أنظر في الأغذية والأشربة الضارة التي لا يتخلف عنها الضرر إذا تناولها المختار الواجد لغيرها.
فإذا اشتدت ضرورته إليها ولم يجد منها بدًا فإنها تنفعه ولا يتولد منها ضرر أصلًا لأن قبول طبيعته لها وفاقته إليها وميله منعه من التضرر بها بخلاف حال الاختيار وأمثلة ذلك معلومة مشهورة بالحس فإذا كان هذا في الأوصاف الحسية المؤثرة في محالها بالحس فما الظن بالأوصاف المعنوية التي تأثيرها إنما يعلم بالعقل أو بالشرع فلا تظن أن الضرورة أزالت وصف المحل وبدبته فإنا لم نقل هذا ولا يقوله عاقل وإنما الضرورة منعت تأثير الوصف وأبطلته فهي من باب المانع الذي يمنع تأثير المقتضي لأنه يزيل قوته ألا تري أن السيف الحاد إذا صادف حجرًا فإنه يمنع قطعه وتأثيره لا أنه يزيل حدته وتهيأه لقطع القابل) [مفتاح دار السعادة لأبن القيم ص348ـ349 ط ثانية لمكتبة الأزهر .
المسألة الثانية: في بيان حد الاضطرار الذي يبيح تناول المحرم:
حد الاضطرار هنا يتبين من مجموع الآيات الواردة في الموضوع وهي :
1 – قوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} فأطلق في هذه الآية الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت الضرورة فيها .
2 – قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} فقيد الإباحة في هذه الآية بأن يكون المضطر غير باغ ولا عاد لكنه لم يبين سبب الاضطرار ولم يبين المراد بالباغي والعادي .
3 ـ قوله تعالى: {فمن اضطر في مخمصه غير متجانب لإثم فإن الله غفور رحيم} فبين أن سبب الاضطرار هو المخمصة وهي الجوع وأشار إلى أن المراد بالباغي والعادي المتجانب هو المائل فيفهم من الآية أن الباغي والعادي كلاهما متجانب لإثم [تفسير الشنقيطيص105 ج 1 وتفسير آيات الأحكام للجصاص ص126 ج 1 .](40/173)
وإذا يمكننا أن نقول إن حد الاضطرار المبيح لتناول المحرم هو أن يخاف على نفسه التلف بسبب الجوع ولم يجد ما يتغذى به من الحلال بشرط أن يكون غير متجانب لإثم وهو الباغي والعادي .
وقد اختلف العلماء في المراد بالإثم الذي يتجانب إليه الباغي والعادي على قولين:
القول الأول:
أن المراد ب_ (الإثم الذي تجانب إليه الباغي هو الخروج على إمام المسلمين والإثم الذي تجانب إليه العادي هو إخافة الطرق وقطعها على المسلمين ويلحق بذلك كل سفر معصية لله.
لأن في إباحة ذلك إعانة على المعصية وذلك ليجوز.
القول الثاني: أن المراد بإثم الباغي والعادي أكلهما المحرم مع وجود الحلال فهو كالتأكيد لقوله: (فمن اضطر) [تفسير الشنقيطي ص105 ج 1 .] (فعلى القول الأول يكون المراد بالباغي الخارج على الإمام والمراد بالعادي قاطع الطريق وكل مسافر سفر معصية وعلى القول الثاني: المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال والعادي: الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه وبكل واحد من القولين قال جمع من المفسرين .
[تفسير ابن كثير ص205 ج 1 وتفسير ابن جرير ص323ـ325 ج 3 .] وثمرة الخلاف أنه على القول الأول لا يجوز لقاطع الطريق والخارج على الإمام والمسافر سفر معصية الأكل من الميتة وإن خافوا الهلاك ما لم يتوبوا وعلى القول الثاني : يجوز لهم ذلك إن خافوا الهلاك وإن لم يتوبوا
الترجيح:
والراجح هو القول الثاني لظاهر النصوص ولأن العاصي كغيره يحرم عليه إلقاء نفسه في التهلكة ويجب عليه توفي الضرر فكيف لا تتناوله إباحة الرخص.
.
.(40/174)
والإحكام عامة يخاطب بها كل مكلف ولا يصح استثناء أحد إلا بنص من الشارع [تفسير المنار ص99 ج 2 .] والآية [مدراج السالكين ص370 ج 1لابن القيم .] لا تعرض فيها للسفر بنفي ولا إثبات ولا للخروج على الإمام ولا هي مختصة بذلك ولا سيقت له وهي عامة في حق المقيم والمسافر والبغي والعدوان فيها يرجعان إلى الأكل المقصود بالنهي لا إلى الأكل المقصود بالنهي لا إلى أمر خارج عنه لا تعلق له بالأكل .
ولأن نظير هذا قوله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانس لإثم) فهذا هو الباغي العادي – والمتجانب للإثم المائل إلى القدر الحرام من أكلها وهذا هو الشرط الذي لا يباح له بدونه ولأنها إنما أبيحت للضرورة فتقدرت الإباحة بقدرها وأعلمهم أن الزيادة عليها بغي وعدوان وأثم فلا تكون الإباحة للضرورة سببا لحله) .
وممن اختار هذا القول الإمام ابن جرير والقرطبي وشيخ الإسلام ابن تيمية وإليك مقتطفات من كلامهم في ذلك :
يقول ابن جرير رحمة الله : (وأولى : الأقوال بتأويل الآية قول من قال : فمن اضطر غير باغ بأكلة ما حرم عليه من أكله ولا عاد في أكلة وله عن ترك أكله بوجود غيرة مما أحلة الله مندوحة وغنى .
وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخص لأحد في قتل نفسة بحال – إلى أن قال – فالواجب على قطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة الأوبة إلى طاعة الله والرجوع إلى ما الزمهم الله الرجوع إلية والتوبة من معاصي الله لا قتل أنفسهما بالمجاعة فيزدادان إلى إثمهما إثما وإلى خلافهما أمر الله خلافا) [تفسير ابن جرير ـ صلى الله عليه وسلم ـ 325 ج 3].(40/175)
ويقول القرطبي لما ذكر قول المانعين من الترخص في سفر المعصية : (قلت : الصحيح خلاف هذا فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية اشد معصية مما هو فيه قال الله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم} وهذا عام ولعلة يتوب في ثاني الحال فتمحوا التوبة هنا ما كان) [تفسير القرطبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ 232 ج 2 .].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (أما الآية فأكثر المفسرين قالوا المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرتة على الحلال والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إلية وهذا التفسير هو الصواب [مجموع الفتاوى ـ صلى الله عليه وسلم ـ 111 ج 24] وهو قول أكثر السلف .
.
.
وليس في الشرع ما يدل على ان العاصي بسفرة لا يأكل الميتة ولا يقصر بل نصوص الكتاب والسنة عامة مطلقة) [الاختبارات الفقهية ـ صلى الله عليه وسلم ـ 321ـ32.].
المسألة الثالثة : في بيان حكم تناول الطعام المحرم في حال الضرورة:
اختلف العلماء في ذلك على قولين :
القول الأول :
يجب على المضطر الأكل من الميتة ونحوها لقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [سورة النساء آية (29) .] وقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة آية (195) .] .
وترك الأكل مع إمكانه في هذه الحالة إلقاء بيده إلى التهلكة – ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحله الله له فلزمه كما لوكان معه طعام حلال وهذا أحد الوجهين في مذهب الحنابلة [المغني مع الشرح الكبير ص74 ج 11 .] وهو أيضًا أحد الوجهين في مذهب الشافعية [المجموع شرح المهذب ص39ـ40 ج 9 .] وهو قول الحنفية [حاشية ابن عابدين ص215 ج 5 .] وهو الصحيح من مذهب المالكية [تفسير الشنقيطي ص110 ج 1 .]
القول الثاني : لا يلزمه في هذه الحال الأكل من المحرم لأن له غرضًا في تركه وهو أن يتجنب ما حرم عليه ولأن إباحة الأكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص وهذا هو الوجه الثاني للحنابلة والشافعية [المصدران السابقان.]
الترجيح:(40/176)
والراجح هو القول الأول وهو وجوب الأكل في هذه الحالة وهو اختيار شيخ الإسلام بن تيمية [مجموع الفتاوى ص80 ج 21 .] لأن الله حرم الإلقاء إلى التهلكة وقتل الإنسان نفسه كما في الآيتين السابقتين وترك الأكل والحالة هذه داخل في هذا المنهي عنه والأكل من الميتة في هذه الحالة وإن كان رخصة – فالرخصة قد تجب كما قاله جميع الأصوليين [تفسير الشنقيطي ص110 ج 1 .]
وقولهم : لأن له غرضًا في تركه وهو تجنب ما حرم عليه يجاب عنه بأنه في هذه الحالة لم يبقي محرمًا بل هو مما أباحه الله له .
فهو تجنب أمرًا مباحًا حينئذ .
المسألة الرابعة من بيان مقدر ما يباح للمضطر تناوله من المحرم:
يباح له أكل ما يسد الرمق ويأمن معه الموت بالإجماع ويحرم ما زاد على الشبع بالإجماع, واختلف في حكم الشبع على ثلاثة أقوال
القول الأول :
لا يباح له الشبع وهو إحدي الروايتين عن أحمد [المغني مع الشرح الكبير ص73 ج 11 .] وقال به بعض أصحاب مالك [بداية المجتهد ص349 ج 1 .] وأحد القولين للشافعي [بداية المجتهد ص349 ج 1 .] وهو قول أبي حنيفة [الجصاص في تفسير آيات الأحكام ص130 ج 1 .] لأن الآية دلت على تحريم ما ذكر فيها واستثني ما اضطر إليه فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل كحالة الإبتداء .
ولأنه بعد سد الرمق غير مضطر فلم يحل له الأكل لآية يحققه أن حاله بعد سد رمقه كحاله قبل أن يضطر وثم لم يبح له الأكل كذا هنا [المغني .](40/177)
القول الثاني: يحل له الشبع وهو الرواية الثانية عن أحمد [نفس المصدر .] وهو قول مالك [بداية المجتهد ص349 ج 1 .] وأحد القولين في مذهب الشافعي [المجموع للنووي ص40 ج 9 .] لحديث جابر بن سمرة : أن رجلًا نزل الحرة فنفقت عنده ناقة فقالت له امرأته اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكلها فقال حتى أسأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسأله فقال : (هل عندك غني يغنيك ؟ قال: لا قال: فكلوها) [رواه أبوداوود وسكت عنه هو والمنذري وليس في سنده مطعن / نيل الأوطار (156/8) .
فأطلق ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمر بالأكل ولم يحدد .
القول الثالث:
التفصيل بين من يخشى استمرار الضرورة فيحل له الشبع ومن ضرورته مرجوة الزوال فلا يحل له إلا سد الرمق لأن من ضرورته مستمرة إذا اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب ولا يتمكن من البعد عن الميتة مخافة الضرورة المستقبلة ويفضي إلى ضعف بدنه وربما أدي ذلك إلى تلفه بخلاف من ليست ضرورته مستمرة فإنه يرجوالغني عنصرا بما يحل له – وهذا احتمال في مذهب الحنابلة ذكره صاحب المغني [ص 73ـ74 ج 11 .] وقول في مذهب الشافعية [المجموع للنووي ص42ـ43 ج 9 .]
الترجيح:
ولعل الراجح هو القول الثالث بالتفصيل المذكور لقوة توجيهه ولأن الأعرابي الذي سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد استفسر منه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرخصة ولم يحدد له مقدار ما يأكله منها كما في الحديث الذي استدل به أهل القول الثاني .
المسألة الخامسة : هل يجوز للمضطر أن يتزود من الطعام المحرم :
اختلف العلماء في ذلك على قولين : يجوز له ذلك وهو قول مالك [بداية المجتهد ص349 ج 1 .] ورواية عن أحمد [المغني مع الشرح الكبير ص75 ج 11 .] وهو قول الشافعية [المجموع النووي ص43 ج 9 .] لأنه لا ضرر في استصحابها ولا في إعدادها لدفع ضرورتها وقضاء حاجته ولا يأكل منها إلا عند ضرورته .(40/178)
القول الثاني: لا يجوز له التزود من الطعام المحرم وهو الرواية الثانية عن أحمد [المصدر السابق] لأنه توسع في ما لم يبح إلا لضرورة .
ولعل الراجح هو القول الأول لاسيما إذا خشي استمرار الضرورة لأن الأعرابي الذي طلبت منه امرأته تقديم لحم الميتة وشحمها للادخار لما سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك رخص له.
وقد مر حديثه قريبًا .
الخاتمة
في بيان سماحة الإسلام وحفاظه على سلامة الإنسان من خلال ما مر في هذه المباحث
المؤمن قد أغناه الله بحلاله عن حرامه وبفضله عن من سواه فما حرم عليه شيئًا من الخبائث إلا وقد أباح له من الطيبات مت هو أضعاف أضعافه.
ونحن بعد هذه الجولة السريعة لاستعراض حكم الإسلام في الأطعمة وهو الدين الذي أختاره الله للبشرية بأجمعها ما بقيت الدنيا لتعيش في ظلاله وتنعم في هدية وتستضئ بنوره في جميع مجالات الحياة نلمس من خلال ما مررنا به من مباحث الأطعمة أن منهج الإسلام في هذا المجال كمنهج في جميع المجالات منهج السماحة والحفاظ على سلامة الأرواح والأبدان والعقول فيبيح الطيبات من الأطعمة النافعة للأبدان والعقول ويحرم الخبائث الضارة للأبدان والعقول:
{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا}{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة آية (168، 172)] {الله الذي جعل لكم الأرض قرارًا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات} [غافر آية (64)] {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف آية (157)] فهذه الآيات وأمثالها توضح منهج الإسلام فيما يحل ويحرم من الأطعمة فالأصل في الطيبات الحل وإنما حرم على اليهود بعض الطيبات عقوبة لهم على ظلمهم {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [النساء آية (160)](40/179)
فالله خلق هذه الطيبات من الرزق لنفع الخلق وأوصى باستعمالها والانتفاع بها على وجه تحقق به المصلحة وتندفع به المفسدة من غير مجاوزة لهذا الحد {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا أنه لا يحب المسرفين} [الفرقان آية (67)] {ولا يجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورا} [الإسراء آية (67)]
وهكذا ترسم هذه الآيات الكريمات المنهج القويم في الأكل والشرب ولأنفاق من الطيبات.
وهو منهج وسط بين البخل والإسراف وإذا كان الله في هذا المنهج قد أباح الطبيبات من الأطعمة وحرم الخبائث فهو ينهي أشد النهى عن تجاوز هذا المنهج ومخالفته بتحليل ما حرم أو تحريم ما أحل فيقول سبحانه:{يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
وكلوا مما رزقكم الله حلالًا طيبًا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} [المائدة آية (87ـ 88)] {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف آية (32)] {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالًا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون.
وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة} [يونس آية (59ـ 60)] {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون.
متاع قليل ولهم عذاب إليم} [النحل آية (116ـ 117)]
وذلك أن التحليل والتحريم حق لله – فمن حلل وحرم فقد جعل نفسه شريكًا لله في هذا الحق ومن هنا عاب الله على اليهود والنصارى طاعتهم لأحبارهم ورهبانهم في تحليل ما حرم وتحريم ما أحله وأخبر أنهم بهذه الطاعة قد اتخذوهم أربابًا من دون الله حيث يقول سبحانه {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا ألها واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة آية (31)](40/180)
كما عاب على أهل الجاهلية الذين استباحوا الميتة التي حرمها الله وحرموا أنواعًا من بهيمة الأنعام التي أباحها الله تقليدًا لآبائهم وأتباعًا لأهوائهم حيث يقول سبحانه {مت جعل الله من بجيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباؤنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون} [المائدة آية (103ـ 104)]
روى البخارى في صحيحة عن سعيد بن المسيب قال: (البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يجلبها أحد من الناس والسائبة: كانوا يسيبونها لألهتهم فلا يحمل عليها شيء .
.
.
.
والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثنى بعد بأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر.
والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضي ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يجعل عليه شيء وسموه الحامي) ا.
هـ .
"وهذه أمور كانت في الجاهلية فأبطلها الإسلام.
.
كانوا يحرمون من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله إتباعًا منهم لخطوات الشيطان فوبخهم الله تعالى ذكره بذلك وأخبرهم أن كل ذلك حلال فالحرام من كل شيء عندنا مت حرم الله تعالى ذكره ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والحلال منه ما حلله الله ورسوله كذلك"[ابن جرير في تفسيره ص133ـ 134ج 11.] وتشريع الجاهلية في كل زمان ومكان في هذا وفي غيره تشريع يبنني على إتباع الهوى والتقليد الأعمى ويبتعد كل الابتعاد عن الوحي المنزل:
{وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون} [المائدة آية (104)] أنه منطق الجاهلية الذي لا يزال متوارثًا إلى اليوم فتعاني منه البشرية الضيق والحرج والتوغل في متاهات الضلال ما لم تثب إلى رشدها وترجع إلى شريعة ربها.(40/181)
وقد طلب الله من عباده أن يأكلوا من طيبات ما رزقنهم وأن يشكروه على ذلك ليزيد هم من هذه الطيبات:{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} [البقرة آية (172)] وشكرها يون باعتراف القلب أنها من الله وحده.
وبالتحدث بذلك باللسان وبالاستعانة بها على طاعة الله – هذه أركان الشكر التي لا يتحقق إلا بوجودها جميعًا وإذا تحقق الشكر انتقى الأشر والبطر وصارت هذه الأطعمة قوامًا للحياة السعيدة وعونًا على عمارة هذا الكون العمارة اللائقة، وإذا لم يتحقق الشكر صارت هذه النعم استدراجًا للخلق حتى يحيق بهم الهلاك والدمار {أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين.
نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} [المؤمنون (55ـ 56)]
هكذا يرسم لنا الإسلام طريق الاستفادة من هذه النعم ويوضح لنا معالم الحلال والحرام في الأطعمة ويحذرنا من طريقي الإفراط والتفريط فيها اللذين قد سلك كل طريق منهما طائفة من ضلال البشر وبين لنا أنة لم يحرم علينا شيئًا إلا لأنه ضار خبيث فهو حرم الميتة أنها مستقذرة تعافها النفوس وكذلك عي ضارة لما فيها من انحباس الرطوبات والدم المتعفن الذي لا يخرج إلا بالتذكية الشرعية وحرم علينا الدم المسفوح لما يشتمل عليه من الميكروبات الضارة والمواد المتعفنة وهو يغذي تغذية خبيثة تخرج المتغذي به عن طبيعة الاعتدال.
…وحرم علينا لحم الخنزير ذلك الحيوان القذر الخبيث الذي ينبت لحمة في الغالب من القاذورات والأنجاس التي يتغذى بها كما ينشأ عن التغذي به الإصابة بالأمراض الخطرة لما في لحمة من أسباب المرض التي يثبتها الطب وتدل عليها التجربة وقال الله تعالى عنه: (فإنه رجس) أي نجس فهو نجس العين خبيث المطعم.(40/182)
وحرم الله ما أهل به لغير الله مما ذبح للأصنام من الأحجار والأشجار والقبور تقريبًا إليها أو ذبح للأكل وذكر عليه غير اسمه وسماه فسقًا: (أو فسقًا أهل لغير الله به) وقال (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) أي معصية والفسق الخروج عن طاعة الله وذلك يؤثر في الذبيحة خبيثًا ينتشر أثره على الآكل فيؤثر في سلوكه وأخلاقه.
وحرم لحوم السباع من الطير والبهائم لأن أكلها يكسب الآكل أخلاقًا عدوانية كأخلاق تلك السباع فتستحيل طباع البشر إلى طباع سباع ضارية شأنها الفتك والعدوان والظلم.
وبالجملة حرم الله كل خبيث من حيوان أو نبات {ويحرم عليهم الخبائث} وحرم كل ضار بالبدن أو العقل:{ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}.
{ولا تقتلوا بأيديكم إلى التهلكة} وأباح كل ما هو مفيد لا ضرر فيه من الحيوانات والنباتات {كلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا}
إننا من خلال هذا كله نلمس كمال هدى الإسلام ومنهجه في الأطعمة كما هو شأنه في جميع مجالات الحياة مما جعله دينًا قيمًا لكل زمان ومكان يتسع لدخول البشرية كلها فيه في أي وقت وفي آية بقعة.
إنه الدين الذي اختاره الله خاتمًا لشرائعه يحمل كل مقومات البشرية ويسعى بها دائمًا نحوالصلاح والفلاح:{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر للمؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا.
وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابًا إليمًا} [سورة الإسراء آية (9ـ 10)]
ثم إن الإسلام يحسب للضرورات حسابها ويشرع لها أحكامًا مناسبة فيقول الباري جل وعلا بعد أن يذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} ويقول: {إلا ما اضطررتم إليه}.(40/183)
ويقول :{فمن اضطر في مخمصه غير متجانب لإثم فإن الله غفور رحيم} فيبيح سبحانه للمضطر من المحرم قدر ما يرفع ضرورته فالإسلام يساير الإنسان في جميع أحواله في العسر وإليسر في السراء والضراء في السعة والضيق:{وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الجح آية (78)] {يريد الله بكم إليسر ولا يريد بكم العسر}.
[البقرة آية (185)]
فهوالدين الصالح لكل زمان ومكان ولكل حال من الأحوال لأنه تشريع من حكيم حميد يعلم ما يصلح للبشر.
ثم هو تشريع من غفور رحيم يريد أن يخفف عن عباده ولا يريد أن ينعتهم.
ثم هو مع هذا يريد من عباده أن يترفعوا عن الخبائث ولو جاءت من طريق غير مباشر فنهاهم عن أكل لحوم الجلالة التي تتغذي بالنجاسة ويقاس عليه لحم يأكل الجيف.
وحرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام ونهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن والسنور وقال إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه فلما كانت هذه المكاسب أثمان أعيان خبيثة محرمة أو في مقابل فعل محرم كانت مكاسب خبيثة لا يجوز التغذية وحثه على أن تكون من مادة طيبة لأن أكل الحلال له تأثير حسن على القلب وتأثير على السلوك والمادة الخبيثة تغذي خبيثة تؤثر على القلوب والطباع وتحجب العبد عن ربه فلا يستجاب له دعاء.
كذلك ينهى الإسلام عن كل طعام يضر بالجسم أو بالعقل أو يقتل فيحرم السموم والمخدرات يقول الله سبحانه:{ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصلية نارًا وكان ذلك على الله يسيرًا}(40/184)
ويقول سبحانه {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (من قتل نفسه بحديده فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ومن شرب سمًا فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)[صحيح مسلم ص118 ج 2 مع شرح النووي] وكذلك كل مادة تضر يحرم أكلها كالزجاج والتراب والحجر وكذلك يحرم الإسلام أكل النجس كالميتة ولبن الأتان والبول وأكل المتنجس – كاللبن والخل والدبس والطبيخ والدهن ففي الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم)[رواه أبوداود والنساء وصححه ابن حبان وغيره/نيل الأوطار ص165ـ ج 8] وفي رواية سئل عن الفأر تقع في السمن فقال إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وأن كان مائعًا فلا تقربوه)
هذا ويجعل بنا أن نختم بحثنا هذا بوصية الله للمؤمنين في هذا الموضوع حيث يقول سبحانه {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
وكلوا مما رزقكم الله حلالًا وطيبًا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} صدق الله العظيم.
……وصلى الله وسلم على نبيه الكريم محمد وآله وصحبة أجمعين.
فهرس المراجع
أولًا: القرآن الكريم وتفسيرة:
القرآن الكريم
تفسير ابن جرير تحقيق أحمد ومحمود شاكر طبعة دار المعارف بمصر 1957م.
تفسير القرطبي مطبعة دار الكتب المصرية سنة 1356ه .
تفسير ابن كثير مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة1373ه .
أحكام القرآن للحصاص طبعة مصورة عن الطبعة الأولى بمطبعة الأوقاف الإسلامية في دار الخلافة العلية سنة 1335ه .
أضواء البيان في أيضًاح القرآن للشنقيطي مطبعة المدني سنة 1383ه .
تفسير المنار الطبعة الثانية بالأوفست دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت مصورة عن طبعته الثانية سنة 1347ه .
بمطابع المنار.
في ظلال القرآن لسيد قطب دار الشروق ببيروت سنة 1393ه .(40/185)
ثانيًا: السنة وشروحها:
صحيح البخاري بشرحه فتح الباي المطبعة السلفية ومكتبتها.
صحيح مسلم بشرحه للنووي.
عمدة الأحكام بشرحها إحكام الأحكام لابن دقيق العيد بحاشية الصنعاني المطبعة السلفية ومكتبتها.
منتقى الأخبار بشرحه نيل الأوطار الطبعة الثانية بمطبعة الحلبي سنة 1371ه .
بلوغ المرام من أدلة الأحكام بشرحه سبل السلام للصنعاني.
إحكام الأحكام شرح أصول الأحكام لابن قاسم بالرياض سنة 1396ه للزيلعي.
ثالثًا: كتب تخريج الأحاديث:
التلخيص الخبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر العسقلاني شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة.
نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية – الطبعة الثانية 1393ه للزيلعي.
رابعًا: كتب الفقه المذهبي:
في المذهب الحنفي:
تكملة فتح القدير على الهداية مطبعة الحلبي الطبعة الأولى سنة1389ه .
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني نشر دار الكتاب العربي ببيروت1394ه .
رد المختار على الدار المختار لابن عابدين دار إحياء التراث العربي ببيروت.
في المذهب المالكي:
الشرح الكبير على مختصر خليل طبع دار إحياء الكتب العربية للحلبي.
الشرح الصغير على أقرب المسالك دار المعارف بمصر سنة 1392ه .
ج في المذهب الشافعي:
1ـ المجموع شرح المهذب للنووي بمطبعة التضامن الأخوي سنة 1348ه .
2ـ مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للشيخ محمد الشربيني الخطيب مطبعة الحلبي سنة 1377ه .
د الفقه الحنبلي:
1ـ المغني والشرح الكبير الطبعة الأولى في مطبعة المنار بمصر 1348ه .
2ـ المقنع بحاشيته المطبعة السلفية سنة 1382ه .
3ـ الروض المربع بحاشية العنقري مطبعة السنة المحمدية سنة 1367ه .
خامسًا : كتب الفقه العامة :
1 – بداية المجتهد لابن الرشد – دار الفكر ببيروت.
2 – الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة – طبع المكتبة الحلبية الطبعة الثانية سنة 1366 هـ .
3 – مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية – الطبعة الأولي سنة 1382 هـ .(40/186)
4 – الاختيارات الفقهية من فتأوي شيخ الإسلام ابن تيمية اختيار على بن محمد بن عباس ألبعلى – مطبعة أنصارا السنة المحمدية سنة1369 هـ .
5 – أحكام أهل الذمة لابن القيم – الطبعة الأولي سنة 1381 هـ .
6 – إعلام الموقعين لابن القيم – الطبعة الأولي في سنة 1374ه .
ـ زاد المعاد لابن القيم – الطبعة الثانية سنة 1369 هـ .
بمطبعة الحلبي .
سادسًا: كتب اللغة العربية:
1 – القاموس المحيط للفيروز آبادي – مطبعة السعادة بمصر .
2 ـ المصباح المنير في غريب الشرح الكبير – مطبعة الحلبي سنة 1369 هـ .
سابعًا : كتب التراجم :
1 – الإعلام لخير الدين الزركلي – الطبعة الثالثة سنة 1389 هـ .
2 – تهذيب الأسماء واللغات للنووي – مصورة دار الكتب العلمية ببيروت .
ثامنًا : كتب في معلومات عامة :
1 – حياة الحيوان للدميري – مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة 1378 هـ .
2 – روح الدين الإسلامي – لعفيف طبارة – الطبعة الثانية عشرة .(40/187)
كتب المناهج والفرق(/)
…الأجوبةُ المُفيدَة
…عَن
…أَسئِلَة المنَاهِجِ الجدِيَدة
الأجوبَةُ المُفِيدَة
عَنْ
أَسئِلَةِ المْنَاهِجِ الجَْدِيدَة
مِنْ إجَابَاتِ
مَعَالي فضيلة الشَّيخ الدّكتور
صَالحِ بْن فوزان بْن عبد الله الفَوزَان
عُضوُ هَيئة كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَعُضْوُ اللَّجنَةِ الدَّائِمَةِ للإِفْتَاءِ
- حفظه الله –
جَمْعُ وَتَعْليقُ وَتخريجُ
جَمَال بْن فُريحِان الحَْارِثَّي
طبْعَةٌ جَدِيدَةٌ مَزِيدَةٌ ومُنقَّحَةٌ
مقدمة الكتاب
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
[ آل عمران: 102]
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } ……… [ النساء: 1]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } …………… [الأحزاب: 70, 71]
أما بعد:(41/1)
فـ (( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم, يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصّرون بنور الله أهل العمى؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه؛ فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح اثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )) (1).
ونرجو أن يكون من هؤلاء شيخنا الفاضل:
معالي الشيخ: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان – حفظه الله –
في عصر تلاطمت فيه أمواج المذاهب الهدّامة وكثر فيه دعاة البدعة والفتنة والضلالة، وأصحاب الشّبه، وظهرت فيه بعض الكتب والمجلات التي تلبس على طلاب العلم دينهم بستار السنة, ناهيك عما تفعله في العامة من تشويش.
فأوضح فضيلته لطلاب العلم ما هم بحاجة إليه من بيان السنة، وكشف لهم عن الشُّبه التي أُلقيت في طريقهم, ورَدَّ على دعاة المناهج الهدَّامة, وعلى كل مخالف للكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح بالأدلة والبرهان والبيان الشافي؛ وذلك ضمن إجاباته على أسئلة قُدِّمَت له في دروس صيف عام ( 1413هـ) بمدينة الطائف، وغير ذلك من الدروس والمحاضرات واللقاءات في أماكن مختلفة وقد حظيت بتسجيلها وتنسيقها، ثم قمت بتفريغها بمساعدة بعض الأخوة – جزاهم الله خيراً-، واعتنيت بها، ثم قمت بتخريج الآيات والأحاديث والآثار، وعَلَّقت على بعض المواضع التي رأيتُ أن أعلِّق عليها بما يناسب المقام تتميماً للفائدة.
ولقد حرصت على خدمة السُّنة بنشر هذا الكتاب؛ إشاعة للعلم الشرعي المؤصّل على الدليل من كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على فهم السلف الصالح.
__________
(1) " الرد على الجهمية" للإمام أحمد – رحمه الله – (ص 85 ). تحقيق: عبدالرحمن عميرة، وطبعة السلفية (1393 هـ ) ، (ص : 6 )(41/2)
وبعد الانتهاء عرضت هذا العمل على فضيلة شيخنا معالي الشيخ: صالح الفوزان – حفظه الله ونفعنا بعلمه-, فنظر فيه، وقَوَّم، وأضاف، وحذف ما يراه، ثم أجازِني خطياً في نشره- كما ستراه-؛ ليعم الانتفاع به, والحمد لله على توقيفه.
وهذا جهد المقل من حريص على نشر الدعوة السلفية, والله من وراء القصد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
…قاله وكتبه الراجي عفو ربه
…أبو فريحان جمال بن فريحان الهميلي الحارثي
…يوم الاثنين السادس من شهر ربيع الأول
…من سنة أربع عشرة وأربعمائة وألف للهجرة
…مدينة الطائف
مقدمة الطبعة الثالثة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أما بعد: فالمتأمل في أحوال الناس- من المسلمين- اليوم يجد العجب العجاب، فما بين جاهل، ومغرور، ومغرر به، وضال، وصاحب هوى، ومحب للظهور، ومتعالم، وما بين عالم عامل، ومتبع مهتدٍ، ومستفتٍ مسترشد، وناصر للسنة. وصدق الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً...)) أحمد: (4/ 126).
ولكن ما هو المخرج من هذا الذهول ومن هذا التلاطم، إنه لا شك ولا ريب التمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال - صلى الله عليه وسلم -: (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )) أبو داود : ( 4607).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي )) الصحيحة: (4/ 361). راجع المستدرك: (1/93).
فحينما ترك الكثير من الناس الاهتمام بهذين الأمرين والتمسك بهما، وأخذوا بالهوى، وبالمعقول دون المنقول، ومالوا إلى العاطفة، وإلى الرغبات(41/3)
النفسية. مالت بهم الأهواء، وزلت بهم الأقدام، فوقعوا في الفتنة.
وأما المتمسكون بالحبلين، الذين عضوا عليها بالنواجذ المهتدون بهما على نهج السلف الصالح، فهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة وهم الجماعة -ولو كانوا من رعاة الغنم- فهم الذين قال - صلى الله عليه وسلم - فيهم:(( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم )). مسلم: (1920).
وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث الفرق ((..... وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )) الحاكم: (1/ 129)
قلنا من هي قال: (( الجماعة ))، وقال: (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) الترمذي: (2641 ).
فالواجب على المسلمين عامة والشباب خاصة الذين يريدون النجاة في الآخرة والسعادة في الدنيا أن يكونوا على حذر من مواطن الفتن، وأن يبتعدوا عنها ويجتنبوها وأن لا يخوضوا في بحارها، فإن من دخلها لا تأمن عليه الفتنة، والحذر كل الحذر من دعاة الضلالة الذين يتلبسون بالسنة ويتكلمون باسم السنة، وهم أبعد ما يكونون من السّنة، لأنهم إما انهم يعملون لصالح الأعداء وإما انهم جهال ما فهموا السّنة- والأخيرة أقرب ما نصفهم به- لأنهم ما درسوا السّنة على أيدي علماء السّنة، فإذا كان هذا هو حالهم فكيف يُتبَعُون، وكيف يوثق بهم، وكيف نأخذ منهم علماً أو فتوى أو توجيها، فالسقيم لا يزيد إلا سقماً على سقم.(41/4)
فالاستقامة على المنهج الصحيح لا يكون إلا باتباع الكتاب والسّنة، ولا يتأتى ذلك إلا بطلب العلم والجلوس عند العلماء والنظر في كتب علماء السلف الصالح- علماء السّنة الذين نصحوا للأمة-، والجد والاجتهاد في النافع من العلم والوقوف عند كلام أهل العلم المعتبرين وترك الخوض في مسائل لا طائل منها، والبعد عن كلام أهل الأهواء والبدع، فأهل الأهواء آفة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إنهم يذكرون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، فيتصيّدون بهذا الذكر الحسن عند الجهال من الناس، فيقذفون بهم في المهالك، فما أشبههم بمن يسقي الصبر باسم العسل، وقد يسقي السم القاتل باسم الترياق فأبصرهم، فإنك إن لا تكن أصبحت في بحر الماء؛ فقد أصبحت في بحر الأهواء الذي هو أعمق غوراً، وأشد اضطراباً، وأكثر صواعق، وأبعد مذهباً من البحر وما فيه.فتلك مطيتك التي تقطع بها سفر الضلال: وهي اتباع السّنة، فالموت اليوم كرامة لكل مسلم لقي الله على السّنة، فإلى الله نشكوا وحشتنا، وذهاب الإخوان، وقلة الأعوان، وظهور البدع، وإلى الله نشكوا عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السّنة وظهور البدع ولكن عزاؤنا واستئناسنا في قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين .....).
أما بعد: فهذه هي الطبعة الثالثة في ثوبها الجديد من كتاب " الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة " بعد مضي عقد من الزمن من صدور الطبعة الأولى وقد حدثت أحداث وزلت أقدام، فحينما ترك الكثير من الناس الاهتمام بهذين الأمرين والتمسك بهما، واختلطت مفاهيم كثير من الناس فكانت الحاجة إلى كلام أهل العلم ومعرفة مواقفهم في الأحداث والنوازل أشد من حاجتهم إلى الماء والغذاء للجسد، إذ أن مرض الأجسام لا يوازي مرض القلوب. فالقلب إذا دخلته الشبهة أفسد الدارين على صاحبه إن لم يجد من يزيلها يمحوها منه.(41/5)
والله أسأل أن يهدينا إلى الحق والصواب، وأن يجزي شيخنا خير الجزاء .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
… وكتبه
…أبو فريحان جمال بن فريحان الهميلي الحارثي
…بعد فجر يوم السبت الثالث عشر من شهر شعبان
…عام ثلاثة وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة
إذن الشيخ في طبع ونشر هذه الرسالة
للمرة الثالثة
الحمد لله وبعد: فقد أذنت للشيخ جمال بن فريحان الحارثي بإعادة طبع كتاب: الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة الذي قام بجمعه من أجوبتي عن أسئلة الطلاب خلال إلقاء الدروس. أذنت له بطبعه مع ما أضاف إليه من تعليقات من عنده ومع الزيادة التي ألحقها به ولم تكن موجودة في الطبعات السابقة، وفق الله الجميع لمعرفة الحق والعمل به.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه،،،
…كتبه
…صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
…في 23/12/1423هـ
صورة من الإذن بخط الشيخ
نبذة عن شيخنا – حفظه الله -
( اسمه ونسبه ومولده:
…هو: صالح بن فوزان بن عبد الله آل فوزان.
…من أهل الشماسية الوداعين من قبيلة الدواسر.
…ولد عام( 1354هـ).
( نشأته وتعليمه:
…توفي والده وهو صغير، فتربَّي في أسرته، وتعلم القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة على يد إمام مسجد البلد.
…ثُمَّ التحق بمدرسة الحكومة في بلده حين افتتاحها في الشماسية عام (1369هـ) وأكمل دراسته الابتدائية في المدرسة الفيصلية ببريدة عام(1371هـ). ثم التحق بالمعهد العلمي ببريدة عند افتتاحه عام (1373هـ) وتخرج منه عام (1377هـ) ،والتحق بكلية الشريعة بالرياض وتخرج منها عام (1381هـ).
( الدراسات العليا:
…نال درجة الماجستير في الفقه.
…نال درجة الدكتوراه في الفقه أيضاً وكلاهما من كلية الشريعة.
( المناصب التي تولاها وبعض أعماله:
تعين مدرساً في الابتدائي عام 1372هـ قبل التحاقه بالمعهد العلمي ببريدة .
عين مدرساً في المعهد العلمي في الرياض بعد تخرجه من كلية الشريعة.(41/6)
ثم مدرساً في كلية الشريعة، ثم في الدراسات العليا بكلية أصول الدين.
ثم في المعهد العالي للقضاء ثم عين مديراً للمعهد العالي للقضاء في عام (1396هـ).
ثم عاد للتدريس فيه مرة أخرى بعد انتهاء فترة الإدارة النظامية.
ثم عين في هيئة كبار العلماء في عام (1407هـ ).
ثم عين عضواً في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في عام (1411هـ ).
كما أنه لا يزال عضواً في المجمع الفقهي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي.
وكان عضواً في لجنة الإشراف على الدعاة في الحج سابقاً.
وهو إمام وخطيب ومدرس في جامع الأمير متعب بن عبد العزيز في الملز في الرياض.
ويشارك في الإجابة في برنامج " نور على الدرب " في الإذاعة السعودية كما له مشاركات منتظمة في المجلات العلمية على هيئة بحوث ودراسات ورسائل وفتاوى أيضاً.
كما أنه – حفظه الله – يشرف على الكثير من الرسائل العلمية في درجتي الماجستير والدكتوراه، وتتلمذ على يديه العديد من طلبة العلم الذين يرتادون مجالسه ودروسه العلمية المستمرة، وأنا واحد منهم. – ولي الفخر والاعتزاز بذلك – " جمال ".
( مشائخه:
…تتلمذ فضيلته على أيدي عدد من العلماء والقضاة البارزين ومن أشهرهم سماحة الشيخ/عبد العزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله – وقد كان سماحته يُجل شيخنا ويقدره ويثق به في المهمات وقد كان يحيل إليه بعض الكتب المؤلفة لمراجعتها وإبداء رأيه فيها.
ومن شيوخه أيضاً: الشيخ/عبد الله بن حميد – رحمه الله – حيث كان يحضر كثيراً من دروسه في جامع بريدة يوم كان طالباً في المعهد العلمي.
وفضيلة الشيخ/محمد الأمين الشنقيطي –رحمه الله –.
والشيخ عبدا لرزاق عفيفي – رحمه الله –.(41/7)
والشيخ حمود بن سليمان التلال الذي كان إمام المسجد بالبلدة التي نشأ بها شيخنا – يحفظه الله – وقد تولى القضاء بعد ذلك – أعني الشيخ حمود – في بلدة ضرية في منطقة القصيم. وقد تعلم على يده مبادئ القراءة والكتابة ثم تعلم على يد الشيخ/إبراهيم بن ضيف الله اليوسف يوم أن كان مدرساً في مدرسة الشماسية.
( مؤلفاته:
للشيخ – يحفظه الله – العديد من المؤلفات أبرزها:
· التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية في المواريث، وهو رسالته
في الماجستير، (مجلد).
· أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية،وهو رسالته في الدكتوراه، (مجلد).
· الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، (مجلد).
· شرح العقيدة الواسطية، (مجلد).
· البيان فيما أخطأ فيه بعض الكتاب، (مجلدان).
· مجموع محاضرات في العقيدة والدعوة، (أربعة مجلدات).
· الخطب المنبرية في المناسبات العصرية، (ستة مجلدات).
· من أعلام المجددين في الإسلام.
· مباحث فقهية في مواضيع مختلفة.
· مجموع فتاوى في العقيدة والفقه (خمسة مجلدات).
· نقد كتاب الحلال والحرام في الإسلام، رد على يوسف القرضاوي.
· الملخص في شرح كتاب التوحيد، للشيخ محمد بن عبدالوهاب - شرح مدرسي- .
· إعانة المستفيد شرح كتاب التوحيد وهو شرح موسع في مجلدين .
· التعقيب على ما ذكره الخطيب في حق الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
· الملخص الفقهي، (مجلدان).
· إتحاف أهل الإيمان بدروس شهر رمضان.
· الضياء اللامع مع الأحاديث القدسية الجوامع.
· بيان ما يفعله الحاج والمعتمر.
· كتاب عقيدة التوحيد– وأصله مقرر في المرحلة الثانوية بوزارة المعارف.
· فتاوى ومقالات نشرت في مجلة الدعوة.
· دروس من القرآن الكريم.
· الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة – وهو الذي بين أيدينا – وله غير ما ذكر من الكتب بعضه تحت الطبع.(41/8)
وقد كان له دور كبير في توجيه الشباب وتحذيرهم من التيارات المنحرفة عن المنهج الصحيح، فانقمع به المبتدع والضال، ووُفِق الكثير للهداية إلى الحق والصواب.
فجزاه الله – عنا وعن المسلمين – خير الجزاء وجعل أعماله خالصة لوجهه الكريم وأن تكون في ميزان حسناته يوم الدين.
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
…كتبه
…جمال بن فريحان الحارثي
…أحد تلامذة الشيخ
الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة
وبالله نستعين
س 1: بماذا تنصحون الاخوة الأفاضل الذين يشتركون في المراكز الصيفية إذا تعارض وقت دروس المشايخ والعلماء مع وقت المراكز؛ فهل يحضرون الدروس، أم يبقون في المراكز ؟ مع التفصيل؛ لكثرة الكلام في هذا الموضوع بين الشباب ؟ .
…جـ / المقصود بالمراكز : تهذيب الطلاب وتعليمهم .
…فالذي أراه: أن ينسِّق القائمون على المراكز أوقاتها؛ فيحضروا منسوبيها إلى المساجد للمحاضرات والدروس؛ لأن حضور المحاضرات جزء من عمل المراكز، بدل ما تأتي بالمحاضر لهم في المراكز تذهب بهم إلى المحاضر في المسجد، وهذا أفضل؛ لأن حضورهم في المسجد، وفي بيت من بيوت الله، يسمعون فيه العلم؛ أفضل من بقائهم في المراكز(1) .
…فالحاصل: أنه يجب على القائمين على المراكز أن ينسقوا البرامج،بحيث يجعلون لحضور المحاضرات في المساجد وقتاً من برامجهم، ولا يحصل تعارض البرامج مع المحاضرات.وهذا من جملة مقاصد المراكز – كما ذكرنا-.
- - - - -
__________
(1) …ولقد كان المسجد في الصدر الأول هو منبع العلم، ومنهل العلماء، فمنه تخرّج جهابذة العلماء، فمنهم من برع في الحديث وعلومه، ومنهم من بَرَّز في الفقه وأصوله، وفي التفسير وأصوله، وفي النحو وفنونه، والذي جمعها كلها؛ قد تخرّجوا – غالباً – من حِِلَقِِ العلم في المساجد .
……=
=…وليعلم الجميع: أن العلم يُؤتى إليه ولا يأتي إلى الناس؛ فلا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.(41/9)
…س 2: المراكز الصيفية يُقام فيها التمثيل، والأناشيد، ما رأيكم في ذلك ؟ .
…جـ / يجب على القائمين على المراكز الصيفية أن يمنعوا منها الأشياء التي لا فائدة فيها، أو فيها مضرة على الطلاب، وأن يعلموهم القرآن والسنة والأحاديث والفقه، واللغة العربية، وفي هذا غنية وشغل للوقت عن الأشياء الأخرى، وكذلك تعليمهم العلوم التي يحتاجونها في دنياهم كالخط والحساب والمهارات المفيدة، أما الأشياء التي يسمونها ترفيهية فهذه في الواقع لا ينبغي أن تكون في البرامج (1)
__________
(1) قال الشيخ: صالح الفوزان، في كتابه: " الخطب المنبرية " ( 3/184-185 ) (ط1411هـ)، ما نصه:
…" وما ينبغي التنبيه عليه: ما كثُر تداوله بين الشباب المتدينين من أشرطة مسجل عليها أناشيد، بأصوات جماعية يسمونها (الأناشيد الإسلامية ) وهي نوع من الأغاني، وربما تكون بأصوات فاتنة،وتباع في معارض التسجيلات مع أشرطة تسجيل القرآن الكريم، والمحاضرات الدينية.
…وتسمية هذه الأناشيد بأنها ( أناشيد إسلامية ) تسمية خاطئة؛ لأن الإسلام لم يشرع
……=
= لنا الأناشيد، وإنما شرع لنا ذكر الله، وتلاوة القرآن...، وتعلّم العلم النافع.
…أما الأناشيد فهي من دين الصوفية المبتدعة، الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، واتخاذ الأناشيد من الدين فيه تشبه بالنصارى، الذين جعلوا دينهم بالترانيم الجماعية والنغمات المطربة.
…فالواجب الحذر من هذه الأناشيد، ومنع بيعها وتداولها، علاوة على ما قد تشتمل عليه هذه الأناشيد من تهييج الفتنة بالحماس المتهور، والتحريش بين المسلمين.
…وقد يستدل من يروج هذه الأناشيد:بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تُنشد عنده الأشعار، ويستمع إليها، ويقرها.
…والجواب عن ذلك: أن الأشعار التي كانت تُنشد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست تُنشد بأصوات جماعية على شكل أغاني، ولا تُسمى ( أناشيد إسلامية )، وإنما هي أشعار عربية، تشتمل على الحِكَم، والأمثال، ووصف الشجاعة والكرم، وكان الصحابة ينشدونها أفرادًا لأجل ما فيها من هذه المعاني، ويُنشدون بعض الأشعار وقت العمل المتعب كالبناء، والسير في الليل في السفر، فيدل هذا على إباحة هذا النوع من إنشاد في مثل هذه الحالات خاصة، لا على أن يُتخذ فنًا من فنون التربية والدعوة، كما هو الواقع الآن؛ حيث يُلقّن الطلاب هذه الأناشيد، ويُقال عنها: ( أناشيد إسلامية )، أو ( أناشيد دينية ).
…وهذا ابتداع في الدين، وهو من دين الصوفية المبتدعة؛ فهم الذين عُرف عنهم اتخاذ الأناشيد دينًا.
…فالواجب التنبيه لهذه الدسائس، ومنع بيع هذه الأشرطة؛ لأن الشر يبدأ يسيراً، ثم يتطوّر ويكثر إذا لم يبادر بإزالته عند حدوثه )).
…وسئل فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين عن الأناشيد، وهذا نص السؤال والجواب:
…(( س / هل يجوز للرجال الإنشاد الإسلامي ؟، وهل يجوز مع الإنشاد الضرب بالدف لهم ؟
وهل الإنشاد جائز في غير الأعياد والأفراح ؟ .
…جـ / الإنشاد الإسلامي إنشاد مبتدع، يشبه ما ابتدعته الصوفية، ولهذا ينبغي العدول …=
=…عنه إلى مواعظ القرآن والسنة، اللهم إلا أن يكون في مواطن الحرب ليُستعان به على الإقدام، والجهاد في سبيل الله – تعالى -؛ فهذا حسن.وإذا اجتمع معه الدُّف كان أبعد عن الصواب.نقلاً من كتاب : " فتاوى الشيخ : محمد العثيمين "، جمع : أشرف عبدالمقصود : ( 1/134-135 )، ط الثانية 1412هـ ، دار عالم الكتب .(41/10)
؛ لأنها تقتطع جزءاً من الوقت بلا فائدة، بل ربما تشغلهم وتنسيهم الفائدة التي جاءوا من أجلها، ومن ذلك : التمثيليات، والأناشيد؛ فإنه مجرد لهو ولعب، وتدرّب الطلاب على متابعة المسرحيات والأغاني، التي تُبَث في وسائل الإعلام المختلفة .
- - - - -
س3: أرجو التوضيح: ما المقصود بفقه الواقع؛ لأنه قد أطلق هذا اللفظ، وأريد به لفظ لغوي، لا لفظ شرعي ؟ .
جـ/ يقولون: من الصعب توضيح الواضح، الفقه المطلوب والفقه المرغَّب فيه هو الفقه في الكتاب والسنة، هذا هو الفقه المطلوب، أما الفقه اللغوي فهو من المباحات، ما هو أمر مطلوب من الناس، تتفقه في اللغة: تعرف معنى الكلمة ومشتقاتها وحروفها، وكذا، وكذا، هذا يسمى فقه اللغة، مثل: كتاب"فقه اللغة للثعالبي"وغيره، هذا من الأمور المكمِّلة، ومن تعلّم اللغة.
أما الفقه إذا أُطلق كما في قوله –تعالى-: { لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين )) (2) .
وقوله تعالى: { فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثا } ً(3).
{ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ } (4) إلى غير ذلك.
المراد بذلك: الفقه في الدين بمعرفة الأحكام الشرعية، هذا هو المطلوب، وهذا هو الذي يجب على المسلمين الاهتمام به وأن يتعلموه.
لكن ليس المقصود بفقه الواقع عند هؤلاء فقه اللغة، وإنما المرد به عندهم: الاشتغال بأمور السياسة والتهييج السياسي، وصرف الأوقات والهمم إليه.
أما فقه الأحكام فيسمونه: فقه الجزئيات، وفقه الحيض والنفاس، تهجيناً له وتنفيراً منه ومن الاشتغال به (5)
__________
(1) التوبة: 122.
(2) البخاري: ( 71)، مسلم: ( 1037 ).
(3) النساء: 78.
(4) المنافقون: 7.
(5) تَبَيَّن أن الفقه المطلوب أقسام:
…أ – فقه بمعنى: فهم الكتاب والسنة: واستنباط الأحكام منهما.
…ب – فقه اللغة العربية: التي هي لغة الكتاب والسنة: نحو، وصرف، وبلاغة، واشتقاقٌ، ودلالة.
…جـ- فقه ملابسات القضايا والنوازل:من أجل تطبيق الحكم الشرعي عليها تطبيقاً صحيحاً.
…أما ما يسمونه بـ(( فقه الواقع )) فيراد به: شغل الناس بأمور السياسة، وانتقاد الحكام، وإثارة الفتن والقلاقل، وزعزعة الأمن. وألصقوا به هذا الاسم من أجل التلبيس على الناس. وليس هذا جديداً من أصحاب (( فقه الواقع ))، فسلفهم وإمامهم (( سيد قطب))قد قال بـ (( فقه الواقع )) في كتابه: " في ظلال القرآن " ( 4/2006) في سورة يوسف، عند قوله تعالى : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }
………=
=…حيث يقول بعد أن تكلم عن هذه الآية : " ... لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية، .. إن " فقه الحركة " يختلف اختلافاً أساسياً عن " فقه الأوراق "، .. إن " فقه الحركة " يأخذ في اعتباره " الواقع " الذي نزلت فيه النصوص، وصيغت فيه الأحكام ... " ا هـ .(41/11)
.
س 4: نسمع كثيراً عما يسمى بالجماعات الإسلامية في هذا العصر في مختلف أنحاء العالم؛ فما أصل هذا التسمية ؟ .وهل يجوز الذهاب معهم ومشاركتهم إذا لم يكن لديهم بدعة ؟ .
جـ/ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا وبين لنا كيف نعمل، ما ترك شيئاً يقرِّب أمته إلى الله إلا وبيَّنه، وما ترك شيئاً يبعدهم من الله إلا وبيَّنه (1) – عليه الصلاة والسلام -،ومِن ذلك هذه المسألة، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرًا ))،لكن ما هو العلاج عند حدوث ذلك ؟، قال :(( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )) (2) .
فهذه الجماعات (3) من كان منها على هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، وخصوصاً الخلفاء الراشدين والقرون المفضلة، فأي جماعة على هذا المنهج فنحن مع هذه الجماعة؛ ننتسب إليها، ونعمل معها .
__________
(1) …يشير الشيخ – حفظه الله – إلى الحديث الثابت، الصحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : (( ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا أمرتكم به )) .
…أخرجه عبدالرزاق في " المصنف ": ( 11/125 )، والبيهقي في " معرفة السنن والآثار " : ( 1/20 )،
(2) …صحيح بمجموع طرقه، أخرجه أبو داود : ( 4607 )، والترمذي : ( 2676 )، وابن ماجه : ( المقدمة، 34 )، وصححه الألباني في " الإرواء " : ( 2455 )، وسيأتي في الحاشية رقم ( 173 ) بزيادة تخريج .
(3) …يحسن أن نسمي كل من خالف الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح بالفِرَق، وهو الاسم الشرعي لها، كما سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الفِرَق الآتي، وأما الجماعات فليست إلا جماعة المسلمين التي أشار إليها في الحديث، والله أعلم .(41/12)
وما خالف هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإننا نتجنبه وإن كان يتسمى ( جماعة إسلامية )، العبرة ليست بالأسماء، العبرة بالحقائق، أما الأسماء فقد تكون ضخمة، ولكنها جوفاء ليس فيها شيء، أو باطلة – أيضاً - .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة )) قلنا : من هي يا رسول ؟، قال : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) (1) .
الطريق واضح، الجماعة التي فيها هذه العلامة نكون معها، من كان على مثل ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ فهم الجماعة الإسلامية الحقة .
أما من خالف هذا المنهج وسار على منهج آخر فإنه ليس منا ولسنا منه، ولا ننتسب إليه ولا ينتسب إلينا، ولا يُسَمَّى جماعة، وإنما يُسَمَّى فِرقَة من الفِرَق الضَّالة؛ لأن الجماعة لا تكون إلا على الحق، فهو الذي يجتمع عليه الناس، وأما الباطل فإنه يُفَرِّق ولا يجمع، قال –تعالى-: { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } (2).
- - - - -
س 5 : أيهما أشد عذابًا : العصاة أم المبتدعة ؟ .
جـ / المبتدعة أشد؛ لأن البدعة أشد من المعصية، والبدعة أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لأن العاصي يتوب(3)
__________
(1) …أخرجه الترمذي : ( 2641 )، والحاكم : ( 1/129 )، ويشهد له رواية : (( هي الجماعة ))، راجع " تحفة الأحوذي " : ( 7/398 )، وأخرج هذه الرواية ابن ماجه: ( 3992 )، وهي عند أبي داود : ( 4597 )، وسيأتي في الحاشية رقم ( 139 ) .
(2) …البقرة : 137 .
(3) …قال سفيان الثوري – رحمه الله - : (( البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها )) .
…(( مسند ابن الجعد )) : ( 1885 )، (( مجموع الفتاوى )) : ( 11/472 ) .
…وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة )) " الصحيحة " (1620).(41/13)
، أما المبتدع فقليلاً ما يتوب؛ لأنه
يظن أنه على حق، بخلاف العاصي؛ فإنه يعلم أنه عاصٍ وأنه مرتكب لمعصية، أما المبتدع فإنه يرى أنه مطيع وأنه على طاعة؛ فلذلك صارت البدعة – والعياذ بالله – شراً من المعصية، ولذلك يحذر السلف من مجالسة المبتدعة (1)؛ لأنهم يؤثِّرون على من جالسهم، وخطرهم شديد .
لا شك أن البدعة شر من المعصية، وخطر المبتدع أشد على الناس من خطر العاصي(2)، ولهذا قال السلف: (( اقتصاد في سنة خير من
اجتهاد في بدعة )) (3).
- - - - -
س 6 : هل من انتمى إلى الجماعات يعتبر مبتدعًا ؟ .
__________
(1) …قال الحسن البصري – رحمه الله - : (( لا تجالس صاحب بدعة؛ فإنه يمرض قلبك )) " الاعتصام " : ( 1/172 )، " البدع والنهي عنها ": ( ص 54 ) .
…وقال الشاطبي – رحمه الله – ( 1/158 ) : (( فإن فرقة النجاة – وهم أهل السنة – مأمورون بعداوة أهل البدع، والتشريد بهم، والتنكيل ممن انحاش إلى جهتهم بالقتل فما دونه، وقد حذر العلماء من مصاحبتهم ومجالستهم )) .
…أقول : رحم الله السلف، ما تركوا صاحب بدعة إلا وقمعوه وحذروا منه .
(2) …يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة – رحمه الله – في خطر أهل البدع : (( ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء –يعني : أهل البدع – لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، أما أولئك – ( المبتدعة ) – فهم يفسدون القلوب ابتداء )) .
…مجموع الفتاوى : ( 28/232 ) .
…ويقول – أيضًا – : (( أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع )) ( 20/103 ) .
(3) …من قول ابن مسعود - - رضي الله عنه --، راجع اللالكائي : ( 114 )، " الإبانة ": (161)، " السنة " لابن نصر: (30), "الصحيحة"( :5/14).(41/14)
جـ / هذا حسب الجماعات، فالجماعات التي عندها مخالفات للكتاب والسنة يُعتبر المنتمي إليها مبتدعاً (1).
س 7 : ما رأيكم في الجماعات كحكم عام ؟ .
جـ / كل من خالف جماعة أهل السنة فهو ضال، ما عندنا إلا جماعة واحدة هم أهل السنة والجماعة (2)
__________
(1) …قال الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد في كتابه : " حكم الانتماء إلى الفِرَق والأحزاب والجماعات الإسلامية " (ص 96-97) : (( لا يجوز أن يُنصَب شخص للأمة يُدعى إلى طريقته، ويُوالي ويُعادى عليها، سوى نبينا ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فمن نصب سواه على ذلك فهو ضال مبتدع )) .
…وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في الفتاوى ( 20/164 ) :
…(( وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما
……=
=…اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرِّقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون )) .
…قال الشيخ بكر عقب نقله لكلام شيخ الإسلام هذا :
…(( وهذه حال كثير من الجماعات والأحزاب الإسلامية اليوم : أنهم ينصبون أشخاصاً قادة لهم؛ فيوالون أولياءهم ويعادون أعداءهم، ويطيعونهم في كل ما يفتون لهم دون الرجوع إلى الكتاب والسنة، ودن أن يسألوهم عن أدلتهم فيما يقولون أن يفتون )) .
…انتهى .
(2) …وهم الطائفة المنصورة، وهم الفرقة الناجية، وهم أهل الحديث، وهم أهل الأثر، وهم السلفيون، كما صرَّح بذلك جمع غفير من السلف والخلف من أهل العلم، منهم – على سبيل المثال لا الحصر - : الأئمة الأربعة المشهود لهم بالإمامة، ومن في طبقتهم، ثم من تأسَّى بهم ونهج منهجهم وإن تأخر زمنهم .
…أما تسمية هذه الفِرَق المخالفة لجماعة المسلمين الواحدة، بالجماعات؛ فلا تصح، كما ذكرتُ سابقاً، وبيّنه الشيخ، بل يقال لها : فِِرَق وأحزاب .(41/15)
، وما خالف هذه الجماعة فهو مخالف لمنهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ونقول – أيضًا - : كل من خالف أهل السنة والجماعة فهو من أهل الأهواء، والمخالفات تختلف في الحكم بالتضليل أو بالتكفير حسب كبرها وصغرها، وبعدها وقربها من الحق .
- - - - -
س 8 : هل تُخَالَط الجماعات أم تُهجر ؟ .
جـ / المخالطة إذا كان القصد منها دعوتهم – ممن عندهم علم وبصيرة- (1) إلى التمسك بالسنة، وترك الخطأ فهذا طّيِب، وهو من الدعوة
إلى الله، أما إذا كان الاختلاط معهم من أجل المؤانسة معهم، والمصاحبة لهم، بدون دعوة، وبدون بيان؛ فهذا لا يجوز .
…فلا يجوز للإنسان أن يخالط المخالفين إلا على وجه فيه فائدة شرعية، من دعوتهم إلى الإسلام الصحيح، وتوضيح الحق لهم لعلهم يرجعون(2)
__________
(1) …هذا صحيح بالنسبة للأفراد؛ فيمكن دعوتهم والتأثير عليهم، أما باعتبار تغيير المنهج والتأثير على رموزه فلا يمكن – بالجملة -؛ بل قد يؤثرون على من خالطهم بدلاً من أن يتأثروا .
…وهذه الفرق – عموماً – لا تخرج في دعوتها عن تعليمات قادتها كفِرقة الإخوان المسلمين وفرقة التبليغ؛ فكم نصح المخلصون لهم ؟، وكم كُتِبَ فيهم ؟، وإلى الآن ( محلَّك راوِح ) كما يقال .وهاك الدليل على ما أقول :
…قال حسن البنا مؤسس فِرقة الإخوان المسلمين في كتاب " مجموع الرسائل " ص:(24)، تحت عنوان : (( موقفنا من الدعوات )) ، يقول :
…(( موقفنا من الدعوات المختلفة .. أن نزنها بميزان دعوتنا؛ فما وافقها فمرحبًا وما خالفها فنحن براء منه )) !! .
…و أنا أقول : اللهم اشهد أني بريء من دعوة الإخوان المسلمين ومؤسسها، المخالفة للكتاب والسنة وما عليه سلف هذه الأمة .
…وعلى هذا .. فإنهم لن يقبلوا دعوة أحد؛ لأنهم يريدون دعوة غيرهم أن تكون تبعًا لدعوتهم وخاضعة لها . والله أعلم .
(2) …إذا كان ولا بد من مخالطتهم لدعوتهم وتوضيح المنهج السلفي؛ فلا يكون إلا للعلماء،
……=
=…أو لطلاب العلم؛ المتمكنين من العقيدة الصحيحة، ومن السنة ومنهج السلف الصالح، وإلا فلا .(41/16)
، كما ذهب ابن مسعود – - رضي الله عنه - – إلى المبتدعة الذين في المسجد، ووقف عليهم، وأنكر عليهم بدعتهم .
…وابن عباس – رضي الله عنهما – ذهب إلى الخوارج، وناظرهم، ودحض شبههم، ورجع منهم من رجع .
فالمخالطة لهم إذا كانت على هذا الوجه فهي مطلوبة، وإن أصروا على باطلهم وجب اعتزالهم ومنابذتهم، وجهادهم في الله .
- - - - -
س 9 : هل هناك بأس في التحذير من هذه الفرق المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة ؟ .
جـ / نحن نحذِّر من المخالفين عموماً (1)، ونقول : نلزم طريق أهل
السنة والجماعة ونترك من خالف أهل السنة والجماعة، سواء كانت مخالفته كبيرة أو صغيرة؛ لأننا إذا تساهلنا في المخالفة ربما تتطور الأمور وتتضخم؛ فالمخالفة لا تجوز أبدًا .
ويجب لزوم طريقة أهل السنة والجماعة في الكبيرة والصغيرة .
- - - - -
س10: هل يلزمنا ذكر محاسن من نحذِّر منهم ؟ .
__________
(1) …وهذا دأب السلف : لا يسكتون بل ينكرون على من يسكت.
قال محمد بن بندار الجرجاني للإمام أحمد : (( إنه ليشتد علي أن أقول : فلان كذا وفلان كذا، فقال أحمد: إذا سكَتَّ أنت وسكَتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم ؟ )) .
…مجموع الفتاوى ( 28/231 )، وشرح علل الترمذي : ( 1/350 ) .
…وعندما سئل الإمام أحمد عن حسين الكرابيسي قال للسائل : (( هو مبتدع ))، وقال في موضع آخر : (( إياك إياك وحسين الكرابيسي، لا تكلمه ولا تكلم من يكلمه – أربع مرات أو خمس مرات - )) . راجع تاريخ بغداد : ( 8/65) .
…بل يرى – السلف – الكلام في أهل البدع أفضل من الصيام والصلاة والاعتكاف.
……=
=…قيل لللإمام أحمد : (( الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع ؟ فقال : إذا صام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل )) مجموع الفتاوى : ( 28/231 ) .(41/17)
جـ/ إذا ذكرت محاسنهم فمعناه أنت دعوت لاتِّباعهم، لا، لا تذكر محاسنهم (1).
أذكر الخطأ الذي هم عليه فقط (2)
__________
(1) …في ذكر محاسن المبتدع تغرير بالناس وإن ذكرتَ مساوئه؛ لأنهم لن ينظروا إلى المساوئ ما دمتَ أنك أثنيت عليه خيراً ولم يكن من منهج السلف الثناء على أهل البدع في النقد .
…فهذا الإمام أحمد – رحمه الله – لم يثنِ على حسين الكرابيسي، عندما بين حاله، وقال عنه : (( مبتدع ))، بل حذَّر منه ومن مجالسته، وكذا حذّر تحذيراً شديداً من مجالسة المحاسبي. وسيأتي نقله في حاشية رقم : ( 49 ) .
…وهذا أبو زرعة – رحمه الله – سئل عن الحارث المحاسبي وكتبه فقال للسائل : (( إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر )) .
…ولا يخفي عليك – أخي القارئ – أن الكرابيسي والمحاسبي من بحور العلم، ولهم ردود على أهل البدع، ولكن الأول سقط في القول باللفظ في القرآن، والآخر سقط في
……=
=…شيء من الكلام ورَدَّ على أهل الكلام بالكلام ولم يرد بالسنة ..هذه أَهَم نقطة أنكرها عليه الإمام أحمد، راجع التهذيب : ( 2/117 )، تاريخ بغداد: ( 8/215-216 )، السِّير للذهبي : ( 13/110 ) ( 12/79 ) .
(2) …هذه كتب شيخ الإسلام ابن تيمية أكبر برهان في عدم ذكر محاسن المبتدعة حين ذكرهم ببدعهم؛ فهي مليئة بالردود والنقد : فقد رَدَّ على أهل المنطق والكلام،
…ورَدَّ على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، ولم نجده ذكر شيئًا من محاسنهم، وانتقد أشخاصًا بعينهم : كرَدِّه على الأخنائي والبكري وغيرهم، ولم يثنِ عليهم، ولا يشك أحد أن هؤلاء لا يخلون من المحاسن، ولكن لا يلزم ذكر المحاسن في النقد . فتأمل .
…قال رافع بن أشرس – رحمه الله - : (( من عقوبة الفاسق المبتدع أن تُذكر محاسنه )) شرح علل الترمذي : ( 1/353 ) .(41/18)
؛ لأنه ليس موكولاً إليك أن تزكي وضعهم، أنت موكول إليك بيان الخطأ الذي عندهم من أجل أن يتوبوا منه، ومن أجل أن يحذره غيرهم، والخطأ الذي هم عليه ربما يذهب بحسناتهم كلها إن كان كفرًا أو شركًا، وربما يرجح على حسناتهم، وربما تكون حسنات في نظرك وليست حسنات عند الله .
- - - - -
س11 : جماعة التبليغ – عل سبيل المثال – يقولون : نحن نريد أن نسير على منهج أهل السنة والجماعة، ولكن بعضهم قد يخطئ؛ فيقولون : كيف تحكمون علينا وتحذِّرون مِنَّا ؟ .
جـ/ جماعة التبليغ كتب عنهم من ذهبوا معهم ودَارَسُوهم، وكتبوا عنهم الكثير، وشخصوا الأخطاء التي عندهم؛فعليكم أن تقرءوا ما كُتب
عنهم؛ ليتبين لكم الحكم في هذا (1)
__________
(1) …ممن كتب عن فِرقة التبليغ وأجاد وأفاد ووضَّح طريقتهم :
…فضيلة الشيخ : سعد بن عبدالرحمن الحصين – حفظه الله – في كتابه المسمى : " حقيقة الدعوة إلى الله تعالى وما اختُصَّت به جزيرة العرب، وتقويم مناهج الدعوات الإسلامية الوافدة إليها " الذي اعتنى بإخراجه وطبعه فضيلة الشيخ : فالح بن نافع الحربي؛ فقد جاء في صحيفة : ( 70 )، الطبعة الأولى، في مقصود كلمة : ( لا إله إلا الله ) عند فرقة التبليغ :
…(( إخراج اليقين الفاسد من القلب على الأشياء، وإدخال اليقين الصحيح على ذات الله؛ أنه : لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا مدبر إلا الله ))، وهذا لا يزيد على توحيد الربوبية الذي يقر به المشركون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يدخلهم في الإسلام .
…وقال – أيضاً – في ص (70) : (( عقيدتُها – أي : التبليغ - : أحناف في المذهب الفقهي، أشعرية ماتوريدية في العقيدة، جشتية نقشبندية قادرية سَهْرَوَرْدِية في طريقة التصوف )) . ص : ( 81، الطبعة الثانية ) .
…وكتب عنهم الشيخ : حمود بن عبدالله التويجري – رحمه الله – كتابًا نفسيًا فريدًا في بابه، وهو أوسع ما كُتب عن هذه الفِرقة، حيث جمع فيه بين بيان حقيقة هذه الجماعة من كتبها، والرَّد عليها، وبين شهادة الشهود العدول من أبناء جنسها – وغيرهم – ممن حصلت لهم مواقف خاصة مع قادتها وأتباعها .
…وهو مطبوع – والحمد لله – باسم : " القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ " .
…وكتب عنهم الميجر : محمد أسلم – رحمه الله -، وهو باكستاني الجنسية، ومن خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .
…وكتب عنهم الشيخ الدكتور : محمد تقي الدين الهلالي – رحمه الله – في كتابه : " السراج المنير في تنبيه جماعة التبليغ على أخطائهم "، وهو من أوسع ما كُتِب في فرقة التبليغ، وهو شرح لكتاب محمد أسلم .
……=
=…وقد اتضح لكثير ممن كان مخدوعاً بهم، حقيقة أمرهم؛ فهجرهم، وحذّر منهم .
…ويكفي في ذمهم : أنهم لا يهتمون بالدعوة إلى التوحيد، بل ينفرّون منها، وممن يدعون إليها .
…ويقال لمن انخدع بهذه الفرقة الصوفية المقنَّعة ممّن يخرج معهم : وزِّعوا كتب الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله -؛ كتاب التوحيد – مثلاً – أثناء الخروج معهم، ثم انظروا ردّة الفعل منهم، وكيف يتحوّل حُسن الخُلُق المتكلّف إلى وحشية وهمجية، والصداقة إلى بغضاء وعداوة،…وهذا أمر مجرّب، وبهذا ينكشف أمرهم لك .
…قال مفتي الديار السعودية ورئيس القضاة والشؤون الإسلامية في عصره الشيخ : محمد بن إبراهيم آل الشيخ – رحمه الله – في (( فتاواه ورسائله )) : ( 1/267 ) :
(( هذه الجمعية – يعني : كلية الدعوة والتبليغ الإسلامية – لا خير فيها، فإنها جمعية بدعة وضلال وبقراءة الكتيبات … وجدتها تشتمل على الضلال والبدعة والدعوة إلى عبادة القبور والشرك … )) باختصار . تاريخ الفتوى 29/1/1382هـ .
ويقول المفتي العام للمملكة العربية السعودية في عصره، الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – في مجلة الدعوة السعودية، العدد : ( 1438 ) تاريخ 3/11/1414هـ : (( جماعة التبليغ ليس عندهم بصيرة في مسائل العقيدة، فلا يجوز الخروج معهم … )) "الفتاوى": (8/331).
وقال أيضاً في جوابه لسؤال : هل تدخل في الثنتين وسبعين فرقة ؟
(( نعم؛ تدخل في الثنتين والسبعين، من خالف عقيدة أهل السنة دخل في الثنتين والسبعين )) . ( المجلة السلفية ) العدد : السابع، ص ( 47 ) سنة 1422هـ .
قال العلامة محدث الشام، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله - :
(( جماعة التبليغ لا تقوم على منهج الكتاب والسنة، وما كان عليه سلفنا الصالح. فلا يجوز الخروج معهم .. )) ( الفتاوى الأماراتيه ) .(41/19)
.
الحمد لله ، الله أغنانا عن اتباع فلان وعلان، فعندنا طريق أهل السنة والجماعة نلزمه، ولا علينا من جماعة تبليغ أو غير تبليغ، هذا لسنا بحاجة إليه؛
فماذا بعد الحق إلا الضلال .
أما حقيقتهم فقد كتب عنهم كتابات كثيرة، اطلعوا عليها تعرفوا، والذين كتبوا عنهم ممن ذهبوا معهم وسافروا معهم وخالطوهم وكتبوا عنهم عن معرفة وعن بينة .
- - - - -
س12: هل هذه الجماعات تدخل في الاثنتين وسبعين فِرقَة الهالكة؟.
جـ/ نعم، كل من خالف أهل السنة والجماعة ممن ينتسب إلى الإسلام في الدعوة، أو في العقيدة، أو في شيء من أصول الإيمان؛ فإنه يدخل في الاثنتين وسبعين فرقة، ويشمله الوعيد، ويكون له من الذم والعقوبة بقدر مخالفته .
- - - - -
س 13 : هل من تسمَّى بالسلفي يعتبر متحزِّبًا ؟ .
جـ/ التسمِّي بالسلفية إذا كان حقيقة لا بأس به (1)
__________
(1) …قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى : ( 4/149 ) ما نصه : (( لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقًا )) .
أقول : تأمَّل أخي القارئ كلام شيخ الإسلام الذي كان قبل ثمانية قرون، وكأنه يرد على بعض المعاصرين اليوم ممن انتسب إلى العلم، وهو يقول : (( من أوجب على أحد الناس – أوجبه وجوبًا – أن يكون : إخوانيًا، أو سلفيًا، أو تبليغيًا، أو سروريًا؛ فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل ))!!.
…=
=…قالها في شريط مُتداول بين الشباب بعنوان : " فِرَّ من الحزبية فرارك من الأسد "•. =
...................................................................................................
(•)… بعد الانتهاء من هذا الكتاب وصلتني أوراق فيها بعض المراجعات من عائض القرني عن بعض أخطائه؛ فوجدت من بين تراجعاته تراجعه عن هذه الزلّة؛ فمن باب العدل والإنصاف نذكر له تراجعه؛ مع التحفّظ على بعض التراجعات وأسلوبه فيها، وقد تسمّى( مغالطات )؛ فيقول : (( الرابعة عشرة : وقد قلت في شريط " فِرَّ من الحزبية فرارك من الأسد " : ( من أوجب على الناس أن يكون أحدهم إخوانيًا، أو تبليغيًا، أو سلفيًا؛ فإنه يُستتاب؛ فإن تاب وإلا قُتل ) ا هـ .
فهذه العبارة خطأ مني، وأستغفر الله منها، وأنا أردتُ من فعل ذلك فقد شرّع، ولكنها غلطة على كل حال، وأنا أعتذر منها، وأعتقد أن مذهب السلف هو المذهب الصحيح الذي يجب على الناس اتباعه واقتفاءه، وسلوك سبيله )) انتهى النقل من الأوراق .
إن من المعلوم عند أهل السنة والجماعة الرجوع عن جميع الأخطاء وليس الجزء ، وأن يكتب الاعتراف والتصويب والرجوع في منابر النشر والإعلان حتى يراها كل أحد، وليس في أوراق منزوية لا يدري بها إلا أقل القليل؛ فتنبه أخي القارئ من المغالطات !! .
يقول ابن القيم : " من - شرط - توبة الداعي إلى البدعة : أن يبين أن ما كان يدعو إليه؛ بدعة وضلالة وأن الهدى في ضده . " عدة الصابرين : (93) .
…ثم إنّا نسأل سؤالاً : هل هذه هي الغلطة الوحيدة والزلة الفريدة من هذا الداعية الذي حصل على درجة الدكتوراه مؤخراً ؟
…إقرأ ما يلي :
يقول في كتابه (( المسك والعنبر .. )) ( 1/189 ) :
(( ماذا قدمنا للعام الهجري المنصرم ؟ ولك أن تتعجب معي !! وإنْ تعجب فعجب فِِعلُهم في هجرة محمد عليه الصلاة والسلام !! أين هي الصحف الصباحية ؟ أين هي الشاشة ؟ أين صحف لا تُحْيي محمداً - صلى الله عليه وسلم - ؟ بلاد ما أشرقت عليها شمس إلا بدعوته ولا تُحييه ؟ لا كلمة !! ولا عموداً صغيراً !! ولا زاوية تُحيْي المصلح العظيم )) ؟ !! ا. هـ .
…(
…=
=…فأقول : سبحان الله !، كيف سمح لنفسه أن يحشر المنهج السلفي الحق بين هذه المناهج والفِرَق البدعية الضالة الباطلة ؟ .
وسؤالنا لهذا الذي يعيش في بلاد التوحيد – ورسالته الماجستير في الحديث وقد حصل على الدكتوراه مؤخراً - : إن لم تكن سلفيًا فماذا عسى أن تكون ؟ !!.
وقد سئل العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله - :ما تقول فيمن تسمَّى بالسلفي والأثري، هل هي تزكية ؟ .
فأجاب سماحته – رحمه الله - : (( إذا كان صادقًا أنه أثري أو أنه سلفي لا بأس، مثل ما كان السلف يقول : فلان سلفي، فلان أثري، تزكية لا بد منها، تزكية واجبة )) .من محاضرة مسجلة بعنوان : " حق المسلم "، في 16/1/1413هـ بالطائف .
ويقول الشيخ بكر أبو زيد : (( وإذا قيل:السلف أوالسلفيون أو لجادتهم السلفية؛ فهي …=
...................................................................................................
( =…أليس هذا شبيه إن لمَ يكن مثله بالاحتفال البدعي (( المولد )) . الذي تحييه الصحافة والإذاعات والشاشات إلاّ هذه الدولة (( السنية – السلفية )) بلاد الحرمين : المملكة العربية السعودية حماها الله من أهل الأهواء والبدع . ويزيد الأمر تأكيداً في الغلو بالاحتفال بيوم الهجرة النبوية من هذا الداعية فيقول : ( 1/190 ) :
(( فماذا يَعتذر هؤلاء أمامه عليه الصلاة والسلام غداً )) ؟ !!
ويعني : الذين لمَ يحيوا يوم الهجرة بالكتابة والكلام عنه في الصحف والإذاعات والشاشات .
وقد زاد الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل كلامه السابق فيقول :
(( أما المحرر الأول، أما إنسان عين الكون، أما الرجل الذي أصلح الله به الأمة؛ فلا كلام، ولا ترجمة )) .وهذا عين كلام الصوفية .
وكيف يتهم الداعية الأمة بانها ما ترجمت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو اتهام لسلفنا الصالح؛ فكم من كتب تكلمت عن سيرته، وشمائله - صلى الله عليه وسلم - .
إلاّ أن تكون الترجمة المطلوبة بذكرى هجرته - صلى الله عليه وسلم - على نسق (( احتفال المولد )) فاللهم سلِّم سلِّم . ولمزيد من المعرفة إقرأ ما قاله بعد أن أوقف عشر : ص (245) .
=…هنا نسبة إلى السلف الصالح : جميع الصحابة – رضي الله عنهم – فمن تبعهم بإحسان، دون من مالت بهم الأهواء .. والثابتون على منهاج النبوة نُسِبُوا إلى سلفهم الصالح في ذلك؛ فقيل لهم : السلف، السلفيون، والنسبة إليهم : سلفي، وعليه فإن لفظ السلف؛ يعني : السلف الصالح .
وهذا اللفظ عند الإطلاق، يعني : كل سالك في الإقتداء بالصحابة – رضي الله عنهم – حتى ولو كان في عصرنا، وهكذا، وعلى هذا كلمة أهل العلم .
…فهي نسبة ليس لها رسوم خرجت عن مقتضى الكتاب والسنة، وهي نسبة لم تنفصل لحظة واحدة عن الصدر الأول، بل هي منهم وإليهم. وأما من خالفهم باسم أو رسم فلا، وإن عاش بينهم وعاصرهم ) " حكم الانتماء " ص 46 ط . الثانية .
ويقول أيضاً : (( كن سلفيَّاً على الجادّة )) " حِلية طالب العلم " ص : ( 8 ) .
أقول : هذه النسبة جارية في كتب التراجم والسيِّرَ :
فهذا الإمام الذهبي يقول في ترجمة محمد بن محمد البهراني : (( وكان ديِّناً خيِّراً سلفيِّاً)). معجم الشيوخ : ( 2/280 ) .
وقال في ترجمة : أحمد بن أحمد بن نعمة المقدسي : (( وكان على عقيدة السلف )) " معجم الشيوخ " : ( 1/34 ) .
فالنسبة إلى السلف نسبة لا بد منها حتى يتبين السلفي الحق من المتستر خلفهم، وحتى لا يلتبس الأمر على كل من يريد الاقتداء بهم، وينسج على منوالهم .
فإذا كثرت المذاهب المنحرفة والحزبيات الضالة المضلة فإن أهل الحق يعلنون انتسابهم إلى السلف من أجل البراءة ممن خالفهم، والله – تعالى – يقول لنبيه والمؤمنين: { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } { وما أنا من المشركين } .
…(41/20)
، أما إذا كان
مجرد دعوى؛ فإنه لا يجوز له أن يتسمَّى بالسلفية وهو على غير منهج السلف.
فالأشاعرة – مثلاً – يقولون : نحن أهل السنة والجماعة، وهذا غير صحيح؛ لأن الذي هم عليه ليس هو منهج أهل السنة والجماعة، كذلك المعتزلة يسمون أنفسهم بالموحدين .
كلٌ يَدَّعي وصلاً لليلى
وليلى لا تُقِر لهم بذاكا
فالذي يزعم أنه على مذهب أهل السنة والجماعة يتبع طريق أهل السنة والجماعة ويترك المخالفين، أمَّا أنه يريد أن يجمع بين ( الضب والنون ) – كما يقولون -، أي : يجمع بين دواب الصحراء ودواب البحر؛ فلا يمكن هذا، أو يجمع بين النار والماء في كِفَّة؛ فلا يجتمع أهل السنة والجماعة مع مذهب المخالفين لهم كالخوارج، والمعتزلة، والحزبيين ممن يسمونهم : ( المسلم المعاصر )، وهو الذي يريد أن يجمع ضلالات أهل العصر مع منهج السلف، فـ (( لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها )) .
فالحاصل أنه لا بد من تمييز الأمور وتمحيصها .
- - - - -
س 14 : من المعلوم أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى العلم الشرعي؛ فهل هذا العلم هو حفظ الكتاب والسنة ؟ وهل يكفي العلم الذي يدرس في المدارس والجامعات للدعوة إلى الله ؟ .
جـ/ العلم هو حفظ النصوص وفهم معانيها؛ فلا يكفي حفظ النصوص فقط، لا يكفي أن الإنسان يحفظ نصوص القرآن والأحاديث، لا بد من معرفة معانيها الصحيحة، أما مجرد حفظ النصوص بدون فهم لمعانيها؛ فهذا لا يؤهل للدعوة إلى الله - عز وجل -.
أما ما يدرَّس في المدارس إذا كان فيه حفظ للنصوص وفهم لمعانيها؛ فهو كافٍ .
أما إذا كان حفظاً للنصوص دون فهم للمعاني؛ فهذا لا يؤهل للدعوة، لكن بإمكان هذا أن يُحَفِّظ الناس النصوص التي حفظها، ويلقِّنهم إياها دون شرح لمعانيها، أو يقرأها عليهم، ويُسمعهم إياها .
- - - - -(41/21)
س 15 : قد يتوهّم البعض إن الدعوة إلى الله لا يقوم بها إلا العلماء على الإطلاق، وأنه لا يلزم غيرهم القيام بالدعوة فيما علموه؛ فما توجيه فضيلتكم في ذلك ؟ .
جـ/ هذا ليس بتوهّم، هذا حقيقة، الدعوة لا يقوم بها إلا العلماء .
وأنا أقول هذا، لكن هناك أمور واضحة يعرفها كل إنسان؛ فكل إنسان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر بحسب معرفته، فيأمر أهل بيته بالصلاة وبالأمور الواضحة، هذا مفروض حتى على العامة يأمرون أولادهم بالصلاة في المسجد، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر ))(1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته ))(2)، هذه تسمى رعاية، وهذه تسمى أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن
لم يستطع فبقلبه )) (3) .
فالعامي مطلوب منه أن يأمر أهل بيته وغيرهم بالصلاة، والزكاة، وطاعة الله، وتجنُّب المعاصي، وأن يطهر بيته من المعاصي، ويربي أولاده على الطاعة، هذا مطلوب منه وإن كان عامياً؛ لأن هذا يعرفه كل أحد، هذا أمر واضح .
أما الفتاوى، وبيان الحلال والحرام، وبيان الشرك والتوحيد؛ فهذا لا يقوم به إلا العلماء .
- - - - -
س 16 : جماعات الدعوة كثرت الآن، والدعاة إلى الله كثروا، ولكن الاستجابة قليلة؛ فما السرِّ في ذلك ؟ .
جـ/ نقول :
أولاً : نحن لا نشجّع على كثرة الجماعات في الدعوة وغيرها، نحن نريد جماعة واحدة صادقة، تدعو إلى الله على بصيرة .
__________
(1) …صحيح : أبو داود : ( 495 )، " نصب الراية " : ( 1/298 ) بألفاظ متقاربة .
(2) …البخاري : ( 853 ) .
(3) …مسلم : 49 .(41/22)
أما كثرة الجماعات، وكثرة المناهج؛ فهذا مما يسبب الفشل والنزاع، والله – تعالى – يقول : { وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (1). وقال - عز وجل -: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } (2).
وقال – جل ذكره - : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } (3) .
نريد جماعة واحدة تكون على المنهج الصحيح والدعوة الصحيحة، حتى ولو تفرَّقت في البلدان؛ فإن مرجعها واحد (4)، ويراجع بعضها بعضًا؛ فيستمد بعضها من بعض، هذا هو المطلوب .
أما كثرة الجماعات التي ليست على منهج واحد فمآلها الاختلاف .
ثانيًا : لا شك أن في إخلاص الداعية تأثيرًا على المدعو؛ فإذا كان الداعية مخلصًا في نيته وكان يدعو على المنهج الصحيح وعلى بصيرة وعلم فيما يدعو إليه، فإن هذا يكون له تأثير على المدعو، أما إذا لم يكن مخلصًا في دعوته وإنما يدعو إلى نفسه، أو يدعو إلى حزبية، أو إلى جماعة منحرفة، أو إلى عصبية – حتى ولو كان يتسمّى بالإسلام-؛ فإن هذا لا ينفع بشيء، وليس من الدعوة للإسلام بشيء .
وكذلك إذا كان يدعو الناس إلى كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لا يعمل بما يدعو إليه؛ فهذا – أيضًا – مما ينفِّر الناس عنه، والله – تعالى – يعلم ما في القلوب، ويعلم ما يفعل الإنسان في أَيِّ مكان؛ فإذا كان يبارز الله بالمخالفة إذا خلى، و إذا ظهر للناس يدعوهم إلى الخير وهو بخلافه؛ فهذا لا يؤثر شيئًا، ولا يقبل منه؛ لأن الله لم يجعل في دعوته بركة، وانظر إلى الدعاة المخلصين؛ ماذا أثمرت دعوتهم، وهم أفراد، ولهم أضداد ؟، أمثال :
__________
(1) …الأنفال : 46 .
(2) …آل عمران : 105 .
(3) …آل عمران : 103 .
