سبيل الله أو غير ذلك أربعة أشهر، وهي المدة التي ضربها الله للمؤلي في قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } [ سورة البقرة : آية 226 ] ، وقد أخذ بهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حينما حدَّد للأجناد الذين يخرجون للجهاد والرباط في سبيل الله حدد لغيابهم أربعة أشهر استنباطًا من الآية الكريمة (13) مع زيادة شهرين للمسافة ذهابًا وإيابًا، فإذا كان الإنسان يستطيع أن يأتي إلى أهله خلال أربعة أشهر فإنه يجب عليه ذلك إلا إذا سمحوا له ووافقوا على غيابه أكثر من ذلك فالحق لهم، أو كان هو لا يستطيع الحضور لمانع يمنعه من ذلك فهو معذور حتى يزول هذا المانع، ولو زاد الغياب على أربعة أشهر .
382- امرأة متزوجة من رجل ويقيمون في نفس المدينة التي فيها أهلها ولكن زوجها يمنعها من صلة أهلها أو زيارتهم إلا في الشهر مرة واحدة بالنسبة لأهلها، أما غيرهم من أقاربها من أخواتها وأعمامها وأجدادها لا يسمح لها بزيارتهم، فهل يلزمها طاعته في قطع صلتها بأقاربها ؟ وهل يجوز لها أن تطلب الطلاق لهذا السبب فقط ؟ فقد ضاقت ذرعًا بهذه الحال حتى إنه يرفض أن يزورها أحد في بيته حتى حكم بالعزلة عن الناس فهل يجوز له هذا التصرف أم لا ؟
صلة الأرحام واجبة لزيارتهم والإحسان إليهم، فإن لهم حقًّا من جملة الحقوق التي أوجبها الله سبحانه وتعالى، ولا سيما حق الوالدين، وطاعة الزوج أيضًا واجبة على الزوجة ولا يجوز لها أن تخرج من بيته إلا بإذنه سواء في زيارة قريب أو غير ذلك، فيجب عليها أن تطيع زوجها وألا تخرج إلا بإذنه، لكن لا يجوز للزوج أن يتعسف في حقه وأن يمنعها من زيارة والديها وأقاربها إلا إذا ترتبت على هذا مفسدة، فإن كان يترتب على زيارتهم مفسدة فإن له أن يمنعها من زيارتهم .(132/22)
383- أنا مريض بمرض الكلى وقد نزعت مني الكليتان وأقيم حاليًا في الرياض وأعمل غسيل دم في المستشفى بصفة مستمرة، ولي زوجة في الجمهورية العربية اليمنية ولا أستطيع السفر إليها بسبب هذا المرض لأني لو سافرت وانقطعت عن الغسيل فقد يؤدي ذلك إلى الوفاة، ولي غائب عنها مدة سنة وستة أشهر تقريبًا، ولي منها بنت ولكني لا أرسل لها مصاريفها، ولي عم يعمل في مدينة جدة وهو متزوج أختها الكبيرة وهما ساكنتان معًا ويصرف عليهما معًا وقد طلبت منها الحضور إليَّ فلم ترض فهل عليَّ إثم بأن أبقيها على ذمتي بالرغم من أنها لم تطلب مني الفراق ؟
على كل حال مادام أنك لا تستطيع السفر إليها لمانع المرض الذي ذكرت فإنه لا بأس عليك في ذلك نظرًا للعذر الذي ليس لك فيه اختيار، وأما الإنفاق فإذا كان عندك مال فإنه يجب عليك أن تنفق عليها .
أما إذا لم يكن عندك مال ولا تستطيع الإنفاق عليها ورضيت هي بالبقاء معك بدون نفقة فالحق لها في ذلك ولا إثم عليك في إبقائها مادامت راضية بالبقاء معك على هذه الحالة، وما يفعله عمك من الإنفاق عليها، فهذا هو البر والإحسان ومن صلة الرحم وإعانة الفقير جزاه الله خيرًا، ويشكر على هذا .
وأما مسألة هل تأثم ببقائها معك، فالحق لها كما ذكرنا مادامت راضية بهذا الواقع، وقد عذرتك فلا إثم عليك في ذلك، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يزيل عنك هذا المرض وتستطيع بعد ذلك القيام بحقوق الزوجية .
أما مسألة امتناعها من الحضور إليك في الرياض فهذا ينظر إلى المانع الذي امتنعت من أجله، إن كان لها عذر شرعي، فلا بأس عليها بهذا الامتناع، أما إذا لم يكن لها عذر شرعي فلا يجوز لها أن تمتنع من الحضور إلى زوجها مادام أنه لا يستطيع السفر إليها وهي ليس عندها مانع من الحضور إليه، والله أعلم .
384- لي زوجتان إحداهما أنجبت ثلاثة أطفال والأخرى لم تنجب حتى الآن، فهل أقسم بينهما بالتساوي أم ماذا ؟(132/23)
القسم اللازم هو المبيت، نعم يجب عليك أن تقسم بينهما وكذلك النفقة يجب عليك التسوية بينهما في النفقة والإسكان والكسوة، هذه الأمور لابد من العدل فيها بإعطاء الكفاية لما يكفي لكل واحدة منهما من المسكن ومن المأكل والمشرب ومن الكسوة، وكذلك المبيت يجب عليك القسم بين الزوجات، هذا هو العدل الواجب الذي قال الله تعالى فيه : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } [ سورة النساء : آية 3 ] ، هذا هو العدل المشترط لتعدد الزوجات .
ولا يجوز للسائل أن يحيف مع أم الأولاد ويزيدها على التي لم تنجب بمعنى أنه يقصر في نفقة التي لم تنجب ويتمم نفقة التي أنجبت، فهذا حرام عليه وهذا هو الميل الذي حرمه الله سبحانه وتعالى، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل (14)، والله أعلم .
385- زوجي تزوج بأخرى ولم يعد يعاملني مثل ما يعامل زوجته الثانية وهي غنية عنه بمالها من أبيها، لكن هذا الزوج هجرني فهل له حق عليَّ ؟
يجب على الزوج أن يعدل بين زوجاته في الإنفاق والمسكن والكسوة والقسم في المبيت كل هذا مما يجب عليه العدل بين الزوجات، ولا فرق بين غنية وفقيرة، لأن الكل زوجات له واجب عليه أن يعدل بينهما، والله أعلم .
386- هناك بعض الفقهاء يحلون تعاطي حبوب منع الحمل للسيدات وأيضًا بعض الأطباء هل هم على حق أرجو الإيضاح في ذلك ؟
لا أظن أن أحدًا من الفقهاء يحل تعاطي حبوب منع الحمل، إلا لسبب شرعي كأن تكون المرأة لا تتحمل الحمل، وكان في ذلك خطر على حياتها وخطر على بقائها، ففي هذه الحالة تأخذ حبوب منع الحمل، لأنها أصبحت غير صالحة للحمل، ولأن الحمل يقضي على حياتها، ففي هذه الحالة لا بأس بها للضرورة .(132/24)
وكذلك تعاطي حبوب منع الحمل أو تأخير الحمل بالأصح لفترة بسبب عارض كأن تكون المرأة في حالة مرض أو تكاثر عليها الولادة ولا تستطيع تغذية الأطفال فتأخذ حبوبًا تؤخر عليها الحمل، بحيث تتفرغ لاستقبال الحمل الجديد بعد أن تنتهي من الحمل الأول، في هذه الحالة لا بأس في ذلك .
أما أن تأخذ حبوب منع الحمل من غير سبب شرعي فهذا لا يجوز، لأن الحمل مطلوب في الإسلام، والذرية مطلوبة في الإسلام، فإذا كان أخذ الحبوب فرارًا من الذرية ولأجل تحديد النسل، كما يقوله أعداء الإسلام، فهذا حرام، ولا أحد يقول به من الفقهاء المعتبرين، وأما أهل الطب فقد يقولون هذا لأنهم جُهَّال بأحكام الشريعة .(132/25)
12- كتاب الطلاق
387- سافر أحد أفراد قريتنا وطالت غربته في السفر، فكتب إلى كبير قريتنا رسالة يقول فيها : أخبر زوجتي إن كانت تريد الخلع أن تفعل، ولكن كبير القرية لم يخبر أحدًا بهذه الرسالة، وبعد مضي خمسة وأربعين شهرًا عاد ذلك الرجل إلى أهله وبيته، فهل يقع عليه شيء بسبب ما كتبه أم لا ؟
إذا كان الحال على ما ذكرت أن كبير القرية لم يُبَلِّغ المرأة بتخيير الزوج لها إذا أرادت الفسخ ولم تعلم بذلك ولم يجد منها فسخ فإنها باقية على عقد الزوجية وهي زوجته، لأنه لم يحصل ما يرفع عقد الزوجية، والله أعلم .
388- منذ مدة طويلة وكنت يومها غائبًا عن أهلي، حضرت إلى البيت فوجدت الأخ الأصغر مني يسيل الدم من رأسه، ووالدي وإخواني حوله يعالجون جرحًا في رأسه، فسألت عن الذي جرحه ؟ فقالوا : إن ابن عمه ضربه على رأسه فشجه نتيجة مشاجرة وقعت بينهما، وقد غضبت كثيرًا يومها، وقلت : عليَّ الحرام لأجرحه مثل ما جرح أخي، وبعد مدة قليلة قام شخص بالصلح وصالحهما .
السؤال : ما حكم قولي : ( عليَّ الحرام ) ، والعرف عندنا الذي يقول : عليَّ الحرام كأنما يقول : عليَّ الطلاق، ما حكم هذه اليمين ؟ وهل عليَّ كفارة ؟(133/1)
الذي ينبغي للمسلم في هذه المواقف الصبر والتحمل والحلم وعدم العجلة وعدم التسرع، فما فعلته من هذا التسرع وهذا الغضب لا يليق بك، وأما ما تلفظت به من الحرام على أن تنتقم من الجاني، فهذا يرجع إلى نيتك إذا كنت نويت بالحرام طلاقًا فإنه يكون طلاقًا على ما نويت، وإذا نويت به الزوجة، أي : أن زوجتك عليك حرام، فإنه يكون ظهارًا، فيلزمك كفارة الظهار وهي العتق أولاً، إذا قدرت على إعتاق الرقبة، وإن لم تجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم تستطع الصيام لعذر شرعي فإنك تطعم ستين مسكينًا، هذه كفارة الظهار، أما إذا كنت نويت به يمينًا فقط، لم تنو به طلاقًا ولم تنو به ظهارًا، فإنها تكون يمينًا مكفرة، يلزمك كفارة يمين وهي عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوة عشرة مساكين على التخيير، أيها قدرت عليه أجزأك، أو كسوة عشرة مساكين لكل مسكين ثوب أو إزار ورداء حسب عادة البلد، فإذا لم تستطع شيئًا من هذه الأمور الثلاثة فإنك تصوم ثلاثة أيام لقوله تعالى : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } [ سورة المائدة : آية 89 ] .
389- ما حكم الإسلام في رجل يحلف على زوجته بالطلاق في كل صغيرة وكبيرة، ومع ذلك لا يفي بيمينه ؟ وربما حلف في يوم واحد أكثر من عشر مرات ؟(133/2)
لا يجوز للرجل أن يتخذ الطلاق على لسانه دائمًا ويحلف به، لأن الطلاق لفظ خطير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( أبغض الحلال عند الله الطلاق ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 2/261 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/650 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 7/322 ) ، ورواه الحاكم في " المستدرك " ( 2/196 ) بنحوه، كلهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ] ، فالتلاعب به والتساهل في شأنه والحلف به والإكثار من ذلك كل هذا لا يجوز، فعلى المسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وإذا حلف بالطلاق وخالف ما حلف عليه فهذا لا يخلو من أحد أمرين :
الأول : أن يكون قاصدًا للطلاق، وأنه يقصد أن امرأته تطلق إذا حصل هذا أو لم يحصل الذي حلف عليه، فإنها تطلق عند حصوله أو عدم حصوله حسب ما يحلف على النفي أو على الإثبات .
أما إذا كان قصده ما يقصد باليمين وهو المنع من الشيء أو الحث عليه أو التصديق أو التكذيب، فهذا على الصحيح أن فيه كفارة اليمين، يكفر كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة إن أمكن، يعني أنه مخير بين هذه الأمور الثلاثة : العتق، أو الإطعام، أو الكسوة، فإذا لم يجد شيئًا من هذه الثلاثة ولم يستطع فإنه يصوم ثلاثة أيام ويكون هذا كفارة ليمينه، والله تعالى أعلم .
390- لو كان يقصد الطلاق ووقع الطلاق فعلاً فما الحكم في التكرار ؟
يتكرر الطلاق، فإذا بلغ ثلاث مرات تبين بينونة كبرى، إذا بلغ ثلاثة مرات وهو يقصد الطلاق في كل مرة، ثم يحنث باليمين، فإنها تطلق وتبين منه بيونة كبرى، أما إذا كان لم يبلغ الثلاث فإنها تكون رجعية له أن يراجعها ما دامت في العدة .
391- تشاجر رجل مع زوجته فشتمته وتكلمت عليه فقال لها : أنت طالق، ثم أعادت عليه تشتمه، فقال مرة أخرى : أنت طالق، فأعاد هو وأعادت هي عدة مرات تزيد على ثلاث مرات، فما الحكم في هذه الحالة ؟(133/3)
الحكم في هذه الحالة أن زوجته قد بانت منه، لأنه طلقها ثلاث طلقات متفرقات هي تطلق بذلك طلاقًا بائنًا لا تحل له إلا بعقد جديد بعد أن يتزوجها زوج آخر زواج رغبة لا زواج تحليل، قال الله تعالى : { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } [ سورة البقرة : آية 230 ] .
392- أنا أعمل في الجمهورية اليمنية وأسكن مع زميلين لي في مسكن من ثلاث غرف، وحدث مرة نزاع مع أحد الزميلين حول أحد المواضيع، وثار غضبي، وقلت : عليَّ الطلاق بالثلاث حتى هذه الغرفة لا أقعد معك فيها، وكنت آنذاك في حالة غضب، فلا أدري هل أنا قلت بالثلاث أم لا، ولكن بعض الزملاء الحاضرين يقولون : إني لم أقل بالثلاث، فندمت بعد ذلك كثيرًا وفعلاً نقلت فراشي ولم أجلس معه في تلك الغرفة، بل انتقلت إلى غرفة أخرى في نفس المسكن، ولكني أحيانًا اضطر إلى الدخول إلى تلك الغرفة للحاجة فهل يقع عليَّ الطلاق في هذا ؟ علمًا أني عقدت النكاح على فتاة فقط ولم أدخل بها ؟
أولاً : لا ينبغي للإنسان أن يجعل الطلاق قريبًا من لسانه يتلفظ به في كل مناسبة، لأن الطلاق لفظ ثقيل يترتب عليه محاذير وأضرار، فيجب على المسلم أن يبعد الطلاق من لسانه ولا يتخذه سلاحًا يتلفظ به عند كل مناسبة، أما بالنسبة لما صدر منك أيها السائل من أنك تشاجرت مع زميلك أو مع زملائك فتلفظت بالطلاق أن لن تدخل غرفة فيها الذي تنازعت معه فهذه فيها تفصيل : إن كنت أردت منع نفسك من الدخول فقط واستعملته استعمال اليمين وهو أنك منعت نفسك من الدخول ولم تقصد تطليق زوجتك فهذا يجري مجرى اليمين على الصحيح، وتكفر كفارة اليمين وهو إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من الطعام أو تكسوهم لكل مسكين ثوب يجزيه في صلاته وبذلك تحل يمينك وتدخل الغرفة وتسكن مع زميلك .(133/4)
أما إذا كنت قصدت الطلاق ولم تقصد اليمين وعلقته على دخولك الغرفة فهذا إذا حصل الدخول وقع الطلاق، وبما أنك لم تدخل بهذا الزوجة فإنها تبين منك ولا رجعة لك عليها، فإذا كان الطلاق أقل من ثلاث فلك أن تعقد عليها عقدًا جديدًا برضاها، أما إذا كان لطلاق ثلاثًا فإنها تكون بانت بينونة كبرى لا تحل لك إلا بعد أن تنكح زوجًا آخر نكاح رغبة لا نكاح تحليل ويطلقها بعد وطئها .
393- أنا رجل متزوج وقد حصلت بيني وبين زوجتي مشاجرة فغضبت جدًّا وقلت لها : طالقة على جميع المذاهب، وهي أيضًا حرمتني على نفسها وقالت بأنك أخي بعد اليوم ولم يطل بيننا الخصام فقد رجعنا إلى بعض بعد أن هدأت أعصابنا، فهل في رجوعنا هذا شيء مخالف بعد أن حدث ما حدث مني من طلاق ومنها من تحريم، أفيدونا جزاكم الله خيرًا ؟
أولاً كلاكما مخطئ في هذا التصرف، لأن الواجب على المؤمن إذا مسه شيء من الغضب أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يملك لسانه من النطق الفاحش والكلام السيئ؛ لأن الشيطان يتسلط على الإنسان عند الغضب لأن الغضب من الشيطان، فالواجب علاجه بالاستعاذة بالله من شر الشيطان كما قال تعالى : { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ سورة الأعراف : الآيتين : 200، 201 ] ، هذا هو الواجب على المسلم عندما يصيبه شيء من الغضب .(133/5)
أما بالنسبة لما حصل منكما من أنك تلفظت بالطلاق وهي تلفظت بتحريمك عليها كحرمة أخيها فهذه ألفاظ بذيئة وألفاظ محرمة وبما أنك قد راجعتها فإذا كانت الرجعة صادفتها في العدة ولم يكن الطلاق متكاملاً ثلاث تطليقات، فإن الرجعة صحيحة أما إذا كان هذا الطلاق يكمل طلاقًا سبق قبله إلى ثلاث تطليقات فإنه لا رجعة لك عليها، أو كانت الطلقات دون الثلاث ولكنها قد خرجت من العدة فإنك أيضًا لا رجعة لك عليها إلا بعقد جديد وإذا كانت تكاملت الثلاث فليس لك عليها رجعة إلا بعد أن تتزوج بزوج آخر زواج رغبة ثم يطلقها باختياره ورغبته عنها .
أما بالنسبة لما صدر منها من التلفظ بتحريمك عليها كحرمة أخيها فهذا على الصحيح من أقوال أهل العلم يجري مجرى اليمين فعليها كفارة يمين بأن تعتق رقبة أو تطعم عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من الطعام أو تكسو عشرة مساكين لكل مسكين منهم ثوب يجزيه في صلاته، فإذا لم تجد واحدة من هذه الأمور الثلاثة فإنها تصوم ثلاثة أيام، والذي أنصح لكما به هو أن تتجنبا مثل هذه الألفاظ وأن لا يحملكم الغضب على الوقوع في مثل هذا، لأن هذا من الشيطان وربما يوقعكما في حرج لا تستيطعان الخلاص منه .
394- كانت زوجتي تريد القيام بعمل ما وكنت في ذلك الوقت غاضبًا فقلت لها : إن قمت بهذا العمل فأنت طالق، ولأنه لم يحن وقت أدائها ذلك العمل وبعد مضي زمن قليل وبعد أن هدأ غضبي أذنت لها بالقيام في ذلك العمل وحينما حان وقت أدائها ذلك العمل عملت فهل وقع طلاقي الأول أم أن سماحي لها بعده يلغيه أفيدوني جزاكم الله خيرًا ؟(133/6)
سماحك لها لا يلغي الطلاق الذي حلفت به عليها أو علقت طلاقها بهذا الشرط الذي ذكرت، فالرجوع عن ذلك لا يفيدك شيئًا، والطلاق باقٍ بحاله إذا فعلت ما أردت منعها منه فإنه إن كان قصدك بالطلاق منعها فقط ولم تقصد تعليق طلاقها عليه، فإنه يكون عليك كفارة يمين، لأن هذا يجري مجرى اليمين أما إذا كان قصدك مما ذكرت تعليق الطلاق على فعلها هذا الشيء فإنه يقع عليك الطلاق إذا فعلت ما علقته عليه .
395- لكن لو كان وقت أن حلف عليها أن لا تفعل لو كان في قرارة نفسه أو حقيقتها ينوي ذلك الوقت ولم يقصد المستقبل المستمر ؟
إذا كان ينوي وقتًا محددًا أنها لا تفعل هذا الشيء في وقت محدد ثم مضى فإنها تنحل اليمين بمضيه إلى مضي الوقت، أما إذا كان لم يحدد وقتًا وإنما أراد منعها من هذا الفعل في أي وقت من الأوقات فإن الحكم يتعلق به متى فعلته وذكرنا أنه إذا كان قصده تعليق الطلاق فإنه يقع فإن لم يسبقه طلاق يكمل به ثلاثًا فإنه يكون طلاقًا رجعيًّا له أن يراجعها مادامت في العدة أما إذا تكمل فيما سبقه ثلاث طلقات فإنه تبين منها بينونة كبرى فلا تحل له إلا بعد زوج آخر .
396- قد سمعنا من العلماء أن كل رجل طلق امرأته طلقة واحدة ترجع له بدون عقد، والذي يطلقها مرتين ترجع له بعقد ومهر جديدين، والثالث ترجع له بمحلل يعقد عليها رجل ويطلقها ؟ أرجو الإفادة عن الحقيقة في هذا الموضوع جزاكم الله خيرًا ؟
إذا طلق امرأته طلقة أو طلقتين ولم يسبقهما طلاق ولم يأخذ على هذا الطلاق عوضًا فإن له أن يراجعها ما دامت في العدة؛ لأن هذا يسمى بالطلاق الرجعي، أما إذا كان سبق على الطلقة أو الطلقتين طلاق بحيث يكون المجموع ثلاث طلقات فإنها تكون بائنًا بينونة كبرى لا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجًا غيره نكاح رغبة ثم يطلقها، وكذلك إذا كان الطلاق دون الثلاث وانتهت العدة قبل الرجعة فإنه ينتهي وقت الرجعة ولا تحل له إلا بعقد جديد .(133/7)
أما إذا طلقها ثلاث طلقات فإنها حينئذ تبين منه بيونة كبرى، ولا تحل له إلا بعد أن يتزوجها زوج آخر زواج رغبة لا زواج تحليل ثم يطلقها بعد أن دخل بها، أما إذا تزوجها زوج آخر لا رغبة له فيها، وإنما يريد بذلك أن يحللها للأول فهذا نكاح باطل، وملعون من فعله، وهذا هو التيس المستعار الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم (15)، ومثل هذا النكاح لا يبيحها للزوج الأول لأنه نكاح حيلة لا نكاح رغبة؛ والله تعالى أعلم، قال الله تعالى : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [ سورة البقرة : الآيتين 229، 230 ] .
397- حلفت على زوجتي بالطلاق على الامتناع عن أخذ بعض أمتعتها حين سفرها فأبت وأخذتها، وأنا لا أستطيع عمل شيء منعًا للمشكلات التي قد تترتب على المشاجرة معها، وخصوصًا أنني غريب عن وطني وقد سبق لي أن حلفت عليها سابقًا وذهبت إلى أحد العلماء ورد لي اليمين فهل هي طالق في هذه الحالة ؟ وإذا كانت كذلك فما هو الواجب عليَّ تجاه الطفلين اللذين معها ؟(133/8)
إذا حلفت على امرأتك بالطلاق تقصد منعها من فعل شيء كأخذ متاع أو غير ذلك فإن كنت تريد تعليق الطلاق على فعل هذا الشيء، ونويت أنه إذا حصل هذا الشيء فإنه يقع الطلاق فهذا يعتبر طلاقًا يلزمك، أما إذا كان قصدك مجرد المنع ولم تقصد الطلاق، وإنما قصدت منعها من ذلك الشيء فهذا يعتبر يمينًا على الراجح فيه عليك كفارة يمين إذا خالفت زوجتك ما أردته منها، وهي عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من الطعام، أو كسوتهم لكل مسكين ثوب، فإذا لم تستطع شيئًا من هذه الثلاث لا العتق ولا الإطعام ولا الكسوة فإنك تصوم ثلاثة أيام، ويكون ذلك كفارة لحلفك بالطلاق، وهو الصحيح من قولي العلماء لقوله تعالى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ سورة التحريم : آية 2 ] ، وهذا يعم يمين الطلاق، والله أعلم .
398- رجل متزوج وقد حصل بينه وبين أم زوجته شجار فقال لها : ابنتك عليَّ أمٌّ بعد اليوم، فما الحكم في هذا القول، وهل يجوز أن يعيش مع زوجته بعد هذا القول ؟
إذا قال : ابنتك عليَّ أم، فمعناه أنه ظاهر منها كأنه يقول : هي عليَّ كأمي، أو هي عليَّ كظهر أمي، وهذا حرام كما قال سبحانه : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } [ سورة المجادلة : آية 2 ] ، فهي ليست أمه، وإنما هي زوجته يحرم عليه أن يتلفظ بهذا الكلام، ولكن لما حصل منه هذا الشيء فإنه لا يجوز له أن يمسها حتى يكفر كفارة الظهار وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا على الترتيب :
أولاً : العتق إذا قدر عليه .
ثانيًا : إذا لم يقدر على العتق وجب عليه الصيام .
ثالثًا : إذا لم يستطع الصيام فعليه إطعام ستين مسكينًا ولا يمس زوجته حتى يكفر هذه الكفارة .(133/9)
399- كثيرًا ما يقول الزوج لزوجته عند الاختلاف أو الغضب : إذا لم يعجبك هذا لأمر فإن بيت أبيك مفتوح، فهل يعد هذا القول طلاقًا رجعيًّا، أو يحمل على أن الزوج ملَّك زوجته حرية الطلاق ؟
هذا يرجع إلى نيته إذا كان نوي بهذا الطلاق فإنه يكون طلاقًا؛ لأنه من الكناية، والكنايات من ألفاظ الطلاق غير الصريحة فلا يقع عليها الطلاق إلا بالنية، فإذا كان نوى بقوله : ( بيت أبيك مفتوح ) الطلاق صار طلاقًا، وإذا لم ينو به الطلاق فإنه لا يقع به شيء .
400- قبل حوالي عام قلت لزوجتي وأنا غاضب هذه العبارة : ( خليتك إلى يوم القيامة ) لأنها عصتني في أمر ما طلبته منها، فهل تعتبر هذه طلقة مع العلم بأني منذ ذلك الوقت وأنا هاجرها خوفًا من أن أكون قد طلقتها بذلك القول ؟
إذا قلت : ( خليتك إلى يوم القيامة ) فهذا كناية عن الطلاق وهي كناية تفتقر إلى النية ( نية الطلاق ) فإن نويت بذلك الطلاق فإنها تعتبر طالقًا، لك أن تراجعها مادامت في العدة، فإن تمت العدة ولم تراجعها بانت منك، ولا تحل لك إلا بعقد جديد إذا لم تكن قد استوفيت الطلاق الثلاث، فإن كنت استوفيته فإنها لا تحل لك إلا بعد أن يتزوجها زوج آخر زواج رغبة لا زواج تحليل ثم يطلقها لقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } [ سورة البقرة : آية 228 ] ، ولقوله تعالى : { الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } ، إلى قوله تعالى : { فَإِن طَلَّقَهَا } ، يعني الثلاثة، { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا } يعني الزوج الثاني { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا } [ سورة البقرة : الآيتين 229، 230 ] .(133/10)
401- تزوجت منذ أربع سنوات وقد مَنَّ الله علينا بابنة واستمر زواجنا على ما يرام وبدون أن يكدره شيء، وفي يوم من الأيام حدث سوء تفاهم أدى إلى نزاع بيننا فذهبت إلى المركز وكنت متوتر الأعصاب وفي حالة نفسية سيئة، واستخرجت صك طلاق من المركز بهذا المعنى بثلاث طلقات متفرقات دون أن أنطق بها، علمًا لم يسبق لي أن طلقتها، فهل هذا الصك يعتبر ثلاث طلقات متفرقات دون رجعة أم طلقة واحدة ؟ فإذا كان طلقة واحدة فماذا أفعل لكي أعيد الصك ؟
مادام أنه صدر من المحكمة صك بثلاث طلقات متفرقات على يد القاضي لا تملك رجعتها، وإن كان عندك إشكال فيما صدر منك فأنت تراجع القاضي الذي أصدر الصك .
402- رجل طلق زوجته ثلاثًا، وبعد ذلك أعادها أبوها إليه وعاشا معًا وأنجبت له ولدين، فهل يجوز له ذلك أم لا ؟
هذا السؤال فيه إجمال، إن كان الطلاق ثلاثًا متفرقة، فقد بانت بينونة كبرى، ولا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجًا غيره نكاح رغبة ويطلقها الزوج الثاني، فيتزوجه الزوج الأول بعقد جديد، أما إذا كان لطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة فهذا موضع خلاف بين أهل العلم، يراجع المفتي في بلده فيها .
403- حصل بيني وبين زوجتي نقاش حاد ونحن في بلدنا، فتكلمت كلامًا أغضبني جدًّا فحلفت عليها يمينًا إن ذهبت إلى أي دولة خارجية ألا تكون على ذمتي أو حليلتي، والآن قد خرجت من بلدي إلى هنا في المملكة منذ مدة شهرين فهل زوجتي لازالت على ذمتي أم يكون حلفي عليها واقعًا وبالتالي ماذا عليَّ أن أعمل لكي أسترجعها ؟
إذا كان قصدك من هذا الحلق بالطلاق منع نفسك من السفر إلى دولة أخرى، ولم تقصد تعليق الطلاق على هذا الخروج، فإن هذا يجري مجرى اليمين، فإذا سافرت إلى دولة أخرى فإنك تكفر كفارة يمين، وكفارة اليمين كما هي منصوصة في القرآن الكريم : عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين تخير بين هذه الأمور الثلاثة، فإذا لم تجد واحدة منها فإنك تصوم ثلاثة أيام .(133/11)
أما إن كان قصدك تعليق الطلاق على السفر بأنك إذا سافرت تكون زوجتك طالقًا فقد علقت الطلاق على هذا السفر فإنها تطلق، فإن كان سبق هذا طلاق قبله وتكامل ثلاث طلقات، فإنها تكون قد بانت منك بينونة كبرى لا تحل لك إلا بعد زوج آخر، وإن لم يسبقها طلاق فإنه يكون طلاقًا رجعيًّا يجوز لك أن تراجعها مادامت في العدة، فإن خرجت من العدة قبل أن تراجعها فلابد أن تعقد عليها عقدًا جديدًا لأن العقد الأول انتهى بخروجها من العدة .
404- زوجتي كثيرة الشجار مع والدتي ووالدتي تريد مني أن أطلقها، وأنا حائر بين الوالدة وبين أطفالي ومصيرهم بعد الطلاق علمًا بأني شاب متدين – والحمد لله – ولا أريد أن أغضب الله بالطلاق، أو أغضب والدتي التي أمر الله بطاعتها، وقد قرأت حديثًا عن عبد الله بن عمر ما معناه أن له امرأة كان يحبها وكانت أمه تريد منه أن يطلقها، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأمره بطلاقها، فنرجو الرد أثابكم الله ؟
أولاً : قضية ابن عمر ليست مع أمه وإنما هي مع أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه (16) ، وأما قضية ما ذكرت من حالة زوجتك مع أمك وأنها تشاجرها، وأن أمك تطلب منك طلاقها فهذا واضح من سؤالك أن هذه المرأة تؤذي أمك، ولا يجوز لك أن تقرها على ذلك، فإذا كان بإمكانك أن تأخذ على يدها، وأن تمنعها من هذه المشاجرة وبإمكانك الإصلاح بين أمك وزوجتك فإنه يتعين عليك ذلك ولا تذهب إلى الطلاق، أو إذا كان بإمكانك أن تجعل زوجتك في مسكن وأمك في مسكن آخر وتستطيع القيام بذلك، فهذا أيضًا حل آخر، أما إذا لم تستطع شيئًا من ذلك، وبقيت زوجتك تشاجر أمك وتغضبها فحينئذ لا مناص من الطلاق طاعة لوالدتك وإزالة للضرر عنها، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، وعلى كل حال عالج الأمور بما تستطيع ولعل الله سبحانه وتعالى أن يصلح من أمرك، ولا تجعل الطلاق إلا آخر الحلو إذا لم تستطع حلاً غيره .(133/12)
405- لي أخت متزوجة من رجل يتعاطى شرب الخمر، وذات مرة دخل عليها وعندها ابنها وابنتها منه وأخذ يضربها ويهددها مدعيًا أنها تؤوي رجلاً غريبًا عندها وقال لها : أنت طالق، ثلاث مرات وتحرمين عليَّ مثل أمي، فهل هي بهذا تصبح طالقًا أم لا سواء كان كلامه تحت وطأة السكر أو في حال وعيه وتمام عقله ؟
قضية شرب المسلم للخمر شنيعة وكبيرة من كبائر الذنوب لأن الله جل وعلا حرم الخمر وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ . وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } [ سورة المائدة : الآيات 90-92 ] ، والنبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن شارب الخمر وعاصرها ومعتصرها، لعن فيها عشرة وسماها أم الخبائث (17)، فلا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشرب هذا الشراب الخبيث المفسد للعقل والدين، ورتب الإسلام الحد على شارب الخمر ردعًا له وعقوبة له، وشارب الخمر فاسق لا تقبل له شهادة، وأي مسلم يرضى بمثل هذا لنفسه ؟ ! وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 6/341 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] والأحاديث والوعيد في حق شرب الخمر وشاربه كثيرة جدًّا، فيجب على المسلم أن يحفظ نفسه من هذا الخطر العظيم المؤثر على عقله وعلى أهل بيته وعلى ذريته، أما قضية ما حصل منه من الطلاق وهو في حالة السكر فالذي أراه أن يتصل بالمحكمة الشرعية القريبة(133/13)
أو إلى الإفتاء كتابة أو حضوريًّا لينظروا في موضوعه، لأن الأمر مهم جدًّا، لأنه محل خلاف بين أهل العلم وحكم القاضي يرفع الخلاف .
406- قال الله تعالى في سورة الطلاق : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [ سورة الطلاق : آية 1 ] الآية، ما معنى هذه الآية ؟ وهل المقصود بقوله : { مِن بُيُوتِهِنَّ } إذا كانت ملكًا لهن أم ماذا ؟
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، وخاطب النبي صلى الله عليه وسلم تشريفًا له ثم وجه الخطاب له ولأمته فقال : { إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ سورة الطلاق : آية 1 ] ، وقد ورد تفسير ذلك بأن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ثم يتركها حتى تنتهي عدتها وله أن يراجعها مادامت في العدة، ومفهوم ذلك النهي ن طلاقها في غير هذه الحالة كأن يطلقها وهي حائض، أو يطلقها في طهر جامعها فيه ولم يتبين حملها، أما إذا استبان حملها فإنه يطلقها ولو في الطهر الذي جامعها فيه، وهذا هو طلاق السنة، وهو الذي أمر الله أن تطلق له .
وقوله تعالى : { وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } [ سورة الطلاق : آية 1 ] ، أي تقيدوا بها بأن لا تزيدوا عليها ولا تنقصوا منها، والعدة كما بينها الله سبحانه وتعالى في آيات أخرى في سورة البقرة أن الحائض تعتد بثلاثة قروء، وفي هذه السورة أن الحامل تعتد بوضع الحمل قال تعالى : { وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ سورة الطلاق : آية 4 ] ، وغير الحامل والتي لا تحيض لصغر أو إياس عدتها ثلاثة أشهر .(133/14)
وقوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ } [ سورة الطلاق : آية 1 ] هذا أمر من الله سبحانه وتعالى بتقواه بالتزام هذه الأحكام التي بينها لأنها من مصالح العباد، وتقوى الله هي عبادة الله سبحانه وتعالى بالتزام أمره واجتناب نهيه .
{ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } [ سورة الطلاق : آية 1 ] ، هذا فيه نهي من الله سبحانه وتعالى أن تُخرج المطلقة الرجعية من بيت الزوجية قبل نهاية عدتها، ففي مشروعية اعتداد المطلقة الرجعية في بيت الزوجية وأن لا تخرج منه، لأنها زوجة لها حكم الزوجات ولعل مطلقها أن يراجعها وتكون الفرصة مهيأة للرجعة التي يرغب فيها الشارع فيها مصلحة .
أما إن كانت المطلقة بائنًا فهذا محل خلاف بين أهل العلم هل تجب لها السكنى أو لا تجب ؟ أما الرجعية فلا خلاف أنها تجب لها السكنى والنفقة مادامت في العدة .
{ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [ سورة الطلاق : آية 1 ] ، يعني أنتم لا تخرجوهن أيها الأزواج وهن لا يخرجن بأنفسهم بعدما نهى الأزواج عن إخراجهن نهاهن عن الخروج بأنفسهن برغبتهن { إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [ سورة الطلاق : آية 1 ] ، الفاحشة المبينة قيل : هي الزنا، وقيل : هي البذاءة باللسن بأن يحصل منها بذاءة على الزوج أو على أهل الزوج من سب أو شتم أو غير ذلك فإنها حينئذ يسوغ إخراجها من بيت الزوجية .
والآية عامة للفاحشة المبينة سواء كانت زنًا أو بذاءة أو غير ذلك { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } [ سورة الطلاق : آية 1 ] ، أي : أحكامه التي حددها وبيَّنها لعباده فالتزموها ولا تتعدوها، { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [ سورة الطلاق : آية 1 ] حيث إنه عصى الله سبحانه وتعالى وعرض نفسه للعقوبة .(133/15)
{ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } [ سورة الطلاق : آية 1 ] ، لا ندري لعل الله يحدث رغبة للزوج في الرجعة بعد الطلاق فيكون هذا مما أحدثه الله سبحانه وتعالى بعدما حصل من الطلاق والنفرة عادت المودة، فدلت هذه الآية على تحريم الطلاق البدعي، وهي الطلاق في الحيض أو في الطهر الذي جامعها فيه ولم يتبين حملها، وكذلك دلت على تحريم طلاق الثلاث بلفظ واحد لأنه بدعة، وشرعت للمسلم أن يطلق في حالة يباح لها فيها الطلاق شرعًا، وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه، أو جامعها في الطهر ولكن تبين حملها فحينئذ يجوز له طلاقها، ودلت على سكنى المعتدة الرجعية في بيت الزوجية حتى تكمل عدتها، ودلت على تحريم إخراجها أو خروجها من بيت الزوجية قبل تمام العدة، ودلت على وجوب التقيد بالعدة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها .
407- ما معنى قوله تعالى : { وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ سورة الطلاق : آية 4 ] ؟
ذكر الله في هذه الآية ثلاثة أنواع من المعتدات :
النوع الأول : { وَاللائِي يَئِسْنَ } يعني : يئسن من الحيض " والآيسة هي التي بلغت سن الإياس " بأن بلغت خمسين سنة فهذه تعتد بالأشهر { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ } [ سورة الطلاق : آية 4 ] . كل شهر بدل حيضة؛ لأن الحائض تعتد بثلاث حيض كما في قوله تعالى في سورة البقرة : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } [ سورة البقرة : آية 228 ] يعني : ثلاث حيض فالتي لا تحيض تكون عدتها ثلاثة أشهر بدل ثلاث حيض .(133/16)
والثانية : { وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ } [ سورة الطلاق : آية 4 ] ، وهن الصغار اللاتي لم يبلغن سن الحيض إذا طلقن في هذه الحالة فهن مثل الآيسات يعتددن بثلاثة أشهر لأنهن لا حيض لهن .
والثالثة : المطلقة الحامل فهذه عدتها بوضع الحمل ولو بعد الطلاق بلحظة، فإذا وضعت حملها بعد الطلاق فإنها تخرج بذلك من العدة لقوله تعالى : { وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ سورة الطلاق : آية 4 ] .
408- خرجت من بيت زوجي إلى بيت والدي غاضبة من تصرفات زوجي تجاهي وتجاه دينه ومكثت سنة وثمانية شهور في بيت والدي، وبعد شكوى تقدم بها والدي إلى المحكمة قرر القاضي طلاقي منه وجاءني الخبر بطلاقي واحتساب نفقة الأطفال؛ السؤال : ما حكم الشرع في المدة التي قضيتها عند أهلي بعيدًا عنه وهي سنة وثمانية أشهر لا متزوجة ولا مطلقة بل معلقة فهل عليَّ عدة علمًا بأن الطلاق كان طلقة واحدة ؟ وكم مدة العدة ؟ ثم كيف تكون العدة ؟
أما مسألة المدة التي قضيتها عند والدك وهل لها في هذه المدة نفقة فهذا يرجع إلى القاضي الذي حكم في القضية؛ أما مسألة العدة فإنها تبدأ من صدور الطلاق، أما قبل ذلك فهي في عصمة زوجها لم يصدر عليها طلاق ولو طالت المدة، والعدة إنما تبدأ من صدور الطلاق، ومدتها إن كانت ممن يحضن ثلاث حيض فإذا أتى عليها ثلاث حيض بعد الطلاق فإنها بانتهاء الحيضة الأخيرة وانقطاع الدم يتم بذلك عدتها، وإن كانت ممن لا يأتيها الحيض إما لصغر أو بلوغ سن الإياس خمسين سنة فعدتها ثلاث أشهر، وإن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل، إذن فلها ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن تكون من ذوات الحيض فعدتها أن تأتي عليها ثلاث حيض من حيث طلقها زوجها لقوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } [ سورة البقرة : آية 228 ] .(133/17)
الحالة الثانية : أن لا تكون من ذوات الحيض بسبب صغر أو إياس فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى : { وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ } [ سورة الطلاق : آية 4 ] .
الحالة الثالثة : أن تكون حاملاً فعدتها بوضع الحمل لقوله تعالى : { وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ سورة الطلاق : آية 4 ] ، ويلزمها أثناء العدة أن تصون نفسها ولا تتزين ولا تتعرض للناس أو تظهر بمظهر الزينة بل تلتزم بآداب العدة وأحكامها، والله تعالى أعلم .
409- إنني عابدة ومؤمنة أصوم وأصلي وأقرأ بعض الكتب الدينية؛ وبعد ثلاث سنوات استشهد زوجي وهو ضابط ورضيت بما قدره الله لي في هذا المصاب، وبدأت أقرأ في بعض الكتب الدينية فوجدت أن هناك مدة للحزن على الزوج وهي أربعة أشهر وعشرة أيام مع أن مدة استشهاد زوجي حاليًا ثلاثة أشهر؛ فما هي المدة الصحيحة للحداد على الزوجة التي توفي عنها ؟
أما ما ذكرت من أنك امرأة صالحة وأن زوجك رجل صالح واستشهد فهذا ما نرجوه إن شاء الله للجميع أن يثبت الله الحي على الدين، وأن يغفر للميت المسلم، وما سألت عنه من إحداد المرأة المتوفى عنها زوجها كم مدته ؟ فالله سبحانه وتعالى يقول : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [ سورة البقرة : آية 234 ] ، فعليك أن تتعدي بأربعة أشهر وعشرة أيام عدة الوفاة .(133/18)
وفي أثناء العدة يجب عليك الحداد وهو اجتناب الزينة والطيب والتحسين والزينة في البدن والزينة في الثياب والزينة بالحلي، فالمعتدة من الوفاة لا تتزين لا في بدنها بالخضاب والكحل وما أشبه ذلك، ولا تتزين في ثيابها باللباس ( لباس الزينة ) وإنما تلبس لباسًا عاديًّا، ولا تتزين بلبس الحلي في يديها أو في حلقها ونحرها وما أشبه ذلك مما جرت به العادة؛ كذلك لا تتطيب في أثناء العدة ( عدة الوفاة ) فتجتنب كل ما يُرغِّب في النظر إليها أو يجلب الناس إليها لأنها معتدة؛ وهذه العدة فيها حِكَم عظيمة منها : أولاً معرفة براءة الرحم من الحمل، ومنها : الوفاء بحق الزوج المفارق، ومنها إظهار الأسف عليه في حدود الشرع لا في الجزع والسخط، وإنما في حدود الندم والحزن المشروع، هذا ما يجب عليك في عدة الوفاة عن زوجك المتوفى .
كذلك من أحكام عدة المتوفى عنها زوجها : يجب عليها البقاء في بيت زوجها الذي توفي وهي فيه، ولا تخرج منه إلا لحاجة ضرورية، ويكون ذلك في النهار لا في الليل، وأما في الليل فيلزمها المبيت فيه، وإذا اضطرت إلى الخروج في أثناء النهار تخرج مع تجنب الزينة وتجنب الطيب، والحرص على الابتعاد عن الأشياء المحذورة، وما فات من المدة وأنت لم تحدِّي فيه لأنك لم تعلمي الحكم فلا حرج عليك فيه، لكن الزمي الإحداد في بقية العدة .
410- هل يلزم الحداد على المتوفى المتزوج لغير زوجته كبناته وأخواته مثلاً وبعض قريباته أم لا يختص إلا بزوجته فإن العادة عندنا أن يلتزم كل أقرباء الميت الرجل بالحداد ولبس السواد وعدم التزين؛ فهل يجوز لهم ذلك ؟(133/19)
أولاً : الإحداد إنما هو في حق النساء فقط لا في حق الرجال، فالرجال لا يجوز لهم أن يحدوا على ميت، وإنما الإحداد من خصائص النساء، ومعناه أن تترك الزينة وما يرغب فيها من الطيب والتحسين مدة معينة، وحكمه أنه يباح لغير الزوجة من قريبات الميت ونحوهن ثلاثة أيام فقط، وأما زوجة الميت فإنها يجب عليها الإحداد مدة العدة لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 6/185 ) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها ] ، إذن فالزوجة يجب عليها الإحداد في مدة عدة الوفاة، وأما غير الزوجة من بقية النساء فإنه يباح لهن الإحداد على الميت ثلاث أيام فقط، أما الرجال فإنهم لا يحدون بحال من الأحوال، وأما لبس السواد فهذا لا يجوز ولا يقره الإسلام لا للرجال ولا للنساء، لأنه عبارة عن إظهار الحزن والجزع وليس هذا من هدي الإسلام، فالمرأة المُحِدّة لا تلبس السواد وإنما تلبس الثياب العادية التي ليس فيها زينة وليس فيها ما يلفت النظر، ولا يختص ذلك بلون معين لا أسود ولا أخضر ولا أحمد تلبس ما جرت العادة به ومما لا زينة فيه .
411- امرأة توفي زوجها قبل موسم الحج وحينما جاء وقت الحج سافرت لأدائه وهي لا تزال في العدة؛ فهل عليها شيء في ذلك ؟(133/20)
نعم أخطأت في هذا، لأن الواجب عليها أن لا تسافر للحج، وأن تبقى في بيت الزوجية حتى يبلغ الكتاب أجله، أي : حتى تنتهي عدة الوفاة، لأن المتوفى عنها يجب عليها أن تمكث في بيت زوجها الذي توفي وهي فيه مع إمكان ذلك، تبقى فيه إلى تمام العدة ولا تسافر للحج ولا لغيره، لأن السفر للحج في هذه الحالة لا يجب عليها، وإنما تحج بعد ذلك إذا انتهت العدة وجاء موسم الحج من عام آخر فإنها تحج إذا تيسر لها ذلك مع وجود المحرم، أما بالنسبة لما وقع منها وأنها حجت، وهي معتدة للوفاة، فحجها صحيح في حد ذاته، ولكنها تأثم على سفرها أثناء العدة وتركها المكث في البيت .(133/21)
13- أبواب في الرضاع والحضانة
412- لو تزوج رجل امرأة وأنجب منها أطفالاً، ثم توفي هذا الرجل واتضح يقينًا بعد وفاته أن هذه المرأة من المحرَّمات عليه بالرضاع، فهل يأثم هذا الرجل يوم القيامة ؟ علمًا أنه لم يكن يعلم بأن هذه المرأة تحرم عليه؛ أفتونا مأجورين ؟
من تزوج امرأة تحرم عليه بالرضاع فإنه لا يأثم بذلك لجهله، ولكن إذا علم وجب عليه مفارقتها، ويكون ذلك بمراجعة القاضي، وأولاده منها له لأنه وطئها بشبهة فيلحق به أولاده .
413- إحدى أخواتي رضعت من زوجة والدي وابني رضع من زوجة والدي مع إخوتي فهل يجوز لزوجة والدي أن تكشف لزوجي ؟
لا يجوز لزوجة والدك الكشف لزوجك لأنه أجنبي منها، وكون أخيك وابنك رضعا من زوجته لا يبرر ذلك لأنه لا علاقة لهذه الرضاعة بالمسألة المذكورة؛ لأن الحكم يختص بالراضعين فقط، والله أعلم .
414- طفل نشأ في بيت عمه ورضع من زوجة عمه وبعد مدة تزوج عمه بامرأة ثانية ورزق منها بينت فهل يحل له الزواج من إحدى بنات الزوجة الثانية مع العلم أنه رضع من الزوجة الأولى فقط ؟ أفيدونا وفقكم الله .
ما ذكره السائل من أنه رضع من زوجة رجل وأن لهذا الرجل زوجة أخرى لها بنت فهل يجوز له أن يتزوج من بنات الزوجة التي لم يرضع منها ؟
لا ليس له أن يتزوج ببنات الزوجة الثانية التي هي ضرة للتي أرضعته، هذه المسألة مسألة لبن الفحل، والصحيح أنه يحرم، فتكون هذه البنات أخوات له من الأب من الرضاعة لأن اللبن ثابت عن وطئه فتنتشر الحرمة عليه فيكون أبًا للبنت من النسب وأبًا للرضيع من الرضاعة .
415- أبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا ولي شقيقة قد أرضعت ابن خالي ثم توفي فهل يجوز لي أن أتزوج من أخواته اللواتي ولدن من بعده ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا ؟(134/1)
نعم يجوز لك أن تتزوج من أخوات ابن خالك الذي رضع من أختك اللاتي ولدن من بعده واللاتي ولدن من قبله مادام لم يرضعن من أختك الشقيقة فلا مانع إن تزوجت بإحداهن لأنه ليس بينك وبينهن ما يمنع؛ لأن الحكم يقتصر على المرتضع وفروعه ولا يسري إلى أصوله وحواشيه .
416- رضعت من امرأة وهذه المرأة لها حفيدات فهل يجوز لي أن أتزوج من حفيداتها يعني بنات بناتها ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا ؟
إذا رضعت من امرأة رضاعة تامَّة خمس رضعات في الحولين فإنك تكون ابنًا لها من الرضاعة وتكون بنات أخوات لك من الرضاعة وبنات بناتها بنات لأخواتك من الرضاعة فتكون خالاً لهن من الرضاعة، فلا يجوز لك أن تتزوج من حفيداتها أي من بنات بناتها لأنهن بنات أخواتك من الرضاعة وأنت خالهن قال صلى الله عليه وسلم : ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/149 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] وبنت الأخت من النسب محرمة بنصِّ القرآن الكريم قال تعالى : { وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ } [ سورة النساء : آية 23 ] .
417- رجل رضع من امرأة متزوج أختها يعني أخت المرأة التي رضع منها لكن أختها من أبيها مع العلم أن له منها ثلاث بنات فما هو الحل في ذلك ؟(134/2)
ورد في السؤال أن هذا الرجل رضع من امرأة، وتزوج أختها من الأب فنقول : إذا كان هذا الرضاع متأكد الوقوع وكان خمس رضعات، وكان في الحولين فإنه ينشر الحرمة، وتكون أختها خالة للمرتضع من الرضاعة حتى ولو كانت أختًا لها من أبيها على الصحيح، فإذا ضبط هذا الرضاع بما ذكرنا بأن كان في الحولين وكان خمس رضعات، فإن هذه المرأة التي تزوجتها أيها السائل تكون خالة لك من الرضاعة فيجب عليك مفارقتها حتى ولو كان لك منها أولاد؛ أما مادام الأمر غير منضبط لا تدري كم عدد الرضعات فإن الأصل بقاء النكاح وصحته، فلا تحرم عليك في أمر مشكوك فيه وعليك بمراجعة المحكمة الشرعية للتأكد من هذا الأمر والنظر فيه .
418- هناك امرأة تبَنَّتْ ولدًا وربّته مع أولادها، ولكنها لم ترضعه فهل يجوز لها أن تزوجه من إحدى بناتها ؟ وإذا أرضعته فهل يأخذ لقب أبيهم ويرث ويورث ؟(134/3)
أما مجرد أنها غذت هذا الولد من الصغر وربته من صغره فهذا لا يثبته نسبًا ولا قرابة بينه وبينها وهو أجنبي عنها وعن بناتها فيجب عليها أن تحتجب منه، ويجب على بناتها أن يحتجبن منه؛ لأنه أجنبي عنهن مادام أنه لم يحصل رضاعة، وإنما الحاصل مجرد أنها ربته وغذته من الصغر، وكلمة التبني الواردة في السؤال خطأ؛ لأن التبني منهي عنه في الإسلام، وليس هناك تبنٍ إلا للأولاد من النسب أو الأولاد من الرضاعة، أما مجرد التربية والتغذية للصغير فهي لا تثبت قرابة ولا نسبًا ولا يسمى تبنيًا، أما لو جرى بينه وبينها رضاعة بأن أرضعته رضاعًا كافيًا بأن يكون خمس رضعات فأكثر، وأن يكون ذلك في الحولين، فإنه يكون ابنًا لها من الرضاعة وتكون بناتها أخوات له ومحارمها يكونون محارم له لقوله صلى الله عليه وسلم : ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/149 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] ، وفي حديث آخر : ( الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 6/125 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] ، فهو يكون ابنًا لها في المحرمية فقط ولا ترث منه عند الجمهور بمجرد الالتقاط، ولا توارث بالرضاع إجماعًا؛ لأن الرضاعة لا تثبت ميراثًا وإنما تثبت المحرمية، وما لم يكن هناك رضاعة بين الطفل الملتقط وبينها أو بينه وبين أحد من محارمها فإنه لا بأس بأنه يتزوج من بناتها لأنه أجنبي منها .
419- هل يشترط في الرضاع المحرم أن يكون من ثدي المرضعة مباشرة أم لا يشترط ذلك، فهو يحرم حتى لو كان شربه من إناء أفرغت فيه إحدى المرضعات لبنها ؟(134/4)
لا فرق في تأثير الرضاع من أن يرضع الطفل من الثدي أو يشرب ذلك من إناء أو يوضع اللبن في فمه ويسقى إياه أو يكون من طريق الأنف كالسعوط والوجور وغير ذلك، المهم إذا وصل اللبن إلى جوفه فإنه يقال : إنه قد رضع وتغذي بلبن المرأة لا فرق بين أن يمتصه من الثدي أو يمتصه من الإناء أو يسقى إياه من غير إرادة، كل هذا حكمه واحد .
420- إنني أريد الزواج من ابنة خالتي وعلمت أن خالتي قد رضعت من والدتي معي ونحن أطفال؛ هل يجوز الزواج في مثل هذه الحالة أم لا ؟
ما ذكرته من أن خالتك رضعت من أمك وأن لها بنتًا فهل يصح لك أن تتزوج منها ؟ الجواب أنه إذا كان الرضاع الذي ذكرته خمس رضعات فأكثر وكان في الحولين، فإنه لا يصح لك أن تتزوج من هذه البنت لأنك خال لها من الرضاعة؛ لأن أمها رضعت من أمك فصارت أمها أختًا لك من الرضاعة، وبنتها تكون بنت أختك من الرضاعة، فلا تحل لك، والله تعالى أعلم .
421- متى أبدأ بأطفال بتعليم الدين ؟
يبدأ تعليم الأولاد عندما يبلغون سن التمييز فيبدأ تعليمهم التربية الدينية لقوله صلى الله عليه وسلم : ( مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/130 ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم ] فإذا بلغ الطفل سن التمييز فإنه حينئذ يؤمر والده بأن يعلمه وأن يربيه على الخير بأن يعلمه القرآن، وما تيسر من الأحاديث، ويعلمه الأحكام الشرعية التي تناسب سن هذا الطفل بأن يعلمه كيف يتوضأ وكيف يصلي، ويعلمه الأذكار عند النوم وعند الاستيقاظ وعند الأكل والشرب؛ لأنه إذا بلغ سن التمييز فإنه يعقل ما يؤمر به وما ينهى عنه، وكذلك ينهاه عن الأمور غير المناسبة ويبين له أن هذه الأمور لا يجوز له فعلها كالكذب والنميمة وغير ذلك، حتى يتربى على الخير وعلى ترك الشر من الصغر، وهذا أمر مهم جدًّا غفل عنه بعض الناس مع أولادهم .(134/5)
إن كثيرًا من الناس لا يهتمون بأمور أولادهم ولا يوجهونهم الوجهة السليمة، ويتركونهم مهملين لا يؤمرون بالصلاة ولا يوجهون إلى خير؛ بل ينشئون على جهل وعلى أفعال غير حسنة، ويخالطون الأشرار ويهيمون في الشوارع ويهملون دروسهم؛ إلى غير ذلك من المضار التي ينشأ عليها كثير من شباب المسلمين بسبب إهمال آبائهم، وهم مسئولون عنهم لأن الله حملهم مسئولية أولادهم، قال صلى الله عليه وسلم : ( مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/130 ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم ] ، وهذا أمر وتكليف للآباء، فالذي لا يأمر أبناءه بالصلاة يكون قد عصى النبي صلى الله عليه وسلم وفعل محرمًا، وترك واجبًا عليه ألزمه به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/104 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ] بعض الآباء – وللأسف – مشغول بأمور دنياه، ولا يلتفت لأولاده، ولا يفرغ لهم شيئًا من وقته، وإنما جميع وقته مخصص لأمور الدنيا، وهذا خطر عظيم كثر في بلاد المسلمين ساءت بسببه تربية أولادهم، فأصبحوا لا يصلحون لدين ولا لدنيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
422- لزوجة خالي ابنة من زوج سابق وقد تزوجتها وأنجبت لي طفلة ثم صار بيني وبينها خلاف طلقتها على إثره فرجعت إلى أمها في بيت خالي معها ابنتي البالغة من العمر خمس سنوات مما جعلني أدفع نفقة لبنتي مقابل مأكلها ومشربها وملبسها، وساءني ما هي عليه من سوء الملبس والمنظر حينما أزورها فهل يحق لي المطالبة بأن تعيش ابنتي معي أو أتركها مع والدتها على هذه الحالة السيئة ؟(134/6)
البنت إذا كانت صغيرة أو الطفل ذكرًا أو أنثى قبل سبع سنوات وطلقت أمه يكون تبعها، يكون حق الحضانة لها ويكون عندها إلا إذا تزوجت؛ إذا تزوجت أجنبيًّا من المحرم فإن الطفل يرجع إلى أبيه .(134/7)
14- كتاب القصاص والجنايات
423- يقول الله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ سورة الشورى : آية 40 ] هل معنى هذا أنه يجوز للإنسان المعتدى عليه أن يقابل ذلك بالمثل فيثأر لنفسه ويقتص لها، وإذا كانت البلد التي حصلت فيه الخطيئة لا يحكم بشرع الله فهل يجوز لولي المقتول أن يقتص من القاتل بنفسه إذا لم يحكم له بالقصاص سواء كان ذلك موافقًا للقانون المحكوم به أو لسبب تغيير الحكم برشوة ونحوها إلى صالح المجرم ؟
قوله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ سورة الشورى : آية 40 ] . هذا معناه القصاص في المظالم وأنه يجوز للمظلوم أن يقتص من الظالم بمثل ظلامته، مع أن الله سبحانه رغب في العفو فقال : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ سورة الشورى : آية 40 ] فأباح القصاص، ورغب في العفو، ومقابلة الإساءة بالإحسان، أما قضية أنه يحكم لنفسه بالقصاص، ورغب في العفو، ومقابلة الإساءة بالإحسان، أما قضية أنه يحكم لنفسه بالقصاص، ويأخذ حقه بنفسه، فهذا لا يجوز لأن هذا معناه إشاعة الفوضى في المجتمع، ولكن يرجع في هذا إلى الحاكم الشرعي، ولابد من إثبات المظلمة عند القاضي والحاكم بالقصاص فيها، والذي ينفذ القصاص ولي الأمر، فلا بد من هذه الأمر لأن القصاص له شروط وجوب وشروط استيفاء فلا بد من توفر شروط ثبوت القصاص وشروط الاستيفاء .
424- أنا إنسانة مريضة يضيق النفس وقد أجهضت اثنين من الأطفال حسب أمر الطبيب؛ لأنه نصحني معللاً ذلك بأن الأطفال لا يخرجون إلا بعملية، بحكم الأدوية وقوتها على الجنين وبموافقة زوجي أجهضت مرتين هل هذا حرام أو يجب فيه كفارة . أفيدونا مأجورين ؟(135/1)
أولاً : إجهاض الحمل لا يجوز، فإذا وجد الحمل فإنه يجب المحافظة عليه، ويحرم على الأم أن تضر بهذا الحمل، وأن تضايقه بأي شيء؛ لأنه أمانة أودعها الله في رحمها وله حق فلا يجوز الإساءة إليه أو الإضرار به أو إتلافه، ولا يعتمد في هذا على قول طبيب لأن هذا حكم شرعي، ولا يرجع فيه إلى قول طبيب، والأدلة الشرعية تدل على تحريم الإجهاض وإسقاط الحمل . وأما كونها لا تلد إلا بعملية ليس هذا مسوغًا للإجهاض، فكثير من النساء لا تلد إلا بعملية فهذا ليس عذرًا لإسقاط الحمل، والطبيب بشر يخطئ ويصيب، لا يجوز الاعتماد عليه .
وأما ثانيًا : وهو سؤالها عن الكفارة فإذا كان هذا الحمل قد نفخت فيه الروح وتحرم ثم أجهضته بعد ذلك ومات فإنها تعتبر قد قتلت نفسًا فعليها الكفارة وهي عتق رقبة، فإن لم تجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله، وذلك إذا مضت له أربعة أشهر، فإنه حينئذ يكون قد نفخت فيه الروح، فإذا أجهضته بعد ذلك وجبت عليها الكفارة كما ذكرنا، فالأمر عظيم لا يجوز التساهل فيه وإذا كانت لا تتحمل الحمل لحالة مرضية فعليها أن تتعاطى من الأدوية ما يمنع الحمل قبل وجوده، كأن تأخذ الحبوب التي تؤخر الحمل عنها فترة حتى تعود إليها صحتها وقوتها .(135/2)
425- امرأة تقول سقط طفل في خزان بيتنا حيث كان الخزان مفتوحًا من قبل إخواني الصغار الذين ينظرون ويتسلون بالنظر إلى الأسماك الموجودة فيه، وقد فقدنا الطفل عندما كنا على العشاء حينما ذهبنا للبحث عنه في مداخل البيت وفي الشارع فلم نعثر عليه، ولفت نظري الخزان وهو مفتوح فذهبت إلى إغلاقه خوفًا من أن يسقط فيه أحد الصغار أثناء بحثنا عن الطفل المفقود، وبعد بحث استمر وقتًا من الزمن قال لنا أحد الجيران بأن نبحث في الخزان وفعلاً وجدنا الطفل بداخله وقد فارقت روحه الحياة فهل عليَّ من ذنب لأنني أغلقت عليه الخزان مع العلم بأن المدة التي قضاها الطفل في الخزان كان يمكن أن تكون كافية لإنقاذه بمشيئة الله لو أنني تركت الخزان مفتوحًا، فنحن نمر به عدة مرات أثناء بحثنا، ومع العلم أيضًا أنني لا أعرف أنه فيه مطلقًا فلا يعقل أن أكون أعرف وأغلقه عليه فهو ابن خالتي، هذا من جهة ومن جهة أخرى هل على والدتي من إثم، فالناس يقولون : لابد من أن تصوم ثلاث أشهر لإهمالها وانشغالها بالأكل عن ابنها فهل هذا صحيح ؟
أولاً : ما ذكرت من موت الطفل في الخزان يحتمل أنه مات بسبب تغطية الخزان كما ذكرت، ويحتمل أنه مات بسبب الغرق فما دام الاحتمال موجودًا فإنه لا شيء في ذلك، لأنه لم يتعين أنه مات بسبب إغلاق الخزان عليه .(135/3)
أما إذا تحدد وعرف أنه مات بسبب تغطية الخزان أي أنك وضعت عليه الغطاء وبسبب ذلك مات الطفل فإنه تكون عليك الكفارة، لأنك حينئذ تكونين قد تسببت في قتله وهذا يكون من قبيل القتل الخطأ وقد قال الله سبحانه وتعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } إلى قوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } [ سورة النساء : آية 92 ] فإذا تحدد أو غلب على الظن أنه مات بسبب وضعك الغطاء فإن عليك الكفارة وهي عتق رقبة إن أمكن فإن لم يمكن فتصومين شهرين متتابعين .
ثانيًا : أما الناحية الثانية وهي ماذا على أم الطفل فإذا كانت أم الطفل وضعته عند فم الخزان وهو مفتوح فإنه يلزمه حينئذ كفارة، لأن هذا من التسبب في قتله ويكون التسبب في قتله مشتركًا بينك وبين أمه أنت عليك كفارة وأمه عليه كفارة، أما إذا كانت أمه لم تضعه عند فتحة الخزان وإنما هو دب إليها من بعيد وجاء إليها من بعيد فليس على أمه شيء والله أعلم .(135/4)
15- كتاب الحدود والتعزيرات
426- ما هو القذف وما حكمه ؟
القذف هو الرمي بفاحشة الزنا واللواط هذا هو القذف، وحكمه هو محرم وكبيرة من كبائر الذنوب ورمي الإنسان بالزنا أو اللواط كبيرة من كبائر الذنوب فالله يقول : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [ سورة النور : الآيات 23، 25 ] هذا جزاؤه في الآخرة، أما جزاؤه في الدنيا فهو عدة أمور :
الأول : يقام عليه الحد بأن يجلد ثمانين جلدة إذا لم يأت بأربعة شهود يشهدون على ما نطق به لقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ سورة النور : آية 4 ] .
الثاني : سقوط عدالته لقوله تعالى : { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } [ سورة النور : آية 4 ] .
الثالث : وصفه بالفسق لقوله تعالى : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ سورة النور : الآيتين 4، 5 ] .
والحاصل أن القذف بجريمة الزنا أو اللواط كبيرة من كبائر الذنوب يجب على المسلم أن يطهر لسانه منه وأن يحترم أعراض المسلمين ولا يخوض فيها .
427- ما معنى قوله تعالى : { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا } [ سورة النساء : آية 148 ] ؟(136/1)
قيل : معنى الآية أنه لا يجوز لأحد أن يدعو على أحد إلا إذا كان المدعو عليه ظالمًا له فيجوز للإنسان أن يدعو على من ظلمه، وقيل في معنى الآية : أن من سبّك يجوز لك أن تسبّه من باب القصاص، أما السباب من غير قصاص فإنه لا يجوز فمن سابك أو شتمك جاز لك أن تقتص منه وأن ترد عليه بالمثل .
428- إذا سرق رجل مالاً من غير المسلمين ثم حج بهذا المال وربما بنى منه منزلاً للإيجار فهل حجه صحيح ؟ وهل يجوز له أخذ الإيجار مما بناه من ذلك المال أو لم يحل له أصلاً فماذا يعمل بما حصل منه ؟
لا يجوز للمسلم أن يسرق المال وأن يستعمله في حج أو بناء بيت أو غير ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } [ سورة البقرة : آية 188 ] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/703 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] وما أخذته فإنه يجب عليك أن ترده على صاحبه وأن تتحلل منه وإذا كنت تعرف صاحبه وجب عليك رده عليه ولو بنيت به أو حججت منه فإنه يجب عليك أن ترد بدل المبلغ الذي أخذته منه إلا إذا سمح لك به . أما إذا كنت لا تعرف صاحبه فإنه حينئذ يجب عليك أن تتصدق به على المحتاجين ولو جاء بعد ذلك وطالبك بالمبلغ وجب عليك دفعه إليه وحجك صحيح لكن مع الإثم لأن نفقته حرام لكن إذا فعلت ما ذكرنا مع التوبة الصادقة فلعل الله يتوب عليك .
429- ما الحكم فيمن ارتد عن الإسلام ثم عاد إليه هل يعيد ما فاته من أعمال من أركان الإسلام كالحج والصوم والصلاة أم تكفي توبته وعودته إلى الإسلام ؟(136/2)
الصحيح من قولي العلماء : أن المرتد إذا عاد إلى الإسلام ودخل في الإسلام مرة أخرى تائبًا منيبًا لله تعالى فإنه لا يعيد الأعمال التي أداها قبل الردة لأن الله سبحانه وتعالى اشترط لحبوط الأعمال بالردة أن يموت الإنسان عليها، قال تعالى : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ سورة البقرة : آية 217 ] فشرط لحبوط الأعمال استمرار الإنسان عن الردة حتى يموت الإنسان عليها، فدلت الآية بمفهومها على أن الإنسان لو تاب فإن أعماله التي أداها قبل الردة تكون صحيحة ومجزية إن شاء الله تعالى .(136/3)
16- كتاب الأطعمة
430- أرجو منكم تفسير قول الله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } [ سورة المائدة : آية 3 ] ، ثم عن المتردية والنطيحة هل يحرم أكلهما عندما تموت مباشرة بسبب ذلك أو يحرم أكلهما ولو بقيتا مدة طويلة، ثم ذبحتهما بعد ذلك ؟(137/1)
يقول الله سبحانه وتعالى مخاطبًا عباده المؤمنين الذين ناداهم في مطلع هذه السورة العظيمة بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } [ سورة المائدة : آية 1 ] ، يقول تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [ سورة المائدة : آية 3 ] أي : حرم الله سبحانه وتعالى عليكم أكل الميتة، والميتة هي التي ماتت بغير ذكاة شرعية، وقد خص منها الدليل ميتة السمك والجراد، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أُحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/97 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1101، 1102 ) ، ورواه الدارقطني في " سننه " ( 4/271، 272 ) ، كلهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ] ، فالسمك والجراد أحل الله ميتتهما، وما عدا ذلك فإنه حرام، وقوله تعالى : { وَالْدَّمُ } [ سورة المائدة : آية 3 ] هنا مطلق، ولكن قيدته الآية الثانية في السفوح كما قال تعالى : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } [ سورة الأنعام : آية 145 ] ، والمراد به الذي يخرج من الذبيحة وقت ذبحها ويشخب من أوداجها، أما الدم المتبقي في العروق واللحم فهذا معفو عنه لا بأس بأكله مع اللحم، واستثني من الدم الدمان اللذان مرَّ ذكرهما في الحديث : ( أحلت لن ميتتان ودمان . . . . . وأما الدمان فالكبد والطحال ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/97 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1101، 1102 ) ، ورواه الدارقطني في »سننه« ( 4/271، 272 ) ، كلهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه الله عنهما ] ، وقوله تعالى : { وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } [ سورة المائدة : آية 3 ] هو الحيوان المعروف بالقذارة والدناءة حرم الله أكله لما فيه من الأضرار البالغة، وما يورثه من الأمراض الخطيرة كما قرر ذلك(137/2)
أهل الطب، فإن الخنزير فيه جراثيم وأمراض خطيرة اكتشفت ولا تزال تكتشف، والله جل وعلا لا يحرم على عباده إلا ما فيه مضرة عليهم .
وقوله تعالى : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ سورة المائدة : آية 3 ] المراد به ما ذبح للأصنام تقربًا إليها وما ذبح لسائر المعبودات، وكذلك ما ذبح وسمي عليه غير اسم الله عز وجل كما لو ذبح اللحم وذكر عليه اسم المسيح أو ذكر عليه اسم غيره، ( وما أهل لغير الله به ) يشمل النوعين : ما تقرب به لغير الله ولو ذكر عليه اسم الله، ويشمل ما ذبح لغير التقرب، وإنما ذبح للحم، لكن سمي عليه غير اسم الله سبحانه وتعالى عند الذبح، والمراد بالإهلال رفع الصوت هذا في الأصل، والمراد هنا ما ذكرنا .
وقوله تعالى : { وَالْمُنْخَنِقَةُ } [ سورة المائدة : آية 3 ] قالوا : إن هذا تفصيل للميتة التي ذكرها الله في أول الآية، والمنخنقة هي التي حبس نفسها بحبل أو بغيره حتى ماتت بسبب الخنق، { وَالْمَوْقُوذَةُ } [ سورة المائدة : آية 3 ] هي التي ضربت بشيء مثقل وماتت بالضربة ولو خرج منها دم، لأن المثقل لا يجرحها، وإنما يقتلها بثقله ويرضها فتموت بسبب ثقله، { وَالْمُتَرَدِّيَةُ } [ سورة المائدة : آية 3 ] فهي الساقطة من شيء مرتفع كالسطح أو الجبل أو الجدار أو في حفرة، أو في بئر وماتت بسبب السقطة، هذه هي المتردية، { وَالنَّطِيحَةُ } : هي التي تناطحت مع أخرى كتناطح الغنم بعضها مع بعض، والبقر بعضها مع بعض، فإذا ماتت بسبب المناطحة فهي النطيحة ولا تؤكل، وقوله تعالى : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } [ سورة المائدة : آية 3 ] ، السبع هو الذي يفرس بنابه من الذئاب والأسود وغيرها من السباع المفترسة التي تفرس بأنيابها أو بمخالبها كسبع الطير أو سبع الحيوان، فإذا أصاب الحيوان ومات بسبب إصابته، فإنه يكون ميتة لا يؤكل .(137/3)
وقوله تعالى : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } [ سورة المائدة : آية 3 ] هذا استثناء مما سبق أي إلا ما أدركتموه حيًّا من هذه الأشياء : المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إذا أدركتموه بعد إصابته بشيء من هذه الأمور، وفيه حياة مستقرة وذكيتموه، فإنه حلال، لأنه توفرت فيه شروط الإباحة وهي الذكاة الشرعية، أما ما أدركتموه وقد مات بسبب الإصابة أو أدركتموه حيًّا في الرمق الأخير وحياته غير مستقرة كحياة المذبوح فهذا أيضًا لا يحل، وقال بعض أهل العلم : إن ما أدرك وفيه حياة – أو بقية حياة – وذكي فإنه يحل، ولكن الجمهور على أن ما كانت حياته غير مستقرة كحركة المذبوح فهذا لا يحل بتذكيته، لأنه في حكم الميت .
وقوله تعالى : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } [ سورة المائدة : آية 3 ] المراد بالنصب : الأحجار التي كان أهل الجاهلية يعظمونها ويلطخونها بدم الذبائح تعظيمًا لها وتقربًا إليها، وقيل : إنه الذي يذبحونه على نفس الحجارة تعظيمًا لها فهذه ذبائح شركية ذبحت تعظيمًا لهذه النصب فهي مما لا يحل أكله، وهذا بيان لما كان يفعل في الجاهلية .
431- ما معنى هذه الآيات من سورة المائدة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ . قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ . مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ سورة المائدة : الآيات 101، 103 ] ، وما معنى بحيرة وسائبة ووصيلة وحام ؟(137/4)
الله سبحانه وتعالى ينهى عن السؤال الذي لا حاجة إليه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كثرة السؤال، وقال : ( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/975 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو جزء من حديث أوله : " أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا . . " ] ، وفي هذه الآيات الكريمة ينهى الله المؤمنين عن أن يسألوا عن أشياء لا حاجة بهم إليها ولا هي مما يعنيهم في أمور دينهم ودنياهم، ولو ظهرت لهم هذه الأشياء وكلفوا بها لشقت عليهم وساءتهم، وهذا نهي من الله من كثرة سؤالهم للرسول صلى الله عليه وسلم في أمور لا تعنيهم ولا يحتاجون إليها ويكون في السؤال عنها والإجابة عليها مشقة عليهم وعلى غيرهم، فإنها إذا وقع السؤال عنها في حال وجود الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه حصلت الإجابة عليها، فكان ذلك سببًا للتكاليف الشاقة، وفي ترك السؤال عنها سلامة من ذلك، لأنها مما عفا الله عنه أي تركه ولم يذكره لشيء فلا تبحثوا عنه .
ثم إنه سبحانه بيَّن أن السؤال عن هذه الأشياء التي لا ينبغي السؤال عنها وقعت فيها الأمم السابقة فكانت عاقبة ذلك سيئة في حقهم حيث لم يعملوا بها لما بينت لهم فعوقبوا بسببها والمراد بالآيتين عمومًا النهي عن السؤال الذي لا تدعو الحاجة إليه، أما ما دعت الحاجة إليه من أمور الدين والدنيا فقد شرع الله السؤال عنه بقوله : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ سورة النحل : آية 43 ] ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإن شفاء العي السؤال ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/91 ) من حديث جابر رضي الله عنه، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/189 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه ] .(137/5)
وأما المراد بقوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } [ سورة المائدة : آية 103 ] الآية، فهذا الكلام مبتدأ يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه في بهيمة الأنعام من شريعة الجاهلية حيث جعلوا منها البحيرة وهي التي تشق أذنها ويمنعون من ركوبها وحلبها وأكل لحمها، والسائبة هي التي تترك، فلا تمنع مرعى ولا ماءً ولا تركب ولا تحلب ولا يجز وبرها، والوصيلة هي الناقة أو الشاة إذا نتجت عددًا معينًا من الولد متواصلاً، فإنهم يجعلونها للأصنام، والحام : الجمل الفحل إذا حمى ظهره من أن يركب كانوا إذا أنتج الفحل عددًا معينًا قالوا : حمى ظهره فلم يركبوه، وهذه من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها، والله عز وجل قال في مطلع هذه السورة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } [ سورة المائدة : آية 1 ] ، فالله جل وعلا أحل المشروع إلا ما كان منها ميتة، كما قال تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } [ سورة المائدة : آية 3 ] .
432- ما معنى قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ سورة البقرة : آية 219 ] ؟(137/6)
الله سبحانه وتعالى حرم الخمر على التدريج لما كان الناس في أول الإسلام مغرقين في شرب الخمر، ولا يستطيعون تركه دفعة واحدة إلا بالتدريج شيئًا فشيئًا، فالله جل وعلا من حكمته حرمه على التدريج، في الأول قال سبحانه وتعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ سورة البقرة : آية 219 ] ، فبين سبحانه وتعالى أن ضرر الخمر أكثر من نفعه، والعاقل إذا عرف أن ضرر الشيء أكثر من نفعه فإنه يبتعد عنه، لأن الإنسان لا يريد لنفسه أن يأخذ شيئًا أو يتناول شيئًا ضرره أكثر من نفعه، فالعاقل من حين يسمع هذه الآية فإنه يترك الخمر والميسر، لأن العقل يأمره بذلك، لأن مفسدته راجحة، والعاقل لا يقدم على شيء مفسدته راجحة، ثم في المرحلة الثانية حرمه عليهم في بعض الأوقات، وهي الآية التي في سورة النساء وهي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [ سورة النساء : آية 43 ] ، فحرمه عليهم في وقت وهو وقت الصلوات، وإذا كان محرم على المسلم أن يشرب الخمر في وقت الصلاة مع أن الصلوات الخمس تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، فهذا يأخذ عليه وقتًا طويلاً يحرم عليه شرب الخمر في اليوم والليلة فيكون قد خفت عليه وطأت الخمر، لأنه يتركه في فترات خمس من اليوم والليلة، فحينئذ تخف وطأته عليه، ثم إنه جل وعلا بعد ذلك حرمه تحريمًا قاطعًا في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ(137/7)
اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ . وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } [ سورة المائدة : الآيات 90-92 ] .
فحرم الخمر تحريمًا قاطعًا في جميع الأوقات وفي جميع عمر الإنسان ولم يبق لها وقت من حياة الإنسان، بل هي حرام على المسلم طول عمره، وكانت هذه هي نهاية الخمر، وهي أن الله أراح المسلمين منه، وحرمه عليهم تحريمًا قاطعًا، وأمرهم باجتنابه، وقال : { فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ سورة المائدة : آية 90 ] .
433- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 3/321، 399 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 2/195 ) بنحوه، ورواه الدارمي في " سننه " ( 2/409 ) بنحوه، ورواه الخطيب التبريزي في " مشكاة المصابيح " ( 2/845 ) ، كلهم من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، عدا الخطيب التبريزي فهو من حديث جابر رضي الله عنه ] ، ما معنى شرح هذا الحديث يا فضيلة الشيخ ؟(137/8)
أولاً : الحديث ضعيف هو مروي عن أبي بكر رضي الله عنه، وله روايتان : الرواية الأولى : ( لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 3/321، 399 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 2/195 ) بنحوه، ورواه الدارمي في " سننه " ( 2/409 ) بنحوه، ورواه الخطيب التبريزي في " مشكاة المصابيح " ( 2/845 ) ، كلهم من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، عدا الخطيب التبريزي فهو من حديث جابر رضي الله عنه ] والرواية الثانية : ( لا يدخل الجنة جسد غُذي بالحرام ) [ رواه الخطيب التبريزي في " مشكاة المصابيح " ( 2/848 ) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ] ، والسحت هو الحرام، ومعنى الحديث : أن كل جسم ولحم تغذى بالحرام فإنه يكون يوم القيامة في النار عقوبة له، لأن الله سبحانه وتعالى حرم الخبائث والمكاسب المحرمة، وأمر بالأكل من الطيبات وما أباح الله سبحانه وتعالى لعباده، لأن المحرم يغذي تغذية خبيثة، وأما الطيب فإنه يغذي تغذية طيبة، وله آثار حميدة على جسم الإنسان وعلى تصرفاته وأخلاقه، وأما الخبيث فإنه يغذي الجسم تغذية خبيثة، وينعكس ذلك على تصرفات الشخص وأعماله، فإنها تكون خبيثة بتأثير طعامه الخبيث، فدل هذا على ما للمطعم من أثر على الإنسان، وأنه يتأثر به خيرًا إذا كان مطعمًا طيبًا، ويتأثر به شرًّا إذا كان مطعمًا خبيثًا، قد قال الله سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [ سورة المؤمنون : آية 51 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ سورة البقرة : آية 172 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا } [ سورة البقرة : آية 168 ] ، فأمر الناس عمومًا بالأكل من الحلال الطيب، وأمر(137/9)
المؤمنين خصوصًا بالأكل من طيبات ما رزقهم الله عز وجل، وأن يشكروا الله على نعمته، هذا يدل على الاهتمام بالمطعم، وأن الإنسان يهتم بما يغذي به جسمه ويتجنب الحرام، وقد صح في الحديث أن أكل الحرام يمنع من قبول الدعاء، كما في حديث المسافر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول : يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي في الحرام فأنى يستجاب لذلك ؟ ! وهذا أمر مهم جدًّا .
434- نستورد من الدول الأجنبية لحمًا خاليًا من العظام وغير مطبوخ وقد كثر استخدامه لبخس ثمنه، فهل يجوز لنا أكله بحالته تلك ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا ؟
اللحوم المستوردة من غير بلاد المسلمين لها حالتان :
الحالة الأولى : أن تكون من بلاد كتابية يعني أهلها يدينون بدين أهل الكتاب : اليهود أو النصارى، ويتولى ذبحها كتابي على الطريقة الشرعية، فهذا النوع حلال بإجماع المسلمين لقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } [ سورة المائدة : آية 5 ] ، وطعامهم : ذبائحهم بإجماع أهل العلم، لأن غير الذبائح حلال من أهل الكتاب وغيرهم كالحبوب والثمار مما لا يحتاج إلى ذكاة وكالفواكه وغيرها .
الحالة الثانية : ما كان مستوردًا من بلاد كافرة غير كتابية كالبلاد الشيوعية والوثنية فهذا لا يجوز أكله ما لم يتول ذبحه مسلم أو كتابي، وما شُكَّ في ديانة ذابحه، أو شُكَّ في طريقة ذبحه : هل كان على الطريقة الشرعية أو غير الطريقة الشرعية ؟ فالمسلم مأمور بالاحتياط وترك المتشابه وفيما لا شبهة فيه غنية عن المشتبه، فالأطعمة لها خطورة عظيمة إذا كانت أطعمة خبيثة، لأنها تغذي تغذية خبيثة، والذبائح بالذات لها حساسية عظيمة، فيشترط فيها أن تكون الذبائح من أهل الذكاة وهو المسلم أو الكتابي، وأن تكون التذكية على الطريقة الشرعية، وإذا لم يتوفر هذا الشرطان فهي ميتة والميتة حرام .(137/10)
وعلى كل حال هذه اللحوم التي ذكرت إذا كانت لحومًا مستوردة من بلاد كتابية ومذبوحة على الطريقة الشرعية فهي مباحة، وإذا ذكيت على الطريقة غير الشرعية كالصعق بالكهرباء أو ما أشبه ذلك فهذا حرام، وإذا اشتبه عليك أمرها فاتركها إلى ما لا شبهة فيه، والله أعلم .
435- نحن من السودان ونعمل في العراق وهناك من يطبخون الطعام لنا علمًا بأنهم لا يدينون بالدين الإسلامي، ما رأي الشرع في نظركم في هذا الطعام الذي نتناوله عندما يطبخونه لنا ؟
لا شك أن المسلم ينبغي له أن يتجنب الكفار ومخالطتهم والأكل معهم واستعمالهم في أعماله الخاصة، لأنهم أعداء لله ولرسوله، وفي مخالطتهم شر، والله جل وعلا يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } [ سورة آل عمران : آية 118 ] ، فهم أعداء الله، وأعداء رسوله، وأعداء المؤمنين، لا يجوز للمسلم أن يثق بهم، وأن يوليهم شئونه الخاصة، وأن يؤاكلهم ويجالسهم مطمئنًا إليهم ومنشرحًا صدره إليهم ومستأنسًا بهم لا يجوز للمسلم هذا، بل يجب عليه أن يفارقهم وأن يبعدهم عن أموره الخاصة لا في الطبخ ولا في غيره، أما أكل الطعام الذي طبخوه فلا بأس به إلا إذا وضعوا فيه موادًّا محرمة، كلحم خنزير ومشتقاته أو شيء من ذبائحهم إذا كانوا غير كتابيين فذبائح غير أهل الكتاب محرمة وهي ميتة، فإذا وضعوا في الطعام شيئًا من ذبائحهم المحرمة أو من لحم الخنزير ومشتقاته فإنه يحرم على المسلم أن يأكل منه، أما إذا خلا من هذه المحاذير فلا بأس أن يأكل المسلم من طعامهم وما طبخوه، ولكن كما ذكرنا يحرص على الابتعاد عنهم وتوليتهم شئونه الخاصة، لأنهم غير مأمونين .(137/11)
436- نحن جماعة في قرية في الصعيد ويوجد في هذه القرية الكثير من الجزارين وهم يدينون بالديانة المسيحية ونحن نأكل من هذا اللحم الذي يبيعونه لنا، هل هذا حرام يا فضيلة الشيخ ؟ أفيدونا بذلك ؟
هذا ليس بحرام، لأن ذبائح أهل الكتاب مباحة بدليل قوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ } [ سورة المائدة : آية 5 ] ، والمراد بطعامهم هنا ذبائحهم، فالله أباح لنا أن نأكل من ذبائح أهل الكتاب، لكن بشرط أن يكونوا ذبحوها على الطريقة الشرعية، أما إذا ذبحوها بغير الطريقة الشرعية كالصعق الكهربائي والخنق أو الوقذ أو ما أشبه ذلك فإنها لا تؤكل ذبائحهم، كما لا تؤكل ذبيحة المسلم إذا فعل هذه الأشياء، فالمسلم إذا ذكى على غير الطريقة الشرعية لا تؤكل ذبيحته، كذلك الكتابي من باب أولى إذا ذكى على غير الطريقة الشرعية فإنها لا تؤكل ذبيحته .
437- أنا مهندس زراعي متخصص في الإنتاج الحيواني وأعمل في مزارع الدجاج، وقد وقع خلاف بيني وبين خطيبتي حول هذا العمل، فهي تقول : إن فيه شبهة ويجب تركه، لأن علف الدواجن في الغالب عبارة عن دم مجفف ومخلفات المجازر وأسماك ميتة مجففة، فهل هذا العمل فعلاً يجب تركه رغم أن هذا تخصصي وهو العمل الوحيد الذي أعيش منه ؟
إذا كان علف الدواجن مكونًا من النجاسات فإنه لا يجوز أكلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلالة (1) ، وهي التي تأكل النجاسات من الدوام حتى تحبس وتطعم الطاهر، وبالتالي لا يجوز للإنسان أن يقوم بعمل تربية الدواجن من هذه المادة النجسة ويبيعها على الناس من أجل أكلها، لأن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه، والواجب على المسلم أن يلتمس عملاً آخر غير هذا العمل لطلب الرزق، وبإمكانه أن يستبدل العلف النجس بعلف طاهر ويستمر في عمله في إنتاج الدواجن .(137/12)
438- في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال : ( الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/19 ) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ] ، ما المعني بالأمور المشتبهات ؟ وهل يمكن أن تكون السيجارة من الأمور المشتبهات ؟
الأمور المشتبهات المطلوب اجتنابها هي التي اختلف فيها أهل العلم هل هي حلال أم حرام نظرًا لاختلاف الأدلة فيها، ولم يترجح فيها قول على قول، فتركها من باب الاحتياط أسلم لدين المرء وعرضه، وأما السيجارة ( الدخان ) فهي حرام بلا شك، وذلك لضرر الدخان البالغ، وليس فيه شيء من المنافع، ولا حجة مع من يرى عدم تحريمه حتى يُقال : إنه من المختلف فيه، بل الحجة الواضحة مع من يرى تحريمه فليس هو من المشتبهات وإنما هو من المحرمات فيجب على المسلم تركه، وليس كل خلاف ينظر إليه، وإنما ينظر إلى الخلاف الذي له وجه في الشرع، والله أعلم .
439- نقوم بشراء اللحمة من الجزارين ولا نعلم هل يصلون أم لا، ويغلب على ظننا أنهم لا يصلون، لأننا لا نراهم في المساجد المجاورة لهم مع العلم أننا سألناهم عن الذي يقوم بعملية الذبح، فقالوا : نحن الذين نذبح، فهل يجوز الشراء منهم بعد الظن بعدم صلاتهم ؟ أفتونا وجزاكم الله خير الجزاء ؟(137/13)
اللحم الذي يباع في أسواق المسلمين من حيوانات مذبوحة في بلاد الإسلام، الأصل فيه الحل – والحمد لله – ولا ينبغي السؤال عنه ما لم يتبين ويتحقق أنه من غير ذكاة شرعية، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوم حديثي عهد بالإسلام يجلبون اللحوم في أسواق المسلمين، ولا يدري أذكروا اسم الله أم لا، فقال عليه الصلاة والسلام للسائلين : ( سموا الله أنتم وكلوا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 6/226 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] يعني التسمية التي تكون على الأكل، فلم يكن للشك الذي دار في أذهان السائلين مجال في تحريم اللحم – والله أعلم – وكون هؤلاء المسئول عنهم يتساهلون في صلاة الجماعة لا يقتضي تحريم ذبائحهم، لأن ترك صلاة الجماعة وإن كان محرمًا إلا أنه لا يخرج من الملة ولا يعتبر به الإنسان كافرًا .
440- هل يجوز للمرأة أن تقوم بعملية الذبح للبهائم أم أن هذا الفعل خاص بالرجال ؟
لا حرج في ذبح المرأة ولا فرق بينها وبين الرجل، وهما في الأمر سواء، فإن امرأة كانت ترعى غنمًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم اعتدى الذئب على واحدة منها فأدركت الشاة وهي حية فذكتها فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلها فأذن في ذلك (2) مما يدل على أن ذبح المرأة لا حرج فيه وأنه مثل ذبح الرجل، والله تعالى يقول : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } [ سورة المائدة : آية 3 ] ، وهذا يشمل المسلم سواء كان ذكرًا أو أنثى أو كتابيًّا أو كتابية من أهل الكتاب لقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } [ سورة المائدة : آية 5 ] . سواء ذكاها رجل منهم أو امرأة، وكذلك من المسلمين، والله أعلم .
441- عندي كلاب صيد، ودائمًا وهي عندي في البيت حتى في وقت النوم تنام معي في غرفة واحدة، فهل عليَّ شيء من الإثم بسبب إدخال الكلاب في محلي ؟ أفيدوني جزاكم الله خيرًا ؟(137/14)
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اقتناء الكلاب إلا لثلاثة أغراض : إما لصيد، وإما لماشية، وإما لحراسة (3)، فاتخاذ الكلاب لأحد هذه الأغراض الثلاثة لا بأس به، ولكن كونها تكون معك في داخل البيت وفي غرفة النوم نرى أنه لا داعي إليها، فاجعل لها مكانًا آخر، لأن هذا فيه مضار صحية ولا داعي إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/64 ) ، من حديث أبي طلحة رضي الله عنه ] ، ولم يستثن بينما استثنى في قضية الاقتناء كلب الصيد والماشية والحراسة، وهذا لا يفهم منه أن تكون في البيوت .
442- أسأل عن قتل الصيد مثل الطيور والأرانب ونحوها بالسلاح أو بكلاب الصيد ورميها في السيارة وهي لم تمت بعد، وبعد ذلك تموت، فهل يحل أكلها بهذه الطريقة أم لا ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا ؟
ما رميته بالبندق من الصيد طيورًا كان أو غير طيور أو أرسلت عليه الكلب المعلم فصاده فإن مات على إثر صيد الجارحة له أو إصابة رصاص البندق له، فإنه يحل بشرط أن تكن ذكرت اسم الله تعالى عند إرسال الكلب أو إطلاق النار من البندق، قال سبحانه وتعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ سورة المائدة : آية 4 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها فكل ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 6/220 ) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه ] ، فما أدركته ميتًا من إثر إصابة الرصاص أو الجارحة له، وقد ذكرت اسم الله عند إرسالها فإنه يحل، وهذه هي ذكاته الشرعية، وأما ما أدركته وفيه حياة مستقرة فهذا لابد أن تذكيه فلا يحل إلا إذا ذكيته، وإن أدركته وفيه حياة غير مستقرة، بل حياة على سبيل الزوال أو حركات الموت، ولم يتسع الوقت لتذكيته، ثم مات فهذا أيضًا حلال، لأنه في حكم ما مات بالإصابة، فالحالات ثلاث :(137/15)
الأولى : ما أدركته ميتًا بالاصطياد فهو حلال بشرط ذكر اسم الله عند الإرسال .
والثانية : ما أدركته حيًّا حياة غير مستقرة، ثم مات في الحال فهو حلال بشرط ذكر اسم الله عند الإرسال .
والثالثة : ما أدركته حيًّا حياة مستقرة فلا يحل إلا بتذكيته مع ذكر اسم الله عليه عند الذكاة .
443- ما الحكم في مكان العضة الذي يمسكه كلب الصيد بفمه من الذي يصيده هل يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب أم لا ينطبق هذا الحكم إلا على الآنية التي يأكل ويشرب فيها الكلب فقط ؟
كلب الصيد يعفى عن أثر عضته في الصيد، لأن الله تعالى قال : { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ سورة المائدة : آية 4 ] ، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليه فكل ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 6/220 ) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه ] ، ولم يأمر بالغسل، إنما الغسل سبع مرات إحداهن بالتراب يختص بالإناء إذا أكل منه سواء كان كلب صيد أو غيره .
444- لقد انتقلنا إلى بيت جديد ونريد أن نعد وليمة بقصد التعريف بالمنزل وجمع الجيران والأقارب والأصدقاء، فما حكم ذلك ؟
لا بأس بعمل الوليمة بمناسبة النزول في بيت جديد لجمع الأصدقاء والأقارب إذا كان هذا من باب الفرح والسرور، أما إن صاحب ذلك اعتقاد أن هذه الوليمة تدفع شر الجن، فهذا العمل لا يجوز، لأنه شرك واعتقاد فاسد، أما إذا كان من باب العادات فلا بأس به .(137/16)
17- كتاب اللباس والزينة
445- يوجد في بلادنا ألبسة مستعملة من قبل في بلاد أجنبية غير إسلامية، فما حكم هذا اللباس في الصلاة، هل يؤثر على صحتها بالرغم من أننا نغسلها كالعادة قبل أن نلبسها ؟ أم أنه لا يجوز للمصلي أن يصلي برداء رجل غير مصلٍّ ؟
الأصل في الألبسة الطهارة، ولو كانت ثياب كفار، أو من منسوجات الكفار، فالأصل فيها الطهارة، ويجوز لنا أن نستعملها وأن نصلي فيها بدون غسل إلا إذا علمنا نجاستها، فحينئذ نغسل النجاسة إذا تيقناها وعلمناها، أما إذا لم نعلم عنها شيئًا فالأصل فيها الطهارة، ولا يجب علينا غسلها قبل استعمالها، وهذا عمل المسلمين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، والله أعلم .
446- سائلة تقول : كثر الحديث حول النقاب ومدى حله أو حرمته، بماذا تنصحني فضيلة الشيخ حول هذا الموضوع ؟
الواجب على المرأة المسلمة التزام الحجاب الساتر على وجهها وسائر بدنها درءًا للفتنة عنها وعن غيرها .
والنقاب الذي تعمله كثير من النساء اليوم نوع من السفور، بل هو تدرج إلى ترك الحجاج، فالواجب على المرأة المسلمة أن تبقى على حجابها الشرعي الساتر، وتترك هذا العبث الذي تفعله بعض السفيهات من النساء اللاتي تضايقن من الحجاب الشرعي، فأخذن يتحيلن على التخلص منه .(138/1)
447- ما حكم الحجاب في حق المرأة المسلمة فكثيرًا ما تتعرض المرأة المحجبة عندنا للسخرية من الغير، فهل هو واجب في جميع المذاهب الأربعة ؟ وما تفسير الآية الكريمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ } الآية [ سورة النور آية : 31 ] ، وهل معنى قوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } [ سورة النور آية : 31 ] أي يغطين رؤوسهن وصدورهن مع العنق وهل يدخل الوجه في ذلك إذا كان كذلك فما معنى قوله تعالى : { إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [ سورة النور آية : 31 ] ؟(138/2)
الحجاب في الجملة واجب بإجماع المسلمين، قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [ سورة الأحزاب : آية 53 ] ، والضمير وإن كان لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم فهو عام لجميع نساء الأمة لقوله : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [ سورة الأحزاب : آية 53 ] ، فهذا تعليل يشمل الجميع؛ لأن طهارة القلوب مطلوبة لكل الأمة، وقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } [ سورة الأحزاب : آية 59 ] ، فهذا عام لجميع النساء من أمهات المؤمنين وبنات الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين، فالحجاب في الجملة واجب بإجماع المسلمين، والسفور حرام، وأما المراد بقوله تعالى : { إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [ سورة النور : آية 31 ] ، فالصحيح من قولي المفسرين أن المراد بما ظهر منها : زينة الثياب والحلي، فالمراد بذلك الزينة التي تلبسها المرأة لا زينة الجسم، وإنما المراد بالزينة الظاهرة الزينة التي تلبسها المرأة إذا ظهر منها شيء بغير قصد، فإنها لا تؤاخذ على ذلك، أما إذا تعمدت وأظهرته فإنها تأثم بذلك ويحرم عليها، فقوله : { إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [ سورة النور : آية 31 ] أي : ظهر من غير قصد، فإذا ظهر شيء من زينة ثياب المرأة أو من حليها من غير قصد فإنها لا تأثم بذلك، ولكن إذا علمت بذلك وتركته أو تعمدت إخراجه وإظهاره فإنها تأثم لما في ذلك من الفتنة للرجال .(138/3)
وأما قضية إسدال الخمار المأمور به في قوله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } [ سورة النور : آية 31 ] ، فالمراد بالخمار غطاء الرأس، والمعنى : أنها تغطي بخمارها وجهها ونحرها، فتدلي الخمار من رأسها على وجهها وعلى نحرها خلافًا لما كان عليه الأمر في الجاهلية، فإن نساء الجاهلية كن يكشفن نحورهن وصدورهن ويسدلن الخمار من ورائهن كما جاء في كتب التفسير، والله جل جلاله أمر نساء المسلمين أن يضربن بخمرهن على جيوبهن، والمراد بالجيب فتحة الثوب من أعلاه من الأمام، فهذا يستلزم أن تغطي المرأة وجهها ونحرها ولا يظهر شيء من جسمها، لأن الوجه أعظم زينة في جسم المرأة، وهو محل الأنظار، وهو محل الفتنة، وهو مركز الحسن والجمال، فهذا هو الصحيح في تفسير الآية الكريمة أن الوجه يجب ستره، وإن كان بعض العلماء يرى جواز كشفه وكشف الكفين، ولكن كلٌّ يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا القول لا يتناسب مع سياق الآية وما فسرها به أئمة السلف من الصحابة والتابعين حتى إن ابن عباس رضي الله عنهما لما سأله عبيدة السلماني عن معنى قوله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ } [ سورة الأحزاب : آية 59 ] أدنى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الغطاء على وجهه وأبدى عينًا واحدة (4) ، فهذا تفسير منه للآية، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يفسر قوله تعالى : { إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [ سورة النور : آية 31 ] بأن المراد زينة الثياب (5) كما ذكرنا، وليس زينة الوجه كما قاله، من قاله فيكون ابن عباس إذًا رجع إلى قول ابن مسعود في آخر الأمرين كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أنه كان في أول الأمر يجوز للمرأة أن تبدي وجهها، ولكن بعدما نزلت آية الحجاب نسخ ذلك، وصارت يجب عليها تغطية وجهها (6) .(138/4)
448- إطالة المرأة لثوبها هل هو على سبيل الاستحباب أم الوجوب ؟ وهل وضع الشراب على القدمين يكفي مع قصر الثوب بحيث لا يظهر شيء من الساق ؟ وكيف تطيل المرأة ثوبها ذراعًا أتحت الكعب أم تحت الركبة ؟
مطلوب من المرأة المسلمة ستر جميع أجزاء جسمها عن الرجال، ولذلك رخص لها في إرخاء ثوبها قدر ذراع من اجل ستر قدميها، بينما نهي الرجال عن إسبال الثياب تحت الكعبين، مما يدل على أنه مطلوب من المرأة ستر جسمها كاملاً، وإذا لبست الشراب كان ذلك من باب زيادة الاحتياط في الستر، وهو أمر مستحسن، ويكون ذلك مع إرخاء الثوب كما ورد في الحديث (7)، والله الموفق .
449- ما حكم خياطة الرجال لملابس النساء ؟ وما الحكم إذا كانت المرأة لا تذهب إلى الخياط بل ترسل ثوبًا قديمًا ليخيط على مقاسه ؟
لا بأس بذلك بشرط أن يكون هذا الثوب على التفصيل المشروع الذي يستر المرأة ويضفي على جسمها، ولا يكون من الثياب القصيرة أو الثياب الضيقة، أما مسألة من يتولى خياطته من رجل أو امرأة فالأمر في هذا واسع، وإذا كانت هي لا تخرج، وإنما ترسله مع مندوب، فالمحذور منتف، إنما المحذور في الخروج والتعرض للفتنة، والله أعلم .
450- ما حكم لبس الخاتم للرجال وخصوصًا إذا كان من الذهب ؟(138/5)
لبس الخاتم للرجال من الذهب حرام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذهب والحرير : ( أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/392، 393 ) بنحوه، ورواه النسائي في " سننه " ( 8/161 ) كلاهما من حديث أبي موسى رضي الله عنه ] ، ورأى رجلاً في يده خاتم من ذهب فنزعه فطرحه، وقال : ( يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1655 ) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ] ، فالخاتم من الذهب يحرم على الرجل لبسه، أما الخاتم من الفضة أو غيرها من المعادن وإن كان ثمينًا فإنه لا بأس به للرجل إنما الذي يحرم، ولا يلبسه الرجل السلسلة من الذهب وغيره، ولبس النظارات التي فيها ذهب، ولا يتخذ القلم الذي فيه ذهب، ولا يلبس الساعة التي فيها ذهب، فالرجل لا يجوز له التحلي بالذهب مطلقًا، ويباح له ربط الأسنان بالذهب للحاجة واتخاذ أنف منه إذا قطع أنفه، والله أعلم .
451- ما حكم لبس الخاتم أو الدبلة إذا كانت من الفضة أو الذهب أو أي معدن ثمين آخر ؟(138/6)
أما لبس الذهب للرجل خاتمًا أو غيره فلا يجوز بحال من الأحوال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الذهب على ذكور هذه الأمة (8)، ورأى رجلاً في يده خاتم من ذهب فنزعه – عليه الصلاة والسلام – من يده، وقال : ( يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1655 ) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ] ، فلا يجوز للذكر المسلم أن يلبس خاتم الذهب، وأما الخاتم من غير الذهب من الفضة أو غيرها من أنواع المعادن فيجوز للرجل أن يلبسه ولو كان من المعادن الثمينة، وأما الدبلة فهذه ليست من عوائد المسلمين وهي التي تلبس لمناسبة الزواج، وإذا كان يعتقد فيها أنها تسبب المحبة بين الزوجين، وأن خلعها وعدم لبسها يؤثر على العلاقة الزوجية فهذا يعتبر من الشرك، وهذا يدخل في الاعتقاد الجاهلي فلا يجوز لبس الدبلة بحال :
أولاً : لأنها تقليد لمن لا خير فيهم، وهي عادة وافدة على المسلمين، وليست من عادات المسلمين .
وثانيًا : أنها إذا كان يصحبها اعتقاد أنها تؤثر على العلاقة الزوجية فهذا يدخل في الشرك ولا حول ولا قوة إلا بالله .
452- هل يجوز الصلاة على فراش عليه صور لبشر أو حيوان ؟
الصور إذا كانت في فراش يمتهن ويجلس عليه ويوطأ، فإن الصور لا حكم لها هنا، لأنها مهانة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنكر على عائشة تعليق القرام الذي فيه التصاوير، ولما حولته بعد ذلك، وجعلت منه وسادة أو وسادتين ليتكئ عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر ذلك (9) ، فدل على أن الصور إذا كانت في شيء يمتهن كالبساط أو الفراش فلا بأس .
أما قضية الصلاة إذا كان يصلي والصورة أمامه مستقبلها فهذا يكره، لأنه تشبه بِعُبَّاد الأصنام، ولأن الصورة تشغله أيضًا عن صلاته .
453- ما حكم استعمال البطانيات أو الأغطية أو الفرش من الحرير ؟
لا يجوز للرجل استعمال الأغطية والفرش من الحرير، لأن الله حرمه على الرجال .(138/7)
454- الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد :
إلى صاحب الفضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان – حفظه الله تعالى – لقد حدث خلاف بين بعض الإخوة في مسألتين مما دعت الحاجة إلى الكتابة إليكم لإعطائنا الحق فيها، وحيث أن كلاً من الأخوين يدعي أن معه أدلة تؤيد ما ذهب إليه، لذا نأمل من فضيلتكم أن تستدلوا لنا على ما تقولون وتبينوا لنا وجه الاستدلال فإن الأفهام تتفاوت في ذلك، وفقكم الله .
المسألة الأولى : ما حكم اقتناء أو استعمال القلم أو الساعة أو الكبك المموه ( المطلب ) بالذهب اليسير، وهل مَنْ استعمل تلك يكون آثمًا ؟
المسألة الثانية : ما حكم نقش الحناء أو رسمها بأشكال متعددة على يد النساء أو أرجلهن ؟
لا يجوز للرجل أن يلبس الساعة أو الكبك المموهين بالذهب، ولو كان ذلك يسيرًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على الرجل التختم بالذهب (10) ، والساعة المموهة بالذهب والكبك المموه به يشبهان الساعة، ولأن في لبسهما وسيلة إلى لبس الخاتم، وكذلك لا يجوز للرجل من باب أولى اقتناء القلم المموه بالذهب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استعمال آنية الذهب، والقلم يشبهها من حيث الإسراف والخيلاء .
ولا بأس بعمل الخضاب للنساء في أرجلهن وأيديهن على أي وجه نقشًا كان أو غيره، لأنهن مطلوب منهن التزين لأزواجهن .
455- ما الحكم في إجراء عمليات التجميل ؟
التجميل المستعمل في الطب ينقسم إلى قسمين : أحدهما تجميل بإزالة العيب الحاصل على الإنسان من حادث أو غيره، فهذا لا بأس به، ولا حرج فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لرجل قطع أنفه في الحرب أن يتخذ أنفًا من ذهب (11).(138/8)
18- كتاب الأيمان والنذور
456- كثرة الحلف بالله العظيم في أكثر الأحيان، وبعض الأحيان يأتي الحلف عفويًّا ويكون غير صادق، وبعض الأحيان يكون الشخص صادقًا في حلفه، فهل عليه كفارة في كلتا الحالتين ؟
يجب احترام اليمين بالله وتوقيرها، وألا يحلف المسلم إلا وهو صادق، ولا يحلف إلا عند الحاجة، وكثرة الحلف تدل على التهاون باليمين، قال تعالى : { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ } [ سورة القلم : آية 10 ] ، واليمين التي تجب بها الكفارة هي التي قصد عقدها على أمر مستقبل ممكن، قال تعالى : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } الآية [ سورة المائدة : آية 89 ] .
457- إذا أقسم إنسان على ألا يفعل شيئًا، ثم فعله، ثم أقسم ألا يفعله ثانية، ثم فعله وربما ثالثة، فما الحكم هل يلزمه كفارة واحدة أم عدة كفارات ؟
إذا كرر الأيمان بالله عز وجل على شيء واحد قبل أن يكفِّر فإنه يلزمه كفارة واحدة للجميع، أما إذا حلف وكَفَّر، ثم حلف مرة ثانية على نفس الشيء فإنه يلزمه كفارة ثانية .
458- ما حكم من يحلف يمينًا في حدوث شيء على أنه حدث ولكنه لا يعلم بحدوثه فقد حصل أن عملنا عملاً يسيء إلى أحد الناس، وسأل والدنا هل عملنا نحن ذلك العمل، ولكن والدنا أنكر وحلف يمينًا أننا أبرياء من ذلك مع أننا قد فعلنا ذلك، ووالدنا لا يعلم فهل يجوز أن نُكفّر وهو لا يعلم أم نخبره وهو يكفّر بنفسه أم ليس في ذلك إثم ؟(139/1)
أولاً : يجب على المسلم أن يحافظ على يمينه ولا يتسرع إلى اليمين إلا عند الحاجة وكان متأكدًا مما يحلف عليه، أما بالنسبة إذا حلف الإنسان على عمل أنه حصل أو لم يحصل بناءً على غالب ظنه فيتبين خلاف ذلك فإنه لا إثم عليه، لأنه حلف على غالب ظنه فلا إثم عليه، ويكون هذا من اللغو في اليمين، أما إذا حلف كاذبًا متعمدًا فإنه يأثم بذلك، وليس عليه كفارة، ولكن عليه الإثم، ويستغفر الله ويتوب إليه، والله يتوب على من تاب، أما الكفارة فإنها لا تجب إلا في اليمين التي قصد عقدها على أمر مستقبل ممكن .
459- حصلت بيني وبين زوجتي مشاجرة فحلفت عليها بالله العظيم أن لا تدخل عليَّ الغرفة التي أنا فيها، وفعلاً تركتْ منزلي وذهبت إلى بيت أبيها، ولكن عمي حاول في إرجاعها إليَّ رغم رفض وأدخلها إلى بيتي وتراضينا وعادت الحياة بيننا طبيعية، فما الحكم في هذا ؟ وماذا يجب عليَّ مقابل تلك اليمين ؟ وهل تعتبر طلاقًا أم لا ؟(139/2)
لا ينبغي للزوج أن يحتد على زوجته، وأن يغضب عليها الغضب الذي يحمله على أن يحلف عليها ألا تدخل عليه، لأن هذا معناه فساد العشرة وقطع العشرة بين الزوجين، والله سبحانه وتعالى يقول : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } [ سورة النساء : آية 19 ] ، فيجب أن تكون العشرة بين الزوجين قائمة على المحبة والمودة والتعاون على البر والتقوى، ولا ينبغي أن يتعاطى أحد الزوجين ما يعكر العشرة ولا يجوز له ذلك، وبالنسبة لما قام به عمك من الإصلاح بينكما وإعادة الزوجة إليك، فقد أحسن في هذا، وجزاه الله خيرًا، وهكذا الذي ينبغي للمسلم أن يكون مصلحًا بين المتخاصمين لا سيما الزوجين، وأما بالنسبة لليمين التي حلفتها بالله عز وجل فهي يمين مكفرة، قال الله تعالى : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } [ سورة المائدة : آية 89 ] ، فالواجب عليك أن تكفر عن يمينك، وأن تعاشر زوجتك وأن تتركها تدخل عليك، والكفارة هي كما ذكرها الله تعالى إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من الطعام أو كسوة عشرة مساكين لكل مسكين ثوب يجزيه في صلاته، أو عتق رقبة إذا تيسر ذلك، فإذا لم تستطع واحدة منها فإنك تنتقل إلى الصيام بأن تصوم ثلاثة أيام بديلاً عن الخصال الثلاث التي لم تستطع واحدة منها، هذا هو الذي يجب عليك ولا تعتبر هذه اليمين طلاقًا .(139/3)
460- جدتي حرمت اللحم على إثر مرض مرضته بعد أكلها للحم، فحرمته من ذلك الوقت، وقالت : يكون مثل لحم أمي وأبي فما تفعل بعد ذلك ؟
الحلال لا يحرم بتحريم الإنسان، وعليها أن تكفر كفارة يمين، وأن تأكل اللحم الذي حرمته على نفسها، وكفارة اليمين بأن تعتق رقبة إن أمكن، أو تطعم عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من الطعام أو تكسو عشرة مساكين، فهي مخيرة بين الأمور الثلاثة : العتق، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوة عشرة مساكين، أية واحدة من هذه الخصال فعلتها أجزأت، فإذا لم تقدر على واحدة من هذه الأمور الثلاثة لا الإطعام، ولا الكسوة، ولا العتق، فإنها تصوم ثلاثة أيام لقوله سبحانه وتعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } [ سورة المائدة : الآية 89 ] .
461- أنا مسلم سوداني أعمل حفارًا في الصحراء، كنت نذرت للرحمن صومًا ثلاثة أيام من كل شهر هجري، وكنت مواظبًا على هذا الصيام إلى أن التحقت بالعمل في الصحراء حيث إن طبيعة العمل شاقة، وصمت أيام شوال ووجدت فيها مشقة ولم أصم الأشهر الثلاثة أو الأربعة التي تلتها، فأرجو أن تدلوني عن كفارة ما هي أو البديل للصوم تحت هذه الظروف، وسبب النذر أنني قد طلبت من الله القدير أن يوفقني في مهنتي – والحمد لله – بمشيئته وفقت فصمت على الوفاء بالنذر ؟(139/4)
قال صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/233 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] ، وأنت نذرت أن تصوم إذا حصلت على مطلوبك، وقد تحصل المطلوب فوجب عليك الوفاء بالنذر، وقد ذكرت أنك بدأت بالوفاء وصمت عدة مرات، ولكن في أثناء عملك بالصحراء كان يشق عليك الصيام، نقول : يجب عليك أن تصوم ولو كنت في الصحراء ولو صار معه مشقة متحملة، فيجب عليك أن تواصل كل شهر، وتصوم منه ثلاثة أيام عملاً بالنذر، أما إذا بلغ الأمر إلى الخطورة بحيث لو صام لحصل عليه خطر من الهلاك فحينئذ يفطر ويقضي الأيام التي ترك صومها للعذر إذا استطاع قضاءها، والله أعلم .
462- بعد مرض زوجي نذرت أن أصوم سنة لوجه الله تعالى بعد شفائه من هذا المرض، والحمد لله فقد تحقق أملي بقدرة الله عز وجل، فشفي زوجي من مرضه، وأنا الآن مريضة، وقد منعني الطبيب من الصيام وحاولت أن أصوم مرات عديدة على الرغم من قول الطبيب، وأنا الآن لا أستطيع الصيام، فأرجو أن تقولوا لي هل يلزمني دفع مبلغ من النقود وكفارة عن هذا الصوم ؟ وهل أستطيع أن أدفعها لأحد من أقاربي المحتاجين وهل يمكن أن أصوم يومين في الأسبوع على قدر استطاعتي ؟ أفيدوني وفقكم الله ؟(139/5)
قال صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/233 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] ، وأنت نذرت إذا شفى الله زوجك أن تصومي سنة، وان الطبيب نهاك عن الصيام، فإن كانت السنة غير معينة فالصيام يبقى في ذمتك حتى تستطيعي، فإذا استطعت وزال عنك المانع فإنك تؤدين الصيام الذي نذرته، لأنه دين في ذمتك، فانتظري حتى يزول المانع وتصومي إن شاء الله، لأنك لم تعيني سنة معينة بعينها، بل سنة مطلقة فأي سنة تصومينها فإنها تجزئ مع الإطلاق ولا يجزئ أن تصومي يومين من كل أسبوع، لأنك نذرت سنة والسنة اثنا عشر شهرًا متتابعة، وإن كنت نذرت سنة معينة فلم تستطيعي صيامها فإنك تقضينها إذا استطعت، والله أعلم، وينبغي أن يعلم أن النذر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1261 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ] ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر (12) ، فالدخول في النذر مكروه، لأنه يلزم عليه الحرج، وأن الإنسان يكلف نفسه شيئًا لا يستطيع الوفاء به أو يشق عليه، فالإنسان قبل النذر لا ينبغي له أن ينذر، ولكن بعدما ينذر فإنه يتعين عليه الوفاء إذا كان نذره نذر طاعة، والله تعالى أثنى على الذين يوفون بالنذر فقال : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } [ سورة الإنسان : آية 7 ] ، وقال : { وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } [ سورة البقرة : آية 270 ] ، وقال تعالى : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } [ سورة الحج : آية 29 ] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/233 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] .(139/6)
463- إنها قد أنجبت عدة بنات ولم تنجب ذكرًا فنذرت إن رزقها الله بمولود ذكر أن تزور قبر العباس كل عام، وبالفعل فقد رزقها الله بالمولود فهل يجوز الوفاء بنذرها ؟ أم ماذا يجب عليها نحوه ؟
هذا النذر لا يجوز الوفاء به، لأنه نذر معصية، لأن المرأة يحرم أن تزور القبور، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لعن الله زوارات القبور ) [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ( 2/337 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/12 ) كلاهما بلفظ : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن . . " ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/502 ) ، بلفظ : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، وفي لفظ : ( لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) [ رواها الإمام أحمد في " المسند " ( 1/229 ) ، ورواها أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) ، ورواها الترمذي في " سننه " ( 2/4 ) ، كلهم بلفظ : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] زيارة القبور إنما هي مشروعة في حق الرجال فقط دون النساء فإذا نذرت المرأة أن تزور القبور أن تزور قبرًا معينًا فإنها لا يجوز لها الوفاء بهذا النذر، لأنه نذر معصية، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/233 ) ] .(139/7)
علاوة على أن زيارة قبور الأولياء والصحابة مثل العباس رضي الله عنه، يغلب أن مقصود الزائرين فيها الزيارة الشركية التي هي طلب المدد والعون من الموتى والتبرك بأضرحتهم هذه زيارة شركية والعياذ بالله، إنما الزيارة الشرعية هي التي يقصد منها الدعاء لأموات المسلمين والاعتبار بحال الموتى وتذكر الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم : ( . . فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/671 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، وكان صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/671 ) من حديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه ] .
هذا هو القصد من زيارة القبور، أما أن يقصد منها التبرك بالأموات وطلب المدد وقضاء الحوائج منهم فهذه زيارة شركية، من فعلها فإنه قد أشرك الشرك الأكبر، وكذلك يشترط لزيارة القبور الزيارة الشرعية أن تكون بدون سفر لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ) [ رواه الإمام البخاري في »صحيحه« ( 2/56 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، فلا يسافر الإنسان لبقعة من بقاع الأرض بقصد التبرك بها أو العبادة فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وإنما شرع السفر للمساجد الثلاثة للصلاة فيها وعبادة الله فيها، لأنها مساجد الأنبياء، أما القبور فإنها لا يسافر لها لا قبور الأنبياء ولا قبور الأولياء ولا قبور الصالحين لا يسافر لها، وإنما يزورها الرجال خاصة بدون سفر، ويزورونها لما ذكرنا لما ذكرنا من الدعاء للأموات ( المسلمين ) ، والتراحم عليهم، والاعتبار بأحوالهم .(139/8)
464- كذلك ألا يجب أن تكون الزيارة بمعنى كلمة زيارة لا يكون فيها جلوس حول المقابر أو الصلاة حولها أو الأكل والشرب كما يُفعل ؟
كذلك الزيارة لابد أن تكون زيارة شرعية المقصود منها ما ذكرنا : الدعاء لأموات المسلمين والاعتبار بحالة الموتى وبدون سفر، وتكون للرجال خاصة، وأما ما يفعل زيادة على ذلك فهو إما من الشرك وإما من البدع، فالجلوس في المقابر وعمل الأطعمة فيها أو جلب الأطعمة إليها كل هذا من البدع ومن وسائل الشرك، والصلاة عندها هذا مما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتخذون المساجد في القبور قال : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/90، 91 ) بنحوه، وانظر " صحيح الإمام مسلم " ( 1/377 ) ، كلاهما من حديث عائشة رضي الله عنها ] ، ومعنى اتخاذها مساجد أن يصلى عندها سواء بني عليه مسجد أو لم يبن عليها مسجد، فالصلاة عند القبور ممنوعة، وإن كان المصلي لا يقصد بصلاته إلا الله عز وجل، لكن صلاته عند القبور هذا وسيلة إلى الشرك لأنه يزيد له الأمر إلى أن يعتقد في الموتى النفع والضر فيؤول هذا إلى الشرك والعياذ بالله، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء بسد الطرق والوسائل المفضية إلى الشرك، وحَمَى حِمَى التوحيد .
465- ما هو المخرج من هذا النذر بالنسبة لها ؟
قلنا إنما يحرم عليها الوفاء بهذا النذر؛ لأن زيارة النساء للقبور محرمة، ولكن لو كفرت كفارة يمين يكون هذا أحوط لها، وكفارة اليمين : عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين لكل منهم نصف صاع المعتاد، أو كسوتهم بأن تعطي كل مسكين ثوبًا يجزئه في صلاته على عدد العشرة، فإن لم تجد لا العتق ولا الطعام ولا الكسوة فإنها تصوم ثلاثة أيام .(139/9)
466- أحيانًا أقرر مثلاً أنني سوف أذكر الله سبحانه وتعالى كذا وكذا وأشكره كذا، وأحمده كذا، ولكن تأتي مشاغل تمنعني من فعل ذلك، فلا أستطيع أن أقوم بذلك، فهل يعتبر هذا من باب النذر ؟ وهل في عدم فعل ذلك إثم أم لا ؟ أفيدونا جزاكم الله كل خير .
قولك : ( أقرر ) إذا كان قصدك أنك تنوي أن تذكر الله سبحانه وتعالى وأن تعمل شيئًا من الطاعة مجرد نية وعزم فهذا لا يجب عليك شيء إلا أنه ينبغي إذا نويت فعل الخير أن تعمله، أما إذا كان قصد بقولك : ( أقرر ) أنك لفظت بذلك وقلت : لله عليَّ مثلاً أن أذكر الله أو أسبح الله وأن تصلي أو تستغفر كذا وكذا فهذا نذر طاعة يجب الوفاء به لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/233 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] ، وقوله تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } [ سورة الإنسان : آية 7 ] ، وقوله تعالى : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } [ سورة الحج : آية 29 ] .
467- نذرت نذرًا أنني لو نجحت في إتمام الدراسة فسأعمل وليمة لزميلاتي، ولكن حصل لي ظروف أشغلتني عن عمل تلك الوليمة وتناسيتها أيضًا، وإلى حد الآن لم أعملها مع العلم أنني دائمًا أنذر أو أنوي ولا آتي بذلك، فما الحكم ؟
ما ذكرت السائلة من أنها نذرت إذا حصل لها مقصودها أن تعمل وليمة لزميلاتها، ولكنها لم تعملها إذا كان القصد منها عمل شيء مباح من الطعام والاجتماع للنساء، وليس فيها شيء من المنكرات، فهذا نذر عمل مباح تخير بين فعله أو كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو عتق رقبة، فإذا لم تقدر على واحدة من هذه الثلاثة فإنها تصوم ثلاثة أيام، أما إذا كان هذا الحفل يشتمل على محرم أو على منكرات فإنه لا يجوز الوفاء به، وعليها كفارة يمين كما ذكرنا، لأنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية وعلى الناذر له كفارة يمين عند بعض العلماء .(139/10)
468- كانت لسيدة بنت تتمتع بصحة تامة، وفجأة مرضت هذه البنت مرضًا شديدًا، فنذرت أمها إن كتب الله لبنتها الحياة أن تصلي ركعتين لوجه الله تعالى بعد كل فريضة من فروض الصلوات الخمسة مدى الحياة، وكان أن كتب الله لابنتها الشفاء والحياة، ووفت الأم بنذرها، ثم مرضت البنت مرة أخرى وانتقلت إلى رحمة الله، والسؤال هل تستمر الأم في الوفاء بنذرها ؟ أم أن النذر انتهى بموت البنت علمًا بأن الأم ما زالت تواصل الوفاء بنذرها باعتباره تطوعًا وصدقة لروح ابنتها المتوفاة ؟
الظاهر لي أن قصدها من النذر بقاء ابنتها على قيد الحياة، ولما شفيت من المرض الأول لزمها أن توفي بنذرها مدة حياة بنتها، لأنها نذرت أن تطيع الله عز وجل، ومن نذر أن يطيع الله فليطعه، إلا في وقت النهي فلا تصلي، أما لما مرضت وماتت فالذي يظهر لي أنها لا تستمر في النذر، لأنها قصدت بنذرها بقاء بنتها على قيد الحياة ولم تبق، فانتهى أمد النذر فيما أرى، إلا إذا كانت قصدت أنها تواصل الصلاة المنذورة ولو ماتت بمرض آخر فإنه يجب عليها المواصلة إذا كانت قصدت هذا .