(4) …مصدر واحد هو الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح .(41/23)
شيخ الإسلام ابن تيميّة، وتلامذته، وشيخ الإسلام : محمد بن عبدالوهاب، وغيرهم، وانظر إلى كثرة الدعاة اليوم، وكثرة الجماعات الدعوية، وقِلّة آثارهم، وقِلة نفعهم؛ لتعلم أن العبرة بالكيفية لا بالكمية .
- - - - -
س 17 : هل مناهج الدعوة إلى الله توقيفية، أم اجتهادية ؟ .
جـ/ مناهج الدعوة توقيفية، بيَّنها الكتاب والسنة وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (1)
__________
(1) …إن الله تعالى قد أكمل لنا الدين؛ فليس لأحد من الناس أن يخترع من عنده طريقة للدعوة، وإلا سيكون لسان حاله يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَصَّر في تبليغ الرسالة، وإلى التوصل إلى طريقة أكثر فائدة وتأثيرًا .
…فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن، قال له : (( إنك ستأتي قوماً أهل كتاب؛ فإذا جئتهم فادعُهم إلى : أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم .. )) الحديث . أخرجه البخاري (1331، 1425) .
…فهذا الحديث يدل دلالة واضحة صريحة على أن مناهج الدعوة إلى الله توقيفية، وإلا فإن معاذ بن جبل أجدر بالدعوة من آلاف دعاة اليوم .
…وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل جعل السماع طريقة لدعوة الناس وتتويبهم، وهذا نص السؤال والجواب :
…(( سئل – رحمه الله – عن جماعة يجتمعون على قصد الكبائر من قتل وقطع الطريق
…والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك، ثم إن شيخاً من المشايخ المعروفين بالخير واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك؛ فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعًا يجتمعون فيه بهذه النيبة، وهو بدُف بلا صلاصل، وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة؛ فلما فعل هذا تاب
=…منهم جماعة، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي .. يتورع من الشبهات ويؤدي المفروضات ويجتنب المحرمات؛ فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه لِمَا يترتب عليه من المصالح ؟ مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا !! .
فأجاب – رحمه الله - :
(( الحمد لله رب العالمين، إن الله بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، ...، وأنه أكمل له ولأمته الدين، ..، وأمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعثه به، ..، فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين، وكان السلف كمالك وغيره يقولون : "السنة كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق".
إذا عرفتَ هذا؛ فمعلوم أن ما يهدي به الله الضالين، ويرشد به الغاوين، ويتوب على العاصين، لا بد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، ..، وإذا تبين هذا نقول للسائل : إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعون على الكبائر؛ فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي؛ يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هم شر من هؤلاء من أهل الكفر، والفسوق، والعصيان؛ بالطرق الشرعية التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية )) .
انتهى باختصار من مجموع الفتاوى : ( 11/620-624 )، وقد طبعت مفردة بعناية الأخ / يوسف العتيق – وفقه الله – بعنوان : (( الطرق الشرعية والطرق البدعية في المسائل الدعوية من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية )) .
فتأمل – أخي الكريم – هذه الطريقة البدعية، وقارنها بالطريقة التي يسلكها بعض الدعاة اليوم والفِرَق، ويسمونها : ( مناهج دعوية ) من : اللعب بالكرة، والأناشيد، والتمثيليات التي يسمونها ( إسلامية ) – زعموا -، والرحلات، والقصص؛ فالله المستعان، والله – تعالى – أعلم .(41/24)
، لا نحدث فيها شيئًا من عند أنفسنا، وهي موجودة في كتاب الله
وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا أحدثنا ضِعنا وضَيَّعنا .
قال – - صلى الله عليه وسلم - - : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ )) (1) .
نعم، جَدَّت وسائل تُستخدم للدعوة اليوم، لم تكن موجودة من قبل، مثل : مكبرات الصوت، والإذاعات، والصحف، والمجلات، ووسائل الاتصال السريع، والبث الفضائي؛ فهذه تُسمى : وسائل ، يُستفاد منها في الدعوة، ولا تُسمّى مناهج؛ فالمناهج بَيَّنها الله – تعالى – بقوله : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (2)، وقوله – تعالى - : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } (3)، وفي سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة بمكة والمدينة ما يُبَيّن مناهج الدعوة؛ { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } (4) .
- - - - -
س 18 : ما هو المنهج الصحيح في المناصحة، وخاصة مناصحة الحكام؛ أهو بالتشهير على المنابر بأفعالهم المنكرة ؟ أم مناصحتهم في السر ؟ أرجو توضيح المنهج الصحيح في هذه المسألة ؟ .
جـ / العصمة ليست لأحد إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فالحكام المسلمون بشر يخطئون، ولا شك أن عندهم أخطاء وليسوا معصومين، ولكن لا نتخذ من أخطائهم مجالاً للتشهير بهم ونزع اليد من طاعتهم، حتى وإن جاروا، وإن ظلموا (5)
__________
(1) …البخاري : ( 3550 )، ومسلم : ( 1718 ) .
(2) …النحل : 125 .
(3) …يوسف : 108 .
(4) …الأحزاب : 21 .
(5) …هذه عقيدة أهل السنة والجماعة في الحاكم المسلم .
…قال صاحب العقيدة الطحاوية ( ص : 379 ) : (( ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله-عز وجل-فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة ))
…هذا هو الذي عليه دعاة الحق إلى يومنا هذا .
…ويتكرر مثل هذا الكلام وما في معناه من سماحة شيخنا الشيخ : عبدالعزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله – في دروسه ومحاضراته، وانظر كتاب : (( المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم ))، و (( نصيحة الأمة في جواب عشرة أسئلة مهمة ))، وانظر – أيضًا – تقديم سماحته لكتاب (( نبذة في حقوق ولاة الأمر )) عبدالعزيز العسكر .
…ولسماحته – رحمه الله – كلمة في (( مجلة البحوث الإسلامية )) العدد ( 50 ) .
…ففي هذه الكتب أبلغ ردٍّ على من يدَّعي أن سماحته لا يرى الكلام والتأليف في هذا الموضوع .(41/25)
، حتَّى وإن عصوا، ما لمَ يأتوا كفرًا بواحًا، كما أمر بذلك النبي- صلى الله عليه وسلم -(1)، وإن كان عندهم معاصٍ وعندهم جور وظلم؛ فإن الصبر على طاعتهم (2) جمع للكلمة، ووحدةً للمسلمين، وحماية لبلاد المسلمين،
__________
(1) …يشير-حفظه الله -إلى حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي يقول فيه : (( دعانا النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فبايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان )) الفتح : ( 13/5 ) .
…زاد أحمد : (( وإن رأيت أن لك – أي : اعتقدت أن لك – في الأمر حقًا فلا تعمل بذلك الظن، بل اسمع وأطع إلى أن يصل إليك بغير خروج عن الطاعة )) .
…زاد ابن حبان وأحمد : (( وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك )) الفتح : ( 13/8 ) .
(2) …يشير الشيخ – حفظه الله – إلى حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : (( من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات ميتة جاهلية)) أخرجه البخاري : ( 7054 ) .
……=…
=…وحديث أنس بن مالك – - رضي الله عنه - – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إنكم سترون بعدي أثَرة وأمورًا تنكرونها )) قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ . قال : أدُّوا إليهم حقهم، وسَلوا الله حقكم )) .أخرجه البخاري : ( 7052 )، الترمذي : ( 2190 ) .(41/26)
وفي مخالفتهم ومنابذتهم مفاسد عظيمة؛ أعظم من المنكر الذي هم عليه، يحصل – في مخالفتهم – ما هو أشد (1) من المنكر الذي يصدر منهم، ما دام هذا المنكر دون الكفر، ودون الشرك .
ولا نقول : إنه يسكت على ما يصدر من الحكام من أخطاء، لا، بل تُعالَج، ولكن تُعالَج بالطريقة السليمة، بالمناصحة لهم سرًا، والكتابة لهم سرًا .
وليست بالكتابة التي تُكتب، ويوقع عليها جمع كثير، وتُوزّع على الناس، هذا لا يجوز، بل تُكتب كتابة سرية فيها نصيحة (2)، تُسَلّم لولي الأمر، أو يُكَلّم شفويًا، أما الكتابة التي تُكتب وتُصَوَّر وتُوَزَّع على الناس؛ فهذا عمل لا يجوز، لأنه تشهير، وهو مثل الكلام على المنابر، بل هو أشد، بل الكلام يمكن أن يُنسى، ولكن الكتابة تبقى وتتداولها الأيدي؛ فليس هذا من الحق .
قال - صلى الله عليه وسلم -: (( الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة )) قلنا : لمن يا رسول الله؟. قال :(( لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم )) (3).
وفي الحديث : (( إن الله يرضى لكم ثلاثًا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم )) (4) .
__________
(1) …كالمظاهرات التي تحدث في بعض البلدان المجاورة، وهذه المظاهرات من عادات الكفار، وليست من عند المسلمين، وليست من الدين في شيء، وينتج عنها سفك الدماء وهتك الأعراض والتسلط على السنة وأهلها؛ فهلا فكر دعاة التهييج السياسي في العاقبة ؟!.
(2) …هذا هو المنهج السلفي في مناصحة ولاة الأمر : تكون سرًا حتى تكون أبعد عن الرياء،
…وأحرى للقبول عندهم، وقبول العمل عند الله – أيضًا -، وسيأتي – إن شاء الله – ذِكر بعض النصوص والآثار في ذلك .
(3) …أخرجه مسلم : ( 55 ) .
(4) …صحيح: " الموطأ " : ( 2/756 )، أحمد : ( 2/367 )، وأصله في (( مسلم )) : ( 1715 ) .(41/27)
وأولى من يقوم بالنصيحة لولاة الأمور هم العلماء، وأصحاب الرأي والمشورة، وأهل الحل والعقد، قال الله - تعالى - { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم } (1) .
فليس كل أحد من الناس يصلح لهذا الأمر، وليس الترويج للأخطاء والتشهير بها من النصيحة في شيء، بل هو من إشاعة المنكر والفاحشة في الذين آمنوا، ولا هو من منهج السلف الصالح، وإن كان قصد صاحبها حسنًا وطيبًا، وهو : إنكار المنكر – بزعمه -، لكن ما فعله أشد منكرًا مما أنكره، وقد يكون إنكار المنكر منكرًا إذا كان على غير الطريقة التي شرعها الله -تعالى- ورسوله - صلى الله عليه وسلم -(2)؛ لأنه لم يتبع طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشرعية الَّتِي رسمها، حيث قال – عليه الصلاة والسلام - : (( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )) (3) .
__________
(1) …النساء : 83 .
(2) …قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : (( الرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قيل : ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات أو المستحبات، لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة ... بل كل ما أمر الله به هو صلاح .
……=
=…وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين وذم الفساد والمفسدين في غير موضع؛ فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم لم يكن مما أمر الله به، وإن كان قد ترك واجبًا وفعل محرمًا، إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباد الله وليس عليه هداهم )) انتهى من رسالة " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ص : ( 19 ) .
(3) …أخرجه مسلم : ( 49 ) .(41/28)
فجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس على ثلاثة أقسام :
منهم : من يستطيع أن يزيل المنكر بيده وهو صاحب السلطة، أي : ولي الأمر، أو من وُكِل إليه الأمر، من : الهيئات، والأمراء، والقادة .
والقسم الثاني : العالِم الذي لا سلطة له؛ فينكر بالبيان والنصيحة، بالحكمة والموعظة الحسنة، وإبلاغ ذوي السلطة بالطريقة الحكيمة .
والقسم الثالث : من لا عِلم عند ولا سلطة؛ فإنه ينكر بقلبه، فيبغضه، ويبغض أهله، ويعتزلهم .
- - - - -
س 19 : انتشر اليوم بين الشباب : أنه يلزم الموازنة في النقد، فيقولون : إذا انتقدت فلانًا من الناس – في بدعته -، وبيَّنت أخطاءه؛ يلزمك أن تذكر محاسنه، وهذا من باب الإنصاف والموازنة. فهل هذا المنهج في النقد صحيح ؟ وهل يلزمني ذكر المحاسن في حالة النقد ؟ . جـ / هذه المسألة تقدم الجواب عنها، لكن إذا كان المنتَقَد من أهل السنة والجماعة، وأخطاؤه في الأمور التي لا تخِلّ بالعقيدة، فنعم، هذا تُذكر ميزاته وحسناته، وتُغمر زلاته في نصرته للسنة .
أما إذا كان المنتَقَد من أهل الضلال، ومن أهل الانحراف، ومن أهل المبادئ الهدّامة أو المشبوهة؛ فهذا لا يجوز لنا أن نذكر حسناته – إن كان له حسنات -؛ لأننا إذا ذكرناها فإن هذا يغرر بالناس؛ فيحسنون الظن بهذا الضال، أو هذا المبتدع، أو هذا الخرافي، أو ذاك الحزبي؛ فيقبلون أفكار هذا الضال، أو هذا المبتدع، أو ذاك المتحزب .
والله – جل وعلا – رَدَّ على الكفرة، والمجرمين، والمنافقين، ولم يذكر شيئًا من حسناتهم (1)
__________
(1) …لا يخْلُ أحدٌ من الحسنات حتى اليهود والنصارى عندهم حسنات؛ فعلى قاعدة أهل الموازنة يلزم ذكر حسنات الكفار إذا ذكرناهم، وهذا لا يقول به عاقل فضلاً عن طالب علم؛ فتأمل – وفق الله الجميع - .
…فمنهج السلف في النقد عدم ذكر الحسنات، وإن ذكروا الحسنات فمن باب عدم الاغترار بها، وليس من باب قول القائل، ينبغي أن لا ننسى جهوده وأعماله .
…وهذا مثال من أقوى الأمثلة – وفيه الهدى والنور لمن تدبره :
…الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث الخوارج قال : (( يخرج من ضِئضئ هذا قومٌ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويَدَعُون أهل الأوثان؛ لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد )) البخاري : ( 3166 ).
…وفي رواية أخرى : (( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم )) البخاري : ( 3414 )،
وفي رواية : (( فأينما لقيتموهم فاقتلوهم )) البخاري : ( 3415 ) .
…أقول : والله الذي لا إله غيره، ما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الصفات لهؤلاء القوم بغية
……=
=…الثناء عليهم أو ليغرر بهم، وإنما ليحذر الناس منهم لئلا يغتروا بأعمالهم الصالحة في ظاهرها .
…وقد فهم السلف هذا المعنى، وطبَّقوه في حياتهم، وأصبح منهجًا يعتقدونه .
…فهذا الإمام أحمد – رحمه الله – يُسقِط الكرابيسي عندما قال باللفظ .
…روى الإمام عبدالله – رحمه الله – في كتابه " السنة " : ( 1/165 ) فقال : (( سمعت أبي يقول:"من قال لفظي بالقرآن مخلوق هذا كلام سوء رديء، وهو كلام الجهمية "، قلت له : إن حسينًا الكرابيسي يقول هذا؛ فقال: " كذب، هتكه الله، الخبيث" )) .
…وقال الإمام أحمد – رحمه الله – عن الحارث المحاسبي أشد من ذلك. فقد أخبر عنه علي بن أبي خالد، قال : قلت لأحمد : إن الشيخ – لشيخ حضر معنا – هو جاري، وقد نهيته عن رجل، ويحب أن يسمع قولك فيه : حارث القصير - يعني : حارث المحاسبي -، وكنتَ رأيتني معه منذ سنين كثيرة، فقلت لي : " لا تجالسه، ولا تكلمه "، فلم أكلمه حتى الساعة، وهذا الشيخ يجالسه، فما تقول فيه ؟ .
…فرأيتُ أحمد قد احمرّ لونه، وانتفخت أوداجه وعيناه، وما رأيته هكذا قط .
…ثم جعل ينتفض ويقول : " ذاك ؟! فعل الله به وفعل، ليس يعرف ذاك إلا من خَبَرَه وعرفه، أُوّيه، أُوّيه، أُوّيه. ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره وعرفه . ذاك جالسه المغازلي، ويعقوب، وفلان؛ فأخرجهم إلى رأي جَهْم، هلكوا بسببه " .
…فقال له الشيخ: يا أبا عبدالله، يروي الحديث، ساكن خاشع، من قصته، ومن قصته؟ . فغضب أبو عبدالله، وجعل يقول : " لا يغرّك خشوعه ولينه "، ويقول : " لا تغترّ بتنكيس رأسه؛ فإنه رجل سوء، ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره، لا تكلمه، ولا كرامة له، كل من حدّث بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان مبتدعاً تجلس إليه؟ لا، ولا كرامة، ولا نُعمى عين " . " طبقات الحنابلة " : ( 1/233 ) .
…قلت : فأين الإنصاف – المزعوم ! – من الإمام أحمد – رحمه الله-؛ لم يذكر للكرابيسي ولا المحاسبي حتى ولا حسنة واحدة ؟، مع أن الكرابيسي من بحور العلم، كما جاء في ترجمته .
…وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في حاشية رقم : ( 22 )، و ( 23 ) .
…انظر : تاريخ بغداد : ( 8/64 )، السِّير : ( 12/79 ) .…=
=…رحم الله الإمام أحمد، لو كان في زماننا هذا لمّا سَلِم ولرُمِي بالتشدد والعمالة، والعلمنة، وغير ذلك من الألفاظ التي يطلقها الحزبيون لمّا أعيتهم الحجج؛ لأنه ما داهن ولا جامل أهل البدع والأهواء .
…وقال رافع بن أشرس –رحمه الله-: (( من عقوبة الفاسق المبتدع أن لا تُذكر محاسنه )) شرح علل الترمذي : ( 1/353 ) .(41/29)
، وكذلك أئمة السلف يردون على الجهمية والمعتزلة وعلى أهل الضلال، ولا يذكرون شيئًا من حسناتهم؛ لأن حسناتهم مرجوحة بالضلال، أو الكفر، أو الإلحاد، أو النفاق؛ فلا يناسب أنك تَرُدَّ على ضال، مبتدع، منحرف، وتذكر حسناته، وتقول : هو رجل طيب، عنده حسنات، وعنده كذا، لكنه غَلِط !! .
نقول لك : ثناؤك عليه أشد من ضلاله، لأن الناس يثقون بثنائك عليه؛ فإذا رَوَّجت لهذا الضال المبتدع ومدحته فقد غرَّرت بالناس، وهذا فتح باب لقبول أفكار المضللين (1) .
__________
(1) …هاك أخي القارئ هذه الواقعة التي تؤكد مدى خطر التغرير بالناس بمدح أهل البدع :
…روى هذه الحادثة الإمام الذهبي – وغيره – قال : (( قال أبو الوليد الباجي في كتاب : " اختصار فرق الفقهاء " من تأليفه عند ذكر القاضي أبي بكر الباقلاني : لقد أخبرني أبو ذر الهروي – وكان يميل إلى مذهبه الأشعري – فسألته : من أين لك هذا ؟ قال : كنت ماشيًا مع أبي الحسن الدارقطني فلقينا القاضي أبا بكر ابن الطيب –الأشعري-؛ فالتزمه الدارقطني، وقبَّل وجهه وعينيه؛ فلما افترقا، قلت : من هذا الذي صنعت به ما لم أعتقد أنك تصنعه، وأنت إمام وقتك؟ . فقال : هذا إمام المسلمين، والذاب عن الدين، القاضي أبو بكر الطيب فمن ذلك الوقت تكررت إليه فاقتديت بمذهبه )) ا هـ .
" تذكرة الحفاظ " : ( 3/1104-1105 )، و " السير " : ( 17/558-559 ) .
…قلت : في هذه القصة ترى أن الدارقطني لَمَّا فعل هذا بالباقلاني الأشعري، وأثنى عليه؛
……=
=…بأنه إمام المسلمين ... إلخ؛ اغترّ بذلك من رآه، واعتنق مذهب الأشاعرة بسببه .
…وهكذا، كل من أثنى على أهل البدع والأهواء؛ فإنه سيوقع خلقًا كثيرًا في مذهبهم؛ خاصة إذا كان ممن يُرى فيه الصلاح . والله أعلم .(41/30)
وأما إذا كان المردود عليه من أهل السنة والجماعة فإن الرَّدَّ يكون بأدب، وينبَّه على أغلاطه التي تكون في مسائل الفقه ومسائل الاستنباط والاجتهاد؛ فنقول: فلان أخطأ في كذا والصواب كذا بالدليل –غفر الله له-، وهذا اجتهاده، وهكذا، كما كانت الردود بين الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم .
وهذا لا يقدح في مكانته العلمية إذا كان من أهل السنة والجماعة .
وأهل السنة والجماعة ليسوا معصومين، عندهم أخطاء وقد يفوت أحدهم الدليل أو اختلال الاستنباط؛ فلا نسكت على الخطأ وإنما نبينه مع الاعتذار عنه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد )) (1) .هذا في مسائل الفقه .
أما إذا كان في مسائل العقيدة فإنه لا يجوز لنا أن نمدح المضللين والمخالفين لأهل السنة والجماعة من : معتزلة، وجهمية، وزنادقة، وملاحدة (2)
__________
(1) …البخاري : ( 6919 )، مسلم : ( 1716 ) .
(2) …قد يقول قائل : لماذا أنتم تتكلمون عن المعتزلة، والجهمية، والزنادقة، والأشاعرة، والخوارج، والمرجئة، وتذكرونهم دائمًا عند ذكر مسائل العقيدة، مع أن هذه الفِرَق قد مضت، وأهلها أصبحوا تحت الثرى، وكما يقال : " أكل الزمان عليها وشرب " ولا داعي لذكرها ؟ .
……=
=…نقول – وبالله التوفيق - :
…نعم، هذه فِرَق كانت في الماضي، وأهلها ومؤسسوها قد فارقوا الحياة من قرون مضت، ولكن الأفكار ما زالت، وعقائدهم ما تزال، بل أتباعهم المتأثرون بهم موجودون بين أظهرنا؛ فعقيدتهم وأفكارهم تنتقل من جيل إلى جيل، ولها مروّجون .
…فأما عقيدة المعتزلة: فموجودة، بل منتشرة بين كثير من المنتسبين إلى الإسلام، لأن الشيعة بجميع طوائفها – حتى الزيدية – على عقيدة الإعتزال .
…وأما الأشعرية: فهي الفرقة التي لها الوجود الجماعي بين جمهور المسلمين اليوم .
وأما الإرجاء: فموجود – أيضًا – عند الحنفية الذين يرون أن الإيمان هو التصديق والقول فلا تدخل الأعمال – عندهم – في مسمى الإيمان، وإن كان هذا الإرجاء أخف نوعًا مِن إرجاء أهل الكلام المعروف .
وإن كان لا يخل عصر من هذه العقائد والمذاهب المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة في الاعتقاد، إلا أن لكل عصر رجال، يدافعون عن هذه العقيدة .
فقد انبرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بالمملكة العربية السعودية في التحذير من الإرجاء في الفتوى رقم ( 21436 ) في 8/4/1421هـ .
قالت اللجنة : " مقالة المرجئة الذين يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، ويقولون : الإيمان هو التصديق بالقلب، أو التصديق بالقلب والنطق باللسان فقط، وأما الأعمال فإنها عندهم شرط كمال فيه فقط وليست منه، فمن صدق بقلبه، ونطق بلسانه، فهو مؤمن كامل الإيمان عندهم، ولو فعل ما فعل من ترك الواجبات وفعل المحرمات ويستحق دخول الجنة ولو لم يعمل خيراً قط ....
ولا شك أن هذا قول باطل وضلال مبين مخالف للكتاب والسنة، وما عليه أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً، وأن هذا يفتح باباً لأهل الشر والفساد .." انظر كتاب : "التحذير من الإرجاء وبعض الكتب الداعية له" : ( 8-9 ) .
…وأما الملاحدة من : وِحدة الوجود وغيرهم : فموجودة؛ لأن أتباع ابن عربي الطائي موجودون، وهم غلاة الصوفية .
……=
=…وعلى هذا .. فإننا عندما نذكر هذه الفرق لسنا نتحدث عن العظام وهي رميم، ولكننا نتحدث عن فِرَق موجودة بين المسلمين اليوم، وهو أمر لا يخفى على طلاب العلم، وإنما ينكر علينا – ذِكرنا لهذه الفرق – من لا يعرف الحقائق، أو يريد التلبيس على الناس، وترويج العقائد الباطلة؛ فعليه أن يسأل قبل أن ينكر . هذا باختصار، وإلا فالموضوع طويل الذيل، والله أعلم .
وإليك بعض الأمثلة التي توضِّح أن أفكار تلك الفِرَق الهالكة موجودة :
1- يقول " سيد قطب " في كتابه : " ظلال القرآن " : ( 4/2328 ) ما نصه :
(( القرآن ظاهرة كونية كالأرض ولسماوات )) .
وهذا قولٌ بخلق القرآن، وهو قول الجهمية وغيرهم .
…ويصف الآيات القرآنية في كتابه " ظلال القرآن " بـ: الاقاعات الموسيقية، والأسلوب الموسيقي. في سورة : الشمس، الفجر، الغاشية، الطارق، القيامة، هذا على سبيل المثال .
ويصف الله تعالى، بـ (( الصانع )) في سورة : ( الأعلى ) ص: [ 3883 ] تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
2- ويقول – أيضًا – في كتابه : " الظلال " : ( 6/4002 ) في تفسير ( قل هو الله أحد ) : (( إنها أحدية الوجود؛ فليس هناك حقيقة إلا حقيقته، وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده، وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي )) . فهذه عقيدة وحدة الوجود .
…قال العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين-رحمه الله- : "قرأت تفسيره – يعني: ظلال القرآن لسيد قطب – لسورة الإخلاص وقد قال قولاً عظيمًا فيها، مخالفًا لما عليه أهل السنة والجماعة؛ حيث إن تفسيره لها يدل على أنه يقول بوحدة الوجود : " براءة علماء الأمة " : ( ص /42 ) .
وقال المحدث الشيخ الألباني – رحمه الله - : "نقل – سيد قطب – كلام الصوفية ولا يمكن أن يفهم منه إلا أنه يقول بوحدة الوجود" . المصدر السابق : (ص 37 ).
…=
=…وكتب –رحمه الله– بخط يده على فاتحة كتاب" العواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم " للشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله (ص 3، ط. الثانية 1421هـ) هذه العبارة :"كل ما رددته على سيد قطب حق وصواب، ومنه يتبين لكل قارئ مسلم على شيء من الثقافة الإسلامية أن سيد قطب لم يكن على معرفة بالإسلام بأصوله وفروعه. فجزاك الله خير الجزاء أيها الأخ( الربيع ) على قيامك بواجب البيان والكشف عن جهله وانحرافه عن الإسلام. اهـ . ونشر في " المجلة السلفية " العدد السابع، عام 1422هـ، ص : ( 46 ) .
…3- ويقول " محمد قطب " : (( إن الأمر يحتاج إلى دعوة الناس من جديد إلى الإسلام، لا لأنهم – في هذه المرة – يرفضون إن ينطقوا بأفواههم : لا إله إلا الله محمد رسول الله، كما كان الناس يرفضون نطقها في الغربة الأولى، ولكن لأنهم – في هذه المرة – يرفضون المقتضى الرئيسي لـ لا إله إلا الله وهو : تحكيم شريعة الله )) انتهى ، نقلاً من كتاب " واقعنا المعاصر " ( ص : 29 ) .
أقول : هذا تكفير للجماهير بالجملة، وإلا كيف يحكم بأنهم رفضوا حكم الله ؟ وكيف يشبِّههم بالجاهلية قبل الإسلام ؟ دون تفصيل أو استثناء للذين يُحَكِّمون شريعة الله، وليس لهم دستور إلا كتاب الله .
ومثل هذا الإطلاق يتكرر كثيرًا من هؤلاء الكتاب، كأنهم لا يعترفون بوجود دولة إسلامية سلفية عملاقة في قلب الجزيرة العربية، ولا يعترفون بوجود مسلمين في الأقطار الأخرى من أهل الحديث، وغيرهم من أنصار السنة ومذهب السلف .
…والغريب أن هؤلاء – أو بعضهم – يعيشون في هذا البلد الإسلامي ( المملكة العربية السعودية ) عندما يطلقون مثل هذا الكلام، الذي فيه تلبيس خطير على القراء، حيث يفهم القارئ البسيط بأنه لا توجد اليوم دولة إسلامية تنطق بـ ( لا إله إلا الله )، وتعمل بمقتضاها، وتحكّم شرع الله، ولا يوجد أفراد أو جماعات من أهل التوحيد على وجه الأرض، وهذا تغرير منهم للقراء وتضليل وتلبيس حتى يوقعوهم في التكفير وقد وقع الكثير في ذلك. فلينتبه طالب العلم لهذه الظاهرة المنتشرة بين كثير من هذا الصنف من الكتاب، هداهم الله إلى الصواب .
……=
=…4- يقول أحد المنتسبين إلى الدعوة : (( من المجاهرة : أن الإنسان يفخر بالمعصية أمام زملائه، يبدأ يجاهر بأنه فعل كذا، وفعل كذا، ويبدأ يسرد قائمة من المعاصي . هذا لا يُغفر له !! إلا أن يتوب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم عليه بأنه لا يُعافى " كل أمتي معافى "
……أقول: أين في الحديث أن الله لا يغفر لهؤلاء ثم من قال من أهل السنة والجماعة أن من يموت على معصية -وإن كان مجاهراً- لا يغفر الله له إلا بالتوبة، أليس هو تحت المشيئة إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة ؟ إلا أن يكون هذا مذهب الخوارج والمعتزلة !!.
…ثم يستمر هذا الداعية فيقول: وأخبث وأعظم من ذلك أن بعضهم ... يقول : أنا لي علاقات محرّمة، وأنا لي صداقات، وأنا لي أسفار. فهذا يتشبّع بالمعصية. وبعضهم يسجّل المعصية على أشرطة،ولا كرامة لهم لأنهم مرتدون بفعلهم هذا!!.
يسجّل كيف غرّر بفتاة، وارتكب معها الفاحشة. وهذه رِدّة عن الإسلام، هذا مخلد في نار جهنّم، إلا أن يتوب )) !!. انتهى من شريط" جلسة على الرصيف ".
وعن المغنين الذين يتداول بعض الشباب أشرطتهم التي تدعو للرذيلة وتغرير الشباب والفتيات .. يقول: (( أنا مطمئن أن صاحب هذا العمل أقل ما يقال عنه: أنه مستخف بالمعصية، ولا شك أن الاستخفاف بالذنب – خاصة إذا كان ذنبًا كبيرًا ومتفق على تحريمه – أنه كفر بالله؛ فمثل هؤلاء لا شك أن عملهم هذا ردة عن الإسلام، أقول هذا وأنا مرتاح مطمئن القلب إلى ذلك )) انتهى من شريط " الشباب أسئلة ومشكلات "، وسيأتي في التعليق رقم (132) .
…أقول : إن التكفير، وتفسير انتشار المعاصي وإشاعتها بين الناس بالأخبار يعتبر استخفافًا يؤدي إلى الكفر؛ يدل على الجرأة الزائدة على التكفير بالكبيرة، وعدم التورع؛ وهذا من منهج الخوارج، حيث إنهم يكفّرون بالكبيرة؛ لأن ما ذكره من الإخبار بالمعاصي والعلاقات السيئة مع العصاة، فمثل هذا الكلام محتمل، وليس صريحًا في الاستحلال؛ قد يكون الحامل عليه الجهل، لذلك ينبغي التذكير وعدم
……=
=…التكفير، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة، وليس الاستخفاف استهزاءًا، بل كل من فعل معصية كبيرة أو صغيرة؛ فإنه لا يفعلها إلا بعد ما يستصغرها ويستخفها؛ فليس المستخف بالمستهزئ . ومن ذا المعصوم ؟ ! والله أعلم .
5- يقول آخر متسائلاً ومجيبًا في الوقت نفسه :
…(( تصوَّر أن المنكرات الموجودة في مجتمعنا مجرد معاصِ ؟، كثير من الناس يتصور الآن أن الربا مجرد معصية أو كبيرة، والمخدرات والمسكرات مجرد معصية، والرشوة مجرد معصية أو كبيرة من الكبائر ...، لا يا إخوان !!، تتبعت هذا الأمر فوضح لي الآن: أن كثيرًا من الناس في مجتمعنا استحلوا الربا -والعياذ بالله- !!،
…أتعلمون الآن في بنوك الربا في بلادنا زادوا عن مليوني شخص،بالله عليكم هل كل هؤلاء الملايين يعرفون أن الربا حرام، ولكنهم ارتكبوها وهي معصية؟ لا والله !! .
إذًا من الخطورة الموجودة الآن بسبب كثرة انتشار المعاصي : أن الكثير قد استحلوا هذه الكبائر – والعياذ بالله - )) ا هـ من شريط " التوحيد أولاً " !! .
أقول كما قلت وتكلمت على المثال الذي قبله ..
ولكن هذا المثال أخطر على صاحبه في فهمي، وذلك أنه قال في مبالغاته الخطيرة : أن ما يقع في هذا المجتمع من الربا والمسكرات والرشوة، أن كل ذلك ليس مجرد معصية أو كبيرة من الكبائر، ويقسم بالله على ذلك .
وهذا كما أشرت سابقًا في كلامي على المثال الذي قبله .
والجزم بأن من ارتكب هذه المعاصي أنه مستحِل، دون أن يسمع من أحد التصريح بأن الربا حلال، وتعاطي الرشوة حلال، وتعاطي المسكرات والمخدرات حلال، الجزم بالتكفير دون سماع مثل هذه العبارات، أن تشهد عليه بالاستحلال دون بَيِّنة عادلة، بل مجرد الاحتمال؛ دليلٌ واضحٌ على ضعف ورع هذا المكفِّر، وعلى عدم المبالاة، وهذا منهج الخوارج والمعتزلة .
فنصيحتي لهم ولأمثالهم : التراجع عن مثل هذا التصريح؛ الخطير عليهم قبل غيرهم، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .
…=
=…6- ويقول ثالث – دكتور في العقيدة - :
…وهو يمسك منشورًا لأحد الفنادق في دولة خليجية –وذلك في بيت من بيوت الله، ولم يراعِ للمسجد حرمته -: (( في هذا الفندق – بكل صراحة – فيه مشروبات، أي : أنه يقدم الخمور، بالإضافة إلى ما فيه ... فهذه دعوة صريحة إلى الخمر، وأنه رقص مختلط وتعَرِّي، مع شرب الخمرـ، نعوذ بالله من هذا الكفر )) اهـ من شريط رقم : ( 272/2 ) " شرح العقيدة الطحاوية " .
…ويقول في كتاب له : (( ولقد ظهر الكفر والإلحاد في صحفنا، وفشى المنكر في نوادينا، ودُعِي إلى الزنا في إذاعاتنا وتلفزيوننا، واستبحنا الربا )) ا هـ .
…وقد خرج وطُبِع هذا الكتاب – بعناوين مختلفة – في : الباكستان بعنوان : " كشف الغُمَّة عن علماء الأمة "، وفي أمريكا بعنوان : " وعد كيسنجر "، وفي مصر بعنوان : " حقائق حول أحداث الخليج " .
…قلت : على كل، فأنت ترى أن صاحب هذا الكلام قد تجشّم القول باستباحتنا للربا وما عُطِف عليه، ونحن – بحمد الله – لم نستبح الربا ولا مجتمعنا، ولا نعتبر مجرّد انتشار الخمور في بعض الأقطار المجاورة كفرًا مخرجًا من مِلّة الإسلام، بل الذي ندين الله به : أن الأمور التي ذكرها هؤلاء المنتسبون إلى الدعوة كلها معاصٍ، دون الكفر، بل كل ذلك كفر دون كفر، أي : من المعاصي والكبائر التي يُنفَى عن مرتكبها الإيمان الكامل لا أصل الإيمان كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن .. )) الحديث أخرجه البخاري: (2343، 5256، 6390، 6400، 6425 ) .
…ولا شك أن الإيمان المنفي هنا هو الإيمان الكامل، ولذلك نظائر كثيرة في شريعتنا.
…نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، ويهدي هؤلاء وأمثالهم إلى الحق .
…أخي القارئ – يا من تتطلع إلى المنهج السلفي – بعد هذه النماذج من الأفكار الموجودة في بعض الدعاة فضلاً عن الشباب المغرر بهم الذي يجلس أمام هذا الداعية أو ذاك، ويتلقّى عنهم هذه الأفكار والمعتقدات التي تهدم عقيدة السلف؛ فبعد هذا تقول: لماذا نتكلم عن -الفِرَق- التي مضت وانقضت- الضالة والمنحرفة في عقائدها وسلوكها، بينما عقيدتها باقية، وانحرافها موجود ؟ .
……=
=…فتأمّل – وفقك الله – أهمية دعوة التوحيد والعمل بها، والتحذير من جميع الفِرَق في كل زمان ومكان، والرجوع إلى منهج السلف الصالح على ضوء الكتاب والسنة . والله أعلم .(41/31)
، وأناس مشبوهين في هذا العصر . وما أكثرهم .
وأصل هذه الشبهة – الموازنة بين الحسنات والسيئات في النقد – قالها بعض الشباب وكتب فيها رسالة؛ فطار بها بعض الشباب فرحًا .
وقد وقفت على هذه الرسالة التي يزعم صاحبها لزوم الموازنة .
ووقفت على رسالةٍ للشيخ : ربيع بن هادي المدخلي (1)، رَدَّ فيها على هذه الرسالة التي يزعم صاحبها لزوم الموازنة رَدًّا وافيًا، وبيَّن ما في هذا الكلام من الخطأ ومن ترويج الباطل، وبين مذهب السلف في الرّد وأنهم ردّوا على أناس مضللين ولم يثنوا عليهم؛ لأنهم لو أثنوا عليهم صار هذا من باب التناقض .
- - - - -
س 20 : ما تقول فيمن يقول : (( إن خصومتنا لليهود ليست دينية؛ لأن القرآن الكريم حض على مصافاتهم ومصادقتهم )) (2)
__________
(1) …هو كتاب " منهج أهل السنة والجماعة في نقد الكتب والرجال والطوائف "، وقد خرج في ثوب جديد في الطبعة الثانية، مع بعض الإضافات الهامة؛ ننصح بقراءته .
(2) …هذا القول لـ( حسن البنا ) مؤسس فرقة " الإخوان المسلمون "، راجع كتاب :
…" الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ " تأليف : محمود عبدالحليم، الجزء الأول، صحيفة : ( 409 ) تجده بنصه .
ونحو هذا الكلام الخطير يقوله محمد المسعري الخارجي المارق – تشابهت أقوالهما مع اختلاف منهج الرجلين، اللهم الاتفاق بينهما في الفكر الحركي -، الذي استبدل الذي
…=
=…هو أدنى بالذي هو خير، استبدل أرض الحرمين: بلاد التوحيد، بأرض الكفر والسكن فيها، ورضي بالتحاكم إلى الكفار .
…نشرت " جريدة الشرق الأوسط " في عددها ( 6270 ) الصادر يوم الأحد، 8/ رمضان / 1416هـ؛ حديثًا أدلى به المسعري؛ فقال :
…(( إن الوضع الحالي في السعودية، والذي لا يسمح للمسيحيين واليهود بممارسة شعائر العبادة علنًا، سيتغير عند مجيء اللجنة إلى الحكم – يعني : لجنته : لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية المزعومةـ، وأنه يجب منح الأقليات حقوقها، بما فيها حق ممارسة شعائرهم في كنائسهم، وحقهم في إبرام عقود الزواج وفقُا لشرائعهم الخاصة، وما إلى ذلك، إضافة إلى حرية أن يعيشوا حياتهم الدينية الشخصية بالكامل، سواء كانوا يهودًأ، أم مسيحيين، أم هندوسًا ( !! ).
وقال : إن إقامة الكنائس مباحة في الشريعة الإسلامية )) !! ا هـ .
ونقلت الإذاعة البريطانية عنه وبصوته، ليلة الأحد : ( 29/6/1417هـ ) .
قال المذيع : ويقول المنشق السعودي محمد المسعري، الذي يعيش في لندن، ويُطلق على نفسه لقب " الجهادي " : إنه سيعقد مؤتمرًا صحفيًا مع المنشقين الشيعة قبل نهاية الشهر الحالي لإعلان جبهة موحّدة معهم .
ثم أذاعت بصوت المسعري نفسه ما نصه : (( سيكون هناك تنسيق، وربما جبهة عريضة، نعمل ونسعى لهذا، والاتصالات على قدم وساق، إنها حركة إسلامية، وليست حركة سنّية أو حركة شيعية، حركة إسلامية تقوم على المجمع عليه، المقطوع به من الإسلام، ونجمع الناس جميعًأ، المسلمين : السنة والشيعة، وفوق ذلك تحافظ على حقوق المسلمين والمواطنين، وتعتبر لهم جميع حقوق المواطنة، من :
…اليهود، والنصارى، والمجوس، وغيرهم في البلاد الإسلامية. فحركتنا بهذا المعنى سياسية، تقوم على أساس الإسلام، وليست هي حركة طائفية، أو مذهبية )) ا هـ.
فهل يوجد أعظم من هذا التخبيط، وهذه الجرأة على الإسلام ؟؟ .
وأين المسعري من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )) البخاري:
……=
=…( 2888، 2997، 4168 ) .وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )) الموطأ، رواية يحيى (2/680-681)، (1862) رواية أبي مصعب، الكبرى للبيهقي: ( 9/208 ) .
…وهل من يجهل مثل هذه الأحاديث الواضحات يستحق أن يكون موجهًا أو قائدًا، إلا أن يكون قائد ضلالة وهوى، نسأل الله العافية والسلامة .
وكأنه يتمثل بقول الشاعر :
ودارهم ما دمت في دارهم
وأرضهم ما دمت في أرضهم
وقد نشرت جريدة " الرياض " في عددها : ( 12182 ) الصادر يوم الأربعاء الموافق15/ شعبان /1422هـ مقالاً للمفتي العام الإمام الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – جاء فيه : (( .. أما ما يقوم به الآن محمد المسعري وسعد الفقيه وأشباههما من ناشري الدعوات الفاسدة الضالة فهذا بلا شك شر عظيم، وهم دعاة شر عظيم وفساد كبير، والواجب الحذر من نشراتهم والقضاء عليها وإتلافها وعدم التعاون معهم في أي شيء ..، ويجب نصحهم وإرشادهم للحق وتحذيرهم من هذا الباطل، ولا يجوز لأحد أن يتعاون معهم في هذا الشر، ونصيحتي للمسعري والفقيه وابن لادن وجميع من يسلك سبيلهم أن يدَعوا هذا الطريق الوخيم، و أن يتقوا الله ويحذروا نقمته وغضبه، ويعودوا إلى رشدهم، وأن يتوبوا إلى الله مما سلف منهم فالله سبحانه وتعالى وعد عباده التائبين بقبول توبتهم )) ا. هـ . انظر مجموع فتاوى ابن باز (9/100) .(41/32)
؟ .
جـ / هذا الكلام فيه خلط وتضليل، اليهود كفار، وقد كفَّرهم الله – تعالى – ولعنهم، وكفّرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعنهم، قال – تعالى - :
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيل } (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( لعنة الله على اليهود والنصارى )) (2) .
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } (3).
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } (4).
فعداوتنا لهم دينية، ولا يجوز لنا مصادقتهم، ولا محبتهم؛ لأن القرآن نهانا عن ذلك، كما في الآية التي سبق ذكرها .
- - - - -
س 21 : هل ترى قراءة الصحف والمجلات في المسجد من باب إنكار ما فيها من المنكر وبيانه للناس ليحذروه جائزًا ؟ .
جـ / الصحف والمجلات لا تُجمع وتُقرأ على رؤوس الناس، بل يُجمع ما فيها، وتُدرَس مع أهل العلم ومع أهل الحل والعقد .
أما أنه يُجاء بها في المساجد فهذا تشهير(5)
__________
(1) …المائدة : 78 .
(2) …البخاري : ( 425)، مسلم : ( 531 ) .
(3) …البينة : 6 .
(4) …المائدة : 51 .
(5) …ولا ننسَ أن في ذلك انتهاكًا لحرمة بيوت الله بإدخال الصور فيها .
…يقول الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي البلاد السعودية في عصره – رحمه الله - :
…(( وأما حكم استعمال الصور : فقد صرح الفقهاء – رحمهم الله – بأنه يحرم استعمال
…كل صورة من ذوات الأرواح، سواء كانت في المساجد أو خارجها، لكن لا يخفي أن الاستهانة بحرمات الله، واستعمال الصور في بيوت الله أشد تحريمًا وأغلظ جرمًا، واستعمالها أو حملها حال أداء الصلاة فهو أشد جرأة – والعياذ بالله - )) . انتهى من فتاوى ورسائل الشيخ : محمد بن إبراهيم آل الشيخ : ( 1/193 ) .(41/33)
لا إنكار، وربَّما يكون
هذا فرحًا بالمنكر (1)؛ لأن بعض الناس يفرح بالمؤاخذات من أجل أنه يروجها ويقولها، وربما يَنْدسّ مع هؤلاء ناس من المنافقين يريدون نشر الشر والباطل .
فالأمر خطير جدًا، وليس هذا هو طريق العلاج .
لا والله، ما هذه طريقة العلاج .
الذي يريد أن ينصح للمسلمين، ولأئمة المسلمين، وعامتهم؛ لا يتَّبع هذه الطريقة، وهي : جمع الأخطاء في المسجد، والإعلان عنها والتشهير بها، هذا شيء يجرّيء على الباطل ، يقول : ما دام أن الأمر بهذه الطريقة فالأمر منفرط، فيعمل من شاء ما شاء .
هناك أناس كثيرون لا يدرون عن هذه الأشياء، وأنت بهذا تفتح لهم الأبواب، وتخبرهم عن أشياء؛ هُم عنها غافلون، علاوة على ما في ذلك من مفاسد .
- - - - -
س 22 : إذا كانت هناك أخطاء في جريدة، ألا ننكر عليها، ونُبَيّن أمرها للناس ؟ .
جـ / أخطاء الجرائد – وحتى الأخطاء التي من أفراد الناس – معالجتها ليست في المساجد، ولا على المنابر، لكن لو قال في المسجد، أو في الخطبة : ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، من دون تعيين، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل؛ كان حسنًا، لأنه مصلحة بلا مفسدة .
إذا كان هناك أخطاء في جريدة – أو كاتب في جريدة – فأكتب رَدًّا عليها، أو عليه، وأرسله للجريدة، وإذا لم تنشره أرسله لغيرها، وبهذا يحصل العلاج (2) .
__________
(1) …بل في هذه الطريقة تهييج للعامة، وإيغار صدور الرعية على الحكام، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم منكر ومفسدة، وما يترتب على هذا التهييج السياسي من الفوضى، وعدم الاستقرارفـ (( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح )) إن كان في هذا مصلحة .
(2) …هذا هو المنهج السلفي الذي ينبغي للدعاة سلوكه في إنكار مثل هذه الأخطاء؛ بالردود، والمكاتبة، وعدم السكوت على المنكرات، وهذا من الحماية لجانب الشريعة، وهذا واجب . والله أعلم .(41/34)
أما أنك تجمع الجرائد، وتأتي بها للمسجد أو للخطبة، وتقرؤها على المنبر، هذا معناه : تدريس الناس طرق الشر، وإشاعة المنكر، وتشهير بالعصاة.
س 23 : ما صحة ما نُسب إلى الإمام أحمد – رحمه الله – بأنه صَلّى خلف الجهمية ؟ .
جـ / لا أعرف هذا، والإمام أحمد من أشد خصوم الجهمية، ولا أعرف أنه صلى خلفهم (1) .
نعم، الصلاة خلف الأمير إذا كان أميرًا وعنده مخالفة لا تصل إلى حد الكفر؛ يُصَلَّى خلفه، برًا كان أو فاجرًا، ما لم يخرج من الدين بارتكاب الكفر البواح، يُصَلَّى خلف الأمير وإن كان فاسقًا .
فالصحابة صلوا خلف الحجاج، وصلوا خلف غيره من الأمراء، الذين عليهم مؤاخذات، من أجل اجتماع الكلمة، عملاً بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( السمع والطاعة، وعدم نزع اليد من الطاعة )) (2)، وعدم إثارة الفتنة والشرور، وهذا من التأليف وجمع الكلمة .
- - - - -
__________
(1) …وهو كذلك .. فقد جاء عن ابنه عبدالله ما يثبت أنه لا يُجَوِّز الصلاة خلف الجهمية؛ فقد جاء في كتاب " السنة " للإمام عبدالله : ( 1/103 ) أنه قال : (( سألت أبي – رحمه الله – عن الصلاة خلف أهل البدع ؟ قال : لا يُصلى خلفهم، مثل : الجهمية، والمعتزلة )) .
…وسُئل – أيضًا – عن : الصلاة خلف الجهمية ؟، فقال : (( لا يُصلِّ، ولا كرامة )) .
…" مسائل أحمد " لابن هانيء، ( 1/63 )، مسألة : ( 312 ) .
…وقال محمد بن يوسف الطباع : سمعتُ رجلاً سأل أحمد بن حنبل؛ فقال : "يا أبا
……=
=…عبدالله، أصلي خلف من يشرب المسكر ؟، فقال : لا. قال : أصلي خلف من يقول : القرآن مخلوق ؟، فقال : سبحان الله !!، أنهاك عن مسلم، وتسألني عن كافر !!" " الشريعة " : ( 81 ) .
(2) …يشير – حفظه الله – إلى حديث عوف بن مالك الأشجعي عند مسلم (1855) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي من معصية الله؛ فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة )) .(41/35)
س 24 : ما حكم الانتساب إلى بعض الجماعات الواردة إلينا ومناصرتها والدفاع عنها ؟ .
جـ / هذه البلاد – والله الحمد – جماعة واحدة على التوحيد وعلى الإسلام، وتحت راية مسلمة، وفيها أمن واستقرار، وفيها خير كثير .
نحن جماعة واحدة لا نقبل تقسيمًا .
أما الجماعات فهي موجودة في البلاد الأخرى التي ليس فيها أمر مستقيم، ولا أمن مستتب .
أما بلادنا – والحمد لله – فهي تختلف عن البلدان الأخرى بما حباها الله من الخير : من الدعوة إلى التوحيد، وزوال الشرك، ومن قيام حكومة إسلامية تُحَكِّم الشريعة من عهد الإمام المجدد : محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – إلى وقتنا هذا – والحمد لله - .
لا نقول : إنها كاملة من كل وجه، لكن هي – والحمد لله – لا تزال قائمة على الخير، فيها أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وإقامة للحدود، وحكم بما أنزل الله .
المحاكم الشرعية قائمة، والمواريث والفرائض على ما شرع الله، لا يتدخل فيها أحد، بخلاف البلاد الأخرى .
فنحن جماعة واحدة في هذه البلاد، لا نقبل بالجماعات والمذاهب الأخرى المخالفة لمذهب السلف؛ لأنها تفرِّق جمعنا، وتشتِّت شملنا، وتسمِّم أفكار شبابنا، وتحدث العداوة والبغضاء بيننا (1) .
__________
(1) …أما أفكار بعض شبابنا فقد تسمَّمت بأسباب هذه الفِرق البدعية، والمذاهب الهدامة، والحزبية المقيتة؛ فأصبحت العداوة واضحة بين كثير من الشباب، لا يختلف في ذلك اثنان، ولا يتنطح فها عنزان، بل العداوة بين الإخوة الأشقاء في بيت واحد، هذا ينتسب إلى هذه الفرقة ويعادي ويوالي عليها، وذاك ينتمي إلى تلك الفرقة يعادي ويوالي من أجلها، لا .. بل العداوة أصبحت بين الدعاة أنفسهم بسبب الانتماءات الحزبية والأهواء المضلة .
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال :
(( البدعة مقرونة بالفُرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيُقال : أهل السنة والجماعة، كما يقال : أهل البدعة والفُرقة )) " الاستقامة " : ( 1/41 ) .(41/36)
فهذه الجماعات إذا دخلت علينا (1)
__________
(1) …أما الفِِرَق الحزبية المعاصرة من : تبليغ، وإخوان، وإخوان قطبية، وإخوان قطبية سرورية ولا ننسى الحدادية – سيأتي الكلام عنها -؛ فهي فٍرق دخيلة علنيا، ينبغي للدعاة السلفيين الذين ينتمون إلى عقيدة ومنهج السلف، الذين يأخذون بالأثر – بل يجب عليهم – الوقوف في وجه هذه الفِرَق المحدثة المخالفة لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وعدم السماح لهم بالتوسع في بث منهجهم، بل يجب التضييق عليهم وقطع دابرهم، وذلك بنشر العلم الشرعي مقروناً بالأدلة من الكتاب والسنة، على فهم السلف الصالح، وتعليم الناس التوحيد الذي أهملته هذه الفِرَق، واشتغلت وأشغلت معها الناس بالسياسة والتهييج السياسي، وبعضها همّها إنقاذ الناس – كما يزعمون – من المعاصي وإدخالهم المساجد، وتركهم على عقائدهم الشركية من تمسح بالقبور، وطوافٍ حولها، واستغاثةٍ بأهلها، وبعضهم همُّه جمع الشمل – زعمًا منهم-، والتنازل عن الخلافات العقدية لأنها تفرِّق الأمة – في نظرهم -؛ فترى القبور، والخارجي، والمعتزلي، والجهمي، والشيعي في صفوفهم؛ فمنهجهم التجميع، وهمهم كسب عدد كبير من الجماهير، وقاعدتهم : (( ننفذّ معاً ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه )) .
…فعلى أهل السنة، أهل الأثر، السلفيين، أن يبينوا حال هذه الفِرَق المخالفة، وفضح أهلها، وتحذير الأمة منها، وتنفير الناس عنها، ورَدِّ شبههم وتفنيدها بالأدلة الشرعية، والدعوة إلى منهج السلف الصالح – رضوان الله عليهم -، وغرس العقيدة السلفية في قلوب الأجيال القادمة كما غرسها فينا من قبلنا .(41/37)
زالت هذه النعمة التي نحن نعيش فيها، نحن لا نريد هذه الجماعات، ما كان فيها من خير فهو عندنا – والحمد لله – وزيادة، وما كان فيها من شر فنحن نريد البعد عنه، ويجب علينا نحن أن نُصَدِّر الخير للناس (1) .
س 25 : صنف من الناس يتعصب لمذهب من المذاهب، أو عالم من العلماء، وصنف آخر يرمي بذلك عرض الحائط، ويتغافل عن توجيه العلماء والأئمة؛ فما هو توجيهكم في ذلك ؟
جـ / نعم، هذان على طرفي نقيض :
منهم : من يغلو في التقليد حتى يتعصب لآراء الرجال وإن خالفت الدليل .
وهذا مذموم، وقد يؤول للكفر – والعياذ بالله - (2) .
والطرف الثاني : الذي يرفض أقوال العلماء جملة، ولا يستفيد منها، وإن كانت موافقة للكتاب والسنة .
وهذا تفريط .
الأول مُفْرِط وهذا مُفَرِّط .
__________
(1) …وهذا إنما هو من باب التحدث بنعمة الله علينا، ولِمَا حبانا الله به من نعمة التوحيد ( العقيدة الصحيحة )،والعلماء الربانيين بقية السلف، والحكام الذين يحكمون=
=…بشرع الله، وجعلوا مصدرهم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتخذوا القوانين الوضعية مصدراً لهم؛ فالحمد لله على ذلك .
(2) …قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
(( فمن يتعصب لواحد معين غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، كمن يتعصب لمالك، أو الشافعي، أو أحمد، أو أبي حنيفة، ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه، دون قول الإمام الذي يخالفه؛ فمن فعل هذا كان جاهلاً ضالاً، بل قد يكون كافراً؛ فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر فإنه يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل )) . مجموع الفتاوى : ( 22/248-249 ) .(41/38)
فأقوال العلماء فيها خير، لا سيما فقه السلف، فقه الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة، والفقهاء الذين شهدت لهم الأمة بالفقه في الدين؛ يستفاد من أقوالهم وينتفع بها، لكن لا تؤخذ على أنها قضية مُسَلَّمَة، بل إذا عرفنا أن القول مخالف للدليل فإننا مأمورون أن نأخذ الدليل .
أما إذا كان هذا القول لا يخالف الدليل من الكتاب والسنة؛ فلا بأس أن نأخذ به ونقبله، وليس هذا من باب التعصب، وإنما من باب الانتفاع بفقه السلف الصالح، والاستفادة منه والاستضاءة به، فهو السبيل إلى معرفة معاني كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا هو القول الحق الوسط : نأخذ من أقوال العلماء والفقهاء ما وافق الدليل من كتاب وسنة، ونترك ما خالف الدليل، ونعتذر للعلماء في خطئهم ونعرف قدرهم ولا نتنقصّهم، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد )) (1) .
والخطأ مغفور إذا كان ممن تتوفر فيهم شروط الاجتهاد .
أما الجاهل أو المبتدئ في طلب العلم؛ فهذا ليس له اجتهاد، ولا يجوز له أن يجتهد، وهو آثم باجتهاده أخطأ أو أصاب؛ لأنه فعل ما ليس له فعله .
- - - - -
س 26 : كثير ما يعرض لبعض الناس، أو هي شبهة عند البعض من طلبة العلم المبتدئين : أن غشيان حلق العلم يعني زيادة في الحجة على من تلقّى هذا العلم؛ من مسؤولية تبليغه وإصلاح نفسه؛ مما يجعلهم – أو البعض منهم – يحجمون عن طلب العلم الشرعي. فما توجيهكم لهؤلاء ؟ .
جـ/ هذه وسوسة من الشيطان، يقول لك : لا تتعلم لأنك إذا تعلمت صار حجة عليك .
ونقول لهذا : وبقاؤك في الجهل مع وجود العلماء أليس هو حجة عليك ؟ .
__________
(1) …سبق تخريجه رقم : ( 51 ) .(41/39)
كونك تبقى في الجهل والعلم موجود، والعلماء موجودون، والدروس قائمة، هذا أشد خطرًا من كونك تأتي إلى دروس العلم وتتعلم وقد لا تعمل بما علمت؛ لكون الإنسان بطبعه عنده تقصير في الأعمال، وعنده بعض الذنوب؛ فإنه إذا حضر مجالس الذكر، والدروس العلمية عند العلماء في بيوت الله، يُرجى له أن يتنبه ويتوب من أخطائه، ويرجع إلى الصواب .
فهذه الحِلَق حياة القلوب، فلا يصدنك الشيطان عن العلم النافع، وتعلم العلوم الشرعية، بهذه الشبهة، وهذه الوسوسة .
- - - - -
س 27 : نرجو من فضيلتكم أن تبيَّنوا لنا موقفنا من فُرْقَة الشباب وطلبة العلم، حول مواضيع تصدهم عن طلب العلم، وتجعلهم ينالون من بعض العلماء، ويتعصبون لآخرين؛ لأن هذه مسألة هامة، وقد تَفَشَّت وانتشرت بين طلبة العلم؛ فما توجيهكم في ذلك ؟ .
جـ/ يوم أن كان أهل هذه البلاد مرتبطين بعلمائهم؛ شبابًا وشيبًا، كانت الحالة حسنة ومستقيمة، وكانت لا تأتي إليهم أفكار من الخارج، هذا هو السبب في الوحدة والتآلف، وكانوا يثقون بعلمائهم وقادتهم وعقلائهم،
وكانوا جماعة واحدة، وعلى حالة طيبة، حتى جاءت الأفكار من الخارج عن سبيل الأشخاص القادمين (1)، أو عن سبيل بعض الكتب أو بعض المجلات (2)، وتلقاها الشباب وحصلت الفرقة؛ لأن هؤلاء الشباب الذين شذُّوا عن المنهج السلفي في الدعوة، إنما تأثروا بهذه الأفكار الوافدة من الخارج .
__________
(1) …مثل أصحاب فرقة الإخوان المسلمين التي عمت وطمت البلوى بها، من تساهلٍ في العقائد، وانحراف عن منهج السلف الصالح، ومثل: فرقة التبليغ وغيرها، نسأل الله العافية .
(2) …مثل : كتب الإخوان المسلمين – وما أكثرها -، ومثل : المجلة الإخوانية القطبية التي تَسَمَّت بـ " السنة "، وقد " دُسَّ السم في العسل "، وسيأتي قريبًا الكلام عن صاحبها وكشف أوراقه – إن شاء الله تعالى - .(41/40)
أما الدعاة والشباب الذين بقوا على صِلة بعلمائهم، ولم يتأثروا بهذه الأفكار الواردة؛ فهؤلاء – والحمد لله – على استقامة كسلفهم الصالح (1).
فالسبب في هذه الفُرقة يرجع إلى تلقي الأفكار، والمناهج الدعوية من غير علماء هذه البلاد (2)، من أناس مشبوهين، أو أناس مضللين (3)
__________
(1) …المتمسكون بالسنة، أهل الأثر، السلفيون، وقد يرميهم أصحاب المناهج المعادية – لجهلهم بالسنة - : بالمتشددين، وبالعمالة، وبالمداهنة، ولا غرابة؛ فقد رُمِيَ السلف بعبارات أشد من ذلك، مثل : الحشوية، والمجسمة، إلى غير ذلك؛ فهذا حال أهل البدع (( الوقعية في أهل الأثر )) .
(2) …لأننا نعتقد – جزمًا – أن علماء هذه البلاد بقية السلف : عقيدةً ومنهجًا، ولا نزكي على الله أحدًا – حفظهم الله -، كما يوجد بعض العلماء السلفيين المنتشرين في بقية الأمصار، ولكن الكلام عن جملة علماء هذه البلاد بالمقارنة إلى جملة علماء أيِّ مِصر من الأمصار الأخرى .
(3) …أمثال : محمد سرور بن نايف زين العابدين، صاحب كتاب :" منهج الأنبياء .. "، وسوف ننقل لك – أخي القارئ – بعض أفكاره المشبوهة من هذا الكتاب – إن شاء الله - .
ومثل المدعو : محمد المسعري، وسعد الفقيه: الذين كفرا نعمة الله، وخرجا عن جماعة المسلمين، وهربا إلى بلاد الكفر، وصارا يدعوان إلى الضلال، ثم آل بهما الأمر إلى التلاعن، وفضح بعضهما بعضاً في الجرائد على رؤوس الأشهاد . نسأل الله العافية .
وابن لادن الذي كفر النعمة – أيضاً -، فانحرف عن طريق أهل السنة والجماعة إلى مذهب الخوارج، وأخذ ينشر في الأرض الفوضى والفتنة، ويعمل على إشاعة الفساد، ولكن ربك له ولأمثاله بالمرصاد .(41/41)
يريدون زوال هذه النعمة التي نعيشها في هذه البلاد من أمن، واستقرار، وتحكيم للشريعة، وخيرات كثيرة في هذه البلاد لا توجد في البلاد الأخرى، ويريدون أن يفرِّقوا بيننا، وأن ينتزعوا شبابنا، وأن ينزعوا الثقة من علمائنا، وحين إذن يحصل – والعياذ بالله – ما لا تحمد عقباه .
فعلينا – علماء ودعاة وشبابًا وعامة – أن نتنّبه لذلك؛ بأن لا نتقبَّل الأفكار الوافدة، ولا المبادئ المشبوهة، حتى وإن تَلَبَّست بلباس الحق والخير – لباس السنة - .
فنحن لسنا على شك من وضعنا – ولله الحمد - (1) .
نحن على منهج سليم، وعلى عقيدة سليمة، وعندنا كل خير ولله الحمد؛ فلماذا نتلقى الأفكار الواردة من الخارج، ونروجها بيننا وبين شبابنا ؟؟.
فلا حَلَّ لهذه الفُرقة إلا بترك هذه الأفكار الوافدة، والإقبال على تنمية ما عندنا من الخير (2) والعمل به والدعوة إليه .
__________
(1) …جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد إني أريد أن أخاصمك؛ فقال الحسن: (( إليك عني فإني قد عرفتُ ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه )) .
اللالكائي : ( 1/128 ) .
وعن معن بن عيسى قال : (( انصرف مالك بن أنس – رحمه الله – يومًا من
……=
=…المسجد،وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يُقال له : أبو الحورية، كان يُتّهم بالإرجاء، فقال: يا عبدالله، أسمع مني شيئًا، أكلمك به، وأحاجك وأخبرك برأيي . قال : " فإن غلبتني ؟ " ، قال إن غلبتك اتبعتني، قال : " فإن جاء رجل آخر، فكلمنا فغلبنا ؟ "، قال : نتبعه، فقال مالك – رحمه الله تعالى - : " يا عبدالله، بعث الله – عز وجل – محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين " )) " الشريعة " : ( 62 ) .
(2) …من العقيدة الصحيحة، والمنهج السلفي القويم، المستمد من كتاب الله – عز وجل - ومن سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، على فهم سلف الأمة الصالح .(41/42)
نعم، عندنا نقص، وبإمكاننا أن نصلح أخطاءنا، مِن غير أن نستورد الأفكار المخالفة للكتاب والسنة وفهم السلف من الخارج، أو من أناسٍ مشبوهين – وإن كانوا في هذه البلاد -، أو مضللين .
الوقت الآن وقت فتن، فكلما تأخر الزمان تشتد الفتن .
عليكم أن تدركوا هذا، ولا تصغوا للشبهات، ولا لأقوال المشبوهين والمضللين، الذين يريدون سلب هذه النعمة التي نعيشها، وأن نكون مثل البلاد الأخرى: سلب، ونهب، وقتل، وضياع حقوق، وفساد عقائد، وعداوات، وحزبيات .
وأقول: لا يقع في أعراض العلماء المستقيمين على الحق إلا أحد ثلاثة:
إما منافق معلوم النفاق. وإما فاسق يبغض العلماء؛ لأنهم يمنعونه من الفسق. وإما حزبي ضال يبغض العلماء، لأنهم لا يوافقونه على حزبيته وأفكاره المنحرفة .
- - - - -
س 28 : قرأت كتابًا اسمه : " منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله " لمؤلفه: محمد سرور بن نايف زين العابدين، قال فيه :
(( نظرتُ في كتب العقيدة فرأيت أنها كُتبت في غير عصرنا، وكانت حلولاً لقضايا ومشكلات العصر الذي كُتبت فيه، ولعصرنا مشكلاته التي تحتاج إلى حلول جديدة، ومن ثًمَّ فأسلوب كتب العقيدة فيه كثير من الجفاف؛ لأنه نصوص وأحكام، ولهذا أعرض معظم الشباب عنها، وزهدوا بها )) (1)
__________
(1) …كتاب : " منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله " الجزء الأول، الصحيفة : ( 8 )، لمؤلفه: محمد سرور بن نايف زين العابدين .
…وهذا الرجل عُرِف بانحراف الفكر من خلال كتاباته، وعداوته لأهل السنة في هذا البلد – بلاد الحرمين -. وما شهدنا إلا بما كتبت يده وخطه وقلمه .
…وإليك بعض أقواله في ذلك من مراجعها :
…أولاً : بغضه لكتب العقيدة :
…ويتمثل في السؤال أعلاه، وسيأتي الجواب الشافي الكافي عليه .
ثانياً: انتحاله عقيدة الخوارج "التكفير بالمعصية" للحكام الظلمة وكذا الشعوب :
أما الحكام : فكتاباته في مجلته " السنة " مستفيضة في هذا الموضوع وليست بخافية =
=…ما تكفير الشعوب بالمعصية : ففي كتابه : " منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله "، الجزء الأول، الصحيفة ( 158 ) : يرى أن قوم لوط لو آمنوا بنبيهم ولم يتركوا فعلتهم الخبيثة لما نفعهم ذلك الإيمان بالله، ويقول ما نصه: (( فليس من المستغرب أن تكون مشكلة إتيان الذُّكران من العالمين أهم قضية في دعوة لوط عليه السلام؛ لأن قومه لو استجابوا له في دعوته إلى الإيمان بالله وعدم الإشراك به لََمَا كان لاستجابتهم أي معنى، إذا لم يقلعوا عن عاداتهم الوحشية التي اجتمعوا عليها )) ا هـ .
…هكذا يكفِّر بالكبيرة مطلقًا، ولو لم يستحلها الفاعل .
ثالثاً : عداوته لأهل السنة السلفيين :
ففي هذه المقالة التي ستقرأها، يتكلم في علماء الدعوة السلفية: غمزًا ، ولمزًا، وقدحًا، وإسقاطًا لعلماء البلاد السعودية، وبالأخص كبار العلماء؛ فيقول تحت عنوان : " المساعدات الرسمية " :
…(( وصنف آخر يأخذون – يعني : المساعدات الرسمية -، ويربطون مواقفهم بمواقف ساداتهم ... فإذا استعان السادة بالأمريكان انبرى العبيد إلى حشد الأدلة التي تجيز هذا العمل، ويقيمون النكير على كل من يخالفهم، وإذا اختلف السادة مع إيران الرافضة تَذَكر العبيد خبث الرافضة .. وإذا انتهى الخلاف سكت العبيد وتوقفوا عن توزيع الكتب التي أُعطيت لهم .
هذا الصنف من الناس : يكذبون .. يتجسسون ... يكتبون التقارير ... ويفعلون كل شيء يطلبه السادة منهم ... وهؤلاء قِلَّة – والحمد الله -، ودخلاء على الدعوة والعمل الإسلامي، وأوراقهم مكشوفة، وإن أطالوا لحاهم، وقصروا ثيابهم•، وزعموا بأنهم حماة السنة، ولا يضير الدعوة الإسلامية وجود هذا الصنف من الناس، فالنفاق قديم ...
........................................
•…هكذا يسخر من السّنة فيما يسميه مجلة السّنة . [ الفوزان ] .
=…إخواننا : لا تغرنكم هذه المظاهر؛ فهذه المشيخة صنعها الظالمون، ومهمة فضيلة الشيخ لا تختلف عن مهمة كبار رجال الأمن ... )) ا هـ .
مجلة " السنة "، العدد : الثالث والعشرون، ذوالحجة 1412هـ صحيفة : ( 29-30 ) .
أخي القارئ : لا يخفي عليك أن المقصود – بكلامه السابق – بـ (الصنف الآخر ) هم علماء البلاد السعودية، و بـ ( السادة ) هم حكام البلاد السعودية، والشاهد على ذلك قوله :
…(( فإذا استعان السادة بالأمريكان انبرى العبيد ... )) .
وهو يتكلم عن قضية الاستعانة في حرب الخليج .
…و ( العبيد ) هنا يعني بهم علماءنا – عليه من الله ما يستحق - .
ويرميهم – أيضاً – بالنفاق . فهل من غيرة على علمائنا ؟ .
وفي مجلته "السنة"، العدد السادس والعشرين، جمادي الأولى 1413هـ، الصحيفة: ( 2-3 )، افتتاحية العدد تحت عنوان : " المستبدون والعبيد " :
(( وللعبودية طبقات هَرَمية اليوم :
الطبقة الأولى : يتربع على عرشها رئيس الولايات المتحدة " جورج بوش "، وقد يكون غدًا " كلنتون " .
والطبقة الثانية : هي طبقة الحكام في البلدان العربية، وهؤلاء يعتقدون : أن نفعهم وضررهم بيد " بوش " )) .
قلت : كيف جزم بأن هذه عقيدتهم ؟ .
هل شق عن قلوبهم، أو هل أخبروه بذلك ؟، { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } .
ويستمر المقال، فيقول :
(( ولهذا فهم يحجون إليه، ويقدمون إليه النذور والقرابين )) .
وهذا دليلٌ على تكفير كاتبه للحكام، الذي أشرنا إليه قبل قليل .
ويستمر المقال فيقول :
والطبقة الثالثة : حاشية الحكام العرب من الوزراء، ووكلاء الوزراء، وقادة الجيوش،
……=
=…المستشارين، فهؤلاء ينافقون لأسيادهم، ويزينون لهم كل باطل دون حياء ولا خجل، ولا مروءة .
والطبقة الرابعة والخامسة والسادسة : كبار الموظفين عند الوزراء .
لقد كان الرِّق في القديم بسيطًا؛ لأن للرقيق سيدًا مباشرًا، أما اليوم فالرق معقد، ولا ينقضي عجبي من الذين يتحدثون عن التوحيد وهم : عبيد عبيد عبيد عبيد العبيد، وسيدهم الأخير نصراني )) ا هـ .
…فبالله عليك – أخي القارئ – أجب عن هذا السؤال بكل نزاهة وتقوى :
…من هم الذين يتحدثون عن التوحيد في جملة العلماء ؟ . أليسوا هم علماء البلاد السعودية، أمثال : الشيخ ابن باز، وابن عثيمين، وصالح اللحيدان، والفوزان، وأمثالهم من إخوانهم كبار العلماء ؟ .
فيأتي اليوم من يصفهم بأنهم عبيد للحكام، ومن ثَمَّ عبيد لـ ( بوش ) .
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : (( إذا لم تستحي فاصنع ما شئت )) .
أخرجه البخاري : ( 3296 ) من حديث أبي مسعود البدري - - رضي الله عنه - - .
ثم هو متناقض في نفسه؛ فهو يحرم الاستعانة بالكفار عند الضرورة وهو يلجأ إليهم ويسكن في ديارهم وتحت حمايتهم، وما الفرق بين كفار أمريكا وكفار لندن الذين يعيش هو في ظلهم وتحت حكمهم – من غير ضرورة - ؟ .
{ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ } ؟ .
ألا يستحي هذا الرجل من عمله هذا ؟ أم أنه انطبق عليه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا لم تسحي فاصنع ما شئت )) ومن كان بيته من زجاج لا يرمِ الناس بالحجارة .(41/43)
.
فما هو تعليق فضيلتكم على هذا الكلام ؟ .
جـ/ هناك أناس يُزّهِدون في تدريس العقيدة ويُزّهِدون في كتب السلف، ويُزّهِدون في مؤلفات أئمة الإسلام، ويريدون أن يصرفوا الناس إلى مؤلفاتهم هم وأمثالهم من الجهال، ومن دعاة الضلال .
هذا القائل من دعاة الضلال؛ نسأل الله العافية فيجب أن نَحْذَر من كتابه هذا، وأن نُحذِّر منه .
وأذكر لكم أن الشيخ محمد أمان الجامي – وفقه الله – قد أملى شريطًا كاملاً على هذه الكلمة ( أن كتب العقيدة نصوص وأحكام ... ) رد عليه ردًا بليغًا فعليكم أن تبحثوا عن الشريط وأن تنشروه بين المسلمين، حتى يحذروا من هذا الخبث، ومن هذا الشر الوافد إلى بلاد المسلمين .
نعم؛ هذا شريط قيم جدًا، جزا الله خيرًا شيخنا الشيخ محمد أمان الجامي، ونصر به الإسلام والمسلمين (1)
__________
(1) …عنوان الشريط : " ليس من النصيحة في شيء " .
…جاء فيه من كلام الشيخ محمد أمان الجامي – رحمه الله – قال :
…الجملة الأخيرة : "إن معظم الشباب أعرضوا عن كتب العقيدة الموجودة في أيدينا"
يهتشبه فرية ابن بطوطة، التي أرسلها على الإمام ابن تيمية وهو لم يره . زعم ابن بطوطة أنه دخل بغداد فرأى ابن تيمية يخطب خطبة الجمعة فينزل درج المنبر فيقول : (( ينزل ربنا كنزولي هذا )) .
…وقيض الله في علماء المسلمين من يُكذّب هذه الفرية تكذيبًا تاريخيًا .
…فقد كتب بهجة البيطار في كتابه سماه " حياة شيخ الإسلام " فأثبت فيه أن ابن تيمية وابن بطوطة لم يجتمعا قط، و أن ابن بطوطة لم ير ابن تيمية قط، يوم دخول ابن بطوطة بغداد كان ابن تيمية في السجن، فمات في السجن . تلك الفرية تناقلها الكُتَّاب .
…وفرية اليوم تحتاج إلى تفنيدها وردها، دفاعًا عن العقيدة .
…فأقول : محمد سرور ليس مؤهلاً بأن يُقيّم شباب المسلمين وإقبالهم على العقيدة أو إعراضهم؛ ليس بمؤهل، ليس بعالم، ليس بدارس للعقيدة، ليس مدرس للعقيدة.
……=
=…كيف يُقيّم ؟ من أين هذا التقييم ؟ إنما هي فرية .
…وهل محمد سرور – هذا الغيور – سمعتم له شريطًا ينكر على جيرانه حزب التحرير. فإذا كانت كتبنا ما راقت له ولا صلحت، هل أصدر كتابًا في التوحيد بأسلوبه الجذاب الجديد ليُقبل عليه شباب المسلمين ؟ هل حصل شيء من هذا ؟ إذًا لو كان طالب علم ومصلحًا لفعل ذلك .
…ولكن الرجل والله أعلم على ما يبدُ إنه يعادي العقيدة السلفية وحملة العقيدة السلفية.
…يا محمد سرور إلى أي شيء تدعو أنت؟، الأنبياء أوذوا لأنهم يدعون إلى العقيدة إلى الإسلام . وأنت إلى أي شيء دعوت ؟ أين العقيدة التي تدعو إليها ؟ إنما أنت منافس، تريد أن تنافس الحكام على الكراسي، ولما لم تجد سبيلاً للمنافسة، اكتفيت بالسب واللعن والتكفير. هل هذه هي الدعوة ؟ [ هل ] هذا هو الإسلام ؟ وتسمي نفسك وأمثالك دعاةً إلى الله، الدعوة إلى الله : الدعوة إلى دينه، إلى العقيدة، إلى الأحكام . وهل حصل شيء من ذلك ؟؛ لا .(41/44)
.
لماذا نستورد أفكارنا من الخارج ؟ .
لماذا نستورد من محمد سرور زين العابدين في لندن – أو غيره – هذه الأفكار ؟ .
لماذا لا نرجع إلى الكتب التي بين أيدينا، من كتب السلف الصالح، وكتب علماء التوحيد، التي صدرت عن علماء، ولم تصدر عن كاتب أو مثقف لا يُدرى عن مقاصده ؟، ولا يُدرى – أيضاً – عن مقدار علمه ؟ .
الرجل – محمد سرور – بكلامه هذا يضلِّل الشباب، ويصرفهم عن كتب العقيدة الصحيحة، وكتب السلف، ويوجههم إلى الأفكار الجديدة، والكتب الجديدة، التي تحمل افكارًا مشبوهة .
كتب العقيدة آفتها عند محمد سرور أنها نصوص وأحكام، فيها قال الله، وقال رسوله، وهو يريد أفكار فلان وفلان، لا يريد نصوصًا وأحكامًا .
فعليكم أن تحذروا من هذه الدسائس الباطلة، التي يُراد بها صرف شبابنا عن كتب سلفنا الصالح .
الحمد لله نحن أغنياء بما خلَّفه لنا سلفنا الصالح من كتب العقائد، وكتب الدعوة، وليست بأسلوب جاف – كما زعم هذا الكاتب -، بل بأسلوب علمي من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أمثال : صحيح البخاري، ومسلم، وبقية كتب الحديث، ومن كتاب الله – تعالى -، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم كتب السنة، مثل : كتاب " السنة " لابن أبي عاصم، و " الشريعة " للآجري، و " السنة " لعبدالله بن الإمام أحمد، وكتب شيخ الإسلام ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيم، وكتب شيخ الإسلام المجدد: محمد بن عبدالوهاب. فعليكم بهذه الكتب والأخذ منها .
فإذا كان القرآن جافًا، والسنة جافة ، وكلام أهل العلم المعتبرين فيه جفاف؛ فهذا من عمى البصيرة، وكما قال الشاعر :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم
والعقيدة لا تؤخذ إلا من نصوص الكتاب والسنة، لا من فِكر فلان وعلاّن .
- - - - -(41/45)
س 29 : يقول محمد سرور زين العابدين في كتابه : " منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله " (1) :"لو أن قوم لوط قالوا (( لا إله إلا الله )) لا تنفعهم ما داموا مصرين على معصيتهم".
ما رد فضيلتكم في هذا الكلام ؟ .
جـ/ قوله أن قوم لوط لو وحدوا الله لم تنفعهم ما داموا على اللواط ... (2)
هذا كلام باطل، لأن اللواط لا شك أنه جريمة، وأنه كبيرة من كبائر
الذنوب، ولكن لا يصل إلى حد الكفر فمن تاب إلى الله عز وجل من الشرك، ولم يقع منه شرك، ولكن وقع منه جريمة اللواط هذا يعتبر قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، لكنه لا يكفر .
فلو أن قوم لوط وحدوا الله عز وجل، وعبدو الله وحده لا شريك له،
__________
(1) …الصحيفة رقم ( 170 ) .
(2) …" لعل كثيراً من الشباب لا يفهم معنى هذا الكلام .
…معناه : أن الإنسان الذي مقيم وملازم لكبيرته فلم يتب، لا ينفعه الإيمان لو آمن، لو كان كافرًا ومرتكبًا لكبيرةِ، كفاحشة الزنا واللواط، ومع ذلك استجاب للداعية فآمن، ما نفعه إيمانه هذا طالما هو مرتكب لتلك الكبيرة، أي : إن الكبيرة تتنافى والإيمان . أي : أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن .
…هذه عقيدة من ؟
عقيدة الخوارج .
وهذا الداعية الذي في لندن، يقول إنه داعية هو وأصحابه، إلى أي شيء يدعون؟ إلى عقيدة الخوارج، بعني : يريدون أن يقيموا دولة على عقيدة الخوارج .
والاعتقاد بأن صاحب الكبيرة لو مات على كبيرته قبل أن يتوب هو كافر، لا ينفعه إيمانه: عقيدة الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب وكفّروه، كفّروا علي بن أبي طالب ". ا هـ .
من شريط في الرد على محمد سرور زين العابدين للشيخ محمد أمان الجامي – رحمه الله - .(41/46)
ولكن بقوا على جريمة اللواط؛ لكانوا فسقة مرتكبين كبيرة من كبائر الذنوب، يعاقبهم الله عليها إما في الدنيا وإما في الآخرة، أو يعفو عنهم سبحانه وتعالى، لكن لا يكفرون، الله تعالى يقول : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1) . وفي الحديث الصحيح : إن الله سبحانه وتعالى يأمر يوم القيامة أن يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان (2) .
ويراد بهم أهل التوحيد، الذين عندهم معاصي ودخلوا بها النار، يعذبون ثم يُخرَجون من النار بتوحيدهم وعقيدتهم فالموحد وإن دخل النار لا يُخَلَّد فيها، وقد يعفو الله عنه ولا يدخل النار أصلاً { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } .
فهذه الكلمة؛ كلمة جاهل، وهي أحسن ما نحمله عليها، أحسن ما
نحمله عليه الجهل .
والجهل داء وبيل والعياذ بالله، وهذه آفة كثيرا من الدعاة اليوم، الذين يدعون إلى الله على جهل؛ يقعون في هذا، ويكفرون الناس بدون سبب،
ويتساهلون في أمور التوحيد (3)
__________
(1) …النساء: 48، 116 .
(2) …أخرج البخاري وغيره من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى : (( أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان )) ، فيُخرجون قد إسودّوا، فيُلقون في نهر الحيا أو الحياة – شك مالك – فينبُتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم ترى أنها تخرج صفراء ملتوية ) . رقم ( 22 ) .
(3) …قال أحدهم، وهو يهون من أمر تعلم التوحيد، الذي دعت إليه الأنبياء والرسل عقودًا من الزمن في أقوامهم .
يقول في كتابه : " هكذا علم الأنبياء " : ( 43-44 ) : (( إن قضية التوحيد وإفراد الله – تعالى – بالعبادة هي القضية الكبرى والأساس، والتي دعا إليها جميع الأنبياء .. وهي قضية سهلة واضحة بعيدة عن التعقيد والإشكال، يفهمها كل واحد، .. فجزء من اليسر اليسرُ في العقيدة، بحيث تستطيع أن تشرح لأي إنسان عقيدة التوحيد في عشر دقائق أو نحوها، فينطلق وقد فهمها ووعاها بكل سهولة )) .
أقول إذا كان الأمر كذلك فلماذا – سيد قطب، وحسن البنا وأشياعهم ممن زل في العقائد – لم يفهموا عقيدة التوحيد في عشر سنوات ولا نقول عشر دقائق ؟ لماذا يستغيث أحدكم في بداية محاضرته؛ بدمه وقلبه؟ ويطلب الإسعاف والوقوف والإنقاذ منها .
إذا كان الأمر كذلك : فلماذا أرسل الله الرُسل، الرسول تلو الرسول؟ لماذا مكث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ؟ يدعوهم إلى التوحيد { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] .
لماذا مكث محمد - صلى الله عليه وسلم - في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى التوحيد ؟ لماذا كان - صلى الله عليه وسلم - يكرر في كل خطبة جمعة وعلى الملأ : ( شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) مسلم : ( 867 ) .
لماذا قال - صلى الله عليه وسلم -، وهو في مرض موته : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) البخاري : ( 1265، 1324 ) .
……=
=…ومع هذا كل نجد بعض القوم وهم في طريقهم إلى غزوة حنين، يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - : (( اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط )) ابن حبان : ( 6702 ) .
فلماذا لم يكف هؤلاء العرب – الذين يفهمون العربية ويجيدونها في ذلك الوقت أكثر من غيرهم – العشر الدقائق بل العشرة أيام أو العشرين يوماً التي قضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم في مكة بعد الفتح وقبل حنين ؟ .
…فلينتبه الدعاة وغيرهم إلى أن أمر تعلم التوحيد عظيم ومهم، وتكراره أهم، والواقع والتاريخ يشهد لذلك. بل وقول الذي لا ينطق عن الهوى يشهد لأهمية تعلم التوحيد وتكرار تعليم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد حيث يقول - صلى الله عليه وسلم - : ( يبعث الله على رأس كل سنة من يجدد لهذه الأمة دينها ) أبو داود: ( 4291 ) وانظر الفتح : ( 13/295 ) .
فلو كان الأمر بهذه السهولة في تعليم الناس التوحيد لما بعث الله من يجدد ما اندرس من الدين، وأكثر ما يندرس عند الناس التوحيد .(41/47)
.
انظروا إلى هذا الجاهل، هذا الجاهل يتساهل في أمر العقدية ويعظم أمر اللواط . أيهما أشد ؟
هل الشرك أشد أم اللواط أشد ؟ نسأل الله العافية .
- - - - -
س 30 : ما هو الموقف من هذا الكتاب – منهج الأنبياء – السابق الذكر ؟ .
جـ/ تُشخَّص الأمراض التي في الكتاب، ويُطلب سحبه من المكتبات، ومنعه من الدخول إلى المملكة (1)
__________
(1) …سئل سماحة الشيخ : عبدالعزيز بن باز في محاضرة بعنوان " آفات اللسان "
……=
=…بتاريخ :29/12/1413هـ في مدينة الطائف، عن كلام محمد سرور زين العابدين، وموقفه من كتب العقيدة في السؤال السابق فأجاب سماحته – رحمه الله - : (( هذا غلط عظيم ... كتب العقيدة : الصحيح أنها ليست جفاءً، قال الله، قال الرسول . فإذا كان يصف القرآن والسنة بأنها جفاء؛ فهذا رِدَّة عن الإسلام، هذه عبارة سقيمة خبيثة )) .
…وسئل عن حكم بيع الكتاب فقال : (( إن كان فيه هذا القول فلا يجوز بيعه، ويجب تمزيقه )) ا هـ النقل من الشريط المذكور .
…ومثل كلام " محمد سرور " يقول " حسن الترابي ": (( ينبغي لفقه العقيدة اليوم أن يستغني عن علم الكلام القديم، ويتوجه إلى علم جديد غير معهود للسلف )) .
…ويقول – أيضاً - : (( وعلينا أن ننظر في أصول الفقه الإسلامي، وفي رأيي أن النظرة السليمة لأصول الفقه الإسلامي تبدأ بالقرآن، الذي يبدو أننا محتاجون فيه إلى تفسير جديد ( !! )، إذا قرأتم التفاسير المتداولة بيننا تجدونها مرتبطة بالواقع الذي صِيغت فيه، كل تفسير يعبِّر عن عقلية عصره ...، إلا هذا الزمان؛ لا نكاد نجد فيه تفسيرًا عصريًا شافيًا )) .
انظر كتاب : " تجديد الفِكر الإسلامي " للترابي ، ( ص 42، 25 )، ط الدار السعودية، الطبعة الثانية 1407هـ .
قلت : وهو بهذا الكلام يريد أن يفسِّر القرآن بحسب أهواء الناس في مختلف العصور، ولا يدري أن التفسير متوقف ومقصور على مصادر محددة، هي : تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بأقوال الصحابة، وتفسير القرآن بمقتضى اللغة التي نزل بها. وهي على الترتيب بين هذه الأربعة المصادر، ولا يختلف هذا باختلاف الأزمان، وأحوال الناس ولا بتغير النظريات العلمية .(41/48)
.
س 31 : هل يجوز إطلاق لفظ الجاهلية على المجتمعات الإسلامية المعاصرة ؟ .
جـ / الجاهلية العامة قد زالت ببعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ فلا يجوز إطلاقها
على المجتمعات الإسلامية بصفة العموم (1)
__________
(1) …هذا الإطلاق بتكفير المجتمعات الإسلامية هو ما يردِّده (( سيد قطب )) في كتبه، وعلى سبيل المثال – لا الحصر – أعرض بعض مقالاته حتى لا يُقال : إننا نتقوَّل عليه :
…يقول (( سيد قطب )) في كتابه " معالم في الطريق " ( ص 101 ) :
(( يدخل في إطار المجتمع الجاهلي : تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة؛ وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدّم الشعائر التعبديّة لغير الله – أيضًا -؛ ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها؛ فهي وإن لم تعتقد بألوهيّة أحد إلا الله تُعطى أخص خصائص الألوهية لغير الله؛ فتدين بحاكمية غير الله ...
وإذا تعيّن هذا فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدّد في عبارة واحدة : إنه يرفض الاعتراف بهذه، بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره )) .
ويقول في كتابه " العدالة الاجتماعية " ( ص 250 ) :
(( وحين نستعرض وجه الأرض كله اليوم – على ضوء هذا التقرير الإلهي لمفهوم الدين والإسلام – لا نرى لهذا الدين وجودًا ..؛ إن هذا الوجود قد توقف منذ أن تخلّت آخر مجموعة من المسلمين عن إفراد الله – سبحانه – بالحاكمية في حياة البشر ...؛ ويجب أن نقرِّر هذه الحقيقة الأليمة، وأن نجهر بها، وألاّ نخشى خيبة الأمل التي تُحدثها في قلوب الكثيرين الذين يحبون أن يكونوا مسلمين ...؛ فهؤلاء في حقهم أن يستيقنوا كيف يكونون مسلمين )) .
ويقول سيد قطب في كتابه " في ظلال القرآن " ( 2/1057 ) :
(( لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية، وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه تنَزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..؛ لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلاّ الله؛ فقد ارتدّت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلاّ الله، وإن ظل فرق
……=
=…منها يردِّد على المآذن: لا إله إلاّ الله، دون أن يدرك مدلولها..؛البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يردِّدون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات لا إله إلا الله، بلا مدلول ولا واقع ..وهؤلاء أثقل إثمًا وأشد عذابًا يوم القيامة؛ لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد من بعد ما تبيّن لهم الهدى، ومن بعد أن كانوا في دين الله )) .
وقد أخذ محمد سرور من هذا الكلام وأمثاله الجرأة بالطعن في العلماء، واتهامهم بأنهم عبيد عبيد عبيد العبيد .
ويشهد علي (( سيد قطب )) بتكفيره المجتمعات الإسلامية أيضاً: يوسف القرضاوي، في كتابه " أولويات الحركة الإسلامية " ( ص 110 ) وشهد شاهد من أهله فيقول: (( في هذه المرحلة ظهرت كتب سيد قطب التي تمثّل المرحلة الأخيرة من تفكيره، والتي تنضح بتكفير المجتمع، وتأجيل الدعوة إلى النظام الإسلامي ... وإعلان الجهاد الهجومي على الناس كافة ...
ويتجلى ذلك أوضح ما يكون في تفسير الشهيد " في ظلال القرآن " وفي " معالم في الطريق " وفي " الإسلام ومشكلات الحضارة " وغيرها ... )) . ا هـ .
كما يشهد فريد عبدالخالق، أحد قادة الإخوان المسلمين؛ فيقول في كتابه : " الإخوان المسلمون في ميزان الحق " ( ص 115 ) : (( أن نشأة فكر التكفير بدأت بين شباب بعض الإخوان في سجن القناطر، في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، وأنهم تأثروا بفكر سيد قطب وكتاباته، وأخذوا منها : أن المجتمع في جاهلية، وأنه قد كفّر حكامه الذين تنكّروا لحاكمية الله بعدم الحكم بما أنزل الله، ومحكوميه إذ رضوا بذلك )) .(41/49)
.
وأما إطلاق شيء من أمورها على بعض الأفراد، أو بعض الفِرق، أو بعض المجتمعات؛ فهذا ممكن وجائز، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه : (( إنك امرؤٌ فيك جاهلية )) (1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة )) (2) .
- - - - -
س 32: ما تقولون فيمن يطلق على الأمّة الإسلامية المعاصرة بأنها (( غائبة )) ؟ .
جـ/ القول بأن الأمة الإسلامية غائبة (3)؛ يلزم منه تكفير الدول الإسلامية كلها، لأن معناه : ليس هناك دولة إسلامية. وهذا مخالف لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله – تبارك وتعالى – وهم على ذلك )) (4) .
فمهما كثر الضلال والاختلاف والكفر؛ فلا بدّ من بقاء هذه الطائفة المسلمة .
فليس هناك غياب للأمة الإسلامية – والحمد لله -، و لا يشترط في المجتمع الإسلامي – أو في هذه الطائفة المنصورة- خلوّها من المعاصي؛ لأن المعاصي وُجدت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد خلفائه، لكنها كانت تُقاوم وتُنكر.
__________
(1) …هذا الحديث سببه فيما رواه البخاري وغيره : فعن واصل بن الأحدب، عن
……=
=…المعروف، قال : لقيت أبا ذر بالرَّبَّذَة وعليه حُلَّة، وعلى غلامه حُلّة، فسألته عن ذلك، فقال : إني ساببت رجلاً فعيّرته بأمه، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( يا أبا ذر أعيّرته بأمه ؟، إنك امرؤ فيك جاهلية؛ إخوانكم خَوَلُكم ... )) . " البخاري " : ( 30 ) .
(2) …صحيح، أخرجه مسلم وغيره، واللفظ لأحمد : ( 5/344 ) .
(3) …وللأسف الشديد فإن بعض المنتسبين للدعوة، ممن يزعمون أنهم قادة الصحوة – المزعومة -؛ ألقى منذ فترة محاضرة في مدينة الطائف بعنوان : " الأمة الغائبة " !! .
(4) …سيأتي برقم : ( 141 ) .(41/50)
- - - - -
س 33 : ما رأيكم في كتاب " القطبية "، وهل تنصح بقراءته، وهل كتب الردود من منهج السلف رحمهم الله ؟ .
جـ/ الرد على المخالف؛ سنة السلف؛ فالسلف يردون على المخالفين وهذه كتبهم موجودة. رد الإمام أحمد على الزنادقة والمبتدعة، ورد شيخ الإسلام ابن تيمية على الفلاسفة وعلى علماء الكلام، وعلى الصوفية وعلى القبوريين، ورد الإمام ابن القيم وكثير من الأئمة ردوا على المخالفين من أجل بيان الحق وإظهار الحق للناس حتى لا تضل الأمة وتتبع المخطئين والمخالفين، وهذا من النصيحة للأمة أما كتاب " القطبية " وغيره من الكتب؛ فما كان فيه من صواب وصدق فلا بد من الأخذ به. فإذا كانوا الذين يردون على المخالفين ينقلون كلام الشخص المخالف من كتابه أو من شريطه ويعينون الكتب أو الأشرطة بالصفحة والجزء، والكلام الذي نقلوه؛ خطأ بين. فما المانع من الرد عليه ؟، من أجل نصيحة الناس ليس القصد تنقص الأشخاص إنما القصد النصيحة للناس والبيان للناس. فما دام كتاب القطبية أو غيره لم يذكر كذبًا على أحد، وإنما تنقل من كلام المخالفين بنصه، ولم ينقله بمعناه أو باختصار مخل، وإنما نقله بنصه وعين الجزء الذي قيل فيه والصفحة التي قيل فيها؛ بل والسطر الذي قيل فيه، فماذا عليه ؟ .
أما كوننا نتكتم على الناس، ونغرر بالناس ونقول اتركوا هذه الكتب بأيدي الشباب وبأيدي الناس وفيها السموم وفيها الأخطاء فهذا من الغش للأمة؛ ولا يجوز هذا . لابد من البيان لابد من النصيحة، لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . هذه كتب الردود موجودة من قديم الزمان وما عابها أحد ولا انتقدها أحد الحمد لله، لابد من البيان .
- - - - -
س 34 : يلاحظ على بعض الشباب في هذه الآونة الأخيرة إهمالهم وزهدهم في تعلم العقيدة ومدارستها والاهتمام بها، وإنشغالهم بأمور أخرى، فما هو توجيهكم لمثل هؤلاء الشباب ؟ .(41/51)
جـ/ بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد .
فإنني أنصح للشباب وغيرهم من المسلمين أن يهتموا بالعقيدة أولاً وقبل كل شيء (1)، لأن العقيدة هي الأصل التي تُبنى عليه جميع الأعمال قبولاً ورداً، فإذا كانت العقيدة صحيحة موافقة لما جاء به الرسل عليهم الصلاة والسلام خصوصاً خاتم النبيين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن سائر الأعمال تقبل إذا كانت هذه الأعمال خالصة لوجه الله تعالى، وموافقة لما شرع الله ورسوله،
__________
(1) …وقد استقى شيخنا هذا المنهج من قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث تميم الداري: (الدين النصيحة) قلنا لمن قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) " مسلم " : (55) . وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن ( أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله ) " البخاري " : (6937) .(41/52)
وإذا كانت العقيدة فاسدة، أو كانت ضالة مبنية على العوائد وتقليد الأباء والأجداد، أو كانت عقيدة شركية، فإن الأعمال مردودة لا يقبل منها شيء ولو كان صاحبها مخلصًا وقاصدًا بها وجه الله، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كانت أعمالاً خالصة لوجهه الكريم، وصوابًا على سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فمن كان يريد النجاة لنفسه ويريد قبول أعماله ويريد أن يكون مسلمًا حقًا، فعليه أن يعتني بالعقيدة، بأن يعرف العقيدة الصحيحة وما يضادها وما يناقضها، حتى يبني أعماله عليها، وذلك لا يكون إلا بتعلمها من أهل العلم وأهل البصيرة الذين تلقوها عن سلف هذه الأمة (1)، قال سبحانه وتعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (2)، وقد ترجم الإمام البخاري -رحمه الله- ترجمة قال فيها : (( باب العلم قبل القول والعمل )) (3) وساق هذه الآية الكريمة : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } .
وقال تعالى : { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } (4) .
فرتب السلامة من الخسارة على مسائل أربع :
المسألة الأولى : الإيمان : ويعني الاعتقاد الصحيح .
المسألة الثانية : العمل الصالح والأقوال الصالحة، وعطف الأقوال الصالحة، والأعمال الصالحة على الإيمان مع أنها جزء منه من باب عطف الخاص على العام، لأن الأعمال داخلة في الإيمان، وإنما عطفها عليه اهتمامًا بها.
__________
(1) …وأن يكونوا ممن شهد لهم أهل العلم - المشهود لهم بالنصح – بالاستقامة وصدق الإخلاص والرزانة، وأن لا يكونوا من أهل الأهواء والأحزاب والفرق الضالة .
(2) …محمد : 19 .
(3) …صحيح البخاري : ( 1/37 ) .
(4) …سورة العصر .(41/53)
والمسألة الثالثة : تواصوا بالحق يعني دعوا إلى الله، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولمّا اعتنوا بأنفسهم أولاً وعرفوا الطريق، دعوا غيرهم إلى ذلك، لأن المسلم مكلف بدعوة الناس إلى الله سبحانه وتعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وتواصوا بالصبر، هذه هي المسألة الرابعة: وهي الصبر على ما يلاقونه في سبيل ذلك من التعب والمشقة .
فلا سعادة لمسلم إلا إذا حقق هذه المسائل الأربع، أما الاهتمام بالثقافات العامة، والأمور الصحفية وأقوال الناس، وما يدور في العالم، فهذه إنما يطّلع الإنسان عليها بعدما يحقق التوحيد، ويحقق العقيدة ويطّلع على هذه الأمور من أجل أن يعرف الخير من الشر، ومن أجل أن يحذر من ما يدور في الساحة من شرور ودعايات مضللة، لكن هذا بعدما يتسلح بالعلم، ويتسلح بالإيمان بالله ورسوله؛ أما أن يدخل في مجالات الثقافة والأمور الصحفية وأمور السياسة وهو على غير علم بعقيدته، وعلى غير علم بأمور دينه، فإن هذا لا ينفعه شيئًا، بل هذا يشتغل بما لا فائدة له منه، ولا يستطيع أن يميز الحق من الباطل، فكثير ممن جهلوا العقيدة واعتنوا بمثل هذه الأمور ضلوا وأضلوا، ولبّسوا على الناس بسبب أنهم ليس عندهم بصيرة(1)، وليس عندهم علم يميزون به بين الضار والنافع، وما يؤخذ وما يترك، وكيف تعالج الأمور، فبذلك حصل الخلل وحصل اللبس. عند كثير منهم، لأنهم دخلوا في مجالات الثقافة، ومجالات السياسة من غير أن يكون عندهم علم بعقيدتهم، وبصيرة من دينهم، فحسبوا الحق باطلاً والباطل حقًا .
- - - - -
__________
(1) …وهذا دأب الحركيين السياسيين الحزبيين، الذين اشغلوا المجتمعات المسلمة هنا وهناك بالتهييج السياسي، في محاضراتهم، وخطبهم، ومقالاتهم، ومؤلفاتهم، فنسأل الله لنا ولهم الهداية والاستقامة على الدين القويم .(41/54)
س 35 : لقد أعرض أولئك الشباب عن قراءة كتب السلف الصالح التي تصحح العقيدة ككتاب السنة لابن أبي عاصم، وغيرها التي توضح منهج أهل السنة والجماعة وموقفهم من السنة وأهلها، والبدع وأهلا وانشغلوا بالقراءة لمن يسمون بالمفكرين، والدعاة الذين يوجد في كلامهم ما يناقض كتب السلف ويقرر خلافها، فبماذا توجهون هؤلاء الشباب، وما هي الكتب السلفية التي تنصحونهم بقراءتها وبناء العقيدة وتصحيحها عليها ؟
جـ/ لما عرفنا أنه يجب العناية بالعقيدة وتعلمها وتعلم ما يجب على الإنسان نحوها فإنه يأتي السؤال: ما هي المصادر التي تؤخذ منها العقيدة ومن هم الذين نتلقى عنهم هذه العقيدة ؟
المصادر التي تؤخذ عقيدة التوحيد وعقيدة الإيمان منها هي : الكتاب والسنة، ومنهج السلف، فإن القرآن قد بين العقيدة بيانًا شافيًا، وبين ما يخالفها وما يضادها وما يخل بها، وشخّص كل الأمراض التي تخل بها (1)، وكذلك سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيرته ودعوته وأحاديثه (2)
__________
(1) …قال تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [ مريم : 64 ] .
وقال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } [ المائدة : 3 ] .
(2) …قال - صلى الله عليه وسلم - : (( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعد إلاّ هالك ))
مستدرك الحاكم : 1/95.
…وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي )
المستدرك : 1/93 .(41/55)
، وكذلك السلف الصالح : الصحابة (1) والتابعون وأتباع التابعين من القرون المفضلة، قد اعتنوا بتفسير القرآن، شرح السنة، وبيان العقيدة الصحيحة وتبيينها للناس، فيرجع بعد كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى كلام السلف الصالح، وهو مدون ومحفوظ في كتب التفسير وشروح الحديث، ومدون أيضًا بشكل خاص في كتب العقائد، وأما من يُتلقى عنهم العقيدة، فهم أهل التوحيد، وعلماء التوحيد الذين درسوا هذه العقدية دراسة وافية، وتفقهوا فيها، وهم متوفرون ولله الحمد خصوصًا في هذه البلاد بلاد التوحيد (2)، فإن علماء هذه البلاد على
__________
(1) …قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم .السنة لابن نصر : (28) و سنن الدارمي : ( 1/80 ) .
(2) …المقصود هنا (( المملكة العربية السعودية )) بلاد الحرمين .(41/56)
وجه الخصوص وعلماء المسلمين المستقيمين على وجه العموم، لهم عناية بعقيدة التوحيد، يدرسونها ويفهمونها، ويوضحونها للناس ويدعون إليها، فالرجوع إلى أهل التوحيد وإلى علماء التوحيد الذين سلمت عقيدتهم وصفت، هم الذين تؤخذ عنهم عقيدة التوحيد ، أما الانصراف عن العقيدة إلى كتب الثقافات العامة، والأفكار المستوردة من هنا وهناك، فهذه لا تغني شيئًا، وهي كما يقول القائل : "لحم جمل غث، فوق جبل وعر لا سمين فينتقى. ولا سهل فيرتقى" ، وهذه كتب لا يضر الجهل بها، ولا ينفع العلم بها(1)، ولكن من تضلع بعلوم التوحيد وعلوم العقيدة والعلوم الشرعية وأراد أن يطلع عليها من باب معرفة نعمة الله سبحانه وتعالى عليه، بأن هداه للعقيدة الصحيحة ، وحرم هؤلاء الذين انشغلوا بالقيل والقال وملئوا الكتب والصحف بالكلام الذي لا طائل تحته، وشره أكثر من خيره، فهذا لا بأس به على أن لا ينشغل عن قراءة ما يفيد، فلا يجوز لطالب العلم - والمبتدئ بالخصوص - أن يشتغل بهذه الكتب، لأنها لا تسمن ولا تغني من جوع، وإنما تأخذ الوقت وتشتت الفكر، وتضيع الزمان على الإنسان.
فالواجب على الإنسان أن يختار الكتب النافعة، والكتب المفيدة، والكتب التي تعتني بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتشرح فهم السلف الصالح لها، فالعلم ما قاله الله وما قاله رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله - :
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين النصوص وبين رأي فلان(2)
- - - - -
__________
(1) …اللهم زدنا بها جهلاً، وزدنا بالتوحيد علماً .
(2) …من قصيدة الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية – المعروفة – بـ " القصيدة النونية ".(41/57)
س 36 : من الشباب من زهدوا في متابعة الدروس العلمية المسجلة ولزوم دوروس أهل العلم الموثوقين، واعتبروها غير هامة أو قليلة النفع، واتجهوا إلى المحاضرات العصرية التي تتحدث عن السياسة وأوضاع العالم، لاعتقادهم أنها أهم، لأنها تعتني (( بالواقع )) فما نصيحتكم لمثل هؤلاء الشباب ؟
جـ/ هذا كما سبق؛ الاشتغال بالمحاضرات العامة والصحافة وبما يدور بالعالم، دون علم بالعقيدة ودون علم بأمور الشرع تضليل وضياع، ويصبح صاحبها مشوش الفكر، لأنه استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، والله سبحانه وتعالى أمرنا بتعلم العلم النافع أولاً، قال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } (1).
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ } (2).
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (3) .
{ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } (4). إلى غير ذلك من الآيات التي تحث على طلب العلم المنْزَل في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لأن هذا هو العلم النافع المفيد في الدنيا والآخرة، وهذا هو النور الذي يبصر الإنسان به الطريق إلى الجنة وإلى السعادة، والطريق إلى العيشة الطيبة النزيهة في الدنيا والسعادة في الآخرة، قال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً } (5).
__________
(1) …محمد : 19 .
(2) …الزمر : 9 .
(3) …فاطر : 28 .
(4) …طه : 114 .
(5) …النساء : 174-175 .(41/58)
ونحن نقرأ سورة الفاتحة في كل ركعة من صلاتنا وفيها الدعاء العظيم { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } (1).
والذين أنعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح { مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } (2).و { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وهم الذين أخذوا العلم وتركوا العمل { ولا الضالين } وهم الذين أخذوا العمل وتركوا العلم.
فالصنف الأول : مغضوب عليه لأنه عصى الله على بصيرة.
والصنف الثاني : ضال لأنه عمل بدون علم. ولا ينجو إلا الذين أنعم الله عليهم، وهم أهل العلم النافع والعمل الصالح، فيجب أن يكون هذا لنا على بال، وأما الاشتغال بواقع العصر كما يقولون أو ( فقه الواقع )، فهذا إنما يكون بعد الفقه الشرعي، إذ الإنسان بالفقه الشرعي ينظر إلى واقع العصر وما يدور في العالم وما يأتي من أفكار ومن آراء ، ويعرضها على العلم الشرعي الصحيح ليميز خيرها من شرها، وبدون العلم الشرعي فإنه لا يميز بين الحق والباطل ، والهدى والضلال (3)، فالذي يشتغل بادئ ذي بدء بالأمور الثقافية، والأمور الصحافية، والأمور السياسية، وليس عنده بصيرة من دينه، فإنه يضل بهذه الأمور، لأن أكثر ما يدور فيها ضلال ودعاية للباطل، وزخرف من القول وغرور، نسأل الله العافية والسلامة .
- - - - -
س 37 : ما حكم التمثيل المسمى ( الديني )، والأناشيد المسماة بـ ( الإسلامية )، التي يقوم بها بعض الشباب في المراكز الصيفية ؟ .
__________
(1) …الفاتحة : 6 – 7 .
(2) …النساء : 69 .
(3) …أصحاب " فقه الواقع " قد بان عيبهم واتضح تقصيرهم وافتضح أمرهم في " حرب الخليج " عندما خالفوا فتوى " هيئة كبار العلماء " وظنوا أن تخرصاتِهم ستجدي وأن علمهم السياسي والفكري سيعلو؛ كلا وألف لا .(41/59)
جـ/ التمثيل (1)
__________
(1) …قال الشيخ بكر أبو زيد في كتاب " التمثيل " : (( وعن حدوثه في التعبد لدى غير
……=
=…المسلمين : فقد رجَّح بعض الباحثين أن نواة التمثيل من شعائر العبادات الوثنية لدى اليونان )) ا هـ ( ص : 18 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: " اقتضاء الصراط المستقيم .." ( 191، ط . دار الحديث ) عن ما يفعله النصارى في عيدهم المسمى " عيد الشعانين " قال : (( يخرجون فيه بورق الزيتون ونحوه، ويزعمون أن ذلك مشابهة لما جرى للمسيح - عليه السلام -)) ا هـ .
وقد نقله الشيخ بكر أبو زيد – أيضًا – في " التمثيل " .
وقال الشيخ بكر أبو زيد في الكتاب المشار إليه (ص : 27-28) :
…(( إذا علمت أن التمثيل منقطع الصلة بتاريخ المسلمين في خير القرون، وأن وفادته كانت طارئة في فترات، وأنه في القرن الرابع عشر الهجري استقبلته دور اللهو وردهات المسارح، ثم تسلل من معابد النصارى إلى فريق " التمثيل الديني " في المدارس وبعض الجماعات الإسلامية [ قلت : مثل فِرقة الإخوان المسلمين ]، إذا علمتَ ذلك فاعلم أن قواعد الشريعة وأصولها، وترقيها بأهلها إلى مدارج الشرف والكمال تقضي برفضه ..
ومعلوم أن الأعمال إما عبادات وإما عادات؛ فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات لا يحظر منها إلا ما حظره الله …
وعليه : فلا يجوز أن يكون على سبيل التعبد " التمثيل الديني "، أو من باب الاعتياد على سبيل اللهو والترفيه. والتمثيل الديني لا عهد للشريعة به؛ فهو سبيل محدث، ومن مجامع ملة الإسلام قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ )) .
ولهذا فما تراه في بعض المدارس والجامعات من فِرَق للتمثيل الديني، فإن حقيقته "التمثيل البدعي "، لِِمَا علمت من أصله، وحدوثه لدى المسلمين خارجًا عن دائرة المنصوص عليه بدليل شرعي، وأنه من سبيل التعبد لدى أهل الأوثان من اليونان ومبتدعة النصارى؛ فلا أصل له في الإسلام بإطلاق، فهو إذًا محدث، وكل أمرٍ
……=
=…محدثٍ في الدين فهو بدعة تضاهي الشريعة؛ فصدق عليه – حسب أصول الشرع المطهر – اسم " التمثيل البدعي " .
وأما إن كان التمثيل في العادات : فهذا تَشَبُّه بأعداء الله الكافرين، وقد نُهينا عن التشبه بهم، إذ لم يُعرف إلا عن طريقهم )) ا هـ .
قلت : إن " التمثيل الديني " – في مسمّاهم – في المراكز الصيفية والمدارس يعتبر أسلوبًا من أساليب الدعوة، وطريقة للتأثير في الشباب عندهم، هذا رأيهم، وهو مردود عليهم شرعًا، إذ أن أساليب الدعوة إلى الله وطرقها توقيفية، فليس لأحد أن يُحدِث من عنده شيئاً .
…وحتى لا أطيل – فضلاً – راجع الفقرة [ 34 ]؛ تجد ردًا لشيخ الإسلام ابن تيمية على سؤال فيمن أحدث طريقة لتتويب الناس من المعاصي .
وإنْ قال قائل : إن الأساليب في الدعوة من المصالح المرسلة .
فنقول : هل الشريعة تهمل مصلحةً ما للعباد ؟ .
الجواب يأتي من شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فيقول :
(( والقول الجامع : أن الشريعة لا تُهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيع عنها بعده إلا هالك )). ا هـ نقلاً من كتاب " الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية " للشيخ : عبدالسلام بن برجس ص : ( 40 ) .
قلت : وإذا كان قد تاب من الكفر، والفسوق، والعصيان، عدد كبير بالطرق الشرعية- وهو كذلك -؛ فلِمَ يلجأ الداعية إلى وسائل لم ترد في الشرع؟، مع أن ما ورد في الشرع كافٍ لتحصيل الغاية من الدعوة إلى الله – تعالى -، وهي : تتويب العصاة وهداية الضُّلال؛ فليسع الدعاة إلى الله ما وسع محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ؛ فإنهم – رضي الله عنهم – عن علم يردون ويصدرون .
يقول ابن مسعود - رضي الله عنه - : (( أيها الناس : إنكم ستحدثون ويحدث لكم؛ فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول )).
……=
=… وقال : (( إياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وإياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق )) طبقات الحنابلة : 1/69، 71 .
قال الشيخ عبدالسلام : (( إن تحديد المصلحة في أمر ما صعب جدًا؛ فقد يظن الناظر أن هذا مصلحة، وليس الأمر كذلك، ولذا فإن الذي يتولى تقدير المصلحة أهل الاجتهاد الذين تتوفر فيهم العدالة، والبصيرة النافذة بأحكام الشريعة، ومصالح الدنيا، إذ الاستصلاح يحتاج إلى مزيد الاحتياط في توخِّي المصلحة، وشدة الحذر من غلبة الأهواء، لأن الأهواء كثيرًا ما تزين المفسدة فتُرى مصلحة، وكثيرًا ما يُغتر بما ضرره أكبر من نفعه، وأنَّى للمقلد أن يدَّعي غلبة الظن أن في هذه مصلحة، وهل هذا إلا اجتراء على الدين، وإقدام على حكم شرعي بغير يقين ؟! )) .
ونقل – أيضًا – عن الشيخ السلفي : حمود بن عبدالله التويجري – رحمه الله – قوله : (( إن إدخال التمثيل في الدعوة إلى الله – تعالى – ليس من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وإنما هو من المحدثات في زماننا، وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من المحدثات وأمر بردها وأخبر أنها شر وضلال )) الحجج القوية ( ص 45، 55 ) .(41/60)
لا أراه جائزًا؛ لأنه :
أولاً : فيه إلهاء للحاضرين (1)؛ لأنهم ينظرون إلى حركات الممثل ويضحكون (2)
__________
(1) …وفيه إضاعة للوقت، والمسلم مسؤول عن وقته، ومطالب بحفظه، والاستفادة منه فيما يرضي الله – عز وجل -، ويعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة؛ ففي حديث أبي برزة الأسلمي، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن : عمره فيمَ أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه )) الترمذي : ( 2417 ) وصححه .
(2) …الغالب على التمثيل – أيضًا – الكذب، بل كله كذب، إما للتأثير في الحاضرين والمشاهدين، وجذب اهتمامهم، وإما ليضحكهم، وهو من القصص الخيالية، وقد جاء الوعيد الشديد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن يكذب ليضحك الناس؛ فعن معاوية بن
……=
=…حيدة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له )) .حديث حسن، أخرجه أحمد : (5/ 3-5 )، الترمذي : ( 2315 )، الحاكم : ( 1/46 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عقب هذا الحديث : (( وقد قال ابن مسعود : " إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل " .
…وأما إن كان في ذلك ما فيه عدوان على المسلمين وضرر في الدين فهو أشد تحريمًا من ذلك، وعلى كل حال؛ ففاعل ذلك – مضحك القوم بالكذب – مستحق للعقوبة الشرعية التي تردعه عن ذلك )) ا هـ . مجموع الفتاوى : ( 32/256 ) .
وأما القصص : (( فقد كره السلف القصص ومجالس القصص؛ فحذروا منها أيما تحذير، وحاربوا أصحابها بشتى الوسائل )) من كتاب : " المذكر والتذكير والذكر" لابن أبي عاصم تحقيق : خالد الردادي، ص : ( 26 ) .
وروى ابن أبي عاصم بإسناده الصحيح : (( أن عليًا - رضي الله عنه - رأى رجلاً يقص؛ فقال : علمت الناسخ والمنسوخ؟ فقال : لا، قال : هلكت وأهلكت )) من كتاب : " المذكر والتذكير .. " ص : ( 82 ) .
وقال مالك : (( وإني لأكره القصص في المسجد )).
قال – أيضًا - : (( ولا أرى أن يُجلس إليهم، وإن القصص لبدعة )).
وقال سالم : (( وكان ابن عمر خارجًا من المسجد، فيقول : ما أخرجني إلا صوت قاصِّكم هذا )).
قال الإمام أحمد : (( أكذب الناس القُصَّاص والسؤَّال ..، قيل له : أكنت تحضر مجالسهم ؟، قال : لا )). انتهى نقلاً من كتاب : " البدع والحوادث " للطرطوشي ، ص : ( 109-122 ) .
وسيأتي – إن شاء الله – في جواب سؤال ( 102 ) وحاشيته .(41/61)
.
فالغالب من التمثيل مقصود به التسلية فقط وإلهاء الحاضرين . هذا من ناحية .
والناحية الثانية : أن الأشخاص الذين يُمَثَّلون قد يكونون من عظماء الإسلام، وقد يكونون من الصحابة، وهذا يُعتبر من التَّنَقُّص لهم (1)، شعرت أو لم تشعر؛ فمثلاً : طفل، أو صبي، أو إنسان على غير المظهر اللائق، يمثل عالمًا من علماء المسلمين أو صحابيًا .. هذا لا يجوز؛ لما فيه من تَنَقُّص الشخصية الإسلامية بمظهر الممثل الفاسق، أو المستهجن .
فلو جاء أحد يُمَثُّلك بأن يمشي مشيك أو يتكلم مقلدًا لك، هل ترضى بهذا ؟ أو تعد هذا من التنقص لك؟، وإن كان الممثِّل يقصد – بزعمه – الخير، لكن الأشخاص لا يرضون أن أحدًا يتنقصهم .
ثالثًا – وهو أخطر - : أن بعضهم يتقمّص شخصية كافرة، كأبي جهل، وفرعون – وغيرهم -، ويتكلم بكلام الكفر، بزعمه أنه يريد الرَّد عليه، أو يريد بيان كيف كانت الجاهلية؛ فهذا تشبُّه بهم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التشبُّه بالمشركين والكفار (2)، تشبُّه في تقَمُّص الشخصية، وتشبُّه بكلامهم .
وأيضًا من المحاذير: أن هذه الطريقة في الدعوة ليست من هدي
__________
(1) …من أسماء التمثيل : ( المحاكاة ) وهي : أن يقلد شخصًا في حركاته، وقد جاء الحديث الصحيح بذم المحاكاة والنهي عنها؛ فعن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ما أحب أني حكيت إنسانًا، وأن لي كذا وكذا )) .
…صحيح، أخرجه أحمد : ( 6/136-206 )، والترمذي : ( 2503 ) .
(2) …الأحاديث في النهي عن مشابهة المشركين والكفار مستفيضة، منها :
…قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( خالفوا اليهود والنصارى ... )) ابن حبان : ( 2186 ) .
…وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( خالفوا المشركين ... )) مسلم ( 259 ) .
…وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( خالفوا المجوس ... )) مسلم ( 260 ) .(41/62)
الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا هو هدي سلفنا الصالح، ولا من هدي المسلمين .
هذه التمثيليات ما عُرفت إلا من الخارج – من الكفار-، وتَسَرَّبَت إلينا باسم الدعوة إلى الإسلام، واعتبارها من وسائل الدعوة، غير صحيح وسائل الدعوة – ولله الحمد – توقيفيةُ، غنيةٌ عن هذه الطريقة (1) .
وكانت الدعوة ناجحة في مختلف العصور بدون هذه التمثيليات، ولما جاءت هذه الطريقة ما زادت الناس شيئًا ولا أَثَّرت شيئًا؛ مما يدل على أنها سلبية، وأن ليس فيها فائدة، , وإنما فيها مضرّة .
وإن قال قائل : إن الملائكة تتمثّل بصور الآدميين .
نقول : إن الملك يأتي في صورة آدمي لأن الإنسان لا يطيق النظر إلى الملك بصورته، وهذا من مصلحة البشر لأن الملائكة لو جاءوا بصورتهم الحقيقية ما استطاع البشر أن يخاطبوهم ولا أن يكلموهم ولا أن ينظروا إليهم (2) .
والملائكة حينما تتمثل بصورة شخص لا تقصد التمثيل الذي يعنيه هؤلاء .
الملائكة تتمثل بالبشر من أجل المصلحة؛ لأن الملائكة لهم صور غير
صور البشر .
أما عند البشر فكيف تغير الصورة من إنسان إلى إنسان ؟ .
ما هو الداعي إلى هذا ؟!! .
- - - - -
س 38 : ما رأي فضيلتكم في بعض الشباب الذين يتكلمون في مجالسهم عن ولاة الأمور في هذه البلاد بالسب والطعن فيهم ؟ .
جـ/ هذا كلام معروف أنه باطل، وهؤلاء إما أنهم يقصدون الشر وإما أنهم تأثروا بغيرهم من أصحاب الدعوات المضللة الذين يريدون سلب هذه النعمة التي نعيشها .
__________
(1) …صدر كتاب بعنوان : " الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية " للشيخ : عبدالسلام بن برجس آل عبدالكريم. وهو كتاب جيد في موضوعه، ننصح بقراءته .
(2) …ثم إن الملائكة لا تحكي قول الشخص الذي تتمثل بصورته، ولا تمشي مشيته، أو غير ذلك مما يفعله الممثلون الآن .
…أنظر كتاب : " إيقاف النبيل على حكم التمثيل "، للشيخ : عبدالسلام بن برجس – وفقه الله - .(41/63)
نحن – ولله الحمد – على ثقة من ولاة أمرنا، وعلى ثقة من المنهج الذي نسير عليه، وليس معنى هذا أننا قد كَمُلنا، وأن ليس عندنا نقص ولا تقصير، بل عندنا نقص؛ ولكن نحن في سبيل إصلاحه وعلاجه – إن شاء الله – بالطرق الشرعية .
وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وُجِد من يسرق، ووُجِد من يزني، ووُجِد من يشرب الخمر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقيم عليهم الحدود .
نحن - ولله الحمد – تُقام عندنا الحدود على من تَبَيَّن وثبت عليه ما يوجب الحد، ونقيم القصاص في القتلى، هذا – ولله الحمد – خير (1) ولو
كان هناك نقص، النقص لا بد منه لأنه من طبيعة البشر .
ونرجو الله – تعالى – أن يصلح أحوالنا، ويعيننا على أنفسنا، وأن يسدد خطانا، وأن يكمل نقصنا بعفوه .
أما أننا نتخذ من العثرات والزلات سبيلاً لتنقُّص ولاة الأمور، أو الكلام فيهم، أو تبغيضهم إلى الرعية؛ فهذه ليست طريقة السلف أهل السنة والجماعة (2)
__________
(1) …وهذا ملموس في بلادنا، متمثلاً في محاكمنا، ولا ينكره إلا من أعمى الله بصيرته، أو رجل في قلبه مرض وهوى، نسأل الله العافية .
(2) …سئل سماحة العلامة : عبدالعزيز بن باز، في محاضرة ألقاها في مدينة الطائف بعنوان : " آفات اللسان " في 29/2/1413هـ ، وقد طُبع هذا الكلام في آخر كتاب صغير اسمه : " حقوق الراعي والرعية "، والذي يتضمن بعض الخطب لفضيلة الشيخ : محمد العثيمين – رحمه الله -، وقد أفرد كلام سماحة الشيخ – عبدالعزيز – رحمه الله – في كتاب، وسمه جامعه بـ"المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم" .
…قال السائل : هل من منهج السلف نقد الولاة من فوق المنابر؟، وما منهج السلف في نصح الولاة ؟ .
…فأجاب : (( ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذِكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الخوض في الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، والاتصال بالعلماء الذين
…يتصلون به، حتى يوجَّه إلى الخير )) انظر (ص : 27 ) من كتاب حقوق الراعي والرعية، المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم : ( 22 ) .
وقال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في الكتاب نفسه المشار إليه، صفحة (11): (( ومن حقوق الرعاة على رعيتهم : أن يناصحوهم ويرشدوهم، وأن لا يجعلوا من خطئهم إذا أخطأوا سُلَّمًا للقدح فيهم، ونشر عيوبهم بين الناس؛ فإن ذلك يوجب التنفير عنهم، وكراهتهم، وكراهة ما يقومون به من أعمال وإن كانت حقًا، ويوجب عدم السمع والطاعة لهم .…=
=…وإن من الواجب على كل ناصح – وخصوصاً من ينصح ولاة الأمر – أن يستعمل الحكمة في نصيحته، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة )) ا هـ .
وهؤلاء العلماء الأجلاء يستمدون كلامهم من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلى فهم السلف الصالح، ومن ذلك ما جاء في الأحاديث الصحيحة :
فقد أخرج أحمد في المسند : ( 3/404 )، وابن أبي عاصم في السنة : ( 1096 )، والحاكم في المستدرك : ( 3/290 ) وأورده الهيثمي في " المجمع " : ( 5/229-230 ) بلفظ : (( من أراد أن ينصح ... )) ، من حديث عياض بن غنم - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علانية، وليأخذ بيده وليخل به؛ فإن قبلها قبلها، وإلا كان قد أدى الذي عليه والذي له )) . والسياق للحاكم، وهو حديث حسن .
وروى البخاري في " صحيحه " من حديث أبي وائل شقيق رقم ( 3094، 6675)، ومسلم رقم ( 2989 : (( قيل لأسامة : لو أتيت فلانًا - وفي رواية لمسلم : ألا تدخل على عثمان فتكلّمه؟ -، قال : إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم !، إني أكلمه في السّر. - وفي رواية مسلم : والله لقد كلمته فيما بيني وبينه - دون أن أفتح بابًا لا أكون أوّل من فتحه )) .
…قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : ( قال المهلّب : أرادوا من أسامة أن يكلم عثمان، وكان من خاصته، وممن يختلف عليه في شأن الوليد بن عقبة، لأنه كان ظهر عليه ريح نبيذ، وشهر أمره، وكان أخا عثمان لأمه، وكان يستعمله، فقال أسامة : (( قد كلمته سراً دون أن أفتح بابًا )) أي : باب الإنكار على الأئمة علانية، خشية أن تفترق الكلمة .
وقال عياض : مراد أسامة : أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام؛ لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطّف به، وينصحه سرًا، فذلك أجدر بالقبول ) .
" الفتح " : ( 13/52 ) .
أقول : وهذا إمام أهل السنة " الإمام : أحمد بن حنبل – رحمه الله – " يُضرب
……=
=…بالسياط،ويُسحب، ويُسجن على مسألة خلق القرآن، ومع هذا لم نجد له ولا حتى أثر ضعيف يحث فيه على الخروج على الحاكم الفاسق الظالم؛ بل الآثار عنه بالأمر بالصبر ولزوم الطاعة والجماعة مستفيضة وكثيرة جداً وكان يقول : (( يا أمير المؤمنين )) هل كان يقول ذلك تزلفاً أو جُبناً ؟!! .
أليس لنا في سلفنا الصالح أسوة ؟ . أم نحن أعلم منهم وأشجع ؟ !! .
قال الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه : " جامع العلوم والحكم " :(( والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء له بالتوفيق، وحث الأغيار على ذلك )) ا هـ ص : ( 113 ) .
وقال الإمام الشوكاني في كتابه : " رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين " ما نصه : (( وقد ثبت في الكتاب العزيز الأمر بطاعة ولي الأمر، وجعل الله أولي الأمر وطاعتهم بعد طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتواتر في السنة المطهرة – في الأمهات وغيرها – أنها تجب الطاعة لهم والصبر على جورهم، وفي بعض الأحاديث المشتملة على الأمر بالطاعة لهم، أنه قال - صلى الله عليه وسلم - : ((وإن ضر ظهرك، وأخذ مالك )) .
وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( أعطوهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم )) .انتهى كلام الشوكاني ص : ( 81-82 ) .(41/64)
.
أهل السنة والجماعة يحرصون على طاعة ولاة أمور المسلمين، وعلى تحبيبهم للناس، وعلى جمع الكلمة، هذا هو المطلوب .
والكلام في ولاة الأمور من الغيبة والنميمة، وهما من أشد المحرمات بعد الشرك، لا سيما إذا كانت الغيبة للعلماء ولولاة الأمور فهي أشد، لما يترتب عليها من المفاسد، من : تفريق الكلمة، وسوء الظن بولاة الأمور، وبعث اليأس في نفوس الناس، والقنوط (1) .
س 39 : يقول محمد قطب في كتابه : ( حول تطبيق الشريعة ) في معنى لا إله إلا الله، أي : " لا معبود إلا الله، ولا حاكم إلا الله "؛ فهل هذا التفسير صحيح (2) ؟ .
جـ/ معنى ( لا إله إلا الله ) بَيَّنَه الله - سبحانه وتعالى - في كتابه، وبَيَّنَه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } (3).
__________
(1) …وقد حصل التشكيك في علمائنا وولاة أمورنا من بعض المنتسبين للعلم، والذين
……=
=…نصبوا أنفسهم دعاة إلى الله؛ فانحرف بعض السذج من الشباب المغرر بهم عن جادة الطريق، وزهدوا في العلماء الربانيين كأمثال كبار العلماء في بلادنا؛ فأصبح إذا قلت: الشيخ فلان قال كذا، وأفتى بكذا، رَدَّ عليك بقوله : ذاك من علماء السلطة ومداهن !!، أو قال لك : ذاك عليه ضغوط من الدولة !! .
…فحسبنا الله ونعم الوكيل، آخر الزمان يتكلم الرويبضة في أمور الأمة .
(2) …في موضعين من الكتاب المذكور، وأكثر انظر : (ص : 20 – 21) .
…ويقرر هذا المعنى – أيضاً – في كتابه : " واقعنا المعاصر " (ص :29)؛ فيقول :
…(( ولكن لأنهم – أي : جاهلية هذا العصر كما يعبر عنها – في هذه المرة يرفضون المقتضى الرئيسي لـ"لا إله إلا الله"، وهو: تحكيم شريعة الله، والامتثال لمنهج الله )).
…راجع ( ص / 56 ) من كتابنا هذا تجد النص بأكمله .
(3) …النساء : 36 .(41/65)
وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (1).
وقال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (2).
وقول الله تعالى عن خليله إبراهيم - عليه السلام - : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } (3) .
هذا هو معنى ( لا إله إلا الله )، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } (4) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله )) وفي رواية : (( إلى أن يوحدوا الله )) (5) .
فبَيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن معنى لا إله إلا الله هو : إفراد الله تعالى بالعبادة كلها، لا بالحاكمية فقط .
فمعنى ( لا إله إلا الله ) أي : لا معبود بحق إلا الله، وهو إخلاص العبادة لله وحده، ويدخل فيها تحكيم الشريعة، ومعنى ( لا إله إلا الله ) أَعَمُّ من ذلك وأكثر، وأَهَمُّ من تحكيم الكتاب في أمور المنازعات؛ أَهَمُّ من ذلك هو : إزالة الشرك من الأرض، وإخلاص العبادة لله – سبحانه -؛ فهذا هو التفسير الصحيح .
أما تفسيرها بالحاكمية، فتفسير قاصر، لا يعطي معنى (لا إله إلا الله).
وأما تفسيرها بأن ( لا خالق إلا الله ) هذا تفسير باطل ليس قاصرًا فقط؛ لأن ( لا إله إلا الله ) لم تأتِ لتقرير أنه ( لا خالق إلا الله )؛ لأن هذا يقر به المشركون؛ فلو كان معناها ( لا خالق إلا الله ) لصار المشركون موحدين، قال الله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } (6)، معنى هذا : أن أبا جهل مُوَحِّد وأبا لهب .
__________
(1) …النحل : 36 .
(2) …البينة : 5 .
(3) …الزخرف : 26-27 .
(4) …الذاريات : 56 .
(5) …البخاري : ( 1335 – 2786 )، الترمذي : ( 2606 ) .
(6) …الزخرف : 78 .(41/66)
وتفسيرها بأن ( لا معبود إلا الله ) تفسير باطل – أيضًا -؛ لأنه يلزم عليه وِحْدة الوجود؛ فهناك معبودات كثيرة من الأصنام والقبور؛ فهل عبادتُها عبادة لله ؟!! .
والواجب أن يقال : ( لا معبود بحق إلا الله ) كما قال الله -تعالى-: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ } (1) .
- - - - -
س 40 : هل دعوة الشيخ : محمد بن عبدالوهاب، دعوة إسلامية حزبية؛ كجماعة الإخوان المسلمين، والتبليغ؟، وما نصيحتكم لمن يقول هذا الكلام، وينشره في الكتب ؟ .
جـ/ أنا أقول : إن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – على منهج السلف الصالح في الأصول والفروع (2)، ليس القصد منها التحيّز
لجماعة غير ما كان عليه أهل السنة والجماعة سلفًا وخلفًا .
أما جماعة " الإخوان المسلمين " والتبليغ، وجماعة كذا وكذا (3)
__________
(1) …لقمان : 30 .
(2) …هذه مؤلفاته – رحمه الله – موجودة، وهي تزخر ببيان العقيدة الصحيحة و بيان التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، وبيان ما يُضاده، وسيرته العطرة في دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، ونبذ ما سواه، وهذه دعوة الرسل جميعاً – صلوات الله وسلامه عليهم - .
…فنقول : هذه دعوة الإمام المجدد، الذي أحيا الله به العباد والبلاد، وما زلنا – ولله الحمد – نعيش في ظل دعوته المباركة .
(3) …أما دعوة " الإخوان المسلمون " فنسأل : هل ألَّف مؤسسها كتابًا واحدًا في التوحيد في بيان العقيدة الصحيحة، أو أتباعه إلى يومنا هذا؟، وهل دعا حسن البنا إلى إخلاص العبادة لله – تعالى -، ونبذ الشرك بجميع أنواعه؟، وهل أزال القباب؟، وهل سوّى الأضرحة، ومنع التوسل بقبور الصالحين والأولياء – كما يزعمون -؟ وهل أقام السنة ؟ .
…كل هذه الأسئلة ليس لها أجوبة بنعم، بل الجواب لدى من عرف العقيدة السلفية
…وقارنها بدعوة الإخوان المسلمين، المتمثلة في مؤسسها حسن البنا، وقرأ كتبه؛ يجد أنه لم تكن له دعوة صريحة وجادة في محاربة الشرك والبدع بل بالعكس .
…يقول حسن البنا : (( وصحبتُ الإخوان الحصافية بدمنهور، وواظبت على الحضرة في مسجد التوبة في كل ليلة )) ." مذكرات الدعوة والداعية" له، ط. دار التوزيع . (ص : 24) هل هذه دعوة لتصفية العقيدة ؟ .
وقال في الكتاب نفسه : (( وحضر السيد عبدالوهاب – المجيز في الطريقة الحصافية – وتلقيتُ الحصافية الشاذلية عنه، وآذنني بأدوارها ووظائفها )) (ص : 24) .
وقال : (( كانت أيام دمنهور ... أيام استغراق في عاطفة التصوف ..؛ فكانت فترة استغراق في التعبد والتصوف )) (ص : 28 ) نسأل الله العافية .
وقال فيه – أيضًا - : (( كنا في كثير من أيام الجمع التي يتصادف أن نقضيها في دمنهور؛ نقترح رحلة لزيارة أحد الأولياء الأقربين من دمنهور، فكنا – أحيانًا – نزور دسوقي، فنمشي على الأقدام بعد صلاة الصبح مباشرة، حيث نصل حوالي الساعة الثامنة صباحًا، فنقطع المسافة في ثلاث ساعات، وهي نحو عشرين كيلوا متراً، ونزور، ونصلي الجمعة، ونستريح، ... ونعود أدراجنا إلى دمنهور ... )) ص : ( 30 ) ألم يسمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تشهد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد .. ) . البخاري : ( 1132 )، مسلم : ( 1397 ) .
……=
=…وقال حسن البنا : (( وكنا – أحيانا – نزور عزبة النوام، حيث دُفن في مقبرتها الشيخ : سيد سنجر، من خواص رجال الطريقة الحصافية، والمعروفين بصلاحهم وتقواهم، ونقضي هناك يومًا كاملاً، ثم نعود )) مذكرات دعوته. (ص : 30 ) .
وقال : (( وأذكر أنه كان من عاداتنا أن نخرج في ذكرى مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالموكب بعد الحضرة كل ليلة، من أول ربيع الأول إلى الثاني عشر منه، ونحن بالموكب، ونحن ننشد القصائد المعتادة في سرور كامل وفرح تام )) !!(ص : 52).
ومن القصائد :
… هذا الحبيب مع الأحباب قد حضر وسامح الكل فيما قد مضى وجرى
…وفي كتاب : " مجموع رسائل حسن البنا " رسالة : التعاليم، تحت عنوان : " الأصول العشرون "، يقول في الأصل الخامس عشر : (( والدعاء إذا قُرِن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلافٌ فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة )) (ص : 392 ).
قلت : هذا لا يحتاج إلى إسهاب في التعليق؛ فالرجل : صوفي، حصافي، قبوري، وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - صفة الخالق في المغفرة، ولم يبق لله من ذلك شيء، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
وفي " رسائل العقائد " من الكتاب نفسه يقول : (( البحث في مثل هذا الشأن – يعني: في الأسماء والصفات – مهما طال فيه القول لا يؤدي في النهاية إلاّ إلى نتيجة واحدة هي : التفويض لله – تبارك وتعالى - )) !! انتهى، تحت عنوان : " مذهب السلف والخلف في الأسماء والصفات " (ص : 452 ) .
أقول : وجدتُ كلامًا سلفيًا نفيسًا لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، يبين حال المفوضة الذين يفوضون علم المعني إلى الله – تبارك وتعالى -، وأنهم من شر أهل البدع؛ ففي كتاب " درء تعارض العقل والنقل " الجزء الأول، الوجه السادس عشر ( ص 201-205 )، يقول :
(( وأما التفويض : فإن من المعلوم أن الله – تعالى – أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه؛ فكيف يجوز مع ذلك أن يُراد منا الإعراض عن فهمه، ومعرفته،
……=
=…وعقله )) إلى أن قال – رحمه الله – في ذم المفوضة : (( فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد )) ا هـ .
…وبعد هذا، هل يقول من لديه أدنى ذرّة من علم، وعقل : أنه ثَمَّ مقارنة، أو أدنى مقارنة بين دعوة الإمام المجدد : محمد بن عبدالوهاب، وبين مجددهم للبدع ؟ . شتان بين الثرى والثريا .
…سئل الإمام الشيخ: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله تعالى – عن (( الإخوان المسلمون )) في " مجلة المجلة " العدد ( 806 ) تاريخ 25/2/1416هـ، ( ص 24 )، وهذا نص السؤال والجواب :
(( سماحة الشيخ : حركة " الإخوان المسلمين " دخلت المملكة منذ فترة، وأصبح لها نشاط واضح بين طلبة العلم، ما رأيكم في هذه الحركة؟، وما مدى توافقها مع منهج أهل السنة والجماعة ؟ .
أجاب الشيخ / حركة الإخوان المسلمين ينتقدها خواص أهل العلم؛ لأنه ليس عندهم نشاط في الدعوة على توحيد الله، وإنكار الشرك، وإنكار البدع، لهم أساليب خاصة؛ ينقصها : عدم النشاط في الدعوة إلى الله، وعدم التوجيه إلى العقيدة الصحيحة، التي عليها أهل السنة والجماعة.
فينبغي للإخوان المسلمين أن تكون عندهم عناية بالدعوة السلفية: الدعوة إلى توحيد الله، وإنكار عبادة القبور، والتعلُّق بالأموات، والاستغاثة بأهل القبور، كالحسن، أو الحسين، أو البدوي، أو ما أشبه ذلك، يجب أن يكون عندهم عناية بهذا الأصل الأصيل بمعنى ( لا إله إلا الله )، التي هو أصل الدين، وأول ما دعا إليه النبي في مكة دعا إلى توحيد الله، إلى معنى ( لا إله إلا الله ) .
فكثير من أهل العلم ينتقدون على الإخوان المسلمين هذا الأمر، أي : عدم النشاط في الدعوة إلى توحيد الله، والإخلاص له، وإنكار ما أحدثه الجهال من التعلق بالأموات، والاستغاثة بهم، والنذر لهم، والذبح لهم، الذي هو الشرك الأكبر .
وكذا ينتقدون عليهم عدم العناية بالسنة : تتبع السنة، والعناية بالحديث الشريف،
……=
=…وما كان عليه سلف الأمة في أحكامهم الشرعية.
…وهناك أشياء كثير، أسمع الكثير من الإخوان ينتقدونهم فيها.
ونسأل الله أن يوفقهم )) ا هـ .
وقد اعترض معترض على نقد العلامة ابن باز –رحمه الله– لـ(( الإخوان المسلمين )) وقلّ أدبه، وأنقله بنصه.
قال المعترض : إنني أحترمك وأقدرك وأحبك في الله، ولكن لي عند سماحتكم عتاب. وهو أنني قرأت اليوم في " مجلة المجلة " حديثًا مع فضيلتكم وكُتب بها على لسانكم عن " الإخوان المسلمين " ولقد كتب المحرر : أن الإخوان المسلمين لا يهتمون بالعقيدة وأنهم يحيون الموالد، ويفعلون كثيرًا من البدع، ولقد دُهشت كثيرًا لهذا الكلام، لأنني عاملت الإخوان في مصر لسنوات عديدة ولم أعلم منهم شيئاً من ذلك، ولم أجد في معاملتهم أي بدعة، أو أي شيء مما كتب عنهم في هذه المقالة .
فلذا أرجو من سماحتكم تصحيح هذا الكلام . ا هـ .
الله أكبر !! يريد من الشيخ أن يغير كلاماً تكلم به عن علم ودراية، وهل الإمام ابن باز يهرف بما لا يعرف ؟ سبحان الله !! .
أجاب الشيخ إمام السنة – رحمه الله - :
"نعم، كثير من الإخوان نقل عنهم ذلك، نحن حكينا نقل جماعة من المشايخ والإخوان، أن " الإخوان المسلمين " ليس عندهم نشاط كلي وقوي في التحذير فيما يتعلق بالشرك ودعوة أصحاب القبور، وهذا على كل حال يراه في كتبهم وسيرتهم فإذا روجعت كتبهم يرى منها ذلك" . ا هـ . من شريط مسجل من دروس الشيخ بالطائف صيف عام 1416هـ شهر صفر . بصوت إمام " جامع الشيخ ابن باز " ذلك الوقت : إحسان محمد شرف الحلواني .
أقول : هذا السائل تراه جمع مع سوء أدبه الكذب والافتراء على الإمام . وصدق عليه المثل القائل (( حشفًا وسوء كيلة )) .
……=
=…أولاً : الديباجة التي في مقدمة السؤال (( أحبك ... ولكن )) لمن يقال هذا الأسلوب من الكلام ؟؟ ! لإمام من أئمة السنة، ناصر السّنة وقامع البدعة .
…ثانياً : يقول : (( قرأت ... وكُتب على لسانكم )). وهذا من سوء الأدب مع العلماء ويبدوا أن السائل لم يقرأ سيرة الطلاب مع مشايخهم على مر الدهر ولم يقرأ كيف كان الإمام الشافعي – رحمه الله – يتأدب مع شيخه إمام دار الهجرة مالك بن أنس، ولم يطّلع على أدب عَلَم الأعْلام مجدد الدين الإمام أحمد بن حنبل مع الإمام الشافعي – رحمهم الله - . والأمثلة على ذلك كثيرة فالأولى لهذا السائل وأمثاله أن يتعلموا الأدب قبل الطلب .
وقوله : (( وكُتب على لسانكم )) فيه استغفال للإمام – رحمه الله – حيث يفهم من ذلك أنه يُكتب عنه ما لم يعتقد، أو ما لم يكن لديه فيه علم .
ولا يفوتك أيها القارئ اللبيب، أن هذه مقابلة رسمية، ومقالة ذو أهمية فلا يستطيع صاحب اللقاء أو المحرر أن يغير، ولو حدث ذلك فإن الشيخ لن يسكت على ذلك ولا سيما إذا عرفت أن للشيخ رحمه الله وقت يتفرغ فيه لمعرفة ما في الصحف اليومية .
ثالثاً : قول السائل : ولقد كتب المحرر .. وأنهم يحيون الموالد، ويفعلون كثيراً من البدع .
مع استمرار السائل في سوء أدبه مع الإمام ابن باز في قوله ولقد كتب المحرر، أيضاً أضاف هنا الفرية والكذب على الشيخ في قوله: (( يحيون الموالد.. ويفعلون..البدع )) أقول مقالة الشيخ في " الإخوان المسلمين " الذي يغلي منها هذا السائل وأمثاله نقلتها كما هي؛ صورة طبق الأصل، والقارئ الكريم، ليس بالساذج، تنطلي عليه الأكاذيب فاقرأ المقالة وراجع المرجع فأين (( يحيون الموالد .. ويفعلون .. البدع )) ولكنه عمى البصيرة عن قبول الحق والهُدى، نسأل الله العافية !! ( وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ) مسلم : ( 2607 ) .
……=
=…رابعاً : قول السائل : (( دُهشت ...لأنني عاملت ... ولم أعلم منهم شيئاً من ذلك)).
أقول لهذا المندهش وبإيجاز : اقرأ كتب القوم كما أشار إليك سماحة الإمام في خاتمة جوابه على سؤالك .
…وإن كنت لا تستطيع القراءة لضيق الوقت عندك، فارجع إلى الورقات قبل هذه بقليل فستجد ملخص عن بعض ما فعلوه الإخوان بقيادة مرشدهم حسن البنا، وما لم تعلمه أنت فاعترافات القوم تكفي عن معرفتك وعلمك .
…ثم إنك لو علمت القاعدة (( من حفظ حجة على من لم يحفظ )) ، (( والجرح مقدم على التعديل )) ، (( وزيادة الثقة مقبولة )) وإذا أضيف إلى ذلك كله أن المتكلم هو إمام الجرح والتعديل في زمانه، وهو الذي لا يجرح ولا ينتقد حتى يتثبت؛ لو علمت هذا ووعاه قلبك لما أقدمت على ما أقدمت عليه .
خامسًا : قول السائل : (( فلذا أرجو .... تصحيح هذا الكلام )) .
سبحان الله . إنا لله وإنا إليه راجعون .
ما هذه الجرأة وهذا التعالي على الجبل الشامخ ؟!! .
يطلب من رجل هو مرجع للأمة في عصره في أنحاء المعمورة العدول عن قول الحق !.
والله إني لأعلم علماء أجلاء من أقرانه – رحمه الله – أنهم يستحيون أن يقفوا لإلقاء كلمة بحضرته في بيت من بيوت الله أو في مجلس هو فيه، حتى يستأذنوا أو يُستأذن لهم، ومنهم من هو عضو في هيئة كبار العلماء، ناهيك من أن يطلبوا مثل هذا الطلب.
سادساً : جاءت قاصمة الظهر في جواب الإمام -رحمه الله- وقد أكد ما قاله في مقالته السابقة وزاد صاعاً : بأن يراجع هذا السائل وأمثاله كتب القوم فسوف يرى منها ما ذُكر .(41/67)
؛
فنحن ندعوهم – جميعًا – إلى أن يردوا مناهجهم إلى كتاب الله، وإلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى هدي وفهم السلف الصالح، وبعرضها على ذلك؛ فما وافق فالحمد لله، وما خالف فإنه يُصحح الخطأ . هذا الذي ندعو إليه .
س 41 : هناك مَن فرَّق بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية؛ فهل التفريق صحيح؟ وإذا كان كذلك فمن هم الفرقة الناجية ؟ ومن هم الطائفة المنصورة ؟ .
جـ/ هؤلاء يريدون أن يفرقوا بين كل شيء، يريدون أن يفرقوا بين
المسلمين، وحتى صفات المسلمين يريدون أن يفرقوا بينهما، وهذا القول ليس بصحيح، فالطائفة المنصورة هم الفِرقة الناجية (1)
__________
(1) …وهذا هو قول أئمة الحديث؛ فالفرقة الناجية هم الطائفة المنصورة، وهم أهل الحديث، وهم أهل السنة والجماعة، وهم الجماعة، وهم السلفيون، كما صرَّح بذلك عدد غير قليل من السلف والخلف، وإليك بعض أقوالهم :
يقول الإمام أحمد- رحمه الله – عقب حديث : (( وستفترق ... )) :
…(( إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري مَن هُم ؟ )) .
…أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص : 3) بسند صحيح .
…ونقل المباركفوري في مقدمة " تحفة الأحوذي " (ص : 13) عن أبي اليُمن ابن عساكر أنه قال : (( لِيَهْنِ أهل الحديث هذه البشرى ... فهم – إن شاء الله – الفرقة الناجية )) .
…قال الترمذي – عقب حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تزال طائفة من أمتي )) رقم: ( 2229 ) : (( سمعت البخاري يقول : سمعت ابن المديني يقول : " هم أهل الحديث " )) .
…وقال البخاري في كتاب : " خلق أفعال العباد " (ص : 61)، عقب حديث أبي سعيد في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } : هم الطائفة المذكورة في حديث: " لا تزال طائفة من أمتي " .
…ولم يُفَرِّق شيخ الإسلام ابن تيمية بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، بل قال في أول كتاب " العقيدة الواسطية " :
…( أما بعد : فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، أهل السنة
……=
=…والجماعة .. . ) . وكذا في " مجموع الفتاوى " : ( 3/129 ) .
…وقال بعد ذِكر حديث الافتراق: (( هم أهل السنة والجماعة، وهم الطائفة المنصورة )). مجموع الفتاوى : ( 3/159 ) .
…وقال أيضاً : (( إن قولي اعتقاد الفرقة الناجية هي الفرقة التي وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجاة، هو الاعتقاد المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية )) . مجموع الفتاوى : ( 3/179 ) .
…وقال : (( بهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية : أهل الحديث والسنة )) . مجموع الفتاوى : ( 3/347 ) .(41/68)
– والله الحمد -، لا تكون منصورة إلا إذا كانت ناجية، ولا تكون ناجية إلا إذا كانت منصورة؛ فهما وصفان متلازمان لشيء واحد .
وهذا التفريق إما من جاهل وإما من مغرض يريد أن يشكك شباب المسلمين في الطائفة المنصورة الناجية (1) .
س 42 : هل من خالف الفِرقة الناجية؛ الطائفة المنصورة، في مسألة الولاء والبراء، أو في مسألة السمع والطاعة لولاة الأمور؛ برّهم وفاجرهم مالم يأمروا بمعصية، يخرج منها، مع موافقته لهم في باقي مسائل العقيدة ؟ .
__________
(1) …وقد أجهد بعض المنتسبين للعلم نفسه، وأضاع وقته، وشتَّت أفكار الشباب، وألف كتاباً يريد أن يثبت أن ثمة فرقاً بين الطائفة المنصورة وبين الفرقة الناجية، ولم ولن يستطيع .
…وقد زاد الطين بِلَّة بأن افترى على شيخ الإسلام ابن تيمية، ونسب إليه القول بالتفريق بدون إحالة، وذلك في كتابه المسمى : " الغرباء الأولون " .
والرَّد على هذه الفرية هو ما قد عرفتَ من كلام شيخ الإسلام السابق .
…وقد تعدَّى به الحال إلى أن نسب القول بالتفريق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى الإمام : عبدالعزيز بن باز، حيث سئل في محاضرة له عن تفريقه بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، فقال :
(( الشيخ عبدالعزيز بن باز – والحمد لله – وافقني على ذلك، ووعدني أن يكتب تعليقاً يتضمن ذلك )) . ا هـ من محاضرة له في شريط مسجل .
……=
=…والحمد لله؛ فقد فضحه الله؛ حيث لم يوافقه الشيخ عبدالعزيز بن باز عندما سئل عن ذلك :
…قال السائل : هل تفرِّق بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ؟ .
فأجاب سماحته :
(( الطائفة المنصورة هي الفرقة الناجية، هما واحدة، هم أهل السنة والجماعة، وهم السلفيون )) .
قال السائل :
إن فلاناً ... يقول إنك وافقته على التفريق، هل هذا صحيح ؟ .
فأجاب الشيخ عبدالعزيز :
(( لا .. لا .. وَهِم – أو قال – غلط )) ا هـ من شريط مسجل .(41/69)
جـ/ نعم، إذا خالفهم في شيء ووافقهم في شيء، فإنه لا يكون منهم فيما خالفهم فيه، ومنهم فيما وافقهم عليه .
وعليه في ذلك خطر عظيم، ويدخل في الوعيد : (( كلهم في النار ))، وقد يدخل النار بسبب هذه المخالفة، وإن كانت مخالفة في مسألة واحدة في العقيدة؛ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( كلهم في النار )) ليس معناه : أنهم كلهم يكفرون ويخلَّدون في النار، , وإنما يدخلون النار بحسب مخالفتهم، لأن المخالفة قد تكون مخرجة من الملّة، وقد تكون غير مخرجة من الملّة .
س 43 : هل يكفر من زيّن الفواحش والرذائل للناس ؟ .
جـ/ الذين يدعون إلى الكفر يكفّرون، أما إذا كانوا يدعون الناس إلى المعاصي التي هي دون الكفر والشرك فهؤلاء لا يكفرون (1)
__________
(1) …يقول صاحب شريط : " الشباب أسئلة ومشكلات " :
…(( إن هناك مجموعة : واحد أو أكثر من الفنانين المعروفين، الذين يتداول بعض الشباب الساقطين أشرطتهم، وهي أشرطة في غاية القذارة والسوء، تتكلم عن الفجور والرذيلة والزنا ... وتفتخر بها، وتتمنى أن الناس كلهم على هذه الوتيرة ... أنا مطمئن تمامًا إلى أن مثل هذا العمل إذا كان بالصورة التي ذكرتها الآن، أن صاحب هذه الفعل أقل ما يقال عنه أنه مستخف بالمعصية، ولا شك أن الإستخفاف بالذنب خاصة إذا كان ذنباً كبيرًا ومتفق على تحريمه أنه كفر بالله ، مراد الكلام عن فئة، أو فرد، أو أكثر، من فنانين معروفين، يتداول بعض الشباب أشرطتهم، وهي تتاجر بالرذيلة، وتعلن محاربة الله – عز وجل – بوقاحة وتبجّح، بدون حياء، بحيث يجزم معه الإنسان أن هؤلاء لا يؤمنون بتحريم الله – تعالى – لهذه الأمور، فمثل هؤلاء لا شك أن عملهم هذا ردّة عن الإسلام؛ أقول هذا وأنا مرتاح مطمئن القلب إلى ذلك )) .
…قلت : إن المرء قد يعمل المعصية ويرتكبها بالخطأ، وهذا سرعان ما يرجع ويتوب ويستغفر ربه على الزلة .
…وإما أن يرتكب المعصية عمداً بسبب الهوى، والشيطان، والنفس الأمّارة بالسوء، وهو مقر بحرمتها، فمرتكب المعصية على هذا الوجه، لا يفعلها إلا وهي خفيفة الذنب في عينه، ومستصغرًا لها، وإلاّ لما فعلها؛ وهذا لا يكفر .
…وإما أن يكون مرتكب المعصية مستحلاً لها بإقراره؛ كأن يقول : الزنا حلال، أو الخمر حلال، أو الربا حلال؛ فهذا لا شك في كفره .
فنقول لهذا المحاضر :من قال بأن الاستخفاف بالذنب كفر بالله، وردة عن الإسلام قبلك؟!
بل الذي ندين الله به، أنه معصية ويجب التوبة والإنابة منه، ما لم يستحل فعند ذلك يكفر بالاستحلال .(41/70)
، ولكن يأثمون
بهذا، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً )) (1) .
قال الله تعالى : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } (2) .
- - - - -
س 44 : هل هناك فرق بين العقيدة والمنهج ؟ .
جـ/ المنهج أعم من العقيدة، المنهج يكون في العقيدة وفي السلوك
والأخلاق والمعاملات وفي كل حياة المسلم، كل الخِطة التي يسير عليها المسلم تسمى المنهج .
أما العقيدة فيراد بها أصل الإيمان، ومعنى الشهادتين ومقتضاهما هذه هي العقيدة .
- - - - -
س 45 : هل يجب على العلماء أن يُبَيَّنُوا للشباب وللعامة خطر التحزب والتفرق والجماعات ؟ .
جـ/ نعم، يجب بيان خطر التحزب، وخطر الانقسام والتفرق؛
ليكون الناس على بصيرة، لأنه حتى العوام ينخدعون، كَمْ من العوام الآن انخدعوا ببعض الجماعات يظنون أنها على حق ؟ .
فلابد أن نُبَيِّن للناس – المتعلمين والعوام – خطر الأحزاب والفِرَق؛ لأنهم إذا سكتوا قال الناس : العلماء كانوا عارفين عن هذا وساكتين عليه؛ فيدخل الضلال من هذا الباب؛ فلا بد من البيان عندما تحدث مثل هذه الأمور، والخطر على العوام أكثر من الخطر على المتعلمين؛ لأن العوام مع سكوت العلماء يظنون أن هذا هو الصحيح وهذا هو الحق .
- - - - -
س 46 : ما حكم مشاهدة المباريات في كرة القدم وغيرها ؟ .
__________
(1) …أخرجه مسلم : (2674 )، وأحمد : ( 2/397 )، و أبو داود : ( 4609 )، والترمذي : ( 2674 )، كلهم من حديث أبي هريرة .
(2) …النحل : 25 .(41/71)
جـ/ الإنسان وقته ثمين (1) لا يضيعه في مشاهدة المباريات، لأنها
تشغله عن ذكر الله (2)، وربما تجذبه ويصير رياضياً في المستقبل أو لاعبًا،
ويتحول من العمل الجد وعمل النفع إلى العمل الذي لا فائدة منه .
- - - - -
…س 47 : هل يتوقف على صحة المنهج جنة أو نار ؟ .
جـ/ نعم، المنهج إذا كان صحيحاً صار صاحبه من أهل الجنة؛ فإذا كان على منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومنهج السلف الصالح يصير من أهل الجنة بإذن الله، وإذا صار على منهج الضُّلاِّل فهو مُتَوَعَّدٌ بالنار (3)
__________
(1) …يجب على المرء المسلم أن يحرص على الوقت، وأن يستغل أوقاته وعمره في ذكر الله، وفي طاعة الله، وفي تحصيل العلم النافع، ولنتذكر حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حيث قال لرجل وهو يعظه : (( اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك )) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما - .
…أخرجه الحاكم وصححه : ( 4/306 ) ووافقه الذهبي .
(2) …سوف يُسأل المرء عن كل شيء فعله من خير أو شر، ويُحاسب عليه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك : (( لا تُزال قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه ... )) الحديث .
…رواه البيهقي من حديث معاذ بن جبل، وأخرجه الترمذي رقم : ( 2417 ) من حديث أبي برزة الأسلمي، وفيه : (( وعن جسمه)) بدل شبابه.
…انظر " صحيح الترغيب " : ( 1/126 ) .
(3) …وهو تحت مشيئة الله – تعالى -، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة .
…وإذا لم يترتب على صحة المنهج من عدمه جنة أو نار؛ فما فائدة قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا : من هي ؟ . قال : (( ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) سبق تخريجه وسيأتي .
…فمن كان على هدي النبي وأصحابه فهو من أهل الجنة، ومن كان على غير ذلك فهو تحت الوعيد .
ومن المعلوم الثابت عند أهل السنة والجماعة : أن الاثنين والسبعين فرقة الهالكة في الحديث ليست مخلدة في النار، ولا أحد يقول بذلك من أهل الحديث؛ فتأمل، إلا أن تكون بدعته مكفّرة وفرقته ردّة . والله أعلم .(41/72)
.
فَصِحَّة المنهج من عدمها يترتب عليها جنة أو نار .
- - - - -
س 48 : ما هو القول الحق في قراءة كتب المبتدعة، وسماع أشرطتهم ؟ .
جـ/ لا يجوز قراءة كتب المبتدعة، ولا سماع أشرطتهم؛ إلا لمن يريد
أن يَرُدَّ عليهم ويُبيِّن ضلالهم .
أما الإنسان المبتدئ، وطالب العلم، أو العامي، أو الذي لا يقرأ إلا لأجل الاطلاع فقط، لا لأجل الرَّد وبيان حالها؛ فهذا لا يجوز له قراءتها؛ لأنها قد تؤثر في قلبه (1)
__________
(1) …وقد تواترت الآثار عن السلف في التحذير من أهل الأهواء والبدع، فهذه بعض الآثار نسوقها لك أخي طالب الحق :
…قال أبو قلابة : ((لا تجالسوهم – يعني: أهل البدع- ولا تخالطوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم كثيراً مما تعرفون )) .
…اللالكائي : ( 1/134 ) : " البدع والنهي عنها ": (55)، " الاعتصام " : ( 1/172 ) .
…وقال إبراهيم النخعي : (( لا تجالسوا أصحاب البدع، ولا تكلموهم؛ فإني أخاف أن ترتد قلوبكم )) " البدع والنهي عنها ": (56)، " الاعتصام ": ( 1/172 ) .
…وقال أبو قلابة : (( يا أيوب – السختياني -، لا تَمكِّن أصحاب الأهواء من سمعك )) اللالكائي : ( 1/134 ) .
…وقال الفضيل بن عياض : (( إذا رأيت مبتدعًا في طريق فخذ في طريق آخر )) . " الإبانة " : ( 2/475 ) .
…وسُئِل أبو زرعة عن الحارث بن أسد المحاسبي وكتبه؛ فقال للسائل : (( إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثرة )) قيل له : في هذه الكتب عبرة، فقال: (( من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه عبرة )) ثم قال:
…(( ما أسرع الناس إلى البدع ))." التهذيب ": ( 2/117 )، " تاريخ بغداد: ( 8/215 ).
وقال الإمام أحمد في حق المحاسبي كلامًا عنيفًا لمّا سُئل عنه؛ فمما قاله للسائل : (( لا تغتر بتنكيس رأسه؛ فإنه رجل سوء ..لا تكلمه، ولا كرامة له.. ولا نُعمى عين ))، راجع رقم : ( 49 ) .
فهذا منهج السلف في التعامل مع أهل البدع وموقفهم من كتبهم وسماع كلامهم،
……=
=…وقِس ذلك على أشرطتهم فإن شقشقة الكلام في الأشرطة أخطر .
فليت شعري : هل يفطن شبابنا لهذا المنهج، ويَحْذوا أشرطةَ وكتب أهل البدع والأهواء في عصرنا هذا ؟ .(41/73)
وتُشَبِّه عليه فيصاب بشرها .
فلا يجوز قراءة كتب أهل الضلال؛ إلا لأهل الاختصاص من أهل العلم، للرَّد عليها، والتحذير منها .
- - - - -
س 49 : من هي الفرقة الناجية المنصورة في هذا العصر ؟، وماصفاتها وسماتها ؟ .
جـ/ الفرقة الناجية المنصورة في هذا العصر – وإلى قيام الساعة – هي التي قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها لما سئل؛ حين قال : (( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة )) قالوا: من هي ؟، قال : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) (1) .
وقال عنهم الله – سبحانه وتعالى- : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (2) .
من صفات هذه الفرقة : أنها متمسكة بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
ومن صفاتها : أنها تصبر على الحق ولا تلتفت إلى أقوال المخالفين، ولا تأخذها في الله لومة لائم، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )) (3) .
ومن صفات الفرقة الناجية المنصورة : أنها تحب السلف الصالح، وتثني عليهم، وتدعو لهم، وتتمسك بآثارهم .
__________
(1) …أخرجه الترمذي : ( 2641 )، والحاكم: ( 1/129 )، واللالكائي : ( 1/100 )، والآجري في " الشريعة " : ( 26 ) تحقيق الفقي، والمروزي في " السنة ":(23), راجع "الصحيحة": (1492,204,203), .وسبق تخريجه رقم : ( 12 ) .
(2) …التوبة : 100 .
(3) …مسلم : ( 1920 ) .(41/74)
ومن صفاتهم : عدم تنقصهم لأحد من السلف، سواء الصحابة أو من بعدهم (1) .
ومن علامة الفِرقة المنحرفة : أنها تبغض السلف، وتبغض منهج
السلف، وتُحَذِّر منه (2) .
- - - - -
س 50 : كيف تكون مناصحة الطالب لشيخه ؟ .
جـ / المفروض العكس؛ أن الشيخ هو الذي ينصح الطالب؛ لأن الشيخ أدرى بالأمور وأعرف بها، والطالب لا يزال يتلقى العلم من شيخه ؛
__________
(1) …قال الإمام أبو محمد الحسن بن علي البربهاري في كتابه : " شرح السنة " :
(( إذا رأيت الرجل يجب أبا هريرة، وأنس بن مالك، وأسيد بن حضير؛ فأعلم أنه صاحب سنة – إن شاء الله - .
…وإذا رأيت الرجل يحب أيوب، وابن عون، ويونس بن عبيد، وعبدالله بن إدريس الأودي، والشعبي، ومالك بن مِغْوَل، ويزيد بن زريع، ومعاذ بن معاذ، ووهب بن جرير، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وزائدة بن قدامة؛ فاعلم أنه صاحب سنة .
وإذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل، والحجاج بن المنهال، وأحمد بن نصر، وذَكَرَهم بخير، وقال بقولهم؛ فاعلم أنه صاحب سنة )) .
انظر :" شرح السنة " بتحقيق الأخ الفاضل: خالد الردادي، ص: ( 120–121 ).
(2) …يقول البربهاري – أيضًا – في " شرح السنة " ص : ( 115 ) :
…(( وإذا رأيت الرجل يطعن على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأعلم أنه صاحب قول سوء وهوى )) .
…وقال في (ص 115- 116) : " وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار، أو يريد غير الآثار؛ فاتهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى،مبتدع" قال قتيبة بن سعيد : (( إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث فإنه على السنة، ومن خالف هذا فاعلم أنه مبتدع )) " مقدمة شعار أصحاب الحديث " (ص: 7 ) .
…وقال أبو حاتم الرازي : (( وعلامة أهل البدع : الوقيعة في أهل الأثر )) .
…اللالكائي : ( 1/179 ) .…للإستزادة؛ انظر كتاب " لم الدر " أبواب [ علامة أهل السنة ] ، [ علامة أهل البدع ] .(41/75)
فربما يبدو للطالب شيء يظنه مخالفة وهو ليس كذلك .
فالواجب: إذا أشكل على الطالب شيء أن يسأل شيخه بأدب (1) .
وأما إن كان الشيخ ضالاً أو مخالفاً فلا يجوز أن تتتلمذ عليه .
وأما إن كان الشيخ ملازمًا للحق، ولكن وقع منه شيء من الأخطاء؛ فعليك أن تناصحه بطريق السؤال، مثلاً تقول : يا شيخ، ما حكم من فعل كذا؛ فهو سَيَتَنَبَّه، ويحصل المقصود – إن شاء الله - .
- - - - -
س 51 : أرجو توجيه نصيحة للطلاب المبتدئين ؟ .
جـ / نصيحتي لطلاب العلم المبتدئين : أن يتتلمذوا على العلماء الموثوق بعقيدتهم وعلمهم ونصحهم (2)
__________
(1) …كان السلف يُجِلُّون مشايخهم، ويقدرونهم، ويعرفون حقهم، ويتأدبون معهم ... وهو الواجب .
…نقل ابن عبدالبر في : " جامع العلم وفضله " عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال : (( من حق العالم عليك : إذا أتيته أن تسلم عليه خاصة وعلى القوم عامة، وتجلس قُدَّامًه، ولا تُشِر بيديك، ولا تغمز بعينك، ولا تقل : قال فلان خلاف قولك، …=
=…و لا تأخذ بثوبه، ولا تُلِحَّ عليه في السؤال؛ فإنه بمنزلة النخلة المرطبة، لا يزال يسقط عليك منها شيء )) (ص : 231 ) .
(2) …وهنا ينبغي تحديد المفهوم الصحيح لمن يطلق عليه لفظ العالم، وهذا من الأهمية بمكان، إذ بسبب عدم الإدراك من الكثيرين تخلل صفوف العلماء من ليس منهم؛ فوقعت الفوضى العلمية التي نتجرع الآن مرارتها؛ فأصبح الكثير من الناس عامة وطلبة العلم خاصة يظن أن كل من أًلَّف كتابًا، أو أخرج مخطوطة، أو خطب، أو ألقى محاضرة؛ هو العالم .
…إن من يستحق أن يُطلق عليه اسم العالم في هذا الزمن هم قليل، و أقل من القليل، بل قليل جداً، وذلك لأن للعالم صفات، قد لا ينطبق كثير منها على كثير ممن ينتسب إلى العلم اليوم، وليس العالم من كان فصيحًا بليغًا في خطبه ومحاضراته ونحو ذلك، وليس العالم من أَلَّف كتابًا أو حقق مؤلفًا أو مخطوطة و أخرجها .
إن وزن العالم بهذه الأمور فحسب هو المترسب – وللأسف – في أذهان كثير من الشباب والعامة .
……=
=…يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – في ذلك :
(( وقد ابتلينا بجهلة من الناس، يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم؛ فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله )) .
ويقول : (( وقد فُتِن كثير من المتأخرين بهذا، وظنوا أن من كُثر كلامه، وجداله، وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك )) .
…قلت : هذا في زمن ابن رجب – رحمه الله -؛ فكيف لو اطّلع على متعالمة زماننا الذين يملئون الأشرطة والكتب بكلامهم؛ فيغتر الناس بهم لكثرة ما يُصدِرون من أشرطة كل أسبوع، ويُخرجون الكتب كل شهر؛ فيظنونهم هم العلماء .
ويقول ابن رجب – رحمه الله – أيضًا : (( فيجب أن يُعتقد أنه ليس كل من كثر بسطه للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك )) انتهى من كتابه : " بيان فضل علم السلف على علم الخلف " ص : ( 38-40 ) .
…ومما ينبغي أن يميَّز به من يُطلَق عليه لفظ " عالم " في هذا الزمن كِبَر السن، وأن يكون أخذ العلم من الكبار شرطًا في تلقي العلم، وفي هذا الزمن بخاصة، لأن الكبير يكون أغزر علمًا، وأكمل عقلاً، وأبعد عن غلبة الهوى، وغير ذلك .
وفي ذلك يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (( لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، وعن أمنائهم وعلمائهم؛ فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا )) .
وروى الخطيب البغدادي – رحمه الله – بسنده في كتابه : " نصيحة أهل الحديث "، عن ابن قتيبة – رحمه الله – أنه سئل عن معنى هذا الأثر فأجاب : (( يريد: لا
…يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ، ولم يكن علماؤهم الأحداث )) ويعلل هذا التفسير فيقول : (( لأن الشيخ زالت عنه متعة الشباب، وحدته، وعجلته، وسفهه، واستصحب التجربة والخبرة؛ فلا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزله الشيطان استزلال الحدَث، ومع السن الجلالة والوقار والهيبة، والحَدَث قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمنت على الشيخ؛ فإذا دخلت عليه وأفتى هلك وأهلك )) : ( 7 ) .
……=
=…وقد عقد ابن عبدالبر في كتابه : " جامع بيان العلم وفضله " بابًا بعنوان : ( من يستحق أن يسمي فقيهاً أو عالمًا حقيقةً لا مجازًا؟، ومن يجوز له الفتيا عند العلماء ؟) فليراجعه طالب العلم والحق؛ فإنه مهم . والله أعلم .(41/76)
، وأن يبدأوا بالمختصرات في العلوم ويحفظوها، ويتلقوا شرحها من مشايخهم شيئًا فشيئًا، وخصوصًا المقررات المدرسية في المعاهد العلمية، والكليات الشرعية؛ ففيها من المقررات العلمية المتدرجة لطالب العلم شيئًا فشيئًا الخير الكثير .
وإن لم يكن الطالب ملتحقًا بهذه المدارس النظامية؛ فعليه أن يلتزم الحضور مع المشايخ في المساجد، سواءً في الفقه، أو النحو، أو العقيدة، وهكذا.
وأما ما يفعله بعض الشباب الآن؛ وهو أنهم يبدءون بالمطولات، أو يشتري أحدهم كتبًا، ويجلس في بيته يقرأ فيها ويطالع؛ فهذا لا يصلح، وما هذا بتَعَلُّم، بل هذا غرور .
وهذا الذي أَدَّى ببعض الناس بأن يقول في العلم، ويفتي في المسائل بغير علم، ويقول على الله بغير علم؛ لأنه ما بنى على أساس .
فلا بُدَّ من الجلوس أمام العلماء في حِلَق الذكر، ولا بد من الصبر والتحمُّل.
وكما قال الشافعي – رحمه الله - :
ومن لم يذق ذُلَّ التَّعَلُّم ساعة … تجرَّع كأس الجهل طول حياته
- - - - -
س 52 : يلاحظ على بعض شباب الصحوة (1)
__________
(1) …كلمة : ( الصحوة ) أو ( شباب الصحوة ) أو ( الصحوة الإسلامية ) : تتكرر كثيرًا من بعض الدعاة والشباب، وهي تُشعِر بأن الأمة الإسلامية كانت نائمة أو كانت في غيبوبة، ولم يكن لها دعوة، وهذا لا يصح؛ لأن المسلمين – خصوصًا في هذه البلد – ما زال الخير موجودًا فيهم – والحمد لله -، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين )) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تجتمع أمتي على ضلالة )) الحديث انظره في " كشف الخفاء ": ( 2999 )، تذكرة المحتاج : (51).
…وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما تزال يقظة وقائمة، والعلماء الربانيون موجودين في كل عصر جيلاً بعد جيل، لم يخل عصر من العصور من عالم – بل من علماء -، وإن قلنا خلاف ذلك فنكون قد كذَّبنا خبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - نعوذ بالله من ذلك -، القائل في الحديث الصحيح : (( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس )) .
أخرجه مسلم : 3/1524 ( 1037 ) .
إن الذين يتكلمون عن ( الصحوة ) ويؤرخون لها، إنما يؤرخون لها من تاريخ قيام ونشأة فِرقة (الإخوان المسلمون) بمصر، على يد مؤسسها ومرشدها " حسن البنا "، ويشهد لذلك ما قاله محمد قطب – وغيره - .
قال محمد قطب في كتابه: " واقعنا المعاصر " ص : ( 401 ) ما نصه :
(( إنما نحن فقط ندرس هذه الظاهرة " ظاهرة الصحوة الإسلامية "، لقد بدأت في قلب رجل واحد – يعني : حسن البنا – فتح الله عليه، ووهب له من إشراقة الروح، وصفاء الصلة بالله )) .
قلت : وهذا تعبير صوفي، - والحمد لله – أنه لم يقل : أنه تلقى العلم عن المشايخ المشهورين من أهل العلم، حتى لا يغتر به البسطاء فيقولوا عنه : عالم .
والناس العقلاء لا يثقون إلا بالعلماء، وأما الرعاع منهم فيثقون بكل ناعق ومهرّج. وقال في صحيفة : ( 403 ) : (( لقد كانت هذه الإشراقة في قلب حسن البنا
…
……=
=…وروحه فتحًا ربانيًا .. وكانت في الوقت ذاته هي الاستجابة الصحيحة للأحداث القائمة منذ أكثر من قرن من الزمان في العالم الإسلامي بأسره، وفي مصر بصفة خاصة )) .