469- نذرت جدتي أن تصوم شهر رجب مدى الحياة نذرًا خالصًا لله إن تحققت أمانيها، وبعد أن تحققت صامت كما نذرت إلى أن بلغت سنًّا يصعب معها الصيام ويشق عليها للمرض والكبر، فما الحكم في هذه الحالة ؟ وهل يلزمها الاستمرار أم تكفر وتعفى من هذا النذر ؟
يكره إفراد رجب بالصيام، فهذه المرأة التي نذرت أن تصوم شهر رجب نذرت نذرًا مكروهًا، وإذا نذر الإنسان شيئًا مكروهًا فالأولى أن لا يفعله، وأن يكفر كفارة يمين، بأن تعتق رقبة، أو تطعم عشرة مساكين، أو تكسو عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من الطعام أو ثوب يجزيه في صلاته، فإن لم تقدر على واحدة من الثلاثة الخصال المذكورة فإنها تصوم ثلاثة أيام، هذا هو الأحسن لها من فعل النذر المكروه .(139/11)
470- أثناء الامتحانات نذرت إن نجحت أن أصوم سبعة أيام متتالية، وبعد أن وفقني الله ونجحت بدأت أصوم النذر، ولكنني لم أستطع مواصلة الأيام السبعة فصمتها متفرقة، فهل فعلي هذا صحيح أم يجب عليَّ إعادتها متتابعة ؟ وما العمل لو كنت لا أستطيع صيامها ؟
إذا نذر الإنسان صيام أيام متتابعة وجب عليه الوفاء بنذره، وأن يصوم هذه الأيام متتابعة لا يجوز له تفريقها لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/233 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] ، وهذا نذر طاعة، وما ذكرت السائلة من أنها صامت الأيام ولم تستطع المتابعة فيها، فهي إذا كان قطعها للتتابع لعذر كما ذكرت فلا حرج عليها .
471- لقد نذرت نذرًا أن أصوم خمسة أيام كلما أقوم بشرب سيجارة من الدخان، وكان ذلك من باب العزم على الامتناع عنه ورغبة مني في تركه إلى أن مرت الأيام والسنوات، ثم عدت إليه وشربته مرة أخرى، فتذكرت النذر وقمت وأديت الكفارة وصمت الخمسة الأيام التي نذرتها، فهل هذه الكفارة التي أديتها تكفي وتلغي النذر كالحلف ثلاثًا يقع مرة واحدة إذا كان عليَّ أمر واحد، أم أنه يلزمني أن أصوم عن كل سيجارة واجدة خمسة أيام كما نصصت في نذري، فإني شربت الآن الكثير، فإذا كان يلزمني عن كل سيجارة صيام خمسة أيام فمعناه أنني سأصوم أكثر من ألف يوم تقريبًا، وكيف أستطيع ذلك ؟ فما هو الحل ؟ وهل من مخرج من هذه الكفارة بالصدقة أو نحوها ؟(139/12)
ننصح السائل وغيره ممن ابتلوا بتناول الدخان أن يتوبوا إلى الله تعالى وأن يتركوا هذا الخبيث الذي يضرهم في دينهم ودنياهم وفي صحتهم وأبدانهم، لأنه ضرر محض لا فائدة فيه بوجه من الوجوه , وهو خبيث من الخبائث، والله تعالى يقول في وصفه نبيه : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } [ سورة الأعراف : آية 157 ] ، ولا أحد في العالم حتى من الذين يتعاطون هذا الشيء يثبت أن فيه فائدة واحدة، بينما فيه أضرار كثيرة وأخطار عظيمة، والواجب على المسلم أن يكون عنده عزم وقوة على ترك ما حرم الله عليه، حتى وإن كان من أغلى الأشياء عليه، كيف وهو شيء تافه، وخبيث فإنه يجب على المسلم أن يتوب إلى الله منه، وأن يتركه حفاظًا على صحته وعلى ماله وعلى دينه، فإنه لا يأتي بخير، أما من ناحية النذر الذي نذرت أن تتركه وإذا شربته أن تصوم فأنت نذرت ترك محرم، وهذا واجب عليك، فالإنسان إذا نذر أن يترك المحرم فإنه يجب عليه الوفاء بنذره، لأنه إذا نذر الإنسان فعل واجب أو نذر ترك المحرم فقد تأكد عليه الوجوب، وأنت يجب عليك أن تتركه ولو لم تنذر فكيف وقد نذرت ؟ إذن يتعين عليك تركه نصيحة لنفسك ووفاء بنذرك، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، هذا الذي ننصحك به ولا نرى لك غيره أبدًا لا نرى لك أن تنقض اليمين، وأن تتعاطى هذا الدخان؛ لأنه جريمة وضرر، فعليك أن تتوب إلى الله، وأن تتركه وأن تمضي في عزيمتك، وأن تخلص نفسك من أضراره، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه؛ وما وقع منك من شربه بعدما نذرت تركه يوجب عليك كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم تستطع فصم ثلاثة أيام، مع التوبة إلى الله من شربه ووجوب تركه .(139/13)
472- نذرت أن أحج عن أجدادي وجداتي وهم أربعة وقد حججت العام الماضي عن أحدهم وبقي عليَّ أن أحج عن الثلاثة الباقين، ونظرًا لظروفي المالية أجد نفسي غير قادر على أداء الحج عن الباقين الثلاثة فماذا يجب عليَّ في هذه الحالة ؟
نذر الحج نذر طاعة فيجب الوفاء به سواء نذره الإنسان لنفسه أو نذره لغيره من أقاربه أو إخوانه المسلمين، فإن النيابة في الحج لا سيما النيابة عن الوالدين والإخوة والأقارب نيابة صحيحة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/233 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] ، فيثبت في ذمتك هذا النذر حتى تستطيع أن تؤديه .
473- أخبرتني إحدى صديقاتي أن النذر حرام إذا كان الإنسان دعا الله أن يأتيه بالفرج من مشكلة يشكو منها كأن يقول المرء على سبيل المثال : اللهم إني نذرت صوم عشر يومًا إذا نجحت في مادة الرياضيات مثلاً ما صحة هذا الكلام ؟(139/14)
نعم الدخول في النذر لا ينبغي، فلا ينبغي للإنسان أن يلزم نفسه بشيء لم يلزمه الله به، لأنه بذلك يثقل على نفسه ويحرجها وقد جعله الله في سعة فلا ينبغي أن ينذر ولكن عليه أن يفعل الخير مهما استطاع بدون نذر، أما إذا نذر وألزم نفسه بشيء، وكان هذا الشيء طاعة لله سبحانه وتعالى من صيام أو صدقة أو حج أو عمرة أو غير ذلك من الأمور المشروعة، فإنه حينئذ يجب عليه الوفاء به، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/233 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 3/135 ) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه ] ، لقوله تعالى : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } [ سورة الحج : آية 29 ] ، فالوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة واجب على المسلم، لأنه التزم به وأوجبه على نفسه وقد أمره الله بالوفاء به وأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك .
فيجب عليك إذا نذرت الصيام معلقًا على حصول النجاح في الامتحان ثم نجحت أن تصومي ما نذرت من الأيام .(139/15)
19- كتاب الفتيا والقضاء والاجتهاد وبعض مسائل الأصول
474- ما الفرق بين القضاء والإفتاء ؟
إن القضاء هو بيان الحكم الشرعي مع الإلزام به، أما الإفتاء فهو بيان الحكم الشرعي دون الإلزام به .
وهذا يعني أن الطرفين يشتركان في بيان الحكم الشرعي، ويتميز القضاء بالإلزام والإفتاء بعدمه؛ ويقال : إن الإفتاء أخطر من القضاء، لأن الفتوى لا تقتصر على المستفتي بل يعمل بها غيره، وتصبح حينئذ منهجًا يؤخذ به، بخلاف القضاء الذي يقصر حكمه على المقضي عليه، ولا يسري على غيره .
وقيل : إنها أخطر من وجه آخر وهو أن الفتوى قد لا يكون لدى صاحبها الوقت لكي يتأمل قبل أن يفتي، الأمر الذي يؤدي إلى الإفتاء بالحال نظرًا للضرورة الملحة في طلب الجواب في حين يكون لدى القاضي وقت للتأمل؛ لأنه لا يطالب بالحكم لحظة ورود الخصومة إليه إضافة إلى أن بإمكانه تأجيل الحكم إلى وقت آخر ليمحص ويدرس قبل أن يصدر الحكم إلى وقت آخر، وهذا بخلاف الفتوى .
والبعض يقول : إن القضاء أخطر من الفتوى لأن به إلزامًا مع أنه قد يكون غير صواب، في حين أن الفتوى ليس بها إلزام، فالمستفتي يحق له أن يأخذ أو لا يأخذ بأن يلتمس من تطمئن إليه نفسه، ولكن ليس عن شهوة أو هوى، وإنما للتأكد من صحة الفتوى ومطابقتها لحكم الله، لذا قيل : إن القضاء أخطر من الفتوى .
475- ما هي أقسام المفتين ؟ وما حاجة المجتمع إلى الفتوى ؟
إذا رجعنا إلى كتب الأصول وجدنا أنهم يطلقون كلمة " المفتي " على " المجتهد المطلق " الذي يشترطون فيه شروطًا ثقيلة، وبلا شك رأس المفتين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدءًا من الصحابة رضوان الله عليهم إلى من جاء بعدهم ممن أفاء الله عليهم من نوره، ومَنَّ على قلوبهم بالحكمة .(140/1)
القسم الأول : المفتي بمعنى المجتهد المطلق الذي يستنبط الأحكام من أصولها استدلالاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا القسم توفرت عنده أدوات الاجتهاد مثل حفظ النصوص – نصوص الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- ومعرفة لغة العرب التي بها أنزل القرآن الكريم . ومعرفة اجتهاد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم .
ولا يعني هذا أن المجتهد المطلق لا يقلد غيره مطلقًا، بل قد يقلد في بعض المسائل كما ذكر الإمام الشافعي، وذلك إذا لم يجد الحكم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيأخذ بفتاوى الصحابة رضوان الله عليهم أو التابعين وينسب الفتوى لصاحبها ممن سبقه، ولكن السمة الغالبة على فتاوى هؤلاء الاستقلال في اجتهادهم .
القسم الثاني : هو المفتي على قواعد منهج معين، كأحد المذاهب الأربعة حيث يقوم أحد الأئمة بالإفتاء على ضوئها ويخرج عليها ما جدَّ عليه من مسائل، وهذا يسمى " مجتهد مذهب " لكنه لا يتقيد بأقوال صاحب المذهب كل التقيد، وإنما يستعمل قواعد مذهبه، ويستفيد منها في تخريج المسائل الجديدة ويفتي فيها .
القسم الثالث : مجتهد في أقوال إمام معين، لا حسب قواعد، وإنما يأخذ أقوال هذا الإمام ويجتهد في الترجيح بينها، ويأخذ منها ما ترجح لديه .
والفرق بين هذا والذي قبله أن الأول يأخذ القواعد ولا يلتزم بأقوال الإمام، وإنما يأخذ بقواعده فقط . والثاني يأخذ بأقوال الإمام ثم يقوم بعرضها على الأدلة، للتعرف على مأخذها وما يرجح منها، وإذا رجح لديه قول أفتى به .
القسم الرابع : مفت مهمته حفظ أقوال المذهب دون ترجيح، بل يحفظ أقوال إمامه وما قيل في المذهب دون مجهود أو مزية بترجيح قول على قول بل يفتي حسب أقوال إمامه واعتقاده أن القول مطابق للقضية المعروضة، مع أنه قد لا يكون كذلك؛ لأنه لم يستعمل ما استعمله الذي قبله من عرض الأقوال على أصولها ومعرفة الراجح منها .(140/2)
476- هل يجوز للإنسان أن يفتي وهو يجهل حتى اللغة العربية، والعام والخاص، والمطلق والمبين ؟
هذا لا يجوز أبدًا، هذا بلاء عم العالم الإسلامي حيث ظهر أناس عاميون يجعلون لأنفسهم مكتبات في بيوتهم يقرؤون فيها، ويخرجون على الناس بآراء وفتاوى لا يعرفون مصدرها ولا آثارها، لأن مثل هؤلاء قد يقرؤون الحروف ولا يفهمونها مثل العربي الذي يقرأ الحروف الأعجمية أو الأعجمي الذي يقرأ الحروف العربية، فكلاهما لا يفهم معانيها، وهذا ا>ى إلى تناولهم للأحاديث الشريفة ورواتها بالجرح والتصحيح وهم يجهلون ما يقولون، ومثل هؤلاء كالمجنون الذي جعل في يده سيفًا أو بندقية، وأخذ يهدد الناس أو مثل الذي يقود سيارة، وهو لا يتقن القيادة فيدخل بها إلى وسط الناس فهذا خطر شديد .
فالفقه شيء عظيم يجعله المولى عز وجل في قلوب من يشاء من عباده، وهو يحتاج إلى دراسة واعية ومثابرة، واجتياز مراحل دراسية حتى يصل الإنسان إلى هذا المنصب .
477- هل صحيح أن باب الاجتهاد قد أغلق منذ قرون، وأننا نعيش على اجتهادات عصور ماضية وكل ما نفعله هو أننا نعلق عليه أو نشرحه أو نفسر حواشيه ؟(140/3)
نعم لا شك أن الاجتهاد المطلق قد توقف منذ أمد بعيد بسبب عدم وجود المؤهلين له، وباب الاجتهاد لم يغلق بل هو مفتوح، ولكن أين الذين يدخلونه ؟ ! خاصة وأن الاجتهاد ليس بالأمر السهل حيث له شروطه ومقوماته وخواصه، ولابد له من مؤهلات تؤهل الإنسان أن يجتهد في استنباط الأحكام الشرعية، ومن لم تتوفر لديه المقدرة فإنه يقلد الأئمة السابقين، ويأخذ من رصيدهم ما ترجح بالدليل لقوله تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ سورة النحل : آية 43 ] ، فالتقليد يكون في بعض الأحيان واجبًا إذا كان لا يستطيع الاجتهاد بنفسه، وليس عنده المؤهلات، فإنه يأخذ من أقوال الأئمة الذين يثق فيهم ليستفيد منهم، ويسير على ضوئهم، والله تعالى يقول : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] ، أما إذا كان الإنسان لا يملك شروط الاجتهاد ولا يأخذ بما قاله الأئمة والعلماء فهذا هو الضياع والفوضى .
478- ما مدى انطباق شروط وآداب الفتوى على المفتين ؟
قلنا : إن المفتي يجب أن يكون عالمًا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبقواعد الاستنباط ومدارك الأحكام وبراجح الأقوال ومرجوحها حسب عرضها على الأدلة .
أما الشروط التي ذكرها أهل العلم : أن يكون حافظًا أو عالمًا لأدلة الأحكام ومواقع الإجماع والاختلاف، ومعاني اللغة العربية التي نزل بها الشرع المطهر، والناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد إلى غير ذلك من الشروط فهي تطلب من المفتي " المجتهد المطلق " . ويجب توافر نفس الشروط في مجتهد المذهب أو مجتهد الأقوال الذي يأخذ بالقول الراجح .
كما يجب أن يكون ذات نية حسنة تقيًّا لا يحب الظهور أو الطمع في الدنيا، ولا يكون همه الاقتباس من أقوال العلماء ما يناسب هواه أو هوى الناس المستفتين أو من نصبه لفتوى، وغير ذلك من النزاعات الباطلة .(140/4)
بل يجب أن يكون قصده الوصول إلى الحق والنصيحة للخلق لإبراء ذمته أمام الله سبحانه وتعالى، لأنه إذا أفتى بيَّن حكم الله، لذلك يسمى بالموقع عن رب العالمين، وقد جاء في كتاب ابن القيم رحمه الله " إعلام الموقعين عن رب العالمين " أن المفتي إنما يقول : هذا حلال وهذا حرام، وينسب قوله إلى شرع الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } [ سورة النحل : آية 116 ] ، ويقول سبحانه وتعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ سورة الأعراف : آية 33 ] ، فجعل القول على الله بلا علم من أشد المحرمات .
كما أخبر المولى عز وجل أن القول على الله بغير علم يجعل المرء ممن يتبع الشيطان قال تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ . إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ سورة البقرة : الآيتين 168، 169 ] .
فالمسألة عظيمة، والمنصب كبير، ولا بد للناس من مفت، وللمجتمعات من مرجع يرجعون إليه عند الحاجة، لأن الفتوى من ضرورات المجتمع المسلم، لكن على الإنسان الذي لا يجد في نفسه القدرة العلمية والكفاءة الدينية للقيام بأعباء هذا المنصب سواء كان رسميًّا أو اجتماعيًّا التنصل من هذا العمل العظيم .
479- ما صحة الحديث الذي يقول : " أجرؤكم على الفُتيا أجرؤكم على النار " (13) رواه الدارمي في سننه ( 1/69 ) من حديث عبد الله بن أبي جعفر، وهو تابعي . "؟ وما رأيكم في الفتوى في مجالس العوام ؟(140/5)
هذا القول لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول كثير من السلف، حيث روي عن الصحابة رضوان الله عليهم أن الجرأة على الفتيا دلالة على عدم العلم وقلة الورع .
أما بالنسبة إلى الفتوى في المجالس العامة فلا يجوز لطالب العلم أن يخوض في المسائل الدقيقة عند العامة، وإنما يحدثهم بما تتحمله عقولهم، وتقبله أذهانهم حتى لا يدفعهم بمقالاته إلى أمور لا يصح عملها .
480- قلتم : إن بعض المجتهدين اتبع غيره، فما رأيكم في اتباع الإمام الشافعي رحمه الله ؟ وهل هذه المتابع تعتبر تقليدًا ؟
نعم هذا تقليد جزئي، ليس تقليدًا تامًّا، بل هو تقليد جزئي في بعض المسائل التي يستفرغ فيها المفتي جهده ولا يجد فيها حكمًا .
فالعالم إذا بذل جهده للوصول إلى الحكم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يتبين له، ووجد فتوى لمن يثق في علمه وتقواه، فلا بأس أن يأخذ بها .
فقد روي هذا عن الإمام الشافعي، وذكره ابن القيم عنه في " إعلام الموقعين " ، وهذا تقليد جزئي عند الضرورة .
481- هل يجوز لطلاب العلوم الشرعية أن يفتوا من استفتاهم ؟ وما التقليد المباح والمذموم ؟ وهل يجوز الخروج في بعض المسائل من المذهب الحنبلي إلى المالكي ؟ وكيف ؟
إذا كان في البلد من العلماء من يمكن الرجوع إليهم فليس من حق الطالب أن يفتي حتى ولو كان قد قطع مرحلة من التعليم، لأنه لم ينضج بعد .
أما في حالة الضرورة بحيث لا يكون في البلد من يفتيه، والمسألة تتطلب السرعة فعليه أن يفتيه بما يعلم من أقوال أهل العلم، قال تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ سورة التغابن : آية 16 ] .
أما التقليد المباح يكون للعامي، لأنه لو لم يقلد أهل العلم لضل الطريق، والمولى عز وجل يقول : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ } [ سورة النحل : آية 43 ] .
والتقليد لا يكون لأي شخص بل لمن يتصف بالعلم والورع ويعرفه الناس بذلك .(140/6)
وأما التقليد المذموم فهو لمن يستطيع معرفة الحكم، عليه أن يطلب الحق بدليله، لأنه قادر على ذلك، والله تعالى يقول : { إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ سورة النحل : آية 43 ] ، فالذي يعلم لا يجوز له التقليد بل عليه أن يطلب حكم الله حسب اجتهاده ومقدرته لا يقلد في ذلك أحدًا .
وإن المذهب الحنبلي وغيره لا يلزم الإنسان بأخذ كل ما فيه من خطأ وصواب، بل عليه أن يأخذ كل ما قام عليه الدليل سواء كان من مذهب الإمام أحمد أو مالك، والذي يعرف الدليل والترجيح فلا يسعه الاقتصار على أقوال إمام معين بل يجب عليه أن يتحرى ما يقوم عليه الدليل، ولا تبرأ ذمته إلا بذلك .
أما الإنسان الذي لا يستطيع – وهذه حالة الضرورة – فيعمل حسب علمه ومعرفته، وإذا وجد من يستفتيه من أهل العلم والورع سأله حتى لا يبقى على علمه القليل .
482- هل مطالبة الأساتذة لطلابهم بالتدليل والتعليل والترجيح يعد من الاجتهاد ؟
للأساتذة الحق في مطالبة تلاميذهم في حدود ما أعطوهم، لأن من الحكمة التدرج في المنهج، وعدم تعديه إلا إذا دعت الضرورة إلى شيء من البيان أو التدليل أو الترجيح الخفيف، على الأستاذ أن يخفف المنهج في المرحلة الأولى ثم يوسع في الثانية ويوسع في الثالثة وهكذا .
أما أن يحملهم الفقه مرة واحدة فهذا لا يجوز، وللأسف هذه الظاهرة موجودة في بعض المدرسين اليوم، حيث يريد بعضهم أن يجعل الطلاب مجتهدين وهم لا يزالون في مرحلة طلب العلم، لذا عليه أن يعرف قدر نفسه، وأن يتدرج مع طلابه حسب المقرر، الذي يجب أن يوضع عن خبرة وممارسة بحيث تكون كل مرحلة أوسع مما قبلها وهكذا .
483- متى يلام الشخص الذي يقبل فتوى من شخص آخر ؟(140/7)
إذا كان الشخص المفتي ليس على المستوى العلمي، وليس على المستوى الديني، فالذي يأخذ فتواه يلام على هذا لأنه لا يصلح للفتوى، وهناك شروط يجب أن تجتمع في المفتي أهمها : العلم الذي يستطيع به الحكم على الأشياء، وتوافر تقوى الله سبحانه وتعالى بحيث لا يحابي أحدًا ولا يجامل أحدًا، فالمستفتي يجب عليه أن يختار أحسن من يجده علمًا ومخافة الله، وإذا عدل عن هذا إلى غيره ممن هو ليس أهلاً للفتوى فقد أخطأ، مثلاً إذا أخذ من الإنسان المتساهل في دينه، أو قليل البضاعة في العلم واستفتاه من أجل أن يحصل منه على فتوى تناسبه في الوقت الذي لم يذهب فيه إلى الشخص الذي توفرت فيه أصول الفتوى، فهذا يلام لأنه قصر، ولم يطلب الحق من مصدره الصحيح .
484- هل يجوز لمن كن يلتزم مذهبًا معينًا في عباداته أن يعدل عنه ويتمسك بمذهب آخر متى شاء ؟ أم أنه يلزم المسلم أن يتمسك بمذهب واحد حتى الممات ؟ وهل بين المذاهب الأربعة فرق في كيفية أداء الصلوات أم لا ؟ وما هي كيفية الصلاة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟(140/8)
قضية التمذهب بمذهب هذه فيها تفصيل : الإنسان الذي عنده الاستطاعة لمعرفة الحكم من الأدلة واستنباط الحكم من الأدلة هذا لا يجوز له التمذهب بمذهب بل عليه أن يأخذ الحكم من الدليل إذا كان عنده الاستطاعة والمقدرة على ذلك، ولكن هذا نادر في الناس لأن هذا منصب المجتهدين من أهل العلم الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، أما من لم يكن كذلك لا يستطيع أخذ الأحكام من الأدلة، وهذا هو الكثير والغالب على أحوال الناس لا سيما في هذه الأزمان المتأخرة، فإن هذا لا حرج عليه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة، وأن يقلد أحد المذاهب الأربعة، لكن ليس تقليدًا أعمى بأن يأخذ كل ما في المذهب من خطأ وصواب، بل عليه أن يأخذ من المذهب ما لم يتضح أنه مخالف للدليل، أما إذا اتضح أن هذا القول في المذهب مخالف للدليل فلا يجوز للمسلم أن يأخذ به، بل عليه أن يأخذ ما قام عليه الدليل ولو من مذهب آخر، فترك المذهب إلى مذهب آخر هذا إن كان طلبًا للدليل لمن يحسن ذلك، فهذا أمر طيب، بل هذا الواجب؛ لأن اتباع الدليل هو الواجب .
أما إذا كان الأخذ بمذهب في بعض الأحيان وبمذهب آخر في الحين الآخر، وهكذا ينتقل الإنسان من باب التشهي ومن باب طلب الرخص، فهذا لا يجوز يعني ما وافق هواه من أقوال أهل العلم أخذ به ولو كان خلاف الدليل، وما خالف هواه تركه ولو كان هو الذي يدل عليه الدليل هذا متبع لهواه، والعياذ بالله، فالتنقل من مذهب إلى مذهب بدافع التشهي وطلب الأسهل والرخص هذا لا يجوز، أما الانتقال من مذهب إلى مذهب طلبًا للدليل وفرارًا من القول الذي لا دليل عليه أو القول الخاطئ فهذا أمر مرغوب ومطلوب من المسلم، والله تعالى أعلم .(140/9)
وأما قضية الخلاف بين المذاهب الأربعة في الصلاة، فالمذاهب الأربعة – والحمد لله – متفقة على كثير من أحكام الصلاة في الجملة، وإنما الخلاف في بعض الجزئيات في الصلاة، فالخلاف إنما هو في جزئيات من الصلاة، منهم من يراها مثلاً مشروعة ومنهم من لا يراها مشروعة، ومنهم من يراها واجبة ومنهم من يراها مستحبة وهكذا، فالخلاف إنما هو في جزئيات في الصلاة أما أحكام الصلاة في الجملة فهذه لا خلاف فيها، والحمد لله .
وأما صفة الصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه معلومة من سنته عليه الصلاة والسلام، وهي محفوظة ومشروحة في كتب السنة فعلى السائل وغيره من المسلمين أن يراجعوا ذلك، لا سيما الرجوع إلى كتاب " زاد المعاد " لابن القيم فإنه تحرى بيان الصفة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها وشرحها من أول الصلاة إلى آخرها، وكذلك في رسالته المسماة »الصلاة« فإنه عقد بابًا لبيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها حتى كأنك تشاهده عليه الصلاة والسلام، فعلى المسلم أن يرجع إلى هذه الكتب .
485- هل يجوز التعصب المذهبي الذي يقتدي به الإنسان في أي حكم من أحكام الشريعة حتى لو كان في هذا مخالفة للصواب ؟ أم يجوز تركه والاقتداء بالمذهب الصحيح في بعض الحالات ؟ وما حكما لزوم مذهب واحد فقط ؟(140/10)
الذي عنده القدرة على الاجتهاد المطلق لا يجوز له التقليد، والذي لا يقدر يقلد من هو أعلم منه، والتمذهب بمذهب واحد من المذاهب الأربعة المعروفة التي بقيت وحفظت وحررت بين المسلمين والانتساب إلى مذهب منها لا مانع منه فيقال : فلان شافعي، وفلان حنبلي، وفلان حنفي، وفلان مالكي، ولا زال هذا اللقب موجودًا من قديم بين العلماء حتى كبار العلماء يقال مثلاً : ابن تيمية الحنبلي وابن القيم الحنبلي وما أشبه ذلك ولا حرج في ذلك، ومجرد الانتماء إلى المذهب لا مانع منه لكن بشرط أن لا يتقيد بهذا المذهب فيأخذ كل ما به سواء كان صوابًا أو خطأ، بل يأخذ منه ما كان صوابًا، وما علم أنه خطأ لا يجوز له العمل به، وإذا ظهر له القول الراجح فإنه يجب عليه أن يأخذ به سواء كان في مذهبه الذي ينتسب إليه أو في مذهب آخر؛ لأن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، القدوة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نأخذ بالمذهب ما لم يخالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا خالفه يجب علينا أن نتركه وأن نأخذ بالسنة، ونأخذ بالقول الراجح المطابق للسنة من أي مذهب كان من مذاهب المجتهدين، أما الذي يأخذ بقول الإمام مطلقًا سواء كان خطأ أو صوابًا يعتبر تقليدًا أعمى، وإذا كان يرى أنه يجب تقليد إنسان معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا ردةٌ عن الإسلام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : من قال : إنه يجب تقليد شخص بعينه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه لا أحد يجب اتباعه إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم، أما ما عداه من الأئمة المجتهدين رحمهم الله فنحن نأخذ بأقوالهم الموافقة للسنة، أما إذا أخطأ المجتهد في اجتهاده فإنه يحرم علينا أن نأخذ بالخطأ .(140/11)
486- هل لا بد للإنسان أن ينهج في عبادته منهجًا واحدًا في كل شيء ؟ أم ليس عليه شيء إن أخذ من كل المذاهب أو بعضها فيما يراه أكثر أجرًا أو أيسر لدينه ودنياه ؟
هذا يختلف باختلاف الناس فالعامي والمبتدئ في التعلم، هؤلاء لا يسعهم إلا أن يقلدوا أحد المذاهب الأربعة التي هي مذاهب أهل السنة .
وأما بالنسبة للمتعلم الذي عنده المقدرة على معرفة الراجح من المرجوح من أقوال أهل العلم فهذا يجب عليه أن يأخذ ما قام عليه الدليل من أقوال الأئمة الأربعة وغيرهم، إذا كان عنده المقدرة على معرفة الراجح من المرجوح ومعرفة الدليل الذي ينبني عليه القول فهذا يجب عليه أن يعمل بالدليل؛ لأن عنده المقدرة على ذلك، فالناس يختلفون في هذا ليسوا على وتيرة واحدة، فالتقليد لا يحرم مطلقًا ولا يجب مطلقًا بل كلٌّ على حسب حاله، والله عزَّ وجل يقول : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ سورة النحل : آية 43 ] ، على أنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ من أقوال العلماء ما وافق هواه أو رغبة نفسه فيتتبع الرخص ويتتبع الأقوال السهلة التي ليس عليها دليل لأنها تلائم هواه ورغبته، هذا لا يجوز، وإنما يختار ما قام عليه الدليل ولو خالف هواه ورغبته .
487- ما الذي يبين أو يثبت أن هذا الشيء خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟
الأصل أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عام له وللأمة؛ إلا ما دل الدليل على اختصاصه به صلى الله عليه وسلم، فالخصوصية لا بد لها من دليل، والله أعلم، لقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ سورة الأحزاب : آية 21 ] .
488- هل شريعة مَنْ قبلنا تعتبر شريعة لنا أم لا ؟(140/12)
هذه مسألة أصولية، الصحيح فيها أن شريعة من قبلنا شريعة لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافها . فما ذكره الله سبحانه وتعالى في الشرائع السابقة ولم يرد في شرعنا ما ينسخه فإنه شرع لنا، هذا هو الصحيح في المسألة . والله أعلم .
489- هل العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات ؟ نرجو إفادتنا عن صحة هذه القاعدة أفادكم الله ؟
هذه القاعدة صحيحة ومأخوذة من قوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [ سورة النساء : آية 23 ] ، فالآية الكريمة أفادت أن أم الزوجة تحرم بمجرد العقد على بنتها، وأن بنت الزوجة لا تحرم إلا بشرط الدخول بأمها .
490- ما تفسير قول الله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } [ سورة الشورى : آية 38 ] ؟ وهل يمكن تطبيق هذه الآية في عصرنا الحاضر ؟ وكيف يكون ذلك ؟ أفتونا وفقكم الله .
الآية الكريمة فيها ثناء من الله سبحانه على المؤمنين المتصفين بصفاتٍ منها : أنهم يتشاورون بينهم في الأمور المهمة، التي يخفى فيها وجه الصواب، وذلك من أجل التعاون على الوصول إلى ما فيه الخير العام والخاص، ولما في ذلك من تآلف القلوب واجتماع الكلمة، ولما في ذلك من التواضع ولين الجانب للمؤمنين .
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } [ سورة آل عمران : آية 159 ] .
والعلم بالشورى مشروع للمسلمين في كل وقت في هذا العصر وفي غيره، ولكن تكون الشورى في الأمور المهمة التي يخفى فيها وجه الصواب، ويكون المستشار من أهل الرأي والمعرفة .(140/13)
491- إذا وقعت خصومة بين اثنين وطلب أحدهما بإحضار بينة فهل هناك شروط معينة يجب توفرها فيمن يؤدي الشهادة لصالح أحد أو ضده ؟
نعم يجب في الشاهد أن يكون عدلاً فلا تصح شهادة الفاسق؛ لأن الله تعالى يقول : { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ سورة النور : آية 4 ] ويقول جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } [ سورة الحجرات : آية 6 ] فالفاسق لا تقبل شهادته ويشترط أن يكون الشاهد عالمًا بما يشهد به قال تعالى : { إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ سورة الزخرف : آية 86 ] وقال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ سورة الإسراء : آية 36 ] فإذا كان الإنسان عنده علم مما يشهد به ويقين فليشهد .
أما مجرد الشكوك فلا يجوز أن يشهد بها الإنسان . ومن باب أولى تعمد الكذب في الشهادة فهو شهادة زور وهي من كبائر الذنوب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئًا فقال : ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/152 ) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه ] والله تعالى يقول : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } [ سورة الحج : آية 30 ] فقرن قول الزور مع الشرك بالله عز وجل .
492- ما حكم من أعطى إنسانًا شهد له بحق أو ساعده في قضية صحيحة فأعطاه مبلغًا من المال، علمًا بأن الشاهد أو الذي ساعده على الحق لم يشترط أي شيء ؟(140/14)
أما الشهادة فلا يجوز أخذ العوض عنها؛ لأن أداء الشهادة يجب على من هي عنده لله سبحانه وتعالى لأجل بيان الحق وإزالة الظلم قال تعالى : { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ } [ سورة النساء : آية 135 ] ، وقال تعالى : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } [ سورة الطلاق : آية 2 ] لا لأجل مطمع دنيوي، وقال تعالى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ سورة البقرة : آية 283 ] فالذي عنده شهادة بحق يجب عليه أداؤها إذا احتيج إليها وطلبت منه بدون مقابل وبدون أخذ عوض لأن هذا عبادة أمر الله تعالى بها في قوله : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } [ سورة الطلاق : آية 2 ] وقوله : { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ } [ سورة النساء : آية 135 ] .
وأما من أعانك في خصومة أو في قضية فهذا إذا كان أعانك بمعنى أنه خاصم عنك وتولى الخصومة وكيلاً عنك ونائبًا عنك فلا مانع أن تعطيه شيئًا من المال مقابل تعبه ومن ذلك ما يتقاضاه المحامون في القضايا الذين ينوبون عن المدعين ويخاصمون عنهم ويذهبون ويجيئون فيأخذون مقابل أتعابهم، لأنهم وكلاء لمن له قضية .
493- بعض الناس حينما يريد استخراج حفيظة نفوس أو بطاقة الأحوال يكتب في مهنته بأنه متسبب وهو موظف حكومي ويأتي بشهود يشهدون على ذلك مع علمهم بأن صاحبهم موظف وليس متسببًا، فهل هذا العمل جائز وهل تعتبر الشهادة من شهادة الزور ؟
إذا كان هناك فرق في استخراج الحفيظة بين المتسبب والموظف بموجب النظام فإنه لا يجوز التمويه بل يجب بيان الحقيقة ولا يجوز للشهور أن يشهدوا بخلاف الواقع، لأن هذا من شهادة الزور ومن الاحتيال الباطل .(140/15)
والواجب على المسلم الصدق وقول الحق في حق الصاحب والعدو . قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [ سورة النساء : آية 135 ] وتجب طاعة ولي الأمر في النظام الذي لا يخالف الشريعة ولا يجوز الاحتيال عليه ومخالفته .(140/16)
20- كتاب الجامع للأحكام
494- ما مدى صحة هذا الحديث وما معناه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن يبسط له رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/8 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ] ؟ وكيف يكون الجمع بين هذا وبين الحديث الذي يفيد أن الإنسان منذ أن يتم خلقه في بطن أمه يكتب له رزقه وأجله وشقي أم سعيد ؟
الحديث الذي سألت عنه حديث صحيح، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى وعد من يصل رحمه أن يثيبه وأن يجزيه بأن يطيل في عمره، وأن يوسع له في رزقه جزاءً له على إحسانه، وهذا من فضله سبحانه وتعالى أنه يجازي المحسن بإحسانه : { هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ } [ سورة الرحمن : آية 60 ] .
ولا تعارض بين هذا الحديث وبين الحديث الذي فيه أن كل إنسان قد قدر أجله ورزقه وهو في بطن أمه، لأن هناك أسبابًا جعلها الله أسبابًا لطول العمر وأسبابًا للرزق، فهذا الحديث يدل على أن الإحسان وصلة الرحم سبب لطول الأجل وسبب لسعة الرزق، والله جل وعلا هو مقدر المقادير ومسبب الأسباب، هناك أشياء قدرها الله سبحانه وتعالى على أسباب ربطها بها ورتبها عليها إذا حصلت مستوفية لشروطها خالية من موانعها ترتبت عليها مسبباتها قضاءً وقدرًا وجزاءً من الله سبحانه وتعالى، فلا تعارض – والحمد لله – بين هذين الحديثين، وهكذا كل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعارض ولا ينقض بعضه بعضًا أبدًا .
495- ما صحة الحديث القائل : " الولد وماله لأبيه " ؟ وإذا كان مهرًا لابنته فهل ينطبق هذا الحديث عليه كذلك ؟(141/1)
نعم الحديث صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أنت ومالك لأبيك ) [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ( 2/204 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/287 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/769 ) ، كلهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ] ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 6/31 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 7/240، 241 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/723 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 2/321 ) بنحوه، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/287 ) ، كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها إلا أبا داود فهو من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم ] ، فيجوز للوالد أن يمتلك ويأخذ من مال ولده ما لا يضر الولد ولا يحتاجه الولد، ومن ذلك أن يأخذ الأب من مهر ابنته، لأنه داخل في العموم، فللوالد أن يأخذ من مهر ابنته ما لا يضرها أو تحتاج إليه، فإن تعلقت به حاجتها أو كان أخذه لشيء منه أو أخذه كله يضر بها فلا يجوز للأب حينئذ، والله تعالى أعلم .
496- شخص قاطع للرحم ويدعو الله دائمًا أن يجعله واصلاً مع العمل على الوصل والمحاولة الشديدة، وخاصة أن هذا التقاطع في نفس البيت فهل يجوز له الدعاء مع المحاولة أو ينطبق عليه قول الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ سورة الرعد : آية 11 ] .
صلة الرحم لا يكفي فيها الدعاء بأن يدعو الإنسان الله أن يوفقه لصلة رحمه، بل لا بد من الصلة بالفعل، فالإنسان يصل رحمه فعلاً مع الاستطاعة ويدعو الله أن يعينه على ذلك وأن يثبته على ذلك في المستقبل .(141/2)
أما إذا كان قاطعًا لرحمه، وهو يدعو الله أن يهديه لصلة الرحم، فهذا لا يكفي ولا يبرئ ذمته، لأن قطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب والعياذ بالله، وعليها وعيد شديد، وعلى الإنسان أن يصل رحمه ولو أساءت إليه أو قطعته، فإن حقها لا يسقط عنه لقوله تعالى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } [ سورة الإسراء : آية 26 ] ، والله جعل للقرابة حقًّا من جملة الحقوق العشرة في قوله تعالى : { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى } [ سورة النساء : آية 36 ] .
فالواجب على المسلم أن يصل رحمه بما يستطيع بالمال والسلام والزيارة وغيرها من أنواع الصلة التي تطيب خواطرهم والتي فيها نفع لهم ودفع لحاجتهم عند الحاجة إليه .
497- يسكن بجوارنا أناس منذ مدة طويلة وأنا أعتبرهم كأهلي لطول معاشرتهم لنا فهل يجوز لي مصافحة نسائهم ؟(141/3)
المجالسة مع أفراد الجيران لا تصيرهم إخوة من حيث إباحة النظر والمحرمية، لأنهم أجانب ولا تبيح الاختلاط بين الرجال والنساء الأجانب وترك الحجاب وإن كانوا جيرانًا طيبين، ولا تبيح أن يصافح الرجل النساء اللاتي ليس من محارمهن، ويجب عزل النساء عن الرجال الذين ليسوا من محارمهن ويجب على النساء الحجاب الكامل منهم، قال تعالى : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } [ سورة النور : الآيتين 30، 31 ] .
498- بعض الناس إذا قدم على جماعة فلا يسلم عليهم بتحية الإسلام بل يسلم بكلام عامي قد يكون ثابتًا عندهم، فما حكم الشرع في ذلك ؟
هذا من الجهل أو التهاون، والذي يحمل بعض الناس على هذا إما جهل منهم بالأمر المشروع، وإما تهاون وعدم مبالاة، وكلاهما مذموم لكن الجهل أهون من التهاون، لأن الجاهل إذا عُلِّم يسير على الطريق الصحيح، لكن البلاء بالتهاون .
ولهذا ننصح إخواننا الذين اعتادوا على هذا أن يدعوه وأن يبدءوا بالتحية المشروعة أولاً، ثم يحيوا ثانيًا فيقول إذا دخل على الناس أو أقبل عليهم : السلام عليكم، ثم يحييهم بما يناسب من التحيات الغير ممنوعة .(141/4)
وكذلك أيضًا إذا دخل أحد على شخص وسلم عليه السلام المشروع فإنه لا يكتفي بقوله : أهلاً ومرحبًا أو حياك الله، أو ما أشبه هذا، فإن ذلك لا يجزئه، بل هو آثم به إذا اقتصر عليه، يعني إذا قال قائل : السلام عليكم، فالواجب أن ترد عليه بقولك : عليك السلام أو وعليك السلام أو عليكم السلام بالجمع أو وعليكم، أما إن اقتصرت على قولك : أهلاً ومرحبًا وما أشبه ذلك فإنك لم تأت بالواجب عليك من رد السلام لقوله تعالى : { وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } [ سورة النساء : آية 86 ] .
والذي يجيب المسلِّم القائل : السلام عليكم بقوله : أهلاً ومرحبًا حياك الله لم يكن حيا بأحسن مما حيي به ولا رد، ووجه ذلك أن قول المسلِّم : السلام عليكم : دعاء بأن يسلمك الله من جميع الآفات : آفات الدنيا، وآفات الآخرة، وهو أيضًا سلام وأمن فهو سلام وإخبار بالسلام والأمن .
وأنت إذا قلت حياك الله أو أهلاً ومرحبًا لم تأت بمثله من الدعاء، وغاية ما هنالك أنك حييته بهذه التحية وهو قد حياك ودعا لك وأمنك، ففي قوله : السلام عليكم تحية ودعاء وتأمين، وفي قولك : مرحبًا وأهلاً مجرد تحية فقط، لهذا يجب التنبه لهذه المسألة وأن يرد الإنسان السلام بمثله أولاً، ثم بالتحية المباحة ثانيًا .
499- هل هناك مانع شرعي في رد السلام على المرأة في الهاتف أو بدونه ؟ أو رد المرأة السلام على الرجل في الهاتف ؟(141/5)
لا بأس برد الرجل السلام على المرأة في الهاتف وغيره، ورد المرأة السلام على الرجل كذلك مع أمن الفتنة، وذلك لعموم أمره صلى الله عليه وسلم برد السلام (14)، وكذلك لا بأس بالمكالمة الهاتفية بين الرجل والمرأة في حدود الحاجة، أما المكالمة المريبة والمكالمة التي يخشى منها الفتنة، فإنها لا تجوز، لأنها وسيلة إلى الحرام، والله تعالى يقول : { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ سورة الأحزاب : آية 32 ] .
500- نحن أربعة أيتام ولنا ثلاثة أعمام جميعهم أحياء يرزقون، ومنهم اثنان غير موجودين في الوطن، وأكبرهم سنًّا موجود وقد أخذ واستولى على جميع ممتلكات أخويه الاثنين الغائبين من الأطيان وغيرها ولا يعطينا منها شيئًا ونحن أولاد أخيه الأصغر أربعة أيتام، وقد بلغنا رشدنا، وقد رفض أن يعطينا شيئًا من ممتلكات أعمامنا بحجة أنه أخوهم فهل لنا شرعًا مطالبته بإعطائنا جزءًا من أراضي أعمامنا أم لا ؟ وهل له هو حق التصرف فيها ؟
أعمامكم الغائبين ماداموا على قيد الحياة فالأملاك لهم لم تنتقل عن ملكيتهم، ولا لعمكم استحقاق فيها وليس لكم أنتم أيضًا فيها استحقاق، لأنها ملك لأصحابها؛ إلا إذا كانوا وهبوها لأخيهم أو أذنوا له أن ينتفع بها فلا بأس بذلك، وتكون هبة إذا كانوا وهبوبها له أو ينتفع بغلتها إذا كانوا أباحوا له ذلك، ولا يلزمه أن يعطيكم إلا إذا كان أصحاب الأراضي وهبوا لكم شيئًا منها أو من غلتها، أما إذا لم يهبوا لكم شيئًا منها ولا من غلتها فليس لكم فيها استحقاق .
الحاصل أن الأملاك باقية على ملك أصحابها ولو كانوا غائبين وليس للحاضر من إخوتهم أن يتملكها إلا بإذنهم، وكذلك ليس له أن يستغلها إلا بإذنهم فما سمحوا به له جاز وما لم يسمحوا به فهو على ملكهم .(141/6)
501- ما مدى صحة الحديث القائل : ( المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 4/2052 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ؟ وإن كان صحيحًا فما معناه ؟ وفي أي شيء تكون القوة ؟
الحديث صحيح رواه الإمام مسلم في " صحيحه " (15)، ومعناه : أن المؤمن القوي في إيمانه، والقوي في بدنه وعمله خيرٌ من المؤمن الضعيف في إيمانه أو الضعيف في بدنه وعمله، لأن المؤمن القوي ينتج ويعمل للمسلمين وينتفع المسلمون بقوته البدنية وبقوته الإيمانية وبقوته العملية ينتفعون من ذلك نفعًا عظيمًا في الجهاد في سبيل الله، وفي تحقيق مصالح المسلمين، وفي الدفاع عن الإسلام والمسلمين، وإذلال الأعداء والوقوف في وجوههم، وهذا ما لا يملكه المؤمن الضعيف، فمن هذا الوجه كان المؤمن القوي خيرًا من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فالإيمان كله خير المؤمن الضعيف فيه خير، ولكن المؤمن القوي أكثر خيرًا منه لنفسه ولدينه ولإخوانه المسلمين، فهذا فيه الحث على القوة، ودين الإسلام هو دين القوة ودين العزة ودين الرفعة دائمًا وأبدًا يطلب من المسلمين القوة، قال الله سبحانه وتعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [ سورة الأنفال : آية 60 ] ، وقال تعالى : { ولِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ سورة المنافقون : آية 8 ] ، وقال تعالى : { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ سورة آل عمران : آية 139 ] ، فالقوة مطلوبة في الإسلام : القوة في الإيمان والعقيدة، والقوة في العمل، والقوة في الأبدان، لأن هذا ينتج خيرًا للمسلمين .
502- ما هي الحجامة ؟ وما حكمها ؟ وهل فعلها ينقض الوضوء ويفطر الصائم أم لا ؟(141/7)
الحجامة نوع من العلاج، وهي استخراج الدم بواسطة المحجم، وهي تفطر الصائم على الصحيح من أقوال العلماء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ( 2/364 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الترمذي في " سننه " ( 3/118 ) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه ] ، فالحجامة تفطر الصائم على الصحيح لهذا الحديث، وكذلك هي تنقض الوضوء إذا خرج بها دم كثير .
503- نحن عشرة إخوة تتدرج أعمارنا إلى تسع عشرة سنة، ونعيش مع والدنا ووالدتنا في مسكن واحد، ونحن – والحمد لله – متمسكون بالدين الحنيف، فنصلي فروضًا ونوافل، ونصوم فرضًا وتطوعًا، ولكن مشكلتنا والدنا الذي يسيء معاملتنا في البيت، فهي أشبه بمعاملة البهائم إن لم تكن أسوأ، بالرغم من أننا نوقره كل التوقير ونحترمه جل الاحترام، ونهيئ له كل وسائل الراحة والهدوء، ولكنه مع ذلك يعاملنا ووالدتنا أسوأ معاملة، فلا ينادينا إلا بأسوأ الحيوانات، ودائمًا يدعو علينا وينتقدنا في كثرة تمسكنا بالدين، وإلى جانب ذلك كثيرًا ما يغتاب الناس ويسعى بالنميمة بينهم، ويفعل هذه الأفعال مع صلاته وصيامه، فهو محافظ على الصلوات المفروضة في المساجد، ولكنه لم يقلع عن هذه العادة السيئة حتى سبب لنا ولوالدتنا الضجر والضيق، فقد سئمنا صبرًا وأصبحنا لا نطيق العيش معه على هذه الحالة، فما هي نصيحتكم له ؟ ونحن ماذا يجب علينا نحوه جزاكم الله خيرًا ؟
أولاً : يجب على الوالد أن يحسن إلى أولاده ويستعمل معهم اللين في وقته، والشدة في وقتها، فلا يكون شديدًا دائمًا، ولا يكون لينًا دائمًا، بل يستعمل لكل وقت ما يناسبه، لأنه مُربٍّ ووالد، فيجب عليه أن يستعمل مع أولاده الأصلح، دائمًا وأبدًا، إذا رأى منهم الإحسان لا يشتد عليهم، وإذا رأى منهم الإساءة يشتد عليهم بنسبة تردعهم عن هذه الإساءة، ويكون حكيمًا مع أولاده .(141/8)
هذا هو الواجب عليه، فلا يقسو عليهم بما ينفرهم، ولا يشتد عليهم من غير موجب ومن غير مبرر، بل يحسن أخلاقه معهم، لأنهم أولى الناس بإحسانه وعطفه، وحتى ينشئوا على الدين والخلق والعادات السليمة .
أما إذا نفرهم بقسوته وغلظته المستمرة فإن ذلك مدعاة لأن ينفروا منه وأن ينشئوا نشأة سيئة، فالواجب على الأب أن يلاحظ هذا مع أولاده، لأنهم أمانة عنده وهو مسئول عنهم، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .
أما واجبكم نحوه : الإحسان والصبر على ما يصدر عنه، هو والدكم وله الحق الكبير عليكم وأنتم أولاده، الواجب أن تحسنوا إليه، وأن تصبروا على ما يصدر منه من قسوة فإن ذلك مدعاة لأن يتراجع، وأن يعرف خطأه، والله تعالى أعلم .
504- هل يجوز قيادة المرأة للسيارة عند حاجتها وعدم وجود محرم لها لتلبية طلباتها الضرورية بدلاً من الركوب مع السائق الأجنبي ؟ جزاكم الله خيرًا ؟
قيادة المرأة للسيارة لا تجوز، لأنها تحتاج معها إلى كشف الوجه أو كشف بعضه، ولأنها تحتاج في قيادة السيارة إلى مخالطة الرجال فيما لو تعطلت سيارتها أثناء السير أو حصل عليها حادث أو مخالفة مرورية، ولأن قيادتها للسيارة تمكنها من الذهاب إلى مكان بعيد عن بيتها وعن الرقيب عليها من محارمها، والمرأة ضعيفة تتحكم فيها العواطف والرغبات غير الحميدة، وفي تمكينها من القيادة إفلات لها من المسئولية والرقابة والقوامة عليها من رجالها، ولأن قيادتها للسيارة تحوجها إلى طلب رخصة قيادة وهذا يحوجها إلى التصوير، وتصوير النساء حتى في هذه الحالة يحرم لما فيه من الفتنة والمحاذير العظيمة .(141/9)
505- كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن المستوصفات والأسواق النسائية الخاصة، وقد شمل هذا الحديث نجاحها وفشلها، ولماذا لم تصل إلى درجة التعميم في كل مكان ؟ ولا شك أن هذه الأفكار تحتاج إلى دعم من طلبة العلم لمساندة هذه المشاريع الخيرية التي يحتاجها كل مجتمع مسلم، نريد من فضيلتكم التعليق على المستوصفات النسائية الخاصة ؟ ومعالجة المرأة عند الطبيب الرجل ؟ وما واجب كل مسلم تجاه هذه الأعمال ؟
لا ينبغي لمن فتح مستوصفات نسائية أن يصعب من تكاليف الفحص والعلاج، فبأسعار معقولة نشجع المواطنات على اللجوء إلى هذه المستوصفات، أما رفع الأسعار فهو يسبب صدود النساء المسلمات عن اللجوء لهذه المستوصفات رغم حاجتهن الماسة للعلاج، ورغبتهن في التعامل مع مستوصفات نسائية، علينا تشجيع المرأة المسلمة على ارتياد المستوصفات النسائية بوضع لوائح مالية ميسرة تشجعهن على ذلك .
إننا لا نمانع في علاج المسلمة عند طبيب، خاصة لو كان أستاذًا متمكنًا مشهودًا له بالصلاح والأخلاق والمهارة أيضًا، فنحن نثق في أطبائنا، لكن بشرط ألا تكون هناك طبيبة في نفس مستواه العلمي، أو بسبب خطورة حالة المريضة التي يخشى عليها من الهلاك، أو تفاقم المرض أو الضرر العظيم لو تركت بدون علاج، في هذه الحالة يجوز أن يعالجها طبيب بشرط ألا يكشف من جسمها إلا بقدر حاجة الفحص، ونشترط أيضًا أن يكون الطبيب المعالج مسلمًا مشهودًا له بالتقوى، وفي كل الحالات التي تضطر المسلمة لعيادة طبيب لا يصح الفحص والعلاج إلا بوجود أحد محارمها، والمستوصفات النسائية ظاهرة إسلامية جديرة بالرعاية .
506- لوحظ في الفترة الأخيرة عدم وجود كلمة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في بطاقات الدعوة للأفراح والمناسبات، ونعلم أن الشيء ما لم يذكر فيه اسم الله فهو أبتر، فما رأي فضيلتكم في ذلك ؟(141/10)
لا يلزم أن تكتب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في بطاقات الدعوة والإعلانات، بل ربما يكون عدم كتابتها فيها أنسب، لأنها تطرح وتمتهن، وإنما تشرع كتابة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في الأشياء التي تحترم ولا تمتهن .
507- لدي قطيع من الأغنام، وفي يوم من الأيام رجعت هذه الأغنام إلى حظيرتها وإذا بينها عدد لا نعرف لمن هي، وقد مضى على هذه الحادثة أكثر من خمس سنوات وهذا العدد قد تزايد وتوالدت فهل لي ملك التصرف بها ؟ علمًا أننا في أول الأمر لم نعرف لمن وسألنا ولم نعثر على صاحبها ؟
الغالب في الأغنام أن يكون صاحبها قريبًا ومعروفًا والأغنام يكون عليها وسم، والواجب أن تعلن عنه حتى يعلم صاحبها أين هي، فإن كنت قد ناديت عليها وأعلنت عنها لمدة خمس سنوات ولم يأت صاحبها فلو أنك بعتها وتصدقت بثمنها على نية أنها لصاحبها، وإذا جاء صاحبها تغرم له قيمتها إذا فعلت هذا، فلا بأس، لكن يجب الاحتياط وهذا ليس بالشيء السهل يغفل عنه، فالواجب أن تحتاج وأن تنادي عليها، والأمر في هذا ليس بالأمر السهل والسكوت على هذا .
508- ما حكم الجلوس مع زوج الأخت بحضرة الأهل وبحشمة حيث لا يظهر إلا الوجه واليدان ؟(141/11)
أما الجلوس مع زوج الأخت والأهل إذا لم يكن هناك خلوة فلا بأس بذلك أن تجلس المرأة مع زوج أختها وغيره بحضرة أهلها وتكون متحشمة، لكن ما ذكرت من أنها كاشفة للوجه واليدين هذا لا يجوز، لأنها يجب عليها أن تستر وجهها وكفيها عن الرجل الأجنبي ولو كان زوج أختها، لأن الوجه والكفين عورة فيجب سترهما عن الرجال لقوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } [ سورة النور : آية 31 ] ، وهذا يلزم منه ستر الوجه، وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ } [ سورة الأحزاب : آية 59 ] ، وقد فسر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما بأن تغطي وجهها إلا عينًا واحدة تبصر بها الطريق كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره من المفسرين (16)، وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا خمارها من على رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه ) [ رواه أبو داود في »سننه« ( 2/173 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] ، إلى غير ذلك من أدلة وجوب الحجاب .
509- رجل يعمل في خارج البلاد وسافر من بلده وحده، ثم طلب من أهل زوجته أن يرسلوا زوجته إليه في البلاد التي يعمل فيها، فهل يجوز لهم إرسالها له بدون محرم، علمًا بأن السفر بالطائرة والرحلة بدون توقف ؟(141/12)
لا يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/35، 36 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، والمراد باليومين بالنسبة للسير على الأقدام والدواب وتقدر المسافة هذا المقدار فأكثر، حرم على المرأة السفر إلا مع ذي محرم مهما كانت وسيلة السفر سريعة أو بطيئة لعموم الحديث، وللخوف على المرأة وحاجتها إلى من يصونها ويحميها بأن يكون معها أحد محارمها، والطائرة أشد خطرًا من غيرها، لأنها قد يعتريها ما يغير اتجاه سيرها إلى بلد ليس فيه من يستقبلها فيه، فتضيع وتتعرض لخطر .
وقول السائل : إن الرحلة بدون توقف قول تخميني لا يبنى عليه حكم، وأيضًا الأحاديث عامة في اشتراط المحرم لسفر المرأة، حتى الذي أراد أن يخرج للغزو وامرأته تريد أن تحج، أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك الغزو ويحج مع امرأته (17) ، مما يدل على آكدية هذا الأمر الذي تساهل فيه كثير من الناس اليوم .
510- هل يجوز للمرأة السفر بالطائرة أو السيارة داخل المملكة بدون محرم ؟(141/13)
لا يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم بأي وسيلة من وسائل السفر في الطائرة، ولا في السيارة، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/35، 36 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] ، وفي رواية : ( مسيرة يوم إلا مع ذي محرم ) [ رواها الإمام ابن خزيمة في " صحيحه " ] ، فالسفر لا يجوز إلا مع محرمها حتى ولو كان السفر بوسيلة سريعة لعموم الحديث، ولأن المرأة يعتريها ما يعتريها في الطائرة وفي السيارة فتحتاج إلى المحرم، قد يتأخر موعد الطائرة، قد تتعطل السيارة، قد تتعطل الطائرة، قد تغير اتجاهها إلى بلد آخر لظروف طارئة، أو يحدث لها ما يحدث فهي بحاجة إلى المحرم الذي يصونها ويأخذ بيدها في المخاطر، والله أعلم .
511- كنت موظفًا في المنطقة المحايدة، وكان لدينا تاجر وكنا نأخذ ما نحتاج منه ونسدده، وذات مرة أخذت منه بعض الأشياء بمبلغ أربعمائة ريال، ثم انتقلت إلى الخفجي والمبلغ المذكور مازال دينًا في ذمتي، وقد أرسلت إلى صاحب المحل الذي هو التاجر أناسًا من الجماعة ولم يأتِ أي خبر عنه، فتصدقت بالمبلغ الذي له عليَّ بنية أنه له هو، فهل هذا جائز أم لا ؟
أولاً : يجب عليك البحث عن صاحب الحق لإيصال حقه إليه بأن تبحث عنه وتسأل عنه من تظن أن عنده خبرًا عنه، فإذا أعياك البحث وبذلت المجهود ولم تحصل على خبر ولا تدري أين ذهب فتصدق بالمبلغ على نية الأجر له، وإذا جاء وطالب بحقه فإنك تدفعه له وتكون الصدقة لك، وإن كنت تعرف من أقاربه ومن حوله من يوصل حقه إليه فادفع الحق إلى من يوصله إليه من أقاربه ومعارفه، وإن علمت أنه ميت فادفع المال إلى ورثته، أما إذا لم يكن هذا ولا ذاك ولا تعلم عنه شيئًا فكما ذكرنا تتصدق عنه بالمبلغ على نية أن الأجر له ولو جاء بعد ذلك وجب عليك أن تدفع له حقه وتكون الصدقة لك .(141/14)
512- أنا أعمل بمؤسسة وقد قدمت من مصر على أنني أعمل بالإنتاج، وعندما حضرت إلى عنيزة أخذ الكفيل صاحب المؤسسة العقد مني وقال لي : اشتغل بالنسبة، فيأخذ الثلث، فهل هذا حرام على الطرفين، فليس هذا ما اتفقنا عليه سلفًا، وأيضًا هو مخالف لنظام الحكومة ولو لم أوافق على ذلك فإنه يهددني بالسفر إلى بلدي وأنا في حاجة ماسة إلى العمل لاكتساب الحلال ؟
لا يجوز مثل هذا التعامل لما ذكرت أولاً، من أنه ليس باختيارك وإنما ألزمك به وهددك إذا لم توافق بأن يسفرك إلى بلدك، وأيضًا هو مخالف لنظام الحكومة الذي جعل لمصلحة المجتمع وكل من الأمرين يقضي ببطلان مثل هذا التعامل، فهذا تعامل حرام ولا يجوز للمستقدم أن يستغل حاجته وفقره ويسخره في العمل لمصلحته خلافًا لما اتفق عليه وخلافًا لما تقتضيه الأنظمة الحكومية التي جعلت لضمان مصلحة المجتمع ومصلحة الطرفين بالخصوص، فعلى كل حال هذا تعامل حرام ويجب على صاحب العمل أن يكف عنه وأن يرجع إلى أصل العقد الذي اتفقتما عليه حين استقدامك من بلدك، والله أعلم .
513- كان لشخص مزرعة وعندما توفي ولم يكن له ورثة زرعتها أنا حوالي عشرين سنة، كلما هطل المطر أزرعها وقد استخرجت عليها حجة شرعية، والآن تبين أن له ابن عم وأنا أريد أن أبيع هذه المزرعة فما الحكم هل لهذا الشخص الذي هو ابن عم صاحب المزرعة شيء فيها أم أستحقها أنا بموجب إحيائي لها وبموجب حجة الاستحكام التي حصلت عليها ؟ أفيدونا جزاكم الله خير الجزاء ؟(141/15)
الأرض لورثة الميت ويعتبر عملك فيها من باب الاعتداء على حقوق الآخرين، فيلزمك أن تسلمها لوارثه الشرعي، وأن تزيل ما أحدثته فيها إذا طلب منك إزالته وتسليمها سليمة كما كانت عند وفاة مالكها، ومن العجب أن تقول : استخرجت عليها حجة شرعية، فكيف يتم هذا من قِبل المحكمة دون تثبت ؟ وعلى كل حال فالأرض باقية على ملك صاحبها، وقد انتقلت بعده إلى ورثته الذين مات وهم على قيد الحياة كابن عمه الذي ذكرته، وإن كان معه مشاركون فالأرض للورثة وليس لك فيها أي استحقاق، وما عملته فيها يعتبر من التعدي ( وليس لعرقِ ظالم حق ) [ انظر " موطأ الإمام مالك " ( 2/743 ) من حديث هشام بن عروة عن أبيه، و " سنن أبي داود " ( 3/175 ) من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، وانظر " سنن الترمذي " ( 5/67 ) من حديث هشام بن عروة عن أبيه ] ، فلو طالبك الورثة بإخلائها وإزالة ما أحدثته فيها لزمك ذلك شرعًا، والله تعالى أعلم .(141/16)
المقالات والمحاضرات(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
مجموعة من مقالات صاحب المعالي
الشيخ صالح بن فوزان الفوزان - عضو هيئة كبار العلماء
حفظه الله
في جريدة الجزيرة
القول بعدم تخطئة المخالف
العدد 11672 الأحد 27 رجب 1425
12 سبتمبر 2004.
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمّد وآله وصحبه.. وبعد:
فقد كثر على ألسنة بعض الكتاب أنه لا تجوز تخطئة المخالف، وأنه يجب احترام الرأي الآخر، وأنه لا يجوز الجزم بأن الصواب مع أحد المختلفين دون الآخر.(142/1)
وهذا القول ليس على إطلاقه؛ لأنه يلزم عليه أن جميع المخالفين لأهل السنة والجماعة على صواب ولا تجوز تخطئتهم، وهذا تضليل؛ لأنه يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: هم مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). ويلزم على هذا القول أيضا أن المخالف للدليل في مسائل الاجتهاد لا يقال له مخطئ، ولا يردّ عليه، وهذا يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)؛ فدل على أن أحد المجتهدين المختلفين مخطئ، لكن له أجر على اجتهاده ولا يتابع عليه؛ لأن اجتهاده خالف الدليل، وإنما يصحّ اعتبار هذا القول، وهو عدم الجزم بتخطئة المخالف، في المسائل الاجتهادية التي لم يتبين فيها الدليل مع أحد المختلفين، وهو ما يعبر عنه بقولهم: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد)، و(الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد)، وهذا من اختصاص أهل العلم وليس من حق المثقفين والمفكرين الذين ليس عندهم تخصص في معرفة مواضع الاجتهاد وقواعد الاستدلال أن يتكلموا ويكتبوا فيه. ولو كان لا يُخطأ أحد من أصحاب الأقوال والمذاهب لكانت كتب الردود والمعارضات التي ردّ بها العلماء على المخالفين كلها مرفوضة، ولما كان لقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} فائدة ولا مدلول؛ لأنه لا تجوز تخطئة المخالف، وهذا لازم باطل؛ فالملزوم باطل، وما نقرؤه وما نسمعه من اتهام للعلماء الذين يردّون على المخالفين بأنهم يحتكرون الصواب لهم، ويخطئون مَن خالفهم، وأنهم يصادرون الآراء والأفكار.. إلى آخر ما يقال؛ فهو اتهام باطل؛ فإن العلماء المعتبرين لا يحتكرون الصواب في أقوالهم، وإنما يخطئون مَن خالف الدليل، وأراد قلب الحقائق؛ فيردّون على مَن هذه صفته عملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم(142/2)
-: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). وقد ردّ الله - سبحانه وتعالى - على أهل الضلال في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وشرع لنا الردّ عليهم؛ إحقاقاً للحق، وإزهاقاً للباطل. ولولا ذلك لشاع الضلال في الأرض، وخفي الحق، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، بل شرع الله لنا ما هو أعظم من ذلك، وهو جهاد أهل الباطل بالسيف والسنان، وبالحجة والبيان؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}.
وإذا كان حصل من بعض المتعالمين سوء أدب مع المخالفين، وتجاوز للحدود المشروعة في الردّ فهذا لا ينسب إلى العلماء، ولا يتخذ حجّة في السكوت عن بيان الحق، والردّ على المخالف.
هذا ما أحببت التنبيه عليه؛ {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، وصلى الله وسلم على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه.
الحوار يراد منه بيان الأحكام الشرعية وترسيخها
العدد 11622
السبت 7 جمادى الثانية 1425 هـ
24 يوليو 2004
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد:(142/3)
لا شك أن الحوار بين المختلفين في أمر من الأمور يراد به بيان الصواب وتجنب الخطأ، ومن هنا شرع الله سبحانه المجادلة بالتي هي أحسن وشرع الشورى وشرع المناظرة والمباهلة. قال تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، وقال تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، إذاً فالمقصود من الحوار والمناظرة والشورى والمباهلة استبيان الحق ومعرفة الخطأ وإقامة الحجة على المخالف، وهذه البلاد السعودية - ولله الحمد - قامت دولتها على الكتاب والسنَّة وتحكيم الشريعة والتمسك بالعقيدة الصحيحة وضمنت هذه المقاصد العظيمة في مناهج تعليمها وسياستها الداخلية والخارجية. والتزمت بإقامتها. فمن كانوا يتوقَّعون من الحوارات أن تتغيَّر هذه الثوابت فإنهم واهمون ويظهر هذا التوقّع وهذا التوهم من تعليقاتهم في الصحف وغيرها بعد نهاية كل حوار بأن هذه الحوارات لم تأت على المستوى الذي كانوا يتوقَّعونه منها.(142/4)
ونحن نقول: هناك مسلَّمات لا مجال للحوار فيها كأمور العقيدة وأحكام الشريعة والحقوق الواجبة بالكتاب والسنَّة لله سبحانه ولعباده، قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}. وحقوق الزوج على زوجته وحقوق الزوجة على زوجها وحقوق المسلمين عموماً وحقوق المرأة سواء أكانت زوجة أو أماً أو أختاً أو قريبةً أو أختاً مسلمة غير قريبة، وحقوق المستأمنين وأهل الذمة من الكفار. وحقوق المواطنين. كل هذه حقوق قررها الإسلام وأمر بإعطائها لمستحقيها. يبقى النظر في المشاكل التي قد تعترض هذه الحقوق ويرجع فيها إلى المحاكم الشرعية قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، وقال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}. وأما الأمور المستجدة في المعاملات وغيرها فالنظر فيها لهيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية. وأمور السياسة والأحكام السلطانية مردها إلى أولي الأمر. كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. وأما الأمور الفكرية والثقافية فيرد النظر فيها إلى مؤتمرات الحوار الفكري للاستفادة من الفكر المستقيم والبعد عن الفكر المنحرف الذميم. وأما الحقوق الوطنية فيرجع فيها إلى الدوائر(142/5)
المتخصصة بالنظر فيها وإلى الوزارات ذات العلاقة، وهكذا نجد أن الإسلام - ولله الحمد - قد نظَّم شؤوننا وأمر برد الأمور إلى نصابها كل في اختصاصه. وأما أن يرضى الناس كلهم عنا فهذا مستحيل، ولكن حسبنا أن نرضي الله ونقيم العدل بين الناس ما استطعنا ولو سخط من سخط.
قال الشاعر:
إن نصف أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل
وقال آخر:
لو أنصف الناس استراح القاضي ومال الجميع إلى التراضي
هذا وبالله التوفيق وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وآله وصحبه.
كيد الشيطان للمسلمين بواسطة المرأة
العدد 11612
الأربعاء 26 جمادى الأولى 1425
14 يوليو 2004(142/6)
إن عداوة الشيطان للإنسان قديمة منذ عهد أبيه آدم عليه السلام فهو ما زال يكيد لهذا الإنسان لإهلاكه كما قال لربه: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً}، ومن أعظم ما يكيد به الشيطان للإنسان كشف العورات لما يجر إليه من الوقوع في الفاحشة وفساد الأخلاق وضياع الحياء والحشمة، فكاد لآدم وزوجه بالأكل من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا}، فحصلت من آدم عليه السلام الخطيئة ولما عاتبه الله في ذلك تاب إلى الله فتاب الله عليه وقطع خط الرجعة على الشيطان لكن بقيت آثار المعصية بإخراجه من الجنة فزاد ذلك من توبة آدم إلى ربه واجتهاده في طاعته {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}، ففات على الشيطان غرضه وحصل لآدم من الإكرام وحسن العاقبة ما لم يتوقعه الشيطان وصار كما قيل: (رب ضارة نافعة) ثم إن الله سبحانه وجَّه النداء لبني آدم محذِّراً لهم من كيد هذا العدو الذي فعل مع أبيهم ما فعل أن لا يفتنهم ويوقعهم في الهلاك عن طريق التساهل في كشف العورات وامتن عليهم بلباسين يستران عوراتهم: اللباس الذي يواري سوءاتهم ويجمِّل هيئاتهم وهو اللباس المحسوس الذي يلبسونه على أبدانهم، واللباس الذي يواري سيئاتهم ويجملهم ظاهراً وباطناً وهو لباس التقوى الذي تتحلَّى به قلوبهم قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ}، {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا}، وما حذَّر الله عباده هذا التحذير إلا لأن الشيطان سيعيد عليهم الكرة فيأمرهم بالعري وخلع الستر ولباس الحشمة لما له في ذلك من المآرب الخبيثة(142/7)
والمطامع الدنيئة وقد عمل هذه المكيدة مع أهل الجاهلية فأمرهم أن يطوفوا بالبيت عراة رجالاً ونساءً وقال لهم: لا تطوفوا في أثواب قد عصيتم الله فيها فأطاعوه محتجين على ذلك أنهم وجدوا عليه آباءهم (وأن الله أمرهم بهذا) وهكذا احتجوا بالتقليد الأعمى وبالكذب على الله، وهما حجتان داحضتان ولكن صاحب الباطل يتعلَّق بخيط العنكبوت.
ولما بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أنكر هذا العمل ومنعه لما فتح الله له مكة وجعل له السلطة على أهلها فقال: (لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) وبعد هذا دبَّ الشيطان وأعوانه من شياطين الجن والإنس في هذا الزمان إلى المسلمين مطالبين بكشف العورات وخلع لباس الحشمة، طالبوا بإخراج المرأة عن الآداب الشرعية إلى الآداب الكافرة الإفرنجية وطالبوها بخلع الحجاب وإظهار الزينة وطالبوها بالخروج من البيت ومشاركة الرجال في أعمالهم التي لا تليق بالمرأة، طالبوا باختلاطها مع الرجال في مجالات العمل وفي مجالات اللهو واللعب في المسارح والمراقص ودور اللهو، طالبوها بأن تداوم في الوظيفة كدوام الرجال رغم ما يعتريها من حمل وولادة وحيض ونفاس، طالبوا أن تتولَّى المرأة أعمالاً لا يتحقق لها القيام بها إلا بالتنازل عن حيائها وحشمتها، بل طالبوا أن تقوم بأعمال لا تطيق القيام بها خلقة وطبيعة أن تكون وزيرة وسفيرة ومديرة ورئيسة أعمال متناسين أنها أنثى خُلقت لأعمال النساء لا لأعمال الرجال {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}، إن الكفار حينما ينادون بذلك يريدون أن يسلبوا المرأة كرامتها ومكانتها اللائقة بها حتى ما تمتع به المرأة المسلمة من عزة وكرامة ومكانة عالية، ومن ينعق بأفكارهم ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا في الصحف والمجلات والمؤلفات إنما ينعقون بما لم يدركوا عواقبه الوخيمة أو يدركوا ذلك ولكن يريدون أن يرضوا أسيادهم أو يريدون أن تكون المرأة ألعوبة بأيديهم يستمتعون بما(142/8)
يتمكنون من الاستمتاع به منها، والعجيب أن بعض النساء المخدوعات ينعقن بهذه الأفكار دون أن يدركن ما يحاك ضدهن فهن كما قال الشاعر:
فكانت كعنز السوء قامت بظلفها إلى مدية تحت التراب تثيرها
إننا نريد من أمتنا رجالاً ونساءً حكومةً وشعباً أن يقفوا ضد هذه الحملة الشرسة المركَّزة على المرأة المسلمة التي إن نجحت (ونعوذ بالله) نكبت المجتمع في أعز ما لديه لأن المرأة قاعدة الأسرة قال الشاعر:
والأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
وإذا انهارت الأسر انهار المجتمع، لأن الأسر هن لبناته فاتقوا الله يا من تنادون بتمرد النساء وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة خيراً وحذَّر من خطرها فقال: (واتقوا النساء فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
لما علم شياطين الإنس والجن ما للمرأة من مكانة في المجتمع ركَّزوا عليها وزعموا أنها مظلومة ومهضومة الحقوق وفي الحقيقة هم الذين يريدون سلب حقوقها وإخراجها عن طورها وخصائصها، يريدونها أن تكون كادة كادحة مضيعة لمسئوليتها فهي ربة بيت وراعية أسرة ومربية أجيال وسكن زوج، فأعمال الرجال للرجال وأعمال النساء للنساء هكذا فطر الله الناس وخلقهم {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
مناهجنا الدراسية واختلاف المفاهيم حولها
العدد 11487
الخميس 20 محرم 1425
11 مارس 2004
الحمد لله الذي أنزل الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبلغ عن الله ما أنزل إليه من ربه، وعلى آله وصحبه، وبعد:(142/9)
فما يزال أهل الأهواء في نظرتهم إلى الحق في أمر مريج و(في قول مختلف، يؤفك عنه من أفك).. قالوا عن القرآن إنه سحر، وإنه أساطير الأولين، وإنه شعر لأنهم في معارضتهم للحق ليس عندهم برهان يستندون إليه في معارضتهم فاختلفت بهم الأهواء، وتعددت منهم الآراء، وهكذا من أعرض عن الحق فإنه يكون في ضلال مبين، (فماذا بعد الحق إلا الضلال). واليوم كثرت الصيحات حول المناهج الدراسية في مدارس المسلمين عموماً، وفي مدارس هذه البلاد خصوصاً للمطالبة بتغييرها، ولو كانت هذه الصيحات والمناداة من الكفار لهان الأمر، لأن ذلك ليس غريباً منهم فهم يريدون اجتثاث الإسلام من أصله، كما قال الله تعالى فيهم: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} وقال تعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} وقال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}.. ولكن الغريب والمؤسف حقاً أن تأتي هذه الصيحات من بعض بني الإسلام الذين يفترض فيهم الغيرة لدينهم والمحافظة على مناهجهم والرد على دعوات أعدائهم. فمنهم من يقول: إنها تعلم الإرهاب لأنها بزعمهم تعلم الولاء والبراء اللذين أمر الله بهما في كتابه وسنة رسوله، فلا دين إلا بولاء وبراء، كما قال بعض العلماء:
وما الدين إلا الحب والبغض والولا كذاك البرا من كل غاد وآثم(142/10)
والولاء معناه محبة الدين الإسلامي وأهله، والبراء معناه بغض الكفر وأهله، لكن هم فهموا أن الولاء والبراء معناهما الاعتداء على الناس في دمائهم وأموالهم بغير حق، وربما يستشهدون بفعل بعض الفئات الضالة التي قامت بالتفجيرات في البلاد وروعت العباد وأفسدت في الأرض، وهذه الفئات ليست حجة على المسلمين فهي فئات ضالة يحذر منها ومن عملها الإسلام ويبرأ منها المسلمون وهي لا تمثل المسلمين ولم تتخرج على مناهج المسلمين وإنما تخرجت على أفكار منحرفة تلقتها من هنا وهناك من ضلال البشر ووحوش العالم.
وعقيدة الولاء والبراء لا تجيز الاعتداء على الناس، قال الله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، أي لا يحملكم بغض الكفار وبغض دينهم على الاعتداء عليهم والجور في حقهم وعدم إنصافهم، ومنع حقوقهم. كما أن عقيدة الولاء والبراء في الإسلام لا تحرم التعامل مع الكفار في البيع والشراء والمعاهدات وتبادل المنافع والخبرات وعقد الصلح وعقد الأمان والهدنة بيننا وبينهم، وإنما مقتضى الولاء والبراء الاحتفاظ بديننا والحذر من دين الكفار، ومن شرهم.(142/11)
ومنهم من يقول: إن المناهج الدراسية عندنا تعلم التشدد والغلو.. وهذا على العكس فمناهجنا تعلم الوسطية والاعتدال وتنهى عن الإفراط والتفريط، لكن هؤلاء فهموا أن بيان العقيدة الصحيحة والعقيدة الباطلة وبيان الحلال والحرام والسلوك الطيب المعتدل والنهي عن الانحلال أنه تشدد وغلو، وهذا مفهوم خاطىء لأن الله سبحانه أمر بعبادته وحده ونهى عن عبادة ما سواه، وأحل الطيبات وحرم الخبائث وحث على الصدق في القول والعمل، فمن تعلم هذا ودرسه وأمر به فهو معتدل لا متشدد، وإنما الغالي والمتشدد والمفرط هو من خالف هذا المنهج، ولهذا قال بعض السلف: دين الله بين الغالي والجافي، وإذا وجد متشدد ومتطرف فهذا لا يمثل الإسلام وليس حجة على المناهج الدراسية لأنه لم يتلق ذلك عنها، وإنما تلقاه من خارجها وبعيداً عنها فهو من الشاردين في فكره وعقله ودينه، قد اعتزل المسلمين وعاش متوحشاً.(142/12)
وقال بعضهم: إن المناهج تعلم التكفير، لأنها تبين نواقض الإسلام وتبين أنواع الشرك والكفر والنفاق وتحذر من البدع والمحدثات، وتعليم هذه الأمور -عندهم وبزعمهم- تكفير للمسلمين.. ونقول: حاشى وكلا، فمناهجنا -والحمد لله- لم تكفر مسلماً ولم تبدع سنياً، وإنما تحذر من أسباب الردة وتحذر من الكفر والشرك والابتداع في الدين حماية للإسلام والمسلمين وتبصيرا للناس، وهذا شيء موجود في الكتاب والسنة. والمسلم إذا درس هذه الأمور وتعلمها ليس معناه أنه يحكم على الناس بالكفر والشرك والتبديع دون مبرر، وإنما معناه أن يعرف هذه الأمور ليتجنبها ويحذر منها ولا يطبقها إلا على من تنطبق عليه حقيقة لا توهماً. ثم إن هذه الأمور لها مراجعها العلمية، وليس من حق كل طالب علم أن يحكم بها على الناس دون تثبت وبصيرة، أرأيتم لو ترك بيان هذه الأمور ولم تدرس للطلاب في المناهج على بصيرة وعلى أيدي علماء متخصصين، أليس الخطر أشد إذا تلقوها عن الكتب المجردة أو عن أصحاب الأفكار المنحرفة، فكونهم يبصرون بها عن طريق المناهج الدراسية والتعليم المنضبط أسلم عاقبة وأضمن نتيجة.
وختاماً.. نسأل الله أن يهدينا وجميع المسلمين لمعرفة الحق والعمل به وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
في مضامين كلمة ولي العهد حفظه الله
العدد 11452
الخميس 14 ذو الحجة 1424
5 فبراير 2004
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وآله وأصحابه ومن اتبع سنته ووالاه.(142/13)
وبعد: فقد استمعت وقرأت كما استمع وقرأ غيري كلمة سمو ولي العهد الأمير:عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله التي ألقاها سموه في وسائل الإعلام ونشرتها الصحف والمجلات وهي بمنزلة منهج يسير عليه الحوار الوطني الذي أقيم ويقام في المملكة العربية السعودية والذي يكون الغرض منه إتاحة الفرصة لإبداء الآراء في حل المشكلات التي تعترض سير البلاد نحو الأصلح والمفيد وإيصال كلمة الحق إلى المخالف بطريقة مقنعة حكيمة على حد قوله تعالى: (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) وكان من ضمن كلمته حفظه الله:ألا تمس العقيدة باسم حرية الرأي وأن الغلو كما يكون في الزيادة في الدين يكون في التساهل والتفريط فيه والتمرد على أحكامه.. وهما نقطتان مهمتان تعنيان أنه لا مساومة على عقيدة التوحيد وأحكامها بل تبقى كما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار عليها خلفاؤه الراشدون وصحابته الأكرمون والقرون المفضلة والأئمة الأربعة وأتباعهم من أهل السنة والجماعة من التمسك بالعقيدة كما جاءت في الكتاب والسنة بأقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.. وتوحيد الأسماء والصفات.. وما يتبع ذلك من محبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والترضي عنهم والاقتداء بهم والثناء عليهم كما أثنى الله عليهم ورضي عنهم وأمر باتباعهم حيث قال جل وعلا: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين يها أبداً ذلك الفوز العظيم) وما يتبع هذه العقيدة من موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله عملاً بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق). إن هذه العقيدة قد جرى عليها وعلى أهلها من الامتحان ما جرى ويجري في مختلف العصور كما هو واقع ومشاهد الآن من خصومها ولكن قد قيض الله الأئمة(142/14)
المصلحين والمجددين يذبون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين..من أمثال الأئمة الأربعة.
وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه والإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب..وقيض لها من السلاطين والملوك من قام إلى جانب هؤلاء العلماء المجددين المصلحين بالحماية لدعوتهم والجهاد في سبيلها من أمثال الأئمة والملوك من آل سعود الذين ناصروا دعوة الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله والذين لا يزالون, والحمد لله, يناصرون الحق ويقمعون الباطل فمكن الله لهم في الأرض كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقداكم) وقال تعالى: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز, الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) إن كلمة سمو ولي العهد - حفظه الله - بعثت الثقة في نفوس المؤمنين وطمأنتهم أن هذه الدولة بمشيئة الله ستحافظ على عقيدة التوحيد في مناهج الدراسة وفي جميع المجالات ولا تلتفت إلى أهواء المغرضين والمعرضين عن الحق الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر كأسلافهم من المنافقين. وصدق سمو ولي العهد - حفظه الله - حينما قال إن الغلو كما يكون في الزيادة في الدين يكون في التساهل فيه, فالتسامح في الدين إنما يكون بالعمل بالرخص الشرعية وقت الحاجة إليها وفي حدود الحاجة وليس معناه التحلل من أحكام الدين والتمرد على الشريعة وترك الواجبات وارتكاب المحظورات باسم التيسير وترك التزمت كما يقولون.(142/15)
أما العقيدة فلا مجال للتلاعب بها باسم حرية الرأي كما قال حفظه الله لأن العقيدة توقيفية لا مجال للاجتهاد فيها لأنها مبنية على الكتاب والسنة, فما لم يرد في الكتاب والسنة من الآراء والاجتهادات فهو مردود ومرفوض وصاحبه مخطىء ضال ولهذا رد الأئمة قديماً وحديثاً على أصحاب العقائد الباطلة والأفكار المنحرفة وبينوا العقيدة الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة لا من الآراء والأفكار وهذا من حفظ الله لهذا الدين كما قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى) ولما أخبر صلى الله عليه وسلم عن افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة قال: (كلها في النار إلا واحدة قيل: من هي يا رسول الله قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) إذاً العقيدة الصحيحة هي عقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا مجال للآراء المختلفة والمخالفة لهذه العقيدة وهذه العقيدة - ولله الحمد - محفوظة ومدونة في كتب أهل السنة - وهي تدرس الآن في مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا وتقوم عليها مناهجنا الدراسية ولا مجال لانتقادها والطعن فيها باسم حرية الرأي كما قال سمو ولي العهد حفظه الله (إن هذه الدولة السعودية المباركة قامت على العقيدة الصحيحة وإن من يريد اجتثاث هذه العقيدة إنما يريد اجتثاث الدولة) ولكن: (يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون) وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الأسماء لا تغير الحقائق
العدد 11590
الثلاثاء 4 جمادى الأولى 1425
22 يونيو 2004(142/16)
إن من المغالطات المكشوفة تسمية الأشياء بغير اسمها تلبيسا على الناس وتغريراً بالجهال، ومن ذلك تسمية التخريب والاعتداء على الناس وسفك الدماء المحرمة وإتلاف الممتلكات مما تقوم به تلك الفئة الضالة ويسمون ذلك جهادا في سبيل الله ويسمون الانتحار استشهاداً، وربما ينخدع بعض الناس خصوصاً صغار السن بهذا التضليل وينخرطون معهم في الإفساد في الأرض ونقول لهؤلاء ومن اغتر بهم:
أولاً: الجهاد في سبيل الله هو قتال الكفار والمشركين لإزالة الشرك ونشر التوحيد بعد دعوتهم إلى الله وامتناعهم من قبول الدعوة، وتنظيم الجهاد والإشراف عليه من صلاحيات إمام المسلمين، لأن الذي تولاه في عصور الإسلام كلها هم ولاة الأمور، ابتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ومن جاء بعدهم من ولاة أمور المسلمين، وليس الجهاد فوضى، كل يقوم به ويأمر به، والله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ } (38) سورة التوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإذا استنفرتم فانفروا) فلا يجوز للمسلم أن يجاهد إلا إذا استنفر للجهاد والذي يستنفر هو ولي أمر المسلمين، إذا توفرت شروط الجهاد وزالت موانعه.
ثانياً: الجهاد لا يكون بقتل المسلمين والمستأمنين، وإنما يكون مع الكفار المحاربين، وأما قتل المسلمين والكفار المستأمنين فإنه عدوان وظلم، والله قد حرم العدوان والظلم في حق المسلم والكافر، وليس هذا العدوان جهادا في سبيل الله، وإنما هو جهاد في سبيل الشيطان، والمسلم لا يرضى أن يكون من جند الشيطان ومن أولياء الشيطان.(142/17)
ثالثاً: لا يجوز قتل الكافر المستأمن والمعاهد والذمي بحجة أن الكفار الآن يقتلون المسلمين كما يحتج بذلك الجهال، لأن الله تعالى يقول: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (164) سورة الأنعام، وهذا من فعل الجاهلية الذين كانوا يقتلون البريء بحجة الانتقام من المجرم، وأيضا هذا قتل لمن يحرم قتله.
رابعاً: الانتحار ليس استشهاداً لأن المنتحر يتعمد قتل نفسه، ومن قتل نفسه فهو متوعد بالنار كما صحت بذلك الأحاديث والله تعالى يقول:{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا } (169) سورة آل عمران، ولم يقل قتلوا أنفسهم، والمقتول في سبيل الله مأجور، وقاتل نفسه آثم ففرق بين الحالتين، ولا يسوي بينهما إلا ملبس أو جاهل.. فنصيحتي لهؤلاء الذين غُرِّر بهم وخدعوا بهذا الفكر المنحرف أن يرجعوا إلى صوابهم، ويتوبوا إلى ربهم ويلقوا سلاحهم ويضعوا أيديهم بأيدي إخوانهم، وولاة الأمور - حفظهم الله - قد وعدوا من سلم نفسه تائباً أنه سيعامل معاملة خاصة.. والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
نصيحة للشباب
العدد 11651
الأحد 6 رجب 1425
22 أغسطس 2004
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ومن والاه وبعد:(142/18)
فإنه لما حدثت التفجيرات في الرياض وغيرها وقد قام بها ثلة من شباب المسلمين استغرب الناس هذا الحدث واختلفوا في تعليلاته وأسبابه. وكل أدلى برأي. والذي أراه سببا وحيدا لذلك هو تربية الشباب منذ صغرهم على مناهج دعوية وافدة تخالف المنهج السليم الذي كانت تسير عليه البلاد ويتلقون أفكارا من خلال تلك المناهج أدت بالكثير منهم إلى ما لا تحمد عقباه. لقد كان صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين والقرون المفضلة يسيرون على منهج الكتاب والسنة الذي تركهم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوصاهم بالتمسك به فقال: (إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي) وقال - عليه الصلاة والسلام -: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). والله تعالى قد أوصانا باتباع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فقال - سبحانه وتعالى -: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ومنهج هؤلاء الذين أوصانا الله باتباعهم يحتاج منا إلى معرفته وتعلمه ومعرفة ما يخالفه ويضادّه؛ حتى نتجنبه إذ لا يمكن لنا اتباع منهج السلف إلا بمعرفته؛ ولهذا قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَان} أي باعتدال من غير غلوّ ومن غير تساهل ولا تفريط، ولا يمكن ذلك إلا بتعلم هذا المنهج وعلم ما يخالفه ويضاده؛ ولذلك ألف الأئمة كتب العقائد التي فيها بيان منهج السلف وبيان منهج المخالفين لهم من شيعة وقدرية وخوارج وجهمية ومعتزلة ومشتقاتهم من الفرق الضالة(142/19)
التي أخبر عنها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي).
واليوم شبابنا تتخطفهم مناهج مختلفة فيحتاجون إلى دراسة عقيدة السلف الصالح بعناية تامة وتحذيرهم من الانقسامات تبعاً للمناهج الوافدة عملا بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وكثير ممّن ينتمون لمنهج السلف يجهلونه ولذلك اختلفوا بينهم؛ كلٌّ يزعم أن الصواب معه؛ فحصلت بينهم صراعات مريرة، بل وصل الأمر ببعضهم إلى التكفير لغيرهم أو التفسيق والتبديع نتيجة للجهل بمنهج السلف؛ فلم يتبعوه بإحسان، بينما فرق أخرى من الحزبيين تزهد بمنهج السلف وتتبع رموزاً من حركيين ومنظرين أبعدوهم عن منهج السلف فاعتنقوا أفكاراً غريبة عن منهج السلف. وكلا الفريقين من هؤلاء وهؤلاء على طرفي نقيض وفي صراع مرير أفرحوا به أعداء الإسلام، ولا ينجي من هذا الصراع والاختلاف بين صفوف شباب الأمة إلا الرجوع الصادق إلى الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة وأئمتها؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته. وهذا لا يحصل ولا يتحقق إلا بتعلم العقيدة الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وهذا - ولله الحمد - مضمّن في مناهج الدراسة وكتب العقيدة المقررة في مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا ومساجدنا؛ فيا أيها المدرسون الكرام ونحن في بداية العام الدراسي.. الله.. الله عليكم الجدّ والاجتهاد في توضيح هذه(142/20)
العقيدة الصحيحة السليمة لأبنائكم الطلاب حتى تكون لهم حصناً منيعاً - بإذن الله - يقيهم من الانحراف الفكري، وربوهم على التآخي في الحق وعفة القول فيما بينهم بدلاً من التراشق فيما بينهم بالاتهامات الجارحة والوقيعة في أعراض العلماء والدعاة؛ قال تعالى: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
وحينما أقول: إن الشباب على طرفي نقيض حول منهج السلف فلست أعني كل الشباب؛ لأن هناك كثيراً من الشباب - ولله الحمد - على منهج سليم ومنهج وسط معتدل هو منهج السلف الصالح وهم قدوة صالحة لشباب الأمة نرجو الله أن يثبتهم ويرزقهم الفقه في دينه، لكننا نخاف عليهم التأثر بالتيارات المضللة التي اجتاحت فئات من شبابنا والحي لا تؤمن عليه الفتنة - كما قال بعض السلف: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة)؛ فيا شباب الأمة خذوا عن العلماء الربانيين الذين يدعون إلى كتاب الله وسنة رسوله ويعلمونكم العلوم النافعة في المدارس والمساجد، وإياكم والأخذ عن أهل الضلال والجهال وأصحاب الأهواء، وخذوا عمن تثقون بعلمه ودينه وعقيدته كما قال بعض السلف: (إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم) فأقبلوا على طلب العلم الصحيح واحذروا من التفرق والتنابز بالألقاب؛ قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}، وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ وذلك بسبب تفرقهم واختلافهم وخذوا بوصية نبيكم - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) وخوّفوا مما خاف منه النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما قال:(142/21)
(وإنما أخاف على أمتي الأئمة المصلين)؛ إنه ليس لنا إمام وقدوة سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ}. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من قال هناك شخص يجب اتباعه غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل). ومعنى هذا أن غير الرسول لا يتبع إلا إذا اتبع الرسول. ومن خالف الرسول حرم اتباعه. وأبو بكر - رضي الله عنه - يقول: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا تطيعوني)؛ ومعنى هذا أنه ليس هناك متبوع معصوم غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وعليكم معشر الشباب بتوقير العلماء والمدرسين حتى تستفيدوا من علمهم، فإن احتقرتموهم حرمتم من علمهم. وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح.
هناك من يدعو إلى البقاء على التفرق في الآراء كما نقرأ لهم في الصحف والمجلات، ويقولون: إن هذا من يسر الإسلام في قبول الرأي والرأي الآخر ومن الأخذ بالاجتهاد. وهذا من المغالطة والتضليل؛ لأن الله لم يرضَ لنا البقاء على الاختلاف، بل حذرنا من ذلك؛ فقال سبحانه: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل الفرقة والإضاعة.(142/22)
والأخذ بأقوال المجتهدين، وهو الذي يعبر عنه بقولهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد؛ فذلك حينما لا يتبين الدليل مع أحد المختلفين، فإذا تبين وجب الأخذ بما قام عليه الدليل وترك ما خالفه، وهو معنى قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}، وأصحاب هذه الفكرة يقولون: لا تردون مسائل النزاع إلى الله والرسول وإنما كلّ يبقى على قوله، ويجوز لنا الأخذ بأي قول دون نظر إلى مستنده. نحن لا نتعصب لإمام معين؛ لا نأخذ إلا بقوله، وإنما نتبع الدليل مع أي إمام كما أمرنا الله ورسوله بذلك. قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: إذا جاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين، وإذا جاء الحديث عن الصحابة فعلى الرأس والعين. وإذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال؛ أي هم مجتهدون ونحن مجتهدون؛ حيث لا دليل. وقال الإمام الشافعي - رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد). وقال - رحمه الله -: (إذا خالف قولي قول رسول الله فاضربوا بقولي عرض الحائط)، وقال الإمام مالك - رحمه الله -: (أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد لجدل هؤلاء؟). وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: (عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}). وقبل هؤلاء الأئمة يقول ابن عباس - رضي الله عنهما - لما خالفه أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - في مشروعية فسخ الحج إلى العمرة مع أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضحة في مشروعية الفسخ؛ قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون: قال أبو بكر وعمر).(142/23)
أقول: فكيف بالذين يقولون الآن: قال المفكر الفلاني والكاتب والفلاني ممّا يخالف كلام الله وكلام رسوله، ويسر الإسلام ليس باتباع الأقوال وإنما هو بالأخذ بالرخص الشرعية.
اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول ونسألك الثبات على الحق ونعوذ بك من اتباع الهوى. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
تصحيح مفاهيم
العدد 11602
الأحد 16 جمادى الأولى 1425
4 يوليو 2004
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:(142/24)
في مقالات مضت تناولت بالبيان بعض الشبهات التي يتعلق بها هؤلاء الذين غرر بهم من أبناء المسلمين فأساءوا إلى دينهم ومجتمعاتهم بسببها، ولا شك أن الفتن على قسمين فتن شبهات وتكون في العقيدة والدين، وفتن شهوات وتكون في الأفعال والسلوك والأخلاق، ويروج هذه الشبهات بقسميها أعداء الإسلام والمسلمين، كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} والمسلم على خطر من هذه الشبهات أن تؤثر عليه وتضله، فهذا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام خاف على نفسه من فتن الشبهات فقال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ) ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك) والراسخون في العلم يقولون: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ولا شك أن هذه الشبهات يجب أن تعرض على أهل العلم ليكشفوا زيفها ويبيّنوا بطلانها حتى يسلم المسلمون من شرها وشر أهلها ولا تعرض على الجهال وأنصاف المتعلمين أو تعرض على علماء الضلال فإن هؤلاء لا يزيدونها إلا شراً، ونحن الآن في فتن عارمة استهوت كثيراً من شباب المسلمين فنتج عنها التخريب في بلاد المسلمين وقتل الأبرياء من المسلمين والمستأمنين وإتلاف الأموال والممتلكات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)(142/25)
وقال عليه الصلاة والسلام: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه) ودماء المستأمنين من الكفار وأموالهم كدماء المسلمين وأموالهم فلا يجوز قتل المستأمن عمداً وإن قتل خطأ فإنه على القاتل الدية والكفارة، قال صلى الله عليه وسلم في قتله عمداً: (من قتل معاهداً لم يُرح رائحة الجنة) وقال تعالى في قتله خطأ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} وهذا يدل على وجوب وفاء المسلمين بالعهود وتحريم الغدر بها حتى مع الكفار (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) وهؤلاء الذين يقتلون الكفار في بلاد المسلمين قد خالفوا الكتاب والسنّة وعصوا الله ورسوله وعملهم هذا غدر وخيانة وإن سموه جهاداً فهو جهاد في سبيل الشيطان وشبهتهم في ذلك عموم حل دم الكافر وماله ولم يعلموا أن هذا الحكم خاص بالكافر الحربي دون الكافر المعاهد والمستأمن والذمي، كذلك من شبهتهم في قتل رجال الأمن المسلمين أن الصائل يقتل دفعاً لشره. ولم يعلموا أنهم هم الذين ينطبق عليهم حكم الصائل لأنهم يصولون على المسلمين والمستأمنين، ورجال الأمن هم الذين يدفعون الصائل في هذه الحالة ولو أنهم كفوا أذاهم عن المسلمين ولم يشهروا السلاح في وجوه المسلمين لما تعرض لهم رجال الأمن، ففي الحقيقة هم الصائلون الذين يجب دفع شرهم عن المسلمين ورجال الأمن لهم الأجر في ذلك ومن قُتل من رجال الأمن فإنه(142/26)
ترجى له الشهادة في سبيل الله لأنه يدفع الصائل عن نفسه وعن المسلمين.
ومن شبه هؤلاء المخربين أنهم يقولون إن دول الكفر تقتل المسلمين وتشردهم ونحن نقتل هؤلاء الكفار الذين يقيمون في بلاد المسلمين انتقاماً من الدول الكافرة التي تقتل المسلمين، ونقول لهؤلاء أولا: هؤلاء الكفار المقيمون في بلادنا بالأمان والعهد يحرم قتلهم بموجب العهد والأمان (من قتل معاهداً لم يُرح رائحة الجنة) رواه البخاري وغيره وهذا وعيد شديد لأن هذا العمل غدر وخيانة.
ثانياً: هذا العمل من قتل الأبرياء الذين لم تحصل منهم إساءة في حق المسلمين والله تعالى يقول: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وإنما هذا من فعل الجاهلين وإذا كنتم تزعمون أن هذا العمل انتقام من الكفار فأنتم تمشون في مخططاتهم فهم الذين يزرعون التخريب في بلاد المسلمين ويدربون المخربين، أليسوا يؤون المطاردين أمنياً من بلاد المسلمين ويحمونهم ويفسحون لهم المجال في بث الدعايات السيئة ضد المسلمين ويسمونهم بالمعارضين، فلا تكونوا عوناً للكفار على المسلمين وجنداً لهم.
وختاماً: أحذرُ شباب المسلمين من الانخداع بهذا الفكر المنحرف وادعو من انخدعوا به إلى التوبة والرجوع إلى الصواب والانضمام إلى إخوانهم وبلدانهم فالرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
حكم الانتخابات والمظاهرات
العدد 11358
الاثنين 8 رمضان 1424
3 نوفمبر 2003
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين وبعد:
فقد كثر السؤال عن حكم الانتخابات والمظاهرات بحكم أنهما أمر مستجد ومستجلب من غير المسلمين، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
1- أما الانتخابات ففيها تفصيل على النحو التالي:(142/27)
أولاً: إذا احتاج المسلمون إلى انتخاب الإمام الأعظم، فإن ذلك مشروع بشرط أن يقوم بذلك أهل الحل والعقد في الأمة والبقية يكونون تبعا لهم، كما حصل من الصحابة رضي الله عنهم حينما انتخب أهل الحل والعقد منهم أبا بكر الصديق رضي الله عنه وبايعوه، فلزمت بيعته جميع الأمة، وكما وكَّل عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختيار الإمام من بعده إلى الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة فاختاروا عثمان بن عفان رضي الله عنه وبايعوه فلزمت بيعته جميع الأمة.
ثانياً: الولايات التي هي دون الولاية العامة فإن التعيين فيها من صلاحيات ولي الأمر بأن يختار لها الأكفياء الأمناء ويعينهم فيها، قال الله تعالى: { (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) }، وهذا خطاب لولاة الأمور، والأمانات هي الولايات والمناصب في الدولة جعلها الله أمانة في حق ولي الأمر وأداؤها اختيار الكفء الأمين لها، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وولاة أمور المسلمين من بعدهم يختارون للمناصب من يصلح لها ويقوم بها على الوجه المشروع.
وأما الانتخابات المعروفة اليوم عند الدول فليست من نظام الإسلام وتدخلها الفوضى والرغبات الشخصية وتدخلها المحاباة والأطماع ويحصل فيها فتن وسفك دماء ولا يتم بها المقصود، بل تصبح مجالا للمزايدات والبيع والشراء والدعايات الكاذبة.
2- وأما المظاهرات فإن الإسلام لا يقرها لما فيها من الفوضى واختلال الأمن وإتلاف الأنفس والأموال والاستخفاف بالولاية الإسلامية، وديننا دين النظام والانضباط ودرء المفاسد وإذا استخدمت المساجد منطلقا للمظاهرات والاعتصامات فهذا زيادة شر وامتهان للمساجد وإسقاط لحرمتها وترويع لمرتاديها من المصلين والذاكرين الله فيها، فهي إنما بنيت لذكر الله والصلاة والعبادة والطمأنينة.(142/28)
فالواجب على المسلمين أن يعرفوا هذه الأمور ولا ينحرفوا مع العوائد الوافدة والدعايات المضللة والتقليد للكفار والفوضويين. وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
حكم رفع الصوت بالبكاء عند القنوت
3 نوفمبر 2003
العدد 11358
الأثنين 8 ,رمضان 1424
سُئل فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان سؤالاً فحواه:
ما حكم رفع الصوت بالبكاء عند دعاء القنوت، وقد يظهر ذلك المصلي الخشوع وربما تمر عليه الآيات ولا يتأثر بها؟
فأجاب فضيلته بقوله:
يكره رفع الصوت بالبكاء في الصلاة، لما فيه من خشية الرياء، ولما فيه من التشويش على المصلين.
كما تكره المبالغة في دعاء القنوت من قبل الإمام وإطالته، لما في ذلك من المشقة على المأمومين، فالواجب التوسط في ذلك.(142/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
الإجابات العلمية والتوجيهات المنهجية
لفضيلة الشيخ : صالح الفوزان عضو اللجنة الدائمة للإفتاء
س1: يقول السائل : ما قولكم فيمن يقول إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله سلفياً في العقيدة ولكنه ليس بسلفي في الفقه هل هذا القول صحيح وجزاكم الله خيرا ؟
ج1: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيناً محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وبعد :
فإنه من المعلوم أنه في زماننا هذا وجد من يزهد في علماء السلف ويقلل من شأنهم ويحث على الاتجاه بما يسمونهم المفكرين المعاصرين ، ومن ذلك هذه الفرية التي تسألون عنها ، وهي أن الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله سلفياً في العقيدة ليس بسلفي في الفقه ، لا أدري ما وجه هذا التقسيم ، فكيف يكون الإنسان مشكل ، سلفي وليس بسلفي ، هذا لا يقوله أحد ، بل الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله سلفي في العقيدة وفي الفقه ، لأنه في العقيدة على منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم من الأئمة ، وفي الفقه على مذهب الإمام أحمد الذي هو من أئمة السلف ، وهو لا يأخذ أقوال الإمام أحمد مجرد تقليد بل أنه يأخذ ما ترجح من مذهب الإمام أحمد بالدليل ، فهو ليس مقلداً من دون اختيار لما قام عليه الدليل ، بل أنه يعتبر من المجتهدين في المذهب الحنبلي ، على نمط شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم والمحقيقين لمذهب الإمام أحمد رحم الله الجميع ، فالشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب سلفي في العقيدة وسلفي وفي الفقه ، لأنه يأخذ بفقه السلف ويأخذ من فقه السلف ما قام عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أقوال هذا من عندي ، من أراد أن ينظر إلى صدق هذا فليراجع فتاوى هذا الإمام ومؤلفاته في الفقه سيجد أنه رحمه الله يختار القول الذي يؤديه الدليل حتى ولو كان أحياناً من غير مذهب الإمام أحمد، لأنه رجل(143/1)
يطلب الدليل ويعمل به ، ولا يأخذ أقوال الفقهاء مجرد تقليد لهم من غير معرفة أدلتهم فهو يعتبر مجدداً في العقيدة ومجدداً في الفقه والفتوى أيضاً .
***************************
س2: يقول السائل : ما حكم من يوقر أهل البدع ويحترمهم ويثني عليهم ، بأنهم يطبقون حكم الإسلام مع علمه عن ببدعهم ، وفي بعض الأحيان عندما يذكرهم في الدروس العامة يقول : "مع التحفظ على بعض المواقف عند هؤلاء " يقصد بذلك هؤلاء المبتدعة ، أو يقول : " بغض النظر عن ما عند هؤلاء من أخطاء " ونحو ذلك من التهوين من شأن بدعهم مع العلم أيضاً أن بعض هؤلاء المبتدعة الذين يحترمهم هذا القائل ويثني عليهم ويدافع عنهم لهم كلام مكتوب ومسجل يعرفه فيه طعن للسنة وتجهيل للصحابة وغمز للنبي - صلى الله عليه وسلم - فما حكم هذا القائل ؟ وهل يحذر من أقواله هذه؟(143/2)
ج2: لا يجوز تعظيم المبتدعة والثناء عليهم ولو كان عندهم شيء من الحق ، لأن مدحهم والثناء عليهم يروج بدعتهم، ويجعل المبتدعة في صفوف المقتدى بهم من رجالات هذه الأمة ، والسلف حذرونا من الثقة بالمبتدعة ومن الثناء عليهم ومن مجالستهم ، وفي بعض أقوالهم يقولون : [ من جلس إلى مبتدع فقد أعان على هدم السنة ] ، فالمبتدعة يجب التحذير منهم ويجب الابتعاد عنهم ولو كان عندهم شيء من الحق ، فإن غالب الضُلال لا يخلون من شيء من الحق ، ولكن ما دام عندهم ابتداع وعندهم مخالفات ، وعندهم أفكار سيئة فلا يجوز الثناء عليهم ولا يجوز مدحهم ولا يجوز التغاضي عن بدعتهم لأن في هذا ترويج للبدعة وتهويلاً من أمر السنة ، وبهذه الطريقة يظهر المبتدعة ،ويكونون قادة للأمة لا قدر الله ، فالواجب التحذير منهم ، وفي أئمة السنة الذين ليس عندهم ابتداع في كل عصر ولله الحمد فيهم الكفاية للأمة ، وهم القدوة ، فالواجب اتباع المستقيم على السنة ، الذي ليس عنه بدعة وأما المبتدع فالواجب التحذير منه ، والتشنيع عليه ، حتى يحذره الناس وحتى ينقمع هو واتباعه ، وإما كون عنده شيء من الحق فهذا لا يبرر الثناء عليه ، لأن المضرة التي تحصل بالثناء عليه أكثر من المصلحة لما عنده من الحق ، ومعلوم أن قاعدة الدين {أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح }، وفي معادة المبتدع درء مفسدة عن الأمة ترجح على ما عنده من المصلحة المزعومة إن كانت ، ولو أخذنا بهذا المبدأ لم يُضلل أحد ولم يُبدَّع أحد لأنه ما من مبتدع إلا وعنده شيء من الحق وعنده شيء من الالتزام ، المبتدع ليس كافراً محضاً ، ولا مخالفاً للشريعة كلها ، وإنما هو مبتدع في بعض الأمور أو في غالب الأمور ، وخصوصاً إذا كان الابتداع في العقيدة وفي المنهج فإن الأمر خطير لأن هذا يصبح قدوة ومن حينئذٍ تنتشر البدع في الأمة وينشط المبتدعة في ترويج بدعهم ، فهذا الذي يمدح المبتدعة ويشَّبه على الناس بما عندهم من الحق(143/3)
هذا أحد أمرين :
إما أنه جاهل ، جاهل بأمر البدعة وجاهل بأمر السلف وموقفهم من المبتدعة وهذا الجاهل لا يجوز أن يتكلم ولا يجوز للمسلمين أن يستمعوا له .
وإما أنه مغرض : يعرف خطر البدعة ويعرف خطر المبتدعة ولكنه مغرض يريد أن يروج للبدعة ، فعلى كل حال هذا أمر خطير وهذا أمر لا يجوز ولا يجوز التساهل في البدعة وأهلها مهما كانوا .
*****************************
س3: ما قولكم يا شيخ حفظكم الله في هذه المقولة : { أن الذي لا يأتي ببدعة مكفرة لا يُخرج من مسمى أهل السنة ، بل الذي يُخرج من مسمى أهل السنة الذي يقع في بدعة مكفرة فقط } ؟
ج3: يا سبحان الله ! الذي يأتي ببدعة مكفرة هذا ليس من المسلمين أصلاً ، ما يكفي أنه يقال أنه ليس من أهل السنة ، الذي يأتي ببدعة مكفرة يقال أنه ليس من المسلمين ، ولا يقال أنه ليس من أهل السنة فقط ، لأنه إذا قيل ليس من أهل السنة فُهم أنه مسلم لكنه مخالف لمذهب أهل السنة فيكون كسائر المبتدعة ، إما من جاء ببدعة غير مكفرة فهذا هو الذي ليس من أهل السنة ، فالمبتدعة إذاً على قسمين :
مبتدع كافر ليس من المسلمين أصلا ، وهو الذي عنده بدعة مكفرة .
ومبتدع يُعد من المسلمين ولكنه ليس من أهل السنة ، فلا يمكن لمبتدع أن يقال أنه من أهل السنة أبدأ ،بل يقال إما أنه كافر خارج من الملة ، وإما أن يقال أنه مبتدع من غير أهل السنة والجماعة كالمعتزلة والجهمية ، والخوارج وغيرهم من الفرق .
*********************
س4: وهذا سؤال عن التكفير بالمعاصي : يتكون من عدة فقرات : أولاً : هل يكُفر المجاهر بالمعصية مثل الغناء أو الزنا أو الربا ؟!(143/4)
ج4: المعاصي على قسمين :كبائر وصغائر ، والكبائر على قسمين : كبائر مخرجه من الملة ، وكبائر لا تخرج من الملة . الكبائر المخرجة من الملة : كالشرك بالله عز وجل ، والكفر بالله ، هذه كبائر مخرجة من الملة ، والدعاء لغير الله والاستغاثة بغير الله ، وعبادة القبور والذبح للقبور ، وتعلمُه وتعلِميه وترك الصلاة متعمداً ولو لم يجحد وجوبها على الصحيح ، فهذه كبائر مخرجة من الملة ,وهناك كبائر دون ذلك وهي على قسمين : 1. كبائر اعتقاديه ، 2. وكبائر عمليه .
الكبائر الاعتقاديه : مثل مقولة المعتزلة والخوارج والأشاعرة وغيرهم مما ينفون أسماء الله وصفاته ،أو ينفون أسماء الله دون الصفات ،أو ينفون بعض الصفات ويثبتون بعضاً ، فإن هذه كبائر ، وصاحبها فاسق فسق اعتقادياً ، وإما النوع الثاني والتي هي الكبائر العملية : مثل شرب الخمر ، والزنا، والسرقة ،وقتل النفس بغير حق ، فهذه كبائر عمليه ومثل، قذف المحصنات هذه كبائر عمليه ،يُفَسَّقُ صاحبها فسقاً عملياً ،ولا يخرج من الملة ، الكبائر الاعتقادية التي دون الشرك .(143/5)
والكبائر العملية أيضاً كلها يُفَسَّقُ صاحبها ، لكن ! الذي عنده كبائر في العقيدة هذا يقال فاسق فسقاً أعتقادياً ، والذي عنده كبائر في العمل دون العقيدة هذا يقال فاسق فسقاً عملياً كشارب الخمر والزاني والسارق وغير ذلك ، والنوع الأول أشد من الثاني ، الذي عنده فسق أعتقادي أشد من الذي عنده فسق عملي ، ولكن كلاً من الفاسقين لا يخرجون من الملة ، إلا في حالة الفاسق المبتدع إذا كان يدعوا إلى بدعته وينادي عليها فهذا يُكفره السلف كما كفروا دعاة الجهمية ودعاة المعتزلة الذين يدعون إلى هذه المذاهب ، إما أن كان يعتنقها دون أن يدعو إليها ظناً أنها حقاً وظنها صواباً وأغتر بمن قال بها ، فهذا لا يُكفر ولكنه يضَّلل ، يقال أنه ضال وفاسق فسقاً اعتقادياً ، إذن لا يُخرج من الملة إلا الكبائر الكفرية الشركية كما قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء:48) ، والله سبحانه وتعالى أوجب الحدود على شارب الخمر والسارق والزاني ولو كانوا كفارً لأمر بقتلهم، فأقامت الحدود عليهم دليل على إسلامهم والله تعالى جعل المتقاتلين أخوة في الإيمان قال تعالى : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا .....إلى أن قال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات:10) ، فسمى القاتل مؤمناً وأخاً للمقتول ،وأمر بالإصلاح بين المتقاتلين واعتبرهم من المؤمنين : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) دل على أن الكبيرة التي دون الشرك لا تُخرج من الملة ، ولكن يُحكم على صاحبها بالفسق كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(143/6)
(النور:4) ، فسماهم فاسقين ، وأمر برد شهادتهم إلا أن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ) هذا هو الفاسق الذي لا يخرج من الملة .
س4: الفقرة الثانية من السؤال : هل يُكفر المستخف بهذه المعاصي بحيث لم يصرح باستحلالها إنما يستخف بها ويقع فيها مع علمه بحُرمتها ؟
ج: إذا كان يعتقد حرمتها فإنه لا يكفر وإما استخفافه بها فهذا دليل على ضعف إيمانه ، استخفافه بها يدل على ضعف إيمانه ولا يدل على كفره مادام أنه يعتقد أنها حرام .
س4: الفقرة الثالثة من السؤال : يقول السائل هل الإصرار على الكبيرة وعدم التوبة منها يجعلها كفراً مخرجاً من الملة ، أم أن صاحبها يشمله الوعيد أو يدخل تحت الوعيد أن شاء الله عذبه وأن شاء غفر له ؟
ج: الإصرار على الكبيرة التي هي دون الشرك لا يصير المصر عليها كافرا ، لأنها مادامت دون الشرك ودون الكفر فإنه يعتبر فاسقا ولا يخرج من الملة ولو أصر عليها .
س4: الفقرة الرابعة : ما هي الضوابط التي ينبغي لطالب العلم أن يعرفها لكي يحكم على فلان من الناس بأنه مستحلاً بالمعصية المجمع على تحريمها بحيث يُكفر المستحل لهذه المعصية ؟
ج: الضوابط التي تدل على استحلال المعصية : أن يصرح الشخص بأنها حلال، إما بلسانه وإما بقلمه ،يعني يكتب أنها حلال أو يقول أنها حلال حينئذٍ يحكم عليه أنه مستحل لها ، وبدون ذلك لا يحكم على استحلاله لها ، حتى يثبت عليه إما بالقول أن يصرح بلسانه وإما بالكتابة وإما بأن يشهد عليه شاهدان عدلان من المسلمين فأكثر لأنه يقول بحل الزنا وحل الخمر أو حل الربا وما أشبه ذلك ، حينئذٍ يحكم عليه بالاستحلال ، أما بإقراره كلامياً أو كتابياً وإما بالشهادة عليه .
******************************(143/7)
س5: ما هي نصيحتكم لبعض الأخوة الذين يُخدعون في بعض المطبوعات المغرضة والتي تصدر خارج الجزيرة مثل مجلة السنة الذي يصدرها ما يسمى بمركز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية والذي يقوم عليه شخص حاقد على هذا البلد الآمن وأهله مع العلم أن هذه المجلة لا تحمل من السنة إلا الاسم ؟
ج: معلوم أن المغرضين يدسون على المسلمين الشر بمختلف الوسائل ومن هذه الوسائل الخبيثة أن يسموا إصداراتهم من المجلات أو الكتب أن يسموها بأسماء مغرية ، [مثل مجلة السنة ]وغير ذلك من الأسماء وهذا كمن يدس السم في العسل ، أو يُسمي الخمر بأنها شراب روحي ، أو غير ذلك من الأسماء الخداعه ، والواجب على المسلمين أن لا ينخدعوا بالأسماء وإنما ينظرون إلى المحتويات ، فإذا كان المحتوى خبيثاً فالكتاب أو المجلة من الخبائث ولو كانت أسمائهم أسماء حسنه أو مغرية ، فالواجب على شباب الأمة وعلى المسلمين وعلى العلماء خاصة أن يحاربوا هذه المجلات الخبيثة ، وهذه الإصدارات الخبيثة التي تخدع شباب المسلمين بأسمائها وتزييفها ، لأنها خطر على عقائد المسلمين وخطر على جماعة المسلمين تهدف إلى تفرقة الكلمة وإلى إثارة الفتنة وإلى ترويج الباطل فهي أسلحة فتاكة أنا عندي أن هذه المجلات الخبيثة وهذه الإصدارات الخبيثة أشد خطراً على الأمة من المخدرات التي ضج العالم من خطرها ، هذه الكتب الخبيثة وهذه المجلات الخبيثة وخصوصاً إذا تسمت باسم الإسلام وباسم السنة هذه أشد على الأمة من المخدرات ،وأشد على الأمة من الأسلحة الفتاكة ،بل أشد على الأمة من الأوبئة التي أزعجت العالم الأوبئة المرضية التي أزعجت العالم هذه الكتب الخبيثة وهذه المجلات الخبيثة أشد على الأمة من الأوبئة الخطيرة ، الواجب على المسلمين أن يحاربوها وإن يُحذروا منها وأن يردوا عليها بالحق وأن يسكتوها بالحق ،كما قال الله سبحانه وتعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ(143/8)
زَاهِقٌ) (الأنبياء:18) ، وقال سبحانه وتعالى : (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء:81) ، والله أخبرنا أن المنافقين لهم ألسنة تُعجب من يسمعهم ، قال تعالى : ( وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)(المنافقون: من الآية4) ، وهذا من الابتلاء والامتحان والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر رجال الفتنة في آخر الزمان وحذر منهم قيل له - صلى الله عليه وسلم - صِفْهُمْ لَنَا يا رسول الله ؟ فَقَالَ : " هُمْ قوماً مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا " فهذا ينطبق على هؤلاء المضَّللين في هذا العصر، إنهم ينتمون إلى المسلمين وإنهم يغارون على المسلمين وإنهم يريدون الخير للمسلين في حين إنهم يطعنون فيهم من الباطن ، الواجب الحذر من هؤلاء التحذير من هؤلاء ، وإقامة الحرب ضدهم، وإذا رأوا من المسلمين يقظة فإنهم بإذن الله سينهزمون ، لأن الحق لا يقوم في وجهه شيء والباطل لا يقاوم الحق مهما كان .
س6: يقول السائل : يوجد عند قبر البدوي صناديق وتبرعات تُوزع هذه التبرعات على الفقراء فما حكم من يقول أنا نذري لله ، أو أنا أنذر لله أن وفقت في هذا العمل مثلاً ؟ أن أضع المبلغ الفلاني في هذه الصناديق أو في صناديق البدوي ؟ وهل هذا من الشرك جزاكم الله خيرا ؟!(143/9)
ج: هذا العمل لا يجوز لأن هذا مما فيه تعظيم لهذا القبر لأن وضع النذور ولو كانت النذور لله إذا وضعت في صناديق القبور فهذا فيه تعظيمٌ للقبور من ناحية ، وفيه أيضا تغريرٌ بالعوام إذا راو النذور توضع في هذه الصناديق تعلقت قلوبهم بالقبر ، فهذا فيه دعاية لعبادة القبور وإن كان واضُعها يزعم أنه لا يعبد القبر وإنما يُعبد الله بوضعها ، النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن الصلاة عند القبور وإن كان المصلي يصلي لله عز وجل ،ولكن هذا من باب سد الطرق المفضية إلى الشرك فوضع النذور وأن كانت لله في صناديق القبور هذا من وسائل الشرك التي نهى عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عند القبور وعن الطواف بالقبور وأن كان المصلي والطائف لا يقصد إلا الله عز وجل ، الصلاة مشروعة ولكن الطواف هذا لا يشرع إلا عند الكعبة أما أن يُطاف بغير الكعبة فهذا ليس له أصل في شريعة الإسلام لكن الصلاة ، الصلاة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " فكل الأرض صالحة للصلاة ما عدا الأمكنة التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيها ، ومن أعظمها الصلاة عند القبور لأن ذلك وسيلة إلى الشرك ، وكذلك الذبح عند القبور الذابح لا يقصد إلا الله عز وجل ويريد التقرب إلى الله لكن ذبحها عند القبر هذا وسيلة إلى عبادة القبر ، فكونه عبد الله عند قبرٍ يكون ذلك وسيلة إلى عبادة القبر ولو على المدى البعيد ، والإسلام جاء بسد الطرق المفضية إلى الشرك ، والوسائل المفضية إلى الشرك ، نهى عن البناء على القبور ونهي عن الصلاة عند القبور كل ذلك من أجل سد الطرق المفضية إلى الشرك .
**********************************(143/10)
س6: فضيلة الشيخ أحسن الله إليكم : نطلب منكم كلمة توجيهية ختامية لطلبة العلم بخصوص الأحزاب والجماعات المغرضة التي بدأت تظهر الدعوة إليها بين صفوف الشباب وجزاكم الله خيرا ؟
ج: هذه البلاد ولله الحمد كانت جماعة واحدة وأمة واحدة على الحق ، كانوا جماعة واحدة لا يُعرف فيهم انقسام ولم توجد فيهم أحزاب ولا انقسامات وأفكار متفرقة ، وإنما فكرهم واحد واتجاههم واحد عقيدتهم التوحيد وأخلاقهم على الإسلام ولله الحمد ،واتباعهم لمنهج السلف الصالح لجميع أمورهم ، حاكمهم ومحكومهم ، غنيهم وفقيرهم ، كبيرهم وصغيرهم ، ذكور هم وإناثهم كلهم جماعة واحدة ، من أقصى البلاد إلى أقصاها ، فهذه البلاد لا تسمح بقبول مناهج وافدة ، أو مذاهب وافدة أو أفكار وافدة ، لأنها ولله الحمد غنية بما عندها من الحق ، ومن الاجتماع على الكتاب والسنة مما لا يوجد له نظيرٌ في دول العالم اليوم هذه البلاد ولله الحمد هي أمثل دول العالم في الأمن والاستقرار في العقيدة في الأخلاق والسلوك في جميع الأمور وذلك ببركة أتباع الكتاب والسنة ثم ببركة دعوة الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ومناصريها من حكام هذه البلاد وفقهم الله .(143/11)
فلا يجوز لهذه البلاد أن تقبل أي فكرٍ وافد أو أي مذهب وافد أو أي منهج وافد لأن عندها ولله الحمد ما يغني عن ذلك ، ليس هذا من باب قبول رفض الحق لا ، بل لأن الحق موجود ولله الحمد فماذا يأتي به الوافد إلينا أن كان يريد الحق فليأخذ مما عندنا من الحق ولله الحمد ,وإن كان يريد التفرقة ويريد الهدم فنحن نقول لا ، نحن لا نسمح للأي مبدأ أو للأي مذهب أو للأي حزب أن يدخل بيننا لأن ذلك يفرق جماعتنا ويزيل نعمتنا ويردنا إلى ما كانت عليه هذه البلاد قبل هذه الدعوة من أمور الجاهلية والتفرق ، والله تعالى نهى عن التفرق قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )(آل عمران: من الآية103)، وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(الأنعام: من الآية159) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فأنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كبيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار "(143/12)
الله تعالى يقول : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )(الأنعام: من الآية153) ، ماذا يريد هؤلاء ؟ يريدون صلاح العقيدة هذا موجود عندنا ولله الحمد ، يريدون الحكم بما أنزل الله هذا موجود عندنا ولله الحمد يردون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا موجود عندنا ولله الحمد ، يريدون إقامة الحدود هذا موجود عندنا ولله الحمد ، أنا لا أقول أننا كاملون من كل وجهه ، أقول عندنا نقص ولكن هذا النقص يمكننا إصلاحه بإذن الله ، إذا أخلصنا لله عز وجل وتناصحنا فيما بيننا بالطريقة الشرعية كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الدين لنصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال : " لله ورسوله وللأمة المسلمين." فبإمكاننا أن نصلح ما عندنا من الخلل والنقص وإن كان شيئاً يسيراً ولله الحمد ،وربما يكون كثيراً ولكن لا يخل بالعقيدة ولا يخل بالمنهج السليم ، نعم وجد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من يزني ووجد من يسرق ووجد من يقتل النفوس بغير حق ، ولكن تقام عليهم الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، كذلك في وقتنا هذا تقام الحدود ولله الحمد ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر وأن كان النقص موجود ، إما أن يقال لابد من تأسيس جديد ولابد من إقامة أمة جديدة فهذا من الباطل الذي يراد به إزالة هذه النعمة في البلاد .
****** ****** ******** ******** ********(143/13)
أيها الأخوة : أن طلب العلم كما علمتم وكما عرفتم مكانته وأهميته ولكن ! جاءت الأحاديث أنها في آخر الزمان يقل الفقهاء ويكثر القرأ ، وجاء في الحديث : " أن الله سبحانه وتعالى لا يقبض هذا العلم ......" ، هذا يحذرنا من القول على الله بغير علم ، وإنه لا يكفي للمفتي أن يكون قارئاً فقط بل لابد أن يكون فقيهاً وعالماً ، حتى إذا لما عالماً [وفيه فرق بين العالم والقارئ ] ، يقل الفقهاء ويكثر القرأ ، إذا لم يبقى عالم أتخذ الناس رؤوس جُهال سماهم جُهال مع أنهم قرا [ لأنه ما هو المقصود أن تقرأ في الكتاب الفلانِ وفتوى الشيخ فلان وكذا ، ما أظن هذا هو العلم ] ، العلم أن تتفقه أنت ، تتفقه يعني تفهم العلم ، الفقه معناه الفهم معناه أن تفهم حكم الله وحكم رسوله من كتاب الله ومن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - هذا هو العلم الصحيح .
وقد ذكر الإمام ابن القيم أن قبض العلم أنواع : في مفتاح دار السعادة تكلم عن العلم بكلام طويل مفيد جداً وذكر أن قبض العلم أنواع : النوع الأول : قبض العلم من القلوب ، بمعنى إنها تذهب خشية الله عز وجل من قلوب العلماء ، ويبقى العلم على الألسنة فقط ، لأن العلم علمان : علم على اللسان ، وعلم في القلب ، وهو معرفة الله وخشية : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر: من الآية28) .
أول ما ينزع من العلم العلم الذي في القلوب وهو علم الخشية لله سبحانه وتعالى ، وإن كان اللسان عالماً ، فعلم اللسان إنما يكون حجة على الإنسان ، إما العلم الذي ينفع فهو علم القلوب ، ينزع الخشوع في آخر الزمان أو يقل وهذا نزع للعلم .(143/14)
النوع الثاني : من نزع العلم / نزع العلم بموت العلماء : انقراض العلماء حتى يقل أو يفقد في بعض الأقطار ، الآن فيه بلاد كثيرة ما فيها علماء ، الآن فيه بلاد إسلامية كثيرة وفيها شباب متعطشون للإسلام ولكن ما عنهم علماء ، تعلمون هذا ، وهذا مصداق ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - ، من قلة العلماء وقبض العلماء ، وهذا مما يؤكد علينا أن تهتم بطلب العلم قبل أن يفوت وقبل أن يقبض ، ومادام العلماء موجودين قبل أن يقبضوا يجب على الشباب على كل من عنده الإمكان إن ينتهز فرصة وجودهم قبل أن ينقرضوا ، الآن العالم في الغالب ماله قيمة عند الناس ولا في البلدان إنسان عادي ، ما يطلب منه العلم ما يسأل ، يلح عليه بأن يعقد دروس وتعليم ، إذا سكتوا عنه وسكت ، وكلاً سكت على ما هو عليه هذا سبب في ضياع العلم ، فلابد من التحرك من علمائنا ولابد من ، حتى ولو أدى ذلك إلى السفر إليهم ، والسفر اليوم ولله الحمد سهل جداً وسائل النقل السريعة متوفرة فلقاء بالعلماء أين ما كانوا اليوم متوفر فعلينا أن ننتهز الفرصة . القبض الثاني /قبض العلم بموت العلماء ، وهو ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله : " ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبقى عالماً أتخذ الناس رؤوس جهال فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " . والله هذا هو الواقع الآن رؤوس جهال يتكلمون بإحكام الشريعة ويوجهون الناس ويحضرون ويخطبون ولا عندهم من العلم شيء ، إنما عندهم تهريج وتهييج وقال فلان وقال فلان ، شغلوا الناس بالقيل والقال ، هذا مصداق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أتخذ الناس رؤوس جهال " ومع الآسف يسمون هم العلماء ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فحين لو إنك تسأله في نازلة من النوازل أو حكم شرعي ما يستطيع أن يجاوب جواب صحيح ، لأنه يقول هذا ما هو العلم العلم هو الثقافة وفقه الواقع هو العلم ، فحرم العلم والعياذ بالله نسأل الله العافية .(143/15)
القبض الثالث : يقبض العلم برفع القرآن الكريم ، في آخر الزمان حينما ينقرض العلماء ويفقد العلم يرفع القرآن ، يسرى به من المصاحف ومن صدور الرجال ، يرفع في آخر الزمان ، وعند ذلك يخرب العالم لأنه لا يبقى العالم إلا بوجود العلم النبوي العلم الشرعي وبوجود العلماء ، فإذا فقد العلم وفقدوا العلماء ولم يبقى في الأرض لا علم ولا علماء حينئذ تخرب الدنيا وتقوم الساعة ، لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول الله الله ، إنما تقوم الساعة على شرار الناس ، : " أن من أشر الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يبنون المساجد على القبور " ، فهذا هو النذير الذي يحفزنا إلى طلب العلم مادام موجوداً ، الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخبرنا بهذه الأمور ليس من باب الإطلاع فقط ، بل من باب الحث على أن نأخذ حذرنا وأن نبادر إلى استبقاء العلم وتشييع العلماء حتى يبقى الخير في الأرض ، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
****** ******* ********
س1: هل وسائل الدعوة إلى الله توقيفية أم اجتهادية بينوا لنا أثابكم الله ؟(143/16)
ج: الدعوة إلى الله توقيفية على ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، نمشى على خطوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك كما في قوله تعالى : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف:108) ، لأبد من أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة ومناهجها وخطواتها وكيف دعا الناس ومنهج جميع الرسل ، منهجهم واحد في الدعوة إلى الله ، أول ما يبدؤون في التوحيد وإصلاح العقيدة ، ثم تعليم الناس أحكام الشريعة ، هذه الدعوة ، أما أننا نأتي بطرق جديدة ، نقول هذه من طرق الدعوة هذا لا يصلح ، ولا يصلح أخر هذه الآمة ألا ما صلح أوله ، الذي أصلح أول هذه الأمة دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومنهج الرسول ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إما أننا نأتي بالتمثيليات والأناشيد والبلاوي هذه ، نقول هذه من طرق الدعوة ، هذه من طرق الدعوة عند الغرب ، ليس من طرق الدعوة عند المسلمين .
****** ********* ********
س2: ما حكم المظاهرات ؟
ج: المظاهرات فوضى ، والإسلام ينهى عن الفوضى ، والمظاهرات فوضى والعياذ بالله .
******* ******** ******
س3: فإنني كأي شاب مسلم يسمع هذه الأيام كثيراً ما هو مدعاة للتشكيك بالدين وسبب من أسباب تحير الشباب وتوقفهم في كثير من الأحيان عن مجالسة الشباب الملتزم وذلك لما يسمعه عن الجماعات التي لا يعلمها كثير من الشباب سؤالي أسألكم بالله ما هي هذه الجماعات ؟وماذا يجب ؟وإلى أي جماعة يجب ينتمي الشاب المسلم ؟ وما حكم التحزب في الإسلام ؟ نرجو أفادتنا مشكورين ؟(143/17)
ج : هذا أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى ، قال : " فمن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي " وقال - صلى الله عليه وسلم - : " ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، قالوا من هي يا رسول الله ؟ قال : من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " ، فعليك بلزوم أهل السنة والجماعة ، وهذه البلاد ولله الحمد ولا نزكى على الله أحدا ، تسيير على منهج أهل السنة والجماعة ـ، منذ أكثر من مأتي سنة ، من ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، دعوة ناجحة تعاقب عليها قرون وقام عليها دولة إسلامية ، فهي دعوة ناجحة وجماعة ولله الحمد مستقيمة فكن معها والحمد لله .
******* ******* *******
س4: البعض يأخذ العلم من المبتدعة والبعض يقول أن أبا هريرة استفاد من الشيطان فما الحكم ؟(143/18)
ج : يعني يجلس على الشيطان ، يعن أبا هريرة جلس يدرس على الشيطان ، ما هذا الكذب والافتراء ، أبا هريرة إنما قصته مع الشيطان أن أبا هريرة كان يحرس تمر فجاء الشيطان وهو يحثوا التمر فيمسكه ثم يعده أنه ما يعود لها مرة ثانية ، في المرة الأخيرة لما أمسكه قال له ، كم مرة قلت أنك لن تعود فقال إلا أعلمك شيء ينفعك الله به وتطلقني ولا أعود ، فعلمه قرأءة آية الكرسي عند النوم ، لأن الذي سبب مجيئه والله أعلم إلى أبي هريرة أنه ما كان يقرأ آية الكرسي ولو قرأها ما أتاه الشيطان . فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صدق وهو كذوب ، آية الكرسي إذا قرأها الإنسان عند النوم فإنه لا يقربه شيطان حتى يصبح ، لا يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح ، فالشياطين قد تصدق الشياطين التي تنزل عل الكهان قد يأتون بالكلمة التي سمعوها من السماء فيكذب مع الكهان مائة كذبه ، من أجل إغواء الناس ، فالشيطان قد يصدق للفتنة ، وأما مع أبي هريرة فقد أخبره بأمر واقع وهو أن هذه الآية العظيمة فيها حفظ له من الشيطان وليس هذا من باب التعلم ، أبو هريرة لم يتعلم من الشيطان وإنما تعلم هذا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما قال له صدقك وهو كذوب أبو هريرة تعلم من الرسول فهو تلذي بين صدق هذا القول ، والشيطان ما قصد الصدق وليس هو بصادق ولا ناصح لبني آدم وإنما يريد التخلص من أبي هريرة لما أمسكه ، هذا يريد الافتداء وهو التخلص .
******* ****** ********
س5: هذا سائل يقول : إذا سلمت على شخص يخالفني في المنهج والمعتقد وتعاملت معه فهل معاملتي هذه تقدح في مسألة الولاء والبراء ؟(143/19)
ج: إذا كانت بدعته مكفرة فلا يجوز لك أن تسلم عليه ، أما إذا كانت بدعته مفسقة فلا بأس أن تسلم عليه لكن مع النصيحة له بأن يترك البدعة وهذا إذا لم تقصده ، إذا لقيته أو مر بك ، أما أن تذهب إليه وتجلس عنده وتزوره وهو مبتدع فهذا لا يجوز لأن هذا تشجيع له على الابتداع لكن لو مر بك بالطريق وبدعته ليست مكفرة فلا بأس أن تسلم عليه أو إذا بدأك بالسلام ترد عليه .والبدعة الكفرة مثل دعاء الموتى والاستغاثة بالأموات هذه بدعة مكفرة مثل بدعة الجهمية في قولهم أن القرآن مخلوق وليس كلام الله هذه بدعة مكفرة .
س6: من سب الصحابة هل يدخل من ضمن البدعة المكفرة ؟(143/20)
ج: هذه معصية كبيرة لا يخرج بها من الدين هذه ليست مكفرة ولكنها تعتبر كبيرة من كبائر الذنوب لأن مسبة المسلم العادي كبيرة فكيف بمسبة صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحكم مثل أحد ذهباً " هذا الجبل الذي ترونه أمامكم لو واحد أنفق مثل جبل أحد ذهب ما بلغ مد أحد الصحابة ولا نصيفه ، يعني الذهب الذي مثل جبل أحد ما يساوي المد الذي يتصدق به الصحابي لفضل الصحابة رضي الله عنهم ومكانتهم وسبقهم إلى الإسلام وصحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبتهم من الدين ولا يبغضهم إلا منافق بل أن الإمام مالك أستدل على كفره في قوله تعالى لما ذكر (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ......إلى أن قال ( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) (الفتح:29) قال : فدل على أن الذي يغتاظ من صحابة الرسول أنه كافر ، إما كفر أكبر يخرج من الملة أو كفراً أصغر ، المهم أنه يكفر بهذا كفراً أصغر أو أكبر ذلك لأنهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إذا أنضاف إلى سب الصحابة ، دعاء الموتى والاستغاثة بالأموات والسادة والأئمة والأولياء فهذا كفر صريح والعياذ بالله .
******* ******** ********* س7: يقول السائل : فضيلة الشيخ كثر في هذه الأيام الدعوة إلى الجماعات المختلفة جماعة تبليغ ، جماعة أخوان جماعات مختلفة فما نصيحتك لهؤلاء الأخوة ؟(143/21)
ج : النصيحة ما قاله الله وما قاله رسوله - صلى الله عليه وسلم - الله تعالى يقول : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103) ، وقال تعالى : (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46) ، وقال سبحانه وتعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105) إلى غير ذلك ، التفرق بين المسلمين إلى جماعات أو إلى أحزاب هذا ممنوع ، المطلوب من المسلمين أن يكونوا على كلمة واحدة على كتاب الله وعلى سنة رسوله ، والمخطئ يتراجع عن خطأه ، ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(النساء: من الآية59) فنحن نعرض مناهجنا ونعرض مذاهبنا ونعرض أرأنا نعرضها على كتاب الله وسنة لرسوله وهدي السلف الصالح فما كان موافقاً لذلك أخذنا به وما كان مخالفاً له فإننا نرجع عنه والرجوع إلى الحق فضيلة ، أما إذا تمسك كلاً برأيه وكل جماعة برأيها فهنا يحصل الخسار ويحصل الدمار ويحصل الشتات وحينئذ يفرح أعداء هذه الأمة في إنها تفرقت بعد وحدتها واجتماعها وضعفت بعد قوتها لا يمكن أن هذه الأمة تقوم بوجه الأمم الكافرة إلا إذا توحدت على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ورجع المخطئ إلى صوابه كما قال تعالى : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام:153) فما كان مخالفاً للسنة وإن كان مذهب فلان أو منهج الجماعة الفلانية خطأ ، يجب الرجوع عنه وما كان من صواب فذلك هو المطلوب والحمد لله .
******* ********* ********(143/22)
س8: يقول السائل : من هي الفرقة الناجية المنصورة في هذا العصر وماهي صفاتها وسماتها ؟
ج : الفرقة الناجية المنصورة في هذا العصر أو في غيرها إلى قيام الساعة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة " ،هنا سئلوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هي هذه الواحة الناجية ؟ قال : من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " ، هذه هي الجماعة الناجية ، قال سبحانه وتعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100) أتباع المهاجرين والأنصار هذا سبب للهداية ولرضوان الله ولدخول الجنة ، قال تعالى لما ذكر المهاجرين والأنصار في سورة الحشر قال : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10)
من صفات هذه الفرقة :
أولاً : أنها تتمسك على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ،
ثانياً : تصبر على الحق ولا تلتفت إلى أقوال المخالفين ولا تأخذها بالله لومه للأم .(143/23)
أسباب نجاة الأمة (1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين صلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد،
فإن الله سبحانه وتعالى حكمته أجرى الامتحان والابتلاء على بني آدم من أول الخلق إلى أخره أولهم أبوهم أدم عليه السلام وما جرى له من المحنة والابتلاء مع عدوه إبليس الذي حسده وتكبر عليه ماذا حصل لآدم عليه السلام وزوجه حواء عليها السلام ثم إن الله سبحانه وتعالى وفق الأبوين للتوبة والرجوع على الله عزّ وجل فال ربنا ظلمنا نفسنا وإن لم تغفر لنا فارحمنا لنكونن من الخاسرين تاب الله عليهما تلقى آدم من ربه كلمات وتاب عليه إنه هو التواب الرحيم لكن بعد الابتلاء والامتحان وكذلك توالت المحن على بني آدم عبر القرون بين الرسل وأتباعهم وبين أعدائهم من الكفار والمنافقين شياطين الإنس والجن وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفا بربك هادياً ونصيراً ولكن الرسل وأتباعهم من المؤمنين ثبتوا على الحق فأنجاهم الله سبحانه وتعالى ثم ننجي رسلنا والذين امنوا كذلك حق علينا ننجي المؤمنين ننجي رسلنا والذين امنوا غير الرسل لا ينجوا إلا بالإيمان ثم أكد ذلك بقوله تعالى وكذلك ننجي المؤمنين قال تعالى :
__________
(1) - محاضرة بثت في قناة المجد بتاريخ 27 /11/2004(144/1)
وكان حقاً علينا نصر المؤمنين بهذا الوصف وصف الإيمان فإذا تمسك المؤمنون بإيمانهم وثبتوا على دينهم نجاهم الله سبحانه وتعالى من الفتن وجعل العاقبة لهم على مدار الأزمان إلى أن تقوم الساعة والدنيا دول والحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذه سنة الرحمن وهذه حكمة الله جلّ وعلا من أجل أن يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق وحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم وليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم يا أيها الذين امنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فلا نعجب في هذه الأيام من تطاول الكفار والمنافقين على أهل الإيمان وعلى أهل الإسلام لا نعجب هذه سنة الله جلّ وعلا في خلقه ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون لا نعجب إذا حصل للمسلمين في هذا الزمان من أعداء الله من الكفار اختلال في توجهاتهم ومحنهم ومن المنافقين والذين في قلوبهم مرض من الذين يدعون الإسلام أن حصل على المسلمين ما ترونه وتسمعونه من الابتلاء والامتحان ولكن لابد من الصبر ولابد من الاحتساب والعاقبة للمتقين لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذاً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وفي آية أخرى وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيء إن الله بما يعملون محيط بهذا الشرط صبر والثبات وعدم التنازل عن شيء من الدين لأجل إرضاء الكفار والمنافقين مهما كلف الأمر ومهما بلغ الثمن لابد من الثبات ولابد من الصبر كما قال جلّ وعلا وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون.(144/2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند هذه الآية بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين لما صبروا وكانوا بآياتنا يقيمون بالصبر واليقين تنال الإمامة والدين أما بدون صبر بدون يقين فإن الإمامة صعب منالها ونبينا صلى الله عليه وسلم في أخر حياته وعظ الناس كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وزرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإن من يعش منكم فسيرى اختلاف كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم بمحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية أوصانا بتقوى الله وهي كلمة جامعة تجمع خصال الخير كلها والتقوى معناها أن تجعل بينك وبين من تخاف وقاية تقيك منه وقاية تقيك من المحذور فاجعلوا بينك وبين الرمضا وقاية تقي رجلك وبينها و بين الشوك وقاية تجعل بينك وبين السلاح وقاية تقيك منه تجعل بينك وبين الحر والبرد وقاية تقيك منه هذا في الأمور المحسوسة وكذلك تجعل بينك وبين غضب الله وعقابه وبين النار وقاية لتقوى الله جلّ وعلا بفعل أوامره وترك نواهيه لا يقيك من عذاب الله ومن غضب الله ومن النار لا تقيك الدروع والحصون والجنود والثياب وإنما يقيك تقوى الله سبحانه وتعالى بفعل أوامره وترك نواهيه ثم قال و السمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد من أسباب النجاة أن الأمة تطيع وتسمع لولي أمرها حتى يكون لها جماعة يكون لها دولة يكون لها قوة يكون لها جنة تتقي بها الأعداء الجماعة والاجتماع بين المسلمين واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ولا تتم الجماعة إلا بقيادة إلا بإمامة ولا تتم الإمامة والقيادة إلا بسمع وطاعة لولي الأمر ما لم يأمر بمعصية الله وإن تأمر(144/3)
عليكم عبد مهما كان هذا الأمير حتى ولو كان ليس له نسب عربي ونسب قبلي ولو كان عبداً مملوكاً أو معتقاً أو ليس له نسب عربي العبرة ليست هي بالنسب العبرة بالمنصب فولي الأمر يطاع ولي أمر المسلمين يطاع مهما كان لأن هذا من مصلحة المسلمين من جمع الكلمة السمع والطاعة السمع لولي الأمر والطاعة لولي الأمر إلا ما استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله صلى الله عليه وسلم :
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فهو لا يطاع في المعصية وإنما يطاع في ما عدى المعصية ليس معنى أنه إذا أمر بمعصية إننا نخرج عليه ونشق العصا لا لا نطيعه في تلك المعصية ولكن نطيعه في الأمور الأخرى التي ليس فيها معصية ثم بينت صلى الله عليه وسلم بين صلى الله عليه وسلم ما يكون في المستقبل وأن الأمة بحاجة إلى هذه الوصية وهي السمع والطاعة لولي الأمر فقال فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين هذا سبب أخر من أسباب النجاة السبب الأول السمع والطاعة لولي الأمر ولأمر المسلمين السبب الثاني التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم تمسك في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال اختلافاً كثيراً وليس اختلافاً يسيراً وإنما كثير وكثير ولا ينجي الأمة من هذا الخلاف إلا التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه خلفائه الراشدون بل وما كان عليه المهاجرون والأنصار والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار هذا هو السبب الثاني التمسك لما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيحصل اختلاف وافتراق قال افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة افترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستختلف هذه الأمة على ثلاثاً وسبعين(144/4)
فرقة أكثر من الأمم السابقة ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قلنا من هي يا رسول الله قال:
من كان على ما أنا عليه وأصحابي ما أنا عليه وأصحابي فلا ينجي من فتنة الاختلاف في كل وقت ولا سيما في أخر الزمان لا ينجي إلا التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه هذا هو الذي ينجي من النار ولذلك سمت فرقة أهل السنة والجماعة سميت الفرقة الناجية من أي شيء من الفتن والناجية من النار يوم القيامة هي الناجية وما عداها فإنه لا ينجوا كلها في النار إلا واحدة كلها في النار لمخالفتها وافتراقها إلا من ثبت إلا من ثبت على الحق ولا يحصل الثبات على الحق وعلى سنة الرسول الصحابة إلا بالعلم النافع كيف تثبت على شيء وأنت تجهله لا بد نتعلم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه هو وأصحابه حتى نثبت عليه ونتمسك به وقال حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني شوف كنت أسأله عن الشر مخالفة أن يدركني يطلب من الرسول أن يبين له ما يحصل من الشر في المستقبل حتى يكون على علم منه وحتى يسلم منه وهذا لا يحصل عفواً يحصل إلا بالعلم أسأله تعلم هذا أسأله عن الشر مخالفة أن يدركني فلما بين له صلى الله عليه وسلم ما يحصل بعده من الاختلافات المتكررة قال له حذيفة ما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك قال أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ولا تذهب مع الفرق تطير مع الفرق الطائشة بل عليك بالثبات عليك بالتأني عليك بالفقه في دين الله عليك بالنظر إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فتأخذ به عليك بالسمع والطاعة لولي أمر المسلمين وتكون مع جماعة المسلمين قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت يا رسول(144/5)
الله فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرق كلها اعتزل كل الفرق كلها ما دام ليس لهم جماعة ولا إمام ثابتون على كتاب الله وسنة رسوله فاعتزلها كلها لأن كلها على ضلال ولا تكن معها ولو أن تغض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت حتى يأتيك الموت أما ما دام يوجد للمسلمين جماعة وإمام فلا تنفرد كن مع المسلمين مع جماعة المسلمين حتى تنجوا وتسلم كذلك من أسباب النجاة التمسك بعقيدة التوحيد وإفراد الله جل وعلا بالعبادة وتجنب الشرك تجنب الشرك الأكبر والأصغر هذا هو أصل العقيدة وهذا هو أصل النجاة من النار لن تمسك به قال تعالى :(144/6)
الذين أمنوا ولم يلمسوا إيمانهم بظلم أولائك لهم الأمن وهم مهتدون أمنوا الإيمان هو التوحيد لعبادة الله وترك عبادة ما سواه ولم يلبسوا إيمانهم أي توحيدهم بظلم أي بشرك لأن الشرك إذا خالط التوحيد أفسده لا يستقيم التوحيد مع وجود الشرك أبداً ضدان لا يجتمعان لا يجتمع توحيد وشرك أكبر أما شرك أصغر يمكن لكن توحيد وشرك أكبر لا يمكن أن يجتمع أبداً ولم يخلطوا إيمانهم توحيدهم بشيء بظلم بشرك كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم لما أشكلت هذه الآية على الصحابة وقالوا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه قال إنه ليس بالذي تعنون إنه الشرك أما سمعتم قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم فالمراد في الظلم في هذه الآية الشرك فمن سلم من الشرك حصل له الأمان في الآخرة والدينا وحصلت له الهدايا بأن يكون على الحق قال سبحانه وتعالى وعد الله الذين أمنوا منكم وعلموا الصالحات أمنوا شوف أمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ولا يمكن لهم يدنهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا بهذا الشرط لا تحصل هذه المطالب العظيمة إلا بهذا الشرط يعبدونني ولا يشركون بي شيئا فإذا حصل هذا الشرط وهو عبادة الله وترك عبادة ما سواه حصلوا على هذه الوعود الكريمة من الله سبحانه وتعالى يستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم يبدلنهم من بعد خوفهم أمنا مقاصد عظيمة التحصل إلا بالتوحيد وهو عبادة الله جل وعلا وترك عبادة ما سوا هذا هو التوحيد إفراد الله جل وعلا بالعبادة وكذلك تجنب البدع لأن البدع بريد التوحيد بريد الشرك البدع بريد الشرك توصي إلى الشرك ولهذا قال صلى الله عليه وسلم وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وفي رواية وكل بدعة وكل ضلالة في النار فكما نتجنب الشرك نتجنب البدع وتجنب الشرك(144/7)
هو معنى لا آله إلا الله لا آله إلا الله معناها إفراد الله جل وعلا بالعبادة وترك عبادة ما سوا هذا هو معنى لا آله إلا الله ومعنى محمد رسول الله ترك البدع لأن الرسول هو الذي جاءنا ببيان الحق والدين فنحن نعبد الله على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك لنا شيء فيه خير إلا بينه لنا ما ترك شيئاً فيه شر إلا بينه لنا عليه الصلاة والسلام .
فهذا من أعظم أسباب نجاة الأمة تمسكها بالعقيدة تمسكها بالتوحيد تجنبها للشرك تجنبها للبدع والمحدثات هذه أسباب بل هو الأصل أصل الأسباب هو التوحيد وتجنب الشرك وتجنب البدع والمحدثات في الدين وكذلك من أسباب النجاة نجاة الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر المعروف والنهي عن المنكر هو أعظم أسباب نجاة الأمة فمادام الأمر بالمعروف لا يعني المنكر موجودين فإن الأمة تنجوا وإذا تركت الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هلكت كما ذكر الله لنا في قصة بني إسرائيل لما اعتدوا في السبت لما اعتدوا في السبت ونهاهم الصلحاء عن عدوانهم فلم يمتثلوا وسكت من جماعة من الصلحاء لم ينهوهم بل قالوا لما تعظون قوم الله مهلكهم أو معذبهم عذاباًَ شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون قال الله جل وعلا قال الله سبحانه وتعالى فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين قال سبحانه وتعالى وأسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذا يعدون في السبت اعتدوا في أي شيء في السبت يوم السبت على صيد الحيتان فقد نهاهم الله تعالى عنه لكن احتالوا عليه بوضع الشباك التي تمسكه لهم إلى يوم الأحد ثم يأخذونه يوم الأحد ويظنون أنهم ما اعتدوا عملوا حيلة على حرمات الله فقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين وأسألهم عن القرية التي كانت حاصرة في البحر إذا يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرع هذا من الابتلاء يوم السبت تكثر الحيتان يشوفنه فتغريهم في الصيد إبلاء(144/8)
وامتحان ويوم لا يثبتون لا تأتيهم إبلاء وامتحان كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وإذ قالت أمة منهم لما تعظون قوماًُ الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به ما قبلوا النصيحة نسوا ما ذكروا به لما يقبلوا النصيحة فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلم ينج إلا الذين أنكروا المنكر فلا نجاة لهذه الأمة إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكما مثل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر والذين لا يأمرون ولا ينهون شبههم صلى الله عليه وسلم بقوم استهموا على سفينة استهموا يعني اقترعوا عملوا القرعة أيهم يكون في أعلى السفينة وأيهم يكون في أسفلها استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها فقال الذين في أسفل السفينة لو خرقنا في نصيبنا خرقاً نأخذ منه الماء ولا نؤذي من فوقنا سفاها يعني يخرقون السفينة وهي في عباب البحر لو خرقنا في جانبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ما هم راجعين لأهل العلم وأهل الفضل وأهل التقى بل يبون يمسون على رأيهم وهذا مثل من وقع في المنكر قال صلى الله عليه وسلم مثل القائم على حدود الله وهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر مثل القائم على حدود الله والواقع فيها وهم الذين يعملون المنكرات كمثل قوم استهموا أي اقترعوا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها هذا هو الطيب هو الزين وأصاب بعضهم أسفلها وكان الذين في الأسفل إذا أرادوا الماء يصعدون ويأخذون الماء من فوق فقالوا ما هو لازم نرجع ونؤذي من فوقنا نخرق في نصيبنا حرقاً ونأخذ الماء من عندهم فلما خرقوه يعني لو خرقوه لخرقت السفينة بالجميع فإذا أخذ الذين في أعلى السفينة على يد الذين في أسفلها ومنعوهم من الخرق نجوا جميعاً ولو تركوهم يخرقون لهلكوا جميعاً كذلك هذا مثال(144/9)
واضح أن أهل المعاصي وأهل الفجور وأهل الشهوات لو تركوا لأهلكوا الأمة فلا بد أن أهل الحلم وأهل الرأي وأهل الدين لا بد أن يأخذوا على أيديهم حتى ينجوا المجتمع كله من عذاب الله فإن تركوهم في المعاصي والمخالفات والشهوات هلك الجميع الصالح والطالح واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وأعلموا أن الله شديد العقاب العقوبة إذا نزلت على العصاة فإنها تأخذ الصالح والطالح إلا من أنكر فإنه ينجوا وأما لم ينكر فإنه يهلك ولو كان صالحاً يهلك مع الهالكين كما سمعتم في قصة أصحاب السبت الذين سكتوا ما ذكر الله عنهم شيء إنما ذكر الذين ينهون عن السوء أنجينا الذين ينهون عن السوء أما الفريق الثاني الذي قالوا لماذا تنصحون أتركوهم الله جل وعلا سكت عنهم فلا يدرى هل هم من الناجين ولى مع الهالكين والظاهر أنهم مع الهالكين ولما قرأ رسول الله صلى الله علبيه وسلم قوله تعالى :(144/10)
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون سبب اللعنة أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه فلعنهم الله جميعاً قال صلى الله عليه وسلم كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم كثير من الناس يلقون بالمسؤولية على غيرهم الأمر بالمعروف يقولون الشرع على فلان فلان هو اللي الهيئة فلان نعم الهيئة عليها هيئة الأمر بالمعروف والنهي على المنكر عليها واجب عظيم وهذا عملها لكن أيضاً أنت عليك مسؤولية كل مسلم عليه مسؤولية من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقله وذلك أضعف الإيمان أما أن تقول أن هذا ما هو بعلي هذا على الهيئة فقط وتدلس تكون مع الناس ولا تنكر ولا تنهى ولا تنصح ولا تدعو إلى الله ولا تعظ ولا تذكر هذا هلاك من لم يستطع فبلسانه من لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ثم أنت عليك واجب أيضاً عليك أهل بيتك يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة الهيئة ما تدري عن الذي في بيتك ولي الأمر ما يدري عن الذي في بيتك أنت المسؤول عن الذين في بيتك من النساء والضيوف أنت المسؤول لأن الناس ما يدرون عن الذين في بيتك فأنت المسؤول قد قال صلى الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الأمير راع ومسؤول عن رعيته وصاحب البيت راع ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشترك لا يعفى عنه مسلم لكنه بحسب الاستطاعة من رأى منكم منكراً فليغيره بيده صاحب البيت يغير باليد له اليد على أهل بيته له اليد على أهل بيته الله(144/11)
أعطاك اليد على أهل بيتك تغير بيدك تخرج المنكر من بيتك تضرب تؤدب في بيتك ولا أحد يعترض عليك لأنك راع على أهل بيتك تقول لا هذا على الهيئات تخلي بيتك يخرب وتقول هذا على الهيئات هذا غلط عظيم فعلى المسلمين أن يقوم كل منهم بما ولاه الله فراعي البيت مسؤول عن أهل بيته مدير المدرسة مسؤول عن مدرسته وما فيها من أسرة التدريس والطلاب مسؤول عنهم مدير الإدارة مسؤول عن الموظفين الذين يتبعون كل واحد عليه مسؤولية يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة أما أنه كل يسكت ويدلس ويقول الشرع على فلان لا يا أخي فلان نعم عليه مسؤولية لكن أنت عليك مسؤولية فلا بد من هذا الأمر هذا هو سبيل النجاة للأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يقوم كل واحد من المسلمين بما يستطيع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتركه وهو يستطيع أبداً حتى ولو في قلبه ما أحد يعجز أن ينكر المنكر بقلبه أبداً يعني يكره المنكر ويبتعد عنه ويبتعد عن أهله ما أحد يعجز هذا نعم يعجز عن اليد يعجز عن اللسان لكن القلب ما أحد يعجز عن إنكار المنكر بقلبه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل فالذي لا ينكر المنكر بقلبه ليس بمؤمن ليس في قلبه ولا حبة خردل من الإيمان إذا رضي بالمنكر ولم ينه عنه ولكم يكرهه في قلبه فليس فيه إيمان ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل فهذه أسباب مجملة أسباب النجاة نجاة الأمة أولاً السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف ثانياً التمسك بالكتاب والسنة واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتغرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ثالثاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل بحسب استطاعته ومقدرته وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان كذلك من أسباب نجاة الأمة أيضاً التآخي والمحبة بين المسلمين المسلم للمسلم(144/12)
كالجسد الواحد المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى تناصح بين المسلمين الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال :
لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم المحبة بين المسلمين قال صلى الله عليه وسلم لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم الإصلاح بين المسلمين لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون وكذلك من أسباب نجاة الأمة زوال البغضاء بينها وزوال السخرية بعضهم من بعض يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم هذه أسباب النجاة أن يكون المجتمع نزيهاً متحاباً في ما بينه لا يغش المسلم لا يغش أخاه في المعاملة ولا يخدعه في البيع ولا يخطب على خطبته ولا يبع على بيعه ولا يشتري على شرائه يحترم أخاه المسلم أخو المسلم لا يحقره ولا يخذله بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه هكذا هذه أسباب النجاة .(144/13)
دعوة التوحيد وسهام المغرضين (1)
الحمد لله ...
العنوان كما سمعتم دعوة التوحيد وسهام المغرضين والتوحيد هو إفراد الله جل وعلا بالعبادة بأن يجعل المعبود واحداً هذا هو التوحيد وحد توحيداً أي جعل المعبود واحداً وهذا هو الذي خلق الله الخلق من أجله فالحكمة من خلقه سبحانه للخلق للجن والإنس ليأمرهم بعبادته إلا ليعبدون أي إلا لأمرهم بعبادتي ومصلحة ذلك راجعة إليهم فإنهم إذا عبدوا الله وحده فإن ذلك ينجيهم من عذاب الله ويدخلهم الجنة ويدر عليهم الخير في الدنيا والآخرة فمصلحة العبادة ليست راجعة إلى الله لأن الله غني عنهم وعن عبادتهم لو كفروا جميعاً ما نقصوا من ملكه شيئاً ولو أطاعوا جميعاً ما زادوا في ملكه شيئاً وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد وقال الله جل وعلى في الحديث القدسي يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وجنكم وأنسكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ولو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً فإن الله جل وعلا غني عنا وعن عبادتنا وإنما نحن المحتاجون إلى عبادة الله لتقربنا إليه ولأجل أن تصلنا بربنا عز وجل وتعرفنا به فنحصل على سعادة الدنيا والآخرة فالله جل وعلا أمرنا بعبادته لمصلحتنا ولدفع المضرة عنا هذه هي الحكمة من أمره بعبادته سبحانه وتعالى وضد التوحيد الشرك بالله عز وجل والشرك هو عبادة غير الله مع الله أن يجعل شيء من أنواع العبادة لغير الله جل وعلا كالذبح والنذر والدعاء والاستغاثة والخوف والخشية والرغبة والرجاء وغير ذلك فإذا جعل شيء من أنواع العبادة لغير الله فهذا هو الشرك لأنك جعلت لله شريكاً في عبادته وأول ما حدث الشرك في الأرض في قوم نوح حينما غلو في الصالحين كانوا في الأول على التوحيد من عهد آدم عليه السلام إلى قوم نوح كانوا على التوحيد
__________
(1) - محاضرة بثت في قناة المجد بتاريخ 13 /08/2005(145/1)
وكان فيهم رجال صالحون علماء عباد علماء صالحون يحبونهم حباً شديداً فماتوا في عام واحد مات هؤلاء الصالحون في عام واحد فحزن عليهم قومهم فجاء الشيطان إليهم وقال لهم صوروا صورهم وانصبوها على مجالسهم من أجل أن تتذكروا العبادة إذا رأيتم صورهم تذكرتم العبادة جاءهم من طريق النصيحة والتشجيع على الخير ولم ينظروا إلى العواقب ولم يفطنوا لكيد عدوهم فأطاعوه لأن هذا أمر ظاهره أنه خير يصورون صورهم وينصبونها على المجالس ويناظرونهم ويتذكرون أحوالهم وينشطون على العبادة فعلوا ذلك ولم يحدث شرك في أول نصب هذه الصور لأن فيهم العلماء ولم يتجاسر الشيطان على أن يقول لهم إن هذه الصور تنفع وتضر لأن العلماء ينكرون هذا فلما مضت مدة مات العلماء في قوم نوح ماتوا لم يبقى منهم علماء نسخ العلم ولم يبقى إلا جهلة فجاء الشيطان إليهم وقال إن أبائكم ما نصبوا هذه الصور إلا ليعبدوها وبها كانوا يسقون المطر فدخل ذلك في عقولهم لجهلهم ولم يكن هناك من العلماء من يرد هذه الشبهة وهذا الكيد فهذا أول سهام المغرضين على التوحيد فعبدوهم من دون الله عبدوا هذه الصور فبعث الله نوحاً عليه الصلاة والسلام فيهم يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة هذه الأصنام ليردهم إلى الأصل الذي خلقوا من أجله وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده أنه لا يتركهم بأيدي عدوهم بل يرسل إليهم من ينبههم وينقض الشبهات التي تروج بينهم هذا من رحمة الله جل وعلا بعباده أنه يرسل الرسل وينزل الكتب لبيان الطريق الصحيح الموصل إلى الله جل وعلا والذي يبين الشرك وطرقه ووسائله فلم يترك عباده هملاً ولم يتركهم للشيطان فأرسل الله نوحاً عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى الله عز وجل ويريد ردهم إلى الأصل الذي هو التوحيد الذي خلقوا من أجله ولبس فيهم كما قال الله جل وعلا ألف سنة إلا خمسين عاماً ألف سنة إلا خمسين عاماً شوف الشر إذا دخل في القلوب صعب إخراجه الشبه إذا تغلغلت صعب مقاومتها(145/2)
ألف سنة إلا خمسين عاماً ونبي الله ورسوله عليه الصلاة والسلام يعاني من هذه المشكلة ويعالجها ويدعو إلى الله عز وجل كما ذكر الله ذلك في كتابه ومن ذلك سورة نوح سورة كاملة في قصة نوح مع قومه ) بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( نوح ( الآية 1-2-3-4) .
هكذا يدعوهم إلى الله بالحجج والبراهين وبالملاطفة واللين والموعظة لعلهم يستجيبون ثم إنهم زادوا شراً ) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ( نوح ( الآية 5 – 6 ) شوف الدعوة إلى الله عز وجل ) ما لكم لا ترجون لله وقارا ( نوح ( آية 13 ) يعني ما لكم لا تعظمون الله عز وجل وتوحدونه لأن الشرك تنقص لله عز وجل حيث سويتم به من لا يساويه عبدتم معه من خلقه من هم مثلكم بل أنتم أحيا وهم أموات أنتم تمشون وتكتسبون وهم أموات أموات في القبور .(145/3)
) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ( نوح ( الآية 13حتى 19 ) ذكرهم بآيات الله الكونية ونعمه الظاهرة والباطنة أما هؤلاء الأموات ماذا قدموا لكم خلقوا السماوات خلقوا الأرض أدروا عليكم الأرزاق أنزلوا عليكم المطر لأي شيء تتعلقون بهم والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم ) لتسلكوا منها سبلاَ فجاجة ( نوح (آية: 20 ) ما أجدى فيهم هذا كله المشركون الذين يعبدون الأصنام ما كانوا يعتقدون أنها تخلق أو ترزق أو تحي أو تميت لأن هم يعلمون أنها لا تقدر على ذلك وأن هذا لا يقدر عليه إلا الله ولأن سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون أن الله لأن سألتهم من خلقهم يقولون الله قل من يرزقكم من السماء والأرض أما يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فهم يعترفون بتوحيد الربوبية وأنه لا يقدر على هذه الأمور إلا الله وأن أصنامهم لا تقدر على شيء من ذلك إذاَ لماذا عبدتموها لماذا عبدتموها قالوا شفعائنا عند الله ما عبدناهم أنهم يخلقون ويرزقون أو يدبرون لكن شفعائنا عند الله وسطاء يقولون وسطاء يتوسطون لنا عند الله الله أغلق بابه عن الدعاء وأغلق بابه عن عباده حتى يحتاج إلى وسطاء الله قد فتح بابه للسائلين ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه يجيب المضطر ويعطي السائل ينزل كل لليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من سائل فأعطيه هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له هذا يحتاج إلى أنك تأخذ بينكم وبينه واسطة أن أنك تمد يديك إليه سبحانه وتعالى بلقب حاضر وتطلب منه ما تشاء تطلب(145/4)
منه الدنيا والآخرة لأنه غني كريم سبحانه وتعالى ما هو بحاجة إلى أن تجعل بينك وبينه واسطة هذا ملوك الدنيا فهو قاسوا الله على ملوك الدنيا ملوك الدنيا ما توصلوا إليهم إلا بواسطة وبشفعاء أما الله جل وعلا فإنه سميع مجيب قريب لمن دعاه ليلاَ ونهاراَ بابه مفتوح يسمع ويرى سبحانه وتعالى فليس بحاجة إلى أن تجعل بينك وبينه شفيع ويعبدون من دون الله من لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعائنا عند الله اشفعوا لنا عند الله والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفا طيب لما ذا لا تتقرب أنت إلى الله لماذا لا تتقرب أنت إلى الله زلفا هل الله بعيد عنك لا يسمعك ولا يراك هل الله بخيل ما يعطيك إذا طلبت منه لماذا يقربون إلى الله الله أغلق بابه عنك فهذا من شبهات الشيطان التي يلقيها في قلوب هؤلاء وإذا تمكنت الشبهة من القلب صعب اقتلاعها في زماننا هذا مثل عباد القبور اليوم مثل مشركي الجاهلية سواء بسواء إلا أن مشرك الجاهلية أحذق وأذكى منهم لأن الرسول لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا أجعل الآلهة إله واحدا إن هذا لشيء عجب فأبوا وانطلق الملأ منهم أمشوا واصبروا على ألهتكم إن هذا لشيء يراد فهم علموا معنى لا إله إلا الله أن معناه أن تترك عبادة غير الله وأن يفرد الله للعبادة وهم لا يريدون ذلك لا يريدون أن يفردوا الله بالعبادة بل يريدون أن يعبدوا معه غيره ممن يزعمون أنهم شفعاء وأنهم يقربونهم إلى الله زلفا أما عباد القبور اليوم ففيهم غباوة يقولون لا إله إلا الله المشركون أبوا أن يقولونها لأن لا يتناقضوا يقولون لا إله إلا الله ويدعون غيره هذا تناقض وهم لا يريدون أن يتناقضوا فصمدوا على الشرك خشية التناقض أما البلهاء والمغفلون في هذا الزمان فيعبدون الأموات والأضرحة ويقولون لا إله إلا الله لا إله إلا الله هو هو لا إله إلا الله ويذكرون الله بأنواع من الذكر والليل والنهار أذكار عظيمة(145/5)
ويقولون يا علي يا حسين يا عبد القادر يا نقش بندي يا فلان أغثني أعطني وهم يقولون لا إله إلا الله هذا تناقض كيف تقول لا إله إلا الله وتدعو غير الله تذبح لغير الله تنذر لغير الله هذا تناقض المشركون أبوا أن يقولوا لا إله إلا الله خشية التناقض وهؤلاء ما ألفوا من التناقض يقولون لا إله إلا الله بكثرة ولكن يشركون بكثرة والعياذ بالله ولهذا يقول شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله لما ذكر هذه المسألة قال لا خير في رجل كفار قريش أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله فكفار قريش عرفوا معنى لا إله إلا الله وأبوا أن يلتزموا وهؤلاء ما عرفوا معنى لا إله إلا الله قالوها ولم يعرفوا معناه ولذلك يدعون غير الله ويذبحون لغير الله ولا يسمون هذا بالشرك يسمونه بالتوسل توسل يقولون هذا توسل أيش التوسل قولوا نعم الله جل وعلا يقولوا ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ( المائدة (آية:35) أولائك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة الوسيلة ما هي قالوا نعم الوسيلة الواسطة نجعل بيننا وبين الله واسطة هذه الوسيلة فسروها بغير تفسيرها وبغير مراد الله سبحانه وتعالى منها فسروا بأن الوسيلة معناه الواسطة وهذا لم يقل به أحد من المفسرين لم يقل به أحد من المفسرين أبداَ الوسيلة عند المفسرين هي ما يقرب إلى الله الوسيلة عند المفسرين هي ما يقرب إلى الله والذي يقرب إلى الله ما هو التوحيد والعمل الصالح هذا الذي يقرب إلى الله سبحانه وتعالى هذه الوسيلة الصحيحة عبادة الله وحده لا شريك له(145/6)
هي الوسيلة والتوسل إلى الشيء هو ما يوصل إليه والحبل يسمى وسيلة لأنه يستنبط به الماء إلى البئر فهو الوسيلة فالوسيلة ما يقرب إلى الله جل وعلا الذي يقرب إلى الله الشرك أو التوحيد الذي يقرب إلى الله جل وعلا هو التوحيد وعبادته وحده لا شريك له فمعنى { ابتغوا إليه الوسيلة } المائدة (آية:35) أي تقربوا إليه بالعبادة تقربوا إليه بالعبادة أولائك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أي التقرب إليه سبحانه وتعالى بالعبادة هذا معنى الوسيلة وليس معنى الوسيلة ما فسر به القبوريون أنه جعل الواسطة بينك وبين الله والتوسل ذكر العلماء أنه أنواع على قسمين التوسل على قسمين توسل مشروع توسل ممنوع تتوسل إليه بالأعمال الصالحة تتوسل إلى الله جلا وعلا بالأعمال الصالحة التي تقربك إليه والله جلّ وعلا يقول { ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين } يونس (آية:103) المؤمنين فينجيهم الله بإيمانهم وعبادتهم وطاعتهم لله عزّ وجل { فلولا أنّه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } الصافات (آية:143) هذا في قصة يونس عليه السلام لما ابتلعه الحوت وصار في الظلمات نادى ربه في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فتوسّل إلى الله بالتوحيد لا إله إلا أنت وتوسل إليه باعترافه بظلمه وذنبه فنجّاه الله سبحانه وتعالى وفي الآية الأخرى { لولا أنه كان } يعني كان في حالة الرخاء { كان من المسبحين } يعني من المصلين كان يونس عليه السلام كثير الصّلاة { لولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } الصافات (آية:143) فأنجاه الله بسبب أنه كان من المسبحين فهذا دليل على أن العمل الصالح ينجّي اله صاحبه إذا وقع في شدة وهذا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم تعرف إلى الله يف الرخاء يعرفك في الشدة توسل إلى الله بالأعمال الصالحة هذا هو المطلوب وهذا مشروع { ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع(145/7)
الشاهدين } آل عمران (آية:53) { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } آل عمران (آية:193) توسلوا إلى الله بإمامهم بالرسول صلى الله عليه وسلم فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة هذا ينفع صاحبه إذا وقع في شدة فإن الله يفرّج عنه شدته وليس الهتاف بالأموات ليس الهتاف بالأموات أو بالشياطين أو بالجن كما عليه الآن كثير من المشركين الذين يدعون الإسلام مع السف إذا أصابتهم شدة ما يقولون يا الله يقولون يا عبد القادر يا فلان يا حسين يا عليّ وينسون الله سبحانه وتعالى مع أن المشركين على شركهم في الجاهلية إذا وقعوا في الشدة أفردوا الله في الدعاء { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً } الإسراء (آية:67) فإذا وقعوا في الشدة عرفوا أنه لا يخلص من الشدة إلا الله فأخلصوا الدعاء لله فنجاهم الله عزّ وجل { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين } الأنعام (آية:63) فالمشركون كانوا يخلصون الدعاء لله في الشدة أما الذين يزعمون أنهم مسلمون الآن من القرويين وغلاة الصوفية فإنهم إذا وقعوا في الشدة يدعون غير الله يدعون ويهتفون بأسماء الجن والشياطين والأموات يا علي يا فلان يا حسين يا عبد القادر وهذا شيء معروف لا ينكرونه ولهذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله شرك هؤلاء أغلظ من شرك الأوّلين لأن الأوّلين يشركون في الرّخاء وسيخلصون في الشدة وهؤلاء شركهم دائم في الرخاء والشدة بل إنهم في الشدة يزيد شركهم والعياذ بالله يزيد شركهم في الشدة وينسون الله سبحانه وتعالى لا يأتي لله ذكر على ألسنتهم في الشدة وإنّما يأتي ذكر معبوداتهم من دون الله عزّ وجل الأمر خطير جداً التوحيد الآن خفي على كثير من الناس(145/8)
والذي يدعو إليه يُنبذ ويُتهم ويُرمى بأنه من الخوارج لأن التوحيد عندهم هو عبادة القبور والذي ينكره هذا خارجي من الخوارج هكذا يقولون الخوارج ما هم بالذين يدعون إلى التوحيد الخوارج الذين يخرجون على ولي الأمر الخوارج الذين يكفرون المسلمين هؤلاء هم الخوارج أما الذين يدعون إلى التوحيد هذا هو الخوارج هؤلاء خلاصة عباد الله وأولياء الله هؤلاء هم الناصحون وما حملهم على هذا إلا الإخلاص والمحبة للخير والحرص على إنقاذ الناس من الهلاك يتحملون المشاق يتعرضون للأخطار ويصبرون على اللوم والتوبيخ والتهديد لأجل إنقاذ الناس من الظّلمات إلى النور هؤلاء يُقال لهم خوارج هؤلاء أتباع الرسل عليهم الصّلاة والسّلام قال عليه الصلاة والسلام والعلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا ديناراًَ ولا درهماً وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر كذلك من التوسل المشروع أن تذكر حالتك وضرورتك إلى الله عزّ وفقرك تذكر هذا في دعائك كما قال أيوب { وأيوب إذ نادى ربه أني يمسني الضر وأنت أرحم الراحمين } الأنبياء ( آية 83 ) توسل إلى الله بحالته وأنه مسه ضرّ الضرّ الشديد وأعرض عنه الناس لأنه أصبح أصبح لونه وجسمه منفّراً من شدة المرض وتهرّي جلده من الأمراض فعند ذلك نادى ربه أن يمسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين فتوسل إلى الله بشيئين لأنه أرحم الراحمين وبحالته التي بلغت إلى هذا الحد كذلك من التوسل المشروع طلب الدعاء من الصالحين الحاضرين أن تطلب من عبد صالح أن يدعو الله لك أو يدعو الله للمسلمين فإن هذا من التوسل المشروع والدليل على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أجدبوا يعني انحبس المطر طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم وأن يدعو الله لهم فيسقون ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم وأجدبوا ذهبوا إلى العباس بن عبد المطلب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم وقال عمر رضي الله عنه اللّهم إنا كنا نتوسل بنبيّك فتسقينا(145/9)
وإننا نتوسل بعمّ نبيك فاسقنا فيدعو الله قم يا عباس فادع فيقوم العباس رضي الله عنه فيدعو الله وهم يؤمنون فينزل الله المطر عليهم هذا توسل بدعاء الصالحين فإذا كان عبداً صالحاً حاضراً عندك تطلب منه أن يدعو الله لك هذا توسل مشروع لا بأس به فهذه أنواع التوسل المشروع أما التوسل الممنوع فهو جعل الواسطة بين الدّاعي وبين الله في قضاء حاجته هذا ممنوع وهذا ينقسم إلى قسمين إن كان يتقرّب إلى هذه الواسطة ويذبح لها وينذر لها فهذا شرك أكبر هذا توسّل شرك أكبر يُخرج من الملة كالذين يذبحون للقبور وينذرون لها ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله كحالة المشركين الأوّلين أما إن كان لا يقرّب شيء من العبادة لهذه الوسيلة وإنما يزعم أنها تتوسّط له عند الله فهذا بدعة ووسيلة إلى الشّرك فلابد من هذا التفصيل فليس التوسل لغير الله التوسل غير المشروع ليس كله شركاً وليس كله مباحاً بل لابدّ من هذا التفصيل لأن كثيراً من المغرضين يلبسون الأمر ويقولون أنتم متشددون أنتم خوارج أنتم تشددون على الناس هذا من الأسباب هذا من التوسل والله أمر به وابتغوا إليه الوسيلة فينبغي أن يُعرف هذا وأن العلماء يبينون للناس هذه الأمور ولا يتركون المغرضين يلبسون عليهم .(145/10)
منهج الرسل في الدعوة إلى الله(1)
الحمد لله ...
لما كانت العبادات توقيفية على ما شرعه الله بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام تبين للناس كيف يعبدون ربهم وتبين للناس عقوبة من لم يعبد الله أو عبده وعبد معه غيره لأن العبادة لا تصلح إلا إذا كانت خالصة لوجه الله من الشرك ومتابعة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جاء عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مرابطة لما جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما كان الأمر كذلك بعث الله الرسل يدعون الناس إلى عبادة الله ويبينون لهم كيف يعبدون الله على الطريقة الصحيحة والمنهج السليم ويحذرونهم من الشرك بالله ) ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا آله إلا أنا فاعبدون ( الله سبحانه وتعالى بعث الرسل لهذا الغرض وهذا من رحمته سبحانه وتعالى وعنايته بخلقه حين أهبط آدم إلى الأرض قال :
) فإما يأتينكم مني هدى من اتبعه لا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكه نحشره يوم القيامة أعمى ( .
__________
(1) - محاضرة بثت في قناة المجد بتاريخ 30 /04/2005(146/1)
كان الناس على عقيدة التوحيد من عهد آدم عليه السلام وعلى دين أبيهم آدم إلى أن جاء قوم نوح بعد عشرة قرون كانوا يعبدون الله على التوحيد وعلى دين أبيهم آدم كما ذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رضي الله عنه قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على التوحيد ثم لما وقع الشرك في قوم نوح بسبب الغلو في الصالحين أرسل الله إليهم نبيه نوحاً عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى الرجوع إلى عبادة الله وحده لا شريك له وترك عبادة الأصنام ثم تتابعت الرسل من بعد نوح إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده فنوح هو أول رسول إلى الأرض بعد ما حصل الشرك يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك وكان هدي الرسل عليهم الصلاة والسلام ومنهجهم في الدعوة كما ذكره الله بالقرآن فهذا نوح عليه السلام لبس في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل قال تعالى :
) بسم الله الرحمن الرحيم إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعوه يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون قال ربي إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلن يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في أذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ( إلى أخر السورة...(146/2)
لكنه لم يجدي فيهم هذه الدعوة المباركة التي فيها كل الاستعطاف واللين والموعظة والتذكير لم يجدي فيهم لأن الكفر والعياذ بالله والشرك قد تغلغل فيهم في النهاية قالوا لا تذرن ألهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يروثا ويعوق ونسرى وقد أضلوا كثيرا مع أن نوحاً عليه السلام تلطف بهم وذكرهم ووعظهم وداوم على دعوتهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهارا فلم يترك مجالاً من مجالات الدعوة إلا وقد طرقه عليه الصلاة والسلام هذا منهج الدعوة في نوح عليه الصلاة والسلام أول الرسل من بعده هود أرسله الله إلى عاد ) وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قومي اعبدوا الله ما لكم من آله غيره أفلا تتقون ( إلى أن قال ) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ذكرهم بأن الله جل وعلا جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح وزادهم في الخلق بسطا وأمرهم أن يذكروا آلاء الله لعلهم يفلحون ( يذكر نعم الله عليهم لكن لم يجدي فيهم هذا المنهج العظيم الذي دعاهم به نبيهم هود عليه الصلاة والسلام ثم صالح عليه السلام كيف دعا قومه ) وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قومي اعبدوا الله ما لكم من آله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم واذكروا إن جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد أبائنا ( هذه مقابلتهم لدعوة نبي الله صالح عليه السلام مع أنه تلطف بهم ورق لهم في الخطاب ووعظهم وذكرهم ولكن قابلوا ذلك بالجحود والنكران فكانت عاقبتهم الهلاك ولوط عليه السلام بعثه الله إلى قومه لما تظاهروا بالجريمة النكراء التي لم يرتكبها أحد من العالمين وهي اللوطية ذكرهم بالله خوفهم بالله وبين لهم أن هذه الجريمة جريمة شنيعة تنفر منها الطباع(146/3)
ولم يرتكبها أحد من العالمين غيرهم ومع هذا أصروا وقالوا ) لئن لم تنتهي يا لوط لتكونن من المخرجين ( في الآية الأخرى ) أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ( هذا عيبهم أنهم يتطهرون عن الفاحشة ولا يقعون في هذه الفاحشة اعتبروا هذا عيباً وشعيب عليه السلام بعثه الله إلى مدين وكانوا مع الشرك بالله يظلمون الناس في أموالهم يبخسون المكاييل والموازين ويقطعون الطرق ويسلبون الناس أموالهم ذكرهم بالله عز وجل ) وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قومي اعبدوا الله ما لكم من آله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قومي أوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ( إلى أنهم تمردوا عليه ) أتنهانا أن نعبد ما يعبد أبائنا أو أن نفعل بأموالنا ما نشاء( يعني نهاهم عن الشرك ونهاهم عن نقص المكاييل والموازين أما الشرك فقالوا ) نعبد ما يعبد أبائنا ( هذه مقابلتهم لحجج الله وأما المكاييل والموازين أئن كنا لأموالنا نتصرف فيها كيف نشاء لا نتقيد بأوامر الحلال والحرام نحن أحرار في أموالنا كما يقول بعض العلمانيين اليوم والمغرورين فماذا كانت عاقبتهم وهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء :
)إذ قال لقومه أعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكن رزقا فابتغوا عند الله رزقا واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون( .(146/4)
هكذا يخاطبهم بهذا الخطاب العظيم الملامس للقلوب ولكن قلوبهم لا يصل إليها نور هدّدوه بالإحراق فأنجاه الله من النار وجعل العاقبة له جعل العاقبة له ولمن اتبعه وهاجر من أرضهم إلى أرض مباركة إلى أرض الشام وأرض الحجاز وأمره ببناء البيت العتيق الله جل وعلا منّ عليه بنعم عظيمة لما صبر وتحمل في سبيل الله ما تحمل إن الله عوضه في الدنيا والآخرة ونتيجة لصدقه في الدعوة واتخذه خليلاَ وهذا موسى عليه السلام وهارون لما أمرهم الله جل وعلا بأن يذهب إلى فرعون ذهب إلى فرعون )اذهب إلى فرعون أنه طغى فقل له هل تغطى إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصا ثم أدبر يسعى عشر فنداء قال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكاد الآخرة والأولى(.(146/5)
والله أمره هو وهارون فقال لهما )فقولا له قولاَ ليناَ( مع جبروته وكفره وادعائه الربوبية قال الله لهما )فقولا له قولاَ ليناَ لعله يتذكر أو يخشى( لعله يتذكر أو يخشى فدلّ على أن الدعوة يكون فيها أسلوب يرغّب المدعو ويجذبه إلى القبول إذا كان فيه بقية من حياة وإلا فإنها فتقوم عليه العدة تقرؤون دعوة إبراهيم لأبيه )يا أبت لما تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً يا أبتي لا تعبد لشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبتي أني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً( شوف يا أبت يا أبت يا أبت كل خطاب يبدؤه يا أببتي من باب الاستعطاف له ويبين له أنه مشفق عليه وأنه عنده علم من الله عز وجل يريد أن يهديه به إلى سعادته ولكنه لم يقبل لكن نحن نأخذ من هذا منهج الدعوة منهج الرسل في دعوتهم لأممهم حتى نقتدي بهم لأنا مكلفون بالدعوة إلى الله عز وجل فنحن نقرأ سيرة الرّسل في القرآن وأخبارهم لأجل أن نقتدي بهم وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله لما بعثه الله إلى العالمين الجن والأنس إلى العرب والعجم بعثه بشيراَ ونذيراَ وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاَ منيراً قابله المشركون أسوء مقابلة وهم أقرباؤه وبنو عمومته وأهل بلده أول من قابله هؤلاء قابلوه بالعنف والقسوة إلا من رحمة الله ولكنه صبر ولكنه صبر وانتظر كما سمعتم في الآيات التي قرأها الإمام وفقه الله أن الله قال له :(146/6)
)أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم فهو خير للصابرين وأصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليه ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذي اتقوا والذين هم محسنون( أدع إلى سبيل ربك قل هذه سبيلي أدعو إلى الله إلى سبيل ربك إلى الله وهذا يعطي الداعية أن يخلص الدعوة لله أن لا يكون قصده من الدعوة الرفعة على الناس أو الرياء والسمعة أو الطمع الدنيوي أو الظهور إنما يقصد بذلك وجه الله عز وجل أدعو إلى الله ادع إلى سبيل ربك هذا من أولويات صفات الداعية أن يخلص النية لله عز وجل في دعوته إلى سبيل ربك بالحكمة أول شيء بالحكمة والحكمة وضع الشيء في موضعه بأن يخاطب كلاً بحسبه بالخطاب المقبول الذي يتألفه به ويستميله به إلى الحق وإن كان مخطأ ومجرماَ ولكن يكون دعوته بالحكمة لأنه ربما يكون جاهلاَ بالأمر فإذا بُيّن له الحق قبله فهذا لا يحتاج إلى أكثر من أنه يُبيّن له الحق ولكن يبين بأسلوب مناسب لا بأسلوب منفر فإنه إذا كانت الدعوة بأسلوب منفر فإنها لا تجدي شيئاَ بل إنها ربما ينعكس الأمر فيها فتحصل ردة الفعل من المدعو لكن يكون بالحكمة وهي وضع الشيء في موضعه يخاطب العالم بما يليق به يخاطب السلطان بما يليق به يخاطب العامّي بما يليق به وهكذا يخاطب الأغنياء بما يليق بهم بخطاب يستميل بهم قلوبهم ويستجلبهم إلى الحق لا بأسلوب منفر وسمعتم ما قال الله لنبييه موسى وهارون لما أرسلهما إلى فرعون قال :(146/7)
فقولا له قولاَ ليناَ لعله يتذكر أو يخشى النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً إلى اليمن داعياَ وقاضياَ ومعلماً قال له إنك تأت قوماَ من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعو إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله الشّاهد من قوله إنك تأتي قوماَ من أهل الكتاب أهل علم يحتاجون إلى استعداد لمخاطبتهم ليست مخاطبة العالم كمخاطبة العامي وهذه هي الحكمة أن الداعية يتوخى الأسلوب المناسب مع كل بحسبه فلا يخاطب العالم بخطاب العامي ولا يخاطب العامي بخطاب العالم ولا يخاطب أفراد الناس بما يخاطب به الملوك ولا يخاطب الملوك بما يخاطب به أفراد الناس وإنما يستعمل الحكمة في خطابه مع الناس وكذلك من الحكمة العلم كما في الآية الأخرى الحكمة يراد بها العلم والفقه أيضاَ كما في قوله تعالى:
)قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة( والبصير هي العلم فيكون معنى الحكمة العلم ومعناه الرفق أيضاًَ ووضع الأشياء في مواضعها والموعظة الحسنة لأن بعض المدعوين قد لا يستجيب في أول الأمر يصير عنده تكاسل بعد ما يبين له الحق لا يرده لكن يتكاسل عن امتثاله يحتاج إلى موعظة بأن يُخوّف من الله عز وجل عن التكاسل والتباطؤ في قبول الحق والتزام الحق لأن لا تأخذه العقوبة لأنه علم وعرف فلا يليق به أن يتكاسل في قبول الحق أو يتأخر فيحتاج إلى موعظة إلى تذكير المرتبة الثالثة قد يكون عنده تمرد وجدال بعض الناس لو تبين له الحق واتضح الحق يكون عنده ردة فعل يكون عنده جدال وعنده شبهات فهذا يجادل بالتي هي أحسن تُنقض شبهاته بالتي هي أحسن لا بالعنف وإنما يُبيّن أنه مخطي وأن هذه الشبهات ليست صحيحة وتبين بالعلم والمعرفة الحقيقية حتى يعرف أنه قد أخطأ وأنه ليس معه حجة ربما يقبل الحق :(146/8)
) جادلهم بالتي هي أحسن( الجدال إذا احتاجت الدعوة إلى جدال بين الداعية والمدعو فتقكون بالتي هي أحسن ما يكون في عنف ولا يبكون فيها قسوة وإنما يكون بيان للحق ورد للباطل وكشف للشبهات التي يدلي بها وجادلهم بالتي هي أحسن هذه بعض صفات الداعية ومنهج الدعوة مذكورة في هذه الآية العظيمة ) ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( وفي الآية الأخرى أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول هذه سبيلي أي طريقتي أدعو إلى الله لا يريد بدعوته رياء ولا سمعةً ولا ترفّعاً ولا طمعاً دنيوياً وإنما هي دعوة خالصة إلى الله على بصيرة يعني على علم فيُشترط في الداعية أن يكون على علم لا يدعو وهو على جهل لأن الجاهل ربما يحُرّم حلالاً أو يُحلّ حراماً أو يقول على الله بغير علم فيكون نكشة على الدعوة وعلى أهلها أو يعرض عليه شبهات وأسئلة فلا يستطيع الجواب عنها إذا لم يكن عالماً لا يستطيع أن يرد على شبهات المغالطين فينتصرون عليه فيصير في هذا نقص على الدعوة الذي يريد أن يدعو إلى الله يستعد بالعلم قبل كل شيء حتى يستطيع مواجهة ما يعترضه من المدعوين ولا سيما الشبهات التي يتعلق بها كثير من الذين عندهم انحراف عن العقيدة كذلك من منهج الدعوة الصبر لا يعجل الإنسان إذا لم تحصل له استجابة فإنه لا يستعجل بل يصبر وينتظر من الله الفرج وأنها إذا لم تنفع مع هؤلاء تنفع مع آخرين وإذا لم تنفع في هذا البلد تنفع في بلد آخر والنبي صلى الله عليه وسلم كما تعلمون كان يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج مع ما يتعرض له من الأذى ومن الرد القبيح كان يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج ويدعوهم إلى الله ويبلّغهم القرآن وذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الله ولكنهم ردوه ولم ييأس عليه الصلاة والسلام وفي مرة أصابه من قومه أذىً شديد تضايق عليه الصلاة والسلام مما أصابه منهم فجاءه ملك الجبال يستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين الجبلين(146/9)
المحيطين بمكة فقال صلى الله عليه وسلم لا بل أستأني بهم لعل الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً مع صبره صلى الله عليه وسلم وتحمله وانتظاره في النهاية أشد أعدائه الذين عادوه صاروا هم أقرب الناس إليه بعد ما أسلموا وأقرب المناصرين له من أهل مكة وغيرهم وصاروا قادة في الفتوح نتيجة الصبر فصبر صلى الله عليه وسلم حتى إن الحق أخذ مجراه واستبانت دعوته الله عليه وسلم وتوالت انتصاراته فعند ذلك عرف خصومه أنه نبي الله وأنه لا مجال لاعتراضه فآمنوا بالله وصاروا من خواص أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وقاموا بالجهاد معه وقاموا بالجهاد من بعده كما هو معروف وهذا نتيجة الصبر في الدعوة ونتيجة الرفق ونتيجة الأسلوب الطيب والمنطق الصواب فالداعية لا ييأس مهما واجهه منها ولهذا قال الله له:(146/10)
) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحرزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يلفظون ( أمره بالصبر وهكذا الدعاة يجب عليهم الصبر والانتظار وأن لا ييأسوا بل كلما اشتد الأمر فهو أقرب إلى الانفراج واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً والله جل وعلا جعل العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء مهمتهم في الدرجة الأولى الدعوة إلى الله عز وجل فليكن مهمة العلماء الدعوة إلى الله عز وجل كما هي مهمة الأنبياء يعني بالدرجة الأولى تكون مهمتهم الدعوة إلى الله في بلادهم ومع إخوانهم ومع كل من يصلون إليه ينشرون الخير وينشرون الدين بين الناس لا سيما في بلادهم وفي أقاربهم وأنذر عشيرتك الأقربين ) ولولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون( فأنتم في هذه الجامعة المباركة تتلقون العلم العلم الصافي من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجعون إن شاء الله إلى بلادكم بالسلامة فكونوا دعاة خير وحملة هداية للناس أجمعين ولأهل بلادكم خاصة هذا سبيل المؤمنين ولهذا الله جل وعلا قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ) هذه سبيل أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ( فكل أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يدعون إلى الله على بصيرة يعني على علم فإذا تحملتم العلم فإنكم تبلغونه للناس تنشرونه في الناس ) وإذا أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا أولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ( فعلينا واجب عظيم كل من أعطاه الله شيئاً من العلم فإن العلم أمانة والله يقول:(146/11)
)إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها( فهو أمانة تبلغونه لإخوانكم ولا تحتفظون به في ذاكرتكم ومذكراتكم بل إنكم تبلغونه والعلم يزكو وينمو ويزيد كلما أُنفق منه وكلما نشر فإنه يزيد ويُبارك فيه ويتناقص وتذهب بركته إذا خزن ولم ينشر ولم يبلغ ينشر على الناس بالدعوة بالتعليم بالتأليف بالكتابة بكل وسيلة وسائل الإعلام التي تنشر المقالات والأصوات والخطب والمواعظ والدروس هذه وسيلة عظيمة يسّرها الله استغلوها في الدعوة إلى الله كان الصدر لهذه لأمة القرون المفضلة كلهم أو أغلبهم يدعون إلى الله يدعون إلى الله بالتعليم يدعون إلى الله بالدعوة يدعون إلى الله بالخطابة بالقضاء بكل وسيلة القرون المفضلة أغلبهم أو كلهم دعاة إلى الله لكن بعد القرون المفضلة اشتد الظلام وتلاطمت الشبهات والمذاهب والفرق بعد القرون المفضلة ظهرت الفرق وظهرت الاختلافات وظهرت المقالات السيئة فقيّض الله لها من العلماء والدعاة إلى الله من قاموا في وجهها وردوها في نحور أصحابها خذوا مثلاً الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية كان في عصره الأمر متلاطم من كل جهة من الصوفية ومن علماء الكلام ومن القبورية ومن الفرق الضالة كالشيعة والخوارج والمعتزلة والمعطّلة فقام رحمه الله في وجوه هذه الطوائف ونازلها وبيّن بطلان ما عندها من الشبهات ونصره الله وانتشر علمه ولا يزال علمه يتجدد والناس يستفيدون منه ويستنيرون به لو أنه سكت وخزن العلم في صدره ما حصلت هذه الآثار الطيبة وأقرب مثال أيضاً الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ظهر في بلاد نجد وهي قد أخذت قسطها من ما حصل في العالم الإسلامي من الخمول ومن الشبهات والشّركيات ومن أمور عظام كدرت وجه الدعوة ووجه الإسلام فقام رحمه الله على نور من ربه وعلى بصيرة وعلى علم قام ودعا إلى الله عز وجل وصدع بالحق ونصره الله عز وجل فأثمرت دعوته هذه الدولة المباركة وهذه الدعوة العظيمة في هذه البلاد وفي خارج هذه(146/12)
البلاد وهو شخص واحد لكن أعانه الله عز وجل وسدده لما صدق مع الله عز وجل ولما استعد بالعلم واستعد بالصبر والثبات نصره الله عز وجل وهو شخص واحد وأثمرت دعوته هذه الثمرات فليست العبرة بكثرة الدعاة ولكنّ العبرة بالداعية الحق الذي يتمثل بالعلم والعمل والصبر والاحتساب وانتظار الفرج فالعبرة بالنوعية لا بالكم وإن كنا نقول كثرة الدعاة تدل على خير إن شاء الله ولكن ما هو لازم أنه تكثر الدعاة بل إذا دعى الواحد من المسلمين من العلماء دعا بصدق وباحتساب وبصبر جعل الله لدعوته الخير الكثير فما بالك إذا كثر الدعاة وكثر الخير هذا زيادة خير إن شاء الله فعلى كل حال أنا لا أحب أن أطيل عليكم ولكن هذه الكلمات التي قلتها لعلها تكون نموذجاً إن شاء الله ينفع الله بها وإن كانت قليلة وضئيلة وقد تكون هزيلة أيضاً لكن هذا جهد المقل ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .(146/13)
كتب الردود(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مناقشة وتعقيب للعلامة صالح الفوزان أثابه الله لموضوع الأناشيد يقول فيها : (( الحمد الله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه.
وبعد :
كنتُ قد عقبت على ماكتبتْه الأخت تغريد العبد العزيز في " مجلة الدعوة" من الثناء على ماسمته بالأناشيد الإسلامية ، ومطالبتها المراكز الصيفية بالإكثار من إنتاجها ، فبينت لها أن هذا الثناء في غير محله ، وأن هذا الطلب غير وجهيه ، وأن الأولى بها أن تطالب بالعناية بالكتاب والسنة ، وتعليم العقيدة الصحيحة والأحكام الشرعية ، فانبرى بعض الأخوان- وهو الأخ أحمد عبد العزيز الحليبي سامحه الله – ينتصر لها لهذه الأناشيد ويدعي أنها شيء طيب ، وعمل جميل ويستدل لإثبات دعواه بأمور هي:
أولاً: أن هذه الأناشيد تلحق بالحداء الذي رخص فيه الشارع ، وكذلك تلحق بالارتجاز الذي رخص فيه النبي عليه الصلاة والسلام عند مزوالة الأعمال الشاقة.
ثانياً: أن العلماء ، كشيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم وابن الجوزي وابن حجر الهيثمي، نصوا على جواز الحداء ، والأرتجاز وسماع الشعر الذي فيه الثناء على الله ورسوله ودينه وكتابه والرد على أعداء الله وهجاؤهم . والنشيد الإسلامي – كما يسميه – لايخرج عن هذه المعاني ، فهو شعرٌ ملتزم بالأدب الأسلامي ، يرفع بصوت حسن.
ثالثاً: تسمية الأناشيد بالإسلامية لاتعني المشروعية والأبتداع في الدين ، وإنما هو وصفٌ وتوضيحٌ وتمييزٌ عن غيرها من الأناشيد والأهازيج المحرمة وهو من المصطلحات الحديثة ، مثل الحضارة اٍلاسلامية ، والعمارة الإسلامية.
رابعاً: فرق الكاتب بين هذه الأناشيد التي سماها إسلامية وبين الصوفية التي تعد من البدع في الدين من وجهين:
الأول :أنهم أضفوا على أناشيدهم صفة القربة والطاعة.
والثاني: أن سماعهم لا يخلو من الآلة التي تقرن بتلحين الغناء.
هذا حاصل ماكتبه أخونا أحمد في تسويغه ماسماه بالأناشيد الإسلامية.
وجوابنا من وجوه:(147/1)
الوجه الأول: أن هناك فروقاً واضحة بين ماتسمونه بالأناشيد الإسلامية وبين مارخص فيه الشارع من الحداء في السفر والارتجاز عند مزوالة الأعمال الشاقة، وإنشاد الأشعار التي فيها مدح الإسلام ، وذم الكفر وهجاء المشركين ، مع وجود هذه الفروق لايصح إلحاق هذه الأناشيد بتلك الأشياء.والفروق كما يلي:
1-الحداء في السفر ، والارتجاز عند الضجر ، وإنشاء الشعر المشتمل على مدح ا لإسلام وذم الكفر وهجاء الكفار لايسمى نشيدأ إسلامياً – كما تسمون نشيدكم بذلك ، وإنما يسمى نشيداً عريباً.إذاً فبينهما فرق من جهة التسمية والحقيقة.
2- أن الحداء أنما يباح في السفر لأجل الحاجة إليه في السير في الليل ، لطرد النعاس ، واهتداء الإبل إلى الطريق بصوت الحادي ، وكذا الارتجاز عند مزوالة الأعمال الشاقة ، كالبناء ونحوه، أُبيح للحاجة بصفة مؤقته ، وبأصوات فردية لاأصوات جماعية.
وماتسمونه بالأناشيد الإسلامية يختلف عن ذلك تماماً ، فهو يفعل في غير الأحوال التي يفعل فيها النوع الأول ، وبنظام خاص وأصوات جماعية منغمة وربما تكون أصوات فاتنه ، كأصوات المردان وحدثاء الأسنان من البنين والبنات ، والأصل في الغناء التحريم ، إلا ماوردت الرخصة فيه.
3- أن الحداء والارتجاز وإنشاء الشعر الذي جاء الدليل بالترخيص فيه بقدر معين وحالة معينة لايأخذ كثيراً من وقت المسلم ، ولايشغله عن ذكر الله ، ولايزاحم ماهو أهم.
اما ماتسمونه بالأناشيد الإسلامية ، فقد أعطي أكثر مما يستحق من الوقت والجهد والتنظيم ، حتى أصبح فناً من الفنون يحتل مكاناً من المناهج الدراسية والنشاط المدرسي ، ويقوم أصحاب التسجيل بتسجيل كميات هائلة منه للبيع والتوزيع ، حتى ملأ غالب البيوت ، وأقبل على استماعه كثيرمن الشباب والشابات حتى شغل كثيراً من وقتهم ، وأصبح استماعه يزاحم تسجيلات القرآن الكريم والسنة النبوية والمحاضرات والدروس العلمية المفيدة.
فأين هذا من ذاك ؟(147/2)
ومعلوم أن ما شغل عن الخير ، فهو محرم وشر.
الوجه الثاني : أن محاولة تسويغ تسمية هذه الأناشيد بالأناشيد الإسلامية محاولة فاشلة ، لأن تسميتها بذلك يعطيها صبغة الشرعية ، وحينئذ نضيف إلى الإسلام ماليس منه.
وقول أخينا أحمد :" إن هذه التسمية لأجل التمييز بينها وبين الأناشيد والأهازيج المحرمة " قول غير صحيح، لأنه يمكن التمييز بينها بأن يقال : الأناشيد المباحة، بدلاً من الأناشيد الإسلامية ، كغيرها من الأشياء التي يقال فيها : هذا مباح ، وهذا محرم ولايقال هذا إسلامي ، وهذا غير إسلامي، ولأن تسميتها بالأناشيد الإسلامية تسمية تلتبس على الجهال ، حتى يظنوها من الدين ، وأن في إستماعها أجراً وقربة.
وقول الأخ أحمد" إن هذه التسمية من المصطلحات الحديثة ، مثل الحضارة الإسلامية ، والعمارة الإسلامية"
نقول له : النسبة إلى الإسلام ليست من الأمور الأصطلاحية ، وإنما هي من الأمور التوقيفية، التي تعتمد على النص من الشارع ، ولم يأت نص من الشارع بتسمية شيء من هذه الأمور إسلامياً ، فيجب إبقاء الشعرعلى أسمه الأصلي ، فيقال: الشعر العربي ، والأناشيد العربية ، وأما تسمية العمارة والحضارة بالإسلامية ، فهي تسمية الجهال ، فلاعبرة بها ، ولادليل فيها.
الوجه الثالث: أن تفريق الأخ أحمد بين مايسميه بالأناشيد الإسلامية وبين أناشيد الصوفية تفريقٌ لاوجه له ، لأن بإمكان الصوفية أن يدعوا في أنا شيدهم ماتدعونه في أناشيدكم من الفائدة ، والترغيب في الخير، والتنشيط على العبادة والذكر ، فكما أنكم تدعون أن في أناشيدكم الحث على الجهاد ، وأنها كلام طيب بصوت حسن ، وفيها مدح الإسلام وذم الكفر... إلى غير ذلك، فيمكنهم أن يقولوا مثل ذلك في أنا شيدهم.
وقولكم:" إن أنا شيد الصوفية لاتخلو من الآلة التي تقرن بتلحين الغناء" .(147/3)
هذا فارق مؤقت ، فربما يأتي تطوير جديد لأناشيدكم يدخل فيه استعمال الآلة فيها، وتسمى موسيقى إسلامية ، أو دف إسلاميي، ويزول الفارق عند ذلك ، كما ورد أنه في آخر الزمان تُغير أسماء بعض المحرمات ، وتستباح ، كأسم الخمر ، وأسم الربا... وغير ذلك. فالواجب على المسلمين سد هذه الأبواب ، والتنبيه، والتنبيه للمافسد الراجحة والوسائل التي تفضي إلى الحرام، والتنبيه كذلك لدسائس الأعداء في الأناشيد وغيرها.
ونحن لاننكر إباحة إنشاد النزيه وحفظه ، ولكن الذي ننكره مايلي:
1-ننكر تسميته نشيداً إسلامياً.
2-ننكر التوسع فيه حتى يصل إلى مزاحمة ماهو أنفع منه.
3-ننكر أن يجعل ضمن البرامج الدينية ، أو يكون بأصوات جماعية ، أو أصوات فاتنه.
4-ننكر القيام بتسجيله وعرضه للبيع، لأن هذا وسيلة لشغل الناس به. ووسيلة لدخول بدع الصوفية على المسلمين من طريقة، أو سيلة لترويج الشعارات القومية والوطنية والحزبية عن طريقه أيضاً.
وأخيراً ، نسأل الله عزوجل أن يوفق المسلمين لما هو أصلح وأنفع لدينهم ودنياهم ، نقول ما قاله الإمام مالك بن أنس رحمه الله:
" لايصلح آخر هذه الأمة إلى بما صلح به أو لها"وذلك باتباع الكتاب والسنة ، والأعتصام بهما ، لابا لأشيد والأهازيج والترانيم.
والله ولي التوفيق.
وصلى الله وسلم على أشرف العباد والمرسلين ))(1) .(147/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين - وبعد :
فمن المعلوم ما يجتازه المسلمون في عصرنا الحاضر من محن قاسية بسبب تيار الحضارة الغربية المسمومة وما يحمل إلينا من أخلاق وعادات يتنافى كثير منها مع أحكام ديننا فكان يجب على المسلمين عامة والعلماء منهم خاصة أن يقفوا من هذا التيار الخبيث موقف الدفاع عن دينهم ودحض شبهات المشبهين - ولكن يا للأسف نجد بعض مثقفينا وحملة الأقلام منا بدلا من أن يقفوا هذا الموقف المشرف راحوا يروجون لكثير من هذه الأباطيل الوافدة ويلتمسون المسوغات ولو على حساب الدين . فصاروا يبحثون عن الأقوال الشاذة وأغلاط المجتهدين ليقيموا منها مستنداً لهم فيما يفعلون .
ومن هذا الصنف صاحب كتاب الحلال والحرام فقد ضمن كتابه هذا كثيرا من هذا النوع . وكنت قد نبهت على سقطاته في هذه الرسالة التي أقدمها للقراء في طبعتها الثانية
- وقد سبقني إلى الرد عليه فضيلة الشيخ عبد الحميد طهماز فكتب في ذلك رسالة قيمة طبعت منذ عدة سنوات . نقلنا منها جملا طيبة في هذا الرد وكذلك نجد دار الاعتصام عندما قامت بنشر الكتاب المذكور في طبعته الثامنة تفضلت مشكورة فأبدت تعقيبات وملاحظات عليه أرفقتها في آخره تبلغ أربعة عشر تعقيبا - وهي تعقيبات قيمة جزى الله من قام بها خير الجزاء - لأن هذا مما يقتضيه واجب النصيحة .
وفي الختام أتقدم بوافر الشكر لله سبحانه ثم لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي قامت بنشر هذه الرسالة ضمن ما تنشر من كتب التراث النافع والبحوث القيمة - وفق الله القائمين عليها لما فيه نصر الإسلام ونفع المسلمين وأثابهم خير الثواب - والحمد لله رب العالمين - وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
المؤلف
27ربيع الثاني سنة 1396 ه
تنبيه :(148/1)
اعلم أن أرقام الصفحات التي أشرنا إلى وقوع الأخطاء فيها من كتاب الحلال والحرام هي على حسب الطبعة الثانية للكتاب عام 1382 هـ من منشورات المكتب الإسلامي بدمشق على نفقة آل ثاني وقد طبع الكتاب بعد ذلك عدة مرات وتوسع المؤلف في تلك الأخطاء توسعا لم يكن موجودا في الطبعة المشار إليها فاقتضى التنبيه والله الموفق .
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل : ( إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .
وبعد فقد اطلعت على كتاب قد ألفه فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي وسماه : ( الحلال والحرام في الإسلام ) تناول فيه كثيرا من المسائل الفقهية في أحكام المعاملات والأطعمة وغيرها فوجدته قد أخطأ في مواضع كثيرة منه . كما في موضوع موادة بعض الكفار . وموضوع لبس الحرير للرجال . وموضوع التصوير . وموضوع حكم كشف المرأة لوجهها ويديها بحضرة الرجال الأجانب . وموضوع الغناء والموسيقى . وموضوع حلق اللحية والأخذ منها . وموضوع الذكاة . وموضوع اللعب بالشطرنج . وموضوع السينما . فاقتضى واجب النصيحة وحب التعاون على البر والتقوى أن ننبه على تلك الأخطاء . لعل المؤلف يعيد النظر في ذلك الكتاب ويصحح هذه الأخطاء على مقتضى الدليل حتى تتم الفائدة بكتابه ويحصل على الأجر والثواب فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا : ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ) .(148/2)
وبعد تسجيل ملاحظاتي وجدت الأستاذ الشيخ عبد الحميد طهماز قد سبقني إلى التعقيب على ذلك الكتاب بنبذة جيدة سماها ( نظرات في كتاب الحلال والحرام في الإسلام ) جاء في مقدمتها بعد كلام ذكره في بيان اجتهاد الأئمة في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها وما لهؤلاء الأئمة من جهود طيبة جاء فيها قوله : ( ولا مناص لكل باحث في أحكام الشريعة الإسلامية من الرجوع إلى آرائهم وأقوالهم وإن كل من سولت له نفسه مخالفة أقوالهم والخروج على آرائهم وقع في الخلط والخبط والتناقض والتهافت لأنه ما أحاط بالأدلة إحاطتهم ولا فهم النصوص فهمهم وهم أقرب منه إلى عصور الخير والصفاء تلقيا وفهما . وكان عليه قبل أن يخالفهم أن يدرس أدلة أقوالهم ليجد أنهم رحمهم الله تعالى ما خرجوا عن الكتاب وما خالفوا السنة بل صدروا عنهما في كل أقوالهم وآرائهم وبين أيدينا مثال عملي لهذا وهو كتاب الحلال والحرام في الإسلام فقد خرج مؤلفه الشيخ يوسف القرضاوي عن آراء الأئمة في كثير من مسائله إلى أقوال شاذة أو ضعيفة الثبوت أو منحولة مدسوسة على قائلها . وليته قبل أن يسجلها في كتابه وازن بينها وبين الأقوال المعتمدة عند الأئمة وقارن بين أدلة هذه وأدلة تلك ولو فعل هذا لظهر له ضعفها وشذوذها وبالتالي ما ثبتها في كتابه كرأي معتمد يفتي به جمهور المسلمين وأجيالهم اللاحقة أقول هذا لأنني على يقين من حسن نيته وصفاء طويته فما ذكر هذه الأقوال الشاذة إلا بدافع إظهار الإسلام بمظهر اليسر والمرونة . وليس يسر الإسلام ومرونته في مجاراة أهواء الناس وميولهم . إنما يسر الإسلام في مرونة نصوصه وسهولة تكاليفه التي يستطيع القيام بها أي إنسان في أي زمان ومكان . أما أن نلجأ إلى الأقوال الشاذة والضعيفة والمنحولة فنخرق أسوار الشريعة ونتجاوز حدودها فلا يجوز لنا أبدا سواء كان ذلك بحسن نية أو بسوء نية .
ولقد قرر المؤلف بنفسه هذا عندما قرر المبادئ التالية :(148/3)
النية الحسنة لا تبرر الحرام . التحايل على الحرام حرام . ما أدى إلى الحرام فهو حرام . في الحلال ما يغني عن الحرام . وكما أخذ المؤلف على المقلدين الذين يسارعون إلى إطلاق كلمة حرام بدون أن يكون معهم دليل ولا شبه دليل , نأخذ عليه إسراعه إلى الأقوال الضعيفة والشاذة وتسجيلها في كتابه كأنها آراء معتبرة ومحققة يجوز الأخذ بها والعمل بمقتضاها . اهـ . وقد أجاد فضيلة الشيخ عبد الحميد في هذا الرد وفي هذه الكلمة الضافية التي تعطي فكرة واضحة عن نهج المؤلف القرضاوي في كتابه فجزاه الله خيرا على هذا الصنيع .
وإليك بيان الأخطاء التي لاحظناها على المؤلف مع الرد عليها :
1- تجويزه خلو التكاليف والشعائر الدينية والحلال والحرام من الحكمة والعلل المعقولة :
قال في ص 21 ما نصه : ( من حق الله تعالى كخالق للناس منعم عليهم بنعم لا تحصى أن يحل لهم وأن يحرم عليهم ما يشاء كما له أن يتعبدهم من التكاليف والشعائر بما يشاء وليس لهم أن يعترضوا أو يعصوا . فهذا حق ربوبيته لهم ومقتضى عبوديتهم له . ولكنه تعالى رحمة منه بعباده جعل التحليل والتحريم لعلل معقولة - الخ ما قال .
ووجه الخطأ في هذا الكلام أن المؤلف جوز أن يشرع الله لعباده وأن يكلفهم لا لحكمة في ذلك بل لمجرد ربوبيته لهم وعبوديتهم له . وهذا باطل لأنه يلزم عليه تجويز خلو شرع الله من الحكمة وأن يأمر وينهى لا لحكمة وهو من تجويز العبث على الله تعالى الله عن ذلك : . . ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى يحلل ويحرم ويأمر وينهى لمصلحة يعلمها هو لا لمجرد أمر ونهي وتحليل وتحريم خال عن ذلك لمجرد ربوبيته وقهره فقط .
2-موادة غير المسلمين :(148/4)
قال المؤلف في صفحة 47 : ( وقد شرعت لنا موادتهم - أي أهل الكتاب - بمواكلتهم ومعاهدتهم وحسن معاشرتهم ) وفي صفحة ( 247 ) أورد المؤلف تساؤلا فقال : كيف يتحقق البر والمودة وحسن العشرة مع غير المسلمين والقرآن نفسه ينهى عن موادة الكفار واتخاذهم أولياء وحلفاء . ثم أجاب عن هذا السؤال بأن هذه الآيات التي تنهى عن موادة الكفار ليست على إطلاقها ولا تشمل كل يهودي أو نصراني أو كافر . ولو فهمت هكذا لتناقضت الآيات والنصوص الأخرى التي شرعت موادة أهل الخير والمعروف من أي دين كانوا - إلى أن قال : إنما جاءت تلك الآيات في قوم معادين للإسلام محاربين للمسلمين - . ا هـ .
وتعقيبنا على فضيلة المؤلف من وجهين :
الأول : أن الآيات التي ذكر فيها مواصلة بعض الكفار بالبر والإحسان - من سورة الممتحنة قد قال عنها بعض المفسرين إنها منسوخة - قال الإمام القرطبي في تفسيره : ( هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم قال ابن زيد : كان هذا أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ - قال قتادة : نسختها { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وقيل : كان هذا الحكم لعلة وهي الصلح فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم وبقي الرسم يتلى - ا هـ .
وذكر ابن جرير رحمه الله قولا آخر في الآية وهو : ( أن الآية خاصة بالمؤمنين الذين لم يهاجروا ) .
فعلى هذين القولين : إن الآية منسوخة أو خاصة بالمؤمنين الذين لم يهاجروا - لا يبقى إشكال بينها وبين الآيات التي تحرم موادة الكفار عموما .
الوجه الثاني :(148/5)
أن نقول : وعلى القول بأن آية الممتحنة محكمة أو غير خاصة بالمؤمنين الذين لم يهاجروا ليس فيها ما زعمه المؤلف من إباحة موادة أحد من الكفار وإنما فيها الرخصة بصلة نوع من الكفار ومعاملتهم بالبر والإحسان من باب المكافأة على صنيعهم وهذا لا يستلزم مودتهم في القلوب - قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 5-233 ) : ثم البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل والله أعلم . ا هـ . ومثله قال الشوكاني في نيل الأوطار ( 6-4 ) وبهذا إن شاء الله يزول الإشكال الذي أورده المؤلف (1)
3-حكم تناول التبغ ( الدخان ) :
في صحيفة ( 62 ) بعد ذكر المؤلف تحريم كل ما يقتل أو يضر قال : ووفقا لهذا المبدأ نقول : إن تناول التبغ ( الدخان ) ما دام قد ثبت أنه يضر بمتناوله فهو حرام وخاصة إذا قرر ذلك طبيب مختص بالنسبة لشخص معين . وفي صحيفة ( 93 ) قال تحت عنوان : الزراعة المحرمة : ومثل ذلك التبغ - الدخان - إن قلنا تناوله حرام فزراعته حرام وإن قلنا مكروه فمكروهة .
والجواب : أن نقول : ما هذا التناقض من المؤلف والتردد في حكم الدخان الذي قد ثبت ضرره على متعاطيه بالتجربة وبشهادة المختصين من الأطباء وإقرار كثير ممن يتعاطونه بعظيم ضرره فمنهم من تخلص من وطأته وتركه ومنهم من بقي تحت وطأته على مضض . وما كان كذلك فلا شك في تحريمه على الجميع لا في حق من قرر له طبيب مختص .
والمؤلف في أول كتابه يقرر أن التحريم يتبع الخبث والضرر . ويقول أيضا : الحرام حرام على الجميع فما باله هنا خص تحريم الدخان بمن قرر ضرره عليه طبيب مختص وبالنسبة لشخص معين .
ذكر نموذج من فتاوى العلماء في حكم الدخان(148/6)
ونحن ننقل هنا نموذجا من فتاوى العلماء رحمهم الله في حكم تناول الدخان . قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية رحمه الله :
( وقد سئلت عن حكم التنباك الذي أولع بشربه كثير من الجهال والسفهاء مما يعلم كل تحريمنا إياه نحن ومشائخنا ومشائخ مشائخنا ومشائخهم وكافة المحققين من أئمة الدعوة النجدية من لدن وجوده بعد الألف بعشرة أعوام أو نحوها حتى يومنا هذا - إلى أن قال : وتحريمه بالنقل الصحيح والعقل الصريح وكلام الأطباء المعتبرين . ثم ذكر الأدلة من النقل على تحريمه . وذكر من حرمه من علماء المذاهب الأربعة ثم قال : وأما العقل الصريح فلما علم بالتواتر والتجربة والمشاهدة ما يترتب على شاربه غالبا من الضرر في صحته وسمعه وعقله وقد شوهد موت وغشي وأمرا ض عسرة كالسعال المؤدي إلى مرض السل الرئوي ومرض القلب والموت بالسكتة القلبية وتقلص الأوعية الدموية بالأطراف وغير ذلك مما يحصل به القطع العقلي أن تعاطيه حرام - إلى أن قال : وأما كلام الأطباء فإن الحكماء الأقدمين مجمعون على التحذير من ثلاثة أشياء ومتفقون على ضررها - أحدها النتن - الثاني الغبار - الثالث الدخان وكتبهم طافحة بذلك ) - . ا هـ باختصار .(148/7)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في جواب له عن حكم الدخان : ( أما الدخان شربه والاتجار به والإعانة على ذلك فهو حرام لا يحل لمسلم تعاطيه شربا واستعمالا واتجارا وعلى من كان يتعاطاه أن يتوب إلى الله توبة نصوحا . كما يجب عليه أن يتوب من جميع الذنوب . وذلك أنه داخل في عموم النصوص الدالة على التحريم داخل في لفظها العام وفي معناها وذلك لمضاره الدينية والبدنية والمالية التي يكفي بعضها في الحكم بتحريمه فكيف إذا اجتمعت . ثم أحذ يفصل مضاره ثم قال والميزان الحقيقي هو ما دلت عليه أصول الشرع وقواعده وقد دلت على تحريم الدخان لما يترتب عليه من المفاسد والمضار المتنوعة وكل أمر فيه ضرر على العبد في دينه أو بدنه أو ماله من غير نفع فهو محرم فكيف إذا تنوعت المفاسد وتجمعت أليس من المتعين شرعا وعقلا وطبا تركه والتحذير منه ونصيحة من يقبل النصيحة ) - ا هـ .
وقال الشيخ مصطفى الحمامي في كتاب النهضة الإصلاحية صفحة ( 486 ) :
وأما التنباك والدخان فهما من فصيلة واحدة تقريبا ولهما من السلطان على معتادهما ما يعجب له الإنسان كل العجب وأي سلطان أقوى من أن معتاد الدخان كما رأينا إذا لم يكن معه هذا البلاء ويشعر بالحاجة إليه يمد يده لأي امرئ يلقاه متكففا طالبا منه ولو نفسا واحدا - هذا شيء نحكيه عن رؤية عيان لا عن نقل سمعناه عن أحد وقد يكون هذا المتكفف من ذوي المقامات الرفيعة ولكن قوة هذا الكيف وشدته ترغمه على أن يتنازل عن وقاره ومقامه السامي إلى حيث يمد يده يستجدي ( سيجارة ) أو على الأقل نفسا منها .(148/8)
والدخان ضار للبدن قطعا ثم له شيء من التأثير على العقل . أما أنه ضار فقد فرغ منه الحكماء . وأنا أحكي للقارئ ما كان لي منه وهو الحكم بعد ذلك : كنت أمشي يوما مع أحد طلبة العلم فعرج على بائع دخان اشترى منه سيجارتين أشعل إحداهما وأقسم علي يمينا غليظا أن آخذها منه وأستعملها - حلف ذلك اليمين لما امتنعت أولا عن أخذها وإفهامه أني لم أتعاط الدخان في حياتي فرحمة به وبحرمه التي يتعلق بها اليمين تناولت السيجارة وأخذت أجذب في دخانها وأنفخه من فمي دون أن يتجاوز الفم للداخل رأى هو ذلك فقال ابتلع ما تجذبه فإن قسمي على هذا . لم أمانع وفعلت ما قال نفسا واحدا والله ما زدت عليه وإذاً دارت الأرض حولي دورة تشبه دورة المغزل فبادرت إلى الجلوس على الأرض وظننت بنفسي أني انتهيت وظننت بصاحبي الظنون وبكل تعب وصلت إلى بيتي وأنا راكب وهو معي يحافظ علي وبعد ذلك مكثت إلى آخر اليوم التالي تقريبا حتى أحسست بخفة ما كنت أجده . فحكيت هذا لكثير من الناس أستكشف ما كان مخبوءا لي في السيجارة فأخبروني أن الدخان يعمل هذا العمل في كل من لم يعتده . فقلت إذا كان نفس واحد فعل بي كل هذا فماذا تفعله الأنفاس التي لا تعد كل يوم يجتذبها معتاد الدخان خصوصا المكثر منه ؛ وهل يؤثر الدخان على كل بدن . يراجع الطب في ذلك وأنا أعلم أنهم قالوا فيه ما قالوا من المضار وكان لبعضهم فيه تشديد عظيم حتى كان لا يداوي من لم يتركه . أما أن له تأثيرا على العقل فيدلك عليه أن شاربه إذا نزل به مكدر يفزع إلى شربه ويكثر منه فيتسلى ويخفف عنه ما كان من ألم الحزن ولولا أنه يحصل منه شيء من التغطية على العقل ما حصل ذلك التسلي الذي يشعر بأن السبب الذي من أجله كان الحزن ذهل عنه العقل بعض الذهول حتى خف حزنه هذا معنى لا يحتاج لطول تفكير فيه . انتهى .(148/9)
وقد ذكر الأستاذ محمد عبد الغفار الهاشمي الأفغاني في شرب الدخان تسعة وتسعين مرضا وبيّنها واحدا واحدا في رسالة سماها ( مصائب الدخان )
ذكر نموذج من أقوال الأطباء في مضار الدخان
وبعد أن نقلنا جملة من أقوال علماء الشريعة في حكم الدخان يحسن أن ننقل أيضا جملة من أقوال الأطباء في بيان أضراره وما يسببه من الأمراض الخطيرة .
للدكتور الألماني : هربرت ويلسن كتاب عنوانه : ( كيف تبطل التدخين ) كتب على غلافه هذه العبارة : إذا قرأت هذا الكتاب ولم تترك التدخين فإن ثمنه سيعاد لك . . قال في هذا الكتاب بعد أن ذكر إحصائيات عن الإصابة بسرطان الرئة بسبب تعاطي الدخان ما نصه : ( ومما لا يمكن تصديقه أن شخصا يتمتع بعقل صحيح ويطلع على هذه الإحصاءات يستمر في التدخين . ولكن الظاهر أن عادة التدخين تكاد تكون من حيث مضارها مثل عادة شرب الخمر ) ا هـ .
وقال أيضا في صفحة ( 47 ) : وقد وجد الأطباء الثلاثة أرب . وميز . وبرجر . في التجارب التي أجروها على المدخنين أن التدخين يسبب تقلص الأوعية الدموية في الأطراف . وفوق ذلك وجدوا أن تدخين سيكارة واحدة أو سيكارتين كاف لأن يخفض حرارة الجلد في أطراف الأصابع . ا هـ .
وقال في صفحة ( 52 ) من الكتاب المذكور بعد أن ذكر معلومات عن تأثير التدخين على الأوعية الدموية ما نصه : ( فيظهر من المعلومات المذكورة أعلاه أن كل مصاب بمرض السكري إذا استمر في التدخين معرض للفالج أو لفقدان عضو من أعضاء جسده ومن الحقائق الطبية العلمية التي لا تدحض أن للتدخين علاقة مباشرة بالضرر الذي يلحق الدورة الدموية كما أنه السبب الأساسي في مرض سرطان الرئة وعنصر هام في مرض شريان القلب التاجي . ا هـ .(148/10)
وقال أيضا في صحيفة ( 62-64 ) في مبحث التدخين ومرض القلب والموت بالسكتة القلبية ما نصه : ( وقد أوضح بجلاء عدد كبير ممن يوثق بهم من الباحثين الطبيين أن للتدخين تأثيرا ظاهرا في نبضات القلب وضغط الدم . فقد دلت الأبحاث التي قام بها مستشفى مايو المشهور أنه في الأشخاص الذين ضغط دمهم طبيعي يرتفع على معدل ( 21 ) درجة عند انقباض القلب وفي الأشخاص الذين ضغط دمهم عال يرتفع على معدل ( 31 ) درجة عند انقباض القلب وذلك بعد تدخين سيكارتين فقط - إلى أن قال : يزعم بعض المدخنين المدمنين أنهم يفضلون أن يعيشوا خمسين سنة برفقة السيكارة لا سبعين سنة بدونها . ولكنهم ينسون عندما يصرخون بهذا القول الطائش أنه قد تعتريهم أمراض مؤلمة قتالة كمرض برجر أو سرطان الرئة أو الشريان التاجي فيهصر غصن حياتهم دون إنذار قبل أن يبلغوا من العمر وما يغفل عنه مدمنو النيكوتين ( مادة سامة في الدخان ) هؤلاء أنه قد تصيبهم أمراض وإن كانت لا تذهب بهم بل تقعدهم عن العمل فيخلقون المشاكل لذويهم وعيالهم ونسائهم لأنه متى قعد رب البيت عن العمل أصبحت العائلة بجملتها عالة على غيرها ففي حالات كثيرة أصبح المصابون بمرض برجر أو الشريان التاجي عاجزين عن العمل معتمدين في معيشتهم على الصدقة والإحسان . ا هـ .
وقال في صحيفة ( 65 ) : في ختام تلك المباحث ما نصه : ( عزيزي القارئ لا بد أنك وعيت كل ما مر في الفصول السابقة وعرفت ما قاله علماء الطب في التدخين وأضراره والأمراض التي يخلفها فماذا أنت فاعل ؟ أظنك فاعل ما فيه الخير لنفسك وستقلع عن التدخين والآن أعطني يدك ولا تدعها ترتجف ولتكن يدا قوية لأسلمك الأسلحة - الأسلحة ستنقذك من التدخين إن عرفت كيف تستعملها كما سنعلمك ) ثم ذكر هذه الأسلحة في بقية الكتاب .(148/11)
وهناك كتاب آخر اسمه ( الدخينة [ الدخينة : السيجارة ] في نظر طبيب ) لمؤلفه الدكتور : دانيال هـ . كرس اختصاصي للأمراض العصبية في مصح ومستشفى مدينة وشنتون . د . ك . جاء في صحيفة ( 26-30 ) تحت عنوان تأثير التبغ على المدخن من هذا الكتاب ما نصه : ( إن جسم المدخن وإن كان يمتص هذه السموم بالتدريج وبكميات قليلة إلا أنه يتأثر بها تأثرا بليغا ولا شك أن التدخين يضعف حاستي الشم والذوق ( وآلام الحلق ) وفقد الصوت والبحة التي يشكوها المدخن هي من الحالات المعروفة التي تتسبب عن فتك هذه السموم بالأغشية الرقيقة الملتفة حول الأوتار الصوتية . ولا مراء في أن التبغ يؤذي البصر بدليل ما يشكوه مدمنو التدخين من اختلال النظر وعدم القدرة على تمييز الألوان وعجزهم بنوع خاص عن تبين اللون الأحمر واللون الأخضر وتضعف أعصاب بواصرهم من تصاعد غاز الأمونيا عليها فيتراءى لهم أن نقطا سوداء تظهر أمام عيونهم ويقول ( سير باركلي موينهان ) وهو علم بين جراحي انكلترا المعروفين : ( إن للتدخين اليد الطولى في إحداث قروح المعدة فهو يؤثر في غدد المعدة تأثيرا بليغا ويزيد إفرازها للعصارة التي تحتوي على حامض ( الهيدروكلوريك ) وهذه الزيادة لا تدعو إلى تقرح المعدة فقط بل تمنع شفاءها في حالة حدوثها . ومن أفعاله أيضا إحداث قروح في العفج ( أي المصران الاثنى عشري ) ويأبى كثير من الأطباء في العالم معالجة أية حالة من حالات القروح المعوية والمعدية إلا إذا امتنع المصاب بها عن التدخين . هذا وقد تحقق الأطباء منذ عهد بعيد أن للتبغ علاقة قوية بمرض السل ويلاحظ من السجلات الطبية أن دم مدمني التدخين تكون مقاومته لفتكات جراثيم السل أضعف من مقاومة غيرهم وأن شفاءهم يتوقف إلى حد عظيم على هجر التبغ هجرا تاما . ونقول بالإجمال إن جميع الأمراض التي تصيب الجهاز التنفسي هي أكثر انتشارا بين المدخنين - إلى أن قال : ويجمع الثقات المتضلعون من علم وظائف(148/12)
الأعضاء أن التبغ سم قتال للقلب ويقولون إن الذبحة الصدرية ( وجع يكون في الحلق والصدر ) والقطع ( البهر وانقطاع النفس ) يصيبان المدخنين أكثر مما يصيبان غيرهم - إلى أن يقول : ولا شك في أن التأثير السيئ الذي يحدثه التبغ في القلب والشرايين هو من أقوى العوامل التي دعت إلى استفحال أمراض القلب والأوعية الدموية وتفاقمها تفاقما ذريعا في هذه الأيام وقد كثرت شهادات الوفيات التي نقرأ فيها هذه الكلمات : ( السكتة القلبية ) أو ( فلس القلب وهبوطه ) وكان يجب أن نقرأ فيها ( السكتة القلبية ) أو ( فلس القلب الناشئ عن إدمان النيكوتين ) ولرب معترض يقول : إذا كان التبغ مميتا قتالا فلم لا يموت المدخنون سريعا - إنهم لا يموتون سريعا لأن الأعضاء تجد وتكافح للتخلص من السموم المتغلغلة في الجسم على الولاء كفاحا جريئا وأكبر دليل على أضرار التبغ ما يظهر بعد تدخين اللفافة الأولى فإنها تحدث الصداع والغشيان والقيء ولكن إذا تشبث الإنسان بعادة التدخين وتمادى في تعاطيه صار لجسمه طاقة على احتمال مفعوله الضار على أن هذه الطاقة لا تكفل للجسم المناعة والتحرز من النيكوتين الذي يواصل نفث سمومه الخفية ويسعى سعيه الحثيث للضرر بالحياة ولا بد أن يأتي الوقت الذي تقف فيه تلك الإطاقة عند حدها الأخير فيعروها الوهن وينتهي ذلك الكفاح الطويل الجاهد ويحاول الجسم الكليل العاني أن يتذرع بحول مصطنع لمواجهة موقفه العصيب وكأني بالطبيعة تنظر إليه إذ ذاك آسفة وتقول هو ذا المدخن يستسلم للأوهام والخيالات فلنتركه لحال سبيله - ثم يواصل الكلام إلى أن يقول : ( فإن المدخن الذي لا يستطيع أن يبصر بالعين المجردة فداحة الأضرار اليومية التي يلحقها التبغ بالقلب والأوعية الدموية والكلى والكبد والمعدة والدماغ ولا يموت على الفور بعد تدخين لفافة صغيرة يحس أنه ينهض ويرتقي بذلك النشاط الوقتي الذي يبعثه إليه التدخين . على أن التبغ إن كان يقضي على الحياة(148/13)
ببطء إلا أن قضاءه عليها مبرم محتوم لا مفر منه والمدخن يسرف في العبث بصحته وينتحر بيده على مهل - ولكن يوم الحشر العظيم ينتظره ولا بد أن يقدم فيها حسابا عما جنت يداه . ومتى بلغ التبغ مداه من الإضرار بكثير من الأعضاء الحيوية كالقلب والكبد والكلى يقف الطب موقف الحائر الآسف لاستعصاء الداء على الدواء ويعلم أن مثل هذه الحالات لا يرجى لها شفاء ولا يجد الآسي ( الطبيب ) من ثم سبيلا إلى مهادنة أخطارها وتلطيف ويلاتها إلا بإرشاده إلى اتباع النصيحة القائلة : ( حد عن الشر . وافعل الخير . اطلب السلامة واسع وراءها ) والإلحاح عليه بالإقلاع عن عادة التدخين كي يتاح لأعضائه البالية أن تسير به بضع أعوام أخرى إلى أن قال في صحيفة ( 43 ) : إن الدكتور ( أ . س . كلنتون ) الطبيب المباشر لطائفة من مدارس البنين ( بفرانسيسكو ) يقول : ( لقد كثر ما قيل عن شرور الدخينة وآفاتها إلا أن نصف الحقيقة لم يقرر في كل ما قيل فإن تعاطي الدخينة يوهن الأخلاق ويضعف الإرادة ويهدم الصحة ويخدر الأعصاب بعد أن ينشطها وينبهها ويعد الأحداث لمرض السل ويقلل من مقاومتهم له ويبتليهم بتضخم القلب ويرسلهم إلى مستشفى المجاذيب وكثيرا ما طلب مني أن أصف علاجا لأحداث مصابين بخفقان القلب وشدة وجيبه وكان تسعة أعشار هذه الحالات ناجما عن عادة التدخين فهي حلقة متصلة الأطراف قوامها البؤس ومصيرها المستشفيات والملاجئ والسجون . وأنا أقرر الحقيقة التي يعرفها كل طبيب ومعلم ) اهـ المقصود منه .
وبعد : فهذه مقتطفات من كلام الأطباء في أضرار الدخان طبيا سقناها بعد كلام العلماء في بيان حكم تعاطيه شرعا فهل يليق بمنصف بعد هذا أن يتردد في تحريمه والمنع منه اللهم إلا مكابر لا عبرة به ولا بقوله .
4- تحريم الحرير على الرجال :(148/14)
في صحيفة ( 65 ) قال المؤلف : ( الذهب والحرير الخالص حرام على الرجال - وكرر هذه العبارة مرة أخرى في نفس الصفحة - فتقييده الحرير بالخالص يفهم منه أن الحرير غير الخالص وهو المشوب مع غيره لا يحرم عنده مطلقا . وهذا منه خطأ واضح وإجمال لا بد من تفصيله ، ذلك أن الحرير غير الخالص لا يخلو من إحدى حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون الحرير هو الغالب فهذا حكمه حكم الحرير الخالص في التحريم على الرجال .
الحالة الثانية : أن يكون الحرير مغلوبا مع غيره فهذا مباح للرجال عند الجمهور تعليقا للحكم بالغالب . واختار ابن دقيق العيد والشوكاني تحريمه في هذه الحالة كالحالة الأولى إلا إذا كان الحرير قدر أربع أصابع فما دون .
قال الحافظ في الفتح ( 10-294 ) وذهب الجمهور إلى جواز لبس ما خالطه الحرير إذا كان غير الحرير أغلب وعمدتهم في ذلك ما تقدم في تفسير الحلة السيراء وما انضاف إلى ذلك من الرخصة في العلم في الثوب إذا كان من حرير كما تقدم تقريره في حديث عمر . قال ابن دقيق العيد : هو قياس في معنى الأصل لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز كل مختلط وإنما يجوز منه ما كان مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع لو كانت منفردة بالنسبة لجميع الثوب فيكون المنع من لبس الحرير شاملا للخالص والمختلط وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى وهو أربع أصابع إذا كانت منفردة ويلتحق بها في المعنى ما إذا كانت مختلطة اهـ .(148/15)
وقال الشوكاني في نيل الأوطار ( 1-94 ) : وقد عرفت مما سلف الأحاديث الواردة في تحريم الحرير سواء وجدت منفردة أو مختلطة بغيرها ولا يخرج عن التحريم إلا ما استثناه الشارع من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص وسواء وجد ذلك مجتمعا كما في القطعة الخالصة أو مفرقا كما في الثوب المشوب وحديث ابن عباس ( يعني حديث : إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من قز - قال ابن عباس أما السدى والعلم فلا نرى به بأسا ) لا يصلح لتخصيص تلك العمومات ولا لتقييد تلك الإطلاقات لما عرفت . ولا مستمسك للجمهور القائلين بحل الثوب إذا كان الحرير مغلوبا إلا قول ابن عباس فيما أعلم فانظر أيها المنصف هل يصلح جسرا تذاد عنه الأحاديث الواردة في تحريم مطلق الحرير ومقيده وهل ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الأصل مع ما في إسناده من الضعف الذي يوجب سقوط الاستدلال به على فرض تجرده عن المعارضات . فرحم الله ابن دقيق العيد فلقد حفظ الله به في هذه المسألة أمة نبيه عن الإجماع على خطأ . اهـ .
5- حكم إعفاء اللحية :
ثم بحث المؤلف في موضوع إعفاء اللحية في صفحة ( 81 ) من الطبعة الرابعة لكتابه ووقع منه أخطاء في هذا الموضوع إليك بيانها :
الخطأ الأول : قوله ( وليس المراد بإعفائها ألا يأخذ منها شيئا أصلا فذلك قد يؤدي إلى طولها طولا فاحشا يتأذى به صاحبها . بل يأخذ من طولها وعرضها كما روي ذلك في حديث عند الترمذي وكما كان يفعل بعض السلف . اهـ .
فقوله : ليس المراد بإعفائها أن لا يأخذ منها شيئا - نقول عنه : بلى والله إن هذا هو المراد بإعفائها الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة وقال به الأئمة .(148/16)
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم ( 3-194 ) : وأما إعفاء اللحية فمعناه توفيرها وهو معنى : ( أوفوا ) في الرواية الأخرى وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك . إلى أن قال فحصل خمس روايات ( أعفوا . وأوفوا . وأرخوا . وأرجوا . ووفروا ) ومعناها كلها تركها على حالها هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه - اهـ . وقال مثل ذلك الشوكاني في نيل الأوطار ( 1-131 ) .
وقول المؤلف : بل يأخذ من طولها وعرضها كما روى ذلك في حديث عند الترمذي . نقول هذا الحديث الذي أشار إليه حديث لا تقوم به حجة لأنه ضعيف جدا وألحقه بعض العلماء بالموضوعات - قال الحافظ ابن حجر في الفتح : وهذا أخرجه الترمذي ونقل عن البخاري أنه قال في رواية عمر بن هارون لا أعلم له حديث منكرا إلا هذا - اهـ .
وقد ضعف عمر بن هارون مطلقا جماعة - اهـ كلام الحافظ وقال الشوكاني في نيل الأوطار ( 1-131 ) ولكنه قد أخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها ) وقال غريب قال سمعت محمد بن إسماعيل يعني البخاري يقول : عمر بن هارون يعني المذكور في إسناده مقارب الحديث ولا أعرف له حديثا ليس له أصل أو قال ينفرد به إلا هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث انتهى . وقال في التقريب إنه متروك - قال الشوكاني : فعلى هذا أنها لا تقوم بالحديث حجة [ ببعض اختصار ] اهـ .
وقال النووي في المجموع شرح المهذب وأما حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها فرواه الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به . اهـ ( 1-290 )(148/17)
وقول المؤلف : وكما كان يفعل بعض السلف - نقول الحجة فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا فيما خالفه - قال الشوكاني في نيل الأوطار ( 1-138 ) على قول صاحب المنتقى : ( وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه ) قال : وقد استدل بذلك بعض أهل العلم . والروايات المرفوعة ترده - انتهى ونقول أيضا لم ينقل عن أحد من سلف الأمة أنه كان يأخذ من لحيته بل هم متمسكون بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بإعفاء اللحية . نعم جاء عن ابن عمر كما تقدم أنه إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته وأخذ ما زاد على القبضة وليس في هذا دلالة على الأخذ من اللحية مطلقا وإنما يفعله ابن عمر إذا أدى نسكا حجا أو عمرة مع حلقه لشعر رأسه أو تقصيره يأخذ ما زاد على القبضة . فنطالب الأستاذ بصحة ما نقله عن السلف المعتبرين من أخذ شيء من لحاهم وأنى له ذلك .
الخطأ الثاني : قول المؤلف : ( وبهذا نرى أن في حلق اللحية ثلاثة أقوال : قول بالتحريم وهو الذي ذكره ابن تيمية وغيره . وقول بالكراهة وهو الذي ذكر في الفتح عن عياض ولم يذكر غيره . وقول بالإباحة وهو الذي يقول به بعض علماء العصر . ولعل أوسطها وأقربها وأعدلها وهو القول بالكراهة فإن الأمر لا يدل على الوجوب جزما وإن علل بمخالفة الكفار وأقرب مثل على ذلك هو الأمر بصبغ الشيب مخالفة لليهود والنصارى فإن بعض الصحابة لم يصبغوا فدل على أن الأمر للاستحباب .
صحيح أنه لم ينقل عن أحد من السلف حلق اللحية ولعل ذلك لأنه لم تكن بهم حاجة لحلقها وهي عادتهم ) . اهـ .(148/18)
نقول : إن ترجيح المؤلف للقول بكراهة حلق اللحية فقط ترجيح باطل لا دليل عليه . والأدلة الصحيحة تقتضي خلافه وتدل على أن الصواب هو القول الأول وهو تحريم حلق اللحية . قال ابن حزم في مراتب الإجماع صحيفة ( 157 ) واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز . اهـ . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة ولم يبحه أحد .
وأما قياس المؤلف الأمر بإعفاء اللحية على الأمر بصبغ الشيب في أن كلا منهما يفيد الاستحباب فهو قياس باطل لأنه قياس مع الفارق إذ الأمر بإعفاء اللحية لم يأت ما يصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب بخلاف الأمر بصبغ الشيب فقد جاء ما يصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب قال النووي في شرح صحيح مسلم : ( 14-80 ) وقال القاضي : اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفي جنسه فقال بعضهم ترك الخضاب أفضل ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن تغيير الشيب . ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يغير شيبه . روي هذا عن عمر وعلي وأُبَيّ وآخرين رضي الله عنهم . وقال آخرون الخضاب أفضل وخضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره ، إلى أن قال : قال الطبري الصواب أن الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة وليس فيها تناقض بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة والنهي لمن له شمط فقط قال : واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض خلافه في ذلك . اهـ .(148/19)
ونقول أيضا ليست العلة في إعفاء اللحية مخالفة الكفار فقط كما في الصبغ بل وكون إعفائها من خصال الفطرة كما في الحديث الصحيح . وأيضا الصحابة والتباعون ومن بعدهم لم يختلفوا في مدلول الأمر بإعفاء اللحية . وقد اختلفوا في مدلول الأمر بصبغ الشيب ، فظهر من هذه الوجوه الفرق بين الأمر بإعفاء اللحية والأمر بصبغ الشيب وبطل قياس المؤلف إعفاء اللحية على صبغ الشيب .
وأما تعليله عدم حلق أحد من السلف للحيته بكونهم لم يكن بهم حاجة إليه وهي عادتهم فهو تعليل ساقط ، يكفي سقوطه عن رده .
ونقول : عدم حلق أحد منهم للحيته يدل على عدم جوازه عندهم . وقد كانوا يعظمون اللحية ويعلون من شأنها كما في قصة قيس بن سعد رضي الله عنهما فقد كان أثط أي أمرد لا لحية له فقالت الأنصار : نعم السيد قيس لبطولته وشهامته ولكن لا لحية له فوالله لو كانت اللحية تشترى بالدراهم لاشترينا له لحية ليكمل رجل ، هذا شأن سلفنا الصالح في اللحية وتعظيمها وأنها علامة على كمال الرجولية . وقد قرر العلماء فيمن جنى على لحيته فتساقط شعرها ولم ينبت أن على الجاني دية كاملة كما لو قتله فكيف يقال بعد هذا إن حلقها ليس بحرام ؟ ! .
6- حكم ما أزهقت روحه بطريقة الصعق الكهربائي من الحيوانات المأكولة :
قال المؤلف في صحيفة ( 48 ) في مبحث ذبائح أهل الكتاب : ( المسألة الثانية هل يشترط أن تكون تذكيتهم مثل تذكيتنا بمحدد في الحلق اشترط ذلك أكثر العلماء . والذي أفتى به جماعة من المالكية أن ذلك ليس بشرط قال القاضي ابن العربي في تفسير آية المائدة :(148/20)
وهذا دليل قاطع على أن الصيد وطعام الذين أوتوا الكتاب من الطيبات التي أباحها الله وهو الحلال المطلق . وإنما كرره تعالى ليرفع الشكوك ويزيل الاعتراضات عن الخواطر الفاسدة التي توجب الاعتراضات وتحوج إلى تطويل القول ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاما . فقلت تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن أباح الله لنا طعامهم مطلقا وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه . ولقد قال علماؤنا إنهم يعطوننا نساءهم أزواجا فيحل لنا وطؤهن فكيف لا نأكل ذبائحهم . والأكل دون الوطأ في الحل والحرمة ) هذا ما قرره ابن العربي ، وقال في موضع ثان : ( ما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس ، أي بغير قصد التذكية ، ميتة حرام ) .
قال المؤلف القرضاوي : ولا تنافي بين القولين فإن المراد أن ما يرونه مذكى عندهم لنا أكله وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة صحيحة . وما يرونه مذكى عندهم لا يحل لنا والمفهوم المشترك للذكاة هو القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله وهذا هو مذهب المالكية عامة (2)
وعلى ضوء ما ذكرنا نعرف الحكم في اللحوم المستوردة من أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر المحفوظة مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه فما داموا يعتبرون هذا حلال مذكى فهو حل لنا وفق عموم الآية . انتهى كلام المؤلف وهو محاولة لإباحة اللحوم المستوردة التي لم يتبع فيها طريقة الذكاة الشرعية .