…يؤخذ من هذا الكلام : أن دعوة " الإخوان " في نشأتها قامت على ردود الأفعال، و (( شهد شاهد من أهلها )) .
وقد أَلَّف محمد قطب كتابًا أسماه : " الصحوة الإسلامية "، قال الناشر في المقدمة :
(( تمثل الصحوة الإسلامية التي أشرق نورها في العالم الإسلامي أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين )) .
وقال محمد قطب في الكتاب نفسه (ص : 75 ) :
(( جاءت الصحوة الإسلامية في موعدها المقدور عند الله، وإن فاجأت من فاجأت من الناس من هنا وهناك )) .
قلت : لا شك أن كل شيء بقدر الله، ولكن لا خير في هذه الصحوة المتخبِّطة، وأي مفاجأة فيها ؟ .
وقال – أيضاً – (ص 63 ) :
(( وجاءت حركة الإمام الشهيد والأمة على هذا النحو من الغفلة – إلا من رحم ربك - )) .
وقال (ص 96) : تحت عنوان " منهج الحركة " :
(( تختلف الجماعات العاملة اليوم ... حول منهج الحركة الواجب اتباعه ... فقد كانت الحركة تسير على المنهج الذي رسمه الإمام الشهيد وأقام جماعته على أساسه، ولم تكن هناك في الساحة جماعات أخرى غير تلك الجماعة )) !! .
…قلت: فأين الدعوة السلفية القائمة في هذه البلاد " السعودية " – وفي غيرها – والتي كانت في أوج قوتها في ذلك الحين – وإلى اليوم -، ولا زال المسلمون جميعًا يجنون ثمارها المباركة –دون أي أضرار كبقية الدعوات الأخرى– حتى اليوم ؟ ، ولكنه ..
يصدق على هذا الصنف من الناس قول الشاعر :
الحق شمس والعيون نواظر ……لكنها تخفى على العميان
وقول من قال :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم ِ…=
=…قال بكر أبو زيد في كتابه : " معجم المناهي اللفظية " ص : (209)، تحت مادة : " الصحوة الإسلامية " : (( هذا وصفٌ لم يعلق الله عليه حكمًا؛ فهو اصطلاح حادث،
…ولا نعرفه في لسان السلف جاريًا، وجرى استعماله في فواتح القرن الخامس عشر الهجري، في أعقاب عودة الكفار كالنصارى إلى " الكنيسة "، ثم تدرّج إلى المسلمين، ولا يسوغ للمسلمين استجرار لباس أجنبي عنهم في الدين، ولا إيجاد شعار لم يأذن الله به ولا رسوله ؛ إذ الألقاب الشرعية توقيفية : الإسلام، الإيمان، الإحسان، التقوى؛ فالمنتسب : مسلم، مؤمن، محسن، تقي.
فليت شعري ! ما هي النسبة إلى هذا المستحدث " الصحوة الإسلامية " : صاحٍ أم ماذا ؟؟ )) انتهى كلامه .(41/77)
حماسًا شديدًا في
القيام بالدعوة مما يَسمَع من عِظَم أجر الداعية، ثم سرعان ما يزول ذلك الحماس، فما هو توجيهكم في ذلك ؟ .
جـ/ أنا لي تحفّظ على استعمال هذه الكلمة ( الصحوة الإسلامية )، وقد نُشرت في الصحف أكثر من مرّة؛ لما فيها من جحود لجهود العلماء المصلحين المستمرّة في كل زمان، وجحود للبقايا الصالحة من هذه الأمة، التي لا تخلو منها الأرض إلى قيام الساعة .
والحماس للدعوة طيب، والإنسان قد يكون فيه رغبة إلى فعل الخير وإلى الدعوة، لكن لا يجوز له أن يباشر الدخول في الدعوة إلا بعد أن يتعلم، ويعرف كيف يدعو إلى الله – عز وجل -، ويعرف طرق الدعوة، ويكون عنده علم بما يدعو إليه: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } (1) يعني : على علم .
فالجاهل لا يصلح للدعوة، لا بد أن يكون عنده علم، وإخلاص، وصبر، وتحمُّل، وحكمة، ولا بد أن يعرف طرق الدعوة، ومناهج الدعوة التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
أما مُجرّد الحماس، أو مجرد المحبة للدعوة، ثم يباشر الدعوة، هذا في الحقيقة يفسد أكثر مما يُصْلِح، وقد يقع في مشاكل، ويوقع الناس في مشاكل؛ فهذا يكفيه أن يُرغِّب في الخير، ويؤجر عليه – إن شاء الله -، لكن إن كان يريد الدخول في مجال الدعوة فليتعلم أولاً .
ما كل واحد يصلح للدعوة، وما كل متحمِّس يصلح للدعوة.
التحمُّس مع الجهل يضر ولا ينفع (2) .
- - - - -
س 53 : هل التحذير من المناهج المخالفة لمنهج السلف واجب ؟ .
جـ/ نعم، يجب أن نحذر من المناهج المخالفة لمنهج السلف (3)
__________
(1) …يوسف : 108 .
(2) …قال ضرار بن عمرو : (( والذي لا إله غيره، ما عمل عامل قط على جهل إلا كان ما يُفسد أكثر مما يصلح )) . " الفقيه والمتفقه " : ( 1/19 ) .
(3) …هذا هو منهج السلف، كانوا –رحمهم الله– أشداء في التحذير من أصحاب المناهج
…المخالفة للكتاب والسنة؛ بل والتشريد بمن أثنى عليهم، أو عَظَّم كتبهم .
…قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
(( يجب عقوبة من انتسب إليهم، أو ذَبَّ عنهم، أو أثنى عليهم، أو عَظَّم كتبهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ماهو ؟، أو من قال إنه صنف هذا الكتاب؟، وأمثال هذه المعاذير، التي لا يقولها إلاَّ جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم؛ فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات )) . " مجموع الفتاوى " : ( 2/132 ) .(41/78)
، هذا
من النصيحة لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم .
نحذِّر من أهل الشرور، ونحذِّر من المناهج المخالفة لمنهج الإسلام، ونُبيِّن مضار هذه الأمور للناس، ونحثهم على التمسك بالكتاب والسنة، هذا واجب .
ولكن هذا من شؤون أهل العلم الذين يجب أن يتدخلوا في هذا الأمر، وان يوضحوه للناس بالطريقة اللائقة المشروعة الناجحة – بإذن الله - .
- - - - -
س 54 : أيهما أفضل : طلب العلم، أم الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى - ؟
جـ/ طلب العلم أولاً؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يدعو إلى الله إلا إذا كان معه علم، وإن لم يكن معه علم فإنه لا يستطيع أن يدعو إلى الله، وإن دعا فإنه يخطئ أكثر مما يصيب .
فيُشترَط في الداعية : أن يكون على علم قبل أن يباشر الدعوة : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } (1) .
وهناك أمور ظاهرة بإمكان العامي أن يدعو إليها، مثل : إقامة الصلاة، والنهي عن تركها مع الجماعة، والقيام على أهل البيت، وأمر الأولاد بالصلاة، هذه الأمور ظاهرة يعرفها العامي ويعرفها المتعلم، لكن الأمور التي تحتاج إلى
فقه، وتحتاج إلى علم، أمور الحلال والحرام، وأمور التوحيد والشرك، هذه لا بد فيها من العلم .
- - - - -
س 55 : هل بيان بعض أخطاء الكتب الحزبية، أو الجماعات الوافدة إلى بلادنا؛ يُعتبر من التعرض للدعاة ؟ .
جـ/ لا، هذا ليس من التعرّض للدعاة (2)
__________
(1) …يوسف : 108 .
(2) …دعاة المنهج السلفي لا يعتبرون الكلام في أهل البدع، والضلال، والفِرَق الحزبية الموجودة اليوم في الساحة، والتحذير منهم، ومن كتبهم؛ من التعرُّض للدعاة، ولا الطعن في ذواتهم، بل يعتبرون التحذير من أهل البدع أنفسهم، والتحذير من كتبهم؛ هو من منهج السلف الصالح، والآثار في ذلك كثيرة جدًا من كتب السنة، وكتب الجرح والتعديل، بل ويتقربون به إلى الله .
…يقول شعبة – رحمه الله – : (( تعالوا حتى نغتاب في الله ساعة – يعني : نذكر الجرح والتعديل - )) . شرح علل الترمذي : ( 1/349 )، الكفاية : ( 91 ) .
…وقال أبو زرعة الدمشقي-رحمه الله-: (( سمعت أبا مسهر يُسأل عن الرجل يغلط ويَهِم، ويصَحِّف؛ فقال: بَيَّن أمره. فقلت لأبي زرعة : أترى ذلك غيبة؟ قال : لا )).
…شرح علل الترمذي : ( 1/349 ) .
…وقال عبدالله بن الإمام أحمد : (( جاء أبو تراب النخشبي إلى أبي، فجعل أبي يقول : فلان ضعيف، وفلان ثقة، فقال أبو تراب: يا شيخ، لا تغتب العلماء. – قال : - فالتفت أبي إليه وقال : ويحك، هذه نصيحة ليس هذا غيبة )) .
…شرح علل الترمذي : ( 1/349-350 )، الكفاية للخطيب : (46) .
قلت : لكن الدعاة المشبوهين هم الذين يتأثرون عندما تُنتَقد كتب أهل البدع والأهواء، ويُحَذَّر منها، ومن أصحابها – إن كانوا أحياء - .(41/79)
لأن هذه الكتب ليست
كتب دعوة، وهؤلاء – أصحاب هذه الكتب والأفكار – ليسوا من الدعاة إلى الله على بصيرةٍ، وعلمٍ، وعلى حق .
فنحن حين نُبَيِّن أخطاء هذه الكتب – أو هؤلاء الدعاة – ليس من باب التجريح للأشخاص لذاتهم، وإنما من باب النصيحة للأمة(1) أن تتسرب إليها أفكار مشبوهة، ثم تكون الفتنة، وتتفرّق الكلم، وتتشتت الجماعة، وليس غرضنا الأشخاص، غرضنا الأفكار الموجودة بالكتب التي وَفَدَت إلينا باسم الدعوة (2)
__________
(1) …وإن كان ذلك من باب جرح الرجال في عدالتهم، وتوثيقهم، وعدم الاغترار بهم، خصوصًا من كان لهم تأثير، ولهم أتباع، كقادة الحركات؛ فهذا موجود في كتب الجرح والتعديل، وكتب الرجال والسِّير، ولا حرج في ذلك لمن كان أهلاً له؛ فهذا للتعريف بحال الرجل، والتحذير منه، وليس للتشفي .
فهذا الإمام أحمد – رحمه الله – سئل عن حسين الكرابيسي فقال : (( مبتدع )) .
تاريخ بغداد : ( 8/66 ) .
وسئل عن المحاسبي فقال: (( ذاك رجل سوء، لا تكلمه ولا كرامة )) ، وقد سبق ذلك معنا.
وسئل أبو زرعة عن الحارث المحاسبي وكتبه فقال للسائل : (( إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر )) . التهذيب : ( 2/117 ) .
(2) …للأسف الشديد فقد تلقى بعض الدعاة، وبعض الشباب في بلاد التوحيد هذه
…الكتب المشبوهة والمنحرفة بالقبول، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، بل قد وُجِد من يثني ويعظّم : أبا الأعلى المودودي وكتبه، ومحمد سرور بن نايف زين العابدين، وحسن البنا، وسيد قطب، ومحمد قطب، وحسن الترابي، وأمثالهم وأضرابهم من أهل البدع، كصلاح الصاوي، ومحمد أحمد الراشد .
فإن قال قائل : لماذا تَجمع هكذا بالجملة؟، لأن الذين ذكرت أسماءهم قد وصلوا إلى ما لم تصل إليه من الشهرة ؟ ! .
……=
=…فأقول : إن الشهرة لا تمنع من بيان الحق الذي هو أحب إلينا من كل أحد؛ فمنهج السلف واضح في التحذير من المناهج المنحرفة والهدامة، والذي ينبغي للمعترض أن يقوله: هاتِ الأدلة على هؤلاء الذين ذكرتهم ؟ .
فأقول :
أولاً:(المودودي): يقول في كتابه: "رسائل ومسائل " ص (57) طبعة 1351هـ :
…(( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظن خروج الدجال في عهده أو قريبًا من عهده، ولكن مضَت على هذا الظن ألف سنة وثلاثمائة سنة وخمسون عامًا، قرونًا طويلة ولم يخرج الدجال؛ فثبت أن ما ظنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن صحيحًا )) !! .
…وزاد في طبعة سنة 1362هـ : (( وقد مضت ألف .. ولم يخرج الدجال؛ فهذه هي الحقيقة )) .
…وهذا إنكار واضح لخروج الدجال، التي تواترت بخبر خروجه الأحاديث الصحاح. وقال ص (55) : (( كل ما رُوِي في أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - في الدجال ثبت أن كل ذلك كان رأياً وقياسًا منه - صلى الله عليه وسلم -، وكان في ريبة من أمره )) .
…أليس هذا إنكارًا للدجال ؟، وتكذيبًا لخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله عنه : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
…يقول أبو محمد الحسن بن علي البربهاري : (( ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل، أو يرد شيئاً من آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام، فإذا لم يفعل شيئاً من ذلك فهو مؤمن ومسلم بالاسم لا بالحقيقة )) . طبقات الحنابلة : ( 2/23 ) .
…ويقول المودودي في كتابه " أربعة مصطلحات القرآن الأساسية " ص (156) :
…( إن الله سبحانه أمره - صلى الله عليه وسلم - في سورة النصر بأن يستغفر ربه ما صدر منه من أداء الفرائض [ فرائض النبوة ] من تقصيرات ونقائص ) !! .
…نعوذ بالله من هذا البهتان .
…ألا يكفيه ما وصف الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من صفة ( العبودية )، التي هي أكمل الصفات
……=
=…البشرية ؟ . فوصفه بها في أكثر من آية من كتابه – جل وعلا - ؟؟ .
…أين هو من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث الثلاثة نفر الذين سألوا عن عبادته - وكأنه نص في هذه المسألة -، قال : (( أما إني لأتقاكم لله ... )) الحديث ؟ .
…بل إن المودودي عُرف عنه الاستهزاء بالسنة، ولدى أخواننا أهل الحديث في القارة الهندية ردود علمية عليه، مقرونة بالأدلة، توضّح انحرافاته وانحراف فرقته التي تُسمّى بالإسلامية .
ثانيًا : ( محمد سرور بن نايف زين العابدين )، صاحب مجلة " السنة " والتي تصدر من لندن، وقد ملأ مجلته بالتهييج السياسي، وأشغل الشباب به، ويربِّيهم على تكفير الحكام، وطعن العلماء الربانيين السلفيين أئمة البلاد السعودية، والتكفير بالمعصية .
…وحتى لا أطيل بالإعادة راجع الصفحات : ( 74-79 )، المتن والحاشية من هذا الكتاب، وستجد الوثائق هناك .
ثالثاً : حسن البنا: قد تقدم ذكر بعض حاله ص ( 111-117 )، الحاشية رقم: ( 129 ) .
رابعاً: سيد قطب : تقدم ذكر بعض أقواله في العقيدة ص : (52-53)، ( 84-86 ) الحاشية .
…وأما تَنَقُّضه لعثمان - رضي الله عنه - والقدح فيه : فقد ملأ كتابه " العدالة الاجتماعية في الإسلام " بذلك؛ فيقول : (( هذا التصور لحقيقة الحكم قد تغير شيئًا ما دون شك على عهد عثمان، وإن بقي في سياج الإسلام، لقد أدركت الخلافة عثمان وهو شيخ كبير، ومن ورائه مروان بن الحكم يصرف الأمور بكثير من الإنحراف عن الإسلام )) !! . ص : (214) ط : السابعة .
…ويقول : (( منح عثمان من بيت المال زوج ابنته الحارث بن الحكم مئتي ألف درهم، ومنح الزبير ذات يوم ستمائة ألف، ومنح طلحة مئتي ألف، ونفّل مروان بن الحكم خُمس خراج إفريقية )) ص : (214 ) .
نقول : (( ثبِّت العرش ثم انقش )) ، نريد مصادر هذا الكلام الخطير، وإلا فأقول للقارئ الكريم : راجع في إبطال هذه الإفتراءات كتاب " العواصم من القواصم " لأبي بكر القاضي ابن العربي ص : ( 61-146 ) .
……=
=…ويقول سيد قطب (ص 217) من كتابه " العدالة " : (( مضى عثمان إلى رحمة ربه، وقد خلف الدولة الأموية قائمة بالفعل، بفضل ما مكن لها في الأرض وبخاصة في الشام، وبفضل ما مكن للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام في إقامة الملك الوراثي ... مما أحدث خلخلة في الروح الإسلامي العام )) .
ويقول (ص : 234) : (( ونحن نميل إلى اعتبار خلافة علي - رضي الله عنه - امتدادًا طبيعيًا لخلافة الشيخين قبله، وأن عهد عثمان الذي تَحكَّم فيه مروان كان فجوة بينهما )) .
وللمزيد من المعلومات راجع كتاب الشيخ : ربيع بن هادي المدخلي " مطاعن سيد قطب في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
يقول سيد قطب في كتاب " معركة الإسلام والرأسمالية " : ص (61) .
(( ولا بد للإسلام أن يحكم، لأنه العقيدة الوحيدة الإيجابية الإنشائية التي تصوغ من المسيحية والشيوعية معًا مزيجًا كاملاً يتضمن أهدافها جميعًا ويزيد عليهما التوازن والتناسق والاعتدال )) .
سئل الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين عن هذه المقالة، فأجاب– رحمه الله-:
…" نقول له إن المسيحية دين مبدل، والشيوعية دين باطل لا أصل له، ومن قال إن الإسلام مزيج من هذا وهذا فهو إما جاهل بالإسلام، وإما مغرر بما عليه الأمم الكافرة من النصارى والشيوعيين "اهـ .
…وقال الشيخ المحدث إسماعيل بن محمد الأنصاري – رحمه الله – جوابًا على هذه المقالة:
" فإن كلمة ذلك المدَّعي المذكور كلمة تدعو إلى وحدة الأديان وإلى التقريب بينهما " اهـ .
وقال الشيخ المحدث حماد بن محمد الأنصاري–رحمه الله–جوابًا على هذه المقالة نفسها:
"إذا كان قائل هذا الكلام حيًا فيجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا، وإن كان قد مات فيجب أن يبين أن هذا كلام باطل ولا نكفره لأننا لم نقم عليه الحجة" ا. هـ . جميع هذه النقول من كتاب : " العواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم " ص (22) ط. الثانية .
خامسًا: …" حسن الترابي "، يقول في كتابه : " الدين والفن " (ص 91) ط
……=
=… الأولى1408هـ،الدار السعودية :
(( لَمَّا كان الدين ممارسة رمزية – أيضًا -، تتفاعل مع الغيب، وتتجاوز ظاهرة الحياة الدنيا، وتتطلع للخلود؛ فتدرك من كل شيء آية، وتتخذ من كل وسيلة إلى الله؛ فإن الفن وثيق صلة بالدين، ويمكن للدين، والفن أن يتساوقا فيهدي الفنان إلى الإيمان، ويلهمه إيمانه فنًا زائدًا )) ا. هـ .
ومثل هذا الكلام لا يحتاج إلى تعليق !! .
ويقول الترابي (ص 98) : (( وما كان للفن الإسلامي أن يستكمل نهضته في طوره الأول في بلاد العرب، لاسيما أن المادة الثقافية، والتراث الفني الموروث غير الشعر ضئيلاً، ولما تجاوزت مراكز الحضارة بلاد العرب، ولما فرغ الناس بعد قيام مؤسسات الإسلام في الحجاز، واتسعت لهم الحياة وإمكاناتها؛ انتشر الغناء والطرب وآلاته، وروي السماع عن كثير من التابعين والعلماء )) ا. هـ .
…تأمَّل أيها القارئ الكريم، كيف أن الترابي يثني على الطرب والغناء، ويتهم التابعين والعلماء بأنهم أصحاب سماع ( طرب وغناء ) عامله الله بما يستحق .
…ويقول – أيضًا ( ص 106 ) من الكتاب نفسه : (( فلا بأس بالرسم: تصويرًا، أو تمثيلاً، للشخوص، والأشياء، والمشاهد" .
ولا بأس بالكلام الطيب الجميل : شعرًا، أو ملحميًا، أو دراميًا، أوغنائيًا .
ولا بالنثر : خطابيًا، أو قصصيًا، أو غير ذلك؛ إلا ما يحتوي باطلاً .
ولا بأس بالفن المسموع والمرئي : غناءً، أو رقصًا، أو موسيقى؛ إلاَّ أن يؤدي إلى محظور من الأخلاق .
ولا بالفن الأدائي الهادف : تمثيلاً بالمسرح، أو لأغراض الاتصال العام كالسينما والتلفزيون )) ا هـ .
وهذه جرأة على الدين – نسأل الله السلامة والعافية – بإباحته الغناء، والموسيقى، والرقص، والتمثيل المسرحي والسينمائي، وغيره .
فاللهم اهدِ ضال المسلمين . آمين .
……=
=…أيها القارئ الكريم : وددتُ أني لم أثقل سمعك بهذه العبارات السقيمة، الممرضة للقلوب؛ لولا أنه من الواجب تبيين أخطاء وزلات وخطورة هذا الرجل وأضرابه؛ ليعرفه الناس على حقيقت، ولا يغتروا به، ولا ينخدعوا أكثر مما انخدعوا به .
وخذ مني هذه الأخيرة :
يقول الترابي (ص110) من المصدر السابق : (( فلا بد من اتخاذ الفن لعبادة الله؛ فمن تلقائه يضل كثير من الضالين، وبه يمكن أن يهتدي المهتدون، فمن أهمله – يعني : الفن – ترك بابًا واسعًا للفتنة الملهية عن الله، والداعية إلى معاصيه، ومن أخذه بما ينبغي فتح بابًا واسعًا للدعوة إلى الله بدفع جاذبية الجمال ولعبادته أجمل وجوه العبادة )) .
…انظر إلى هذه الدعوة الصريحة من الترابي إلى الفن، والتحذير لمن أهمله، وأن من أخذه فتح بابًا، وليته اكتفى بذلك بل بابًا واسعًا للدعوة إلى الله .
…وهذا هو حال (( الإخوان المسلمون )) يجيزون التمثيل، والأناشيد الصوفية المبتدعة، وكذا الكذب والمراوغات، وكل ذلك من أجل (( مصلحة الدعوة )) - بزعمهم -، وهذه من علامات ومميزات (( الإخوان المسلمون ))، وعندهم : أن (( الغاية تبرر الوسيلة )) .
ومن معالمهم : (( المراكز الصيفية )) ، و (( الرحلات البرية والمخيمات )) ، وهي من توصيات وتخطيط مؤسس (( فرقة الإخوان المسلمون )) : حسن البنا، والشاهد على ذلك ما قاله حسن البنا في " مذكرات الدعوة والداعية " (ص270) :
(( وقد أنشئت هذه الفِرق ... فِرق رحلات الإخوان المسلمين عقب نشأة الدعوة، وكادت تلازم أول شُعَبِها وجودًا، وقد ألَّفت بنفسي أول فِرقة، وكنتُ أزاول تدريبها بشخصي على بعض التمرينات الرياضية )) ا. هـ .
ولنتعرّف أخي القارئ على ما يدور في هذه (( الرحلات الصيفية )) ، يقول " حسن البنا " في " مذكراته " (ص280) تحت عنوان : (( نواحي النشاط : أولاً : قسم الرحلات الصيفية : الغرض من هذه الرحلات: التدريب العسكري، والتعارف، ونشر الدعوة، تنظيم الرحلات في يوم جمعة من كل أسبوع مدة شهور
……=
=…الإجازة الصيفية، ويُشترط أن يكون لدى الأخ لباس الجوّالة، أو التدريب العسكري )) .
قلتُ : رحلات ومراكز اليوم هنا، والتي نشاهدها لا تطلب لباس التدريب العسكري؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لانكشفت أوراقهم، وافتضح أمرهم ومخططاتهم، ولكنهم يطلبون إحضار اللبس الرياضي؛ فتأمَّل !!! .
ويستمر حديث " حسن البنا " فيقول : (( ومعسكر الصيف : الغرض من هذه المعسكرات التدريب العسكري، والرياضة البدنية في الهواء الطلق، والرياضة
…الرومية...، يقسَّم الإخوان المشتركون إلى فِرق، ويُشترط أن يكون لدى الأخ لباس الجوّالة، أو التدريب العسكري )) ا هـ .
…وفي مخيمات المراكز الصيفية تدريبات على الحراسة والهجوم والمداهمة بالليل من قِبَل بعض المجموعات على بعض، حسب الجدول والتنظيم الذي أُعِدّ من قبل، كما أنهم يتدربون على تسلّق الجبال، وذلك استعدادًا منهم – زعموا – للجهاد في أي وقت وفي أي مكان ويعتبرون التفجيرات والاغتيالات جهاداً " يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان " .
أيها القارئ الكريم : إذا كنت تريد أن تتأكد من أن هذه المراكز الصيفية، والمعسكرات، والمخيمات، التي تراها اليوم – وقد تكون شاركت فيها يومًا من الأيام، أو أبناؤك، وقد تكون ما تزال تشارك فيها – هي امتداد لتلك المراكز، والمعسكرات، والرحلات، والمخيمات التي أنشأها " حسن البنا "، وأوصى بها؛ فاسمع حسن البنا ماذا يقول، وأعرضها على الترتيبات التي واجهتك، ومسميات المخيمات التي تنامون فيها، والمجموعات التي معك؛ فيقول – وهو يروي موقف صاحب له - : (( ولقد حدثني – رحمه الله – بنفسه : أنه في إحدى دوريات الحراسة قبل فجر ليلة من الليالي؛ مَرَّ يتفقد الخيام، وكانت مسماة بأسماء أبطال الصحابة؛ فهذه خيمة أبي بكر، وهذه خيمة أبي عبيدة، وهذه خيمة خالد، وأخرى لسعد بن أبي وقاص، وهكذا ... )) " المذكرات " ( ص 289 ) .
قلت : إذا رأيت بعد هذه النقول من أقوال أهل البدع وكلامهم في العقيدة، وفي التنقُّص لسيد ولد آدم – عليه الصلاة والسلام -، فمن يثني عليهم، أو يمجدهم، أو
……=
=… يعظم كتبهم، أو يعتذر لهم؛ فألحقه بهم ولا كرامة ولا نعمى عين .
وهذا هو منهج السلف الصالح – رضي الله عنهم - .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( ويجب عقوبة كل من انتسب إلى أهل البدع، أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظَّم كتبهم، أو عُرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو
…كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم؛ فإن القيام عليهم من أوجب الواجبات )) .
" الفتاوى " : (2/132) .
…وقال ابن عون : (( من يجالس أهل البدع أشد علينا من أهل البدع )) . " الإبانة ": (2/473) .
وقال سفيان الثوري : (( من ماشي المبتدعة عندنا فهو مبتدع )) .(41/80)
.
س 56 : ما هو منهج أهل السنة في نقد الرجال وذكر الأسماء، وهل تبيين أخطاء بعض الدعاة فتنة يجب الكف عنها ؟
جـ/ الخطأ يبين، لا بد أن يبين الخطأ من الصواب، أما الأشخاص فليس في تناول شخصياتهم فائدة، بل فيها مضرة. نحن لا نتعرض للأشخاص، وإنما نبين الأخطاء ونبين الصواب للناس، من أن يأخذوا بالصواب ويتركوا الخطأ. وليس الهدف من ذلك هو النيل من الشخصيات أو التشفي منها، ليس هذا هو الغرض، الذي قصده التشفي هذا صاحب هوى، أما الذي قصده بيان الحق للناس هذا ناصح للمسلمين .
وإذا اقتضى أن يُسمى الشخص المردود عليه من أجل أن يعرفه الناس، فهذا من أجل المصلحة الراجحة .
المحدثون يسمون الرواة المجروحين، يقولون : فلان، وفلان. فلان كذاب، فلان سيء الحفظ، فلان مدلس، يبينون يقولون فلان. ليس قصدهم النيل من الشخص، وإنما قصدهم بيان الحق وأن يعرف هذا الشخص بأن في روايته للحديث مطعن حتى يجتنبه الناس ويأخذوا حذرهم منه. فالمدار على المقاصد فإن كان القصد؛ النيل من الشخص فهذا هوى ولايجوز .
وإن كان القصد بيان الحق والنصيحة للخلق فلا بأس لذلك والحمد لله (1) .
- - - - -
س 57 : هل التحذير من المناهج المخالفة ودعاتها يعتبر تفريقًا للمسلمين وشقًا لصفهم ؟ .
جـ / التحذير من المناهج المخالفة لمنهج السلف يعتبر جمعًا لكلمة المسلمين لا تفريقًا لصفوفهم، لأنّ الذي يفرّق صفوف المسلمين هو المناهج المخالفة (2)
__________
(1) …قال ابن المبارك : (( المعلى بن هلال هو، إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب فقال له بعض الصوفية : يا أبا عبدالرحمن تغتاب؟، فقال : (( أسكت، إذا لم نُبين، كيف يُعرف الحق من الباطل )) )) . " الكفاية " : (9) .
(2) …إن السنّة وإقامتها والدعوة إليها لم ولن تكون يوماً من الأيام مفرقة لصف المسلمين، ولم يكن التحذير من البدع والأهواء وأهلها- أيضًا – تفريقًا لصف المسلمين، بل إن ذلك كله يعتبر جمعًا للصف والكلمة .
والدليل على ذلك تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه – والخطاب عام لأمته – من الخوارج
……=
=…في الحديث المشهور – وقد تقدم ذكره في هذه الرسالة - .
…بل السكوت على البدع والأهواء وأهلها، وعدم الكلام في المناهج المخالفة لمنهج السلف بدعوى : لا تغتابوا العلماء . ومرّة : لحوم العلماء مسمومة. ومرّة : لا تشوشوا على الناس. ومرّة : لا تفرقوا بين المسلمين، ولنتحد ضد عدونا اللدود. ومرة بعبارة ساذجة نسمعها كثيراً: تردون على إخوانكم وتتركون الكفار والمنافقين والعلمانيين وما أشبه ذلك من العبارات، وهي (( كلمة حق أريد بها باطل )) .
…بل مثل هذا هو من تفريق الصف والكلمة للمسلمين، مع أن هؤلاء في الحقيقة هم عدونا اللدود، فإن العدو من الداخلي أشد خطراً من العدو الخارجي .
يقول الشيخ بكر أبو زيد في كتابه " الرّد على المخالف من أصول الإسلام " ( ص/87 ) : " العلماء قُدُرات، وكُلٌّ يزاول ما يحسن، حسب قدرته، فهو على ثغر يحميه من أي عدوان عليه .
فعالم يردّ على ملحد . وآخر على صاحب بدعة خفيفة . وثالث على صاحب فسوق. وآخر يرد على رأي شاذ . كل ذلك حسب القدرة والتأهيل" .
ويقول ( ص /79 ) : " في السكوت عن المخالفين وتخذيل المصلحين أمور مضِرّة بالدين والدنيا، منها : نزول أهل السنة درجات . ارتفاع أهل الأهواء على أهل السنة. فشو الشبهة. ومداخلتها للاعتقاد الحق . تحريك العقيدة عن مكانتها بعد ثباتها . فيضعف الاعتقاد السليم . ظهور المبطلين في المجامع وعلى درجات المنابر . كسر الحاجز النفسي بين السنة والبدعة، والمعروف والمنكر، فيستمرئ الناس بالباطل، وتموت الغيرة على حرمات الدين، ويستعصي إصلاح الدهماء على العلماء، ويجفلون من نصحهم ) . ننصح بقراءة هذا الكتاب .
إن الردّ على أهل الأهواء والبدع، والتحذير من البدع؛ له ثمرات طيبة، يقول بكر أبو زيد – حفظه الله -: " القيام بهذا الواجب الكفائي -يعني : الرد على المخالف-يحقق مطالب شرعية، وثماراً مباركة، تلتمع في حياة المسلمين، منها : اتقاء المضار – آنفاً – الناجمة عن السكوت . نشر للسنة، وإحياء لما تآكل منها، فكما
……=
=…يكون نشرها بالعمل بها والدعوة إليها، فكذلك بردّ العدوان عليها . ونصح للمخالف، وتنقية الساحة من المنكودين بالتعريف عليهم بما خالفوا به أمر السنة والكتاب، فابتدعوا، وفجَرُوا، ونابذوا السنة، وآذوا المسلمين ) . الرد على المخالف : ( 83 ).(41/81)
لمنهج السلف .
س 58 : البعض من الناس – هداهم الله – يقدِّسون الرجال، ويتعصبون لآرائهم، فما نصيحتكم لهؤلاء ؟ .
جـ / الواجب اتباع الحق مع من كان (1)، لا اتّباع الرجال المخالفين للحق (2) .
قال الإمام أحمد – رحمه الله - : (( عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان )) (3)، والله – تعالى – يقول : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (4) .
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- : (( يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول : قال الله، وتقولون : قال أبو بكر وعمر )) (5) .
فإذا كان هذا التحذير والوعيد في اتباع أفضل الناس بعد الأنبياء من غير دليل، فكيف باتباع من هو (( لا في العير ولا في النفير ))، ممن لا يُعرف بعلم ولا فضل، إلا أنه يجيد شقشقة الكلام ؟ !! .
- - - - -
س 59 : كيف يمكن تعامل الشباب المبتدئ مع المبتدعين وأصحاب الأفكار الهدّامة والعقائد الضالة ؟ .
__________
(1) …قال الأوزاعي : (( ندور مع السنّة حيث دارت )) اللالكائي : ( 1/64 رقم 47 ) .
(2) …عن زكريا بن يحيى بن صبيح قال :" سمعت أبا بكر بن عياش قال له رجل : يا أبا بكر من السنّي ؟، قال : الذي إذا ذكرت الأهواء لم يتعصب لشيء منها" اللالكائي : ( 1/65 رقم 53 ) .
(3) …(( فتح المجيد شرح كتاب التوحيد )) : ( 386 ) .
(4) …النور : 63 .
(5) …أورده شيخ الإسلام : محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – بهذا اللفظ في " كتاب
…التوحيد "، ( باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلّ الله … )، وهو في " مسند أحمد " : ( 1/337 ) بلفظ : (( أُراهم سيهلكون، أقول : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ،
……=
=…ويقول : نهى أبو بكر وعمر )) وصحح إسناده أحمد شاكر، رقم : ( 3121 )، وأخرجه الخطيب في " الفقيه والمتفقه ": ( 1/145 )، وانظره في"الآداب الشرعية" لابن مفلح : ( 2/66 ) .(41/82)
جـ / الشباب يتجنَّبون المبتدعين، وأصحاب المناهج الهدامة والأفكار الضالة، يبتعدون عنهم وعن كتبهم، ويلازمون أهل العلم والبصيرة، وأهل العقيدة السليمة، ويتلقون العلم عنهم، ويجالسونهم، ويسألونهم .
أما أصحاب البدع والأفكار الهدامة؛ فيجب على الشباب الابتعاد عنهم، لأنهم يسيئون إليهم، ويغرسون فيهم العقائد الفاسدة والبدع والخرافات، ولأن المعلّم له أثره على المتعلم؛ فالمعلم الضال ينحرف الشاب بسببه، والمعلم المستقيم يستقيم على يديه الطلبة والشباب؛ فالمعلم له دور كبير، فلا نتساهل في هذه الأمور (1) .
س 60 : كيف تكون المناصحة الشرعية لولاة الأمور ؟ .
جـ / مناصحة ولاة الأمور تكون بأمور؛ منها :
الدعاء لهم بالصلاح والاستقامة؛ لأنه من السنة الدعاء لولاة أمور المسلمين (2)
__________
(1) …جزى الله شيخنا خير الجزاء؛ فقد بَيَّن المنهج السلفي للشباب في التعامل مع أهل
…البدع؛ وهو : البعد عنهم وعن كتبهم .
فلو قال شيخنا : نأخذ الخير الذي عندهم ونترك الشر لهم، كما هي قاعدة أهل
……=
=…الموازنة في هذا العصر، وكما هو واقع بعض الدعاة : " خذ خيره واترك شره "؛ لضل الشباب، ولتميع وضاع المنهج السلفي، ولتلوثّت عقائد الأجيال القادمة .
…فالحمد لله الذي جعل في كل عصر ومصر من ينافح عن المنهج السلفي، ويُبَيِّنه، ويظهره للناس على بساط التطبيق، وإن رغمت أنوف .
راجع جواب الشيخ على سؤال رقم ( 19 ) ص(ص49-60).
يقول الفضيل بن عياض – رحمه الله - : (( إنما هما عالمان : عالم دنيا، وعالم آخرة؛ فعالم الدنيا علمه منشور، وعالم الآخرة علمه مستور، فاتبعوا عالم الآخرة، واحذروا عالم الدنيا، لا يصدكم بسكره )) " حلية الأولياء " : ( 8/92 ) .
(2) …قال الإمام أبو محمد الحسن بن علي البربهاري في كتابه " شرح السنة " : (( إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة – إن شاء الله - )) .
…ص : ( 116 )، تحقيق : أبي ياسر خالد الردادي .
…وآثار السلف في الدعاء للسلطان كثيرة :
…فهذا الفضيل بن عياض – رحمه الله – يقول : (( لو كان لي دعوة مستجابة ما صَيَّرتها إلا في الإمام، قيل له : وكيف ذلك يا أبا علي ؟، قال : متى صيرتها في نفسي لم تجزني، ومتى صيرتها في الإمام فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد )) .
…حلية الأولياء : ( 8/91 ) .
…وقال الإمام أحمد مملياً ابنه عبدالله : (( وإني أسأل الله – عز وجل – أن يطيل بقاء أمير المؤمنين، وأن يثبته، وأن يمده منه بمعونة، إنه على كل شيء قدير )) . كتاب " السنة " لعبدالله : ( 1/140 ).(41/83)
، ولا سيما في أوقات الإجابة، وفي الأمكنة التي يُرجى فيها إجابة الدعاء.
قال الإمام أحمد : (( لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان ))(1) .
إذ في صلاح السلطان صلاح للمجتمع، وفي فساد السلطان فساد للمجتمع .
ومن النصيحة لولاة الأمور: القيام بالأعمال التي يسندونها للموظفين.
ومن النصيحة لهم : تنبيههم على الأخطاء والمنكرات التي تحصل في المجتمع – وقد لا يعلمون عنها -، ولكن يكون هذا بطريقة سِرِّية فيما بين الناصح وبينهم (2)، لا النصيحة التي يجهر بها أمام الناس، أو على المنابر؛ لأن هذه الطريقة تثير الشر، وتحدث العداوة بين ولاة الأمور والرعية .
ليست النصيحة أن الإنسان يتكلم في أخطاء ولاة الأمور على منبر، أو على كرسي أمامَ الناس؛ هذا لا يخدم المصلحة، وإنما يزيد الشر شراً (3)
__________
(1) …" مجموع الفتاوى " : ( 28/391 )، " كشاف القناع " : ( 2/37 ) .
(2) …وهذه هي الطريقة المثلى الحقة في مناصحة ولاة الأمور، وقد وجهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها فقال: (( من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علانية، وليأخذه بيده وليخل به؛ فإن قبلها قبلها، وإلا كان قد أدى الذي عليه والذي له )) سبق تخريجه، ص : ( 108 ) .
(3) …التشهير بالنصيحة فيه عدة محاذير :
أولاً : فيها نوع من الرياء وحب الظهور، ولا يخفي ما في هذا من الشر على الإنسان نفسه من إحباطٍ لعمله؛ لأن العمل إذا كان مستوراً كان أرجى للقبول عند الله .
…ثانياً : لا يُرجى لها القبول عند المنصوح؛ لأنه يرى أنها فضيحة له وليست نصيحة، وقد تأخذه العزة بالإثم؛ فيكون على الشخص الناصح كِفل من الوزر .
ثالثاً : أن التشهير بالحكام على المنابر – وإن كان ما يقال صحيحاً – فيه…=
=…تهييج للعامة، وإغار لصدور الرعية على ولاة الأمور، وقد يفضي إلى عدم السمع والطاعة بالمعروف، وهذا من منهج الخوارج .
وما حدثت فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - إلا بسبب ما قام به بعض من جهل السنة تبعاً للمغرضين فيما موَّهوا به على الناس في حق الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - . راجع الصفحات : (45-49) .
فلا يجوز تربية الشباب والعامة على هذا المنهج الخبيث، الذي يُؤدي بالناس إلى الهلاك، بل تجب محاربته بالبيان، والتوضيح بالكتاب والسنة، على منهج السلف الصالح من هذه الأمة . والله أعلم .(41/84)
.
إنما النصيحة أن تتصل بولاة الأمور شخصياً، أو كتابياً، أو عن طريق بعض الذين يتصلون بهم (1)، وتبلغهم نصيحتك سراً فيما بينك وبينهم .
وليس من النصيحة – أيضاً - : أننا نكتب نصيحة وندور بها على الناس، أو على كل أحد ليوقعوا عليها، ونقول : هذه نصيحة . لا، هذه فضيحة؛ هذه تعتبر من الأمور التي تسبب الشرور، وتُفرِح الأعداء، ويتدخل فيها أصحاب الأهواء .
- - - - -
س 61 : لقد انتشرت – ولله الحمد – الدعوة إلى منهج السلف والتمسك به، ولكن هناك من يقول : إن هذه الدعوة إنما هي لشق الصف وتمزيقه، وضرب المسلمين بعضهم ببعض ليشتغلوا بأنفسهم عن عدوهم الحقيقي، فهل هذا صحيح وما هو توجيهكم ؟ .
جـ / هذا من قلب الحقائق، لأن الدعوة إلى التوحيد ومنهج السلف الصالح تجمع الكلمة، وتوحّد الصَّف، كما قال الله – تعالى - : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } (2)، وقال تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } (3)؛ فلا يمكن للمسلمين أن يتَّحِدوا إلا على كلمة التوحيد ومنهج السلف، وإذا سمحوا للمناهج المخالفة لمنهج السلف الصالح تفرّقوا واختلفوا، كما هو الواقع اليوم .
فالذي يدعو إلى التوحيد، ومنهج السلف؛ هو الذي يدعو إلى الاجتماع، والذي يدعو إلى خلافه؛ هو الذي يدعو إلى الفُرقة والاختلاف (4)
__________
(1) …مثل : العلماء – وفقهم الله - .
(2) …آل عمران : 102 .
(3) …الأنبياء : 92 .
(4) …إن الدعوة إلى التوحيد عند (( فرقة التبليغ )) وفِرقة (( الإخوان المسلمون )) أمر مُنَفِّر، ومفرّق للمسلمين- زعموا -، ولا يرون الدعوة إلى التوحيد من أصول دعوتهم، ولا يرضون بمن يدعون إلى التوحيد، بل إنهم يحذرون من يدخل معهم من أن يتكلم في التوحيد .
…وهذه واقعة وقعت للأستاذ : محمد بن عبدالله بن محمد الأحمد نفسه، ذكرها الشيخ حمود التويجري - رحمه الله - في كتابه : " القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ " (ص 46)، باختصار .
(( فقال الأستاذ محمد : طلب مني الأمير – يعني : أمير " فرقة التبليغ " – توجيه كلمة إلى الحُجَّاج بعد صلاة العصر، وحيث أَنّي حديث عهد بالخروج مع هذه الجماعة، فقد طلب الأمير من مساعده توجيه كلمة إليَِّ، فقال المساعد: يجب عليك أن تتجنب في حديثك ثلاثة أشياء – وذكر منها وهو المقصود – الكلام في
……=
=…الشركيات وأنواع البدع، لأن سبب انحسار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب هو الاهتمام الزائد في ذلك )) .
قلت : والأمثلة في ذلك كثيرة جداً، راجع الكتاب المذكور تجد العجب العجاب .
أما (( فرقة الإخوان المسلمون )) فإن هذه الفرقة مؤسسة على التجميع، فهي تجمع بين طيّاتها جميع أهل البدع والأهواء، فالرافضي أخوهم ومنهم وفيهم، وكذا الجهمي والمعتزلي والخارجي، وأصحاب الموالد،والقبوري، والصوفي،بل اليهودي والنصراني.
وخذ هذا البرهان :
…قال حسن البنا : (( إن خصومتنا لليهود ليست دينية، لأن القرآن الكريم حض على مصافاتهم ومصادقتهم )) سبق تخريجه حاشية ( 54 ) .
سئل سماحة الإمام ابن باز - رحمه الله – عن هذه المقولة، فقال : "هذه مقالة باطلة خبيثة . اليهود من أعدى الناس للمؤمنين ومن أشر الناس، بل هم أشد الناس عداوة للمؤمنين مع الكفار فهذه المقالة خاطئة ظالمة، قبيحة، منكرة .
وقال أيضاً – رحمه الله - : إذا قال ليس بين الإسلام وبين اليهود شيء فهذا كفر وردة . نقلاً من كتاب " العواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم " ص : ( 65-66 ) ط. الثانية .
…وفي حق النصارى، ما نقل جابر رزق ( الإخواني ) في كتابه : " حسن البنا بأقلام تلامذته ومعاصريه " ص : ( 188 ) مقالاً للدكتور حسان حتحوت ( الإخواني ) بعنوان : (( تهمة التعصب )) ؛ فقال : فماذا عن (( قنا )) ؟، البداية حفل كبير زاخر على رأسه علماء المسلمين وقُسس الأقباط، ومحبة، ونشاط، وإخاء يسري كسري الكهرباء ... وعلى ذكر قسس الأقباط؛ فإن الكثيرين يحاولون أن يلصقوا بالرجل – يعني به : حسن البنا – ودعوته تهمة التعصب ضد النصارى، أو التفرقة بين عنصري الأمة، ويشهد الله ومن حضر من الصادقين أن العكس هو الصحيح ... فلم يكن الرجل داعية بغض ولا تفرقة، وكان يبرهن أن الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تكون للأقباط لأنها ستطبق علينا وعليهم على السواء، وأنها لا تصادر على الإطلاق نصرانيّة النصراني، فإنما هي مجموعة من القوانين لا يوجد في النصرانيّة بديل لها، ولا نقيض لأحكامها، وأنه لو وجدت في الإنجيل قوانين فلتسر=
=…قوانين الإنجيل على النصارى، ولا يجد الإسلام غضاضة في ذلك، وأنه ما دام رأي الأغلبية لا يتنافى مع دين الأقلية فليس هناك ظالم ولا مظلوم .
وقد وجدتْ دعوة الرجل- حسن البنا – صداها وتصديقها لدى ذوي الفهم من المسلمين والأقباط ... ويكفي أن أُذكّر الذين يزعمون أن الرجل كان عدوّ النصارى بأن الأستاذ "لويس فانوس" من زعماء الأقباط –وهو في ذمة ربه الآن– كان من الزبائن المستديمين لدرس الثلاثاء الذي يلقيه " حسن البنا "، وكانت بينهما صداقة وطيدة، وأن " حسن البنا " عندما تقدم مرشحاً للانتخابات " البرلمان " كان وكيله الذي يمثّله في مقر إحدى اللجان الانتخابية رجلاً قبطياً، وأن حسن البنا لما اغتيل ومنعت الحكومة أن يشيع في جنازة، لم يمش وراء نعشه إلا رجلان هما والده ومكرم عبيد الزعيم السياسي النصراني، وأذكر أننا كنا ونحن طلاب نزور جمعيات الشباب المسيحية لنتحدث عن موقف الإسلام من النصرانية، فنخرج وقد شعرنا أنهم أقرب الناس مودّة )) ا هـ .
…قلت : لا يحتاج هذا المقال إلى تعليق فإنه واضح، وأكتفي بهذا المقال الذي نقلته وإن كان طويلاً، إلاّ أني أردت أن يفهم الجميع أن قاعدة (( الإخوان المسلمون )) : التجميع تحت اسم الإسلام، ولا يهمهم تصفية العقائد، لأن الدعوة إلى التوحيد، ومنهج السلف؛ لا توصلهم إلى مصادقة اليهود، والنصارى، والرافضة، وأهل البدع، والأهواء الضالة المضلة .
وقاعدتهم هي عبارة حسن البنا المشهورة، قال الدكتور حسان حتحوت : (( ومن تعاليم الأستاذ " البنا " التي طالما ردّدها بلا ملل؛ قولته المشهورة التي لا تزال حيّة إلى اليوم : " ننفذ معًا ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه " )) من الكتاب المذكور ( ص 190 ) . قال الإمام ابن باز – رحمه الله – أما عُذر بعضنا لبعض فيما اختلفنا فيه فليس على إطلاقه . فما كان من مسائل الاجتهاد التي يخفى دليلها فالواجب عدم الإنكار فيها من بعضنا على بعض، أما ما خالف النص من الكتاب والسنة فالواجب الإنكار على من خالف النص بالحكمة والموعظة الحسنة . مجموع فتاواه : ( 3/58 ) .وهذه المقولة على إطلاقها واضحة جلّية أنها =
=…تعارض قاعدة الولاء والبراء، والحب في الله والبغض في الله، وأصلها قاعدة صاحب مجلة " المنار " المعروفة، انتحلها الإخوان؛ لأنها وافقت هوىً في نفوسهم :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ……فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
يقول الشيخ بكر أبو زيد – حفظه الله – في كتابه " حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية ": (ص 149). معلقاً على هذه العبارة "ننفذ معاً" المشهورة عند (( الإخوان المسلمون )) والمعترف بها عندهم؛ يقول :
"وهذا تقعيد حادث فاسد، إذ لا عذر لمن خالف في قواطع الأحكام في الإسلام، فإنه بإجماع المسلمين لا يسوغ العذر ولا التنازل عن مسلمات الاعتقاد، وكم من فرقة تنابذ أصلاً شرعياً وتجادل دونه بالباطل ؟ .(41/85)
.
س62: ما هي السلفيّة؟،وهل يجب سلوك منهجها والتمسك بها؟ .
جـ/ السلفية هي : السير على منهج السلف، من : الصحابة، والتابعين، والقرون المفضَّلة، في العقيدة، والفَهم، والسلوك، ويجب على المسلم سلوك هذا المنهج(1)، قال -تعالى- { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } الآية (2)، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا } (3)،
__________
(1) …ليست السلفية حزبًا من الأحزاب كما يظنه البعض ويدّعيه، بل هي نسبة إلى السلف الصالح، واقتداء بمنهجهم – كما بيّن الشيخ حفظه الله -، لأنهم – أي : الصحابة – كما وصفهم ابن مسعود - رضي الله عنه - بقوله : (( من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أَبَرَّ الناس قلوبًا، وأغزرهم علماً، وأقلّهم تكلّفًا )) " جامع بيان العلم وفضله " ( ص 419 )، و " مشكاة المصابيح "( 1/67 -رقم 193 )، و من قول ابن عمر - رضي الله عنه - عند أبي نعيم في " الحلية " ( 1/305 ) .
…وهذه فتوى اللجنة الدائمة : " السلفية نسبة إلى السلف والسلف هم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة الهدى من أهل القرون الثلاثة الأولى - رضي الله عنهم - والسلفيون جمع سلفي نسبة إلى السلف، وهم الذين ساروا على منهاج السلف من إتباع الكتاب والسنة والدعوة إليهما والعمل بهما فكانوا بذلك أهل السنة والجماعة ". ا هـ . فتاوى اللجنة : 2/165 من الفتوى رقم ( 1361 ) .
…راجع حاشية رقم ( 26 ) ففيها التوضيح الواسع عن السلفية، ولا داعي للإعادة .
(2) …التوبة : 100 .
(3) …الحشر : 10 .(41/86)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )) (1) .
- - - - -
س 63 : لقد انتشر فكر جديد، ورأي جديد، وهو عدم تبديع من أظهر بدعة حتى تقام الحجة عليه ولايبدع حتى يقتنع ببدعته دون الرجوع إلى أهل العلم والفتوى، فما هو منهج السلف في هذه المسألة الهامة ؟ .
جـ / البدعة (2) هي ما أحدث في الدين من زيادة أو نقصان أو تغيير من غير دليل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من
أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) (3).
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار )(4) ، وقال تعالى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } (5).
__________
(1) …صحيح بمجموع طرقه، أخرجه أحمد : ( 4/126 )، الترمذي : ( 2676 )، الحاكم: ( 1/96 )، البغوي في " شرح السنّة " : (102 ) .
…وقد سبق برقم : ( 10 ) بزيادة تخريج .
(2) …البدعة؛ لغة : الاختراع على غير مثال سابق .
…شرعاً : طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه . " الاعتصام " : ( 1/50 ) .
(3) …البخاري : ( 2550 )، مسلم : ( 1718 ) .
(4) …النسائي : في " المجتبى " : ( 1577 ) ، الحاكم : ( 1/97 ).
(5) …الأعراف : 3 .(41/87)
فالبدعة إذاً إحداث شيء في الدين، ولا تُعرف بآراء هؤلاء ولا بأهواء هؤلاء، وليس الأمر راجعاً إليهم، وإنما الأمر راجع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فليست السنة ما تعارفه الناس، والبدعة ما لم يتعارفوه، أو السنة ما رضي به زيد أو فلان، فإن الله - سبحانه وتعالى -لم يكلنا إلى عقولنا أو آراء الناس بل أغنانا بالوحي المنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالسنة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمور الدين، والبدعة ما لم يأت به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال في الدين، وليس لأحد أن يحكم على شيء بأنه بدعة أو أنه سنة حتى يعرضه على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وأما من فعل ما يخالف الكتاب والسنة عن جهل وظن أنه حق ولم يكن عنده من يبين له فمعذور بالجهل، لكن في واقع أمره يكون مبتدعاً، ونعتبر عمله هذا بدعة.
وننصح الشباب الذين يسلكون هذا المنهج ويحكمون على الأشياء حسب أهوائهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وأن لا يتكلموا في الدين إلا عن
علم ومعرفة، ولا يجوز للجاهل أن يتكلم عن الحلال والحرام والسنة والبدعة، والضلالة والهدى، بدون علم، فإن هذا قرين الشرك.
قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَالا تَعْلَمُونَ } (1). فجعل القول على الله بلا علم مع الشرك، مما يدل على خطورته في الدين وليس الكذب على الله كالكذب على غيره، وليس الكذب على الرسول كالكذب على غيره، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) (2) .
- - - - -
__________
(1) …الأعراف : 33 .
(2) …البخاري: ( 110 )، مسلم : ( 3 ) .(41/88)
س 64 : من خالف أصول الطريقة السلفية ممن هم حولنا، وناصر المناهج الأخرى؛ بأن مدح مؤسسّيها ومفكريها، هل يجب نسبته إليهم ليحذره الناس، ولا يغترّوا به وبمنهجه ؟ .
جـ / من خالف منهج السلف، ومدح المناهج المخالفة لمنهج السلف، ومدح أهلها، فإنه يعتبر من أهل المخالفة، تجب دعوته ومناصحته، فإن رجع إلى الحق وإلاّ فإنه يُهجر ويُقاطع .
وما أظن أن في هذه البلاد التي نشأت على التوحيد ومنهج السلف من يفعل ذلك – إن شاء الله -، ولكن قد يكون فيها من يحسن الظن ببعض أصحاب الاتجاهات المخالفة؛ وهو لا يعلم حقيقة ما هم عليه، فإذا بُيّن له الحق بطريقة سليمة، فإنه سيقبله – بإذن الله - .
وأوصى بعدم التسرّع في الحكم على الناس، ورميهم بالمخالفة، وتنفيرهم (1) .
- - - - -
س 65 : هل الذي يرتكب بدعة وهو جاهل أنها بدعة لأنه لم يصله الحق، هل يؤجر على ذلك العمل أم أن ذلك العمل لا يقبل منه مع أن نيته قصد العبادة ؟
جـ / لا يؤجر على ذلك العمل لأنه غير مشروع، ولكن يسلم من الإثم؛ بعذر الجهل فقط .
- - - - -
__________
(1) …يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى - : (( ومن كان محسناً للظن بهم – وادعى أنه لم يعرف حالهم – عرّف حالهم، فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار، وإلاّ ألحق بهم وجعل منهم .
…وأما من قال لكلامهم تأويل يوافق الشريعة، فإنه من رؤوسهم وأئمتهم، فإنه إن كان ذكيًا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله )) " مجموع الفتاوى " : ( 2/133 ) .
قال الشيخ بكر أبو زيد : (( فكل من ظاهر مبتدعًأ، فعظّمه أو عظّم كتبه، ونشرها بين المسلمين، ونفخ به وبها، وأشاع ما فيها من بدع وضلال، ولم يكشفه فيما لديه من زيغ واختلاف في الاعتقاد، إن من فعل ذلك فهو مفرط في أمره، واجب قطع شره لئلا يتعدى إلى المسلمين )) . انتهى من كتاب " هجر المبتدع " ( ص 48 ) .(41/89)
س 66 : لقد تفشى ورع بارد بين بعض طلبة العلم، وهو : إذا سمعوا الناصحين من طلبة العلم أو العلماء يحذرون من البدع وأهلها ومناهجها، ويذكرون حقيقة ما هم عليه ويردون عليهم وقد يوردون أسماء بعضهم ولو كان ميتاً لافتتان الناس به، وذلك من أجل الدفاع عن هذا الدين، وكشف تلبيس الملبسين والمندسين بين صفوف الأمة لبث الفرقة والنزاع فيها، فيدّعون أن ذلك من الغيبة المحرمة، فما قولكم في هذه المسألة ؟
جـ / القاعدة في هذا: التنبيه على الخطأ والانحراف بعد تشخيصه،
وإذا اقتضى الأمر أن يصرح باسم الأشخاص المخالفين حتى لا يغتر بهم، وخصوصاً الأشخاص الذين عندهم انحراف في الفكر أو انحراف في السيرة والمنهج، وهم مشهورون عند الناس، ويحسنون فيهم الظن، فلا بأس أن يُذْكَروا بأسمائهم وأن يُحَذر من منهجهم، والعلماء بحثوا في علم التجريح والتعديل فذكروا الرواة وما قيل فيهم من القوادح، لا من أجل أشخاصهم، وإنما من أجل نصيحة الأمة أن تتلقى عنهم أشياء فيها تجنٍّ على الدين، أو كذبٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالقاعدة أولاً أن ينبه على الخطأ ولا يذكر صاحبه إذا كان يترتب على ذكره مضرة أو ليس لذكره فائدة، أما إذا اقتضى الأمر أن يصرح باسمه لأجل تحذير الناس من منهجه، فهذه من النصيحة لله وكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وخصوصاً إذا كان له نشاط بين الناس، ويحسنون الظن به، ويقتنون أشرطته وكتبه، لا بد من البيان، وتحذير الناس منه لأن السكوت ضرر على الناس، فلا بد من كشفه لا من أجل التجريح أو التشهي، وإنما من أجل النصيحة لله وكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
س 67 : ما حكم من أحب عالماً أو داعية، وقال : إني أحبه حبًا كثيرًا، لا أريد أن أسمع أحداً يرد عليه، وأنا آخذ بكلامه حتى وإن كان مخالفاً للدليل، لأن هذا الشيخ أعرف منا بالدليل ؟ .(41/90)
جـ / هذا تعصب ممقوت مذموم، ولا يجوز (1) .
نحن نحب العلماء –و لله الحمد-، ونحب الدعاة في الله - عز وجل -، لكن إذا أخطأ واحد منهم في مسألة فنحن نُبَيِّن الحق في هذه المسألة بالدليل، ولا يُنقص ذلك من محبة المردود عليه، ولا من قدره .
يقول الإمام مالك – رحمه الله - : (( ما مِنَّا إلا رادٌ ومردودٌ عليه؛ إلا صاحب هذا القبر )) (2) . يعني : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) …نقل محمد سلطان الخجندي صاحب كتاب : " هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة ؟ " عن علي القاري الحنفي قوله : (( لا يجب على أحد من هذه
…الأمة أن يكون حنفياً، أو مالكياً، أو شافعياً، أو حنبلياً، بل يجب على آحاد الناس إذا لم يكن عالمًا أن يسأل واحدًا من أهل الذكر ، والأئمة الأربعة من أهل الذكر؛ ولهذا قيل : (( من تبع عالمًا لقي الله سالمًا )) ، وكل مكلّف مأمور باتباع سيد الأنبياء سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - )) ( ص 58 ) تحقيق الهلالي .
قلت : وقريبًا من هذا المعنى جاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فراجعه في الحاشية رقم ( 67 ) من هذا الكتاب .
قال الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى - : (( أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس )) انظر : " إعلام الموقعين " لابن القيم ( 1/7 ) .
(2) … راجع تخريج هذا الأثر في كتاب : " صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " للألباني ( ص /26 )
…حاشية (3)، ط. المكتب الإسلامي 1403هـ . و أورده العجلوني في " كشف الخفاء " : ( 1961 ) .(41/91)
نحن إذا رددنا على بعض أهل العلم، وبعض الفضلاء؛ ليس معنى هذا أننا نبغضه أو نتنقصه، وإنما نُبَيِّن الصواب، ولهذا يقول بعض العلماء لما أخطأ بعض زملائه، قال : (( فلان حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه )) (1) ، هذا هو الطريق الصحيح .
ولا تفهموا أن الرَّد على بعض العلماء في مسألة أخطأ فيها معناه تَنَقُّص له أو بُغض، بل ما زال العلماء يرد بعضهم على بعض، وهم اخوة ومتحابون .
ولا يجوز لنا أن نأخذ كل ما يقوله الشخص أخذاً مسلّماً؛ أصاب أو أخطأ، لأن هذا تعصُّب .
الذي يؤخذ قوله كله ولا يترك منه شيئاً هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه مبلِّغ عن ربه، لا ينطق عن الهوى، أما غيره فهم يخطئون ويصيبون، وإن كانوا من أفضل الناس، هم مجتهدون يخطئون ويصيبون .
ليس أحد معصومًا من الخطأ إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
يجب أن نعرف هذا، ولا نتكتّم على الخطأ محاباة لفلان، بل علينا أن نُبَيِّن الخطأ .
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( الدين النصيحة ، قلنا : لمن ؟، قال : لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم )) (2) .
وبيان الخطأ من النصيحة للجميع، وأما كتمانه فهو مخالف للنصيحة .
س 68 : ما حكم طلب العلم عند شيخ يختلف مع أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، أفيدونا أفادكم الله ؟ .
جـ/ إن اختيار المدرِّس المستقيم في عقيدته، وفي علمه؛ أمر مطلوب، وإذا لم يمكن، ووجدت من عنده معرفة في الفقه – مثلاً -، أو النحو، والعلوم التي لا تتعلق بالعقيدة؛ فلا بأس أن تدرس عنده في العلوم التي يحسنها، أما العقيدة فلا تدرسها إلى على أهل العقيدة الصحيحة .
- - - - -
__________
(1) … هذه المقالة لشيخ الإسلام ابن القيم، في حق أبي إسماعيل الهروي. انظر : " مدارج السالكين " : ( 3/394 ) .
(2) … سبق تخريجه حاشية : ( 44 ) .(41/92)
س 69 : هل يكفر الأشاعرة والمعتزلة ومن على شاكلتهم في المعتقد، وهل يجوز أخذ العلم من مشايخهم في العقيدة، والفقه، والتفسير؛ إذا عُلم موضع إشكالهم ؟ .
جـ / لا يكفر إلا من عرف الحق وعاند، أما من خالف الحق عن تأويل أو عن جهل فهذا لا يُكفّر، بل يقال : هذا خطأ، وهذا ضلال .
ومن تأوَّل وظن أن هذا التأويل حق، أو أنه مقلد لغيره ظانًا أنه مصيب، أو فعل هذا عن جهل؛ فهؤلاء كلهم لا يكفرون، ولكن يضللون .
أما الأخذ عنهم في غير العقيدة من العلوم التي يتقنونها - فلا بأس -، مثل أن يؤخذ عنهم الفقه، والنحو، وعلم الحديث؛ لا مانع من ذلك بشرط أن لا يكونوا مجاهرين ببدعتهم .
ولكن إن وجد غيرهم مِمَّنْ هو أفضل منهم فإنه يجب التتلمذ على من هو أفضل منهم، وإذا لم يجد الشخص غيرهم في مثل هذه العلوم – الفقه، اللغة العربية، وما أشبه ذلك – لا مانع أن يؤخذ عنهم هذه العلوم أما العقيدة فلا تؤخذ إلا من أهلها .
- - - - -
س 70 : إذا قال طالب علم ببدعة ودعا إليها وكان صاحب فقه وحديث، فهل يلزم بالبدعة سقوط علمه وحديثه ؟ وعدم الاحتجاج به مطلقاً ؟
جـ / نعم . لا يوثق به. إذا كان مبتدعاً مجاهراً ببدعته لا يوثق به ولا يُتتلمذ عليه، لأنه إذا تُتلمذ عليه يتأثر التلميذ بشيخه ويتأثر بمعلمه، فالواجب الابتعاد عن أهل البدع، والسلف كانوا ينهون عن مجالسة المبتدعة، وزيارتهم، والذهاب إليهم خشية أن يسري شرهم على من جالسهم وخالطهم (1)
__________
(1) … فكل قرين بالمقارن يقتدى. وقد قيل : كُثر الكلام يغلب السحر . وكُثر الدّق يفك اللِّحَام .
…فالمقارنة والاختلاط والمعاشرة لها تأثير، ولقد تأثر أبو ذر الهروي بالقاضي أبو بكر بن الطيب، فاعتنق مذهبه الأشعري بعد أن تكرر إليه .
…راجع " تذكرة الحفاظ ": ( 3/1104-1105 )،و" السير":( 17/558-559 ).
…وهذا عمران بن حطان الذي روى عن جماعة من الصحابة، وكان من أهل السّنة، ولكن اختلاطه أوقعه في مذهب الخوارج .
قال يعقوب بن شيبة : وكان سبب ذلك فيما بلغنا أن ابنة عمه رأت رأي الخوارج فتزوجها ليردها عن ذلك فصرفته إلى مذهبها . ا. هـ . " تهذيب التهذيب " : ( 8/113 ) .…=
=…وأبلغ بيان في تأثر الجليس بجليسه قول الذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ( المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل ) " الصحيحة " : ( 927 ) .(41/93)
.
س71 : تعيش الأمة الإسلامية حالة اضطراب فكري خصوصاً ما يتعلق بالدين، فقد كثرت الجماعات والفرق الإسلامية التي تدّعي أن نهجها هو المنهج الإسلامي الصحيح الواجب الإتباع. حتى أصبح المسلم في حيرة من أمره أيها يتبع وأيها على الحق ؟
جـ/ التفرق ليس من الدين، لأن الدين أمرنا بالاجتماع وأن نكون جماعة واحدة وأمة واحدة على عقيدة التوحيد وعلى متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، يقول الله تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } (1) .
ويقول تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } (2).
وقال - سبحانه وتعالى -: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } (3).
وهذا وعيد شديد على التفرق والاختلاف .
فديننا دين الجماعة ودين الألفة والاجتماع، والتفرق ليس من الدين، فتعدد الجماعات ليس من الدين، لأن الدين يأمرنا أن نكون جماعة واحدة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) (4) .
فلا بد من الاجتماع وأن نكون جماعة واحدة أساسها التوحيد ومنهجها دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسارها على دين الإسلام . قال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (5) .
__________
(1) … الأنبياء : 92 .
(2) … آل عمران : 103 .
(3) … الأنعام : 159 .
(4) … البخاري : ( 2314 ) .
(5) … الأنعام : 153 .(41/94)
فهذه الجماعات وهذا التفرق الحاصل على الساحة اليوم لا يقره دين الإسلام بل ينهي عنه أشد النهي ويأمر بالاجتماع على عقيدة التوحيد (1) .
- - - - -
س 72 : هل يوجد على الساحة – وخاصة عندنا في (( السعودية )) – مناهج مخالفة لمنهج السلف – رحمهم الله تعالى -؟، وكيف يكون التعامل مع هذه المناهج ودعاتها ؟ .
جـ / لا يوجد عندنا – ولله الحمد – في هذه البلاد (( السعودية ))
مناهج مخالفة لمنهج السلف، كلها بلاد سلفية، ولكن قد يوجد فيها من هو
دخيل ليس من أهلها، وهو يحمل أفكاراً مخالفة (2)
__________
(1) … الفِرق الموجودة في الساحة اليوم، ترى أن الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك وهدم القباب والتحذير من البدع والرد على المخالف للكتاب والسنة، كل هذه تفرق – عندهم – ولا تجمع .
أما علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث في وقتٍ كان الناس فيه شذر مذر، متطاحنين متناحرين، فجمعهم الله على يد نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد. فأين أولى الأبصار والنُهى ؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - جاء مفرقاً بين العباد أيضاً، روى البخاري في صحيحه: ( 6852 ) من حديث جابر بن عبدالله، من كلام الملائكة : ( ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الناس ) أي يفرق بين المؤمن والكافر، والحق والباطل .
(2) … أمثال : محمد سرور بن نايف زين العابدين، وكان في منطقة القصيم، وقد بيّض وفّرخ، والغزالي، وعبدالرحيم الطحان في منطقة عسير، ومحمد قطب، وغيرهم .
…وما زال نظراؤهم من قيادات وأعضاء " الإخوان المسلمون " موجودين، والذين أحسنت إليهم هذه الحكومة – السعودية وفقها الله لكل خير -؛ فأساءوا إليها بأفكارهم، ومعتقداتهم، وفتاويهم التي شوّشت على بعض شبابنا، فنسأل الله –تعالى– لنا ولهم الهداية و الاستقامة على منهج السلف الصالح، آمين .
…وهذا من باب النصح للمسلمين حتى يحذرهم الناس، ولا يغتروا بخطاباتهم وتآليفهم .(41/95)
، وقد يتأثر به بعض أبناء هذه البلاد، عن حسن ظن وجهل بواقعه، ولذلك نوصي أبناءنا أن يكونوا على حذر من هؤلاء وأمثالهم، وأن لا يمنحوا ثقتهم لكل وافد؛ وهم لا يعرفون عقيدته واتجاهه، ولا مستواه العلمي، ولا من أين تلقى العلم، لأنّ (( فاقد الشيء لا يعطيه )) .
هذا البلاد – بلاد نجد – كانت متفرقة، كل قرية تحكم نفسها، وكل قرية تقاتل القرية الأخرى .
ولَمَّا مَنَّ الله على هذه البلاد بظهور الشيخ الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – ودعا الناس إلى توحيد الله وإلى دين الله الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونبذ الشرك والبدع والخرافات، والرجوع إلى الدين الصحيح .
و قد من الله على أسرةٍ من الحكام وهم آل سعود، وكانوا يحكمون قرية من القرى. ولكنّ الله منّ على جدهم فناصر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وجاهد معه. فاجتمع جهاد العلم وجهاد السيف حتى دخلت البلاد في أمنِ واستقرار، وذهبت عنها العادات الجاهلية والتقاليد الباطلة، وأزيلت منها البدع والخرافات والشركيات فتوحدت البلاد تحت راية " لا إله إلا الله محمد رسول الله " واستتب الأمن، وحصلت الأخوة بين الناس واجتمع أهل القرى والمدن على دولة واحدة وأمة واحدة (1)
__________
(1) …هذا الأمن، وهذا الاجتماع الذي نعيشهما الآن في هذه البلاد – السعودية – ما حصل إلا بفضل الله تعالى أولاً وأخيراً ثم بفضل تطبيق الشريعة، والنية الصادقة من قِبَل المؤسس – رحمه الله تعالى وطيب ثراه – والرغبة الأكيدة في تحكيم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - منذ الأيام الأول من توليه حكم البلاد ثم سار على ذلك أبناؤه من بعده، فاللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وولاتنا آمين .
ولقد غاظ – هذا الأمن وهذا الاجتماع – أهل الأهواء المبغضين لعقيدة السلف، فبدءوا يبثون الأفكار الهدامة بين الشباب، وللأسف وجدوا من البعض الاستجابة .
فمن هذه الشبه والأفكار والمناهج المخالفة التي تُبث هنا وهناك بين الفينة والفينة:
1- تكفير الحكام ويسمونهم " الطواغيت "، وتهييج العامة بعبارات ساخنة .
…2- الطعن في علماء السنة ( المتبعين لمنهج السلف المبينين لأخطائهم ) ورميهم بألفاظ هم منها براء، على سبيل المثال : علماء السلاطين – علماء الحيض والنفاس – عملاء – عبيد – لا يفقهون الواقع – علماء الكراسي بل وتكفير العلماء كما فعل أسامة بن لادن ( الخارجي ) ومن حذا حذوه واقتفى أثره .
3- الجهاد ( على طريقتهم ) بتفجير المنشآت سواء كانت للمسلمين أم للكفار بحجة مجاهدة الكفار والطواغيت والعلمانيين ( على زعمهم )، والاغتيالات، ويرون ذلك قُربة إلى الله تعالى !! .(41/96)
.
لكن لا تنسوا أن الأعداء لا يزالون يتربصون ويريدون أن يفرقوا هذا الاجتماع .
يبثون هذه التفرقة بين هذه الأمة في هذه البلاد بما دسوه من مبادئ ومناهج غريبة مشبوهة تقبّلها بعض الشباب نسأل الله أن يصلحهم وأن
يهديهم، لا يريدون بنا إلا الشر، وإلا لماذا يا عباد الله ؟؟ ألسنا جماعة واحدة ؟ ألسنا على دين التوحيد؛ على عقيدة التوحيد؟ ألسنا نعيش في الأمن والاستقرار ؟ . ما الذي نريد غير هذا ؟ لماذا نقبل الأفكار الدخيلة والمناهج المستوردة، وقول فلان وعلان ممن لا يُعرف لا بدين ولا بعلم، ولا يُعرف من أين تلقى العلم وأين درس، ولا يُعرف ما هي عقيدته ؟. ثم نتلقى ما يقوله ونتبناه ونترك ما نحن عليه من الدين الصحيح والعقيدة الصحيحة والمنهج السليم، احذروا من هذه الفرق وحذروا إخوانكم وأولادكم .
نحن جماعة واحدة وأمة واحدة وعلى منهج واحد وعلى عقيدة واحدة، ودولتنا - ولله الحمد - دولة إسلامية، والحكم فينا بشريعة الله .
أنا لا أقول إننا كاملون، بل عندنا نقص، لكن نقص دون نقص - الحمد لله -، الأمر فينا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والبلاد كلها من أقصاها إلى أقصاها بلاد إسلامية تُحكم بشريعة الله، والعقيدة واحدة والمنهج واحد خلفاً عن سلف .
فلماذا نقبل هذه المبادئ وهذه الأفكار وهذه المناهج المختلفة والمخالفة للعقيدة، ثم كل طائفة منها تأخذ منهج وكل طائفة تعادي الطائفة
الأخرى، ونترك المنهج الصحيح السليم الذي كان عليه آباؤنا وأجدادنا، وعاشت عليه أجيالنا وبلادنا، أليس هذا نكران للنعمة !! أليس هذا كفر بالنعمة ؟!
لماذا لا نتذكر نعمة الله علينا { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } (1) .
__________
(1) …آل عمران : 103 .(41/97)
ما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه اليوم بالأمس، فعلينا أن نستجلي التاريخ ونقرأ السير ونعرف ما كُنَّا، ونعرف ما نحن عليه .
- - - - -
س 73 : انصبّ انتقاد بعض الدعاة على هذه الدولة وعلمائها وأنهم مداهنون وعلماء سلطة، ولا يفهمون الواقع، بينما يمتدحون بعض الدول التي تدعي تطبيق الشرع مع التغاضي عن المخالفات الكبيرة التي تقع فيها، ويمتدحون بعض الدعاة والمبتدعة والمخالفين لمنهج السلف فما رأيكم وردكم على هؤلاء ؟ .
جـ / ما أحب للمسلمين وخصوصاً في هذه البلاد إلاّ الخير والنصيحة والتآلف .
ومجتمعنا - ولا نزكي على الله أحداً – ولله الحمد هو أحسن المجتمعات. من ناحية وُلاتنا ومن ناحية علمائنا ومن ناحية رعيتنا، هم أحسن – ولله الحمد – الموجودين. لا نقول أنهم كاملون، والإنصاف يقتضي هذا، لكن لا نجحد فضل الله ونعمة الله علينا؛ لأن هذا من الكفر بالنعمة. عندنا ولله الحمد علماء، وعندنا ولله الحمد ولاة مستقيمون ليس لهم مذهب اشتراكي أو مذهب بعثي أو مذهب مخالف للإسلام، هم على عقيدة التوحيد وعلى دين الإسلام. عقيدتهم خالية من الشرك ولله الحمد، يقيمون الحدود،
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويُحَكّمون كتاب الله فتحوا - في كل هجرة وفي كل قرية وفي كل مدينة أو قريباً منها – محكمة يتحاكم الناس إلى شرع الله فيها .
والأخطاء موجودة ، لكن الخير أكثر. فالواجب علينا النصيحة والدعاء لهم بالتوفيق والتسديد والهداية ومناصحتهم سراً وإيصال الحق إليهم، هذا هو الواجب علينا .(41/98)
هل نريد أن يتفكك هذا المجتمع ؟ هل نريد أن يتناحر هذا المجتمع ؟ هل نريد أن يختل أمن هذا المجتمع ؟ ولا يأمن الناس على أموالهم ولا على بيوتهم ولا على محارمهم، ولا على أنفسهم، هل نريد زوال هذه النعمة ؟ اتقوا الله يا عباد الله، وأشكروا هذه النعمة. ولا تغتروا بدعاة الضلال الذين يشوشون علينا ويتلمسون الأخطاء وينفخون فيها، الذين ينظرون القذاة في غيرهم ولا ينظرون الجذع في أعينهم .
علينا أن نتقي الله فإن هذا دين، وهذه ذمة، وهذه مسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى . والنِعم إذا لم تشكر زالت. قال سبحانه : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } .
قارنوا بين هذه البلاد وبين البلاد الأخرى إن كانت لكم عقول، قارنوا تروا الفرق، وتعرفوا السبب ما هو ؟ .
السبب هو ما في هذه البلاد من الخير ولله الحمد، ما فيها من العقيدة الصحيحة، ما فيها من تحكيم كتاب الله - عز وجل -، وما فيها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . هذه نعم عظيمة، كون أننا نكفرها وننكرها ونجحدها ونتلمس العيوب والأخطاء وننفخ فيها؛ هذا ليس من شأن المسلمين الناصحين (1)
__________
(1) …ماذا يريد المتشدقون من هذه الدولة – دولة التوحيد – التي لا يوجد لها مثيل على هذه البسيطة اليوم ؟ .أتظنون أنكم في عهد خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ؟ أم أننا في عهد النبوة ؟.وأي الدول التي تبكون عليها وتدندنون حولها ؟ .أهي التي بَنَتْ على أرضها " القبة الإبراهيمية " تخليداً لذكرى قائد الطريقة الإبراهيمية ؟ ! .
و التي دعا مرشدها الروحي إلى عقد اجتماع (( تقارب الأديان )) ، وتم الاجتماع. ولقد امتنعت قيادة دولة التوحيد بأن يُشارك منها أحد . أم هي دولة (( المزارات )) الصوفية الماتريدية الأشعرية ؟ . إنكم تناقضون أنفسكم وأقوالكم وأفعالكم تقولون لماذا تتركون الكفار والعلمانيين، ...و...وتردون على أهل الإسلام، وعلى الدعاة..
الجواب من وجهين:
الأول : أن الرد على أهل الإسلام، لا يكون إلا على المخالف للكتاب والسنة ومذهب السلف الصالح، وهذا واجب لحماية جانب العقيدة .
…ثانياً : ليس كل أحد يلزمه الرد على الجميع، بل كل على قدر طاقته وجهده وقدراته. فهذا يرد على مخالف من أهل الإسلام، وهذا يرد على علماني، وذاك يرد على كافر وهكذا المسلمون يكمل بعضهم بعضاً والقدرات تتفاوت كل بحسبه .
ولكن السؤال إليكم : لماذا التركيز على هذه الدولة – السعودية – أما ترون أنكم تعينون الكفار ؟ أما ترون أنكم فاتحوا باب شر ؟
فالواجب: الوقوف بجانب دولة التوحيد والذب عنها، وإن كان هناك أخطاء والأخطاء موجودة فيجب أن تصحح بالطرق الشرعية التي دلنا عليها الكتاب والسنة وسار عليها سلفنا الصالح وأئمتنا الأفاضل إلى يومنا هذا، وليس أحد بمعصوم، ولم يدع أحد العصمة بل الكل مقصر، والكل مذنب .فإلى متى وأنتم تنخرون في هذا الكيان ؟ !! .إلى أن تُقيموا دولة الخوارج؟ أو دولة التصوف والشركيات؟ أو دولة البرلمانات والأحزاب ؟ فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل يقول الله تعالى: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } ويقول - عز وجل - { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ =
=… إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } وقال جل من قائل : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً }
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده، حين يتوب …. ) [ مسلم : 2747 ] .(41/99)
.
س 74 : كثر في هذه الفترة السب والطعن في العلماء الكبار والحكم عليهم بالكفر والفسق لا سيما بعدما صدرت بعض الفتاوى في التفجيرات، وأن عند علمائنا ضعفا في الولاء والبراء فأرجو أن توجهوا لنا نصيحة في هذا الموضوع وما حكم الرد على الشاب القائل بهذا ؟ .
جـ / على الجاهل أن لا يتكلم، وأن يسكت ويخاف الله عز وجل ولايتكلم بغير علم قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } (1) .
فلا يجوز للجاهل أن يتكلم في مسائل العلم ولا سيما المسائل الكبار مثل التكفير، وأيضاً الغيبة والنميمة، والوقيعة في أعراض ولاة الأمور، والوقيعة في أعراض العلماء (2)
__________
(1) … الأعراف : 33 .
(2) … ويل لمن يطعن في علماء الأمة – إذا لم يتب -، علماء السنة ورثة الأنبياء . فإذا لم نثق بعلمائنا الأكابر ونُجلهم ونحترمهم ونتعلم منهم فممن نأخذ العلم ؟؟ أمِنْ الرؤساء الجهال الذين أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسوف يسوق شيخنا حفظه الله الخبر قريباً .
…قال معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ : (( الواجب على كل مؤمن أن يحذر أتم الحذر من أن يقول بلا علم وأن يجترئ على ما ليس له به حجة، سيما في مسائل الاعتقاد ومسائل الإيمان والتكفير ومسائل الحلال والحرام، ومن أعظم ما وقع في الأمة من الانحراف عن الحق، تكفير المسلم الذي ثبت إسلامه وعدم الاستبيان =
=…منه، وفي عهد عثمان - رضي الله عنه - ظهر هؤلاء الخوارج، وكان أساس انحرافهم هو نظرهم في أن أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه -لم يقم بما أوجب الله عليه . فمنهم من كفّره، ومنهم من أوجب قتله، وكفّروا علياً - رضي الله عنه - وهكذا سادات الأمة كَفّرهم معارضوهم .
والتكفير معناه : الحكم بالخروج من الدين والحكم بالردة .
…والحكم بالردة على مسلم ثبت إسلامه؛ لا يجوز . إلا بدليل شرعي يقيني بمثل اليقين الذي حصل بدخوله في الإيمان، وما ذكره السائل بقوله إن العلماء الكبار كفار، هذا من الخطر العظيم، لأن العلماء الكبار يبينون الحق، وإذا اتهمهم أحد أو رماهم بالكفر لأجل تبيينهم الحق فلا يعني أن رمي الرامي موافق للصواب؛ بل جناية على نفسه ويجب أن يؤخذ على يده وأن يعزر تعزيراً بليغاً من قبل القضاة .
وعلى كثرة ما جاء من بحوث في هذه المسائل من قديم، من وقت سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين – رحمهما الله – وكثرة ورود هذه المسائل. لكن نخشى أن يكون المنهج التكفيري يمشي في الناس والعياذ بالله، والخوارج سيبقون ومعتقدات الخوارج ستبقى، والناس - إن لم يتداركوا أنفسهم – قد يكون فيهم خصلة من خصال الضُلاّل إن لم يحذروا من ذلك .
فالواجب علينا جميعاً أن نحذر وأن نتنبه إلى الحق، وأن نتواصى [ به ] وأن نكون حافظين لألسنتنا من الوقوع في ورثة الأنبياء وهم العلماء )) . ا . هـ . باختصار
كتاب: " الفتاوى المهمة في تبصير الأمة " .(41/100)
، فهذه أشد أنواع الغيبة . نسأل الله العافية !!
فهذا الأمر لا يجوز .
وهذه الأحداث وأمثالها من شئون أهل الحل والعقد، هم الذين يتباحثون فيها ويتشاورون، ومن شؤون العلماء فهم الذين يبينون حكمها الشرعي .
أما عامة الناس والعوام والطلبة المبتدئين فليس هذا من شأنهم، قال الله
جل وعلا : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } (1) . فالواجب إمساك اللسان عن القول في هذه المسائل. لا سيما التكفير، ولا سيما الولاء والبراء .
الإنسان قد يحكم على الناس بالضلال والكفر وهو مخطئ، ويرجع حكمه عليه. لأن الإنسان إذا قال لأخيه يا كافر أو فاسق وهو ليس كذلك رجع ذلك عليه والعياذ بالله (2) .
الأمر خطير جداً فعلى كل من يخاف الله أن يمسك لسانه، إلا إن كان
ممن وُكل إليه الأمر وهو من أهل الشأن، بأن يكون من ولاة الأمر أو من العلماء فهذا لابد أن يبحث في هذه المسألة.
أما إن كان من عامة الناس ومن صغار الطلبة فليس له الحق في أن يصدر الأحكام ويحكم على الناس ويقع في أعراض الناس وهو جاهل ويغتاب وينم ويتكلم في التكفير والتفسيق وغير ذلك، فهذا كله يرجع إليه، ولا يضر المتكَلَّم فيه، وإنما يرجع إليه .
__________
(1) … النساء : 83 .
(2) … أخرج البخاري في صحيحه : ( 5753 ) وغيره من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ).(41/101)
فعلى المسلم أن يمسك لسانه وألا يتكلف ما لا يعنيه (1) ، أما أن يتناول الأحكام الشرعية ويُخطِّي ويصوب ويتكلم في أعراض ولاة الأمور وفي أعراض العلماء ويحكم عليهم بالكفر أو بالضلال، فهذا خطر عظيم عليه، وأما هم فلا يضرهم كلامه فيهم .
وقبض العلم إنما يكون بموت اللعلماء : هو ما أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) (2) .
__________
(1) … وأن ينصرف للعلم الشرعي والاجتهاد في تحصيله، الذي هو حياة القلوب، ورفعة للعبد في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ } [ المجادلة : 11 ] .
…أخرج مسلم في صحيحه : ( 2699 ) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة). والعلم يحجز صاحبه عن الوقوع في المخالفات الشرعية، واتباع الهوى، وطرق الشيطان.
…قال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول : (( إن أقواماً ابتغوا العبادة وأضاعوا العلم، فخرجوا على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأسيافهم ولو ابتغوا العلم لحجزهم عن ذلك )) .
…وقال وهب : (( كنت بين يدي مالك بن أنس فوضعت وقمت إلى الصلاة، فقال : ما الذي قمت إليه بأفضل من الذي تركته )). ( يعني العلم ).[مفتاح دار السعادة] : ( 1/119-120 ) .
…قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه - : (( عليكم بالعلم، فإن طلبه عبادة، وتعلمه لله حسنة، وبذله لأهله قربة، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، والبحث عنه جهاد، ومذاكرته تسبيح )) . الديلمي : ( 2/41 )، فتاوى ابن تيمية : ( 4/42 ) .
(2) …البخاري : ( 100 ) .…(41/102)
والله هذا هو الواقع اليوم، الآن رؤوس جهال يتكلمون بأحكام الشريعة ويوجهون الناس ويحاضرون ويخطبون وليس عندهم من العلم والفقه شيء، إنما عندهم تهريج، وتهييج، قال فلان وقال فلان، شغلوا الناس بالقيل والقال وهذا مصداق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً (1) .
ومع الأسف يسميهم الناس علماء، ولا حول ولا قوة إلا بالله. في حين لو تسأله عن نازلة من النوازل أو حكم شرعي فإنه لايستطيع أن يجيبك بجواب صحيح، لأنه يقول هذا ليس بعلم، العلم هو الثقافة السياسية وفقه الواقع، فحُرمِوا العلم والعياذ بالله، نسأل الله العافية .