وجوابنا عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن المؤلف تصرف - هداه الله - فيما نقله من كلام ابن العربي فزاد فيه ونقص وغير بعض كلماته ، وهذا عمل يتنافى مع الأمانة العلمية والخشية الإلهية . وبمقابلة ما نقله على أصل كلام ابن العربي يظهر ما ذكرنا وذلك في مواضع :(148/21)
الأول : قال ابن العربي : ( إنهم يعطوننا أولادهم ونساءهم ملكا في الصلح ) والعبارة الموجودة في نقل المؤلف هكذا : ( إنهم يعطوننا نساءهم أزواجا ) فحذف كلمة ( أولادهم ) وكلمة ( في الصلح ) وغير كلمة ( ملكا ) إلى كلمة ( أزواجا ) .
الموضع الثاني : قال ابن العربي : ( فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس- فالجواب أن هذا ميتة وهي حرام بالنص وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا ) والعبارة الموجودة في نقل المؤلف هكذا : ( ما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس - أي بغير قصد تذكية - ميتة حرام ) .
فقارن أيها القارئ بين العبارتين تجد أن المؤلف زاد من عنده كلمة : ( أي بغير قصد تذكية ) وحذف من كلام ابن العربي من قوله : ( بالنص ) إلى قوله : ( وهو حرام علينا ) ولعله فعل هذا ليزيل ما في كلام ابن العربي في الموضعين من التناقض الواضح حتى يبني عليه فتواه بإباحة ما ذبح بالصعق الكهربائي ، وإن كان على غير الذكاة الشرعية .(148/22)
الوجه الثاني : أن كلام ابن العربي هذا متناقض غاية التناقض ، فتارة يعتبر ما أكله أهل الكتاب وقد ذبح على غير وجه الذكاة ميتة حراما كالخنزير يحرم علينا أكله ، وهذا اعتبار صحيح يتمشى مع الأدلة الشرعية ويدخل فيه ما مات بفتل عنقه دخولا أوليا ، وهو أيضا قد فسر المنخنقة التي حرم الله علينا أكلها بتفسير يشمل ما فتل عنقه حيث قال : ( والمنخنقة فهي التي تخنق بحبل بقصد أو بغير قصد أو بغير حبل ) فهذا أيضا يبطل الكلمة التي زادها القرضاوي وهي قوله ( أي بغير قصد التزكية ) . ثم ينقض ابن العربي كلامه الأول بكلامه الثاني فيقول إنه يباح لنا ما فتل عنقه النصراني وصار طعاما له ولأحباره ورهبانه ، وإن لم يكن هذا ذكاة عندنا ، فأي قوليه أولى بالاعتبار لا شك أن الأولى بالاعتبار ما وافق الدليل وهو القول الأول وأما القول الثاني فهو خطأ لا يتابع عليه . والمؤلف في أول كتابه يقول : ( لم أرض لعقلي أن أقلد مذهبا معينا في كل القضايا والمسائل أخطأ أو أصاب ) فما باله هنا يغيب عن ذهنه هذا القول ويقلد ابن العربي في قول خطأ ، قول متناقض متهافت . ويبني عليه فتواه بإباحة ما تكون تذكيته بالصعق الكهربائي .(148/23)
الوجه الثالث : قول المؤلف : ( والمفهوم المشترك للذكاة هو القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله ) هذا القول يقتضي أنه متى حصل إزهاق روح الحيوان بنية تحليله حصلت الذكاة الشرعية بأي وسيلة كان الإزهاق وفي أي موضع من بدن الحيوان - وهذا خطأ واضح - لأن الذكاة الشرعية لها صفة مخصوصة وآلة مخصوصة وموضع مخصوص - كما بين ذلك العلماء رحمهم الله - (3) قال ابن العربي في تفسير سورة المائدة في بيان الذكاة الشرعية : ( وهي في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور عليه - كما تقدم - مقرونا ذلك بنية القصد إليه وذكر الله تعالى - ثم ذكر الخلاف في حكم المذبوح من القفا - ثم قال : وهذا ينبني على أصل نحققه لكم وهو أن الذكاة وإن كان المقصود بها إنهار الدم ولكن فيها ضرب من التعبد والتقرب إلى الله سبحانه لأن الجاهلية كانت تتقرب بذلك لأصنامها وأنصابها وتهل لغير الله فيها وتجعلها قربتها وعبادتها فأمر الله تعالى بردها إليه والتعبد بها له . وهذا يقتضي أن يكون لها نية ومحل مخصوص وقد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم في الحلق ونحر في اللبة وقال : ( إنما الذكاة في الحلق واللبة ) فبين محلها وقال مبينا لفائدتها : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ) فإذا أهمل ذلك ولم يقع بنية ولا شرط ولا صفة مخصوصة زال منها حظ التعبد . اهـ . وقال ابن قدامة في المغني مبينا محل الذكاة : ( وأما المحل فالحلق واللبلة وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع ) . اهـ .
الوجه الرابع : أن فتوى المؤلف بحل اللحوم المستوردة مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه فتوى باطلة لأن هذه الذكاة غير شرعية ولو ذكى مسم بهذه الكيفية ما حلت ذبيحته فغير المسلم من باب أولى لأن هذه الكيفية لا تتوفر فيها الشروط المشترطة في الذكاة .(148/24)
وهذه الفتوى مبنية على قول ابن العربي الآخر وقد بينا ما فيه من التناقض والبطلان .
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر في منسكه ( 2-219 ) على قول الفقهاء وإن وكل من يصح ذبحه ولو ذميا كتابيا جاز مع الكراهة . قلت : ومراد الأصحاب بجواز توكيل الذمي الكتابي في ذبيحة هدي المسلم أو أضحيته إذا كان الكتابي يذبح الأضحية أو الهدي أو ينحرها في موضعه الشرعي بشروطه المعتبرة . أما إن كان يذبحها بضرب المسامير أو الفئوس في الرأس ونحوه أو الكهرباء كما عليه عمل بعض النصارى في هذا الزمان فإنه لا يصح توكيله ولا تحل ذبيحته بذلك لأن ذبحه للبهيمة على هذه الصفة لا يسمى مذكى ولا تحل بذلك بل حكمها حكم الميتة فهي حرام كما لو فعل ذلك مسلم وأولى ، والله أعلم .
وأما قول المؤلف : ( فما داموا يعتبرون هذا حلالا مذكى فهو حل لنا وفق عموم الآية ) فيجاب عنه بأنه ليس المراد بطعامهم الذي أباحه الله لنا ما استحلوه هم بل المراد بطعامهم ما أباحه الله لهم . وكلام ابن العربي الذي اعتمده المؤلف هنا يفيد خلاف ما قاله ويؤيد ما ذكرنا لأنه قيد إباحة ما ذبحوه بكونهم يرونه في دينهم ولم يكذبهم الله فيه ويكون طعاما لأحبارهم ورهبانهم ، وهل ما ذبح بالصعق الكهربائي يرون إباحته في دينهم ويأكله أحبارهم ورهبانهم ولم يكذبهم الله فيه ، على المؤلف أن يثبت ذلك .
7- حكم التصوير :
ثم بحث المؤلف موضوع التصوير من صحيفة ( 72 ) إلى صحيفة ( 82 ) ووقع منه في هذا الموضوع أخطاء كثيرة لا بد من كشفها وبيانها وهي كما يلي :(148/25)
الخطأ الأول : تقسيمه التصوير إلى محرم وهو التماثيل ومكروه كراهة تنزيه وهو المنقوش والمرسوم في الورق واللوحات والجدران . ومباح وهو التصوير الفوتوغرافي ، فهذا تقسيم باطل ترده الأدلة الصحيحة الواردة في تحريم التصوير وتحريم استعمال الصور مطلقا تماثيل أو غير تماثيل منقوشة أو فوتوغرافية . ومن ادعى التفصيل كالمؤلف فعليه الدليل ونحن نقول لك جملة من أقوال الأئمة في ذلك :
قال العلامة ابن القيم في أعلام الموقعين ( 4-403 ) لما ذكر الكبائر قال : ومنها تصوير صورة الحيوان سواء كان لها ظل أو لم يكن . اهـ .
وقال النووي في شرح صحيح مسلم ( 14-18 ) بعد أن ذكر تحريم الصور ما نصه : ( ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم . وقال بعض السلف إنما ينهى عما كان له ظل ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل وهو مذهب باطل فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل مع ما في الأحاديث المطلقة في كل صورة . اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 10-384 ) بعد ذكره لملخص كلام النووي هذا : قلت يؤيد التعميم فيما له ظل وما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها ) - أي طمسها - الحديث وفيه : ( من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) . اهـ . وقال الحافظ أيضا في فتح الباري ( 10-390 ) في أثناء كلامه على حديث عائشة : ( إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ) قال ويستفاد منه أنه لا فرق في تحريم الصور أن تكون الصور لها ظل أو لا . ولا بين أن تكون مدهونة أو منقوشة أو منقورة أو منسوجة . اهـ .(148/26)
وقال الشوكاني في نيل الأوطار ( 2-108 ) في أثناء كلامه على حديث ابن عمر : ( الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة ) وحديث ابن عباس : ( كل مصور في النار ) قال : الحديثان يدلان على أن التصوير من أشد المحرمات للتوعد عليه بالتعذيب بالنار وبأن كل مصور من أهل النار ولورود لعن المصورين في أحاديث أخر وذلك لا يكون إلا على محرم متبالغ في القبح - إلى أن قال : وظاهر قوله ( كل مصور ) وقوله ( بكل صورة صورها ) أنه لا فرق بين المطبوع في الثياب وبين ما له جرم مستقل ويؤيد ذلك ما في حديث عائشة المتقدم من التعميم ثم ذكر أحاديث بمعناه ثم قال : فهذه الأحاديث قاضية بعدم الفرق بين المطبوع من الصور والمستقل لأن اسم الصورة صادق على الكل - إذ هي كما في كتب اللغة - الشكل - وهو يقال لما كان منها مطبوعا على الثياب شكلا - اهـ .
وبما ذكرنا من الأحاديث وكلام أهل العلم عليها تبطل دعوى المؤلف أنه ليس هناك نص صحيح سليم من المعارضة يدل على حرمة الصور المنقوشة في الثياب والبسط والجدران والمرسومة في لوحات وكذا تبطل دعواه إباحة التصوير الفوتوغرافي ، إذ التصوير الفوتوغرافي أبلغ في المضاهاة من الصور المنقوشة والمرسومة فهو أولى بالتحريم .(148/27)
قال الشيخ مصطفى الحمامي في كتاب النهضة الإصلاحية ( 264-265 ) ما نصه : ( وإني أحب أن تجزم الجزم كله أن التصوير بآلة التصوير ( الفوتوغراف ) كالتصوير باليد تماما فيحرم على المؤمن تسليطها للتصوير ويحرم عليه تمكين مسلطها لالتقاط صورته بها لأنه بهذا التمكين يعين على فعل محرم غليظ وليس من الصواب في شيء ما ذهب إليه أحد علماء عصرنا هذا من استباحة التصوير بتلك الآلة بحجة أن التصوير ما كان باليد والتصوير بهذه الآلة لا دخل لليد فيه فلا يكون حراما ، وهذا عندي أشبه بمن يرسل أسدا مفترسا فيقتل من يقتل أو يفتح تيارا كهربائيا يعدم كل من مر به أو يضع سما في طعام فيهلك كل من تناول من ذلك الطعام فإذا وجه إليه اتهام بالقتل قال أنا لم أقتل إنما قتل السم والكهرباء والأسد ويردف قوله هذا بحجة : هي أن القتل لا يكون قتلا إلا إذا كان باليد وأنا ما مددت يدي إلى أولئك الموتى فكيف ينسب إلي قتلهم ، والذي يقال لهذا إن القتل أن تزهق الروح بأي وسيلة من وسائل القتل ومن الوسائل القاتلة السم والكهرباء والسبع فعلى من سلطها إثم القتل وإن لم يمد يده . فكذلك التصوير المراد منه إيجاد الصورة والبلاء كله في الصورة ، وحضرة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغضب إلا لوجود الصورة ولم يخبر أن الملائكة لا تدخل البيوت التي فيها الصورة إلا لوجود الصورة . ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين صورة وصورة بل جعل مناط النهي الصورة التي تشبه أي حيوان فإنه الذي له الحياة فيقال لفاعل مشابهه أحيه ، أي انفخ الروح فيه ، أما الشجر وغيره من الجمادات والنباتات فلا يقال فيها ذلك ، على أني أقول : إن هذه الآلة المصورة لا يتضح ما صورته ويحكم عليه بأنه صورة بمجرد توجيهها إلى ما يراد تصويره حتى يقال إنه لا دخل للإنسان فيه بل للمصور بعد ذلك التوجيه أعمال كثيرة حتى تتضح الصورة ولولا تلك الإجراءات ما اتضحت صورة ولا كان تصوير بل له شروط خاصة(148/28)
يستوفيها وقت توجيه آلة التصوير ولولا هذه الشروط لاستحال أن تكون صورة . وإذا كيف لا يكون الإنسان مصورا إذا كان تصويره بسبب تلك الآلة وكيف ينفي عنه حرج التصوير ، إلى أن قال : ولو شئت لقلت أن عذاب المصور بتلك الآلة سيكون أضعاف أضعاف ما يصوره المصور بيده . بل الذي تصوره آلة التصوير في لحظة يمكث المصور بيده سنين في تصويره والعذاب على قدر الإنتاج في التصوير وذلك أنك تفهم أن تصوير صورة واحدة معصية كبرى واحدة فإذا انضم إليها تصوير صورة ثانية كانت معصية ثانية وهكذا كلما كثرت الصور المصورة كلما كثرت آثام المصور وأنت تعلم أن العذاب يكون على قدر الآثام فكلما كثرت كلما اشتد العذاب وطال . وأنت تعرف أن المصورين بالآلة المصورة ينقلون عشرات الآلاف من الصور في مرة واحدة من توجيههم تلك الآلة كالذين يتعرضون لأخذ المجامع العظيمة كمجامع الأعياد ومجامع المشيعين لجنازات الوجهاء من الناس خصوصا إذا كانوا ممتازين . فهؤلاء وأمثالهم من المصورين لا يعلم إلا ربنا ما يستحقونه من عذاب لكثرة ما يصورونه من صور . اهـ . وهو كما ترى من وضوحه في الرد على المؤلف وأمثاله ممن يبيح التصوير الفوتوغرافي .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية رحمه الله في رسالة له : ومن أعظم المنكرات تصوير ذوات الأرواح واتخاذها واستعمالها ولا فرق بين المجسدة وما في الأوراق مما أخذ بالآلة . اهـ .(148/29)
والمستفاد من مجموع الأحاديث شدة وعيد المصورين بالنار وباللعن وأنهم من أظلم الظالمين . وأن التصوير حرام بجميع أنواعه وعلى أي وجه كان للإتيان بصيغ العموم مثل قوله صلى الله عليه وسلم ( كل مصور في النار ) وقوله ( من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح ) وقوله ( إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة ) فأتى بلفظ ( كل ) و ( من ) و ( الذين ) وكلها من صيغ العموم فأين يذهب من أباح شيئا من أنواع التصوير وقسمه إلى محرم ومكروه ومباح . والله المستعان .
الخطأ الثاني : استدلال المؤلف على عدم تحريم ما عدا التماثيل من الصور بالاستثناء الوارد في حديث زيد بن خالد وحديث أبي طلحة من قوله ( إلا رقما في ثوب ) وقد أجاب النووي رحمه الله عن هذا الاستدلال في شرحه على صحيح مسلم ( 14-85 ) حيث قال : هذا يحتج به من يقول بإباحة ما كان رقما مطلقا وجوابنا وجواب الجمهور عنه أنه محمول على رقم على صورة الشجر وغيره مما ليس بحيوان وقد قدمنا أن هذا جائز عندنا . اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر : ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي كما يدل له حديث أبي هريرة الذي أخرجه أصحاب السنن . اهـ .(148/30)
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز في الجواب المفيد في حكم التصوير : وأما قوله في حديث أبي طلحة وسهل بن حنيف : ( إلا رقما في ثوب ) فهو استثناء من الصور المانعة من دخول الملائكة لا من التصوير وذلك واضح من سياق الحديث والمراد بذلك إذا كان الرقم في ثوب ونحوه يبسط ويمتهن ومثله الوسادة الممتهنة كما يدل عليه حديث عائشة المتقدم في قطعها الستر وجعله وسادة أو وسادتين وحديث أبي هريرة وقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : ( فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطئان ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز حمل الاستثناء على الصورة في الثوب المعلق أو المنصوب على باب أو جدار ونحو ذلك لأن أحاديث عائشة صريحة في منع مثل هذا الستر ووجوب إزالته أو هتكه كما تقدم ذكرها بألفاظها وحديث أبي هريرة صريح أن مثل هذا الستر مانع من دخول الملائكة حتى يبسط ويقطع رأس التمثال الذي فيه فيكون كهيئة الشجرة وأحاديثه عليه الصلاة والسلام لا تتناقض بل يصدق بعضها بعضا ومهما أمكن الجمع بينها بوجه مناسب ليس فيه تعسف وجب وقدم على مسلكي الترجيح والنسخ كما هو مقرر في علم الأصول ومصطلح الحديث وقد أمكن الجمع بينها وهنا بما ذكرنا فلله الحمد . اهـ .
الخطأ الثالث : قول المؤلف عن الصور الفوتوغرافية أنها لا تتحقق فيها علة المضاهاة التي نصت عليها بعض الأحاديث ، وهذا لا شك قول باطل ومغالطة واضحة فإن المضاهاة في هذه الصور الفوتوغرافية حاصلة أكثر من حصولها في غيرها من الصور غير الفوتوغرافية وهي تؤخذ غالبا لتطبيقها على الشخص المصور لئلا يحصل اشتباه بينه وبين غيره لأن شبهه وشكله منعكس فيها وهذا هو معنى المضاهاة ، والصورة في اللغة هي الشكل - كما تقدم في كلام الشوكاني - فصارت المضاهاة حاصلة فيها لا محالة .(148/31)
ونحن نسأل المؤلف ما الذي يخرج الصور الفوتوغرافية من عموم النصوص المانعة من الصور ما دام أنها تسمى صورا لا محالة ويسمى عملها تصويرا ويسمى الذي يعملها مصورا .
الخطأ الرابع : استدلال المؤلف على عدم تحريم ما عدا التماثيل بحديث عائشة قالت : كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا ) قال المؤلف فلم يأمرها بقطعه وإنما أمرها بتحويله من مكانه في مواجهة الداخل إلى البيت ، إلى أن قال وبهذا يتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر في بيته وجود الستر فيه تمثال ووجود قرام فيه تصاوير . اهـ .
ويجاب عن هذا الاستدلال بما قاله النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم ( 14-87 ) من أنه محمول على أنه كان قبل تحريم اتخاذ ما فيه صورة فلهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل ويراه ولا ينكره قبل هذه المرة الأخيرة . اهـ . ويؤيد ما ذكره الإمام النووي أن مسلما أورد في صدر الباب حديث عائشة الذي فيه تحريم الصورة مطلقا وساق ما بعده ليشير إلى أن العمل على الأول وهذه طريقة مسلم في صحيحه أنه يقدم في الباب ما عليه العمل ويذكر بعده ما فيه علة أو لحقه الترك . (1)
الخطأ الخامس : في هذا الموضوع زعم المؤلف أن تشديد الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الصور كان في أول الأمر لقرب عهدهم بالشرك فلما استقرت عقيدة التوحيد رخص في الصور التي لا جسم لها .(148/32)
ونحن نطالب فضيلة الشيخ المؤلف أن يأتي بدليل على هذا الزعم الذي زعمه . ومن أين له الدليل والأدلة متظافرة على رده وإبطاله حيث تدل على تحريم التصوير وتحريم الصور مطلقا في جميع الأوقات وفي جميع أنواع التصوير . . قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة ( 3-256 ) بحاشية الصنعاني مجيبا على هذا الزعم : ( ولقد أبعد غاية البعد من قال إن ذلك محمول على الكراهة وأن التشديد كان في ذلك الزمان لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده فلا يساويه في التشديد هذا أو معناه وهذا القول عندنا باطل قطعا لأنه قد ورد في الأحاديث الأخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين وأنهم يقال لهم : ( أحيوا ما خلقتم ) وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل وقد صرح بذلك في قوله عليه السلام : ( المشبهون بخلق الله ) وهذه علة عامة مستقلة مناسبة ولا تخص زمانا دون زمان وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتظافرة بمعنى خيالي يمكن أن يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبه بخلق الله . اهـ . قال المحشي الأمير الصنعاني : ( أقول لقد صدق وهل بعد اللعن والإخبار بأنه أشد الناس عذابا من مستروح لهذا القائل وقد أصاب الشارح بقوله ( إنه قول باطل ) . اهـ .(148/33)
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد ( 12-149-150 ) مجيبا عن ذلك أيضا : وفي عصرنا هذا كنا نسمع عن أناس كبار ينسبون إلى العلم ممن لم ندرك أن نسمع منهم أنهم يذهبون إلى جواز التصوير كله بما فيه التماثيل الملعونة ، إلى أن قال : وكان من حجة أولئك أن تأولوا النصوص بربطها بعلة لم يذكرها الشارع ولم يجعلها مناط التحريم هي - فيما بلغنا - أن التحريم إنما كان أول الأمر لقرب عهد الناس بالوثنية أما الآن وقد مضى على ذلك دهر طويل فقد ذهبت علة التحريم ولا يخشى على الناس أن يعودوا لعبادة الأوثان . ونسي هؤلاء ما هو بين أيديهم من مظاهر الوثنية الحقة بالتقرب إلى القبور واللجأ إليها عند الكروب والشدائد وأن الوثنية عادت إلى التغلغل في القلوب دون أن يشعر أصحابها . بل نسوا نصوص الأحاديث الصريحة في التحريم وعلة التحريم وكنا نعجب لهم من هذا التفكير العقيم والاجتهاد الملتوي وكنا نظنهم اخترعوا معنى لم يسبقوا إليه وإن كان باطلا ظاهر البطلان حتى كشفنا بعد ذلك أنهم كانوا في باطلهم مقلدين وفي اجتهادهم واستنباطهم سارقين فرأينا الإمام الحافظ الحجة ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702 يحكي مثل قولهم ويرده أبلغ رد وبأقوى حجة ، ثم ساق كلام ابن دقيق العيد الذي نقلناه قريبا ، ثم قال : هذا ما قاله ابن دقيق العيد منذ أكثر من 670 سنة يرد على قوم تلاعبوا بهذه النصوص في عصره أو قبل عصره ثم يأتي هؤلاء المفتون المضللون وأتباعهم المقلدون الجاهلون يعيدونها جذعة ويلعبون بنصوص الأحاديث كما لعب أولئكم من قبل . اهـ .
فتبين مما تقدم أن التصوير بجميع أنواعه تماثيل أو غير تماثيل منقوشا باليد أو فوتوغرافيا مأخوذا بالآلة ، كله حرام وأن كل من حاول إباحة شيء منه فمحاولته باطلة وحجته داحضة ، والله المستعان .
8- حكم كشف المرأة لوجهها وكفيها بحضرة الرجال الأجانب :(148/34)
في صفحة ( 112 ) قال المؤلف : ( وعورة المرأة بالنسبة للرجل الأجنبي عنها جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها ) وفي صفحة ( 113 ) لما ذكر نظر المرأة إلى الرجل قال : ( ومثل هذا نظر الرجل إلى ما ليس بعورة من المرأة ، أي إلى وجهها وكفيها فهو مباح ما لم تصحبه شهوة أو تخف منه فتنة ) وفي صفحة ( 115 ) بعد أن ذكر قوله تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ } قال وهذا التوجيه يتضمن نهي النساء المؤمنات عن كشف الزينة الخفية كزينة الأذن والشعر والعنق والصدر والساق أمام الرجال الأجانب الذين رخص لها أمامهم في إبداء الوجه والكفين { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } وفي صفحة ( 113 ) استدل المؤلف على جواز نظر الرجل الأجنبي إلى وجه المرأة وكفيها بحديث عائشة أن أختها أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في لباس رقيق يشف عن جسمها فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه ) قال وفي الحديث ضعف ولكن تقويه أحاديث صحاح في إباحة رؤية الوجه والكفين وكشفهما .
ثم قال وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وجد الفضل ابن عمه العباس ينظر إلى امرأة أجنبية حسناء ويطيل الالتفات إليها وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه إلى الشق الآخر وقال ( رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة ) . اهـ . حاصل كلامه .
وأقول : إن ما ذكره المؤلف في هذا المبحث يشتمل على أخطاء كثيرة هي :(148/35)
أولا : تجويزه للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها بحضرة الرجال الأجانب وتجويزه للرجل الأجنبي أن ينظر إليهما باعتبارهما غير عورة وهذا قول باطل وخطأ واضح ترده الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الدالة على أن وجه المرأة وكفيها وجميع بدنها عورة يجب سترها عن الرجال الأجانب ، وإليك ذكر بعض هذه الأدلة :
قال الله تعالى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الآية . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } الآية . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) في الكلام على الآيتين ما نصه : ( والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين فقال ابن مسعود ومن وافقه هي الثياب وقال ابن عباس ومن وافقه هي ما في الوجه واليدين مثل الكحل والخاتم ، إلى أن قال جامعا بين القولين : وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره (3) ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } حجب النساء عن الرجال وكان ذلك لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش فأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الستر ومنع النساء أن ينظرن ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين وإلا(148/36)
فهي مما ملكت يمينه فحجبها فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن والجلباب هو الملاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء وتسميه العامة الإزار وهو الإزار الذي يغطي رأسها وسائر بدنها وقد حكى عبيدة وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها ومن جنسه النقاب فكن النساء ينتقبن وفي الصحيح ( إن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين ) فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب وكان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس ذكر أول الأمرين انتهى (4)
وقال ابن كثير رحمه الله : يقول الله تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات خاصة وأزواجه وبناته لشرفهن بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء . والجلباب هو الرداء فوق الخمار قاله ابن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد وهو بمنزلة الإزار اليوم قال الجوهري الجلباب الملحفة . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة .
وقال محمد بن سيرين : سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى . اهـ .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان ( 6-197-200 ) لما ذكر النقول عن السلف في تفسير الزينة بقسميها ما نصه :
( وقد رأيت في هذه النقول عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والزينة الباطنة وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال كما ذكرنا .(148/37)
الأول : أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها ولا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدنها كقول ابن مسعود ومن وافقه أنها ظاهر الثياب لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهي ظاهرة بحكم الاضطرار كما ترى ، وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة .
القول الثاني : أن المراد بالزينة ما تتزين به وليس من أصل خلقتها أيضا لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شيء من بدن المرأة وذلك كالخضاب والكحل ونحو ذلك لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع اللابس من البدن كما لا يخفى .
القول الثالث : أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها لقول من قال : إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان . وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم .
وإذا عرفت هذا فاعلم أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول . وقدمنا أيضا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرآن إرادة معنى معين في اللفظ مع تكرار ذلك اللفظ في القرآن فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب يدل على أنه هو المراد في محل النزاع لدلالة غلبة إرادته في القرآن بذلك اللفظ وذكرنا بعض الأمثلة في الترجمة .
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن هذين النوعين من أنواع البيان اللذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية التي نحن بصددها .(148/38)
أما الأول منهما فبيانه أن قول من قال في معنى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أن المراد بالزينة الوجه والكفان مثلا توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة هذا القول وهي أن الزينة في لغة العرب هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها كالحلي والحلل فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه وبه تعلم أن قول من قال : الزينة الظاهرة الوجه والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه .
وأما نوع البيان الثاني المذكور فإيضاحه أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها كقوله تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وقوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } وقوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } وقوله تعالى : { وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا } وقوله تعالى : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } وقوله تعالى : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } وقوله تعالى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } الآية .(148/39)
وقوله تعالى : { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وقوله تعالى : { أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ } الآية وقوله تعالى : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ } وقوله تعالى عن قوم موسى : { وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ } وقوله تعالى : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته كما ترى وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى الذي غلبت إرادته في القرآن الكريم وهو المعروف في كلام العرب ، كقول الشاعر :
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى ** وإذا عطلن فهن خير عواطل
وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين فيه نظر .
وإذا علمت أن المراد بالزينة في القرآن ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة وأن من فسروها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين : فقال بعضهم هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة كظاهر الثياب . وقال بعضهم هي زينة يستلزم النظر إليها رؤية موضعها من بدن المرأة كالكحل والخضاب ونحو ذلك .(148/40)
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود رضي الله عنه أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية . وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر لأنه هو أحوط الأقوال وأبعدها عن أسباب الفتنة وأطهرها لقلوب الرجال والنساء ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها كما هو معلوم ، والجاري على قواعد الشرع الكريم هو تمام المحافظة والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي ، وقال أيضا في صفحة ( 584-586 ) من الكتاب المذكور على قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ } الآية ما نصه :
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول وذكرنا أمثلة في الترجمة ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ومن أمثلته قول كثير من الناس أن آية الحجاب أعني قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ } خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهم وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعمم معلولها وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :
وقد تخصص وقد تعمم ** لأصلها لكنها لا تخرم(148/41)
انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة ، وبما ذكرنا تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه ، إلى أن قال : ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } فقد قال غير واحد من أهل العلم إن معنى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } أنهن يسترن بها جميع وجوههن ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها وممن قال به ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني وغيرهم . اهـ . وقال في صفحة ( 592 ) أيضا ما نصه : ( وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة على احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب علمت أن القرآن دل على الحجاب . ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه صلى الله عليه وسلم فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة . فمن يحاول منع نساء المسلمين كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم . انتهى المقصود منه .(148/42)
وقال الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتاب الحجاب له بعد أن ذكر جملة من أقوال المفسرين على آية الأحزاب { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ } الآية ما نصه : ( ويتضح من هذه الأقوال جميعها أنه من لدن عصر الصحابة الميمون إلى القرن الثامن للهجرة حمل جميع أهل العلم هذه الآية على مفهوم واحد هو الذي قد فهمناه من كلماتها . وإذا راجعنا بعد ذلك الأحاديث النبوية والآثار علمنا منها أيضا أن النساء قد شرعن يلبسن النقاب على العموم بعد نزول هذه الآية على العهد النبوي وكن لا يخرجن سافرات فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي والموطأ للإمام مالك وغيرها من كتب الأحاديث أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين ونهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وهذا صريح الدلالة على أن النساء في عهد النبوة قد تعودن الانتقاب ولبس القفازين عامة فنهين عنه في الإحرام ولم يكن المقصود بهذا الحكم أن تعرض الوجوه في موسم الحج عرضا بل كان المقصود في الحقيقة أن لا يكون القناع جزءا من هيئة الإحرام المتواضعة كما يكون جزءا من لباسهن عادة . فقد ورد في الأحاديث الأخرى تصريح بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعامة المسلمات كن يخفين وجوههن عن الأجانب في حالة إحرامهن أيضا ففي سنن أبي داود عن عائشة قالت : ( كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا جاوزوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه ) ، إلى أن قال : وكل من تأمل كلمات الآية وما فسرها به أهل التفسير في جميع الأزمان بالاتفاق وما تعامل عليه الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم ير في الأمر مجالا للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الأجانب وما زال العمل جاريا عليه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم . اهـ .(148/43)
وقال الشيخ محمد علي الصابوني في روائع البيان ( 2-384 ) : ومن درس حياة السلف الصالح وما كان عليه النساء الفضليات ، نساء الصحابة والتابعين وما كان عليه المجتمع الإسلامي في عصره الذهبي من التستر والتحفظ والصيانة عرف خطأ هذا الفريق من الناس الذين يزعمون أن الوجه لا يجب ستره بل يجب كشفه ويدعون المرأة المسلمة أن تسفر عن وجهها بحجة أنه ليس بعورة لأجل أن يتخلصوا من الإثم - بزعمهم - في كتم العلم وما دروا أنها مكيدة دبرها لهم أعداء الدين وفتنة من أجل التدرج بالمرأة المسلمة إلى التخلص من الحجاب الشرعي الذي عمل له الأعداء زمنا طويلا . وإنا لله وإنا إليه راجعون . اهـ . وبما تقدم تعلم أنه لا مستمسك للمؤلف بقوله تعالى { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } وأن الآية حجة لنا لا له .
وأما أدلة السنة على وجوب الحجاب : فهناك أحاديث كثيرة تدل على وجوب الحجاب منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين ) رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن إلا ابن ماجه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (5) : وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن ، وقال (6) ووجه المرأة في الإحرام فيه قولان في مذهب أحمد وغيره : قيل إنه كرأس الرجل فلا يغطى وقيل كبدنه فلا يغطى بالنقاب والبرقع ونحو ذلك مما صنع على قدره وهذا هو الصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا عن القفازين والنقاب وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال من غير ما يجافيها عن الوجه فعلم أن وجهها كبدن الرجل وذلك أن المرأة كلها عورة كما تقدم فلها أن تغطي وجهها لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو . اهـ .(148/44)
ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه ) . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه . قال الشوكاني في نيل الأوطار واستدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها ( يريد حال الإحرام ) لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره مطلقا كالعورة . اهـ . (7) ومعناه : أنه لا يحرم عليها ستر وجهها حالة إحرامها بحضرة أجانب أو غيرهم وهذا صريح من الإمام الشوكاني أنه يرى وجوب ستر المرأة لوجهها إذ أن الوجه هو موضع الزينة ومحل الافتتان بها ونساء الصحابة يكشفن وجوههن حالة الإحرام فإذا مر بهن الرجال الأجانب سترن وجوههن عنهم . مما يدل على أن المعتاد عندهم هو ستر الوجه .
هذه بعض أدلة الكتاب والسنة على وجوب ستر الوجه واليدين من المرأة عن الرجال الأجانب وطرف من كلام أهل العلم عليها ولو تتبعنا كل ما ورد وكل ما قيل في هذا الموضوع لاحتجنا إلى مجلدات لكن نكتفي من ذلك بما تحصل به الإشارة .
الجواب عما استدل به المؤلف(148/45)
1- أما استدلال المؤلف على جواز كشف الوجه واليدين من المرأة بحضرة الرجال بحديث (8) عائشة في قصة دخول أسماء على النبي صلى الله عليه وسلم وقوله لها ( إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه ) . . فمن العجيب استدلاله بهذا الحديث مع اعترافه هو بضعفه فكيف يعارض به الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الدالة على تحريم نظر الرجل إلى وجه المرأة الأجنبية ووجوب ستره . وأما قوله : ( لكن تقويه أحاديث صحاح في إباحة رؤية الوجه والكفين عند أمن الفتنة ) فنحن نطالبه أن يعين هذه الأحاديث التي ادعى أنها تقويه وأنها صحاح ، كما نطالبه أيضا ببيان الحد الذي تؤمن عنده الفتنة حين النظر إلى وجه المرأة الأجنبية وهل هناك أحد يأمن على نفسه الفتنة في هذا النظر أليس النظر وسيلة إلى الافتتان . والمؤلف نفسه في أول كتابه قد قرر هذه القاعدة فقال : ( ما أدى إلى الحرام فهو حرام ) فلماذا يتناسى ذلك هنا ؟ . وقد قال أيضا في كتابه في صفحة ( 110 ) والنظر رسول الفتنة وبريد الزنا وقديما قال الشاعر :
كل الحوادث مبدأها من النظر ** ومعظم النار من مستصغر الشرر
وحديثا قال آخر :
نظرة فابتسامة فسلام ** فكلام فموعد فلقاء
فما باله الآن يتساهل في النظر .
قال الشيخ الصابوني في هذا الموضوع في كتابه روائع البيان ( 2-173 ) والإسلام قد حرم على المرأة أن تكشف شيئا من عورتها أمام الأجانب خشية الفتنة فهل يعقل أن يأمرها الإسلام أن تستر شعرها وقدميها وأن يسمح لها أن تكشف وجهها ويديها وأيهما تكون الفتنة أكبر - الوجه أم القدمين - يا هؤلاء كونوا عقلاء ولا تلبسوا على الناس أمر الدين فإذا كان الإسلام لا يبيح للمرأة أن تدق برجلها الأرض لئلا يسمع صوت الخلخال وتتحرك قلوب الرجال أو يبدو شيء من زينتها فهل يسمح لها أن تكشف عن الوجه الذي هو أصل الجمال ومنبع الفتنة ومكمن الخطر . اهـ .(148/46)
وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان ( 6-602 ) ما نصه : ( وبالجملة فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الأجانب مع أن الوجه هو أصل الجمال والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة والوقوع فيما لا ينبغي ألم تسمع بعضهم يقول :
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ** ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك ولقد صدق من قال :
وما عجب أن النساء ترجلت ** ولكن تأنيث الرجال عجيب
انتهى .
إضافة إلى ذلك نقول إن الفتنة متوقعة من كل رجل ينظر إلى وجه امرأة أجنبية ولا سيما الشابة الجميلة فإن الفتنة بالنظر إليهما أعظم . فيتعين الحجاب منها لهذه الفتنة على جميع النساء .
ونعود إلى بيان درجة الحديث الذي استدل به المؤلف وبيان ما قاله العلماء فيه . قال ابن كثير : قال أبو داود وأبو حاتم الرازي : هو مرسل ، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها . وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود : قال أبو داود هذا مرسل ، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها . وفي إسناده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري نزيل دمشق مولى بني نصر وقد تكلم فيه غير واحد . وذكر الحافظ أبو أحمد الجرجاني هذا الحديث وقال : لا أعلم من رواه غير سعيد بن بشير وقال مرة فيه عن خالد بن دريك عن أم سلمة بدل عائشة . اهـ . وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان ( 6-597 ) وهذا الحديث يجاب عنه بأنه ضعيف من جهتين :
الأولى : كونه مرسلا لأن خالد بن دريك لم يسمع من عائشة كما قاله أبو داود وأبو حاتم الرازي كما قدمناه في سورة النور .(148/47)
الجهة الثانية : أن في إسناده سعيد بن بشير الأزدي مولاهم قال في التقريب : ضعيف ، مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب . ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب . اهـ . قلت : وحديث هذه درجته لا يصح الاستدلال به لا سيما في هذه المسألة الخطيرة .
2- وأما استدلال المؤلف على جواز نظر الرجل الأجنبي إلى وجه المرأة بحديث الفضل بن العباس ونظره إلى الخثعمية وصرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها ، فهذا من غرائب الاستدلال لأن الحديث يدل على خلاف ما يقول وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر الفضل على ذلك بل صرف وجهه وكيف يمنعه من شيء مباح . قال النووي رحمه الله عند ذكره لفوائد هذا الحديث : ومنها تحريم النظر إلى الأجنبية . ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه . وقال العلامة ابن القيم في روضة المحبين صفحة ( 102 ) وهذا منع وإنكار بالفعل فلو كان النظر جائزا لأقره عليه . اهـ . (9)
وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان ( 6-600-601 ) مجيبا عن هذا الاستدلال ما نصه : ( وأجيب عن ذلك أيضا من وجهين :(148/48)
الأول : الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه وأقرها على ذلك بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة وفي بعض روايات الحديث أنها حسناء ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كاشفة عن وجهها وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك . بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها كما أوضحناه في رؤية جابر سفعاء الخدين . ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها . ومما يوضح هذا أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي روى عنه هذا الحديث لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة ونظرها إليه لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفه أهله ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل وهو لم يقل له إنها كانت كاشفة عن وجهها واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصدا لاحتمال أن يكون رأى وجهها وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها . إلى أن قال : مع أن جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة وذلك لحسن قدها وقوامها وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط كما هو معلوم ولذلك فسر ابن مسعود { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } بالملاءة فوق الثياب كما تقدم . ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب .
قول الشاعر :
طافت أمامة بالركبان آونة ** يا حسنها من قوام ما ومنتقبا
فقد بالغ في حسن قوامها مع أن العادة كونه مستورا بالثياب لا منكشفا .(148/49)
الوجه الثاني : أن المرأة محرمة وإحرام المرأة في وجهها وكفيها فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليها وعليها ستره من الرجال في الإحرام كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن . ولم يقل أحد أن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها غير الفضل بن عباس رضي الله عنهما والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها وبذلك يعلم أنها محرمة لم ينظر إليها أحد فكشفها عن وجهها إذا لإحرامها لا لجواز السفور ، إلى أن قال : ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة كما ترى وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها . انتهى .
9- اللعب بالشطرنج :
في صحيفة ( 217 ) ذكر المؤلف خلافا في حكم اللعب بالشطرنج واختار هو القول بإباحته وقال الأصل فيما علمناه الإباحة ولم يجئ نص على تحريمه على أن فيه فوق اللهو والتسلية رياضة للذهن وتدريبا للفكر ثم ذكر شروطا لإباحته وهي :
1- أن لا تؤخر بسببه الصلاة عن وقتها .
2- أن لا يخالطه قمار .
3- وأن يحفظ اللاعب لسانه من الكلام الفاحش .
والجواب أن هذه الشروط التي ذكرها المؤلف من النادر توافرها في لاعب الشطرنج ولو سلمنا جدلا توافرها فإباحة اللعب بالشطرنج حينئذ وسيلة إلى الدخول في المحرم والوقوع في المحظور وضياع هذه الشروط ، فيلزم القول بتحريمه مطلقا وقد نص كثير من العلماء على تحريم اللعب بالشطرنج والتحذير منه (1) ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام طويل في هذا الموضوع يبتدئ من صحيفة ( 216 حتى صفحة 245 ) من المجلد الثاني والثلاثين من مجموع الفتاوى نقتطف منه ما يلي :(148/50)
قال رحمه الله : ( وإذا قدر خلوها من ذلك كله ( يريد الشغل عن الواجبات وفعل المحرمات ) فالمنقول عن الصحابة المنع من ذلك وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) شبههم بالعاكفين على الأصنام كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( شارب الخمر كعابد وثن ) والخمر والميسر قرينان في كتاب الله تعالى وكذلك النهي عنها معروف عن ابن عمر وغيره من الصحابة . والمنقول عن أبي حنيفة وأصحابه وأحمد وأصحابه تحريمها . وأما الشافعي فإنه قال : أكره اللعب بها للخبر واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهناه أخف حالا من النرد - إلى أن قال الشيخ - وهكذا نقل عنه ( يعني الشافعي ) غير هذا اللفظ مما مضمونه أنه يكرهها ويراها دون النرد ولا ريب أن كراهته كراهة تحريم - إلى أن قال - لكن المنقول عن الشافعي فظاهر مذهبه تحريم النرد مطلقا وإن لم يكن فيها عوض ولهذا قال : أكرهها للخبر فبين أن مستنده في ذلك الخبر لا القياس عنده وهذا مما احتج به الجمهور عليه وأنه إذا حرم النرد ولا عوض فيها فالشطرنج إن لم يكن مثلها فليس دونها وهذا يعرفه من خبر حقيقة اللعب بها فإن ما في النرد من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ومن إيقاع العداوة والبغضاء هو في الشطرنج أكثر بلا ريب وهي تفعل بالنفوس فعل حميا الكئوس فتصد عقولهم وقلوبهم عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر مما يفعله بهم كثير من أنواع الخمور والحشيشة . وقليلها يدعو إلى كثيرها . فتحريم النرد الخالية عن عوض مع إباحة الشطرنج مثل تحريم القطرة من خمر العنب وإباحة الغرفة من نبيذ الحنطة . وكما أن ذلك القول في غاية التناقض من جهة الاعتبار والقياس والعدل فهكذا القول في الشطرنج - إلى أن قال الشيخ رحمه الله - والنرد والشطرنج ونحوهما من المغالبات فيها من المفاسد ما لا يحصى وليس فيها مصلحة معتبرة فضلا عن مصلحة(148/51)
مقاومة غايته أنه يلهي النفس ويريحها كما يقصد شارب الخمر ذلك . وفي راحة النفس بالمباح الذي لا يصد عن المصالح ولا يجتلب المفاسد غنية . والمؤمن قد أغناه الله بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } وفي سنن ابن ماجه وغيره عن أبي ذر أن هذه الآية لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا ذر لو أن الناس كلهم عملوا بهذه الآية لوسعتهم ) وقد بين سبحانه في هذه الآية أن المتقي يدفع عنه المضرة وهو أن يجعل له مخرجا مما ضاق على الناس ويجلب له المنفعة ويرزقه من حيث لا يحتسب . وكل ما يتغذى به الحي مما تستريح به النفوس وتحتاج إليه في طيبها وانشراحها فهو من الرزق . والله تعالى يرزق ذلك لمن اتقاه بفعل المأمور وترك المحظور ومن طلب ذلك بالنرد والشطرنج ونحوهما من الميسر فهو بمنزلة من طلب ذلك بالخمر وصاحب الخمر يطلب الراحة ولا يزيده إلا تعبا وغما وإن كانت تفيده مقدارا من السرور فما تعقبه من المضار ويفوته من المسار أضعاف ذلك كما جرب ذلك من جربه وهكذا سائر المحرمات .(148/52)
ثم قال رحمه الله في موضع آخر : لما ذكر الحكم في حالة خلو اللعب بالشطرنج عن العوض وترك الواجبات وفعل المحرمات . قال : وإذا خلا عن ذلك فجمهور العلماء كمالك وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وكثير من أصحاب الشافعي أنه حرام . وقال هؤلاء إن الشافعي لم يقطع بأنه حلال بل كرهه . وقيل إنه قال : لم يتبين لي تحريمه ، والبيهقي أعلم أصحاب الشافعي بالحديث وأنصرهم للشافعي ذكر إجماع الصحابة على المنع منه عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس وأبي موسى وعائشة رضي الله عنهم . ولم يحك عن الصحابة في ذلك نزاعا ومن نقل عن أحد من الصحابة أنه رخص فيه فهو غالط . والبيهقي وغيره من أهل الحديث أعلم بأقوال الصحابة ممن ينقل أقوالا بغير أسانيد . اهـ . المقصود من كلام الشيخ رحمه الله .
فانظر إلى قوله عن الشطرنج : ( ليس فيه مصلحة معتبرة فضلا عن مصلحة مقاومة غايته أنه يلهي النفس ويريحها كما يقصد شارب الخمر ذلك وفي راحة النفس بالمباح الذي لا يصد عن المصالح ويجتلب المفاسد غنية . . الخ )
وقابله بقول فضيلة المؤلف عنه [ أي الشطرنج ] : ( على أن فيه فوق اللهو والتسلية رياضة للذهن وتدريبا للفكر ) ووازن بين القولين بإنصاف يظهر لك أي القولين أولى بالصواب .
وانظر أيضا إلى قول الشيخ تقي الدين : ( والبيهقي أعلم أصحاب الشافعي بالحديث ذكر إجماع الصحابة على المنع منه - أي الشطرنج - ولم يحك عن الصحابة في ذلك نزاعا ومن نقل عن أحد من الصحابة أنه رخص فيه فهو غالط ) . ثم قابله بقول فضيلة المؤلف : ( أما الصحابة رضي الله عنهم فإنه اختلفوا في شأنه ) ثم ذكر أن ابن عباس وأبا هريرة قالا بإباحته يا ترى من أولى بمعرفة أقوال الصحابة ، شيخ الإسلام ابن تيمية والبيهقي أم فضيلة المؤلف ، والله المستعان .(148/53)
وقال القرطبي في تفسيره ( 7-339 ) : قال ابن العربي المالكي في قبسه ( وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها - أي الشطرنج - وما كان ذلك قط وتالله ما مستها يد تقي . ويقولون إنها تشحذ الذهن والعيان يكذبهم ما تبحر فيها قط رجل له ذهن ) . اهـ . فهذا ابن العربي ينفي نفيا جازما أن يكون أحدا من الصحابة أو التابعين لعب بالشطرنج ويحلف على ذلك وينقل ذلك عنه القرطبي مقررا له (2) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 32-241 ) : روى البيهقي بإسناده عن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول الشطرنج ميسر العجم . وروى بإسناده عن علي أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها ، وعن علي رضي الله عنه أنه مر بمجلس من مجالس تيم الله وهم يلعبون بالشطرنج فقال أما والله لغير هذا خلقتم أما والله لولا أن يكون سنة لضربت بها وجوهكم . وعن مالك قال بلغنا أن ابن عباس ولي مال يتيم فأحرقها (3) وعن ابن عمر أنه سئل عن الشطرنج فقال : هو شر من النرد . وعن أبي موسى الأشعري قال : لا يعلب بالشطرنج إلا خاطئ . وعن عائشة أنها كانت تكره الكيل [ لعله : الكل ] وإن لم يقامر عليها . وأبو سعيد الخدري كان يكره اللعب بها - فهذه أقوال الصحابة رضي الله عنهم ولم يثبت عن صحابي خلاف ذلك . ثم روى البيهقي أيضا عن أبي جعفر محمد بن علي المعروف بالباقر أنه سئل عن الشطرنج فقال دعونا من هذه المجوسية- قال البيهقي روينا كراهة اللعب بها عن يزيد بن أبي حبيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم ومالك بن أنس قلت : والكراهية في كلام السلف كثيرا وغالبا يراد بها التحريم وقد صرح هؤلاء بأنها كراهة تحريم بل صرحوا بأنها شر من النرد والنرد حرام وإن لم يكن فيها عوض انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله .
10- حكم سماع الغناء والموسيقى :(148/54)
بحث المؤلف موضوع الغناء والموسيقى ابتداء من صحيفة ( 218 ) حتى صحيفة ( 221 ) وقد جانب الصواب في عدة مسائل :
منها قوله : ( ومن اللهو الذي تستريح إليه النفوس وتطرب له القلوب وتنعم به الآذان الغناء وقد أباحه الإسلام ما لم يشتمل على فحش أو خنا أو تحريض على إثم . ولا بأس أن تصحبه الموسيقى غير المثيرة واستحبه في المناسبات السارة إشاعة للسرور وترويحا للنفوس وذلك كأيام العيد والعرس وقدوم الغائب وفي وقت الوليمة والعقيقة وعند ولادة المولود ) . اهـ .
والملاحظ على هذه الجملة عدة أمور :
الأمر الأول : وصفه الغناء بأنه تستريح إليه النفوس وتطرب له القلوب وتنعم به الآذان وهو يريد بوصفه بهذه الأوصاف تحسينه للناس وترغيبهم في استماعه - فنقول له : ليس الضابط في إباحة الشيء وحسنه مجرد كونه يحصل به راحة للنفوس وطرب للقلوب دون نظر إلى ما يترتب عليه من المفاسد وما يجر إليه من المضار ، وأكثر النفوس تميل إلى الباطل وتستريح إليه أفنقول إنه حلال ، كلا ، قال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين ( 1-491 ) : فإن جهة كون الشيء مستلذا للحاسة ملائما لها لا يدل على إباحته ولا تحريمه ولا كراهته ولا استحبابه فإن هذه اللذة تكون فيها الأحكام الخمسة تكون في الحرام والواجب والمكروه والمستحب والمباح فكيف يستدل بها على الإباحة من يعرف شروط الدليل ومواقع الاستدلال وهل هذا إلا بمنزلة من استدل على إباحة الزنا بما يجده فاعله من اللذة وإن لذته لا ينكرها من له طبع سليم وهل يستدل بوجود اللذة والملاءمة على حل اللذيذ الملائم أحد وهل خلت غالب المحرمات من اللذات وهل أصوات المعازف التي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها وإن في أمته من سيستحلها بأصح إسناد وأجمع أهل العلم على تحريم بعضها وقال جمهورهم بتحريم جملتها إلا لذيذة تلذ السمع . اهـ .(148/55)
وقال العلامة ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس : اعلم أن سماع الغناء يجمع شيئين - أحدهما أنه يلهي القلب عن التفكير في عظمة الله سبحانه والقيام بخدمته ، والثاني : أنه يميله إلى اللذات العاجلة التي تدعو إلى استيفائها من جميع الشهوات الحسية ومعظمها النكاح وليس تمام لذته إلا في المتجددات ولا سبيل إلى كثرة المتجددات من الحل فلذلك يحث على الزنا فبين الغناء والزنا تناسب من جهة أن الغناء لذة الروح والزنا أكبر لذات النفس ولهذا جاء في الحديث : ( الغناء رقية الزنا ) . اهـ .(148/56)
الأمر الثاني مما يلاحظ على المؤلف : قوله عن الغناء : ( وقد أباحه الإسلام ما لم يشتمل على فحش أو خنا أو تحريض على إثم ) فقد تخيل المؤلف خلو الغناء من هذه المفاسد وبنى على هذا التخيل الحكم بإباحته ونسب ذلك إلى الإسلام . وهذا من المجازفة في القول ومن القول على الله بلا علم - لأن الواقع خلافه ، فاٍلإسلام ما أباح الغناء بل حرمه بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة منها قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } الآيات ، قال العلامة ابن القيم رحمه الله : (4) ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه الغناء فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود قال أبو الصهباء : سألت ابن مسعود عن قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } فقال : والله الذي لا إله غيره هو الغناء يرددها ثلاث مرات . وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أنه الغناء - إلى أن قال - ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء وتفسيره بأخبار الأعاجم وملوكهم وملوك الروم ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة يشغلهم به عن القرآن وكلاهما لهو الحديث ولهذا قال ابن عباس : لهو الحديث الباطل والغناء - فمن الصحابة من ذكر هذا ومنهم من ذكر الآخر ومنهم من جمعهما والغناء أشد لهوا وأعظم ضررا من أحاديث الملوك وأخبارهم فإنه رقية الزنا ومنبت النفاق وشرك الشيطان وخمرة العقل . وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل لشدة ميل النفوس إليه ورغبتها فيه - إذا عرف هذا فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن وإن لم ينالوا جميعه فإن الآيات تضمنت ذم استبدال لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرا كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرا وهو الثقل والصمم وإذا علم منه شيئا استهزأ به(148/57)
فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا وإن وقع بعضه للمغنيين ومستمعيهم فلهم حصة ونصيب من هذا الذم . اهـ . من إغاثة اللهفان ( 1-258-259 ) .
ومن أدلة السنة على تحريم الغناء قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولن ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة ) رواه البخاري محتجا به - قال ابن القيم : وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي وعمران بن حصين وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سابط والغازي بن ربيعة - ثم ساقها - رحمه الله (5) فكيف يزعم المؤلف مع هذا كله أن الإسلام أباح الغناء
ذكر طرف من أقوال العلماء في تحريم الغناء
ونذكر جملة من أقوال علماء الشريعة في حكم الغناء :(148/58)
ذكر الإمام القرطبي في تفسيره ( 14-55-56 ) عن الإمام مالك أنه قال في الغناء إنما يفعله عندنا الفساق . قال وذكر أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال : أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال : إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا - إلى أن قال : قال أبو الطيب الطبري : وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ ويجعل سماع الغناء من الذنوب . وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة - إبراهيم والشعبي وحماد والثوري وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه إلا ما روي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا . قال : وأما مذهب الشافعي فقال الغناء مكروه ويشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته - ثم ذكر القرطبي نقلا عن ابن الجوزي : أن الإمام أحمد سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال : تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية فقيل له إنها تساوي ثلاثين ألفا ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا فقال لا تباع إلا أنها ساذجة . قال أبو الفرج : وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد بل الأشعار المطربة المثيرة إلى العشق وهذا دليل على أن الغناء محظور إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم عندي خمر لأيتام فقال أرقها فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى - قال الطبري : فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليك بالسواد الأعظم ) ( ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ) .(148/59)
قلت : ما إباحه إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري من الغناء ليس هو كالغناء المعهود المثير للنفوس والباعث على الشوق والغرام المهلب لها من وصف الخد والعينين ورشاقة الشفتين . تقعد المغنية أمام المذياع فتؤدي غناها بصوت رخيم يبعث على الوجد والأنات . يسمع صوتها من بعد ومن قرب فحاشا هذين المذكورين أن يبيحا مثل هذا الغناء الذي هو في غاية الانحطاط ومنتهى الرذالة .
ثم قال القرطبي : قال أبو الفرج وقال القفال من أصحابنا لا تقبل شهادة المغني والرقاص . قلت : وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز وقد ادعى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك وقد مضى في الأنعام عند قوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } وحسبك . اهـ كلام القرطبي وما ذكره في سورة الأنعام هو قوله ( 7-3 ) قال أبو عمر بن عبد البر في الكافي : من المكاسب المجمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء وعلى الزمر واللعب الباطل كله . أهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ( 30-215 ) في أثناء كلام له على ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر براع معه زمارة فسد أذنيه .
قال : الوجه السادس أنه قد ذكر ابن المنذر اتفاق العلماء على المنع من إجارة الغناء والنوح فقال : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال النائحة والمغنية كره ذلك الشعبي والنخعي ومالك وقال أبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد : لا تجوز الإجارة على شيء من الغناء والنوح وبه نقول .(148/60)
وقال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان ( 1-245 ) في ذكر أقوال العلماء في الغناء نقلا عما ذكره أبو بكر الطرطوشي في كتابه ( تحريم السماع ) قال : أما مالك فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب وسئل مالك رحمه الله عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال إنما يفعله عندنا الفساق - قال : وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافا أيضا بين أهل البصرة في المنع منه قال ابن القيم : قلت : مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب وقوله فيه أغلظ الأقوال وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف حتى الضرب بالقضيب وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة وأبلغ من ذلك أنهم قالوا إن السماع فسق والتلذذ به كفر هذا لفظهم ورووا في ذلك حديثا لا يصح رفعه - قالوا ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي ادخل عليهم بغير إذنهم لأن النهي عن المنكر فرض فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض - وأما الشافعي فقال في كتاب أدب القضاء : إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله . إلى أن قال ابن القيم وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبد الله ابنه : سألت أبي عن الغناء فقال الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ثم ذكر قول مالك : إنما يفعله عندنا الفساق . اهـ فهذا حكم الغناء كما تراه وكما يدل على منعه الكتاب والسنة والإجماع إلا من شذ فلا يهولنك ما عليه كثير من الناس اليوم من استباحتهم له وتساهلهم في سماعه ونسبة من أنكره إلى الجمود والتحجر وصيرورته كالمضغة في الأفواه البذيئة(148/61)
فليقولوا ما شاءوا فهذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم نكن ندعهما لقول قائل ولا إرضاء أحد من الناس كائنا من كان .
وأما قول المؤلف : ( ولا بأس أن تصحبه الموسيقى غير المثيرة ) فمعناه إباحة شيء من المعازف والمزامير والملاهي التي جاء الحديث الصحيح بتحريمها كلها والوعيد لمن استباحها في قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ) الحديث - والمعازف جمع معزفة ويقال معزف بكسر الميم وفتح الزاي فيهما قال الجوهري : المعازف الملاهي والعازف اللاعب بها والمغني وقد عزف عزفا . . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 11-576 ) : مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام . ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير - والمعازف هي الملاهي كما ذكر أهل اللغة جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها أي يصوت بها ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا . ا هـ .(148/62)
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان ( 1-277-278 ) : فصل في بيان تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريح لآلات اللهو والمعازف وسياق الأحاديث في ذلك : عن عبد الرحمن بن غنم قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ) هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به وعلقه تعليقا مجزوما به فقال : ( باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه ) إلى أن قال ابن القيم : ووجه الدلالة منه أن المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والخز - إلى أن قال : وقال ابن ماجه في سننه حدثنا عبد الله بن سعيد عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن ابن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير ) وهذا إسناد صحيح وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال فلكل واحد قسط في الذم والوعيد . ا هـ فتبين أنه لا يباح شيء من آلات اللهو لا موسيقى ولا غيرها والله أعلم .
وقول المؤلف عن الغناء : إنه استحبه الإسلام في المناسبات الخ . . .(148/63)
لا ندري من أين أخذ هذا الاستحباب والإطلاق وغاية ما في الأمر الرخصة بإنشاد شيء من الشعر للنساء والجواري خاصة في مناسبات معينة - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ( 11-565 ) : ( ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف ولا يصفق بكف بل ثبت عنه في الصحيح أنه قال : ( التصفيق للنساء والتسبيح للرجال ) ولعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء ولما كان الغناء والضرب بالدف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا ويسمون الرجال المغنين مخانيث وهذا مشهور في كلامهم ومن هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها لما دخل عليها أبوها رضي الله عنه في أيام العيد وعندها جاريتان تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث فقال أبو بكر رضي الله عنه : ( أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معرضا بوجهه عنهما مقبلا بوجهه الكريم إلى الحائط فقال : دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا أهل الإسلام ) ففي هذا الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الاجتماع عليه ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان والنبي صلى الله عليه وسلم أقر الجواري في الأعياد كما في الحديث : ( ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة ) وكان لعائشة لعب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها . وليس في حديث الجاريتين أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع كما في الرؤية فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا بما يحصل منها بغير الاختيار . ا هـ .
الجواب عن الشبه التي تعلق بها المؤلف لإباحة الغناء(148/64)
ثم نقل المؤلف : عن الغزالي أنه ذكر في كتاب الإحياء أحاديث غناء الجاريتين ولعب الحبشة في مسجده صلى الله عليه وسلم وتشجيع النبي صلى الله عليه وسلم لهم بقوله : ( دونكم يا بني أرفدة ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : تشتهين أن تنظري ووقوفه حتى تمل هي وتسأم ولعبها بالبنات هي مع صواحبها - ثم قال فهذه الأحاديث كلها في الصحيحن وهي نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام - الخ ما نقل .
والمؤلف موافق للغزالي في استدلاله بهذه الأحاديث على إباحة الغناء مطلقا لأنه ساق كلامه مستشهدا به ومقررا له ، ولا يخفى أن هذه الأحاديث لا تدل بوجه من الوجوه على إباحة الغناء وإليك بيان ذلك :
أما حديث لعب الحبشة فليس فيه ذكر الغناء أصلا إنما فيه أنهم كانوا يلعبون بحرابهم ودرقهم وذلك جائز بل قد يكون مستحبا لما فيه من التدريب على استعمال آلات الحرب والتمرن على الجهاد .
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم ( 6-184 ) فيه جواز اللعب بالسلاح ونحوه من آلات الحرب في المسجد ويلتحق به ما في معناه من الأسباب المعينة على الجهاد . ا هـ .
وقد ترجم عليه البخاري في صحيحه : ( باب الحراب والدرق يوم العيد )
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 2-304 ) واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه واستنبط منه جواز المثاقفة لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب . ا هـ .
هذا ما فهمه هؤلاء الأئمة الأجلاء من حديث لعب الحبشة وهو الذي دل عليه الحديث لا ما فهمه الغزالي والمؤلف . والله أعلم(148/65)
وأما حديث غناء الجاريتين فلا دلالة فيه أيضا على إباحة الغناء لأنه يدل على وقوع إنشاد شيء من الشعر العربي في وصف الحرب من جاريتين صغيرتين في يوم عيد - قال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين ( 1-493 ) : وأعجب من هذا استدلالكم على إباحة السماع المركب مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية بغناء بنتين صغيرتين دون البلوغ عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح بأبيات من أبيات العرب في وصف الشجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشيم فأين هذا من هذا ؟ والعجب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم فإن الصديق الأكبر رضي الله عنه سمى ذلك مزمورا من مزامير الشيطان وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التسمية ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ولا مفسدة في إنشادهما ولا استماعهما أفيدل هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى فسبحان الله كيف ضلت العقول والأفهام . ا هـ .(148/66)
وقال ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس صفحة ( 217 ) : والظاهر من هاتين الجاريتين صغر السن لأن عائشة كانت صغيرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرب إليها الجواري فيلعبن معها - ثم ذكر بسنده عن أحمد بن حنبل أنه سئل أي شيء هذا الغناء قال غناء الركب : أتيناكم أتيناكم ثم قال ابن الجوزي في صفحة ( 229 ) من الكتاب المذكور : أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد سبق الكلام عليهما وبينا أنهم كانوا ينشدون الشعر وسمي بذلك غناء لنوع يثبت في الإنشاد وترجيع ومثل ذلك لا يخرج الطباع عن الاعتدال وكيف يحتج بذلك في الزمان السليم عند قلوب صافية على هذه الأصوات المطربة الواقعة في زمان كدر عند نفوس قد تملكها الهوى ما هذا إلا مغالطة للفهم أوليس قد صح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد . وإنما ينبغي للمفتي أن يزن الأحوال كما ينبغي للطبيب أن يزن الزمان والسن والبلد ثم يصف على مقدار ذلك وأين الغناء بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث من غناء أمرد مستحسن بآلات مستطابة وصناعة تجذب إليها النفس وغزليات يذكر فيها الغزال والغزالة والخال . والخد والقد والاعتدال . فهل يثبت هناك طبع هيهات بل ينزعج شوقا إلى المستلذ ولا يدعي أنه لا يجد ذلك إلا كاذب أو خارج عن حد الآدمية - إلى أن قال : وقد أجاب أبو الطيب الطبري عن هذا الحديث بجواب آخر - فأخبرنا أبو القاسم الجريري عنه أنه قال : هذا الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمى ذلك مزمور الشيطان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قوله إنما منعه من التغليظ في الإنكار لحسن رفعته لا سيما في يوم العيد وقد كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء وقد كان ابن أخيها القاسم بن محمد يذم الغناء ويمنع من سماعه وقد أخذ العلم عنها . ا هـ .(148/67)
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 6-182 ) قال القاضي : إنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة والظهور والغلبة وهذا لا يهيج الجواري على شر ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه إنما هو رفع الصوت بالإنشاد ولهذا قالت وليستا بمغنيتين أي ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى والتعريض بالفواحش والتشبيب بأهل الجمال وما يحرك النفوس ويبعث الهوى والغزل كما قيل الغناء فيه الزنا وليستا أيضا ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذي فيه تمطيط وتكسير وعمل يحرك الساكن ويبعث الكامن ولا ممن اتخذ ذلك صنعة وكسبا والعرب تسمي الإنشاد غناء . ا هـ .
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 2-442-443 ) : واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب ( يعني حديث غناء الجاريتين ) على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث الذي في الباب بعده بقولها : ( وليستا بمغنيتين ) فنفت عنهما بطريق المعنى ما أثبته لهما اللفظ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه الأعراب النَّصْب بفتح النون وسكون المهملة وعلى الحداء ولا يسمى فاعله مغنيا . وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح ، قال القرطبي : قولها ( ليستا بمغنيتين ) أي ليستا ممن يعرف بالغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك وهذا منها تحرز من الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن - إلى أن قال : وأما التفافه صلى الله عليه وسلم بثوبه ففيه إعراض عن ذلك لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره إذ لا يقر على باطل والأصل التنزه عن اللعب واللهو فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتا وكيفية تقليلا لمخالفة الأصل - والله أعلم . ا هـ .(148/68)
فاتضح من هذه النقول عن هؤلاء الأئمة في معنى هذا الحديث أنه لا يدل بوجه من الوجوه على ما ادعاه الغزالي والمؤلف القرضاوي من إباحة الغناء مطلقا والله أعلم .
وقول المؤلف : وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم استمعوا الغناء ولم يروا بسماعه بأسا . هذا دعوى منه ونحن نطالبه بإبراز الأسانيد الصحيحة إلى هؤلاء الصحابة والتابعين بإثبات ما نسبه إليهم (6) وأن هذا الغناء المنسوب إليهم استماعه هو من جنس ما يغني هؤلاء من إلهاب النفوس الباعث على الوجد والغرام والمشتمل على أوصاف المحاسن من النساء وأنى له ذلك ومجرد الدعوى لا يثبت به حكم
والدعاوى إذا لم يقيموا بينات ** عليها أهلها أدعياء
اعتراض المؤلف على أدلة تحريم الغناء والجواب عنه
يلاحظ على المؤلف في هذا الموضوع قوله عن أدلة تحريم الغناء : ( وأما ما ورد فيه من أحاديث نبوية فكلها مثخنة بالجراح لم يسلم منها حديث من طعن عند فقهاء الحديث وعلمائه ) .
ونجيب عن قوله هذا من عدة وجوه :
الوجه الأول : أن نقول إن أدلة تحريم الغناء ليست مقصورة على الأحاديث فقط بل هناك أدلة على تحريمه من القرآن الكريم منها قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } الآية وقد تقدم الكلام عليها . ومنها قوله تعالى : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } الآية عن مجاهد قال : استزل منهم من استطعت . قال وصوته الغناء والباطل . قال ابن القيم في إغاثة اللهفان : وهذه الإضافة إضافة تخصيص كما أن إضافة الخيل والرجل إليه كذلك . فكل متكلم في غير طاعة الله أو مصوت بيراع أو مزمار أو دف حرام أو طبل فذلك صوت الشيطان . وكل ساع في معصية الله على قدميه فهو من رجله وكل راكب في معصية الله فهو من خيالته كذلك قال السلف كما ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس : ( قال رجله كل رجل مشت في معصية الله . ا هـ ) (7)(148/69)
ومنها قوله تعالى : { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ . وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } قال عكرمة عن ابن عباس السمود الغناء في لغة حمير يقال اسمدي لنا أي غني وقال عكرمة كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا فنزلت هذه الآية وقال ابن كثير رحمه الله وقوله تعالى : { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } قال سفيان الثوري عن أبيه عن ابن عباس قال : الغناء - هي يمانية - اسمد لنا غن لنا وكذا قال عكرمة . ا هـ إلى غير ذلك من الآيات .
الوجه الثاني : أن نقول للمؤلف من هم فقهاء الحديث وعلماؤه الذين طعنوا في الأحاديث الواردة في تحريم الغناء سمهم لنا هل هم البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي والنسائي ويحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وأمثالهم من أئمة الجرح والتعديل أم هم ناس غير هؤلاء ممن يبيح الغناء (8)
الوجه الثالث : أن نقول للمؤلف إن الأحاديث الواردة في تحريم الغناء ليست مثخنة بالجراح كما زعمت بل منها ما هو في صحيح البخاري الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله . ومنها الحسن ومنها الضعيف وهي على كثرتها وتعدد مخارجها حجة ظاهرة وبرهان قاطع على تحريم الغناء والملاهي (9)
زعم المؤلف أن العلماء ما حرموا الغناء إلا لاقترانه بمحرمات والجواب عنه
ثم قال المؤلف : وقد اقترن الغناء والموسيقى بالترف ومجالس الخمر والسهر الحرام مما جعل كثيرا من العلماء يحرمونه أو يكرهونه . . الخ ما قال .(148/70)
وجوابنا عن ذلك أن نقول : ليس تحريم العلماء للغناء من أجل اقترانه بهذه الأشياء فقط بل إن تحريمهم له من أجل الأدلة على تحريمه في نفسه ولو لم يقترن بهذه الأشياء التي ذكرتها . فهذا الذي قاله المؤلف ادعاء منه على العلماء أنهم ما حرموه إلا من أجل ذلك وهو ادعاء مردود . ثم قال : ( ومن المتفق عليه أن الغناء يحرم إذا اقترن بمحرمات أخرى كأن يكون في مجلس شراب أو تخالطه خلاعة أو فجور فهذا هو الذي أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله وسامعيه بالعذب الشديد حين قال (10) : ( ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير ) .
والجواب عن هذه الجملة كالجواب عن الجملة التي قبلها : إن الغناء حرام ولو لم يقترن به محرم آخر . كما أن شرب الخمر المذكور في الحديث الذي ساقه المؤلف حرام ولو لم يكن معه غناء . قال العلامة الشوكاني في نيل الأوطار ( 8-107 ) مجيبا على هذه الدعوى ما نصه : ( ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث ( يريد حديث : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ) لا يحرم إلا عند شراب الخمر واستعمال المعازف واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله . وأيضا يلزم مثل قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ . وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } أنه لا يحرم عدم الإيمان بالله إلا عند عدم الحض على طعام المسكين فإن قيل تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم من دليل آخر فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضا كما سلف . ا هـ .
اعتراضه على تفسير لهو الحديث بالغناء والجواب عنه(148/71)
ثم قال فضيلة المؤلف : قال بعضهم : ( إن الغناء من لهو الحديث المذكور في قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } وقال ابن حزم إن الآية ذكرت صفة من فعلها كان كافرا بلا خلاف إذا اتخذ سبيل الله هزوا لكان كافرا فهذا هو الذي ذم الله عز وجل . وما ذم سبحانه قط من اشترى لهو الحديث ليتلهى به ويروح به نفسه لا ليضل عن سبيل الله )
والجواب عن هذا من وجوه :
الوجه الأول : أن قول المؤلف : ( وقال بعضهم إن الغناء من لهو الحديث ) بهذه الصيغة يفيد التقليل من شأن هذا القول وتضعيفه وتجاهل من قال به من أكابر الصحابة والتابعين كابن عباس وابن عمر وابن مسعود ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي . كما يأتي بيانه وهذا خطأ بين .(148/72)
قال القرطبي في تفسيره : ( ولهو الحديث ) : الغناء في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما . إلى أن قال : قال ابن عطية وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد وذكره أبو الفرج بن الجوزي عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي . ثم قال القرطبي قلت : هذا أعلى ما قيل في هذه الآية وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أنه الغناء روى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري قال : سئل عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } فقال الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات وعن ابن عمر أنه الغناء وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول . وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال : قال عبد الله بن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب . وقاله مجاهد وزاد أن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل . وقال الحسن : ( لهو الحديث ) : المعازف والغناء . ثم ذكر القرطبي الأقوال الأخرى في تفسير الآية ثم قال : قلت : القول الأول أولى ما قيل به في هذا الباب للحديث المرفوع وقول الصحابة والتابعين فيه . ا هـ .(148/73)
الوجه الثاني : أن نقول وبما تقدم من ذكر من فسر { لَهْوَ الْحَدِيثِ } بالغناء من أجلاء الصحابة والتابعين يحصل الجواب عما نقله المؤلف عن ابن حزم من تفسيره الآية بما يخالف ذلك فيقال من هو ابن حزم وما تفسيره بجانب هؤلاء وتفسيرهم حتى يقابله بهم - نقول هذا مع إجلالنا لابن حزم واعترافنا بمكانته العلمية - لكن لا نتابعه على خطأ ولا نقدم قوله على قول من هو أجل منه لا سيما من الصحابة والتابعين . قال العلامة ابن القيم : ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه الغناء , إلى أن قال : قال الحاكم أبو عبد الله في التفسير من كتاب المستدرك : ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل هو عند الشيخين حديث مسند وقال في موضع آخر من كتابه هو عندنا في حكم المرفوع ، وهذا وإن كان فيه نظر فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل في كتابه فعليهم نزل وهم أول من خوطب به من الأمة وقد شاهدوا التفسير من الرسول صلى الله عليه وسلم علما وعملا وهم العرب الفصحاء على الحقيقة فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل ا هـ من إغاثة اللهفان . وبه وبما قبله من القول تعلم أن تفسير { لَهْوَ الْحَدِيثِ } بالباطل دخل الغناء دخولا أوليا فيه كما لا يخفى والله أعلم .
هل يكون الغناء مقويا على طاعة الله ؟
ثم نقل المؤلف عن ابن حزم أنه قال : ( فمن نوى بالغناء عونا على معصية الله فهو فاسق وكذلك كل شيء غير الغناء ومن نوى ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل وينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن وفعله هذا من الحق ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه متنزها وقعوده على باب داره متفرجا وصبغة ثوبه لازورديا أو أخضر أو غير ذلك ) ا هـ .(148/74)
والجواب : أن هذا الكلام من ابن حزم مبني على مذهبه أن الغناء حلال له حكم سائر المباحات وقد علمنا أن هذا مذهب باطل ترده الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة الدالة على تحريم الغناء واستماعه فلا يلتفت إليه . وعده استماع الغناء مما يتقوى به على طاعة الله وأنه من الحق هو من قلب الحقائق والمغالطة الواضحة لأن الغناء على العكس مما ذكر يصد عن طاعة الله ويضل عن سبيل الله كما قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ولهو الحديث هو الغناء كما تقدم بيانه فقوله هذا مصادم للآية الكريمة والاستماع الذي يستعان به على طاعة الله هو الاستماع إلى القرآن الكريم . قال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين : ( 1-485 ) والمقصود أن سماع خاصة الخاصة المقربين هو سماع القرآن بالاعتبارات الثلاثة إدراكا وفهما وتدبرا وإجابة . وكل سماع في القرآن مدح الله أصحابه وأثنى عليهم وأمر به أولياءه فهو هذا السماع وهو سماع الآيات لا سماع الأبيات وسماع القرآن لا سماع مزامير الشيطان وسماع كلام رب الأرض والسماء لا سماع قصائد الشعراء وسماع المراشد لا سماع القصائد وسماع الأنبياء والمرسلين لا سماع المغنيين والمطربين - إلى أن قال : ويا لله العجب أي إيمان ونور وبصيرة وهدى ومعرفة تحصل باستماع أبيات بألحان وتوقيعات لعل أكثرها قيلت فيما هو محرم يبغضه الله ورسوله ويعاقب عليه - إلى أن قال : فكيف يقع لمن له أدنى بصيرة وحياة قلب أن يتقرب إلى الله ويزداد إيمانا وقربا منه وكرامة عليه بالتذاذه بما هو بغيض إليه مقيت عنده يمقت قائله والراضي به وتترقى به الحال حتى يزعم أن ذلك أنفع لقلبه من سماع القرآن والعلم النافع وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يا لله إن هذا القلب مخسوف به منكوس لم يصلح لحقائق القرآن وأذواق معانيه ومطالعة أسراره فبلاه بقراءة الشيطان كما في معجم الطبراني وغيره مرفوعا وموقوفا ((148/75)
إن الشيطان قال يا رب اجعل لي قرآنا قال قرآنك الشعر قال اجعل لي كتابا قال كتابك الوشم قال اجعل لي مؤذنا قال مؤذنك المزمار قال اجعل لي بيتا قال بيتك الحمام قال اجعل لي مصائد قال مصائدك النساء قال اجعل لي طعاما قال طعامك ما لم يذكر عليه اسمي ) والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 11- ابتداء من صفحة 557 ) ما نصه : فأما السماع الذي شرعه الله تعالى لعباده وكان سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم وزكاة نفوسهم فهو سماع آيات الله تعالى وهو سماع النبيين والمؤمنين وأهل العلم والمعرفة .(148/76)
إلى أن قال : وبهذا السماع أمر الله تعالى كما قال تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وعلى أهله أثنى كما قال تعالى : { فَبَشِّرْ عِبَادِ . الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } إلى أن قال : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً } وقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } إلى أن قال رحمه الله : ( وهذا هو السماع الذي شرعه الله لعباده في صلاة الفجر والعشاء وغير ذلك وعلى هذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والباقون يستمعون . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون . وهذا هو السماع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهده مع أصحابه ويستدعيه منهم . ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه القرآن . إلى أن قال : وبذلك يحتج عليهم يوم القيامة كما قال تعالى { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } إلى أن قال : وهذا السماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية والأحوال الذكية يطول شرحها ووصفها وله آثار محمودة من خشوع القلب ودموع العين واقشعرار الجلد وهذا مذكور في القرآن ثم قال وبالجملة فهذا السماع هو أصل الإيمان . ثم قال : وبالجملة فقد عرف من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة مع ضرب بالكف أو ضرب بالقديد والدف كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعة واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا(148/77)
في ظاهره ولا لعامي ولا لخاصي . إلى أن قال : ولهذا يوجد من اعتاده واغتذى به [ يعني الغناء ] لا يحن إلى سماع القرآن ولا يفرح به ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات بل إذا سمع القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية وإذا سمعوا المكاء والتصدية خشعت الأصوات وسكنت الحركات وأصغت القلوب وتعاطت المشروب . ثم قال رحمه الله في موضع آخر : فلما كان هذا السماع لا يعطي بنفسه ما يحبه الله ورسوله من الأحوال والمعارف بل قد يصد عن ذلك ويعطي ما لا يحبه الله ورسوله أو ما يبغضه الله ورسوله لم يأمر الله به ولا رسوله ولا سلف الأمة ولا أعيان مشائخها . وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به ولا شيئا يبعد عن النار إلا وقد حدث به وإن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله فإن الله يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) وإذا وجد فيه منفعة لقلبه ولم يجد شاهد ذلك لا من الكتاب ولا من السنة لم يلتفت إليه . اهـ المقصود من كلامه رحمه الله .
وأما قول ابن حزم عن الغناء : ومن لم ينو طاعة ( أي بسماع الغناء ) ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه وجلوسه على بابه وصبغه لثوبه . .
فنجيب عنه : بأن هذا قياس مع الفارق لأنه قياس محرم على مباح وقياس ما فيه مضره على ما لا ضرر فيه - إلى غير ذلك من الفوارق فهو قياس باطل - والعجب أن ابن حزم لا يقول بالقياس وينكره فكيف يقيس هنا هذا القياس الفاسد .
11- حكم دخول دول السينما
في صفحة ( 223 ) أبدى المؤلف رأيه في حكم دخول السينما فقال بعد مقدمة قدمها ( وهكذا نرى في السينما فهي حلال طيب بل قد تستحب وتطلب إذا توفرت لها الشروط الآتية . ثم ذكر شروطا حاصلها :(148/78)
1- أن تنزه موضوعاتها التي تعرض فيها عن المجون والفسق وكل ما ينافي عقائد الإسلام وشرائعه وآدابه .
2- أن لا تشغل عن واجب ديني أو دنيوي كالصلوات الخمس .
3- أن يتجنب مرتادها الملاصقة والاختلاط المثيرين بين الرجال والنساء الأجنبيات عنهم منعا للفتنة ودرأ للشبهة .
والجواب عن ذلك من وجهين :
الوجه الأول : أن نقول : بعيد كل البعد أو قد يكون مستحيلا في السينما أن تتوفر هذه الشروط التي ذكرها المؤلف وخلوها من هذه المحاذير لأنها لو خلت من هذه الأشياء وتمحضت للتوجيه النافع - على حد زعم المؤلف - لم يحصل الإقبال عليها من الناس ولم يكثر مرتادوها - ومهمة القائمين عليها استجلاب الناس إليها بشتى الوسائل ليحصلوا منهم على الكسب المادي لأنها أداة كسب في الغالب .
الوجه الثاني : لو فرضنا خلوها من هذه المحاذير - فإنها لا تخلو من عرض الصور المتحركة ومشاهدتها - ولا شك أن التصوير لذوات الأرواح واستعمال الصور المحرمة محرم . وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من دخول الكعبة حتى محى ما فيها من الصور وامتنع صلى الله عليه وسلم من دخول بيت عائشة رضي الله عنه من أجل نمرقة فيها تصاوير . وامتنع من دخول بيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما رأى فيه تصاوير - فدل ذلك على أنه لا يجوز مشاهدة الصور في البيت ولا في السينما ولا في غيرها ولا دخول مكان تعرض فيه .
وكشاهد على ما ذكرنا من أنه لا يمكن خلو السينما من المحاذير والشرور وأنها أداة شر . ننقل لك جملة من أقوال من عرفوا تلك الأضرار في السينما فحذروا منها :(148/79)
قال في كتاب النهضة الإصلاحية صحيفة ( 357 ) وهو يعدد جملة من المنكرات قال : ومنها وقوع نظر النساء على الصور المتحركة - السينما - ذلك أن تلك الشاشة البيضاء كما يسمونها لا تخلو أبدا من مناظر فاجرة تمثل الفسق والغرام والهيام المفرط الذي جاوز الحد ومعروف أن النفوس مجبولة على التقليد ولها من الإحساس ما يتحرك ويهيج إذا رأى المحرم المهيج . وأي مهيج أقوى وأشد من هاتيك المناظر المتعمدة المقصودة للتهييج وكيف لا تسارع المرأة ناقصة العقل والدين كل المسارعة إلى تقليد ما ترى على الشاشة البيضاء من ترام في الأحضان وتضام وعناق وتقبيل وما يتلو ذلك . إن من لا يقول إن المرأة تتأثر بهذه المناظر تأثرا خطرا يكون مريض العقل فاقد الإحساس عادم التقدير لا أتردد أنا في ذلك ولقد هيئت الفرص أن أتكلم في هذه النقطة مع سيدات ممن تعودن الذهاب إلى حيث الصور المتحركة فلم يترددن في موافقتي على أن تلك المناظر تؤثر عليهن كل التأثير ولقد أخبرتني سيدة رأت في تلك الشاشة صورة حرب فيها كر وفر وتصادم وهجوم وطعن وضرب وإطلاق نيران وما إلى ذلك من فنون الحروب المهلكة تقول لي وزوجها الذي يرغمها إلى الذهاب إلى تلك المناظر يسمع : إني لم أقم من ذلك المكان بعد رؤية هاتيك الصور إلا وكلي رعب وفزع لا يتصل مني عضو بالآخر من شدة ما نزل من التأثر وهي تريد أن تقول لي بتلك الحكاية إن كل منظر مؤذ يؤثر في موضوعه فإذا كان على الشاشة صور غرامية أثرت في النفوس للحد الذي يفهمه من يعرف قوة الطبيعة الحيوانية في الإنسان . ا هـ .(148/80)
وجاء في مجلة الأزهر ( 26-442 ) ما نصه : ( وبحث مشكلة السينما في مصر متشعب النواحي فقد تبحث باعتبارها فنا من الفنون أو صناعة من الصناعات أو أداة ووسيلة حيوية لتوجيه الشعب وتثقيفه وإرشاده وهي الناحية التي سنعرض لها هنا لنتبين إلى أي مدى استطاعت السينما أن تحقق هذه الوظائف القومية في المجتمع المصري وإن من يتبع الأفلام المصرية ويشاهد منها الكثير والكثير وهي وفيرة العدد ليخرج بحقيقة واحدة لا يستطيع عنها حولا وإن أكثر من المشاهدة والتدقيق وتعب في الفحص والاختبار . هذه الحقيقة الوحيدة هي أن هذه الأفلام قد فشلت فشلا ذريعا في تحقيق الأهداف المذكورة وعجزت عجزا تاما عن أداء الوظائف الحيوية في خدمة الإرشاد العام في المجتمع المصري مؤثرة عناصر التجارة على عنصر التوجيه ومطرحة لعنصر الفن وضاربة الصفح إلا عن ابتزاز الأموال . ا هـ .
وجاء في صحيفة ( 517 ) من المجلد ( 26 ) من تلك المجلة أيضا : ( يندر أن يجد المدمن على مشاهدة الأفلام فيلما يخلو من قبلات حتى لقد أصبحت من لوازم هذه الأفلام - إذا جلست في دار الخيالة تشاهد واحدا منها فلا بد أن تكون موطنا نفسك على أن تشهد منها الكثير والكثير بمناسبة وبغير مناسبة . بل إن الكثير من المراهقين والشبان والفتيات ليدخلون دور الخيالة ليشهدوا هذه الطبعات التي يحلمون بها ويشتاقون إلى ذوق أمثالها وهنا بيت الداء ومبعث انتشاره . ا هـ .
هذه شهادات ممن خبروا أضرار السينما وواقعها وما تجر على مشاهدها من أضرار وخسارة في الأخلاق والسلوك وأنها لا يمكن بحال خلوها من تلك المفاسد وأن القائمين عليها لا ينظرون في صالح الناس وإنما ينظرون إلى ما يمكنهم من ابتزاز الأموال . وبالجملة فلا خير فيها بوجه من الوجوه وإن زعم من زعم أنها أداة إصلاح وتوجيه .
خاتمة(148/81)
وأخيرا نقول : ليت فضيلة المؤلف التزم ما قرره في أول كتابه من قواعد كقوله : ( ما أدى إلى الحرام فهو حرام ) ( اتقاء الشبهات خشية الوقوع في الحرام ) ( النية الحسنة لا تبرر الحرام ) ليته التزم مقتضى هذه القواعد فأخلى كتابه من هذه الفتاوى التي خالف فيها الصواب وقلد في غالبها الأقوال الشاذة التي لا تستند إلى دليل . ليته جعل كتابه مشتملا على ما هو مفيد ونافع .
قال الأستاذ عبد الحميد طهماز في رده على المؤلف : ليت المؤلف وقف عند المبدأ الذي قرره في أول الكتاب أن الحلال ما أحله الله تعالى والحرام ما حرمه الله تعالى فلا يكون منه التفات إلى مثل هذه الآراء الضعيفة في ثبوتها . اهـ . قال سليمان التيمي : لو أخذت برخصة كل عالم وزلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله .(148/82)
وقال المحقق العلامة ابن القيم في أعلام الموقعين : ( 1-10-11 ) ولما كان التبليغ عن الله سبحانه وتعالى يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة عدلا في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله . وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات . فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات . فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب . فقال تعالى { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } وكفى بما تولاه الله بنفسه شرفا وجلالة . إذ يقول في كتابه : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسئول غدا وموقف بين يدي الله . ا هـ .(148/83)
وإذ كان المؤلف قد بسط القول في جانب تحريم الحلال وحمل على الذين يحرمون من غير دليل وجب عليه أيضا أن لا ينسى خطورة الجانب الثاني وهو تحليل الحرام فهو لا يقل أهمية عن الجانب الأول والواقعون فيه أكثر والله تعالى قد نهى عن الجانبين على حد سواء فقال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ومعلوم أن من قواعد الشريعة ( اتقاء الشبهات خشية الوقوع في المحرمات ) . و ( إذا تنازع حظر وإباحة غلب جانب الحظر ) مما يدل على خطورة الوقوع في الحرام .
هذا وأسأل الله لنا وللمؤلف ولجميع المسلمين التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة : ( رتبت هذه القائمة على حسب أسبقية ذكرها في الكتاب ) .
ـ القرآن الكريم
ـ نظرات في كتاب الحلال والحرام في الإسلام
ـ الفتح الباري
ـ النهضة الإصلاحية للشيخ مصطفى الحمامي
ـ مصائب الدخان للأستاذ محمد عبد الغفار
كيف تبطل التدخين للدكتور هربرت ويلسن
ـ الدخينة في نظر طبيب الدكتور دانيال . هـ . كرس
ـ نيل الأوطار للشوكاني
ـ شرح صحيح مسلم بشرح النووي
ـ المجموع شرح المهذب للنووي
ـ تفسير ابن العربي
ـ إعلام الموقعين لابن القيم
ـ الجواب المفيد في حكم التصوير لابن باز
ـ شرح العمدة لابن دقيق العيد
ـ مسند الإمام أحمد
ـ مجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية
ـ أضواء البيان لمحمد أمين الشنقيطي
ـ الحجاب لأبي الأعلى المودودي
ـ روائع البيان للشيخ محمد الصابوني
ـ روضة المحبين لابن القيم
ـ تفسير القرطبي
ـ مدارج السالكين لابن القيم
ـ إغاثة اللهفان
ـ تلبيس إبليس
ـ منهاج السنة لابن تيمية
ـ مجلد مجلة الأزهر ( 26 )(148/84)
البيان بالدليل لما في نصيحة الرفاعي والبوطي من الكذب الواضح
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد :
فقد اطّلعت على ورقات كتبها من سمّى نفسه يوسف بن السيد هاشم الرفاعي، بعنوان : " نصيحة لإخواننا علماء نجد " . وقدم لها الدكتور/ محمد سعيد رمضان البوطي، ومضمون هذه النصيحة هو الحثّ على التخلّي عن التمسُّك بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله وعليه وسلم، والأخذ بأقوال الفرق الضالّة التي حذّرنا الله سبحانه وتعالى منها، بقوله تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 ] ، وقوله : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 105 ] ، وقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] ، وحذّر منها النبي صلى الله وعليه وسلم بقوله : ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإنّ كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) [ أخرجه من حديث العرباض بن سارية : أبو داود : كتاب السنة، باب ( 6 ) ، رقم ( 4607 ) ، ( 5/12 ) . والترمذي : كتاب العلم، باب ( 16 ) ، رقم ( 2681 ) ، ( 5/44 ) . وابن ماجه : كتاب المقدمة، باب ( 1 ) ، رقم ( 42 ) ، ( 1/30 ) ] وفي رواية : ( وكل ضلالة في النار ) [ أخرجها النسائي من حديث جابر بن عبد الله في : كتاب العيدين باب ( 22 ) ، رقم ( 1577 ) ، ( 2/209 ) ] ، وبقوله صلى الله وعليه وسلم : ((149/1)
إنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) [ أخرجه مسلم من حديث جابر : كتاب الجمعة، باب ( 13 ) ، رقم ( 2002 ) ، ( 3/392 ) . ونحوه أخرجه النسائي برقم ( 1577 ) ] ، وبقوله صلى الله وعليه وسلم : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله وسنتي ) [ أخرجه بهذا اللفظ : مالك في الموطأ ] .
إن الرفاعي والبوطي يدعوان إلى ترك ذلك كله، والأخذ بما عليه بعض الفرق الضالة المنحرفة، التي قال فيها النبي صلى الله وعليه وسلم : ( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلُّها في النار إلا واحدة ) [ هذا الحديث مشهور محفوظ، ورد من طرق كثيرة عن عدد من الصحابة، وصححه كثير من العلماء واعتنوا به رواية ودراية، قال عنه شيخ الإسلام في الفتاوى ( 3/345 ) : " الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد " . ومن رواياته : رواية معاوية رضي الله عنه : أخرجها أحمد برقم ( 17061 ) ( 5/779 ) . وأبو داود : كتاب السنة، باب ( 1 ) ، رقم ( 4597 ) ، ( 5/7 ) ] ، وهذه الواحدة هي الفرقة المتمسِّكة بما كان عليه النبي صلى الله وعليه وسلم وأصحابه، بخلاف غيرها من قبورية وصوفية وجهمية ومعتزلة وغيرهم، وهذا الافتراق هو الذي سبّب التناحر والشقاق بين الأمة .
والبوطي والرفاعي يريدان للأمة البقاء على هذا الافتراق تحت مظلة اسم الإسلام، ولقد تذكرت بتآمرهما هذا على من تمسك بالسنة وترك البدعة قول الشاعر :
ذَهَبَ الرجالُ المُقتدى بفعالهم ** والمنكرون لكل فعل مُنكرِ
وبقيتُ في خُلْفٍ يُزكِّ بعضهم ** بعضًا ليدفع مُعورٌ عن معور
وأقول : لماذا خصّا علماء نجد بنصيحتهما هذه، مع أن المتمسكين بالسنة - والحمد لله - كثيرون في أقطار الأرض وفي مختلف البلاد ؟ ما ذاك إلا ليوهما الأغرار أن أهل نجد أهل شذوذ وخروج عن الحق، على قاعدة من يرى أن كل متمسِّك بالحق فهو متطرِّف !(149/2)
ولكن هذا لا يضير، فالحق واضح يراه كل بصير، وأما أعمى القلب فلا حيلة فيه، فحاله في عدم رؤية الحق، كحال أعمى البصر في عدم رؤيته لضوء الشمس؛ كما قال الشاعر :
وقُل للعيون الرُّمدِ للشمس أعينٌ ** سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح عيونًا أطفأ الله نورها ** بأهوائها لا تستفيقُ ولا تعي
وقال الآخر :
قد تنكرُ العينُ ضوءَ الشمس من رمدٍ ** وينكرُ الفمُ طعمَ الماءِ من سقم
وإذا كانا يغاران على الأمة الإسلامية - كما زعما - فلماذا لا يحذِّرانها من البدع والانحرافات التي تفرِّقها، وتصدُّها عن سبيل الله، وتقضي على وحدتها وقوَّتها ؟ وخذ مثلاً عن عجرفة هذا البوطي في مقدمته لتلك النصيحة؛ لتستدل به على مبلغ ما عنده من العلم، حيث قال في صفحة 19-20 يخاطب علماء نجد : ( وإذًا لأقلعتم عن ترديد تلك الكلمة التي تظنُّونها نصيحة، وهي باطل من القول، وتحسبونها أمرًا هينًا وهي عند الله عظيم، ألا وهي قولكم للحجيج في كثير من المناسبات : إياكم والغلو في محبة رسول الله . ولو قلتم كما قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم : ( لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ) [ أخرجه من حديث عمر، البخاري في : كتاب الأنبياء، باب ( 48 ) ، رقم ( 3445 ) ، ( 6/583 ) ] لكان كلامًا مقبولاً، ولكان نصيحة غالية ) . هذا كلامه بنصه، وقد بخل فيه أن يصلي على النبي صلى الله وعليه وسلم عندما ذكره، وعاب على أهل السنة إنكارهم للغلو الذي أنكره الله بقوله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } [ المائدة : 77 ] ، وأنكره النبي صلى الله وعليه وسلم، بقوله : ( وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ) [ أخرجه من حديث ابن عباس : أحمد : برقم ( 1851 ) ، ( 1/574 ) . والنسائي في : كتاب المناسك، باب ( 217 ) ، رقم ( 3057 ) ، ( 3/296 ) . وابن ماجه في : كتاب المناسك، باب ( 63 ) ، رقم ( 3029 ) ، ( 3/476 ) ] . ثم ما الفرق بين الغلو(149/3)
والإطراء الذي نهى عنه رسول الله صلى الله وعليه وسلم في حقه ؟ إن معناهما واحد، إلا عند البوطي؛ اختراعًا من عنده، حمله عليه الحقد والبغضاء لأهل الحق .
والحمد لله أنه لم يجد على أهل الحق ما يعابون به سوى هذه الكلمة التي زعمها باطلاً وهي حق .
هذا وإن ما ذكره المدعو/ يوسف الرفاعي، في أوراقه التي سماها ( نصيحة ) ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : حقٌّ، وعلماء نجد وغيرهم من أهل السنة والجماعة سلفًا وخلفًا قائلون به، لكنه رآه باطلاً ونصح بتركه؛ لعمى بصيرته، ومن أعمى الله بصيرته فإنه يرى الباطل حقًا، والحق باطلاً : { وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } [ المائدة : 41 ] ، وما كل من تظاهر بالنصيحة يكون ناصحًا، فإبليس قال لآدم وحواء حينما أغراهما بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها كما قال الله تعالى عنه : { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] ، وفرعون قال لقومه حينما حذرهم من اتباع موسى عليه السلام، قال : { إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ } [ غافر : 26 ] فأحيانًا يظهر العدو بصورة الناصح خداعًا ومكرًا، أو يُخيل إليه أن عمله هذا إصلاح { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 11-12 ] فيجب الحذرُ من أمثال هؤلاء؛ لأنهم كما قال الشاعر (1) :
وما كلُّ ذي لُبٍّ بمؤتيكَ نُصحَه ** وما كلُّ مُبدٍ نُصحه بلبيبِ(149/4)
ولو تُرك الردُّ على المبطلين لالتبس الحق بالباطل، ولتشجع أهل الباطل على باطلهم، والله تعالى قد ردَّ في كتابه على أهل الباطل في مواضع كثيرة من القرآن، ولما قال أبو سفيان يوم أُحُد للمسلمين : لنا العزَّى ولا عزّى لكم، قال النبي صلى الله وعليه وسلم لأصحابه : ( قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم ) [ أخرجه البخاري من حديث البراء بن عازب : كتاب الجهاد، باب ( 164 ) ، رقم ( 3039 ) ، ( 6/195 ) ] .
وإليكَ نماذج مما قاله الرفاعي في نصيحته عن علماء نجد كذبًا وزورًا : قال : ( سلطتم من المرتزقة الذين تحتضنونهم من رمى بالضلالة والغواية الجماعات والهيئات الإسلامية العاملة في حقل الدعوة، والناشطة لإعلاء كلمة الله تعالى، والآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، كـ " التبليغ " و " الإخوان المسلمين " ، والجماعة " الديوبندية " التي تمثل علماء الهند وباكستان وبنغلاديش، والجماعة " البريلوية " التي تمثِّل السوادَ الأعظم من عامّة المسلمين في تلك البلاد، مستخدمين في ذلك الكتب والأشرطة ونحوها، وقمتم بترجمة هذه الكتب إلى مختلف اللغات وتوزيعها بوسائلكم الكثيرة مجَّانًا، كما نشرتم كتابًا فيه تكفير أهل أبو ظبي ودُبي و " الإباضية " الذين معكم في مجلس التعاون .
أما هجومكم على الأزهر الشريف وعلمائه فقد تواتر عنكم كثيرًا . . . ) .(149/5)
وقال : ( إذا اختلف معكم أحد في موضوع أو أمر فقهيٍّ أو عقديٍّ أصدرتم كتبًا في ذمه وتبديعه أو تشريكه ) ( كذا قال ) . وقال : ( سمحتم للصغار وسفهاء الأحلام بمهاجمة السلف الصالح الأعلام لهذه الأمة، ومنهم حجة الإسلام الإمام الغزالي - رحمه الله - بعد التهجم بشتى وسائل مطبوعاتكم على الإمام أبي الحسن الأشعري وأتباعه من السواد الأعظم من المسلمين منذ مئات السنين، حيث وصفتموهم بالضالّين المضلِّين ) ، وقال : ( لا يجوز اتهام المسلمين الموحِّدين الذين يصلُّون معكم ويصومون ويزكُّون ويحجُّون البيت ملبين مرددين : " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك " لا يجوز شرعًا اتهامهم بالشرك، كما تطفح به كتبكم ومنشوراتكم، وكما يجأر خطيبكم يوم الحج الأكبر من مسجد الخيف بمنى صباح عيد الحجاج وكافة المسلمين، وكذلك يروع نظيره في المسجد الحرام يوم عيد الفطر بهذه التهجمات والافتراءات أهل مكة والمعتمرين، فانتهوا - هداكم الله - ) انتهى .
وكأنَّ الرفاعيَّ بهذا لا يرى أن عبادة القبور ودعاء الأموات وغيرهما من أنواع الشرك، الذي يصدر من كثير ممن يصومون ويصلُّون ويزكُّون ويحجُّون، لا يراه كفرًا ولا شركًا، ولا يرى أن ذلك يبطل الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الأعمال، وإذا حذَّر خطيبُ المسجد الحرام - وغيره من خطباء المسلمين - حذر المسلمين من هذا الشرك والوقوع فيه نصيحة لهم، يراه الرفاعيُّ تكفيرًا لهم واتهامًا لهم بالشرك، فما هذا الفهم المنكوس، والعقل المطموس ؟ !
وقال أيضًا : ( لقد كفَّرتم الصوفية، ثم الأشاعرة، وأنكرتم واستنكرتم تقليد واتباع المذاهب الأربعة : أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل ) .
ونقول لهذا المفتري : بأي كتاب كفّرنا هؤلاء ؟ وبأي كتاب أنكرنا اتباع المذاهب الأربعة ؟ لكن الأمر كما قيل (2).
لي حيلة فيمن يَنِمُّ ** وليس في الكذّاب حيله(149/6)
من كان يخلق ما يقول ** فحيلتي فيه قليله
ثم زاد في الكذب والافتراء فقال : ( تمنعون دفن المسلم الذي يموت خارج المدينة المنوّرة ومكة المكرمة من الدفن فيهما ) ، وقال أيضًا : ( تمنعون النساء من الوصول إلى المواجهة الشريفة أمام قبر النبي صلى الله وعليه وسلم والسلام عليه، أسوة بالرجال، ولو استطعتم لمنعتم النساء من الطواف مع محارمهن بالبيت الحرام ) .
وقال : ( دأبتم على أن تحذفوا ما لا يعجبكم ويرضيكم من كتب التراث الإسلامي التي لا تستطيعون منع دخولها المملكة؛ لأن عامة المسلمين يحتاجون إليها، وفي هذا اعتداء شرعي وقانوني على آراء المؤلفين من علماء السلف الصالح . . . ) إلى آخر غُثائه .
ولا يخفى ما في هذا من الافتراء، فنحن - والحمد لله - من أشد الناس محافظة على كتب السلف الصالح ونشرها وإحيائها .
وقال - عامله الله على ما قاله بما يستحق على افترائه وكذبه - قال : ( إن ما يحصل من مذابح ومجازر ومآسٍ تشوِّه سمعة الإسلام وتفتك بالمسلمين خاصَّة، كالتي في الجزائر ومصر، أو حدثت في الحرم المكي، ما هي إلا ثمرة خرِّيجيكم وآرائكم وقُرَّاء كتبكم ومطبوعاتكم، التي بنيت على التكفير والتشريك والتبديع وسوء الظن بالمسلمين ) .
وأقول له : لقد كذبت وافتريت، فعلماء نجد - والحمد لله - من أشدِّ الناس إنكارًا للغلو وسفك الدماء بغير حقٍّ، وما زال يصدر منهم الإنكارُ والتحذيرُ من مثل هذه الأعمال القبيحة، وانظر إلى القرارات الصادرة من هيئة كبار العلماء في هذا الموضوع، وقد نشرت في مختلف وسائل الإعلام، وانظر إلى كتبهم المقرَّرة في مراحل الدراسة، وهؤلاء الذين أشار إليهم هذا الكذّاب ممن يزاولون هذه القبائح لا يمتُّون إلى علماء نجد بصلة، ولم يتتلمذوا عليهم، وكتب علماء نجد ومطبوعاتهم بريئة كلَّ البراءة مما افتراه عليها هذا الكذّاب، وهي منشورة ومتداولة - بحمد الله - تنبئُ عن نفسها .(149/7)
وإليك صورة من بيان هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في استنكار الإرهاب والتخريب، ترد على ما افتراه هذا الكذّاب عليهم :
بيان من هيئة كبار العلماء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد :
فقد درس مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة بالطائف، ابتداء من تاريخ 2/4/1419هـ، ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها من التكفير والتفجير، وما ينشأ عنه من سفك الدماء، وتخريب المنشآت، ونظرًا إلى خطورة هذا الأمر، وما يترتَّب عليه من إزهاق أرواح بريئة، وإتلاف أموال معصومة، وإخافة للناس، وزعزعة لأمنهم واستقرارهم، فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضّح فيه حكم ذلك، نصحًا لله ولعباده، وإبراء للذِّمة، وإزالة للَّبس في المفاهيم لدى من اشتبه عليه الأمر في ذلك، فنقول وبالله التوفيق :
أولاً : التكفير حكم شرعي، مردُّه إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل، يكون كفرًا أكبر مخرجًا عن الملة .
ولما كان مردُّ حكم التكفير إلى الله ورسوله، لم يجز أن نُكفِّر إلا من دلّ الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن؛ لما يترتَّب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقلُّ مما يترتَّب على التكفير، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات، ولذلك حذّر النبيُّ صلى الله وعليه وسلم من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال : ( أيما امرئ قال لأخيه : يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه ) .(149/8)
وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر، ولا يكفر من اتصف به؛ لوجود مانع يمنع من كفره، وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتمُّ إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها كما في الإرث، سببه القرابة - مثلاً - وقد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدِّين، وهكذا الكفر يُكرَه عليه المؤمنُ فلا يكفر به . وقد ينطق المسلم بكلمة بالكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها؛ لعدم القصد، كما في قصة الذي قال : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك ) [ متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت : البخاري : كتاب الفتن، باب، رقم ( 7056 ) ، ( 13/8 ) . ومسلم : كتاب الإمارة، باب ( 8 ) ، رقم ( 4748 ) ، ( 6/432 ) ] أخطأ من شدة الفرح .
والتسرُّع في التكفير يترتَّب عليه أمور خطيرة من استحلال الدم والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح، وغيرها مما يترتَّب على الردَّة، فكيف يسوغ للمؤمن أن يُقْدِم عليه لأدنى شبهة ؟
وإذا كان هذا في ولاة الأمور كان أشدَّ؛ لما يترتَّبُ عليه من التمرُّدِ عليهم وحمل السلاح عليهم، وإشاعة الفوضى، وسفك الدماء، وفساد العباد والبلاد، ولهذا منع النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من مناذبتهم فقال : ( إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان ) [ متفق عليه بنحوه من حديث أبي بكرة . البخاري : كتاب العلم باب ( 9 ) ، رقم ( 67 ) ، ( 1/208 ) . ومسلم : كتاب القسامة باب ( 9 ) ، رقم ( 4359 ) ، ( 6/169 ) ] .
فأفاد قوله : " إلا أن تروا " : أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة .
وأفاد قوله : " كفرًا " : أنه لا يكفي الفسوق ولو كَبُرَ، كالظلم وشرب الخمر ولعب القمار، والاستئثار المحرَّم .
وأفاد قوله : " بَواحًا " : أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح، أي صريح ظاهر .(149/9)
وأفاد قوله : " عندكم فيه من الله برهان " : أنه لابدّ من دليل صريح، بحيث يكون صحيح الثبوت، صريح الدلالة، فلا يكفي الدليل ضعيف السند، ولا غامض الدلالة .
وأفاد قوله : " من الله " أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة، إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله وعليه وسلم .
وهذه القيود تدل على خطورة الأمر .
وجملة القول : أن التسرع في التكفير له خطره العظيم؛ لقول الله عز وجل : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] .
ثانيًا : ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال الخاصّة والعامة، وتفجير المساكن والمركبات، وتخريب المنشآت، فهذه الأعمال وأمثالها محرَّمة شرعًا بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة، وهتك لحرمة الأموال، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغُدوِّهم ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها .
وقد فظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم، وحرَّم انتهاكها، وشدّد في ذلك، وكان من آخر ما بلَّغ به النبيُّ صلى الله وعليه وسلم أمَّته فقال في خطبة حجة الوداع : ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ) . ثم قال صلى الله وعليه وسلم : ( ألا هل بلَّغت ؟ ، اللهم فاشهد ) [ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة : كتاب البر، باب ( 10 ) ، رقم ( 6487 ) ، ( 7/336 ) ] متفق عليه .(149/10)
وقال صلى الله وعليه وسلم : ( كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعرضُه ) [ أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله : كتاب البر، باب ( 15 ) ، رقم ( 6519 ) ، ( 7/350 ) . وهو بنحوه متفق عليه من حديث ابن عمر : البخاري ( 2447 ) ، ومسلم ( 6520 ) ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( اتقوا الظلم؛ فإن الظلمَ ظلماتٌ يوم القيامة ) [ أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو : كتاب باب ( 5 ) ، رقم ( 3166 ) ، ( 6/324 ) ] .
وقد توعَّد الله سبحانه من قتل نفسًا معصومة بأشدِّ الوعيد، فقال سبحانه في حقّ المؤمن : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } ، وقال سبحانه في حق الكافر الذي له ذمة في حكم قتل الخطأ : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [ النساء : 92 ] ، فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفارة، فكيف إذا قُتِل عمدًا ؟ فإن الجريمة تكون أعظم، والإثم يكون أكبر، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم أنه قال : ( من قتل معاهدًا لم يَرَحْ رائحة الجنة ) [ أخرجه مسلم من حديث تميم الداري : كتاب الإيمان باب ( 23 ) ، رقم ( 194 ) ، ( 1/225 ) ] .(149/11)
ثالثًا : إنّ المجلس إذ يبيِّن حكمَ تكفي الناس بغير برهان من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله وعليه وسلم، وخطورة إطلاق ذلك؛ لما يترتب عليه من شرور وآثام، فإنه يعلن للعالَم أن الإسلام بريء من هذا المعتقد الخاطئ، وأن ما يجري في بعض البلدان من سفك للدماء البريئة، وتفجير للمساكن والمركبات والمرافق العامة والخاصة، وتخريب للمنشآت، هو عمل إجرامي، والإسلام بريء منه، وهكذا كلُّ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف، وعقيدة ضالة، فهو يحمل إثمه وجرمه، فلا يحتسب عمله على الإسلام، ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام، المعتصمين بالكتاب والسنة، المستمسكين بحبل الله المتين . وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة، ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعةً بتحريمه محذرة من مصاحبة أهله، قال الله تعالى : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ البقرة : 205-206 ] .(149/12)
والواجب على جميع المسلمين في كلِّ مكان التواصي بالحق، والتناصحُ، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، كما قال الله سبحانه وتعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ المائدة : 2 ] ، وقال سبحانه : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ، [ التوبة : 71 ] ، وقال عز وجل : { وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ سورة العصر : كاملة ] .
وقال النبي صلى الله وعليه وسلم : ( الدين النصيحة ) قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال : ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم ) [ متفق عليه من حديث النعمان بن بشير : البخاري : كتاب الأدب، باب ( 27 ) ، رقم ( 6011 ) ، ( 10/538 ) . ومسلم : كتاب البر، باب ( 17 ) ، رقم ( 6529 ) ، ( 8/356 ) ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى ) [ أخرجه من حديث العرباض بن سارية : أبو داود، والترمذي وابن ماجه، وأخرجه أيضًا النسائي من حديث جابر بن عبد الله، وقد تقدم تخريجه ص4 تعليقًا ] ، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .(149/13)
ونسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلي أن يكفَّ البأس عن جميع المسلمين، وأن يوفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد وقمع الفساد والمفسدين، وأن ينصرَ بهم دينَه ويعليَ بهم كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعًا في كل مكان، وأن ينصر بهم الحق، إنّه ولي ذلك والقادر عليه . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
هيئة كبار العلماء .
وأنا أُبيِّن أهمَّ ما عابه الرفاعيُّ على علماء نجد مع الردِّ عليه؛ لأن الردَّ على الباطل وبيان الحق؛ جاء به الكتاب والسنة، وأوجبه الله على علماء الأمة، قال تعالى : { وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] ، فأقول :
1ـ عاب على علماء نجد : استدلالهم على إنكار البدع بقول النبي صلى الله وعليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة ) [ أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها : كتاب الأقضية، باب ( 8 ) ، رقم ( 4468 ) ، ( 6/242 ) . وذكره البخاري معلقًا : كتاب الاعتصام، باب ( 20 ) ( 13/387 ) . وأصله متفق عليه عنها بلفظ " من أحدث . . . " : البخاري ( 2697 ) ، ومسلم ( 4467 ) ] .
وأقول : ماذا عليهم إذا استدلوا بقول نبيهم وأنكروا البدع والضلالات، نصيحةً للأمة ومحافظة على الدين ؟ ! والنبي صلى الله وعليه وسلم يقول : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) [ أخرجه من حديث ابن عباس : أحمد : برقم ( 2030 ) ، ( 1/612 ) . وأبو داود : كتاب الجنائز، باب ( 82 ) ، رقم ( 3236 ) ، ( 3/362 ) . والترمذي : كتاب الصلاة، باب ( 121 ) ، رقم ( 320 ) ، ( 2/136 ) . والنسائي : كتاب الجنائز، باب ( 104 ) ، رقم ( 2042 ) ، ( 2/400 ) ] ، فالبدع تفضل الأمة، وتغير معالم الدين، ولا يليق بالعلماء الناصحين أن يسكتوا عنها ويتساهلوا فيها .
2ـ مما عابه على علماء نجد : منع النساء من زيارة القبور .(149/14)
وأقول : هذا أمرٌ قد منعه النبيُّ صلى الله وعليه وسلم بقوله : ( لعن الله زواراتِ القبور والمتَّخذين عليها المساجد والسُّرج ) [ أثر ابن عمر : أخرجه : مالك في الموطأ : كتاب الجامع، رقم ( 948 ) وابن أبي شيبة في مصنفه : كتاب الجنائز، باب ( 142 ) ، ( 11792 ) ، ( 3/29 ) ] وفي رواية : ( زائرات القبور ) ، وإذا لعن النبيُّ صلى الله وعليه وسلم على شيء، فإن هذا يدلُّ على تحريمه والمنع منه، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب، فماذا إذا أنكره علماء نجد ومنعوه؛ عملاً بسنة النبي صلى الله وعليه وسلم، ونصيحة لنساء الأمة، وإبعادًا لهن عن موجب اللعنة ؟ ! وإذا كان هناك من يرى جواز زيارة النساء للقبور، فرأيه هذا مردود بسنة الرسول صلى الله وعليه وسلم، ولا يلتفت إليه .
3ـ ومما عابه على علماء نجد : منع الناس من الغلو عند الحجرة النبوية .(149/15)
وأقوال : هذا المنع هو الحقُّ؛ فإن منع الغلو بالقبور، والاقتصار عند قبر النبي صلى الله وعليه وسلم وقبر غيره على السلام المشروع، كالذي كان يفعله النبي صلى الله وعليه وسلم عند مروره بالقبور أو زيارته لها وكالذي كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم مع قبر النبي صلى الله وعليه وسلم عند قدومهم من سفر، كما كان يفعله ابن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم من الاقتصار على السلام عليه (1) ؛ فهذا هو الحق والسنة، فهم بذلك متَّبعون للسنة، كما أمرهم الله بذلك، وهذا مما يحمد عليه علماء نجد، ولا يُعابون به، والحمد لله، فقد قال صلى الله وعليه وسلم : ( لا تجعلوا قبري عيدًا ) [ أخرجه مرسلاً مالك : في الموطأ : كتاب الصلاة، رقم ( 261 ) وأخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في المصنف : كتاب الجنائز، باب ( 146 ) ، رقم ( 11818 ) ، ( 3/32 ) . وعبد الرزاق في المصنف : كتاب الصلاة، رقم ( 1587 ) ، ( 1/406 ) . وروي مرفوعًا من حديث أبي سعيد، أخرجه البزار في كشف الأستار ( رقم : 440 ) ] ، وقال : ( اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد ) [ أخرجه البخاري من حديث عمر . وقد تقدم تخريجه ص10 تعليقًا ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا : عبد الله ورسوله ) [ أخرجه مرسلاً مالك : في الموطأ : كتاب الصلاة، رقم ( 261 ) وأخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في المصنف : كتاب الجنائز، باب ( 146 ) ، رقم ( 11818 ) ، ( 3/32 ) . وعبد الرزاق في المصنف : كتاب الصلاة، رقم ( 1587 ) ، ( 1/406 ) . وروي مرفوعًا من حديث أبي سعيد، أخرجه البزار في كشف الأستار ( رقم : 440 ) ] ، وقال صلى الله وعليه وسلم وهو في سياق الموت : ( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) [ أخرجه مسلم : كتاب الجنائز، باب ( 31 ) ، رقم ( 2240 ) ، ( 4/40 ) ] يحذِّر ما صنعوا، ولولا ذلك لأُبرز قبرُه صلى الله وعليه وسلم، غير(149/16)
أنه خُشِي أن يُتَّخذَ مسجدًا .
والرفاعي وأمثاله لا يرضيهم الاقتصارُ على السنة؛ لأنهم يريدون الغلوَ في القبر واتخاذه عيدًا ومحلاً للدعاء عنده، وغير ذلك من البدع .
4ـ ومما عابه عليهم : منع الغلو في الأموات عند زيارة قبورهم، والاقتصار على السلام عليهم والدعاء لهم، كما هي الزيارة المشروعة، وتذكُّرِ الآخرة بزيارتهم والاستعداد لها .
وأقول : هذا هو السنة في زيارة القبور، لا ما يفعله المشركون حولهم من الشرك بالله والغلو فيها .
وقد لعن النبي صلى الله وعليه وسلم اليهود والنصارى؛ لاتخاذهم القبور مساجد، يحذِّر ما صنعوا، ونهى عن الصلاة عند القبور والدعاء عندها، ومنع من البناء عليها وعن تجصيصها والكتابة عليها، كل ذلك من أجل منع الغلو فيها؛ لأن ذلك يصيِّرها أوثانًا تعبد من دون الله، كما حصل في الأمم السابقة وفي متأخري هذه الأمة لما غلوا في القبور .
5 ـ ومما عابه عليهم : منع البناء على القبور، عملاً بقول النبي صلى الله وعليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( لا تدع قبرًا مُشرِفًا إلا سوَّيته ) [ أخرجه مسلم من حديث جندب : كتاب المساجد، باب ( 3 ) ، رقم ( 1188 ) ، ( 3/17 ) . وهو بنحوه متفق عليه من حديث جماعة من الصحابة ] ، وقوله صلى الله وعليه وسلم : ( إن من كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ) [ أخرجه بهذا اللفظ مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري : كتاب الصلاة، باب ( 17 ) ، رقم ( 906 ) ، ( 2/344 ) ] وذلك لأن هذا من وسائل الشرك، فهم منعوه عملاً بسنة نبيهم صلى الله وعليه وسلم، ولو كره المشركون والمبتدعة والمخرفون، فعلماء نجد وغيرهم يتَّبعون هدي الرسول صلى الله وعليه وسلم في القبور، ويخالفون المبتدعة والمشركين .(149/17)
6 ـ ومما عابه عليهم : منع كتاب " دلائل الخيرات " وأمثاله من الكتب الضالة من دخول المملكة؛ لما فيه من الشركيات، والغلو في حقِّ النبي صلى الله وعليه وسلم .
وأوقل : هذا هو الواجب، وذلك لحماية عقائد المسلمين من الغلو الذي حذّر منه صلى الله وعليه وسلم، وقد علَّمنا صلى الله وعليه وسلم كيف نصلي عليه، فقال : ( قولوا : اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد . . . ) [ أخرجه من حديث العرباض بن سارية : أبو داود : كتاب السنة، باب ( 6 ) ، رقم ( 4607 ) ، ( 5/12 ) . والترمذي : كتاب العلم، باب ( 16 ) ، رقم ( 2681 ) ، ( 5/44 ) . وابن ماجه : كتاب المقدمة، باب ( 1 ) ، رقم ( 42 ) ، ( 1/30 ) ] إلى آخر الحديث، فلسنا بحاجة إلى صلاة مبتدعة في كتاب " دلائل الخيرات " أو غيره، وإنما نصلي عليه كما أمرنا وعلّمنا، صلوات الله وسلامه عليه، وفي ذلك الخير والاتباع، وما عداه فهو الشر والابتداع .
7 ـ ومما عابه عليهم : منع الاحتفال بمناسبة مولد النبي صلى الله وعليه وسلم .(149/18)
وأقول : منعهم لهذا الاحتفال؛ لأنه بدعة لم يفعله صلى الله وعليه وسلم، ولا أحد من أصحابه والتابعين لهم بإحسان، وقد قال صلى الله وعليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) [ وذلك في أثر سؤال أبي مالك الأشجعي لأبيه، فقال : أي بني، محدث . أخرجه : الترمذي : كتاب الصلاة، باب ( 178 ) ، رقم ( 402 ) ، ( 2/252 ) . والنسائي : كتاب التطبيق، باب ( 32 ) ، رقم ( 1079 ) ، ( 1/549 ) . وابن ماجه : كتاب إقامة الصلاة، باب ( 145 ) ، رقم ( 2141 ) ، ( 2/80 ) ] . ويدخل في ذلك بدعة الاحتفال بمناسبة المولد، فمن فعله فهو مبتدع، ونحن وغيرنا من أهل السنة في كافة الأقطار ننكره ونحذر منه ونم غيره من البدع . والاحتفال بأعياد الموالد من إحداث الشيعة العبيديين ومن قلّدهم من المتصوفة والقبورية، والاحتفال بمناسبة مولد النبي صلى الله وعليه وسلم لم يفعله النبي صلى الله وعليه وسلم ولا صحابته ولا القرون المفضلة .
8 ـ ومما عابه عليهم : تركهم للقنوات في صلاة الفجر، إلا في حال النوازل .
وأقول : منعهم له؛ لأنه لا دليل عليه في غير هذه الحال، ولا يقول به جمهور علماء الأمة، والواجب اتباع الدليل، ولما سئل عنه بعض الصحابة قال : إنه محدث (2). وخير الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها . والله تعالى يقول : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] ، والسنة القنوت في صلاة الوتر، وفي الفرائض عند النوازل، كما كان يفعل النبيُّ صلى الله وعليه وسلم، والمرجع في هذا إلى الأحاديث الصحيحة .
ومن خالفها من أصحاب المذاهب فلا عبرة بخلافه، كما قال الشاعر (3) :(149/19)
وليس كلُّ خلافٍ جاء معتبرًا ** إلا خلاف له حظٌّ من النَّظرِ
وقال آخر(4):
العلم قال الله قال رسوله ** قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلمُ نَصبُكَ للخلاف سفاحةً ** بين النصوص وبين رأي فقيه
كلا ولا نصب الخلاف جهالة ** بين الرسول وبين قول فقيه
كلا ولا ردُّ النصوص تعمُّدًا ** حذرًا من التجسيم والتشبيه
حاشا النصوصَ من الذي رُميت به ** من فرقة التعطيل والتمويه
وقال الإمام ابن القيم في النونية :
العلم قال الله قال رسوله ** قال الصحابة هم أولو العرفان
ما لم نصبك للخلاف سفاهك ** بين النصوص وبين رأي فلان
9 ـ ومما عابه عليهم : منعهم من إحياء الآثار المنسوبة للنبي صلى الله وعليه وسلم، أو لأحد أصحابه .
وأقول : هذا المنع متعيِّن؛ من أجل سدّ الطرق المفضية إلى الشرك، من التبرك بها، والاعتقاد فيها . وهذا هو عمل النبي صلى الله وعليه وسلم وأصحابه معها، فلم يكونوا مهتمين بهذه الآثار ولا يذهبون إليها، فلم يكن صلى الله وعليه وسلم بعد البعثة يذهب إلى غار حراء، ولا إلى غار ثور، ولا إلى موضع غزوة بدر، ولا إلى المكان الذي ولد فيه من مكة، ولا كان يفعل ذلك أحد من أصحابه، بل إن عمر رضي الله عنه قطع الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان عام الحديبية، لمّا رأى بعض الناس يذهبون إليها، فقطعها خشية الغلو بها (5) ، ولما قال بعض الصحابة حديثي العهد بالكفر للنبي صلى الله وعليه وسلم : ( اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط ) أي : شجرة يتبركون بها كما يفعله المشركون، قال : ( الله أكبر، إنها السنن ! قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] [ كما في حديث أنس : كتاب الجهاد، باب ( 27 ) ، رقم ( 4585 ) ( 6/329 ) ولفظه : أن نبي الله صلى الله وعليه وسلم كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كلِّ جبَّار، يدعوهم إلى الله تعالى ] " .(149/20)
فالتبرك بالآثار وإحياؤها وسيلة إلى الشرك، وعبادة غير الله سبحانه وتعالى، كما حصل لقوم نوح لما غلوا بآثار الصالحين، حتى آل بهم الأمر إلى عبادتها من دون الله عز وجل، وهذا ما أنكره علماء نجد وغيرهم من أهل السنة، وإذا عمل على إحيائها وتتبعها أدّى هذا إلى الشرك، ولو كان ذلك بحجة أنها آثار أنبياء أو أناس صالحين، وما هلك من هلك من الأمم إلا بتتبُّع آثار أنبيائهم في الأرض والغلو فيها وترك اتباع آثارهم الشرعية من أقوالهم وأفعالهم، وهذا ما يريده شياطين الإنس والجن .
10ـ ومما عابه عليهم : منع كتابة بردة البوصيري على الجدران .
وأقول : هذا المنع هو الصواب؛ لما فيها وفي أمثالها من الغلوِّ والشركيات التي لا تخفى على ذي بصيرة، مثل قوله في حق النبي صلى الله وعليه وسلم : ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم، وقوله : إن الدنيا والآخرة من جود النبي صلى الله وعليه وسلم، وإن ما كتبه القلم في اللوح المحفوظ هو بعض علم النبي صلى الله وعليه وسلم ! إلى غير ذلك من الكفريات والشركيات التي جرّه إليها الغلو . والكتابة على الجدران، لا سيما في المساجد، ليس من هدي الإسلام، ولو خلت من الشرك لأنها تشغل المصلين، فما بالك إذا اشتملت على الشرك ؟ وهل كتابتها على الجدران ونحوها إلا إعلان للشرك الصريح ودعوة إليه ؟ فالواجب منع كتابتها وأمثالها، ومنع تداولها، وإتلاف المكتوب منها .
11ـ ومما عابه عليهم : فصل النساء عن الرجال في المسجد الحرام والمسجد النبوي وفي غيرهما من المساجد .(149/21)
وأقول : هذا المنع واجب؛ عملاً بسنة النبي صلى الله وعليه وسلم، حيث كانت النساء تقف في عهده صلى الله وعليه وسلم خلف صفوف الرجال، ولأجل صيانتهن وصيانة الرجال من الفتنة والافتتان بها، فماذا على علماء نجد في ذلك ؟ هل يريد الرفاعي اختلاط النساء بالرجال وانتشار الفتنة وشيوع الفاحشة ؟ ! أو ماذا يريد ؟ ! ألم يكفه ما وصلت إليه أكثر المجتمعات من انحدار وانسلاخ ؟ !
12ـ قال : إن علماء نجد يتركون المذهب الحنبليَّ، وينكرون اتباع المذاهب الأربعة؛ ادِّعاء للسلفية .
وأقول : هذا كذب عليهم؛ لأنهم لم يتركوا المذهب الحنبلي، وإنما يعملون بما قام عليه الدليل منه ومن غيره من المذاهب الأربعة، ولا يقلِّدون تقليدًا أعمى، وهذا ما أوصى به الأئمة الأربعة وغيرهم - رحمهم الله - كما هو معلوم من كلامهم، واتّباع المذهب الحنبلي أو غير من المذاهب الأربعة لا يتعارض مع السلفية، كما نسب الرفاعي إلى علماء نجد أنهم يرونه مخالفًا للسلفية . بل هو عين السلفية، وعلماء نجد حنابلة يُدّرِّسون المذهب الحنبلي، ويفتون ويقضون به فيما لم يخالف الدليل، فهم مسلمون حنابلة سلفيُّون، وكل من اتبع الدليل واتبع سنة الرسول صلى الله وعليه وسلم فهو سلفي، سواء كان حنبليًا أو غير حنبلي، ولما سئل النبي صلى الله وعليه وسلم عن الفرقة الناجية : من هم ؟ قال : ( هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي ) .
13ـ وكذلك من العجائب : ما استنكره الرفاعي من تعليقات الشيخ ابن باز - رحمه الله - على كتاب : " فتح الباري " .(149/22)
وأقول : هذا لا نكارة فيه . . فما زال العلماء يعلّقون على الكتب، ويبيِّنون الحقَّ للناس من الخطأ، سواء كان الخطأ في " فتح الباري " أو في غيره، فليس هناك كتاب معصوم من الخطأ إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله وعليه وسلم، وأسوق خبرًا إلى الرفاعي وغيره، وهو أن حاشية الشيخ ابن باز على " فتح الباري " قد يسّر الله إكمالها إلى آخر الكتاب على يد بعض المشايخ من تلامذة الشيخ ابن باز، وستظهر قريبًا إن شاء الله كاملة .
وأما القسم الثاني ممايتضمنه ما سُمِّي بالنصيحة، فهو كذب وبهتان، والجواب عنه أن نقول كما قال سبحانه وتعالى : { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النور : 16 ] . وذلك مثل قوله :
1ـ إن علماء نجد يكفِّرون المسلمين ويتَّهمونهم بالشرك .
وأقول : سبب هذا الاتهام لعلماء نجد عند الرفاعي لأنهم يوزّعون الكتب التي فيها التحذير من الشرك والكفر، ويرى الرفاعي أن إرسال علماء نجد للدعاة إنما هو للإرهاب والتدمير والتكفير، كذا قال الرفاعي، عامله الله بما يستحق .(149/23)
وهذا كذب؛ لأن علماء نجد لا يكفرون إلا من دل الكتاب والسنة على تكفيره، كمن يدعو غير الله أو يستغيث بالأموات والغائبين، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء، وأما توزيعهم للكتب التي فيها التحذير من الشرك والكفر والبدع، فهذا من النصيحة للمسلمين وتبصيرهم بدين الله، ولا يعني هذا أنهم يكفرون من لم يقم الدليل الصحيح على كفره، وإنما هو من باب التنبيه والتحذير والمحافظة على العقيدة . ومن أجل هذه المهمة يرسلون الدعاة إلى الله لتعليم الناس أمور دينهم، والدعوة إلى الإسلام، والعمل بالسنة، وترك البدع والمحدثات - ولم يرسلوهم لإثارة الفتنة كما زعم الرفاعي، والبوطي في مقدمته - ولهم في ذلك قدوة فقد كان الرسول صلى الله وعليه وسلم يرسل الدعاة إلى الله، كما أرسل معاذًا إلى اليمن وغيره من الدعاة إلى الأقطار، وكان صلى الله وعليه وسلم يكاتب الملوك والرؤساء (6) ، فلهم به أسوة .
وأما المخرّبون الذين يروّعون الناس، ويقتلون الأبرياء، ويُحدِثون الرعب باسم الدعوة إلى الإسلام، فهؤلاء لا صلة لهم بعلماء نجد ولا بغيرهم من علماء السنة، وعلماء نجد بُرَءاءُ منهم، وإنما ألصقهم الرفاعي بعلماء نجد من أجل التشويه والكذب، ولم ترسل الحكومة السعودية - ولله الحمد - للدعوة إلى الله إلا من تثق بعلمه ودينه وأمانته، وهذا معروف - ولله الحمد - لدى كل منصف، ودعاتهم متميِّزون بالعلم وصحة العقيدة والإخلاص في الدعوة .
2 ـ ومن الكذب الصريح قول الرفاعي : إن علماء نجد يمنعون التدريس في الحرمين إلا من يوافق مذهبهم .(149/24)
وأقول : هذا من الكذب الواضح، فالتدريس في الحرمين - ولله الحمد - وفي غيرهما من مساجد المملكة، لا يزال قائمًا على خير ما يرام، ولم يمنع من التدريس إلا من ليس معه مؤهل علمي ومن كان مبتدعًا معروفًا بذلك، أو مخرِّفًا في عقيدته، فمثل هذا منعه حقٌّ وواجب؛ حمايةً لعقيدة المسلمين، وتلافيًا لنشر البدع والخرافات، وكان السلف يمنعون دعاة السوء من نشر دعوتهم وشرهم، كما هو معروف في كتب التاريخ والسير .
3ـ ومن كذبه قوله : إن علماء نجد يمنعون من زيارة القبور .
وأقول : وهذا كذب واضح؛ لأنهم لا يمنعون الزيارة الشرعية، ولكنهم يمنعون الزيارة البدعية والشركية التي فيها دعاء الأموات والاستغاثة بهم، كما منعها النبي صلى الله وعليه وسلم، ومنع غيرها من الشرك ووسائله، وعلَّمنا صلى الله وعليه وسلم ما نقول إذا زرنا القبور من السلام على الأموات والدعاء لهم (7) ، هذا ونسأل الله لنا وللأستاذ الرفاعي والدكتور البوطي وسائر المسلمين الهداية للحق وقبوله، وأن يجعلنا جميعًا من العاملين بقوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] ، فزيارة القبور على قسمين : زيارة شرعية؛ وهذه سنة . وزيارة شركية وبدعية، وهذه يجب منعُها .
4 ـ وأما قول الرفاعي : إنهم غيّروا اسم المدينة، من المدينة المنوَّرة إلى المدينة النبوية .
فالجواب عنه :
أولاً : أن اسم المدينة جاء في الكتاب والسنة مجردًا من أي وصف، لا بالمنورة ولا بالنبوية، كما قال تعالى : { مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم } الآية [ التوبة : 12 ] ، وقال النبي صلى الله وعليه وسلم : ( المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ) [ انظر مواضع بعض الأحاديث الواردة في ذلك في " المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي " ( 8/322 ) ] .(149/25)
وثانيًا : أن وصفُها بالنبوية أشرفُ وأولى من وصفها بالمنورة؛ لأن النبي صلى الله وعليه وسلم هاجر إليها وسكن فيها، ولهذا كان العلماء يسمونها دار الهجرة، ومدينة الرسول، وسماها النبي صلى الله وعليه وسلم : طيبة، وطابة، كما هو معروف في كتب السنة (8) ، وليس فيها تسميتها بالمدينة المنوَّرة، والأمر في هذا سهل وواسع، لا مجال فيه للنقد إلا عند صاحب الهوى .
5 ـ يعيب الرفاعي على حُكَّام المملكة قتل المفسدين في الأرض بترويج المخدَّرات؛ عملاً بقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ } الآية [ المائدة : 33 ] ، حيث قال الرفاعي في نصيحته : ( وطوعتموها - يعني الآية المذكورة - لضرب أعناق الأغرار من الغرباء والمستضعفين، ولو بقطعة حشيش أو قات . . . كأنكم تناسيتم ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم : ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود ) [ انظر : سبل السلام ( 7/228 ) : كتاب الحدود، باب التعزير ] ، إلى أن قال : ونسيتم قوله تعالى : { مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ } الآية [ المائدة : 32 ] . انتهى كلامه .
فانظر كيف يستدل بما هو مخالف لما يقوله ؟ ! لأنه قال سبحانه : { أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ } ، ومَن أعظم فسادًا ممن يروّج المخدرات ؟ ! ولم يقتل في المملكة من عنده قطعة حشيش أو قات - كما قال الرفاعي كذبًا وبهتانًا - وإنما يقتل المروّج للمخدرات؛ حماية للمجتمع المسلم من الفساد والإفساد، وعملاً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية . كما يستنكر الرفاعي إقامة الحد على السحرة بقتلهم، مع أنهم إنما قتلوا لكفرهم وإفسادهم وتطهير الأرض من شرهم .
فكيف يتأسف الرفاعي على قتل هؤلاء المفسدين المجرمين الذين يدمّرون الشعوب ويخرِّبون البلاد ؟(149/26)
بل لم يتقصر الحكم بقتلهم على المملكة العربية السعودية، فكل دول العالم حتى الدول الكافرة تقتل المروِّجين للمخدرات؛ دفعًا لشرِّهم وإفسادهم .
فالرفاعي يشفق على هؤلاء المجرمين المفسدين، ولا يشفق على الشعوب التي يفتك بها هؤلاء فسادًا ودمارًا، ويستدل الرفاعي لقوله هذا بحديث : ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود ) . فيعتبر المفسدين في الأرض من ذوي الهيئات، ويعتبر ترويج المخدِّرات من العثرات اليسيرة التي يُقال أصحابُها، ونسي أو تناسى أنهم ينطبق عليهم حدٌّ الحِرابة والإفساد في الأرض المذكور في الآية الكريمة، وأن الحديث المذكور خاصٌّ بالتعزير؛ بدليل قوله صلى الله وعليه وسلم : " إلا في الحدود " . على أن التعزيرَ قد يصل إلى القتل إذا لم يرتدع المخالف عن مخالفته إلا به؛ لأنه أصبح من المفسدين في الأرض، كما ذكر ذلك المحقِّقون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره .
مع العلم بأن هذا الحديث الذي استدلَّ به وإن جاء من عدة طرق، فإنها كلها لا تخلو من مقال؛ كما قال ذلك الصنعاني رحمه الله، في كتاب : " سبل السلام شرح بلوغ المرام " (9) ، وليت الرفاعي صرف عطفَه وشفقتَه إلى ضحايا هؤلاء المفسدين الذين فسدت عقولُهم وأبدانُهم، حتى أفضوا إلى الموت، أو أصبحوا عالة على مجتمعاتهم بسبب هؤلاء المفسدين المروِّجين للمخدَّرات في المجتمعات البشرية، بدلاً من أن يعطف ويشفق على المفسدين في الأرض من السحرة ومروجي المخدرات، ولكن حمله على هذا الحقدُ الأسود الذي يقلب الموازين، فيجعل الحقَّ باطلاً، والباطلَ حقًّا، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
6 ـ كذب البوطي في مقدمته على معالي الدكتور :
عبد الله بن عبد المحسن التركي، حيث قال : إنه اتفق معه على تشكيل لجنة للتحاور في حلِّ الوضع السيئ الذي عليه علماء نجد - بزعمه - ثم قال : لكن لم يتم هذا التشكيل .(149/27)
وقد سألت الدكتور عبد الله التركي عن صحة هذا الكلام الذي قاله عنه، فأجاب حفظه الله بخطه بأن : ( ما ذكر غير صحيح، وليس بمستغرب، مادام الكلام - والعياذ بالله - ضلالاً وافتراءً على الإسلام وأهله السائرين على منهاج النبوة، والمتابعين لمن سلف من صالحي الأمة ) انتهى ما قاله الدكتور عبد الله التركي - حفظه الله - في رد هذه الفرية .
وقد قال تعالى : { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ النحل : 105 ] ، ولكن هؤلاء لا يتحاشون الكذبَ في نصرة باطلهم، ويرون أن الغاية تبرِّرُ الوسيلةَ، وبئست الغاية وبئست الوسيلة، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وختامًا : هذا ما أحببنا التنبيه عليه مما احتوت عليه نصيحة الأستاذ الرفاعي، وهو تنبيه على سبيل الاختصار، وندعو الأستاذ الرفاعي وزميله البوطيَّ، إلى الرجوع إلى الحق، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، والله يتوب على من تاب .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين .
قائمة المصادر والمراجع
ملحوظة : ( رتبت هذه القائمة على حسب أسبقية ذكرها في الكتاب ) .
1 ـ القرآن الكريم
2 ـ سنن أبي داود
3 ـ سنن الترمذي
4 ـ سنن ابن ماجه
5 ـ سنن النسائي
6 ـ صحيح مسلم
7 ـ موطأ مالك
8 ـ مجموع الفتاوى لابن تيمية
9 ـ مسند الإمام أحمد
10 ـ صحيح البخاري
11 ـ بهجة المجالس لابن عبد البر
12 ـ معجم الأدباء لياقوت الحموي
13 ـ نكت الهميان للصفدي
14 ـ طبقات الشافعية لابن السبكي
15 ـ غذاء الألباب للسفاريني
16 ـ مصنف ابن أبي شيبة
17 ـ مصنف عبد الرزاق
18 ـ كشف الأستار للبزار
19 ـ المكي والمدني من سور القرآن لأبي الحسن ابن القصار علي بن أحمد
20 ـ الإتقان للسيوطي
21 ـ إيقاظ همم أولي الأبصار للشيخ صالح بن محمد الفلَّاني
22 ـ الأثر في كتاب البدع والنهي عنها لابن وضاح(149/28)
23 ـ المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي لمحمد فؤاد عبد الباقي
24 ـ سبل السلام للصنعاني(149/29)
البيان لأخطاء بعض الكتاب
الشيخ صالح الفوزان
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
وبعد :
فهذه مجموعة من الردود والمناقشات سبق لي نشرها في الجرائد والمجلات المحلية وغير المحلية، رأيت أن أجمعها في هذا الكتاب؛ طمعا في بقاء فائدتها .
وأسأل الله عز وجل أن يثيبني على ما فيها من صواب، ويغفر لي ما كان فيها من خطأ؛ إنه سميع مجيب .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
المؤلف
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=2 - TOP#TOP ( 1 ) حول التعليم والمناهج
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=2 - TOP#TOP فضل تعلم العلم وتعليمه والرد على بعض الأفكار المنحرفة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .
وبعد :
فإن أحق ما تصرف فيه الأوقات، ويتنافس في نيله ذوو العقول : تعلم العلم النافع، الذي به تحيا القلوب، وتستقيم الأعمال، وتزكو به الخلال .
ولقد أثنى الله جل ذكره وتقدست أسماؤه على العلماء العاملين، ورفع من شأنهم في آيات كثيرة من كتابه الكريم، من ذلك قوله سبحانه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } .
فنفى سبحانه التسوية بين أهل العلم وبين غيرهم، وذلك يقتضي تفضيلهم على من سواهم .
وقال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
فأخبر سبحانه عن رفعة درجات أهل العلم والإيمان خاصة .
وأمر سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله الزيادة من العلم بقوله : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي علمًا } .
قال الحافظ ابن حجر :
" وهذا واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله لم يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم " ا . هـ .(150/1)
ومما يدل على فضل تعلم العلم النافع حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سلك الله له به طريقًا إلى الجنة ) .
الحديث رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه .
وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - مجالس العلم وحلقات الذكر : رياض الجنة، وأخبر أن العلماء هم ورثة الأنبياء . . .
ولو ذهبنا نتتبع ما جاء في فضل العلم من الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة، لطال بنا المقال، فنكتفي من ذلك بما تحصل به الإشارة .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=2 - TOP#TOP أنواع العلوم وحكم تعلمها :
العلم قسمان : علم نافع، وعلم ضار .
والنافع ينقسم إلى قسمين :
ما نفعه يتعدى ويستمر في الدنيا والآخرة، وهو العلم الديني الشرعي .
وما نفعه جزئي وقاصر على الحياة الدنيا، كتعلم الصناعات، وهو العلم الدنيوي .
والعلم الشرعي قسمان : علم التوحيد الذي هو الأصل، وعلم الفروع الذي هو الفقه وما يتعلق به .
وأما العلم الضار، فكعلم السحر، وعلم التنجيم الذي هو علم التأثير .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن يحيى بن عمار أنه قال :
" العلوم خمسة : علم هو حياة الدين وهو علم التوحيد، وعلم هو غذاء الدين وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث، وعلم هو دواء الدين وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه منها، كما قال ابن مسعود، وعلم هو داء الدين وهو الكلام المحدث، وعلم هو هلاك الدين وهو علم السحر ونحوه " .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=2 - TOP#TOP حكم تعلم هذه العلوم :
1 - تعلم العلم الشرعي ينقسم إلى قسمين : ما هو فرض عين، وما هو فرض كفاية .(150/2)
فالذي تعلمه فرض عين هو ما لا يسع أحدا جهله، مما لا يستقيم دين الإنسان بدونه، وذلك كعلم التوحيد الذي يتضمن معرفة حق الله على عباده، من عبادته وحده لا شريك له، وما يجب إثباته له من الأسماء والصفات، وما يجب تنزيهه عنه من النقائص والعيوب . وكذا تعلم أحكام العبادات مما لا تصح العبادة بدونه، من الصلاة، وزكاة، وصيام، وحج .
والذي تعلمه فرض كفاية هو ما زاد عن ذلك، من أحكام المعاملات، والمواريث، والأنكحة، والجنايات . . . وما إلى ذلك، فهذا القسم إذا قام به من يكفي، سقط الإثم عن الباقين، ويبقى تعلمه في حقهم من أفضل أنواع التطوع .
ويلتحق بالعلم الديني ما يستعان به عليه، كعلم النحو، واللغة، والتاريخ، والحساب .
2 - وأما تعلم العلم الدنيوي، كتعلم الصناعة، فهذا يشرع إن كان بالمسلمين حاجة إليه، وإن لم يكن هناك حاجة، فهو مباح، بشرط أن لا يزاحم العلوم الشرعية، وأن لا يكون من تعلم الصناعات المحرمة، كصناعة آلات اللهو، وآلات التصوير المحرم، وعلم الموسيقى .
3 - وأما العلم الضار، فيحرم تعلمه، بل قد يكون كفرا، كتعلم السحر، قال تعالى : { وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } الآية .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=2 - TOP#TOP العلم والعمل :
العلم النافع والعمل الصالح قرينان لا يصلح أحدهما بدون الآخر، قال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } .
فالهدى : هو العلم النافع . ودين الحق : هو العمل الصالح . والناس بالنسبة لهما أقسام :
القسم الأول : الذين جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح، وهؤلاء قد هداهم الله صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا .
القسم الثاني : الذين تعلموا العلم النافع، ولم يعملوا به، معهم علم بدون عمل، وهؤلاء على طريقة المغضوب عليهم .(150/3)
القسم الثالث : الذين يعملون بلا علم، وهؤلاء أهل الضلال، وهم النصارى .
فالحاصل أن الأقسام ثلاثة : أهل العلم والعمل، أهل علم بلا عمل، أهل عمل بلا علم .
ويشمل الأقسام الثلاثة قوله تعالى : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } . . . إلى قوله : { وَلاَ الضَّالِّينَ } من سورة الفاتحة .
ذقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - :
" وأما قوله : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ، فالمغضوب عليهم : هم العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون : العاملون بلا علم . فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى .
وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقرأ أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات .
فيا سبحان الله ! كيف يعلمه ويختار له ويفرض عليه أن يدعو ربه دائما مع أنه لا حذر عليه منه، ولا يتصور أن فعله هذا هو ظن السوء بالله " ا . هـ .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=2 - TOP#TOP من أين يستمد العلم النافع :
يستمد العلم النافع من الكتاب والسنة، تفهما وتدبرا، مع الاستعانة على ذلك بكتب التوحيد والتفسير وشروح الحديث وكتب الفقه وكتب النحو واللغة، فإن قراءة هذه الكتب طريق لفهم الكتاب والسنة .(150/4)
ولكن ينبغي التنبه لدسيسة خبيثة راجت عند كثيرين من الشباب على أيدي بعض المغرضين الذين يتسمون بالموجهين وبالمفكرين، صرفوا بها أكثر الشباب عن الكتب النافعة، وتلك الدسيسة هي قولهم مثلا عن كتب التوحيد التي تتضمن بيان مذهب السلف الصالح وأتباعهم في أسماء الله وصفاته، والرد على المعطلة من جهمية ومعتزلة وأفراخهم، والتي تتضمن بيان توحيد العبادة، وما يناقضه أو ينقصه من الشرك، يقولون : إن هذه كتب قديمة ترد على قوم قد هلكوا، وتناقش شبها قد انقرضت، فينبغي أن نتركها ونشتغل برد المذاهب المنحرفة الجديدة، كالشيوعية، والبعثية . . . وما إليها . ويقولون عن كتب الفقه مثلا : إنها كتب معقدة، وفيها افتراضات بعيدة الوقوع، نتركها ونستنبط من الكتاب والسنة حلولا لمشاكلنا . . . إلى آخر ما يقولون .
والجواب عن ذلك من وجوه :
1 - أننا إذا تركنا هذه الكتب، ما استطعنا الرد على تلك المذاهب الجديدة، لأن هذه الكتب تعلمنا طريقة الرد، وكيفية الاستدلال، فإذا تركناها، كنا بمنزلة من يلقي سلاحه ويلقى عدوه بلا سلاح، فماذا تكون نتيجته إذن ؟ ! إنها الهزيمة والقتل أو الأسر .
2 - إن الطوائف التي ترد عليها كتب التوحيد لم تنقرض، بل لها أتباع موجودون يعتنقون ما كانت عليه، من تعطيل الأسماء والصفات، وتأويلها، والإشراك في العبادة، يتكلمون بذلك وينشرونه في مؤلفاتهم وتعليقاتهم على الكتب المطبوعة، فكيف يقال : إن هذه الطوائف انقرضت ؟ !
3 - وعلى فرض أن هذه الطوائف الضالة انقرضت، ولم يبق لها أتباع، فالشبه والتأويلات التي ضلت بسببها موجودة في الكتب الموروثة عنها، والتي يخشى من وقوعها في أيدي من لا يعرف حقيقتها، فيضل بسببها، أو تقع بأيدي مضللين يضلون بها الناس، فلا بد من دراسة ما يضادها ويبين بطلانها من كتب أهل السنة والجماعة .(150/5)
4 - أن المذاهب المنحرفة الجديدة في الغالب منحدرة من مذاهب منحرفة قديمة، قد رد عليها العلماء السابقون في كتبهم، فإذا عرفنا بطلان القديم، عرفنا بطلان ما انحدر عنه .
5 - على فرض أن هذه المذاهب الجديدة ليس لها أصل في القديم، فلا منافاة بين رد الباطل القديم ورد الباطل الجديد، لئلا يغتر بهما، فالباطل يجب رده حيث كان، قديمه وحديثه، والله تعالى ذكر في القرآن ما كان عليه الكفرة السابقون، وما كان عليه الكفرة المتأخرون، ورد على الجميع .
6 - وأما قولهم عن كتب الفقه : " إنها معقدة الأسلوب، وفيها افتراضات غريبة " ، فهذا إن صح إنما يصدق على بعض المتون لأجل الاختصار، وهي قد بسطت في شروحها ووضحت، فزال التعقيد .
وأما الافتراضات، فهي حلول لمشاكل يتصور وقوعها، فهي رصيد ثمين للأمة، مستنبط من الكتاب والسنة، لا يستهان به .
فكتب أسلافنا هي ذخيرتنا التي يجب أن نحافظ عليها، وأن نستفيد منها، ولا ننخدع بدسائس الأعداء المغرضين الذين ساءهم ما في هذه الكتب من بيان الحق ورد الباطل الذي ورثوه عن أسلافهم من جهمية ومعتزلة، فراحوا يثيرون الشبه حولها، ويزهدون فيها، { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } .
ولكن، لا يزال - ولله الحمد - من أهل الحق بقية لا تنطلي عليهم هذه الدعايات الزائفة ضد تراثهم المجيد .
وقد قيض الله لهذه البلاد - ولله الحمد - جامعات إسلامية تقوم على دراسة التراث الإسلامي وإحياؤه ونشره - متمثلا ذلك في مناهجها الدراسية -، وتحقيق الكتب السلفية، وطبعها، وتوزيعها، كجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة أم القري، وكذا ما تقوم به الجامعات الأخرى في المملكة وغيرها من جهد مشكور في هذا السبيل .
نسأل الله أن يعين القائمين عليها ويثيبهم .(150/6)
وختاما، أوصي إخواني المعلمين والمتعلمين بتقوى الله سبحانه، فالله يقول : { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ } ، و { كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } ، وأن يخلصوا النية لله في تعلمهم وتعليمهم .
والله أسأل أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=2 - TOP#TOP طريق الوصول إلى العلم النافع
الحمد لله الذي جعل العلماء ورثة الأنبياء يخلفونهم في تعليم العلم النافع نقيا من تحريف الجاهلين وانتحال المبطلين . وصلى الله وسلم على نبينا محمد والله وصحبه أجمعين . . وبعد . .(150/7)
فإن الله سبحانه وتعالى عظم من شأن العلماء العاملين . فقال سبحانه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وقال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليله البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثه الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذة أخذ بحظ وافر ) والنصوص في هذا المعنى كثيرة مشهورة وفيها الحث على تعلم العلم وتعليمه لأنه لا يصلح أمر الدنيا والآخرة إلا به . ولهذا أمر الله سبحانه بتعلم العلم قبل القول والعمل قال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فلا يحل لأحد أن يقول في مسائل الدين وأحكام الحلال والحرام بدون علم لأن ذلك قول على الله سبحانه بلا علم وقد حرم الله ذلك أشد التحريم بل جعله قرينًا للشرك . قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فيلزم الجاهل أن يتعلم من العالم .
وتعلم العلم على نوعين :
النوع الأول : فرض على الأعيان لا يعذر أحد بتركه وهو تعلم ما يستقيم به دينه وتصلح به عقيدته وصلاته وزكاته وصيامه وحجه وعمرته فتعلم هذه الأمور واجب على كل شخص بعينه .
النوع الثاني : ما زاد عما ذكر كأحكام المعاملات والمواريث والأنكحه والقضاء فهذا تعلمه واجب على الكفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين وإن تركه الكل أثموا .(150/8)
وتعلم العلم بنوعيه العيني والكفائي إنما يتلقى عن العلماء الثقاة الذين حملوه بأمانة، قال - صلى الله عليه وسلم - ( يحمل هذا العلم في كل خلف عُدُولُه ) وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( العلماء ورثة الأنبياء ) فكما أن العلم يتلقى عن الأنبياء حال وجودهم في الناس فكذلك يتلقى عن خلفائهم وورثتهم بعد موتهم وهم العلماء ولا تخلو الأرض – ولله الحمد - في كل وقت من قائم منهم لله بحجه .
فيجب على المسلمين أن يتلقوا العلم عنهم ويعملوا بتوجيهاتهم – لكننا في هذه السنوات الأخيرة مع الأسف الشديد – نرى كثيرًا ممن يرغبون في العلم خصوصًا الشباب قد عدلوا في هذه الطريقة فعدلوا عن تلقي العلم عن العلماء الثقات إلى تلقي العلم إما عن أناس جهال لا يعرفون مدارك الأحكام ومناط الحلال والحرام وإما عن أناس غير معروفين بالثقة والأصالة في العقيدة الصحيحة . ولا شك أن هذا الصنيع سيئول بهم إلى ما لا تحمد عقباه قال بعض السلف " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من علمائهم وكبرائهم وذوي أسنانهم فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفهائهم فقد هلكوا " .
فيا شباب المسلمين ويا طلبة العلم اتصلوا بعلمائكم وارتبطوا بهم وتلقوا العلم عنهم ارتبطوا بالعلماء الثقات المعروفين بسلامة المعتقد وسلامة الاتجاه لتأخذوا عنهم العلم وتصلوا السلسلة بنبيكم - صلى الله عليه وسلم - كما كان أسلافكم على ذلك فما زال المسلمون يتلقون هذا العلم عن نبيهم بواسطة علمائهم جيلًا بعد جيل .(150/9)
هؤلاء الذين تحدثنا عنهم صنف وهناك صنف آخر من المتعلمين يتلقى العلم عن الكتب ولا يتصل بالعلماء زاعمًا أنه يستغني بتلك الكتب عن العلماء وهذا خطأ عظيم ويترتب عليه خطر كبير لأن الكتب ما عدا كتاب الله وسنة رسوله فيها الغث والسمين وفيها الخطأ والصواب بل في بعضها الدس والكذب على الإسلام وزرع الشبهات . والمتعلم المبتدئ لا يميز بين ما فيها من النافع والضار بل ربما يكون الضار أعلق بذهنه فلا بد له من معلم بصير يفحص له الكتب ويضع يده على ما فيها من نافع وضار وخطأ وصواب .
ومن ثم كان طلبة العلم قديمًا يسافرون إلى الأقطار النائية ليلتقوا بالعلماء ويتلقوا عنهم العلم النافع ولم يكتفوا بمطالعة الكتب فهذا الإمام أحمد سافر الأسفار الطويلة لرواية الحديث وهذا الإمام محمد بن عبد الوهاب سافر من نجد إلى الحجاز وإلى الأحساء وإلى البصرة للأخذ عن العلماء وهذا وهذا وأخبارهم في ذلك طويلة فلو كانت الكتب تكفي كان بإمكانهم الحصول على نسخ منها ولم يتكلفوا عناء الأسفار في وقت لم تكن سيارة ولا طائرة .
وخلاصه القول : أن الكتب إنما هي أداة فقط لا تغني عن المعلم .
وهناك صنف من متعلمي زماننا ظهر أخيرًا يقول للمبتدئين : لا ترجعوا إلى الكتب ولا تراجعوا العلماء بل اقرءوا القرآن والأحاديث واستنبطوا الأحكام من نصوصهما . يقولون هذا وأغلبهم قد لا يحسن قراءة الآية من القرآن على الوجه الصحيح فضلًا عن معرفة معناها .
هذا الصنف أخطر من الذي قبله لأنه لا يعرف قواعد الاستدلال ومعلوم أن النصوص فيها المحكم وفيها المتشابه وفيها المجمل والمبين وفيها الخاص والعام وفيها المطلق والمقيد والأحاديث فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، وعلاوة على ذلك فإن هناك أدلة غير هذين الأصلين فهناك الإجماع والقياس وهناك الأدلة المختلف فيها عند الأصوليين .(150/10)
وهذه المدارك لاستنباط الأحكام لا يعرفها إلا الراسخون في العلم لا كل العلماء فكيف بهؤلاء المبتدئين يسطون على النصوص ويهجمون على الأحكام من غير بصيرة إنه يجب الأخذ على أيديهم لئلا يهلكوا أنفسهم ويهلكوا غيرهم وليس لهم من حجه يبررون بها صنيعهم هذا إلا الفرار من التقليد ولا بد لمثلهم من التقليد لأن الذي يجب عليه الفرار من التقليد هو العالم المتمكن من الاستنباط والاجتهاد وهو من توفرت فيه معرفه الأمور التي سبق شرحها أما من لم يكن كذلك ففرضه التقليد قال تعالى { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فاتقوا الله يا معشر المتعلمين واتقوا الله يا علماء المسلمين فخذوا بأيدي هؤلاء إلى جادة الصواب ووجهوهم الوجهة الصالحة وامنحوهم من وقتكم ومن علمكم ما يبرئ علتهم ويروي غلتهم ليسعد بهم مجتمعهم وتصلح بهم أمتهم . وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين . . .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=2 - TOP#TOP قضيه المناهج الدينية في جامعه الإمام محمد بن سعود الإسلامية
أ_ اثارت " مجلة اليمامة " في الآونة الأخيرة بحثًا وتساؤلات حول المناهج الدينية في المدارس .
وفي ( العدد 893 – الأربعاء 10 جمادى الثانية 1406 هـ ) تناول كاتب رمز لاسمه ب_ ( ع . ع ) المناهج الدينية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالغمز والانتقاد الشديد تحت عنوان : ( المعطلة يظهرون من جديد ) وبين أنه لا يريد بالمعطلة ما تعارف عليه العلماء من إطلاق هذا اللقب على الجهمية والمعتزلة وما شابههم من الفرق التي عطلت أسماء الله وصفاته لأن هذه الفرق – بزعمه - قد بادت ولم تظهر وليس لها امتداد فكري ولأن أمتنا قد تجاوزت ذلك النوع من التفكير وإنما يعني بالتعطيل – هنا - الحالة التي عليها . .(150/11)
ثم وجه انتقاداته اللاذعة إلى تلك المناهج وتتلخص فيما يلي :
1- اشتمالها على دراسة مذاهب الفرق الضالة كالمرجئة والجهمية مع أن هذا الفرق لا وجود لها – بزعمه – فلا فائدة من دراستها ويجب أن يدرس بديلا عنها ما استجد من قضايا الفكر المعاصر .
2- أن مادة العقيدة تدرس بالأسلوب اللغوي الذي كان السلف يدرسون به أبناء جيلهم وهو أسلوب يستغلق علينا فهمه فلا بد من تغيره بأسلوب جديد كالعمل الذي قام به الأستاذ محمد قطب في منهج التوحيد للمرحلة الثانوية حيث قرب قضايا العقيدة بأسلوب بسيط مبتعدًا عن الدخول في متاهات الفرق المنحرفة وأطروحاتهم العقلية الجافة – كذا يقول - .
3- كثرة العلوم التي تدرس حتى يتحول معها الإنسان إلى دائرة معارف متنقلة مع أننا في عصر يمكن فيه الاستغناء عن حفظ تلك العلوم ودراستها باستخدام الآلة للحصول عليها بسهولة عند الحاجة إليها . .
هذا حاصل ما عاب به الكاتب المناهج الدينية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامي .
وأظن أن الحامل له على ذلك جهله بقيمة تلك العلوم التي تدرس في هذه الجامعة – ومن جهل شيئا عاداه – أو تخلفه الفكري عن استيعابها أو كسله الذي قعد به عن متابعتها فتصور أن العيب فيها، والعيب إنما هو عيبه على حد قول الشافعي - رحمه الله - :
نعيب زماننا والعيب فينا ** وما لزماننا عيب سوانا
وبناء عليه نقول :
1- انتقاده لدراسة المذاهب المنحرفة القديمة وزعمه أنها بادت وانقرضت :
انتقاد في غير محله لأن المسلم بعد أن يعرف ما يضاده من الباطل القديم والحديث ليجتنبه ويحذر منه والله جل وعلا ذكر الفكر بالطاغوت قبل الإيمان بالله في قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ } وكيف يكفر بالطاغوت من لا يدري ما هو الطاغوت ؟
وكيف يتجنب الباطل من لا يعرف الباطل ؟(150/12)
وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول : ( كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه ) .
والشاعر الحكيم يقول :
عرفت الشر لا للشـ ** ـر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشـ ** ـر من الخير يقع فيه
2- وزعمه أن هذه الفرق لا تزال قائمة على أشدها :
فها هي الأشاعرة الآن – وهي ربيبة المعتزلة – تمثل نسبه كبيرة من العالم الإسلامي وتدرس عقائدها في غالب البلاد الإسلامية بدلا من عقيدة السلف .
ومذهب المعتزلة تعتنقه اليوم فئات كثيرة كالرافضة وغيرهم وها هي كتبهم تحقق وتنشر بكميات هائلة وتصل إلى أيدي الناس ويقرءونها وفيهم الجاهل ومن ثقافتهم ضحلة فينطلي عليه ما فيها من شبهات ما لم يكن عنده حصانة كافية وذلك لا يمكن إلا بدراسة مبادئهم ومعرفة أفكارهم المنحرفة مع الرد عليها وبيان بطلانها دراسة منهجية مركزة .
ثم لو فرضنا أن أصحاب هذه الأفكار الضالة انقرضت شخصياتهم فأفكارهم باقية والشر في الفكرة أكثر منه في الشخص .
والله تعالى ذكر أقوال الكفرة البائدين في القرآن الكريم ورد عليها تحذيرًا منها : ذكر مقالة قوم نوح ومقالة عاد وثمود وفرعون ومقالات قدماء اليهود والنصارى والدهريين والصابئين للتحذير من سلوك سبيلهم لأن لكل قوم سبيلهم لأن لكل قوم وارثا يروج تلك الأفكار مهما طال الزمان، والفكرة لا تموت بموت صاحبها .
3- رمى الكاتب لمناهجنا والقائمين عليها بالتعطيل هو جحود لجدوى تلك المناهج ووصفه القائمين عليها بالمعطلة لا يضرهم شيئًا وهو كما يقول الشاعر :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ** فهي الشهادة لي بأني فاضل
4 - اقترح الكاتب أن يدرس ما استجد من قضايا الفكر المعاصر اقتراح وجيه، لكن على ألا يقتصر على دراسة تلك القضايا ويترك ما سبقها يفتك بأفكار الجيل، وإلا كنا كمن يتقابل مع جماعات من الأعداء، فيوجه دفاعه إلى واحدة منها، ويترك البقية تنقض عليه من خلفه .(150/13)
وأيضًا، لا يمكن مدافعة الأفكار المنحرفة المعاصرة إلا بعد دراسة الأفكار المنحرفة التي سبقتها، لأنها في الغالب منحدرة عنها أو مشابهة لها، وإذا عرفنا السلاح الذي قاوم به أسلافنا الأفكار المنحرفة في وقتهم، أمكننا أن نستخدم ذلك السلاح في وجه الأفكار المعاصرة، فلا غِنى لنا عن الارتباط بأسلافنا، والإمام مالك - رحمه الله - يقول : " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها " .
5 – وأما قول الكاتب : " إن أسلوب اللغة في الوقت الحاضر يجب أن يختلف عن أسلوب اللغة في الوقت الماضي في تدريس العقيدة " ؛ فمعناه قطع الصلة بسلفنا وبمؤلفاتهم ورصيدهم العلمي، وإلا فلماذا ؟ ! هل كان السلف يخاطبون أبناءهم بلغة غير العربية الفصحى التي هي لغة الكتاب والسنة وهي لغتنا اليوم وإلى الأبد ما بقي القرآن ؟ !
ولماذا لا ينصح الكاتب بالعناية بدراسة تلك الكتب، وتكثيف مناهجها، ورفع الجيل إلى مستواها، لا الهبوط بها إلى مستوى الجيل، إن كان ناصحا لأمته ودينه ؟ !
6 – وأما ثناؤه على ما قام به الأستاذ محمد قطب في كتابه لمنهج التوحيد للمرحلة الثانوية وقوله : " إنه قرب قضايا العقيدة بأسلوب بسيط . . . " إلخ ما أثنى به عليه .
فنقول : مع احترامنا للأستاذ محمد قطب؛ إلا أن ما قام به عمل ناقص جدًّا، وهذا ما كنا نتخوفه من قطع صلتنا بكتب السلف واستبدالها بمؤلفات جديدة .
إن ما قام به الأستاذ محمد قطب - حفظه الله - في هذا العمل يقتصر غالبا على إثبات توحيد الربوبية، وهي تحصيل حاصل؛ لأن توحيد الربوبية قد أقر به جمهور الأمم الكافرة؛ كما ذكر الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك في كتابه الكريم، وهو لا يكفي، وليس هو العقيدة التي جاءت به الرسل، ودعت إليها .
فالرسل كلها تعدوا إلى توحيد الألوهية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه .(150/14)
وما ورد من الآيات في ذكر توحيد الربوبية إنما هو للاحتجاج به على المشركين، والاستدلال به على توحيد الألوهية، وإلزام المشركين حيث أقروا بتوحيد الربوبية أن يقروا بتوحيد الألوهية، فتوحيد الربوبية ليس هو العقيدة المطلوبة، وإلا كان أبو جهل وأبو لهب موحدين؛ لأنهم أقروا به وأثبتوه .
وهذا يجب أن يفهم، وأن تكون العناية بتوحيد الألوهية، وبيانه للطلبة؛ لأنه هو حقيقة الإسلام، وهو معنى ( لا إله إلا الله ) ومقتضاها، الذي هو عقيدة المسلمين .
7 – وأما تذمر الكاتب من كثرة العلوم التي تدرس في جامعة محمد بن سعود الإسلامية مما يجعل الإنسان دائرة معارف متنقلة - كما يقول -؛ فهذا عيب بما هو كمال ومدح، فهو على حد قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب
ونقول للكاتب : إذا كانت قد أثقلتك تلك العلوم، ولم تستطع فهمها وحملها، فعب نفسك، ولا تعبها :
فنفسك لُم ولا تلم المطايا ** ومُت كمدًا فليس لك اعتذار
وننصح لك أن تعمل بقول الشاعر الآخر :
إذا لم تستطع شيئا فدعه ** وجاوزه إلى ما تستطيع
إن جامعة الإمام محمد بن سعود حينما تقرر تدريس تلك العلوم ضمن مناهجها؛ إنما تقوم بمسؤوليتها نحو دينها وأمتها، وهي التي أسست من أجلها، فهي التي تخرج للمسلمين : القضاة والدعاة والمدرسين والمفتين، المؤهلين، الذين يعلق المسلمون عليهم آمالهم - بعد الله – في حل مشاكلهم، والدفاع عن دينهم وعقيدتهم، ونسأل الله أن يمد تلك الجامعة بعونه وتوفيقه، وأن يكفيها شر التطوير الذي هو في حقيقته تطيير، وأن يمد القائمين عليها بالعون والتسديد، وأن يرزقهم الثبات أمام تلك الدعايات المغرضة التي تنادي بمثل تلك الأفكار الهدامة .
ومن العجيب المضحك دعوة الكاتب إلى أن يكتفى عن دراسة تلك العلوم وحفظها وفهمها باستخدام الآلة لرصدها وحفظها ! !
هل استخدام الآلة يكفي عن وجود العلماء ؟ !(150/15)
وهل يستطيع استخدام الآلة للحصول عليها من لم يدرسها ويفهمها بدقة ؟ !
8 – وأخيرًا؛ يتناقض الكاتب مع نفسه، فيقول :
" لماذا لا نعمل منطقا نجابه به الذين يلحدون بالله وبأسمائه وصفاته بهوى منطقهم المتهافت ؟ لماذا لا نتعلم أساليب الجدل؛ لنكون مؤهلين حقيقة للدفاع عن هذا الدين القيم ؟ لماذا لا ندرس الإعجاز العلمي والتشريعي في القرآن الكريم ؟ " .
فالكاتب اعترف بما نفاه في أول كلامه، وذلك من وجهين :
أ – اعترف أننا أمام من يلحدون في أسماء الله وصفاته من المعتزلة والأشاعرة وتلاميذهم، وأنهم لم ينقرضوا كما قال سابقا .
ولكنه يدعوا إلى مواجهتهم والرد عليهم بمنطق الرومان وأساليب اليونان، بدلًا من منهج السنة والقرآن، وبدلا من ردود السلف ! ! فهذه بزعمه كتب كتبت بلغة لا تُفهم، والمنطق وعلم الجدل أحسن منها ! !
يا للتناقض العجيب ! ! ألم يكن أساس البلاء والوقوع في الضلال في مسائل العقيدة هو ترك منهج الكتاب والسنة، والاعتماد على المنطق والجدل في علم العقيدة ؟ !
وإذا كنت في شك من ذلك؛ فراجع كتب : " نقض المنطق " لشيخ الإسلام ابن تيمية، و " بيان تلبيس الجهمية " الذي هو " نقض التأسيس " ، و " درء تعارض العقل والنقل " ؛ فقد بَيَّن - رحمه الله - في هذه الكتب وغيرها ما جرَّه الاعتماد على منهج أهل المنطق والجدل من ضلال في العقيدة، وكذا ما كتبه غيره في هذا الموضوع .
ب – قوله : " لماذا لا ندرِّس آيات الإعجاز العلمي والتشريعي في القرآن " ، معناه : اعترافه أننا بحاجة إلى دراسة التفسير، لكن لا من مصادره الأصلية التي ألَّفها علماء التفسير المتقدمون ! ! وإنما من التفسير العصري المبني على النظريات الحديثة التي هي عرضة للتغيُّر والتناقض، والتي هي عبارة عن تفسير القرآن بالرأي، وهو ما يسمونه ( الإعجاز العلمي ) ، وهو في الحقيقة تخرُّص وقول في القرآن بغير علم ! !
لماذا يدعو الكاتب لهذا ؟ !(150/16)
لأنه لا يريد القديم، ولو كان هو الحق ! !
وبعد؛ فهذه آراء الكاتب واقتراحاته حول مناهج جامعة الإمام، وهي آراء واقتراحات مرفوضة جملة وتفصيلًا؛ لأنها تهدم ولا تبني، والجامعة - والحمد لله – مقتنعة في جدوى مناهجها، ونجاح خطتها، ولا تؤثر عليها مثل هذه الآراء الساذجة .
فعلى الكاتب أن يوفر على نفسه مثل تلك الآراء، وأن لا تنشر إلا ما هو بنَّاء ومفيد؛ أداء لمسؤولياتها الصحفية التي يفترض أن تكون رائدة لقومها نحو الأصلح .
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=2 - TOP#TOP مكانة المرأة ووظيفتها في الإسلام
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد : فلا يخفى على ذي بصيرة ما منحه دين الإسلام للمرأة من كرامة وما ضمنه لها من حقوق تتناسب مع تكوينها داخل البيت وخارجه، وما زالت بلادنا ولله الحمد تسير على هذا المنهج تجاه المرأة فهي تعيش في مجتمعنا معززة مكرمة مع زوجها وأسرتها ومجتمعها، تتمتع بحقوقها الشرعية بكل راحة واطمئنان بعيدة عما تورطت فيه المرأة في المجتمعات الأخرى من مشاكل نتيجة لإخراجها عن طورها وحرمانها من مزاولة العمل اللائق بها، وتكليفها بأعمال الرجال .
ونقول بمناسبة ما ظهر على بعض أعمدة بعض الصحف المحلية من تحمس مصطنع حيال ما أسموه ( بمشكلة المرأة ) ، مما أدى ببعض الصحف إلى عقد ندوات حيال هذا الموضوع تستضيف لها بعض الشخصيات لالتماس الحلول لهذه المشكلة المزعومة، التي تتلخص في أن المرأة طاقة معطلة وهي تشكل نصف المجتمع، وأن المرأة قطاع غير مستثمر بالشكل المطلوب .
والذي نقوله لهؤلاء :(150/17)
أولًا : لا وجود لهذه المشكلة التي زعمتم، فالمرأة ليست معطلة عن عملها اللائق بها، فهي تؤدي عملها كاملًا وتؤدي خدمة لمجتمعها لا يقوم به غيرها فهي الزوجة المطَالَبَة بحقوق الزوج، وهي الأم المربية للأولاد، وهي القائمة بإدارة البيت والمسؤولة عن كل ما يدور فيه، وهي قبل هذا وذاك التي يجعل الله منها بنين وبنات وحفدة، ولا يخفى ما تلاقيه حيال ذلك من حمل وولادة ورضاعة مما يأخذ الكثير من وقتها، وهي مع ذلك إذا كان لديها بقية من وقت تزاول الأعمال التي لا تخرج بها عن محيطها والتي تتعيش من ورائها، فما زالت إلى عهد قريب تغزل وتنسج وتبيع وتشتري، وتعمل في المزرعة، مع التستر والاحتشام، فمتى كانت المرأة طاقة معطلة وقطاعًا غير مستثمر، إنها الدعاوى الفارغة والأقوال المردودة .
ثانيًا : إذا قدر وجود مشكلة من هذا النوع أو من غيره فيجب أن تطرح على ذوي الاختصاص من علماء المسلمين ليلتمسوا لها حلًا على ضوء الإسلام الذي تكفل بحل جميع المشاكل، قال تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } ، وقال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ، وقال تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .
إننا لا نشك في إخلاص تلك الشخصيات التي استضافتها ندوة الجريدة _لكننا نقول ليس ذلك من اختصاصهم وإنما هو من اختصاص علماء الشريعة الذين أُمرنا بسؤالهم عما أشكل _ والله ولي التوفيق والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
(2 ) حول العقيدة
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=3 - TOP#TOP تعقيبات على مقالات الصابوني في الصفات
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وآله وصحبه .
أما بعد :(150/18)
فقد اطلعت على مقالات لفضيلة الشيخ محمد على الصابوني، نشرها في " مجلة المجتمع " ( الأعداد : 627 و628 و629 و630 و631 و632 ) تحت عنوان : ( عقيدة أهل السنة في ميزان الشرع ) ، يحاول في تلك المقالات جعل الأشاعرة من أهل السنة في باب صفات الله عز وجل، وقد وقع في متناقضات عجيبة وخلط غريب، استدعاني أن أكتب هذا التعقيب الذي لا أقصد من ورائه إلا بيان الحقيقة، وإزالة اللَّبس، سائلًا الله العون والتوفيق .
وإليك بيان ما جاء في مقالاته مع الرد عليه :
1 – حينما تقرأ العنوان الذي وضعه لمقالاته – وهو : عقيدة أهل السنة في الميزان ) – تستغربه؛ لأن وضع عقيدة أهل السنة في الميزان معناه فحصها ومعرفة هل هي صواب أو خطأ ؟ وهذا تنقيص من قدرها، لاسيما والمراد بأهل السنة عند الإطلاق القرون المفضلة ومن تبعهم بإحسان .
لكنه يزول هذا الاستغراب حينما تعلم أنه يريد بذلك عقيدة التفويض التي ظنها عقيدة أهل السنة، وقد بينا بطلان ذلك فيما يأتي .
2 – حمل حملة شعواء على الذين يكفِّرون الأشاعرة، ونحن معه في هذا، فتكفير المسلم لا يجوز، إلا إذا ارتكب ناقضًا من نواقض الإسلام، لكنه لم يبين من هم الذين قالوا تلك المقالة، وأقدموا على هذا التفكير ؟ وفي أي كتاب أو مجلة وقع ذلك ؟ مع مناقشته مناقشة علمية، حتى يكون القارئ على بصيرة من أمرهم .
3 – جعل قضية الاختلاف في أمر النزول والصفات كالاختلاف في عقد اليدين في الصلاة وإرسالهما، وأمر الجهر بالبسملة والإسرار بها، وفي صلاة التراويح هل هي ثمان ركعات أو عشرون ركعة ؟
ولا يخفى ما في هذا من الخلط؛ فقضية الصفات من قضايا العقيدة التي لا يجوز الخلاف فيها، وقضية وضع اليدين في الصلاة على الصدر أو إرسالهما وما ذُكر معها من المسائل من قضايا الفروع التي يسوغ فيها الخلاف بحسب فهم الأدلَّة الواردة فيها، ثم هي من السنن وليست من الفرائض .(150/19)
4 – قال " إن الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة والجماعة؛ لم يخرجوا عن الإسلام، ولا نطردهم من الملة " .
- والجواب : أما كون الأشاعرة لم يخرجوا عن الإسلام،؛ نعم هم من جملة المسلمين، وأما أنهم من أهل السنة والجماعة في باب الصفات؛ فلا؛ لأنهم يخالفون أهل السنة والجماعة في ذلك فأهل السنة والجماعة يثبتون الصفات على ما جاءت من غير تأويل، والأشاعرة لا يثبتون كثيرًا منها كما جاء، بل يؤِّولونه عن ظاهره كما هو معروف، فكيف يُجعَل من القوم من يخالفهم ؟ !
نعم هم من أهل السنة والجماعة في بقية أبواب الإيمان والعقيدة، التي لم يخالفوهم فيها، وليسوا معهم في باب الصفات وما خالفوا فيه؛ لاختلاف مذهب الفريقين في ذلك، وكتبهم هي الحكم في هذه القضية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في " منهاج السنة " : " لفظ " ( أهل السنة ) يراد به مَن أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة؛ فلا يدخل فيه إلا من أثبت الصفات لله، ويقول : إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يُرى في الآخرة، ويُثبت القدر، وغير ذلك من الأمور المعروفة عن أهل الحديث والسنة " . انتهى
باختصار .
5 – قال : " علماء مصر وشيوخ الأزهر يدينون في معتقدهم بمذهب الإمام أبي الحسن الأشعري، والعراق وتونس والمغرب على المذهب الأشعري " .
- والجواب أن يقال :
أولًا : مذهب أبي الحسن الأشعري الذي استقرَّ عليه أخيرًا في باب الصفات هو مذهب أهل السنة والجماعة، ورجع عما كان عليه قبلُ من تأويل الصفات؛ كما صرح بذلك في كتابه ( الإبانة عن أصول الديانة ) وفي كتابه ( المقالات ) ، ومعلوم أن مذهب الإنسان هو ما يستقرُّ عليه أخيرًا، لا سيما وقد صرح برجوعه عن مذهبه الأول .(150/20)
ومَن ذكرت يا فضيلة الشيخ هم على مذهبه الذي رجع عنه، فانتسابهم إليه غير صحيح؛ لأن هذا المذهب الذي هم عليه أصبح غير مذهب أبي الحسن الأشعري، ونسبته إليه بعد ما رجع عنه ظلم .
ويقال ثانيًا : المذهب لا يُعرف كونه حقًا بكثرة المتبعين له؛ قال تعالى : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } .
وإنما يعرف كونه حقًا بمطابقته للكتاب والسنة .
وما عليه الأشاعرة في الصفات ليس مطابقًا للكتاب والسنة .
6 – يرى أن الأسلم تفويض الصفات إلى علاَّم الغيوب، وينسب هذا إلى السلف، فيقول : " يؤمن السلف الصالح بجميع ما ورد من آيات الصفات وأحاديث الصفات ويفوضون علم ذلك إلى الله تعالى . . . " . إلى أن قال : " قد اشتهر بأنه مذهب أهل التفويض ومذهب أهل السلف الصالح " .
ثم نقل عن الإمام أحمد والإمام مالك - رحمهما الله - كلاما يظن أنه يؤيد ما يقول، حيث نقل عن الإمام أحمد قوله " أخبار الصفات تُمَرُّ كما جاءت؛ بلا تشبيه ولا تعطيل؛ فلا يقال : كيف ؟ ولم ؟ نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء، وكما شاء، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحدُّها حادُّ، نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، وندع الكيفية في الصفات إلى علم الله " .
ثم نقل قول الإمام مالك : " الاستواء معلوم، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه " . انتهى .
- والجواب عن ذلك : أن إطلاق أن مذهب السلف هو التفويض إطلاق خاطئ، وجهل بمذهب السلف، لأن السلف لا يفوضون معنى الصفات، لأنه معلوم لديهم، وإنما يفوضون كيفية الصفات؛ كما جاء في كلام هذين الإمامين الذي نقله فضيلة الشيخ .
فالإمام أحمد يقول : " نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، وندع الكيفية في الصفات إلى علم الله " ، فالمفوض هو الكيفية فقط .
وكذلك الإمام مالك يقول : " الاستواء معلومٌ " ؛ أي : معلوم معناه . " و الكيف مجهول " ؛ فصار المفوض هو الكيفية .(150/21)
وهذا هو اعتقاد السلف في جميع الصفات، يعلمون معناها، ويعتقدونه، ويؤمنون به كما جاء، لا يؤولونه عن ظاهره، ويفوِّضون الكيفية إلى علم الله تعالى .
7 – ثم يتناقض الشيخ بعد ذلك، فبينما قرَّر فيما سبق أنه مقتنع بعقيدة التفويض، وأنها عقيدة السلف – كما يزعم -؛ إذا هو بعد ذلك يخرج عن التفويض، ويقول : " ولكننا نعتقد بتنزيه الله عن الجوارح، فلا يسمع بصماخ الأذن، ولا يرى بحدقة العين، ولا يتكلم بلسان من قطعة لحم وحنجرة يخرج منها الصوت؛ كما هو حال الخلق والعباد، بل هذه الأمور مستبعدة عن الله جل وعلا " .
- ونقول له : ما دمتَ قد فوضت في الصفات؛ فلماذا تدخل في هذه التفصيلات، مع أن التفويض معناه السكوت عن تفسيرها ؟ !
- وإذا كان قصدك تنزيه الله عن مشابهة الخلق؛ فاكتف بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ، فتجمِل النفي كما أجمله الله في كتابه، دون أن تقول : ليس كذا، وليس كذا . . . إلخ .
- 8 – يتهجَّم على الذين يُثبِتون الصفات، ويقول : " إنهم يصوِّرون الله بصورة غريبة عجيبة، ويجعلون الله تعالى كأنه جسم مركَّب من أعضاء وحواس، له وجه ويدان وعينان، وله ساق وأصابع، وهو يمشي وينزل ويهرول، ويقولون في تقرير هذه الصفات : إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير، وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج؛ يريد أحدهم –بزعمه _ أن يقرر مذهب السلف الصالح للتلاميذ، ويثبت لهم حقيقة معنى الاستواء والنزول، وأنه جلوس حِسِّيّ، لا كما يتأوله المتأولون " انتهى كلامه .(150/22)
- والجواب : إن لفظ الجسم والتركيب والأعضاء والحواس لم يرد في كتاب الله وسنة رسوله نفيه ولا إثباته، ونحن نثبت ما أثبته الله لنفسه، وننفي ما نفى عن نفسه، ونمسك عما عدا ذلك . أما الوجه واليدان والعينان والساق والأصابع والنزول؛ فهذه قد أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - فنحن نثبتها كما جاءت .
وأما قولك : " ويقولون في تقرير هذه الصفات : إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير، وينزل كما ينزل أحدنا الدرج " ؛ فهذا من باب التشويه والإرجاف والتنفير، وإلا كان الواجب عليك – إذا كان هذا واقعًا – أن تبين : من هو قائله ؟ وفي أي مدرسة أو جامعة ؟ أو في أي كتاب قاله ؟ حتى يمكن مناقشته وإيقافه عند حده . وما ذكرته من أنهم يقولون عن الاستواء والنزول : إنه جلوس حسيّ ونزول حسيّ؛ فالصواب أن يقال : استواء حقيقي ونزول حقيقي . هذا تعبير أهل السنة والجماعة، وهو على ما يليق بالله عز وجل، وليس من معاني الاستواء الجلوس عندهم؛ فإن معاني الاستواء عندهم هي : العلو، والاستقرار، والارتفاع، والصعود .
قال العلامة ابن القيم في النونية مبينًا معاني الاستواء عند السلف :
ولهم عبارات عليها أَربَع ** قد حَصَلت للفارس الطَّعَّان
وهي استقر وقد علا وكذلك ** ارتفع الذي ما فيه من نُكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع ** وأبو عبيدةَ صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره ** أَدرَى مِنَ الجهميّ بالقرآن
ثم قال فضيلة الشيخ الصابوني :
" بل لم يكن يتلفظ الواحد منهم – يعني : السلف – بمعنى الاستواء، حتى لا يتوهم السامع التشبيه؛ كما فعل الإمام مالك - رحمه الله - حين قال للسائل : الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة . . . وقد كان بإمكانه أن يقول له : الاستواء : هو الجلوس، ألا تعرف الجلوس ؟ " انتهى .(150/23)
- والجواب أن نقول : إن السلف لم يكونوا يتحاشون من ذكر معاني الصفات، لأنهم يعلمونها، ويعتقدون معناها، ألا تراهم فسروا الاستواء بأربعة معان؛ كما ذكرنا عنهم ؟ إنما كانوا يتحاشون الخوض في الكيفية؛ لأنهم لا يعلمونها، والذي سأل الإمامَ مالك لم يسأله عن المعنى، إنما سأله عن الكيفية؛ فإنه قال : { اسْتَوَى } ، ولهذا قال له مالك : " والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة " يعني : الكيف .
9 – قال : " وأهل السنة قد اشتهروا بمذهبين اثنين؛ هما : الأول : مذهب السلف، والثاني : مذهب الخلف، وكل منهما لا يخرج عن مذهب أهل السنة والجماعة " .
- والجواب عن ذلك أن نقول : إذا كان مذهب الفريقين واحدًا؛ فلماذا قسمتهم إلى سلف وخلف، وإن كان مذهب الفريقين مختلفًا – كما هو الواقع - فإنه لا يصح لغة ولا شرعًا ولا عقلًا أن تجعلهم جماعة واحدة في هذا الباب، وتطلق عليهم جميعًا أهل السنة والجماعة، مع أن المراد بأهل السنة والجماعة ما وضحه النبي - صلى الله عليه وسلم – بقوله : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) .
فهل كان تأويل الصفات أو تفويضها الذي يفعله الخلف –كما ذكرتَ عنهم - هل هو مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم ؟ !
إذن؛ ليس من يؤول الصفات أو يفوِّضها من أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وإن كان منهم في أبواب أخرى لا يخالفهم فيها .
10 – ثم يضيف الشيخ إلى مذهب السلف ما ليس منه، فيقول :
" وخلاصة مذهب السلف أنه يجب علينا أن نصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه من صفات على ما يليق به سبحانه، فتنزهه جل وعلا عن الجسمية والشكل والصورة " .
- فقوله : " ننزهه عن الجسمية والشكل والصورة " : هذا ليس من مذهب السلف، فهم ينفون ما نفاه الله عن نفسه، ولم يرد نفي الجسم والشكل، فهم يمسكون عن ذلك، ويكتفون بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وأمثاله من النفي المجمل .(150/24)
وأما الصورة فقد ورد الأحاديث إثباتها في حق الله تعالى؛ فهم لا ينفونها .
11 - يسوِّغ تأويل بعض الصفات، حيث يقول :
" لذلك مالوا ( يعني السلف ) إلى التأويل في بعض الصفات التي توهم التشبيه، كالاستواء، والنزول، والإتيان، والمجيء، لأن عصرهم الذي عاشوا فيه لم يكن كالعصر السابق : عصر التسليم والتفويض، وإنما عصر الجدل والمناظرة، فهم لم يؤوِّلوا عن هوى ومكابرة، وإنما أوَّلوا عن حاجة واضطرار؛ لدفع شغب المجادلين في صفات الله بالباطل، ومن ذلك الحين اشتهر لعلماء أهل السنة مذهبان اثنان هما : مذهب أهل التفويض، ومذهب أهل التأويل، أما المذهب الأول؛ فهو المشهور بمذهب السلف، والمذهب الثاني هو المشهور بمذهب الخلف، وكل من المذهبين منسوب إلى أهل السنة " انتهى .
- والجواب أن نقول :
أ – لم يكن التفويض المطلق ولا التأويل للصفات عن ظاهرها في يوم من الأيام مذهبًا لأهل السنة والسلف الصالح، لأن مذهب السلف وأهل السنة هو الإيمان بما دلت عليه صفات الله تعالى من معنى الكمال، مع تفويض كيفيتها لله تعالى؛ كما نَقلْتَه عن الإمام مالك وغيرهما في مطلع كلامك .
وإنما التفويض والتأويل مذهبان للخلف، وهم ليسوا في هذا الباب من أهل السنة والجماعة؛ لمخالفتهم لمذهبهم فيه، والمخالف لا يُنسَب إلى من خالفه، وإن كانوا من أهل السنة في بقية الأبواب التي وافقوا فيها أهل السنة .
ب – تأويل الصفات عن معناها الحقيقي لا يجوز في أي عصر من العصور، ولا يجوز أن نرد على أهل الباطل بباطل، بل يجب أن نَثبُت على الحق، ولا نلتفت إلى شغب المخالفين، ولا نتنازل عما معنا من الحق لأجل الرد عليه .
والتأويل باطلٌ؛ مهما صلحت نية فاعله، حسن مقصده وقد يعمل الشخص بعمل أهل النار وهو يظن أنه يحسن صنعًا؛ كما قال تعالى :(150/25)
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } .
وقال تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } .
والباطل إنما يُدفَع بالحق، { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } .
12 – يكرر أن مذهب السلف هو التفويض، ومذهب الخلف هو التأويل، ويقول :
" إنما كان المحقِّقون منهم ( يعني : أصحاب المذهبين ) يفضلون مذهب السلف، فيقولون : هو أسلم، والبعض منهم كان يرجِّح مذهب الخلف؛ دفاعًا لشبهات الزائغين، ويقول : هو أحكم، مع اعتقادهم جميعًا بصفات الله تعالى؛ دون تعطيل أو تجسيم؛ خلافًا للمعتزلة والجهمية، فكان الخلاف بين الفاضل والأفضل " .
والجواب أن نقول :
أ – قد بينَّا فيما سبق مرارًا أن مذهب السلف في الصفات هو اعتقاد ما دلت عليه النصوص؛ من غير تشبيه ولا تعطيل، وليس هو التفويض، فنسبته إليهم زور وبهتان، وهم منه براء، فكل من التفويض والتأويل من مذاهب الخلف المحدَثة، وليس فيهما مفضولًا ولا فاضل، بل كلاهما زور وباطل .
ب – قوله " مع اعتقادهم جميعًا بصفات الله تعالى؛ دون تعطيل أو تجسيم " قول فيه مغالطة، إذ كيف يقال : إن من يؤِّول صفات الله عن مدلولها، فيؤِّول اليد بالقدرة، والاستواء بالاستيلاء والرحمة بالنعمة، كيف يقال مع هذا : إنه يعتقد هذه الصفات دون تعطيل، أليس فعله هذا هو التعطيل بعينه ؟ !(150/26)
13 - قال " وإذا كان من أوَّل الصفات ضالًا، فنضلل السلف الصالح جميعًا؛ لأنهم أولوا قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ } ؛ قالوا : معهم بعلمه لا بذاته، وأولوا قوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } ؛ قالوا : مَعيَّه علم؛ لئلا تتعدد الذات، وسنحكم بضلال الحافظ ابن كثير؛ لأنه قال في قوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ؛ قال : المراد : ملائكتنا أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه . انتهى كلامه .
- والجواب عن ذلك؛ نقول :
أ – نعم؛ من أوَّل الصفات عن مدلوها إلى غير معانيها، فهو ضال؛ كما قال تعالى : { ولله الأسماءُ الحسنى وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
ومن الإلحاد فيها صرفها عما دلت عليه، وهذا ضلال .
ب – وأما ما ذكرته من تفسير أهل السنة والجماعة لآيات المعيَّة بأنها معيَّة علم وإحاطة؛ فليس هو من التأويل الذي زعمته .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ( الفتوى الحموية ) :(150/27)
" ولا يحسب حاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضًا ألبتة؛ مثل أن يقول القائل : ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه في الظاهر قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } ، وقوله - صلى الله عليه وسلم- : ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة؛ فإن الله قِبَل وجهه ) ، ونحو ذلك؛ فإن هذا غلط، وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله تعالى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فأخبر أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأعمال : ( والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه ) .
ذلك أن كلمة ( مع ) في اللغة إذا أطلقت؛ فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة؛ من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قُيِّدَت بمعنى من المعاني؛ دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال : ما زلنا نسير والقمر معنا، أو النجم معنا، ويقال : هذا المتاع معي؛ لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك . فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة .
ثم أن هذه المعيِّة تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } . . . إلى قوله { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } ؛ دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعيِّة ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيدٌ عليكم، مهيمن عليكم، عالم بكم، وهذا معنى قول السلف : إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته " انتهى .(150/28)
فعُلِمَ من ذلك أنه لم يجرِ في الآية – ولله الحمد - التأويل الذي زعمه فضيلة الشيخ الصابوني؛ لأن المعية يختلف معناها باختلاف مواردها .
ج – وأما قوله : إن ابن كثير قال في التفسير قوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } . . وزعم أن هذا تأويل من ابن كثير؛ فنقول له : ليس هذا من قبيل التأويل الذي تدَّعيه؛ لأن الآية جاءت بلفظ الجمع : { وَنَحْنُ } .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ( مجموع الفتاوى ) : ( 5/507 ) :
" فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه؛ دل ذلك على أن المراد به أنه سبحانه يفعل ذلك بجنوده من الملائكة؛ فإن صيغة " نحنُ " يقولها المتبوع المطاع المعظَّم الذي له جنود يتبعون أمره، وليس لأحدٍ جند يطيعونه كطاعة الملائكة لربهم، وهو خالقهم وربُّهم، وهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه وملائكته تعلم، فكان لفظ : " نحنُ " هنا هو المناسب " .
وقال سياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة؛ فإنه قال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، فقيَّد القرب بهذا الزمان، وهو زمان تلقِي المتلقيين؛ قعيد عن اليمين، وقعيد عن الشمال، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان، كما قال : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، ومعلوم أنه لو كان المراد قرب ذات الرب؛ لم يختص ذلك بهذه الحال، ولم يكن لذكر القعيدين والرقيب والعتيد من معنى مناسب " انتهى .
ومنه تعلم أن ابن كثير - رحمه الله - لم يؤول الآية الكريمة كما زعم الشيخ الصابوني .(150/29)
14 - قال : " يجب التأويل في بعض الأحيان، بل نقول : إنه يتعين التأويل؛ كما في الحديث الصحيح : ( الحجر الأسود يمين الله في أرضه ) ، وكما قال تعالى عن سفينة نوح : { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ } ، فهل السفينة تجري في عين الله ؟ أم المراد : تسير بحفظنا ورعايتنا، فإذا لم نؤِّولها؛ فسد المعنى تمامًا .
وكيف نقول في الحديث القدسي، ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ) ، فما رأي السادة الأعلام ؟ ! أليس فيه حجة ومتمسك لمن يقولون بوحدة الوجود، والذين يزعمون الحلول والاتحاد ؟ أم نقول : يتعين هذا التأويل .
وما هو المعنى المراد من الحديث الشريف ( إن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن جاءنى يمشي، أتيته هرولة ) ألا يجب التأويل ؟ فلماذا نحكم بضلال الأشاعرة بسبب التأويل ونبيح لأنفسنا التأويل ؟ .
- الجواب : أن نقول نعم؛ نحكم بضلال من أوَّل صفات الله تعالى عما دلت عليه من المعنى الحق، وحاول صرفها إلى غير معانيها الحقيقية من الأشاعرة وغيرهم، وإن لم يكن هذا ضلالًا؛ فما هو الضلال ؟ !
قال تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } .
وأما ما استدللت به على وجوب التأويل في بعض الأحيان؛ فلا دلالة فيه لما تريد، وبيان ذلك كما يلي :
أ – قوله - صلى الله عليه وسلم – ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ) ؛ قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ( مجموع الفتاوى ) : ( 6/397 ) :(150/30)
إنه " قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس، ومن تدبر اللفظ المنقول؛ تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره؛ فإنه قال : ( يمين الله في الأرض ) ، فقيَّده بقوله ( في الأرض ) ، ولم يطلق فيقول : يمين الله . وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق . ثم قال : " فمن صافحه وقبَّله؛ فكأنما صافح الله وقبل يمينه " معلوم أن المشبه غير المشبه به، وهذا صريح في أن المصافِح لم يصافح يمين الله أصلًا، ولكن شُبِّه بمن يصافح الله، فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله؛ كما هو معلوم عند كل عاقل " انتهى .
وقد تبين بهذا أولا : أن الحديث ليس بصحيح كما توهمه الصابوني .
وثانيًا : ليس فيه دلالة على تأويل الصفات .
ب – وقوله تعالى : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } ؛ معناه : بمرأى منا، ولا يفهم من ظاهر الآية ما قاله فضيلة الشيخ أن السفينة تجري في عين الله، وليس هو ظاهر اللفظ حتى يحتاج إلى تأويل؛ لأنه قال : { بِأَعْيُنِنَا } ، ولم يقل : في أعيننا، ومعلوم الفرق بين اللفظتين، فهي كقوله : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } .
قال الشوكاني في " فتح القدير " : " { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } ؛ أي : بمرأى منا، بنظر منا، وفي حفظنا وحمايتنا؛ فلا تبال بهم " .
ج – وأما حديث : ( كنت سمعه الذي يسمع به . . . إلخ ) ؛ فأول الحديث وآخره يبين المراد منه، وهو أن العبد إذا اجتهد في التقرب إلى الله بالفرائض، ثم بالنوافل؛ أحبه الله، وسدده في جميع تصرفاته .
قال الحافظ ابن رجب في " شرح الأربعين " : " فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى؛ محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبقِ للعبد من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا ما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به " انتهى .(150/31)
ويوضح ذلك قوله في آخر الحديث : ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذَنَّه ) ، فالله يسدده في تصرفاته، ويعطيه ما سأله، ويؤمنه مما يخاف . . .
هذا ما يدل عليه الحديث، ولا يحتمل غير هذا المعنى حتى يحتاج إلى تأويل؛ لأنه معلوم قطعًا بالأدلة والفطرة والمعقول أن الله سبحانه لا يحلُّ في شيء من خلقه، فلا حاجة إلى التأويل؛ كما زعم الصابوني سامحه الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ( مجموع الفتاوى ) ( 2/271 - 272 ) :
" فالملاحدة والاتحادية يحتجون به ( يعني : هذا الحديث ) على قولهم؛ بقوله : كنت سمعه وبصره ويده ورجله، والحديث حجة عليهم من وجوه كثيرة منها :
قوله : ( من عادى لي وليا؛ فقد بارزني بالمحاربة ) ، فأثبت معاديًا ومحاربا ووليا غير المعادي، وأثبت لنفسه سبحانه هذا وهذا .
ومنها قوله : ( وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضته عليه ) ، فأثبت عبدًا متقربًا إلى ربه بما افترض عليه من فرائض .
ومنها قوله : ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) ، فأثبت متقربًا ومتقربًا إليه، ومحبًا ومحبوبا غيره، وهذا كله ينقض قولهم .
ومنها قوله : ( فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به . . . إلخ ) ؛ فإنه جعل لعبده بعد محبته هذه الأمور، وهو عندهم قبل المحبة وبعدها واحد .
د - وأما قوله : " وما هو المعنى المراد من الحديث الشريف : ( إن تقرب مني شبرًا ) . . . " إلخ ؟ فنقول : المراد منه قرب الله من عبده إذا تقرب إليه بالعبادة، وقرب الله من عباده المؤمنين ثابت بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة . قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } .(150/32)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ( مجموع الفتاوى ) ( 5/464 ) في معنى الحديث : " وهو سبحانه قد وصف نفسه في كتابه وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقربه من الداعي، وقربه من المتقرب إليه " .
وذكر الآية والحديث، وقال : ( 5/510 ) : " فكلما تقرب العبد باختياره قدر شبر زاده الرب قربًا إليه، حتى يكون كالمتقرب بذراع " .
وقال العلامة ابن القيم في " الصواعق " ( 2/412 – 413 – المختصر ) : " وقد بينا بأنه سبحانه قريب من أهل الإحسان، ومن أهل سؤاله وإجابته " . ويوضح ذلك بأن الإحسان يقتضي قرب العبد من ربه، فيقرب ربه منه . . . إلى أن قال : " فإنه من تقرب منه شبرًا يتقرب منه ذراعًا، ومن تقرب منه ذراعًا؛ تقرب منه باعًا . . . " .
إلى أن قال : " وهو مع ذلك فوق سماواته، على عرشه؛ كما أنه سبحانه يقرب من عباده في آخر الليل وهو فوق عرشه، ويدنو من أهل عرفة عشية عرفة وهو على عرشه، فإن علوه سبحانه على سماواته من لوازم ذاته، فلا يكون قط إلا عاليًا، ولا يكون فوقه شيء ألبتة؛ كما قال أعلم الخلق : " فأنت الظاهر؛ فليس فوقك شيء " ، وهو سبحانه قريب في علوه، عال في قربه . . . " .
إلى أن قال : " والذي يسهل عليك فهم هذا معرفة عظمة الرب، وأحاطته بخلقه، وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده والأرض بيده الأخرى ثم يهزهن . فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه ويقرب من خلقه كيف يشاء وهو على العرش ؟ ! . انتهى .
15 - يدافع الشيخ الصابوني عن الذين يؤولون الصفات، فيقول : " إنهم ما أنكروا الصفات كما فعل الجهمية والمعتزلة، وإنما أولوها بما يحتمله اللفظ؛ دفعًا للتشبيه والتجسيم . . . " إلخ .(150/33)
- ونقول له : هذه مغالطة منك؛ لأن من أول الصفات عن مدلولها الصحيح ومعناها الصريح؛ كمن أول اليد بالنعمة، والاستواء على العرش بالاستيلاء عليه، والوجه بالذات؛ أليس هو بذلك قد نفى اليد الحقيقية والاستواء الحقيقي والوجه الحقيقي وصرفها إلى معان غير مقصودة باللفظ أصلًا ؟ ! فكيف لا يكون مع ذلك قد نفى الصفات ؟ ! .
16 - ثم يواصل الدفاع عنهم، فيقول :
- " ثم هم يقولون في المجيئ والإتيان : إن المطلق يحمل على المقيد، فقوله تعالى : { وَجَاء رَبُّكَ } ، وقوله { أو يَأْتِيَ رَبُّكَ } ؛ يحمل على المقيد في قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أو يَأْتِيَ رَبُّكَ } ، فكيف نكفرهم وهم يحتجون بالقرآن على بعض التأويلات ؟ ! "
ونقول له : نحن لا نكفرهم بذلك كما سبق، لكننا نخطئهم ونضللهم في مثل هذا التأويل، وحمل المطلق على المقيد ليس هذا من موارده؛ لاختلاف المقصود من النصين، فكل منهما يقصد به غير ما يقصد بالآخر، فمواردها مختلفة فيبقى كل نص على مدلوله، ولا يحمل أحدهما على الآخر .
قال العلامة ابن القيم في ( الصواعق ) ( 2/385 - 386 - المختصر ) :
" الإتيان والمجيء من الله تعالى نوعان : مطلق ومقيد، فإذا كان مجيء رحمته أو عذابه؛ كان مقيدًا؛ كما في الحديث : " حتى جاء الله بالرحمة والخير " ، ومنه قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ } ، وقوله : { بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ } ، وفي الأثر : " لا يأتي بالحسنات إلا الله " .(150/34)
النوع الثاني : المجيء والإتيان المطلق؛ كقوله : { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ } ، وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ } ، وهذا لا يكون إلا مجيئه سبحانه، هذا إذا كان مطلقًا، فكيف إذا قيد بما يجعله صريحًا في مجيئه نفسه؛ كقوله { إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أو يَأْتِيَ رَبُّكَ أو يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } ، فعطف مجيئه على مجيء الملائكة، ثم عطف مجيء آياته على مجيئه .
ومن المجيء المقيد قوله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ } فلما قيده بالمفعول، وهو ( البنيان ) ، وبالمجرور، وهو ( القواعد ) دل ذلك على مجيء ما بيَّنه، إذا من المعلوم أن لله سبحانه إذا جاء بنفسه؛ لا يجيء من أساس الحيطان وأسفلها " انتهى .
17 – ثم يواصل فضيلة الشيخ دفاعه المستميت عن الذين يؤولون الصفات، فيقول :
" ويقولون في حديث النزول : ( ينزل الله في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا ) : إن المراد به تنزيل رحمته؛ إذا كيف ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، وفي كل ساعة من ساعات الليل والنهار ثلث أخير في بعض البلاد، فالوقت الذي يكون عندنا بمكة مثلًا صلاة المغرب يكون في أندونسيا الثلث الأخير من الليل، وفي الوقت الذي يكون بمكة آخر الليل يكون عند غيرنا وقت الضحى أو الظهر " . . . إلخ ما قال .
- والجواب : عن ذلك أن نقول :
أولًا : ألفاظ الحديث تنفي نسبة النزول إلى غير الله؛ بأن يقال : تنزل رحمته، حيث جاء في حديث النزول أنه يقول سبحانه : " أنا الملك، من يستغفرني فأغفر له، هل من سائل فأعطيه " :
هل رحمته تقول : أنا الملك ؟ !
هل رحمته تقول : من يستغفرني فأغفر له، هل سائل فأعطيه ؟ !
هل رحمته تقول : " أنا الملك، من يستغفرني . . . إلخ ؟ !(150/35)
ثانيًا ً : وأما الاعتراض بأن ثلث الليل يختلف باختلاف البلاد؛ فيجاب عنه بأن هذا الاعتراض صادر عن عدم تصوره لعظمة الله سبحانه، وعن قياس نزوله على نزول المخلوق، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا .
وهذا الاعتراض أيضا ناشيء عن البحث في كيفية نزوله سبحانه، والنزول كسائر صفات الله عز وجل، نؤمن به على حقيقته ومعناه، ونكل كيفيته إلى الله عز وجل .
ونحن نقول لهؤلاء : إذا كان الله سبحانه يحاسب جميع الخلائق يوم القيامة في ساعة واحدة، ويرزق الخلائق في ساعة واحدة، ويسمع دعاء الداعين في ساعة واحدة - على اختلاف لغاتهم وتفنن حاجاتهم -، ولا تغلطه كثرة المسائل، فإذا كان قادرًا على ذلك كله؛ فهو قادر على النزول الذي أخبر عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - كيف يشاء، مع اختلاف ثلث الليل في سائر البلدان، والله تعالى أعلم .
18 – يدعو الشيخ الصابوني إلى ترك مناقشة المذاهب – بما فيها الصوفية أصحاب الطرق المعروفة، والذين تكثر عندهم الأخطاء – وأن نوفر طاقاتنا لحرب أعدائنا الملاحدة والشيوعيين والمنافقين .
والجواب أن نقول :
لا يمكن أن نقف صفًّا واحدًا في وجه أعداء الإسلام إلا إذا صلحت العقيدة من الشركيات والبدع والخرافات والإلحاد في أسماء الله وصفاته؛ قال تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } .
والاعتصام بحبل الله يعني الرجوع إلى الحق وترك الباطل، وإذا كانت المعاصي العملية تخل بصف المسلمين أمام أعدائهم؛ فكيف بالمعاصي الاعتقادية ؟ !
إنه لا يبقى في وجه الأعداء إلا أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تزال طائفة من أمتى على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) .(150/36)
19 – يختم بما بدأ به من مدح الأشاعرة، وأنهم من أهل السنة، وينقل طرفًا من مقالة أبي الحسن الأشعري في كتابه " الإبانة " الذي صرح فيه برجوعه عن مذهبه الأول إلى مذهب أهل السنة، ويجعل ذلك من مزايا مذهب الأشاعرة تلبيسًا على الناس الذين لا يعرفون الفرق بين ما عليه الأشاعرة من تأويل الصفات وما استقر عليه من رأي أبي الحسن الأشعري أخيرًا، وهو الرجوع إلى مذهب أهل السنة وإثبات الصفات، وبذلك يصبح ليس له مذهب مستقل، ويكون الأشاعرة ليسوا من أتباع أبي الحسن على الحقيقة، وتكون تسميتهم بهذا الاسم تزييفًا وظلمًا لأبي الحسن ما داموا لا يقولون بما قاله في كتاب " الإبانة " .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ( مجموع الفتاوى ) ( 16/ 359 ) :
" وأما من قال منهم ( يعني : الأشاعرة ) بكتاب " الإبانة " الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك؛ فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنًا بكل من انتسب هذه النسبة، وبفتح بذلك أبواب شر " انتهى .
وكان الشيخ يريد بذلك أن من قال بما في كتاب " الإبانة " لا ينبغي له أن ينتسب إلى الأشعري؛ لأن هذا ليس قول الأشعري وحده، وإنما هو قول أهل السنة، ولأنه بهذا الانتساب يوهم أن المراد الانتساب إلى مذهب الأشعري الذي رجع عنه - وهو تأويل الصفات -، وهو مذهب باطل ومبتدع .
هذا ما أردنا تعليقه على مقالات الشيخ الصابوني الذي حاول بها تعتيم الرؤية حول مذهب الأشاعرة في الصفات، وإيهام الأغرار أنه مذهب أهل السنة .
ونسأل الله لنا وله التوفيق لمعرفة الحق والعمل به .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=3 - TOP#TOP تعقيبات وملاحظات على كتاب صفوة التفاسير
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=3 - TOP#TOP مقدمة الطبعة الثانية :(150/37)
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، والصلاة والسلام على نبينا وعلى آله وصحبه ومن والاه . وبعد :
فقد اطلعت على مجموعة أوراق سودها محمد بن على الصابوني يزعم أنه يدافع عن كتابه الموسوم : " صفوة التفاسير " وما فيه من أخطاء علمية استدركت عليه (1)، وكان الأجدر به أن ينظر فيها فيقبل ما فيها من حق، فإن الحق ضالة المؤمن أنى وجده أخذه، وما فيها من خطإ – إن كان – فإنه يبين وجهة نظره فيه بإنصاف ورفق – لكنه على النقيض من ذلك – سمى هذه الملاحظات والإرشادات افتراءات حيث عنون الأوراق المذكورة بقوله : " كشف الافتراءات " ، وما تصور هداه الله ما لهذه الكلمة ( الافتراءات ) من معنى وخيم رمى به جماعة من طلبة العلم ليس لهم قصد فيما لاحظوه عليه إلا المناصحة له والنصيحة لكتاب الله، إن الافتراء كبيرة من كبائر الذنوب، يدل على عدم إيمان من اتصف به، قال تعالى : { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } ، إن العلماء ما زالوا يبينون للمخطئ خطأه وما كانوا بذلك مفترين، بل كانوا مشكورين . ولم ينقص ذلك من قدر المخطئ إذا قبل النصح وصحح خطأه أو بين وجهة نظره بأدب وحسن ظن بمن لاحظوا عليه " وكلكم خطاء وخير الخطائين التوابون " وقد قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس : كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر ( يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .(150/38)
ثم إن الأستاذ الصابوني يطالب باحترام العلماء – وكأنه بهذا يتصور أن بيان خطإ المخطئ فيه تنقيص للعلماء وهذا تصور خاص به – وأيضا هو لم يلتزم بالأدب في رده على مخالفيه حيث وصفهم بالتطاول على الناس وحب الظهور بمظهر العلماء والحسد وحب الشهرة، وأشد من ذلك قوله : إنهم هم الذين عناهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه ) ، إلى غير ذلك من جزاف التهم وهجر القول، وما أظن هذا يصدر إلا ممن هذه أوصافه ويظن الناس مثله، لأن المنظار الأسود يصور كل الذي أمامه أسود .
وقل للعيون الرمد للشمس أعين ** سواك تراها في مغيب ومطلع
إن الأستاذ الصابوني إن خدع نفسه بمثل هذا الأسلوب فلا يمكن أن يخدع القراء الذين يطلبون منه أن يقرع الحجة بالحجة، ولا يقرعها بالسباب والشتم لمن خالفه وبين خطأه، لكنه لما لم يملك حجة يقارع بها لجأ لمثل هذا الأسلوب الذي لا يعجز عنه أحد .
إنه مع هذه المكابرة اعترف بالخطأ حين قال : ضاقت صدور بعض الحاسدين فأخذ يتبع بعض الأخطاء التي لا يسلم منها إنسان، ولو كان مخلصًا لله في عمله وقصده لكتب إليَّ سرًّا لأتدارك تلك الأخطاء .
ونحن نقول له : أنت قد طبعت كتابك طبعات متتابعة ووزعته على نطاق واسع بأخطائه وهفواته، ولم تتوقف عن طباعته وتوزيعه وهو على حاله، رغم أن هذه الملاحظات قد وصلت إليك عن طريق رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، فلم تعبأ بها، بل كتبت إلي كتابًا لا أزال محتفظًا به عندي تنكر فيه على ما عملته من ملاحظات وبأسلوب بذيء ولاذع، أفترى أن نقف بعد هذا التصرف منك مكتوفي الأيدى ليمر كتابك بسلام، ويغتر به من ليس على مستوى علمي جيد فيظنه سليمًا . إن هذا من الخداع والخيانة للعلم وعدم النصيحة للأمة .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=3 - TOP#TOP الرد على إجاباته عن بعض الملاحظات :(150/39)
لقد حاول أن يجيب عما لوحظ عليه، والغالب على تلك الإجابة أنها مجرد مهاترات ليس فيها إجابة واحدة صحيحة، ولكن الرجل يكثر الكلام والمراوغة كمن يفسر الماء بعد الجهد بالماء – وأنا لا أرد عليه بالمثل في تهجماته ومهاتراته، ولكن سأبين – إن شاء الله – أنه لم يخرج بإجابة واحدة صحيحة . وحبذا لو أنه اعترف بالخطأ وصححه . أو أجاب إجابة مقنعة، وإليك التعقيب على بعض إجاباته باختصار :
1 – قال : إنه لم يأخذ من الكتب الاعتزالية إلا النواحى البلاغية .
وهذه مغالطة مكشوفة، وهل أوقعه في الأخطاء الكثيرة في الصفات وغيرها إلا ما نقله عن تلك الكتب بدون تمحيص .
2 – قال : إن إنكاري عليه إثباته المجاز في القرآن يعني تعرية القرآن عن أخص خصائصه البلاغية والبيانية .
وأقول : يا سبحان الله ! كيف يجيز لنفسه أن يقول : إن كلام الله غير حقيقة وإما هو مجاز { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا } ، وإذا كان كلام الله ليس حقيقة فماذا يكون .
ونقول أيضا : ليس كل ما جاء في لغة العرب يجوز في كلام الله عز وجل، فاللغة يجري فيها الكذب والشتم وقول الزور والمدح الكاذب والهجاء المقذع، وهذا مما ينزه عنه كلام الله .
ثم قال أيضا : أوصيك أن تقترح على وزارة المعارف إلغاء مادة البلاغة لأنها من البدع المستحدثة في الدين .
وأقول : ما علاقة تقرير وزارة المعارف لمادة البلاغة بإثبات وجود المجاز في القرآن الكريم، وهل هذا حجة ؟ لكنه لا يملك حجة غير المغالطات . ثم هل دراسة الشيء تعني الاعتراف به أو أنها للاطلاع فقط ومعرفة الحق من الباطل .
3 – أجاب عن قولي عن ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أنها أسماء رجال صالحين . بقوله : إنهم ما عبدوا الرجال وإنما عبدوا الأصنام – ثم تناقض مع نفسه فقال : فأصل هذه أنها أسماء رجال صالحين – لأنه اضطر إلى ذلك بسبب أنه وجد ما يدل على ذلك في صحيح البخاري .(150/40)
4 – أجاب عن اعتراضي عليه في نفيه التعجب عن الله، بأن الذي في الآية الكريمة هو قوله تعالى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } وهذه ليست صيغة تعجب عنده .
وأقول : إذا لم تكن هذه صيغة تعجب فما هي صيغة التعجب في لغة الصابوني ؟ ومن هو الذي قال : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } ؟ أليس هو الله سبحانه، وهل من تكلم بصيغة التعجب لا يكون متعجبًا .
5 – لم يرقه التعبير بما عبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه بقوله : ( أنا سيد ولد آدم ) ، بل أصر على قوله : هو سيد الكائنات .
وأقول : هو له أن يقول ما شاء، أما نحن فنكتفي ونرضى بما رضيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنفسه .
6 – لم يكفه ما جاء في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من تفسير اسمي الله سبحانه ( الظاهر والباطن ) بأنه الظاهر الذي ليس قبله شيء والباطن الذي ليس دونه شيء، فراح يحشد التفاسير الأخرى .
وأقول : لا قول لأحد بعد قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو جئت بمائة تفسير أو أكثر، فنحن يكفينا تفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : إن ابن كثير قال : وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولًا .
أقول : ابن كثير لم يقف عندما ذكرت بل ذكر بعد ذلك الأحاديث التي تتضمن تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذين الاسمين، ليبين أن الحجة في ذلك هي قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ثم إنك لم تنقل كلام البخاري بنصه، بل حذفت منه كلمة ( يحيى ) (2) ، قال البخاري - رحمه الله - : قال يحيى : الظاهر على كل شيء علمًا – إلخ -، وأنت قلت : قال البخاري : الظاهر على كل شيء علمًا إلخ، فنسبت القول للبخاري وهو ليس كذلك سامحك الله .
ثم ختم الشيخ تعقيباته بقول : فهذه أهم ما جاء في ملاحظات الدكتور الفوزان، وهناك ملاحظات طفيفة يسيرة – إلخ – وأقول :(150/41)
1 – أنا ليس اسمي الفوزان، إنما اسمي صالح بن فوزان، فلماذا لا تسميني باسمي الذي سميت به، أو إنك لا تتقيد بالأسماء وإنما تستعمل المجاز .
2 – قوله : وهناك ملاحظات طفيفة يسيرة، أقول : بل بقي ملاحظات مهمة كثيرة لم تستطع الإجابة عنها، فلو أنك اعترفت بالحق لكان خيرا لك، فإن الناس يدركون أن ما بقي من الملاحظات ليس طفيفا يسيرا وإنه بحاجة إلى إجابة مقنعة أو تسليم ورجوع إلى الحق، هدانا الله وإياك وسائر المسلمين للحق والصواب .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=3 - TOP#TOP مقدمة الطبعة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد :
فإن المسلمين بحاجة شديدة إلى معرفة معاني كتاب ربهم عز وجل؛ لأن ذلك وسيلة للعمل به والانتفاع بهديه، وقد قام أئمة الإسلام بهذه المهمة خير قيام، ففسروا كتاب الله معتمدين في ذلك على تفسير القرآن بالقرآن، ثم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم على أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم من القرون المفضلة، وما تقتضيه اللغة التي أنزل بها، فجاءت تفاسيرهم نقية صافية من التأويلات الباطلة والأهواء المضلة التي غالبا ما تشتمل عليها تفاسير من جاء بعدهم ممن لم يحذ حذوهم .(150/42)
وقد ظهر أخيرا تفسير للشيخ محمد على الصابوني تحت عنوان : " صفوة التفاسير " ، وهو عنوان يلفت النظر، لأنه يتضمن أن المؤلف أحاط بالتفاسير وانتقى منها صفوتها الصافية المطابقة للتفسير الصحيح لكتاب الله، وأكد ذلك بما كتبه تحت العنوان من قوله : " تفسير للقرآن الكريم جامع بين المأثور والمعقول، مستمد من أوثق كتب التفسير " ، وكنت ممن استهواهم هذا العنوان، فأقبلت على قراءة هذا التفسير، وسرعان ما تبين لي أنه يشتمل على أخطاء في العقيدة مستمدة من كتب ليست هي أوثق التفاسير، وحيث إن الكتاب قد انتشر ووقع بين يدي كثير ممن قد لا يميزون بين الخطإ والصواب، لذا رأيت أن أدون ما رأيته على الكتاب من
ملاحظات، وأن أنشرها للقراء إبراء للذمة، ونصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
وهذه الملاحظات تنقسم إلى قسمين :
1 – ملاحظات عامة مجملة على الكتاب تعطى فكرة عامة عنه .
2 – ملاحظات تفصيلية أبين فيها موضع الخطإ بالجزء والصفحة والسطر، ثم أشخص الخطأ وأرد عليه برد مختصر .
هذا وأسال الله لي ولفضيلة الشيخ محمد على الصابوني التوفيق لمعرفة الحق والعمل به، وأسال الله ذلك لجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=3 - TOP#TOP ملاحظات عامة على كتاب " صفوة التفاسير " للصابوني :
1 – اعتماده على مصادر غير مرغوب فيها ووصفه لها بأنها أوثق كتب التفسير، مثل : " تلخيص البيان " للرضي الشيعي الرافضي المعتزلي، و " تفسير الزمخشري " المعتزلي، وعلى تفاسير الأشاعرة كالرازي وأبي السعود والصاوي والبيضاوي، وبعض التفاسير العصرية مثل تفسير سيد قطب والقاسمي، ولا يخفى ما في هذا من التغرير بالقراء الذين لا يعرفون حقيقة هذه الكتب .(150/43)
2 – إثبات المجاز والاستعارات في القرآن الكريم مما لا يتناسب مع مكانته الجليلة، وكلام الله يجب حمله على الحقيقة لا على المجاز .
3 – حشو الكتاب بما لا يفهمه كثير من القراء من اصطلاحات البلاغيين، مثل : الطباق، والجناس، والاشتقاق، والإطناب، والحذف، ويذكر هذه الأشياء بمجرد أسمائها من غير إيضاح لها .
4 – يورد في الكتاب كثيرا من الأحاديث في أسباب النزول، ولا يبين درجتها من الصحة وعدمها .
5 – ينقل من كتب المعتزلة والأشاعرة من غير تعليق على ما تشتمل عليه عباراتهم من أغلاط في العقيدة، وهذا فيه تمرير لعقائدهم الباطلة وتغرير بالقارئ المبتدئ .
6 – يتهرب من تفسير آيات الصفات بالأحاديث التي جاءت توضحها، كما في آية { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } ، وآية : { هُوَ الأول وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } ، وآية : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } ، ويفسرها بما فسرها به نفاة الصفات .
7 - يتمشى على منهج المتكلمين في الاستدلال بالآيات على إثبات توحيد الربوبية ووجود الرب ولا يستدل بها على توحيد الإلهية الذي سيقت من أجله وجاءت لمحاجة المخالفين فيه .
8 - يتمشى على منهج المرجئة في تفسير الإيمان بالتصديق فقط .
9 - تمر في تفسيره تعبيرات صوفية وقد نبهنا عليها في مواضعها .
وإليك بيان ذلك بالتفصيل :
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=3 - TOP#TOP تفصيل الملاحظات على " صفوة التفسير " :
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=3 - TOP#TOP الملاحظات على الجزء الأول :
في صفحة ( 24 ) السطر الأخير : تسمية الله بالموجود وهذا خطأ لأن أسماء الله توقيفية وليس هذا منها ولأن هذا تعبير أهل وحدة الموجود .
وفي الصفحة ( 25 ) سطر ( 1 ) قوله : المنفرد بالوجود الحقيقي وهذا باطل لأنه تعبير أهل وحدة الوجود كالذي قبله .(150/44)
في صفحة ( 30 ) السطر ( 3 ) قوله : والتحذير من معاشر النساء في حالة الحيض وهذا التعبير خطأ لأن المعاشرة بغير الجماع ليست ممنوعة .
في صفحة ( 42 ) قوله : لنفي التأبيد والصواب : النفي المؤبد لأن التأبيد معناه عدم التأبيد .
في صفحة ( 44 ) سطر ( 11 ) : حصل منه تأويل الحياة في حق الله تعالى بغير معناه الحقيقي وهذا باطل حيث قال : الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان والمراد به هنا لازمه وهو الترك .
في صفحة ( 46 ) سطر ( 5، 6 ) : حصل منه تأويل الحياء في حق الله تعالى بغير معناه الحقيقي وهذا باطل .
في صفحة ( 52 ) سطر ( 7 - 9 ) قال كلامًا معناه : إن المعصية لا تؤثر في الولاية أخذًا من قصة آدم وهو خطأ لأن آدم تاب من معصيته والتائب من الذنب كمن لا ذنب له والصوفية يرون أن الولي تسقط عنه التكاليف . وهذا نص كلامه حيث يقول : سابق العناية لا يؤثر في حدوث الجناية ولا يحط من رتبة الولاية، إلخ .
في صفحة ( 90 ) سطر ( 6 - 7 ) : تأويل الوجه بالذات وهو تأويل باطل لأنه نفي لصفة ثابتة لله تعالى .
في صفحة ( 102 ) فقرة ( 3 ) : تأويل الوجه بالذات أيضا .
في صفحة ( 103 ) سطر ( 5، 4 ) : أخطأ في توجيه تسمية الصلاة إيمانًا حيث زعم أنها متممة للإيمان فقط والصواب أنها جزء عظيم من الإيمان ينفى الإيمان بانتفائها .
في صفحة ( 141 ) السطر الأخير يقول : اجتنبوا معاشرة النساء في المحيض وفي صفحة ( 142 ) سطر ( 5 - 6 ) كرر هذا القول وهذا خطأ لأن المحرم هو الجماع فقط كما قدمنا .
في صفحة ( 155 ) سطر ( 15 - 16 ) : قوله عن الله أو سعى لإصلاحها تعبير غير مناسب في حق الله لأنه لم يرد وصف الله بالسعي .
في صفحة ( 174 ) سطر ( 11 ) تعريف للربا فيه نقص لأنه غير جامع لأنه خصه بالزيادة في الدَّين وهو ربا النسيئة وهناك ربا آخر هو ربا الفضل .(150/45)
في صفحة ( 183 ) سطر ( 13 ) قوله : التأويل التفسير فيه نقص لأن التأويل قد يراد به التفسير وقد يراد به الحقيقة التي يئول إليها الشيء والمراد هنا المعنى الثاني .
في صفحة ( 184/185 ) قال : إن المتشابه يرد إلى المحكم وفي صفحة ( 185 ) قال : إنه لا يعلم تفسير المتشابه ومعناه الحقيقي إلا الله وهذا تناقض . فإن كان لا يعلم تأويله إلا الله فكيف يرد إلى المحكم .
في صفحة ( 195 ) : نقل في الحاشية عن سيد قطب كلامًا يقرر فيه ثبوت الشمس ودوران الأرض عليها وهذه النظرية تعارض ما في القرآن من ثبوت الأرض وجريان الشمس حولها .
وقال : فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك وهو قول على الله بلا علم لأن الأفلاك تتحرك بأمر الله وتقديره .
في صفحة ( 207 ) سطر ( 3 ) قوله : أي لا يوجد إله غير الله تضاف إليها كلمة ( حق ) لأن هناك آلهة باطلة .
في صفحة ( 207 ) سطر ( 13 - 14 ) : أورد إشكالا حول إسناد المكر إلى الله ولم يجب عنه بجواب واضح .
في صفحة ( 205 ) آخر الصفحة : ذكر كلامًا في معنى توفي المسيح فيه نظر حيث زعم أن التوفي بعد الرفع .
في صفحة ( 213 ) سطر ( 7 - 8 ) تأويله نفي تكليم الله للمجرمين ونظره إليهم بأنه مجاز عن شدة غضبه
في صفحة ( 250 ) السطر ( 17 ) قوله : ( ولما كان الله لا يكتب ) ما الدليل على هذا النفي وفي الحديث : ( وكتب التوراة بيده ) .
في صفحة ( 262 ) سطر ( 9 ) قال : وهو زواج حقيقي لكنه غير مسمى بعقد، كيف يكون زواجًا بدون عقد، ثم وصفه في السطر ( 10 ) بأنه عقد حرام، وهذا تناقض .
في صفحة ( 266 ) في الهامش رقم ( 3 ) : نقل تعليلًا عن سيد قطب لعدم قبول توبة المحتضر، بأنه لم يبق لديه متسع لفعل المعاصي، وهذا فيه نظر، والصواب - والله أعلم - لأن المحتضر يتوب عندما يعاين من كان غائبًا عنه في الحياة من الملائكة والعقوبة وغير ذلك .(150/46)
في صفحة ( 269 ) السطر الأخير : استدل على جواز نكاح المسلم المسبية المزوجة من كافر بقوله تعالى { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } ، وهذا استدلال غير صحيح لأن الآية تمنع تزوج المسلم من كافرة .
في صفحة ( 271 ) سطر ( 17 ) : فسر الإيمان بأنه التصديق، وهذا مخالف لتعريفه عند جمهور أهل السنة، وموافق لقول المرجئة .
في صفحة ( 293 ) سطر ( 14 ) : قوله : لا معبود سواه الصواب : لا معبود بحق سواه، لأن هناك معبودات بغير حق .
في صفحة ( 296 ) السطر الأخير : ذكر كلامًا فيه خلط بين مذهب الجمهور ومذهب ابن عباس في عقوبة قتل العمد .
في صفحة ( 316 ) سطر ( 8 ) : ( فسوف نؤتي ) ( الصواب : يؤتيه ) .
في صفحة ( 318 ) الفقرة رقم ( 49 ) آخر الصفحة قوله : إن الرسوخ في العلم وقول اليهود { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } من باب الاستعارة، قول باطل، لأنه رسوخ حقيقي وتغليف حقيقي ليس هو استعارة ومجاز .
في صفحة ( 3199 سطر ( 1 ) قوله : إن قوله تعالى عن اليهود { وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء } ، { وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ } من المجاز المرسل خطأ أيضا، بل هو حقيقة، فهم لما رضوا بفعل أسلافهم شاركوهم في الجريمة ولما كفروا بكتاب واحد كفروا بالكل حقيقه لا مجازًا .
في صفحة ( 322 ) سطر ( 11 ) قوله : لأن الإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه، ليس هذا من تعبيرات السلف والتركيب لم يرد نفيه ولا إثباته في حق الله تعالى فيجب السكوت عنه، والحق أن يقال ما قاله الله عن نفسه : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، ثم إن التركيب فيه إجمال لا بد من تفصيله .
في صفحة ( 328 ) سطر ( 18 ) في موضوع الصيد : قال : هذه أربع شروط، مع أنه لا يذكر إلا اثنين : التعليم وذكر اسم الله، والصواب أيضا أن يقال أربعة شروط، لا أربع .
يقال أربعة شروط، لا أربع .(150/47)
في صفحة ( 345 ) سطر ( 5 ) قوله : هذا تعجيب من الله تعالى لنبيه، هذا التعبير خطأ، لأنه يتضمن نفي التعجب عن الله، وقد ثبت في الأدلة أنه سبحانه يعجب، ومثل هذا يتكرر كثيرًا، والصواب أن يقول : هذا تعجب من الله .
في صفحة ( 195، 395 ) : يكرر كلمة ( شهيد الإسلام ) – يعني سيد قطب - رحمه الله - – عندما ينقل عنه كلامًا يستشهد به على تفسير بعض الآيات . مع أن الجزم بالشهادة لمعين لا يجوز إلا بنص، لكننا نرجو للمحسنين ونخاف على المسيئين من المسلمين .
في صفحة ( 356 ) سطر ( 11 ) قوله : الصابئون طائفة من النصارى عبدوا الكواكب، فيه نظر لأن الصابئة على قسمين : صابئة حنفاء وصابئة وثنيون، انظر ما ذكره ابن القيم في " إغاثة اللهفان " عنهم . وفي السطر الثالث قبل الأخير خلل ونقص فليراجع .
في صفحة ( 358 ) سطر ( 11 ) قوله : " وإنما موسى وعيسى مظاهر شئونه وأفعاله " .
هذا التعبير غير مناسب؛ لأنه يشبه تعبير الصوفية .
في صفحة ( 366 ) سطر ( 20 ) قال : إن الحرم سبب لأمن الناس من الآفات والمخافات .
وهذا لا دليل عليه وفيه مبالغة واعتقاد فاسد بغير الله .
في صفحة ( 371 ) سطر ( 14 ) قوله : السؤال عن المتشابهات ومن ذلك سؤال مالك عن الاستواء .
الصواب : أن يقال : عن كيفية الاستواء لأن السائل قال : كيف استوى فقال مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول ولم يسأله عن معنى الاستواء .
في صفحة ( 401 ) سطر ( 20 ) قوله : لأن الرب لا يجوز عليه التغير والانتقال لأن ذلك من صفات الأجرام .
أقول : نفي الانتقال ونفي الجرم عن الله لم يرد به دليل من الكتاب والسنة، وما كان كذلك وجب التوقف فيه ولما فيه من الإجمال .
في صفحة ( 409 ) سطر ( 14 ) : تفسيره الإيمان بالتصديق بوجود الله تفسير قاصر ومخالف لما عليه أهل السنة من أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح .(150/48)
في صفحة ( 410 ) سطر ( 8 ) قال على قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } أي لا تصل إليه وهو تفسير خاطئ حيث ثبت أن المؤمنين يرونه يوم القيامة، وإنما الصواب أن يقال : ( لا تدركه ) : لا تحيط به حين تراه .
في صفحة ( 450 ) سطر ( 17 ) قوله : " أن معبودكم وخالقكم الذي تعبدونه " في العبارة ركاكة وخلط، والصواب أن يقال : إن خالقكم ومالككم والمستحق للعبادة، لأن كثيرا من المخاطبين يعبدون غيره معه فلا يكفي التعبير ب- " تعبدونه " .
في صفحة ( 476 ) سطر ( 17 ) قوله : ولا معبود سواه، الصواب : ولا معبود بحق سواه، لأن هناك معبودات كثيرة لكن بغير حق .
في صفحة ( 481 ) سطر ( 2 ) من الحاشية حول إشهاد بني آدم على أنفسهم قال : هذا من باب التمثيل والتخييل، يجب حذف هاتين الكلمتين لعدم لياقتهما وسوء التعبير بهما، لأن الإشهاد حقيقي وليس تخييلا وتمثيلا كما قال .
في صفحة ( 512 ) سطر ( 11 ) قوله : لأن الحرب ضرورة اقتضتها ظروف الحياة . . إلخ . يعني الجهاد في سبيل الله، وهذا الكلام غير مناسب، لأن الجهاد في الإسلام شرع لنشر عقيدة التوحيد في الأرض وظهور دين الإسلام على سائر الأديان، قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } ، وغيرها من الآيات التي تبين الحكمة التي من أجلها شرع الجهاد في سبيل الله لا من أجل ظروف الحياة كما زعم .
في صفحة ( 531 ) سطر ( 16 ) : نقل عن الرازي نفي التعجب عن الله وأقره على ذلك، وهذا خطأ فاحش، لأن التعجب ثابت لله صفة من صفاته الفعلية على ما يليق به .
في صفحة ( 531 ) سطر ( 19 ) قوله عن أهل الكتاب مع أحبارهم ورهبانهم : ( وإن كانوا لم يعبدوهم ) ، هذا النص خطأ لأن الله اعتبر طاعتهم لهم في تحليل ما حرم وتحريم ما أحل عبادة، فكيف يقول لم يعبدوهم وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي معنى عبادتهم لهم بهذا الذي ذكرنا .(150/49)
في صفحة ( 554 ) سطر ( 6 ) قوله : أي لا تقف على قبره للدفن أو للزيارة والدعاء، يزاد كلمة : ( له ) فيقال والدعاء له بالمغفرة ليزول اللبس .
في صفحة ( 564 ) سطر ( 19 ) قوله على آية { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى } هو تمثيل إلخ، خطأ لأنه لا مانع من حمله على الحقيقة .
في صفحة ( 570 ) سطر ( 2 ) قوله : أى لا معبود سواه، يزاد عليه كلمة : ( بحق ) ليصح التعبير .
في صفحة ( 570 ) سطر ( 5 ) : تفسيره { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى } بأنه استعارة تبعية، خطأ لأن الأصل في الكلام لاسيما كلام الله الحقيقة لا المجاز والشراء في اللغة استبدال شيء بشيء .
في صفحة ( 574 ) سطر ( 10 ) قوله عن القمر : أي قدر سيره في منازل هي البروج، هذا خطأ لأن المنازل للقمر والبروج للشمس، ومنازل القمر ثمان وعشرون والبروج اثنا عشر فقط .
في صفحة ( 581 ) السطر قبل الأخير قوله : أي تبرأ منهم الشركاء ( وهم الأصنام الذين عبدوهم ) ، نقول : ليس هذا خاصا بالأصنام، بل كل ما عبد من دون الله من الملائكة والأولياء وغيرهم، فقصره على الأصنام خطأ وقصور ظاهر، لأن الله تعالى قال : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } الآية، وقال تعالى : { ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } وما بعدها .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=3 - TOP#TOP الملاحظات التفصيلية على الجزء الثاني :
في صفحة ( 9 ) سطر ( 16 ) قوله : ولا معبود إلا الله، الصواب أن يقال ولا معبود بحق إلا الله، لأن هناك معبودات كثيرة بغير حق .
في صفحة ( 22 ) سطر ( 21 ) قوله : ليس لكم رب معبود سواه، والصواب ليس لكم رب معبود بحق سواه .(150/50)
في صفحة ( 18، 25، 32 ) سطر ( 19، 7، 2 ) يقول : إن الأمر في قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } كناية عن العذاب، وهذا خطأ لأن المراد الأمر الكوني القدري فليس هو كناية كما يقول بل هو أمر حقيقة .
في صفحة ( 60 ) سطر ( 5 ) قبل الاخير : ذكر حديثا من غير توثيق مصدره وبيان درجته .
في صفحة ( 67 ) سطر ( 6 ) قبل الأخير : علل رجوع بصر يعقوب عليه السلام إليه أنه بسبب السرور والانتعاش، وفي هذا التعليل نظر : لأن ذلك معجزة من معجزات الأنبياء التي لا ندرك حقيقتها .
في صفحة ( 69 ) سطر ( 7 ) قبل الأخير قوله : الدالة على وجود الله، لو قال على قدرة الله لكان أنسب، لأن مجرد الوجود لا مدح فيه .
في صفحة ( 73 ) سطر ( 3 ) قبل الأخير قوله : ( من غير تجسيم ) ، التجسيم لم يرد نفيه ولا إثباته في الكتاب والسنة وهو من الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا .
في صفحة ( 76 ) سطر ( 7 ) قوله : ( المستعلي على كل شيء بقدرته ) ، هذا تفسير ناقص يقوله نفاة العلو، والحق : إنه تعالى مستعل على كل شيء بذاته وقدره وقهره .
في صفحة ( 76 ) سطر ( 12 ) قوله عن المعقبات : أنها ( كالحرس في الدوائر الحكومية ) فيه تشبيه الملائكة بالبشر , وهذا فيه تنقيص لقدرهم , وفيه تشبيه لحراسة الملائكة بحراسة البشر , والمشبه أقل من المشبه به , فعلى هذا تكون حراسة الملائكة أقل من حراسة البشر .
في صفحة ( 77 ) سطر ( 7 ) قوله : ( ويجادلون في وجود الله ) ، هذا لا يصح لأن كفار قريش يؤمنون بوجود الله وبتوحيد الربوبية , وإنما يجادلون في تخصيصه بالعبادة , وكذلك ما جاء في صفحة ( 98 ) من أن الآيات سيقت لإثبات وجود الله , وهذا خطأ واضح , لأن الكفار يقرون بوجود الله وبتوحيد الربوبية , وإنما ينكرون توحيد الإلهية حيث يعبدون مع الله غيره , فالآيات سيقت هي وأمثالها لإثبات توحيد الإلهية والاستدلال عليه بتوحيد الربوبية الذي يعترفون به .(150/51)
في صفحة ( 118 ) بين يدي السورة , أي : سورة النحل , يذكر في تلك المقدمة : أن سورة تركز على الوحدانية والقدرة , وهذا إجمال , فالسورة تركز على توحيد العبادة , والاستدلال عليه بتوحيد الربوبية ويحمل الآيات عليه , مع أن المشركين يقرون به , فلو كان كما فهم المؤلف لكان تحصيل حاصل , بينما القرآن دائما يركز على توحيد العبادة ويستدل عليه بتوحيد الربوبية الذي يقر به المشركون؛ لأن ذلك حجة عليهم فيما أنكروه من توحيد الإلهية .
في صفحة ( 119 ) سطر ( 19 ) قوله : إنه لا معبود إلا الله , لن هناك معبودات بالباطل , فلا بد من التقييد , وقد درج على هذا التعبير في تفسيره .
في صفحة ( 126 ) سطر ( 3 ) من الحاشية , يقول نقلًا عن سيد قطب : ( فالله سبحانه لا يريد لعباده الشرك ) ، وهذا النفي فيه إجمال , لأن إرادة الله على نوعين : إرادة كونية وإرادة شرعية , فالله أراد الشرك كونًا ولم يرده شرعًا ولا يرضاه دينًا , والمشركون يبررون شركهم بأن الله أراده , وإذا أراده فقد رضيه بزعمهم , وفي هذا خلط بين الإرادتين , فرد الله عليهم بأنه لو رضيه لما أرسل رسله بإنكاره , فدل على أنه لم يرد الشرك شرعًا ودينًا وإن كان أراده كونًا وقدرًا , والفرق بين الإرادتين ظاهر , فلا يصح أن تنفي إرادة الله للشرك بإطلاق كما قال سيد قطب , ونقله عنه المؤلف مقررًا له .
في صفحة ( 127 ) سطر ( 7 , 6 ) قبل الأخير قال : والحقيقة أنه تعالى لو أراد شيئًا لكان يغير احتجاج إلى لفظ ( كن ) ، هذا القول يحتاج على دليل فإنه لا يقال في حق الله شيء إلا بدليل , أن يكون الرأي متسربًا منه الذين ينفون الكلام عن الله . وذكر الاحتجاج لا يناسب .(150/52)
في صفحة ( 129 ) سطر ( 3 ) قال : في تفسير قوله تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ } أي يخافون جلاله وعظمته , هذا تفسير مجمل لم يبين فيه معنى الفوقية الحقيقي الذي هو علو الذات الكريمة فوق عباده بل اقتصر على تفسيره بالجلالة والعظمة .
في صفحة ( 147 ) سطر ( 11 ) قوله : في تفسير { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } أي : ما ذبح على اسم غير الله تعالى , في العبارة قصور , فلو زاد : أو تقرب به إلى الأصنام ولو ذكر اسم الله عليه .
في صفحة ( 151 ) سطر ( 10 ) : نقله لبيت الشعر الذي فيه مخاطبة الرسول :
سريت من حرم ليلًا إلى حرم **
فيه نظر , لأن وصف المسجد الأقصى المبارك بأنه حرم لا يصح , لأنه ليس هناك حرم إلا في مكة المشرفة حول البيت العتيق وحرم المدينة , والله لم يصف المسجد الأقصى بأنه حرم حيث يقول سبحانه : { أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } فلم يقل إلى المسجد الأقصى الحرام كما قال ذلك في مسجد مكة .
في صفحة ( 152 ) قوله في الجاثية : قضاء الله على بني إسرائيل بالإفساد مرتين ليس قضاء قهر وإلزام إلخ : عليه ملاحظتان :
الأولى : أن هذا التعبير خلاف تعبير الآية الكريمة , فالله تعالى يقول : { وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ } أي أعلمناهم وأخبرناهم في التوراة , ولم يقل : قضينا عليهم , إذ لو قال ذلك لاختلف المعنى , فالقضاء هنا معناه الإخبار فلا يحتاج إلى هذا الاحتراز .(150/53)
الثانية : أن ما حصل من بني إسرائيل لا يخرج عن قضاء الله الكوني وقدره , فليس هناك شيء يخرج عن قضاء الله الكوني وقدره، ولا يمنع هذا أن يكون لهم اختيار وقدرة ومشيئة لأفعالهم يستحقون بموجبها الثواب والعقاب كما قال تعالى { وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ } ولا يكفي أن يقال : إن الله علم ذلك أزلًا وأخبر عنه كما يقول المعلق في الحاشية، بل يقال إن الله علمه وقضاه وقدره وكتبه في اللوح المحفوظ .
في صفحة ( 154 ) في آخر الصفحة، ذكر أحد المفسرين لقوله تعالى : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } ، وهو المراد بالأمر الأمر بالطاعة وهو الأمر الشرعي وهو قول في معنى الآية . ولم يذكر القول الثاني وهو أن المراد بالأمر في هذه الآية الأمر الكوني القدري، وهذا قصور أو منقول عن المعتزلة الذين ينكرون القدر .
في صفحة ( 155 ) سطر ( 5-6 ) نقل عن ابن كثير قول ابن عباس في تفسير قوله تعالى { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } أنه بمعنى سلطانهم دون أن يشير إلى أن هذا التفسير على قراءة التشديد- الميم في أمرنا كما هو في ابن كثير .
في صفحة ( 172 ) سطر ( 19 ) قال على قوله { وَزَهَقَ الْبَاطِلُ } فلا شرك ولا وثنية بعد ِإشراق نور الإيمان في هذا نظرًا لأن الشرك والوثنية لا يزال كل منهما موجودًا، فيكون المراد أن حجة الحق ظهرت وبطلت حجة الباطل وليس المراد عدم وجود الباطل .
في صفحة ( 173 ) سطر ( 12-13 ) قوله ( فإن كانت نفس الإنسان مشرقة صافية صدرت عنه أفعال كريمة ) .
هذا تعبير صوفي اعتزالي معناه نفي القدر، والحق أن يقال : فمن كتب من أهل السعادة فيستعمل بعمل أهل السعادة ومن كتب من أهل الشقاوة , كما في الحديث الذي بين سبب السعادة والشقاوة , وكما دل عليه القرآن، وإشراق النفس سببه أنها قد كتبت من أهل السعادة .(150/54)
في صفحة ( 174 ) آخر اللطيفة التي ذكرها (3)javascript:openquran(16,72,72) في الرد على منكر المجاز لا يصح الاحتجاج بها؛ لأن العمى أنواع : منه عمى البصر ومنه عمى القلب وهو المراد في الآية، فليس هو مقصورا على عمى البصر حتى يصبح الاحتجاج بتلك الحكاية , قال تعالى : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } .
في صفحة ( 185 ) سطر ( 4 ) من الحاشية : قول سيد قطب فيما نقله عنه المؤلف في موضوع أصحاب الكهف : وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم الله ) ، وفي هذا القول مؤاخذة؛ لأن الشرك لا يجوز فعله من باب التقية، وإنما هذا خاص بالنطق بكلمة الكفر لأجل التقية مع اطمئنان القلب بالإيمان وهذا ما نادى به أصحاب الكهف حيث قالوا { لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا } .
في صفحة ( 208 ) سطر ( 15 ) قال على قوله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } فكلام الله تعالى غير عمله وكل منهما صفة مستقلة عن الأخرى والمراد كلماته الحقيقية التي بها يخلق ويرزق ويشرع ويأمر وينهى .
في صفحة ( 210 ) سطر ( 3 ) قوله : ومحور هذه السورة يدور حول التوحيد والإيمان بوجود الله كثيرًا ما يكرر المؤلف مثل هذه العبارة ( وجود الله ) , مع أن وجود الله تعترف به جميع طوائف البشر وإنما الخلاف في توحيد العبادة وهو الذي دعت إليه جميع الرسل ونزلت لتقريره جميع الكتب، وإنما توحيد الربوبية الذي منه الإقرار بوجود الله ( كما يسميه ) فليس محل نزاع، وإنما يذكر في القرآن للاستدلال به على توحيد العبادة لا لأجل إثباته لأنهم يقرون به، والشواهد على هذا كثيرة حتى إبليس مقر بوجود الله والمؤلف ينقل عبارات الرازي وغيره من علماء الكلام على علاتها .(150/55)
في صفحة ( 229 ) السطر الأخير : ذكر أن طه من أسماء الرسول مع أنه لم يذكر دليلًا على ذلك، ثم قال في صفحة ( 230/س12 ) : الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن، فكيف ( طه ) اسمًا للرسول ويكون حروفًا مقطعة .
في صفحة ( 230 ) سطر ( 21 ) قوله : ( من غير تجسيم ) , الجسم لم ير نفيه ولا إثباته في حق الله تعالى فيجب التوقف فيه .