- - - - -
س 75 : بسبب الأحداث التي وقعت أصبح بعض المسلمين يوالي الكفار وذلك لفتوى سمعها من أحد طلاب العلم فما حكم ذلك ؟
جـ/ ما أظن أن مسلماً يوالي الكفار لكن أنتم تفسرون المولاة بغير
معناها. فإن كان يواليهم حقيقة فهو إمَّا جاهل وإلا فليس بمسلم. بل هو من المنافقين، أما المسلم فإنه لا يوالي الكفار .
__________
(1) …يقول أحدهم وهو يحمل الدكتوراه في السنة، في شريط له بصوته بعنوان " أما بعد " الوجه الأول : ( من أين أبدأ … كيف أبدأ ؟ يا دم اسعفني، يا قلبي قف معي، يا دم انقذني ) .
…هذا حالهم جهل وتخبط، وإلا لو سألت طالب الابتدائية في مدارسنا – في بلاد الحرمين حرسها الله -. من تسأل ومن تدعو ومن تطلبه الاعانة والإنقاذ في الشدائد والأزمات والملمّات والمواقف الحرجة وغيرها؟ لقال، الله .
…الله أكبر!! ما أحوج الناس جميعاً لمعرفة التوحيد وتعلمه وفهمه، وتشتد الحاجة إلى ذلك في مثل هؤلاء الذين نصبّوا أنفسهم قادة ومربين ودعاة . ولكن كيف يكون همهم تعليم الناس التوحيد وكلماتهم ومحاضراتهم تهون من شأن التوحيد وتجعله أمراً سهلاً، وتركز على الناس في السياسة . وقد مر بنا، ص: ( 83 ) أحد المهونين .(41/103)
لكن هناك أفعال تحسبونها أنتم موالاة وهي ليست موالاة، مثل : البيع والشراء مع الكفار، والإهداء إلى الكفار، وقبول الهدية منهم هذا جائز وليس هو من الموالاة، هذا من المعاملات الدنيوية، ومن تبادل المصالح. ومثل استئجار الكافر للعمل عند المسلم هذا ليس من الموالاة. بل هذا من تبادل المصالح، والنبي - صلى الله عليه وسلم - استأجر عبدالله بن أُريقط الليثي ليدله على الطريق في الهجرة وهو كافر، من أجل أن يستفيد من خبرته في الطريق .
ويجوز أن يؤجر المسلم نفسه للعمل عند الكافر إذا احتاج، لأن هذا من تبادل المنافع أيضاً وليس من باب المودة والمحبة، حتى الوالد الكافر يجب على الولد أن يَبرَّ به وليس هذا من باب المحبة وإنما هو من المكافأة على الجميل .
قال تعالى : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ } (1) . ولكن يحسن إليه ويبر به، لأن هذا من الإحسان الدنيوي ومن المكافأة للوالد .
فهناك بعض من التعاملات مع الكفار كالهدنة، والأمان مع الكفار هذا يجري بين المسلمين والكفار وليس هو من المولاة .
فهناك أشياء يظنها البعض من الجهال أنها موالاة وهي ليست
موالاة (2) .
__________
(1) … المجادلة : 22 .
(2) … أين الذين نصّبوا أنفسهم دعاة وموجهين وقادة من هذه المواقف والأدلة والسيرة النبوية في التعامل مع الكفار؟
هم على ضربين : إما جهال فيجب أن يتعلموا قبل أن يُسوَّدوا.
وإما عارفين بذلك فنقول : اتقوا الله وبينوا الحق للناس ولا تتبعوا الهوى.(41/104)
وهناك المداراة. إذا كان على المسلمين خطر ودارؤا الكفار لدفع الخطر هذا ليس من الموالاة وليس هو من المداهنة، هذا مداراة، وفرق بين المداراة والمداهنة. المداهنة لا تجوز، والمداراة تجوز. لأن المداراة إذا كان على المسلم أو على المسلمين خطر ودَفعه ودَارَأ الكفار لتوقي هذا الخطر فهذا ليس من المداهنة وليس من الموالاة .
الأمور تحتاج إلى فقه وتحتاج إلى معرفة، أما كل فعل مع الكفار يفسر بأنه موالاة، فهذا من الجهل ومن الغلط أو من التلبيس على الناس.
فالحاصل: لا يدخل في هذه الأمور إلا الفقهاء أهل العلم. لا يدخل فيها طلاب العلم الصغار وأنصاف المتعلمين ويخوضون فيها ويحللون ويحرمون ويتهمون الناس ويقولون هذه موالاة، وهم لا يعرفون الحكم الشرعي، هذا خطر، على القائل، لأنه قال على الله بغير علم (1) .
س 76 : ما حكم التبرع للكفار بالأموال الطائلة ؟
جـ / إذا كان ذلك لمصلحة المسلمين، فلا مانع أن ندفع شرهم، حتى الزكاة يعطى منها المؤلفة قلوبهم من الكفار مما يرجى كف شره عن المسلمين.
__________
(1) … القول على الله بغير علم أشد وأعظم جرماً من الإشراك بالله قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] .…=
=…فالشاهد أن المعاصي جاء ذكر الأعظم إثماً منها فالأعظم، فلما كان الإشراك بالله أعظم الذنوب، فقد جاء القول على الله أعظم من الشرك به – تعالى – لأن القائل أصبح مُشرِّعاً، ولم يكن نداً فقط .(41/105)
فالكافر الذي يرجى كف شره عن المسلمين يعطي من الزكاة التي هي فرض، فكيف لا يعطي من المال الذي ليس بزكاة من أجل دفع ضررهم عن المسلمين. وهذا مما يظنه بعض الجهال موالاة، وهو ليس موالاة، هذه مداراة لخطرهم وشرهم عن المسلمين .
- - - - -
س 77 : يُكتب في الصحف هذه الأيام الدعوة إلى مقاطعة البضائع الأمريكية وعدم شرائها وعدم بيعها، وأن العلماء يدعون إلى المقاطعة، وأن هذا العمل فرض عين على كل مسلم، وأن الشراء لواحدة من هذه البضائع حرام ، وأن صاحبها فاعل لكبيرة، ومعين لهؤلاء ولليهود على قتال المسلمين، فأرجو من فضيلتكم توضيح هذه المسألة للحاجة إليها، وهل يثاب الشخص على هذا الفعل ؟ .
جـ / هذا غير صحيح، العلماء ما أفتوا بتحريم الشراء من السلع الأمريكية، والسلع الأمريكية ما زالت تُورَّد وتباع في أسواق المسلمين .
فلا تقاطع السلع إلا إذا أصدر ولي أمر المسلمين منعاً بذلك وأمَرَ بمقاطعة دولة من الدول، فيجب مقاطعتها .
أما مجرد الأفراد فلا يفتون بالتحريم، لأن هذا من تحريم ما أحل الله.
- - - - -
س 78 : سماحة الشيخ : أنتم وإخوانكم العلماء في هذه البلاد سلفيّون – ولله الحمد -، وطريقتكم في مناصحة الولاة شرعيّة كما بيّنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - - ولا نزكي على الله أحدًا -، ويوجد من يعيب عليكم عدم الإنكار العلني لما يحصل من مخالفات، والبعض الآخر يعتذر لكم فيقول : إن عليكم ضغوطًا من قبل الدولة؛ فهل من كلمة توجيهيّة – توضيحيّة – لهؤلاء القوم ؟ .
جـ / لا شك أن الولاة – كغيرهم من البشر – ليسوا معصومين من
الخطأ، ومناصحتهم واجبة (1)
__________
(1) …قال ابن أبي عاصم في كتابه : " السنّة " ( 2/502 ) :
…(( ما يجب على الرعية من النصح لولاتها )) ، وذكر أحاديث منها : حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم )) ، قال الألباني : (( إسناده صحيح )) .(41/106)
، ولكن تناولهم في المجالس وعلى المنابر(1)،
يُعتبر من الغيبة المحرمة؛ وهو منكر أشد من المنكر الذي يحصل من الولاة لأنه غيبة، ولما يلزم عليه من زرع الفتنة وتفريق الكلمة والتأثير على سير الدعوة (2) .
فالواجب إيصال النصيحة لهم بالطرق المأمونة، لا بالتشهير والإشاعة .
وأما الوقيعة في علماء هذه البلاد، وأنهم لا يناصحون، أو أنهم مغلوبون على أمرهم (3)
__________
(1) …كما يفعله من لا فقه – في الدين – عنده، أو هو من دعاة الفتنة .
…يقول سماحة الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز – رحمه الله - : أما سب الأمراء على المنابر فليس من العلاج؛ العلاج الدعاء لهم بالهداية والتوفيق وصلاح النية وصلاح البطانة؛ هذا هو العلاج، لأن سبهم لا يزيدهم خيراً، سبهم ليس من المصلحة، سبهم ولعنهم ليس من الإسلام . نقلاً من كتاب الأخ الفاضل عبدالمالك رمضاني الجزائري – وفقه الله - : " فتاوى العلماء الأكابر .. " (ص 65 ).
(2) …وكذا يفضي إلى عدم السمع والطاعة في المعروف، وإلى إراقة الدماء، كما حدث وأن سُفك دم عثمان – رضي الله عنه وأرضاه – من أجل السب العلني الذي أحدثه الخوارج، عليهم من الله ما يستحقون .
(3) …وهناك نوع آخر من الطعن في العلماء سمعناه كثيرًا من (( فرقة الحدّاد )) نسبة إلى (( محمود الحدّاد المصري )) ، نزيل المدينة المنورة – سابقاً -، وقد موَّه على البسطاء بفتح (( أزرار ثوبه )) حتى تبدو سرته .
وقد بدأت هذه الفرقة أول ما بدأت بالطعن والتشهير بالحافظ (( ابن حجر العسقلاني )) ، وكذا (( النووي )) في مجالسهم ابتداءً، ودعوة الناس لتبديعهم علانيّة، وامتحانهم على ذلك، والمخالف يلحقوه بأهل البدع؛ وقد وصل بهم الحال إلى الطعن في الإمام ابن باز، والفوزان، واللحيدان، والألباني، وغيرهم .
…حتى أن أحدهم كان يقرأ على الإمام ابن باز في الصيف بالطائف كتاب: " السنّة " لابن أبي عاصم فترة من الزمن، فترك، فقيل له في ذلك، فقال : كنت أقرأ لأقيم الحجة على ابن باز !!! .
قلت : وأي حجة يريد أن يقيمها هذا الغر على العلم الشامخ، والجبل الثابت، ناصر السّنة وقامع البدعة والمبتدعة ألا قبّح الله أهل البدع والأهواء .
وأما سيّدهم (( محمود الحدّاد )) فإنه يطعن فيمن يوصي بكتاب:"العقيدة الطحاوية"، فيقول : (( درج كثير من أهل السنّة المعاصرين على الوصية بكتاب العقيدة…=
=…الطحاوية وشرحه )) !!.
أقول : إن من الذين يوصون به الإمام ابن باز، بل إنه يدرّس هذا الكتاب لطلابه في المسجد، كما ينكر على المحدث الألباني تخريجه للكتاب بدون تنبيه ( ص90 ) من كتابه : " عقيدة ابن أبي حاتم وأبي زرعة " .
قلت : قبّح الله أهل البدع يأخذون مالهم ويتركون ما عليهم، فإن (( الحدّاد )) نفسه متناقض، وهذا من فضل الله – تعالى – أن فضح هؤلاء؛ فقد استخرج تخريج أحاديث " إحياء علوم الدين "، والكثير يعلم ما في هذا الكتاب من طوام عظام، ومع هذا لم ينبه ولم يعلق، ولم يوضح مواطن العطب في الكتاب ولم ينقحه، فأي تناقض أكثر من هذا، فشتان ما بين الكتابين المذكورين .
ثم إن من وقع من أتباعه في العلماء إنما كان ذلك تأسياً بكبيرهم نفسه، فقد تنقّص شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، ووصفه بأنه يهوّن من شأن الإرجاء، فقال : (( قال ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في كتابه الإيمان : إن الإرجاء بدعة لفظية ))، وفسرّها الحداد من عند نفسه، فقال: (( يعني : أنها ليست بدعة في المعنى !، وهذا تهوين من شأنها )) .
راجع كتابه : " عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة الرازيين " ( ص 89-90 ) .
وليس هذا تتبع لعثراته، وإنما هو لبيان بعض حاله، والوقوف على حقيقته، ليستيقظ من اغترّ به ومن هو على شاكلته؛ وإلاّ أين هم عن هذه الأمور – من تبديع
…ابن حجر، والنووي، وابن حزم، والشوكاني، والألباني، وغيرهم، وعدم ترحمهم على المذكورين – قبل أن يأتيهم (( الحدّاد )) ، ويتعرفوا عليه ؟ !! .
إن من تناقضات (( محمود الحدّاد )) : أنه لا يرى ولا يجيز قراءة كتب المتبدعة وأهل البدع، بل ولا النظر فيها – وهذا صواب -، إلاّ أن هناك فرقًا بين من هو داعية إلى البدع ومكابر في الحق، وبين من وقع عن اجتهاد وتأويل، وهو ناصر للسنّة، وديدنه السنّة، وخادم لكتب السنة بصدق .
يقول (( الحدّاد )) : (( لا يكون المرء من أهل السنّة حتى ينتهي عن النظر في البدع،
……=
=…مواضعها، ودلائلها وكتب أهلها )) .
" عقيدة أبي حاتم وأبي زرعة " جمع : الحدّاد ( ص 105 ) .
هذا كلام الحدّاد، وقد سبق أن أنكر على من يوصي بكتاب " العقيدة الطحاوية "، وأنكر على العلامة : الألباني تخريجه أحاديث الكتاب، ولم ينكر على نفسه اختصاره لكتاب ابن الجوزي : " صيد الخاطر " .
وعلى منهج (( الحدّاد )) هناك ملاحظتين :
…الأولى : كيف يسمح ويجيز لنفسه قراءة كتب ابن الجوزي – رحمه الله -، وهو يقول عن ابن الجوزي : (( أنه جهمي جلد )) ، في مقدمة كتاب : " المقتنى العاطر " وهو اختصار : " صيد الخاطر " .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [ سورة الصف الآية : 2-3 ] . { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [ سورة البقرة آية : 44 ].
الثانية : إن كتاب : " صيد الخاطر " من أسوء الكتب، ومن الكتب التي يجب التنبيه عليها، وتحذير الناس -الخاصة والعامة- منها، فكيف تعتني به يا " محمود "، وتضيع وقتك، وتغرر الناس بهذا الكتاب بفعلك هذا، وأنت من أنت الذي اشتهر عنك
…أنك – ويا ليتك كذلك – تحذّر من كتب البدع والمبتدعة ؟ !!؛ فإذا رأى المغرور هذا الكتاب وعليه اسمك أخذه على عماه، وكله ثقة أنه كتاب سنّة وعقيدة، مع أن الكتاب من أوله إلى آخره إنما هو صيد خاطر، اسم على مسماه، ليس فيه قال الله، قال رسوله، قال الصحابة أولوا العرفان .
إن الحدّاد وأتباعه لا يرون الترحُّم على الإمام ابن حجر، والنووي - رحمهما الله -، وأمثالهم .
فهو ينكر على من يقول: الإمام، ويرحمه الله، حيث يقول في ( ص 106 ) من كتاب: " عقيدة أبي حاتم ... " : (( ... حتى صار أئمة أهل البدع يطلق عليهم السني بزعمه ! لقب ( الإمام ) ويردفه : ( رحمه الله ) ! )) ا هـ .
……=
والرجل وأضرابه جرت ألسنتهم على الطعن، والشتم، والبذاءة في العلماء؛ فقد قال عن " علي بن الحسن ابن عساكر " : (( جهمي جلد )) ، راجع : " الجامع في الحث على حفظ العلم " تحقيقه ( ص 212 ) .
…أقول – والحق أقول - : إن الحداد بتنقصه لأهل السنّة، وتطاوله عليهم، أمثال الإمام ابن باز، والعثيمين، والفوزان، وغيرهم ممن يوصون بكتاب " العقيدة الطحاوية " وشرحه، وهمزه للألباني على تخريجه إياه، وطعنه على شيخ الإسلام ابن تيمية؛ كل هذا نابع من غيرته الشديدة – بزعمه – على عقائد المسلمين حتى لا يدخلها شائبة !!، سبحان الله !! .
لم يسلم منه أهل السنة أهل التوحيد، الخُلَّص، وسلم منه أهل البدع والشرك والخرافات، فهل هذه هي الغيرة على عقائد المسلمين لا يلوثها الأئمة الأعلام ؟ !! .
سلم منه (( الإخوان المسلمون )) الذين جابوا البلاد المصرية عرضًا وطولاً، وعاثوا في الأرض فسادًا، فلم نر ولم نسمع أنه تكلم فيهم، ولا أخرج كتاباً عنهم، ولا شارك بمقال في مجلة، ولا في صحيفة، ولم ينكر عليهم طوال إقامته في مصر، أو حتى لما كان بعيداً عنهم – في بلاد الحرمين -، وآمنًا من شرهم على نفسه .
…سلم منه القبوريون، فالأضرحة منتشرة في بلاده، والطواف والتمسح بالقبور أمامه على مرآى منه ومسمع، والاستغاثة بالأولياء – زعموا – لا ينكرها أحد .
سَلِمَ منه الصوفيّة، وأصحاب الموالد!! .
سَلِمَ منه (( حزب التكفير )) والخوارج !.
سَلِمَ منه (( حزب التبليغ )) !! .
سَلِمَ منه ...، و سَلِمَ ...، وسكت عن الجميع ...
ألا يسعه السكوت وإمساك لسانه عن أهل السنّة، الداعين إليها، الذابين عنها، المحذرين من الشرك، والبدع، والمعاصي، المنفِّرين من أهل البدع والأهواء ؟؟ !! .
واستنتاجاً مما سبق نقول : إن الرجل ليس عنده ذب عن السنّة، ولا دفاعٌ عنها، وإنما هو الهوى، وحب الظهور نسأل الله العافية والسلامة .
……=
=…ويعجبني هنا مقولة العلامة المحدث الشيخ : ناصر الدين الألباني، التي كثيرًا ما أسمعها منه : (( حبّ الظهور يقصم الظهور )) .(41/107)
، فهذه طريقة يُقْصد بها الفصل بين العلماء وبين الشباب والمجتمع؛ حتى يتسنى للمفسد زرع شروره، لأنه إذا أسيء الظن بالعلماء فُقدت الثقة بهم، وسنحت الفرصة للمغرضين في بث سمومهم .
وأعتقد أن هذه الفكرة دسيسة دخيلة على هذه البلاد وأهلها من عناصر أجنبية، فيجب على المسلمين الحذر منها .
- - - - -
س 79 : هل من الاجتماع: الاستخفاف بـ(( هيئة كبار العلماء ))، ورًمْيِهِم بالمُداهنة والعَمَالَة ؟ .
جـ / يجب احترام علماء المسلمين، لأنهم ورثة الأنبياء .
والاستخفاف بهم يُعتبر استخفافاً بمقامهم، ووراثتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، واستخفافاً بالعلم الذي يحملونه .
ومن استخفّ بالعلماء استخفّ بغيرهم من المسلمين من باب أولى . فالعلماء يجب احترامهم لعلمهم ولمكانتهم في الأمة، ولمسئوليّتهم التي يتولونها لصالح الإسلام والمسلمين، وإذا لم يوثق بالعلماء فبمن يوثق؟، وإذا ضاعت الثقة بالعلماء فإلى من يرجع المسلمون لحل مشاكلهم، ولبيان الأحكام الشرعية ؟. وحينئذ تضيع الأمة، وتشيع الفوضى .
والعالِم إذا اجتهد وأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، والخطأ مغفور .
وما من أحد استخفّ بالعلماء إلاّ وقد عرّض نفسه للعقوبة (1)
__________
(1) …يقول ابن عساكر - رحمه الله - : (( لحوم العلماء مسمومة وأن هتك الله أستار منتقصهم معلومة فمن ابتلاهم بالثلب ابتلاه الله بالعطب )) .
…وقال : (( إن لحوم العلماء – رحمة الله عليهم – مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والإفتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم خُلق ذميم، والاقتداء بما مدح الله به قول المتبعين إلى الاستغفار بمن سبقهم وصف كريم، إذ قال مثنياً عليهم في كتابه - العزيز – وهو بمكارم الأخلاق وضدها عليم : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (الحشر: 10) . والارتكاب لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاغتياب وسب الأموات جسيم، { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور: 63) )). ا هـ . " تبيين كذب المفتري " : ( 27، 29 ) .(41/108)
، والتاريخ خير شاهد على ذلك قديمًا وحديثًا، ولاسيّما إذا كان هؤلاء العلماء ممن وُكِلَ إليهم النظر في قضايا المسلمين، كالقُضاة، وهيئة كبار العلماء (1)
__________
(1) …وقد ابتلي المسلمون اليوم بفئام من المنتسبين إلى الدعوة، يطعنون في كبار العلماء بعبارات خفيّة، ولكنها لا تخفى على ذوي الألباب .
ولكي يتبيّن الأمر، وينجلي الغبار؛ نذكر بعض مقالات هؤلاء :
يقول صاحب شريط : " حقيقة التَّطَرُّف " :
(( يجب أن يقال للعلماء والدعاة : قوموا أنتم بواجبكم، وخاطبوا جمهور الأمة، وأدّوا دوركم دون أن تنتظروا من أحد أن يأذن لكم بذلك، أو يأمركم به )) .
يقول هذا الكلام بإطلاق ولا يستثنى، وهو يتكلّم في هذه المحاضرة في البلاد السعودية !! . فتأمل – وفقك الله – الكلام ومقصوده .…=
=…ثم يقول – وبهذا الكلام يتضح لك المراد - : (( إن المناصب الرسميّة الدينيّة أصبحت [ حكراً ] على فئات معلومة؛ ممن يجيدون فنّ المداهنة والتلبيس، وأصبح هؤلاء في زعم الأنظمة هم الناطقين الرسميّين باسم الإسلام والمسلمين، مع أنه لا دور لهم إلا في مسألتان :
1- إعلان دخول رمضان وخروجه .
2- الهجوم على من تسميِّهم بالمتطرِّفين )) .
ويقول في شريط " الشريط الإسلامي ماله وما عليه " : (( ما هي قيمة العالم إذا لم يبيّن للناس قضاياهم السياسية، التي هي من أهم القضايا التي يحتاجون إليها )) .
…بهذا الكلام يريد من العلماء أن يشغلوا الناس بالسياسة والأحداث السياسية، والخوض فيما لا يصلح للأمة ولا ينفعها .
إن أهم القضايا هي دعوة الناس إلى التوحيد، وتعليمهم أمور العبادات، وهي التي يحتاج إليها الناس، وليست السياسة الجوفاء التي تدعو إلى الفوضى، وإلى الجهل
…بالدين. وما فائدة السياسة وغالبية المسلمين لا يعرفون من التوحيد شيئاً، ولا من العبادات إلاّ اسمها .
ثم يقول صحاب الشريط : (( أتريد من العالَم أن يبقى محصورًا فقط في أحكام الذبائح، والصيد والنسك، والحيض والنفاس، والوضوء، والغسل، والمسح على الخفين ؟ )) .
وهذا استهجان منه بهذه العبادات ومعرفتها، والتي لا تصح عبادة من أحد حتى يعرف الحكم الشرعي فيها .
وأقول لهذا وأمثاله : لا عليكم، فإن لكم سلف من أمثال : عمرو بن عبيد المعتزلي، الذي كان يسخر من الإمام الحسن البصري – رحمه الله -، ويقول – منفّراً عنه -: ( ما علّمكم الحسن البصري إلا حيضة في خرقة ) .
وهاك أخي نموذجًا آخر :
يقول صاحب شريط : " ففرّوا إلى الله " :
(( أنا أقول كلمتنا للعلماء … لا نضع اللوم دائمًا على جهة معينة …، وخاصة
……=
الذي يعيش معترك معيّن، وظروف معيّنة تحتم عليه مجاملات أو أوضاع صعبة … وعلماؤنا يا أخوان كفاهم كفاهم، لا نبّرر لهم كلّ شيء، لا نقول : إنهم معصومون، كفاهم أنهم أجهدوا أنفسهم في طلب العلم، وأعطونا الفتاوى في عباداتنا، وفي عقائدنا، في معاملاتنا.. لكن نقول : نعم، عندهم تقصير في معرفة الواقع، عندهم أشياء نحن نستكملها …، ليس من فضلنا عليهم، لكن لأنا عشنا الأحداث وهم ما عاشوها، بحكم الزمن الذي عاشوه، أو بأحكام أوضاع أخرى .
أنا أقول : العلماء جزاهم الله خيراً، نحن نتمِّمهم، ونكمّلهم، ونبيّن لهم أمر الواقع …
ومع ذلك أقول : المسئولية الأساسية علينا نحن طلبة العلم في الدرجة الأولى … وبعض هؤلاء العلماء قد بدأ يسلّم الأمر، لأنه – يعني – انتهى في السنّ أو إلى مرحلة … فكِّروا من سيخلفهم، فكِّروا من … ؟ )) . اهـ .
…وهذا هو الذي أسموه (فقه الواقع)، حتى أن أحدهم ألّف كتاباً أسماه ( فقه الواقع )، ولقد انتقده العلامة المحدث : ناصر الدين الألباني في حوار طويل مسجل في شريطين أو أكثر وقد وعد صاحب كتاب " فقه الواقع " الشيخ الألباني في ذلك الحوار أن يعيد طباعة الكتاب بعد حذف ما لاحظه الشيخ عليه؛ ولكن لم ... !! .
وقد أشغلوا الناس به، وما هو إلا فقه الجرائد والمجلات وإذاعة لندن، وغيرها .
راجع الجواب على سؤال ( 3 ) وحاشيته رقم ( 8 ) من هذا الكتاب .
تأمّلوا أيها القُرّاء؛ فإنهم يتكلمون على وَتِيرة واحدة، وبمعنىً واحد، مع أن هذا في الغرب، وذاك في الشمال من البلاد السعودية .
ومثل هذا الصنف كثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ويريد هذا – وأمثاله – من المهيّجين السياسيين والمثيرين للفتن أن يخْلُفوا كبار العلماء في بلادنا؛ أمثال الإمام : ابن باز، والعثيمين، والفوزان، واللِّحَيْدان، والغِدَيَّان، وبقيّة إخوانهم !! . فاللهم سلِّم .
وأقول لدعاة ( فقه الواقع ) – زعموا - : من كان أفقه للواقع ؟، ومن كان موفقاً ومصيباً ؟، أأنتم ؟؟ أم هيئة كبار العلماء – حفظهم الله – في حرب…=
=…الخليج، عندما أجازوا الاستعانة بأمريكا وغيرها لصد عدوان الظالم؟، وهل تناسيتم عندما عارضتم قرار الهيئة في كلماتكم ومحاضراتكم الملتوية العبارات، وظننتم أن لا أحد يفهمكم؟.(41/109)
.
س 80 : ما نصيحتكم لمن يقول أن هذه الدولة تحارب الدين وتضيق على الدعاة ؟ .
جـ / الدولة السعودية منذ نشأت وهي تناصر الدين وأهله، وما قامت إلا على هذا الأساس، وما تبذله الآن من مناصرة المسلمين في كل مكان بالمساعدات المالية، وبناء المراكز الإسلامية والمساجد، وإرسال الدعاة، وطبع الكتب وعلى رأسها القرآن الكريم، وفتح المعاهد العلمية، والكليّات الشرعيّة، وتحكيمها للشريعة الإسلامية، وجعل جهة مستقلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل بلد؛ كل ذلك دليل واضح على مناصرتها للإسلام وأهله؛ وشجى في حلوق أهل النفاق وأهل الشر والشقاق، والله ناصر دينه ولو كره المشركون والمغرضون (1) .
__________
(1) …ومن نعم الله علينا : أنه لا يوجد ضريح يُعبد ولا يقصد من دون الله، كما هو الحال في غير هذه البلاد " السعودية " .
…كما أن هذه الدولة قامت بفتح مراكز للدعوة والإرشاد على طول البلاد وعرضها، وفتحت حلقات لتحفيظ القرآن الكريم في بيوت الله، فلا ينبغي أن تُغمر هذه الجهود، ونلتمس العثرات .
وأما وصف هذه الدولة بأنها تُضيِّق على الدعاة، فنعم !!؛ هي تضيق على دعاة الضلالة والمخالفين لمنهج السلف الصالح، فجزاها الله عنّا وعن الإسلام كل خير .
وإنه من واجب السلطان : أن لا يسمح لكل أحد (( أن يهرف بما لا يعرف )) ، وإلا
……=
=…لفسدت العقائد باختلاف المناهج والمشارب .
فهؤلاء دعاة (( الصوفية ))، وهؤلاء دعاة (( الروافض ))، وهؤلاء دعاة (( التبليغ )) ، وهؤلاء دعاة (( الإخوان المسلمون ))، وهؤلاء دعاة (( السياسة ))، وهؤلاء دعاة (( التكفير ))، وغيرهم ، وغيرهم .
فلو سُمح لهؤلاء وهؤلاء، فماذا عسى أن تكون البلاد ؟؟ .
نسأل الله السلامة والعافية .
أيسُر هؤلاء ما يحدث من فوضى في بعض الدول المجاورة بدعوى حرية الرأي، وحرية الكلمة دون ضوابط شرعية ؟ !! .(41/110)
ولا نقول : إن هذه الدولة كاملة من كل وجه، وليس لها أخطاء، فالأخطاء حاصلة من كل أحد، ونسأل الله أن يعينها على إصلاح الأخطاء .
ولو نظر هذا القائل في نفسه لوجد عنده من الأخطاء ما يقصر لسانه عن الكلام في غيره، ويخجله من النظر إلى الناس – ونحن – إن شاء الله – نبين الحق وليس علينا ضغوط من أحد - ولله الحمد - .
- - - - -
س 81 : بعض الشباب اليوم يفهم معنى قوله تعالى : { وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } أنهم أولئك الذين يذكرون أخطاء الحكام على المنابر، وأمام الملأ، وفي الأشرطة المسجلة، ويحصرون ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) في ذلك أيضاً، نرجو توجيه أولئك الشباب هداهم الله إلى السلوك الصحيح وتوضيح المعنى الصحيح لهذه الآية، وحكم أولئك الذين يتكلمون في الحكام علناً ؟ .
جـ / يقول الله - سبحانه وتعالى -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } (1)، هذه الآية في كل من قاتل المرتدين قال كلمة الحق وجاهد في سبيل الله، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر طاعة لله تعالى، ولم يترك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من أجل الناس أو من خشية الناس، ولكن قضية النصيحة والدعوة إلى الله هي كما قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (2) ، والله سبحانه وتعالى قال لموسى وهارون لما أرسلها إلى فرعون : { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (3).
__________
(1) … المائدة : 54 .
(2) … النحل : 125 .
(3) … طه : 44 .(41/111)
وقال تعالى في حق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } (1) .
فالنصيحة للحكام تكون بالطرق الكفيلة لوصولها إليهم من غير أن يصاحبها تشهير أو يصاحبها استنفار لعقول الناس السذج والدهماء ، والنصيحة تكون سراً بين الناصح وبين ولي الأمر، إما بالمشافهة، وإما بالكتابة له، وإما أن يتصل به ويبين له هذه الأمور، ويكون ذلك بالرفق، ويكون ذلك بالأدب المطلوب.
أما الذم لولاة الأمور على المنابر، وفي المحاضرات العامة، فهذه ليست نصيحة، هذا تشهير، وهذا زرع للفتنة، والعداوة بين الحكام وشعوبهم، وهذا يترتب عليه أضرار كبيرة، قد يتسلط الولاة على أهل العلم وعلى الدعاة بسبب هذه الأفعال، فهذه تفرز من الشرور ومن المحاذير أكثر مما يظن فيها من الخير.
فلو رأيت على شخص عادي ملاحظة أو وقع في مخالفة ثم ذهبت إلى الملأ وقلت : فلان عمل كذا وكذا لاعتبر هذا من الفضيحة وليس من النصيحة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة ) (2) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينبه على شيء لا يخص قوماً بأعيانهم بل يقول : ( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ) (3) ؛ لأن التصريح بالأسماء يفسد أكثر مما يصلح، بل ربما لا يكون فيه صلاح، بل فيه مضاعفة سيئة على الفرد وعلى الجماعة.
وطريق النصيحة معروف، وأهل النصيحة الذين يقومون بها لا بد أن يكونوا على مستوى من العلم والمعرفة، والإدراك والمقارنة بين المضار والمصالح، والنظر في العواقب، ربما يكون إنكار المنكر منكراً كما قال شيخ الإسلام رحمه الله(4)
__________
(1) … آل عمران : 159 .
(2) …مسلم : ( 2699 ) .
(3) … مسلم : ( 1401 ) .
(4) … قال ابن تيمية قيل : (( ليكن أمرك بالمعروف، بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر )) .
……=
=…وقال سفيان الثوري : (( لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال : رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهي، عدل بما يأمر، عدل بما ينهي، عالم بما يأمر، عالم بما ينهي )) " رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " لابن تيمية : ( 7، 19 ) .(41/112)
، وذلك إذا أنكر المنكر بطريقة غير شرعية، فإن الإنكار نفسه يكون منكراً لما يولد من الفساد، وكذلك النصيحة بغير الطريقة الشرعية ربما نسميها فضيحة ولا نسميها نصيحة، نسميها تشهيراً، نسميها إثارة، ونسميها زيادة فتنة إذا جاءت بغير الطريق الشرعي المأمور به . - - - - -
س 82 : هل يشترط في القنوت في الصلاة إذن ولي الأمر ؟
جـ / الصلاة عبادة، ولا يجوز إحداث شيء فيها إلى بفتوى من أهل العلم ينظرون فيها ويقدرون متى يجوز القنوت ومتى لا يجوز القنوت ولا تجوز الفوضى في الصلاة .
فإذا صدرت فتوى من أهل العلم؛ بالقنوت، فولي الأمر يعمم هذه الفتوى على الناس، وإذا لم يفتوا، فالإمام لا يقنت .
- - - - -
س 83 : ما حكم الذهاب إلى الجهاد دون موافقة ولي الأمر مع أنه يُغفر للمجاهد من أول قطرة دم، وهل يكون شهيداً ؟ .
جـ / إذا خالف وعصى ولي الأمر (1)
__________
(1) … وفي مثل هذه الحال وحال السؤال الذي قبله وغيرها يلزم المسلم استئذان ولي
……=
=…الأمر، لأنه أعطى البيعة له فكيف يخرج عنه دون إذن .
ولنا في سلفنا الصالح خير قدوة وأسوة .
فقد أورد الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي في كتابه " الحوادث والبدع " (ص 109)، أن : تميماً الداري - رضي الله عنه - قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : دعني أدعُ اللهَ وأقصَّ وأذكِّرَ الناس .
قال عمر : لا" .
فإذا كان هذا في مجال الدعوة والوعظ، استئذن تميم - رضي الله عنه - ، ومنع عمر - رضي الله عنه - ، فكيف بما دون ذلك ؟؟ فيكون من باب أولى وألزم .
…وقد قال بعض القوم اليوم - مستنكراً أن يكون القنوت في الصلاة بفتوى من أهل العلم -: حتى القنوت يحتاج إذن من الإمام وإلا نكون من الخوارج، أو نحن خواج … عبارة مثلها .
أقول : وهذا ما هو إلا استهزاء وسخرية بمن يدعو إلى عدم مخالفة ولي الأمر في غير معصية الله، والوقوف عند منعه وإجازته لأنه يعارض بذلك الكتاب والسنة والإجماع، ولو كان عنده علم وتقوى ما قال ذلك .(41/113)
، وعصى والديه يكون عاصياً .
س 84 : هل من كلمة توجيهية قصيرة حول الجماعة، والسمع والطاعة ؟ .
جـ / أمر الله الأمة الإسلامية بالاجتماع على الحق، ونهاها عن التفرّق، والاختلاف؛ فقال الله – تعالى - : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } (1) .
وقال – تعالى - : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (2) .
وأمر سبحانه الأمة بإصلاح ذات بينها عندما يحصل اختلاف؛ فقال-تعالى- : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (3) .
ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يتم اجتماع بين المؤمنين، ولا تتكون لهم جماعة؛ إلاّ بوجود قيادة صالحة، تأخذ على الظالم، وتنصف المظلوم، وتدافع عن البلاد، ويرجع إليها في تنفيذ الأحكام الشرعية، وحماية الأمن؛ ولهذا انعقد إجماع أهل السنّة على وجوب تنصيب الإمام (4) .
__________
(1) … آل عمران : 103 .
(2) … آل عمران : 105 .
(3) … الحجرات : 9 – 10 .
(4) … وإن كان السلطان فاسقًا، فإن إقامة حكم الله في الأرض، وتطبيق أحكام الشريعة؛ أحب إلى الله من إهمال الأمر، وترك الناس في هرج ومرج، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( حدٌّ يُعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يُمطروا أربعين صباحًا )) . راجع "الصحيحة" ( 231 ) .(41/114)
ولما تُوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم الصحابة بتجهيزه - صلى الله عليه وسلم - حتى نصبوا لهم إمامًا يخلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ فبايعوا أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - ؛ مما يدلّ على ضرورة هذا الأمر، وعدم التساهل فيه .
- - - - -
س 85 : ما هي أسباب ووسائل الاجتماع ؟ .
جـ / أسباب الاجتماع هي:
أولاً : تصحيح العقيدة، بحيث تكون سليمة من الشرك؛ قال تعالى:
{ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } (1) ؛ لأن العقيدة الصحيحة هي التي تؤلّف بين القلوب، وتزيل الأحقاد، بخلاف ما إذا تعدّدت العقائد، وتنوّعت المعبودات؛ فإن أصحاب كل عقيدة يتحيّزون لعقيدتهم ومعبوداتهم، ويرون بطلان ما عليه غيرهم، ولهذا قال– تعالى - : { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } (2) .
ولهذا كان العرب في الجاهلية متشتِّتين، مستضعفين في الأرض، فلما دخلوا في الإسلام، وصَحّت عقيدتهم؛ اجتمعت كلمتهم، وتوحّدت دولتهم.
ثانيا: السمع والطاعة لولي أمر المسلمين؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، إن أُمِّر عليكم عبد حبشي؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً...)) الحديث (3). لأن معصية وليّ الأمر سبب للاختلاف.
ثالثاً: الرجوع إلى الكتاب والسنة لحسم النزاع، وإنهاء الاختلاف، قال- تعالى- : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ؛ (4) فلا يرجع إلى آراء الرجال وعاداتهم.
__________
(1) … المؤمنون : 52 .
(2) …يوسف : 39 .
(3) …صحيح: أخرجه أبو داود: (4607)، الترمذي: ( 2776)، والحاكم:( 1/96)، واللفظ له.
(4) …النساء : 59 .(41/115)
رابعاً: القيام بإصلاح ذات البَين عند ما يدبّ نزاع بين الأفراد، أو بين القبائل؛ قال- تعالى-: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } (1) .
خامساً: قتال البُغاة والخوارج، الذين يريدون أن يفرقوا كلمة المسلمين؛ إذا كانوا أهل شوكة وقوّة تهدِّد المجتمع المسلم، وتفسد أمنه، قال-تعالى- { فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } (2)؛ ولهذا قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - البغاة والخوارج، وعُدَّ ذلك من أفضل مناقبه- رضي الله عنه وأرضاه-.
- - - - -
س86: من الذي له حق الاجتماع والسمع والطاعة؟.
جـ/ الذي له حق السمع والطاعة على عامة المسلمين هم ولاة الأمور، من: الأمراء والعلماء، في غير معصية الله، قال- تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم } (3)، لِمَا في طاعة ولاة أمور المسلمين من اجتماع الكلمة، وتجنّب الاختلاف.
أما النمّامون والمنافقون فلا تجوز طاعتهم (4)؛ قال تعالى :
__________
(1) …الأنفال : 1 .
(2) …الحجرات : 9.
(3) …النساء : 59.
(4) …وهذه الطاعة تشبه الاتباع للأحزاب السياسيّة، والفِرق الموجودة اليوم، الذين يأخذون البيعة لرؤساء الفِرق والأحزاب، فلا يخرجون عن أوامرهم، ويتركون طاعة السلطان. …
…وهناك من يُرَوّج لهذه البيعات الحزبية البدعية. …=
=…يقول صاحب شريط " الإسلام والحزبية " : (( أما الكلام في البيعة التي عند بعض الجماعات الإسلامية؛ فقد رأيت.... أقرب ما يقال في ذلك- فيما يظهر لي، وهو اجتهاد خاص، لا ألزم به أحداً- الذي أراه: أن أقل أحولها أن تكون مكروهة [ !!ٍ ]، لما فيها من التشبه أو مشابهة النذر[!]، فإنها تشبه النذر. فالذي أراه : أن أقل أحواله أن يكون مكروهاً كراهة تنزيه، قياساً على النذر [ !!!]. هذا ما يظهر لي )) ا هـ .(41/116)
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } الآية (1)، وقال- تعالى- { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ? } (2) .
- - - - -
س 87: هل من الاجتماع إثارة وشحن الغل والحقد في قلوب العامة نحو ولاة الأمر؟
جـ/ شحن الغل والحقد على ولاة الأمور في قلوب العامة هو من عمل المفسدين والنمّامين؛ الذين يريدون إشاعة الفوضى، وتفكيك المجتمع الإسلامي (3) .
__________
(1) …الأحزاب : 1 .
(2) …القلم : 10-12 .
(3) …وهم المحرضون على الخروج على الحكام، وإن لم يخرجوا، وقد سماهم أهل العلم بـ"القعدية" فهذا ابن حجر- رحمه الله –يعدد الفرق الضالة ويعرفها فيقول : " القعدية": الذين يزينون الخروج على الأئمة ولا يباشرون ذلك. هدي الساري مقدمة فتح الباري: ( ص/ 459)
……=
=…ويقول أيضاً معرفاً " القعدية"،: والقعد الخوارج كانوا لا يُروْنَ بالحرب بل ينكرون على أمراء الجور حسب الطاقة ويدعون إلى رأيهم ويزينون مع ذلك الخروج ويحسنونه.ا هـ . " تهذيب التهذيب" : ( 8/114).
…و " القعدية": فرقة من الخوارج، فلا يظن ظاناً أن الخوارج هم الذين يخرجون بالسيف لقتال الحاكم فقط؛ فتنبه !!!
…يقول ابن حجر- رحمه الله- في " هدي الساري": ( ص 460) - وهو يذكر أسماء بعض الرجال الذين رُموا في عقيدتهم: عمران بن حطان رمي برأي القعدية من الخوارج. اهـ .
و" القعدية " غالباً أخطر من الخوارج أنفسهم؛ إذ أن الكلام وشحن القلوب وإثارة العامة على ولاة الأمر له أبلغ الأثر في النفوس وخاصة إذا خرج من رجل بليغ متكلم يخدع الناس بلسانه وتلبسه بالسّنة.
روى أبو داود في مسائل الإمام أحمد- رحمهم الله – عن عبدالله بن محمد الضعيف - رحمه الله- أنه قال: قعد الخوارج هم أخبث الخوارج. ( ص/ 271) .(41/117)
وقد حاول المنافقون قديماً مثل هذا عندما أرادوا أن يفصلوا المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفكّكوا المجتمع، وقالوا: { لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا } (1).
فمحاولة الفصل بين الراعي والرعيّة هي من عمل المنافقين، المفسدين في الأرض، الذين قال الله فيهم: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } (2).
والناصح لأئمة المسلمين وعامتهم على العكس من ذلك؛ فهو يسعى
في تحبيب الرُّعاة إلى الرّعية، وتحبيب الرعيّة إلى الرُّعاة، وجمع الكلمة، وتجنّب كل ما يفضي إلى الخلاف.
- - - - -
س 88: ما هو الواجب على الدعاة وطلبة العلم لولاة الأمر؟.
جـ/ الواجب على الدعاة إلى الله - عز وجل -: العمل على جمع كلمة المسلمين، وإبطال خطط الكفّار والمنافقين، الذين يريدون تفكيك المجتمع المسلم، وزرع العداوة والأحقاد بين المسلمين، والفصل بين المسلمين وبين قيادتهم.
ويجب عليهم: حثّ المسلمين على الاجتماع والتآلف،والنصيحة لولاة الأمور (3)
__________
(1) …المنافقون : 7 .
(2) …البقرة : 11 .
(3) …وهذا التوجيه والإرشاد للمجتمع ينبغي أن يكون في خطب الجمع والمحاضرات العامة، حيث يكون الجمع أكثر، والفائدة أعم، بدلاً من الخطب والمحاضرات الحماسية الثورية التي تثير العداوة على ولاة الأمور.
كما ينبغي لهذا التوجيه أن يكون في المدارس على جميع مراحلها، وتربية النشئ على محبة ولاة الأمور واحترامهم، وعدم تنقصهم؛ لأن تنقّصهم يفضي إلى عدم السمع والطاعة بالمعروف، فإذا حدث ذلك، فإن الفوضى تعمّ، والفتنة تَهيج.
فليعلم ذلك الدعاة، وليوجهوا الشباب للوجهة الصحيحة السلمية؛ المستقاة من الكتاب والسنة، على فهم سلف الأمة الصالح.(41/118)
، وإعانتهم على الحق، وإرشادهم إلى الخير؛ فيما بينهم وبينهم، دون تشهير أو تعنيف، قال- تعالى-: { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (1) .
س 89: هل البيعة واجبة أم مستحبة أم مباحة؟؛ وما منزلتها من الجماعة والسمع والطاعة؟.
جـ/ تجب البيعة لولي الأمر على السمع والطاعة عند تنصيبه إماماً للمسلمين على الكتاب والسنة (2)؛ والذين يبايعون هم أهل الحل والعقد من العلماء والقادة.
أما غيرهم من بقيّة الرّعية فهم تَبَعٌ لهم، تلزمهم الطاعة بمبايعة هؤلاء، فلا تطلب البيعة من كل أفراد الرعية؛ لأن المسلمين جماعة واحدة، ينوب عنهم قادتهم وعلماؤهم (3)
__________
(1) …طه : 44 .
(2) …قال الشوكاني- رحمه الله-: " من أعظم الأدلة على وجوب نصب الأئمة، وبذل البيعة لهم: ما أخرجه أحمد، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبّان في صحيحه، من حديث الحارث الأشعري، بلفظ: " من مات وليس عليه إمام جماعة فإن موتته موتة جاهلية". ثم إن الصحابة لمّا مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدّموا أمر الإمامة ومبايعة الإمام على كل شيء؛ حتى أنهم اشتغلوا بذلك عن تجهيزه - صلى الله عليه وسلم - " . السيل الجرّار ": ( 4/ 504).
(3) …يقول الإمام الشوكاني:" طريقها- أي: البيعة- : أن يجتمع جماعة من أهل الحل والعقد، فيعقدون له البيعة .. وأن المعتبر هو وقوع البيعة له – الإمام – من أهل الحل والعقد، فإنها هي الأمر الذي يجب بعده الطاعة ويثبت به الولاية، وتَحرُم معه المخالفة. وقد قامت على ذلك الأدلة وثبتت به الحجة.
وقد أغنى الله عن النهوض، وتجشُّم السفر، وقطع المفاوز ببيعة من بايع الإمام من أهل الحق والعقد؛ فإنها ثبتت إمامته بذلك، ووجبت على المسلمين طاعته.
…وليس من شرط ثبوت الإمامة: أن يبايعه كل من يصلح للمبايعة، ولا من شرط الطاعة على الرجل أن يكون من جملة المبايعين؛ فإن الاشتراط في الأمرين مردود
=…بإجماع المسلمين أوّلهم وآخرهم، سابقهم ولا حقهم )) .
" السيل الجرّار" : ( 4/511،513).
قد يقول قائل- وقد قيل، وسمعناه من بعضهم هنا وهناك-: إن البيعة لا تنعقد إلاّ للإمام العام للمسلمين جميعاً، كما هو الشأن في زمن الخلافة الراشدة.
فنقول وبالله التوفيق ردًّا على هذه الشُّبهة :
يقول الإمام الشوكاني- رحمه الله تعالى-:" إذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه، مربوطة به ، كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول : أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة.
وأما بعد انتشار الإسلام، واتساع رقعته، وتباعد أطرافه؛ فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته؛ فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره و نواهيه؛ وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولا يته ، وبايعه أهله، كان الحكم فيه: أن يقتل إذا لم يتب؛ ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار.
فاعرف هذا؛ فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام، وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مباهت،
…لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعلقها". انتهى باختصار من " السيل الجرّار": (4/ 512).
وقد ترد شبهة أخرى؛ فيقال: لا تكون الإمامة إلا بالاختيار والرضى من الرعيّة .
فنقول : هذا الكلام لا يَرد إلا من اثنين:
……=
=…إما جاهل بالسنة: فهذا يُبيّن له الأمر، ونسأل الله أن يشرح صدره.
وإما صاحب هوى عرف الحق وعاند: فهذا ليس في مخاطبته حيلة.
وردًّا على هذه الشبهة؛ نقول- وبالله نستعين-: ليعلم الجميع من طلبة العلم وعامة الناس أنّ الخلافة والإمامة تنعقد بأمور:
إما بالاختيار لمن هو أولى وأفضل، كما حدث لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - .
وإما بعهد الأول إلى الثاني، كما عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما.
وإما بالعهد إلى نفر معروفين معيّنين لاختيار واحد منهم، كما عهد عمر - رضي الله عنه - إلى أصحاب الشورى.
ثم لما استشهد عثمان بايعوا عليًّا رضي الله عنهما .
وإما بالغلبة والسيف، كما هو في عهد بني أمية وغيرهم؛ فقد حصلت الخلافة لبني أمية في الأندلس، والخلافة قائمة في بغداد للعباسيين ، والأئمة والعلماء متوافرون، منهم: حميد الطويل، وشعبة بن الحجاج، والثوري ، وحمّاد بن سلمة، وإسماعيل ابن عياش، وابن المبارك، وابن عييينة، ويحي القطان، والليث بن سعد، وغيرهم.
ولم يقل أحد منهم بإبطال قيام خلافة الأندلس، والبيعة لخليفتها.
ولا ننسَ أن لازم هذا المذهب- أي : أن الإمامة لا تكون إلا بالرضى- إبطال لخلافة علي وابنه الحسن رضي الله عنهما، الذي آلت إليه الخلافة بعد مقتل أبيه؛ إذ لم تجتمع جميع الأمة على بيعتهما. فتأمّّل وتدبر !!!.
…يقول الإمام أحمد – إمام أهل السنة: (( أصول السنّة عندنا: التمسّك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء بهم.....، والسمع والطاعة للأئمة ... البَرّ
…والفاجر؛ ومن وَلٍٍِِيَ الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة ... ماضٍِ، وليس لأحد أن يطعن عليهم، وينازعهم...، ومن خرج على إمام المسلمين- وقد كان الناس اجتمعوا عليه، وأقرُّوا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضى، أو بالغلبة- فقد شقّ هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية )).
……=
=…من كتاب " أصول اعتقاد أهل السنة" للّلالكائي: ( 1/ 156- 161).
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى-: (( الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان؛ له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا. لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لا يصلح إلا بالإمام الأعظم )). " الدرر السنّية" : ( 7/239).
يقول الإمام عبد العزيز بن باز – رحمه الله -: ننصح الجميع بلزوم السمع والطاعة ، والحذر من شق العصا والخروج على ولاة الأمور مما يروا من المنكرات العظيمة، لأن هذا من دين الخوارج، وهذا غلط، هذا خلاف ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز لأحد شق العصا، والخروج، والذي يدعو إلى ذلك- الشرع أن – يُقتل والواجب على ولاة الأمور إن عرفوا من يدعو إلى هذا أن يأخذ على يديه بالقوة حتى لا تقع فتنة بين المسلمين.ا هـ. راجع كتاب:" الفتاوى المهمة في تبصير الأمة " .(41/119)
.
هذا ما كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة، كما كانت البيعة لأبي بكر - رضي الله عنه - ولغيره من ولاة المسلمين.
وليست البيعة في الإسلام بالطريقة الفوضوية المسمّاة بالانتخابات، التي عليها دول الكفر، ومن قلّدهم من الدول العربية، والتي تقوم على المساومة، والدعايات الكاذبة، وكثيراً ما يذهب ضحيّتها نفوس بريئة.
والبيعة على الطريقة الإسلامية يحصل بها الاجتماع والائتلاف، ويتحقق بها الأمن والاستقرار، دون مزايدات، ومنافسات فوضوية، تكلّف الأمة مشقّة وعنتًا، وسفك دماء، وغير ذلك .
- - - - -
س 90: ما حكم معصية ومخالفة ولاة الأمر فيما ليس بمحرّم ولا معصية؟.
جـ/ حكم مخالفة ومعصية ولاة أمور المسلمين فيما ليس بمحرّم ولا معصية: أن ذلك محرّم، شديد التحريم؛ لأنه معصية لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - (1)
__________
(1) …يقول الإمام: إسماعيل بن يحي المزني في رسالته "شرح السنّة" إلى أهل طرابلس المغرب: (( والطاعة لأولي الأمر فيما كان عندالله – عزّ وجل- مرضيًّا، واجتناب ما كان عند الله مسخطًا )) .
…قد يقول قائل: كيف وإن جاروا، وإن ظلموا، فلن يسعنا السكوت على الظلم والفسق.
فالجواب على ذلك : أن نرد الاختلاف والتنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال تعالى-: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول } الآية ؛ فعلى هذا فإن الله- تعالى – أمرنا أن نطيع وليّ الأمر في غير معصية، قال – عز وجل -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( بل اسمع وأطع، وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك )) انظر الفتح : ( 13/8 ) .
يقول شارح" الطحاوية "( ص:381 ) (( وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا: فلأنه يترتّب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جَورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات، ومضاعفة الأجور، فإن الله - تعالى -
…ما سلّطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل. فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل )) .(41/120)
؛ قال- تعالى-: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } (1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني)(2) .
ولِمَا يترتّب على معصية ولاة الأمور من شَقّ العصا، وتفريق الكلمة، واختلاف الأمة، وحدوث الفتن، واختلال الأمن.
ومبايعة وليّ الأمر تقتضي طاعته بالمعروف، ونزع اليد من طاعته يُعتبر خيانة للعهد، وقد قال- تعالى-: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } (3)، والغدر بالعهد من صفات المنافقين.
- - - - -
س 91: ما حكم فتح الثغرات على ولاة الأمر، وفتح لِجان ومشاريع لم يأذن بها ولاة الأمر؟.
جـ/ لا يجوز لأحد من الرعيّة أن ينشيء لِجان أو مشاريع تتولّى شيئاً من أمور الأمة إلا بإذن وليّ الأمر؛ لأن هذا يُعتبر خروجاً عن طاعته، وافتئاتاً عليه، واعتداءً على صلاحيته، ويترتّب على ذلك الفوضى، وضياع المسئولية.
- - - - -
س 92: هل من الحكمة رفع المظالم والشكاوي لعامة الناس، وما الطريق الصحيح في ذلك؟.
جـ/ رفع المظالم والشكاوي يجب أن يكون إلى وليّ الأمر، أو نائبه، ورفع ذلك إلى غيره من عامة الناس مخالف لمنهج الإسلام في الحكم والسياسة، ويلزم عليه منازعة وليّ الأمر في صلاحيّاته؛ فلا يجوز لأحد أن ينصِّب نفسه مرجعاً للناس دون وليّ الأمر، لأن هذا من مبادئ الخروج على وليّ الأمر: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (4)؛ فلا فوضى في الإسلام، وإنما الفوضى في نظام الكفرة والمنافقين، ونظام الإسلام منضبط-ولله الحمد-.
- - - - -
__________
(1) …النساء : 59 .
(2) …صحيح: أخرجه ابن أبي عاصم في " السنّة": (1065- 1068).
(3) …النحل : 91 .
(4) …النساء : 115 .(41/121)
س 93: هل يمكن الاجتماع مع اختلاف المنهج والعقيدة؟.
جـ/ لا يمكن الاجتماع مع اختلاف المنهج والعقيدة، وخير شاهد
لذلك: واقع العرب قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، حيث كانوا متفرِّقين متناحرين، فلما دخلوا في الإسلام، وتحت راية التوحيد، وصارت عقيدتهم واحدة، ومنهجهم واحداً؛ اجتمعت كلمتهم، وقامت دولتهم، وقد ذكّرهم الله بذلك في قوله تعالى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } (1).
وقال- تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (2)
والله – سبحانه- لا يؤلف بين قلوب الكفرة والمرتدّين والفِرق الضالة
أبداً (3) ، إنما يؤلف الله بين قلوب المؤمنين الموحّدين، قال – تعالى- في الكفّار والمنافقين المخالفين لمنهج الإسلام وعقيدته: { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } (4).
وقال-تعالى-: { ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك } (5) { إلا من رحم ربك } وهم أهل العقيدة الصحيحة، والمنهج الصحيح؛ فهم الذين يسلمون من الاختلاف.
__________
(1) …آل عمران : 103 .
(2) …الأنفال آية : 63.
(3) …حال الفرق والأحزاب التي على الساحة اليوم- كما يقال- أكبر شاهد ودليل؛ فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب. والقلوب إذا اتفقت وتعارفت فإنها تأتلف، والعكس.
كما جاء الوصف على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )) . البخاري: ( 3158).
(4) …الحشر : 14 .
(5) …هود : 118 .(41/122)
فالذين يحاولون جمع الناس مع فساد العقيدة واختلاف المنهج يحاولون مُحالاً؛ لأن الجمع بين الضدين من المحال.
فلا يؤلّف القلوب، ويجمع الكلمة؛ سوى كلمة التوحيد (1)، إذا
عُرف معناها، وعُمل بمقتضاها ظاهراً وباطناً، لا بمجرّد النطق بها مع مخالفة ما تدلّ عليه؛ فإنها حينئذ لا تنفع.
- - - - -
س 94: هل يمكن الاجتماع مع التحزّب؟. وما هو المنهج الذي يجب الاجتماع عليه؟.
جـ/ لا يمكن الاجتماع مع التحزب؛ لأن الأحزاب أضداد لبعضهم
البعض، والجمع بين الضدين مُحال، والله – تعالى- يقول: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } (2).
فنهى- سبحانه- عن التفرّق، وأمر بالاجتماع في حزب واحد؛ وهو حزب الله: { أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (3) .
وقال- تعالى-: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } (4) .
فالأحزاب والفِرق والجماعات المختلفة ليست من الإسلام في شيء، قال- تعالى- : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (5).
__________
(1) …الذين يحاولون جمع الناس مع فساد العقيدة واختلاف المنهج، على سبيل المثال لا الحصر في عصرنا هذا: ( فرقة الإخوان المسلمون)، فإنها تضم في صفوفها: الرافضي، والجهمي، والأشعري، والخارجي، والمعتزلي، وكذا النصراني؛ فلا تنسَ ذلك.
وقد سبق وأن قرأتَ أيها القاريء الكريم في ثنايا هذا الكتاب أقوال بعض أهل العلم عن فرقة " الإخوان المسلمون " ؛ بأنهم لا يهتمون بالدعوة إلى التوحيد، ولا يحذرون من الشرك. …=
=…وهذه الصفة من مزايا( فرقة التبليغ )_ أيضاً-، وليست ( الإخوانية، والإخوانية القطبية) منها ببعيد.
(2) …آل عمران : 103 .
(3) …المجادلة : 22.
(4) …المؤمنون : 52.
(5) …الأنعام : 159.(41/123)
ولَمَّا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فِرقة قال: ( كلها في النار إلا واحدة)، وقال: ( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) (1).
فليس هناك فرقة ناجية إلاّ هذه الواحدة، التي منهجها: ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ وما سوى ذلك فهو يفرّق ولا يجمع، قال- تعالى-: { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } (2).
يقول الإمام مالك- رحمه الله-: " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها". (3)
وقال-تعالى-: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } (4) فليس لنا إلاّ الاجتماع على منهج السلف الصالح.
- - - - -
س95 : هل تجوز العمليات الانتحارية وهل هناك شروط لصحة هذا العمل؟
جـ/ لا حول ولا قوة إلابالله، لماذا الانتحار (5) والله جل وعلا
__________
(1) …سبق تخريجه، رقم ( 12، 139).
(2) …البقرة : 138.
(3) …هذا الأثر جاء عن وهب بن كيسان والراوي عنه الإمام مالك، انظر " التمهيد" : ( 23/10) ، وقد فاتني تخريجه (39).
(4) …التوبة : 100.
(5) … قال المحدّث الألباني – رحمه الله- : العمليات الانتحارية في الزمن الحاضر الآن،
……=
=…كلها غير مشروعة، وكلها محرمة، وقد تكون من الأنواع الذي يُخلِّد صاحبها في النار، أما أن تكون عمليات الانتحار قربة يتقرب بها إلى الله....... هذه العمليات الانتحارية ليست إسلامية إطلاقاً.
…وقال العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله-: أما ما يفعله بعض الناس من الانتحار، بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلى الكفار ثم يفجرها إذا كان بينهم، فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله . انظر كتاب : " الفتاوى المهمة في تبصير الأمة " .(41/124)
يقول: { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } (1) فلا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه بل يحافظ على نفسه غاية المحافظة ولا يمنع من ذلك أن يجاهد في سبيل الله ويقاتل في سبيل الله... ولا يحكم لكل من قتل نفسه أو قتل بأنه شهيد.
في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الغزوات كان أحد الشجعان يقاتل في سبيل الله، فقام الناس يثنون عليه يقولون ما أبلى منا أحد مثل ما أبلى فلان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هو في النار)) فصعب ذلك على الصحابة كيف هذا الإنسان الذي يقاتل ولا يترك أحداً من الكفار إلا تبعه وقتله يكون في النار. فتبعه رجل وراقبه وتتبعه بعد ما جرح ثم في النهاية رآه وضع غمد السيف على الأرض ورفع ذبابته إلى أعلى ثم تحامل عليه وقتل نفسه.
فقال الصحابي صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الرسول لا ينطق عن
الهوى (2) .
لماذا دخل النار مع هذا العمل، لأنه قتل نفسه ولم يصبر. فلا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه ولا يقدم على شيء فيه قتل نفسه؛ إلا إذا كان ذلك في حال الجهاد مع ولي أمر المسلمين وكانت المصلحة راجحة على مفسدة تعريض نفسه للقتل .
- - - - -
س 96 : هل القيام بالاغتيالات وعمل التفجيرات في المنشآت الحكومية في بلاد الكفار ضرورة وعمل جهادي؟
جـ / الاغتيالات والتخريب، أمر لا يجوز. لأنه يجر على المسلمين شراً، ويجر على المسلمين تقتيلاً وتشريداً، إنما المشروع مع الكفار الجهاد في سبيل الله ومقابلتهم في المعارك إذا كان عند المسلمين استطاعة يجهزون الجيوش ويغزون الكفار ويقاتلوهم كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) …النساء : 29 – 30 .
(2) …الحديث في البخاري: (2742 ، 3966) وقد ساقه الشيخ - حفظه الله - بمعناه .(41/125)
أما التخريب والاغتيالات فإنها تجر على المسلمين شراً. (1)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما كان في مكة قبل الهجرة كان مأموراً بكف اليد. { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } (2)
كان مأموراً بكف اليد عن قتال الكفار، لأن المسلمين ما عندهم استطاعة في قتال الكفار ولو قتلوا أحداً من الكفار لقتلهم الكفار عن آخرهم واستأصلوهم عن آخرهم، لأنهم أقوى من المسلمين، وهم تحت وطأتهم وشوكتهم.
مثل ما تشاهدون الآن وتسمعون. الاغتيالات والتفجيرات ليست من أمور الدعوة ولا من الجهاد في سبيل الله.
هذا يجلب على المسلمين شرًا كما هو حاصل اليوم .
فلما هاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأصبح عنده جيش وعنده أنصار، حينئذٍ أُمر بجهاد الكفار .
والرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة – رضي الله عنهم – يوم أن كانوا في مكة هل كانوا يخربون ممتلكات الكفار أو يغتالونهم .
هل كانوا يخربون أموال الكفار وهم في مكة ؟ أبدًا . كانوا منهيين عن ذلك .
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمور بالدعوة والبلاغ، أما النِزال والقتال فهذا إنما كان في المدينة لما صار للإسلام دولة .
- - - - -
__________
(1) …(( هذه الاغتيالات من الفتن والمصائب، وهذه إنما نشأت من الجهل، الإسلام لم يأت بالاغتيالات، جاء للدعوة إلى الله وتبيين الحق و تحذير الناس، أما أن يعتقد أن هذا كافر فيجب أن أقتله، هذه أمور إنما يرتكبها أناس قصر علمهم وقلت معرفتهم، وضعف فقههم في دين الله، فيعجزوا عن الدعوة إلى الله تعالى، فاتخذوا تلك الوسائل لتنفيذ أمورهم، وأعمالهم، هذه إنما هي خدمة لغيرهم ولتحقيق أهداف غيرهم )). من كلام سماحة المفتي العام الشيخ / عبدالعزيز آل الشيخ .
من كتاب : " الفتاوي المهمة في تبصير الأمة".
(2) …النساء : 77 .(41/126)
س 97 : ما حكم من يُنزِّل حديث الصعب بن جثامة في قتل الأبرياء وتفجير المنشآت من أجل ترهيب الكفار وتخويفهم والانتقام لما يحدث للمسلمين من شر بسببهم ؟ .
جـ / تدمير ممتلكات الكفار وهدم حصونهم مع ما قد يترتب عليه من قتل الصبيان والأطفال هذا إنما هو في الجهاد (1) .
ليس لكل واحد من الأفراد أن يذهب ويخرب بدون جهاد وبدون أمر ولي الأمر، هذا لا يجوز، هذا يجر على المسلمين شروراً وليس له نتيجة في النهاية إلا الشر على المسلمين فهناك فرق بين التخريب والاغتيالات، وبين الجهاد في سبيل الله بقيادة وراية من رايات المسلمين، وجيش من جيوش المسلمين، فيه فرق بين هذا وهذا، فلا يخلط بين الحق وبين الباطل .
- - - - -
س 98 : هل من وسائل الدعوة القيام بالمظاهرات لحل مشاكل ومآسي الأمة الإسلامية ؟ .
جـ / ديننا ليس دين فوضى، ديننا دين انضباط، دين نظام، ودين
سكينة . والمظاهرات ليست من أعمال المسلمين و ماكان المسلمون يعرفونها ودين الإسلام دين هدوء ودين رحمة لا فوضى فيه ولا تشويش ولا إثارة فتن، هذا هو دين الإسلام .
والحقوق يتوصل إليها دون هذه الطريقة. بالمطالبة الشرعية، والطرق الشرعية .
__________
(1) …حديث الصعب بن جثامة - رضي الله عنه - قال : قلت ثم يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين قال - صلى الله عليه وسلم - : ( هم منهم ) .
وفي رواية : قيل له : لو أن خيلاً أغارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين، قال: - صلى الله عليه وسلم - ( هم من آبائهم ) . مسلم : ( 1745 ) وانظر ابن ماجة : ( 2840 ) .
…فأين الاستشهاد بجواز الاغتيالات في حال السِّلْم والأمان كما بين الشيخ – حفظه الله -، إلاّ أن يكون الفقه المنكوس أو الجهل المطبق .(41/127)
هذه المظاهرات تحدث فتناً كثيرة، تحدث سفك دماء، وتحدث تخريب أموال، فلا تجوز هذه الأمور (1)
__________
(1) …لقد كان لتأييد وتشجيع بعض المتحمسين المشهورين بالتهييج والإثارة، الأثر الكبير لدعم المظاهرات في الجزائر .
…يقول صاحب شريط " شرح الطحاوية " رقم ( 185/2 ) في معرض ثنائه على موقف " جبهة الإنقاذ " بالجزائر – بل هي جبهة الدمار للإسلام - :
[ لمّا الدعاة والمشايخ قالوا نطلع مسيرة، طلع ثلاثة مليون ناس قالوا أخرجوا يريدون حكم الله، أخرجوا ... خرجوا النساء سبعمائة ألف خرجن يقولوا احكمونا بالقرآن نريد الحجاب الغوا الاختلاط ] .
{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (البقرة:111) سمي لنا هؤلاء الدعاة والمشايخ الذين أذنوا بخروج هؤلاء النسوة في المظاهرات، حتى نتعرف على هويتهم، ونحْذرهم، ونُحذر منهم. لأنهم دعاة فتنة وبلاء .
واسمعوا إلى الآخر وهو يقول في خطبة جمعة :
[ والذي نفسي بيده لقد خرج في الجزائر في يوم واحد سبعمائة ألف امرأة مسلمة متحجبة يطالبن بتحكيم شرع الله ] انظر كتاب " مدارك النظر .. " ص: ( 476 ) ولا شك أن هذا الكلام في سياق الموافقة والرضى والدعم . وإلا فأين الإنكار ؟ .
…أقول: كيف تم لكم إحصاء هذه الآلاف المؤلفة والملايين من البشر ؟!
……=
=…وأين تذهب من الله في هذا القسم المغلظ ؟؟
كيف تُقرون خروج النساء ؟!
كيف تقرون الضوضاء والفتنة للمسلمين ؟!
وأنتم الدعاة والمربون والموجهون العارفون بالواقع !! زعماً .
أما تقرؤون قول الله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } .
والرد على هؤلاء وأمثالهم يأتي بقاصمة الظهر من العلم الشامخ العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – مختصرًا من " جريدة المسلمون " العدد : ( 540 ) في 11/1/1416هـ حيث قال : (( إن الذين قتلوا من الجزائريين خلال ثلاث سنوات ... عدد كبير خسرهم المسلمون من أجل إحداث مثل هذه الفوضى ...
…الواجب علينا أن ننصح بقدر المستطاع ... وقد علمتُم الآن أن هذه الأمور لا تمت إلى الشريعة بصلة ولا إلى الإصلاح بصلة، ولا نؤيد المظاهرات أو الاعتصامات أو ما أشبه ذلك، لا نؤيدها إطلاقاً، ويمكن الإصلاح بدونها، لكن لا بد أنّ هناك أصابع خفية داخلية أو خارجية تحاول بث مثل هذه الأمور )) ا هـ .
ألا يكون كلام القوم من الأصابع الخفية ؟؟ .
يلاحظ أن فتوى الشيخ العثيمين – رحمه الله – كانت بعد تأييد وتهييج المشار إليهما، إذ أن كلامهما في تأييد المظاهرات في الجزائر كان سنة 1411هـ، ولم نعرف لهما تراجع في ذلك لا من قريب ولا من بعيد .
فأي الفريقين أعلم بـ (( فقه الواقع )) كما يدندنون حوله ؟ أهم المهيجون المتحمسون أم الراسخون في العلم ؟!
كيف بهما وأمثالهما إذ وقفوا في عرصات يوم القيامة والناس من ورائهم، يسألون الله القصاص منهم، وقد حملوا أوزار كل من تأثر بأقوالهم واندفع وراء فتاويهم .
…قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص من آثامهم شيئاً )) جزء من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند " مسلم " (6745) وغيره.(41/128)
.
س 99 : هناك من يرى إذا نزلت نازلة أو مصيبة وقعت في الأمة يبدأ يدعو إلى الإعتصامات والمظاهرات ضد الحكام والعلماء لكي يستجيبوا تحت هذا الضغط، فما رأيكم في هذه الوسيلة ؟ .
جـ / الضرر لا يُزال بالضرر، فإذا حدث حادثة فيها ضرر أو منكر فليس الحل أن تكون مظاهرات أو اعتصامات أو تخريب، هذا ليس حلاً، هذا زيادة شر، لكن الحل مراجعة المسئولين ومناصحتهم وبيان الواجب عليهم لعلهم يزيلوا هذا الضرر، فإن أزالوه وإلا وجب الصبر عليه تفادياً لضرر أعظم منه .
- - - - -
س 100 : بعض الناس يبدّع بعض الأئمة كابن حجر، والنووي، وابن حزم، والشوكاني، والبيهقي، فهل قولهم هذا صحيح ؟ .
جـ / لهؤلاء الأئمة من الفضائل، والعلم الغزيز، والإفادة للناس، والاجتهاد في حفظ السنّة ونشرها، والمؤلفات العظيمة؛ ما يغطي ماعندهم من أخطاء، رحمهم الله – تعالى - .
وهذه الأمور ننصح طالب العلم أن لا يشتغل بها، لأنه يُحرم العلم والذي يتتبع هذه الأمور على الأئمة سيُحرم من طلب العلم، فيصير مشغولاً بالفتنة، ومحبة النزاع بين الناس (1)
__________
(1) …لقد نبتت نابتة تدِّعي السلفية، والسلفية منهم براء، وتتمثل في قائدها "محمود الحدّاد" – الذي سبق ذكره -، فأصبح همّهم : التنقيب عن هفوات الأئمة الكبار
……=
=… الأعلام، والمحدثين المحققين .
نعم، لقد وقع ابن حجر والنووي في بعض أخطاء الأشعرية، ونَبَّه عن ذلك العلماء، وتعليقات الإمام ابن باز على " فتح الباري " معروفة مشهورة، ولكن لا نجعل من هذه الأخطاء مجالاً للتشهير بهم، وابتداء المجالس بذمهم، مع أنهم لم يكن ديدنهم الدعوة إلى البدعة، بل إنهم نصروا السنّة، وحققوا المسائل بالدليل، فلا يقاسون بأهل البدع، الداعين إليها، المخالفين لمنهج السلف قلبًا وقالبًا .
…ومع هذا فإننا نقول – وسبق أن قلنا مثل هذا -: إن الخطأ والمخالفة لا يُسكت عنها، بل تُبين حسب مقتضى الحال والمقام .
ومع هذا فإن الترحم على أهل البدع جائز، ما داموا في دائرة الإسلام، ولا دليل على المنع .
…وقد أثنى العلماء على ابن حجر، والنووي، وكتابيهما " الفتح " و " شرح مسلم "، وهي من الكتب المعتبرة عند أهل السنة، واعتمدوا أقوالهما المصيبة للحق، وهي كثيرة، وتجنّبوا أخطاءهما .
قال الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب : (( ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة ...، وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين كالعسقلاني، والقسطلاني على البخاري، والنووي على مسلم )) ، وقال : (( ولله در النووي في جمعه كتاب " الأذكار " )) ." الدرر السنية " : ( 1/127، 133 ) .
…يقول العلامة المحدث السلفي الشيخ الألباني – رحمه الله - : (( ومثل النووي وابن حجر العسقلاني وأمثالهم؛ من الظلم أن يقال عنهم : من أهل البدع، أنا أعرف أنهما من الأشاعرة، لكنهم ما قصدوا مخالفة الكتاب والسنة، وإنما وهموا وظنوا أنما ورثوه من العقيدة الأشعرية ظنوا شيئين اثنين :
أولاً : أن الإمام الأشعري يقول ذلك، وهو لا يقول ذلك إلاّ قديماً .
وثانياً : توهموه صوابًا، وليس بصواب )) انتهى من شريط : " من هو الكافر ومن هو المبتدع " .
……=
=…فإن قيل : لماذا يُعتذر عن النووي وابن حجر، وما صدر منهما من تأويل، ولا يُعتذر عن ( سيد قطب ) و ( البنا ) و ( المودودي ) وأمثالهم ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن هناك فارقًا كبيرًا بين الصنفين؛ فإن لدى النووي وابن حجر من الرصيد العلمي، ونفع المسلمين؛ ما يغطي ما حصل منهما من خطأ، وقد بَيَّنه أهل العلم، وحذّروا منه؛ فالخطر قد زال بهذا التنبيه.
أما ( سيد ) و ( البنا ) ... فليس لهما رصيد علمي ولا عملي، ولا نفع للمسلمين مثل ما للنووي وابن حجر، وغيرهما من الأئمة الكبار .
…الوجه الآخر : أن النووي وابن حجر لم يدعُوَا إلى أخطائهما، ولم يدعُوَا إلى تحزّب، وتكفير المجتمعات، وتوحيد الصف بين الرافضة، والنصارى، والمجوس، والفِرَق الضالة من جهة، وبين المسلمين، ولم يتضرر من أخطائهما المجتمع.
بعكس ( سيد قطب ) و ( البنا ) وغيرهما – من أضرابهما - ؛ فإنهم لا يرون فرقًا بين العقائد الباطلة الفاسدة، بل الكافرة، وبين العقيدة الصحيحة السليمة، ولا يرون التفريق بين الرافضي والنصراني وغيرهم، وبين المسلم، وقد أضرّوا بالمسلمين ولم يصلحوا؛ فقد تعصّب الكثير لآرائهم المخالفة للكتاب والسنة، وعادوا أهل السنة، وهذا من أعظم الأضرار وأقبحها.و
أخيراً: من ذا الذي يستغني عن كتب ابن حجر والنووي ؟! .(41/129)
، نوصي الجميع بطلب العلم
والحرص على ذلك، والاشتغال به عن الأمور التي لا فائدة منها .
والنووي، وابن حزم، وابن حجر، والشوكاني، والبيهقي؛ هؤلاء أئمة كبار، محل ثقة عند أهل العلم، ولهم من المؤلفات العظيمة، والمراجع الإسلامية- التي يرجع إليها المسلمون – ما يغطي أخطاءهم وزلاتهم، رحمهم الله - تعالى - .
ولكن أنت يا مسكين ماذا عندك ؟، يا من تتلمس وتتجسس على ابن حجر وابن حزم، ومن ذُكِر معهما، ماذا نفعت المسلمين به ؟؟ .
ماذا جمعت من العلم ؟؟ هل تعرف ما يعرفه ابن حجر والنووي ؟؟ .
هل قدمت للمسلمين ما قدم ابن حزم والبيهقي ؟؟ .
سبحان الله !!! . رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه . قل علمُك فتجرأت، وقل ورعك فتكلمت .
- - - - -
س 101 : أرجو أن تبين لنا القول في علماء المدينة وأعني بهم من يدعون بالسلفيين، فهل هم على صواب فيما يفعلون، أوضح لنا الحق في هذه المسألة ؟
جـ / علماء المدينة(1)، أنا ما أعرف عنهم إلاّ الخير، وأنهم أرادوا أن يبينوا للناس الأخطاء التي وقع فيها بعض المؤلفين أو بعض الأشخاص، من أجل النصيحة للناس . وما كذبوا على أحد وإنما ينقلون الكلام بنصه موثقاً بالصفحة والجزء والسطر. ارجعوا إلى ما نقلوه، فإن كانوا كاذبين بينوا لنا جزاكم الله خيراً، نحن ما نرضى بالكذب راجعوا كتبهم انقدوها، هاتوا لي نقلاً واحداً كذبوا فيه أو قصروا فيه وأنا معكم على هذا.
__________
(1) …المقصود بِهم كلاًّ من المشايخ: محمد أمان الجامي- رحمه الله - ، وربيع بن هادي المدخلي، وعبيد الجابري، وعلي الفقيهي، وصالح السحيمي، ومحمد ابن هادي – حفظهم الله - ، والذين لهم الفضل بعد الله - سبحانه وتعالى - في تبصير الكثيرين من طلبة العلم بحال فرقة " الإخوان المسلمين" والرد على قياداتِهم هنا وهناك .(41/130)
أما أن تقولوا للناس اسكتوا واتركوا الباطل ولا تردوا عليه ولا تبينوا؛ هذا غير صحيح، هذا كتمان للحق، الله جل وعلا يقول : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } (1).
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } (2).
نحن نرى الأخطاء ونسكت، ونترك الناس يهيمون ؟؛ لا . هذا ما يجوز أبدًا. يجب أن نبين الحق من الباطل رضي من رضى وسخط من سخط .
- - - - -
س 102 : لقد ذكر السلف القصّاص وذمّوهم، فما هي طريقتهم، وما موقفنا تجاههم ؟ .
جـ / حَذَّر السلف – رحمهم الله – من القصّاص (3)
__________
(1) …آل عمران : 187 .
(2) …البقرة : 159 .
(3) …كان السلف الصالح أشد الناس ذمًا للقصّاص وكرهًا لهم .
…قال أبو إدريس الخولاني : (( لأن أرى في ناحية المسجد نارًا تتأجج أحبُّ إليّ من أن أرى في ناحية المسجد قاصّاً يقص )) .
وقال مالك : (( وإني لأكره القصص في المساجد )) .
وقال – أيضًا -: (( ولا أرى أن يُجلس إليهم، وإن القصص لبدعة )).
قال سالم : (( وكان ابن عمر يُلقى خارجًا من المسجد، فيقول : ما أخرجني إلاّ صوت قاصكم هذا )) راجع كتاب الحوادث والبدع: ( 190 ) .
قلت : لأنهم في الغالب يلهون الناس عن تعلم العلم النافع بالقصص الكاذبة غالباً .
……=
=…قيل لابن سيرين : لو قصصت على إخوانك ؟،فقال :(( قد قيل: لا يتكلم على الناس إلاّ أمير أو مأمور أو أحمق !،ولست بأمير ولا مأمور وأكره أن أكون الثالث )) .
قال ضمرة : قلت للثوري : نستقبل القاص برجوهنا ؟، قال : (( ولُّوا البدع ظهوركم )) .
ولما دخل سليمان بن مِهران الأعمش البصرة، نظر إلى قاص يقص في المسجد، فقال: حدَّثنا الأعمش عن أبي إسحاق، وحدَّثنا الأعمش عن أبي وائل ... فتوسط الأعمش الحلْقَة، ورفع يديه، وجعل ينتف شعر إبطيه، فقال له القاص : يا شيخ ! ألا تستحي ؟، نحن في علم وأنت تفعل هذا؟، فقال الأعمش : (( الذي أنا فيه خير من الذي أنت فيه )) ، قال : كيف ذلك؟، قال : (( لأني في سُنَّة، وأنت في كذب،
…أنا الأعمش، وما حدّثتك مما تقول شيئًأ !! )) ، فلما سمع الناس ما ذكر الأعمش، انفضوا عن القاص، واجتمعوا حوله، وقالوا : حدِّثْنا يا أبا محمد .
…كتاب : " الحوادث والبدع " : ( 111 – 112 ) .
…والآثار في ذلك كثيرة جدًا، ولو استرسلت في النقل لطال المقام، فراجع في ذلك كتاب : " المذكر والتذكير والذكر "، و" القصّاص والمذكرين "، و" تحذير الخواص من أكاذيب القصّاص "، و " تاريخ القصّاص "، وغيرها .(41/131)
؛ لأنهم في
الغالب يتوخون في كلامهم ما يؤثر على الناس من القصص والآثار التي لم تصح، ولا يعتمدون على الدليل الصحيح (1)، ولا يُعنَوْنَ في تعليم الناس أحكام دينهم وأمور عقيدتهم، لأنهم ليس عندهم فقه (2)
__________
(1) …قال الإمام أحمد بن حنبل : (( أكذب الناس القصّاص والسّؤال، وما أحوج الناس إلى قاص صدوق، لأنهم يذكرون الموت وعذاب القبر )) .
…كتاب : " الحوادث والبدع " للطرطوشي : ( 112 ) .
(2) …قال الدكتور محمد الصبّاغ في كتابه : " تاريخ القصاص " – نقلاً عن محقق كتاب : " المذكر والتذكير والذكر " ( ص 30 ) – بتصرًّف :
……=
=…(( وقد يظن ظان أن موضوع إفساد القصّاص لم يعد موجودًا الآن، وإنما هو أمر تاريخي بحت، لا يتصل اليوم بواقع الحياة والناس .
وهذا ظن خاطيء، بعيد عن الصواب، ذلك لأن هؤلاء القصّاص ما زالوا – مع الأسف – موجودين بأسماء أخرى، يعيثون في الأرض فسادًا.
ولئن كان المخادعون الدجّالون يظهرون تحت عنوان ( القصّاص ) فيما مضى، فإنهم يظهرون في أيامنا هذه تحت عنوان ( الداعية )، و ( الموجّه )، و ( المربّي )، و ( الأستاذ )، و ( الكاتب )، و ( المفكر ) ... وما إلى ذلك من الألقاب الرنّانة، ويبدو أن المجاملة التي ليست في محلها ساهمت في تأخير كشف حقيقة هذا النفر ...
…فما يزال كثير من الناس لا يعرفون هؤلاء القوم على حقيقتهم، ويخلطون بين هؤلاء الجهّال وبين الدعاة إلى الله الواعين الصادقين )) ا هـ .
(( وقد تستّر بعض هؤلاء القصّاص المعاصرين تحت شعار الدعوة إلى الله وفي سبيله – وما أكثرهم في عصرنا هذا -، فقلّ أن تجد مصرًا إلاّ وقد حلوا فيه، وراجت فيه
…أكاذيبهم وبدعهم على خلق غفير من عامة الناس؛ فأكثر كلامهم اليوم عن القصص، وضرب الأمثال السخيفة – التي يبادر كل فرد منهم إلى حفظ أكبر قدر منها، وكأنها آيات وأحاديث -، وخوض في الفضائل والزهد على غير أساس سليم، حتى إنك لتجد بينهم من يحرف نصوص القرآن والسنّة عن مواضعها ليؤيد بها باطله الذي أتى به )) .
قال : (( ومنهم من يحث الناس على الزهد وقيام الليل – وهو أمر حسن -، ولا يُبين للعامة المقصود، فربما تاب الرجل من المعاصي والذنوب، وانقطع إلى زاوية يتلقَّف قلبه البدع والخرافات، أو حبَّبوا إليه الخروج من قطر إلى قطر، والترحال من بلد إلى آخر، ويرون الترحال في الدعوة إلى منهجهم واجبًا متحتمًا على كل فرد منهم حتى تزكو نفسه، ويصفو قلبه من الشهوات- حسب زعمهم -؛ فيركن إلى التواكل- لا التوكل -، وترك الأخذ بالأسباب، فكم منهم من ترك أهله لا شيء لهم، ولا من يقوم بمصالحهم، وحوائجهم!،بل كم منهم من فسدت أسرته ! .
ولا تجد منهم من يرشد الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، ونبذ الشرك والتحذير
……=
=…منه، ومن دعاته، لأنّ هذا لا يُعدُّ من أسس دعوتهم ومنهجهم .
هذا حال طائفة من القصّاص المعاصرين )) .
قلت : وهذا ينطبق على (( فرقة التبليغ )) والويل لك إن تكلمت عندهم عن التوحيد، ونبذ الشرك والبدع .
(( وثَمَّة طوائف أخرى لا تقل عنها خطراً وضرراً، لبسوا حُلة الخطابة والدعوة إلى الله، فرقى الكثير منهم المنابر، وعقدت لهم الندوات والمجالس، ولا ديدن لهم إلا
…الصراخ، والتهويل، والقصص التي تَمُجُّها الأسماع السليمة، وسرد الآيات في غير مواضعها، وذكر للأحاديث المكذوبة والواهية، وتحلية المجالس بالحكايات، والإسرائيليات، والرؤى، وبناء الأحكام عليها )) .
قلت : وهذا ينطبق على (( الصوفيّة )) ، وعن الصوفية فلا تسأل !! .
…(( ومنهم من تصدى للدعوة إلى الله عن طريق تسطير المسرحيّات!، بل والأناشيد الإسلامية – زعموا -، والموشحات المخالفة للسنّة!، فليس في دين الله مسرحيّات، بله الأناشيد، ولا يغرنك إضافة لفظ ( إسلامية ) لها، فكل هذه منحولة من الغرب، والروافض، والمتصوفة المارقين عن السنّة وأهلها، فالله المستعان )) .
قلت : وهذا الوصف ينطبق على فرقة (( الإخوان المسلمون )) ، أنصار حسن البنا، وعن الإخوان المسلمين وأفاعيلهم حدِّث ولا حرج .
(( ومع هذا كله نجد بعض أهل العلم قد سكتوا عنهم، بل ووقع البعض في مجاملتهم في باطلهم هذا، فكان هذا من أبرز الأمور التي ساهمت في انتشار دعواتهم الباطلة، ورواجها بين عامة الناس )) .
انتهى من كلام أخينا الفاضل خالد الردادي محقق كتاب : " المذكر والتذكير والذكر " ص ( 30-31 ) حفظه الله .(41/132)
، ويمثلهم في وقتنا
الحاضر :جماعة التبليغ بمنهجهم المعروف، مع ما عندهم من تصوف وخرافة .
وكذلك هم – القصاص – في الغالب يعتمدون على نصوص الوعيد، فيُقنّطوا الناس من رحمة الله – تعالى - .
س 103 : ما وجه نسبة الجماعات الموجودة اليوم إلى الإسلام أو وصفهم بالإسلامية، وصحة إطلاق لفظ الجماعات عليهم، وإنما هي جماعة واحدة كما في حديث حذيفة - رضي الله عنه -؟
جـ / الجماعات فرق توجد في كل زمان، وليس هذا الأمر بغريب،
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة ) (1) .
فوجود الجماعات، ووجود الفرق هذا أمر معروف، وأخبرنا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : ( من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ) (2).
ولكن الجماعة التي يجب السير معها والاقتداء بها والانضمام إليها هي جماعة أهل السنة والجماعة، الفرقة الناجية، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما بين هذه الفرق قال :( كلها في النار إلا واحدة. قالو : ومن هي ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي ). هذا هو الضابط فالجماعات إنما يجب الاعتبار بمن كان منها على ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من السلف الصالح (3).
والله تعالى يقول : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
__________
(1) … الحاكم : ( 1/129 ) وقد سبق تخريجه ( 12، 139 ) .
(2) … أحمد : ( 4/126 ) وقد سبق تخريجه ( 10، 173 ) .
(3) … "كل الجماعات التي تدَّعي الانتساب إلى السلف، إذا لم يعملوا بما كان عليه السلف، فإنما هي دعوى يدعونها". محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله – .
من كتاب : " فتاوى العلماء الأكابر " لعبدالمالك (ص 98 ) .(41/133)
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (1).
هؤلاء هم الجماعة، جماعة واحدة ليس فيها تعدد ولا انقسام (2)، من أول الأمة إلى آخرها، هم جماعة واحدة { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (3).
هذه هي الجماعة الممتدة من وقت الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قيام الساعة، وهم أهل السنة والجماعة (4)
__________
(1) …التوبة : 100 .…
(2) …" جماعة المسلمين على منهاج النبوة لا تقبل التشطير ولا التجزئة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أصحابه رضي الله عنهم، كانت دعوتهم لتكوين جماعة المسلمين حاملة راية التوحيد، (( لا لجماعة من المسلمين )) وأنهم هم المسلمون، وهم الطائفة المنصورة، وهم الفرقة الناجية وهم السلف الصالح، وهم من كان على مثل ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأمر بلزومهم، ونهى عن مفارقتهم والشذوذ عنهم، كما نهى عن تفرقهم" . " حكم الانتماء " ( ص : 60 ) .
(3) …الحشر : 10 .
(4) …" أهل الإسلام ليس لهم سوى الكتاب والسنة، والسير في الدعوة إليهما على مدارج النبوة، وهم كما وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (( من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي )) ، وهم الذين سماهم - صلى الله عليه وسلم - : الجماعة وهم الطائفة المنصورة؛ كما وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وهم الفرقة الناجية، كما وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك لما ذكر الفرق الضالة، وهم المنتسبون لسنته وطريقته، وهم السلف الصالح .
ومن هنا: لما ظهرت البدع والأهواء المضلة، قيل لمعتقدهم : السلفي، أو العقيدة السلفية " . " حكم الانتماء " ( ص :112-113 ) .(41/134)
، وأما من خالفهم من الجماعات فإنها لا اعتبار بها وإن تسمت بالإسلامية، وإن تسمت جماعة الدعوة أو غير ذلك، فكل ما خالف الجماعة التي كان إمامها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنها من الفرق المخالفة المتفرقة التي لا يجوز لنا أن ننتمي إليها أو ننتسب إليها، فليس عندنا انتماء إلا لأهل السنة والتوحيد { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } (1).والذين أنعم الله عليهم بينهم في قوله : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } (2).
فالجماعة التي اتخذت منهجها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعملت بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور ) (3)، هؤلاء هم الجماعة المعتبرة، وما عداها من الجماعات فإنه لا اعتبار بها، بل هي جماعة مخالفة، وتختلف في بعدها عن الحق وقربها من الحق، ولكن كلها تحت الوعيد، كلها في النار إلا واحدة، نسأل الله العافية .
- - - - -
__________
(1) …الفاتحة : 6-7 .
(2) …النساء : 69 .
(3) …سبق تخريجه ( 10، 173 ) .(41/135)
س 104 : ماذا تقول لمن يخرجون إلى خارج المملكة للدعوة وهم لم يطلبوا العلم أبدًا، يحثون على ذلك - أي : الخروج - ويرددون شعارات غريبة ويدّعون أن من يخرج في سبيل الله للدعوة سيلهمه الله، ويدّعون أن العلم ليس شرطًا أساسيًا . وأنت تعلم أن الخارج إلى خارج المملكة سيجد مذاهب وديانات وأسئلة توجه إلى الداعي ألا ترى يا فضيلة الشيخ أن الخارج في سبيل الله لا بد أن يكون معه سلاح لكي يواجه الناس وخاصة في شرق آسيا يحاربون مجدد الدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أرجو الإجابة على سؤالي لكي تعم الفائدة ؟
جـ/ الخروج في سبيل الله ليس هو الخروج الذي يعنونه الآن، الخروج في سبيل الله هو الخروج للغزو، أما ما يسمونه الآن بالخروج فهذا : بدعه لم يرد عن السلف (1)، وخروج العالِم يدعو إلى الله حسب إمكانياته ومقدرته، بدون أن يتقيد بجماعة إلا جماعة أهل السنة أو يتقيد بأربعين يومًا أو أقل أو أكثر .
وكذلك مما يجب على الداعية أن يكون ذا علم لا يجوز للإنسان أن يدعو إلى الله وهو جاهل، قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } (2) .
أي : على علم لأن الداعية لابد أن يعرف ما يدعو إليه من واجب،
ومستحب، ومحرم، ومكروه، ويعرف ما هو الشرك، والمعصية، والكفر، والفسوق، والعصيان، يعرف درجات الإنكار وكيفيته .
والخروج الذي يشغل عن طلب العلم، أمر باطل. لأن طلب العلم فريضة وهو لا يحصل إلا بالتعلم، لا يحصل بالإلهام؛ هذا من خرافات الصوفية الضالة لأن العمل بدون علم ضلال. والطمع بحصول العلم بدون تعلم وهمٌ خاطيء .
- - - - -
__________
(1) …" الواقع أنهم ( يعني : فرقة التبليغ ) مبتدعة، وخروجهم ليس في سبيل الله، ولكنه في سبيل إلياس " . " فتاوى ورسائل " عبدالرزاق عفيفي : ( 1/174 ) .
(2) …يوسف : 108 .(41/136)
س 105 : ماهي، أو من هي جماعة التبليغ وما منهجها الذي تسير عليه وهل يجوز الانضمام إليها والخروج مع أفرادها للدعوة – كما يقولون – ولو كانوا متعلمين وعندهم عقيدة صحيحة كأبناء هذه البلاد؟ (1) .
جـ/ الجماعة التي يجب الانضمام إليها والسير معها والعمل معها هي: جماعة أهل السنة والجماعة التي تسير على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . أما ما خالفها فإنه يجب أن نتبرأ منه .
نعم، يجب أن ندعُوهم إلى الله على سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا واجب علينا .
أما أن ننضم إليهم ونخرج معهم ونمشي على تخطيطهم ونحن نعلم أنهم ليسوا على طريق صحيح، فهذا لا يجوز لأنه ولاء لجماعة غير جماعة أهل السنة والجماعة .
- - - - -
س 106 : ما حكم وجود مثل هذه الفرق كالتبليغ والإخوان المسلمين وغيرها في بلادنا خاصة وبلاد المسلمين عامة ؟ .
جـ / بلادنا ولله الحمد جماعة واحدة، كل أفرادها وكل حاضرتها وباديتها تسير على منهج الكتاب والسنة يوالي بعضهم بعضًا، ويحب بعضهم بعضًا .
أما هذه الجماعات الوافدة فيجب أن لا نتقبلها لأنها تريد أن تنحرف بنا أو تفرقنا، وتجعل هذا تبليغي وهذا إخواني وهذا.. وهذا..، لِمَ هذا التفرق؟؟ هذا كفر بنعمة الله تعالى حيث يقول الله تعالى: { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } (2) .
__________
(1) …" أنا أعرف التبليغ من زمان قديم، وهم المبتدعة في أي مكان هم في مصر، وأمريكا، والسعودية، وكلهم مرتبطون بشيخهم إلياس ". " فتاوى ورسائل " عبدالرزاق عفيفي: ( 1/174 ) .
…قال الشيخ عبدالمحسن العباد :" جماعة التبليغ عندهم أمور منكرة، والمؤسسون هْمّ من أهل البدع ومن أهل الطرق الصوفية ومن المنحرفين في العقيدة فهي بدعة محدثة " : " الفتاوى المهمة في تبصير الأمة " .
(2) …آل عمران : 103 .(41/137)
نحن على جماعة واحدة وعلى وحدة وعلى بينة من أمرنا، فلماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟!! .
لماذا نتنازل عمّا أكرمنا الله عز وجل به من الاجتماع والألفة والطريق الصحيح وننتمي إلى أحزاب تفرقنا وتشتت شملنا وتزرع العداوة بيننا، هذا لا يجوز أبدًا .
أنا شاهدت بنفسي زهد جماعة التبليغ في عقيدة التوحيد ونفورهم من ذكرها وذلك عندما ألقيت محاضرة في التوحيد في بعض مساجد الرياض وكانوا – أي جماعة التبليغ – مجتمعين فخرجوا من المسجد، ومثلي بعض المشايخ ألقوا في المسجد نفسه محاضرة عن التوحيد فخرجوا منه عند ذلك، وكانوا نازلين فيه فإذا سمعوا الدعوة إلى التوحيد خرجوا من المسجد مع أنهم يدعون إلى الاجتماع في المسجد ،لكن لما سمعوا الدعوة إلى التوحيد خرجوا من المسجد.
وأما أنهم لا يقبلون ممن دعاهم إلى التوحيد، فنعم ،وهذا ليس خاص بهم. بل كل من يسير على منهج مخطط لا يقبل التنازل عنه. لو كانوا وقعوا في هذا الأمر عن جهل، فهم يمكن أن يرجعوا إلى الصواب، لكن وقعوا في هذا الأمر عن تخطيط وعن منهج يسيرون عليه من قديم، فلا يمكن أن يرجعوا عن منهجهم، لأنهم لو رجعوا عن منهجهم انحلت جماعتهم وهم لا يريدون هذا.
وآخر كتاب صدر وجمع فيه مقالات عنهم وانتقادات عليهم ممن صحبوهم ثم خرجوا عنهم وتركوهم، هو كتاب حافل جامع للشيخ حمود بن عبدالله التويجري - رحمه الله -، فإنه كتاب ما ترك شيئاً حول هذا الموضوع، لأنه كتاب متأخر جدًا جمع كل ما قيل من قبل فلم يبق فيهم إشكال أبدًا.
لكن الفتنة – والعياذ بالله – إذا جاءت تعمي الأبصار.
وإلا كيف إنسان عاش على التوحيد ودرس التوحيد وعرف
عقيدة التوحيد، ويغتر بهؤلاء ؟!! كيف يخرج معهم ؟ (1). كيف يدعو إليهم ؟ .كيف يدافع عنهم ؟.
__________
(1) …"هم لا يدعون إلى الكتاب والسنة، ولكن يدعون إلى إلياس شيخهم ". ا هـ . من كلام العلامة عبدالرزاق عفيفي فتاواه ( 1/174 ) .(41/138)
هل هذا إلا الضلال بعد الهدى، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، نسأل الله العافية والسلامة.
ونصيحتي للعوام وغير العوام أن لا يصحبوهم .
- - - - -
س 107 : ما موقف الشاب الناشيء من هذه الجماعات الموجودة اليوم، التي تريد ضمه إليها ؟ .
جـ / قد أخبرنا الله ورسوله عن حدوث الفِرَق المخالفة لجماعة أهل السنّة، وبَيّن الله ورسوله كيف نتعامل مع هذه الفرق، قال – تعالى - : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1) .
وقد بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك بيانًا واضحًا، حيث خط خطًّا مستقيمًا، وخط عن يمنيه وشماله خطوطًا أخرى، وقال عن الخط المستقيم : (( هذا سبيل الله ))، وقال عن الخطوط الأخرى : (( وهذه سُبُل ، على كل
سبيل منها شيطان يدعو الناس إليه )) (2) .
__________
(1) …الأنعام : 153 .
(2) …يشير – حفظه الله – إلى حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الثابت في الصحيح، أنه قال :
……=
=…خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطًّا بيده، ثم قال : (( هذا سبيل الله مستقيمًا )) ، قال : ثم خط عن يمينه وشماله، ثم قال: (( هذه السُّبل، ليس منها سبيل إلاّ عليه شيطان يدعو إليه )) ، ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } . أخرجه أحمد : ( 1/465 )، الحاكم : ( 2/318 )، ولفظه : قال : خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطًّا، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطًا، ثم قال : (( هذا سبيل الله، وهذه السُّبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ... )) الحديث، وقال الحاكم: (( هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرِّجاه )) ، ووافقه الذهبي .(41/139)
وقال - صلى الله عليه وسلم - عن قوم يأتون في آخر الزمان : (( دعاة على أبواب جهنم، من أطاعهم قذفوه فيها )) (1) .
فالواجب على الشباب وغيرهم : رفض كل الجماعات والفِرق المخالفة لجماعة أهل السنة والاستقامة، وأن يحذَروا من الدعاة الذين يدعون لتلك الجماعات كما حذّر منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يلزموا جماعة أهل السنة،
وهي الجماعة الواحدة الثابتة على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )) (2)؛ فأمر - صلى الله عليه وسلم - عند الاختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم .
- - - - -
__________
(1) …هذا قطعة من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - حيث يقول : كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت : يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟، قال : نعم ، قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير؟، قال : نعم، وفيه دخن ، قلت: وما دخنه ؟، قال : قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر ، قلت: فهل بعد الخير من شر ؟، قال : نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها ، قلت : يا رسول الله، صفهم لنا، قال : هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا ، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟، قال : تَلْزَم جماعة المسلمين وإمامهم ، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟، قال : فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك . أخرجه البخاري : رقم ( 3411، 6673 ) واللفظ له، وأخرجه مسلم والحاكم، وغيرهم .
(2) …سبق تخريجه، رقم : (10)، و ( 173 ) .(41/140)
س 108 : هل من كلمة أبوية لأبنائكم الشباب الذين اغتروا بهذه الجماعات ولمن انضم إليها ودعا بدعوتها ؟
جـ/ ندعو جميع شباب المسلمين،-وخصوصًا في هذه البلاد-أن يرجعوا عن الخطأ، وأن ينضموا إلى جماعة أهل السنة والجماعة والفرقة الناجية المتمثلة في زماننا هذا ولله الحمد فيما عليه أهل هذه البلاد (1) من علمائها وقادتها وعامتها كلهم نشأوا على التوحيد وساروا على الجادة الصحيحة فنحن على بينة من أمرنا .
ننصح شبابنا بالسير على خُطى هذه الجماعة التي تسير على المنهج الصحيح وأن لا يلتفت إلى الفرق وإلى الجماعات وإلى الحزبيات وإلى المخالفين، لأن هذا يسلب النعمة عن بلادنا ويشتت جماعتنا ويفرق بين قلوبنا، كما هو حاصل الآن – للأسف - .
هذا التعادي الذي بين الشباب الآن، وبين كثير من المنتسبين إلى الدعوة في هذه البلاد الآن، هذا إنما نشأ من النظر إلى هذه الجماعات والاغترار بها وترويج أفكارها هذا هو الذي سبب التعادي بين الشباب وبين بعض طلبة العلم .
أما لو أنهم شكروا نعمة الله عليهم وتمسكوا بما أعطاهم الله من البصيرة والدعوة إلى الله عز وجل - التي أقامها وقادها في هذه البلاد المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله على بينة وعلى بصيرة ونجحت – لما نظروا إلى هذه الجماعات المخالفة لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين لهم بإحسان .
__________
(1) …(( نحذر من أنواع الارتباطات : الفكرية المنحرفة، والالتزام بمبادئ جماعات وأحزاب أجنبية.
الأمة في هذه البلاد يجب أن تكون جماعة واحدة متمسكة بما عليه السلف الصالح، وتابعوهم، وما كان عليه أئمة الإسلام قديمًا وحديثًا من لزوم الجماعة والمناصحة الصادقة، وعدم اختلاق العيوب أو إشاعتها )) ا هـ .
طرف من بيان هيئة كبار العلماء في دورة المجلس التاسعة والثلاثين بالطائف في شهر ربيع الأول من عام ثلاثة عشر وأربعمائة وألف للهجرة .(41/141)
ودعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله – لها أكثر من مائتي سنة وهي ناجحة لَم يختلف فيها أحد وهي تسير على الطريق الصحيح .
دولة قائمة على الكتاب والسنة ودعوة ناجحة، لا شك في ذلك، حتى اعترف الأعداء بذلك . الأعداء يعترفون بأن هذه البلاد تعيش أرقى أنواع الأمن في العالم بالاستقرار، والأمن، والسلامة من الأفكار؛ كل يعرف هذا .
فلماذا نستبدل هذه النعمة ونتطلع إلى أفكار الآخرين التي ما نجحت
في بلادهم؟! . هذه الأفكار وهذه الدعوات وهذه الجماعات ما نفعت في بلادهم ولا كونت في بلادها جماعة إصلاحية، ولم تحول بلادها من قانونية أو من بلاد وثنية أو قبورية إلى جماعة إسلامية صحيحة، بل هذه الجماعات ليس لديها إهتمام بالعقيدة، وهذا دليل على عدم نجاحها .
فلماذا نُعجب بها ونروج لها وندعو لها ؟!! .
- - - - -
س 109 : لماذا سُمي أهل السنّة والجماعة بذلك ؟ .
جـ/أهل السنّة سُمّوا أهل السنة لأنهم يعملون بالسنّة، ويلازمونها.
وسموا بالجماعة : لأنهم مجتمعون غير مختلفين، لأن منهجهم واحد هو الكتاب والسنّة، اجتمعوا على الحق واجتمعوا على إمام واحد، فكل شئونهم العامة اجتماع وتعاون وتحاب .
- - - - -
س 110 : يزعم بعض الناس أن السلفية تعتبر جماعة من الجماعات العاملة على الساحة، وحكمها حكم بقية الجماعات، فما هو تقييمكم لهذا الزعم ؟
جـ / الجماعة السلفية هي الجماعة التي على الحق، وهي التي يجب الانتماء إليها والعمل معها والانتساب إليها، وما عداها من الجماعات يجب أن لا تعتبر من جماعات الدعوة لأنها مخالفة إلا إذا انضمت إلى هذه الجماعة السلفية .
إما إذا استمرت مخالفة فلا نتبعها وكيف نتَّبع فرقة مخالفة لجماعة أهل السنة وهدي السلف الصالح ؟؟ ما خالف للجماعة السلفية فإنه مخالف لمنهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخالف لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .(41/142)
فقول القائل:إن الجماعة السلفية واحدة من الجماعات الإسلامية، هذا قول غلط (1) . لأن الجماعة السلفية هي الجماعة الوحيدة التي يجب اتباعها والسير على منهجها والانضمام إليها والجهاد معها لأنها الجماعة الأصيلة وما عداها فهي جماعة اصطلاحية تضع لها منهجاً اصطلاحياً .
فما عدا الجماعة السلفية فإنه لايجوز للمسلم أن ينضم إليه، لأنه مخالف.
فهل يرضى إنسان أن ينضم إلى المخالفين ؟!، لا يرضى بهذا مسلم .
الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) (2) .
ويقول - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية : ( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) (3) .
هل يريد الإنسان النجاة ويسلك غير طريقها .
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس
- - - - -
س111 : هل السلفية حزب من الأحزاب وهل الانتساب لها مذموم؟ .
جـ / السلفية هي الفرقة الناجية وهم أهل السنة والجماعة ليست حزبًا من الأحزاب التي تسمى أحزابًا وإنما هم جماعة على السنة والدين .
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ) (4) .
__________
(1) " بعض من الذين كتبوا عن الجماعات والفرق الإسلامية المعاصرة للموازنة بينها، ونقدها يذكرون من أقسامها : أهل السنة والجماعة !! .
…وهذا خطأ كبير في الفهم والتصور والبعد عن الحقيقة، فإن أهل السنة والجماعة أهل الحديث، هم جماعة المسلمين، وليست هذه في شكلها ومضمونها إلا دعوة الإسلام بجميع ما تعنيه هذه الكلمة. بخلاف الجماعات الأخرى، فهي أحزاب وفرق ] . ا هـ .
…من كلام معالي الشيخ بكر أبو زيد في " حكم الانتماء " ( ص: 115 ) ط. الثانية.
(2) …أبو داود : ( 4607 ) وقد سبق تخريجه : ( 10، 173 ) .
(3) …الترمذي : ( 2641 ) وقد سبق تخريجه : ( 12، 139 ) .
(4) …سبق تخريجه : ( 141 ) .(41/143)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ) قالوا : من هي يا رسول الله، قال : ( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) (1).
فالسلفية طائفة على مذهب السلف على ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
هي ليست حزباً من الأحزاب العصرية الآن (2)، إنما هي جماعة قديمة أثرية من عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - متوارثة مستمرة لا تزال على الحق ظاهرة إلى قيام الساعة كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - .
- - - - -
س 112 : هل من كلمة توجيهية لتعظيم السنة وأهلها، وتعلمها والعمل بها، وبغض البدع وأهلها ؟ .
جـ / الذي نوصي به أنفسنا وإخواننا هو : تقوى الله تعالى (3)
__________
(1) …سبق تخريجه : ( 12، 139 ) .
(2) …"الدعوة السلفية هي تحارب الحزبية بكل أشكالها وأنواعها، والسبب واضح جدًا، الدعوة السلفية تنتمي إلى شخص معصوم وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن خرج عن دعوة هؤلاء لا نسمّيه بأنه سلفي .
…أما الأحزاب الأخرى فينتمون إلى أشخاص غير معصومين .
من ادعى السلفية والتي هي الكتاب والسنة، فعليه أن يسير مسيرة السلف، وإلاَّ الاسم لا يُغني عن حقيقة المسمى " . ا هـ .
من كلام المحدث الألباني – رحمه الله – " فتاوى العلماء الأكابر " ( 97-98 ).
(3) …هذه وصية الله للأولين والآخرين، قال – تعالى - : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } …[ النساء : 131 ]
…وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بها؛ فقال – عز وجل - : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } [الأحزاب :1]
وأمر المؤمنين فقال–جل ذكره-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ }
……[الحديد : 28 ]
وأمر الناس جميعًا فقال عز من قائل : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ }
……[ النساء : 1 ](41/144)
، والتمسّك بمنهج السلف الصالح والحذر من البدع والمبتدعين والعناية بدراسة العقيدة الصحيحة وما يضادها، والأخذ عن العلماء الموثوقين في علمهم وفي عقيدتهم .
والحذر من دعاة السوء الذين يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون (1)، أو الجهلة الذين يدَّعون الحق وهم لا يعرفونه (2)؛ لأنهم يفسدون أكثر مما يصلحون (3)، والله ولي التوفيق .
- - - - -
س 113: ما هي الضوابط الشرعية التي يحافظ بها المسلم على التزامه وتمسكه بمنهج السلف الصالح، وعدم الانحراف عنه والتأثر بالمناهج الدخيلة المنحرفة ؟.
جـ / الضوابط الشرعية تفهم من مجموع ما سبق الكلام فيه، وذلك:
أولاً : بأن يرجع الإنسان إلى أهل العلم والبصيرة (4)، يتعلم منهم،
=… ويستشيرهم فيما يجول في فكره من أمور ليصدر عن رأيهم في ذلك .
__________
(1) …وهذه صفة " اليهود " – نسأل الله العافية – فهم قد عرفوا الحق، وعرفوا أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - نبيًا مُرسلاً من عند الله – تعالى -، ومع ذلك كَذَّبوا به، فهم { المغضوب عليهم } .
(2) …وهذه صفة " النصارى " الذين عبدوا الله على غير هدى، ولا بصيرة، ولا علم، فهم { الضالين } .
…قال عبدالله بن المبارك : (( من ضلَّ من علمائنا فيه شبه من اليهود، ومن ضلَّ من العامة فيه شبه من النصارى )) .
(3) …قال عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله تعالى - : (( من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح )) . " جامع بيان العلم وفضله " : ( 54 ) .
(4) …أهل العلم والبصيرة : هم الذين أخذوا العلم عن علماء التوحيد وعلماء المنهج
…السلفي وأخذوه من الأكابر.
ولا يُؤخذ العلم ممن تتلمذ على أيدي أصحاب المناهج الهدامة، المعادية لمنهج السلف
……=
=…الصالح، ولا يُؤخذ العلم عن الأدباء والمفكرين، ولا يُؤخذ العلم عن الأصاغر الذين
لم ترسخ أقدامهم في العلم ولم يوطنوا أنفسهم على منهج السلف الصالح .(41/145)
ثانياً : التروي في الأمور، وعدم العجلة، وعدم التسرع في الحكم على الناس، بل عليه أن يتثبت، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (1).
وقال - سبحانه وتعالى -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } (2)، تبينوا : أي تثبتوا مما بلغكم.
ثم إذا ثبت فعليكم معالجته بالطرق الكفيلة بالإصلاح، لا بالطرق المعنفة أو بالطرق المشوشة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بشروا ولا تنفروا ) (3)، وقال : ( إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين ) (4).
وقال لبعض فضلاء الصحابة : ( إن منكم لمنفرين، فمن أم الناس فليخفف، فإن وراءه الضعيف وذا الحاجة ) (5) وعلى كل حال فالأمور
تعالج بحكمة وروية، ولا يصلح لكل أحد أن يتدخل في مجال لا يحسن التصرف فيه.
__________
(1) …الحجرات : 6 .
(2) …النساء : 94 .
(3) …البخاري : ( 3274 ) جزء من حديث .
(4) …البخاري : ( 217 ) .
(5) …البخاري : ( 672 ) .(41/146)
ثالثاً : من الضوابط أن يتزود الإنسان من العلم بمجالسة أهل العلم، والاستماع لآرائهم، وكذلك بقراءة كتب السلف الصالح، وسير المصلحين من سلف هذه الأمة وعلمائها، وكيف كانوا يعالجون الأمور، وكيف كانوا يعظون الناس، وكيف كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وكيف يحكمون على الأشياء، وهذا مدون في سيرهم وفي تراجمهم، وفي أخبارهم وفي قصص الماضيين من أهل الخير وأهل الصلاح وأهل الصدق { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ } (1).
فالإنسان المسلم فرد من هذه الأمة، والأمة هي مجموع المسلمين من أول ظهور الإسلام إلى قيام الساعة، هذا هو مجموع الأمة، والمسلم يراجع السلف الصالح وأخبارهم، وكيف كانوا يعالجون الأمور، وهديهم في ذلك حتى يسير على نهجهم، ولا ينظر إلى أقوال المتسرعين، وأخبار الجهلة الذين يحمسون الناس على غير بصيرة.
كثير من الكتيبات اليوم أو المحاضرات أو المقالات تصدر عن جهلاء بأمور الشرع (2) يحمسون الناس ويأمرون الناس بما لم يأمرهم الله به ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان هذا صادراً عن حسن قصد وحسن نية، فالعبرة بالصواب، والحق هو ما وافق الكتاب والسنة بفهم السلف، أما الناس ما عدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم يخطئون ويصيبون، فيقبل الصواب ويترك الخطأ .
- - - - -
__________
(1) …يوسف : 111 .
(2) …من أمثلة ذلك : شريط وكتيب بعنوان " أما بعد " وإن كان صاحبه يحمل الدكتوراه في السنة ولكن حديثه يدل على أنه يجهل شيئاً من العقيدة يقول في الشريط، الوجه الأول في المقدمة : (( من أين أبدأ ... كيف أبدأ، يا دم أسعفني، يا
……=
=…قلبي قف معي، يا دم انقذني )) .
…فهل الاستغاثة بغير الله من العلم الذي استفاده في العشر سنوات، الذي يقول فيها عن نفسه : (( فقد وقفت عشرًا واستفدت عشرًا )) وذلك في الوجه الأول من الشريط، و(ص 13) في الكتيب .(41/147)
س 114 : لقد كثر المنتسبون إلى الدعوة هذه الأيام، مما يتطلب معرفة أهل العلم المعتبرين الذين يقومون بتوجيه الأمة وشبابها إلى منهج الحق والصواب فمن هم العلماء الذين تنصح الشباب بالاستفادة منهم، ومتابعة دروسهم وأشرطتهم المسجلة، وأخذ العلم عنهم، والرجوع إليهم في المهمات والنوازل وأوقات الفتن ؟
جـ / الدعوة إلى الله أمر لا بد منه، والدين إنما قام على الدعوة والجهاد بعد العلم النافع قال تعالى : { وَالْعَصْرِ - إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } (1).
فالإيمان يعني العلم بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته، وعبادته، والعمل الصالح يكون فرعًا عن العلم، لأن العمل لا بد أن يؤسس على علم، والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والتناصح بين المسلمين هذا أمر مطلوب.
ولكن ما كل أحد يحسن أن يقوم بهذه الوظائف، هذه الأمور لا يقوم بها إلا أهل العلم والرأي الناضج، لأنها أمور ثقيلة مهمة لا يقوم بها إلا من هو مؤهل للقيام بها، ومن المصيبة اليوم أن باب الدعوة صار بابًا واسعًا كل يدخل منه ويتسمى بالدعوة، وقد يكون جاهلاً لا يحسن الدعوة، فيفسد أكثر مما يصلح، متحمسًا يأخذ الأمور بالعجلة والطيش (2)
__________
(1) …سورة العصر .
(2) …يقول صاحب كتيب " أما بعد "، ص 3 : (( فهذه رسالة " أما بعد "، أول محاضرة بعد عشر سنوات من التأمل والتدبر والمطالعة ودراسة الماضي، والاستعداد للمستقبل .....، وقد حرصت على مسألة الدعوة، وهموم الداعية وخصائصه )) .
…هذا الدكتور –هدانا الله وإياه لمنهج السلف – حريص على الدعوة ومهتم في تربية الدعاة وتوجيههم .
فماذا عسى أن يتعلم منه الدعاة .
إذا كان رب البيت بالدف ضارباُ … فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
…يقول في محاضرته ( أما بعد ) – الوجه الأول – والكتيب ص : 9 .
……يا أنت يا أحسن الأسماء في خلدي … ماذا أعرف من متنٍ ومن سند
أقول وأنا صاحب البضاعة القليلة، اعترافًا وليس تواضعًا: لا أعرف أحدًا نادى الله سبحانه وتعالى وجل في علاه بـ " الضمير " فقال " يا أنت " إلا ما تعبر به الصوفية بـ ( هو ) .
وهنا أسوق فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء رقم (3867)،"فتاوى اللجنة الدائمة" : (2/202):
وهل يجوز أن تدعو الله بـ (يا هو) يعني" الله " ضميراً مستتراً تقديره : هو الله ؟
لا. لأن• ضمائر المتكلم والخطاب والغيبة، كناية عن المتكلم أو المخاطب أو الغائب
……=
.............................................................................
• (الواو) من (وهل) في بداية السؤال، وكذلك(لا. لأن) في بداية الجواب من توجيهات وتعديلات شيخي " الفوزان " حفظه الله .
=…مطلقاً، فليست أسماء الله لغة ولا شرعاً، لأنه لم يسم بها نفسه، فدعاؤه بها تسمية ونداء وذكره بغير أسمائه؛ فلا يجوز .
…ولأنه إلحاد في أسمائه بتسميته بما لم يسم به نفسه، ونداء له ودعاء بما لم يشرعه، وقد نهى سبحانه عن ذلك فقال : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } … [ الأعراف الآية : 180 ]
…وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
إن قال قائل هذه زلة وسبق لسان، نقول هذا في حق الأمي الجاهل الذي لم يتعلم، أما رجل حصل على شهادة الدكتوراه في السنة وفي بلاد الحرمين ويزل هذه الزلات فماذا نقول عن غيره .
وإن سلمنا بذلك جدلاً، فلماذا لم يعتذر عن استغاثته التي وقعت في الشريط إن كانت زلة لسان أديب . فقد أكد هذه الاستغاثة في الكتيب الذي أصدره بعد الشريط، لماذا لم يعترف بخطائه حتى لا يغتر الناس بالشريط الذي طار من ليلته في الآفاق إنْ كانت زلة !! . ثم إنه كرر البيت المذكور في الكتيب الذي هو بعد الشريط .
فما هناك إلا الجهل، والحماس، ... إذا اجتمعت في المرء، أصبح إفساده أكثر من إصلاحه. فالواجب على جميع المسلمين - وأنا منهم – العناية بالعقيدة الصحيحة وتعلم التوحيد وما يضاده، ويتأكد في مثل هؤلاء الرجال الذين نصبوا أنفسهم دعاة وموجهين ومربين .(41/148)
، فيتولد عن فعله من الشرور أكثر مما يعالج وما قصد إصلاحه، بل ربما يكون ممن ينتسبون إلى الدعوة ولهم أغراض وأهواء يدعون إليها، ويريدون تحقيقها على حساب الدعوة، وتشويش أفكار الشباب باسم الدعوة والغيرة على الدين، وهو يقصد خلاف ذلك كالانحراف بالشباب، وتنفيرهم من مجتمعهم وعن ولاة أمورهم، وعن علمائهم، فيأتيهم بطريق النصيحة، وبطريق الدعوة في الظاهر كحال
المنافقين في هذه الأمة الذين يريدون للناس الشر في صورة خير.
أضرب لذلك مثلاً : أصحاب مسجد الضرار، بنوا مسجدًا، في الصورة والظاهر أنه عمل صالح، وطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي فيه من أجل أن يرغب الناس به ولكن الله علم من نيات أصحابه أنهم يريدون بذلك الإضرار بالمسلمين، الإضرار بمسجد قباء أول مسجد أسس على التقوى، ويريدون أن يفرقوا جماعة المسلمين، فبين الله لرسوله مكيدة هؤلاء، وأنزل قوله :
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } (1).
__________
(1) …التوبة : 107-108 .(41/149)
يتبين لنا من هذه القصة العظيمة أن ما كل من تظاهر بالخير والعمل الصالح يكون صادقاً فيما يفعل، فربما يقصد من وراء ذلك أموراً بعكس ما يظهر، فالذين ينتسبون إلى الدعوة اليوم فيهم مضللون يريدون الانحراف بالشباب، وصرف الناس عن الدين الحق، وتفريق جماعة المسلمين، والإيقاع في الفتنة، والله سبحانه وتعالى حذرنا من هؤلاء فقال: { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } (1).
فليس العبرة بالانتساب أو فيما يظهر، بل العبرة بالحقائق وبعواقب الأمور، والأشخاص الذين ينتسبون إلى الدعوة يجب أن ينظر فيهم أين درسوا، ومن أين أخذوا العلم، وأين نشأوا، وما هي عقيدتهم، قال تعالى : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } (2). ويجب أن تُنظر أعمالهم وآثارهم في الناس، وماذا أنتجوا من الخير، وماذا ترتب على أعمالهم من الإصلاح، فيجب أن تدرس أحوالهم قبل أن يغتر بأقوالهم ومظاهرهم، هذا أمر لا بد منه، خصوصاً في هذا الزمان الذي كثر فيه دعاة الفتنة، وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاة الفتنة بأنهم قوم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الفتن قال: ( دعاة على أبواب جهنم، من أطاعهم قذفوه فيها ) (3).
__________
(1) …التوبة : 47 .
(2) …المؤمنون : 69 .
(3) …سبق تخريجه رقم ( 292 ) .(41/150)
سماهم دعاة، فعلينا أن ننتبه لهذا، ولا نحشد في الدعوة كل من هب ودب، وكل من قال أنا أدعو إلى الله، وهذه جماعة تدعوا إلى الله، لا بد من النظر في واقع الأمر، ولا بد من النظر في واقع الأفراد والجماعات، فإن الله سبحانه وتعالى قيد الدعوة بأن تكون دعوة إلى الله وإلى سبيل الله قال تعالى { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } (1) دل ذلك على أن هناك أناسًا يدعون إلى غير الله.
والله تعالى أخبر أن الكفار يدعون إلى النار فقال : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ } (2)، فالدعاة يجب أن يُنظر في أمرهم.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى عن هذه الآية: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } (3) : فيه الإخلاص، فإن كثيراً من الناس إنما يدعو إلى نفسه، ولا يدعو إلى الله - عز وجل -.
مطلقاً، فليست أسماء الله لغة ولا شرعاً، لأنه لم يسم بها نفسه، فدعاؤه بها تسمية ونداء وذكره بغير أسمائه؛ فلا يجوز .
س 115 : ما هي أوصاف العلماء الذين يقتدى بهم ؟
جـ / أوصاف العلماء الذين يقتدى بهم هم أهل العلم بالله سبحانه وتعالى، الذين تفقهوا في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتحلوا بالعلم النافع، وكذلك يتحلون بالعمل الصالح .
الذين يقتدى بهم؛ هم الذين جمعوا بين الأمرين، بين العلم النافع والعمل الصالح، فلا يقتدى بعالم لا يعمل بعلمه، ولا يقتدى بجاهل ليس عنه علم، ولا يقتدى إلا بمن جمع بين الأمرين : العلم النافع والعمل الصالح.
__________
(1) …يوسف : 108 .
(2) …البقرة : 221 .
(3) …يوسف : 108 .(41/151)
وبالنسبة للذين يقتدى بهم في بلادنا ومن تؤخذ أشرطتهم وهم كثيرون ولله الحمد، معروفون عند الناس : لا يجهلهم أحد لا البادية ولا الحاضرة، ولا الكبار ولا الصغار، هم القائمون على أعمال الفتوى والقضاء والتدريس وغير ذلك، والذين عرف عنهم العلم والتقى والورع، وعلى رأس علمائنا الشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله تعالى (1)
__________
(1) …رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجعل الفردوس الأعلى منزله، ونفعنا الله بعلمه من بعده هكذا جاءت في الشريط بالحفظ لأن الكلام عنه كان في حياته – رحمه الله - .
…هو الإمام : عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله بن باز . ناصر السنة، إمام أهل السنة في زمانه، قامع البدعة والمبتدعين .
…ولد في 12/12/1330هـ بمدينة الرياض. فقد بصره سنة 1350هـ حفظ القرآن قبل البلوغ، برز في العلوم الشرعية وعين قاضياً سنة 1350هـ كان جاداً في طلب العلم والبحث والتدريس والتأليف .
شيوخه : وقد تلقى العلم على أيدي كثير من العلماء منهم :
الشيخ : محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ، وصالح بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل الشيخ، وسعد بن حمد بن عتيق، وحمد بن فارس، ومحمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ، وسعد وقاص البخاري .
عُيّن نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة 1381هـ ثم رئيساً لها سنة 1390هـ .
عُيّن رئيساً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بأمر ملكي في 14/10/1395هـ . وفي شهر محرم من عام 1414هـ صدر المرسوم الملكي بتعيينه " مفتي عام المملكة ".
إلى جانب ذلك هو : عضو هيئة كبار العلماء، ورئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ورئيس وعضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ورئيس المجلس الأعلى العالمي للمساجد، ورئيس المجمع الفقهي
…الإسلامي بمكة المكرمة، وعضو المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وعضو الهيئة العليا للدعوة الإسلامية .
…مؤلفاته : ألف الإمام – رحمه الله – أكثر من 23 مؤلف ما بين مجلدات وكتب
……=
=…ورسائل وردود وتعليقات .
وفاته : توفي – رحمه الله – فجر يوم الخميس الموافق 28/1/1420هـ في مدينة الطائف التابعة لمنطقة مكة المكرمة – بالمملكة العربية السعودية، ودفن في مكة المكرمة في مقبرة العدل .
طيب الله ثراه، وجعل الجنة مأواه .
وبوفاته خُلع باب، فخرجت منه فتاوى عمّت وطمّت وكثُرت بها البلوى من رؤساء جهال، وذلك على الشاشات، وعبر الفضائيات، فلا حول ولا قوة إلا بالله .(41/152)
، فإنه رجل منّ الله عليه بالعلم الغزير والعمل الصالح والدعوة إلى الله والإخلاص والصدق وما لا يخفى على كل أحد، وهو ولله الحمد صدر عنه خير كثير من الكتابات ومن المؤلفات ومن الأشرطة ومن الدروس.
وكذلك العلماء الذين يفتون في برنامج نور على الدرب، هؤلاء أيضاً ولله الحمد عرفت عنهم الفتاوى الصائبة، والأقوال النافعة، وهم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز وفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين وإخوانهم من أصحاب الفضيلة القضاه، لأنه لا يشتغل بالقضاء ويثق الناس به في دمائهم وأموالهم وفروجهم إلا من كان موثوقاً بعلمه.
إن هؤلاء لهم جهود في الدعوة والإخلاص والرد على من يريدون الانحراف بالدعوة عن طريقها الصحيح سواء عن قصد أو غير قصد، هؤلاء لهم تجارب ولهم خبرة وسبر للأقوال، ومعرفة الصحيح من السقيم، فيجب أن تروج أشرطتهم ودروسهم، وأن ينتفع بها، فإن فيها فائدة كبيرة للمسلمين، وكل عالم لم يجرب عليه خطأ ولم يجرب عليه انحراف في السيرة أوالفكر فإنه يؤخذ عنه.
فلا يجوز الأخذ عن الجُهّال ولو كانوا متعالمين، ولا الأخذ عن المنحرفين في العقيدة بشرك أو تعطيل، ولا الأخذ عن المبتدعة والمنحرفين وإن سُمّوا علماء.
فالأصناف ثلاثة : أهل العلم النافع والعمل الصالح، وأهل العلم بدون عمل، وأهل العمل بدون علم .
وقد ذكر الله – تعالى – هذه الأصناف في آخر سورة الفاتحة، وأمرنا أن نسأله أن يهدينا إلى طريق الصنف الأول، وأن يجنّبنا طريق الصنفين الآخرين، قال – تعالى - : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } (1) .
فجعل الصنف الأول مُنْعَمًا عليه، والصنف الثاني مغضوبًا عليه، والصنف الثالث ضالاً .
وهذان الصنفان الأخيران يمثلان الفِرق المنحرفة اليوم، وإن كانت تنتسب إلى الإسلام . - - - - -
__________
(1) …الفاتحة : 6-7 .(41/153)
س 116 : هل من كلمة توجِّهونها لطلبة العلم ؟ .
جـ / نحثّ طلبة العلم على القيام بالنصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، كما أمرهم بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكما أخذ الله عليهم الميثاق بقوله – تعالى - : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } (1) .
وأن يتبعوا في النصيحة والبيان منهج الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة .
وأن يحذروا منهج الخوارج والمعتزلة، الذين يتّبعون في أسلوب النصيحة والبيان الخروج على أئمة المسلمين، والتشهير، والعنف، والتنفير(2)،قال - صلى الله عليه وسلم -: (( يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا )) (3).
هذا ما نوصي به طلبة العلم ولا سيّما الدعاة .هذا وبالله التوفيق .
وصلى الله وسلم على نبينا محمّد وآله وصحبه (4) .
فهارس الأحاديث
م
الحديث
الصفحة
( أ )
1
الأرواح جنود مجندة
211
2
أخرجوا المشركين من جزيرة العرب
61
3
أدوا إليهم حقهم وأسلوا الله حقكم
47
4
__________
(1) …آل عمران : 187 .
(2) …بزعمهم أن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما قتل الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - إلا من هذا الباب، عندما قصر فهمهم وقلت معرفتهم، وقد قرر أهل السنة والجماعة أن هذا ليس من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل هو منهج الخوارج الذين ذمهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم ذلك في ثنايا هذا الكتاب .
(3) …البخاري : ( 69 )، ومسلم : ( 1733 )، وغيرهما .
(4) …والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
…وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّم تسليمًا كثيرًا .
وكتب الحاشية وخرَّجها
الفقير إلى عفو ربه
أبو فريحان جمال بن فريحان الهميلي الحارثي
الطائف
تمت هذه الطبعة الثالثة الجديدة المنقحة والمزيدة(41/154)
إذا حكم الحاكم فاجتهد
53-70
5
إذا لم تستحي فاصنع ما شئت .
78
6
أربع في أمتي من أمر الجاهلية
88
7
أعطوهم الذي لهم، وأسألوا الله الذي لكم
109
8
اغتنم خمساً قبل خمس
124
9
افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة
25، 127، 228
10
ألا من ولي عليه والٍ فرآه
66
11
أمرت أن أقاتل الناس حتى
111
12
إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين
217
13
إن الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة .
26
14
إن الله يرضى لكم ثلاث
48
م
الحديث
الصفحة
15
إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً
178
16
إنك امرؤ فيك جاهلية
88
17
إنك تأتي قوماً أهل كتاب
43
18
إنكم سترون بعدي أثرة وأمور تفكرونها
47
19
إنما بعثتم ميسرين
244
20
إن منكم لمنفرين
244
21
إن أكلوا مالك وضربوا ظهرك
46
22
إني قد تركت فيكم شيئين
95
23
أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله
91
24
أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة
199
25
إياكم ومحدثات الأمور
158
26
أيما رجل قال لأخيه يا كافر
177
( ب )
1/27
بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة
46
2/28
بشروا ولا تنفروا
244
3/29
بل اسمع وأطع
208
م
الحديث
الصفحة
( ت )
1/29
تركت فيكم أمرين
8
2/30
تركتكم على البيضاء
95
( ث )
1/31
ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم
183
( ح )
1/32
حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض
198
( خ )
1/33
خالفوا المجوس
104
2/34
خالفوا المشركين
104
3/35
خالفوا اليهود
104
( د )
1/36
دعاة على أبواب جهنم
250،236
2/37
الدين النصيحة
48، 91، 164
( س )
1/38
ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة
9، 25
م
الحديث
الصفحة
( ع )
1/39
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
8، 24، 158، 230، 237
( ك )
1/40
كان الناس يسألون رسول الله
236
1/41
كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته
40
( ل )
1/42
لعنة الله على اليهود والنصارى
62
2/43
لله أشد فرحاً
175
2/44
لو أن خيلاً أغارت من الليل(41/155)
217
( م )
1/45
ما أحب أن حكيت إنساناً وأن لي
104
2/46
ما بال أقوام قالوا
195
3/47
ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله
24
4/48
مروا أولادكم بالصلاة
40
5/49
من أحدث في أمرنا هذا
45، 100، 159
6/50
من أراد أن ينصح لذي سلطان
108، 152
م
الحديث
الصفحة
7/51
من دعا إلى ضلالة
219
8/52
من رأى من أميره شيئاً
46
9/53
من رأى منكم منكراً
40، 49
10/54
من ستر مسلماً ستره الله
195
11/55
من سلك طريقاً يلتمس فيه
178
12/56
من كانت عنده نصيحة لذي سلطان
108، 152
13/57
من كان على مثل ما أنا عليه
9، 25، 213، 229، 241
14/58
من كذب عليّ متعمداً
160
15/59
من مات وليس عليه إمام
204
16/60
من يرد الله به خيراً
22
17/61
من يطع الأمير فقد أطاعني
208
18/62
من يعش منكم فسيرى اختلافاً
8، 24، 199، 228
19/63
المرء على دين خليله
167
20/64
المؤمن للمؤمن
167
( هـ )
1/66
هذا سبيل الله مستقيماً
236،235
م
الحديث
الصفحة
2/67
هم من آبائهم
217
3/68
هم منهم
217
( و )
1/69
ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك
103
( ي)
1/70
يخرج من ضئضئ هذا قوم
50
1/71
يدخل أهل الجنة الجنة وأهل
83
2/72
يسروا ولا تعسروا
255
( لا )
1/73
لا تجتمع أمتي على ضلالة
133
2/74
لا تزال طائفة من أمتي على الحق
9، 10، 119، 128
3/75
لا تزال طائفة من أمتي قائمة
133
4/76
لا تُزال قدما عبد
124
5/77
لا تزول قدما عبد
102
6/77
لا يجتمع دينان في جزيرة العرب
26
7/78
لا يزني الزاني حين يزني
59
فهرس الآثار
م
الأثر
القائل
الصفحة
1
اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم
ابن مسعود
95
2
أجمع المسلمون على من
الإمام الشافعي
163
3
أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية
ابن تيمية
120
4
إذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة
البربهاري
128
5
إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث
قتيبة
129
6
إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان
البربهاري
151
7
إذا رأيت الرجل يطعن على أحد(41/156)
البربهاري
129
8
إذا رأيت مبتدعاً في طريق
الفضيل
126
9
إذا سكت أنت وسكت أنا
ابن حنبل
30
10
إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار
البربهاري
129
11
إذا صام وصلى واعتكف
ابن حنبل
31
12
أراك تنتقل من دين
مالك
74
13
أراهم سيهلكون
ابن عباس
149
14
أسكت، إذا لم نبين
ابن المبارك
147
15
اقتصاد في سنة خير
ابن مسعود
27
م
الأثر
القائل
الصفحة
16
أكذب الناس القصاص
ابن حنبل
103
17
ألا تدخل على عثمان فتكلمه
أحد الصحابة
108
18
الذي أنا فيه خير من
الأعمش
225
19
إليك عني فإني قد عرفت ديني
الحسن
73
20
إن أقواماً ابتغوا العبادة وأضاعوا العلم
مالك
178
21
إن الكذب لا يصلح في جد
ابن مسعود
103
22
إنكم ستحدثون ويُحدث لكم
ابن مسعود
101
23
إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم
أسامة
108
24
إنما هما عالمان
الفضيل
151
25
إني لأكره القصص
مالك
103
26
إن لم يكونوا أهل الحديث
ابن حنبل
119
27
أنهاك عن مسلم وتسألني عن كافر
ابن حنبل
66
28
أهل البدع شر من أهل المعاصي
ابن تيمية
27
29
أهل التفويض .. من شر أقوال أهل البدع
ابن تيمية
115
30
إياك إياك وحسين الكرابيسي
ابن حنبل
30
31
إياكم والتبدع
ابن مسعود
102
م
الأثر
القائل
الصفحة
32
إياك وهذه الكتب
أبو زرعة
126
( ب )
1/33
البدعة أحب إلى إبليس من المعصية
الثوري
26
2/34
البدعة مقرونة بالفرقة
ابن تيمية
67
( ت )
1/35
تعالوا نغتاب في الله ساعة
شعبة
138
( ح )
1/36
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل
ابن حنبل
5
( د )
1/37
دعني أدعُ الله وأقص
تميم
197
( ذ )
1/38
ذاك رجل سوء
ابن حنبل
139
2/39
ذاك فعل الله به وفعل
ابن حنبل
51
( ر )
1/40
الرفق سبيل الأمر بالمعروف
ابن تيمية
48
م
الأثر
القائل
الصفحة
( س )
1/41
السني الذي إذا ذكرت عنده الأهواء
ابن عياش
149
( ط )
1/42
الطاعة لأولي الأمر فيما كان عند الله
المزني
208
( ع )
1/43(41/157)
عجبت لقوم عرفوا الإسناد
ابن حنبل
149
2/44
علامة أهل البدع
أبو حاتم
129
3/43
عليكم بالعلم فإن طلبه عبادة
معاذ
178
( ف )
1/46
فإن فرقة النجاة مأمورين بعداوة أهل البدع
الشاطبي
26
2/47
فتبين أن قول أهل التفويض
ابن تيمية
115
3/48
الفرقة الناجية أهل الحديث
ابن تيمية
120
4/49
فمن يتعصب لواحد معين غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ابن تيمية
69
5/50
فلان حبيبنا ولكن الحق
ابن القيم
164
6/51
فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة
ابن تيمية
120
م
الأثر
القائل
الصفحة
( ق )
1/52
قعد الخوارج هم أخبث الخوارج
الضعيف
202
2/53
القعدية الذين يُزينون الخروج على الأئمة
ابن حجر
201
( ك )
1/54
دِّيناً خيِّراً سلفيَّاً
الذهبي
38
2/55
كان على عقيدة السلف
الذهبي
38
3/56
كذب هتكه الله الخبيث
ابن حنبل
51
4/57
كنت بين يدي مالك .. فوضعت وقمت إلى الصلاة
وهب
178
5/58
كن سلفيِّاً على الجادة
أبو زيد
38
( ل )
1/59
لأن أرى في ناحية المسجد ناراً .. أحب إليّ
الخولاني
224
2/60
لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا .
ابن حنبل
152
3/61
لو كان لي دعوة مستجابة لما صيرتها
الفضيل
151
4/62
ليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه
الشوكاني
204
5/63
ليس من كثر بسطه للقول ... كان أعلم ...
ابن رجب
131
6/64
ليكن أمرك بالمعروف، بالمعروف
ابن تيمية
195
7/65
ليهن أهل الحديث هذه البشرى
أبو اليمن
119
م
الأثر
القائل
الصفحة
( م )
1/66
ما أحوج الناس إلى قاص صدوق
ابن حنبل
225
2/67
ما أخرجني إلا صوت قاصكم
ابن عمر
103
3/68
ما الذي قمت إليه بأفضل من
مالك
178
4/69
ما عمل عامل قط على جهل إلا كان ما يُفسد
ضرار
136
5/70
من حق العالم عليك إذا رأيته
ابن أبي طالب
129
6/71
من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل
الشافعي
163
7/72
من تبع عالماً لقي الله سالماً
163
8/73
من تغلب على بلد أو بلدان له حكم(41/158)
الإمام ابن عبدالوهاب
207
9/74
من ضل من علمائنا في شبه من اليهود،
ابن المبارك
243
10/75
من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر
عمر بن عبدالعزيز
243
11/76
من قال لكلامهم تأويل...فإنه من رؤوسهم
ابن تيمية
161
12/77
من كان محسناً للظن بهم..عُرف حالهم
ابن تيمية
161
13/78
من كان مستناً، فليستن بمن قد مات
ابن مسعود
157
14/79
من ماشى المبتدعة عندنا فهو مبتدع
الثوري
146
15/80
من يجالس أهل البدع أشد علينا
ابن عون
146
( هـ )
1/81
هذه نصيحة، ليس هذا غيبة
ابن حنبل
138
2/82
هم أهل الحديث
ابن المديني
119
3/83
هم أهل السنة والجماعة، وهم الطائفة
ابن تيمية
120
4/84
هم الطائفة المذكورة في حديث
البخاري
119
( و )
1/85
ولَّو البدع ظهوركم
الثوري
225
( ي )
1/86
يجب عقوبة كل من انتسب إلى أهل البدع
ابن تيمية
136
( لا )
1/87
لا أرى أن يجلس إليهم، وإن القصص لبدعة
مالك
103
2/88
لا تجالسوا أصحاب البدع ولا تكلموهم
النخعي
126
3/89
لا تجالسوا أهل البدع ولا تخالطوهم
أبو قلابة
126
4/90
لا تغتر بتنكيس رأسه
ابن حنبل
126
5/91
لا تكلمه ولا كرامة، ولا نعمى عين
ابن حنبل
126
6/92
لا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك .
أبو قلابة
126
7/93
لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر إلا
الثوري
196
8/94
لا يتكلم على الناس إلا أمير أو مأمور
ابن سيرين
225
9/95
لا يجب على أحد من هذه الأمة أن يكون
علي القاري
163
10/96
لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم
ابن مسعود
131
11/98
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح
وهب
39
12/99
لا يُصلى خلف أهل البدع
ابن حنبل
65
فهرس المراجع
م
المرجع
المؤلف
- أ -
1
القرآن الكريم
2
أربعة مصطلحات القرآن الأساسية
المودوي
3
إرواء الغليل
الألباني
4
إعلام الموقعين
ابن القيم
5
إقتضاء الصراط المستقيم
ابن تيمية
6
إيقاف النبيل على حكم التمثيل
عبد السلام آل برجس
7
الإبانة الكبرى
ابن بطة
8(41/159)
الإخوان المسلمون في ميزان الحق
فريد عبد الخالق
9
الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ
محمود عبد الحليم
10
الآداب الشرعية
ابن مفلح
11
الاستقامة
ابن تيمية
12
الاعتصام
الشاطبي
13
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ابن تيمية
14
الإيمان
ابن تيمية
م
المرجع
المؤلف
- ب -
15
براءة علماء الأمة من تزكية أهل البدع والمذمة
عصام السناني
16
بيان فضل علم السلف على علم الخلف
ابن رجب
17
البدع والنهي عنها
ابن وضاح
- ت -
18
تاريخ بغداد
الخطيب البغدادي
19
تبيين كذب المفتري على أبي الحسن الأشعري
ابن عساكر
20
تجديد الفكر الإسلامي
الترابي
21
تحذير الخواص من أكاذيب القصاص
ابن الجوزي
22
تحفة الأحوذ بشرح الترمذي
المبارك فوري
23
تذكرة الحفاظ
الذهبي
24
تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج
ابن الملقن
25
التمثيل
بكر أبو زيد
26
تهذيب التهذيب
ابن حجر
- ج-
27
جامع بيان العلم وفضله
ابن عبد البر
28
جامع العلوم والحكم
ابن رجب
29
جريدة الرياض
العدد ( 12182 )
م
المرجع
المؤلف
30
جريدة الشرق الأوسط
العدد ( 6270 )
31
جريدة المسلمون
العدد (540 )
32
الجامع في الحث على حفظ العلم
أبو هلال العسكري، الخطيب البغدادي
- ح-
33
حسن البنا بأقلام تلامذته ومعاصريه
جابر رزق
34
حقيقة الدعوة إلى الله وما اختصت بها جزيرة العرب
سعد الحصين
35
حكم الإنتماء
بكر أبو زيد
36
حلية الأولياء
أبو نعيم
37
الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية
عبدالسلام آل برجس
38
الحوادث والبدع
الطرطوشي
- خ-
39
الخطب المنبرية
صالح الفوزان
- د-
40
درء تعارض العقل والنقل
ابن تيمية
41
الدرر السنية في الأجوبة النجدية
عبد الله النجدي
م
المرجع
المؤلف
- ر-
42
رسائل ومسائل
المودودي
43
رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين
الشوكاني
44
الرحلات والمخيمات
عبد الله الوشلي
45
الرد على الجهمية
ابن حنبل
46
الرد على المخالف من أصول الإسلام
بكر أبو زيد
- س-
47(41/160)
سلسلة الأحاديث الصحيحة
الألباني
48
سنن ابن ماجة
49
سنن ابن داود
50
سنن الترمذي
51
سنن الدارمي
52
سنن الديلمي
53
سنن النسائي الصغرى
54
سنن النسائي الكبرى
55
سير أعلام النبلاء
الذهبي
56
السنن الكبرى
البيهقي
57
السراج المنير في تنبيه جماعة التبليغ
تقي الدين الهلالي
57
السّنة
ابن أبي عاصم
58
السّنة
ابن نصر
59
السّنة
عبدالله بن أحمد
70
السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار
الشوكاني
- ش-
71
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة
اللالكائي
72
شرح علل الترمذي
ابن رجب
73
شرح السّنة
اسماعيل المزني
74
شرح السّنة
البربهاري
75
شرح السّنة
البغوي
76
شرح مسلم
النووي
77
شرف أهل الحديث
الخطيب البغدادي
78
شعار أصحاب الحديث
الخطيب البغدادي
79
الشرح والإبانة
ابن بطة
80
الشريعة
الآجري
- ص-
81
صحيح ابن حبان
82
صحيح البخاري
83
صحيح الترغيب والترهيب
الألباني
84
صحيح مسلم
85
الصحوة الإسلامية
محمد قطب
86
صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -
الألباني
87
صيد الخاطر
ابن الجوزي
- ط-
88
طبقات الحنابلة
ابن أبي يعلى
89
الطرق الشرعية والطرق البدعية في المسائل الدعوية
يوسف العتيق
- ع-
90
العدالة الاجتماعية
سيد قطب
91
العقيدة الطحاوية مع شرحها
ابن أبي العز،
وأبو جعفر الطحاوي
92
العقيدة الواسطية
ابن تيمية
93
العواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم
ربيع المدخلي
94
العواصم من القواصم
القاضي بن العربي
- غ-
95
الغرباء الأولون
العودة
- ف-
96
فتاوي ورسائل
عبدالرزاق عفيفي
97
فتاوي ورسائل
محمد ابراهيم
98
في ظلال القرآن
سيد قطب
99
فتاوي العثيمين
جمع أشرف عبد المقصود
100
فتاوي العلماء الأكابر
جمع عبدالمالك الجزائري
101
فتاوي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء
جمع الدويش
102
الفتاوي الإماراتية
الألباني
103
الفتاوي المهمة في تبصير الأمة
جمع جمال الحارثي
104
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر
105(41/161)
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد
عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
106
الفقيه والمتفقه
الخطيب البغدادي
- ق-
107
القصاص والمذكرين
ابن الجوزي
108
القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ
حمود التويجري
- ك-
109
كتاب التوحيد
محمد بن عبد الوهاب
110
كشاف القناع
البهوتي
111
كشف الخفاء ومزيل الألباس
الجعلوني
112
الكفاية في علم الرواية
الخطيب البغدادي
- م-
113
مجلة البحوث العلمية
العدد (50)
114
مجلة الدعوة
العدد (1438)
م
المرجع
المؤلف
115
مجلة السنة
العدد (26،23)
116
مجلة المجلة
العدد( 806)
117
مجمع الزوائد
الهيثمي
118
مجموع الفتاوي
ابن تيمية
119
مدارج السالكين
ابن القيم
120
مدارك النظر في السياسة
عبد المالك الجزائري
121
مذكرات الدعوة والداعية
حسن البنا
122
مسائل أحمد
رواية أبي داود
123
مسائل أحمد
ابن هانئ
124
مسائل أحمد
عبد الله بن أحمد
125
مسائل أحمد
أبو الفضل
126
مسند أحمد
بهامشه المنتخب
127
مسند أحمد
أحمد شاكر
128
مسند ابن الجعد
علي بن الجعد
129
مشكاة المصابيح
الخطيب التبريزي
130
مطاعن سيد قطب في الصحابة
ربيع المدخلي
131
معالم في الطريق
سيد قطب
م
المرجع
المؤلف
132
معجم الشيوخ
الذهبي
133
معجم المناهي اللفظية
بكر أبو زيد
134
معرفة السنن والآثار
البيهقي
135
معرفة علوم الحديث
الحاكم
136
مفتاح دار السعادة
ابن القيم
137
منهج أهل السنة والجماعة في نقد الكتب والرجال والطوائف
ربيع المدخلي
138
منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله
محمد سرور
139
المجلة السلفية
العدد السابع
140
المذكر والتذكير والذكر
ابن أبي عاصم
141
المستدرك على الصحيحين
الحاكم
142
المصنف
عبدالرزاق
143
المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم ولمحكوم
ابن باز
144
الموطأ
مالك بن أنس
- ن-
145
نبذة في حقوق ولاة الأمر
العسكر
146
نصب الراية
الزيلعي
- هـ-
147
هجر المبتدع
بكر أبو زيد
148
هدي الساري
ابن حجر
- و-
149
واقعنا المعاصر(41/162)
محمد قطب
فهرس الموضوعات
م
الموضوع
الصفحة
1
مقدمة الكتاب .
5
2
مقدمة الطبعة الثالثة .
8
3
إذن الشيخ للطبعة الثالثة .
12
4
صورة من إذن الشيخ بخط يده .
13
5
نبذة عن حياة شيخنا .
14
6
كتاب " الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة" .
19
7
نصيحة للمراكز الصيفية والقائمين عليها.
19
8
الأناشيد من ابتداع الصوفية.
20
9
المقصود بفقه الواقع.
22
10
اجتناب الفرق المنتسبة للإسلام المخالفة لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -
24
11
البدعة أشد من المعصية .
26
12
المنتمي إلى الفرق المخالفة للكتاب والسنة، مبتدع.
27
13
حكم الفرق( الجماعات).
28
14
هل تخالط الفرق والأحزاب المعاصرة .
29
15
التحذير من الفرق والأحزاب المعاصرة .
30
م
الموضوع
الصفحة
16
عدم ذكر المحاسن في النقد والتحذير .
31
17
التحذير من " فرقة التبليغ " وفتاوي أهل العلم فيها.
32
18
كل من خالف منهج أهل " السنة والجماعة " يدخل في الاثنتين وسبعين فرقة .
35
19
لا بأس فيمن تسمى بالسلفي، وأقوال أهل العلم في ذلك .
35
20
المغالطات في مراجعات القرني [ حاشية الحاشية ] .
35-37
21
لا يكفي حفظ القرآن... لنشر الدعوة.
39
22
الدعوة من مهام العلماء، والأمر بالمعروف.. كل إنسان بحسب معرفته .
40
23
سبب قلة الاستجابة في الدعوة .
41
24
وسائل الدعوة إلى الله توقيفية.
43
25
الشيخ الداعية؛ جاهل بالطرق الشرعية.
44
26
منهج أهل السنة والجماعة في مناصحة الحكام.
45
27
لا يلزم الموازنة في النقد، ولا يجوز ذكر المحاسن لأهل الضلال.
49
28
الآثار الواردة في نقد أهل البدع دون ذكر المحاسن .
51-52
29
خطورة التغرير بالثناء على أهل البدع.
52
م
الموضوع
الصفحة
30
طريقة الرد على من أخطأ من أهل السنة والجماعة .
53
31
لماذا الكلام على المعتزلة والجهمية، .. والخوارج في هذا العصر؟ .
53-54
32
نماذج من سقطات " سيد قطب" .
55
33(41/163)
نقد العلامة العثيمين، المحدث الألباني لـ" سيد قطب".
55
34
تكفير " محمد قطب " لجماهير الأمة .
56
35
من أقوال صاحب شريط " الشباب أسئلة ومشكلات"
75 ،122
36
من أقوال صاحب شريط " التوحيد أولاً ".
58
37
من أقوال صاحب سلسلة أشرط " شرح الطحاوية " .
59
38
" خصومتنا لليهود ليست دينية" من كلام حسن البنا المنكر .
60
39
المسعري: يبيح إقامة الكنائس في الجزيرة العربية .
61
40
التقريب بين السنة والشيعة عند " المسعري " .
61
41
نصيحة الإمام ابن باز للمسعري، الفقيه، ابن لادن.
62
42
الرد على الداعية الذي يقرأ الصحف والمجلات في المسجد للإنكار عليها.
63
43
عظم جرم إدخال الصور إلى المسجد.
63
م
الموضوع
الصفحة
44
قراءة الجرائد في محاضرة أو خطبة: إشاعة للمنكر و ...
64
45
حكم الصلاة خلف أهل البدع .
65-66
46
الإنكار على المنتسبين للفرق، والأحزاب المعاصرة .
66
47
ذم التعصب لمذهب معين، أو لعالم من العلماء .
164،69
48
احجام بعض الطلبة من حضور الدروس، بسبب بعض الشبه .
70
49
نصيحة للشباب الذين جرت بهم الأهواء والتعصب الحزبي.
71
50
جهل " محمد سرور زين العابدين" بالسنة .
75
51
من أقوال " محمد سرور " المخالفة لمنهج السلف: تكفير بالكبيرة .
75
52
طعن " محمد سرور" في علماء الحرمين.
76
53
الرد الوافي على "محمد سرور" من الشيخ أمان الجامي.
79
54
جريمة اللواط عند " محمد سرور": منزلتها ومكانتها .
82
55
نماذج ممن يهون أمر تعلم التوحيد
84
56
تحريم بيع كتاب" منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله" لـ محمد سرور .
85
57
مطلوب تفسير جديد للقرآن غير تفسير السلف .
86
م
الموضوع
الصفحة
58
إطلاق الجاهلية على المجتمعات الإسلامية من قبل سيد قطب .
86
59
ماذا يعني صاحب شريط " الأمة الغائبة" بهذا العنوان.
89
60
كتاب القطبية.
90
61
وجوب الإهتمام بالعقيدة أولاً.
91
62
مصادر تلقي العقيدة .
94-96
63(41/164)
إشغال الشباب بالمحاضرات السياسية، والصحافة : تضليل .
97
64
حكم التمثيل الموجود في المراكز الصيفية، والمسارح المدرسية .
99
65
الطرق الشرعية في مناصحة ولاة الأمور.
100
66
معنى [ لا إله إلا الله ] عند " محمد قطب" .
110
67
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: دعوة سلفية وليست حزبية .
112
68
مقارنة بين دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب وبين دعوة حسن البنا .
112-115
69
صفحات مظلمة من حياة "حسن البنا" .
113
70
اتهام"حسن البنا" لمذهب السلف بالتفويض.
114
م
الموضوع
الصفحة
71
رد شيخ الإسلام على المفوضية.
114
72
رأي الإمام ابن باز في فرقة " الإخوان المسلمين" .
115
73
الرد على من طلب من الإمام ابن باز بالتراجع عن رأيه في "الإخوان" .
116
74
الرد على من فرّق بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية.
119
75
حكم من زيّن الفواحش .
122
76
الفرق بين العقيدة والمنهج .
123
77
وجوب بيان خطر التحزب، والفرق .
123
78
حكم مشاهدة مباريات كرة القدم .
124
79
صحة المنهج من فساده .
125
80
التحذير من قراءة واستماع، كتب وأشرطة المبتدعة .
126-127
81
سمات الفرقة الناجية المنصورة .
127
82
تأدب الطالب مع شيخه .
129
83
نصيحة للطلاب المبتدئين
130
84
من الذي يستحق أن يقال عنه عالم
130
85
التنبيه على كلمة "شباب الصحوة" .
133-135
م
الموضوع
الصفحة
86
الأمة في غفلة حتى جاءت حركة "حسن البنا" بزعمهم.
134
87
وجوب التحذير من المناهج المخالفة للكتاب والسنة .
136
88
طلب العلم مقدم على الدعوة إلى الله .
137
89
التحذير من الكتب الحزبية والفرق المخالفة لأهل السنة: لا تعبر تعرضاً للأشخاص ذاتهم .
138
90
نماذج من أقوال : "المودودي"،"محمد سرور"،"حسن البنا"،"سيد قطب"، "الترابي"،ومن حذا حذوهم في بلادنا، وأثنى عليهم ودافع.
139-145
91
الدين والفن يهدي بالفنان إلى الإيمان؛ عند "الترابي" .
143
92(41/165)
الغناء، والرقص، والموسيقى؛ مسموح به عند "الترابي".
143
93
إلزام الترابي باتخاذ الفن لعبادة الله ...
144
94
الرحلات ولمخيمات من ابتداع"الإخوان المسلمون".
144
95
التدريبات العسكرية تتم في الرحلات والمخيمات الاخوانية .
144
96
ماذا يجري في الرحلات والمخيمات الصيفية .
145
97
ابن تيمية يقول:-
146
98
تحذير السلف من أهل البدع .
146
99
منهج أهل السنة في نقد الرجاء .
146
م
الموضوع
الصفحة
100
التحذير من المناهج المخالفة لمنهج السلف؛ يجمع ولا يفرق .
147
101
اتباع الحق لا اتباع الرجال .
149
102
اجتناب أصحاب البدع والأفكار الهدامة .
150
103
السنة في معاملة السلطان .
153-154
104
نتائج التشهير بالنصيحة للحكام .
155
105
الدعوة إلى التوحيد تفرق؛ عند"الاخوان"، " التبليغ".
154
106
"حسن البنا" لم يكن عدواً للنصارى .
155
107
نائب "حسن البنا" ومشيّع جنازته كانا نصرانيين .
155
108
قاعدة " الاخوان المسلمون" المعتمدة في الدعوة عندهم
155-156
109
السلفية .
157
110
البدعة، وظاهرة عدم تبديع من أظهر البدعة .
158
111
إلحاق مادح أهل الأهواء بهم إذا لم يرجع التنبيه على الأخطاء ، وذكر الأسماء إن لزم .
160
112
الحذر من مشيخة أهل البدع .
165
113
العقيدة لا تؤخذ من المبتدعة .
165
م
الموضوع
الصفحة
115
البلاد السعودية فيها دخلاء يحملون أفكاراً هدامة .
168
116
الدفاع عن علماء السنة في البلاد السعودية .
172
117
على ماذا يتباكون الحزبيون؟ .
175
118
الطعن في العلماء جريمة .
175
119
ضوابط التكفير .
176
120
إصدار الأحكام من شئون العلماء .
177
121
اتخاذ الناس رؤوساً جهالاً.
178
122
معنى الموالاة، وما الفرق بينهما وبين المداراة
179-181
123
التبرع للكفار
182
124
مقاطعة المنتجات الأمريكية
182
125
الوقيعة في العلماء والولاة ليست من النصيحة في شيء
184
126(41/166)
الطعن المغلّف في العلماء عند الحداديين
184
127
شيء يسير مما عند "محمود الحداد".
185
128
احترام العلماء واجب
188
129
من أقوال الهمازين اللمازين في العلماء
189-190
130
لحوم العلماء مسمومة
191
131
التضييق على دعاة الفتنة من محاسن هذه الدولة
192
م
الموضوع
الصفحة
132
معنى قوله تعالى: { وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ }
193
133
إذن ولي الأمر واجب في "القنوت، والخروج للجهاد" وغيرها
196
134
الأسباب الموصلة لاجتماع الصف والكلمة
198
135
من الذي له حق السمع والطاعة
200
136
الإثارة وشحن قلوب الرعية على الراعي؛ من عمل المفسدين
201
137
واجب الدعاة وطلبة العلم والعلماء؛ وكل ناصح
203
138
هل البيعة واجبة أم مستحبة؟
204
139
الطريقة الشرعية في البيعة
204
140
هل يشترط رضي الجميع في صحة البيعة
205
141
مخالفة ولي الأمر .. معصية لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -
208
142
إنشاء لجان دون إذن السلطان: خروجاً عليه
209
143
رفع المظالم إلى ولي الأمر أو من ينبه فقط
209
144
لا يمكن الاجتماع مع اختلاف المنهج والعقيدة
210
145
لا يمكن الاجتماع مع وجود الأحزاب والفرق
212
146
هل تشرع العمليات الانتحارية؟
213
147
هل الاغتيالات والتفجيرات من الجهاد في سبيل الله؟
215
م
الموضوع
الصفحة
148
مفهوم حديث "الصعب بن جثامة"
217
149
المظاهرات من وسائل الدعوة؟
217
150
دعم الأصابع الخفية للمظاهرات
218
151
العلامة العثيمين ينصح
219
152
الاعتصامات من الشرع؟
220
153
"الحداديون" لا يترحمون على [ ابن حجر، والنووي، وابن حزم، والشوكاني، والبيهقي]
220
154
الفرق بين: ابن حجر، والنووي، وبين: البنا وقطب وأضرابهما
222
155
من هم علماء المدينة النبوية؟
223
156
ذم السلف للقصاص
224
157
لا جماعة إلا جماعة المسلمين على منهاج النبوة
228
158
خروج "فرقة التبليغ" في سبيل الله؛ خروج بدعي
231
159(41/167)
"فرقة التبليغ" المبتدعة
232
160
"فرقة التبليغ" يزهدون في عقيدة التوحيد
232
161
الواجب رفض كل الجماعات والفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة
236
162
تحذير "هيئة كبار العلماء" من الجماعات والأحزاب
237
م
الموضوع
الصفحة
163
الجماعة السلفية هي التي على الحق
239
164
السلفية ليست حزب من الأحزاب المعاصرة
241
165
السلفية تحارب الحزبية بكل أشكالها
242
166
السلفية تنتمي إلى المعصوم - صلى الله عليه وسلم -
242
167
الأحزاب والفرق تنتمي إلى أشخاص غير معصومين
242
168
التوجيهات السديدة إلى كل مسلم
243
169
من الذي يقوم بواجب الدعوة
246
170
شريط وكتيب"أما بعد"
247
171
فتوى "اللجنة الدائمة"فيمن نادى الله - عز وجل - بالضمير
247
172
مقاصد دعاة الأهواء و الفتن
248
173
العلماء الذين يقتدا بهم
251
174
نبذة عن سيرة الإمام ابن باز
252
175
الأمر بالقيام بواجب النصيحة؛ لله، ولكتابه، ولرسوله و لأئمة المسلمين وعامتهم
254
176
التحذير من منهج الخوارج
255(41/168)
$لمحة عن الفرق الضالة
[نص محاضرة ألقاها الشيخ: صالح الفوزان بمدينة الطائف، يوم الاثنين، الموافق: 3/3/1415 هـ في مسجد الملك فهد بالطائف.]
$المقدمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الحديث عن الفرق ليس هو من باب السرد التاريخي، الذي يقصد منه الاطلاع على أصول الفرق لمجرد الاطلاع، كما يطلع على الحوادث التاريخية، والوقائع التاريخية السابقة، وإنما الحديث عن الفرق له شأن أعظم من ذلك؛ ألا وهو الحذر من شر هذه الفرق ومن محدثاتها، والحث على لزوم فرقة أهل السنة والجماعة.
وترك ما عليه الفرق المخالفة لا يحصل عفوا للإنسان، لا يحصل إلا بعد الدراسة، ومعرفة ما الفرقة الناجية ؟
من هم أهل السنة والجماعة، الذين يجب على المسلم أن يكون معهم ؟
ومن الفرق المخالفة ؟.
وما مذاهبهم وشبهاتهم ؟. حتى يحذر منها.
لأن (من لا يعرف الشر يوشك أن يقع فيه)، كما قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - :(42/1)
(كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر ؟. قال: " نعم ". فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير ؟. قال " نعم، وفيه دخن ". قلت: وما دخنه ؟. قال: " قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر ". فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر ؟. قال: " نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها ". فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: " نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ". قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك ؟. قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام ؟. قال: " فاعتزل تلك الفرق، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك ") [رواه البخاري في صحيحه : (3606) و(7084)، ومسلم في صحيحه - أيضا -: (1847)، وأحمد مطولا: (5/386، 403) ومختصرا: (5/391، 399) ومختصرا بلفظ مختلف: (5/404)، وأبو داود السجستاني: (4244)، وبلفظ مختلف: (4246)، والنسائي في الكبرى: (5/17، 18)، وابن ماجه: (4027) و(4029)، وأبو داود الطيالسي في مسنده : (442)، وبلفظ مختلف: (443) ص 59، وأبو عوانة في الصحيح المسند: (4/474 و 475)، وعبد الرازق في مصنفه: (20711) (11/341)، وابن أبي شيبة في كتاب الفتن: (2449) و(8960) (18961) و(18980)، والحاكم في مستدركه ؟!!: (4/432) وصحح إسناده، ووافقه الذهبي ؟!.]
فمعرفة الفرق ومذاهبها وشبهاتها، ومعرفة الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، وما هي عليه؛ فيه خير كثير للمسلم، لأن هذه الفرق الضالة عندها شبهات، وعندها مغريات تضليل، فقد يغتر الجاهل بهذه الدعايات وينخدع بها؛ فينتمي إليها، كما قال صلى الله عليه وسلم لما ذكر في حديث حذيفة :(42/2)
(هل بعد ذلك الخير من شر؟. قال: " نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها ". فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: " نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ").
فالخطر شديد، وقد وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ذات يوم - كما في حديث العرباض بن سارية - :
أنه وعظهم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). [رواه أحمد في مسنده : (4/126)، (4/127)، والترمذي: (2676)، وأبو داود: (4607)، وابن ماجه: (34) في المقدمة، والدارمي في سننه : (95)، وابن حبان في صحيحه : (5)، والطبراني في الكبير: (18/617، 618، 619، 622، 623، 624، 642)، والآجري في الشريعة ص: (46 - 47)، وابن أبي عاصم في السنة: (27، 32، 57، 54)، وابن بطة العكبري في الإبانة الكبرى: (142) (1/305)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: (81)، ومحمد بن نصر المروزي في السنة ص: 21، والبغوي في شرح السنة : (205) وفي تفسيره : (3/209)، والطحاوي في مشكل الآثار : (2/69)، والبيهقي: (6/541)، والحاكم في المستدرك : (1/96 - 97).]
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيكون هناك اختلاف وتفرق وأوصى عند ذلك بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، والتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك ما خالفها من الأقوال، والأفكار، والمذاهب المضلة، فإن هذا طريق النجاة، وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - بالاجتماع والاعتصام بكتابه، ونهى عن التفرق، قال - سبحانه - :(42/3)
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [ سورة آل عمران ].
إلى أن قال - سبحانه وتعالى - :
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [قال البغوي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية (2/86): (قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى. وقال بعضهم: المبتدعة من هذه الأمة. وقال أبو أمامة - رضي الله عنه -: هم الحرورية بالشام - أي: الخوارج -. قال عبد الله بن شداد: وقف أبو أمامة وأنا معه على رأس الحرورية بالشام فقال: " هم كلاب النار، كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم "، ثم قرأ: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إلى قوله - تعالى -: {أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}) اهـ.] * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}. [ سورة آل عمران ].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة) [ذكره البغوي في تفسيره : (2/87)، وابن كثير: (2/87) طبعة الأندلس].
وقال - سبحانه وتعالى - :
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [ سورة الأنعام ].(42/4)
فالدين واحد، وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقبل الانقسام إلى ديانات وإلى مذاهب مختلفة، بل دين واحد هو دين الله - سبحانه وتعالى -، وهو ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك أمته عليه، حيث ترك صلى الله عليه وسلم أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله، وسنتي) [رواه مالك في الموطأ: (2/1899)، والحاكم في المستدرك : (1/93) موصولا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ورواه مطولا دون لفظة وسنتي مسلم: (1218)، وابن ماجه: (3110)، وأبو داود: (1909) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، وفيه صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وخطبته بهم].
وما جاء التفرق في الكتاب العزيز إلا مذموما ومتوعدا عليه، وما جاء الاجتماع على الحق والهدى إلا محمودا وموعودا عليه بالأجر العظيم، لما فيه من المصالح العاجلة والآجلة.(42/5)
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة أحاديث كثيرة تأمر بلزوم الجماعة [قال ابن حجر في " الفتح ": (13/391): (... وورد بلزوم الجماعة في عدة أحاديث، منها: ما أخرجه الترمذي مصححا من حديث الحارث بن الحارث الأشعري - رضي الله عنه -، فذكر حديثا طويلا وفيه: (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه). (رواه مرفوعا الإمام أحمد في مسنده : (4/130، 4/202، 5/344)، والترمذي (2863 - 2864) وقال: حديث حسن صحيح غريب). وفي خطبة عمر المشهورة، التي خطبها بالجابية: " عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد " (رواه مرفوعا الإمام أحمد في مسنده : (1/18)، والترمذي في سننه : (2165)، والنسائي في " الكبرى ": (9219) (9226)، والبغوي في تفسيره : (2/86)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (86 _ 88)، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة ": (1/106 - 107)، والحاكم في " مستدركه ": (1/114) وصححه، ووافقه الذهبي). وفيه: " ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ". قال ابن بطال: " مراد الباب الحض على الاعتصام بالجماعة... والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصر " وقال الكرماني: " مقتضى الأمر بلزوم الجماعة أنه يلزم المكلف المتابعة لما أجمع عليه المجتهدون "...) انتهى من فتح الباري. وقال الترمذي في سننه بعد الحديث رقم (2167): (وتفسير الجماعة عند أهل العلم هم: أهل الفقه، والعلم، والحديث) انتهى. ولأهمية هذا الأمر بوب البخاري - رحمه الله - في صحيحه: (باب.. وكذلك جعلناكم أمة وسطا.. وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم). وبوب النووي في صحيح مسلم: (باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال، وتحريم الخروج على الطاعة، ومفارقة الجماعة). وبوب الترمذي في سننه باب(42/6)
ما جاء في لزوم الجماعة. وكذلك بوب الدرامي في سننه بابين فيه، أولهما في " كتاب السير ": (باب في لزوم الطاعة والجماعة)، والآخر في " كتاب الرقاق ": (باب في الطاعة ولزوم الجماعة). وبوب الآجري في " الشريعة " بابين - كذلك -، الأول: (باب ذكر الأمر بلزوم الجماعة)، والثاني: (باب ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بلزوم الجماعة، وتحذيره إياهم الفرقة) وغيرهم من أئمة الحديث ثم ساقوا - رحمهم الله - بعد ذلك الأحاديث التي جاءت في ذلك، ومنها: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأي من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس من أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية). (رواه أحمد في مسنده : (1/275، 297، 310)، والبخاري: (7053) (7054) (7143)، ومسلم: (1849)، والدرامي: (2519)، والبغوي: (2458)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (1101)، والطبراني في " المعجم الكبير ": (12759)، والبيهقي: (8/157)). وعن عوف بن مالك الأشجعي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ("خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم " قلنا: أفلا ننابذهم يا رسول الله عند ذلك ؟. قال: " لا. ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة). (رواه أحمد في مسنده : (6/24)، ومسلم: (1855)، والدرامي: (2797)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (1017)، والبيهقي: (8/158)). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة). (رواه الترمذي: (2166)). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار). (رواه الترمذي: (2167))(42/7)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة، فإن الله - عز وجل - لن يجمع أمتي إلا على هدى) (رواه أحمد في " المسند ": (5/145)) وعن رجل قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (أيها الناس عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، أيها الناس عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة) ثلاث مرار. (رواه أحمد في " المسند ": (5/371). ولا تضر جهالة الرجل لأنه صحابي، والصحابة كلهم عدول بالإجماع، رضي الله عنهم أجمعين). وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاه القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة، والعامة، والمسجد). (رواه أحمد في مسنده : (5/233، 243)). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة إلى الصلاة التي قبلها كفارة، والجمعة إلى الجمعة التي قبلها كفارة، والشهر – (المقصود بالشهر هنا " شهر رمضان " كما في الرواية الأخرى) - إلى الشهر الذي قبله كفارة، إلا من ثلاث - قال: فعرفنا أنه أمر حدث -: إلا من الشرك بالله، ونكث الصفقة، وترك السنة. - قال: - أما نكث الصفقة: فأن تعطي رجلا بيعتك ثم تقاتله بسيفك، وأما ترك السنة: فالخروج من الجماعة). (رواه أحمد في مسنده : (2/229)، (2/506)) ولما في مفارقة الجماعة من مفاسد جمة، جعل الشارع الحكيم القتل عقوبة لمن فارق الجماعة : فعن عرفجة الأشجعي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب الناس، فقال: (إنه سيكون بعدي هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة، أو يريد يفرق أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم كائنا من كان فاقتلوه، فإن يد الله على الجماعة، فإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض).
(رواه مسلم: (1852)، وأبو داود: (4762) باب في قتل الخوارج.(42/8)
ويؤخذ من تبويب أبي دواد على هذا الحديث: أن من فارق الجماعة فإنه خارجي. ورواه النسائي: (4032) واللفظ له).
وبوب النسائي عليه في كتاب " تحريم دم المسلم " من " سننه ": (باب قتل من فارق الجماعة).
فما بالك بمن فارق الجماعة، ولحق بأعداء الله المشركين في بلادهم، يدعي أنه ينصر دين الله بذلك وبما يبثه من منشورات، ينتقص فيها العلماء، ويهون فيها من قدر الولاة والأمراء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من جامع المشرك وسكن مع فإنه مثله).
(رواه أبو داود في سننه من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: (2787)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ("أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله، لم ؟. قال: "لا تراءى ناراهما").
(رواه أبو داود: (2645)، والترمذي: (1604)).
قال الفضل بن زياد: سمعت أحمد - رحمه الله تعالى - يسئل عن معنى: " لا تراءى نارهما " فقال: (لا تنزل من المشركين في موضع إذا أوقدت رأوا فيه نارك، وإذا أوقدوا رأيت فيه نارهم، ولكن تباعد عنهم).
وقال جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وعلى فراق المشركين).
(رواه الإمام أحمد في مسنده : (4/365)، والنسائي: (7/148)، والبيهقي: (9/13)).
قال الشيخ العلامة: حمود بن عبد الله التويجري - رحمه الله - في كتابه " تحفة الإخوان " ص 27: (وقد ورد النهي عن مجامعة المشركين، ومساكنتهم في ديارهم، والتغليظ في ذلك، لأن مجامعتهم ومساكنتهم من أعظم الأسباب الجالبة لموالاتهم وموادتهم. والأحاديث في ذلك كثيرة).
ثم ساق الشيخ عدة أحاديث، ثم قال :(42/9)
(فليتأمل المسلمون الساكنون مع أعداء الله - تعالى - هذه الأحاديث، وليعطوها حقها من العمل، فقد قال - تعالى -: {فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}) اهـ. (سورة الزمر) ].
قال صلى الله عليه وسلم: ("إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة". قالوا ومن هي يا رسول الله ؟. قال: " ما أنا عليه اليوم وأصحابي ") [أخرجه الترمذي: (2641)، واللالكائي في " شرح اعتقاد أهل السنة ": (147)، والآجري في " الشريعة " ص 15، والمروزي في السنة ص 18، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (264، 165) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.