في صفحة ( 231 ) سطر ( 3 ) من الهامش : قول سيد قطب كما نقله عنه المؤلف : ( ثم إذا الوجود كله من حوله يتجاوب بذلك النداء العلوي : { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } هذا الكلام أسلوب صوفي، ثم هل كلمة الوجود أو الله سبحانه ؟ إن الذي كلمه هو الله كما قال تعالى : { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } .
في صفحة ( 248 ) سطر ( 14، 15 ) من قوله : ( لا تنفع الشفاعة أحدًا إلا لمن أذن له الرحمن أن يشفع له ورضي لأجله شفاعة الشافع ) ، الجملتان في معنى واحد، والصواب أن يقال في الثانية : ورضي قول المشفوع فيه وعمله بأن يكون من أهل لا إله إلا الله .
في صفحة ( 261 ) سطر ( 16 ) قوله : والكفار عن الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته . . . . معرضون، هذا التعبير سليم، لأن الكفار يقرون بوجود الله وإنما يشركون معه غيره في العبادة، فالآيات حجة عليهم في بطلان الشرك في العبادة، وهم معرضون عما تدل عليه من وجوب إفراد الله بالعبادة .
في صفحة ( 276 ) سطر ( 21 ) قوله : قادرين على ما نشاء، تعبير غير صحيح، والصواب إن يقال قادرين على كل شيء كما قال الله : { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
في صفحة ( 304 ) سطر ( 3 ) قبل الآخر قوله : وكلها أدلة ساطعة على وجود الله، والصواب : أن يقول على وجوب إفراد الله بالعبادة، لأنها سيقت لأجل هذا، أما وجود الله فالمخاطبون مقرون به كما في آخر السورة .(150/56)
في صفحة ( 310 ) سطر ( 11 ) تفسير قوله تعالى : { لاَ يُؤْمِنُونَ } ، لا يصدقون الله ورسوله،تفسير غير سليم؛ لأن الإيمان ليس مجرد التصديق وإنما هو قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح كما هو قول جمهور أهل السنة .
( 318 ) سطر ( 17 ) قوله : الشموس والأقمار فيه نظر لأنه لم يرد في القرآن ذكر الشمس والقمر إلا مفردين والباقي سماه نجومًا وكواكب، قال تعالى : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } .
في صفحة ( 344 ) سطر ( 6 ) قوله : إن فيما تقدم ذكره لدلالة واضحة وعظة بليغة على وجود الصانع المبدع، نقول ليس المراد من سياق الآيات مجرد الاستدلال على وجوده سبحانه لأن المخاطبين مقرون بذلك، وإنما المراد الاستدلال على وجوب إفراده بالعبادة وهو الذي يخالف فيه المخاطبون .
في صفحة ( 348 ) سطر ( 6 , 5 ) في الأخير قوله :
" يا أيها المؤمنون الذين صدقوا الله ورسوله وأيقنوا الشريعة الإسلامية نظامًا ومنهاجًا " .
نقول : الإيمان ليس هو مجرد التصديق والرضا بالشريعة نظامًا منهاجًا , وإنما هو قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهكذا عرفه أهل السنة والجماعة، ويدخل في ذلك ما ذكره المؤلف .
في صفحة ( 374 ) السطر الأخير والتعليقة رقم ( 4 ) :
قال في تفسير الذكر المحدث : " بأنه محدث في النزول لأن كلام الله قديم " .
وهذا خطأ لأن وصف كلام الله بأنه قديم مطلقًا يتمشى مع مذهب الأشاعرة، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون : إن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، لأن الله يتكلم متى شاء، وانظر أيضا ( ص255/س16 ) .
في صفحة ( 402 ) سطر ( 8 ) قوله :
عن تزيين أعمال الكافر : ولا يخلق في قلبه العلم بما فيها من المضار، هذا لا يصح، ولو كان كذلك لم يؤاخذوا وعذروا بالجهل .(150/57)
في صفحة ( 414 ) سطر ( 3 ) قبل الأخير قوله : أي هل معه معبود سواه، التعبير غير سليم والأنسب أن يقول : هل معه من يستحق العبادة سواه، وكذلك يقال فيما بعدها من الآيات التي تشبهها لأن المعبود معه موجود، وإنما السؤال عن الاستحقاق وعدمه لا وجود المعبود معه .
في صفحة ( 431 ) : ذكر أن الذي زوج بنته لموسى هو شعيب، دون مستند يثبت ذلك .
في صفحة ( 462 ) سطر ( 7-8 ) قوله :
( لآيات للمؤمنين ) , أي : المصدقين بوجود الله ووحدانيته، نقول ليس الإيمان هو مجرد التصديق كما سبق التنبيه عليه .
في صفحة ( 473 ) سطر ( 8 ) قوله :
يلجئون- يعني قريشًا- إلى دار لا نفع فيها - يعني مكة-، هذا الوصف لا يليق بمكة المشرفة .
في صفحة ( 473 ) السطر الأخير على قوله : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ } الآية , أي سبحوا الله ونزهوه عما لا يليق به , المشهور أن المراد بالنسيج هنا الصلوات الخمس في هذه الأوقات .
في صفحة ( 486 ) سطر ( 3 )
قوله : أصول العقيدة الثلاثة , أصول العقيدة ليست ثلاث فقط بل هي ستة : الإيمان وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره , كما في حديث جبريل وغيره .
في صفحة ( 488 ) سطر ( 18 )
قوله : جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح , العمل الصالح من الإيمان , فهو داخل في حقيقته وعطفه على الإيمان من عطف الخاص على العام اهتمامًا به , مثل قوله تعالى . { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } .
في صفحة ( 495 ) سطر ( 17 )
قوله : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : وهو مؤمن بوجود الله , الصواب أن المراد بالإحسان هنا متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لئلا يتكرر مع قوله تعالى : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلى اللَّهِ } , لأن معناها التوحيد والمتابعة , ولهذه الآية نظائر فسرت بهذا التفسير الذي ذكرناه , ثم الإيمان بوجود الله ليس إحسانًا .
في صفحة ( 496 ) سطر ( 21 ) :(150/58)
تفسير كلمات الله بعجائب صنع الله كما نقله عن القرطبي , تفسير باطل , لأن كلمات الله المراد بها كلامه الذي به يأمر وينهى ويشرع , وهو صفة من صفاته العلية التي لا تتناهى كسائر صفاته سبحانه .
في صفحة ( 505 ) سطر ( 6-8 ) :
ذكر حكاية فيها سب للوليد بن عقبة وهو صحابي , وسب الصحابة لا يجوز .
في صفحة ( 530 ) سطر ( 4 ) قبل الأخير
قوله : أي يا أيها المؤمنون الذين صدقوا بالله ورسوله، ليس الإيمان مجرد التصديق من غير نطق وعمل , وقد سار على هذا التفسير للإيمان في عدة مواضع , كما بيناه مرارًا .
في صفحة ( 536 ) سطر ( 14 , 15 , 18 )
قوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأسطر : إنه مهبط الرحمات , منبع الرحمات ومنبع التجليات والواسطة العظمى في كل نعمة وصلت لهم , هذه الألفاظ فيها غلو في حقه - صلى الله عليه وسلم - وإطراء قد نهى عنه عليه الصلاة والسلام بقوله : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله " مع ما فيها من عبارات الصوفية .
في صفحة ( 539 ) السطر الأخير
قال عن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال : إنه تصوير لعظمها , يعني أن العرض المذكور غير حقيقي , وهذا خطأ , لأنه خلاف ظاهر الآية الكريمة من غير دليل , والأصل الحقيقة في كلام الله ورسوله , ثم إنه ذكر في صفحة ( 540 ) عن ابن الجوزي ما يدل على أن العرض حقيقي , فهذا تناقض .
في صفحة ( 552 ) سطر ( 17، 18 ) :
في العبارة التي نقلها عن الصاوي , أن الشيطان سبب الإغواء لا خالق إغواء , إلى أن قال : والكل فعل الله تعالى , ونقول : إن تجريد الشيطان من الفعل ونسبته إلى الله يتمشى مع مذهب الجبرية . والحق أن الشيطان وغيره من المخلوقين لهم أفعال حقيقية وهي لا تخرج عن خلق الله وتقديره : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } , فأثبتت لنا عملًا مع أنه الخالق لكل شيء .(150/59)
في صفحة ( 553 ) سطر ( 10 ) وما بعده : سر قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } بغير ما ورد في حديث أبي هريرة وحديث النواس بن سمعان , والتفسير إذا جاء عن الرسول لم يجز العدول عنه إلى غيره , وهو قد فسرها بما يحصل يوم القيامة عن طلب الشفاعة , وحديث أبي هريرة وحديث النواس يدلان على أن هذا الفزع يحصل عندما يتكلم الله بالوحي فتأخذ السموات منه رجفة وتصعق الملائكة عند ذلك .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=3 - TOP#TOP الملاحظات التفصيلية على الجزء الثالث :
في صفحة ( 15 ) سطر ( 3 ) : نقل عن سيد قطب أن الشمس تجري حول نفسها وأن مقدار سيرها اثنا عشر ميلًا في الثانية وأن حجمها نحو مليون ضعف حجم الأرض , وهذه الأشياء التي ذكرها تخرّص لا دليل عليه , ومن العجيب أنهم يستنكرون الإسرائيليات مع أنها قد تكون حقًّا، ولا يستنكرون هذه التخرصات السخيفة .
في صفحة ( 16 ) سطر ( 15، 16 ) قوله : نفخة الصعق : التي يموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيام، هذا يخالف قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ } فهناك أشياء استثناها الله سبحانه .
في صفحة ( 65 ) سطر ( 5 ) قبل الأخير : فسر قوله تعالى : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } بقوله : خلقته بذاتي، وهذا تعطيل للصفات نعوذ بالله من الضلال وجحد ليدي الله الكريمتين .
في صفحة ( 67 ) سطر ( 10 ) وصف حالته عند سماع القرآن فقال وأحيانًا أجدني أتمايل طربًا بدون شعور . . إلخ، يعني عند تلاوة القرآن، وهذا الكلام من تعبيرات الصوفية، والمطلوب عند تلاوة القرآن الخشوع لا الطرب، ويجب أن ينزه القرآن عن مثل هذا الكلام السخيف .(150/60)
في صفحة ( 71 ) التعليقة ( 4 ) : نقل عن سيد قطب كلامًا حول خلق الجنين في بطن أمه جاء فيه ( ويد الله تخلق هذه الخلقة الصغيرة ) إلخ، وإسناد خلق الجنين إلى يد الله فيه نظر، لأن هذا من خصائص آدم عليه السلام حيث خلقه الله بيده فليتأمل .
في صفحة ( 71 ) سطر ( 4 ) قبل الأخير : فسر معنى رضا الله بالمدح والإثابة، وهذا تأويل للصفة عن معناها الصحيح، الذي هو الرضا الحقيقي اللائق به سبحانه .
في صفحة ( 73 ) سطر ( 5 ) قوله فيما نقله عن الرازي : فالعمل هو البداية، والعلم والمكاشفة هو النهاية، هذا خلاف ما يدل عليه قوله تعالى { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } فبدأ بالعلم قبل القوله تعالى .
في صفحة ( 87 ) الثلاثة الأسطر الأخيرة : فسر قوله تعالى : { وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } بأنها مضمونات ومجموعات بقدرته، وهذا إنكار ليمين الرحمن جل وعلا، وهو تأويل باطل ماحل، وانظر : ( ص91/س 8، 9 ) .
في صفحة ( 90 ) سطر ( 4 ) : على قوله تعالى عن الملائكة { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أي يسبحونه ويمجدونه تلذذًا لا تعبدًا، وهذا فيه نظر لأنه لا دليل عليه والله وصف الملائكة بأنهم عباد فلو قال : تلذذًا وتعبدًا لكان أحسن .
في صفحة ( 92 ) سطر ( 3-4 ) قال ولهذا جاء جو السورة مشحونًا بطابع العنف والشدة، هذا التعبير لا يليق بكلام الله عز وجل .
في صفحة ( 108 ) سطر ( 12 ) قوله : أي لا معبود في الوجود سواه، الصواب أن يقال : لا معبود بحق , لأن هناك معبودات كثيرة لكنها تعبد بالباطل، قال تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } .(150/61)
في صفحة ( 110 ) سطر ( 13 ) على قوله تعالى : { فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، نقل قول أبي السعود قوله : وهذا تمثيل لكمال قدرته وتصوير لسرعة وجودها من غير أن يكون هناك آمر ومأمور . وهذا كلام فاسد لأنه خلاف مدلول الآية من أن الله تعالى يقول للشيء , قولًا حقيقيًا ( كن ( , والمراد من هذا نفي كلام الله على مذهب المبتدعة .
في صفحة ( 117 ) سطر ( 59 ) قبل الأخير : نقل عن الزمخشري أن قول الله تعالى للسماء والأرض { اِئْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا } أنه على التمثيل والتصوير لا أنه قول خطاب وجواب إلخ , وهذا تأويل باطل , يراد من ورائه نفي وصف الله بأنه يتكلم , وهو قد نقله مقررًا له .
في صفحة ( 125 , 124 ) ( 10 , 6 ) : يعبر عن الآيات الكونية بأنها أدلة على وجود الله , وكثيرًا ما يكرر مثل هذا التعبير , وهو خطأ ظاهر , لأنه ليس القصد من ذكر الآيات الكونية الاستدلال على وجود الله وانفراده بالخلق الذي هو عبارة عن توحيد الربوبية , لأن هذا يقر به جمهور العالم أو كل العالم ومنهم المخاطبون بالقرآن بالذات , ومن أقر بهذا فقط لم يكن مسلمًا , وإنما المقصود بسياق الآيات الكونية دائمًا الاستدلال بذلك على توحيد العبادة الذي ينكره المشركون .
في صفحة ( 134 ) سطر ( 3 ) قبل الأخير يقول : إن الله منزه عن الأغراض والأعراض , مثل هذا النفي مبتدع , لأنه مما سكت الله عنه وسكت عنه رسوله , ولأنه يراد بنفي الأغراض نفي الحكمة وبنفي الأعراض نفي أفعاله المتجددة مثل الكلام والخلق والرزق .(150/62)
في صفحة ( 141 ) التنبيه في آخرها , قال : لا يستبعد أن يكون في الكواكب السيارة والعوالم مخلوقات غير الملائكة تشبه مخلوقات الأرض , إلى أن قال : واستدلوا بهذه الآية : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ } , يعني استدلوا على ما ذكره من احتمال وجود هذه المخلوقات , هكذا قال , مع أنه لا تطابق بين ما ذكر ومدلول الآية الكريمة , لأنها خصت السموات والأرض دون الكواكب ببث الدواب فيها .
في صفحة ( 142 ) سطر ( 4 ) قوله : آية تدل على وجود الإله القادر الحكيم , دائمًا يكرر مثل هذا التعبير , وهو خطأ , لأن وجود الله يعرفه كل أحد , وإنما المقصود والاستدلال على وجوب إفراده بالعبادة .
في صفحة ( 174 ) سطر ( 17 ) : يقول في تفسير قوله تعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ } وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة , وهذا التعبير لا يتناسب مع كلام الله عز وجل , وهو خلاف ما يدل عليه من بكائها حقيقة , والأصل حمل كلام الله على الحقيقة , فلها بكاء حقيقي يناسبها .
في صفحة ( 181 ) سطر ( 18 , 17 ) قوله : في تفسير قوله تعالى : { إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } ، لعلامة باهرة على كمال قدرة الله وحكمته لقوم يصدقون بوجود الله ووحدانيته , وفي هذه العبارة خطأ من ناحيتين : الأولى : أن الإيمان ليس مجرد التصديق . . وثانيًا : ليس المقصود من الآيات الاستدلال على وجود الله لأن الناس لا ينكرون هذا . خصوصًا المخاطبين بالقرآن .(150/63)
في صفحة ( 206 ) : قوله في تفسير قوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } أي جمعوا بين الإيمان الصادق والعمل الصالح , تعبيره هذا يعطي التفريق بين الإيمان والعمل , وأنه يمكن أن يكون إيمان صادق بدون عمل , وهذه طريقة المرجئة , والصواب : أن العمل جزء من الإيمان فلا يكون إيمان بدون عمل، وعطفه عليه من عطفه الخاص على العام اهتمامًا به وله نظائر .
في صفحة ( 206 ) سطر ( 8 ) : قوله : إشارة إلى أن الإيمان لا يتم بدونه , أي التصديق بما أنزل على محمد والصواب أن يقال : لا يصح بدونه لأن التمام غير الصحة .
في صفحة ( 221 ) سطر ( 6 ) قبل الأخير : فسر قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } أن يغيروا وعد الله , وهذا تأويل لصفة من صفات الله وهي الكلام , فلو قال : أي يريدون أن يبدلوا كلام الله الذي وعد به المؤمنين . . إلخ , لكان هو الصواب .
في صفحة ( 262 ) سطر ( 1 ) قوله عن الطور : ونال ذلك الجبل من الأنوار والتجليات والفيوضات الإلهية ما جعله مكانًا وبقعة مشرفة على سائر الجبال في بقاع الأرض , وهذا الكلام فيه غلو في حق ذلك الجبل , وذكر أوصاف لا دليل عليها , وفيه تعبيرات صوفية .
في صفحة ( 267 ) سطر ( 6 ) قبل الأخير : قال : أي { أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ } لأنفسهم حتى تجرءوا فأنكروا وجود الله جل وعلا , وهذا غير صحيح , لأن المشركين لم ينكروا وجود الله الخالق وإنما ينكرون إفراده بالعبادة , والمراد بالآيات إثبات ما أنكروه لا إثبات ما يقرون به لأنه تحصيل حاصل ولأنه لا يكفي .
في صفحة ( 274 ) سطر ( 8-9 ) قال عن سدرة المنتهى : وقد غشيتها الملائكة أمثال الطيور يعبدون الله عندها يجتمعون حولها مسبحين زائرين كما يزور الناس الكعبة , قال هذا ولم يذكر عليه دليلًا , ومعلوم أن مثل هذا لا يقبل إلا بدليل .(150/64)
في صفحة ( 287 ) سطر ( 10-11 ) : " قال في معرض تفسير قوله تعالى : { أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ } ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ويفيض نور الهدى على من رضيه , وهذا التعبير بالفيض يتمشى مع قول الفلاسفة أن النبوة فيض وليست وحيًا .
في صفحة ( 294 ) سطر ( 7-8 ) { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } , قال : ينقادان للرحمن فيما يريده منهما هذا بالتنقل بالبروج وذاك بإخراج الثمار , وهذا تأويل للسجود عن حقيقته من غير دليل .
وكل شيء يسجد سجودًا حقيقيًا بكيفية يعلمها الله , كالتسبيح , وقد قال تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } .
في صفحة ( 296 ) سطر قبل الأخير : فسر الوجه في قوله تعالى : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } بالذات , وهذا تأويل باطل , يقصد به نفي ما وصف الله به نفسه من أن له وجهًا , إذ من المعلوم في لغات جميع الأمم أن الوجه غير الذات , وفي الآية قرائن تبطل هذا التأويل , ذكرها ابن القيم في ( الصواعق ) .(150/65)
في صفحة ( 318-320 ) سطر ( 11-12-17 ) : فسر اسم الله الظاهر والباطن تفسيرًا يخالف ما فسرهما به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , حيث قال : والظاهر بآثار مخلوقاته , والباطن الذي لا يعرف كنه حقيقته أحد , وقال : أي الظاهر للعقول بالأدلة والبراهين الدالة على وجوده، والباطن الذي لا تدركه الأبصار ولا تصل العقول إلى معرفة كنه ذاته , ثم علق على ذلك بقوله : هذا أرجح الأقوال في تفسير الظاهر والباطن , وقد اختاره أبو السعود والألوسي , ومن العجب أنه ساق بعده تفسير الرسول لهذين الاسمين الكريمين بما يبطل تفسيره هذا , وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء , وأنت الباطن فليس دونك شيء " , حيث فسر - صلى الله عليه وسلم - الظهور بظهور ذاته وعلوها فوق مخلوقاته , وفسر البطون بقربه من عباده , ولكن نعوذ بالله من عمى البصيرة , وذكر هذا التفسير الباطل أيضا في صفحة ( 219/س10 ) .
في صفحة ( 319 ) سطر ( 2 ) قبل الأخير : نقل ترجيح الخازن أن تسبيح الكائنات غير العاقلة يكون بغير القول , وهذا الترجيح خلاف الظاهر ولا دليل عليه والله تعالى يقول : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } والله قادر على أن يجعل للكائنات نطقًا يناسبها لا نفهمه نحن فما هذا التكلف ؟
في صفحة ( 320 ) سطر ( 2 ) من الآخر : قال على قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استواء يليق بجلاله من غير تمثيل ولا تكييف , وقد كرر هذه العبارة على جميع آيات الاستواء السبع , ومعناها التفويض حيث لم يفسر معنى الاستواء بما فسره السلف من أنه العلو والارتفاع مع تفويض الكيفية , وهذه طريقة الشعار المفوضة منهم .(150/66)
في صفحة ( 321 ) في التعليقة رقم ( 1 ) : زعم أن تفسير السلف لقوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } بالعلم , من باب التأويل , ثم أطلق لسانه وقلمه على الذين يمنعون التأويل , وهو نفس المقالات التي نشرها في مجلة المجتمع , ورددنا عليها بما يبطلها , ورد عليها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –حفظه الله- بما يدحضها , والحمد لله رب العالمين .
في صفحة ( 321 ) سطر ( 17 ) فسر قوله تعالى : { آمَنُواْ بِاللَّهِ } أي صدقوا بأن الله واحد , وتفسير الإيمان بأنه مجرد التصديق تفسير باطل يتمشى مع مذهب المرجئة , والإيمان عند أهل السنة , التصديق بالقلب , والنطق باللسان والعمل بالجوارح , لا يكفي واحد من هذه الثلاثة دون البقية , وقد تكرر من المؤلف تفسير الإيمان بأنه مجرد التصديق .
في صفحة ( 322 ) سطر ( 10 ) قوله : بما ركز في العقول من الأدلة على وجود الله , وفي هذا التعبير نظر , فلو قال بما ركز في العقول من معرفة الله بالأدلة , وكذا ليس المقصود من الأدلة مجرد معرفة وجود الله فقط , لأن لفظ الوجود ليس فيه مدح لأنه يشترك فيه كل موجود , وإنما المقصود من الأدلة معرفة استحقاقه للعبادة وحده .(150/67)
في صفحة ( 335 ) سطر ( 8-9 ) : في تفسيره قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ } نقل قول الزمخشري حيث قال : ومعنى سماعه تعالى لقولها إجابة دعائها لا مجرد علمه تعالى بذلك , وهو كقول المصلي " سمع الله لمن حمده " اهـ , وقد نقله مقررًا له مع أنه تفسير باطل , لأن معناها نفي صفة السمع عن الله وتأويله بإجابة الدعاء , وتشبيهه بقول المصلي : " سمع الله لمن حمده " تشبيه مع الفارق بينهما لأن " سمع الله " هنا معدى بنفسه , ومعناه السماع الحقيقي , و ( سمع الله لمن حمد ) معدّى باللام ومعناه الإجابة , كما نقل بعد ذلك بثلاثة أسطر تفسير أبي السعود لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } بأن معناها مبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات وهذا معناه نفي صفتي السمع والبصر عن الله تعالى وتأويلهما بالعلم , وهو تأويل باطل .
في صفحة ( 365 ) سطر ( 3 ) قبل الأخير : قال على قوله تعالى : { الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } , أن الذي آمنتم وصدقتم بوجوده , وهذا كما سبق منه مرارًا حيث يفسر الإيمان بالتصديق وهو تفسير لغوي لا شرعي , وقد بيّنا خطأه في ذلك مرارًا , ثم قوله بوجوده , تعبير أسوأ , إذ معناه أن معناها أن مجرد التصديق بوجود الله يكون إيمانًا كافيًا .(150/68)
في صفحة ( 430 ) سطر ( 6 ) وما بعده : قال على قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } , يكشف فيه عن أمر فظيع شديد في غاية الهول والشدة . . إلخ , وهذا يخالف ما فسر به النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية فيما رواه البخاري - رحمه الله - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه , قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقول : ( يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة , ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا ) ، قال ابن كثير - رحمه الله - , وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق , وله ألفاظ , وهو حديث طويل مشهور اهـ , وتفسير الرسول هو المتعين وإن كان يخالف أهواء نفاة الصفات .
ومن العجب أن الصابوني ساق آخر هذا الحديث : ( يسجد كل مؤمن ومؤمنة ) وحذف أوله الذي هو تفسير الآية الكريمة وبيان المراد بالساق , وهذا والعياذ بالله من التلبيس والخيانة في النقل .
في صفحة ( 454 ) سطر ( 10 ) : على قوله تعالى : { وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا } الآية , نقل عبارة الصاوي هذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها، وهذه العبارة تخالف ما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما , أن هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح ماتوا فحزنوا عليهم , فأشار عليهم الشيطان بتصويرهم ونصب صورهم على مجالسهم لتذكر حالهم في العبادة . . إلخ الأثر , وفيه أن هذه الصور عبدت .
في صفحة ( 508 ) سطر ( 5 ) قبل الأخير قال : ذكر تعالى هذه الأدلة التسع على قدرته تعالى كبرهان واضح على إمكان البعث والنشور , فقوله كبرهان واضح على مكان البعث والنشور , تعبير غير سليم , لأنه يعطي معنى التشبيه بمعنى أنها تشبيه البرهان وليست برهانًا , وهذا تعبير صحفي دارج لا يليق بأسلوب التفسير , وجاء هذا التعبير في صفحة ( 517/س13 ) .(150/69)
في صفحة ( 542 ) سطر ( 18 ) قوله : أي الذين جمعوا بين الإيمان الصادق والعمل الصالح , هذا التعبير يعطي أن الإيمان غير العمل , وهذا خلاف مذهب أهل السنة والجماعة من أن العمل داخل في مسمى الإيمان بحيث لا يتحقق الإيمان بدونه , وعطفه العمل على الإيمان عندهم من عطف الخاص على العام اهتمامًا به .
في صفحة ( 566 ) سطر ( 4 ) قوله : فدل بناؤها وإحكامها على وجوده وكمال قدرته , وهو تعبير ناقص , لأنه ليس المراد من ذكر الآيات الكونية مجرد الاستدلال على وجود الله؛ لأن المخاطبين يقرون بذلك وإنما المراد الاستدلال على إفراده بالعبادة وهو الذي يجحده المخاطبون , وكم يكرر مثل هذا التعبير الناقص .
في صفحة ( 604 ) سطر 6 ) : وصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيد الكائنات , وصف فيه غلو وإطراء , وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك , فلو قال سيد البشر لكان ذلك صحيحًا مطابقًا له لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) ، أما سيادته على الكائنات فهذا لا دليل عليه .
التعقيب على ما ذكره الأستاذ عبد الكريم الخطيب في كتاب " الدعوة الوهابية ومحمد بن عبد الوهاب "
الحمد لله , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
وبعد :
فقد اطلعت على كتاب عنوانه : " الدعوة الوهابية , محمد بن عبد الوهاب : العقل الحر والقلب السليم " للأستاذ عبد الكريم الخطيب .
والكتاب في جملته يتضمن دراسة تحليلية لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من حيث الأسس التي قامت عليها وطريقتها , وثمرتها , والحاجة إليها , وما قوبلت به من خصومها .
وهو كتاب جيد في بعض مواضيعه وسيئ في مواضيع أخرى منه، فقد أدركت عليه ملاحظات مهمة لا يسعني المرور بها دون تعليق عليها بيانًا للحق , ونصحًا للخلق وإنصافا لهذه الدعوة المباركة برد يلصقه بها أعداؤها من تهم وما يقذفونها به من شبهات، شأنها في ذلك شأن كل دعوة إصلاح .(150/70)
ناهيك بما حصل لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على يد خصومها في ذلك .
ولعل الأستاذ الخطيب قد وقع في تلك الأخطاء تأثرًا بما يسمع أو يقرأ مما يمليه أو يلقيه خصوم هذه الدعوة، دون تنبه لأهدافهم وأغراضهم، وإن كان الأستاذ قد أزاح عن هذه الدعوة المباركة كثيرًا مما لفقه أعداؤها من شبهات، لكنه أبقى على بعضها مما لولاه لكان كتابه جيدا مئة في المئة .
وكان الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم وفقه الله قد لاحظ على الأستاذ كثيرًا من تلك الأخطاء بملاحظات مختصرة طبعت مع كتابه في طبعته الأخيرة، دون أن يغير من واقع تلك الأخطاء شيئًا، مما يدل على إصراره عليها .
وهذا مما يؤكد على ملاحظاتي هذه بدافع النصح وتجليه الحقيقة، لعل الأستاذ يعيد النظر في كتابه فينحي عنه تلك الهفوات، ليسلم من تبعتها ويجنب القراء – خصوصًا الذين لا يعرفون هذه الدعوة معرفة جيدة عن الوقعية فيها، - فالرجع إلى الحق خير من التمادي في الباطل - .
وهذه الملاحظات بعضها جاء عرضًا في غير صميم الموضوع وإليك بيانها بالتفصيل :
1- تسميته لدعوة الشيخ بالدعوة الوهابية , وتسميته لأتباعها أيضا بالوهابية .
- ولعل الأستاذ فعل ذلك مجاراة لخصوم الدعوة الذين ينبزوها بهذا اللقب لمقصد خبيث لم يتنبه له فهذه التسمية خطأ من ناحية اللفظ ومن ناحية المعنى :
أما الخطأ من ناحية اللفظ، فلأن الدعوة لم تنسب في هذا اللقب إلى من قام بها- وهو الشيخ محمد -، وإنما نسبت إلى عبد الوهاب - الذي ليس له أي مجهود فيها - فهي نسبة على غير القياس العربي، إذ النسبة الصحيحة أن يقال : ( الدعوة المحمدية ) .
لكن الخصوم أدركوا أن هذه النسبة نسبة حسنة لا تنفر عنها فاستبدلوها بتلك النسبة المزيفة .(150/71)
وأما الخطأ من ناحية المعنى، فلأن هذه الدعوة لم تخرج عن منهج مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم، فكان الواجب أن يقال : الدعوة السلفية لأن القائم بها لم يبتدع فيها ما نسب إليه كما ابتدع دعاة النحل الضالة من الإسماعيلية والقرمطية، إذ هذه النحل الضالة لو سميت سلفية، لأبى الناس والتاريخ في هذه التسمية؛ لأنها خارجة عن مذهب السلف، ابتدعتها من قام بها .
فالنسبة الصحيحة لفظًا ومعنى لدعوة الشيخ محمد عبد الوهاب أن يقال الدعوة المحمدية، أو الدعوة السلفي .
لكن لما كانت هذه النسبة تغيظ الأعداء حرفوها ولذلك لم تكن الوهابية معروفة عند أتباع الشيخ وإنما ينبزهم بها خصومهم بل ينزهون بها كل من دان بمذهب السلف، حتى ولو كان في الهند أو مصر وإفريقية وغيرها والخصوم يريدون بهذا اللقب عزل الدعوة عن المنهج السليم , فقد أخرجوها من المذهب الأربعة , وعدُّوها مذهبًا خامسًا { حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } .
2- قال الأستاذ في ( ص 12 ) :
" فالحرب التي دارت بين علي ومعاوية قد اختلط فيها الرأي بالهوى , والدين بالسياسة " .
- هكذا قال سامحه الله , مع أن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم الخوض فيما شجر بينهم؛ لأنهم في ذلك معذورون , إما مجتهدون مصيبون , وإما مجتهدون مخطئون , إن أصابوا فلهم أجران , وإن أخطؤوا فلهم أجرٌ واحد , والخطأ مغفور .
قال الشيخ الإسلام ابن تيمية : -
" ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسبتهم , من الإيمان بالله ورسوله , والجهاد في سبيله , والهجرة , والنصرة , والعلم، النافع , والعمل الصالح , ومن نظر في سيرة القوم , بعلم وبصيرة - وما منَّ الله عليهم به من الفضائل , علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء " .
3- في ( ص 53 ) يقول الأستاذ :(150/72)
" ولقد كان الخلاف بين الحسن البصري وتلميذه أبي الحسن الأشعري خلافًا في الرأي . . . " إلخ .
- كذا يقول ! ! مع أن بين الحسن البصري والأشعري زمنا طويلا , فالحسن البصري توفي - رحمه الله - سنة ( 110هـ ) . وهو تابعي، وأبو الحسن الأشعري ولد سنة ( 260هـ ) . فبين وفاة الحسن وولادة الأشعري مئة وخمسون سنة كما ترى , كيف يتحقق هذا التتلمذ الذي قاله الأستاذ ؟ !
4- في ( ص20 ) لما تحدث عن الكائنات، قال :
" لا بد من قوةٍ وراءَ هذه الظواهر جميعها , لا بد من موجد لها , قائم عليها , منظم لوجودها , ممسك ببقائها , سم هذه القوة ما شئت من أسماء , وبأية لغة , وعلى أي لسان , إنها ( الله ) ، خالق الكون , ومدبر الوجود , وهذا ما يسمى بالتوحيد , أي : الإيمان بالقوة الواحدة الموجدة لكل شيء , والمتصرفة في كل شيء " اهـ .
- ولنا على هذه الجملة ملاحظتان :
الأولى : أنه جوز أن يسمى الله قوة , وهذا خطأ , لأن أسماء الله توقيفية , فلا يسمى إلا بما يسمي به نفسه , أو سماه به رسوله , وقد سمى نفسه بالقوي , كما قال تعالى : { يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ } .
وقال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } .
والقوة صفته , كما قال سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } .
فالقوي : اسمه , والقوة صفته سبحانه , وهناك فرق بين الاسم والصفة .
ثم إنه لا يجوز لنا أن نسمي الله بما شئنا من أسماء؛ لأن أسماءه توقيفية , فلا نسميه إلا بما سمى به نفسه .
الملاحظة الثانية : أنه فسر التوحيد بأنه الإقرار بأن الله هو مدبر الوجود وموجده , فإن أراد أن هذا هو توحيد الربوبية , فهذا صحيح , لكن هذا التوحيد لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله , ولا يدخل صاحبه في الإسلام , ولا يعصم دمه وماله , لأن الكفار يقرون بهذا وهم كفار .(150/73)
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } , { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } .
وإن أراد أن هذا هو التوحيد المطلق المطلوب من الخلق , فهذا خطأ واضح : لما ذكرنا من أن الكفار أقروا به ولم ينفعهم في الدنيا , ولا ينفعهم في الآخرة , وسماهم الله كفارًا لما لم يقروا بتوحيد الإلهية الذي هو عبادته وحده لا شريك له .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" فإقرار المرء بأن الله رب كله شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقرارًا بأنه لا إله إلا الله , فلا يستحق العبادة أحد إلا هو , وأن محمدًا رسول الله , فيجب تصديقه فيما آخر به وطاعته فيما أمر " .
وقال أيضًا :
" وقد أخبر الله سبحانه عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بينه في كتابه , فقال :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أو أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } .
وذكر آيات كثيرة في هذا المعنى , ثم قال :(150/74)
وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد , فإن عامة المتكلّمين الذي يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون : هو واحد في ذاته لا قسيم له , وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد . . ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب , وأن هذا هو معنى قولنا " لا إله إلا الله " ، حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع . ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولا لم يكونوا يخالفونه من هذا , بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا يقرون بالقدر أيضًا , وهم مع هذا مشركون " اهـ .
5- في ( ص47 ) ذكر الأستاذ أن الشيخ محمد عبد الوهاب التقى في المدينة بالشيخ أبي المواهب البلعي الدمشقي وأخذ عنه الفقه .
- ولا ندري علي أي شيء اعتمد في ذلك مع أن الذين ترجموا للشيخ وكتبوا في سيرته من أحفاده وتلاميذهم غيرهم لم يذكروا أبا المواهب من جملة شيوخه، والظاهر أن بينهما مدة زمنية تمنع من إدراك الشيخ لأبي المواهب .
ثم قال الأستاذ ( ص63 ) :
" ثم اتصل ( يعني : الشيخ محمدًا ) بالشيخ محمد السندي المدني، وأخذ ما اطمأن إليه وعارضه فيما لم يقبله عقله ويطمئن إليه قلبه " .
- ولا ندري ما مستند الأستاذ في هذا القول الذي لم يسبقه إليه أحد ممن ترجم للشيخ من تلاميذه وأحفاده، والخبراء بسيرته، كالشيخ ابن غانم، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ ابن بشر وغيرهم .
- ثم هل المرجع فيما يقبل ويرد في الأخذ عن العلماء هو العقل أو ميزان الشرع وقواعده الثابتة ؟ !(150/75)
- إن الأستاذ جعل الشيخ يرجع في ذلك إلى عقله، وهذا ما لا نوافقه عليه ولا يوافقه عليه غيرنا، لاسيما في حق مثل الشيخ الذي كان يحرص كل الحرص على اتباع الدليل والانقياد له ولأن صحيح النقل لا يخالف صريح العقل أبدًا كما هو معلوم .
- وفي هذا تجريح للشيخ محمد حياة السندي في علمه بأن عنده ما لا يقره العقل ولا يطمئن إليه القلب .
6- في ( ص74-75 ) يقول الأستاذ :
" بدأت الدعوة ( يعني : دعوة الشيخ ) حادة عنيفة مطبوعة بطابع التطرف والمغالاة، فكان طبيعيًا أن يلقاها الناس بعناد وتطرف، ومثل هذا لا يجعل للمسلم مجالًا بين الطرفين المتقابلين . . . . "
إلى أن قال :
" بدأت ( يعني : الدعوة ) بإنكار المجتمع الإسلامي كله , فالمسلمون جميعًا في نظر الوهابيين قد انسلخوا عن الإسلام بما أدخلوا على دينهم من بدع ومحدثات كالتوسل بغير الله ورفع القباب على قبور الموتى ممن يعتقد فيهم الصلاح، وهذا لون من الشرك بالله وفي هذا بعض الحق ولكن فيه كثيرًا المبالغة والغلو . . . . . . . . . . . . . " .
إلى أن قال :
" كان لا بد أن يحدث هذا ( يعني : شدة الخلاف بينهم وبين غيرهم ) بعد أن وضع الوهابيون دعوتهم في هذا الإطار الذي يحصر الإسلام في دعوتهم، ويجعل كل من انحرف عنها منحرفًا عن الإسلام، داخلًا في مداخل الكفر والإلحاد ونجد هذا واضحًا في الكتب التي ألفها علماء الوهابيين " اهـ .
- والجواب أن نقول : هكذا يصف الأستاذ دعوة الشيخ بهذه الأوصاف :
أ- الغلو والتطرف والعنف .
ب_ تكفر جميع المسلمين، وحصر الإسلام في تلك الدعوة، وتكفير من انحرف عنها .
ج-- أن كتب علماء الوهابية تشتمل على تكفير المسلمين .
جوابنا على ذلك أن نقول :(150/76)
أولًا : قد تناقض الأستاذ في كتابه هذا تناقضًا واضحًا في موضوع دعوة الشيخ فبينما هو يصفها بهذه الصفات المنفرة التي ربما يكون قد قرأها من كتب خصومها، أو سمعها من أفواههم , { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } بينما هو يسطر هذه الصفات هنا، إذا هو في آخر كتابه يقول في ( ص111-112 ) :
" ودعوة محمد بن عبد الوهاب من الكلم الطيب , لأنها تستند إلى الحق , وتدعو له , وتعمل في سبيله , ولهذا كانت دعوة مباركة , وفيرة الثمر , كثيرة الخير , لقد قام صاحبها يدعو إلى الله لا يبغي بهذا جاهًا , ولا يطلب سلطانًا , وإنما يضيء للناس معالم الطريق , ويكشف لهم المعاثر والمزالق التي أقامها الشيطان على جوانبه .
ولقد اصطدمت هذه الدعوة وهي وليدة في مهدها بقوة عاتية , ولو لم تكن تستند إلى أصول ثابتة من الحق , وتقوم على دعائم قوية من الإيمان , لقضي عليها من أول صدمة , ولما واصلت سيرها في الحياة , ولما بقي منها في قلوب الناس أثر ينتفع به . . " .
إلى أن يقال :
" لقد وقف أتباع هذه الدعوة وقفة لا يمكن أن توصف بأقل من مواقف الشهداء من أتباع الأنبياء وحوارييهم . . " .
إلى أن قال بعدما ذكر موقفهم من حملة إبراهيم باشا :
" وهكذا الدعوات الخاصة والمبادئ السليمة أشبه بالمعادن الكريمة , تزيدها النار وهجًا وبريقًا , وكالنبت الطيب يزيده الحريق أريجًا وطيبًا , فقد كانت هذه الدماء الزكية التي أريقت في سبيل الدعوة أكرم على الله من أن تذهب هدرًا , أو تضيع هباء , ولقد كانت غذاء طيبًا لتلك الشجرة المباركة , فزكت وأينعت وأطلعت أطيب الثمرات . . " .
هذا ما قاله الأستاذ في ثنائه على الشيخ وتزكيتها .
فهل تراه نسي ما كتبه قبل ذلك من وصفها بتلك الصفات المنفرة : الغلو , والتطرف , وتكفير جميع المسلمين ؟
كيف نجمع بين طرفي كلامه وهما نقيضان , والجمع بين النقيضين مستحيل , فكيف يجتمع في دعوة الشيخ هذا وذاك ؟ (150/77)
ثانيًا : إذا كانت دعوة الشيخ هي الحق , كما شهد به الأستاذ وغيره , وكما هو الواقع الذي لا شك فيه , فما خالفها , فهو الباطل قطعًا , { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } .
وليست هذه المخالفة في مسألة اجتهادية فروعية , بل في صميم العقيدة .
فهل يرى الأستاذ أن جهاد المخالف الذي أصر على مخالفته وعائد , هل يرى جهاده في سبيل العقيدة غلوًا وعنفًا وتطرفًا ؟
إذا : فأين موضوع الجهاد في سبيل الله ؟
وهل الشيخ وأتباعه جاهدوا إلا لأجل تصحيح العقيدة والقضاء على الشرك ؟
وهل جاهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من قبل إلا لأجل هذا الغرض , فلهم فيهم القدوة ؟
ثالثًا : وأما دعواه أن من سمات الدعوة تكفير المسلمين , فلنترك الجواب عنها للشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه .
قال - رحمه الله - في رسالته إلى السويدي- عالم من أهل العراق كان قد أرسل إليه كتابًا , وسأله عما يقول الناس فيه- فأجابه بهذه الرسالة ومنها :
" وأخبرك أني ولله الحمد متبع , ولست بمبتدع , عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين , مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة , لكني بينت للناس إخلاص الدين لله , ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم , وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل , وهو الذي دعت إلى الرسل من - أولهم إلى آخرهم وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة . . " .
إلى أن قال - رحمه الله - :
" ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني , وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة , ويا عجبًاكيف يدخل هذا في عقل عاقل ؟ هل يقول هذا مسلم ؟ إني أبرأ إلى الله من هذا القول الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل " .
ثم قال :(150/78)
" وأما التكفير , فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعدما عرفه سبه , ونهى عنه , وعادى من فعله , فهذا هو الذي أكفره , وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك " اهـ .
وقال - رحمه الله - في رسالة له :
" وأما ما ذكر لكم عني , فإني لم آته بجهالة , بل أقول- ولله الحمد والمنة , وبه القوة : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .
ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم , مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم , بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له , وأدعو إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أوصى بها أول أمته وآخرهم , وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني , بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم من الحق , لأقبلنه على الرأس والعين , ولأضربن الجدار بكل ما خالفه من أقوال أئمتي حاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يقول إلا الحق " اهـ , .
فهذا منهج الدعوة , يصفه لنا إمام الدعوة نفسه - رحمه الله - , فهل في هذا غلو وتطرف وتكفير لجميع المسلمين كما زعم ذلك خصومه ؟
إنه يجب عليك أيها الأستاذ أن تحاسب نفسك على ما تقول وتكتب , ولا ترسل القول جزافًا , وأن تتثبت قبل أن تصدر الحكم، عملًا بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } .
رابعًا : وأما دعواه أن كتب علماء الوهابية تشمل على تكفير المسلمين إلا من كان يدية بدعوتهم , فنحن نطالبه أن يبرز لنا كتابًا واحدًا من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو من كتب أبنائه وأحفاده وكتب تلاميذهم . . إلى يومنا هذا يصدق ما نسبه إليهم من تكفيرهم للمسلمين .(150/79)
وبالجملة , فالأستاذ وصف دعوة الشيخ بصفات مذهب الخوارج : الغلو , والتطرف , والعنف , وتكفير المسلمين , وحصر الإسلام فيهم .
من أين استقى هذه المعلومات الخاطئة عن الدعوة ؟
لا بد أنه استقاها من كتب خصومها , وما هذا شأن الباحث المنصف , فضلًا عن العالم المسلم الذي يعلم أنه سيحاسب بين يدي الله عن كل كلمة يقولها أو يكتبها، { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } .
7- ويقول الأستاذ في ( ص82 ) :
" وإذن، فنستطيع أن نقول : إن هذه الدعوة مهما كان اتصالها بالسياسة , فقد بقي اللون الغالب عليها- وهو الدين-، وظل صاحب الدعوة هو صاحب الكلمة في المجتمع الذي استجاب له بما فيه من حكام ومحكومين . . إلخ " .
ونقول له : هل الدين منفصل عن السياسة ؟
إن الدين هو السياسة الصحيحة , والشريعة الإسلامية دين ودولة , فالسياسة الصحيحة لا تقوم إلا على الدين .
8- في ( ص93 ) يتكلم الأستاذ في موضوع هدم القباب المقامة على القبور , فيقول :
" وقد بدأ هذا العمل صاحب الدعوة محمد بن عبد الوهاب , فهدم القبة المقامة على قبر زيد بن الخطاب , ثم تلا ذلك هدم كثير من قباب الصحابة والتابعين , ثم تجاوز هذا إلى قبر الرسول الكريم وإلى الكعبة الشريفة , فحالوا بين الناس وبين التمسح بهما والتماس البركة منهما , وكان ذلك هو الذي أثار ثائرة المسلمين في كل مكان , وعدوا من أجله الوهابيين حربًا على الإسلام , لأنهم لا يقدسون مقدساته , ولا يوقرون حرماته " .
والجواب على ذلك أن نقول : إن هدم القباب المقامة على القبور هو واجب . جميع المسلمين , تنفيذًا لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : ( ولا تدع قبرًا مشرقًا إلا سويته ) . كما رواه مسلم وغيره .
وأما التمسح بالكعبة , فالوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو استلام الحجر الأسود , وتقبيله , واستلام الركن اليماني دون بقية الأركان .(150/80)
ولهذا أنكر ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه لما كان يستلم أركان الكعبة كلها , ويقول : ليس من البيت شيء مهجور . وذكر له ابن عباس فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتلا عليه هذه الآية الكريمة : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
فتراجع معاوية رضي الله عنه عن رأيه , اتباعا للرسول، قال : صدقت .
وهذا شأن المسلم , { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا } .
فادعاء الأستاذ أن علماء الدعوة يمنعون التمسح بالكعبة مطلقًا ادعاء خاطئ , وأما التمسح بقبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو حرام , ووسيلة من وسائل من وسائل الشرك , وكذا التمسح بقبر غيره من باب أولى , والمنع من ذلك واجب , وهو من محاسن الدعوة لا من مثالبها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 26/97 ) :
" وأما سائر جوانب البيت والركنان الشاميان ومقام إبراهيم , فلا يقبل , ولا يتمسح به , باتفاق المسلمين المتبعين للسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , فإذا لم يكن التمسح بذلك وتقبيله مستحبًا , فأولى ألا يقبل ولا يتمسح بما هو دون ذلك .
واتفق العلماء على أنه لا يستحب لمن سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أن يقبل الحجرة , ولا يتمسح بها , لئلا يضاهي بيت المخلوق بيت الخالق , ولأنه قال - صلى الله عليه وسلم - :
( اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد ) . وقال : ( ولا تتخذوا قبري عيدًا ) .
وقال : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد , ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) .
وقال أيضا ( 26/121 ) :(150/81)
" ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين دون الشاميين , فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما استلمهما خاصة , لأنهما على قواعد إبراهيم , والآخران هما في داخل البيت , فالركن الأسود يستلم ويقبل , واليماني يستلم ولا يقبل , والآخران لا يستلمان ولا يقبلان , والاستلام هو مسح باليد , وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم وسائر ما في الأرض من المساجد وحيطانها ومقابر الأنبياء والصالحين وصخرة بين المقدس , فلا تستلم , ولا تقبل , باتفاق الأئمة " اهـ .
فالتبرك بالبقاع والقبور والآثار إذا كان القصد منه التعلق على الله في حصول البركة وطلبها من غيره , فهذا شرك , فماذا على علماء الدعوة إذا حالوا بين الناس وبين الشرك ووسائله , نصحًا للخلق وغيرة للحق ؟
ثم يعد الأستاذ منع التمسح بقبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعريضًا لمقامه وقبره للأذى . انظر ( ص94 ) من كتابه .
ويا سبحان الله إن الذي يؤذي الرسول حقيقة هو الذي يجعل قبره وثنًا يعبد , ويرتكب ما نهى عنه , أو يدافع بلسانه وقلمه عمن يفعل ذلك .
وقوله : " وكان ذلك هو الذي أثار ثائرة المسلمين في كل مكان . . " إلخ قول فيه مجازفة وتقول على المسلمين , فالمسلمون بالمعنى الصحيح يؤيدون علماء الدعوة في ذلك ولا ينكره إلا الجهال الذين لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه أما المعاندون من عباد القبور وهؤلاء وأولئك لا اعتبار لإنكارهم في ميزان الحق ومجال النقد .
ثم الداعية إلى الحق لا بد أن يعادى وتحاك ضده التهم، ولنا بما جرى لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جرى لإخوانه النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وما جرى على أتباعهم، لنا في ذلك أكبر أسوة وأعظم عبرة .
ثم إن الأستاذ أراد أن يلطف الموضوع ويغطي ما مر في كلامه من شطحات فقال :
" إن هذه الأمور " يعني : الأمور التي أنكرها الشيخ " بمنزلة ورم خبيث يحتاج إلى يد نطاسي بارع للقضاء عليه " ! !
9- ثم قال :(150/82)
" ولو أن الوهابية قد أخذت الأمر مأخذًا هينًا ودعت أول ما دعت إلى ترك البدع الصارخة، كالزار وغير ذلك مما كان يعيش عليه كثير من المسلمين في ذلك الحين , لو أن الوهابيين فعلوا هذا، لكان تمهيدًا طيبًا ومقدمة ناجحة لما تنطوي عليه دعوتهم من تحرير العقل الإسلامي وتحرير العقيدة الإسلامية مما غشيها من جهل وضلال " .
- هكذا يرى الأستاذ طريقة الدعوة الناجحة أن يترقى بها من الأدنى إلى الأعلى، بحيث يبدأ بإنكار البدع أولا ثم بإنكار الشرك .
ولنا على ذلك ملاحظتان :
الأولى : عده التمائم من البدع، مع أنها قد تكون شركًا إذا اعتقد معلقها أنها تدفع الشر بذاتها، وكذلك إذا كان فيها ألفاظ شركية، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) رواه أحمد وأبو داود .
الثانية : أن هذه الطريقة التي وصفها للدعوة مخالفة لطريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فالرسول أول ما بدأ بإنكار الشرك، فلبث في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد وإنكار الشرك قبل أن يأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج، والنهي عن البدع إنما يكون بعد صلاح العقيدة، بحيث يبدأ بالأهم فالمهم، بل هذه طريقة جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كل نبي أول ما يبدأ قومه بقوله :
{ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }(150/83)
10- يتكلم الأستاذ عن الاستعانة بالمخلوق فيقول في ( ص101-102 ) : " إن الإنسان الذي يؤمن بالله ويضم قلبه على توحيد لا يخلو أبدًا في حالات مختلفة من أن ينظر من غير قصد إلى غير الله فيما يطرقه من أحداث ذلك في الوقت الذي لا يخلو فيه قلبه من ذكر الله والإيمان بتفرده بالألوهية، ونحن نرى أن مثل هذه الالتفاتات العارضة لا يمكن أن تقطع الطريق على المسلم وأن تعزله عن ربه، وتسلكه في عداد الكافرين الملحدين، كما تقول بذلك الدعوة الوهابية، فأي إنسان لا تخف نفسه من غير قصد إلى التماس العون من ذوي الجاه وأصحاب السلطان ؟ . "
إلى أن قال :
" فهل لو ألقي مسلم اليوم في النار ثم جاءه أحد يمد إليه يد الخلاص، أيكون هذا المسلم كافرًا أو ملحدًا إذا قبل العون ؟ !
إن التوحيد الخالص على الوجه الذي تصوره الدعوة الوهابية يحتم على مثل هذا الإنسان ألا يستعين بغير الله .
فكيف الأمر إذن وصاحب الدعوة نفسه قد مد يده إلى أمير العيينة أولًا، ثم إلى الأمير محمد بن مسعود ثانيًا ؟ !
فهل في هذا ما ينقص التوحيد أو يفسد العقيدة ؟ ! فإن الأخذ بالأسباب أمر يدعو إليه العقل، ويزكيه الدين، وغاية ما في الأمر أن يضل بعض الناس عن جهل عن الاتجاه إلى الأسباب السليمة المتصلة بالمسببات،وذلك ما يمكن أن نفسر به تعلق بعض الجهلة بالأضرحة ونحوها، إنهم ضلوا الطريق فلم يتعرفوا على الأسباب الصحيحة ومثل هذا يوصف بالكفر والخروج عن الدين " ا هـ .
- وقد كرر الأستاذ كلمة " من غير قصد فهل مراده أن هذه الأشياء التي ذكرها تصدر من نائم أو ناس أو مجنون أو غير مميز أو مكره ؟ ! فكل من هؤلاء مرفوع عنه القلم بنصوص الأحاديث، فلا داعي إلى هذا التطويل .
وماذا قصده بالالتفاتة العارضة إلى غير الله التي تنسب إلى الدعوة الوهابية تكفير من فعلها ؟ !(150/84)
إن كان قصده الالتفات بطلب الحاجات وتفريج الكربات إلى الأموات والغائبين، فهذا كفر بإجماع المسلمين، ليس في الدعوة الوهابية فحسب، لأنه دعاء لغير الله { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } والآيات في هذا كثيرة .
وإن قصد بهذا الالتفات الاستعانة بالمخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه، كما يظهر قوله : " فأي إنسان لم تخف نفسه من غير قصد إلى التماس العون من ذوي الجاه والسلطان " , فهذا مباح،وقد تجنى الأستاذ على دعوة الشيخ في قوله : " إنما تكفر من فعل ذلك وتعده ملحدًا " .
وهو يرد على نفسه ويتناقض في قوله حين يقول " وصاحب الدعوة قد مد يده إلى أمير العينية أولا ثم إلى الأمير محمد بن سعود ثانيًا "
فقد رد على نفسه فيما نسب إلى هذه الدعوة ونحن نرد في هذه المسألة من كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث يقول - رحمه الله - في كشف الشبهات ما نصه :
فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها , كما قال الله تعالى في قصة موسى : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق , ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء، أو في غيبتهم، في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله " ا هـ .
وأما قوله عن تعلق بعض الجهلة بالأضرحة " إنهم ضلوا الطريق، فلم يتعرفوا على الأسباب الصحيحة، ومثل هذا يوصف بالجهل، ولا يهتم صاحبه بالكفر والخروج عن الدين "(150/85)
فنقول له : من تعلق على الأضرحة عن جهل، بين له الحق ودعي إلى التوحيد فإن أصر على التعلق بالأضرحة بعد ذلك يستغيث بها، ويطلب الحاجات منها فهو كافر خارج عن الدين، كشأن المشركين الأولين الذين دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى التوحيد فأبوا وقالوا : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } ، لأن الجهل يوزل بالبيان ولا يبقى على الضلال بعد البيان إلا معاند للحق .
11- وفي الصفحات ( 103و104و105 ) يكتب الأستاذ كلامًا معناه أن الوهابية تسارع إلى تكفير الناس بتعليقهم التمائم، وتمسحهم بالأضرحة، مع كثرة من يفعل ذلك، وخطورة التكفير وقسوته وكون من يفعل هذه المخالفات فعلها عن جهل ومن أنه يمكن العلاج عن طريق النصح والإرشاد . . . . إلخ .
- ونحن نجيب الأستاذ عن ذلك بما سبق أن شرحناه بأن علماء الدعوة لا يكفرون الناس بمجرد تعليق التمائم، والتمسح بالأضرحة مطلقًا، بل في ذلك تفصيل :
فمن علق التميمة أو تمسح بالضريح يعتقد في ذلك جلب النفع ودفع الضر من دون الله فهذا شرك .
ومن فعله يعتقده سببًا من الأسباب فقط مع اعتقاده أن جلب النفع والضر من الله فهو محرم ووسيلة من وسائل الشرك .
ومن فعل ذلك جاهلًا بين له، وأرشد، فإن استمر بعد ذلك منع عنه بالقوة .
وكثرة من يفعله ليست حجة { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } .
وأما كون التكفير فيه قسوة وخطورة فذلك لا يمنع من إطلاقه على من اتصف به، وعلماء الدعوة –والحمد لله- لا يكفرون إلا من كفره الله ورسوله .(150/86)
وأما قول الأستاذ " إنه بعد أن انتشر العلم في المجتمع الإسلامي وخلصت العقول من تصورات الجهل، ذهبت أو كادت تذهب كل هذه السور التي كانت تعيش في المجتمع الإسلامي من تعظيم القبور والتمسح بالأضرحة " فهذا كلام ينقضه الواقع، وما قبر أحمد البدوي، ومشهد الحسين، وغيرهما . . . وما يفعل عند هذه الأضرحة الآن من الشرك الأكبر بخافٍ على الأستاذ ولا بعيد عن بلده .
12- قد أكثر الأستاذ من وصف الدعوة بالحدة والعنف والمبالغة والغلو والتعصب والخطأ في أسلوبها وهذه صفات ذميمة قد برأ الله الدعوة منها، فهي ولله الحمد دعوة حكيمة صافية مبنية على العلم النافع والجهاد الصادق والصبر، أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترسمًا لخطاه .
وسأنقل فقرات مما كتبه الأستاذ في صفحات متعددة ما كان ينبغي له أن يكتبها :
ففي ( ص 74 ) يقول :
" بدأت الدعوة حادة عنيفة مطبوعة بطابع التطرف والمغالاة . . . فلقد بدأت بإنكار المجتمع كله " .
ويقول في ( ص76 ) :
" كان ينبغي أن تسلك الدعوة مسلكًا أسلم عاقبة من هذا لو أنها بدأت أقل عنفًا مما كانت عليه " .
ويقول في ( ص81 ) :
ولكن تعصب الوهابيين ( كذا ! والصواب : الوهابيون ) لرأيهم فبالغوا فيه وتعصب عليهم المجتمع الإسلامي في جملته، فأنكر دعوتهم .
وفي ( ص93 ) يقول :
" وفي الحق إن الدعوة الوهابية في بدئها قد أخطأت خطأ بينًا في أخذ الناس بهذا الأسلوب الحاد العنيف، دون أن تدخل في حسابها الأثر النفسي الذي يطغى على شعور المسلمين " .
وفي ( ص95 ) يقول :
" فموضوع الدعوة سليم غاية السلام، ولكن في أسلوبها بعدًا كثيرًا عن أساليب التربية " . وفي ( ص103 ) يقول :
" ونقول : إن هذه المبالغة وهذا الغلو في تنقية العقيدة الإسلامية من رواسب الشرك قد وسعت هوة الخلاف بين جمهور المسلمين والوهابيين " ا هـ .(150/87)
-والجواب أن نقول للأستاذ : من أي مرجع استقيت هذه المعلومات وعرفت هذه الصفات عن الدعوة التي قام بها الشيخ محمد عبد الوهاب وأتباعه ؟
هل وجدت في كتب أصحابها ما يسوغ قولك ؟ فها هي –ولله الحمد- موجود وميسورة، دلنا على واحد منها يصدق ما تقول .
أم تلقيت ذلك من كتب خصومها ؟ فما كان يجوز لك أن تحكم على الخصم اعتمادا على كلام خصمه .
ثم قوله " إن المجتمع الإسلامي بأسره أو معظمه قام في وجه هذه الدعوة ورفضها " قول مردود فهذه كتب علماء مسلمين بالعشرات والمئات تثني على هذه الدعوة وتناصرها وتدافع عنها، من علماء الهند، واليمن , والعراق، والشام , ومصر، وغيرهما مما لا أحصيه الآن مما تضمنه المكتبة الإسلامية من الكتب التي تنافح عن هذه الدعوة , إنما قام في وجهها فئات من علماء الضلال الذين قال فيهم وفي أمثالهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ) . وهؤلاء لا عبرة بهم .
إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء تترسم خطى دعوة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : فقد بدأ دعوته بتبصير الناس طريق الحق , وتصحيح العقيدة بالبيان والتعليم , فلما اجتمع حوله تلاميذ وأنصار اقتنعوا بدعوته , طلب من الأمراء من يحميه ويناصره حتى يبلغ هذه الدعوة إلى ما حوله من البلاد , كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على القبائل , يطلب من يؤيده حتى يبلغ دعوة ربه , فلما وجد الشيخ من الأمراء من يساعده , جهر بالدعوة , وكتب إلى العلماء والولاة في البلدان المجاورة يدعو إلى الله سبحانه , ويطلب منهم المناصرة , فاستجاب له من استجاب , وعاند من عاند , فكان لا بد من الجهاد في سبيل الله , لإعلاء كلمة الله , وتطهير البلاد من الشرك , أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة ووجد له أنصارًا فيها .(150/88)
وليس في هذا عنف أو غلو أو تعصب , كما زعمت أيها الأستاذ , بل هو سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جهاد من عاند الحق , وأصر على الطغيان بعد البيان والإنذار .
وختامًا . نقول : يجب على الأستاذ أن يعيد النظر في كتابه , فيصفيه من هذه التناقضات التي شوهت جماله , وطمست معالمه , ويستقي معلوماته من المراجع الصحيحة عن الدعوة المباركة , وعلى الأخص كتب الشيخ ورسائله , ككتاب التوحيد , وكتب أحفاده وتلاميذهم وغيرهم من العلماء , مثل " تيسير العزيز الحميد " . و " فتح المجيد و " الدر السنية في الأجوبة النجدية " . و " غاية الأماني في الرد على النبهاني " . لعلامة العراق محمود شكري الألوسي , و " صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان " . لعلامة الهند محمد بشير السهواني , . . وغيرهما مما يوضح أهداف هذه الدعوة المباركة، ويرد شبهات خصومها .
هذا ما نرجوه من الأستاذ الكريم .
ونسأل الله لنا وله التوفيق فيما نقول ونعمل , وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=4 - TOP#TOP رد ما توهمه الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو من صحة نسبة ما في كتاب " نهج البلاغة " إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
وبعد :
لقد اطلعت على ما نشره الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو في " مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية " بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في ( العدد الخامس- عام 1395 هـ ) من بحث بعنوان : ( نهج البلاغة بين الإمام علي والشريف الرضي ) .(150/89)
وعندما لمحت العنوان , ظننت أن الدكتور الحلو سيبين حقيقة هذا الكتاب الذي اشتمل على كثير من دس الشيعة وأباطيلهم مما ينزه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كسبّ الصحابه الكرام , وأن الأمة ظلمت فاطمة بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته , وأن الخلافة حق لعلي وأهل بيته , وكنفي صفات الله عز وجل .
وبالجملة , فقد ملئ هذا الكتاب بالرفض والاعتزال , وإن كان فيه شيء يسير من كلام علي رضي الله عنه , لقصد التمويه على الناس .
كنت أظن أن الدكتور الحلو سيكشف هذا كله وبينه للناس , ولكن لم أظفر بما ظننته عندما قرأت البحث , فقد وجدته ينتصر لهذا الكتاب , ويصحح نسبته لعلي رضي الله عنه في مواضع من هذا البحث , وإن كان يتردد في الجزم بنسبته إليه في مواضع أخرى .
عند ذلك , تعين عليَّ أن أعقب على هذا البحث بما يبين الحقيقة , ونزيل اللبس- إن شاء الله- وذلك بذكر آراء العلماء في هذا الكتاب ومؤلفه , وذكر نماذج مما اشتمل عله من الباطل ومناقشة الدكتور الحلو في بحثه حول هذا الكتاب .
فأقول مستعينًا بالله :
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=4 - TOP#TOP أقوال العلماء المحققين في الكتاب ومؤلفه :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " منهج السنة " :
" وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي , ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب قديم , ولا لها إسناد معروف , فهي بمنزلة من يدعي أنه علوي أو عباسي ولا نعلم أحدًا من سلفه ادَّعى ذلك قط , فيعلم كذبه , فإن النسب يكون معروفًا من أصله حتى يتصل بفرعه .
وفي هذه الخطب أشياء قد علم يقينًا من عليّ ما يناقضها , ولم يوجب الله على الخلق أن يصدقوا بما لم يقم دليل على صدقه , وإن ذلك من تكليف ما لا يطاق " . (1)
وقال أيضا :(150/90)
ولكن صاحب " نهج البلاغة " وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس , فجعلوه من كلام عليّ ومنه ما يحكى عن على أنه تكلم به , ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به , ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره , وفي كتاب " البيان والتبيين " (2)
للجاحظ كلام كثير منقول عن غير علي , وصاحب " نهج البلاغة " يأخذه ويلصقه بعلي .
وهذه الخطب المنقولة في كتاب " نهج البلاغة " لو كانت كلها عن علي من كلامه , لكانت موجودة قبل هذا المصنف , منقولة عن علي بالإسناد وبغيرها , فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرًا منها- بل أكثرها- لا يعرف قبل هذا علم أنه كذب وإلا فليبين الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك , ومن الذي نقله عن علي , وما إسناده , ؟ إلا فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد , ومن كانت له خبرة بمعرفة طريق أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالإسناد وتبين صدقها من كذبها . علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن علي من أبعد الناس عن المنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها " انتهى من منهاج السنة ( 4/195 ) .
وقال ابن خَلِّكان في " وفيات الأعيان " في ترجمة المرتضى :
" وقد اختلف الناس في كتاب " نهج البلاغة " المجموع من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل هو جمعه ( أي : المرتضى ) أم جمع أخيه الرضيّ ؟ وقد قيل : إنه ليس من كلام علي رضي الله عنه , وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه . والله أعلم " .
ولما ترجم الذهبي في " الميزان " للمرتضى قال : " وهو المتهم بوضع كتاب " نهج البلاغة " وله مشاركة قوية في العلوم , ومن طالع كتابه " نهج البلاغة " جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنون علي رضي الله عنه . ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما , وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المت أخرىن , جزم بأن الكتاب أكثره باطل " .(150/91)
ثم نقل ابن حجر في " لسان الميزان " كلام الذهبي هذا مقررًا له .
فهؤلاء الأئمة : شيخ الإسلام : والإمام الذهبي , والحافظ ابن حجر , كلهم يجزمون بكذب نسبة ما في الكتاب أو أكثره إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنه من وضع مؤلفه .
وابن خلكان يحكي هذا أيضًا , ويحكي الخلاف في جامع هذا الكتاب : هل هو المرتضى أو الرضي ؟ والذهبي يتهم به المرتضى .
والذي يظهر لي أنه من وضع الاثنين .
وقد قال محب الدين الخطيب في حاشية المنتقى من " منهاج السنة " (3) : " وهذان الأخوان تطوعا للزيادة على خطب أمير المؤمنين سيدنا علي كرم الله وجهه بكل ما هو طارئ عليها وغريب عنها . من التعريض بإخوانه الصحابة , وهو بريء عند الله عز وجل من كل ذلك , وسيبرأ إليه من مقترفي هذا الإثم " .
وقال أيضا لما ذكر أن مؤلف " نهج البلاغة " هو الرضي :
" ومن المقطوع به أن أخاه علي بن الحسين المرتضى المتوفى سنة ( 426 هـ ) شاركه في الزيادات التي دست في النهج , ولاسيما الجمل التي لها مساس بأحباب علي وأولياء النبي - صلى الله عليه وسلم - كقول الأخوين أو أحدهما : لقد تقمصها فلان , وما خرج من هذه الحمأة . " ا هـ . ص 508 .
وكل من الأخوين رافضي على ما ذكره الذهبي في " الميزان " وابن حجر في " لسان الميزان " وذكر الذهبي في ترجمة المرتضى أيضا عن ابن حزم أنه كان من كبار المعتزلة الدعاة , وكان إماميا , وذكر الذهبي أنه أخذ العلوم عن الشيخ المفيد الذي صنف كتابًا سماه " مناسك حج المشاهد " وحشاه بالكذب والشرك , وجعل قبور المخلوقين تحج كما يحج البيت .
ومما يدل على أن كتاب " نهج البلاغة " إما من وضع المرتضى أو له فيه مشاركة قوية ما فيه من الاعتزاليات في الصفات، والمرتضى كما ذُكر في ترجمته من كبار المعتزلة .
ولكن مع هذا كله , فالدكتور مصرّ في غير موضع من بحثه على صحة نسبة ما في الكتاب إلى علي ابن أبي طالب , حيث يقول في بحثه :(150/92)
" وجملة القول في " نهج البلاغة " أن الرضي حين جمعه كان يجمع شيئًا معروفًا في عصره بصحة نسبته للإمام علي رضي الله عنه , وإلا لاتجه كثير من معاصريه إلى نقده في عصر كثرت فيه الفتن بين الشيعة والسنة , وكانت الكلمة الواحدة أو اللمزة كافية بإحراق أحياء من بغداد أو هدمها (4) ولم يقيد الرضي كل ما وجده من كلام الإمام وإنما اختار منه ما يثق في صحة نسبته " .
ثم يعود الدكتور فيتردد في هذا الحكم , فيقول :
ولكن هذا الكتاب لن يسلم من الطعن على بعض ما فيه حتى تقوم دراسة جادة تبحث عن أصوله , وتوثق نقوله , وتقول الكلمة الأخيرة فيه " .
ويقول أيضا :
" وأغلب الظن أن ما في " نهج البلاغة " من الخطب المطولة تطرق إليه عامل التنسيق والتنظيم وضم النظير إلى النظير , وربط ذلك كله في سياق واحد , وهو عمل يقتضي من صاحبه بعض التدخل لاستكمال معنى , وللربط بين الأفكار وضمان تسلسلها " .
ويقول أيضًا :
" وربما توسع في ذلك بعده على نهجه , إيثارا لولوج النصيحة إلى قلوب الناس وتمكنها من أفئدتهم وقد وضع من الأحاديث على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن القصص في الترغيب والترهيب ما أقام مدارس للحديث بعد ذلك نقبًا للوضع عن السنة واستخلاصًا لصحيحها .
وقال أيضا عما في الخطب من التنميق اللفظي :
" وهو أمر ربما عمل فيه من نقل كلام أمير المؤمنين فلم يكن تشريعًا كما كان كلام صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - فيتحرى نقله بلفظه , وإن كان مهيعًا للبلاغة , ومنهجا للفصاحة , تؤثر فيه الرواية الفصيحة , ويؤخذ بالمتن البليغ " .(150/93)
فأنت ترى التناقض في كلام الدكتور، فهو حينما يكاد يجزم بصحة نسبة ما في " نهج البلاغة " إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بناء منه على ثقة الرضي في تحريه ما صحت نسبته إلى علي , ولعدم الاعتراض عليه في ذلك من معاصريه - وكيف يقول الدكتور هذا مع ما نقل هو ونقلنا نحن منه معارضة كبار الأئمة في ذلك- ثم يتشكك في كلماته- الأخيرة ويقر باحتمال الدخيل في الكتاب وما دام تطرق الاحتمال إلى ما في الكتاب , فإنه لم يعد موثقًا به .
على أننا مع هذا كله نحيط الدكتور علمًا أنه لو خلا الكتاب من جميع الطعون : فلن تصح نسبته لعلي رضي الله عنه إلا بالسند الصحيح المتصل إليه .
ذكر الإمام مسلم في مقدمة " صحيحه " عن عبد الله بن المبارك أنه قال : " الإسناد من الدين , ولولا الإسناد لقال من شاء " انتهى .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=4 - TOP#TOP أهم المطاعن الموجهة إلى نهج البلاغة وجواب الدكتور عنها , ومناقشتنا له :
ذكر الدكتور ملخصًا للمطاعن الموجهة إلى ذلك الكتاب , نقلًا عن عبد الزهراء الحسيني , ومن أهمها :
1- أن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يُسَلَّم أن يصح صدوره عن مثل الإمام علي .
2- ما فيه من ذكر الوصي والوصاية .
3- أن في الكتاب ما يشم منه ريح ادعاء علم الغيب وهذا أمر يجل عن مثله مقام علي .
ويجيب الدكتور عن المطعن الأول بقوله :
" فإني لا أجد مساغًا للطعن فيها – يعني : إحدى خطب الكتاب – لما تضمنته من الكلام على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فإن المتتبع لمشكلة الخلافة من لدن قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوثق كتب السنة ومراجع التاريخ (5) يدرك مدى المرارة التي كان يحسها علي رضي الله عنه لحرمانه من الخلافة، فقد كان يرى نفسه أحق بها وأهلها , فما الذي يمنعه من إخراج هذه الشقشقة " . . إلخ كلامه .(150/94)
فالدكتور بهذا الدفاع يلصق بعلي رضي الله عنه أمرين هو منهما بريء وهما :
أولا : سب إخوانه من الصحابة , وارتكابه ما نهى عنه الله بقوله : { وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا } وما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله ( لا تسبوا أصحابي , فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا , ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) . وكرم الله عليا عن هذه المنقصة (6) .
وثانيًا : عدم اقتناعه بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان لأنه على رأي الدكتور يرى نفسه أحق بها منهم، وهو أهلها وهو ليسوا لها بأهل .
وهذا افتراء ظاهر على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه .
ويتضمن الطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان , وقد أجمع أهل السنة على أن الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان , ثم علي :
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية :
" ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء , فهو أضل من حمار أهله " (7) .
وقال : " وقد ثبت عن علي من وجوه متواترة أنه كان يقول : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر , ثم عمر " .
وقال الشيخ أيضًا :
" اتفقت السنة والشيعة على أن عليًّا لم يدع إلى مبايعته إلا بعد مقتل عثمان , ولا بايعه أحد إلا ذلك الوقت " .
وقال الشيخ أيضا في " منهاج السنة " :(150/95)
" من المتواتر أن أبا بكر لم يطلب الخلافة برغبة ولا برهبة , فلا بذل فيها مالًا , ولا شهر عليها سيفًا , ولا كانت له عشيرة ضخمة , ولا عدد من الموالي تقوم بنصرة , كما جرت عادة طلاب الملك , بل ولا قال بايعوني وإنما أشار ببيعة عمر أو بيعة أبي عبيدة ثم من تخلف عن مبايعته لم يؤذه , ولا أكرهه عليها , ثم الذين بايعوه طائعين هم الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة , الذين رضي الله عنهم , فقاتل بهم المرتدين وفارس والروم , وثبَّت الإسلام وأهله , ولا أكل منها ولا لبس إلا كعادته وعيشه , فلما جاءه اليقين , خرج منها أزهد مما دخل فيها , لم يستأثر منها بشيء عنهم ولا آثر بها قرابته , بل نظر إلى أفضلهم في نفسه , - يعني : عمر - فولاه عليهم فأطاعوه كلهم , ففتح الأمصار , وقهر الكفار , وأذل أهل النفاق وبسط العدل ووضع الديوان والعطاء لازمًا لعيش من قبله في مأكله ومشربه وملبسه , حتى خرج شهيدا لم يتلوث لهم المال ولا ولى أحدًا من أقاربه ولاية , هذا أمر يعرفه من يعرف وينصف ثم بايعوا عثمان كلهم طوعًا منهم , فسار وبنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحلم وهدى ورحمة وكرم ولين(8) " ا هـ . المقصود من كلامه - رحمه الله - .
وعلى ما في " نهج البلاغة " وما قرره الدكتور يعد عمل الصحابة هذا كله خطأ، حيث عدلوا بالخلافة عمن يستحقها وأهلها إلى من لا يستحقها وليس لها بأهل، فيلزم عليه أن الأمة اجتمعت على ضلالة , عياذًا بالله من الكلام الذي لا تقدر عواقبه ونتائجه ومستلزماته .
ولست أدري ما هي أوثق كتب السنة التي يزعم الدكتور أن من تتبعها أدرك المرارة التي كان يحسها علي رضي الله عنه , لحرمانه من الخلافة، فقد كان يرى نفسه أحق بها وأهلها ؟(150/96)
ولعل هذه الكتب التي يشير إليها الدكتور هي " نهج البلاغة " وشروحه ومصادره للشيعة و " البيان والتبيين " للجاحظ المعتزلي , و " روضات الجنات " للخونساري , و " الغدير " . . وغيرها من كتب الشيعة التي ذكرها الدكتور في قائمة مراجعه لهذا البحث .
ثم يجيب الدكتور عن المطعن الثاني , وهو ما في " نهج البلاغة " من ذكر الوصي والوصاية , فيقول :
" ليس ذلك بمطعن عليه , ولم أجد في نهج البلاغة " شيئًا يخرج عما ورد في كتب السنة والتاريخ " . .
إلى أن قال : " وليس في " نهج البلاغة " ما يدعم القضية , أو يدعو إليها , اللهم إلا ما جاء في كلام علي رضي الله عنه من علم علمه إياه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
فالدكتور بهذا الدفاع يقرر أمورًا بعضها متناقض :
فهو لا يرى أن ما في " نهج البلاغة " من ذكر الوصي والوصاية يوجب الطعن فيه , ثم يدعي أنه ليس في " نهج البلاغة " ما يخالف كتب السنة , ولست أدري هل هو يعني كل ما فيه أو مسألة الوصي والوصاية فقط ؟
ثم ينفي وجود ذكر للوصي والوصاية في هذا الكتاب , إلا تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي فهو بهذا يثبت ثم ينفي !
ونحن بتتبعنا للكتاب وجدنا فيه عشرات المواضع تتضمن ذكر الوصاية فإثباتًا لما نفاه الدكتور نسوق هذه النماذج من الكتاب :
قال في الجزء الأول ( ص 24 ) يصف أهل البيت بأنهم : " موضع سره يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - -، ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره وارتعاد فرائصه " .
وقال في مطلع الخطبة الشقشقية التي ضمنها مسبة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وادّعى فيها اختصاص علي بالخلافة دونهم؛ قال :
" أما والله لقد تقمصها - يعني الخلافة - فلان – يعني : أبا بكر - وإنه لا يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى " .(150/97)
إلى أن قال : " فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبًا، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده - يعني عمر - فيا عجبًا بينا هو يستثقلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته " .
إلى أن قال : " فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني منهم فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكني أسففت إذا أسفوا، وطرت إذا طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هَنٍ وهَنٍ، إلى أن قام ثالث القوم نافجًا حضنيه – يعني : عثمان – " . . . إلخ ما فيها من الكلام الباطل الذي ينزه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقبح الله من افتراه ونسبه إليه (9).
وفي الجزء الثاني ( ص37 ) قوله :
إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من بني هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم " .
وقال في الجزء الثاني ( ص58 ) :
" نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقًا " .
وفي الجزء الثاني ( ص167 ) يقول : " ولقد قُبض رسول الله وإن رأسه لعلى صدري ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي " .
إلى أن قال : " فمن أحق به مني حيًا أو ميتًا ؟ " .
انتهى ما قصدنا نقله من هذه النماذج .
وقوله في النموذج الأخير لقد قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن رأسه لعلى صدري إلخ يعارضه ويرده ما ثبت في الصحيح أنه توفي - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة رضي الله عنها وفي حجرها وبين سحرها ونحرها .(150/98)
وهذه النماذج تثبت ما نفاه الدكتور من ذكر الوصاية في الكتاب إذ أنها جميعًا تفيد حصر الولاية في أهل البيت وهذا هو معنى الوصاية كأنهم صاروا أوصياء على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فالرافضة لما لم يجدوا نصوصًا صحيحة تثبت ما يدعونه من هذه الوصاية صاروا يحوكون مثل هذه الخطب ويضمنونها هذه الكلمات التي يخترعونها .
وقول الدكتور لم أجد في نهج البلاغة شيئًا يخرج عما ورد في كتب السنة والتاريخ نقول هل قارنت كتاب نهج البلاغة وقابلته على كتب السنة فوجدتها مشتملة على ما ذكر فيه من سب الصحابة والطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وحصر الخلافة في علي ووجدتها كذلك مشتملة على نفي صفات الله عز وجل كما هو مذهب الجهمية والمعتزلة ؟ نرجو أن تعين لنا ولو كتابًا واحدًا يبرز ما قلت . ونعني بكتب السنة دواوين الإسلام المعتبرة والمشهود لها بالصحة من علماء الأمة لا كل سواد في ورق .
ثم يجيب الدكتور عن المطعن الثالث وهو ما في نهج البلاغة من أخبار عن أمور مستقبلة تدخل في عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، كقوله يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار إلخ، وقوله كأني أراهم قوما كأن وجوههم المجان المطرقة يلبسون السرق والديباج . . . إلخ " .
ويقول الدكتور إن هذا الطعن إنما جره تعليق الشراح حيث حملوا الخبرين على فتنة الزنج وحرب التتار وإلا فالإمام علي لم ينص على فتنة الزنج والتتار فيا عجبًا كيف يحمل الدكتور المسؤولية على الشراح مع أن الكلام المشروح خبر عن المستقبل المغيب سواء فسر بهاتين الواقعتين أو غيرهما فهل إذا أصاب الشراح في حمل الخبر على محمله لا يكون من الإخبار بالغيب ؟ !(150/99)
ثم يوالي الدكتور مدافعته عن الكتاب فيقول وليس هذا الذي يقوله الإمام علي رضي الله عنه ادعاء علم الغيب ويستشهد بما ذكر في نهج البلاغة منسوبًا إلى علي أنه قال ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله بقوله { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي " .
فهذا السياق الذي ساقه الدكتور يقتضي أن ما سوى الخمس المذكورة في الآية من المغيبات كله قد علمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلي والقضية الأولى يردها قوله تعالى { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } وقوله { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } وهذا لا ينافي أن يطلعه الله على بعض الأشياء كما يشاء سبحانه (10) . وإنما الكلام في العموم فيما عدا الخمس هل صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يعلمه .
وأما القضية الثانية وهي اختصاص علي بهذا العلم الذي يدرك به ما سوى الخمس المذكورة في الآية فيردها ما رواه البخاري وأحمد والنسائي وأبو داود والترمذي عن أبي جحيفة قال : " قلت لعلي : هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن ؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلًا في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت : وما هذه الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر " .
قال الشوكاني قال الحافظ وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن لأهل البيت لاسيما عليّ اختصاصًا بشيء من الوحي لم يطلع عليه غيرهم .(150/100)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (11) : وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عهد إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لم يعهده إلى الناس إلا ما في هذه الصحيفة إلا فهمًا يؤتيه الله عبدا في كتابه " .
وقال الشيخ أيضا (12):
" ومما يبين أن عليا ما كان يعلم المستقبلات أنه كان في خلافته وحروبه يظن أشياء فيتبين له الأمر بخلاف ظنه فلو عرف أنه يجري ما جرى من قتل الناس . ولم يحصل المقصود لما قاتل فإنه كان لم يقاتل في عز ونصر ولو علم أنه إذا حكم الحكمين يحكمان بما حكم به لم يحكمهما فأين علمه بالكوائن بعده . انتهى بمعناه . وليس ذكر هذه الدعوى في كتاب نهج البلاغة بعجيب لأن الشيعة يجعلون من ميزات علي أنه يعرف الغيب .
انظر ما ذكره ابن المطهر ورد الشيخ تقي الدين ابن تيمية عليه في منهاج السنة ( 4/177 ) حتى تعرف أن نهج البلاغة يمشي على مخطط الشيعة .
ومن المطاعن على كتاب نهج البلاغة مما لم يذكره الدكتور ما فيه من الاعتزال في الصفات لأن الرافضة اعتمدوا على كتب المعتزلة في العقليات (13) فوافقوهم في القدر وسلب الصفات وكان المرتضى واضع كتاب نهج البلاغة أو المشارك في وضعه كما أسلفنا معتزليا، بل قال عنه ابن حزم إنه من كبار المعتزلة الدعاة كما نقله عنه الذهبي في " الميزان " .
ومن هذا المشرب الكدر حشي " نهج البلاغة " وإليك نماذج من ذلك ففي الجزء الأول ( ص 8 ) يقول :
" وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنَّاه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال فيم ؟ فقد ضمنه، ومن قال علام ؟ فقد أخلى منه " .
وفي الجزء الثاني ( ص145- 147 ) يقول :(150/101)
" ولا يوصف بشيء من الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء إلى أن قال : وليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج، يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع لا بخروق وأدوات، يقول ولا يتلفظ، يقول لمن أراد كونه : كن، فيكون، لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله , ولم يكن من قبل ذلك ولو كان قديمًا كان إلهًا ثانيًا . إلى أن قال : هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزته " .
انتهى ما أردنا نقله من هذا الهذيان الذي ينزه الله سبحانه وتعالى عنه مما يطابق اعتقاد الجهمية والمعتزلة .
فيا عباد الله يا أصحاب العقول يا أهل الإيمان؛ هل ترون بربكم أن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه تكلم بهذا الكلام في حق الله ؟ اللهم لا وألف لا (14)
لكن مع هذا كله فالدكتور في غير موضع من كلامه يصحح نسبة ما في هذا الكتاب إلى علي بن أبي طالب حيث يقول :
" وجملة القول في نهج البلاغة أن الرضي حين جمعه كان يجمع شيئًا معروفًا في عصره بصحة نسبته إلى الإمام علي رضي الله عنه "
ويبرهن الدكتور على ذلك بقوله : " وإلا لاتجه كثير من معاصريه إلى نقده " .
ثم يقول : " ولم يقيد الرضيّ كل ما وجده من كلام الإمام، وإنما اختار منه ما يثق في صحة نسبه فكأن الدكتور يقرر بهذا الكلام أنه لا فائدة من الأسانيد ودراستها لأنه يكتفي عنها بثقة المؤلفين في نظره ولا عجب فقد بلغ من إعجاب الدكتور بهذا الكتاب أن ينقل عن شارحه ابن أبي الحديد تشبيهه بالقرآن الكريم فيمضيه ولا يعترض عليه (15) وذلك في قول ابن أبي الحديد :
" وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحدًا نفسًا واحدًا كالجسم البسيط "
إلى أن قال :
" وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب، والطريق والنظم لباقي السور " .(150/102)
وليس عجيبًا من ابن أبي الحديد منح نهج البلاغة هذا الوصف، وسخاؤه به؛ لأنه شيعي والشيعة يقولون إن كلام علي فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق فجعلوا كلامه فوق كلام الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
وأخيرًا؛ نتمنى من الدكتور الحلو وهو المعروف بخبرته الواسعة في التراث وتحقيقه أن يصرف مثل هذا المجهود في تحقيق مراجع الإسلام وتراثه القيم ليكون عمله مثمرًا ونافعًا ويستحق منا التقدير والدعاء ورجاء الأجر والمثوبة (16).
وأنا لا أدعي أنني أتيت على ما في بحثه من ملاحظات ولكني اقتصرت على ما هو الأهم في نظري مما له مساس بعقيدتنا وديننا .
ونسأل الله لنا جميعًا التوفيق والهداية .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
نظرات وتعقيبات على ما في كتاب " السلفية " لمحمد سعيد رمضان من الهفوات
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وبعد . . .(150/103)
فقد اطلعت على كتاب من تأليف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بعنوان " السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي " فاستغربت هذا العنوان لما يوحي به من إنكار أن يكون للسلف مذهب ومنهج تجب علينا معرفته والتمسك به وترك المذاهب المخالفة له ولما قرأت الكتاب وجدت مضمونه أغرب من عنوانه حيث وجدته يقول فيه إن التمذهب بالسلفية بدعة ويشن حملة على السلفيين، ونحن نتساءل هل الذي حمله على أن يشن هذه الحملة التي تناولت حتى القدامى منهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب هل الذي حمله على ذلك كراهيته للبدع فظن أن التمذهب بالسلفية بدعة فكرهه لذلك ؟ كلا ليس الحامل له كراهية البدع لأننا رأيناه يؤيد في هذا الكتاب كثيرا من البدع يؤيد الأذكار الصوفية المبتدعة ويؤيد الدعاء الجماعي بعد صلاة الفريضة وهو بدعة، ويؤيد السفر لزيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو بدعة فاتضح لنا . والله أعلم أن الحامل له شن هذه الحملة هو التضايق من الآراء السلفية التي تناهض البدع والأفكار التي يعيشها كثير من العالم الإسلامى اليوم وهي لا تتلائم مع منهج السلف وقد ناقشت في هذه العجالة الآراء التي أبداها في كتابه المذكور حول السلفية والسلفيين وذلك من خلال التعقيبات التالية وهي تعقيبات
مختصرة تضع تصورا لما يحتويه كتابه من آراء هي محل نظر وإذا كان الدكتور يعني بحملته هذه جماعة معينة فلماذا لا يخصها ببيان أخطائها دون أن يعمم الحكم على جميع السلفيين المعاصرين وحتى بعض السابقين .
والآن إلى التعقيبات :
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الأول :
قوله في العنوان " السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي "(150/104)
هذا العنوان معناه أن السلف ليس لهم مذهب يعرفون به وكأنهم في نظره عوام عاشوا في فترة من الزمن بلا مذهب ومعناه أيضا أن تفريق العلماء بين مذهب السلف ومذهب الخلف تفريق خاطئ لأن السلف ليس لهم مذهب، وعلى هذا لا معنى لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين . . . ) وقوله لما سئل عن الفرقة الناجية من هي ؟ قال ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) لا معنى لهذا كله لأن السلف ليس لهم مذهب ولعل قصد الدكتور من ذلك هو الرد على الذين يتمسكون بمذهب السلف في هذا الزمان ويخالفون المبتدعة والخرافيين .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثاني :
قوله في ( ص5 ) :
" هذا الكتاب لا يتضمن أي مناقشة لآراء السلفية وآفكارهم التي يعرفون بها كما لا يتضمن تصويبا ولا تخطئة لها " .
ومعنى هذا أن الآراء السلفية قابلة للمناقشة والتخطئة، وهذا فيه إجمال لأن السلفية بمعناها الصحيح المعروف لا تخالف الكتاب والسنة فلا تقبل المناقشة والتخطئة . وأما السلفية المدعاة فهي محل النظر وهو لم يحدد المراد بالسلفية فكأن كلامه موهما عاما يتناول السلفية الصحيحة والسلفية المدعاة .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثالث :
في ( ص12 ) المقطع الأول يعلل فيه أن وجوب اتباع السلف بكونهم أفهم للنصوص لسلامة لغتهم ولمخالتطهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(150/105)
وهذا فيه نقص كبير لأنه أهمل قضية تلقيهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعلمهم منه وسؤالهم إياه ومشاهدتهم التنزيل على رسول الله وتلقيهم التأويل عنه - صلى الله عليه وسلم -?، وهذه مرتبة من العلم لم يبلغها غيرهم، وقد أهمل ذكرها وتناساها تماما كما أنه في آخر هذه الصفحة يقرر أن اتباع السلف لا يعني أخذ أقوالهم والاستدلال بمواقفهم من الوقائع وإنما يعني الرجوع إلى القواعد التي كانوا يحتكمون إليها . ومعنى هذا الكلام أن أقوال السلف وأفعالهم ليست حجة وإنما الحجة هي القواعد التي كانوا يسيرون عليها . وهذا كلام فيه تناقض لأن معناه أننا نلغي أقوالهم ونأخذ قواعدها فقط ونستنبط بها من النصوص غير استنباطهم، وهذا إهدار لكلام السلف ودعوة لكلام جديد وفهم جديد يدعي فيه أنه على قواعد السلف .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الرابع :
في ( ص13و14 ) ينكر أن تتميز طائفة من المسلمين من بين الفرق المختلفة والمفترقة وتسمى بالسلفية ويقول : لا اختلاف بين السلف والخلف ولا حواجز بينهم ولا انقسام . وهذا فيه إنكار لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ) قيل من هي يا رسول الله قال : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي ) فهذا الحديثان يدلان على وجود الافتراق والانقسام والتميز بين السلف وأتباعهم وبين غيرهم .(150/106)
والسلف ومن سار على نهجهم ما زالوا يميزون أتباع السنة عن غيرهم من المبتدعة والفرق الضالة ويسمونهم أهل السنة والجماعة وأتباع السلف الصالح ومؤلفاتهم مملوءة بذلك، حيث يردون على الفرق المخالفة لفرقة أهل السنة وأتباع السلف . والدكتور يجحد هذا ويقول : لا اختلاف بين السلف والخلف ولا حواجز بينهم ولا انقسام . وهذا إنكار للواقع مخالف لما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجود الانقسام والافتراق في هذه الأمة وأنه لا يبقى على الحق منها إلا فرقة واحدة .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الخامس :
من ( ص14 - 17 ) يحاول أن يسوغ قوله بعدم وجوب الأخذ بأقوال السلف وأعمالهم وتصرفاتهم بأن السلف أنفسهم لم يدعوا الناس إلى ذلك، وبأن العادات تختلف وتتطور في اللباب والمباني والأواني . . . . إلخ ما ذكره وهذا الكلام فيه جهل وخلط وتلبيس من وجهين :
الوجه الأول : قوله إن السلف لم يدعوا إلى الأخذ بأقوال السابقين . وهذا كذب عليهم فإن السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين يحثون على امتثال ما أمر الله به ورسوله من الاقتداء بالسلف الصالح والأخذ بأقوالهم والله قد أثنى على الذين يتبعونهم فقال تعالى { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } . . . . . . . . الآية وقال - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي ) وقال - صلى الله عليه وسلم - ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) وقال عبد الله بن مسعود : من كان مستنًّا فليستن بمن مات فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبر الناس قلوبا وأغزرهم علمًا وأقلهم تكلفا .(150/107)
وقال الإمام مالك بن أنس : لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها .
. . . . إلى غير ذلك مما تضمنته الكتب المؤلفة في عقائد السلف والمسماة بكتب السنة ككتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد وكؤتاب السنة للآجري وكتاب السنة لابن أبي عاصم وغيرها تذكر أقوال السلف وتحث على الأخذ بها .
الوجه الثاني : أنه جعل مسائل العادات كالمباني والأواني والملابس كمسائل العلم والعقائد والعبادات تختلف باختلاف الأزمنة والأعراف، وهذا منه جهل أو تلبيس فإن الفرق في ذلك معروف لأقل الناس ثقافة وعلما، كل يعرف أن العادات تختلف وأما العبادات وأحكام الشريعة فهي ثابتة .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب السادس :
في ( ص19 ) المقطع الأخير، يقول :
" إن السلف لم يجمدوا عند أقوال صدرت عنهم " .
ومراده أن السلف لا يبقون على أقوالهم بل يتحولون عنها، ومن ثم لا يجب علينا الأخذ بأقوالهم، وهذا فيه إجمال، فإن كان مراده أقوالهم في العقيدة فهو كذب عليهم؛ لأنهم ثبتوا على أقوالهم ولم يتحولوا عنه . وإن كان مراده أقوالهم في المسائل الاجتهادية فهم لا يجمدون على القول الذي ظهر لهم أنه خطأ بل يتركونه إلى الصواب .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب السابع :
قوله : " فكل من التزم بالمتفق عليه من تلك القواعد (1) والأصول وبنى اجتهاده وتفسيره وتأويلاته للنصوص على أساسها فهو مسلم ملتزم بكتاب الله وسنة رسوله " .
نقول : ضابط الإسلام قد بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل وهو ( أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ) (2)(150/108)
فالمسلم هو الملتزم بالإسلام المقيم لأركانه، فلا حاجة إلى هذا التعريف الذي ذكره مع تعريف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إن تعريفه فيه إجمال وعدم وضوح، فهو يتيح لكل أحد أن يفسر الإسلام بما يريد .
يدل على ذلك قوله فيما بعد :
" نعم إن من قواعد هذا المنهج ما قد يخضع فهمه للاجتهاد من ثم فقد وقع الخلاف . . . إلخ "
فهل الإسلام قابل للاختلاف ؟ كلا بل إن أصول الإسلام والعقيدة ليست مجالا للاجتهاد، وإنما هذا في المسائل الفرعية فمن خالف في أصول الدين وعقيدته فإنه يكفر أو يضلل بحسب مخالفته؛ لأن مدارها على النص والتوقيف ولا مسرح للاجتهاد فيه .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثامن :
قوله : " إن السلفية لا تعني إلا مرحلة زمنية، قصارى ما في الأمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفها بالخيرية كما وصف كل عصر آت من بعد بأنه خير من الذي يليه، فإن قصدت بها جماعة إسلامية ذات منهج معين خاص بها فتلك إذن أحد البدع " اهـ .(150/109)
ونقول هذا التفسير منه للسلفية بأنها مرحلة زمنية وليست جماعة - تفسير غريب وباطل، فهل يقال : للمرحلة الزمنية بأنها سلفية ؟ ! هذا لم يقل به أحد من البشر، وإنما تطلق السلفية على الجماعة المؤمنة الذين عاشوا في العصر الأول من عصور الإسلام، والتزموا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ووصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) الحديث . فهذا وصف لجماعة وليس لمرحلة زمنية، ولما ذكر - صلى الله عليه وسلم - افتراق الأمة فيما بعد قال عن الفرق كلها أنها في النار إلا واحدة، ووصف هذه الواحدة بأنها هي التي تتبع منهج السلف وتسير عليه فقال : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي ) فدل على أن هناك جماعة سلفية سابقة وجماعة متأخرة تتبعها في نهجها، وهناك جماعات مخالفة لها متوعدة بالنار، وما ذلك إلا لضلال هذه الفرق المخالفة للفرق الناجية، لا كما يقول فيما سبق في ( ص 20/21 ) :
" ومن حق صاحب أحد الرأيين أو الآراء في تلك المسائل الاجتهادية أن يطمئن إلى أن ما ذهب إليه هو الصواب، ولكن ليس من حقه أن يجزم بأن الذين خالفوه إلى الآراء الأخرى ضالون خارجون عن حظيرة الهدى " اهـ .
ونقول له : ليس هذا على إطلاقه إنما هو في المسائل الفروعية التي هي مسرح للاجتهاد . أما مسائل العقيدة فلا مجال للاجتهاد فيها وإنما مدارها على التوقيف ومن خالف فيها ضُلِّل أو كُفِّر بحسب مخالفته وقد ضُلل السلف القدرية والخوارج والجهمية وحكموا على بعضهم بالكفر لمخالفتهم منهج السلف .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب التاسع :(150/110)
زعم في ( ص27 – 31 ) أن الصحابة لم يكن بهم حاجة إلى تحكيم ميزان علمي في الاستنباط . وهذا فيه إجمال، فإن أراد بالميزان العلمي فهم النصوص ومعرفة معانيها وما يراد بها فهم أغزر الناس علمًا في ذلك وأقلهم تكلفا، وإن أراد بالميزان العلمي منهج الجدل وعلم الكلام فهذا ميزان جهلي لا ميزان علمي وهم أغنى الناس عنه، وقد تركوه وحذروا منه وضللوا أصحابه؛ لأنه لا يوصل إلى حقيقة ولا يهدي إلى صواب وإنما آل بأصحابه إلى الشك وإن زعم من ابتلي به أنه ميزان علمي، ووصفوا أنفسهم بأن طريقتهم أعلم وأحكم وأن طريق السلف أسلم، ويصفون السلف بأنهم ظاهريون كما وصفهم الدكتور بذلك في هذا الكتاب في ( ص 31 ) فقال : فإن الشأن فيما ذكرناه عنهم من ابتعادهم عن ساحة الرأي وعدم الخوض فيما تلقوه من أنباء الغيب وغوامض المعاني ووقوفهم في ذلك مع ظاهر النص دون تعطيل ولا تشبيه، فهذا معناه أن طريقة السلف طريقة بدائية تقف عند ظاهر النصوص، وليست طريقة علمية تنفذ إلى غور النصوص ومقاصدها .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب العاشر :
من ( ص 42 – 47 ) يحاول أن يسوغ مخالفة بعض الخلف لمنهج السلف باتساع بلاد الإسلام ودخول أجناس من البشر في دين الإسلام، وهم يحملون ثقافات أجنبية وبتوسع في مجالات الحياة المعيشية باختلاف الملابس والمباني والأواني والصناعات والأطعمة . . . إلى غير ذلك مما ذكره من الكلام الطويل، إلى أن قال في النهاية :(150/111)
فلو كانت اتجاهات السلف واجتهاداتهم هذه حجة لذاتها لا تحتاج هي بدورها إلى برهان أو مستند يدعمها؛ لأنها برهان نفسها، إذ لوجب أن تكون تلك النظرات " يعني نظرات السلف " المتباعدة المتناقضة كلها حقا وصوابا، ولوجب المصير _ ودون أي تردد إلى رأي _ المصوبة (3) ، ولما احتاج أولئك السلف رضوان الله عليهم أن يلجؤوا أخيرا من مشكلة هذا التناقض والاضطراب إلى منهج علمي يضبط حدود المصالح . . . إلخ ما قال .
ونحن نجيبه عن ذلك بجوابين :
الجواب الأول : أن السلف لم يختلفوا في مسائل العقائد والإيمان وإنما اختلفوا في مسائل الاجتهاد الفرعية، وليس ذلك اضطرابا وتناقضا كما يقول، وإنما هو اجتهاد .
الجواب الثاني : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرنا باتباعهم بقوله : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) وقال عن الفرقة الناجية : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم أنا وأصحابي ) وأثنى الله على من اتبعهم ورضي عنه معهم فقال سبحانه { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ } والإمام مالك بن أنس - رحمه الله - يقول : لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها . فيجب اتباعهم والأخذ بأقوالهم لا سيما في العقيدة؛ لأن قولهم حجة كما هو مقرر في الأصول .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الحادي عشر :(150/112)
في ( ص 53 – 54 ) وصف الكوثري بأنه محقّق، ونقل كلاما له ذكر فيه أن عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس بثوا بين أعراب الرواة من المسلمين أساطير وأخبارا في جانب الله فيها تجسيم وتشبيه وأن المهدي أمر علماء الجدل من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين والزنادقة(4) وأقاموا البراهين وأزالوا الشبه وخدموا الدين . هكذا وصف الكوثري رواة الإسلام بأنهم أعراب راجت عليهم أساطير اليهود والنصارى والمجوس، وهذه الأساطير بزعمه هي الأخبار المتضمنة لأسماء الله وصفاته لأنها تفيد التشبيه والتجسيم عنده وأثنى على علماء الكلام الذين ردوا هذه الروايات ووصفهم بالدفاع عن الإسلام والرد على الملحدين والزنادقة .
وأما علماء الكتاب والسنة فليس لهم دور عند الكوثري في الذب عن الإسلام والرد على الملاحدة والزنادقة . وقد نقل الدكتور كلامه هذا مرتضيا له ووصفه بالمحقق والله المستعان .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثاني عشر :
في ( ص 63 ) يرى في فقرة ( 1 ) أنه يجب التأكد من صحة النصوص الواردة والمنقولة عن فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرآنا كانت هذه النصوص أو سنة .
ونقول له : أولا : هل القرآن يحتاج إلى تأكد من صحته ؟ أليس هو متواترا تواترا قطعيا ؟ وإذا كان يريد بعض القراءات فلماذا لم يبين ويقيد كلامه بذلك ؟
ثانيًا : هل القرآن من فم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالسنة أو هو وحي كله، لفظه ومعناه من الله تعالى والرسول مبلغ فقط أن كلامه هذا يوهم أن القرآن من كلام الرسول كالسنة، وليس هو كلام الله تعالى .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثالث عشر :(150/113)
قال في ( صفحة 63 – فقرة ج ) أنه يجب على الباحث عرض حصيلة تلك المعاني " أي معنى النصوص الصحيحة " التي وقف عليها وتأكد منها على موازين المنطق والعقل لتمحيصها، ومعرفة موقف العقل منها . ا هـ .
ونقول : هل للعقل موقف وسلطة مع النصوص الصحيحة ؟ فهذا لم يقل به إلا المعتزلة ومن وافقهم، أما أهل السنة فيسلمون لما صح عن الله ورسوله، سواء أدركته عقولهم أم لا، ولا سيما في نصوص الأسماء والصفات وقضايا العقيدة، فإن العقول لا مجال لها في ذلك؛ لأنه من أمور الغيب، مع العلم أن الشرع لا يأتي بما تحيله العقول، لكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول ولا تدرك كنهه .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الرابع عشر :
في ( ص 64 ) المقطع الثالث يستنكر تقسيم المسلمين إلى سلفيين وبدعيين، وهذا رد للنصوص التي أخبرت عن افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، والتي أخبرت عن حدوث الاختلاف الكثير وحثت على التمسك بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين عند ذلك، وكتابه يدور حول هذه النقطة، وهو إنكار لما هو واقع من الانقسام والافتراق في هذه الأمة، فهو إنكار للواقع المحسوس وكان الأجدر به أن يحث المتخلفين والمفترقين إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة بدلا من أن يطمئنهم على ما هم عليه من فرقة ومخالفة وبأنهم على الحق .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الخامس عشر :
في ( ص 65 – 67 ) يشكك في صحة الاستدلال بالخبر الصحيح الذي لم يبلغ حد التواتر في الاعتقاد فيقول :
" هذا القسم لا تتكون منه حجة ملزمة في نطاق الاعتقاد بحيث يقع الإنسان في طائلة الكفر إن هو لم يجزم بمضمون خبر صحيح لم يرق إلى درجة المتواتر " .(150/114)
ونقول : هذا كلام غير سليم ولا سديد، فإن خبر الآحاد إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب تصديقه والتسليم له والجزم بمضمونه في العقائد وغيرها .
وهذا القول الذي ذكره قول مبتدع في الإسلام فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل رسله آحادا ويقبل المرسل إليه خبره من غير توقف ولا تشكك في صحة ما جاءوا به، وكذلك الصحابة وأتباعهم كانوا يتقبلون الأحاديث الصحيحة ويحتجون بها، ولا يشكون في مضامينها في العقائد وغيرها، ولا يوجد هذا التفريق في كلام السلف، وإنما وجد في كلام بعض الخلف فهو تفريق مبتدع .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب السادس عشر :
في ( ص 99 ) ذكر الدكتور البوطي الأصول والأحكام التي لا مجال للاختلاف فيها، وذكر منها اليقين بأن الله عز وجل واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، وهذا الذي ذكره لا يزيد على توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون وجمهور الأمم، فالإقرار واليقين به وحده لا يكفي حتى ينضاف إليه توحيد الألوهية، وهو إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه، وهذا أيضا أصل لا مجال للاختلاف فيه .
وقوله في هذه الصفحة في الفقرة ( 4 ) عن صفات الله أنها قديمة قدم ذاته، هذا ليس على إطلاقه، إنما يقال في صفات الذات، أما صفات الأفعال كالاستواء والنزول والخلق والرزق فهي قديمة النوع حادثة الآحاد، وكذا قوله عن كلام الله فهو قديم ليس على إطلاقه؛ لأنه من صفات الأفعال، فهو قديم النوع حادث الآحاد كغيره من صفات الأفعال، وهذا التفصيل معروف عند أهل السنة والجماعة .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب السابع عشر :
قوله في ( ص 99 )
" وكل ما قد وصف الله به ذاته أو أخبر به عنها مما يستلزم ظاهرة التجسيد والتشبيه نثبته له كما قد أثبت ذلك لنفسه وننزهه عن الشبيه والنظير والتحيز والتجسد . . . " .(150/115)
نقول : ليس في صفات الله ما يستلزم ظاهره التجسيد والتشبيه، وإنما ذلك فهم فهمه بعض الجهال أو الضلال ولا ينسب ذلك إلى النصوص؛ لأن لله صفات تخصه وتليق به لا تشبهها صفات خلقه، ولا يدور هذا في ذهن المؤمن الصادق الإيمان، وكلام الله وكلام رسوله ينزه عن أن يكون لازمه باطلا .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثامن عشر :
قوله في ( ص101 ) في الفقرة ( 8 ) إن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة لا تستلزم تحيزا في جهة معينة . اهـ .
وأقول : نفي الجهة عنه الله مطلقا غير صحيح فإنه سبحانه في جهة العلو كما تواترت الأدلة على علوه في خلقه، وإنما ينزه عن جهة غير العلو .
هذا مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف الجهمية ومن سار على منهجهم في ذلك وغيره .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب التاسع عشر :
قوله في ( ص101و102 ) : إن الشفاعة في حق كثير من العصاة والمذنبين ميزة ميز الله بها نبيه عن سائر الرسل .
هذا كلام غير صحيح، فإن الشفاعة في عصاة الموحدين ليست خاصة بنبينا - صلى الله عليه وسلم - بل ليست خاصة بالأنبياء، وإنما الخاص به - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود، وما ورد الدليل باختصاصه به .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب العشرون :
قوله في ( 104 ) في المقطع الأخير : والإسلام يستتبع آثاره مستقلا ومنفصلا عن الإيمان في الدنيا .
هذا الكلام فيه نظر؛ فإن الإسلام الصحيح لا ينفصل عن الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن انفصل عنه فليس إسلاما صحيحا وإنما هو نفاق والمنافق لا يسمى مسلما وإنما يسمى منافقا، كما سماه الله ورسوله، ولا يلزم من معاملته معاملة المسلم في الدنيا أنه مسلم حقيقة لا في الدنيا ولا في الآخرة .(150/116)
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الحادي والعشرون :
قوله في ( ص107 ) : والقول بأن الإنسان يخلق أفعال نفسه _ وهو مذهب المعتزلة _ ليس مكفِّرا .
أقول : في نفي تكفيره نظر؛ لأن من قال ذلك إن كان مع هذا ينكر علم الله _ كما هو قول غلاة القدرية _ فهو كافر، وإن كان لا ينكره وهو مقلد لغيره فقد أنكر أحد أركان الإيمان _ وهو القدر _ على علم، فكيف لا يكفر من كان هذه حاله ؟
وأيضا هو قد أثبت لله شريكا في خلقه، وقد قال السلف عن هذا الصنف : إنهم مجوس هذه الأمة، بل ورد تسميتهم بذلك في أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثاني والعشرون :
ما ذكره في ( ص111 - 112 ) من أنه من أضفى صفات النبوة على عليّ بن أبي طالب وما يعتقده بعض المريدين في أشياخهم من العصمة، وما قاله الإمام الخميني من أن لأئمتهم ما لا يبلغه ملَك مقرَّب ولا نبيّ مرسَل .
إن هذه الأمور تعتبر شذوذات لا تستوجب لكفر أصحابها وخروجهم من الملة .
وكرر ذلك أيضا في ( ص110 ) وقال في هامش ( ص112 ) تعليق ( رقم 1 ) : سألت بعض الإخوة علماء الشيعة الإيرانيين . . . . إلخ .
إن عدم تكفير من يقول هذه المقالات واعتباره أخا خطأ واضح؛ لأنها من أسباب الردة الواضحة، فكيف لا يكفرون بذلك ؟ !
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثالث والعشرون :
قوله في ( ص114 ) : ويقابل التعطيل التجسيم أو التشبيه، وهو أن تترك هذه الآيات ( أي آيات الصفات ) على ظاهرها، ويفهم منها المألوف في حياة المخلوقين والمحدثين، فيفهم من اليد الجارحة التي خلقها الله فينا، ويفهم من الاستواء معناه المتمثل في جلوس أحدنا على كرسيه أو سريره، ويفهم من المجيء الحركة التي تتخطى حيزا إلى غيره، وهكذا . اهـ .
والجواب عن ذلك أن نقول :(150/117)
أولا : لا بد من ترك الآيات على ظاهرها فإنه حق مراد لله سبحانه، وكون بعض الناس يفهم منها فهما سيئا آفته من فهمه الخاطئ وليس ما فهمه هو ظاهر الآيات .
وَكَمْ مِنْ عائبٍ قولا صحيحا ** وآفُتُه من الفهمِ السقيمِ
ثانيًا : الآيات تدل على صفات حقيقية لله، فله يد حقيقية تليق به ولا تشبه يد المخلوق، والاستواء له معنى حقيقي فسره به السلف وأئمة السنة واللغة وهو العلو والارتفاع والاستقرار والصعود، وكل هذه المعاني على ما يليق بالله لا كعلو المخلوق وارتفاعه واستقراره وصعوده، تعالى الله عن ذلك .
وكذلك المجيء هو مجيء حقيقي على معناه في اللغة العربية، وكذا الإتيان كما جاء في الآيات الأخرى، ولا يلزم منه مشابهة مجيء المخلوق وإتيانه، والجارحة والحيز ألفاظ مجملة لم يرد نفيها ولا إثباتها في حق الله تعالى .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الرابع والعشرون :
في صفحة 118 - 119 أثنى على بعض المتصوفة وبعض مؤلفاتهم كالقشيري، وهذا الثناء في غير محله؛ لأن التصوف أصل مبتدع في الإسلام ودخيل عليه، وقد تطور إلى أفكار إلحادية، وما زال العلماء المحقِّقون يحذرون منه ومن أصحابه، وبالخصوص القشيري، فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية ردا مفصلا على رسالته وما فيها من مخالفات وشطحات، وفي الثناء عليه وعلى أمثاله تغرير بمن لا يعرف حقيقتهم .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الخامس والعشرون :
تكلم عن صفات الله عز وجل من ص 132 - 144 وقد حصل في كلامه أخطاء كثيرة من أهمها :
1 - عد آيات الصفات من المتشابه وهذا خطأ؛ لأن آيات الصفات عند سلف الأمة وأئمتها من المحكم، ولم يقل إنها من المتشابه إلا بعض المت أخرىن الذين لا يحتج بقولهم ولا يعتبر خلافهم .
2 - ذكر أن آيات الصفات لها محملان :(150/118)
المحمل الأول : أن تجري على ظاهرها مع تنزيه الله عز وجل عن الشبيه والشريك، وقال :
إن هذا تأويل إجمالي؛ لأن ظاهرها ما هو من صفات المخلوقين .
والجواب : نقول له : ليس الأمر كما ذكرت، فليس ظاهرها يدل على مشابهة صفات المخلوقين، وإنما هذا وهم توهمته أنت وغيرك من بعض الخلف، وليس هو ظاهرها؛ لأن ظاهرها هو ما يليق بجلال الله وصفات الخالق تختص به وصفات المخلوق تختص به، ثم قال : والمحمل الثاني حملها على المعنى المجازي بأن يفسر الاستواء بالاستيلاء والتسلط والقوة . انتهى كلامه .
والجواب أن نقول له : لا يجوز حمل صفات الله عز وجل على المعنى المجازي؛ لأن هذا تعطيل لها عن مدلولها، بل يجب حملها على المعنى الحقيقي اللائق بالله؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة ولا سيما كلام الله عز وجل ولا سيما ما يتعلق به وبأسمائه وصفاته، ولا يجوز حمل الكلام على المجاز إلا عند تعذر حمله على الحقيقة، وهذا ما لم يحصل حمله في نصوص الصفات فليس هناك ما يوجب حملها على المجاز وكتسويغ منه لهذا الباطل الذي ذكره نسب إلى بعض السلف تأويل بعض الصفات، فنسب إلى الإمام أحمد تأويل : { وَجَاء رَبُّكَ } بمعنى جاء أمر ربك، ونسب إلى البخاري تأويل الضحك بالرحمة، ونسب إلى الإمام حماد بن زيد تأويل نزول الله إلى السماء الدنيا بإقباله جل جلاله إلى عباده .
والجواب أن نقول :
أولا ما نسبه إلى الإمام أحمد لم يثبت عنه ولم يوثقه من كتبه أو كتب أصحابه، وذكر البيهقي لذلك لا يعتمد؛ لأن البيهقي - رحمه الله - عنده شيء من تأويل الصفات، فلا يوثق بنقله في هذا الباب؛ لأنه ربما يتساهل في النقل، والثابت المستيقن عن الإمام أحمد إثبات الصفات على حقيقتها وعدم تأويلها، فلا يترك المعروف المتيقن عنه لشيء مظنون ونقل لم يثبت عنه، وله - رحمه الله - رد على الجهمية والزنادقة في هذا الباب مشهور ومطبوع ومتداول .(150/119)
ثانيًا : وما نسبه إلى البخاري غير صحيح، فقد راجعت صحيح البخاري فوجدته قد ذكر الحديث الذي أشار إليه الدكتور (5) تحت ترجمة { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ } ولم يذكر تأويل الضحك بالرحمة، وإنما الذي أوله بالرضا هو الحافظ ابن حجر في الفتح، والحافظ - رحمه الله - متأثر بالأشاعرة، فلا عبرة بقوله في هذا .
ثالثا : ما نسبه إلى حماد بن زيد من تأويل النزول بالإقبال يجاب عنه من وجهين :
الوجه الأول : أن هذا لم يثبت عنه؛ لأنه من رواية البيهقي، والبيهقي - رحمه الله - يتأول بعض الصفات، فربما تساهل في النقل، ولو ثبت عن حماد هذا التأويل فهو مردود بما أجمع عليه السلف من إثبات النزول على حقيقته .
الوجه الثاني : أنه لا تنافي بين إثبات النزول على حقيقته وإقبال الله تعالى على عباده، فيقال : ينزل ويقبل على عباده ليس في هذا حمل على المجاز كما يظن الدكتور .
3 - نسب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أنهم قد يفسرون الوجه بالجهة أو القبلة أو الذات وظن أن هذا تأويل للوجه الذي هو صفة من صفات الله عز وجل الذاتية، وهذا الظن منه خطأ واضح؛ فهولاء الأئمة لم يقصدوا ما توهمه؛ لأن الوجه لفظ مشترك تارة يراد به الوجه الذي هو الصفة الذاتية وتارة يراد به الدين والقصد وتارة يراد به الجهة والوجهة، وسياق الكلام هو الذي يحدد المقصود في كل مكان بحسبه، فإذا فسر الوجه في موضع بأحد هذه المعاني لدليل اقتضى ذلك من دلالة السياق أو غيره صح ذلك ولم يكن تأويلا بل هو تفسير لذلك النص وبيان للمراد به .
وبما ذكرنا يتبين من جواز حمل آيات الصفات وأحاديثها على المعنى المجازي وصرفها عن ظاهرها أنه قول غير صحيح، وأنه لا مستند له فيما ذكره عن بعض السلف إما لأنه لم يصح عنهم أو لأنهم لم يقصدوا ما توهمه .
4 - اعتمد على تأويلات الخطابي لبعض الصفات وأشاد به ومدحه من أجل ذلك .(150/120)
والجواب عن ذلك : أن الخطابي - رحمه الله - ممن يتناولون الصفات فلا اعتبار بقوله ولا حجة برأيه في هذا، وله تأويلات كثيرة، والله يعفو عنا وعنه .
ثم العجيب في الأمر أن الدكتور تناقض مع نفسه حيث ذكر فيما سبق أنه يجب إثبات صفات الله كما جاءت مع تنزيه الله عن التشبيه والتمثيل كما في صفحة 99 و101 و113 و 115 بينما نراه هنا يجوز تأويلها وحملها على المجاز، هل هذا تراجع عما سبق أو هو التناقض ؟ !
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب السادس والعشرين :
أنه في ص138 يجيز مخالفة السلف في إثبات الصفات على حقيقتها فيقول :
" بل نفرض أن أحدا من رجال السلف رضوان الله عليهم لم يجز لنفسه أكثر من أن يثبت ما أثبته الله لذاته مع تفويض ما وراء ذلك من العلم، والتفاصيل إلى الله عز وجل، فإن ذلك لا يقوم حجة على حرمة مخالفتهم في موقفهم، هذه حرمة مطلقة " انتهى كلامه .(150/121)
ونقول : يا سبحان الله ألا يسعنا ما وسع السلف ؟ أليست مخالفتهم وفيهم المهاجرون والأنصار والخلفاء الراشدون وبقية الصحابة رضي الله عنهم والقرون المفضلة أليست مخالفتهم لاسيما في العقيدة بدعة، وكل بدعة ضلالة، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) والله تعالى يقول { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } فشرط سبحانه في رضاه عمن جاء بعدهم اتباعهم للمهاجرين والأنصار بإحسان، والدكتور يقول لا تحرم مخالفتهم في صفات الله عز وجل . ألم يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم خير القرون . ومعنى هذا الحث على الاقتداء بهم والنهي عن مخالفتهم لا سيما في أصول الدين، فهل تجوز المخالفة في أمور العقيدة، أليست العقيدة توقيفية لا مجال للاجتهاد فيها والاختلاف فيها ؟ ! .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب السابع والعشرون :
في ص146 المقطع الأخير، ذكر أن من البدع القول بفناء النار وأن ذلك داخل بإجماع المسلمين في معنى البدعة .
وتعقيبنا عليه من وجهين :
الوجه الأول : أنه لم يحصل إجماع على تخطئة القول بفناء النار وعده من البدع كما زعم، فالمسألة خلافية وإن كان الجمهور لا يرون القول بذلك، لكنه لم يتم إجماع على إنكاره وإنما هو من المسائل الخلافية التي لا يبدع فيها .
الوجه الثاني : أن الذين قالوا بفنائها استدلوا بأدلة من القرآن والسنة، وبقطع النظر عن صحة استدلالهم بها أو عدم صحته، فإن هذا القول لا يعد من البدع ما دام أن أصحابه يستدلون له؛ لأن البدع ما ليس لها دليل أصلا، وغاية ما يقال أنه قول خطأ أو رأي غير صواب، ولا يقال بدعة .(150/122)
وليس قصدي الدفاع عن هذا القول ولكن قصدي بيان أنه ليس بدعة ولا ينطبق عليه ضابط البدعة وهو من المسائل الخلافية .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثامن والعشرون :
في ص149 قال : وتفريق الباحث في مسألة القرآن بين ما فيه من المعاني النفسية والألفاظ المنطوق بها، مع ما يلحق بها من حبر وورق وغلاف ليقول إن الأول ( يعني المعاني النفسية ) قديم غير مخلوق، والثاني حادث مخلوق، أيعد بدعة محظورة لأن هذا التفريق لم يُعلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?، ومن ثم يجب إطلاق القول بأن القرآن قديم غير مخلوق . والثاني حادث مخلوق أيعد بدعة محظورة لأن هذا التفريق لم يُعلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?ومن ثم يجب إطلاق القول بأن القرآن قديم غير مخلوق دون تفصيل ولا تفريق، أم لا يعد بدعة وإنما هو شرح وبيان لما علمه الصحابة من قبل على وجه الإجمال، ومن ثم فلا مانع _ لاسيما في مجال التعليم _ من هذا التفريق والتفصيل اهـ .
وتعقيبا عليه أقول : كلامه هذا يتمشى مع مذهب الأشاعرة الذين يفرقون في كلام الله بين المعنى واللفظ فيقولون : المعنى قائم بالنفس وهو قديم غير مخلوق، وهذا كلام الله عندهم، وأما اللفظ فهو عندهم تعبير عن هذا المعنى من قبل جبريل أو النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مخلوق .
وهذا تفريق باطل(6)، ومذهب أهل السنة سلفا وخلفا أن كلام الله تعالى هو اللفظ والمعنى، وكلاهما غير مخلوق؛ لأنه كلام الله تعالى وصفة من صفاته، وصفاته غير مخلوقة .
وقوله إن الصحابة علموا هذا التفريق بين اللفظ والمعنى في كلام الله هو تقول على الصحابة، ونسبة إليهم ما هم منه براء .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب التاسع والعشرون :(150/123)
في ص149 تساءل عن التوسل بجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، أو بجاه من عرفوا بالصلاح والاستقامة بعد وفاتهم هل هو بدعة أو يقاس على التوسل به - صلى الله عليه وسلم - حال حياته وهو شيء ثابت دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ومن ثم فهو ليس من البدعة في شيء . ولم يجب عن ذلك التساؤل بل ترك القارئ في حيرة والتباس .
وأقول، أولا : التوسل بالجاه ليس أصلا لا في حياته ولا بعد موته فهو بدعة بلا شك .
ثانيًا : أما التوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم - فهو جائز في حياته؛ لأنه يتمكن من الدعاء فيها أما بعد وفاته فطلب الدعاء منه بدعة ولا يجوز؛ لأنه لا يقدر على الدعاء ولأن الصحابة لم يفعلوا هذا معه بعد وفاته وإنما كانوا يفعلونه حال حياته، ولا تقاس حالة الحياة على حالة الموت لوجود الفوارق العظيمة بينهما عند جميع العقلاء، وإنما يقيس هذا القياس المخرفون، وإن كان هو يزعم في ص 155 أن هذا التفريق لم يعرف إلا عند ابن تيمية وأن السلف لم يفرقوا، ولم تفرق الأدلة بينهما، وكأنه لم يقرأ ما ذكره العلماء في الموضوع وما ذكره ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة عن السلف والأمة في ذلك أو أن تحامله عليه أنساه ذلك .
ثم إنه نسب إلى السلف ما لم يقولوه، وحمل الأدلة ما لم تحتمله ولم يأت بدليل واحد على ما قال وأنى له ذلك ؟ !