وفيه عبد الرحمن بن زياد الأفريقي: ضعيف. لكن الحديث يصح بشواهده، ومنها :
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - :
رواه الإمام أحمد في مسنده : (2/332)، وأبو داود: (4596)، والترمذي: (2640)، وابن ماجه: (3991)، والآجري في " الشريعة " ص 25، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (252)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (66)، والحاكم في " مستدركه ": (1/128) وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان: (2614)، ورواه - أيضا - أبو يعلى الموصلي في مسنده : (541 - 542)، والمروزي في السنة ص 17.
2 - حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - :
رواه أحمد: (4/201)، وأبو داود: (4597)، وأبو داود الطيالسي: (2754)، والدرامي: (2521)، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة ": (150)، وابن أبي عاصم: (1) (65)، والآجري في " الشريعة " ص 18، والمروزي في السنة ص 14 - 15، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (266)، والطبراني في " الكبير ": (19/884 - 885).(42/10)
3 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - :
أخرجه أحمد: (3/120، 145)، والآجري في " الشريعة " ص 16، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة ": (148)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (269 - 270 - 271)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (74).
4 - حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - :
رواه ابن ماجه: (3992)، والبزار: (172)، واللالكائي: (149)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (63)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (272) " , والحاكم في " مستدركه ": (4/430).
5 - حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - :
أخرجه ابن جرير في تفسيره : (27/239)، والطبراني في " الكبير ": (10375) (10531)، وابن أبي عاصم: (70 - 71)، والمروزي في السنة ص 16.
6 - حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - :
أخرجه اللالكائي في " شرح اعتقاد أهل السنة ": (151 - 152)، والمروزي في السنة ص 16 وص 17، وابن أبي عاصم: (86)، والطبراني في " الكبير ": (8035 - 8051)، والبيهقي: (8/88).
7 - حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
رواه المروزي في السنة ص 19، وابن وضاح ص 85، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (274 - 275).
8 - حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
رواه ابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (263) (266) (267)، والمروزي في السنة ص 17، والآجري في " الشريعة " ص 17.
وفيه: موسى بن عبيدة الربذي: ضعيف.]
فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه لا بد أن يحصل تفرق في هذه الأمة، وهو لا ينطق عن الهوى، لا بد أن يحصل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإخبار منه صلى الله عليه وسلم معناه النهي عن التفرق، والتحذير من التفرق، ولهذا قال: (كلها في النار إلا واحدة).
ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم: ما هذه الواحدة الناجية ؟. قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).(42/11)
فمن بقي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو من الناجين من النار، ومن اختلف عن ذلك فإنه متوعد بالنار، على حسب بعده عن الحق، إن كانت فرقته فرقة كفر وردة فإنه يكون من أهل النار الخالدين فيها، وإن كانت فرقته لم تخرجه عن الإيمان. لكن عليه وعيد شديد، ولا ينجو من هذا الوعيد إلا طائفة واحدة من ثلاث وسبعين، وهي " الفرقة الناجية " " من كان على مثل ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه "، هو: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمنهج السليم والمحجة البيضاء.
هذا هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال - تعالى - :
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [ سورة التوبة، الآية: 100 ].
قال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ}.
فدل هذا على أنه مطلوب من آخر هذه الأمة أن يتبعوا منهج السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، الذي هو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما من خالف منهج السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، فإنه يكون من الضالين، قال - سبحانه - :
{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً}.
فمن أطاع الله وأطاع الرسول في أي زمان ومكان، سواء كان في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم، أو آخر مسلم في الدنيا، إذا كان على طاعة الله ورسوله، فإنه يكون مع الفرقة الناجية..
{فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}.(42/12)
أما من تخلف عن هذا المنهج فإنه لن يحصل على هذا الوعد، ولن يكون مع هؤلاء الرفقة الطيبين، وإنما يكون مع الذين انحاز إليهم من المخالفين.
ولهذا، هذا الدعاء العظيم، الذي نكرره في صلاتنا، في كل ركعة في آخر الفاتحة:
{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [ الفاتحة ].
هذا دعاء عظيم، نسأل الله في كل ركعة من صلاتنا، أن يهدينا لصراط الذين أنعم الله عليهم، وهو الذي جاءت به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وكان عليه أتباعهم إلى يوم القيامة، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم هو المتبع، والمطاع، والمقتدى به صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نبي آخر الزمان، ومنذ بعثه الله إلى أن تقوم الساعة والناس كلهم مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم، حتى لو قدر أنه جاء نبي من السابقين فإنه يجب أن يكون متبعا لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كان موسى حيا بين أظهركم، ما حل له إلا أن يتبعني). [رواه أحمد: (3/338 و 387)، والدارمي: (1/115)، والبزار: (124) من حديث جابر بن عبد الله.
ومدار إسناده على مجالد بن سعيد، وهو ضعيف.
قال شعيب في " السير ": (13/324): (لكن الحديث يتقوى بشواهده، منها: حديث عبد الله بن ثابت: عند أحمد: (3/470 - 471). وفي سنده جابر الجعفي، وهو ضعيف.
وحديث عمر: عند أبي يعلى. وفيه: عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي.
وحديث عقبة بن عامر: عند الروياني في مسنده : (9، 50، 2). وفيه: ابن لهيعة.
وحديث أبي الدرداء: عند الطبراني في " الكبير ") اهـ.
انظر: " مجمع الزوائد ": (1/173 - 174).
قال الشيخ حافظ الحكمي في " الجوهرة الفريدة " :
وكان بعثته للخلق قاطبة ** وشرعه شامل لم يعده أحد
ولم يسع أحدا عنها الخروج ولو ** كان النبيون أحياء لها قصدوا ]
وذلك في قوله - تعالى - :(42/13)
{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ {81} فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {82} أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ} [ سورة آل عمران ].
فلا دين بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا دين محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ابتغى غيره من الأديان فإنه لن يقبل منه، ويكون يوم القيامة من الخاسرين :
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [ سورة آل عمران ]
{غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ}: وهم كل من عنده علم ولم يعمل به، من اليهود وغيرهم من ضلال العلماء، الذين عرفوا الحق وتركوه؛ تبعًا لأهوائهم، وأغراضهم، ومنافعهم الشخصية، يعرفون الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم لا يتبعونه، بل يتبعون أهواءهم، ورغباتهم، وما تمليه عليهم عواطفهم، أو انتماءاتهم المذهبية أو غير ذلك، هؤلاء يُعتبرون من {المَغضُوبِ عَلَيهِمْ}، لأنهم عصوا الله على بصيرة، فغَضب الله عليهم.(42/14)
{وَلاَ الضَّالِّينَ}: وهم الذين يعملون بغير علم، ويجتهدون في العبادة، لكنهم على غير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، كالمبتدعة والمخرّفين، الذين يجتهدون في العبادة، والزهد، والصلاة، والصيام، وإحداث عبادات ما أنزل الله بها من سلطان، ويتبعون أنفسَهم بأشياء لم يأتِ بها الرسولُ صلى الله عليه وسلم. هؤلاء ضالون، عملُهم مرود عليهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليسَ عليه أمرنا فهو رَدٌّ) [رواه الإمام أحمد في مسنده : (6/180 و 146 و 256)، ورواه البخاري بهذا اللفظ معلقًا: (13/391) في كتاب " الاعتصام ".
ومسلم في صحيحه : (1718)، (18)، والبخاري موصولاً في " خلق أفعال العباد " ص 43، وأبو عوانة: (4/18 - 19)، وأبو داود الطيالسي في مسنده : (1422) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
ورواه بلفظ: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فو رَدٌّ) :
الإمام أحمد: (6/240 و 270)، والبخاري في صحيحه موصولاً: (2697)، ومسلم: (1718) (17)، وأبو داود: (4606)، وابن ماجه: (12)، وأبو عوانة: (4/18)، والبغوي في شرح السنة : (103)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (52 - 53)، والبيهقي: (10/119)، والدارقطني: (4/224، 225، 227)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (148) بلفظ: (من فعل في أمرنا ما لا يجوز فهو مردود)، وأحمد في مسنده : (6/173) بلفظ: (من صنع أمرًا من غير أمرنا فهو مردود).]
هؤلاء هم (الضالون) ومنهم النصارى، وكل من عبد الله على جهل وضلال، وإن كانت نيته حسنة ومقصده طيبًا، لأنَّ العبرةَ ليستْ بالمقاصد فقط، بل العبرةُ بالاتباع.
ولهذا يُشْتَرَطٌ في كلِّ عملٍ، أن يتوفَّرَ فيه شرطان، ليكونَ مقبولاً عند الله، ومثابًا عليه صاحبُه :
الشرط الأول: الإخلاص لله - عز وجل -
الشرط الثاني: المتابعةُ للرسول صلى الله عليه وسلم قال - تعالى - :(42/15)
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. [ سورة البقرة ]
وإسلام الوجهِ يعني: الإخلاصَ للهِ.
والإحسانُ هو المتابعةُ للرسولِ صلى الله عليه وسلم.
فالله - جل وعلا - أمرَ بالاجتماعِ على الكتابِ والسنّةِ، ونهانا عن التفرقِ والاختلاف.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كذلك أمرنا بالاجتماع على الكتاب والسنّةِ، ونهانا عن التفرق والاختلاف. لما في الاجتماع على الكتاب والسّنة من الخير العاجل والآجل، ولما في التفرقِ من المضارِ العاجلةِ والآجلة في الدنيا والآخرة.
فالأمرُ يحتاجُ إلى اهتمامٍ شديدٍ، لأنه كلما تأخّر الزمانُ كَثُرتِ الفِرَقُ، وكثرتِ الدعايات، كثرتِ النِّحَلُ والمذاهبُ الباطلةُ، كثرتِ الجماعاتُ المتفرقةُ. لكن الواجب على المسلم أن يَنْظُرَ، فما وافق كتابَ الله وسنّةَ رسولهِ صلى الله عليه وسلم أخذَ به، ممن جاءَ به، كائنًا من كان؛ لأن الحقَّ ضالةُ المؤمن.
أما ما خالف ما كان عليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم تركَه، ولو كان مع جماعتِهِ، أو مع من ينتمي إليهم، مادام أنهُ مخالفُ للكتاب والسنّة؛ لأن الإنسان يريدُ النجاةَ لا يريدُ الهلاكَ لنفسه.
والمجاملةُ لا تنفعُ في هذا، المسألةُ مسألةُ جنّةٍ أو نار، والإنسانُ لا تأخذُه المجاملةُ، أو يأخذه التعصبُ، أو يأخذُه الهوى في أن ينحازَ مع غير أهل السنّةِ والجماعةِ، لأنه بذلك يضرٌّ نفسّهُ، ويُخرِجُ نفسَه من طريق النجاةِ إلى طريقِ الهلاكِ.
وأهلُ السنّةِ والجماعةِ، لا يضُّرهم من خالفهم سواءً كنتَ معهم، أو خالفتَهم. إن كنتَ معهم، أو خالفتهم. إن كنتَ معهم فالحمدُ لله، وهم يفرحون بهذا، لأَّنهم يريدون الخيرَ للناس، وإن خالفتَهم فأنتَ لا تضرُّهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتيَ أمرُ الله وهم كذلك).(42/16)
أخرجه بهذا اللفظ: مسلم: (1920)، وأبو داود: (4252)، وفيه: " لا يضرهم من خالفهم "، وزيادةٌ طويلةٌ في أوَّلِه. وأخرجه - أيضًا - الترمذي: (2229) مختصرًا وصحَّحه، وأخرجه ابن ماجة في " المقدمة ": (10) وفي: (3952) مطوَّلاً، وأخرجه أحمد: (5/278) مطولاً، وفي: (5/279) مختصرًا.
وأبو عوانة: (5/109) مختصرًا، وأبو نعيم: (192)، والبيهقي: (9/181)، والحاكم: (4/449) مطولاً.
وأخرجه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - :
البخاري: (3640) (959)، ومسلم: (1921)، وأحمد: (4/244، 252)، والدارمي: (3437)، وأبو عوانة: (5/109)، واللالكائي: (167)، وأبو نعيم: (437)، والطبراني في " الكبير ": (659) (960) (962).
وأخرجه من حديث معاوية - رضي الله عنه - :
البخاري: (3641)، ومسلم: (3/1524)، وأحمد: (4/101)، وأبو عوانة: (5/106 - 107)، واللالكائي: (166)، وأبو نعيم: (311)، والبغوي في تفسيره : (2/218) مختصرًا.
وأخرجه من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - :
الإمام أحمد: (5/103)، ومسلم: (1922)، وأبو عوانة: (5/105)، والطبراني في " الكبير ": (1819)، والحاكم: (4/449).
وأخرجه من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - :
مسلم: (1923)، وأبو عوانة: (5/105)، وأحمد: (3/345، 384) وأبو يعلى في مسنده : (313)، والبيهقي: (8/180).
ومن حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
أخرجه مسلم: (1925)، وأبو عوانة: (5/109)، واللالكائي: (170)، وأبو نعيم: (214).
ورُويَ الحديثُ عن عدد من الصحابة غير هؤلاء، منهم: عمر بن الخطاب، وسلمة الكندي، وعمران بن حصين، والنواس بن سمعان، وأبو أمامة، وقرة المزني، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -. ]
فالمخالفُ لا يضرُّ إلا نفسَه.(42/17)
وليست العبرةُ بالكثرةِ، بل العبرةُ بالموافقةِ للحق [ هذا هو الحق الذي ندينُ الله به، بخلاف ما اعتمدتهُ بعضُ الجماعات في الدعوةِ إلى الله؛ بأن الهدف هو التجميعُ والتكتيلُ فقط، ولو اختلفتِ العقائدُ، فيجعلون في جماعتِهم الأشعريَّ، والجهميَّ، والمعتزليَّ، والرافضيَّ، وربما النصرانيَّ واليهوديَّ، ويقولون: (نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه !). ]
، ولو لم يكنْ عليه إلا قِلَّةٌ من الناس، حتى ولو لم يكن في بعض الأزمان إلا واحدٌ من الناس؛ فهو على الحق، وهو الجماعة.
فلا يلزمُ من الجماعةِ الكثرةُ، بل الجماعةُ من وافقَ الحقَّ، ووافقَ الكتاب والسنّة، ولو كان الذي عليه قليلٌ.
أما إذا اجتمعَ كثرةٌ وحقٌ، فالحمد لله هذا قوة.
أما إذا خالفته الكثرة، فنحن ننحازُ مع الحقِّ، ولو لم يكنْ معه إلا القليلُ.
وكما أخبرَ به صلى الله عليه وسلم من حصول التفرق والاختلاف قد وقَعَ، ويتطور كلما تأخَّرَ الزمان، يتطوَّرُ التفرقُ والاختلاف إلى أن تقوم الساعةُ، حكمةٌ من الله - سبحانه وتعالى -، ليبتلي عبادَهُ، فيتميزُ من كان يطلبُ الحقَّ، ممن يؤثرُ الهوى والعصبية :
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [ سورة العنكبوت ].
وقال - سبحانه وتعالى - :
{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. [ سورة هود ]
فحصول هذا التفرق، وهذا الاختلاف؛ ابتلاءٌ من الله - سبحانه وتعالى -، وإلا فهو قادر - سبحانه - أن يجمعَهم على الحق :
{وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [ سورة الأنعام، الآية: 35}.(42/18)
هو قادر على هذا، لكنَّ حكمتَهُ اقَتضَتْ أنْ يبتليَهم بوجودِ التفرق والاختلاف، من أجل أنْ يتميزَ طالبُ الحقِّ من طالبِ الهوى والتعصب.
ومازالَ علماءُ الأمة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ينهون عن هذا الاختلاف، ويوصون بالتمسك بكتابِ الله وسنّةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بقيتْ بعدَهم.
تجدون في كتاب " صحيح البخاري " مثلاً: " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ".
تجدون في كتب العقائد ذكرَ الفرقِ الهالكة، وذكرَ الفِرقة الناجية.
وأقربُ شيئٍ لكم شرحُ الطحاوية، وهي بين أيديكم الآن.
والغرضُ من هذا بيانُ الحقِّ منن الباطل؛ إذ وقعَ ما أخبرَ به صلى الله عليه وسلم من التفرق والاختلاف.
فالواجبُ أن نعملَ بما أوصانا به الرسولُ صلى الله عليه وسلم في قوله: " فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ". [ سَبَقَ تخريجه ص: 7، وهو جزءٌ من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -. ]
لا نجاةَ من هذا الخطر إلا بالتمسكِ بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تحسبَنَّ هذا الأمرَ يَحْصُلُ بسهولةٍ، لا بد أن يكونَ فيه مشقةً.
لكن يحتاج إلى صبرٍ وثباتٍ، وإلا فإن المتمسك بالحقِّ - خصوصًا في آخر الزمان - سيعاني من المشاق، ويكونُ القابضُ على دينِه كالقابضِ على الجمرِ، كما صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أخرجه الترمذي: (2260)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى ": (195) عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمانٌ، الصابرُ فيهم على دينه كالقابِضِ على الجمر " وفيه: عمر بن شاكر: ضعيف، كما في " التقريب ".
والحديث حّسَّنَهُ السيوطي كما في " الجامع الصغير ": (9988)، وأورده الألباني في " الصحيحة " برقم: (957) وصَحَّحَه.
وللحديث شواهد:(42/19)
الأول: أخرجه أحمد في مسنده (2/390 - 391) عن أبي هريرة مرفوعًا، ولفظه: " ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترب؛ فِتَنًا كقِطَعِ الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، يبيع قومٌ دينَهم بعَرَضٍ من الدنيا قليل، المتمسك يومئذٍ على دينه كالقابضِ على الجمر - أو قال: على الشوك - " وفيه: ابن لهيعة، قال الألباني بعده - كما في الصحيحة: (2/682) -: (قلتُ: وإسناده لا بأسَ به في الشواهد، رجاله ثقات، غيرَ ابن لهيعة؛ فإنه سيء الحفظ).
الثاني: أخرجه الترمذي: (3058)، وأبو داود: (4341)، وابن ماجه: (4063)، والبغوي في شرح السنة : (14/344)، وفي تفسيره : (3/110) بلفظٍ مطوَّل في آخره: ".. فإن من ورائكم أيامًا، الصبرُ فيهنَّ مثلُ القبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملَكم ".
ومدار إسناده على:
1 - عتبة بن أبي حكيم: صدوق يخطئ.
2 - عمرو بن جارية: مقبول.
3 - أبي أُميَّةَ الشَّعْباني الدمشقي: مقبول.
الثالث: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعًا بلفظ: " يأتي على الناس زمانٌ، المتمسكُ فيه بسنتي عند اختلافِ أمتي كالقابضِ على الجمر ".
قال الألباني بعده - (2/683) " الصحيحة " -: (أخرجه أبو بكر الكلاباذي في " مفتاح المعاني " ق 118/2، والضياء المقدسي في " المنتقى.. ": 99/1... وقد عزاه السيوطي للحكيم الترمذي عن ابن مسعود، وبيض له المناوي !.
وجملة القول: أنَّ الحديثَ بهذه الشواهد - أي: حديثَ أنس السابق - صحيحٌ ثابتٌ، لأنَّه ليسَ في شيء من طرقها متهم، لا سيما وقد حسَّنَ بعضها الترمذي وغيرُه. والله أعلم) اهـ.
قال المباركفوري في شرحه لحديث أنس السابق، في " تحفة الأحوذي ": (6/445): (قال الطيبي: " المعنى: كما لا يقدر القابض على الجمر أن يصبرَ لإحراق يدِه، كذلك المتدينُ يومئذٍ لا يقدرُ على ثباتِه على دينِه؛ لغلَبةِ العصاَةِ والمعاصي، وانتشار الفسقِ، وضعفِ الإيمان " انتهى.(42/20)
قال القاري: " الظاهرُ أن معنى الحديثِ: كَما لا يمكنُ القَبضُ على الجمرةِ إلا بصبرٍ شديدٍ وتحمل غلبةِ المشقةِ، كذلك في ذلك الزمان، لا يتصوَّرُ حفظُ دينِهِ ونورِ إيمانِه إلا بصبرٍ عظيمٍ " انتهى) اهـ من التحفة. ]، والمتمسكون بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والسائرون على منهج السلف؛ يكونون غرباء في آخر الزمان، كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: " فطوبى للغرباء الذين يُصْلِحُونَ ما أفسدَ الناسُ من بعدي من سنتي ". [ أخرجه الترمذي: (2630) بهذا اللفظ وقال: " حسن صحيح "، وأخرجه أبو نعيم في " الحلية ": (98)، والبغوي معلقًا في شرح السنة : (1/120 - 121) من حديث عمرو بن عوف - رضي الله عنه -.
وفي سنده كثير بن عبد الله المزني: متروك.
والحديث صحيح من وجوهٍ أخرى؛ فأخرجه مسلم في صحيحه : (145) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: " بدأ الإسلام غريبًا وسيعودُ - كما بدأ - غريبًا، فطوبى للغرباء ".
ورواه أحمد: (2/389)، وابن ماجه: (3986)، واللالكائي: (174)، والآجري في كتاب " الغرباء ": (4)، وابن منده في " الإيمان ": (422 - 423).
ومن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - :
رواه مسلم: (146)، وابن منده في " الإيمان ": (421).
ومن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - :
رواه أحمد: (1/398)، والترمذي: (2629)، وابن ماجه: (3988)، والدارمي: (2758)، والآجري في كتاب " الغرباء ": (2)، والبغوي في شرح السنة : (64).
وأخرجه أحمد (1/184) من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -.
وأخرجه ابن ماجه: (3987)، والآجري في كتاب " الغرباء ": (5) من حديث أنس - رضي الله عنه -. ]
وفي رواية: " الذين يَصْلُحُونَ إذا فسدَ الناسُ ". [ أخرج الحديثَ بهذا اللفظ:(42/21)
الطبراني في " الكبير ": (7659)، والآجري في كتاب " الغرباء ": (5) من حديث أبي الدرداء، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم -. وفي إسناده كثير بن مروان الشامي: متروك.
وأخرجه اللالكائي: (173)، والطبراني في " الأوسط " كما في المجمع: (7/278) من حديث جابر - رضي الله عنه -، وفيه: أبو عياش النعمان المعافري: مجهول.
ومن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - :
أخرجه أبو يعلى في مسنده . ذكره في " المطالب العالية " لابن حجر: (483).
ومن حديث عبد الرحمن بن سنة:
أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في " الزوائد ": (4/73 - 74)، وابن عدي في " الكامل ": (4/1615).
ومن حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - :
أخرجه الطبراني في " الكبير ": (6/202)، وفيه: بكر بن سليم الصواف: ضعيف.]
فهذا يحتاجُ إلى العلم أولاً؛ بكتابِ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعلمِ بمنهجِ السلف الصالح وما كانوا عليه.
ويحتاجُ التسمكُ بهذا إلى صبرٍ على ما يلحقُ الإنسانَ من الأذى في ذلك، ولذلك يقولُ - سبحانه وتعالى - :
{وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. [ سورة العصر ]
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} هذا يدلُ على أنَّهم سيلاقون مشقةً في إيمانهم وعملهم، وتواصيهم بالحق، سيلاقون عنتًا من الناس، ولومًا من الناس وتوبيخًا، وقد يلاقون تهديدًا، أو قد يلاقون قتلاً وضربًا، ولكن يصبرون، ماداموا على الحق، يصبرون على الحق ويثبتون عليه، وإذا تبين لهم أنَّهم على شيءٍ من الخطأ يرجعون إلى الصواب، لأنه هدفُهم.
لقد حدثَ التفرقُ في وقتٍ مبكرٍ، ونحنُ في هذهِ المحاضرةِ سنتكلمُ عن أربعِ فرقٍ، هي أصول الفرقِ تقريبًا.
$الفرقة الأولى : القدرية
فأولُ ما حدثُ، فرقةُ " القدرية " في آخر عهد الصحابة.(42/22)
" القدريةُ ": الذين ينكرونَ القدرَ، ويقولون: إنَّ ما يجري في هذا الكون ليس بقدر وقضاءٍ من الله - سبحانه وتعالى -، وإنما هو أمرٌ يحدثُ بفعل العبد، وبدون سابقِ تقدير من الله - عز وجل -، فأنكروا الركن السادسَ من أركانِ الإيمان، لأنَّ أركانَ الإيمان ستةٌ: الإيمانُ بالله، وملائكتِهِ، وكتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخرِ، والإيمانِ بالقدرِ خيره وشره، كُلِّه من الله - سبحانه وتعالى -.
وسُمُّوا " بالقدرية "، وسُمًّوا " بمجوس " هذه الأمة، لماذا ؟.
لأنهم يزعمون أنَّ كُلَّ واحدٍ يَخْلُقُ فعلَ نفسِه، ولم يكنْ ذلك بتقديرٍ من الله، لذلك أثبتوا خالقين مع الله كالمجوس الذين يقولون: (إنَّ الكونَ له خالقانِ: " النور والظلمة "، النورُ خلقَ الخيرَ، والظلمةُ خلقَتِ الشرَّ).
" القدريةُ " زادوا على المجوسِ، لأنهم أثبتوا خالقَين متعدَّدِين، حيث قالوا: (كُلٌ يخلُقُ فعلَ نفسِه)، فلذلك سُمُّوا " بمجوسِ هذه الأمة ".
وقابَلَتْهم " فرقةُ الجبرية " الذين يقولون: " إنَّ العبدَ مجبورٌ على فعلِه، وليس له فعلٌ ولا اختيارٌ، وإنما هو كالريشةِ التي تحركُها الريحُ بغير اختيارها.
فهؤلاء يُسَمَّونَ " بالجبرية " وهم " غُلاةُ القدرية "، الذين غلوا في إثبات القدر، وسَلَبوا العبدَ الاختيارَ.
والطائفةُ الأولى منهم على العكس، أثبتوا اختيارَ الإنسان وغَلَو فيه، حتى قالوا: إنه يخلُقُ فِعْلَ نفسِهِ مستقلاً عن الله، تعالى الله عما يقولون.
وهؤلاء يُسمَّون " بالقدرية النفاةِ ". ومنهم: " المعتزلةُ ", ومن سارَ في ركابهم.
هذه فرقة القدرية بقسميها:
1 - الغلاةُ في النفي.
2 - والغلاةُ في الإثباتِ.(42/23)
وتفرَّقتِ " القدريةُ " إلى فرقٍِ كثيرةٍ، لا يعلمها إلا الله؛ لأنَّ الإنسانَ إذا تركَ الحق فإنه يهيمُ في الضلال، كُلُّ طائفةٍ تُحدثُ لها مذهبًا وتنشقُ به عن الطائفة التي قبلها، هذا شأنُ أهلِ الضلالِ؛ دائمًا في انشقاقٍ، ودائمًا في تفرقٍ، ودائمًا تحدثُ لهم أفكارٌ وتصوراتٌ مختلفة متضاربة.
أما أهلُ السنّةِ والجماعةِ؛ فلا يَحدُثُ عندَهم اضطرابٌ ولا اختلافٌ، لأنهم متمسكون بالحق الذي جاء عن الله - سبحانه وتعالى -، فهم معتصمون بكتابِ الله وبسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يَحْصُلُ عندَهم افتراقٌ ولا اختلافٌ، لأَّنهم يسيرونَ على منهجٍ واحدٍ.
$الفرقة الثانية : الخوارج
وهم الذين خرجوا على ولي الأمر في آخر عهدِ عثمان - رضي الله عنه -، ونتَجَ عن خروجهم قتلُ عثمان - رضي الله عنه -.
ثم في خلافةِ علي - رضي الله عنه - زادَ شرُهم، وانشقوا عليه، وكفّروه، وكفّروا الصحابة؛ لأنهم لم يوافقوهم على مذهبهم، وهم يحكُمون على من خالفَهم في مذهبهم أنه كافرٌ، فكفّروا خيرةَ الخلقِ وهم صحابةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. لماذا ؟. لأنَّهم لم يوافقوهم على ضلالِهم وعلى كفرهم.
ومذهبُهم: أنَّهم لا يلتزمون بالسنّة والجماعة، ولا يطيعون وليَّ الأمر، ويرون أن الخروجَ عليه من الدين، وأن شَقَّ العصا من الدين [وفي عصرنا ربما سمّوا من يرى السمعَ والطاعةَ لأولياء الأمور في غير ما معصية عميلاً، أو مداهنًا، أو مغفلاً. فتراهم يقدحون في وَليَّ أمرهم، ويشِّهرون بعيوبه من فوق المنابر، وفي تجمعاتهم، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: (من أرادَ أن ينصحَ لسلطان بأمر؛ فلا يبدِ له علانيةً ولكن ليأخذْ بيدِه، فيخلوا به، فإن قَبِلَ منه فذَّاكَ، وإلا كان قد أدَّى الذي عليه) رواه أحمد: (3/404) من حديث عياض بن غنم - رضي الله عنه -، ورواه - أيضًا - ابن أبي عاصم في " السنة ": (2/522).(42/24)
أو إذا رأى وليُّ الأمرِ إيقافَ أحدِهم عن الكلام في المجامع العامة؛ تجمعوا وساروا في مظاهرات، يظنونَ - جهلاً منهم - أنَّ إيقافَ أحدِهم أو سجنَهُ يسوغُ الخروج، أوَلَمْ يسمعوا قولَ النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه -، عند مسلم (1855): (لا. ما أقاموا فيكم الصلاة).
وفي حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - في " الصحيحين ": (إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم فيه من الله برهان) وذلك عند سؤال الصحابة واستئذانهم له بقتال الأئمة الظالمين.
ألا يعلمُ هؤلاء كم لبثَ الإمامُ أحمدُ في السجنِ، وأينَ ماتَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية ؟!.
ألم يسجن الإمام أحمد بضع سنين، ويجلد على القول بخلق القرآن، فلما لم يأمر الناس بالخروج على الخليفة ؟!.
وألم يعلموا أن شيخ الإسلام مكث في السجن ما يربو على سنتين، ومات فيه، لِمَ لَمْ يأمرِ الناسَ بالخروجِ على الوالي - مع أنَّهم في الفضلِ والعلمِ غايةٌُ، فيكف بمن دونهم - ؟؟!.
إنَّ هذه الأفكارَ والأعمالَ لم تأتِ إلينا إلا بعدما أصبحَ الشبابُ يأخذون علمَهم من المفكِّرِ المعاصرِ فلان، ومن الأديب الشاعرِ فلان، ومن الكاتبِ الإسلامي فلان، ويتركونَ أهل العلمِ، وكتبَ أسلافِهم خلفَهم ظهريًا؛ فلا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله. ]، وعكس ما أمر الله به في قوله:
{أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}. [ سورة النساء، الآية: 59 ]
الله - جل وعلا - جعل طاعة ولي الأمر من الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم جَعَلَ طاعةَ وليِّ الأمرِ من الدين قال صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعةِ، وإن تأَمَّرَ عليكم عبدٌ، فإنه من يعشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا..). [ سبق تخريجه ص: 7. ]
فطاعةُ وليِّ الأمرِ المسلمِ من الدين. و " الخوارجُ " يقولون: لا، نحنُ أحرارٌ. هذه طريقة الثوراتِ اليوم.(42/25)
فـ " الخوراجُ " الذين يريدونَ تفريقَ جماعةِ المسلمين، وشّقَّ عصا الطاعة، ومعصية الله ورسولهِ في هذا الأمر، ويرون أن مرتكبَ الكبيرةِ كافرٌ.
ومرتكبُ الكبيرة هو: الزاني - مثلاً -، والسارقُ، وشاربُ الخمر؛ يرون أنه كافرٌ، في حين أنَّ أهلَ السنّةِ والجماعةِ يرون أنهُ " مسلمٌ ناقصُ الإيمان " [ حتى لو فعل الكبيرة مستخفًا بها لا يكفر ما لم يستحلها، خلافًا لما يقوله بعضُهم: من أنَّ مرتكبَ الكبيرة إذا كان مستخفًا يكفر كفرًا مخرجًا عن الملَّة.
وهذا القولُ هو عينُ قولِ الخوارجِ، كما قال ذلك شيخنا الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عندما سئل عنه بالطائف عام 1415 هـ. ]
، ويسمونه بالفاسق الملَّي؛ فهو " مؤمنٌ بإيمانهِ فاسقٌ بكبيرته "، لأنه لا يخُرِجُ من الإسلام إلا الشركُ أو نواقضُ الإسلام المعروفة، أما المعاصي التي دون الشرك؛ فإنها لا تُخرجُ من الإيمانِ، وإن كانتْ كبائرَ، قال الله - تعالى - :
{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [ سورة النساء، الآيتان: 48، 116 ].
و " الخوارجُ " يقولون: مرتكبُ الكبيرة كافرٌ، ولا يٌغفرُ له، وهو مخلّدٌ في النار. وهذا خلافُ ما جاءَ في كتاب الله - سبحانه وتعالى -.
والسببُ: أنهم ليسَ عندهم فقهٌ.
لاحظُوا أن السببَ الذي أوقَعَهُم في هذا أنهم ليس عندَهم فقه، لأنَّهم جماعةٌ اشتدوا في العبادةِ، والصلاةِ، والصيامِ، وتلاوةِ القرآنِ، وعندهم غَيرةٌ شديدةٌ، لكنهم لا يفقهون، وهذه هي الآفة.
فالاجتهادُ في الورعِ والعبادةِ؛ لا بدَّ أن يكونَ مع الفقه في الدين والعلم.(42/26)
ولهذا وصفهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه، بأن الصحابةَ يحقرون صلاتهم إلى صلاتهم، وعبادتهم إلى عبادتهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " يمرُقُون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمَّيةِ " [ جزءٌ من حديثٍ طويل، أخرجه أحمد: (3/73)، والبخاري: (7432)، ومسلم: (1064)، والنسائي: (2577) (4112)، وأبو داود: (7464)، والطيالسي: (2234) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -.
ومن حديث علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - :
البخاري: (3611) (5057) (6930)، ومسلم: (1066)، وأبو داود: (4767)، والطيالسي: (168)، والنسائي: (4113)، وأحمد: (1/81) (1/113).
ومن حديث جابر - رضي الله عنه -، عند: أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه.
ومن حديث سهل بن حنيف - رضي الله عنه -، عند: الشيخين، والنسائي.
ومن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، عند: أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
ومن حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -، عند: أحمد، والطيالسي، والنسائي، والحاكم.
ومن حديث أبي سعيد وأنس - رضي الله عنهما -، عند: أحمد، وأبي داود، والحاكم في " مستدركه ".
ومن حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -، عند: أحمد، والطبراني.
ومن حديث عامر بن وائلة - رضي الله عنه -، عند: الطبراني. ]
مع عبادتهم، ومع صلاحهم، ومع تهجدهم وقيامهم بالليل، لكن لما كان اجتهادُهم ليس على أصلٍ صحيحٍ، ولا على علمٍ صحيح، صار ضلالاً ووباءً وشرًا عليهم وعلى الأمةِ.
وما عُرِفَ عن " الخوارجِ " في يومٍ من الأيام أنهم قاتلوا الكفار، أبدًا، إنما يقاتلون المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: " يقتلون أهلَ الإسلامِ ويَدَعُون أهلَ الأوثانِ ". [ جزءٌ من حديثٍ طويل، أخرجه أحمد: (3/73) (3/68) ومختصرًا: (3/72)، والبخاري: (7432) (4667) مختصرًا، ومسلم: (1064)، والنسائي: (2577) (4112)، وأبو داود: (7464)، والطيالسي: (2234). ](42/27)
فما عرفنا في تاريخ " الخوارجِ "، في يومٍ من الأيام أنَّهم قاتلوا الكفار والمشركينَ، وإنما يقاتلون المسلمين دائمًا: قتلوا عثمان. وقتلوا علي بن أبي طالب. وقتلوا الزبير بن العوام. وقتلوا خيار الصحابة. وما زالوا يقتلون المسلمين.
وذلك بسبب جهلهم في دين الله - عزَّ وجلَّ -، مع ورَعِهم، ومع عبادتهم، ومع اجتهادهم، لكن لما لم يكنْ هذا مؤسَّسًا على علمٍ صحيح؛ صارَ وبالاً عليهم، ولهذا يقول العلامةُ ابنُ القيم في وصفهم :
(وَلَهُمْ نُصُوصٌ قَصَّروا في فَهْمِهَا ** فَأُتُوْا مِنَ التقْصِيرِ في العِرْفَانِ)
[ نونية ابن القيم المسمّاة: " الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية " ص: 97. ]
فهم استدلوا بنصوصٍ وهم لا يفهمونها، استدلوا بنصوصٍ من القرآن ومن السنّة؛ في الوعيدِ على المعاصي، وهم لا يفقهون معناها، لم يُرجعوها إلى النصوص الأخرى، التي فيها الوعدُ بالمغفرة، والتوبة لمن كانت معصيتُه دون الشرك؛ فأخذوا طرفًا وتركوا طرفًا. هذا لجهلهم.
والغيرةُ على الدين والحماسُ لا يكفيان، لا بد أَنْ يكونَ هذا مؤسَّسًا على علمٍ، وعلى فقهٍ في دين الله - عز وجل -، يكونُ ذلك صادرًا عن علمٍ، وموضوعًا في محله.
والغيرةُ على الدين طيبةٌ، والحماسُ للدين طيِّب، لكن لا بد أن يُرشًَّدَ ذلك باتباع الكتابِ والسنة.
ولا أَغْيَرَ على الدين، ولا أنصحَ للمسلمين؛ من الصحابة - رضي الله عنهم -، ومع ذلك قاتلوا " الخوارج "؛ لخطرهم وشرِّهم.(42/28)
قاتَلهم عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، حتى قتَلهم شرَّ قِتْلَةٍ في وقعةِ " النهروان "، وتحقق في ذلك ما أخبر به صلى الله عليه وسلم: من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بَشَّرَ من يقتُلُهم بالخير والجنة. فكان علي بن أبي طالب هو الذي قتلَهم، فحصَلَ على البشارةِ من الرسول صلى الله عليه وسلم. [ روى البخاري في صحيحه : (6930)، ومسلم في صحيحه : (1066)، وأحمد في مسنده : (1/113)، وابن أبي عاصم في " السنة ": (914)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في " السنة ": (1487) :
عن علي - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرجُ في آخرِ الزمانِ قومٌ أحداثُ الأسنانِ، سفهاءُ الأحلامِ، يقولون من خير قول البريةِ، لا يجاوزُ إيمانُهم حناجرَهم، فأينما لقيتموهم فاقُتلوهُم؛ فإنًّ قَتْلَهم أجرٌ لمن قتَلَهم يوم القيامة ".
قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - بعدما روى حديثًا في الخوارج وعلاماتِهم، رواه أحمد في " المسند ": (3/33)، وابنه في " السنة ": (1512) - قال: (فحدثني عشرون أو بضعٌ وعشرون من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ عليًّا وَلِيَ قتْلَهم).
وروى أحمد: (1/59)، ومسلم: (1066)، وعبد الله بن الإمام أحمد في " السنة ": (1471) عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرجُ قومٌ فيهم رجلٌ مودنٌ اليدِ، أو مثدون اليدِ، أو مخدج اليدِ، ولولا أن تبطروا لأنبأتكم بما وَعَدَ الله الذين يقاتلونهم على لسان نبيه ".
وروى مسلم: (1065)، وأبو داود: (4667)، وعبد الله بن الإمام أحمد في " السنة ": (1511) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تَمرق مارقةٌ في فِرقَةٍ من المسلمين، يقتُلُهما أولى الطائفتين بالحق).
هذا، وقد جاء الأمرُ بقتلِهم وفضلِه في أحاديثَ كثيرةٍ، ليسَ هذا مجالُ ذِكرِها. ]
قَتَلَهُم ليدفعَ شرَّهم عن المسلمين.(42/29)
وواجبٌ على المسلمين في كلِّ عصرٍ إذا تحققوا من وجودِ هذا المذهبِ الخبيثِ؛ أن يعالجوه بالدعوة إلى الله أولاً، وتبصيرِ الناس بذلك؛ فإن لم يمتثلوا قاتَلُوهم دفعًا لشرِّهم.
وعليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - أرسلَ إليهم ابنَ عمه: عبدَ الله بنَ عباس، حَبْرَ الأمة، وترجمانَ القرآن؛ فناظرَهم، ورَجَعَ منهم ستَّةُ آلاف، وبقي منهم بقيةٌ كثيرةٌ لم يرجعوا، عندَ ذلك قاتَلَهم أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب ومعه الصحابة؛ لدفعِ شرِّهم وأذاهم عن المسلمين.
هذه " فرقةُ الخوراج " ومذهبُهم.
$الفرقة الثالثة : الشيعة
" الشيعة ": هم الذين يتشيّعون لأهلِ البيت.
و " التشيّع " في الأصل: الاتباعُ والمناصرةُ :
{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ}. [ سورة الصافات ]
يعني: أتباعه إبراهيم، ومن أنصار ملتِه؛ لأنَّ الله - سبحانه - لما ذكر قصةَ نوحٍ قال: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ}.
فأصلُ " التشيّع ": الاتباعُ والمناصرةُ، ثم صار يُطلقُ على هذه الفِرقة، التي تزعم أنها متَّبعةٌ لأهل البيت - وهم: عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه - وذريتُه -.
ويزعمون أن عليًّا هو الوصي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم على الخلافِة، وأنَّ أبا بكر، وعمرَ، وعثمانَ، والصحابةَ؛ ظلموا عَليَّا، واغتصبوا الخلافةَ منه. هكذا يقولون.
وقد كذبوا في ذلك، لأن الصحابة أجمعوا على بيعة أبي بكرٍ ومنهم عليٌّ - رضي الله عنه -، حيثُ بايَعَ لأبي بكرٍ، وبايعَ لعمر، وبايعَ لعثمان.
فمعنى هذا: أنهم خونوا عليًّا - رضي الله عنه -.
وقد كَفَّروا الصحابةَ إلا عددًا قليلاً منهم، وصاروا يعلنونَ أبا بكرٍ وعمرَ، ويلقِّبونهما " بصنمي قريش ".
ومن مذهبهم: أنهم يُغلون في الأئمةِ من أهلِ البيت، ويُعطونَهم حقَّ التشريع ونسخَ الأحكام.(42/30)
ويزعمون أن القرآن قد حُرِّفَ ونُقِّصَ، حتى آل بهم الأمرُ إلى أن اتخذوا الأئمةَ أربابًا من دون الله، وبنوا على قبورهم الأضرحةَ، وشَيَّدوا عليها القبابَ، وصاروا يطوفونَ بها، ويذبحون لها وينذرون.
وتفَّرقت " الشيعة " إلى فرقٍ كثيرة، بعضُها أخَفُّ من بعض، وبعضُها أشَدُّ من بعض، منهم: " الزيدية "، ومنهم: " الرافضة الإثنا عشرية "، ومنهم: " الإسماعيلية " و " الفاطمية "، ومنهم: " القرامطة "، ومنهم..، ومنهم..، عددٌ كبيرٌ، وفِرَقٌ كثيرة.
وهكذا.. كلُّ من تركَ الحقَّ فإنهم لا يزالون في اختلافٍ وتفَرُّقٍ، قال - تعالى - :
{فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. [ سورة البقرة ]
فمن تركَ الحقَّ يُبتلى بالباطل، والزيغِ، والتفرُّقِ، ولا ينتهي إلى نتيجة، بل إلى الخسارة - والعياذُ بالله -.
وتفرَّقت " الشيعةُ " إلى فرقٍ كثيرةٍِ، ونِحَلٍ كثيرة.
وتفرَّقت " القدرية ".
وتفرَّقت " الخوارج " إلى فرق كثيرة: " الأزارقة "، و " الحرورية "، و " النجدات "، و " الصفرية "، و " الإباضية "، ومنهم الغلاةُ، ومنهم من هو دون ذلك.
$الفرقة الرابعة : الجهمية
" الجهميةُ "، وما أرداك مالجهمية ؟!!.
" الجهميةُ ": نسبةً إلى " الجهم بن صفوان "، الذي تتلمذَ على " الجعد بن دِرهم "، و " الجعد بن درهم " تتلمذَ على " طالوت "، و " طالوت " تتلمذ على " لبيد بن الأعصم " اليهودي؛ فهم تلاميذ اليهود.
وما هو " مذهبُ الجهمية " ؟.
" مذهبُ الجهمية ": أنهم لا يُثبتون لله اسمًا ولا صفةً، ويزعمون أنه ذاتٌ مجرَّدةٌ عن الأسماءِ والصفاتِ؛ لأن إثباتَ الأسماءِ والصفاتِ - بزعمهم - يقتضي الشركَ، وتعدُّدَ الآلهة - كما يقولون -.
هذه شبهتُهم اللعينة.(42/31)
ولا ندري ماذا يقولون في أنفسهم ؟. فالواحدُ منهم يوصفُ بأنه عالمٌ، وبأنه غنيٌّ، وبأنه صانعٌ، وبأنه تاجرٌ. فالواحدُ منهم له عِدَّةُ صفاتٍ، هل معنى ذلك أن يكونَ عِدَّةَ أشخاصٍ ؟؟!!.
هذه مكابرةٌ للعقولِ؛ فلا يلزمُ من تعددِ الأسماءِ والصفاتِ تعدُّدَ الآلهةِ، ولهذا لمَّا قال المشركون من قبلُ لَمَّا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رحمن، يا رحيم) قالوا: هذا يزعم أنه يعبدُ إلهًا واحدًا، وهو يدعو آلهةً متعددةً، فأنزل الله - سبحانه وتعالى - قوله :
{قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [ تفسير ابن كثير: (4/359). ] [ سورة الإسراء، الآية: 110 ]
فأسماء الله كثيرة، هي تُدلُّ على كمالِه وعظمتِه - سبحانه وتعالى -، لا تدلُّ على تعدُّدِّ الآلهةِ - كما يقولون -، بل تدلُّ على العظمة، وعلى الكمالِ.
أما الذاتُ المجرَّدةُ التي ليس لها صفاتٌ فهذهِ لا وجودَ لها، مستحيلٌ يوجدُ شيٌء وليس له صفاتٌ، أبدًا، ولو على الأقل صفة الوجود.
ومن شبههم: " أن إثباتَ الصفاتِ يقتضي التشبيه، لأنَّ هذه الصفات يوجد مثلها في المخلوقين ".
وهذا قولٌ باطل، لأنَّ صفات الخالق تليق به، وصفات المخلوقين تليقُ بهم؛ فلا تشابه.
و " الجهميةُ " جمعوا إلى ضلالِهم في الأسماء والصفاتِ الجبرَ في القدر، لأن " الجهميةَ " يقولون: (إنَّ العبدَ ليس له مشيئةٌ، وليس له اختيارٌ، وإنما هو مُجْبَرٌ على أفعالِه).
ومعنى هذا: أنَّه إذا عُذِّبَ على المعصيةِ يكونُ مظلومًا، لأنَّها ليستْ فِعْلَهُ، وإنما هو مجبرٌ عليها - كما يقولون -، تعالى الله عن ذلك.
فهم جمعوا بين " الجبرِ في القدر "، وبين " التجهُّم في الأسماءِ والصفاتِ "، وجمعوا إلى ذلك " القولَ بالإرجاءِ "، وأضافوا إلى ذلكَ " القول بخلقِ القرآن " {ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ}.
قال ابن القيم :(42/32)
جِيْمٌ وجِيْمٌ ثُمَّ جِيْمٌ مَعْهُمَا ** مَقْرُونَةً مَعْ أَحْرُفٍ بِوِزَانِ
جَبْرٌ وإِرْجَاءٌ وَجِيْمُ تَجَهُّمٍ ** فَتَأَمَّلِ المجمُوعَ في الْمِيْزَانِ
فَاحْكُمْ بِطالِعِها لِمَنْ حَصُلَتْ ** بخلاصِهِ مِنْ رِبْقَةِ الإيمانِ
[ نونية ابن القيم، ص: 115. ]
يعني: جمعوا بين " جَبْرٍ " و " تَجَهُّمٍ " و "إِرجاءٍ "، ثلاثُ جيمات، والجِيمُ الرابعةُ جِيمُ جهنَّم.
الحاصلُ: أن هذا " مذهبَ الجهميةِ "، والذي اشتهرَ فيه نفيُ الأسماءِ والصفاتِ عن الله - سبحانه وتعالى -، انشَقَّ عنه " مذهبُ المعتزلةَ "، و " مذهبُ الأشاعرة "، و " مذهبُ الماتريدية ".
و " مذهبُ المعتزلة ": أنهم أثبتوا الأسماءَ ونفوا الصفات، لكن أثبتوا أسماءً مجرَّدة، مجرَّدَ ألفاظٍ لا تدلُّ على معانٍ ولا صفاتٍ.
سُمُّوا " بالمعتزلة ": لأن إمامهم " واصل بن عطاء " كان من تلاميذ الحسن البصري - رحمه الله -، الإمامَ التابعي الجليل، فلمَّا سئُلَ الحسن البصري عن مرتكب الكبيرة، ما حكمه ؟. فقال بقولِ أهل السنَّةِ والجماعة: (إنه مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، مؤمنٌ بإيمانِه فاسقٌ بكبيرته).
فلم يرضَ " واصلُ بنُ عطاء " بهذا الجواب من شيخه؛ فاعتزلَ وقال: (لا. أنا أرى أنه ليس بمؤمنٍ ولا كافر، وأنه في المنزلةِ بين المنزلتين). وانشَقَّ عن شيخه - الحسن - وصار في ناحيةِ المسجد، واجتمعَ عليه قومٌ من أوباشِ الناس وأخذوا بقوله.
وهكذا دعاةُ الضلالِ في كلِّ وقتٍ، لا بدَّ أن ينحازَ إليهم كثيرٌ من الناس، هذه حِكمةٌ من الله.
تركوا مجلسَ الحسنِ، شيخِ أهلِ السنّةِ، الذي مجلسُه مجلسُ الخيرِ، ومجلسُ العلمِ، وانحازوا إلى مجلسِ " المعتزلي: واصلِ بنِ عطاء " الضالِ المضِل.(42/33)
ولهم أشباهٌ في زماننا، يتركونَ علماءَ أهلِ السنّة والجماعةِ، وينحازونَ إلى أصحابِ الفكرة المنحرف. [ فتجدهم يقتنون أشرطتهم، وكتبهم، ويحرصون عليها، وإذا قلت لهم: إن في هذه الكتب ما يخالف معتقد أهل السنة والجماعة، السلف الصالح، من قول بخلق القرآن، أو من تأويل للصفات، أو من تحريض على أولياء الأمور، أو غيره. قالوا: " هذه أخطاءٌ بسيطةٌ، لا تمنعُ من قراءتها واستماعها "، مع أن في كتب علمائنا - سلفًا وخلفًا - الغنية عنها وهكذا يضللون كل من سمعهم: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [ النحل ].
ألم يعلموا أن من سلفنا الصالح من هجر من قال ببدعةٍ واحدة، أو أوَّلَ صفةً واحدةً فقط ؟.
فهذا عبدُ الوهاب بنُ عبدِ الحكم الوراق، وهو من أصحاب أحمد - رحمهم الله - يسئل عن أبي ثور فقال: (ما أدين فيه إلا بقول أحمد بن حنبل: " يُهجرُ أبو ثور، ومَن قال بقوله ").
وذلك لأنه أول حديث الصورة، وخالف قول السلف فيها.
فكيف بمن لا تجمع أخطاءه ولا تحصيها إلا الكتبُ ؟؟!
ومع ذلك تسمعُ بعضَهم يقولُ: أخطاءٌ بسيطة لا تمنعُ من قراءتِها !!.
فلا حول ولا قوة إلا بالله. ]
ومن ذلك الوقت سُمُّوا " بالمعتزلة "، لأنهم اعتزلوا أهلَ السنّة والجماعة؛ فصاروا ينفونَ الصفات عن الله - سبحانه وتعالى -، ويثبتون له أسماءَ مجرَّدة، ويحكُمون على مرتكبِ الكبيرة بما حَكَمَتْ به " الخوارجُ ": (أنه مخلَّدٌ في النار)، لكن اختلفوا عن " الخوارج " في الدنيا، وقالوا: (إنه يكون بالمنزلة بين المنزلتين، ليس بمؤمن ولا كافر).
بينما " الخوارجُ " يقولون: (كافر).
يا سبحانَ الله ! هل يُعقَلُ أنَّ الإنسانَ لا يكونُ مؤمنًا ولا كافرًا ؟!.
والله - تعالى - يقول :
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ}. [ سورة التغابن، الآية: 2 ](42/34)
ما قال: ومنكم من هو بالمنزلة بين المنزلتين. لكن هل هؤلاء يفقهون ؟؟!!.
ثمَّ تَفَرَّعَ عن " مذهبِ المعتزلةِ " " مذهبُ الأشاعرة ".
و " الأشاعرة ": يُنسبونَ إلى " أبي الحسن الأشعري " - رحمه الله -.
وكان أبو الحسن الأشعري معتزليًا، ثم مَنَّ الله عليه، وعرفَ بطلانَ مذهب المعتزلة، فوقف في المسجد يومَ الجمعة وأعلنَ براءَتَهُ من مذهبِ المعتزلة، وخلعَ ثوبًا عليه وقال: (خلعتُ مذهبَ المعتزلةِ، كما خلعتُ ثوبي هذا). لكنَّه صار إلى " مذهبِ الكُلاَّبِيَّة ": أتباعِ " عبدِ الله بن سعيد بن كُلاَّب ".
و" عبدُ الله بنُ سعيد بن كُلاَّب ": كان يُثبِتُ سبعَ صفاتٍ، وينفي ما عداها، يقول: (لأنَّ العقلَ لا يدُلُّ إلا على سبعِ صفاتٍ فقط: " العلمُ "، و " القدرةُ "، و " الإرادةُ "، و " الحياةُ "، و " السمعُ "، و " البصرُ "، و " الكلامُ ") يقول: (هذه دَلَّ عليها العقل، أما ما لم يدلُّ عليه العقل - عنده - فليس بثابتٍ).
ثم إنَّ الله مَنَّ على " أبي الحسن الأشعري "، وتركَ " مذهب الكُلاَّبِيَّةِ "، ورجعَ إلى مذهبِ الإمام أحمد بن حنبل، وقال: (أنا أقولُ بما يقولُ به إمامُ أهلِ السنَّة والجماعة أحمد بن حنبل: إنَّ الله استوى على العرش، وإنَّ له يدًا، وإنَّ له وجهًا). ذَكَرَ هذا في كتابه: " الإبانة عن أصول الديانة "، وذَكَرَ هذا في كتابه الثاني: " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " ذَكَرَ (أنَّه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل). وإن بَقِيَتْ عندَهُ بعضُ المخالفات..
ولكنَّ أتباعَهُ بقوا على " مذهب الكُلابية "؛ فغالبُهٍم لا يزالون على مذهبه الأول، ولذلك يُسَممّون " بالأشعرية ": نسبةً إلى الأشعري في مذهبه الأول.(42/35)
أما بعدَ أن رجعَ إلى مذهبِ أهلِ السنّة والجماعة؛ فنسبةُ هذا المذهب إليه ظلمٌ، والصوابُ أن يُقال: " مذهبُ الكُلاَّبِيَّة "، لا مذهب أبي الحسن الأشعري - رحمه الله -؛ لأنه تابَ من هذا، وصَنَّفَ في ذلك كتابه: " الإبانة عن أصول الديانة "، وصَرَّح برجوعه، وتمسِّكِه بما كان عليه أهلُ السنّة والجماعة - خصوصًا الإمام: أحمد بن حنبل رحمه الله -، وإن كانت عندَه بعضُ المخالفات، مثلُ قولِه في الكلام: (إنَّه المعنى النفسي القائم بالذات، والقرآن حكاية - أو عبارة - عن كلام الله، لا أنَّه كلامُ الله).
هذا " مذهبُ الأشاعرة "، منشَقٌّ عن " مذهبِ المعتزلةِ ".
" ومذهبُ المعتزلةِ " منشَقٌّ عن " مذهبِ الجهمية ".
ثُمَّ تفرَّعت مذاهبُ كثيرةٌ، كلُّها أصلُها " مذهبُ الجهمية ".
هذه - تقريبًا - أصول الفِرَقِ [ قال ابن أبي رندقه الطرطوشي في كتابه " كتاب الحوادث والبدع " ص: 14: (اعلم أن علماءنا - رضي الله عنهم - قالوا: أصول البدع أربعة، وسائر الأصناف الاثنتين وسبعين فرقة من هؤلاء تفرقوا وتشعبوا، وهم: " الخوارج " وهي أول فرقة خرجت على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، و " الروافض "، و " القدرية "، و " المرجئة "). ]
على الترتيب.
أولاً: " القدريةُ ".
ثُمَّ: " الشيعةُ ".
ثُمَّ: " الخوراجُ ".
ثُمَّ: " الجهمية ".
هذه أصول الفِرَق.
وتفرَّقت بعدها فِرَقٌ كثيرةٌ لا يحصيها إلا الله، وصُنِّفتْ في هذا كتبٌ، منها :
1 - كتاب: " الفَرْق بين الفِرَق " للبغدادي.
2 - كتاب: " المِلل والنِّحَل " لمحمّد بن عبد الكريم الشهرستاني.
3 - كتاب: " الفِصَل في المِلل والنِّحَل " لابن حزم.
4 - كتاب: " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " لأبي الحسن الأشعري.
كُلُّ هذه الكتب في بيان الفِرَقِ، وتنوّعِها، وتعدادِها، واختلافِها، وتطوراتِها.(42/36)
ولا تزالُ إلى عصرنا هذا تتطوّر، وتزيدُ، وينشأُ عنها مذاهبُ أخرى، وتنشَقُّ عنها أفكارٌ جديدةٌ منبثقةٌ عن أصلِ الفكرة، ولم يبقَ على الحقِّ إلا أهلُ السنّة والجماعة، في كُلِّ زمانٍ ومكان هم على الحق إلى أن تقومَ الساعةُ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم من خذَلهم حتى يأتي أمرُ الله وهم كذلك). [ سبق تخريجه ص: (21). ]
أهلُ السنّة والجماعة - والحمدُ للهِ - يخالفون " القدرية النفاة ":
فيؤمنون بالقدر، وأنَّه من أركان الإيمان الستة، وأنه لا يحصُلُ في هذا الكونِ شيءٌ إلا بقضائه وقدره - سبحانه وتعالى -، لأنَّه الخلاَّق، الربُّ، المالَكُ، المتصرفُ :
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. [ سورة الزمر ]
لا أحدَ يتصرَّفُ في هذا الكونِ إلا بمشيئتِه - سبحانه -، وإرادتِه، وقدرتِه، وتقديرِه.
عَلِمَ الله ما كان، وما سيكون في الأزَلِ، ثم كتبه في اللوحِ المحفوظِ، ثم شاءَه وأوجدَه وخلقَه - سبحانه وتعالى -.
وأنَّ للعبد مشيئةً، وكسبًا، واختيارًا، لا أنَّه مسلوبُ الإرادَةِ، مُجْبَرٌ على أفعالهِ - كما تقول " الجبرية الغُلاة " -؛ فهم يخالفونهم.
ومذهبُهم في صحابة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنَّهم يوالونَهم كلَّهم، أهلَ البيت وغيرَ أهل البيت، يوالون الصحابة كلهم، المهاجرين، والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، ويمتثلونَ بذلك قولَهُ - تعالى -:
{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا}. [ سورة الحشر، الآية: 10 ](42/37)
فهم يخالفون " الشيعة "، لأنَّهم يفرِّقون بينَ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيوالون بعضهم، ويعادون بعضهم. فأهلُ السنّة يوالونهم جميعًا، ويحبونهم جميعًا، والصحابةُ يتفاضلون، وأفضلُهم: الخلفاءُ الراشدون، ثم بقيّة العشرة، ثم المهاجرون أفضلُ من الأنصارِ، وأصحابُ بدرٍ لهم فضيلةٌ، وأصحابُ بيعةِ الرضوانِ لهم فضيلةٌ، فلهم فضائلُ - رضي الله عنهم -.
ويعتقدون: السمعَ والطاعةَ - خلافًا " للخوارجِ " -؛ فهم يعتقدون السمعَ والطاعةَ لولاةِ أمورِ المسلمين، ولا يرونَ الخروجَ على إمامِ المسلمين، وإنْ حصَلَ منه خطأ، ما دامَ هذا الخطأُ دون الكفر، ودون الشرك، حيث نهى صلى الله عليه وسلم عن الخروجِ عليهم لمجرَّدِ المعاصي، وقال: (إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندَكم فيه من الله برهان). [ جزءٌ من حديثِ عبادة بن الصامت، ولفظه: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا، أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأَثَرَةٍ علينا، وأن لا نُنَازع الأمر أهله - قال: - إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان).
رواه البخاري: (7056)، ومسلم: (3/1470) (42). ]
وكذلك هم يخالفون " الجهمية " ومشتقاتهم في أسماء الله وصفاته: فيؤمنونَ بما وصفَ الله به نفسَهُ، وما وصَفَهُ به رسولُه صلى الله عليه وسلم، ويتَّبعون في ذلك الكتابَ والسنَّة، من غير تشبيهٍ ولا تمثيل، من غير تحريفٍ ولا تعطيل، على حَدِّ قوله - سبحانه وتعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}. [ سورة الشورى ]
فمذهبُ أهلِ السنّةِ والجماعةِ - وللهِ الحمدِ - جامعٌ للحقِّ كُلِّه، في جميعِ الأبوابِ، وفي جميعِ المسائل، ومخالفٌ لكُلِّ ما عليه الفِرَقُ الضالةُ والنِّحَلُ الباطلة.
فمن أراد النجاةَ فهذا مذهبُ أهلِ السنّةِ والجماعة.(42/38)
وأهلُ السنّةِ والجماعةِ في بابِ العبادةِ: يعبدونَ الله على مقتضَى ما جاءَتْ به الشريعةُ، خلافًا " للصوفيةِ " و " المبتدعةِ " و " الخرافيين "، الذين لا يتقَّيدونَ في عبادتِهم بالكتابِ والسنّةِ، بل يتبعون في ذلك ما رَسَمَهُ لهم شيوخُ الطُرقِ، وأئمةُ الضلال.
نسألُ الله أنْ يجعلني وإياكم من أهلِ السنّةِ والجماعةِ؛ بمَنَّهِ وكرَمِهِ، وأن يرينا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتباعَهُ، وأنْ يرينا الباطلَ باطلاً ويرزقَنا اجتنابَهُ. إنه سميعٌ مجيب.
هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
$الإجابة على بعض الأسئلة
وسئل الشيخُ - حفظه الله - بعد المحاضرةِ عدَّةَ أسئلة، منها :
$$السؤال الأول:
لقد نهَى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الغُلو في الدين؛ فهل سببُ انحرافِ الفِرَقِ عن أهلِ السنّةِ والجماعةِ الغُلو ؟. وما أمثلةُ ذلك من الفِرَق ؟.
الجواب :
" الخوراجُ " ظاهرٌ أن سببَ انحرافِهم الغُلو في الدين؛ لأنَّهم تشدَّدُوا في العبادةِ على غيرِ هُدى وبصيرة، وأطلقوا على الناسِ الكُفْرَ عن غيرِ بصيرة، لأنَّهم يخالفونهم في مذهبهم.
فلا شك أن الغلو في الدين هو أساس البلاء، قال - تعالى - :
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}. [ سورة المائدة، الآية: 77 ]
قال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ". [ أخرجه أحمد: (1/215، 347)، والنسائي: (5/268 - 269)، وابن ماجة: (3029)، وابن أبي عاصم: (98)، وابن خزيمة: (4/274)، وابن الجارود في " المنتقى ": (473)، وابن حبان: (1011)، والطبراني في " الكبير ": (12747)، والحاكم: (1/466)، والبيهقي: (5/127)، وأبو يعلى الموصلي: (4/316، 357) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. ]
والغلو في كل شيء هو: الزيادة عن الحد المطلوب (وكل شيء تجاوز حده انقلب إلى ضده).(42/39)
ونجد أن " المعطلة للصفات " سبب انحرافهم الغلو في التنزيه، وسبب انحراف " الممثلة والمشبهة " غلوهم في الإثبات.
فالغلو بلاء، والوسط والاعتدال هو الخير في كل الأمور.
فلا شك أن للغلو دورًا في ضلال الفرق عن الحق، كل غلوه بحسبه.
$$السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) [ سبق تخريجه ص: (14). ]
فهل العدد محصور أو لا ؟.
الجواب :
ليس هذا من باب الحصر؛ لأن الفرق كثيرة جدًا، إذا طالعتم في كتب الفرق وجدتم أنهم فرق كثيرة، لكن - والله أعلم - ان هذه الثلاث والسبعين هي أصول الفرق، ثم تشعبت منها فرق كثيرة.
وما الجماعات المعاصرة الآن، المخالفة لجماعة أهل السنة؛ إلا امتداد لهذه الفرق، وفروع عنها.
$$السؤال الثالث :
هل هناك فرق بين " الفرق الناجية " و " الطائفة المنصورة " ؟.
الجواب :
أبدًا، " الفرقة الناجية " هي " المنصورة ". لا تكونُ " ناجيةً " إلا إذا كانت " منصورةً "، ولا تكون " منصورةً " إلا إذا كانتْ " ناجيةً "، هذه أوصافُهم: " أهلُ السنةِ والجماعة "، " الفرقة الناجية "، " الطائفة المنصورة ".
ومن أراد أن يفرق بين هذه الصفات، ويجعل هذه لبعضهم وهذه لبعضهم الآخر؛ فهو يريد أن يفرق أهل السنة والجماعة، فيجعل بعضهم فرقة ناجية، وبعضهم طائفة منصورة.
وهذا خطأ؛ لأنهم جماعة واحدة، تجتمع فيها كل صفات الكمال والمدح، فهم " أهل السنة والجماعة "، وهم " الفرقة الناجية "، وهم " الطائفة المنصورة "، وهم " الباقون على الحق إلى قيام الساعة "، وهم " الغرباء في آخر الزمان ".(42/40)
حقيقة التصوف
وموقف الصوفية من أصول العبادة والدين
فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، ورضي لنا الاسلام دينا ، وأمرنا بالتمسك به إلى الممات ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } .. ( ال عمران ) ، الاية : ' 102 ' وتلك وصية إبراهيم ويعقوب لبنيه . { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } .. ( البقرة ) ، الاية : ' 132 ' .
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك ، نبينا محمد وعلى اله وأصحابه أجمعين . وبعد(43/1)
… فإن الله خلق الجن والانس لعبادته ، كما قال ـ تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } .. ( الذاريات ) ، الاية : ' 56 ' وفي ذلك شرفهم ، وعزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، لأنهم بحاجة إلى ربهم ، لا غنى لهم عنه طرفة عين ، وهو غني عنهم وعن عبادتهم ، كما قال ـ تعالى { إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } .. ( الزمر) ، الاية : ' 7 ' . وقال تعالى { وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} .. ( إبراهيم ) ، الاية : ' 8 ' . والعبادة حق لله على خلقه ، وفائدتها تعود إليهم ، فمن أبى أن يعبد الله فهو مستكبر ، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك ، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع ، ومن عبد الله وحده بما شرع فهو المؤمن الموحد . ولما كان العباد في ضرورة إلى العبادة ، ولا يمكنهم أن يعرفوا بأنفسهم حقيقتها التي ترضي الله ـ سبحانه ـ وتوافق دينه ، لم يكلهم إلى أنفسهم ، بل أرسل إليهم الرسل ، وأنزل الكتب لبيان حقيقة تلك العبادة كما قال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} ( النحل ) ، الأية : ' 36 ' . وقال ـ تعالى ـ : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } .. ( الأنبياء ) ، الأية : ' 25 ' . فمن حاد عما بينته الرسل ونزلت به الكتب من عبادة الله ، وعبد الله بما يملي عليه ذوقه وما تهواه نفسه وما زينته له شياطين الانس والجن فقد ضل عن سبيل الله ولم تكن عبادته في الحقيقة عبادة لله ، بل هي عبادة لهواه : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} .. ( القصص ) ، الأية : ' 50 ' . وهذا الجنس كثير في البشر ، وفي طليعتهم النصارى ، ومن(43/2)
ضل من فرق هذه الأمة ، كالصوفية فإنهم اختطوا لأنفسهم خطة في …
العبادة مخالفة لما شرعه الله في كثير من شعاراتهم . وهذا يتضح ببيان حقيقة العبادة التي شرعها الله على لسان رسول الله ، " صلى الله عليه وسلم " ، وبيان ما عليه الصوفية اليوم من احرافات عن حقيقة تلك العبادة .
ضوابط العبادة الصحيحة
إن العبادة التي شرعها الله ـ سبحانه وتعالى ـ تنبني على أصول وأسس ثابتة تتلخص فيما يلي :
أولا : أنها توقيفية ** بمعنى أنه لا مجال للرأي فيها ** بل لابد أن يكون المشرع لها هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ كما قال تعالى ـ لنبيه : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ} .. ( هود ) ، الأية : ' 112 ' . وقال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } .. ( الجاثية ) ، الأية : ' 18 ' . وقال عن نبيه : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى } .. ( الأحقاف ) ، الأية : ' 9 ' .
ثانيا : لا بد أن تكون العبادة خالصة لله ـ تعالى ـ من شوائب الشرك ، كما قال ـ تعالى ـ : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .. ( الكهف ) ، الأية : ' 110 ' فإن خالط العبادة شيء من الشرك أبطلها ، كما قال ـ تعالى ـ : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .. ( الأنعام ) ، الأية : ' 88 ' . وقال ـ تعالى ـ : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ }..(الزمر) ، الآيتان:'65ـ 66'(43/3)
ثالثا : لابد أن تكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله " صلى الله عليه وسلم " كما قال ـ تعالى ـ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .. ( الأحزاب ) ، الأية : ' 21 ' . وقال ـ تعالى ـ : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} .. ( الحشر ) ، الأية : ' 7 ' . وقال النبي ، " صلى الله عليه وسلم " (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) الحديث رواه مسلم . .. وفي رواية (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) متفق عليه ..
وقوله ، " صلى الله عليه وسلم " (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) متفق عليه .. وقوله ، " صلى الله عليه وسلم " (( خذوا عني مناسككم )) . رواه مسلم .. إلى غير ذلك من النصوص .
رابعا : أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير ، لا يجوز تعديها وتجاوزها ، كالصلاة مثلا ؛ قال ـ تعالى ـ : { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } .. ( النساء ) ، الأية : ' 103 ' . وكالحج قال ـ تعالى ـ : { الحج أشهر معلومت } .. ( البقرة ) ، الأية : ' 197 ' . وكالصيام ، قال ـ تعالى ـ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .. ( البقرة) ، الأية :'185' .
خامسا : لابد أن تكون العبادة قائمة على محبة الله
تعالى ـ والذل له ، وخوفه ورجائه ، قال ـ تعالى ـ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } ..(43/4)
الاسراء ) ، الأية : ' 57 ' . وقال ـ تعالى ـ عن أنبيائه : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} .. (الأنبياء ): ' 90 ' . قال ـ تعالى ـ : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .. ( ال عمران ) ، الآيتان : ' 31 ـ 32 ' . فذكر ـ سبحانه ـ علامات محبة الله وثمراتها
أما علاماتها :: فاتباع الرسول " صلى الله عليه وسلم " ، وطاعة الله ، وطاعة الرسول
أما ثمراتها :: فنيل محبة الله ـ سبحانه ـ ومغفرة الذنوب والرحمة منه سبحانه
سادسا : أن العبادة لا تسقط عن المكلف من بلوغه عاقلا إلى وفاته ، قال تعالى ـ : { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .. ( ال عمران ) ، الأية : ' 102 ' . وقال ـ تعالى ـ : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} .. ( الحجر ) ، الأية : ' 99 ' .
حقيقة التصوف(43/5)
لفظ التصوف والصوفية لم يكن معروفا في صدر الاسلام وإنما هو محدث بعد ذلك أو دخيل على الاسلام من أمم أخرى . قال شيخ الاسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ في مجموع الفتاوى : (*( أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة ، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ ، كالامام أحمد بن حنبل ، وأبي سليمان الداراني وغيرهما ، وقد روي عن سفيان الثوري أنه تكلم به ، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري ، وتنازعوا في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي ، فإنه من أسماء النسب كالقرشي والمدني وأمثال ذلك ، فقيل : إنه نسبة إلى أهل الصفة ، وهو غلط ، لأنه لو كان كذلك ، لقيل : صفي ، وقيل نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله ـ وهو أيضا غلط فإنه لو كان كذلك لقيل : صوفي ، وقيل نسبة إلى صوفة بن بشر بن أد بن بشر بن طابخة ، قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم ينسب إليهم النساك ، وهذا وإن كان موافقا للنسب من جهة اللفظ فإنه ضعيف أيضا ، لأن هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى . ولأن غالب من تكلم باسم الصوفي لا يعرف هذه القبيلة ولا يرضى أن يكون مضافا إلى قبيلة في الجاهلية ، لا وجود لها في الاسلام وقيل ـ وهو العروف ـ أنه نسبة إلى الصوف ، فإنه أول ما ظهرت الصوفية في البصرة . وأول من ابتنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد ، وعبد الواحد من أصحاب الحسن ، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار . )*) وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف ، فقال : (*( إن قوما يتخيرون لباس الصوف يقولون إنهم يتشبهون بالمسيح بن مريم ، وهدي نبينا أحب إلينا وكان " صلى الله عليه وسلم " يلبس القطن وغيره ، أو كلاما نحوا من هذا ، ثم يقول بعد ذلك : هؤلاء نسبوا إلى(43/6)
اللبسة الظاهرة وهي لباس الصوف فقيل في أحدهم صوفي ، وليس طريقهم مقيدا بلبس الصوف ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به ـ لمن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال )*) . إلى أن قال : (*( فهذا أصل التصوف ، ثم إنه بعد ذلك تشعبوتنوع )*) .إنتهى وكلامه (1) .. ـ يرحمه الله ـ يعطي أن التصوف نشأ في بلاد الاسلام على يد عباد البصرة .. نتيجة لمبالغتهم في الزهد والعبادة ثم تطور بعد ذلك ـ والذي توصل إليه بعض الكتاب العصريين ـ أن التصوف تسرب إلى بلاد المسلمين من الديانات الأخرى كالديانة الهندية والرهبانية النصرانية وقد يستأنس لهذا بما نقله الشيخ عن ابن سيرين أنه قال : (*( إن قوما يتخيرون لباس الصوف يقولون إنهم يتشبهون بالمسيح بن مريم ، وهدي نبينا أحب إلينا . )*) فهذا يعطي أن التصوف له علاقة بالديانة النصرانية ؛؛ ويقولون الدكتور // صابر طعيمة \\ في كتابه : " الصوفية معتقدا ومسلكا " : ويبدوا أنه لتأثير الرهبنة المسيحية التي كان فيها الرهبان يلبسون الصوف وهم في أديرتهم كثرة كثيرة من المنقطعين لهذه الممارسة على امتداد الأرض التي حررها الاسلام بالتوحيد أعطى هو الآخر دورا في التأثير الذي بدا على سلوك الأوائل (2) .. وقال الشيخ " إحسان إلهي ظهير" ـ يرحمه الله ـ في كتابه : " التصوف ، المنشأ والمصادر" (*( عندما نتعمق في تعاليم الصوفية الأوائل والأواخر وأقاويلهم المنقولة منهم والمأثورة في كتب الصوفية القديمة والحديثة نفسها نرى بونا شاسعا بينها وبين تعاليم القران والسنة ، وكذلك لا نرى جذورها وبذورها في سيرة سيد الخلق محمد " صلى الله عليه وسلم " وأصحابه الكرام البررة خيار خلق الله وصفوة الكون ، بل بعكس ذلك نراها مأخوذة مقفبسة من الرهبنة المسيحية والبرهمة الهندوكية وتنسك اليهودية وزهد البوذية . (3) .. ويقول الشيخ : عبد الرحمن الوكيل ـ يرحمه
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 11 ، 5 ، 7 ، 16 ، 18 )
(2) ص 17 .
(3) ص 28 .(43/7)
الله ـ في مقدمة كتاب : " مصرع التصوف " : (*( إن التصوف أدنأ وأوألأم كيدا ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله ولرسله ، إنه قناع المجوس يتراءى بأنه لرباني ، بل قناع كل عدو صوفي للدين الحق فتش فيه تجد برهمية وبوذية وزرادشتية ومانوية وديصانية ، تجد أفلاطونية وغنوصية ، تجد فيه يهودية ونصرانية ووثنية جاهلية (1) .. )*) ومن خلال عرض اراء هؤلاء الكتاب المعاصرين في أصل الصوفية ، وغيرهم مما لم نذكره كثيرون يرون هذا الرأي . يتبين أن الصوفية دخيلة على الاسلام ، يظهر ذلك في ممارسات المنتسبين إليها ـ تلك الممارسات الغريبة على الاسلام والبعيدة عن هديه ن وإنما نعني بهذا المتأخرين من الصوفية حيث كثرت وعظمت شطحاتهم . أما المتقدمون منهم فكانوا على جانب من الاعتدال ، كالفضيل بن عياض ، والجنيد وإبراهيم بن أدهم وغيرهم .
موقف الصوفية من العبادة والدين
للصوفية ـ خصوصا ـ المتأخرين منهم منهج في الدين والعبادة يخالف منهج السلف ، ويبفعد كثيرا عن الكتاب والسنة . فهم قد بنوا دينهم وعبادتهم على رسوم ورموز واصطلاحات اخترعوها ، وهي تتلخص فيما يلي :
1 ـ قصرهم العبادة على المحبة ، فهم يبنون عبادتهم لله على جانب المحبة ، ويهملون الجوانب الأخرى ، كجانب الخوف والرجاء ، كما قال بعضهم : أنا لا أعبد الله طمعا في جنته ولا خوفا من ناره ـ ولا شك أن محبة الله ـ تعالى ـ هي الأساس الذي تبنى عليه العبادة . ولكن العبادة ليست مقصورة على المحبة كما يزعمون ، بل لها جوانب وأنواع كثيرة غير المحبة كالخوف والرجاء والذل والخضوع والدعاء إلى غير ذلك ، فهي كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية .. (*( اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة )*) ..
ويقول العلامة ابن القيم …
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
__________
(1) ص 19 .(43/8)
ولهذا يقول بعض السلف : من عبدالله بالحب وحده هو زنديق ، ومن عبده بالرجاء وحده هو مرجئ ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ، ومن عبده بالحب والخوف والرداء فهو موحد . وقد وصف الله رسله وأنبياءه ، بأنهم يدعون ربهم خوفا وطمعا ، وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ، وأنهم يدعونه رغبا ورهبا . قال شيخ الاسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ : (*( ولهذا قد وجد في نوع من المتأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوى التي تنافي العبودية )*) .. وقال أيضا : (*( وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعا من الجهل بالدين ، إما من تعدى حدود الله ، وإما من تضييع حقوق الله . وإما من إدعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها . (1) .. )*) ، وقال أيضا : (*( والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم ، ولهذا أنزل الله اية المحبة محنة يمتحن بها المحب ، فقال : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} .. ( ال عمران ) ، الأية : ' 31 ' . فلا يكون محبا لله إلا من يتبع رسوله ، وطاعة الرسول ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية ، وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته ، " صلى الله عليه وسلم " ، ويدعي من الخيالات ما لا يتسع هذا الموضوع لذكره ، حتى يظن أحدهم سقوط الأمر ـ وتحليل الحرام له )*) .. ، وقال أيضا : (*( وكثير من الضالين الذين اتبعوا أشياء مبتدعة من الزهد والعبادة على غير علم ولا نور من الكتاب والسنة وقعوا فيما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك . انتهى .
فتبين بذلك أن الاقتصار على جانب المحبة لا يسمى عبادة بل قد يؤول بصاحبه إلى الضلال بالخروج عن الدين
__________
(1) العبودية لشيخ الاسلام ابن تيمية ص 90 طبعة الرئاسة العامة للافتاء(43/9)
2 ــ الصوفية في الغالب لا يرجعون في دينهمة وعبادتهم إلى الكتاب والسنة والاقتداء بالنبي ، " صلى الله عليه وسلم " ، وإنما يرجعون إلى أذواقهم وما يرسمه لهم شيوخهم من الطرق المبتدعة ، والأ ذ كار والأوراد المبتدعة ، وربما يستدلون بالحكايات والمنامات والأحاديث الموضوعة لتصحيح ما هم عليه ، بدلا من الاستدلال بالكتاب والسنة ، هذا ما ينبغي عليه دين الصوفية . ومن المعلوم أن العبادة لا تكون عبادة صحيحة إلا إذا كانت مبنية على ما جاء في الكتاب والسنة . قال شيخ الاسلام ابن تيمية ويتمسكون ( يعني الصوفية ) في الدين الذي يتقربون به إلى ربهم بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها ، ولو صدق لم يكن معصوما ، فيجعلون متبوعهم وشيوخهم شارعين لهم دينا ، كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم دينا ... انتهى .
ولما كان هذا مصدرهم الذي يرجعون إليه في دينهم وعبادتهم ، وقد تركوا الرجوع إلى الكتاب والسنة صاروا أحزابا متفرقين . كما قال ـ تعالى ـ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } .. ( الأنعام ) ، الأية : ' 153 ' . فصراط الله واحد ، لا انقسام فيه ولا اختلاف عليه ، وما عداه فهو سبل متفرقة تتفرق بمن سلكها ، وتبعده عن صراط الله المستقيم ، وهذا ينطبق على فرق الصوفية فإن كل فرقة لها طريقة ، خاصة تختلف عن طريقة الفرقة الأخرى . ولكل فرقة شيخ يسمونه شيخ الطريقة يرسم لها منهاجا يختلف عن منهاج الفرق الأخرى ، ويبتعد بهم عن الصراط المستقيم . وهذا الشيخ الذي يسمونه شيخ الطريقة يكون له مطلق التصرف وهم ينفذون ما يقول ولا يعترضون عليه بشيء . حتى قالوا : المريد مع شيخه يكون كالميت مع غاسله وقد يدعي بعض هؤلاء الشيوخ أنه يتلقى من الله مباشرةما يأمربه مريدية وأتباعه .(43/10)
3 ــ من دين الصوفية التزام أذكار وأوراد يضعها لهم شيوخهم فيتقيدون بها ، ويتعبدون بتلاوتها ، وربما فضلوا تلاوتها على تلاوة القران الكريم ، ويسمونها ذكر الخاصة . زأما الذكر الوارد في الكتاب والسنة فيسمونه ذكر العامة . فقول لا إله إلا الله . عندهم هو ذكر العامة ، وأما ذكر الخاصة : فهو الاسم المفرد :: الله :: وذكر خاصة الخاصة :: هو :: قال شيخ الاسلام ابن تيمية : ومن زعم أن هذا الدين ، أي قول لا إله إلا الله ذكر العامة وأن ذكر الخاصة ـ هو الاسم المفرد ـ وذكر خاصة الخاصة :: هو :: أي الاسم المضمر فهو ضال مضل . واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله ـ تعالى ـ { قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } .. ( الأنعام ) ، الأية : ' 91 ' من بين أبين غلط هؤلاء ، بل من تحريفهم للكلم عن مواضعه ، فإن الاسم :: الله :: مذكور في الأمر بجواب(43/11)
الاستفهام في الأية قبله ، وهو قوله ـ تعالى ـ : { من أنزل الكتب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } إلى قوله ـ تعالى ـ { قل الله } أي الله هو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى . فالاسم :: الله :: مبتدأ خبره دل عليه الاستفهام ، كما فينظائر ذلك . نقول . من جارك ؟ فيقول : زيد . وأما الاسم المفرد مظهرا ومضمرا فليس بكلام تام ، ولا جملة مفيدة ، ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي ، ولم يذكر ذلك رسول الله ، " صلى الله عليه وسلم " ، ولا يعطي القلب نفسه معرفة مفيدة ، ولا حالا نافعا ، وإنما يعطيه تصورا مطلقا لا يحكم فيه بنفي ولا إثبات . إلى أن قال : وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر بالاسم المفرد وبـ ـ :: هو :: في فنون من الاتحاد ، وما يذكر عن بعض الشيوخ في أنه قال : أخاف أن أموت بين النفي والاثبات ، حال لا يقتدي فيها بصاحبها ، فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به ، إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه ، إذ الأعمال بالنيات ، وقد ثبت أن النبي ، " صلى الله عليه وسلم "، أمر بتلقين الميت لا إله إلا الله . وقال : (( من كان أخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة )) ولو كان ما ذكره محظورا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتا غير محمود . بل كان ما اختاره من ذكر الاسم المفرد ، والذكر بالاسم المضمر أبعد عن السنة ، وأدخل في البدعة ، وأقرب إلى إضلال الشيطان ، فإن من قال :: ياهوياهو:: ، أو :: هو :: ، ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدا إلا إلى ما يصوره قلبه ، والقلب قد يهتدي وقد يضل ـ وقد صنف صاحب الفصوص (1) .. كتابا سماه كتاب : " الهو " وزعم بعضهم أن قوله ـ تعالى ـ : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ } .. ( ال عمران ) ، الأية : ' 7 ' . معناه : وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو الهو ، وهذا مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل .
__________
(1) يعني ابن عربي .(43/12)
فقد يظن هذا من يظنه من هؤلاء . حتى قلت لبعض من قال شيئا من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت الأية وما يعلم تأويل هو منفصلة (1) .. ، أي كتبت :: هو :: منفصلة عن : تأويل ...
4 ــ غلو المتصوفة في الأولياء والشيوخ خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة . فإن عقيدة أهل السنة والجماعة موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ـ قال ـ تعالى ـ : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } .. ( المائدة ) ، الأية : ' 55 ' . وقال ـ تعالى ـ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } .. ( الممتحنة ) ، الأية : ' 1 ' . وأولياءالله هم المؤمنون المتقون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، ويجب علينا محبتهم والاقتداء بهم واحترامهم ـ وليست الولاية وقفا على أشخاص معينين . فكل مؤمن تقي فهو ولي لله ـ عز وجل ـ ، وليس معصوما من الخطأ ، هذا معنى الولاية والأولياء ، وما يجب في حقهم عند أهل السنة والجماعة ـ أما الأولياء عند الصوفية فلهم اعتبارات ومواصفات أخرى ، فهم يمنحون الولاية لأشخاص معينين من غير دليل من الشارع على ولايتهم ، وربما منحو الولاية لمن لم يعرف بإيمان ولا تقوى ، بل قد يعرف بضد ذلك من الشعوذة والسحر واستحلال المحرمات ، وربما فضلوا من يدعون لهم الولاية
على الأنبياء ، صلوات الله عليهم وسلامه عليهم ، كما يقول أحدهم :
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
__________
(1) رسالة العبودية ص ص 117 ، 118 طبعة الاف(43/13)
ويقولون : إن الأولياء يأحذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول ، ويدعون لهم العصمة . قال شيخ الاسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي الله ، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله ، ويسلم إلبه كل ما يقوله . ويسلم إليه كل ما يفعله ، وإن خالف الكتاب والسنة . فيوافق ذلك الشخص . ويخالف ما بعث الله به الرسول الذي فرض الله على جميع الحلق تصديقه فيما أخبر وطاعفه فيما أمر . إلى أن قال وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله فيهم : ـ { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .. ( التوبة ) ، الأية : ' 31 ' . وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسير هذه الأية ، لما سأل النبي ، " صلى الله عليه وسلم " ، عنها ، فقال : ما عبدوهم ، فقال النبي ، " صلى الله عليه وسلم " ، أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال ، فأطاعوهم . وكانت هذه ، عبادتهم إيلهم ، إلى أن قال : وتجد كثيرا من هؤلاء : في اعتقاد كونه وليا لله ، أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة ، مثل أن يشير إلى شخص فيموت أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها ، أو يمشي على الماء أحيانا أو يملأ إبريقا من الهواء ، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فراه قد جاءه فقضى حاجته ، أو يخبر الناس بما سرق لهم أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك . وليس في هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله . بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته للرسول ، " صلى الله عليه وسلم " ، وموافقته لأمره ونهيه . وكرامات أولياء الله أعظم من هذه(43/14)
الأمور . وهذه الأمور الخارقة للعادة ، وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله ، فقد يكون عدوا لله ، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين ، وتكون لأهل البدع ، وتكون من الشياطين ، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله . بل يعتبرأولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ، ويعرفون بنور الايمان والقران ، وبحقائق الايمان الباطلة ، وشرائع الاسلام الظاهرة . مثال ذلك أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة ، بل يكون ملابسا للنجاسات معاشرا للكلاب ، يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والزابل ، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية ولا يتنظف . إلى أن قال : فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان ، أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين ، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير واذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان ، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها أو يسجد إلى ناحية شيخه ، ولا يخلص الدين لرب العالمين ، أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة أو يأوي إلى المقابر ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى والمشركين ، أو يكره سماع القران وينفر عنه ، ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار ، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن ، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن (1) ... انتهى .