والواجب أن الباحث أمثال الدكتور البوطي لا يخطئ شخصا ويتحامل عليه حتى يقرأ كلامه وينظر في مستنداته حتى يعرف هل هو مخطئ أو مصيب ؟ هذا هو الإنصاف والعدل، ولا ننسى أن الدكتور البوطي له هنات في غير هذا الكتاب حول هذه المسألة قد قام بالرد عليها الشيخ محمد ناصر الألباني حفظه الله .
ثم إنه في ص146 يهون من شأن المسألة ويقول هي أقل من أن تصدع المسلمين أو تجعل منهم مذهبين .
وأقول كلا والله إنها لمسألة خطيرة تمس صميم العقيدة وتجر إلى الشرك فكيف تكون هينة ؟ !(150/124)
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثلاثون :
في ص150و157 أدخل تحت بدعة التزيد في العبادة الأذان الأول ليوم الجمعة الذي دعا به عثمان رضي الله عنه عندما دعت الحاجة إليه، وهذا منه خطأ واضح، فإن عثمان رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) ففعله هذا يعد سنة لا بدعة وتزيدا حاشاه من ذلك رضي الله عنه وأرضاه . وهذا ينسينا ما قاله في حق شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ابتدع التفريق بين حالة الحياة والموت إذ أن الخليفة الراشد عنده قد ابتدع في الدين .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الواحد والثلاثون :
في ( ص160 ) خلط بين علم الكلام والفلسفة وانتقد شيخ الإسلام ابن تيمية حيث أجاز مناظرة المتكلمين بمثل مصطلحاتهم مع أنه ينكر على الغزالي انشغاله بالفلسفة وكأنه لا يدري أن علم الكلام غير الفلسفة وأن بينهما فرقا واضحا(7).
وقد انتقد شيخ الإسلام أيضا في ص162و163 من ناحية أنه يحذر من الإقبال على علم الكلام والمنطق وهو قد تضلّع فيهما وناظر بهما .
والجواب عن ذلك أنه - رحمه الله - يحذر من الاشتغال بذلك من هم على غير مستوى علمي جيد يمكنهم من التخلص من أضرار علم الكلام، ولأن ذلك يشغل عن تعلم الكتاب والسنة، فأي انتقاد يوجه إليه في ذلك إلا من صاحب هوى وحقد، ثم إن الشيخ - رحمه الله - لا ينكر على من تعلم علم الكلام والمنطق من أجل الرد على المضللين وقتلهم بسلاحهم، وإنما ينكر على من تعلمها بغير هذا القصد .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثاني والثلاثون :
من ص 164 - 188 شن هجوما مسلحا على شيخ الإسلام ابن تيمية واتهمه أنه قال بقول الفلاسفة حينما قال إن الحوادث قديمة النوع حادثة الآحاد .(150/125)
وهذه المسألة قد شنع بها خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية عليه قديما وحديثا وقالوا إنه يقول بحوادث لا أول لها والدكتور في هذا الكتاب اتخذ من هذه المسألة متنفسا له ينفث من خلاله ما في صدره من حقد على شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه شيخ السلفيين الذين يضايقونه في هذا الزمان .
ولكن والحمد لله ليس له في هذه المسألة ولا للذين سبقوه أي مدخل على الشيخ وسيرده الله بغيظه لم ينل خيرا كما رد الذين من قبله، فإن مراد الشيخ - رحمه الله - أن أفعال الله سبحانه ليس لها بداية؛ لأنه الأول الذي ليس قبله شيء .
قال - رحمه الله - : والتسلسل الواجب ما دل عليه الشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد، فكل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه، فإنه لم يزل متكلما إذا شاء ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعال .
والفرق بين الحي والميت الفعل، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلا عن كماله من الكلام والإرادة والفعل إلى أن قال : ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدما لا أول له، فلكل مخلوق أول والخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن إلى أن قال : والمقصود أن الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن . أما كون رب العالمين لم يزل معطلا عن الفعل ثم فعل فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته، بل كلاهما يدل على نقيضه .
هذه خلاصة ما يراه الشيخ في هذه المسألة، وهل في ذلك ما يشنع به عليه كما يظنه الدكتور وأضرابه إلا أنه الهوى والحقد أو الجهل والغفلة، فإن بين ما قاله الشيخ في هذه المسألة وبين قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم فروقا واضحة هي الفروق بين الحق والباطل والكفر والإيمان .(150/126)
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثالث والثلاثون :
في ص191 - 192 يؤيد عقد حلقات الصوفية التي يسمونها حلق الذكر، ويزعم أنه ليس هناك ما يمنع من إقامتها ويقول : إن الذكر مشروع .
ونحن نجيبه عن ذلك ونقول له : الذكر لا شك أنه مشروع، لكن على الصفة الواردة في الكتاب والسنة . أما إحداث هيئة للذكر لا دليل عليها كالذكر الجماعي أو الأوراد الصوفية التي ليس عليها دليل أو ربما يشوبها شيء من الألفاظ الشركية فهذه لا شك أنها بدعة وأن الذين يقيمونها مبتدعة داخلون في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) والشيء قد يكون مشروعا في أصله، لكن الصفة التي يؤدى بها إذا لم يكن عليها دليل فهى بدعة . وقد أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على الذين يجتمعون في مسجد الكوفة وفيهم رجل يقول سبحوا مائة كبروا مائة هللوا مائة؛ لأن هذه الصفة ليست من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الرابع والثلاثون :(150/127)
في ص193 - 195 شنع على الذين ينكرون ذكر الله بالاسم المفرد ( الله ) ومنهم الشيخ ابن تيمية فإنه وجه إليه قذائف غضبه، وهو في هذا لم يصغ إلى حجج المذكورين، ومنها أن ذكر الله بالاسم المفرد لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في هدي السلف الصالح، علاوة على أنه لا يفيد شيئا؛ لأن الاسم المفرد لا يأتي بفائدة حتى يتركب مع جملة مفيدة، وما يزعمه الدكتور أن ذكر الله بالاسم المفرد يدخل في قوله تعالى { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } فنحن نسأله ونريد منه الصدق في الجواب دون مراوغة : هل ورد في السنة من أمره الله بهذا الأمر وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الله بالاسم المفرد، إذ لا شك أن سنته تفسير للقرآن هذا من محدثات الصوفية وفهمهم السقيم، وكثيرا ما يكرر الدكتور أن المخالف في هذه المسألة وغيرها لا يضلل .
ونحن نقول له إن المخالف لا يضلل إذا كان لمخالفته مأخذ من النصوص الشرعية أما إذا كانت مخالفته ليس لها مأخذ من الكتاب والسنة فإنه يضلل؛ لأن الله تعالى يقول { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } وما دل عليه كتاب الله حق وما خالفه فهو ضلال يضلل من قال به .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الخامس والثلاثون :
في ص196 - 197 يسوغ اصطلاحات الصوفية التي منها تفريقهم بين الشريعة والحقيقة ولم يجد دليلا والحمد لله لهذا التسويغ إلا أن ذلك قول كبار الصوفية كسهل التستري والحارث المحاسبي والجنيد _ وهذا لا أظنه معهم وإن حشره معهم _ ومعروف الكرخي، فهو بهذا الاستدلال كمن فسر الماء بعد الجهد بالماء . (8)
ثم هل هناك حقيقة تخالف الشريعة حتى يقال : الحقيقة والشريعة إلا في اصطلاح الصوفية أن الشريعة للعوام والحقيقة للخواص، وهذا إلحاد واضح وليت الدكتور لم يدخل هذه المجاهل المخيفة .(150/128)
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب السادس والثلاثون :
في ص201 - 212 تحدث عن الصوفية وأحوالهم وأقوالهم، وحاول الدفاع عنهم بكل ما أوتي من قوة والاعتذار لهم بكل ما أوتي من عبارة حتى عمن قال منهم : ما في الجبة إلا الله، وعمن قال منهم ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك . ورغم ما تحمله العبارتان من كفر وضلال حاول تأويلهما بما لا داعي للإطالة بذكره؛ لأن هاتين العبارتين تنبئان عن نفسهما ولا تقبلان التأويل .
فإن قول القائل : ما في الجبة إلا الله صريح في الاتحاد . وقوله : ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك مخالف لهدي الأنبياء جميعا، حيث وصفهم الله بأنهم يدعونه رغبا ورهبا، ومخالف لصفة المؤمنين الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا، ولا يعني هذا أنهم لا يعبدونه إلا من أجل الخوف والطمع بل هم مع ذلك يحبونه حبا شديدا ويذلون له كما قال تعالى { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } وقال تعالى { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } . ولا تصح العبادة إلا باستكمال هذه الأركان : المحبة والذل والخوف والرجاء .
ثم حاول الدفاع عن ابن عربي وما في كتبه : من القول بوحدة الوجود :
ففي هامش ص104 - 105 قال : إنه لا يجوز تكفيره بموجب كلامه الذي فيه الإلحاد الصريح حتى يعلم ما في قلبه : هل يعتقد ما يقول أم لا ؟
ولو صح كلام الدكتور هذا ما كفر أحد بأي قول أو فعل مهما بلغ من القبح والشناعة والكفر والإلحاد حتى يشق عن قلبه ويعلم ما فيه من اعتقاد .
وعلى هذا فعمل المسلمين على قتال الكفرة وقتل المرتدين خطأ على لازم قول الدكتور؛ لأنهم لم يعلموا ما في قلوبهم، وهل هم يعتقدون ما يقولون وما يفعلون من الكفر أو لا ؟(150/129)
واسمع عبارته في ذلك حيث يقول : وخلاصة المشكلة أنه يعني شيخ الإسلام ابن تيمية ومن يقلده في نهجه يظلون يأخذون ابن عربي وأمثاله بلازم أقوالهم دون أن يحملوا أنفسهم على التأكد من أنهم يعتقدون(9) فعلا ذلك اللازم الذي تصوروه .
ثم قال إما أن يكون في كتب ابن عربي كلام كثير يخالف العقيدة الصحيحة ويوجب الكفر، فهذا ما لا ريبة فيه ولا نقاش فيه . وإما أنه يدل ذلك دلالة قاطعة على أن ابن عربي كافر وأنه ينطلق من فهم الشهود الذاتي من أصل كفري هو نظرية الفيض، فهذا ما لا يملك ابن تيمية ولا غيره أي دليل قاطع عليه . انتهى .
وإنما سقت هذا المقطع من كلامه لإطلاع القارئ على ما فيه من تخبط وتناقض ومناقضة لأدلة الكتاب والسنة وعمل المسلمين على كفر من قال كلمة الكفر غير مكره قال تعالى { وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } ويلزم من هذا أيضا أنه لا يحكم بإسلام كافر إذا نطق بالشهادتين حتى يعلم ما في قلبه : هل يعتقدهما أو لا . ولوازم هذا كثيرة ويلزم عليه أن من دعا غير الله لا يكفر حتى يعلم ما في قلبه .
ثم اعتذر عن ابن عربي بأن في كتبه كلاما آخر يناقض كلامه الكفري .
ونحن نقول له : الإجابة عن ذلك هل ثبت لديك أنه رجع عن كلامه الكفري وأنه كتب هذا الكلام الذي يناقضه بعدما تاب أو أنه كتبه من باب التغطية والتلبيس، ثم أنت لم تأت بشاهد على ما قلت من كلامه .
ثم قال : " وإذا أبى ابن تيمية إلا أن يحملنا على تكفير ابن عربي استدلالا بالكفريات الموجودة في كلامه والإعراض عن الصفحات الطوال التي تناقضها وترد عليها في مختلف كتبه وأقواله فإنه لدعوة منه بلا ريب إلى أن نكفره هو الآخر استدلالا بالضلالات الفلسفية التي انزلق فيها " .(150/130)
ويعني بذلك المسألة التي سبق ذكرها وهي قول الشيخ أن أفعال الله سبحانه ليس لها بداية ونقول : يا سبحان الله هل وصف الرب بما يستحقه من الكمال بدوام أفعاله وكماله أزلا وأبدا وتنزيهه عن التعطيل الذي وصفه به أهل الضلال من قولهم : إنه تعالى الله عما يقولون مضى عليه وقت لم يفعل شيئا ثم حدث له الفعل بعد ذلك هل هذا هو قول الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم وإنكار الخالق أن الضلال هو قول من يعطل الله من أفعاله ويضرب له مدة لا يفعل فيها شيئا كما هو قول علماء الكلام، وإن قول ابن تيمية هو الحق وقول أهل الحق وأين خطؤه _ لو كان خطأ على فرض _ من كفريات ابن عربي، وقوله بوحدة الوجود، وأن من عبد الأصنام ما عبد إلا الله ؟
ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لم ينفرد بتكفير ابن عربي، بل قد كفره كثير من العلماء حتى من الصوفية واقرأ مؤلفاتهم في ذلك، ومنها كتاب " تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي " للبقاعي وغيره من الكتب وللشيخ تقى الدين الفاسي رسالة مستقلة في تكفير ابن عربي، وذكر من قال بذلك من العلماء وهي مطبوعة ومتداولة فإذا كان بإمكان البوطي أن يكفره فليفعل .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب السابع والثلاثون :(150/131)
في ص236 كتب عنوانا بلفظ التمذهب بالسلفية بدعة، وهذا الكلام يثير الدهشة والاستغراب، كيف يكون التمذهب بالسلفية بدعة، والبدعة ضلالة وكيف يكون بدعة وهو اتباع لمذهب السلف واتباع مذهبهم واجب بالكتاب والسنة وحق وهدى؛ قال تعالى { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } الآية وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين . . . ) الحديث فالتمذهب بمذهب السلف سنة وليس بدعة، وإنما البدعة التمذهب بغير مذهبهم، وإذا كان قصده أن التسمي بهذا الاسم حادث كما يظهر من كلامه، ولم يكن معروفا من قبل فهو بدعة بهذا الاعتبار، فمسألة الأسماء أمرها سهل، والخطأ فيها لا يصل إلى حد البدعة، وإن كان قصده أن في الذين تسموا بهذا الاسم من صدرت عنهم أخطاء تخالف مذهب السلف فعليه أن يبين هذا دون أن يتناول السلفية نفسها فالتسمي بالسلفية إذا كان يعني التمسك بمذهب السلف ونبذ البدع والخرافات فهذا شيء محمود وطيب، كما قرر هذا هو في ص233 حيث قال عن حركة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتسميتها السلفية : " فقد كان الشعار الذي رفعه أقطاب هذه الحركة الإصلاحية هو السلفية، وكان يعني الدعوة إلى نبذ كل هذه الرواسب التي عكرت على الإسلام طهره وصفاءه " .
هذا ما قاله عن هذه الحركة وتسميتها بالسلفية ولم يعب عليها هذا التسمي؛ نظرا لسلامة أهدافها عنده .
فنقول له : وهل السلفية اليوم تعني غير ذلك ؟ !
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الثامن والثلاثون :(150/132)
وفي ص236 - 237 عبر عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بالمذهب الوهابي، وقال : " الوهابية تبرموا من هذه الكلمة لأنها توحي بأن ينبوع هذا المذهب بكل ما تضمنه من مزايا وخصائص يقف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب فدعاهم إلى أن يستبدلوا بكلمة الوهابية هذه كلمة السلفية . . . إلخ ما قال .
والجواب أن نقول : إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس له مذهب خاص يدعى بالوهابية؛ لأنه في العقيدة على منهج السلف، وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الذي كان عليه علماء نجد من قبله وفي عصره ومن بعده .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب التاسع والثلاثون :
في ص129 - 240 تكلم عن زيارة القبر النبوي _ على صاحبه أفضل الصلاة والسلام _ فقال : " ولكم اتهمنا واتهم كثير من المسلمين من أهل السنة والجماعة بالابتداع والمروق؛ لأننا ذهبنا إلى ما ذهب إليه الجمهور من علماء السلف وغيرهم من أنه لا ضير في أن يعزم الرجل على زيارة كل من قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسجده " . كذا قال .(150/133)
والجواب أن نقول : إن زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير سفر سنة وليست بدعة ولم يقل أحد إنها إذا كانت على هذه الصفة بدعة ومروق أما السفر لزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - فهو بدعة لأنه لا يجوز السفر لأجل زيارة القبور لا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -?ولا قبر غيره من الأولياء والصالحين لقوله : - صلى الله عليه وسلم - لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى وعملًا بهذا الحديث لم يكن السلف والأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المقتدى بهم يسافرون من أجل زيارة القبور وقد أوغل الدكتور في الخطأ حين ادعى أن مذهب الجمهور من علماء السلف وغيرهم أنه لا ضير في أن يعزم الرجل على هذا فإن كان قصده العزم على السفر لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلماء السلف ينهون عما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من السفر لزيارة القبور عمومًا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -?وغيره ثم إن الدكتور خطأ شيخ الإسلام ابن تيمية في استدلاله بالحديث المذكور على منع السفر لزيارة القبور وسماه غلطًا عجيبًا انزلق فيه الشيخ حيث قال ويترتب على هذا الغلط العجيب الذي انزلق فيه ابن تيمية - رحمه الله - إن الإنسان لا يجوز له أن يشد الرحال إلى زيارة رحم أو إلى طلب علم أو إلى انتجاع رزق لأن هذه الأشياء كلها خارج المساجد الثلاثة ونحن نقول له بل الغلط العجيب ما انزلق اليه فهم الدكتور لأن الحديث الشريف يعني منع السفر إلى بقاع مخصوصة لأجل التعبد فيها أو عندها غير المساجد الثلاثة سواء كانت هذه البقاع مساجدَ أو قبورًا أو غيرها أما السفر لزيارة الرحم أو طلب العلم أو طلب الرزق فلم يدخل في مدلول الحديث أصلًا .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الأربعون :(150/134)
في ص241 قال عن سبب صبر الإمام أحمد على تحمل محنة القول بخلق القرآن وإنما كان سبب المحنة التي تعرض لها الإمام دون غيره هو ورعه الشديد الذي منعه أن يفصل ويفرق بين اللفظ والمعنى .
والجواب أن نقول له :
أولا : لم يكن الإمام أحمد وحده الذي تعرض لهذه المحنة بل شاركه في ذلك خلق كثير من العلماء منهم من قتل في ذلك ومنهم من عذب وأوذي لكن يظهر أن الدكتور لم يقرأ التاريخ .
ثانيًا : ليس هناك تفريق بين معنى القرآن ولفظه كلاهما كلام الله منزل غير مخلوق والتفريق بينهما بأن يقال المعنى غير مخلوق واللفظ مخلوق هذا قول المبتدعة لا قول أهل السنة فالإمام أحمد لم يفرق بينهما لأنه كغيره من الأئمة لا يرى فرقا بينهما ولا يعتقد عقيدة الأشاعرة .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=5 - TOP#TOP التعقيب الواحد والأربعون وهو الأخير :
في ص256 - 257 استنكر الرد على كتاب الذخائر المحمدية لمحمد علوي مالكي وبيان ما فيه من الضلالات وقال : إن محمد علوي من أهل السنة والجماعة ولم يقرأ الناس في تأليفه وكتاباته ولم يروا في واقع حاله إلا ما يزيدهم ثقة باستقامة دينه وصلاح حاله وسلامة عقيدته .
والجواب : أن نقول له الواجب عليك أن تنظر محتويات كتب هذا الرجل وتعرضها على الكتاب والسنة وعلى عقيدة السلف لتعرف مدى مطابقتها أو مخالفتها لهذه الأصول ولا تعتمد على قراءة الناس وإنما تنظر أنت هل المعترض عليه مصيب أو مخطئ هذا ما يتطلبه الباحث المصنف الذي يحترم ما يقول ويكتب دون التهجم على من اعترض علوي قبل معرفة وجهة اعتراضه ثم هل كون الرجل من أهل السنة والجماعة ومن أهل الاستقامة هل ذلك يمنع من الاعتراض عليه إذا أخطأ ؟
والله أعلم .
وصلى الله وسلم على نبيينا محمد وعلى آله وصحبه
رد أوهام أبي زهرة في حق شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله -(150/135)
الحمد له الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله , وكفى بالله شهيدًا .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له؛ إقرارًا به وتوحيدًا , وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا .
أما بعد :
فإنه كان من الواجب علينا احترام علمائنا في حدود المشروع؛ كما قال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11 ] .
وقال تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ]
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( وإن العلماء ورثة الأنبياء , وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ) .
ولا سيما العلماء المجددون لدين الله , والدعاة المخلصون إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن .
فكان حقهم علينا الاقتداء بهم , واحترامهم , والترحم عليهم , والدعاء لهم؛ لقاء ما قاموا به من الواجب , وما بينوه من الحق , وردوا من الباطل .
إلا أننا نجد بدلا من ذلك من بعض حملة الأقلام والمتطفلين على العلم والتأليف من يكيل التهم في حقهم , ويرميهم بما هم بريئون منه , ويحاولون صرف الناس عن دعوتهم؛ بدافع الحقد أو سوء الاعتقاد , أو الاعتماد على ما يقوله أعداؤهم وخصومهم .
ومن ذلك أني قد اطلعت على كتاب بعنوان : ( تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة الفقهية ) , و ( تاريخ المذاهب الفقهية ) للشيخ محمد أبي زهرة , تعرض فيه لإمامين عظيمين وداعيين إلى الله مخلصين هما : شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله - ووجه ضدهما في نفس التهم التي يروجها ويرددها أعداؤهما المضلون في كل زمان، حيث تروعهما دعوة الإصلاح وإخراج الناس من الظلمات إلى النور , ويريدون أن يبقى الناس في ظلام، ويعيشوا في ضلال , حتى يتسنى لخرافاتهم أن تروج .(150/136)
وما كان يليق بباحث يتحرى الحقيقة مثل الشيخ أبي زهرة أن يعتمد في حق هذين الإمامين الجليلين على كلام خصومهما، بل كان الواجب عليه وعلى كل باحث منصف أن يرجع إلى كلام من يريد أن يقدم للناس معلومات عنه من كتابه , ويوثق ذلك بذكر اسم الكتاب المنقول عنه؛ لأننا والحمد لله في عصر قد وضعت فيه ضوابط البحث العلمي، وأصبح لا يقبل فيه إطلاق القول على عواهنه؛ من غير تقيد بتلك الضوابط، وفوق هذه الضوابط هناك وقوف بين يدي الله - سبحانه وتعالى - وسؤال عما يقوله الإنسان ويكتبه في حق غيره من اتهام وكذب .
قال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُول-ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ الحجرات : 6 ] . إلا أن الشيخ أبا زهرة تجاهل ذلك كله، ونسب إلى الشيخين الإمامين الجليلين : الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ما لا يليق بمقامهما، وما يتنزهان عنه من التهم الباطلة، والتهجم السخيف؛ اعتمادًا على ما يقوله عنهما خصومهما، وما يروجه المخرفون ضدهما؛ غير متقيد بضوابط البحث العلمي، ولا خائف من الوعيد الذي توعد الله به من أقدم على مثل هذا العمل ! !
وإليك بيان هذه التهم مع الرد عليها، سائلين الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=6 - TOP#TOP أولاً : ما نسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية
1 – في ( ص187 ) قال :
إنه ( أضاف إلى مذهب السلف أمورًا أخرى قد بعثت إلى التفكير فيها ) .(150/137)
أقول : هذا من الافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قد أحدث أمورًا من عند نفسه، وهو اتهام خطير، قد برأ الله من شيخ الإسلام وبينه، ودافع عنه بأمانة وإخلاص .
يشهد لذلك أن ما في كتبه ورسائله يتطابق تمام التطابق مع ما ذكره الأئمة من قبله في كتبهم , وهو إنما ينقل كلامهم، ويعززه إلى مصادره المعروفة؛ من غير زيادة ولا نقصان .
وأبو زهرة لم يذكر مثالًا واحدًا يدل على صدق ما يقول .
2 – في ( ص193 ) قال : وعلى ذلك يقرر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن الكريم من فوقية وتحتية واستواء على العرش ووجه ويد ومحبة وبغض، وما جاء في السنة من ذلك أيضا من غير تأويل، وبالظاهر الحرفي، فهل هذا هو مذهب السلف حقا ؟
ونقول في الإجابة عن ذلك :
لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بينا وادعوا أن ذلك مذهب السلف، وناقشهم العلماء في ذلك الوقت، وأثبتوا أنه يؤدي إلى التشبيه والجسمية لا محالة، وكيف لا يؤدي إليها والإشارة الحسية إليه جائزة ؟ ! لهذا تصدى لهم الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب ابن الجوزي، ونفى أن يكون ذلك مذهب السلف، ونفى أيضا أن يكون ذلك رأي الإمام أحمد .
انتهى كلامه، وفيه من الخلط والكذب ما لا يخفى، وبيان ذلك كما يلي :
أ – اتهم شيخ الإسلام ابن تيمية واتهم معهم الحنابلة بأنهم نسبوا إلى السلف ما لم يقولوه ولم يعتقدوه في صفات الله تعالى، وهذا اتهام ظاهر البطلان؛ فإن ما قاله الحنابلة وما قاله شيخ الإسلام موجود في كلام الأئمة الأربعة وغيرهم في كتبهم، وقد نقل ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وعزاه إلى مصادره من كتبهم التي يوجد غالبها في أيدي الناس اليوم .
وانظر – على سبيل المثال – ما ذكره عنهم في الرسالة الحموية .
ب – اتهم الشيخ بأنه ينسب إلى السلف وصف الله بالتحتية، حيث قال " يقرر ابن تيمية أن مذهب السلفية هو إثبات كل ما جاء في القرآن الكريم من فوقية وتحتية " .(150/138)
وهذا كذب على القرآن الكريم وعلى الشيخ؛ فإنه لم يرد في القرآن ذكر التحتية في حق الله، تعالى الله عن ذلك؛ لأنها لا تليق به، ولم يقل الشيخ ذلك، ولم ينسبه إلى السلف، لكنه التخبط الأعمى والتخليط العجيب من أبي زهرة .
ج - اتهم القرآن بأنه جاء بالتشبيه والتجسيم وما لا يليق بالله تعالى، واتهم السلف الصالح بأنهم لا يعتقدون ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية من وصف الله بالفوقية والاستواء على العرش، وأنه له يد ووجه , وأنه يحب ويبغض؛ لأن ذلك - بزعمه – يؤدي إلى التشبيه والجسمية .
وهذا معناه أن القرآن الكريم جاء بالباطل، وأن السلف يخالفون الكتاب والسنة في أهم الأمور وهو العقيدة .
فماذا بقي بعد ذلك ؟ وما الذي يوافقون فيه الكتاب والسنة ؟
ولم يذكر دليلا على ذلك إلا ما نقله من كلام ابن الجوزي .
وكلام ابن الجوزي لا يحتج به على خصمه .
والثانية : أن كلام أئمة السلف – ومنهم الإمام أحمد – يبطل ما قاله ابن الجوزي , وكلامهم موجود – بحمد الله – في كتبهم المتداولة المعروفة التي نقل منها شيخ الإسلام ابن تيمية .
د – قال أبو زهرة :
" وكيف لا يؤدي إليهما والإشارة الحسية إليه جائزة " .
يعني : كييف لا يؤدي إثبات ما دل عليه الكتاب والسنة من صفات الله إلى التشبيه والتجسيم وقد جاء في الحديث أن الله يُشار إليه بالأصبع في جهة العلو؛ كما أشار إليه أعلم الخلق به - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع .
وهذا - بزعم أبي زهرة – يؤدي إلى التشبيه والتجسيم، فهو باطل .
وهذا مصادمة للحديث الصحيح بسبب توهم باطل؛ فإن الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى في جهة العلو، ووصفه بما ثبت في الكتاب والسنة من صفات الكمال،لا يؤديان إلى التشبيه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فلله صفات لا يشاركه فيها أحد .
وأما لفظ التجسيم؛ فهو لفظ محدث، لم يرد نفيه ولا إثباته في حق الله تعالى .(150/139)
ولم يتكلم فيه السلف، وإنما ورد في الكتاب والسنة تنزيه الله عن التشبيه والتمثيل، وهو الذي ينفيه السلف عن الله تعالى .
3 – ينسب التفويض إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، فيقول في ( ص195 ) : ( إن هذا يؤدي عند ابن تيمية إلى أن الإسلام هو التفويض، الذي يدعيه وينسبه السلف الصالح . فيأخذ الألفاظ بظواهرها الحرفية، ويطلقها على معانيها الظاهرة في أصل الدلالة، ولكنه يقرر أنها ليست كالحوادث، ويفوض فيما بعد ذلك، ولا يفسر، ويقول : إن محاولة التفسير زيغ . فابن تيمية يعتقد أنه بهذا يجمع بين التفسير والتفويض، فهو يفسر بالمعنى الظاهر، وينزه عن الحوادث، ويفوض في الكيف والوصف ) .
- انتهى المقصود من كلامه، وهو كما ترى فيه من الخلط والركاكة والكذب على الشيخ الشيء الكثير، وهو بين أمرين :
إما أنه لم يفهم كلام الشيخ . . . . . . .
وإما أنه يفهمه، لكنه يحاول الالتواء والتلبيس ! !
فإن الشيخ - رحمه الله - يقرر في سائر كتبه أن مذهب السلف وهو المذهب الذي يعتقده ويدين الله به، وكل مريد للحق يعتقده ويدين به : إن نصوص الصفات تجري على حسب ظواهرها، وتفسر بمعناها الذي تدل عليه ألفاظها؛ من غير تأويل ولا تحريف، وأما كيفيتها فيجب تفويضها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يعلمها إلا هو .
وهذا هو الذي يقرره علماء السلف في كتبهم، وفيما يروى عنهم بالأسانيد الصحيحة : أن المعنى معلوم والكيف مجهول في كل الصفات .
فالتفويض إنما هو للكيفية، وأما المعاني؛ فهي معلومة مفسرة لا تفويض فيها ولا غموض .
ولا يلزم من إثبات صفات الله بالمعنى التي دلت عليها النصوص تشبيه الله بخلقه؛ لأن لله صفات تخصه وتليق به، وللمخلوقين صفات تخصهم وتليق بهم، ولا يلزم من الاشتراك في المعنى الكلي الموجود في الأذهان بين صفات الله وصفات خلقه الاشتراك في الحقيقة والكيفية الخارجية .(150/140)
وقد أثبت الله لنفسه تلك الصفات ونفى عن نفسه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فقال تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
فأثبت له السمع والبصر، ونفى عنه آن يماثله شيء . . . وهكذا سائر الصفات .
فدل على أن إثبات الصفات لا يلزم منه التشبيه، كما يقوله أبو زهرة وأضرابه . ومن العجب أن يحتج على بطلان ما ذكره شيخ الإسلام من إثبات صفات الله على ما يليق به سبحانه، بمخالفة الغزالي والماتريدي وابن الجوزي له . ويرجح مذهبهم فيقول :
" ولذلك نحن نرجح منهاج الماتريدي، ومنهاج ابن الجوزي، ومنهاج الغزالي " ! !
هكذا يرغب أبو زهرة عن مذهب السلف إلى مذهب هؤلاء ! ! وللناس فيما يعشقون مذاهب ! ! لكنه استبدل الباطل بالحق، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .
4 – ينسب القول بالمجاز إلى الصحابة فيقول : " إن الصحابة كانوا يفسرون بالمجاز إن تعذر إطلاق الحقيقة كما يفسرون بالحقيقة في ذاتها " .
- هكذا قال في حق الصحابة ينسب إليهم القول بالمجاز في تفسير كلام الله وأنهم يتركون الحقيقة وكأنه بهذا يريد أن ينسب إلى الصحابة نفي الصفات، وحمل نصوصها على خلاف الحقيقة !
وكفى بهذا تقولا على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون دليل ولا برهان، لكنه الهوى والانتصار للباطل .
وهذا تجاوز من اتهام ابن تيمية إلى اتهام الصحابة بما هم بريئون منه؛ فإذا لم يعرف المجاز إلا متأخرا، أحدثه الأعاجم الذين ليسوا حجة في اللغة والتفسير .
5- في ( ص199 ) نسب إلى الشيخ القول بأن الله لا ييسر الإنسان لفعل الشر، حيث قال :
( ( وبهذا يقرر ابن تيمية ثلاثة أمور . . . .
ثالثها : أن الله تعالى ييسر فعل الخير ويرضاه ويحبه، ولا ييسر فعل الشر ولا يحبه، وهو في هذا يفترق عن المعتزلة ) ) .(150/141)
وهذا كذب على الشيخ؛ لأنه كغيره من أئمة الهدى يرون أن الله قدر الخير والشر، وأنه لا يجري في ملكه ما لا يريد، فالشر يجري على العبد بسبب تصرفاته السيئة، وهو من قبل الله تعالى قدرا، وبإرادته الكونية؛ قال تعالى : { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له ) .
6- في ( ص 199 – 200 ) يقول :
( ( أما ابن تيمية؛ فيرى أنه لا تلازم بين الأمر والإرادة، فالله سبحانه وتعالى يريد الطاعات ويأمر بها، ولا يريد المعاصي التي تقع من بني آدم، وينهي عنها، وإرادته للمعاصي من ناحية إرادة أسبابها ) ) انتهى .
- وأقول : في هذا الذي نسبه إلى الشيخ إجمال ينبغي تفصيله :
فقوله : ( ( لا تلازم بين الأمر والإرادة ) ) : الصواب أن يقال : لا تلازم بين الأمر الشرعي والإرادة الكونية، فقد يأمر شرعا بما لا يريده كونا؛ مثل الإيمان من الكافر، وقد يريد كونا ما لا يأمر به شرعا؛ مثل الكفر والمعاصي .
وذلك لأن الإرادة تنقسم إلى قسمين : إرادة كونية، وإرادة شرعية، والأمر ينقسم إلى قسمين : أمر كوني، وأمر شرعي .
فالإرادة الكونية والأمر الكوني ليس من لازمهما المحبة والرضا .
وأما الإرادة الشرعية والأمر الشرعي فمن لازمهما المحبة والرضا .
وهذا التقسيم هو الذي يتمشى مع منهج الشيخ، الذي هو منهج السلف، المبني على أدلة الكتاب والسنة، فالله لا يأمر بالمعاصي، ولا يرضاها شرعا، لكنه أرادها، وأمر بها كونا وقدرا؛ لأنه لا يقع في ملكه ما لا يريد .
قال تعالى : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } .
أي : أمرناهم بذلك كونا وقدرا .(150/142)
وقال تعالى { وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } ، { إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
7- في ( ص 201 ) يختم أبو زهرة مباحثه حول القدر بقوله :
( ( هذه نظرات ابن تيمية في مسائل الجبر والاختيار وتعليل أفعال الله سبحانه وتعالى، وهو يسند دائما ما لا يراه إلى السلف الصالح من الصحابة والتابعين ) ) انتهى .
- وكأنه بهذا التعبير يتهم الشيخ في أنه ينسب إلى السلف بمجرد رأيه ما ليس من مذاهبهم ! !
وهذه التهمة يبطلها الواقع؛ فإن الشيخ - رحمه الله - لم ينسب إلى السلف إلا ما هو موجود في كتبهم، وما ثبتت روايته عنهم، والشيخ أتقى لله من أن يتقول على السلف ما لا يقولوه، لكن أبا زهرة لم يراجع كتب الشيخ، أو أنه يتعمد التلبيس .
8 - في الصفحات ( 202 - 206 ) لما ذكر كلام الشيخ في منع التوسل بالأموات والاستغاثة بهم ومنع زيارة القبور لقصد التبرك بها وطلب الحاجات من الموتى ومنع السفر لزيارتها؛
قال بعد ذلك :
" ولقد خالف ابن تيمية بقوله هذا جمهور المسلمين، بل تحداهم في عنف بالنسبة لزيارة قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ونحن نوافق إلى حد ما على قوله في زيارة قبور الصالحين والنذر لها، ولكن نخالفه مخالفة تامة في زيارة الروضة الشريفة، وذلك لأن الأساس الذي بني عليه منع زيارة الروضة الشريفة بقصد التبرك والتيمن هو خشية الوثنية، وإن ذلك خوف من غير مخاف؛ فإنه إذا كان في ذلك تقديس لمحمد؛ فهو تقديس لنبي الوحدانية، إحياء لها، إذ هو تقديس للمعاني التي بعث بها . . . "
إلى أن قال :(150/143)
" إن الحديث الذي رواه ابن تيمية وغيره وهو : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ) يدل على شرف المسجد الذي دفن بجواره، وقد دفن ببيت عائشة الذي كان أقرب بيوت أزواجه إليه، وقد كان متصلا بالمسجد، وإنه لو أريد منع زيارة قبره؛ لدفن في مكان بعيد، كالبقيع " .
ثم قال :
" وبعد؛ فإننا نقرر أن التبرك بزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مستحسن، وليس التقرب الذي نقصده عبادة أو قريبا منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار " .
- انتهى المقصود من كلامه، وهو يدل على ما عنده من جهل وتخليط وتخبط .
وأقول في بيان ذلك ما يلي :
أ قوله : " ولقد خالف ابن تيمية بقوله هذا – يعني : منع التوسل بالموتى والتبرك بالقبور والاستغاثة بالموتى – خالف جمهور المسلمين " .
والجواب : أن الشيخ - رحمه الله - قد وافق في قوله هذا إجماع المسلمين، فلم يخالفه واحد منهم، ونعني بالمسلمين : أهل السنة والجماعة؛ ومن الصحابة والتابعين، والقرون المفضلة، ومن تبعهم بإحسان، وإنما خالفه بعض من جاء بعدهم من المخرفين والقبوريين، وهؤلاء لا يعتد بخلافهم وليسوا جمهور المسلمين، وإن سماهم هو بذلك، فالعبرة بالحقائق لا بالتسميات، وإنما هم من الشواذ المنتسبين إلى الإسلام .
ب - قوله : " ونحن نوافق إلى حد ما على قوله في زيارة قبور الصالحين والنذر لها؛ معناه أنه لا يوافق موافقة تامة على منع زيارة قبور الصالحين للتبرك بها والاستغاثة بأصحابها والنذر لها، وهذا يدل على أنه يسمح بشيء من ذلك، مع أنه عبادة لغير الله، وشرك أكبر ! !
ولا يخفى ما في هذا من التساهل في شأن الشرك، وعدم اهتمامه بالعقيدة .(150/144)
ج - وقوله : " ولكن نخالفه مخالفة تامة في زيارة الروضة الشريفة، وذلك لأن الأساس الذي بني عليه منع زيارة الروضة الشريفة بقصد التبرك والتيمن هو خشية الوثنية، وأن ذلك خوف من غير مخاف، فإنه إذا كان في ذلك تقديس لمحمد؛ فهو تقديس لنبي الوحدانية، وتقديس نبي الوحدانية إحياء لها " .
والجواب عن ذلك أن نقول :
أولا : الشيخ - رحمه الله - لا يمنع زيارة الروضة الشريفة بقصد الصلاة فيها، فنسبة المنع إليه غير صحيحة، بل هو يرى استحباب ذلك كغيره من علماء المسلمين عملا بالسنة الصحيحة، وأبو زهرة لا يفرق بين القبر والروضة .
ثانيًا : زيارة الروضة الشريفة إنما القصد منها شرعا هو الصلاة فيها لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ) ، وليس القصد من زيارتها التبرك والتيمن بها وتقديس محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يزعم أبو زهرة؛ لأن هذا مقصد شركي أو بدعي
ثالثا : التقديس قد يكون غلوا ممنوعا، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حقه علينا المحبة والمتابعة والعمل بشرعه، وترك ما نهى عنه، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن إطرائه، وهو المبالغة في مدحه، ولما قال له رجل : ما شاء الله وشئت . قال : ( أجعلتني لله ندًّا، قل : ما شاء الله وحده ) .
وليس تقديس المخلوق تقديسًا لله كما يقول، بل قد يكون شركا بالله عز وجل إذا تجاوز الحد .
د - وقوله : " إن حديث ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) يدل على شرف المسجد الذي دفن بجواره . . . "(150/145)
الجواب عنه : أن شرف المسجد النبوي ليس من أجل كون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواره؛ فإن فضله ثابت قبل دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواره؛ لأنه أول مسجد أسس على التقوى، ولأنه مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة ) ، ولم يقل : بعد موتي، والمساجد الثلاثة فضلت على غيرها لكونها مساجد الأنبياء، لا من أجل القبور أو مجاورة القبور، بل لأنها أسست على التوحيد والطاعة، لا على الشرك والخرافة .
هـ - قوله : " وقد دفن – يعني : النبي - صلى الله عليه وسلم - – ببيت عائشة الذي كان أقرب بيوت أزواجه إليه – يعني : المسجد -، وقد كان متصلا بالمسجد، وأنه لو أريد منع زيارة قبره؛ لدفن في مكان بعيد عن المسجد؛ كالبقيع " .
الجواب عنه :
أولا : إن هذا الكلام من لا يعرف ما جاء في السنة من الأحاديث الموضحة لملابسات دفنه - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة رضي الله عنها، وما هو القصد من ذلك؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما مرض؛ استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها؛ لمحبته لها، ومحبة قربها منه، وتمرضها له، فأذن له في ذلك، ولما توفي - صلى الله عليه وسلم -؛ دفن في المكان الذي توفي فيه؛ لأن الأنبياء يدفنون حيث يموتون؛ كما جاء في الحديث، والقصد من ذلك خشية أن يفتتن بقبره - صلى الله عليه وسلم - لو دفن في مكان بارز، فيتخذ مسجدا وعيدًا مكانيا، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحذر من ذلك القول : ( لا تتخذوا قبري عيدًا ) . ويقول : ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) .
وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت :(150/146)
" لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها؛ كشفها، فقال وهو كذلك : ( لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ؛ يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا " .
هذا هو القصد من دفنه - صلى الله عليه وسلم - في حجرة عائشة، وهو حماية التوحيد وحماية قبره أن يتخذ مسجدًا، وليس القصد ما توهمه الخرافيون، أنه دفن في بيت عائشة؛ لأجل القرب من المساجد والتبرك بقبره - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يحذر من اتخاذ القبور مساجد، ومن التبرك بها، ومن بناء المساجد على القبور لأن هذا من وسائل الشرك، فدفنه - صلى الله عليه وسلم - في بيته لمنع هذه الأشياء أن تمارس عند قبره .
ثانيًا : زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - الزيارة الشرعية ليست ممنوعة، بل هي مستحبة كزيارة قبر غيره إذا كان ذلك بدون سفر، وكان القصد السلام عليه والدعاء له - صلى الله عليه وسلم - .
ثالثا : قوله " وأنه لو أريد منع زيارة قبره؛ لدفن في مكان بعيد عن المسجد كالبقيع . . . " .
أقول : معنى هذا الكلام أنه - صلى الله عليه وسلم - دفن في حجرة عائشة؛ لأجل أن يزار ويتبرك بقبره على حد قوله .
وهذا فهم يخالف ما جاء في الحديث الصحيح الذي تقدم ذكره، وهو أنه دفن في بيته؛ لمنع أن يتخذ قبره مسجدًا .
ثم إن دفنه في البقيع أمكن لزيارة قبره والتبرك به من دفنه في بيته؛ عكس ما يقول أبو زهرة، فلو كان ما يقوله مشروعا؛ لدفن في البقيع؛ لتمكين الناس من هذه المقاصد التي قالها .
و– قوله : " وإنا لنعجب من استنكاره لزيارة الروضة للتيمن والاستئناس مع ما رواه الأئمة الأعلام من تسليمهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما مروا بقبره الشريف، وكانوا يذهبون إليه كلما هموا بسفر أو أقبلوا من سفر " .
والجواب عنه أن نقول :(150/147)
أولا : لا عجب فيما ذكرت؛ لأن استنكار ذلك هو الحق؛ فإن زيارة الروضة للتبرك والتيمن مقصد شرعي بدعي، لم يشرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما شرع زيارتها للصلاة فيها وعبادة الله فيها .
ثانيًا وأما قوله : " إن الأئمة الأعلام يسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما مروا بقبره أو همُّوا بسفر " ؛ فهو قول لا أصل له، ولا دليل عليه، ولم يروه الشيخ عنهم، وإنما روي خلافه، وهو أنهم لم يكونوا يترددون على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما دخلوا المسجد؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، فقال : ( لا تتخذوا قبري عيدًا ) ؛ أي : لا تترددوا عليه وتجتمعوا حوله، وإنما كانوا يسلمون عليه إذا قدموا من سفر؛ كما كان ابن عمر يفعل ذلك إذا قدم من سفر، ولا يزيد على قوله : " السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي " ، ثم ينصرف .
ثم ما علاقة التسليم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالروضة؛ لأن الروضة في المسجد، وقبر الرسول كان خارج مسجده في عهد الصحابة رضي الله عنهم ؟ !
ز - قوله : " وبعد؛ فإننا نقرر أن التبرك بزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مستحسن، وليس التبرك الذي نقصده عبادة أو قريبا منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار " .
والجواب عن ذلك أن نقول :
أولًا : التبرك بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من البقاع والأشجار والأحجار أمر مستقبح وليس مستحسنا إلا عند الجهال والقبوريين، وهو شرك بالله؛ لكونه تعلق على غير الله، وطلب للبركة من غيره .
ولما رأى بعض الصحابة - وكانوا حدثاء عهد بالإسلام – أن المشركين يتبركون بشجرة، وطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم شجرة مثلها يتبركون بها؛ استنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك استنكارا شديدا، وقال :(150/148)
( قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } ) .
فدل هذا الحديث على أن من تبرك بشجرة، أو حجر، أو قبر، أو بقعة؛ فقد أشرك بالله، واتخذ المتبرك به إلها .
ثانيًا : وأما قوله : " وليس التبرك الذي نقصده عبادة أو قريبا منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار " .
فالجواب عنه : أن هذا من جهله بمعنى العبادة، وعدم تفريقه بين التبرك وبين التذكر والاعتبار، أو هو يتجاهل ذلك من أجل التلبيس على الناس .
فالعبادة اسم جامع لكل من يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال، ومنها الرغبة والرهبة والرجاء، ومنها التبرك وهو طلب البركة، ويكون بأسمائه سبحانه .
فالتبرك بغير الله شرك، إلا التبرك بشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - ووضوئه (1)
فهذا خاص به - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله جعله مباركا، ولا يمكن ذلك إلا في حالة حياته ووجوده، ولم يكن الصحابة يتبركون بمنبره أو بقبره ولا حجرته، وهم خير القرون وأعلم الأمة بما يحل وما يحرم، فلو كان جائزا؛ لفعلوه .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=6 - TOP#TOP ثانيًا : ما نسبه إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
وبعد أن انتهينا من رد ما نسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ننتقل إلى رد ما نسبه إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فنقول :
1- عد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب نحلة ومذهبا محدثا مستقلا أطلق عليه لفظ الوهَّابية وعده من جملة المذاهب الضالة التي أدركتها تحت عنوان : " مذاهب حديثة " : وهي الوهابية، البهائية، والقاديانية .
- ومن المعلوم وواقع دعوة الشيخ أنه ليس صاحب مذهب جديد، وإنما هو في العقيدة على مذهب السلف أهل السنة والجماعة، وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - ولم يستقل ولا بمسألة واحدة عن هؤلاء .(150/149)
فكيف يعده أبو زهرة صاحب مذهب جديد، ويدرجه ضمن المذاهب الضالة والنحل الفاسدة ؟
قاتل الله الجهل والهوى والتقليد الأعمى .
واذا كان هو يعيب على الوهابية ما توهمه من تكفيرهم للناس، فكيف يبيح لنفسه هذا الذي عابه على غيره ؟ !
2 - ثم قال :
" ومنشأ الوهابية هو محمد بن عبد الوهاب، وقد درس مؤلفات ابن تيمية، فراقت في نظره، وتعمق فيها، وأخرجها من حيز النظر إلى حيز العمل " .
- هكذا قال عن مرتبة الشيخ محمد بن عبد الوهاب العلمية : أنه لم يدرس إلا مؤلفات ابن تيمية ! ! وكأنه لم يقرأ ترجمة الشيخ وسيرته، ولم يعرف شيئا عن تحصيله العلمي، أو أنه عرف ذلك وكتمه بقصد التقليل من شأنه، والتغرير بمن لم يعرف شيئا عن الشيخ .(150/150)
ولكن هذا لا يستر الحقيقة، ولا يحجب الشمس في رابعة النهار، فقد كتب المنصفون عن الشيخ - رحمه الله - مؤلفات كثيرة انتشرت في الأقطار، وعرفها الخاص والعام، وأنه - رحمه الله - تعمق في دراسة الفقه والحديث والأصول وكتب العقيدة التي من جملتها مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقد تخرج على أيدي علماء أفذاذ وأئمة كبار في مختلف الفنون في بلاد نجد والحجاز والإحساء والبصرة، وقد أجازوه في مروياتهم وعلومهم، وقد ناظر ودرس وأفتى وألف في الفقه والحديث والعقيدة حتى نال إعجاب من اجتمع به أو استمع إلى دروسه ومناظراته، أو قرأ شيئا من مؤلفاته، ومؤلفاته تدل على سعة أفقه وإدراكه في علوم الشريعة، وسعة اطلاعه وفهمه، ولم يقتصر فيما ذكر في تلك المؤلفات على كتب ابن تيمية – كما يظن الجاهل أو المتجاهل – بل كان ينقل آراء الأئمة الكبار في الفقه والتفسير والحديث؛ مما يدل على تبحره في العلوم، وعمق فهمه، ونافذ بصيرته، وها هي كتبه المطبوعه المتداولة شاهد بذلك والحمد لله، ولم يكن رحمه الله يأخذ من آراء شيخ الإسلام ابن تيمية ولا من آراء غيره إلا ما ترجح لديه بالدليل، بل لقد خالف شيخ الإسلام في بعض الآراء الفقهية .
3- ثم قال عمن أسماهم بالوهابية :
" وإنهم في الحقيقة لم يزيدوا بالنسبة للعقائد شيئا عما جاء به ابن تيمية، ولكنهم شددوا فيه أكثر ما تشدد، ورتبوا أمورا علمية لم يكن قد تعرض لها ابن تيمية، لأنها لم تشتهر في عهده، ويتلخص ذلك فيما يأتي :
أ- لم يكتفوا بجعل العبادة كما قررها الإسلام في القرآن والسنة، وكما ذكر ابن تيمية، بل أرادوا أن تكون العادات أيضا غير خارجة على نطاق الإسلام، فليلتزم المسلمين ما التزم (2) ، ولذا حرموا الدخان، وشددوا في التحريم، حتى إن العامة منهم يعتبرون المدخن كالمشرك، فكانوا يشبهون الخوارج الذين كانوا يكفرون مرتكب الذنب .(150/151)
ب- وكانوا في أول أمرهم يحرمون على أنفسهم القهوة وما يماثلها، ولكن يظهر أنهم تساهلوا فيها فيما بعد .
ج - أن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة، بل عمدت إلى حمل السيف لمحاربة المخالفين لهم، باعتبار أنهم يحاربون البدع، وهي منكر تجب محاربتها، ويجب الأخذ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
د - أنها كانت كلما مُكِّن لها من قرية أو مدينة أتت على الأضرحة هدما وتخريبا .
هـ - أنهم تعلقوا بأمور صغيرة ليس فيها وثنية ولا ما يؤدى إلى وثنية، وأعلنوا استنكارها؛ مثل التصوير الفوتوغرافي، ولذلك وجدنا ذلك في فتاويهم ورسائلهم التي كتبها علماؤهم .
ز - أنهم توسعوا في معنى البدعه توسعا غريبا، حيث إنهم يزعمون أن وضع الستائر على الروضة الشريفة أمر بدعي ولذلك منعوا تجديد الستائر عليها . . . " .
إلى أن قال : " وإننا لنجد فوق ذلك منهم من يعد قول المسلم : ( سيدنا محمد ) بدعة لا تجوز، ويغلون في ذلك غلوا شديدا " .
إلى أن قال :
" وإنه يلاحظ أن علماء الوهابيين يفرضون في آرائهم الصواب الذي لا يقبل الخطأ، وفي آراء غيرهم الخطأ الذي لا يقبل التصويب، بل إنهم يعتبرون ما عليه غيرهم من إقامة الأضرحة والطواف حولها قريبا من الوثنية " .
- انتهى ما قاله في حق من سماهم الوهابية، ويظهر أنه قد امتلأ صدره غلا وحقدا وغيظا عليهم، فتنفس الصعداء بإفراغ بعض ما عنده والله سبحانه عند لسان كل قائل وقلبه؛ { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } .
وجوابنا عن ذلك من وجوه :
الوجه الأول : قوله : " إنهم في الحقيقة لم يزيدوا بالنسبة للعقائد شيئا عما جاء به ابن تيمية " ؛ معناه أن ابن تيمية في نظره جاء بعقائد ابتدعها من عنده، وأن الوهابية عدوه مشرعا .(150/152)
وقد سبق الجواب عن هذه الفرية، وبينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يبتدع شيئا من عنده، بل كان على عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والقرون المفضلة، لم يستحدث شيئا من عنده .
وإننا نتحدى كل من يقول مثل هذه المقالة الظالمة أن يبرز لنا مسألة واحدة خالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية من سبقه من سلف الأمة .
غاية ما في الأمر أنه جدد عقيدة السلف، ونشرها، أحياها بعدما اندرست ونسيها الكثيرون .
ونقول أيضا : إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيره من أئمة الدعوة لم يقتصروا على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، بل استفادوا منها ومن غيرها من الكتب السليمة المفيدة المتمشية على منهج السلف؛ يعرف هذا من طالع كتبهم .
الوجه الثانية : أن قوله : " لم يكتفوا بجعل العبادة كما قررها الإسلام في القرآن والسنة " فرية عظيمة واتهام خطير لعلماء دعوة التوحيد في نجد بأنهم ابتدعوا عبادات لم يشرعها الله ورسوله .
ولكن الله فضحه وبين كذبه، حيث لم يجد مثالا لما قال إلا تحريم الدخان، وهذا مما يدل على جهله؛ فإن تحريم الدخان ليس من قسم العبادات والعقائد، وإنما هو من قسم الأطعمة والحلال والحرام والفروع .
وأيضا؛ فإن تحريم الدخان لم يختص به علماء الدعوة في نجد , بل حرمها غيرهم من علماء الأمة؛ لخبثه وضرره، وها هي الآن تقام أنشطة مكثفة للتحذير من شرب الدخان وتوعية الناس بأضراره من قبل المنظمات الصحية العالمية .
وقوله : " حتى إن العامة منهم يعتبرون المدخن كالمشرك " .
هذه فرية أخرى، ولو صح أن أحدا من العامة حصل منه ذلك؛ فالعامي ليس بحجة يعاب به أهل العلم، ولكن عوام أهل نجد – والحمد لله – يعرفون من الحق أكثر مما يعرفه علماء الضلال، يعرفون ما هو الشرك وما هو المحرم الذي لا يعد شركا بما يقرءون وما يسمعون من دروس التوحيد وكتب العقائد الصحيحة .
الوجه الثالث : قوله : " كانوا في أول أمرهم يحرمون القهوة وما يماثلها " .(150/153)
نقول : هذا كذب ظاهر، ولم يأت بما يثبت ما يقول، وما زال علماء نجد وعامتهم يشربون القهوة في مختلف العصور، وهذه كتبهم وفتاواهم ليس فيها شيء يؤيد ما يقوله، بل فيها ما يكذبه؛ فإن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله أنكر على من قال بتحريم القهوة من الجهال، ورد عليه، وله في ذلك رسالة مطبوعة مشهورة .
الوجه الرابع : قوله : " إن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة، بل عمدت إلى حمل السيف لمحاربة المخالفين لهم باعتبار أنهم يحابون البدع " .
أقول : أولا : قوله : إن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة " يدل على جهله، فإن الدعوة المجردة لا تكفي مع القدرة على مجاهدة أعداء الإسلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالدعوة والجهاد في سبيل الله .
ثانياً : قوله : " إنهم حملوا السيف لمحاربة من خالفهم " .
هذا كذب عليهم؛ فإنهم لم يحاربوا خصومهم لمجرد مخالفتهم، بل حاربوهم لأحد أمرين : إما للدفاع عن أنفسهم إذا اعتدى عليهم أحد، وإما لإزالة الشرك إذا احتاجت إزالته إلى قتال، وتاريخ غزواتهم شاهد بذلك، وهو مطبوع متداول في أكثر من كتاب .
الوجه الخامس : قوله : " إنها كانت كلما مكن لها من قرية أو مدينة : أتت على الأضرحة هدماً وتخريباً " .
أقول : هذا من فضائلهم، وإن عده هو وأضرابه من معايبهم : لأنهم ينفذون بذلك وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لعلي رضي الله عنه : ( لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته ) .
فأي عيب في ذلك إذا أزالوا مظاهر الوثنية : وعملوا بالسنة النبوية ؟ !
ولكن أهل الجهل والضلال لا يعلمون، فيعتقدون الحسن قبيحاً، والقبيح حسناً، والمنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وقد تكاثرت الأدلة على تحريم البناء على القبور؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، فلا بد من هدم الأضرحة وإزالة مظاهر الوثنية وإن غضب أبو زهرة وأضرابه ممن يرون بقاء الأضرحة التي هي منابت الوثنية وأوكارها .(150/154)
الوجه السادس : قوله : " إنهم تعلقوا بأمور صغيرة " ، ثم مثل لذلك بتحريم التصوير الفوتوغرافي .
والجواب عن ذلك :
أولاً : إن التصوير ليس من الأمور الصغيرة، بل هو من كبائر الذنوب، للأحاديث الصحيحة في النهي عنه، والتحذير منه، ولعن المصورين، والإخبار بأنهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة؛ من غير تفريق بين التصوير الفوتوغرافي وغيره، ومن فرق؛ فعليه الدليل، والمحذور في التصوير والتعليل الذي حرم من أجله متحققان في جميع أنواع الصور الفوتوغرافية وغيرها .
وثانياً : قوله : إن التصوير لا يؤدي إلى وثنية " قول مردود؛ لأن التصوير من أعظم الوسائل التي تؤدي إلى الوثنية؛ كما حصل لقوم نوح لما صوروا الصالحين وعلقوا صورهم على مجالسهم، وآل بهم الأمر إلى أن عبدوا تلك الصور؛ كما ورد ذلك في " صحيح البخاري " وغيره عند تفسير قوله تعالى : { وقالوا لا تذرون آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } .
والوجه السابع : قوله : إنهم توسعوا في معنى البدعة توسعاً غريباً، حتى إنهم ليزعمون أن وضع ستائر على الروضة الشريفة أمر بدعي، ولذلك منعوا تجديد الستائر عليها )
والجواب عن ذلك أن نقول :
أولاً : هو لا يدري ما هي الروضة الشريفة، فيظن أنها الحجرة النبوية، وليس الأمر كذلك :
فالروضة في المسجد، وهي ما بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وبيته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :
( ما بين بيتي ومنبرى روضة من رياض الجنة ) .
والحجرة النبوية خارج الروضة، وكان خارج المسجد قبل التوسعة التي أجراها الوليد بن عبد الملك .
ثانيا : الروضة لا يمكن وضع ستائر عليها، ولا يتصور، وإنما يقصد الحجرة النبوية؛ يريد أن تجعل مثل الأضرحة القبورية، فتجعل عليها الستور كما على الأضرحة، وهذا لا يجوز لأمرين :
1- لأنه لم يكن من عمل السلف الصالح من الصحابه والتابعين والقرون المفضلة، فلم يكن عليها ستائر في وقتها .(150/155)
2- لأنه وسيلة إلى الشرك , بل ستر سائر الحيطان عموما إسراف لا ينبغي فعله .
قال في " المغنى " ( 7/9 ) :
" فأما ستر الحيطان بستور غير مصورة؛ فإن كان لحاجة من وقاية حر أو برد؛ فلا بأس؛ لأنه يستعمله في حاجته، فأشبه الستر على الباب وما يلبسه على بدنه، وإن كان لغير حاجة؛ فهو مكروه وعذر في الرجوع عن الدعوة ( يعني : إلى الوليمة ) وترك الإجابة؛ بدليل ما روى سالم بن عبد الله بن عمر؛ قال :
أعرست في عهد أبي أيوب، فآذن أبي الناس، فكان أبو أيوب فيمن آذن، وقد ستروا بيتي بخباء أخضر، فأقبل أبو أيوب، فاطلع، فرأى البيت مستترا بخباء أخضر، فقال : يا عبد الله ! أتسترون الجدر ؟ قال أبي – واستحيى - : غلبتنا النساء يا أبا أيوب ! قال : من خشيت أن يغلبنه فلم أخش أن يغلبنك . ثم قال : لا أطعم لكم طعاما، ولا أدخل لكم بيتا، ثم خرج . رواه الأثرم .
وروي عن عبد الله بن يزيد الخطمي : أنه دعي إلى طعام , فرأى البيت منجدا , فقعد خارجا وبكى؛ قيل له : ما يبكيك ؟ قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد رقع بردة بقطعة أدم، فقال : تطالعت عليكم الدنيا – ثلاثا -، ثم قال : أنتم اليوم خير أم إذا غدت عليكم قصعة وراحت أخرى، ويغدوا أحدكم في حلة ويروح في أخرى وتسترون بيوتكم كما تستر الكعبة ؟ قال عبد الله : أفلا أبكي وقد بقيت حتى رأيتكم تسترون بيوتكم كما تستر الكعبة ؟
وقد روى الخلال بإسناده عن ابن عباس وعلي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه نهى أن تستر الجدر .
وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا فيما رزقنا أن نستر الجدر " انتهى .
الوجه الثامن : قوله : " وإنا لنجد فوق ذلك منهم من يعد قول سيدنا محمد بدعة لا تجوز، ويغلون في ذلك غلوا شديدا " .(150/156)
والجواب عن ذلك أن نقول : هذا كذب من القول، علماء الدعوة يثبتون ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم من الصفات الكريمة، ومنهم من يعتقدون أنه سيد ولد آدم وأفضل الخلق على الإطلاق، لكنهم يمنعون الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم؛ عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ) ، ويمنعون الابتداع، ومن ذلك أن يقال : " سيدنا " في المواطن التي لم يرد قول ذلك فيها؛ كالأذان، والإقامة، والتشهد في الصلاة، وكذا رفع الأصوات قبل الأذان؛ يقول : اللهم صل وسلم على سيدنا رسول الله، أو بعد أداء الصلوات؛ كما يفعله المبتدعة بأصوات جماعية .
وهذا هو الذي أظنه يقصده في كلامه، حيث يراه يُفعل عندهم، فظنه مشروعا، وهذا هو الذي ينكره علماء الدعوة في المملكة العربية السعودية، وينكره غيره من أهل التحقيق والعمل بالسنة وترك البدعة في كل مكان؛ لأنه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وغلو في حقه صلى الله عليه وسلم، والغلو ممنوع .
أما قول سيدنا رسول الله في غير مواطن البدعة؛ فعلماؤنا لا ينكرونه، بل يعتقدونه، ويقولون : هو سيدنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم .
الوجه التاسع : قوله : " وفي سبيل دعوتهم يغلظون في القول، حتى إن أكثر الناس؛ لينفرون منهم أشد النفور " .
والجواب عن ذلك أن نقول :(150/157)
أولا : هذا الكلام من جملة الاتهامات التي لا حقيقة لها، وهذه كتب علمائنا ورسائلهم والحمد لله ليس فيها تغليظ؛ إلا فيما يشرع فيه التغليظ، وليس فيها تنفير، وإنما فيها الدعوة إلى الله بالبصيرة والحكمة والموعظة الحسنة، وكتبهم في ذلك مطبوعة ومتداولة ومنتشرة، وكل من اتصل بهم؛ فإنه يثني عليهم، وقد كتب المنصفون عنهم الشيء الكثير في تاريخهم الماضي والحاضر؛ من حسن السياسة، وصدق المعاملة، والوفاء بالعهود، والرفق بالمسلمين، وأكبر شاهد على ذلك من يفد إلى مكة المشرفة للحج والعمرة كل عام، وما يشاهدونه من العناية بخدمة الحجيج، وبذل المجهود في توفير راحتهم، مما أطلق الألسنة والأقلام في الثناء عليهم وعلى حكوماتهم، وكذلك من يفدون إلى المملكة للعمل فيها يشهد أكثرهم بذلك .
ثانيا : أما قول : " حتى إن أكثر الناس لينفرون منهم أشد النفور " ؛ فهو من أعظم الكذب وخلاف الواقع؛ فإن الدعوة التي قاموا بها من عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إلى هذا العهد – وهي الدعوة إلى الإسلام، وإخلاص التوحيد، والنهي عن الشرك والبدع والخرافات – قد لاقت قبولا في أرجاء العالم، وانتشرت انتشارا واسعا في كثير من الأقطار، وما هو على صعيد الواقع الآن أكبر شاهد وأعظم دليل على ما ذكرنا .
ويتمثل ذلك في ما تبذله الحكومه السعودية التي هي حكومة الدعوة – أدام الله بقائها وسدد خطاها – بتوجيه من علمائها ورغبة من حكامها بفتح الجامعات الإسلامية التي تخرج الأفواج الكثيرة من أبناء العالم الإسلامي على حسابها .
ويتمثل ذلك أيضا في إرسال الدعاة إلى الله في مختلف أرجاء العالم، وفي توزيع الكتب المفيدة، وبذل المعونات السخية للمؤسسات الإسلامية، ومد يد العون للمعوزين في العالم الإسلامي، وإقامة المؤتمرات والندوات، وبناء المساجد والمراكز الإسلامية؛ لتبصير المسلمين بدينهم، مما كان له أعظم الأثر والقبول الحسن – والحمد لله - .(150/158)
وهذا واقع مشاهد، وهو يبطل قول ذلك الحاقد : " إن أكثر الناس لينفرون منهم أشد النفور " ، لكن كما قال الشاعر :
لي حيلة فيمن ين----- ** ---م وما لي في الكذاب حيله
من كان يخلق ما يقو ** ل فحيلتي فيه قليله
الوجه العاشر : قوله : " وإنه يلاحظ أن علماء الوهابيين يفرضون في آرائهم الصواب الذي لا يقبل الخطأ، و في رأى غيرهم الخطأ الذي لا يقبل التصويب " .
والجواب عنه أن نقول : هذا من جنس ما قبله من التهجم الكاذب الذي لا حقيقة له، فهذه كتب علمائنا ومناقشاتهم لخصومهم ليس فيها شيء مما ذكره، بل فيها ما يكذبه من بيان الحق وتشجيع أهله، ورد الباطل بالحجة والبرهان، ودعوة أهله إلى الرجوع إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يدعوا لأنفسهم العصمة من الخطأ، ويرفضوا ما عند غيرهم من الصواب؛ كما وصمهم بذلك .
وهذا إمامهم وكبيرهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول في إحدى رسائله التي وجهها لخصومه :
" وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشُهِد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق؛ لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يقول إلا الحق " انتهى .
وكلهم والحمد لله على هذا المنهج الذي قاله الشيخ .
والوجه الحادي عشر : قوله : " بل إنهم يعتبرون ما عليه غيرهم من إقامة الأضرحة والطواف حولها قريب من الوثنية " .
والجواب عنه أن نقول : كلامه هذا يدل على جهله بمعنى الوثنية، فلم يدر أنها تتمثل في تعظيم القبور بالبناء عليها والطواف حولها وطلب الحوائج من أصحابها والاستغاثة بهم، فلذلك استغرب استنكار ذلك واعتباره من الوثنية ! !(150/159)
وكأنه لم يقرأ ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية من استنكار الاستشفاع بالموتى، واتخاذهم أولياء؛ ليقربوا إلى الله زلفى، ولم يقرأ نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور، واتخاذها مساجد، ولعن من فعل ذلك ! !
وإذا لم تكن إقامة الأضرحة والطواف حولها وثنية؛ فما هي الوثنية ؟ !
لكن كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " .
ألم يكن شرك قوم نوح متمثلا في دعاء الأموات ؟ !
ألم تكن اللات ضريحا لرجل صالح كان يلت السويق للحاج، فلم مات؛ عكفوا على قبره، وطافوا حوله ؟ !
ولو كان هذا الكلام صادرا عن عامي لا يعرف الحكم؛ لهان الأمر؛ لأن العامي جاهل، وتأثيره على الناس محدود، لكن الذي يؤسفنا أن يكون صادرا عمن يدعي العلم، وقد صدرت عنه مؤلفات كثيرة؛ فهذا قد يكون تأثيره على الناس – خصوصا محدودي الثقافة – شديدا؛ نظرا لكثرة مؤلفاته، وسمعته الواسعة، وإحسان الظن به .
ولكن الحق سينتصر بإذن الله : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ } ، والعلم لا يقاس بكثرة الإصدارات، وإنما يقاس بمدى معرفة الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والعمل بذلك .
وإلا؛ فكيف يتصور من مسلم – فضلا من ينتسب إلى العلم – أن يتفوه بأن الطواف بالأضرحة ليس من الوثنية ؟ ! أليس الطواف عبادة، وصرف العبادة لغير الله وثنية وشرك ؟ !
فالطائف بالأضرحة إن كان قصده التقرب إليها بذلك؛ فلا شك أن هذا شرك أكبر؛ لأنه تقرب بالعبادة إلى غير الله، وإن كان قصده بالطواف حول الضريح التقرب إلى الله وحده، فهذه بدعة ووسيلة إلى الشرك؛ لأن الله لم يشرع الطواف إلا حول الكعبة المشرفة، ولا يطاف بغيرها على وجه الأرض .(150/160)
هذا؛ وإننا ندعو كل من بلغه شيء من تشويه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو قرأ شيء من الكتب التي تروج هذا التشويه، أمثال كتب الشيخ محمد أبي زهرة؛ فعليه أن يتثبت وأن يراجع كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتب العلماء الذين جاءوا من بعده وحملوا دعوته؛ ليرى فيها تكذيب تلك الشائعات، وقد قال الله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } .
وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتب علماء الدعوة من بعده ميسورة والحمد لله، وهي توزع على أوسع نطاق، عن طريق الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ومكاتبها في الداخل والخارج، وفي موسم الحج كل سنة، وهي لا تدعو إلى مذهب معين أو نحلة محدثة، وإنما تدعو إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله ومذهب أهل السنة والجماعة، ونبذ البدع والخرافات، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة، والقرون المفضلة .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه آجمعين .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=6 - TOP#TOP تعقيب على ملاحظات الشيخ محمد المجذوب بن مصطفى
من صالح بن فوازن بن عبد الله الفوزان إلى صاحب الفضيلة العلامة الجليل الشيخ محمد المجذوب بن مصطفى حفظه الله وزاده علمًا نافعا وعملا صالحا آمين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وبعد؛ فقد اطلعت على تعقيبكم على ردنا على الشيخ محمد أبي زهرة فيما تجناه على الشيخين : شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله، وقد وصفتموني بصفات لم أبلغها، ووصفتم بحثي بصفات يقصر عنها، وهذا من كرمكم وحسن ظنكم، فجزاكم الله خيرا .(150/161)
أما التعقيبات التي سميتموها هفوات، وأشرتم منها إلى اثنين طلبتم عرضهما علي لأبدي رأيي حولهما؛ فهذا شيء تشكرون عليه، وليتكم ذكرتم جميع ما لديكم من ملاحظات لأستفيد مما يصح منها، وأبدي رأيي فيما لي فيه وجهة نظر تختلف عن وجهة نظركم؛ لتكون الفائدة مشتركة .
والآن؛ إلى مناقشة الملاحظتين :
1- ملاحظتكم الأولى على ما ذكرته من تقسيم الأمر إلى أمر كوني قدري وأمر شرعي ديني، ومثلت للأول بقوله تعالى : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } ؛ بناء على أن أمر المترفين بفسق أمر كوني قدري؛ كما هو القول الأول من أقوال المفسرين على ما ذكره الإمام ابن كثير في " تفسيره " حيث قال :
" واختلف المفسرون في معناها، فقيل : معناه : أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا؛ كقوله تعالى : { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أو نَهَارًا } " .
وبناء على ما قاله الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي في " تفسيره " ، حيث قال :
" يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة ويستأصلها بالعذاب؛ أمر مترفيها أمرا قدريا، ففسقوا فيها، واشتد طغيانهم " .
وبناء على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " " مجموع الفتاوى " ( 11/ 265 ) ، حيث قال : " وقد ذكر الله في كتابه الفرق بين الإرادة، والأمر، والقضاء، والإذن، والتحريم، والبعث، والإرسال، والكلام، والجعل؛ بين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه وإن كان لم يأمر (3) به ولم يحبه ولا يثيب أصحابه ولا يجعلهم من أوليائه المتقين، وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب عليه " .
ثم ذكر رحمه الله الأمثلة لكل قسم من القسمين .(150/162)
وبناء على ما رجحه الإمام العلامة ابن القيم في كتابه " شفاء العليل " في ( ص 466 ) ، حيث مثَّل للأمر الكوني بهذه الآية الكريمة : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } ، فقال رحمه الله :
" فهذا أمر تقديري كوني، لا أمر ديني شرعي؛ فإن الله لا يأمر بالفحشاء، والمعنى : قضينا ذلك وقدرناه . وقالت طائفة : بل هو أمر ديني، والمعنى : أمرناهم بالطاعة، فخالفوها، ففسقوا .
والقول الأول أرجح؛ لوجوه :
أحدها : أن الإضمار على خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا إذا لم يمكن تصحيح الكلام بدونه .
الثاني : أن ذلك يستلزم إضمارين :
أحدهما : أمرناهم بطاعتنا .
والثاني : فخالفونا أو عصونا . . . ونحو ذلك .
الثالث : أن ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه؛ كقولك : أمرته ففعل، وأمرته فقام، وأمرته فركب؛ لا يفهم المخاطب غير هذا .
الرابع : أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور، ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك، بل هو سببا للنجاة والفوز، فإن قيل : أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك . قيل : هذا يبطل ب- :
الوجه الخامس : وهو أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين، بل هو سبحانه يأمر بطاعته واتباع رسله المترفين وغيرهم، فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة بالمترفين " انتهى المقصود منه .
وأقول : مما يؤيد هذا أن الأمر بالطاعة ليس المقصود منه أن يفسق المأمور؛ ليحق عليه الهلاك، وإنما المقصود منه سعادة المأمور ونجاته من الهلاك .
وأما نفيكم يا فضيلة الشيخ لوجود الأمر الكوني بالسوء، وقولكم : " إنما هو سبيل الاحتمال والظن، وسائر الأوامر بمعنى التكليف الشرعي " ؛ فهذا رد للأدلة، وإبطال لقول الأئمة الذين ذكرنا بعض أقوالهم .(150/163)
وأما ما ذكرتم من أقوال المفسرين الأخرى في تفسير الآية؛ فهي لا تلغي القول الذي ذكرناه، بل لا ترتقي إلى درجته، وحسبك تقديم الإمام ابن كثير له على غيره واقتصار ابن سعدي عليه، وترجيح ابن القيم له .
وعلى كل؛ فالأمر الكوني القدري ثابت، وأدلته في القرآن كثيرة في غير هذه الآية؛ مثل قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ، وقوله : { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } ، وقوله : { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أو نَهَارًا } .
وما ذكرتم من تفسير سيد قطب من تأويل الإرادة بأنه ترتب النتيجة على السبب، وتأويل الأمر بأنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين؛ فهذه سفسطة مردودة، وتأويل للصفات على طريقة المعتزلة وأتباعهم، فهو قول باطل .
وأما قول فضيلتكم : " أما أن يصدر أمره عز وجل بما يكره من الأعمال، ثم يعاقب مرتكبه؛ عن مفهوم الإرادة – أي : المشيئة – التي منها الشرعي الذي عليه مدار الثواب والعقاب، ومنها الكوني الذي لا يدان للإنسان فيه ولا مسؤولية عليه " انتهي .
" وأقول : كلام فضيلتكم هذا عليه عدة مؤاخذات :
الأولى : أنكم خلطتم بين المشيئة والإرادة، وجعلتموها شيئا واحدًا، والواقع أن بينهما فرقا كبيرا :
فالإرادة قسمان : إرادة كونية قدرية؛ مثل قوله تعالى : { إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } ، وإرادة دينية شرعية مثل : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } ، { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } .
وأما المشيئة؛ فهي كونية فقط، ترادف الإرادة الكونية .
فيجب الفرق بينهما .
الثانية : قولكم : " أما أن يصدر أمره عز شأنه بما يكره، ثم يعاقب مرتكبه؛ فبعيد عن مفهوم الإرادة؛ أي : المشيئة " .(150/164)
ففي هذا القول التصريح منكم بأن الله لا يأمر بشيء يكره ثم يعاقب عليه، وهذا هو قول القدرية الذين ينفون تقدير الله للمعاصي ومعاقبته عليها، وقد غلطهم الأئمة في ذلك وضللوهم، وبينوا أن مصدر هذا هو عدم تفريقهم بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، حيث ظنوا أن كل ما أراده الله؛ فقد رضيه وأحبه، وبناء على ذلك نفوا الإرادة الكونية القدرية تنزيها لله عن الظلم – بزعمهم -، وأنتم نفيتم الأمر الكوني، والمؤدى واحد .
وليس تعذيب العصاة على معاصيهم ظلما لهم، وإن كانت مقدَّرة عليهم، وهم مأمورون بها أمرا كونيا؛ لأنهم يعذبون على أعمالهم التي عملوها باختيارهم وإرادتهم بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتحذيرهم منها، وتقديرها عليهم لا يسوّغ فعلهم، ولا يعفيهم من مسؤوليتها كما تقولون .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
أن " ما يبلون به من الذنوب وإن كان خلقا لله؛ فهو عقوبة لهم على عدم فعل ما خلقهم الله له، وفطرهم عليه؛ فإنه خلقهم لعبادته وحده، ودلَّ عليه الفطرة، فلما لم يفعلوا ما خُلقوا له وما فُطروا عليه؛ عوقبوا على ذلك . . . " .
إلى أن قال :
" ومن تدبر القرآن؛ تبين له أن عامة ما يذكر الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل " انتهى . (4).
الثالثة : قولكم في مطلع كلامكم :
" مع أن الفرق شاسع بين مجرد صدور الإرادة الإلهية بشيء ما وأمره سبحانه بذلك الشيء " .
أنا لم أقل إنه لا فرق بينهما، بل أقول إن الإرادة غير الأمر، وكل منهما صفة مستقلة .
الرابعة : استدلالكم على نفي الأمر الكوني القدري بقوله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } ؛ حيث قلتم :
" وسرعان ما يأتي الرد الحاسم القاصم بقوله : { قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } .(150/165)
وفي هذا الرد إخبار عام ينفي كل مضاد له، فهو سبحانه إنما يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وكل عمل مرضيٍّ يؤدي إلى صلاح الحياة والأحياء " انتهى .
ونقول : هذا استدلال منكم على نفي الأمر الكوني، وهو استدلال في غير محله، فالآية لا تعني نفي الأمر الكوني، وإنما تعني نفي الأمر الشرعي؛ لأن المشركين يزعمون أن الله قد شرع لهم الطواف بالبيت وهم عراة، فردَّ الله عليهم بأنه سبحانه لم يشرع هذا العمل القبيح، وإنما شرع القسط، وأمر به، وأمر بالإخلاص له في العبادة والدعاء . وبمراجعة تفسير الآية يتبين هذا .
2- الملاحظة الثانية : ما ذكر فضيلتكم من استغراب تقييدنا ما يُتَبَرَّك به من آثار النبي صلى الله عليه وسلم بما انفصل منه في حال حياته من عرقه وريقه وماء وضوئه .
- وأقول : لا غرابة في ذلك؛ لأننا نقصد بذلك الرد على الذين يتبركون بالأماكن التي نزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم أو جلس فيها؛ كغار حراء، وغار ثور، وما أشبه ذلك .
وأما ما انفصل من جسده صلى الله عليه وسلم أو لامسه؛ فهذا يُتَبَرَّك إذا وجد وتحقق في حال حياته وبعد موته إذا بقي، لكن الأغلب أن لا يبقى بعد موته، وما يدعيه الآن بعض الخرافيين من وجود شيء من شعره أو غير ذلك؛ فهي دعوى باطلة لا دليل عليها .
يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه " التوسل أنواعه وأحكامه " في ( ص 143 ) : " ونحن نعلم أن آثاره صلى الله عليه وسلم من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمرا غير ذي موضوع في زماننا هذا، ويكون أمرا نظريا محضا، فلا ينبغي إطالة القول فيه " انتهى .(150/166)
فقول فضيلتكم : " نلتقي على قاعدة الاستمرار لذلك التبرك " لا معنى له، إذ لا وجود لهذه الآثار الآن؛ لتطاول الزمن الذي تبلى معه هذه الآثار وتزول، ولعدم الدليل على ما يُدَّعى بقاؤه منها بالفعل، فلا داعي لهذا التعب الذي تجشمته حفظك الله في سبيل شيء لا وجود له الآن (5).
3 - وما ختمتم به كلمتكم من ذكر ما أشاد به أبو زهرة في حق شيخ الإسلام ابن تيمية، وقلتم : " لعله تدارك لما كتبه في حقه من الهمز والتنقص " .
- فنقول : أولًا : يا فضيلة الشيخ ! هو لم يصرح برجوعه عن الطعن في الشيخ حتى يُغتفر له ما سبق إن قدر سبقه .
وثانيا : هذا لا يمنع من رد ما ذكره في حق الشيخ من السب البذيء في هذا الكتاب؛ لئلا يغتر به من يقرؤه، فما كل الناس يجتمع عنده الكتابان .
وثالثا : لو فرضنا رجوعه عما قال في حق شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فهو لم يرجع عما قاله في حق شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ودعوته المباركة، بل إنه حسب علمي جعل في آخر الكتاب الذي أشرتم إليه حيزا كبيرا تحامل فيه على الشيخ محمد ودعوته المباركة .
ونحن لا هدف لنا في شخص أبي زهرة، وإنما هدفنا الدفاع عن الحق وأهله، ونرجو أن الشيخ أبا زهرة تاب مما قال، ورجع عما كتب، ومات على خاتمة حسنة .
وأخيرًا؛ نشكر لفضيلتكم هذا الاهتمام وهذا التنبيه الذي أتاح لنا الفرصة لمذاكرة هذه المواضيع .
ونسأل الله أن يجمع القلوب على التقوى والإيمان، ومعرفة الحق وقبوله؛ إنه سميع مجيب .
وصلى الله على نبينا محمد .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إبطال نسبة كتاب " أحكام تمني الموت " إلى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP اعتراف محققي الكتاب بعدم صحة نسبته إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب :
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . . وبعد :(150/167)
فقد نسبنا كتاب " أحكام تمني الموت " إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – بناء على ما توهمناه من أن إحالته إلينا من قبل القائمين على استيعاب مؤلفات الشيخ وإعدادها للنشر، تعني غلبة الظن بنسبته إليه .
وحيث قام فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان – مشكورا – ببيان عدم صحة نسبته إلى الشيخ، وأوضح ذلك إيضاحا تاما، فإننا نؤيد ما توصل إليه، ونعتبر ما وقع من قبيل الخطأ، وأنه لا صحة لنسبة هذا الكتاب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب .
ونسأل الله أن يغفر لنا خطايانا، إنه هو الغفور الرحيم .
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
عبد الرحمن بن محمد السدحان
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP تقديم معالي مدير الجامعة الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين . . وبعد :
عندما عقدت الجامعة العزم على إقامة ندوة علمية موسعه عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كان الهدف منها إيضاح حقيقة هذه الدعوة على مستوى العالم الإسلامي، وكشف الشبهات التي أثيرت حولها في بعض البلدان الإسلامية وفي ظل ظروف تاريخية معينة .
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف سعت الأمانة العامة للندوة إلي :
( 1 ) التقصي العلمي لكل ما كتبه الشيخ .
( 2 ) مراجعة إنتاجه على يد جماعة من العلماء الثقات .
( 3 ) تصنيف هذا الإنتاج وطبعه وتوزيعه .
وقد قامت الأمانة بالبحث عن مؤلفات الشيخ ورسائله المطبوعة والمخطوطة، مستخدمة الوسائل الممكنة في كبريات المكتبات في الداخل والخارج وعند أفراد أسرة الشيخ، وبعض الأشخاص الذين لهم اهتمام خاص به وبدعوته ومؤلفاته فجمعت ما تيسر لها من ذلك .(150/168)
وكونت من بين أعضائها لجنة لتصنيف هذه المؤلفات والرسائل، قامت بجهود طيبة في إعدادها لطبعها وتوزيعها على المشاركين في الندوة قبل انعقادها بوقت كاف، خاصة من لا تتوافر لديهم مؤلفات الشيخ وآثاره العلمية، ذلك أن وضع ما كتبه الشيخ رحمه الله تحت أيدي الأخوة الباحثين الذين سيشتركون في الندوة أمر ضروري حتى تكون أبحاثهم مبنية على دراسة لآراء الشيخ وآثاره العلمية .
وكان هذا أحد الأسباب التي عجلت بطباعة آثاره العلمية في أحد عشر مجلدا، وبتزويد المشاركين في الندوة بهذه الحصيلة الوافرة أمكنهم التعرف على حياة الشيخ العلمية وحقيقة دعوته . فكانت بحوثهم ذات صبغة علمية موضوعية ومتزنة .
وقد تلقت الجامعة مجموعة من الملحوظات المتصلة بمؤلفاته رحمه الله، ومن بينها أن رسالة : " أحكام تمني الموت " المنشورة في المجلد الثاني من قسم الفقه ليست من تأليف الشيخ لتعارضها مع مؤلفاته الأخرى ورسائله وأجوبته، وأن نسبتها إليه حدثت بطريق الخطأ .
وقد أولت الجامعة هذه الملحوظات جل عنايتها، بل لقد أعطت لمؤلفات الشيخ رحمه الله اهتماما خاصا تمثل في دراستها في اللقاء العلمي المشار إليه، وما صاحب ذلك من جمع ما توافر من مؤلفاته ورسائله، ثم طبع مختارات من بحوث ذلك اللقاء وتوزيعها على مختلف الجهات العلمية .
وكان من نتائج توصيات الندوة، وخلاصة الآراء والمقترحات التي قدمت عن مؤلفات الشيخ رحمه الله، أن اتجهت الجامعة إلي إعادة تحقيق مؤلفات الشيخ وتمحيصها، وحددت الخطوات الآتية :
1- تكوين لجنة خاصة في عمادة البحث العلمي لدراسة مؤلفات الشيخ ورسائله، وذلك لإعادة تحقيقها من قبل محققين أكفاء يستطيعون الإفادة من كل الإيجابيات التي حصلت، وتلافي بعض الملحوظات والسلبيات الطفيفة التي صاحبت الطبعة الأولى التي قل أن يخلو منها أي عمل علمي خاصة إذا كان بهذا الحجم الكبير، وتم إعداده وطبعه في مدة وجيزة .(150/169)
2- كانت نية الجامعة أن تعالج موضوع كتاب " أحكام تمني الموت " ضمن خطتها الخاصة بإعادة تحقيق تراث الشيخ بوجه عام، ولكن ما لحظته الجامعة من طباعة متكررة لهذا الكتاب من بعض المكتبات التجارية منسوبة إلى الشيخ ومستلة من مؤلفاته التي أصدرتها دون إذن منها جعلها تعجل بمعالجة هذا الموضوع قبل سواه، وتدرس الأسباب التي أدت إلى الاهتمام بهذه الرسالة دون غيرها .
3- كلفت الجامعة فضيلة الدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء وعضو هيئة كبار العلماء في المملكة، بدراسة موضوع نسبة الرسالة إلى الشيخ، فتقصى فضيلته هذا الموضوع وكتب دراسة قيمة أثبت فيها عدم صحة نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ، وأن ما حدث كان مرده الخطأ، وسببه ما ورد على ظهر المخطوطة بأنها كتبت بخط محمد بن عبد الوهاب، فالتبس الأمر على القائمين على هذا العمل، وجل من لا يخطئ، والله يعفو عن الخطأ والنسيان .
وقد بادرت الجامعة بإصدار هذه الدراسة التي تثبت عدم صحة نسبة كتاب : " أحكام تمني الموت " لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ليكون فيها البيان الواضح والجواب الكافي لإزالة أي شك، وليعرف الجميع أن هذا الكتاب ليس من مؤلفات الشيخ، وأن الجامعة لا تسمح لأحد بطباعته أو توزيعه .
4- ستتابع الجامعة موضوع إعادة تحقيق مؤلفات الشيخ ورسائله، وهي تدعو كل من لديه أي معلومات مفيدة سواء أكان لما سبق طبعه أم لما لم يصل إلى الجامعة أن يبادر بالاتصال بها ويسلمها ما لديه من معلومات جزاه الله خيرًا، ليخرج العمل متكاملا يفيد منه طلاب العلم والدعاة إلى الله في عالمنا الإسلامي الواسع .
وفي هذا المقام نذكر بالثناء والتقدير والشكر جهود خادم الحرمين الشريفين وولي العهد الأمين وأركان حكومته الرشيدة في مجال الدعوة الإسلامية، ونشر الآثار العلمية وتشجيع العلم والعلماء وطلاب العلم، لما له من الآثار الطيبة بين المسلمين .(150/170)
وفق الله الجميع لصالح الأعمال ونفع الله بهذا الجهد وأجزل الأجر والثواب لكل من أسهم فيه، إنه قريب مجيب .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP إبطال نسبة الكتاب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . . . وبعد :
فإن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قد قامت مشكورة بتحقيق مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وطباعتها، واستقطبت لهذا العمل الجليل مجموعة من الأساتذة والباحثين للقيام بجمع مؤلفات الشيخ المطبوعة والمخطوطة، وتصنيفها حسب الفنون، ومقابلة نسخها، وتخريج نصوصها، وتصحيح تجارب طباعتها، ثم إخراجها بالمظهر المناسب؛ من حسن التجليد وجودة الورق وصحة النص ووضوحه، وهو عمل جليل يليق بمؤلفات الشيخ وآثاره . . .
ولكن لما كان عمل الإنسان مهما بذل فيه من العناية عرضة للنقص والخطأ، فقد وقع في هذا العمل شيء من الخطأ وهو نسبة كتاب " أحكام تمني الموت " إلى الشيخ وهو ليس له . . .
ولعل السبب الذي أوقع في هذا الخطأ عدة أمور :
الأمر الأول : الحرص التام على استيفاء مؤلفات الشيخ .
الأمر الثاني : قد يكون في المجموعة الذين وكل إليهم تولي هذا العمل من ليس له إلمام بمؤلفات الشيخ ومنهجه العلمي ممن لم يدرس عقيدة الشيخ ومؤلفاته .
الأمر الثالث : ما كتب على ظهر مصورة مخطوطة هذا الكتاب أنه بخط محمد بن عبد الوهاب، فأوهم ذلك أن المراد بهذا الاسم هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب نتيجة لاتفاق الاسم .(150/171)
وقد استغل هذا الخطأ غير المقصود بعض أهل الأهواء والمقاصد السيئة، فاستلوا هذا الكتاب من مطبوعات الجامعة دون استئذانها، مخالفين بذلك أنظمة الطباعة، وطبعوه بكميات هائلة، وقاموا بتوزيعه بقصد التشويش، وفي طليعة هؤلاء المكتبة الإمدادية بمكة المكرمة .
ومما يدل على سوء قصدهم، أنهم اختصوا هذا الكتاب المشبوه والمدسوس واهتموا بنشره، لأنه يوافق أهواءهم، وتركوا كتب الشيخ الصحيحة والثابتة نسبتها إليه، لأن مضامينها لا تتناسب مع مقاصدهم السيئة، بل ترد عليها، ولكن كذب ظنهم، وضل سعيهم، وخاب أملهم، فهذا الكتاب نقطع أنه ليس للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، ونجزم بذلك لعدة أدلة :
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP الدليل الأول :
أن الذين نسبوه إلى الشيخ لم يعتمدوا على أصل مصحح موثق، وإنما اعتمدوا على مصورة غير واضحة، وفيها طموس وكلمات غير واضحة، ولا شك أن قواعد التحقيق تقتضي إحضار الأصل والتثبت منه، ولا يكتفى بالمصورة، لا سيما وهي غير واضحة .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP الدليل الثاني :
أن الكتابة الموجودة على غلاف المصورة لها عبارتان :
العبارة الأولى : تقول : هذا الكتاب في أحكام تمني الموت وما يجوز وما يمنع، بخط محمد بن عبد الوهاب .
العبارة الثانية : تقول : ما في هذا خط الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وفوق هذه العبارة كلمة منطمسة لا تمكن قراءتها، ولا شك أن هذا الطمس لا يمكن معه قراءة هذه العبارة قراءة صحيحة، كما يلاحظ على هاتين العبارتين ما يلي :
أولاً : جهالة الكاتب لهما، وجهالة الكاتب تبطل اعتماد ما كتب .
ثانيا : أنه لا يتعين أن يكون المقصود بمحمد بن عبد الوهاب المذكور في العبارتين هو الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب إمام الدعوة السلفية، بل يكون غيره، ويترجح أنه غيره بما يأتي من الأدلة .(150/172)
ثالثا : تقول إحدى العبارتين : أحكام تمني الموت وما يجوز وما يمنع . . . فلو فرض أن هذا الكتاب للشيخ محمد بن عبد الوهاب فهذه العبارة تدل على أنه لا يرى جواز كل ما جاء فيه، مما يخالف الأدلة الصحيحة والاعتقاد السليم .
رابعاً : لو فرض أن المراد بالمسمى في هاتين العبارتين هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإمام المشهور وأن هذا الكتاب بخطه فعلا، فمجرد كونه بخطه لا يدل على أنه من تأليفه، بل يكون من تأليف غيره وقد نسخه ليرد عليه، أو يحذر مما فيه، أو لغير ذلك من الأغراض، فما كل ما وجد بخط العالم يكون من تأليفه أو يكون قد ارتضى ما فيه .
ومما يرجح هذا أمران :
الأمر الأول : أنه ليس فيه للشيخ كلام، وإنما هو مجرد سرد نصوص من أوله إلى آخره .
الأمر الثاني : أن بعض مضامينه، وكثيرا من الأحاديث الواردة فيه، توافق ما في كتاب السيوطي " شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور " ، مما يدل على أن غالبه مستل من هذا الكتاب .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP الدليل الثالث :
أن هذا الكتاب يشتمل على أشياء تتعارض مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذلك مثل الكلام في الروح، وتلقين الميت بعد الدفن، والقراءة على القبور، حيث إن الشيخ وتلاميذه وأتباعه يعتبرون هذه الأشياء من البدع المحرمة . . . انظر : " الدرر السنية في الأجوية النجدية " ( 3/249 , 279 ) .
وسننقل فيما يأتي بعض عباراتهم في ذلك .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP الدليل الرابع :
أن الكتاب يشتمل على أحاديث غير ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يليق بالشيخ أن يرتضيها أو يستدل بها، وهو المعروف بالتثبت واليقظة والمدافعة عن السنة والتحذير من مثل هذه الأحاديث، والأمر بالاقتصار على ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(150/173)
ومن هذه الأحاديث حديث التلقين بعد الدفن، وقد ورد ذكره في هذا الكتاب ( ص19 ) ، ونصه :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب عليه فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم يقول : يا فلان بن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم ليقل يا فلان بن فلانة فإنه يستوي قاعدا، ثم يقول : يا فلان بن فلانة فإنه يقول أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما، فإن منكرا ونكيرا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول انطلق، ما نقعد عند من لقنا حجته، فيكون الله حجيجه دونهما ) .
قال رجل : فإن لم يعرف أمه ؟ قال : ينسبه إلى حواء، يا فلان بن حواء . . . انتهى .
وهذا الحديث مما ينكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه . . .
جاء في " الدرر السنية في الأجوبة النجدية " ( 3/250 ) ما نصه :
" هذا حديث لا يصح رفعه، فهذا التلقين لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر المسلمون ذلك في زمننا والله أعلم . . . " .
ومما جاء في الكتاب في ( ص 75 ) : " من دخل المقابر ثم قرأ فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، وألهاكم التكاثر، ثم قال : إني جعلت ثواب ما قرأت من كلامك لأهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات كانوا شفعاء له إلى الله تعالى " . . .
وعن أنس مرفوعا : ( من دخل المقابر فقرأ سورة يس، خفف الله عنهم وكان له بعدد من فيها حسنات ) انتهى .(150/174)
وهذا أيضا مما ينكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه، جاء في " الدرر السنية " ( 3/279 - 280 ) : " إن القراءة عند القبور، وحمل المصاحف إلى المقبور كما يفعله بعض الناس يجلسون سبعة أيام ويسمونها الشدة، وكذلك اجتماع الناس عند أهل الميت سبعة أيام ويقرءون فاتحة الكتاب، ويرفعون أيديهم بالدعاء للميت فكل هذا من البدع والمنكرات المحدثة التي يجب إزالتها، والحديث المروي في قراءة سورة يس في المقبرة لم يعز إلى شيء من كتب الحديث المعروفة، والظاهر عدم صحته، انتهى .
وجاء أيضا في الكتاب حكايات كثيرة في أحوال الموتى والأرواح وأنواع العذاب في القبور، لا تجوز كتابتها ولا قراءتها، لأن أحوال البرزخ من علم الغيب الذي لا يجوز الكلام فيه إلا بدليل صحيح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أصول العقيدة عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وعند غيره من أهل السنة .
قال الشيخ محمد رحمه الله في بيان عقيدته لما سئل عنها :
" واعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فأؤمن بفتنة القبر ونعيمه " انتهى من " الدرر السنية " ( 1/29 ) .
ومن هذه الحكايات ما جاء في صفحة ( 47 - 51 ) في تكلم الأموات بعد موتهم، وذلك ما ينزه الشيخ محمد عن كتابته، فضلا عن الاستدلال به، لأن الشيخ إمام جليل لا يجمع ما هب ودب دون تمحيص ودراية، ومن قرأ كتبه ورسائله عرف أن هذا الكتاب يتعارض مع منهجه وأنه لا يليق به، لأنه شديد التمسك بالكتاب والسنة وما عليه الأئمة بعيد كل البعد عن اقتناص الروايات الضعيفة والحكايات الهزيلة من أمثال ما يشتمل عليه هذا الكتاب . . .
يقول رحمه الله في بيان منهجه في معرض إجابته لبعض من سأله عما هو عليه وما يدعو الناس إليه :(150/175)
" أما ما نحن عليه من الدين فعلى دين الإسلام الذي قال الله فيه : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . . . وأما ما دعونا الناس إليه فندعوهم إلى التوحيد الذي قال الله فيه خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ، وقال تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } . . .
وأما ما نهينا الناس عنه فنهيناهم عن الشرك الذي قال الله فيه : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } . . . إلى أن قال : وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد فنحن مقلدون الكتاب والسنة وصالح سلف الأمة وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة : أبي حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل، رحمهم الله تعالى . . . إلى أن قال رحمه الله : وما جئنا بشيء يخالف النقل ولا ينكره العقل، انظر : " الدرر السنية " ( 1/62 – 64 ) . . .
وقال أيضا : وأخبرك أني ولله الحمد متبع لست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، " الدرر السنية " ( 1/54 ) .(150/176)
هذا منهجه رحمه الله، فإذا عرضت هذا الكتاب عليه وجدته لا يتناسب معه، لما يشتمل عليه من روايات واهية وحكايات غريبة وبدع مخالفة للسنة، من أمثال تلقين الميت بعد دفنه والقراءة على المقابر وغير ذلك، ومن قرأ هذا الكتاب جزم أنه ليس من مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولكن المغرضين أرادوا أن يتخذوه حجة لهم في الطعن على الشيخ , أو التبرير لما هم عليه من البدع أو غير ذلك من الأغراض، ولكنها والحمد لله حجة داحضة وكرة خاسرة .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP الدليل الخامس :
على بطلان نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ ما فيه من الخلل والقصور في فن التأليف , فموضوعه يخالف عنوانه، فلا يتطابق مما جاء فيه مع العنوان إلا أحاديث يسيرة في أول الصفحة الأولى، وبقية الكتاب خارجة عن الموضوع .
ثم هو مجرد سرد أحاديث من غير بيان لدرجتها ومن غير تبويب لموضوعاتها، وفيه من الركاكة وضعف التأليف دلالة واضحة على بطلان نسبته إلى الشيخ إذا قورن بمؤلفاته المعروفة - والله أعلم - .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP الدليل السادس :(150/177)
أن هذا الكتاب يختلف محتواه عن طريقة الشيخ في تعليم الناس، لأنه رحمه الله كان يرى وجوب الاهتمام بشأن العقيدة وتصحيحها، ومعرفة ما يضادها أو يخل بها، وكان ما يكتبه أو يختاره من الكتب يدور حول هذا الموضوع، ويركز على ما فيه نفع للناس، ويكره الاشتغال بالكتب التي تشوش على الناس في أمر دينهم أو يقل نفعها لهم، قال حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله، في كتابه " فتح المجيد " صفحة ( 420 ) ، في شرح قول علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون، قال : وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ومعاملاتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته , وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي ك- " المنعش " و " المرعش " و " التبصرة " , لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع , وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغي اعتقاده , والمعصوم من عصمه الله . . .
وكان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ينهى القصاص عن القصص , لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل وغير ذلك , ويقول : " لا يقص إلا أمير أو مأمور " , وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط المستقيم علما وعملا ونية وقصدا , وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه من البدع ووسائلها والله الموفق للصواب ولا قوة إلا بالله . . . انتهى .
فإذا كانت هذه طريقة الشيخ فيما ينبغي أن يقرأ من الكتب , وما ينبغي أن يترك مما يؤثر على عقائد الناس , فكيف يؤلف كتابا من هذا القبيل مشحونا بالروايات الواهية والحكايات الغريبة , ولا سيما في موضوع حال البرزخ التي هي من علم الغيب الذي لا يجوز الكلام فيه إلا بما ثبت عن الله ورسوله , ولا يجوز الاعتماد فيه على الأحاديث الضعيفة والمعلومة والحكايات والمنامات , مما يشمل عليه هذا الكتاب المشبوه .(150/178)
إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أبعد ما يكون عن موضوع هذا الكتاب , وكل من قرأ كتبه وعرف منهجه العلمي والعملي يجزم بنفي هذا الكتاب عنه وبراءته منه , وكل يعلم أنه لا يكفى في نسبة الكتاب إلى شخص ما وجوده بخطه لو فرضنا أن هذا الكتاب بخط الشيخ , فقد ينسخ العالم مؤلفا لغيره وهو لا يرتضيه , إما للرد عليه والتحذير منه أو لغير ذلك من الأغراض , وكان أهل العلم ينسبون الكتب إلى مؤلفيها عن طريق الرواية بالسند المتصل إليهم أو عن طريق الاستفاضة التي تغني عن السند مع مطابقة تلك الكتب لمنهجهم العلمي , أما أن ينسب كتاب إلى شخص لمجرد توهم أنه بخطه فليس هذا من التحقيق العلمي في شيء , ولا هو من منهج العلماء . . .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP الدليل السابع :
أن هذا الكتاب لم يرد ذكره في مؤلفات الشيخ , فكل الذين كتبوا عن الشيخ قديما وحديثا وذكروا مؤلفاته لم يذكروا هذا الكتاب منها ومن أوثق هؤلاء وأقدمهم الشيخ حسين بن غنام , وهو من تلاميذ الشيخ الذين أخذوا العلم عنه , وأرخ لدعوته وسيرته في كتابه المشهور " روضة الأفكار والأفهام " , وذكر مؤلفات الشيخ ورسائله ولم يذكر هذا الكتاب منها , وقد عاش بعد الشيخ وأرخ لوفاته ورثاه لما مات , حتى لا يقال لعل كتابة ابن غنام متقدمة، وهذا الكتاب جاء بعده . . .
وكذلك الشيخ عبد الرحمن بن قاسم لم يذكر هذا الكتاب في مؤلفات الشيخ لما ترجم له في كتاب " الدرر السنية " وذكر مؤلفاته، وقد قرأ هذا الكتاب وهذه الترجمة على أكابر نجد من ذرية الشيخ وغيرهم، وهم الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد العزيز العنقري، وكتبوا عليه تقريظات، ولو كان هذا الكتاب : " أحكام تمني الموت " من مؤلفات الشيخ لاستدركوه عليه وأمروه بذكره، فهذا دليل قاطع على أنه ليس منها .(150/179)
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP الدليل الثامن :
أن مجرد وضع اسم شخص على كتاب لا يدل على أنه من تأليفه، بل قد يوضع خطأ أو دسا عليه، في حين أن الذي وضع اسم محمد بن عبد الوهاب على هذا الكتاب لم يقل إنه من تأليفه، وإنما قال هذا الكتاب بخطه .
والعنوان الذي جاء على ظهر المطبوعة وهو : " أحكام تمني الموت " تأليف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، إنما هو من تصرف المصححين أو المشرفين على الطباعة من غير تثبت ولا برهان، وقد أخطئوا في هذا خطأ واضحا وخالفوا قواعد التحقيق العلمي وجاءوا بتعبير من عند أنفسهم ليس موجودا على ظهر المصورة التي اعتمدوا عليها .
ولا أظن أنه بعد هذا البيان يبقى أدنى شك عند من يريدون الحقيقة أن هذا الكتاب ليس من تأليف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب .
أما الذين يريدون المغالطة ويتصيدون الشبهات فلا سبيل إلى إقناعهم، لأنهم لا يريدون الحق ومن لا يريد الحق فلن تستطيع هدايته إليه .
{ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } ، ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . . .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP الرد على السيابي في تعقيبه على فتوى شيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في حكم من نفى الرؤية وقال بتخليد العصاة في النار وأن القرآن مخلوق
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، وخاذل من خالف أمره وعصاه .
والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتفاه .
وبعد :(150/180)
فقد اطلعت على نبذة كتبها أحمد بن سعود السابي تحت عنوان : " الرد على فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز في حكم الصلاة خلف من ينفي رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة في الجنة، ويخالف ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات ذلك ووجوب الإيمان به " .
وقد وجدت السيابي تحامل على شيخنا الشيخ ابن باز، وأقذع في رده بالسباب والكلمات النابية مما ليس هو من أسلوب العلماء، وإنما هو أسلوب المفلسين الذين لا يملكون دليلا ولا حجة صحيحة يؤيدون بها قولهم؛ فإنهم يلجئون إلى مثل هذا الأسلوب، لعله يعوض ما عندهم من عجز وإفلاس .
مضمون فتاوى الشيخ عبد العزيز وموقف السيابي منها والرد عليه :
إن الشيخ ابن باز قد ذكر في هذه الفتوى ما دل عليه الكتاب والسنة وما قاله الأئمة؛ كالإمام مالك، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة، والبخاري، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد، وما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن جمهور السلف من تكفير من أنكر رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ووجوب قتله .
وقد بنى الشيخ عبد العزيز بن باز على ذلك أنه لا يُصلَّى خلفه، وهو بناء وجيه، وقال : إنه بحث في هذه المسألة مع مفتي الإباضية الشيخ أحمد الخليلي، فاعترف أنه لا يؤمن برؤية الله في الآخرة، وأنه يعتقد أن القرآن مخلوق، وذكر أنه نصحه، فأصر على هذا الاعتقاد الذي قال فيه الأئمة ما سبق بيانه .
وقد غضب كاتب هذه النبذة أحمد السيابي من هذه الفتوى ووصفها بأنها صادرة عن حقد مذهبي، وعصبية مظلمة، وضمائر متعفنة ! !
وهذه الألفاظ كما قلنا هي نموذج من بضاعة المفلسين من الحجج الصحيحة والأدلة المقنعة، وهي في الحقيقة تنطبق على من صدرت منه، حيث تعصب لمذهبه الباطل، وأبى أن يتبع الكتاب والسنة، ويسير في موكب أهل العلم والإيمان من أئمة الدين، وأظهر ما يكن في صدره من الحقد الأسود والضغائن المرة .(150/181)
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP دعوته إلى كتمان الحق عمن سأل عنه :
قال السيابي :
" ولعل القارئ ستأخذه الدهشة ويذهب به الاستغراب كل مذهب عندما يجد أن هذه الفتوى موجهه إلى أحد الأشخاص الموجودين في الديار الأمريكية، ذلك البلد الذي يعتبر فيه أبناء الإسلام كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، فهم بحاجة كبيرة إلى من يرشدهم إلى الألفة والمحبة والتآخي؛ لتكوين وحدة إسلامية قادرة على الوقوف والصمود في وجه قذائف الباطل الموجهة من جنبات منظمات اللوبي الصهيوني " انتهى كلامه .
- هكذا قال ! ! حيث لم يجد جوابا عن فتوى الشيخ سوى أنه لا يناسب توجيهها إلى من هو في أمريكا بين الكفار؛ لأن المسلمين بحاجة إلى الاتحاد للوقوف في وجه العدو؛ كما يقول .
والجواب عن هذا من وجوه :
الوجه الأول : أن الحق يجب أن يقال ويبين للناس، والباطل يجب أن يرد في كل مكان، كما أمر الله بذلك؛ { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } .
وشيخنا – حفظه الله – لم يوجه هذه الفتوى ابتداء حتى أتاه السؤال الملح، فهل يليق به أن يسكت ويكتم العلم ويترك السائل في جهله، لا سيما في هذه المسألة الخطيرة التي تتعلق بأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الصلاة ؟ !
إننا لو أخذنا بقول هذا المعترض، وسكت العلماء عن بيان الحق للناس؛ لضاع الحق، واستطال الباطل، وقُضِيَ على الدين، وهذا ما يفرح به الكفار في أمريكا وغيرها . . .
الوجه الثاني : أن نقول : إن اجتماع المسلمين واتحادهم ووقوفهم في وجه عدوهم أمر مطلوب وهدف نبيل؛ ولكن هذا لا يتحقق؛ إلا إذا اعتصموا بكتاب ربهم وسنة نبيهم، وتركوا المذاهب الباطلة والأقوال الخاطئة، ولا سيما في العقيدة التي هي أساس الدين ومدلول الشهادتين .
وقال تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } .
وحبل الله هو القرآن العزيز .(150/182)
وقال تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } .
فأوجب سبحانه الرجوع إلى الكتاب والسنة؛ لحسم النزاع، وقطع دابر الخلاف، ولم يقل : ليبقى كل واحد على رأيه المخالف للكتاب لأجل الوحدة؛ الوحدة لا تمكن إلا باتخاذ الأسباب المؤدية إليها، ومن أعظم تلك الأسباب :
ترك المذاهب الباطلة، والانحرافات المضلة، وما لم تترك؛ فالوحدة متعذرة .
قال تعالى : { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } .
وهذا ذم لهم على بقائهم على تفرقهم في الدين، ومقالاتهم الخاطئة .
الوجه الثالث : أن التفرق في العقيدة لا يمكن معه الاجتماع، وفضيلة السيابي يدعونا للبقاء على تفرقنا في العقيدة، ثم يطالبنا بالاتحاد أمام عدونا، وهذا تناقض ظاهر، تأخذ القارئ منه الدهشة، ويذهب به الاستغراب كل مذهب .
وأما فتوى الشيخ عبد العزيز، فإنها تدعو إلي القضاء على الأسباب التي تمنع تحقق الوحدة بين المسلمين، ومن أهما : المذاهب المنحرفة، والنحل الضالة .
فما وجه الغرابة والدهشة التي ادعاها السيابي فيها ؟ !
إنه قبل ظهور هذه المذاهب والنحل، ويوم أن كان المسلمون على عقيدة واحدة، واعتماد على الكتاب والسنة، وهم أمة واحدة، وقد وقفوا صفا واحدا أمام عدوهم، وفتحوا البلاد، وسادوا العباد بالعلم والدين؛ مصداقًا لقوله صلي الله عليه وسلم : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وسنتي ) .
وقوله صلي الله عليه وسلم : ( فإنه من يعش منكم؛ فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) .
وقد نقل السيابي في رده أبياتا هي حجه عليه، لأن الشاعر فيها يدعو إلى ترك المذاهب الضالة، والرجوع إلى ما دل عليه الكتاب والسنة، حيث يقول فيها :(150/183)
وما الدين إلا واحد والذي نرى ** ضلالات أتباع الهوى تتقارع
وما ترك المختار ألف ديانة ** ولا جاء في القرآن هذا التنازع
فيا ليت أهل الدين لم يتفرقوا ** وليت نظام الدين للكل جامع
فمضمون هذه الأبيات إنكار المذاهب الباطلة، والدعوة إلى تركها، ومن أعظمها : إنكار رؤية الله في الآخرة، وإنكار صفات الله عز وجل التي من أعظمها كلامه، وأن هذا ليس مما جاء به المختار صلى الله عليه وسلم .
وما قال هذا الشاعر هو ما يدعو إليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
وهذا ما يدعو إليه كل عالم محقق وداع إلى الله على بصيرة .
أما الذي يدعو إلى عدم إنكار المذاهب الباطلة، والعقائد الفاسدة؛ فهذا يدعو إلى التفرق والتفكك .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP زعمه أن الشيخ لم يورد أدلة على فتواه، والرد عليه :
قال السيابي :
" من الغرائب الواردة في سياق الفتوى – والفتوى كلها غرائب – أن صاحبها سرد فيها أقوال علماء دون الاستناد إلى نص من الكتاب أو السنة الصحيحة، مع أن قول العالم – حسب ما قرر في أصول المذاهب الأربعة – يحتج له، ومن قولهم : إن قول النبي صلى الله عليه وسلم يحتج به، وقول العالم يحتج له، ولكن فضيلته رأى أن النصوص لا تساعده على مراده، ولا تسعفه بمطلوبه؛ فلجأ إلى أقوال العلماء مستعرضا لهم من مالك بن أنس إلى ابن تيمية . . . " .
- والجواب عن ذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن الكاتب عميت عيناه أو زاغ بصره عن الآية الكريمة التي استدل بها العلماء الذين ساق الشيخ ابن باز أقوالهم في حكم منكر الرؤية، وهي قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وقد كتب بالخط العريض في الفتوى مرتين ! !
كما عميت عيناه – إن كان له عينان – أو زاغ بصره عن الآيات الثلاث التي كتبت في الفتوى، وهى قوله تعالى :(150/184)
{ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } .
قال ابن المبارك : " ما حجب الله عنه أحداً، إلا عذبه " ، ثم قرأ هذه الآيات .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله : " في هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه " .
قال ابن كثير : " وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم الآية " .
كما أن السيابي لم ينظر إلى ما ذكر في الفتوى من تفسير قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } , وأن الزيادة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى وجه الله؛ كما رواه مسلم وجماعة من الأئمة؛ ذكر ذلك الحافظ ابن كثير، وقال :
" وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن : أبي بكر الصديق , وحذيفة بن اليمان , وعبد الله بن عباس , وسعيد بن المسيب , وعبد الرحمن بن أبي ليلي , وعبد الرحمن بن سابط , ومجاهد , وعكرمة , وعامر بن سعد , وعطاء , والضحاك , والحسن , وقتادة , والسدي , ومحمد بن إسحاق . . . . وغيرهم من السلف والخلف , وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " .
ثم ساق بعضًا منها .
وقد حكم الأئمة الذين ذكرهم الشيخ عبد العزيز في فتواه بكفر من أنكر الرؤية ووجوب قتله .
فإذا كان السيابي لا يقنع بتلك الأدلة ولا بأقوال هؤلاء الأئمة، وإنما يقتنع بقول جهم وجماعته؛ فليختر لنفسه ما شاء، لكن لا يغضب إذا خالفه طالب الحق .
الوجه الثاني : أن الشيخ عبد العزيز لم يُسأل عن ثبوت الرؤية حتى يورد الأدلة على ثبوتها؛ لأن السائل والحمد لله يؤمن بها، وإنما سُئل عن حكم الصلاة خلف من أنكرها، فذكر أقوال الأئمة في تكفير من أنكر الرؤية، وبنى عليها الحكم بعدم صحة الصلاة خلفه .(150/185)
وهذا هو الجواب المطابق للسؤال وهذا هو الإنصاف والتحقيق، حيث لم يتسرع الشيخ وفقه الله بإصدار الفتوى حتى راجع كلام أهل العلم والتحقيق المبني على صريح الكتاب والسنة، حتى لا يقال : هذا رأيك الخاص، أو هذا تحامل منك، أو ما أشبه ذلك . . .
الوجه الثالث : في الجواب عن قول السيابي : " إن قول العالم يحتج له ولا يحتج به، ولكن فضيلته ( يعني : الشيخ عبد العزيز بن باز ) رأى أن النصوص لا تساعده على مراده، ولا تسعفه بمطلوبه، فلجأ إلى أقوال العلماء . . . " الخ .
نقول : أولا : ما قلته من أن أقوال العلماء يحتج لها ولا يحتج بها قول صحيح وقاعدة ثابتة ولكنك لم تطبق ذلك على نفسك، ولم تلتزم به؛ فإنك قبلت قول علماء أخطئوا في نفي الرؤية، ورفضت الأدلة الدالة على ثبوتها في الكتاب والسنة .
ثانيا : قولك : " إن النصوص لا تساعد الشيخ عبد العزيز على مراده ولا تسعفه بمطلوبه -الذي هو إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة- " هو قول باطل، ومكابرة للحقائق؛ لأن النصوص المتواترة من الكتاب والسنة دلت على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة :
فمن أدلة القرآن الآيات التي سبق ذكرها .
ومن السنة الصحيحة قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته " . الحديث متفق عليه بين البخاري ومسلم .
وقد تواترت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد، وتلقتها الأمة بالقبول والتسليم،ولم ينكرها إلا المبتدعة الضالون .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP ما تثبت به العقيدة في نظر السيابي والرد عليه :
قال : " ولا يخفى على أولي العلم والنظر أن العقيدة هو -كذا قال، والصواب : هي- الاعتقاد الجازم الذي هو ثمرة اليقين لا يثبت إلا بالدليل القطعي، ولا يفيد القطع إلا القرآن العظيم والسنة المتواترة .(150/186)
- والجواب عن ذلك أن نقول : إن رؤية المؤمنين لربهم عز وجل قد ثبتت بالقرآن في عدة آيات سبق ذكر بعضها، وثبتت بالسنة المتواترة، ولكنك خالفت هذه القاعدة، وأنكرت الرؤية، فتناقضت مع نفسك، وهدمت ما بنيت؛ اتباعا للهوى، وتقليدا للرجال من غير دليل .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP من عوامل صحة الحديث في نظره، والرد عليه :
قال : " ومن أهم عوامل صحة الحديث موافقته لكتاب الله؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما جاءكم عني؛ فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه؛ فعني، وما خالفه؛ فليس عني ) . رواه الإمام الربيع من طريق ابن عباس رضي الله عنهما، وهو يرشد إليه قوله عز من قائل : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } " .
- والجواب عن ذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن نقول له : إن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة لم تثبت بالسنة وحدها، بل ثبتت في القرآن أيضا في آيات كثيرة، ذكرنا بعضها فيما سبق، وثبتت بالسنة المتواترة فيكون ما ثبت بالسنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رؤية المؤمنين لربهم موافقا لما ثبت في القرآن، فتكون الرؤية قد تضافرت بثبوتها أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فينطبق عليها ما ذكرت من الحديث على فرض صحته، ومع هذا؛ خالفته فتناقضت مع نفسك . . .
الوجه الثاني : قوله : " إن العقيدة لا تثبت إلا بالسنة المتواترة " قول غير سليم، بل تثبت العقيدة بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سواء كان متواترا أو آحادا، لا فرق؛ لأن هذا التفريق مبتدع، فما زال العلماء يعملون بأخبار الآحاد الصحيحة في العقائد وغيرها .
قال العلامة ابن القيم :(150/187)
" ولم يكن أحد من الصحابة ولا أهل الإسلام بعدهم يشكون فيما يخبر به أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو ذر وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمر . . . وأمثالهم من الصحابة، بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة –مع تفرده بكثير من الحديث-، ولم يقل له أحد منهم يوما واحدا من الدهر : خبرك خبر واحد لا يفيد العلم " .
الوجه الثالث : أنه لا يُتَصَوَّر أن يرد عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث صحيح يكون مخالفا للقرآن، أو ينفي ما أثبته .
قال الإمام ابن القيم في كتاب " الطرق الحكيمة " ( ص73 ) :
" والذي يجب على كل مسلم اعتقاده أنه ليس في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة سنة واحدة تخالف كتاب الله، بل السنن مع كتاب الله على ثلاث منازل :
المنزلة الأولى : سنة موافقة شاهدة بنفس ما شهدت به الكتب المنزلة .
المنزلة الثانية : سنة تفسر الكتاب، وتبين مراد الله منه، وتقيد مطلقه .
المنزلة الثالثة : سنة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب، فتبينه بيانا مبتدأ .
ولا يجوز رد واحدة من هذه الأقسام الثلاثة، وليس للسنة مع كتاب الله منزلة رابعة . . . " انتهى .
وقال في " إعلام الموقعين " ( 2/288 – 289 ) بعد أن ذكر هذه المنازل، وسماها أوجهًا :
" الثالث أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه، أو محرمة لما سكت عن تحريمه .(150/188)
ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تعارض بوجه ما، فما كان منها زائدة على القرآن؛ فهو تشريع مبتدأ من النبي صلي الله عليه وسلم، تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديما لها على كتاب الله، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم؛ لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به، وأنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه؛ لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال الله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } " انتهى .
الوجه الرابع : أن الحديث الذي ذكره لا يصلح للاحتجاج .
قال السيوطي في كتاب " مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " :
" قال الشافعي : احتج عليَّ بعض من رد الأخبار بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله " . . . الحديث . فقلت له : ما روى هذا أحد ثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء " انتهى .
وقال في مقدمة هذا الكتاب :
" وإنما مما فاح ريحه في هذا الزمان –وكان دارسا بحمد الله منذ أزمان– هو أن قائلا رافضيا زنديقا في كلامه أن السنة النبوية والأحاديث المروية –زادها الله علوا وشرفا– لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة، وأورد على ذلك حديث : " ما جاءكم عني فاعرضوه على القرآن، فإن وجدتم له أصلا فخذوا به، وإلا فردوه " . هكذا سمعت هذا بجملته منه، وسمعه منه خلائق غيري، فمنهم من لا يلقي لذلك بالا، ومنهم من لا يعرف أصل هذا الكلام، ولا من أين جاء، فأردت أن أوضح للناس أصل ذلك، وأبين بطلانه وأنه من أعظم المهالك " .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP تعجب السيابي من كون أهل السنة لا يعملون بقول الخوارج في الخروج على الولاة :
قال السيابي :(150/189)
" والبعض من أولئك العلماء – الذين حكى عنهم فضيلته الأقوال الحماسية الملتهبة بقتل منكر الرؤية – لم يثبت عنهم أنهم قاموا بذلك، وأمروا به في مواجهة الجَوَرَة الظلمة الذين استعبدوا عباد الله، واتخذوهم خولا ومال الله دولاً . . . " الخ ما قال .
- نقول : هذا القول يتمشى مع منطق الخوارج الذين يرون الخروج على الأئمة الظلمة، وأهل السنة لا يرون ذلك؛ امتثالا لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لولاة الأمور، وإن جاروا، وإن ظلموا؛ ما لم يصدر منهم كفر بواح .
وأيضا هو سوى بين جور الولاة وبين القول بنفي الرؤية، وهذا يدل على جهله أو على تلبيسه؛ فإن جور الولاة لا يقتضي الكفر، ونفي الرؤية يقتضي الكفر؛ لأنه تكذيب لله ولرسوله ولما عليه أئمة المسلمين .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP إنكار السيابي لعلاقة الإباضية بالجهمية والرد عليه :
قال السيابي :
" يركز صاحب الفتوى -يعني : الشيخ عبد العزيز- على أن كل من ينكر رؤية الله تعالى؛ فهو جهمي، فما علاقة الإباضية بالجهمية ؟ ! إن جهم بن صفوان وأصحابه لم تظهر آراؤهم إلا في الربع الأول من القرن الثاني الهجري، وأئمة الإباضية وعلماؤهم كانوا في القرن الأول الهجري " .
إلى أن قال : " وهل موافقة الجهمية للإباضية في إنكار الرؤية – ولعلها المسألة الوحيدة التي وفق الله الجهمية إلى قول الحق فيها – تجعل الجهمية من الإباضية أو الإباضية من الجهمية ؟ " .
- والجواب عن ذلك :
أولا : إن الذي قال : " من لم يؤمن بالرؤية؛ فهو جهمي " ليس هو صاحب الفتوى، وإنما هو سفيان بن عيينة والإمام أحمد، والشيخ عبد العزيز نقل ذلك عنهم .(150/190)
ثانيا : إن الجهمية هم الذين شهروا ونشروا القول بنفي الأسماء والصفات من الرؤية وغيرها، فنسب القول إليهم بهذا الاعتبار، وإن كان الإباضية – كما قال المعترض – لهم السبق في نفي الرؤية قبل وجود الجهمية، وأن الله وفق ( ! ) الجهمية لاتباعهم في هذا الضلال؛ فهو شر لا يحسدون عليه كلهم، وبئس التابع وبئس المتبوع في مخالفة كتاب الله وسنة رسوله، وما عليه أئمة المسلمين، { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } .
وقد ذكر الله عن الأحزاب الضالة أنها تفرح بما عندها من الضلال، فقال : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP نظرة السيابي إلى أدلة أهل السنة على إثبات الرؤية والرد عليها :
قال السيابي : " إن الحجة التي يستند إليها الكثير من أولئك العلماء الذين ذكرهم الشيخ ابن باز نقلا عن ابن القيم هي قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } .
والشيخ ابن باز يستأنس بهذا الاحتجاج أيما استئناس، والسؤال هو : أي دليل له في هذه الآية بثبوت رؤية الله عز وجل، ومذهبه قائم على إنكار المجاز في القرآن، والمتأمل يرى أن الآية الكريمة قد أسندت النظر إلى الوجوه ؟ فهل تكون الرؤية بالوجه ؟ إن هذا لم يثبت في كلام العرب على الإطلاق وإنما تكون الرؤية بالعين . . . " الخ ما قال .
- والجواب عن ذلك أن نقول :
أولا : ليست الحجة التي يستند إليها العلماء في إثبات الرؤية مقصورة على الآية المذكورة، وإن كانت كافية، بل هناك آيات وآيات وأحاديث متواترة في إثبات الرؤية .(150/191)
ثانيا : قوله : " إن الآية الكريمة قد أسندت النظر إلى الوجوه، فهل تكون الرؤية بالوجه ؟ " ؛ هذا من المغالطة المضحكة؛ لأن أحدا مهما بلغ من الغباوة لا يفهم هذا الفهم الذي ذكره، وإنما يفهم كل أحد أن الوجوه تنظر بأعينها؛ كما إذا قلت : رأيت زيدا ونظرت إليه، فهل يفهم أحد أنك رأيته بجسمك ؟ ! أو لا يفهم إلا أنك رأيته بعينيك ؟ !
لكنها المغالطة الفارغة .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP اعتراض بارد ورده :
قال السيابي متسائلا :
" ما هي المناسبة التي بين هذه الآية : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ، وبين الآية التي بعدها : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } إذا فسر قوله تعالى : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } بالرؤية، وإن خير ما يفسر القرآن هو القرآن، فالله تعالى يقول في أخر سورة عبس : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } ؛ مفسرا لقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } " .
- والجواب على ذلك من وجهين :
الوجه الأول : أن المناسبة بين قوله تعالي : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وبين الآية التي بعدها : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } : أنه سبحانه لما ذكر ما يكرم به أولياءه من نضرة الوجوه وحسنها وما تنعم به زيادة على ذلك من النظر إلى وجهه الكريم؛ ذكر حالة أعدائه، وما يلقونه من العذاب الأليم الذي يظهر أثره على وجوههم، وأعظم ذلك حرمانهم من رؤية ربهم عز وجل؛ كما قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } .
وكثيرا ما يقارن الله سبحانه في كتابه بين حال أهل السعادة وحال أهل الشقاوة في الآخرة؛ ليذكر عباده، حتى يأخذوا بأسباب السعادة، ويتركوا أسباب الشقاوة .(150/192)
الوجه الثاني : أن آية عبس : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } ليست مفسرة لقوله تعالى : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ؛ كما يقول؛ لأن النظر غير الإسفار، فالنظر يكون بالعين، والإسفار لون يظهر على الوجه، وربما يكون نتيجة للنظر إلى الشيء السار المفرح، فالمؤمنون يجمع الله لهم بين نضرة الوجوه وإسفارها، ونظر العيون إلى وجهه الكريم .
ثم إن هذا التفسير الذي ذكره لم يقل به أحد يعتمد على قوله من المفسرين .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP تعلقه بنفي عائشة رضي الله عنها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج؛ ليحتج على نفي الرؤية في الآخرة :
ثم يمضي السيابي في مغالطاته فيقول :
" كما أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها استدلت بقوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } على نفي رؤية النبي صلي الله عليه وسلم ربه في جوابها لمسروق في الحديث الذي رواه الربيع والبخاري ومسلم " .
ثم إنه أراد دفع الإجابة الصحيحة عن هذه المغالطة، فقال :
" فإن قيل : إن ذلك الاستدلال كان على نفيها في الدنيا لا في الآخرة .
فالجواب عن ذلك من وجهين :
الوجه الأول : أن صفات الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل، فهي في الأزل، وفيما لا يزال، إذ إن التغير من سمات الحدوث، وهو شأن المخلوقين .
الثاني : أن منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم في قاب قوسين أو أدنى يمكن أن تقاس على منزلته في الآخرة؛ لأن رحلة الإسراء والمعراج كانت نقلة من جو إلى جو آخر، ومن مقام إلى مقام آخر، فلو كانت رؤيته تعالى ممكنة وجائزة؛ لرأى الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج " .
- والجواب عن ذلك من وجوه :(150/193)
الوجه الأول : أن عائشة رضي الله عنها قطعا تريد من هذا النفي نفي رؤيته في الدنيا ولا تريد نفي ما ثبت بالأدلة القاطعة من رؤيته في الآخرة، وصانها الله عما نَسَبْتَه إليها من مخالفة كتاب الله وسنة نبيه، وقد ظننت بها سوءا، وحمَّلْتَها ما لم تقل، ولو كانت أرادت ما ذكرت – وحاشاها من ذلك -؛ لرد عليها الصحابة بالآيات والأحاديث المثبتة للرؤية في الآخرة، فهم أجلّ من أن يسكتوا على ما يخالف الكتاب والسنة، وأن يجاملوا أحدا في ذلك .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله :
" ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية " .
الوجه الثاني : أن نفي رؤية الله في الدنيا وإثباتها في الآخرة ليس تغيرا أو تبدلا في صفات الله؛ كما توهمت، وإنما هو تغير لصفات المخلوق؛ من كونه لا يقوى على رؤية الله في الدنيا؛ لضعف قواه وحواسه، ثم يقوى على ذلك في الآخرة؛ لما يمنحه الله من الاستعداد لذلك، وأحوال الآخرة غير أحوال الدنيا، فقياسك لحالة الدنيا على حالة الآخرة قياس مع الفارق، والقياس إذا كان مع الفارق؛ فهو قياس باطل بالإجماع .
الوجه الثالث : أن قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } ليس نفيا للرؤية، وإنما هي نفي للإدراك، وهو الإحاطة، فالأبصار تراه في الآخرة، ولا تحيط به سبحانه .
ولهذا استدل أهل السنة بهذه الآية على إثبات الرؤية؛ لأن نفي الإدراك يلزم منه وجود الرؤية، والإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم .
قال الإمام ابن كثير :(150/194)
" ونفي الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة . يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه تعالى وتقدس وتنزه؛ فلا تدركه الأبصار، ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } ، فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه؛ فإن ذلك غير ممكن للبشر ولا للملائكة ولا لشيء . . . " انتهى .
والمؤمنون وإن رأوا ربهم في الآخرة؛ فإنهم لا يدركون جلاله وعظمته إدراك إحاطة؛ كما إن من رأى القمر لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك، وله المثل الأعلى .
قيل لعكرمه : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } . قال : ألست ترى السماء ؟ قال : بلى .
قال : فكلها ترى ؟
الوجه الرابع : وأما قوله : " فلو كانت رؤيته تعالى ممكنه وجائزة؛ لرأى الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج " .
نقول : لا تلازم بين هذا وهذا، فلا يلزم من عدم رؤيته ليلة المعراج عدم رؤيته في الآخرة؛ لأن المعراج وقع في الدنيا قبل الموت، ورؤية المؤمنين له تقع في الآخرة بعد الموت، وحالة الدنيا غير حالة الآخرة كما سبق .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP رد ادعائه أن الأدلة دلت على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة :
قال السيابي :
" وهناك الكثير من الأدلة النقلية والعقلية على نفي رؤية الله تعالى دنيا وآخرة " .
- أقول : أما نفي رؤيته في الدنيا؛ فهو صحيح، فقد دلت عليه الأدلة .
وأما نفي رؤيته في الآخرة؛ فالأدلة تدل عليه في حق الكفار، أما المؤمنون؛ فالأدلة تدل على ثبوتها لهم، والواجب نفي ما نفاه الله وإثبات ما أثبته . . هذا هو سبيل المؤمنين .(150/195)
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP زعمه أن سؤال رؤية الله فكرة يهودية، والرد عليه :
ثم استمر السيابي في مغالطته وتضليله، فقال ما ملخصه :
" إن سؤال الرؤية قد صدر عن اليهود، حيث قالوا لموسى عليه السلام : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } ، وعن المشركين حيث قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا } ، وقد حذر الله عباده المؤمنين ونهاهم عن سؤال الرؤية، فقال : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } " .
قال : " فعلق سبحانه تعالى على سؤال الرؤية والطمع فيها استبدال الكفر بالإيمان الذي يتحتم عليه الضلال عن الطريق السوي، ألا وهو دين الله، وكفى بذلك تنفيرا للمؤمنين .
فإن قيل : امتناع وقوعها إنما هو في الدنيا؛ فالجواب قد تقدم بأن صفات الله لا تتغير؛ فهي هي في الأزل وفيما لا يزال .
فإن قيل : إن امتناعها عن اليهود والمشركين إنما هو لكفرهم؛ فالجواب أيضا أن الله لم يعدهم بها لو اهتدوا واستقاموا، وإنما وجه إليهم الزجر والتوبيخ، وأرسل على اليهود الصاعقة " .
- والجواب عن ذلك نقول :
ما أعظم تلبيس هذا الرجل، حيث جعل سؤال المؤمنين ربهم أن يمن عليهم برؤية وجهه الكريم يوم القيامة محبه له وشوقا إليه مثل سؤال اليهود والمشركين لأنبيائهم أن يروهم الله جهرة في الدنيا من باب التكبر والعناد .
هل هذا إلا عين المكابرة ؟ !
{ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } .
إن كلامه هذا باطل من عدة وجوه :(150/196)
الوجه الأول : أن المراد بالآية – كما قال المفسرون – النهي عن أسئلة التعنت التي كان يوجه مثلها اليهود إلى موسى، ومنها السؤال عن الأشياء قبل وقوعها .
ولم يكن المؤمنون يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم الله في الدنيا حتى يصح له حمل الآية عليه .
الوجه الثاني : أن طلب اليهود والمشركين رؤية الله في الدنيا هو من باب التحدي للرسل، وعدم الإيمان برسالتهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } ، { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا } ، والمطلوب منهم الإيمان بالغيب، وتصديق الرسل؛ لأنهم إذا رأوا الله تعالى في الدنيا لم يكن إيمانهم به إيمانا بالغيب، ولا تصديقا للرسل .
الوجه الثالث : أن سؤال رؤية الله تعالى في الآخرة والنظر إلى وجهه الكريم ليس من جنس سؤال اليهود والمشركين رؤيته في الدنيا، فالأول مشروع، وهذا ممنوع .
وقد سأل النبي صلي الله عليه وسلم في دعائه ربه النظر إلى وجهه الكريم؛ كما روى الإمام أحمد وابن حبان والحاكم في " صحيحيهما " أنه قال :
( اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق؛ أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك؛ من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ) .
فيكون الرسول على مقتضى قول السيابي قد طلب من الله ما لا يجوز له طلبه، واعتدى في دعائه كاعتداء اليهود والمشركين لما طلبوا أن يروا الله جهرة ! !
ما أعظم هذه الفرية !
نسأل الله العافية .
الوجه الرابع : أما قوله : " فإن قيل : إن امتناعها عن اليهود والمشركين إنما هو لكفرهم . . . فالجواب أيضا أن الله لم يعدهم بها لو اهتدوا واستقاموا " .
فعنه جوابان :(150/197)
الأول : أن امتناعها عنهم ليس لكفرهم فقط، بل ولأنها غير ممكنة لا لهم ولا لغيرهم .
الثاني : قوله : " أن الله لم يعدهم لو اهتدوا واستقاموا " قول باطل، وكذب على الله، فقد وعد الله من آمن به واهتدى أن يكرمه بالنظر إلى وجهه الكريم، ورؤيته يوم القيامة؛ كما دل على ذلك القرآن، والسنة المتواترة، وإجماع أهل الحق، ونفيها تكذيب لهذه النصوص، وإهدار لتلك الأدلة، وتعطيل لها .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP زعمه أن القول بعدم تخليد العصاة في النار فكرة يهودية، والرد عليه :
ثم انتقل السيابي إلى مسألة تخليد أهل الكبائر من المؤمنين في النار، فقال :
" إن الإباضية يقولون بخلود مرتكب الكبيرة في نار جهنم إذا مات ولم يتب، ولنظرهم الفاحص ولرؤيتهم العميقة بأن عقيدة خروج العصاة من النار أو وعدهم بمغفرة ذنوبهم من غير توبة وإقلاع عن ارتكاب المعاصي تترتب عليها مفاسد اجتماعية خطيرة، وعدم الالتزام بمنهج الإسلام وتعاليمه، وأي فائدة من إسلام مسلم وهو لا يمتثل أوامر الإسلام ولا ينتهي عن نواهيه ؟ !(150/198)
والإباضية يقولون بأن عذاب النار دركات؛ كما أن نعيم الجنة درجات، والمنشأ التاريخي لهذه الفتنة تبينه لنا الآيات الكريمة التالية : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } " .
قال : " لقد بينت الآية الكريمة السالفة الذكر أن أماني اليهود – أخزاهم الله تعالى – هي كانت المنشأ والمبدأ لفكرة التعلق بوعد الله للحصول على ثوابه وهم يرتكبون المعاصي : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } ، { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } .
وجاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم مؤكدا لهذا المعنى : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق -كذا يقول، والصواب : العاجز- من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) " .(150/199)
قال : " فهل يليق بالمسلم أن يعتقد عقيدة اليهود الباطلة التي أنكرها الله عليهم إنكارا شديدا، وشنع عليهم فيها، حيث اعتبرها ناشئة عن افترائهم وغرورهم ؟ ! " .
- انتهى كلامه، وقد نقلته بطوله؛ ليعلم الناظر فيه ما عند الرجل من الجهل والتخليط والتغليط ولبس الحق بالباطل، فيكون في ذلك عبرة لأولي الأبصار .
والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أنه جعل منشأ القول بعدم تخليد العصاة المؤمنين بالنار ناشئا عن مقالة اليهود، وهذا جحد لما في كتاب الله وسنة رسوله من الأدلة على هذه المسألة كما نبينه .
الوجه الثاني : أنه سوغ القول بتخليد مرتكب الكبيرة من المؤمنين في النار بأن هذا فيه دفع مفاسد اجتماعية، وحث على التزام منهج الإسلام وتعاليمه، وهذه التسويغ باطل؛ لأنه في مقابله النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على خروج مرتكب الكبيرة من النار إذا كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، وقد يعفو الله عنه، فلا يدخلها أصلا؛ قال تعالى :
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } الآية .
فأخبر أن كل هذه الأصناف الثلاثة تدخل الجنة، ومنهم الظالم لنفسه، وهو العاصي معصية دون الشرك .
وان كان دخول هذه الأصناف في الجنة يتفاوت .
وقال تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } .
فوعد بمغفرة ما دون الشرك من المعاصي لمن يشاء، وهذا يدخل فيه أصحاب الكبائر .(150/200)
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان . قال أبو ذر : وإن زنى وإن سرق ؟ ! وكررها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر ) .
وأما التنفير من المعاصي والتحذير منها؛ فهو مطلوب، لكنه لا يكون بجحود ما أنزل الله وبينه رسوله من سعة مغفرة الله وعفوه عن العصاة، وإخراج أصحاب الكبائر من النار، وإنما يكون بالوعظ، والتذكير، وتنفيذ الحدود الشرعية؛ برجم الزاني، أو جلده، وجلد الشارب والقاذف، وقطع يد السارق، وقتل القاتل قصاصا، وتفسيق أصحاب الكبائر، وإسقاط عدالتهم حتى يتوبوا، وتعزير أصحاب المعاصي التي لا حد فيها، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل . . . وغير ذلك .
ودخول النار -والعياذ بالله- ليس بالهين، ولو أخرج منها بعد ذلك؛ فإنه شديد وخطير، يحمل المسلم على الابتعاد عن المعاصي .
الوجه الثالث : مساواته بين قول أهل السنة بخروج عصاة الموحدين من النار وعدم الخلود فيها – كما تقتضيه نصوص الكتاب والسنة – وبين قول اليهود : { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } ، و { أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } ! ! وهذا باطل من وجهين :
الأول : أن اليهود كفار، والكافر مخلد في النار، وأما عصاة الموحدين؛ فهم مؤمنون ناقصو الإيمان وموحدون، ولا مساواة بين مشرك وموحد ومؤمن وكافر؛ قال تعالى :
{ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } .
والثاني : أن اليهود -لعنهم الله- ليس لهم حجة فيما قالوه، ولهذا قال سبحانه : { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
وأما عصاة الموحدين؛ فقد وردت الأدلة من الكتاب والسنة، وقامت الحجة لهم على عدم تخليدهم في النار، فأين هذا من ذاك ؟ !(150/201)
والذي يسوي بين مؤمن وكافر قد سوى بين ما فرق الله، وحاد الله في أمره .
الوجه الرابع : أنه لا حجة له في قوله تعالى : { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ لأن المراد بالخطيئة المحيطة خطيئة الكفر، لا مطلق الخطيئة؛ لأن الله قيدها بقوله : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } ، فدل على أن الخطيئة غير المحيطة - وهي ما دون الكفر - لا يخلد صاحبها في النار .
ففي الآية رد عليه .
وهكذا؛ لا يستدل مبطل بدليل من الشرع؛ إلا وفيه رد عليه، فسبحان العليم الحكيم الذي جعل كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
الوجه الخامس : أنه لا حجة له في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) ؛ لأن معناه الحث على العمل الصالح، والتحذير من الكسل، وليس فيه أن العاصي يخلد في النار .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP تحذيره من عقيدة أهل السنة ووصفها بالتجسيم والإرجاء :
ثم وقف السيابي موقف الناصح والمحذر للمسلمين من عقيدة أهل السنة، فقال :
" إن المسلمين في حرب دائمة ومستمرة مع أعداء الله اليهود، وعليهم أن يتخلصوا أولًا من عقائدهم الفاسدة؛ فإن تصحيح العقيدة عامل مهم من عوامل النصر " .
ثم بين العقيدة التي يحذر منها، حيث قال :
" ويحذروا عقيدة التجسيم والإرجاء " .(150/202)
- وهو يقصد بذلك عقيدة أهل السنة الذين يثبتون رؤية الله - عز وجل - ويسمى هذا تجسيمًا، ويقولون بعدم تخليد المؤمن العاصي في النار، يسمى هذا إرجاء . وهذا من جهله بمعنى الرجاء، وبمن قال به؛ فإن الإرجاء معناه تأخير الأعمال عن مسمى الإيمان، وليس هو عقيدة أهل السنة، وإنما هو عقيدة الجهمية، وهو القول بأن الإيمان مجرد المعرفة بالقلب، ولو لم يحصل عمل، أو أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط؛ كما يقوله الأشاعرة، أو هو التصديق بالقلب من النطق باللسان، وهذا الأخير قد يقول به بعض أهل السنة، وجمهورهم على خلافه، يقولون : إن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
وأما قول أهل السنة : إن مرتكب الكبيرة من المؤمنين لا يخلد في النار؛ فليس إرجاء – وإن سماه إرجاء - وكذلك رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة كما أثبتها الله في كتابه، وأثبتها رسوله - صلى الله عليه وسلم في سنته – وإن سماها تجسيمًا - فهو لا يغير من الحق شيئًا .
فأهل السنة لا يهمهم مثل هذه التشنيعات ما داموا على الحق، متمسكين بالكتاب والسنة، فما زال أهل الحق في كل زمان يلقبون بأشنع الألقاب، وهذا مما يرفع درجاتهم عند الله، { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا } [ فاطر : 43 ] .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP زعمه أن الحنابلة هم الذين اهتموا بإنكار القول بخلق القرآن تعصبًا لإمامهم :
ثم قال السيابي تحت عنوان خلق القرآن :
" إن الحنابلة يهتمون بهذه المسألة اهتمامًا بالغًا " .
وأرجع هذا الاهتمام عندهم إلى أنه مسألة عاطفة؛ لكون الإمام أحمد عذب عليها؛ قال :(150/203)
" ومن الخطأ أن تكون العاطفة مقياس الخطأ والصواب، وربما عاب الحنابلة على بعض المذاهب عاطفتهم وتقديسهم للأشخاص، ولكنهم وقعوا في أنفسهم فيما عابوا به الآخرين " .
- وجوابنا على ذلك أن نقول : إن الذين أنكروا القول بخلق القرآن ليسوا هم الحنابلة فقط، بل جميع أهل السنة؛ من المحدثين، وفقهاء المذاهب الأربعة، وغيرهم، غيرة لكتاب ربهم - عز وجل - ومؤلفاتهم في ذلك كثيرة مشهورة .
قال الإمام الطحاوي الحنفي - رحمه الله - في " عقيدته " ما نصه :
" وإن القرآن كلام الله؛ منه بدأ بلا كيفية قولًا، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة؛ ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه زعم أنه كلام البشر؛ فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى : { إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ } [ المدثر : 25 ] ؛ علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر " انتهى .
وهذه العقيدة متلقاة بالقبول عند جميع أهل السنة .
قال السبكي الشافعي :
" جمهور المذاهب الأربعة على الحق يقرون عقيدة الطحاوي التي تلقاها العلماء بالقبول " .
وقال شارحها ابن أبي العز الحنفي على هذه الجملة التي نقلناها :
" هذه قاعدة شريفة، وأصل كبير من أصول الدين، ضل فيه طوائف كثيرة من الناس، وهذا الذي حكاه الطحاوى - رحمه الله - هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرها، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تتغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة " .
وقال الإمام محمد بن جرير الطبري إمام المفسرين - رحمه الله - في عقيدته المشهورة :(150/204)
" وإن ما نبدأ القول به من ذلك عندنا أن القرآن كلام الله وتنزيله، إذا كان من معاني توحيده، فالصواب من القول في ذلك عندنا أنه كلام الله؛ غير مخلوق، كيف كتب، وحيث تلى، وفي أي موضع قرئ، في السماء وجد وفي الأرض حفظ، في اللوح المحفوظ أو في القلب حفظ، وباللسان لفظ، فمن قال غير ذلك أو ادعى أن قرآنًا في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا، أو اعتقد ذلك بقلبه، أو أضمره في نفسه، أو قاله بلسانه داينًا؛ فهو بالله كافر، حلال الدم والمال، بريء من الله، والله منه بريء " انتهى .
وقال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن خزيمة - رحمه الله - في كتاب " التوحيد " :
" باب : ذكر البيان من كتاب ربنا المنزل على نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومن سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على الفرق بين كلام الله - عز وجل - الذي به يكون خلقه، وبين خلقه الذي يكون بكلامه وقوله، والدليل على نبذ قول الجهمية الذين يزعمون أن كلام الله مخلوق جل ربنا وعز عن ذلك " . . .
ثم ساق الأدلة، وقال أيضًا :
" باب : من الأدلة التي تدل على القرآن كلام الله الخالق، وقوله غير مخلوق، لا كما زعمت الكفرة من الجهمية المعطلة " انتهى .
وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب " الإبانة " :
" ومن قال : ( إن القرآن غير مخلوق، وإن من قال بخلقه كافر ) من العلماء وحملة الآثار ونقلة الأخبار لا يحصون كثرة؛ منهم : الحمادان، والثوري، وعبد العزيز بن أبي سلمة، ومالك بن أنس، والشافعي وأصحابه، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وهشام، وعيسى بن يونس، وحفص بن غياث، وسعد بن عامر، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو بكر بن عياش، ووكيع، وأبو عاصم النبيل، ويعلى بن عبيد، ومحمد بن يوسف، وبشر بن المفضل، وعبد الله بن داود، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ويزيد بن هارون . . . وغيرهم .(150/205)
ولو تتبعنا ذكر من يقول بذلك؛ لطال الكلام بذكرهم، وفيما ذكرنا من ذلك مقنع، والحمد لله رب العالمين .
ولو احتججنا لصحة قولنا : " إن القرآن غير مخلوق " من كتاب الله - عز وجل - وما تضمنه من القرآن، وأوضحه من البيان .
ولم نجد أحدًا ممن تحمل عنه الآثار، وتنقل عنه الأخبار، ويأتم به المؤتمون من أهل العلم يقول بخلق القرآن، وإنما قال ذلك رعاع الناس، وجهال من جهالهم، لا موقع لقولهم " انتهى .
فهل هؤلاء حنابلة حملتهم العاطفة كما يقول السيابي لإمامهم، أو أنهم قالوا ذلك غيرة على كتاب ربهم من أقوال الزنادقة والمبتدعة ؟ !
وقوله : " فالقضية هي قضية عاطفية نفسية، ليست إلا " .
نقول : هذا اتهام لعلماء المسلمين بأنهم يغارون للأشخاص، ولا يغارون لكتاب الله .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=7 - TOP#TOP ذكر مقابلتهم للشيخ ابن باز وما جرى فيها، والرد عليه :
ثم ختم السيابي حديثه الممل بذكر مقابلة شيخه الخليلي مفتي عمان بالشيخ عبد العزيز بن باز، وما جرى بينهما من المناقشة حول هذه المسائل، وقال : " إن الشيخ ابن باز جعل يسب، فضلل وكفر، وعبس وبسر، ولما دعاه الخليلي إلى المباهلة؛ احرنجم وتلوى " .
- والجواب عن ذلك أن نقول : مهما وصفت الشيخ عبد العزيز بن باز بصفات السوء؛ فإن الناس يعرفونه، ويعرفون أخلاقه الكريمة، وعلمه الغزير، وأنه لا يعجز - بحول الله - أن يفحم شيخك وغيره بكلمة الحق، ولا سيما في هذه المسائل التي يعرف الحكم فيها طلاب المدارس عندنا .
وقد بين الشيخ عبد العزيز السبب منعه من المناظرة، وهو أنه كره المناظرة المعلنة التي تضر بعض الناس، وتدخل عليهم بعض الشكوك؛ لأنه والحمد لله في مجتمع سالم من هذه الأفكار المنحرفة، فلا يريد أن يفتح على الناس باب شر هم في سلامة وعافية منه . وهذا غاية الحكمة .(150/206)
وإذا كان باستطاعة السيابي وشيخه الخليلي أن يجيبا عما كتبه علماء أهل السنة في هذه المسألة : مسألة ثبوت الرؤية، ومسألة عدم تخليد عصاة المؤمنين في النار، ومسألة بطلان القول بخلق القرآن . . . وغيرها من المسائل التي خالف فيها الإباضية أهل السنة والجماعة؛ إذا كان باستطاعة المذكورين أن يجيبا عما كتب في ذلك من مؤلفات مستقلة – وهي بالمئات والحمد لله - وعما في كتب عقائد أهل السنة التي تدرس في المساجد والجامعات وغيرها؛ فالمجال أمامهما مفتوح .
ولكن أنى لهما ذلك ودونه خرط القتاد، والعلماء لهم بالمرصاد ؟ !
وخير لهما الرجوع إلى الصواب، يدل اللجاج والمنازعة اللتين لا طائل تحتهما . . . والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد
نزهوا الصحافة عن نشر مثل هذه الترهات الباطلة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
وبعد :
لقد قرأت في " جريدة الندوة " (1) عنوانًا بالحرف الكبير هو : (2) ! ! فلفت نظري هذا العنوان العجيب الغريب، الذي يتضمن ادعاء علم الغيب الذي اختص الله به، ولم يطلع عليه ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلًا، وهو وقت قيام الساعة؛ هل اطلعت عليه " جريدة الندوة " حين كتبت هذا العنوان .
ثم قرأت ما تحت العنوان، فإذا هو أرشد وأدهى، وهو بالحرف الواحد :
" ليما – صرخ يوم الثلاثاء حوستافو استريماد ويرو، رئيس مؤسسة علماء الفلك في بيرو، بأن نيزك ( كذا ) بقطر ألف كم سيصطدم بالأرض عام ( 2115م ) .
وقال عالم الفلك : إن اصطدام هذا الجسم الفضائي الهائل المكون من معادن منصهرة قد يؤدي إلى فناء الحياة على الأرض، وإلى حدوث كوارث مماثلة لتلك التي نجم عنها انقراض الحيوانات الزاحفة الضخمة فيما قبل التاريخ، واختفاء قارة أتلانتيس .
وقد أطلق على النيزك المذكور اسم ( 1983 تي في ) ، وهو أكبر من النيزك ( سيريس ) أكبر نيزك معروف حتى الآن .(150/207)
وقال استريماد ويرو : إن هناك عالم فلك سوفيتيًا، هو السكندر فويتشسلجوفسكي يتابع كل ليلة مسار النيزك؛ إلا أنه يتوقع أن الارتطام بعد ( 128 ) سنة .
وقال عالم الفلك : إن الفرصة ما زالت سانحة لتوحيد الجهود من أجل القضاء على النيزك، ربما باستخدام مجسمات خاصة مجهزة بقنابل نووية " .
انتهى ما ذكرته الجريدة، وقد نشرته " جريدة المدينة " في عددها ( 7418 – الصادر يوم الخميس تاريخ 26/12/ 1407هـ ) تحت عنوان : ( كذب المنجمون ) .
ولم يرد في الجريدتين بعد سياق الخبر أي تعليق عليه بما يبطله، بل اكتفت " جريدة المدينة " بتكذيبه في العنوان فقط !
وأما " جريدة الندوة " فساقته مساق المسلم به ! !
ولا يخفى ما في هذا من خطر على العقيدة، وتغرير بالقراء وترويج بالباطل، نرجوا أن تنزه صحافتنا عن مثله .
ثم إن ما جاء في العنوان : " نهاية العالم . . . " إلخ يتضمن الإنكار لعالم الآخرة .
وما جاء في مضمون الخبر من ذكر تصادم هذه الأجرام وفناء العالم ويقتضي عدم الإيمان بأن الله { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرض أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } [ فاطر : 41 ] .
وتحديد نهاية العالم بعام ( 2115م ) معناه ادعاء العلم بوقت قيام الساعة، والله تعالى يقول : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } [ لقمان : 34 ] ، { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] ، { إليهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ } [ فصلت : 47 ] . . . إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على انفراد الله بعلم ذلك .
ونرجو أن لا يتكرر نشر مثل هذه الأباطيل في صحفنا وفي مجتمعنا . والله الموفق .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .(150/208)
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=8 - TOP#TOP تعقيب على ما كتبه المستشار سالم البهنساوي في موضوع العقيدة السلفية ودعوة الشيخ حسن البنا
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
وبعد :
فقد اطلعت في " مجلة المجتمع " ( في عددها 609 – بتاريخ 9/5/1403هـ ) على مقال بعنوان : ( سلفية حسن البنا في ذكرى استشهاده ) بقلم المستشار سالم البهنساوي .
وحاصل هذا المقال هو الدفاع عن حسن البنا، ومحاولة إثبات أنه سلفي العقيدة في موضوع صفات الله عز وجل، والرد على الذين أدانوه بموجب ما نقلوه من كلامه .
ونحن لا نحب أن نتعرض للشيخ حسن البنا، لأنه أفضى إلى ربه، ونرجو له المغفرة والرحمة، ولكننا نريد أن نناقش صاحب المقال فيما خلط وغلط فيه من النقولات، وفيما نسبه إلى بعض الأئمة نسبة خاطئة، قاصدين بذلك بيان الحق وإزالة اللبس .
ونسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق .
وإليك بيان ما جاء في مقاله مع مناقشته :
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=8 - TOP#TOP أولا :
يحاول أن يسوغ ما قاله حسن البنا من أن آيات الصفات من المتشابه، ويقول :
" إن جمهورا من الفقهاء قد قالوا : إن آيات الصفات من المتشابه، ولم يقل أحد من أهل السن’ بفساد عقيدتهم " .
قال : " وقد نُقِل هذا عن أحمد بن حنبل، والسيوطي، وابن كثير، والشاطبي، والجصاص . . . " الخ .
والجواب : أن نقول :
1- أما كون بعض الفقهاء وليس جمهورهم ( كما يقول ) ظنوا أن آيات الصفات من المتشابه؛ فهو شيء حاصل، لكن هو ظن فاسد، مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة، واعتقاد أهل السنة والجماعة من أن آيات الصفات من المحكم لا من المتشابه، وقد ضلوا بهذا الظن الباطل .
2- وأما قوله : " إن أهل السنة لم يقولوا بفساد عقيدتهم " ؛ فهو خلاف الواقع؛ فإن أهل السنة بينوا بطلان قول هؤلاء، وردوا عليهم إما تصريحا وإما ضمنا .(150/209)
من ذلك -على سبيل المثال- ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيميه في رسائله، وما كتبه ابن القيم في " اجتماع الجيوش الإسلامية " و " الصواعق المرسلة " و " القصيدة النونية " ، وصاحب " العقيدة الطحاوية " ، وشارحها . . . وغير ذلك من كتب أهل السنة والجماعة .
3- وأما نسبته هذا القول إلى الإمام أحمد وابن كثير وأنهما من جملة من يقول بأن آيات الصفات من المتشابه؛ فهي نسبة كاذبة وفرية خاطئة؛ لأن هذين الإمامين في طليعة من يثبت الصفات على حقيقتها، ويؤمن بما دلت عليه الآيات الواردة فيها، وأنها من المحكم الذي يعلم معناه ويفسر، لا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله .
وإليك ما قاله الأئمة في ذلك :
أ- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب " العقل والنقل " ( 1/204 ) :
" وأما على قول أكابرهم : إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمها إلا الله، وأن معناها الذي أراده الله بها فهو ما يوجب صرفها عن ظواهرها؛ فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ؛ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه . . . " .
إلى أن قال : " ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذا كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا؛ فأشرف ما فيه –وهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقا لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمرا ونهيا ووعدا وتوعدا، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر– لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين " انتهى .(150/210)
وقال رحمه الله في الرسالة المسماه ب- " الإكليل في المتشابه والتأويل " :
" وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله؛ فنقول : ما الدليل على ذلك؛ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأئمة ولا من الأئمة لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعل أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت ونهوا عن تأويلات الجهمية، وردوها، وأبطلوها، التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه، ونصوص أحمد والأئمة قبله بيِّنة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها . . . " .
إلى أن قال رحمه الله : " فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه، وأن لا يسكت عن بيانه وتفسيره، بل يبين ويفسر باتفاق الأئمة؛ من غير تحريف له عن مواضعه، أو إلحاد في أسماء الله وآياته " انتهى باختصار .
هذا ما حكاه شيخ الإسلام عن الأئمة أنهم لا يجعلون نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يفهم معناه ويجب تفويضه، بل كانوا يعلمون معاني الصفات، ويفسرونها، وإنما يفوضون كيفيتها إلى الله تعالى . وهذا الإمام مالك وغيره من الأئمة يقولون : " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " . والنقولات عن الإمام أحمد في مثل هذا كثيرة معلومة في كتب أهل السنة .
ب- وإليك ما قاله ابن كثير الذي عده البهنساوي من جملة القائلين بأن آيات الصفات من المتشابه؛ قال في " تفسيره " ( 1/220 ) ما نصه :(150/211)
" وأما قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ؛ فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح : مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت؛ من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله؛ فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه وليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، بل الأمر كما قال الأئمة؛ منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري؛ قال : من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلاله، ونفى عن الله تعالى النقائص؛ فقد سلك سبيل الهدى " . انتهى كلامه رحمه الله .
وقوله : " إمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل " ؛ يريد به الرد على المعطلة والمشبهة . فقوله : " إمرارها كما جاءت " : ردا على المعطلة الذين يحرفونها عما دلت عليه من المعاني الحقيقية إلى معان باطلة . وقوله : " من غير تكييف " : ردا على الممثلة الذين يشبهون الله بخلقه والله أعلم .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=8 - TOP#TOP ثانيًا :
خلط البهنساوي في معنى التفويض، حيث قال :
" إن معناه في اللغة العربية عدم التأويل والتعطيل، وترك الأمر إلى الله تعالى " .(150/212)
- فتفسيره التفويض بأنه ترك التأويل والتعطيل تفسير ناقص؛ لأن معناه الحقيقي هو عدم التعرض لتفسير النصوص وبيان معناه الحقيقي، لا أنه ترك التأويل والتعطيل فقط . فالسلف ومن سار على نهجهم يفسرون آيات الصفات، ويبينون معناها، ويردون التأويل والتعطيل، ولا يكونون بهذا مفوضين؛ لأن المفوض هو الذي يجحد معناها الذي تدل عليه، ويظن أن لها معنى لا يعلمه إلا الله، وهذا مذهب باطل لا تجوز نسبته إلى السلف كما توهمه الكاتب حين قال :
" والشيخ حسن البنا عندما أشار إلى التفويض؛ قال : إنه عقيدة السلف " .
فقد أخطأ حسن البنا وأخطأ الكاتب في نسبته هذا المذهب الباطل إلى السلف .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رد هذه النسبة الباطلة في " مجموع الفتاوى " ( 5/9 ) ما نصه :
" فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف إنما أوتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث؛ من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } ، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات " انتهى .
ثم من عدم تأمل البهنساوي وتناقضه العجيب أن يحاول التفريق بين التفويض وأهل التفويض، فيقول :
" إن التفويض في اللغة عدم التأويل والتعطيل، وترك الأمر إلى الله " . وأما أهل التفويض عنده :
" فهم فئة معلومة تعارفوا على تأويل آيات الصفات، وهؤلاء يخالفون السلف " .
وقد تناقض في هذا مع نفسه، حيث قال في الأول : " إن التفويض معناه ترك التأويل " ، وقال في الآخر : " إن أهل التفويض فئة تعارفوا على تأويل الصفات " .
فكيف يكون هؤلاء أهل تفويض وهم متعارفون على تأويل الصفات، وأنت تقول : إن التفويض هو ترك التأويل ؟ ! كيف يكون التأويل تفويضًا وتركه تفويضا ؟ !(150/213)
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=8 - TOP#TOP ثالثاً :
نقل البهنساوي عبارة الشيخ حسن البنا في موضوع التوسل حيث قال :
" والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة " .
ثم نقل قول المعترضين على هذه العبارة، حيث قالوا بأنها توقع في الشرك الصريح، ثم قال : " ليس صحيح أن كلام الشيخ حسن البنا عن التوسل يؤدي إلى الشرك الصريح، وأن من أثبت وسائط بين الله وخلقه فهو مشرك يقتل ردة كما يقولون " .
- والجواب عن ذلك :
1- قول الشيخ حسن البنا بأن التوسل إلى الله بأحد خلقه خلاف فرعي وليس من مسائل العقيدة قول ظاهر البطلان؛ لأن الدعاء من صميم العقيدة، بل هو أعظم أنواع العبادة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء هو العبادة ) , قد سماه الله دينًا، وأمر بإخلاصه له؛ كما قال تعالى : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } . وسماه عبادة في قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } .
وكيفية الدعاء لا خلاف فيها بين أهل العلم، وهى أن ندعو الله سبحانه مباشرة؛ من غير واسطة أحد، فالله قال : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ولم يقل : ادعوني بواسطة أحد من خلقي .
فالتوسل بذات المخلوق أو بحقه أو بجاهه هو إقسام على الله عز وجل بأحد خلقه، وهو مبتدع محدث، وهو بالتالي وسيلة إلى الشرك بتلك الواسطة كما فعل المشركون الأولون الذين قال الله فيهم : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } . وقال تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } .(150/214)
ففي البداية يسألون الله بحقهم وبجاههم، ثم ينتهي بهم الأمر إلى أن يتقربوا إليهم بأنواع العبادة، ويطلبوا منهم المدد والشفاعة؛ كحال عباد القبور اليوم .
2- قول البهنساوي : " ليس صحيحًا أن كلام الشيخ حسن البنا عن التوسل يؤدى إلى الشرك الصريح، وأن من أثبت وسائط بين الله وخلقه؛ فهو مشرك يقتل ردة " .
نقول : هذا مغالطة وجحود للواقع، والتوسل بالمخلوق أدى إلى الشرك بالمتوسل به، وما يفعل عند قبور الأولياء اليوم -أو من يُظَنُّ أنهم أولياء- أكبر شاهد على ذلك، ومن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه في قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإجابة الدعوات؛ فهو مشرك يقتل ردة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " ( 1/124 ) :
" فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار؛ مثل أن يسألهم : غفران الذنب، هداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات؛ فهو كافر بإجماع المسلمين . . . " .
إلى أن قال ( 1/146 ) : " وإن أثبتهم وسائط بين الله وبين خلقه؛ كالحجاب الذي بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدي خلقه ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه؛ فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب؛ وإلا قتل، وهؤلاء مشبهون، شبهوا المخلوق بالخلق، وجعلوا لله أندادا، وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لم تتسع له هذه الفتوى " انتهى .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=8 - TOP#TOP رابعًا :
نسب البهنساوي لبعض الأئمة أنهم يجوزون التوسل بالأنبياء، حيث قال :(150/215)
" قال جمهور من الفقهاء إنه يجوز التوسل بالأنبياء والصالحين حال حياتهم وبعد مماتهم؛ قاله مالك والسبكي والكرماني والنووي والقسطلاني والسمهودي وابن الحاج وابن الجزري . فقد روي أن مالك رحمه الله سأله أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس، فقال : يا أبا عبد الله : أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو أم استقبل القبلة وأدعو ؟ فقال له مالك : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، بل استقبل واستشفع به؛ فيشفعه الله " انتهى كلامه .
- ونقول أولا : اما التوسل بالأحياء : إن كان المراد به التوسل بدعائه؛ فهو جائز، وإن كان المراد به التوسل بذواتهم أو بحقهم أو جاههم؛ فهو غير جائز، وقد بيناه فيما سبق .
وأما التوسل بالأموات؛ فلا يجوز بحال من الأحوال، وقد عدل عمر بن الخطاب والصحابة معه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى التوسل بدعاء عمه العباس رضي الله عنه في قصة الاستسقاء، وما فعلوا ذلك إلا لعلمهم أن التوسل بالميت لا يجوز .
ونقول ثانيا : ما نسبته إلى الإمام مالك من إجازة التوسل اعتمادا على القصة التي ذكرتها له مع المنصور؛ فهو باطل من أساسه؛ لأن الحكاية المذكورة مكذوبة على مالك، ومالك وغيره من الأئمة يرون أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو لنفسه؛ فإنه يستقبل القبلة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " ( 1/353 ) :
" والحكاية التي تذكر عن مالك أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة، فأمره بذلك، وقال : " هو وسيلتك ووسيلة آبيك آدم " : كذب على مالك، ليس له إسناد معروف، فهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات من كتب أصحابه " انتهى .(150/216)
أما بقية الذين نسبت إليهم القول بجواز التوسل بالصالحين بعد موتهم؛ فإن صح ذلك عنهم؛ فقد أخطئوا وخالفوا الأدلة وحينئذ لا عبرة بقولهم، وإن العبرة بقول من يوافق الدليل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 1/318 ) :
" فأما المتوسل بذاته ( أي : النبي صلى الله عليه وسلم ) في حضوره أو مغيبه أو بعد موته -مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم-؛ فليس هذا مشهورا عند الصحابة والتابعين، بل عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان ومن بحضرتهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا؛ استسقوا وتوسلوا واستشفعوا بمن كان حيا؛ كالعباس، وكيزيد بن الأسود، ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا في هذه الحال بالنبي صلى الله عليه وسلم لا عند قبره، بل عدلوا إلى البدل؛ كالعباس، وكيزيد، بل كانوا يصلون عليه في دعائهم، وقد قال عمر :
" اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا؛ فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا؛ فاسقنا " . فجعلوا هذا بدلا عن ذلك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه، وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به ويقولوا في دعائهم في الصحراء بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به، فيقولون : نسألك أو نقسم عليك بنبيك أو بجاه نبيك ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس " انتهى .(150/217)
والحاصل أن التوسل المشروع هو التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته كما قال تعالى : { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } ، وكذا التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة؛ كما في قوله تعالى : { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } الآية، وكما في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، ففرج عنهم، وكذا التوسل بدعاء الصالحين الأحياء، كما توسل الصحابة بدعاء العباس ويزيد بن الأسود في الاستسقاء .
أما التوسل بالأموات والغائبين؛ فإنه ممنوع غير مشروع، ومن أجازه مردود عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في آمرنا ما ليس فيه فهو رد ) .
والله اعلم .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=8 - TOP#TOP خامسًا :
نقل البهنساوي مقاطع من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من فتاويه متفرقة في موضوع التوسل، واستنتج منها أن الشيخ لا يقول بكفر المتوسل إلى الله بالأشخاص، بل نسب إليه أنه يقول بجواز التوسل، ولم ينقل هذه النقولات أيضا بأمانة، بل نقلها ناقصة مبتورة، وهذا مما يتنافى مع أمانة العلم، وإليك بيان ذلك :
1- قال : " والإمام ابن تيمية لا يقول بكفر من توسل بالدعاء، مع إنكاره لأكثره، فقد قال : ( يقول بعضهم إذا كانت لك حاجة استوص الشيخ فلانا؛ فإنك تجده، أو توجه إلى ضريحه خطوات وناده؛ يقض حاجتك، وهذا غلط لا يحل فعله ) . ويقول : ( والعجب من ذي عقل سليم يستوصي من هو ميت؛ يستغيث به ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت، ويقوي الوهم عنده أنه لولا استغاثته بالشيخ الميت؛ لما قضيت حاجته، فهذا حرام فعله ) " .(150/218)
هكذا ساق البهنساوي هذا النقل عن الشيخ ليستشهد به على أنه لا يقول بكفر المتوسل في الدعاء، ولعله أخذ هذا من قول الشيخ : " وهذا غلط لا يحل فعله " ، ومن قوله : " فهذا حرام فعله " .
وتعقيبنا على هذا من وجهين :
الوجه الأول : أن كلام الشيخ هذا في حق المستغيث بالأموات، وليس هو في التوسل في الدعاء كما ظن البهنساوي، والاستغاثة بالأموات شرك أكبر، وكفر بالله عز وجل؛ لأن الاستغاثة نوع من العبادة، وصرفها لغير الله شرك أكبر عند الشيخ وغيره .
الوجه الثاني : أن الشيخ ذكر هذا الكلام تمثيلا لما فعله المشركون، وهو تابع لكلام سابق عليه قطعه البهنساوي وأخذ ما يراه صالحا له فقط، ونحن نسوق كلام الشيخ بكامله حتى يتضح المقصود :
قال رحمه الله :
" والأسباب التي يفعلها العباد مما أمر الله به وأباحه؛ فهذا يسلك، وأما ما ينهى عنه نهيًا خالصا، أو كان من البدع التي لم يأذن الله بها؛ فهذا لا يسلك؛ قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } . بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم، المبيِّن أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ثم بين أنه لا شركة لهم، ثم بين أنه لا عون له ولا ظهير لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق؛ كما يقول بعضهم : إذا كانت لك حاجة استوص الشيخ فلاناً . . . " الخ الكلام الذي نقله البهنساوى .(150/219)
ثم قال الشيخ : " وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يرى صورة المدعو أحيانا؛ فذلك شيطان تمثل له، ونظير هذا قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عدي وغيره : كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده، والعجب من ذي عقل سليم يستوصي . . . " إلى آخر ما نقله البهنساوي . وبسياق كلام الشيخ بتمامه اتضح مقصده، وأنه في موضوع الشرك الأكبر لا في موضوع التوسل في الدعاء .
2- قال البهنساوي : " وعن التوسل بمخلوق إلى الله تعالى قال ابن تيمية : ( ولو قال قائل لمن يستغيث به : أسألك بفلان أو بحق فلان؛ لم يقل أحد : إنه استغاث بما توسل به، بل إنما استغاث بمن دعاه وسأله ) " .
ثم علق البهنساوي بقوله : " والمعنى أنه يكون قد استغاث بالله وليس المخلوق الذي توسل به إلى الله؛ لهذا قال : لا وجه لتكفير من قال بالتوسل سالف الذكر لأنها مسألة خفية، وأدلتها ليست جلية وظاهرة . ولكن ابن تيمية يرى أن هذا النوع من التوسل جائز إن كان توسلا بالأنبياء وغير جائز لمن عداهم " انتهى .
وهذا النقل كسابقه، أورده البهنساوي في غير موضعه، ولم يورده بكامله حتى يعرف مراد الشيخ منه، وذلك أن هذا الكلام ذكره الشيخ في سياق جواب عن سؤال حاصله : هل الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوسل إلى الله به شيء واحد أو بينهما فرق ؟ وأول الجواب هو بهذا النص :(150/220)
" الحمد لله رب العالمين، لم يقل أحد من علماء المسلمين إنه يستغاث بشيء من المخلوقات في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى، لا بالنبي ولا بملك، ولا بصالح، ولا غير ذلك، بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاقه، ولم يقل أحد : إن التوسل بنبي هو استغاثة به بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور،؛ كقول أحدهم : أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم أو الكعبة، أو غير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم؛ يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور؛ فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه شيئا ولا يسأل، وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به . . . " .
إلى أن قال : " ولو قال قائل لمن يستغيث به : أسألك بفلان أو بحق فلان . . . " إلى آخر ما نقله البهنساوي .
فاتضح أن مراد الشيخ بيان الفرق بين التوسل والاستغاثة؛ ردًا على من سوى بينهما، وليس مراده أن التوسل بالمخلوق جائز كما توهمه البهنساوي، ونسبه إلى الشيخ بقوله : " ولكن ابن تيمية يرى أن هذا النوع من التوسل جائز إن كان توسلًا بالأنبياء وغير جائز لمن عداهم " .
وإليك ما قاله الشيخ في هذا الموضوع من " مجموع الفتاوى " ( 1/318 ) :
قال رحمه الله :
" وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به في حياته بحضرته؛ كما ثبت في " صحيح البخاري " عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا أقحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال :
" اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " .
والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكره عمر بن الخطاب قد جاء مفسرا في سائر أحاديث الاستسقاء وهو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة . . . . " .
إلى أن قال :(150/221)
" لكن هذا الاستسقاء والاستشفاع والتوسل به وبغيره كان يكون في حياته؛ بمعنى أنهم يطلبون منه الدعاء، فيدعو لهم، فكان توسلهم بدعائه، والاستشفاع به : طلب شفاعته، والشفاعة دعاء فأما التوسل بذاته في حضوره أو مغيبه أو بعد موته؛ مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم؛ فليس هذا مشهورا عند الصحابة والتابعين . . . " .
إلى أن قال :
" وأما بعد موته؛ فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء، لا عند قبره، ولا عند غير قبره؛ كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين؛ يسأل أحدهم الميت حاجته " .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=8 - TOP#TOP سادسًا :
يسوغ البهنساوي إدخال التصوف في منهج الإخوان المسلمين؛ تبعًا لما قاله الشيخ حسن البنا، حيث قال :
" إن منهج الإخوان المسلمين دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية " .
ويرد على الذين انتقدوا التصوف وقالوا إنه : داء عضال وسم قاتل، يجب على المسلم أن يغيره بيده، أما تمجيده وأن ندعو إلى إقامة ديننا عليه؛ فلا يقبله مسلم .
يرد البهنساوي هذا الانتقاد بأن مراد حسن البنا هو التصوف الذي يتفق مع تصوف إبراهيم بن أدهم، وليس مراده بالتصوف التصوف المذموم، ثم ينقل قطعة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان آراء الناس في الصوفية، وأن الصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله . . . . إلى آخر ما نقله .
وتعقيبنا على ذلك أن نقول : نحن مع الذين انتقدوا حسن البنا في إدخاله الفكر الصوفي في منهج الإخوان المسلمين، وخلطه له مع الدعوة السلفية والطريقة السنية؛ لأن ذلك جمع بين المتضادات، خصوصا بالنظر إلى ما آل إليه التصوف من انحراف عن الدعوة السلفية والطريقة السنية .
ومن ناحية أخرى؛ ففي الطريقة السنية غنى عن الطريقة الصوفية .(150/222)
وأيضاً؛ التصوف المعروف الآن هو التصوف المنحرف، والشيخ حسن البنا حينما قال ذلك؛ فهو لا يعيش في زمن إبراهيم بن أدهم والجنيد والفضيل، وإنما يعيش في زمن الصوفية المنحرفين، والتصوف الموجود الآن في جميع العالم الإسلامي غالبه ليس هو تصوف ابن أدهم وأقرانه .
ومعلوم أننا إذا فتحنا الباب لهذا اللون، وأدخلناه في منهجنا؛ فإنه سيتمشى مع التصوف المعاصر، شئنا أم أبينا، وإذا كان أوائل الصوفية لم ينحرفوا عن منهج الكتاب والسنة كما قال البهنساوي؛ فهذا لا يسوغ الدعوة إلى الطريقة بعد معرفتنا لما آلت إليه من انحراف وشذوذ .
وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن أوائل الصوفية لا يؤخذ منه مدح الطريقة الصوفية والدعوة إليها، ولا ينسحب على كل الصوفية، حتى يستغل هذا الاستغلال السيئ، والشيخ تقي الدين عقب كلامه هذا الذي نقله عنه البهنساوي بقوله :
" فهذا أصل التصوف، ثم إنه بعد ذلك تشعب وتنوع " انتهى .
هذا ما أردنا التعقيب به على كلمة المستشار سالم البهنساوي لأجل بيان الحق، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=8 - TOP#TOP تعقيب وبيان (3)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وآله وصحبه .
وبعد :
فقد اطلعت في " مجلة الدعوة " ( العدد 925 – الصادر في يوم الاثنين 13 ربيع الآخر 1404هـ ) على مقال لفضيلة الشيخ سالم البهنساوي يعقب به على مناقشتي له في موضوع الصفات، والتي سبق نشرها في " مجلة الدعوة " ( في العددين 916 و917 ) ، ووجدت تعقيب فضيلته يتكون من جزئين :
الجزء الأول : يتعلق بكتاب " الجماعات الإسلامية " وما ذُكِر فيه عن الشيخ حسن البنا، وهذا لا شأن لي به .
والجزء الثاني : يتعلق بمناقشتي له، وهذا ما سأعلق عليه على النحو التالي :(150/223)
1- لا يزال فضيلته مصرا على أن التفويض في الصفات معناه ترك تأويلها وتعطيلها فقط .
- وقد بيَّنا أن هذا خطأ، وأن تفويض نصوص الصفات هو جحد ما تدل عليه من المعاني الحقيقية، وتفويض تفسيرها وبيان المراد منها إلى الله تعالى؛ كما نقله فضيلته عن السيوطي أنه قال : " ومن المتشابه آيات الصفات؛ نحو : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } ، وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد إلى الله تعالى، ولا نفسرها، مع تنزيهنا له عن حقيقتها " .
فهذه الجملة التي نقلها هو عن السيوطي تحدد معنى التفويض، لكن السيوطي أخطأ في نسبة هذا المذهب إلى السلف وأهل السنة والحديث؛ لأن هذا مذهب بعض الخلف، أما السلف؛ فكما نقل فضيلته أيضا عن شيخ الإسلام ابن تيمية من قوله : " ما أخبر به الرب عن نفسه؛ مثل استوائه على عرشه، وسمعه، وبصره، وكلامه، وغير ذلك؛ فإن كيفيات ذلك لا يعلمها إلا الله؛ كما قال ربيعة بن عبد الرحمن، ومالك بن أنس، وسائر أهل العلم، وكذلك سائر السلف؛ كابن الماجشون، وأحمد بن حنبل، وغيرهما يبينون أن العباد لا يعلمون كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، فالكيف هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وأما نفس المعنى الذي بينه الله؛ فيعلمه الناس، كل على قدر فهمه؛ فإنهم يفهمون معنى السمع، ومعنى البصر، وأن مفهوم هذا ليس مفهوم هذا، ويعرفون الفرق بينهما " .
فهذا النقل الذي نقله فضيلته عن شيخ الإسلام يحدد بدقة مذهب السلف في الصفات، وأنهم يعلمون معانيها، ويؤمنون بها، ولا يفوضونها، بل يثبتونها على حقيقتها اللائقة بجلال الله . ومن العجيب أنه جمع بين هذين النقلين المتضادين عن السيوطي وعن تقي الدين، ولم يتنبه لذلك ! ! وليس هذا شان الباحث .(150/224)
2- ما نقله فضيلته عن الشيخ ناصر الدين الألباني أنه علق على قول شارح الطحاوية : " ليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك , وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة " , حيث قال الألباني : " وهو من التأويل الذي ينقمه الشارح , مع أنه لا بد منه أحيانا . . . " .
- فالجواب عنه : أن هذا ليس من التأويل كما توهمه الشيخ الألباني؛ لأن الإحاطة لها معان كثيرة، ذكرها الراغب في " مفرداته " ( ص 135 ) ؛ منها أنها تستعمل بمعنى العلم؛ نحو : { وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } ، وقوله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } . . . قال الراغب : " والإحاطة بالشيء علما هي أن تعلم : وجوده، وجنسه، وكيفيته، وغرضه المقصود به وبإيجاده، وما يكون به ومنه، وذلك ليس إلا لله تعالى " انتهى .
3- يقول أيضا عن الشيخ الألباني : " إنه لا يعتبر التوسل بحق الأنبياء وجاههم من العقيدة " . وهو يريد بذلك أن يسوغ قول الشيخ حسن البنا : إن التوسل بالمخلوق في الدعاء أمر فرعي .
والواقع أن الشيخ الألباني لا يقصد ذلك، وإنما يقصد أن التوسل بحق الأنبياء وجاههم ليس مما يجوز عمله واعتقاده؛ لأنه بدعة؛ لأنه عدد قبله أشياء هي من مسائل العقيدة قد ذكرها شارح " الطحاوية " ؛ مثل اعتقاد أن القرآن كلام الله، وأن الله مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وإثبات الفوقية لله، وأن الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان، وجواز الاستثناء في الإيمان، ثم ذكر التوسل بحق الأنبياء وجاههم، فقال : " المسألة السابعة . . . ذهب شارح " الطحاوية " تبعا لإمامة أبي حنيفة وصاحبه إلى كراهة التوسل بحق الأنبياء وجاههم . . . " .
إلى أن قال : " فهذه سبع مسائل هامة؛ كلها في العقيدة؛ إلا الأخيرة منها " فهو يريد أن الأخيرة ليست من العقيدة، ولا من الفروع؛ لأنها بدعه لأنه قال :(150/225)
" وهذا –يعني : مسألة التوسل– مما خالف فيه الكوثري إمامه أبا حنيفة؛ اتباعا لأهواء العامة، ونكاية بأهل السنة " .
4- نقل جملة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وهى قوله : " يقول بعضهم : إذا كانت لك حاجة استوص الشيخ فلانا؛ فإنك تجده، أو توجه إلى ضريحه خطوات وناده؛ يقض حاجتك . وهذا غلط لا يحل فعله " ، ثم قال بعد سياق هذه الجملة :
" فالإمام ابن تيمية يخطئ هذا ولا يُحِلِّه، ولكنه لا يرمي صاحبه بالكفر، ولو كان ذلك من الشرك الصريح؛ لصرح بذلك " . – وهو يريد بها أيضا تسويغ قول الشيخ البنا : " إن التوسل بالمخلوق في الدعاء أمر فرعي " .
وجوابنا عن ذلك من وجهين :
أولاً : إن هذا المذكور ليس توسلا، وإنما هو استغاثة بالأموات، حيث يقول : " توجه إلى ضريحه خطوات، وناده؛ يقض حاجتك " ، والاستغاثة بالأموات شرك أكبر .
ثانياً : إن الشيخ قد صرح بأن هذا شرك، ولو أن فضيلة الشيخ البهنساوي فتح عينه على الكلمة التي قبل الجملة التي نقلها؛ لوجد ذلك حيث قال شيخ رحمه الله : " لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق؛ كما يقول بعضهم : إذا كانت لك حاجة؛ استوص الشيخ فلانا " .
فأي تصريح أكثر من ذلك ؟
5- ختم مقالته بالدعوة إلى تعاون المسلمين فيما اتفقوا عليه، وأن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه .
- وهذه الدعوة يمكن أن ينادي بها أي مخالف، ولو عظمت مخالفته؛ كالرافضة ونحوهم، لكنها لا تجدي مع البقاء على المذاهب الباطلة .
وكان الأحرى بفضيلته أن ينادي بالرجوع إلى الكتاب والسنة، ونبذ التعصب للمذاهب الباطلة، وقد قال الله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=8 - TOP#TOP لا تسبوا أصحابي(150/226)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد .
وبعد :
فمما لا شك فيه أن صحابة نبينا هم كل ما لقي النبى - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به ومات على ذلك .
ومن أصول عقيدة أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم؛ كما وصفهم الله بذلك في قوله سبحانه :
{ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] .
وطاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله :
( لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) .
متفق عليه قال الإمام الشوكاني في تفسيره على الآية الكريمة :
" فمن لا يستغفر للصحابة، ويطلب رضوان الله عليهم؛ فقد خالف ما أمر الله به في هذه الآية .
فإن وجد في قلبه غلًا لهم؛ فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وانفتح له باب من الخِذلان ما يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجوء إلى الله سبحانه والاستغاثة به بأن ينزع من قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة .
فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم؛ فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة، أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " . اهـ كلام الشوكاني .(150/227)
وإنما نقلته بعد ما ذكرته في مطلع هذه الكلمة من مكانة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عقيدة المسلمين من حبهم وإجلالهم والعمل بوصية الله ووصية رسوله باحترامهم والاستغفار لهم وتطهير القلوب الألسنة من سبهم والوقيعة فيهم وتجنيب ما دس في بعض كتب الضلالة أو الكتب غير المعتمدة من تنقصهم بالحكايات المكذوبة والأخبار الملفقة .
أقول : إنما ذكرت ذلك ونقلت بمناسبة ما نشرته جريدة " الشرق الأوسط "
( بتاريخ 29/4/1408هـ ) في صفحة : دين وتراث، في زاوية : قضية ورأي، بقلم محمد حسن الريفي، تحت عنوان :
( بين معاوية والأنصار ) ، حيث أورد الكاتب حكاية مكذوبة، تتضمن أن بعض الأنصار - رضي الله عنهم - تنقصوا معاوية .
- رضي الله عنه - في مقابلة جرت بينهم لما قدم المدينة، حيث لمزه بعضهم كما تقول الحكاية بالحرب التي جرت في طلب أبي سفيان والد معاوية وأصحابه في بدر، وأن معاوية - رضي الله عنه - سكت مفحمًا، ولمزه بعضهم بأنه لم يأمنه الله ورسوله على كتابة الوحي . ويعلق الكاتب بأن أبا سفيان كان مشركًا، ثم أسلم، وأصبح من المؤلفة قلوبهم، وأن معاوية كان رأس الفتنة الباغية، واتهمه في موقفه من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني : الأنصار الذين قابلوه ! !
ولم يذكر الكاتب المرجع الذي استقى منه تلك القصة، ولعله فعل ذلك؛ لئلا يعرف من أين صدرت، مع أن الكتب التي تضم مثل تلك الحكاية الساقطة الحاقدة معروفة، ولو تستر عليها وتحفظ من ذكرها .
وليس العجيب من وجود مثلها في مزابل بعض الكتب المشبوهة، وإنما العجيب أن يلتقطها كاتب يحترم نفسه، وينتسب للتحقيق الصحفي، وينفخ فيها، وينشرها في جريدة عالمية هي الأخرى تحترم نفسها، ويفترض فيها أن تتحرى فيما تنشره الحقيقة البناءة لا نشر الطعن في خير رجال الأمة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين هم خير القرون، والكذب على الأنصار .(150/228)
ثم ماذا على أبي سفيان فيما جرى منه قبل أن يسلم وقد تاب إلى الله وأسلم، والله تعالى يقول : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] ؟ !
وماذا على ابنه معاوية في ذلك، حتى لو لم يسلم أبوه ويتب إلى الله تعالى، والله تعالى يقول : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الأنعام : 164 ] ؟ !
ثم من جهل واضع هذه الحكاية وجهل الكاتب الذي نقلها أنهما خالفا الحقائق التاريخية؛ فإن أبا سفيان لم يحضر قتال بدر؛ لأنه قد ذهب مع العير إلى مكة، وكتب إلى قريش يشير عليهم بالرجوع لما سلمت العير من المسلمين .
وكذلك جهلا أن معاوية - رضي الله عنه - من كتاب الوحي المشهورين، وقد ائتمنه الله ورسوله على ذلك، لا كما تقول الحكاية المكذوبة .
وجهلا أن رأس الفتنة هو عبد الله بن سبإ اليهودي الذي ادعى التشيع لأهل البيت كذبًا وزورًا . ولكن يأبى الله إلا أن يفضح الكاذبين . والذي نرجوه من جريدة الشرق الأوسط ألا تنشر مثل هذه الترهات والأباطيل، ولا سيما ما يجرح شعور المسلمين في سلفهم الصالح وصحابة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم، وأن تتحف قراءها فيما هو نافع ومفيد . سدد الله خطى الجميع في دروب الخير والسعادة . وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله ونبيه محمد وآله وصحابته أجمعين .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=8 - TOP#TOP الإسلام لا يقر النخوة الجاهلية والتفرقة العنصرية
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
وبعد :
فقد نشر في " مجلة المستقبل " ( 5/5/1981م ) لقاء مع الكاتب السوري محمد سالم(150/229)
تحت عنوان : " الإسلام والعروبة والقومية أشكال مجازية لمضمون واحد " ، وهذا العنوان هو خلاصة ما أجاب به الكاتب على تساؤلات المجلة، وهو يفصح عن اعتقاده بأن هذه الأمور الثلاثة شيء واحد، ويفسر الإسلام بتفسير بعيد عن معناه، حيث يفسره بأنه اعتقاد روحي ومادي وحقيقة الكون والحياة على حد سواء ويقارن بينه وبين العروبة، فيقول :
" فإذا كان الاعتقاد الإسلامي تحرري المضمون وأخلاقي السلوك؛ فإن العروبة هي كذلك، وإلا لما كتب لها البقاء والاستمرار على الشكل الحضاري والإنساني "
ويخلص في نهاية بحثه إلى قوله :
" وهكذا نرى أن تلك المسميات الثلاثة : الإسلام، والعروبة، والقومية؛ ليست سوى أشكال مجازية لمضمون واحد "
- وملاحظتنا عليه من وجوه :
الوجه الأول :
تفسيره الإسلام بأنه : " اعتقاد روحي ومادى لحقيقة الكون والحياة . . . " إلخ تفسير باطل، فالإسلام ليس هو مجرد اعتقاد، بل هو اعتقاد وعمل، وليس هو اعتقاد لحقيقة الكون كما يقول، بل هو اعتقاد وإيمان بالخالق وبما له من الأسماء والصفات، وما يجب له من العبادة، وعمل بما شرع من الطاعات، وترك لما منع منه من المحرمات، فهو بهذا المعنى استسلام لله بالطاعة والخضوع والتذلل، وانقياد لشرعه، وهو الدين الذي لا يقبل من أحد سواه؛ كما قال تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسلام } [ آل عمران : 19 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] ، ولقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح بأنه : ( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام ) .
الوجه الثاني :(150/230)
زعموا أن الإسلام والعروبة والقومية شيء واحد ! ! وهذا من الخلط الناشئ عن الجهل بحقيقة كل من هذه الأمور الثلاثة أو التجاهل، فحقيقة الإسلام كما بيناها سابقًا في الوجهة الأولى، وحقيقة العروبة أنها انتماء إلى طائفة من البشر تنحدر من أصول معينة وتنطق لغة معينة، وحقيقة القومية كذلك انتماء ونخوة، فهما شيء واحد معناهما العنصرية والنخوة الجاهلية، ولا يجتمعان مع الإسلام في شيء، فالإسلام دين وتشريع؛ يستمد من الوحي الإلهي الذي جاءت به الرسل، يترتب عليه الثواب العاجل والآجل، والقومية والعروبة انتماء بشري من فعل البشر، يقومان على العنصرية والنخوة الذين ينشأ عنهما التفرق والاختلاط بين أجناس البشر، مما يؤدي بالتالي إلى التطاحن والتناحر والتفكك؛ كما هو الواقع في الجاهلية الأولى والجاهلية المعاصرة التي اتخذت من القوميات والعنصريات أساسًا لحكمها وتضامنها . وهذا بخلاف الإسلام الذي يجمع بين الجنسيات المختلفة، ويوحد بينهم، ويؤلف بين قلوبها، حتى تكون جماعة واحدة، لا فضل لعربيها على عجميها، ولا لأبيضها على أسودها؛ إلا بالتقوى
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] .
الوجه الثالث :
في قول : " إن المسميات الثلاثة الإسلام والعروبة والقومية ليست سوى أشكال مجازية لمضمون واحد " .
هذا القول فيه تمويه على الجهال والإغرار بأن الإسلام يقر الانتماء إلى العنصريات والقوميات، وإن العروبة والقومية تسد مسد الإسلام ! ! ولا يخفى ما في هذا الدس من المغالطة والخطورة على من لم يعرف حقيقة الإسلام وحقيقة الجاهلية، رضي الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حيث يقول : " إنما تنقد عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " . فالإسلام لا يقر العنصريات والنعرات القومية، بل يحاربها، ويندد بها .(150/231)
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] . فأرجع البشر كلهم إلى أب واحد وأم واحدة، لا فضل لأحد منهم على آخر إلا بالتقوى . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله قد أذهب عنك عبية الجاهلية، وتفاخرها بالآباء، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ) . ولما حصل شجار بين رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال المهاجري : يا للمهاجرين !
وقال الأنصاري : يا للأنصار !
أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه النخوة الجاهلية، وقال : ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ ! ) . وقال : ( دعوها؛ فإنها منتنة ) .
وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] . ولم يفرق بين جنسياتهم . ولم تنفع أبا جهل وأبا لهب عروبتهما، ولم تضر بلالًا الحبشي، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر؛ لم يضر هؤلاء عدم عروبتهم، حيث أصبحوا من سادة المسلمين، فكيف يقال بعد هذا : إن الإسلام والعروبة والقومية شيء واحد وأشكال مجازية لمضمون واحد ؟ ! هل هذا إلا جمع بين ما فرق الله ؟ !(150/232)
ثم إذا كانت بمعنى واحد؛ فلأى شيء جاء الإسلام ؟ ! وما وظيفته في الحياة وهل هو على هذا الاعتبار إلا تحصيل حاصل، وتكرار لمضمون واحد ؟ ! ثم إذا كانت العروبة والقومية هما والإسلام شيء واحد؛ فلماذا لم تؤد القومية والعروبة دور الإسلام قبل وجوده ؟ ! ألم يكن العرب قبل الإسلام ضالين في عقائدهم، منقسمين على أنفسهم، لا تجمعهم رابطة، ولا تهدأ بينهم حرب، يتسلط قويهم على ضعيفهم، ولا يراعون فيما بينهم عروبة ولا قومية، وقد ذكرهم الله تعالى بهذا في قوله : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عليكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [ آل عمران : 103 ] . إن مساواة الإسلام بالعروبة والقومية مساواة بين الشيء وضده، مساواة بين الهدى والضلال، وبين الضياء والظلام، بل لو قيل : إن الإسلام أحسن من القومية والعروبة؛ لكان في هذا تنقص وهضم له؛ كما قيل :
ألم تر أن السيف ينقص قدره ** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا(150/233)
فكيف إذا قيل : إن الإسلام والعروبة والقومية ليست سوى أشكال لمضمون واحد ؟ ! هل هذا إلا من أعظم المغالطة والخلط والتضليل ؟ ! وهل يقول هذا إلا من لا يفرق بين الإسلام والجاهلية، أو يقصد الإيهام والتضليل ؟ ! نسأل الله أن يهدينا إلى معرفة الحق، والعمل به، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا . ثم يمضي الكاتب في تسويته بين المتضادات، فيزعم أن اختلاف العقائد يمثل بحد ذاته عنصرًا تكامليًا، حيث يقول : " إن الدين في مضمونه إنساني، واختلاف التعاليم من اعتقاد إلى آخر يمثل بحد ذاته عنصرًا تكامليًا ضمن واقع الانطلاق الفكري والحركي المستمر علوًا حتى أفضل مسيرة إنسانية " . وهذا معناه التسوية بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك، وعقيدة المسلمين وعقيدة النصارى الذين يقولون : { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [ المائدة : 73 ] ! ! وإلا؛ فأي معنى لقوله : " واختلاف التعاليم من اعتقاد إلى آخر يمثل بحد ذاته عنصرًا تكامليًا " ؟ ! أليس معناه أن كل اعتقاد يلتقي مع الاعتقاد الآخر ويكمله ؟ ! أن الاعتقاد الصحيح اعتقاد واحد لا اختلاف فيه، هو عقيدة التوحيد التي بعث الله بها جميع رسله . قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] . وقال تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] . وأي عقيدة تخالف هذه العقيدة؛ فهي باطلة، فهي عقيدة الطاغوت الذي أمر الله باجتنابه . ولو كانت كل عقيدة تمثل عنصرًا تكامليًا كما يقول الكاتب؛ فما الفائدة من بعثة الرسل، وإنزال الكتب، وأمر الناس بعقيدة واحدة ؟ ! هل هذا إلا عين المغالطة في أوضح الواضحات ومما يعلم بالضرورة ؟ !
وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل(150/234)
هذا ما أردت التنبيه عليه مما جاء في مقالة الكاتب المذكور، خشية الاغترار بها، والله تعالى أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
والحمد لله رب العالمين
3 ) حول البدع وإنكارها
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=9 - TOP#TOP في إنكار الوصية المكذوبة والمنسوبة إلى الشيخ أحمد خادم المسجد النبوي
الحمد لله وحده .
أما بعد :
يقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إليكُمْ نُورًا مُّبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إليهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [ النساء : 174 ] .
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] . { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ مريم : 58 ] . { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } [ النساء : 115 ] . في هذه الآيات الكريمة يذكر الله عباده بنعمته عليهم بإنزال كتابه الذي أخرجهم به من الظلمات إلى النور ويأمرهم بالاعتصام والتمسك به، ويحذرهم من مخالفته وطلب الهداية من غيره من الآراء والأهواء المضلة؛ مما يدل على أنه سيكون هناك محاولات تبذل من شياطين الجن والإنس لصرف الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، وإخراجهم من النور إلى الظلمات، وصرفهم عن طريق الجنة إلى طريق النار .(150/235)
وما زال هذا الخبث والمكر السيئ يبذل من أعداء الله ورسوله منذ بعث الله نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا . ومن ذلك ما ظهر من سنوات في هذه البلاد من خرافة صاغها الشيطان مضل على صورة رؤيا منسوبة إلى الشيخ أحمد خادم المسجد النبوي الشريف، وقصده بهذه النسبة ترويج هذه الفرية، وقد ضمن هذه الرؤيا المزعومة أكاذيب وتهديدات وتخويفات زعم أنه تلقاها من النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رآه في المنام، وقال له :
" أخبر أمتي بهذه الوصية؛ لأنها منقولة بقلم القدر من اللوح المحفوظ، ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد ومن محل إلى محل؛ بنى له قصرًا في الجنة، ومن لم يكتبها ويرسلها؛ حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة، ومن كتبها وكان فقيرًا؛ أغناه الله، أو كان مديونًا؛ قضى الله دينه، أو عليه ذنب؛ غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية، ومن لم يكتبها من عباد الله؛ اسود وجهه في الدنيا والآخرة، ومن يصدق بها؛ ينجو ( كذا، والصواب : ينجُ ) من عذاب الله، ومن كذب بها كفر " .
هذا بعض ما جاء في هذه الوصية المكذوبة التي تجرأ مخترعها على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال : ( من كذب علي متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار ) . وهذه الوصية المكذوبة قديمة، وقد ظهرت في مصر منذ أكثر من ثمانين سنة، وقد دحضها أهل العلم، وزيفوها وبينوا ما فيها من الكذب والباطل؛ منهم الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله - وقد قال في رده عليها : " قد أجبنا عن هذه المسألة سنة ( 1322هـ ) ، وإننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن مرارًا كثيرًا، وكلها معزوة إلى رجل اسمه شيخ أحمد خادم الحجرة النبوية، والوصية مكذوبة قطعًا، لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين، وإنما يصدقها البلداء من العوام الأميين " . ثم رد عليها - رحمه الله - ردًا مطولًا مفيدًا دحض فيه كل ما جاء فيها من الافتراءات .(150/236)
ثم إن هذه الوصية اختصرت وجيء بها إلى هذه البلاد على يد بعض المخرفين والدجالين؛ بقصد إفساد عقائد الناس، وصرفهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، حتى يسهل تضليلهم بمثل هذه الوصية الكاذبة . وقد تلقفها بعض الجهلة، وأخذوا يطبعونها ويوزعونها؛ متأثرين بما فيها من الوعود والوعيد؛ لأن هذا الفاجر الذي اخترعها قال فيها :
" فمن طبع منها كذا من النسخ ووزعها؛ حصل على مطلوبه، إن كان مذنبًا؛ غفر الله له، وإن كان موظفًا؛ رفع إلى وظيفة أحسن من وظيفته، وإن كان مدينًا؛ قضى دينه، ومن كذب بها؛ اسود وجهه، وحصل عليه كذا وكذا من العقوبات " .
فإذا قرأها بعض الجهلة؛ تأثر بها، وعمل على نشرها خوفًا وطمعًا .
وقد قام العلماء ببيان كذب هذه الوصية، وحذروا الناس من نشرها والتصديق بها، ومن هؤلاء العلماء الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - فقد رد عليها برد جيد مفيد، وبين ما فيها من الكذب والتدجيل .
ولما رأى مروجها أن المسلمين قد تنبهوا لدسهم، وعرفوا حقيقتهم؛ أخذوا ينشرونها خفية، ويغرون بعض الجهال بنشرها وتوزيعها .
- وهذه الوصية باطلة من عدة وجوه :
أولًا : إن أحكام الدين والوعد والوعيد والأخبار عن المستقبل؛ كل هذه الأمور لا تثبت إلا بوحي من الله إلى رسله، والوحي قد انقطع بموت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعدما أكمل الله به الدين، وقد ورث لنا الكتاب والسنة، وفيهما الكفاية والهداية .
اما الرؤيا والحكايات؛ فلا يثبت بها شيء؛ لأن غالبها من وضع الشياطين؛ لإضلال الناس عن دينهم .
ومفتري هذه الوصية يعد من صدقها ونشرها بدخول الجنة، وقضاء حوائجه، وتفريج قرباته، ويتوعد من كذب بها بدخول النار، أنه يسود وجهه .
وهذا تشريع دين جديد، وكذب على الله سبحانه وتعالى، نعوذ بالله من ذلك .(150/237)
ثانيًا : إن مفتري هذه الوصية جعلها أعظم من القرآن الكريم؛ لأن من كتب المصحف الشريف وأرسله من بلد إلى بلد؛ لا يحصل له هذا الثواب الذي قال فيه الدجال : إنه يحصل لمن ينشر هذه الوصية .
ومن لم يكتب القرآن ويرسله من بلد إلى بلد؛ لا يحرم من شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان مؤمنًا ! !
فكيف يحرم المؤمن من الشفاعة إذا لم يكتب هذه الوصية ويرسلها من بلد إلى بلد كما يقول مفتريها ؟ !
ثالثًا : إن هذه الوصية فيها ادعاء علم الغيب، حيث جاء فيها : " إنه من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفًا على غير دين الإسلام " . فهذا من ادعاء علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله؛ فإنه هو الذي يعلم عدد من يموت على الإسلام ومن يموت على الكفر، ومن ادعى علم الغيب؛ فهو كافر بالله .
رابعًا : إن الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة لا يثبتان إلا بنص من كتاب الله وسنة رسوله، وهذه المفتري في هذه الوصية جعل الثواب لمن صدقها والعقاب لمن كذب بها ولم ينشرها، وقد فضحه الله – الحمد لله – فكثيرًا من المسلمين كذبوها وزيفوها ولم يحصل لهم إلا الخير، والذين صدقوها ونشروها لم يحصل لهم إلا الخيبة والخسارة .
ثم إن هذا المفتري أراد أن يوهم العوام والجهال بصدق هذه الوصية، فحلف بالله أيمانًًا مكررة أنه صادق، وأنها حقيقة، وأنه إن كان كاذبًا؛ يخرج من الدنيا على غير الإسلام، وأراد أن يتظاهر بحب الإسلام، وبغضه للمعاصي والمنكرات، حتى يحسن به الظن ويصدق .
وهذا من مكره وخبثه، بل ومن غباوته وجهله؛ فإن الحلف وكثرة الإيمان لا تدل على صدق كل حالف، فكثير من الكذابين يحلفون للتغرير بالناس، فهذا إبليس حلف للأبوين عليهما السلام : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] .
الله تعالى قال لنبيه : { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [ القلم : 10 ] .
وأخبر أن المنافقين يحلفون على الكذب وهم يعلمون، ويقول عنهم :(150/238)
{ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ التوبة : 107 ] .
هل يظن هذا الغبي الأحمق أنه إذا افترى الكذب على الله ورسوله في هذه الوصية، وحلف في آخرها؛ أن المسلمين سيصدقون ويقبلون أقواله ؟ ! حاشا وكلا .
وأما تظاهره بالغيرة على الدين، والتألم من المنكرات؛ فهو من التغرير الذي يقصد من ورائه أن يحسن الناس به الظن، ويقبلوا قوله، ولم يدر أن فرعون اللعين تظاهر لقومه بالنصح والشفقة حينما قال لهما يحذرهم من اتباع موسى عليه السلام :
{ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الْفَسَادَ } [ غافر : 26 ] .
فما كل من تظاهر بالمناصحة والغيرة يكون صادقًا .
ويكفينا ما جاء في الكتاب والسنة من التحذير من المنكرات والمعاصي، وبيان العقوبات المترتبة عليها، ففي ذلك الكفاية لأهل الإيمان . . .
هذا؛ وربما يسأل سائل : ما هو الهدف الذي يقصده صاحب هذه الوصية ؟ وما هو الدافع لقيامه بافترائها وترويجها ؟
والجواب : أن هدفه من ذلك تضليل الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، وصرفهم إلى الخرافات والحكايات المكذوبة، فإذا صدقوا في هذه وراجت بينهم، اخترع لهم أخرى وأخرى، حتى ينشغلوا بذلك عن الكتاب والسنة، فيسهل الدس عليهم، وتغيير عقائدهم؛ فإن المسلمين ما داموا متمسكين بكتاب ربهم وسنة نبيهم؛ فلن يستطيع المضللون صرفهم عن دينهم، لكنهم إذا تركوا الكتاب والسنة وصدقوا الخرافات والحكايات والرؤى الشيطانية؛ سهل قيادهم لكل مضلل وملحد .
وقد يكون من وراء ذلك منظمات سرية من الكفار، تعمل على ترويج هذه المفتريات؛ لصرف المسلمين عن دينهم .
ومما يدل على ذلك أن هذه الخرافة موجودة منذ قرن من الزمان، ويبعد أن يكون مخترعها على قيد الحياة، فلولا أن هناك من يعمل على ترويجها من بعده؛ لم تظهر .(150/239)
فإياكم أيها المسلمون والتصديق بهذه المفتريات، ولا يكن لها رواج بينكم، واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم، ومن رأيتموه يكتب هذه الوصية المكذوبة ويروجها؛ فبلغوا عنه أهل العلم، فبلغوا عنه أهل الحسبة والسلطة؛ لأخذ على يديه، وردعه، وكفى شره عن المسلمين .
إن أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين وشياطين الجن والإنس دائمًا يحاولون صرف الناس عن دين الحق إلى دين الباطل، وعن طريق الجنة إلى طريق النار، وعن اتباع الرسل إلى اتباع الشياطين والمضلين، فكانوا يحرفون شرائع الأنبياء، ويغيرون الكتب المنزلة على الرسل؛ كما فعلوا في التوراة والإنحيل .
ولما بعث الله خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه القرآن العظيم والشرع القويم؛ تكفل سبحانه بحفظ القرآن العظيم من التغيير والتبديل، فقال سبحانه وتعالى :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
وقال تعالى :
{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] .(150/240)
وحفظ سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - من كذب الكذابين؛ بما أقام عليها من الحراس الأمناء، وصفوة العلماء، الذين حفظوها ونقلوها بأمانة، ونفوا عنها كل ما حاول إدخال فيها الكذابون والدجالون، فوضعوا الضوابط والقواعد التي يعرف بها الحديث الصحيح من الحديث المكذوب، ودونوا الأحاديث الصحيحة وحموها، وحشروا الأحاديث المكذوبة وحذروا منها . فلما لم يجد أعداء الله ورسوله لهم منفذ لدس في كتاب الله وسنة رسوله؛ لجؤوا إلى محاولة صرف الناس عن الكتاب والسنة، وإشغالهم بالحكايات المكذوبة والمنامات المزورة، التي تشمل على الترغيب الترهيب والوعود الكاذبة التي تغري وتغر ضعاف الإيمان والجهلة، فصرفوا كثيرًا منهم إلى الشرك والإلحاد والبدع باسم الدين والعبادة والزهد جريًا وراء تلك الخرافات .
فدين هؤلاء المنحرفين لا ينبني على الكتاب والسنة، وإنما ينبني على الحكايات المكذوبة والمنامات المذعومة، فضلوا عن الهدى، وتركوا كتاب الله وسنة رسوله إلى وساوس الشياطين، وهذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة .
قال تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ الزخرف : 36 - 37 ] .
فيا عباد الله ! تمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم، واحذروا الدسائس المضلة التي يروجها أعداء الملة .
وفق الله الجميع للاعتصام بالكتاب والسنة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=9 - TOP#TOP نظرات في كتاب " علموا أولادكم حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
لمعالي الدكتور محمد عبده يماني
اطلعت على كتاب ألفه معالي الدكتور محمد عبده يماني تحت عنوان : " علموا أولادكم حب رسول الله " ، وطبعه عدة طبعات، وجاء على غلاف الطبعة الثالثة منه ما نصه :(150/241)
" طبع بموافقة وزارة الإعلام رقم 1112/ م ج " ، وتاريخ " 30/3/1405 هـ " .
ولم يذكر معاليه موافقة مراقبة المطبوعات في الافتاء، مع أن هذا أمر لازم، يجعل لهذه الجهة بتخطيه لها المطالبة بحقها نحو هذا الإجراء المخالف لنظام المطبوعات .
ونحن وكل مسلم نتفق مع معالي الدكتورعلى أن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة على كل مسلم، بل هي من أعظم أصول الإيمان ومسائل العقيدة، وتأتي في الدرجة الثانية بعد محبة الله تعالى، وبغض الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بغض شيء مما جاء به ردة عن دين الإسلام . ونتفق كذلك مع معاليه على أن بيان هذا للناس أمر واجب .
ولكن بيانه يكون بالطريقة الشرعية، والأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة، وعلى ضوء العقائد المعتبرة عند أهل السنة والجماعئة، وهذا ما لم يتوفر في كتاب معاليه كما يأتي بيانه، وذلك على النحو التالي :
1- قوله في العنوان :
" علموا أولادكم حب رسول الله "
هل المحبة تعلم تعليمًا، أو هي عمل قلبي يقوى وينمى ؟ !
كان الأولى بالدكتور أن يقول : بينوا لأولادكم وجوب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونموها في قلوبهم؛ ببيان صفاته وخصائصه، وما جاء على يديه من هداية الأمة، وإخراجها من الظلمات إلى النور، وإنقاذها من الخرافات والبدع والشركيات إلى التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة .
2- لماذا اقتصر معاليه على محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر محبة الله تعالى التي هي الأصل الذي تتبعه محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ !
لماذا يذكر الفرع ويترك الأصل ؟ !(150/242)
ألم تكن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تأتي بعد محبة الله تعالى في الكتاب السنة؛ كقوله تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ } [ التوبة : 24 ] . . . إلى قوله تعالى : { أَحَبَّ إليكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 24 ] . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاث من كن فيه؛ وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . . . ) الحديث ؟ !
وقال تعالى :
{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } [ البقرة : 165 ] ، { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] .
3- ما علاقة محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بابتداع الاحتفال في اليوم الذي يقال : إنه اليوم الذي ولد فيه، وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، حيث ذكر معالي الدكتور ذلك في كتابه، ودعا إليه من صفحة ( 95 ) إلى صفحة ( 103 ) ، وحاول في هذه الصفحات أن يسوغ هذا الاحتفال؛ دون أن يبرز دليلًا صحيحًا واحدًا أو استدلالًا صحيحًا على ما قال، سوى أنه عادة أحدثها بعض الناس : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } .
ولسنا بصدد مناقشة الشبهات التي ذكرها هنا؛ لأن هذا له موضع آخر، وقد نوقشت والحمد لله في أكثر من كتاب وتبين أن الاحتفال بالمولد بدعه محدثة .
ونحن نسأل معالي الدكتور : هل شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الاحتفال لأمته أو هو شيء محدث بعده ؟
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ) .
وهل فعله صحابته وخلفاؤه الراشدون الذين لا يسويهم أحد في محبته - صلى الله عليه وسلم - ؟ !
هل كانوا مقصرين في محبته حين لم يفعلوه ؟ !(150/243)
لا؛ بل إنهم لم يفعلوه؛ لأنه بدعة، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن البدعة، وفعل البدع معصية له - صلى الله عليه وسلم - يتناقض مع محبته؛ لأن محبته تقضي متابعته وترك ما نهى عنه .
فيا معالي الدكتور ! كيف نعلم أولادنا محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ندعوهم لمخالفته بفعل البدع ؟ ! أليس هذا تناقضًا ؟ !
ليتك قلت : علموهم متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانهوهم عن مخالفته، وألزموهم بطاعته؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ) .
4- ما علاقة تحديد المكان الذي ولد فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بموضوع محبته . . . حيث شغل الدكتور حيزًا كبيرًا من كتابه في البحث عن تحديده من صفحة ( 179 ) إلى ( 191 ) ، واتبع فكره وقلمه في ذلك بما لا جدوى من ورائه ولم يكلف بمعرفته .
هل عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المكان لأمته ؟ !
هل اعتنى الصحابة والتابعون ومن بعدهم من القرون المفضلة وأئمة الإسلام المعتبرون بتعيين هذا المكان ؟ !
وماذا يرجع على الأمة من تعيين ؟ !
لو كان في ذلك ما يعود على الأمة بخير؛ ما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يهتم بشأن بيته الذي كان يسكنه في مكه قبل الهجرة، ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة، وقيل له : أتنزل في دارك ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - :
( وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور ؟ ) .
ما كان - صلى الله عليه وسلم - يهتم بالأمكنة التي سكنها وعاش فيها؛ على أن يهتم بالمكان الذي ولد فيه، ولم يكن صحابته يفعلون ذلك؛ لأن ذلك يفضي إلى أن نتخذ هذه الأمكنة متعبدات ومعتقدات فاسدة .
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة لم يهتم بشأن غار حراء الذي ابتدأ نزول الوحي عليه فيه؛ لأن الله لم يأمره بذلك .(150/244)
ولما رأى عمر - رضي الله عنه - الناس يذهبون إلى الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان؛ قطعها مخافة أن يفتن الناس بها .
فلا تفتحوا للناس بابًا مغلقًا، وتذكروا قوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أليمٌ } [ الفرقان : 63 ] .
ولهذا لا نجد في كتاب الله ولا في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إشارة إلى البقعة التي ولد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا فائدة من ذلك، وليس في الاعتناء بذلك دلالة على محبته - صلى الله عليه وسلم - وإنما علامة محبته - صلى الله عليه وسلم - اتباعه، والعمل بسنته وترك ما نهى عنه؛ كما قال الشاعر الحكيم في ملازمة المحبة للطاعة :
لو كان حبك صادقًا لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيع
5- حشد معالي الدكتور في كتابه هذا أمورًا وأشياءَ كثيرة فيها نظر، وذكر فيها أحاديث لم يبين درجتها، ولم يوثقها من دواوين السنة المعتبرة .
والواجب عليه – كالباحث يحمل أكبر درجة علمية – أن لا يهمل ذلك؛ لأن القراء ينتظرون منه ومن أمثاله أن يقدم لهم بحثًا مستوفيًا الجوانب العلمية والمعنوية .
ومما جاء في كتابه :
أ أبيات : " طلع البدر علينا " ؛ قال عنها :
" هذا نشيد سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون شك ولا ريب " . . .
إلى أن قال : " وقد ارتفع هذا النشيد لأول مرة من حناجر المسلمين والمهاجرين والأنصار منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا " .
ونقول : ما الذي يجعلك يا معالي الدكتور تجزم بسماع الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا النشيد دون شك ولا ريب ؟ وما الذي يجعلك تجزم بنسبته إلى المهاجرين والأنصار ؟ أين سندك في هذا ؟ أيظن معاليكم أن القراء يقتنعون بمثل هذا الكلام دون تحقيق وتوثيق ؟
كلا .(150/245)
ب في ( ص111 ) قال معالي الدكتور : " وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن سنته ؟ فقال : المعرفة رأس مالي، والحب أساسي، والشوق مركبي . . . " الخ .
ولا ندري من أين جاء الدكتور بهذا الحديث، فهو لم يذكر له سند، ولم يعزه إلى كتاب، ولا تجوز النسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون التثبت؛ لأن ما ينسب قد يكون مكذوبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فيدخل تحت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كذب عليّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار ) .
6- في الكتاب مبالغات في حقه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنها، حيث قال عليه الصلاة والسلام :
( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا : عبد الله ورسوله ) . رواه البخاري وغيره .
ومن هذه المبالغات :
أ ما جاء في ( ص113 ) :
" واجب على كل مؤمن متى ذكره أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع . . . الخ " .
ونقول تعقيبًا على ذلك : أليس الخضوع والعبادة حق لله ؟ ! وكذلك الخضوع، إذا كان القصد منه الخضوع بالجسم؛ فهو لا يكون إلا لله؛ لأنه سبحانه هو الذي يركع له ويسجد، وإذا كان المراد به الانقياد لطاعته؛ فالتعبير خطأ؛ لأنه موهم .
والمشروع عند ذكره صلى الله عليه وسلم هو الصلاة عليه، لا ما ذكره معالي الدكتور، وأن كان قد نقله عن غيره؛ فهو قد أقره .
ب جاء في ( ص 208 ) قوله :
" ومما تجدر الإشارة إليه أنه صلى الله عليه وسلم أول الأنبياء خلقًا، وأن كان آخرهم مبعثًا " .
هكذا قال ! ولم يذكر له مستندًا ولا دليلًا ! !
وهل هناك أحد من بني آدم يخلق قبل خلق أبيه وأمه بآلاف السنين ؟ ! أليس نسل آدم كلهم من ماء مهين و { مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } ؟ !(150/246)
كيف يخلق محمد صلى الله عليه وسلم قبل الأنبياء، ثم يخلق مرة ثانية، ويولد بعد ما تزوج أبوه بأمه، وحملت به عن طريق انتقاله ماءً دافقًا من صلب أبيه إلى رحم أمه؛ كما هي سنة الله في بني آدم ؟ ! هل خلق مرتين ؟ !
ويصر الدكتور على هذه المقالة المنكرة، حيث يقول في ( ص 211 ) :
" ولقد أنكر بعض المحدثين ( يعني : المعاصرين ) من الغيورين على الإسلام أن يكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خلق قبل آدم عليه السلام . . . الخ " .
ويرد على هذا المنكر برد لا طائل تحته .
ومعنى كلامه أن أكثر المعاصرين موافقون له على هذه المقالة، أما السابقون؛ فلم يستثن منهم أحدًا .
وهذا من التلبيس والمجازفة؛ فإن هذا القول لم يقل به أحد يعتد به من الأمة لا قديمًا ولا حديثًا . وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم خلق قبل آدم؛ فهو إذن ليس من بني آدم .
وأيضًا؛ لماذا تحتفلون بولادته وهو مخلوق قبل آدم ؟ !
هذا تناقض عجيب .
وليت الدكتور بدل أن يقدم للقراء مثل هذه المعلومات الخاطئة قدم لهم معلومات صحيحة تفيدهم وتنفعهم من الحث على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، واتباعه، وترك ما نهى عنه وحذر منه من البدع، فذلك خير وأبقى .
هذا؛ وسيكون لي – إن شاء الله – مع هذا الكتاب جولة أخرى لمناقشته، وليس لي قصد من وراء ذلك إلا بيان الحق والنصيحة .
والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=9 - TOP#TOP محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومستلزماتها
تعقيب على ما نشره معالي الدكتور محمد عبده يماني في " مجلة أهلًا وسهلًا "
( العدد السابع، ذوالقعدة 1407هـ ) .
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان . وبعد :(150/247)
فمما لا يشك فيه أي مسلم وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وأن بغضه صلى الله عليه وسلم أو بغض شيء مما جاء به ردة عن الإسلام، وأن محبته صلى الله عليه وسلم تستلزم طاعته، واتباعه وحسن الأدب معه، وتقديم قوله على قول كل أحد من الخلق، وتستلزم عدم الغلو في حقه، والاطراء في مدحه، والابتداع في دينه بإحداث شيء لم يشرع أو عمل شيء لم يأمر به .
أقول هذا بمناسبة أنني قد قرأت مقالًا للدكتور محمد عبده يماني في موضوع مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصفه بأوصاف خرج في بعضها إلى حد الإطراء الممنوع؛ كما سأبين ذلك .
ولكنني قبل هذا البيان أتساءل : ما الذي حمل معالي الدكتور محمد على نشر هذا المقال بين ركاب الطائرات ؟ هل هو لتعريف المسلمين بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان خصائصه وصفاته ؟ فما أظن مسلمًا يجهل ذلك ولو بصفة إجمالية، وإنما الذي يجهله غالب المسلمين اليوم ويجب أن يبين لهم هو هديه صلى الله عليه وسلم في دعوته وعبادته والشريعة التي جاء بها في الأمور التي حذر منها، هذا هو الذي يحتاج الناس إلى بيانه وشرحه، وهو الذي ينبغى للدكتور محمد عبده وغيره من أصحاب الأقلام أن يشرحوه ويوضحوه للناس في مختلف الوسائل الإعلامية وغيرها، خصوصا ما يتعلق بأمور العقيدة .
هذا، ونأتي الأن على الأخطاء التي وقعت في مقال معالي الدكتور محمد، وفقنا الله وإياه للصواب، وهي :
1- قوله : " ما أجمل أن نرتبط بذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
أقول : هذا كلام مجمل؛ فإن كان يريد ما يفعله المبتدعون من إحياء الموالد والهتاف بالأناشيد الجماعية المتضمنة للغلو في مدحه أو الاستغاثة به ودعائه من دون الله؛ فهذا منكر وباطل، لا يجوز لمسلم أن يفعله أو يرضى به بل يجب منعه وإنكاره .(150/248)
وإن كان يريد بذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته؛ فهذا حق وواجب، لكن لا يسمى ذكرى، وليس المقصود منه إحياء الذكرى، بل المقصود منه طلب الهداية والنجاة، ويسمى اتباعًا لا ذكرى؛ لأن تسميته ذكرى – ولا سيما في وقتنا هذا – توهم ارتباطه بوقت معين هو يوم مولده، فيكون هذا من الدعوة لإحياء الموالد المبتدعة، فيحسن أن يقال :
ما أجمل أن نتبع سنة نبينا .
2- قوله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم :
" وإنه سوف يعطيك حتى ترضى، { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } . "
لو قال : يعطيك ربك فترضى؛ كما هو لفظ في الآية التي ساقها؛ بدل : " حتى ترضى " ؛ لكان ذلك هو الصواب المطابق للآية؛ لأن التقيد بألفاظ الكتاب والسنة أضمن للصواب وأبعد عن الغلو والمخالفة، وفرق بين المعنيين .
3- قوله : " يذكرني يا رسول الله قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } " .
قال الدكتور :
" ما هذه العظمة ؟ ! ما هذه المقامات العلى ؟ ! استغفارهم لا يجديهم شيئًا ما لم يجيئوك أولًا، ثم تستغفر لهم بعد أن يستغفروا، عندها يجدون الله توابا رحيما " .
ونقول للدكتور محمد :
أولًا : ليس في الآية الكريمة أن استغفارهم لا يجديهم شيئًا ما لم يجيئوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم كما قلت، وليس فيها أنهم لا يجدون الله توابًا رحيمًا إلا إذا فعلوا ذلك، وإنما فيها إرشادهم أن يستغفروا، ويذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه الاستغفار لهم؛ ليكن ذلك أرجى للقبول وحصول المغفرة والرحمة، وإلا فمن استغفر الله صادقًا مخلصًا؛ غفر الله له، ولو لم يستغفر له الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما تدل عليه الآيات الآخرى والأحاديث النبوية .(150/249)
ثانيًا : المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب الاستغفار منه خاص في حال حياته، أما بعد موته عليه الصلاة والسلام؛ فلا يجوز الذهاب إلى قبره، وطلب الاستغفار منه؛ لأن هذا شيء لم يفعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانوا إذا أجدبوا؛ طلبوا من عمه العباس – أو من غيره من الصالحين – أن يدعو الله لهم بالسقيا؛ كما فعل عمر ومعاوية رضي الله عنهما، ولم يكونوا يذهبون إلى قبره، ويطلبون منه الدعاء والاستغفار؛ كما كانوا يفعلون ذلك في حال حياته .
وإطلاق الدكتور محمد هذا الكلام الذي قاله يفهم منه العموم، فيغتر به الجهال، ويظنون أن ذلك مستمر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
4- قوله : " وناهيك من قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنت فِيهِمْ } " .
نأخذ عليه في ذلك مأخذين :
المأخذ الأول : أنه لم يكمل الآية الكريمة بذكر بقيتها، وهي قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
المأخذ الثاني : أنه لم يبين المراد من الآية، وأن المقصود منها أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم حيّا بين أظهرهم ضمانة لهم من وقوع العذاب، أما بعد خروجه من بين أظهرهم بالهجرة أو بوفاته صلى الله عليه وسلم فقد فقدت هذه الضمانة، ولم يبق إلا الضمانة الثانية، وهى الاستغفار .
قال ابن عباس رضي الله عنهما :
" كان فيهم أمانان : النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار " .
وقال أيضًا :
" إن الله جعل في هذه الأمة أمانين، لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم، فأمان قبضه الله إليه، وأمان بقي فيكم ( يعني : الاستغفار ) .(150/250)
ذكر ذلك ابن كثير، ثم ذكر ما رواه الترمذي بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أنزل الله علي أمانين لأمتي : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنت فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، فإذا مضيت؛ تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة ) .
5- قوله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم :
" وما اختص الله تعالى أحدًا ممن شاء أو يشاء ببعض ما اختصك به " .
هذا القول فيه غلو وتقوّل على الله تعالى بلا علم، ثم هو مخالف للواقع، فقد اختص الله تعالى بعض أنبيائه بخصائص عظيمة، فخلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، وجعل إبراهيم إمامًا للناس، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، واتخذه خليلًا، وكلم موسى تكليمًا، وخلق عيسى من أم بلا والد، وأيده بروح القدس، وجعله يكلم الناس في المهد، ويحي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله .
قال تعالى :
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } .
ولا شك أن أكملهم وأفضلهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد اختصه الله بخصائص عظيمة، لكن القول بأنه ما اختص أحدًا ببعض ما اختصه به كلام غير سليم؛ لأن الأنبياء يشتركون في بعض الصفات، ويتفاضلون في بعضها، فالخلة مثلًا مشتركة بين إبراهيم ومحمد عليهما السلام .
6- قوله : " وكما أدبك ربك يا رسول الله فأحسن تأديبك، ولم يختص بذلك أحدًا غيرك " .
نقول : هذا النفي فيه نظر، إذ كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أدبهم ربهم، وهيأهم لحمل رسالته، وأهلهم لكرامته؛ قال تعالى : { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .(150/251)
وقال في حق يوسف عليه السلام : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيمَ وَإِسْحَاقَ } .
وقال في حق موسى عليه السلام .
{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } ، وقال { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } .
ولم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم : أن ربه اختصه بأن أدبه فأحسن تأديبه؛ حتى يصح ما قاله الدكتور محمد، وإنما أخبر أن الله أدبه فأحسن تأديبه – إن صح الحديث -، ولم ينف ذلك عن غيره من الرسل .
7- قوله : " ولم يعرف رسول من الرسل أمر الله بغض الصوت عنده إلا سيد الأولين والآخرين " .
نقول : بل كل الرسل يجب احترامهم وتوقيرهم، وتحرم إساءة الأدب معهم؛ برفع الصوت وغيره من أنواع الأذى .
قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه : { يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } .
وقال الله لبني إسرائيل : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } . والتعزير معناه : التوقير والمناصرة، وهذا يعني تحريم أذيتهم بالقول والفعل .
8- قوله : " فجعل أمره صلى الله عليه وسلم من أمر الله؛ كما جعل طاعته هي عين طاعته، من أطاع الرسول؛ فقد أطاع الله " .
أما قوله : " إن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الله " ؛ فهذا صحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما أمره الله به؛ كما قال تعالى :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى أن هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .(150/252)
وأما قوله : " إن طاعة الرسول هي عين طاعة الله " ؛ فهو محل نظر؛ لأن طاعة الرسول مستقلة عن طاعة الله، لكنها تابعة لها ومرتبطة بها، ولهذا عطفها الله عليها في قوله تعالى : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمر مِنكُمْ } ، والعطف يقتضي المغايرة .
وطاعة الله تعني الأخذ بكتابه، وطاعة الرسول تعني الأخذ بسنته .
قال ابن كثير : " { أَطِيعُواْ اللَّهَ } ؛ أي : أتبعوا كتابه، { وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } ؛ أي : خذوا بسنته " انتهى .
وطاعة الله تعني العبودية له سبحانه، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تعني المتابعة له والإقرار برسالته، وبينهما فرق واضح .
وقول الدكتور : " من أطاع الرسول؛ فقد أطاع الله " ؛ إن كان يقصد به تلاوة الآية؛ فليس هذا لفظها، وإنما لفظها : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله :
" يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن من أطاعه؛ فقد أطاع الله، ومن عصاه؛ فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } " .
9- قوله : " كما جعل مبايعته هي عين مبايعته؛ { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنما يُبَايِعُونَ اللَّهَ } " .
نقول : وهذا من جنس ما قبله، فليست مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي عين مبايعة الله؛ كما يقول الدكتور، بل هي من جنس قوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ، وهذا من باب التشريف والتكريم له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ رسالته .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى الآية :
" أي : هو معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ } الآية " .(150/253)
ثم ساق الحديث بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سل سيفه في سبيل الله؛ فقد بايع الله ) .
وساق الحديث عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر الأسود : ( من استلمه؛ فقد بايع الله تعالى ) .
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنما يُبَايِعُونَ اللَّهَ } .
فالآية الكريمة إنما تدل على أن مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي بمنزلة مبايعة الله عز وجل، لا أنها عين مبايعة الله؛ بدليل أنه ذكر مبايعتين : مبايعة الرسول، ومبايعة الله، فدل على التغاير؛ كقوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ، فذكر طاعتين، وهذا واضح بحمد الله لكل من تأمله .
والذي نريده من معالي الدكتور تجنب هذه الإيهامات التي قد يفهم منها خلاف المقصود، وتكون سببًا لبلبلة الأفكار .
والله الموفق، لا رب لنا سواه ولا نعبد إلا إياه .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=9 - TOP#TOP تعقيب على ما كتبه الدكتور أحمد جمال العمري في موضوع زيارة المسجد النبوي الشريف
ينشط بعض كتابنا وشعرائنا في أول ربيع الأول في كتابة المقالات وإنشاء القصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وذكر سيراته وتساعدهم بعض الصحف والمجالات بنشر تلك المقالات والقصائد على ما فيها من غلو وخطأ في المعلومات والأحكام الشرعية، ولا نرى لها سببًا ظاهرًا سوى مشاركة المبتدعه في إحياء ذكر المولد النبوي في أول هذا الشهر والتي أحدثها الفاطميون الشيعة في آخر القرن الرابع وتوارثها من لا يميز بين السنة والبدعة .(150/254)
وأن المفروض في صحفنا ومجلاتنا أن تكون يقظة، لا تنشر إلا ما هو جاد ومسمر ومفيد للأمة؛ لأنها تصدر من بلاد التوحيد ومهبط الوحي فهي محل القدوة للعالم الإسلامي كله، فيجب ألا تنشر ما يحل بالعقيدة، ويشجع البدعة .
وكان من جملة ما نشر بهذا الصدد كلمة للدكتور أحمد جمال العمري في جدة، نشرتها " مجلة القافلة " التي تصدر من الظهران في ( العدد الثالث، المجلد الثالث والثلاثون – في ربيع الأول 1405هـ ) ، هذه الكلمة بعنوان : ( في رحاب المسجد النبوي الشريف ) .
وقد اشتملت على أخطاء ومغالطات لا يسع من قرأها من أهل العلم السكوت عليها، فكان لا بد من بينها؛ نصحًا لله، ولكتابه، ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهي كما يلي الرد عليها :
1- قال : " والذي لا شك فيه أن من أبرز فضائل المدينة المنورة أنها تحوي المسجد النبوي الشريف، الذي يضم قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر خليفتيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما " .
هكذا قال ! !
ونحب أن ننبه الدكتور وغيره إلى أن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يضم قبرًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم قد حذر من بناء المساجد على القبور وشدد في ذلك، ولعن من فعله وهو في سياق الموت .
ولما توفي صلى الله عليه وسلم دفنه الصحابة في بيته في حجرة عائشة خارج المسجد، ودفن فيما بعد معه الخليفتان أبوبكر وعمر رضي الله عنهما وهكذا كان المسجد الشريف على حده، والقبور في بيت النبي صلى الله عليه وسلم على حده، وقد بينت عائشة رضي الله عنها الحكمة في دفنه صلى الله عليه وسلم بقولها :
لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها؛ كشفها، فقال وهو كذالك : ( لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ؛ يحذر ما صنعوا، فلولا ذلك؛ لأبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا . رواه البخاري ومسلم .(150/255)
وقد بقي قبره صلى الله عليه وسلم معزولًا عن المسجد، والمسجد خال من القبور؛ كما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاءه، حتى جاء عهد الوليد بن عبد الملك بعد موت الصحابة، وأراد توسعة المسجد، فشملت التوسعة الجهة الشرقية، ودخلت بسببها الحجرة النبوية في المسجد .
ولم يكن هذا بمشورة أهل العلم وموافقتهم، وإنما نفذ بقوة السلطة .
وكان الخلفاء قبل الوليد يوسعون المسجد من الجهات الآخرى، ويتركون الجهه الشرقية؛ تفاديًا لدخول الحجرة النبوية .
فلم يكن تفضيل المسجد النبوي من أجل القبر، بل لأنه أحد مساجد الأنبياء التي تشد الرحال للصلاة فيها، وفضيلته ثابتة قبل إدخال الحجرة فيه، والذين أدخلوا الحجرة فيه إنما قصدوا التوسعة، وحصل دخولها تبعًا لا قصدًا .
2- استدل على مشروعية زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } .
وبالحكاية المروية عن العتبي أن أعرابيًا جاء إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال : السلام عليك يا رسول الله ! سمعت الله يقول : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَّلَمُواْ } الآية . . . إلخ القصة .
والجواب أن نقول :
أما الآية؛ فلا يصح الاستدلال بها على مشروعية زيارة القبر؛ لأن المقصود بها المجيء إليه صلى الله عليه وسلم في حياته، وذلك لأمور :
1 ) أنه سبحانه قال : { جَآءُوكَ } ، ولم يقل : جاؤوا إلى قبرك . ومعلوم أنه لو قال شخص لآخر : ائتني لأعطيك كذا، أو لأعمل لك كذا؛ لم يفهم المخاطب أن المراد المجيء إلى قبر القائل بعد موته، وإنما يفهم أن المراد المجيء إليه في حياته خاصة .(150/256)
2 ) أنه سبحانه قال : { وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ } ، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يكون في حياته لا بعد موته؛ لأن الميت لا يتأتى منه الاستغفار لأحد؛ لأنه عمل، والميت قد انقطع عمله؛ كما في الحديث : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله . . . ) .
3 ) أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا هذا الفهم، فلم يكونوا يأتون إلى قبره عليه الصلاة والسلام ويطلبون منه أن يستغفر لهم، بل إنهم لما قحطوا؛ لم يذهبوا إلى قبره ويطلبوا منه أن يدعوا الله لهم بالغيث، وإنما ذهبوا إلى عمه العباس، وطلبوا منه أن يدعوا الله لهم بالغيث، والقصة مشهورة، فعدلوا عن الفاضل إلى المفضل؛ لعلمهم أنه لا يشرع طلب الدعاء من الميت .
وأما قصة العتبي وما فعله الأعرابي؛ فلا تصلح دليلًا؛ لأن الأحكام الشرعية لا تثبت بالقصص والحكايات والمنامات، وإنما تثبت بالأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة، وفعل هذا الأعرابي مخالف لمدلول الآية التي ذكرها كما قلنا؛ لأن الله قال :
{ جَآءُوكَ } ، ولم يقل : جاؤوا إلى قبرك، ومخالف أيضًا لهدي الصحابة والتابعين لهم باحسان، فلم يكن أحدًا منه يأتى إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه الاستغفار والشفاعة؛ كما فعل هذا الأعرابي، فلوا كان الصحابة يفهمون من الآية أنها تطالبهم بهذا؛ لتبادروا إليه .
3- تناقض الدكتور في حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتارة يقول : " وقد أجمع العلماء في كافة الأزمان والعصور على وجوب زيارة قبره الشريف " .
وقال : " ومهما يكن من أمر؛ استنبط الأئمة من الآية الكريمة ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوب زيارته " .
وتارة يقول : " وهنا يتجلى سؤال هام : هل هذه الزيارة واجبة ؟ " .
ثم ساق أقوال العلماء في ذلك . وهذا تناقض واضح أتركه بدون تعليق .(150/257)
مع أننا لا نشك في مشروعية زيارة قبره صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية وفضيلتها، لكن بدون غلو، وبدون سفر، بل كما كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يفعل، فقد كان ابن عمر إذا قدم من سفر يقول :
" السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت " ، ثم ينصرف .
ولم يكن يفعل هذا دائمًا، بل يفعله إذا قدم من سفر، ولم يكن هو ولا غيره إذا كانوا مقيمين بالمدينة يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويترددون عليه , لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ قبره عيدًا بالتردد عليه .
4- ثم قال الدكتور :
" وقد وردت أحاديث كثيرة تنص على زيارة النبي صلى الله عليه وسلم؛ منها : ( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ) ، و ( ومن زار قبري وجبت له شفاعتي ) ، و ( من حج ولم يزرني؛ فقد جفاني ) ، وهذه الأحاديث وإن طعن في أسانيدها؛ إلا أنها بتعددها وكثرتها تتقوى وتعتضد كما يقول رجال الحديث " انتهى كلام .
والجواب عنه أن نقول :
أولًا : لم يبين الدكتور نوعية الطعن في أسانيد هذه الأحاديث؛ لأنه يخشى أن ينكشف أمرها للقراء؛ لأنها قد طعن فيها الحفاظ بالضعف المتناهي في بعضها، وبعضها الآخر، قالوا : أنه موضوع .
قال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على السبكي :
" وجميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب وزعم أنها بضعة عشر حديثًا ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة وهي، وقد بلغ الضعف ببعضها إلى أن حكم عليه الأئمة الحفاظ بالوضع " .
وقال أيضًا :
" فقد تبين أن جميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفه أو موضوعه لا أصل لها " انتهى من " الصارم المنكي "
( ص30 و244 ) .
ومن جملة هذه الأحاديث ما ذكره الدكتور في هذه المقالة .
ثانيًا : قوله : " إلا أنها بتعددها وكثرتها تتقوى وتعتضد " .
نقول : كثرتها لا تفيدها شيء مادامت كلها واهية أو موضوعة .(150/258)
قال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي :
" وكم من حديث له طرق أضعاف هذه الطرق التي ذكرها المعترض، وهو موضوع عند أهل هذا الباب (1) . ، فلا يعتبر بكثرة الطرق وتعددها، وإنما الاعتماد على ثبوتها وصحتها " .
وقال أيضًا :
" وعلى كل تقدير؛ فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجون به، فعلم أن هذه الأحاديث ليست مما يعرفه أهل العلم، ولهذا لما تتبعت؛ وجدت رواتها أما كذاب وأما ضعيف سيء الحفظ " انتهى .
وقد بين رحمه الله طرق هذه الأحاديث واحدًا واحدًا، وأجرى عليها دراسة دقيقة في هذا الكتاب القيم، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وهو كتاب مطبوع ومتداول، ينبغي لطالب الحق الاطلاع عليه .
5- ثم قال الدكتور :
" وإذا دخل المسجد النبوي الشريف؛ فعل ما يفعله في سائر المساجد . . . " .
إلى أن قال :
ثم يصلي عند منبره ركعتين، ويقف بحيث يكون عمود المنبر بحذاء منكبه الايمن، وهو موقفه عليه الصلاة والسلام وهو بين القبر الشريف والمنبر، ثم يسجد لله شكرا على ما وفقه " انتهى كلامه .
ولنا عليه ملاحظات :
الأولى : تحديده مكان الصلاة عند المنبر، وأن يجعل عموده بحذاء منكبه الايمن تحديد لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( ما بيين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ) .
فكل ما بين بيته صلى الله عليه وسلم ومنبره فاضل، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد؛ إلا المسجد الحرام ) .
فجعل المسجد النبوي كله مكان لفضيلته .
فلما تحجرت واسعًا أيها الدكتور، وحصرت الفضيلة في مكان ضيق، من غير دليل ؟ !(150/259)
ثم لماذا قلت : " بين القبر الشريف والمنبر " ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما بين بيتي ومنبري ) ، ولم يصح أنه قال : " ما بين قبري ومنبري " ؟ ! وإنما هذه رواية؛ قالوا : أنها رواية بالمعنى .
والملاحظة الثانية على قوله : " ثم يسجد لله شكرًا " ، فما دليله على مشروعية سجود الشكر في هذا الموضوع ؟ ! فإن العبادات لا تثبت إلا بالدليل، وقد كان الصحابة وسائر المسلمين يدخلون المسجد النبوي، وما ذكر أنهم يسجدون سجود الشكر .
الملاحظة الثالثة : ما الذي يدريه أن هذا المكان بالذات هو موقف الرسول ؟ ثم لو كان؛ فما الدليل على أنه يشرع الصلاة فيه خاصة ؟
6- ثم قال الدكتور : " ويقف ( يعني : عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ) كما يقف في الصلاة " .
وأقول : هذا من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كيف يقف عند السلام على الرسول؛ كما يقف في الصلاة إمام الرب سبحانه .
7- ثم بعد ما ذكر الدكتور صفة السلام على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر .
قال : " ثم يدعو لنفسه ووالديه ولمن أوصاه بالدعاء ولجميع المسلمين " .
وهذا الذي قاله الدكتور لا دليل عليه من الكتاب والسنة، ولا من عمل الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فلم يكونوا يتحرون الدعاء عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الصحابة إذا أراد أحدهم أن يدعوا لنفسه؛ استقبل القبلة، ودعا في مسجده، لا يقصدون الدعاء عند الحجرة " .
وقال أيضًا :
" لم يقل أحد من العلماء : أن الدعاء مستجاب عند قبره، ولا أنه يستحب أن يتحرى الدعاء متوجهًا إلى قبره، والمشروع عند زيارة القبر السلام والدعاء للميت فقط " .
8- ثم قال الدكتور :
" ويستحب أن يزور شهداء أحد يوم الخميس، ويقرأ آية الكرسي، وسورة الإخلاص " .(150/260)
ونحن نسأل الدكتور : بأي دليل خصصت يوم الخميس لزيارة الشهداء ؟ ! وما دليلك على مشروعية قراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص عند زيارة قبورهم ؟ !
والذي قرره العلماء أن القراءة على القبور بدعة، والمشروع عند زيارتها السلام على أموات المسلمين، والدعاء لهم، والاعتبار والاتعاظ .
هذا هو الثابت من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم
9- ثم ختم الدكتور مقالته بقوله :
" وإذا أراد الرجوع إلى بلده؛ استحب له أن يودع المسجد بركعتين، ويدعو بما أحب " .
وهذا كالذي قبله يفتقر إلى دليل؛ لأن العبادات توقيفية .
والله أعلم .
وختامًا :
نحن لا نعترض على مدح النبي صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا إطراء ما دام لم يخصص في وقت معين، وكذا لا نعترض على دراسة سيرته صلى الله عليه وسلم على مدار السنة كلها؛ لأجل أخذ القدوة منها، وإنما نعترض على تخصيص وقت معين هو أول ربيع الأول فقط .
ونسأل الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
http://www.alfuzan.net/islamLib/viewchp.asp?BID=358&CID=9 - TOP#TOP توضيح حول الاحتفال بالمولد النبوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون .
و بعد :
فقد اطلعت في " جريدة المدينة المنورة " ( العدد 5427، بتاريخ 1/4/1402هـ ) على ما كتبه الأخ الأستاذ أسعد أبو الجدايل حول تعقيبي على الاحتفال بالمولد النبوي، وقد طلب مني سعادته توضيح الأمور التالية :
1 – يقول : " إذا سمينا الاحتفال بالمولد جدلًا عبادة، باعتباره ذكرًا، والذكر من العبادات، فما الذي يمنع من أن نعتبره نوعًا من التنظيم لبعض أحوال هذه العبادة ينجر عليه ما انجر على عبادة التراويح التي نظمها الخليفة الراشد سيدنا عمر بن الخطاب . . . " .(150/261)
2 – " ما المانع أن يكون الاجتماع لتذكر وتدارس سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم بدعة حسنة، خاصة وقد استحسن ذلك الكثير من المسلمين في شتى أصقاع الدنيا منذ مئات السنين، وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد مرفوعًا إلى الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن مسعود : " ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا، فهو عند الله قبيح " ؟ . . . " .
3 – " إذا كان من فضل يوم الجمعة أنه ولد فيه أبو البشر آدم عليه السلام، فشرف به الزمان – أعني : الزمن المتجدد بيوم الجمعة – فما الذي يحول دون أن يشرف يوم الاثنين الذي ولد فيه أكرم خلق الله على الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحتفل المسلمون بذكر مولده فيه، سواء فيه أو بعده، خاصة وقد أشاد به صلى الله عليه وسلم – عندما سئل عن صومه فيه – بقوله : ( ذلك يوم ولدت فيه وفيه أوحي إلي ) " .
4 – " ثم إن البدعة يجب أن تعرض على أدلة الشرع، فإن كان فيها مصلحة، فهي واجبة، وإن اشتملت على محرم فهي محرمة . . . " الخ الأحكام الخمسة .
5 – " علاوة على أنه ليس كل بدعة محرمة وإلا لحرم جمع أبي بكر وعمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم القرآن وكتبه في المصاحف بأوسع مما كتب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم . . . " .
ثم راح يمثل بأمور استجدت، مثل ما استجد من أدوات القتال، والأذان على المنائر، واتخاذ الربط والمستشفيات والمدارس . . .
6 – " استحدث أمور كثيرة لم تكن على عهد السلف، منها جمع الناس على إمام واحد في آخر الليل لإقامة صلاة التهجد بعد صلاة التراويح، وقراءة دعاء ختم القرآن .
و كما يقال مما يشبه الخطبة من الإمام بالحرمين الشريفين ليلة سبع وعشرين في صلاة التهجد وكنداء المنادي بقوله : صلاة القيام أثابكم الله .
فكل هذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف، فهل يكون فعلنا له بدعة ؟ ! " .(150/262)
هذا حأصل ما وجهه إلي الأستاذ أنور من إشكالات، أو ما يعده مسوغات للاحتفال بالمولد النبوي .
- وجوابي عن ذلك :
إنني أولًا : أشكر الأخ الأستاذ أنور على حرصه على معرفة الحق للعمل به، وهذا شأن المؤمن، وأسال الله لنا وله ولجميع المسلمين التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح الخاص لوجهه، وأقول :
1 – إذا كان الاحتفال بالمولد عبادة، وهو عبادة لا شك، فالأصل في العبادات التوقيف، فلا يثبت منها شيء إلا بدليل ولا دليل على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي حتى يثبت له أصل ينجر عليه التنظيم الذي ذكرت، مع أن العبادة توقيفية في أصلها وفي صفتها التي تؤدى عليها وفي توقيت آدائها .
أما ما ذكرت من أن عمر رضي الله عنه نظم عبادة التراويح، فالواقع أن عمر لم يحدث في التراويح أي زيادة عما كانت عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما احياها كما كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث جمع الناس على إمام واحد فيها .
2 – وأما الاجتماع لتدارس سيرته صلى الله عليه وسلم إذا لم يقيد بوقت خاص كيوم مولده، فهو شيء طيب، وليس هو من البدعة لأن الله تعالى يقول : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
ودراسة سيرته العطرة وسيلة للاقتداء به، ولكن لا يخصص ذلك بوقت معين، لأنه لا دليل على التخصيص .
وأما ما ذكرتم من استحسان الكثير من أناس لهذا، فلا يصلح دليلًا على جواز الاحتفال ما دام أن ذلك حدث بعد عهد الخلفاء الراشدين والقرون المفضلة .
وأما الأثر الذي ذكرتموه عن عبد الله بن مسعود : " ما رآه المسلمون حسنًا . . . " الخ، فهو يعني ما أجمع عليه المسلمون . وهل الاحتفال بالمولد النبوي كذلك قد أجمع عليه المسلمون ؟ ! لا .(150/263)