ولم يقف الصوفية عند هذا الحد من منح الولاية لأمثال هؤلاء بل غلوا فيهم حتى جعلوا فيهم شيئا من صفات وتقربوا إليهم بأنواع النذور، وهتفوا بأسمائهم في طلباتهم ، هذا منهج الصوفية في الولاية والأولياء .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 11 ، 210 ، 216 ) .(43/15)
5 ــ من دين الصوفية الباطل تقربهم إلى الله بالغناء والرقص ، وضرب الدفوف والتصفيق . ويعتبرون هذا عبادة لله . قال الدكتور // صابر طعيمة \\ في كتابه : " الصوفية معتقدا ومسلكا " : أصبح الرقص الصوفي الحديث عند معظم الطرق الصوفية في مناسبات الاحتفال بموالد بعض كبارهم أن يجتمع الأتباع لسماع النوتة الموسيقية التي يكون صوتها أحيانا أكثر من مائتي عازف من الرجال والنساء ، ومبار الأتباع يجلسون في هذه المناسبات يتناولون ألوانا من شرب الدخان ، وكبار أئمة القوم وأتباعهم يقومون بمدارسة بعض الخرافات التي تنسب لمقبوريهم ، وقد انتهى إلى علمنا من المطالعات أن الأداء الموسيقي لبعض الطرق الصوفية الحديثة مستمد مما يسمى .. (*( كورال صلوات الآحاد المسيحية )*) .. وقال شيخ الاسلام ابن تيمية : مبينا وقت حدوث هذا . موقف الأئمة منه ومن الذي أحدثه ... اعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة ، لا بالحجاز ولا بالشام ، ولا باليمن ، ولا مصر ، ولا المغرب ولا العراق ولا خراسان من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية ، وبدف ولا بكف ، ولا بقضيب وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية . فلما راه الأئمة أنكروه فقال : الشافعي رضي الله عنه : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه " التغبير " يصدون به الناس عن القران ، وقال يزيد بن هارون : ما يغبر إلا فاسق ، ومتى كان التغبير ؟ ... وسئل الامام أحمد فقال : أكرهه هو حمدث ، قيل : أتجلس معهم ، قال ، لا . وكذلك سائر أئمة الدين كرهوه ، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه ، فلم يحضره إبراهيم بن أدهم ولا الفضيل بن عياض ، ولا معروف الكرخي ، ولا أبو سليمان الدارني ، ولا أحمد بن أبي الحواري ، والسري السقطي وأمثالهم والذين حضروه من الشيوخ المحمودين تركوه في اخر أمرهم ، وأعيان المشايخ عابوا أهله ، كما فعل ذلك عبد القادر والشيخ أبو(43/16)
البيان ، وغيرهما من المشايخ ، وما ذكره الشافعي ـ يرحمه الله ـ من أنه من إحداث الزنادقة ، كلام إمام خبير بأصول الاسلام ، فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدع إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة ، كابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم إلى أن قال : وأما الحنفاء أهل ملة إبراهيم الخليل ، الذي جعله الله إماما ، وأهل دين الاسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا غيره ، المتبعون لشريعة خاتم الرسل محمد ، " صلى الله عليه وسلم " ، فليس فيهم من يرغب في ذلك ولا يدعو إليه ، وهؤلاء هم أهل القران والايمان والهدى والسعد والرشاد والنور والفلاح وأهل المعرفة والعلم واليقين والاخلاص لله والمحبة له والتوكل عليه والخشية له والانابة إليه . إلى أن قال : ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة : إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه فهو للروح كالخمر ، للجسد ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر فيجدون لذة بلا تمييز ، كما يجد شارب الخمر بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر ، ويصدهم ذلك عن ذكر اله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر . وقال أيضا : وأما الرقص فلم يأمر الله به ولا رسوله ، ولا أحد من الأئمة ، بل قد قال الله في كتابه : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} .. ( لقمان ) ، الأية : ' 19 ' . وقال في كتابه : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً } .. ( الفرقان ) ، الأية : ' 63 ' . أي بسكينة ووقار ، وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود . بل الدف والرقص لم يأمر الله به ولا رسوله ، ولا أحد من سلف الأمة ، قال : وأما قول القائل هذه سبكة يصاد بها العوام فقد صدق فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام والتوانس(43/17)
على الطعام ، كما قال الله ـ تعالى ـ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } .. ( التوبة ) ، الأية : ' 34 ' . ومن فعل هذا فهو من أئمة الضلال الذين قيل في رؤوسهم : { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } .. ( الأحزاب ) ، الأيتان : ' 67 ، 68 ' . وأما الصادقون منهم يتخذونه شبكة ، لكن هي شبكة مخرقة ، يخرج منها الصيد إذا دخل فيها ، كما هو الواقع كثيرا ، فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع في الطريق ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله ، أورثهم أحوالا فاسدة .. انتهى .كلامه (1) .. فهؤلاء الصوفية الذين يتقربون إلى الله بالغناء والرقص يصدق عليهم قول الله ـ تعالى ـ : { الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} .. ( الأعراف ) ، الأية : ' 51 ' .
__________
(1) مجموع الفتاوى (11 ، 569 ، 574 ) .(43/18)
6 ــ ومن دين الصوفية الباطل ما يسمونه بالأحوال التي تنتهي بصاحبها إلى الخروج عن التكاليف الشرعية نتيجة لتطور التصوف ، فقد كان أصل التصوف ، كما ذكره ابن الجوزي : رياضة النفس ، ومجاهدة الطبع ، برده عن الأخلاق الرذيلة ، وحمله على الأخلاق الجميلة ، من الزهد والحلم والصبر ، والاخلاص والصدق . قال وعلى هذا كان أوائل القوم ، فلبس إبليس عليهم في أشياء ، ثم لبس على من بعدهم من تابعيهم ، فكلما مضى قرن زاد طمعه في القرن الثاني ، فزاد تلبسه عليهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن ، وكان أصل تلبيسه عليهم أن صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل ، فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات ، فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة ، فرفضوا ما يصلح أبدانهم ، وشبهوا المال بالعقارب. ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى إنه كان فيهم من لا يضطجع ، وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة ، وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري ، ثم جاء أقوام فتكلموا لهم في الجوع والفقر والوساوس والخطرات وصنفوا في ذلك ، مثل الحارث المحاسبي ، وجاء اخرون فهذبوا مذهب الصوفية وأفراده بصفات ميزوة بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيق . ثم مازال الأمر ينمى ، والأشباح يضعون لهم أوضاعا ويتكلمون بمواقعاتهم ـ وبعدوا عن العلماء ورأوا ما هم فيه أو في العلوم حتى سموه العلم الباطن ، وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر ، ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه . فكأنهم تخايلوا شخصا مستحسن الصورة فهاموا به . وهؤلاء بين الكفر والبدعة ، ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق ففسدت عقائدهم . فمن هؤلاء من قال بالحلول ، ومنهم من قال بالاتحاد ، وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سننا .. انتهى (1)
__________
(1) 10) تلبيس إبليس صفحة ( 157 ، 158 ) .(43/19)
.. وسئل شيخ الاسلام ابن تيمية عن قوم داموا على الرياضة مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا ، فقالو لا نبالي الآن ما علمنا ، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام ، ولو تجوهروا لسقطت عنهم ، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة ، والمراد منها ضبط العوام ، ولسنا نحن من العوام ، فندخل في حجر التكليف لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة فأجاب : لا ريب عند أهل العلم والايمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلطه ، وهو شر من قول اليهود والنصارى . فإن اليهودي والنصراني امن ببعض الكتاب وكفر ببعض . وأولئك هم الكافرون حقا ، كما أنهم يقرون أن لله أمرا ونهيا ، ووعدا ووعيدا ، وأن ذلك متناول لهم إلى حين الموت ، هذا إن كانوا متمسكين باليهودية والنصرانية المبدلة المنسوخة ، وأما إن كانوا من منافقي أهل ملتهم كما هو الغالب على متكلميهم ومتفلسفتهم كانوا شرا من منافقي هذه الأمة ، حيث كانوا مظهرين للكفر ومبطنين للنفاق فهم شر ممن يظهر إيمانا ويبطن نفاقا . والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية ، فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال من جميع الكتب والشرائع والملل ، لا يلتزمون لله أمرا ولا نهيا بحال ، بل هؤلاء شر من المشركين المتمسكين ببقايا من الملل كمشركي العرب الذين كانوا متمسكين ببقايا من دين إبراهيم ، عليه السلام ، فإن أولئك معهم نوع من الحق يلتزمونه . وإن كانوا مع ذلك مشركين ، وهؤلاء خارجون عن التزام شيء من الحق بحيث يظنون أنهم قد صاروا سدى لا أمر عليهم ولا نهي ـ إلى أن قال : ومن هؤلاء من يحتج بقوله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} .. ( الحجر ) ، الأية : ' 99 ' . ويقول معناها : اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة ، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة ، وربما قال بعضهم : اعمل حتى يحصل لك حال ، فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة ، وهؤلاء فيهم من(43/20)
إذا ظن حصول مطلوبة من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض وارتكاب المحارم . وهذا كفر كما تقدم إلى أن قال : فأما استدلالهم بقوله ـ تعالى ـ : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } .. ( الحجر ) ، الأية : ' 99 ' فهي عليهم لا لهم قال الحسن البصري : (*( إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت )*) : واقرأ قوله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } .. ( الحجر ) ، الأية : ' 99 ' وذلك أن اليقين هنا الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين ، وذلك قوله : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } إلى قوله تعالى { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } .. ( المدثر ) ، الأيات : ' 42 ، 47 ' . فهذا قالوه في جهنم ، وأخبروا أنهم كانوا على ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة ، والخوض مع الخائضين ، حتى أتاهم اليقين . ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا ، ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم : { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } .. ( البقرة ) ، الأية : ' 4 ' . وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون وهو اليقين ... انتهى (1) .. فالآية تدل على وجوب العبادة على العبد منذ بلوغه سن التكليف عاقلا : إلى أن يموت . وأنه ليس هناك حال قبل الموت ينتهي عندها التكليف كما تزعمه الصوفية .
الخاتمة
__________
(1) 11) مجموع الفتاوى ( 11 ، 401 ، 402 ، 417 ، 418 ) .(43/21)
وبعد : فهذا هو دين الصوفية قديما وحديثا ، وهذا موقفهم من العبادة ، ولم ننقل عنهم إلا القليل مما تضمنته كتبهم ، وكتب منتقديهم وما تدل عليه ممارساتهم المعاصرة ، ولم أتناول إلا جانبا واحدا من جوانب البحث حولهم هو جانب العبادة وموقفهم منها ، وبقيت جوانب أخرى تحتاج إلى محاضرات ، ومحاضرات كموقفهم من التوحيد ، وموقفهم من الرسالات ، وموقفهم من الشريعة والقدر ، إلى غير ذلك .
هذا وأسأل الله ـ عز وجل ـ أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا . وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، واله وصحبه .
الفهرس
الموضوع
المقدمة.....................................................................
ضوابط العبادة الصحيحة....................................................
أولا : أنها توفيقية...........................................................
ثانيا : أن تكون العبادة خالصة لله............................................
ثالثا : أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.........
رابعا : أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير......................................
خامسا : أن تكون العبادة قائمة على محبة الله.................................
سادسا : أن تكون العبادة لا تسقط عن المكلف..............................
حقيقة التصوف.............................................................
موقف الصوفية من العبادة والدين...........................................
الخاتمة.......................................................................(43/22)
المجلد الأول(/)
الشهادتان
1 ـ شهادة أن لا إله إلا الله هي مفتاح دين الإسلام، وأصله الأصيل؛ فهل من نطق بها فقط؛ دخل في دائرة المسلمين؛ دون عمل يذكر ؟ وهل الأديان السماوية - غير دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم - جاءت بنفس هذا الأصل الأصيل ؟
* من نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ حكم بإسلامه بادي ذي بدء، وحقن دمه :
فإن عمل بمقتضاها ظاهرًا وباطنًا؛ فهذا مسلم حقًا، له البشرى في الحياة الدنيا والآخرة .
وإن عمل بمقتضاها ظاهرًا فقط؛ حكم بإسلامه في الظاهر، وعومل معاملة المسلمين، وفي الباطن هو منافق، يتولى الله حسابه .
وأما إذا لم يعمل بمقتضى لا إله إلا الله، واكتفى بمجرد النطق بها، أو عمل بخلافها؛ فإنه يحكم بردته، ويعامل معاملة المرتدين .
وإن عمل بمقتضاها في شيء دون شيء؛ فإنه يُنظَر : فإن كان هذا الذي تركه يقتضي تركه الردة؛ فإنه يحكم بردته، كمن ترك الصلاة متعمدًا، أو صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله . وإن كان هذا الذي تركه لا يقتضي الردة؛ فإنه يُعتبر مؤمنًا ناقص الإيمان بحسب ما تركه؛ كأصحاب الذنوب التي هي دون الشرك .
وهذا الحكم التفصيلي جاءت به جميع الشرائع السماوية .
2 ـ تأتي شهادة أن محمدًا رسول الله ملازمة في الغالب لشهادة أن لا إله إلا الله : ما المقصود بشهادة أن محمدًا رسول الله ؟ وما حكمة تلازمهما ؟
* نعم؛ شهادة أن محمدًا رسول الله لا بد منها مع شهادة أن لا إله إلا الله : إما نطقًا بها مع شهادة أن لا إله إلا الله، وأما تضمنًا؛ فإذا ذكرت شهادة أن لا إله إلا الله وحدها؛ فهي متضمنة لشهادة أن محمدًا رسول الله .
ولا تصح شهادة أن لا إله إلا الله بدون شهادة أن محمدًا رسول الله، ولا تقبل، ولا يحكم بإسلام من جحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .(44/1)
ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله : الاعتراف برسالته ظاهرًا وباطنًا، وطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، والاعتراف كذلك بعموم رسالته إلى جميع الثقلين، وأنه خاتم النبيين، لا نبي بعده، إلى أن تقوم الساعة .
3 ـ هل يفهم من تلك الشهادتين أن للرسول صلى الله عليه وسلم حقوقًا توازي حق الله سبحانه وتعالى كما يتوهم بعض من يدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وإذا لم يفهم ذلك؛ فما هي الحقوق الخاصة بالله سبحانه وتعالى ؟ وما هي الحقوق الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ وهي هناك حقوق مشتركة ؟
لا شك أن للرسول صلى الله عليه وسلم حقوقًا خاصة به، لكنها لا ترقى إلى مرتبة حقوق الله؛ لأن حقوق الله تعالى لا يشاركه فيها أحد؛ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي من الأولياء، أو صالح من الصالحين .
ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله :
لله حق لا يكون لعبده ** ولعبده حق هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقًا واحدًا ** من غير تمييز ولا برهان (1)
فحق الله تعالى عبادته وحده لا شريك له بما شرعه، وحق الرسول صلى الله عليه وسلم محبته وطاعته وتوقيره واتباعه وتقديم أمره وطاعته على طاعة غيره من المخلوقين .
وليس هناك حق مشترك بين الله وبين رسوله، وقوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [ النساء : 80 ] ؛ لأن طاعة الرسول طاعة لله الذي أرسله؛ كما أن مبايعة الرسول مبايعة لله؛ قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ؛ فأصل الطاعة لله عز وجل، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تابعة لطاعة الله عز وجل .
4 ـ رتب الرسول صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان في عدة أحاديث - خاصة حديث جبريل - بأنها : الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ فهل هنا حكمة معلومة من هذا الترتيب ؟(44/2)
* هناك حكمة - والله أعلم - في ترتيب أركان الإيمان في الآيات والأحاديث، وإن كانت الواو لا تقتضي ترتيبًا :
فقد بدئت هذه الأركان بالإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله هو الأساس، وما سواه من الأركان تابع له .
ثم ذكر الإيمان بالملائكة والرسل؛ لأنهم الواسطة بين الله وخلقه في تبليغ رسالاته؛ فالملائكة تنزل بالوحي على الرسل، والرسل يبلغون ذلك للناس؛ قال تعالى : { يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } [ النحل : 2 ] .
ثم ذكر الإيمان بالكتب؛ لأنها الحُجّة والمرجع الذي جاءت به الرُّسل من الملائكة والنبيِّين من عند الله للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ قال تعالى : { فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } [ البقرة : 213 ] .
ثم ذكر الإيمان باليوم الآخر؛ لأنه ميعاد الجزاء على الأعمال التي هي نتيجة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله أو التكذيب بذلك؛ فكان مقتضى العدالة الإلهية إقامة هذا اليوم للفصل بين الظالم والمظلوم، وإقامة العدل بين الناس .(44/3)
ثم ذكر الإيمان بالقضاء والقدر لأهميته في دفع المؤمن إلى العمل الصالح، واتخاذ الأسباب النافعة، مع الاعتماد على الله سبحانه، وبيان أنه لا تناقض بين شرع الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه وبين قضائه وقدره؛ خلافًا لمن زعم ذلك من المبتدعة والمشركين الذين قالوا : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } [ النحل : 35 ] ؛ سوغوا ما هم عليه من الكفر بأن الله قدّره عليهم، وإذا قدّره عليهم؛ فقد رضيه منهم - بزعمهم -، فردّ الله عليهم بأنه لو رضيه منهم؛ ما بعث رسله بإنكاره، فقال : { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [ النحل : 35 ] .(44/4)
الأسماء والصفات
5 ـ هل معرفة أسماء الله وصفاته جزء من العقيدة ؟ وهل يجب علينا وجوبًا أن ننبه الناس على ما في بعض التفاسير من التأويل والتحريف والتعطيل ؟
* نعم؛ أسماء الله وصفاته والإيمان بذلك نوع من أنواع التوحيد، لأن التوحيد ثلاثة أنواع : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات :
توحيد الربوبية : المراد به إفراد الله تعالى بأفعاله؛ كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الخلق .
وتوحيد الألوهية : إفراد الله تعالى بأفعال العباد التي يتقربون بها إليه، إذا كانت على وفق ما جاءت به الشريعة؛ تخلص لله، ولا يكون فيها شرك . هذا توحيد الألوهية .
وتوحيد الأسماء والصفات : أن نثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، نثبت لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، أو ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل .
أما قضية ذكر ما في بعض التفاسير من بعض التأويلات؛ فهذا يبيَّن لطلبة العلم، أما أن يبيَّن لعموم الناس الذين لا يستفيدون من هذا؛ فهذا لا ينبغي؛ لأن هذا يكون من التشويش ومن إشغال الناس بما لا يعرفون، وفي الأثر : ( حَدِّثوا النّاسَ بِمَا يَعرِفونَ، أتريدونَ أن يُكَذَّبَ الله ورسولُهُ ؟ (2).
فالعوام لهم طريقة، وطلبة العلم لهم طريقة :(45/1)
العوامُّ يبلغون مجملات العقيدة ومجملات الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والموعظة، ويعلمون أصول الدين وأركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان، يُدَرَّسُون هذه الأصول، ويُحَفَّظُون إياها؛ كما كان في هذه البلاد إلى عهد قريب، كانوا يُحَفَّظُون في المساجد الدين؛ يُحَفَّظُون أركان الإسلام، وأركان الإيمان، ومعنى الشهادتين؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، يُحَفَّظُون أركان الصلاة وشروط الصلاة وواجباتها، ويُحَفَّظُون ما يحتاجون إليه من أمور دينهم .
أما طلبة العلم؛ فعند الشرح لهم والتوضيح يُبَيَّن لهم التأويل، لكن من غير أن يتعرض للمؤلف، ويقال : المؤلف مبتدع وضال . بل يقال : هذا التفسير خطأ، والصواب كذا، فيه تأويل الآية الفلانية، فيه تأويل الصفة الفلانية؛ من غير أن يتعرض للعلماء، فيبَدَّعون، ويتناول أشخاصهم، هذا لا يستفيد الناس منه، بل هذا يسبب نفرة طلبة العلم من العلماء، ويسبب سوء الظن بالعلماء، والغرض هو بيان الصواب في هذا الخطأ فقط، وليس تناول الأشخاص بالتبديع أو بالتجهيل أو بالتضليل؛ فهذا لا يفيد شيئًا، بل يفيد أمورًا عكسية، ويفيد سوء الظن بالعلماء، ويفيد بلبلة الأفكار، والخوض في أعراض العلماء الميتين والأحياء، هذا لا يأتي بخير .
يُبَيَّنُ الحق لمن يتحمل هذا الشيء من طلبة العلم الذين يفهمون هذا الشيء، أما العوامُّ، فلا يتحملون هذا الشيء، ولا وصلوا إليه، وإنما يُبيَّن لهم ما هم بحاجة إليه من أمور دينهم وأمور عبادتهم وأمور صلاتهم وأمور زكاتهم وأمور صيامهم، وأهم شيء توضيح العقيدة لهم بمعنى مختصر؛ يستفيدون منه، ولا يكون فيه تطويل يثقلهم ويملهم، بل يكون بطريقة مختصرة .
6 ـ هل ثبت في الشرع المطهر تحديد أسماء الله الحسنى ؟ وهل يمكن ذكرها ؟ وما هو اسم الله الأعظم ؟(45/2)
* قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] ، وقال تعالى : { لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ طه : 8 ] .
وأسماء الله الحسنى لا يعلم عددها إلا الله سبحانه وتعالى، وليس في القرآن والسنة وحصر لها، ويمكن حصر ما ورد في الكتاب والسنة منها .
وقد جمع كثيرًا منها بعض العلماء في رسائل، ونظمها بعضهم؛ كابن القيم في " النونية " ، والشيخ حسين بن علي آل الشيخ في منظومته " القول الأسنى في نظم الأسماء الحسنى " ، وهي مطبوعة ومتداولة .
وأما اسم الله الأعظم؛ فقد ورد أنه في هاتين الآيتين : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] ، وقوله تعالى : { الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ آل عمران : 1-2 ] ، وورد أنه أيضًا في أيةٍ ثالثةٍ هي قوله تعالى في سورة طه : { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [ طه : 111 ] ، وذكر ذلك ابن كثير في " تفسيره " (3).
7 ـ هل صفات الله عز وجل من قبيل المتشابه أو من قبيل المحكم ؟
* صفات الله سبحانه وتعالى من قبيل المحكم الذي يعلم معناه العلماء ويفسرونه، أما كيفيتها؛ فهي من قبيل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله .
وهذا كما قال الإمام مالك رحمه الله وقال غيره من الأئمة : " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " (4) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة؛ لا أحمد بن حنبل ولا غيره؛ أنه جعل ذلك من المتشابه " (5) .
ومعنى ذلك أن علماء أهل السنة وأئمتها أجمعوا على أن نصوص الصفات ليست من المتشابه، وإنما ذلك قول المبتدعة والفرق المنحرفة عن منهج السلف . والله أعلم .
8 ـ ما القول في قوم ينكرون توحيد الأسماء والصفات، ويعتبرون ذلك مما أحدثه المتأخرون ؟(45/3)
* توحيد الأسماء والصفات هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات .
فالذي ينكر توحيد الأسماء والصفات منكر لنوع من أنواع التوحيد، والذين ينكرون هذا التوحيد لا يخلون من أحد حالين :
الحال الأولى : أن ينكروا ذلك بعدما عرفوا أنه حق، فأنكروه عنادًا، ودعوا إلى إنكاره؛ فهؤلاء كفار؛ لأنهم أنكروا ما أثبته الله لنفسه - وهم يعلمونه - من غير تأويل .
والحال الثانية : أن يكونوا مقلدين لغيرهم؛ لثقتهم بهم، وظنهم أنهم على حق، أو فعلوا ذلك لتأويل ظنوه صحيحًا، ولم يفعلوا ذلك عن عناد، بل فعلوه من أجل تنزيه الرب بزعمهم؛ فهؤلاء ضُلاّل مُخطئون، لا يُكَفَّرون؛ لأنهم مقلدون أو متأولون .
والدليل على كفر الأولين قوله تعالى عن المشركين : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [ الرعد : 30 ] .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله في " تيسير العزيز الحميد " : " لأن الله تعالى سمى جحود اسم من أسمائه كفرًا، فدل على أن جحود شيء من أسماء الله وصفاته كفر، فمن جحد شيئًا من أسمائه وصفاته من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوهم؛ فله نصيب من الكفر بقدر ما جحد من الاسم أو الصفة " (6).
وقال أيضًا : " بل نقول : من لم يؤمن بذلك؛ فليس من المؤمنين، ومن وجد في قلبه حرجًا من ذلك؛ فهو من المنافقين " (7).
وتوحيد الأسماء والصفات ليس مما أحدثه المتأخرون؛ فقد سمعت حكم الله فيمن أنكر اسمه الرحمن، والإيمان بهذا النوع موجود في كلام الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم من السلف :
قال الإمام مالك لما سئل عن استواء الله على عرشه : " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " (8).
وقال عبد الله بن المبارك : " نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماوات، على العرش مستو، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية " (9) .(45/4)
وقال الإمام الأوزاعي : " كنا والتابعون متوافرون نقول : إن الله تعالى ذِكْرُهُ فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السّنّة " (10) .
وقال الإمام أبو حنيفة : " ومن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ فقد كفر؛ لأن الله تعالى يقول : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، عرشه فوق سبع سماواته " (11).
وذكرنا قول الإمام مالك .
وإذا أردت الاستزادة من كلام السلف في هذا الموضوع؛ فراجع كتاب " اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية " للإمام ابن القيم .
لكن بعض العلماء يدخل توحيد الأسماء والصفات في توحيد الربوبية، ويقول : التوحيد نوعان : توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الألوهية، ولما وجد من ينكر الأسماء والصفات؛ جعل هذا النوع مستقلاً من أجل التنبيه على إثباته والرد على من أنكره .
وأنواع التوحيد الثلاثة موجودة في القرآن الكريم وبالأخص في أول سورة، وعليك أن تراجع أول كتاب " مدارج السالكين " لابن القيم (12).
9 ـ ما المقصود بالإلحاد في أسماء الله؛ كما جاء في قوله تعالى : { وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } [ الأعراف : 180 ] ؟
* الإلحاد في اللغة : الميل والعدول عن الشيء، والإلحاد في أسماء الله وآياته : معناه : العدول والميل بها عن حقائقها ومعانيها الصحيحة إلى معان باطلة لا تدل عليها؛ كما فعلته الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، وقالوا : إنها ألفاظ مجردة، لا تتضمن صفات ولا معاني؛ فالسميع لا يدل على سمع، والبصير لا يدل على بصر، ونحو ذلك .(45/5)
وقد توعد الله الذين يلحدون في آياته وفي أسمائه، فقال : { وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 180 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } [ فصلت : 40 ] ، وكقول الأشاعرة : المراد باليد النعمة، والمراد بالوجه الذات، وما أشبه ذلك من التأويلات الباطلة التي هي في حقيقتها إلحاد في أسماء الله وصفاته، والواجب أن تثبت كما جاءت، ويعتقد ما دلت عليه من المعاني الحقيقية .
10 ـ هل يجوز الحلف بالقرآن الكريم ؟ فقد حلفت بالقرآن على أن لا يكون أمر ما، ولكنه حصل على الرغم مني؛ فهل علي كفارة عن هذا اليمين ؟
يجوز الحلف بالقرآن الكريم لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وكلامه صفة من صفاته، واليمين المشروع هو الحلف بالله أو بصفة من صفاته .
فإذا حلفت بالقرآن الكريم على أمر مستقبل؛ انعقدت يمينك، وكانت صحيحة؛ فإذا خالفتها مختارًا ذاكرًا؛ وجبت عليك الكفارة، وهي : عتق رقبة إذا تمكنت من ذلك، أو تطعم عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع من طعام البلد وقوت البلد، أو تكسو عشرة مساكين، أنت مخير بين أحد هذه الخصال الثلاثة : العتق، أو الإطعام، أو الكسوة؛ فإذا لم تجد ولم تقدر على واحدة منها؛ فإنك تصوم ثلاثة أيام؛ لقوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } [ المائدة : 89 ] .
11 ـ ما الحكمة في أن السؤال بوجه الله لا يكون إلا للجنة ؟ وهل من سأل بوجه الله غير الجنة في أمور الدنيا يعتبر عاصيًا مذنبًا ؟(45/6)
* روى أبو داود عن جابر رضي الله عنه؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يُسْألُ بِوَجْهِ الله إلا الجَنَّة ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 2/131 ) من حديث جابر رضي الله عنه ] .
والحديث فيه مقال، وهو نهي أو نفي عن سؤال شيء بوجه الله إلا الجنة؛ تعظيمًا لوجه الله، واحترامًا أن تسأل به الأشياء الحقيرة من مطالب الدنيا .
قال بعض العلماء : لا يسأل بوجه الله إلا الجنة التي هي غاية المطالب، أو ما هو وسيلة إلى الجنة؛ كما في الحديث الصحيح : ( اللَّهمَّ ! إنِّي أسْأَلُكَ الجَنَّةَ وما قَرَّبَ إليها مِنْ قَوْلٍ أو عَمَلٍ ) [ رواه الحاكم في " المستدرك " ( 1/521، 522 ) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو جزء من الحديث ] .
ولا ريب أن الحديث يدل على المنع من أن يسأل بوجه الله حوائج الدنيا؛ إعظامًا لوجه الله وإجلالاً له؛ فمن سأل بوجه الله أمرًا من أمور الدنيا؛ كان عاصيًا مخالفًا لهذا النهي، وهذا يدل على نقصان توحيده وعدم تعظيمه لوجه الله تعالى .
12 ـ هل يوصف الله تعالى بالقِدَم؛ كأن يقول القائل : يا قديم ! ارحمني ! أو ما أشبه ذلك ؟ وهل الفرد من أسماء الله تعالى ؟ أفتوني مأجورين .
* ليس من أسماء الله تعالى القديم، وإنما من أسمائه الأول، وكذلك ليس من أسمائه الفرد، وإنما من أسمائه الواحد الأحد؛ فلا يجوز أن يقال : يا قديم ! أو : يا فرد ! ارحمني ! وإنما يقال : يا من هو الأول والآخر والظاهر والباطن ! يا واحد أحد فرد صمد ! ارحمني واهدني . . . إلى غير ذلك؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، لا يجوز لأحد أن يثبت شيئًا منها إلا بدليل . والله أعلم .
13 ـ هل يجوز التسمية بإضافة ( عبد ) إلى اسم من غير أسماء الله الثابتة؛ مثل : ( عب الناصر ) ، أو ( عبد المتعال ) ، أو ( عبد الستار ) ؟ وهل يلزم تغيير من كان اسمه من أحد هذه الأسماء ؟ والله يحفظكم .(45/7)
* لا أعلم ما يمنع من التسمي بهذه الأسماء، والله أعلم، وإن كان الأحسن والأحوط التعبيد لله بأسمائه الثابتة، فيقال مثلاً : عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وعبد الرحيم . . . إلى غير ذلك .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أحَبُّ الأسماءِ إلى الله : عبدُ الله، وعبدُ الرَّحمن ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 3/1682 ) من حديث ابن عمر بلفظ : " إن أحب أسمائكم إلى . . . " ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/289 ) من حديث ابن عمر، ورواه النسائي في " سننه " ( 6/218 ) من حديث أبي وهب الجشمي . ] .
وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن .
وندب صلى الله عليه وسلم أمته إلى التسمي بأسماء الأنبياء؛ كما جاء في " سنن أبي داود " والنسائي عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال : ( تَسَمَّوا بأسماءِ الأنبياء ) [ انظر : " سنن أبي داود " ( 4/289 ) من حديث أبي وهب الجشمي، وانظر " سنن النسائي " ( 6/218 ) من حديث أبي وهب الجشمي . ] .
وقد خالف كثير من الناس اليوم الهدي النبوي، فصاروا يسمون أولادهم بأسماء أجنبية غريبة، وبأسماء بعيدة عن أسرهم ومجتمعهم، وهذا من مظاهر النقص، وحب التقليد الأعمى، والولع بالاستيراد من الخارج، حتى في الأسماء .
14 ـ في المسجد الذي نصلي فيه بعد قراءة الجزء - وهو راتب يومي - يقرؤون أسماء الله الحسنى، وبعدها يرددون جميعًا اسم ( يا لطيف ) مئة وتسعًا وعشرين مرة؛ فهل هذا مشروع أم بدعة ؟
* هذا من البدع؛ قراءة أسماء الله الحسنى بعد الصلوات، واعتياد ذلك، وترديد كلمة ( يا لطيف ) بعدد معين وبصفة معينة؛ كل هذا من البدع المحدثة في الإسلام، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة .(45/8)
فهذه الأذكار المحدثة - كقراءة أسماء الله الحسنى أدبار الصوات، وترديد كلمة ( يا لطيف ) بصوت مرتفع، وما أشبه ذلك من الأوراد، التي ليس لها دليل من الكتاب والسنة ولا من هدي السلف الصالح - هي بدع يجب تركها والابتعاد عنها والتحذير منها .
أما أسماء الله الحسنى؛ فالله يقول : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 . ] ؛ فدعاء الله بأسمائه وصفاته والتوسل إليه بذلك؛ هذا شيء مشروع، لكن لا يجعل هذا في وقت معين أو بعد فريضة؛ إلا بدليل يدل على ذلك، ولا دليل يدل على التخصيص . والله تعالى أعلم .(45/9)
التوكل على الله
15 ـ ما المقصود بالتوكل ؟ وما حقيقته ؟ وهل التوكل على الله يكون في الشدائد فقط ؟ أم هو في كل الأمور ؟ وما ردكم على من يفهم التوكل بمعنى التواكل وعدم بذل الأسباب ؟
* التوكل لغة هو الاعتماد والتفويض؛ فالتوكل على الله سبحانه هو الاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه .
وهو فريضة يجب إخلاصه لله : قال الله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23 . ] ، وقال تعالى : { إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [ يونس : 84 . ] ؛ فجعل التوكل شرطًا للإيمان والإسلام، مما يدل على أهميته؛ فهو أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة .
والتوكل على الله سبحانه يكون في جميع الأمور لا في بعض الأحوال .
وليس معنى التوكل على الله إهمال الأسباب؛ فإن الله أمر بالتوكل وأمر باتخاذ الأسباب، فقال تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } [ الأنفال : 60 . ] ، وقال تعالى : { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } [ النساء : 71 . ] ، لكن لا يعتمد على الأسباب في حصول النتائج .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين، وكان يحمل السلاح، ويلبس الدروع، ويضع المِغْفَرَ على رأسه صلى الله عليه وسلم (13).
ولما كان أناس يحجون، ولا يأخذون معهم الزاد، ويصبحون عالة على غيرهم، ويسمون أنفسهم بالمتوكلين؛ أنزل الله تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [ البقرة : 197(14) ] .
ولهذا قيل : الاعتماد على الأسباب شرك، وترك الأسباب قدح في الشريعة، لا تجعلوا توكلكم عجزًا، ولا عجزكم توكلاً، بل إن الجنة لا تحصل إلا بسبب، وهو العمل الصالح . والله أعلم .
16 ـ كيف يكون الإنسان متوكلاً على الله ؟(46/1)
يكون الإنسان متوكلاً على الله؛ بأن يصدق الاعتماد على ربه عز وجل؛ حيث يعلم أنه سبحانه وتعالى بيده الخير، وهو الذي يدبر الأمور، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس : ( يا غُلام ! إني أُعلّمُكَ كلماتٍ، احفظِ الله؛ يحفظك، احفظ الله؛ تجِدهُ تُجَاهكَ، إذا سألت؛ فاسأل الله، وإذا استعنتَ؛ فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/293 ) من حديث عبد الله بن عباس، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/203 ) من حديث عبد الله بن عباس . (15)] .
بهذه العقيدة يكون الإنسان معتمدًا على الله جل وعلا، لا يلتفت إلى من سواه .
ولكن حقيقة التوكل لا تنافي فعل الأسباب التي جعلها الله تبارك وتعالى سببًا، بل إن فعل الأسباب التي جعلها الله تعالى سببًا - سواء كانت شرعية أم حسية - هي من تمام التوكل، ومن تمام الإيمان بحكمة الله عز وجل؛ لأن الله تعالى قد جعل لكل شيء سببًا، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم - وهو سيد المتوكلين - كان يلبس الدروع في الحرب، ويتوقى البرد، ويأكل ويشرب؛ لإبقاء حياته ونمو جسمه، وفي أُحد لبس درعين (16).
فهؤلاء الذين يزعمون حقيقة التوكل تكون بترك الأسباب والاعتماد على الله عز وجل هم في الواقع خاطئون؛ فإن الذي أمر بالتوكل عليه له الحكمة البالغة في تقديره وفي شرعه، قد جعل للأمور سببًا تحصل به .
ولهذا؛ لو قال قائل : أنا سأتوكل على الله تعالى في حصول الرزق، وسأبقى في بيتي، لا أبحث عن الرزق ! قلنا : عن هذا ليس بصحيح، وليس توكلاً حقيقيًا؛ فإن الذي أمرك بالتوكل عليه هو الذي قال : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [ الملك : 15 ] .(46/2)
ولو قال قائل : أنا سأتوكل على الله في حصول الولد أو في حصول الزوجة، ولم يسع في طلب الزوجة وخطبتها ! لعده الناس سفيهًا، ولكان فعله هذا منافيًا لما تقتضيه حكمة الله عز وجل .
ولو أن أحدًا أكل السم، وقال : إني أتوكل على الله تعالى في ألا يضرني هذا السم ! لكان هذا غير متوكل على الله حقيقة؛ لأن الذي أمرنا بالتوكل عليه سبحانه وتعالى هو الذي قال لنا : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [ النساء : 29 ] .
والمهم أن فعل الأسباب، التي جعلها الله أسبابًا، لا ينفي كمال التوكل، بل هو من كماله، وأن التعرض للمهلكات لا يعد هذا من توكل الإنسان على الله، بل هو خلاف ما أمر الله عز وجل به، بل مما نهى الله عنه .
17 ـ ما هي الأسباب المُعِينَةُ على تعليق القلب بالله عز وجل ؟
الأسباب المعينة على تعليق القلب بالله هي الإكثار من تلاوة القرآن الكريم، وتذكر نعم الله سبحانه، والخوف من عقاب الله، والطمع في ثوابه، والإكثار من ذكر الله؛ قال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] .
وكذلك من الأسباب التي تعين على تعلق القلب بالله النظر في آياته الكونية، والتفكر فيها؛ قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ آل عمران : 190، 191 ] .
18 ـ هل شراء الأطعمة ووضعها في البيت في هذه الأيام ينافي التوكل على الله عز وجل ؟(46/3)
شراء الأطعمة ووضعها في البيت من أجل الاستهلاك لا بأس به، ولا ينافي التوكل؛ لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه؛ إلا إذا ترتب على ذلك إضرار بالآخرين؛ بأن تكون السلع قليلة، وفي شرائها وتخزينها تضييق على الناس، أو إغلاء للسعر .(46/4)
الدعاء وبعض الألفاظ المنهية
19 ـ إذا كانت هناك أوقات تكون إجابة الدعاء فيها أحرى من غيرها فما هي ؟ وماذا يشترط لإجابة الدعاء ؟
نعم هناك أوقات وأحوال يستجاب فيها الدعاء كما دلت على ذلك الأدلة :
فمن الأوقات :
الدعاء في جوف الليل إذا قام الإنسان إلى صلاة الليل وصلى ودعا الله سبحانه وتعالى .
وفي وقت السحر أيضًا .
الدعاء في الساعة التي في يوم الجمعة؛ فإن فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله وهو قائم يصلي إلى استجيب له؛ كما جاء في الحديث [ انظر : " صحيح الإمام البخاري " ( 1/224 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .
وكذلك أوقات كثيرة يستجاب فيها الدعاء؛ مثل ليلة القدر، وفي الأزمنة الفاضلة؛ كشهر رمضان، ويوم عرفة، وغير ذلك من الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء .
ومن الأحوال التي يستجاب فيها الدعاء :
في السجود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( وأمّا السُّجُودُ؛ فأكثِرُوا فيه مِن الدُّعاءِ؛ فقَمِنٌ أن يُستجابَ لكم ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/348 ) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه . ] .
ويقول صلى الله عليه وسلم : ( أقرَبُ ما يكونُ العبدُ من ربِّهِ وهو ساجِدٌ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/350 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] . ففي حالة السجود خضوع بين يدي الله عز وجل، وقرب من الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا يقول لنبيه : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } [ العلق : 19 ] ؛ فالسجود فيه قرب من الله سبحانه وتعالى، والخضوع له، والانكسار بين يديه .
وكذلك يستجاب الدعاء في حالة الضرورة والشدة؛ قال تعالى : { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } [ النمل : 62 ] .
ولإجابة الدعاء شروط كثيرة وعظيمة :(47/1)
من أعظمها : الإخلاص لله تعالى في الدعاء؛ بأن لا يشرك مع الله أحدًا؛ قال تعالى : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ غافر : 14 ] ؛ فالإخلاص في الدعاء بأن يدعو العبد ربه وحده لا شريك له، ولا يدعو معه غيره . هذا رأس الشروط .
ومن ذلك أكل الحلال؛ بأن يكون الإنسان مأكله من الحلال وملبسه من الحلال وما يستعمله حلال، أما إذا كان يستعمل الحرام أكلاً ولبسًا وركوبًا وغير ذلك؛ فهذا لا يستجاب له الدعاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في المسافر : ( أشعثَ أغبرَ، يمُدُّ يديه إلى السماء : يا رب ! يا رب ! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام؛ فأنّى يُستجاب لذلك ؟ ! ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/703 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ؛ فمن أسباب قبول الدعاء أكل الحلال واستعمال الحلال، ومن موانعه أكل الحرام .
ومن أسباب قبول الدعاء أيضًا أن لا يدعو بإثم أو بقطيعة رحم، وإنما يدعو بأمور نافعة؛ قال تعالى : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } إلى قوله تعالى : { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف : 55، 56 ] .
ومن أسباب قبول الدعاء أو شروط قبول الدعاء إقبال القلب على الله سبحانه وتعالى؛ بأن يدعو وهو موقن بالإجابة، ولا يدعو وهو في حالة غفلة وفي حالة إعراض، يتكلم بما لا يحضره قلبه ويوقن به إيمانه، ولهذا ورد في الحديث : ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة؛ فإن الدعاء لا يُستجاب من قلب غافل لاه ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 9/156 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه . ] .(47/2)
هذا؛ والدعاء أمره عظيم، ولهذا يقول سبحانه وتعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] .
20 ـ هل يجوز الدعاء بالهداية للمشركين من عُبّاد القبور ونحوهم أم لا ؟
نعم، يجوز طلب الهداية للمشركين والكفار بأن يهديهم الله عز وجل، بمعنى يوفقهم الله لقبول الحق؛ لأن الهداية أنواع كثيرة : تطلق الهداية ويراد بها البيان والإرشاد، وهذا شيء حاصل؛ لأن الله سبحانه وتعالى أرشد كل الناس للحق وبينه لهم، وهداية بمعنى التوفيق لقبول الحق والعمل به؛ فيجوز أن ندعو للكفار بأن يهديهم الله لقبول الحق والدخول في الإسلام .
إنما الممنوع أن ندعو لهم بالمغفرة؛ لقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ التوبة : 113 ] ؛ فالمشرك والكافر لا يجوز الاستغفار له والترحم عليه .(47/3)
21 ـ وجدت حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( اثنتي عشرة ركعة تُصلين من ليل أو نهار، وتتشهّد بين كل ركعتين؛ فإذا تشهدت في آخر صلاتك؛ فأثن على الله عز وجل، وصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وقل : لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وهو على كل شيء قدير؛ عشر مرات، ثم قل : اللهم ! إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة [ للفائدة انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 1/344، 345 ) . ] ، ثم سل حاجتك، ثم ارفع رأسك، ثم سلم يمينًا وشمالاً " . قال : " ولا تُعلّموها السفهاء؛ فإن يدعوا بها؛ يُستجابُ لهم ) أو ما معناه، رواه الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال أحمد بن حرب : قد جربته فوجدته صحيحًا : وقال إبراهيم بن علي : قد جربته فوجدته حقًا . وقال الحاكم : قال لنا زكريا : قد جربته فوجدته [ لم أجده . ] حقًا . أفيدونا جزاكم الله خيرًا، هل هذه الصلاة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم حقًا بهذه الصفة، وماذا تسمى ؟ وما المقصود بالسفهاء الذين نهينا أن نعلمهم هذه الصلاة ؟ بينما هناك حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عليًا عن تلاوة القرآن وهو راكع أو ساجد، أخرجه ابن جرير [ لم أجده . ] ؛ فأيهما الصحيح ؟ وإن كانا صحيحين؛ فكيف الجمع بينهما ؟(47/4)
هذا الحديث فيه من الغرابة كما ذكر السائل من أنه شرع قراءة الفاتحة في غير القيام في الركوع أو في السجود، وتكرار ذلك، وأيضًا في السؤال بمعاقد العز من العرش وغير ذلك، وكلها أمور غريبة، فالذي ينبغي للسائل أن لا يعمل بهذا الحديث، وفي الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا إشكال فيها، وفيها من نوافل العبادات والصلوات والطاعات، ما فيه الخير والكفاية إن شاء الله .
وأما ما ذكر من أن فلانًا جربه فوجده صحيحًا، وفلانًا جربه فوجده صحيحًا؛ هذا كله لا يدل على صحة الحديث، فكون الإنسان يُجرِّب الشيء ويحصل له مقصوده لا يدل على صحة ما قيل فيه أو ما ورد فيه؛ لأنه قد يصادف حصول هذا الشيء قضاءً وقدرًا، أو يصادف ابتلاءً وامتحانًا للفاعل، فحصول الشيء لا يدل على صحة ما ورد به .
22 ـ هناك أناس يدعون بدعاء يعتقدون أنه يشفي من مرض السُّكر، وهو كما يلي : الصلاة والسلام عليكم وعلى آلك يا سيدي يا رسول الله ! أنت وسيلتي، خذ بيدي، قلَّت حيلتي، فأدركني . ويقول هذا القول : يا رسول الله ! اشفع لي . وبمعنى آخر : ادع الله يا رسول الله لي بالشفاء . فهل يجوز أن يردد هذا الدعاء ؟ وهل فيه فائدة كما يزعمون ؟ أرشدونا بارك الله فيكم .
هذا الدعاء من الشرك الأكبر؛ لأنه دعاء للرسول صلى الله عليه وسلم، وطلب لكشف الضرر والمرض من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى؛ فطلبه من غير الله شرك أكبر، وكذلك طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بعد موته، هذا من الشرك الأكبر؛ لأن المشركين الأولين كانوا يعبدون الأولياء، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فالله سبحانه وتعالى عاب ذلك عليهم، ونهاهُم عن ذلك !(47/5)
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } [ يونس : 18 . (17) ] ، { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 . (18)] .
وكل هذا من الشرك الأكبر والذنب الذي لا يُغفر إلا بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى منه، والتزام التوحيد وعقيدة الإسلام؛ فهو دعاء شركيّ، لا يجوز للمسلم أن يتلفَّظ به، ولا أن يدعو به، ولا أن يستعمله، ويجب على المسلم أن ينهى عنه، وأن يُحَذِّر منه .
والأدعية الشرعية التي يُدعى بها للمريض ويُرقى بها المريض أدعية ثابتة ومعلومة، يُرجع إليها في مظانِّها من دواوين الإسلام الصحيحة؛ كـ " صحيح البخاري " (19) "، و " صحيح مسلم " (20).
وكذلك قراءة القرآن الكريم على المريض مرض السُّكَّر أو غير مرض السُّكَّر، قراءة القرآن الكريم - وبالذات قراءة سورة الفاتحة - على المريض فيها شفاء وأجر وخير كثير .
والله سبحانه وتعالى أغنانا بذلك عن الأمور الشركية، والمسلم لا يجوز له أن يتعاطى شيئًا من الشركيَّات، ولا أن يقدم على عمل من الأعمال أو على دعاء من الأدعية؛ إلا إذا ثبت لديه وتحقَّق أنه من شريعة الله وشريعة رسوله ( ، وذلك بسؤال أهل العلم، وبالرجوع إلى أصول الإسلام الصحيحة .
فالذي أنصحك به ترك هذا الدعاء، والابتعاد عنه، والنهي عنه، والتحذير منه .
23 ـ هل يجوز أن يدعو الدّاعي فيقول : سبحان من لا يصفه الواصفون، ولا تدركه العقول . . . وما أشبه ذلك ؟ لأننا نسمع بعض الأئمة يدعون بهذا الدُّعاء؛ فهل يصح ذلك ؟
يُشرع الدعاء بما ورد من أسماء الله وصفاته؛ قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 . ] .
أما ما ذُكر في السؤال؛ فلم يرد في كلام الله وكلام رسوله فيما أعلم؛ فلا ينبغي الدُّعاء به .(47/6)
وأيضًا؛ في كلمة : لا يصفه الواصفون ! نظرٌ ظاهرٌ؛ لأن الله سبحانه يوصف بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وربما يكون هذا اللفظ منقولاً عن نفاة الصِّفات .
24 ـ هل يجوز أن نقول في الدعاء : " اللهم بجاه نبيك " ؟
لا يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ولا بجاه غيره؛ لأن هذا بدعة، لا دليل عليه، وهو الشرك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق؛ فإنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه؛ فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له " انتهى (21) ".
والله سبحانه أمرنا أن ندعوه مباشرة، ولم يأمرنا أن ندعوه بجاه أحد؛ قال تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ } [ الأعراف : 55 . ] ، { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 . ] ، { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ غافر : 14 . ] ؛ كما أمرنا أن ندعوه بأسمائه سبحانه، فقال : { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] .
وما يُروى : " إذا سألتُم الله؛ فاسألوه بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم " ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " إنه حديث كذب، ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث " انتهى (22).
25 ـ يقول بعض الناس لبعض : أنت لا ترحم، ولا تترك رحمة الله تنزل . فهل في هذا القول محذور شرعي ؟
قول بعض الناس : أنت لا ترحم ! لا بأس به، وهو من باب الإنكار على الجبابرة العُتاة .(47/7)
ولكن قولهم : ولا تترك رحمة الله تنزل ! قول خطأ وضلال، ولا يجوز النطق به؛ لأنه لا أحد يمنع رحمة الله النازلة؛ قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 . ] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول مخاطبًا ربه عز وجل : ( لا مانعَ لِما أعطيتَ، ولا معطيَ لِما منعتَ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/205 ) من حديث المغيرة بن شعبة، وهو جزء من الحديث . ] .
وإن كان قصد القائل أنَّ المخاطب يكره نزول رحمة الله على عباده؛ فهذا هو الحسد المذموم الذي يُنكَرُ على صاحبه؛ فالمعنى صحيح، ولكنَّ اللفظ خطأ، والصَّواب أن يُقال : وتكرهُ أن تنزل رحمة الله على عبده .
26 ـ هل يُعتبر التحسُّر والتأسُّف على ما مضى مما لم يُدرك أمرًا مذمومًا ؟ وما حكمة منع استعمال كلمة ( لو ) ؟
لا يجوز التحسُّر والتأسُّفُ على ما لم يدرك الإنسان إذا كان عمل السبب لحصوله ولم يحصل؛ فإنه لا يدري؛ لعل عدم حصوله خير له، ولأن هذا يدل على التسخُّط على قضاء الله وقدره؛ قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 22-23 . ] .
أما قوله : لو أني فعلت كذا؛ لكان كذا ! فقد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ففي " الصحيح " عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( احرص على ما ينفعُك، واستعن بالله، ولا تَعجِزَن، وإن أصابك شيء؛ فلا تقل : لو أني فعلتُ؛ لكان كذا وكذا، ولكن قُل : قدَّرَ الله، وما شاء فعل . فإنَّ ( لو ) تفتحُ عمل الشيطان ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 4/2052 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .(47/8)
فكلمة ( لو ) تفتح عمل الشيطان لما فيها من التأسُّف على ما فات والتحسُّر ولوم القدر، وذلك ينافي الصَّبر والرِّضى بالقضاء والقدر .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ؛ ما سُقت الهديَ ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/879 ) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو جزء من الحديث . ] ؛ فهو إخبار عن مستقبل، وليس فيه اعتراض على قدر؛ فهو إخبار عمَّا سيفعل في المستقبل لو حصل .
27 ـ أرى بعض الناس يكتب في رسائله لأخيه أو لوالده فيقول : والدي العزيز، أو : أخي الكريم، أو : أختي الكريمة . . . وغير ذلك من أسماء الله الحسنى؛ هل هذا فيه شيء ؟
هذا ليس فيه شيء، بل هو جائز؛ قال الله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 . ] ، وقال تعالى : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 23 . ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 4/161 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ؛ هذا دليل على أن مثل هذه الأوصاف تصح لله ولغيره، ولكن اتصاف الله بها لا يماثِلُه شيء من اتصاف المخلوق بها؛ فإن صفات الخالق تليق به وصفات المخلوق تليق به، وقول القائل لأبيه أو أمه أو صديقه : العزيز . لأنه عزيز عليه، غالٍ عنده، ولا يقصد بها أبدًا الصفة التي تكون لله عز وجل .
28 ـ ما حكم قول بعضهم : ما صدَّقت على الله يحصُل كذا . . . ؟ وإذا كان لا يجوز؛ فما العبارة الجائزة البديلة للمتكلِّم ؟(47/9)
هذه الكلمة ( ما صدَّقتُ على الله . . . ) إلخ : لا أعلم لها أصلاً، ولا معنى لها؛ فالأولى تركها، وأن يقتصر المتكلم على كلمة ( ما صدَّقتُ أنه يحصُلُ كذا ) . . . وما أشبه ذلك من الألفاظ المعروفة؛ كأن يقول : أستبعد أنه يحصُلُ كذا، أو : أستغرب، أو ما أشبه ذلك .(47/10)
الحلف
29 ـ ما القول في قوم اعتادوا على الحلف بالله، واتخذوه مؤكّدًا لكل قول يقولونه، سواء كان مهمًا أو غير مهم ؟
لا يجوز الإكثار من الحلف؛ لأن ذلك يدل على الاستهانة به وعدم احترامه، وقد قال تعالى : { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ } [ القلم : 10 . ] .
وفي الحديث الصحيح : أن من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجلاً جعل الله بضاعته؛ لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه (23).
وقد ورد في تفسير قوله تعالى : { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 . ] ؛ يريد : لا تحلفوا؛ فهو نهي عن الحلف إلا عند الحاجة وفي حالة البر والصدق .
30 ـ اعتاد بعض الناس عندنا في مصر الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم في معاملاتهم، وأصبح الأمر عاديًا؛ فعندما نصحت أحد هؤلاء الذين يحلفون بالنبي؛ أجابني بأن هذا تعظيم للرسول، وهذا ليس فيه شيء؛ ما الحكم في ذلك ؟
الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره من المخلوقين أو بصفة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من المخلوقين محرم، بل هو نوع من الشرك؛ فإذا أقسم أحد بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال : والنبي، أو قال : والرسول، أو : أقسم بالكعبة، أو : بجبريل، أو : بإسرافيل، أو : أقسم بغير هؤلاء؛ فقد عصى الله ورسوله ووقع في الشرك .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان حالفًا؛ فليحلف بالله أو ليصمت ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/221 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . ] .
وقال : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/125 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الترمذي في " سننه " ( 5/253 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 4/297 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه غيرهم بدون ذكر : " كفر " . ] .(48/1)
وقول الحالف بالنبي صلى الله عليه وسلم : إن هذا تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم ! جوابه أن نقول : هذا النوع من التعظيم نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أنه نوع من الشرك؛ فتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن هذا الحلف؛ لأن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون في مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، بل في امتثال أمره واجتناب نهيه، وهذا الامتثال يدل على محبته صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله تعالى في قوم ادعوا محبة الله : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 . ] ؛ فإذا أردت أن تعظم النبي صلى الله عليه وسلم التعظيم الذي يستحقه عليه الصلاة والسلام؛ فامتثل أمره، واجتنب نهيه، في كل ما تقول وتفعل، وبذلك تكون معظمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
فنصيحتي لإخواني الذين يكثرون من الحلف بغير الله، بل الذين يحلفون بغير الله، نصيحتي لهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا يحلفوا بأحد سوى الله سبحانه وتعالى؛ امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقول : ( مَن كان حالِفًا، فليحلف بالله ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/221 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . ] ، واتقاء للوقوع في الشرك الذي دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن حلفَ بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/221 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . ] .
31 ـ حينما يريد بعض الناس أن يؤكد كلامًا كذبًا قاله لشخص؛ يحلف له بغير الله؛ معتقدًا بأن الحلف بالله سبحانه لا يليق معه الكذب، فيحلف بغيره؛ فهل لهذا العمل وجه في الشرع المطهر ؟
هذا الذي كذب وحلف ليسوغ الكذب؛ جمع بين سيئتين : سيئة الكذب، وسيئة الحلف بغير الله .(48/2)
لأن الحلف بغير الله لا يجوز بحال من الأحوال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من حلف بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/125 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الترمذي في " سننه " ( 5/253 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 4/297 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه غيرهم بدون ذكر : " كفر " . ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان حالفً؛ فليحلف بالله أو ليصمت ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/221 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . ] .
والكذب أخف إثمًا من الحلف بغير الله؛ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا " (24) "؛ لأن سيئة الكذب أخف من سيئة الشرك؛ فلا يجوز الحلف بغير الله؛ لا بالنبي، ولا بالأمانة، ولا غيرهما، ومن كان معتادًا أن يحلف بغير الله؛ فإنه يجب عليه أن يتوب من ذلك ويتركه؛ فلا يجوز الحلف بغير الله، ولو كان كاذبًا في حلفه .
32 ـ ما الفرق بين هذه الأقسام، وهل هي جائزة : أقسم بآيات الله، أقسم بكلمات الله، أقسم بالقرآن، أقسم برب القرآن ؟
كلها جائزة إلا الأخير ( برب القرآن ) ، لا يقال : رب القرآن، بل يقال : منزل القرآن .
أما الإقسام بآيات الله، الإقسام بالقرآن . . . هذا كله جائز؛ لأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى؛ فهو صفة من صفاته سبحانه وتعالى، والقسم إنما يكون بالله جل وعلا أو بصفة من صفاته، وكلامه من صفاته، ولكن الإقسام بالآيات إذا كان المقصود بها الآيات الكونية؛ الشمس والقمر والسماء والأرض؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه حلف بالمخلوق .(48/3)
القضاء والقدر
33 ـ ما حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر مع ذكر الدليل ؟
الإيمان بالقضاء والقدر هو أحد أركان الإيمان الستة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان : أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/36، 37، 38 ) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو جزء من الحديث . ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك، ولا تعجزنَّ، فإن أصابك شيء؛ فلا تقل : لو أني فعلت كذا؛ لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدَّر الله وما شاء فعل . فإن ( لو ) تفتح عمل الشيطان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2052 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو جزء من حديث طرفه : " المؤمن القوي خيرٌ . . . " . ] .
والله جل وعلا يقول : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 . ] .
فالإيمان بالقضاء والقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، ومن لم يؤمن بالقضاء والقدر؛ فإنه يكون قد ترك أحد أركان الإيمان الستة؛ فلا بد من الإيمان بالقضاء والقدر .
وليس معنى هذا أننا نقول : العبد مجبر ! ونلغي الأعمال والأسباب كما تقول الجبريَّةُ، لكننا نؤمن بالقدر، ونعمل بالأسباب؛ لأن الله أمرنا باتخاذ الأسباب وبالعمل وبتجنُّب الأشياء المضرَّة؛ فالذي أخبرنا أن كل شيء بقضائه وقدره؛ أمرنا بالأعمال، وأمرنا بفعل الأسباب، والأعمال والأسباب من قضاء الله وقدره؛ فالقضاء والقدر يعالَجُ بالقضاء والقدر، ولهذا لمَّا سافر عمر بن الخطاب إلى الشام، وبلغه وقوع الوباء فيه، وعزم على الرجوع؛ قال له بعض أصحابه : أتفرُّ من قدر الله يا أمير المؤمنين ؟ ! قال : نعم؛ نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله [ انظر : " صحيح البخاري " ( 7/20-21 ) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه . ] .(49/1)
والمؤمن لا يزال في قدر الله عز وجل؛ فهل يعمل ويكتسب ويتسبَّب، وكل هذا من قدر الله عز وجل، أمَّا أن نقول : إن العبد مجبَرٌ، وإن كان مقدَّرٌ له شيء سوف يحصل، وإلا لم يحصل له ! ونترك الأسباب ! هذا هو قول الجبريّة الضَّالّة .
34 ـ أرجو إفادتي هل الإنسان مخيَّرٌ في دنياه أو مسيّرٌ؛ ففي الآية الكريمة التالية لقوله تعالى : { فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 . ] ؛ تفيد أن الإنسان مخيَّر، وفي الآية الكريمة الأخرى : { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ } [ التكوير : 29 . ] ؛ تفيد أن الإنسان مسير؛ فما معنى الآيتين ؟ وهل بينهما تعارض كما يظهر أم لا ؟
الإنسان مسيَّر ومخيَّر، يجتمع فيه الأمران :
فهو مسير من حيث جريان أقدار الله وقضائه عليه، وخضوعه لذلك كونًا وقدرًا، وأنه لا يمكنه التخلُّص من قضاء الله وقدره الذي قدَّره عليه؛ فهو من هذه الناحية مسيَّرٌ .
أما من ناحية أفعاله هو وحركاته وتصرُّفاته؛ فهو مخيَّرٌ؛ لأنه يأتي ويذرُ من الأعمال بإرادته وقصده واختياره؛ فهو مخيَّرٌ .
فالعبد له مشيئة، وله اختيار، ولكنه تابع لمشيئة الله سبحانه وتعالى وقضائه وقدره، ولذلك يُثاب على الطَّاعة ويعاقب على المعصية التي يفعلها باختياره وإرادته، أما الإنسان الذي ليس له اختيار ولا إرادة - كالمكره والناسي والعاجز عن فعل الطاعة -؛ فهذا لا يعاقب؛ لأنه مسلوب الإرادة والاختيار : إما بالعجز، أو بفقدان العقل؛ كالمجنون والمعتوه؛ فهو في هذه الأحوال لا يعاقب على تصرُّفاته؛ لأنه فاقد للاختيار، فاقد للإرادة .(49/2)
أما ما أشرت إليه من الآيتين الكريمتين : قوله تعالى : { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ } [ التكوير : 29 . ] ، وقوله : { وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 . ] ؛ فهذا يؤيد ما ذكرنا؛ لأن الله أثبت للعبد مشيئة واختيارًا، وأثبت لنفسه سبحانه وتعالى مشيئة، وجعل مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عز وجل، فدلت الآية الكريمة على إثبات المشيئتين : إثبات المشيئة للعبد، وإثبات المشيئة لله، وأنَّ مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عز وجل .
وأما قوله تعالى : { فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } ؛ فهذا ليس معناه التَّخيير، بل هذا معناه الزَّجر والتهديد والتوبيخ؛ قال تعالى : { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } ؛ هذا معناه التهديد والتوبيخ، وأنَّ الإنسان إذا عصى الله سبحانه وتعالى، وكفر بالله؛ فإنَّ الله يعاقبه؛ لأنه فعل الكفر باختياره، وفعل الكفر بإرادته ومشيئته؛ فهو يستحقُّ عقاب الله ودخول النار : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } ؛ فهو سبحانه أعدَّ لهم هذه النار لظلمهم .
35 ـ ما المقصود بقوله تعالى في سورة هود : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 . ] .
يقول نوح عليه السلام لقومه : عن كان الله سبحانه وتعالى أراد إضلالكم ودماركم بسبب كفركم وإعراضكم؛ فلا رادَّ لقضائه .
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في " تفسيره " : " أي : إنَّ إرادة الله غالبة، فإنه إذا أراد أن يُغويكم لردِّكم الحق؛ فلو حرصت غاية مجهودي ونصحت لكم أتمَّ النُّصح - وهو قد فعل عليه السلام -؛ فليس ذلك بنافع لكم شيئًا " (25) انتهى .(49/3)
وكأنه عليه السلام لما رأى عنادهم وإصرارهم على الكفر؛ عرف أن الله سبحانه سيعاقبهم؛ كما هي سنَّةُ الله في خلقه؛ أنَّ من أعرض عن قبول الحقِّ بعد وضوحه ودعوته إليه؛ فإنَّ ذلك علامة على نزول العقوبة به .
ونوح عليه السلام قال ذلك لقومه لما طلبوا منه إيقاع العقوبة التي كان يخوِّفهم منها، فطلبوا منه إيقاعها بهم من باب التحدِّي له، فبيَّن عليه السلام لهم أنَّ ذلك ليس بيده، وإنَّما هو بيد الله، وأنه سبحانه إذا أراد عقوبتهم؛ فلا رادَّ لما أراده .(49/4)
فيما يخص المصطفى صلى الله عليه وسلم
36 ـ ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله : ( من رآني في منامه؛ فقد رآني حقًا؛ فإنَّ الشيطان لا يتمثل بي ) يدَّعي بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه في المنام، وأعطاه وِردًا يكرِّره كذا مرة ( أي : يتعبَّدُ به ويخبر به الناس ) ، وهذا ينافي الآية الكريمة : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [ المائدة : 3 . ] ؛ فهل يُصدَّق مثل هذا أم يُكذَّبُ ؟
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قد تحصل، والحديث الوارد فيها صحيح (26) .لكن هذا في حق من يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرف صفاته صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ الشيطان لا يتشبَّه به في صفاته وشخصه عليه الصلاة والسلام، فمن كان يعرفُهُ حقَّ المعرفة، ويُميِّزُهُ حقَّ التَّمييز عن غيره؛ فهذا قد يراه في المنام، أما الذي لا يعرف صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يُميِّزُ شخصيَّته الكريمة عليه الصَّلاة والسلام؛ فهذا قد يأتيه الشيطان، ويدَّعي أنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يُضَلِّلُهُ في دينه؛ فليس الأمر على إطلاقه .
أما الناحية الثانية، وهي أنَّ الرسول علَّمه وِردًا في رُؤياه؛ فهذا - كما تفضل السائل - أمر باطل؛ لأنَّ التشريع قد انتهى بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 . ] ، ولا يُرِدُ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم تشريع شيء وزيادة شيء على ما كان قبل وفاته عليه الصلاة والسلام؛ لا وِردٌ ولا غيره؛ فليُتَنبَّه لهذا .
37 ـ ما الذي تضمَّنته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من بيان الحق في أصول الدين وفروعه على وجه الإجمال ؟(50/1)
تتضمَّن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كل ما يحتاجه البشر إلى أن تقوم الساعة في بيان أصول الدين وقواعده؛ من علاقة العبد برِّبه، وكيف يعبُدُهُ العبادة الصحيحة المقرِّبة إليه، ومن علاقة العبد مع نفسه وأقاربه وأهله وجيرانه ومواطنيه، وما عليه لهؤلاء من الحقوق والواجبات، وتوجيه الإنسان؛ كيف يتعامل مع الحياة ؟ وكيف يكسِبُ المال، ويُنَمِّيه، وينفِقُه ؟ ومن يخلفه فيه بعد وفاته . . .
وهكذا جاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة وكاملة ومستوعبة لجميع جوانب الحياة؛ كما أنَّ فيها الحلَّ الناجح لكل ما يتعرَّضُ له الإنسان من مشكلات : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 . ] ، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم كل ما يحتاجه العباد في أمر دينهم بيانًا كاملاً وكافيًا؛ قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [ المائدة : 3 . ] .
38 ـ هل كان الإسراء والمعراج بالجسم ؟ فإن كان بالجسم؛ فهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه تبارك وتعالى بالعين ؟ وله يكفرُ من ينكر الإسراء والمعراج بالجسم، ويدَّعي عدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لله تبارك وتعالى بالعين المجرَّدة ؟(50/2)
الإسراء والمعراج كانا بالجسم والروح معًا، هذا قول الجمهور من أهل العلم، وذلك لقوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 . ] ، والعبد اسم للروح والجسم، وليس اسمًا للرُّوح فقط، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الإسراء والمعراج (27)؛ أنه جاءه جبريل بدابَّة اسمها البُراق، وأركبه عليها، وذهب إلى بيت المقدس، وصلى بالأنبياء هنا . . . كل هذا يعطي أنه بالجسم والرُّوح معًا، وهذا قول الجماهير من أهل العلم، ولم يخالفهم فيه إلا طائفة يسيرة .
وأما هل رأى ربَّه ليلة المعراج بعينه؛ فالجمهور على أنه لم يره بعينه، وإنما رآه بقلبه، وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه رآه بعينه، ولكن الصحيح الأول، وأنه لم يره بعينه، وإنما رآه بقلبه، ولما سُئِل صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ قيل : هل رأيت ربَّك ؟ قال : ( نورٌ أنّى أراهُ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/161 ) من حديث أبي ذر رضي الله عنه . ] .
وأما من أنكر الإسراء بالجسم؛ فهو لا يكفر؛ لأنه قال به بعض السَّلف؛ قالوا : إنَّ الإسراء بالرُّوح فقط، يقظة لا منامًا . وإن كان هذا القول مرجوحًا وضعيفًا، لكن من أخذ به؛ فإنه يكون مُخطئًا، ولا يكفر بذلك .
وكذلك من أنكر رؤية النبي لربِّه لا يكفر من باب أولى؛ لأن الصحيح - كما ذكرنا - أنه لم يره بعينه، وإنما رآه بقلبه .
وأما رؤية الله جل وعلا بالأبصار؛ فهي ثابتة للمؤمنين في الدَّار الآخرة، متواترة فيها النُّصوص في القرآن والسّنَّة، وإجماع أهل السُّنَّة على أنّ المؤمنين يرون ربَّهم يوم القيامة رؤية حقيقة، أما في الدنيا؛ فلم يثبت أن أحدًا رآه جل وعلا .
39 ـ هل لكم يا فضيلة الشيخ أن تذكروا لنا معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ؟(50/3)
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم - هي الآيات الدّالة على رسالته صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقًا - كثيرة جدًّا :
ـ فأعظم الآيات التي جاء بها هذا القرآن الكريم؛ كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 50، 51 . ] ؛ فالقرآن العظيم أعظم آية جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفع آية لمن تدبَّرها واقتدى بها؛ لأنها باقية إلى يوم القيامة .
ـ أما الآيات الأخرى الحسِّيَّة التي مضت وانقضت أو لا تزال تحدث؛ فهي كثيرة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله جملة صالحة منها في آخر كتابه " الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح " ، هذا الكتاب الذي ينبغي لكل طالب علم أن يقرأه؛ لأنه بيَّن فيه شطح النصارى الذين بدَّلوا دين المسيح عليه الصلاة والسلام وخطأهم وضلالهم، وأنهم ليسوا على شيء مما كانوا عليه فيما حرَّفوه وبدَّلوه وغيَّروه، والكتاب مطبوع، وبإمكان كل إنسان الحصول عليه، وفيه فوائد عظيمة، منها ما أشرت إليه؛ بيانُ الشيء الكثير من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ابن كثير رحمه الله في " البداية والنهاية " ذكر كثيرًا من آيات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن أحبَّ؛ فليرجع إليه (28).
40 ـ من هم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم المقصودون بقوله جل وعلا : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 33 . ] ؟ وما المقصود بقوله : { قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [ الأحزاب : 33 . ] .(50/4)
المقصود بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } بالدرجة الأولى زوجاته عليهن رضوان الله؛ لأن الآية نزلت بسببهن والخطاب لهنَّ كما قال الله سبحانه وتعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 33 . ] ؛ فسياق الآيات كله في نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أول الآيات يقول : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا، وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 30-33 . ] ؛ فأهل بيته صلى الله عليه وسلم في هذه الآية في الدرجة الأولى أزواجه، وتشمل ذلك قرابته عليه الصلاة والسلام، ولكن نساؤه في هذه الآية داخلات من باب أولى لأنهن سبب النزول .(50/5)
وأما قوله : { قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [ الشورى : 23 . ] . فالعلماء ذكروا في معنى { إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ثلاثة تفاسير :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشًا إلى الإسلام وعارضوه وعاندوه وآذوه؛ خاطبهم بقوله : { قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ؛ يعني : لا أسألكم على هذه الدعوة وعلى هذا التبليغ مالاً من أموالكم وطمعًا دنيويًا { إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ؛ أي : أن تُراعوني في قرابتي منكم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له قرابة مع قريش، ما من بيت من بيوت قريش إلا وللرسول صلى الله عليه وسلم قرابة فيه؛ فالرسول أمره الله جل وعلا أن يناشدهم بهذه القرابة أن يراعوها في حق النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤذوه .
والقول الثاني : أن المراد بالمودة في القربى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ أي : إلا التحبب إلى الله عز وجل بالتقرب بالطاعة؛ فأنا لا أريد منكم مالاً، وإنما أريد منكم أن تعبدوا الله عز وجل وتتحببوا إليه بالطاعة .
والقول الثالث : أن المراد بالقربى أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وأن معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من الأمة أن يحبوا أهل بيته وأن يوقروهم، وهذا حق؛ فإن أهل بيت النبوة الصالحين منهم والمستقيمين على دين الله لهم حق تجب مراعاته بمودتهم واحترامهم وتوقيرهم بمقتضى الشريعة الإسلامية .
41 ـ هل يعني انتقادُنا اليهوديَّة أو النصرانيّة الآن أننا ننال من موسى وعيسى عليهم السلام ؟ وما موقف المسلم تُجاه أنبياء الله تعالى ورسله عليهم السلام ؟(50/6)
لا يعني انتقادُنا اليهود والنصارى انتقاد موسى وعيسى عليهما السلام، وذلك لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل لكفرهم بموسى وعيسى؛ حيث أمرا باتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم عند بعثته؛ لأنه بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وجب عليهم اتِّباعُه؛ لأنهم من أمة الدعوة المحمَّديَّة، وقال الله تعالى لنبيه : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 . ] ؛ فكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم كفر بموسى وعيسى عليهما السلام، فلم يبقوا من أتباعهما ولا من أتباع أحد من الرُّسل، قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } [ النساء : 150، 151 . ] .
وهؤلاء كفروا بأفضل الرُّسل وخاتمهم، الذي نسخت شريعته جميع ما سبقها من الشَّرائع - وبالأخص شريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام -، والبقاء على الدِّين المنسوخ بقاء على غير دين، وبناء على ذلك أصبحوا من غير أتباع موسى وعيسى، فذمُّهم ليس ذمًّا لدين موسى وعيسى، وإنما هو ذمٌّ لهم هم .
وموقف المسلم تجاه الأنبياء عليهم السلام أن يؤمن بهم جميعًا، من أولهم إلى آخرهم، لا يفرِّق بين أحد منهم؛ قال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 . ] .(50/7)
42 ـ قال الله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ . . . } الآية [ آل عمران : 144 . ] ؛ متى نزلت هذه الآية ؟ ولماذا ذكر لفظ { قُتِلَ } ؛ رغم علمِ الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يقتل ؟
نزلت هذه الآية عندما أصيب المسلمون في وقعة أحد، وأشاع الشَّيطان في الناس أن محمدًا قتل، يريد تخذيل المسلمين .
ومعنى الآية أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كغيره من الرسل، يجري عليه ما يجري على البشر من الموت أو القتل، وطاعته واتباع ما جاء به واجبان في حال حياته وحال موته، فليس بقاؤه شرطًا في امتثال ما جاء به من عند الله عز وجل، بل الواجب على الأمة عبادة الله دائمًا، ولهذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم مات الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مَن كان يعبدُ محمدًا؛ فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإنّ الله حيٌّ لا يموتُ ) [ رواه البخاري في صحيحه ( 4/193، 194 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
وجاء في الآية لفظ : { أَوْ قُتِلَ } : من أجل الإشاعة التي حصلت أنَّ محمدًا قتل؛ أي : لو صحَّ أنه قتل؛ فإنَّ ذلك لا يمنع المسلمين ولا يُضعِف موقفهم من جهاد عدوِّهم والثَّبات على إيمانهم .
43 ـ لا نختلف في منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في مكانته العظيمة التي تفوق كل النبيين والمرسلين والخلق أجمعين، ولكن تراني أتوقف عند قوله تعالى : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 . ] ؛ فما هو تفسير هذه الآية ؟ وما المقصود منها ؟(50/8)
يجب الإيمان بجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم، ويجب محبتهم وتعظيمهم وتوقيرهم واحترامهم؛ لأنهم أفضل الخلق، ولأنهم جاؤوا بالرسالة من عند الله سبحانه وتعالى لهداية الخلق، وأنقذ الله بهم من شاء من عباده من النار وهداهم إلى الصراط المستقيم؛ فالإيمان بالرسل جميعًا ومحبتهم وتوقيرهم واحترامهم واجب، وهو ركن من أركان الإيمان؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/36، 37، 38 ) من حديث عمر بن الخطاب، وهو جزء من الحديث . ] .
وأما التفريق بين الرسل فهو يعني الإيمان ببعضهم والكفر ببعضهم كما فعلت اليهود وكما فعلت النصارى :
فاليهود موقفهم من الرسل أنهم آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض، حيث كفروا بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، والبعض الآخر من الرسل قتلوه؛ كما قال تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 87 . ] .
فاليهود هذا موقفهم من الرسل؛ فرَّقوا بينهم فكفروا ببعضهم وقتلوا بعضهم، وحتى الذين آمنوا به منهم لم يؤمنوا به إيمانًا صحيحًا؛ لأنهم لا يؤمنون إلا بما يوافق أهواءهم مما جاء به، وما خالف أهواءهم كفروا به وتركوه .
والنصارى أيضًا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فهم فرّقوا بين الرسل .
أما أهل الإيمان الصحيح؛ فإنهم آمنوا بجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 . ] .(50/9)
فالذي كفر ببعض وآمن ببعض يكون كافرًا بالجميع؛ لأن الذي كفرَ به معه من الدليل ومن الحجة والبرهان على نبوته مثل ما مع الرسل الذين آمن بهم، فكفره به يكون كفرًا ببقيتهم .
وكذلك التفريق بين الرسل يعني تفضيل بعضهم على بعض من باب المفاخرة والتنقيص من حق بقية الأنبياء؛ فهذا لا يجوز أيضًا، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( لا تُفاضلوا بين الأنبياء ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1843، 1844 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : " لا تفضِّلوا بين أنبياء الله " . ] ؛ بمعنى : لا تفاضلوا بينهم على وجه الافتخار وتنقيص المفضول .
وأما ذكر أن بعضهم أفضل من بعض من غير فخر ومن غير تنقيص للآخرين من الأنبياء؛ فلا بأس بذلك؛ قال الله سبحانه وتعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [ البقرة : 253 . ] ؛ فلا شك أن الرسل يتفاضلون وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى .
فالتفريق بين الرسل يعني أمرين :
الأول : الإيمان ببعضهم والكفر ببعضهم كما فعل اليهود والنصارى .
والثاني : تفضيل بعضهم على بعض من باب المفاخرة والتنقيص للمفضول .
والله أعلم .(50/10)
نواقض الإسلام
44 ـ من أقرَّ من الناس بوجود الله، وأنّه الخالق الرازق، ولكنَّه يجعل بينه وبين الله في العبادة وسيطًا؛ كنبيٍّ أو وليٍّ أو غير ذلك؛ فهل يُخرَجُ هذا من دائرة الإسلام والإيمان ؟
من آمن بأن الله هو الخالق الرازق، ولكنَّه يجعل بينه وبين الله وسائط في العبادة؛ فقد ابتدع في دين الله ما لم يأذن به الله؛ لأن الله سبحانه أمر بعبادته بدون اتِّخاذ وسائط .
ثم إن كان هذا يتقرَّب إلى الوسائط بشيء من العبادة كالذبح للأولياء والصَّالحين والنذَّر لهم وطلب قضاء الحوائج من الموتى، ويستغيث بهم؛ فهذا شرك أكبر يخرج من الملة .
وإن كان يتوسَّل بالوسائط لحقهم أو جاههم دون أن يصرف لهم شيئًا من العبادة؛ فهذا يعتبر بدعة محرَّمة ووسيلة من وسائل الشرك .(51/1)
وعلى كل حال؛ لا يجوز اتخاذ الوسائط بين الله وبين العبد في العبادة والدُّعاء؛ لأن الله أمر بعبادته ودعائه؛ دون اتخاذ وسائط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو ردٌّ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/156 ) معلقًا، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1343-1344 ) ؛ من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، والله تعالى يقول : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ يونس : 18 . ] ؛ فسمَّاهم باتِّخاذ الوسائط مشركين، ويقول تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ الزمر : 3 . ] ، فسماهم باتخاذ الوسائط كفارًا وكاذبين . والله أعلم .
45 ـ إذا كان هناك شخص يعتقد أو يقرُّ التوسُّل بالصَّالحين؛ فهل تصحّ الصلاة خلفه ؟
يُشترط في الإمام أن يكون مسلمًا عدلاً في دينه وأخلاقه واستقامته، وأن يكون مثالاً طيِّبًا في التمسُّكِ بالسُّنَّة والابتعاد عن البدعة وترك الشِّرك ووسائله؛ فالذي يتَّخذ التوسُّل بالصَّالحين أو الأولياء أو الأموات على ما اعتاده عبَّاد القبور اليوم، ويستعمل هذا، أو يدَّعي أنَّ هذا أمر جائز؛ فهذا لا تصحُّ الصلاة خلفه؛ لأنه مختلُّ العقيدة، وإذا كان يتوسَّل بالصَّالحين؛ بمعنى أنه يطلُبُ منهم الحوائج وتفريج الكربات وينادي بأسمائهم ويستغيث بهم؛ فهذا مشركٌ الشِّرك الأكبر المخرج من الملَّة؛ فليس بمسلم، فضلاً عن أن يتَّخذ إمامًا لمسجد .(51/2)
فالواجب على المسلمين أن ينتبهوا لهذا، وأن لا يقدِّموا لدينهم وصلاتهم إلا سالم العقيدة، مستقيم السُّلوك، على الكتاب والسنة، ومتجنِّبًا للبدع والفسق .
حتى المسلم الفاسق لا تصحُّ إمامته عند كثير من أهل العلم، الذي فسقُه فسقٌ عمليٌّ ! فكيف بالفسق أو المبتدع الذي عنده خللٌ في عقيدته ؟ ! هذا أشدُّ، ولا سيَّما إذا كان كما ذكرنا ممَّن يتوسَّلون بالأموات ويطلُبون منهم الحوائج؛ فهذا مشركٌ الشِّرك الأكبر، لا تصحُّ صلاته، ولا صلاة من خلفه، حتى يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، ويرجع إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل .
نسأل الله عز وجل أن يوقِظَ المسلمين لمعرفة دينهم، والتمسُّكِ بكتاب ربهم وسنة نبيهم، وترك ما خالف ذلك من البدع والخرافات والمحدَثات التي ظنُّوها من الدِّين واعتقدوها من الدِّين، وهي بعيدة كل البعد عن الدِّين .
46 ـ إذا كانت أفعال شخص كلُّها تناقض ( لا إله إلا الله ) ؛ فهل يجوز لنا تكفيرُهُ مع أنه ينطقُ الشَّهادتين ؟
من أتى بناقض من نواقض الإسلام؛ كترك الصلاة متعمِّدًا، أو الذَّبح لغير الله، والنَّذر لغير الله؛ كما يُفعلُ عند الأضرحة، أو دعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو سبّ الله أو رسوله، أو سبِّ الدين، أو الاستهزاء بالقرآن أو بالسُّنَّة؛ فهذا مرتدٌّ عن دين الإسلام، يُحكم بكفره، ولو كان يقول : لا إله إلا الله؛ لأن هذه الكلمة العظيمة ليست مجرَّد قول يقال باللسان، وإنما لها معنى ومقتضىً تجبُ معرفتهما والعمل بهما .
قال صلى الله عليه وسلم : ( من قال : لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبَدُ من دون الله ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/53 ) من حديث أبي مالك عن أبيه . ] ؛ فلم يجعل النُّطق بـ ( لا إله إلا الله ) كافيًا في عِصمته الدَّم والمال، حتى يضيف إليه الكفر بما يُعبَدُ من دون الله .(51/3)
وقال تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا } [ البقرة : 256 . ] ؛ فقدَّم الكفر بالطَّاغوت على الإيمان بالله .
إلى غير ذلك من الأدلة .
47 ـ سائل يقول : إنه شاب مسلم يحمل مؤهلاً جامعيًّا في الهندسة، وقد سافر إلى إحدى الدول العربية للبحث عن عمل، ولكنه لم يفلح في ذلك، بينما وجد أن غير المسلمين لهم قبول أكثر، وفي مثل تخصصه ذلك ويُفَضَّلونَ على غيرهم من المسلمين، أي أن عدم حصوله على عمل راجع إلى كونه يدين بالإسلام، فقرر أن يعود إلى بلده في محاولة لتغيير مُسمى الديانة في جواز سفره، وفعلاً سافر إلى إحدى البلاد الإفريقية، وحصل على جواز سفر منها بديانة غير الإسلام، ثم سافر مرة أخرى إلى إحدى البلاد العربية، فوجد القبول والحصول على وظيفة، ولكنه متألم لتغيير اسم الديانة في جواز سفره، وإن كان هو في داخله يدين بالإسلام ويفخر به دينًا، لذلك هو يسأل : ما حكم عمله هذا ؟ وما حكم كسبه المال بهذه الطريقة ؟
أولاً : يجب على المسلم أن يتمسك بدينه وأن لا يتنازل عنه لأي ظرفٍ من الظروف؛ لأن الدين هو رأس الماس، وهو الذي تترتب عليه النجاة من عذاب الله سبحانه وتعالى، وهو الذي خُلِقَ الإنسان من أجله، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 . ] ؛ فيجب على المسلم أن يتمسك بدينه مهما كلفه الثمن .(51/4)
وما فعلته فيما ذكرت في السؤال من أنك ذهبت وغيره من مسمى الديانة إلى ديانة غير الإسلام لتحصل على عمل؛ فهذا شيء خطير، ويعتبر ردة عن دين الإسلام؛ لأنك فعلت هذا، وتظاهرت بغير دين الإسلام، وانتسبت إلى غير دين الإسلام، والمسلم لا يجوز له ذلك، ويجب عليه أن يتمسك بدينه، وأن يعتزَّ بدينه، وأن لا يتنازل عنه لطمعٍ من أطماع الدنيا، فالله سبحانه وتعالى لم يستثن في أن يتلفظ الإنسان بشيء من ألفاظ الكفر؛ إلا في حالة الإكراه المُلجئ؛ كما في قوله تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ } [ النحل : 106-107 . ] .
فأنت تظاهرت بغير دين الإسلام وانتسبت لغير دين الإسلام لأجل الدنيا وطمع الدنيا، لم تصل إلى حد الإكراه الذي تُعذَرُ به؛ فالواجب عليك التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والمبادرة إلى تغيير هذا الانتساب، والمبادرة إلى كتابة الديانة الإسلامية في ورقة عملك، مع التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والندم على ما فات، والعزم على أن لا تعود لمثل هذا الشيء؛ لعلَّ الله أن يتوب علينا وعليك .(51/5)
ثم على الجهات المسؤولة من المسلمين وحكومات المسلمين أن لا يُحرجُوا المسلمين إلى هذا الحد؛ بحيث إنهم يُقدِّمون أهل الديانات الكافرة على المسلمين في توظيفهم في الأعمال وتوليتهم الأعمال؛ لأن هذا ربما يكون دسيسة من أعداء المسلمين؛ ليصرفوا الناس عن دينهم؛ كما حصل لهذا السائل؛ فالواجب على الجهات المسلمة والحكومات الإسلامية أن تنتبه لهذا، وأن لا تُحرِج المسلمين إلى مثل هذه الحالة التي وقع فيها هذا الإنسان، وأن تتابع الموظفين الذين يفرضون على المسلمين هذه الفرضيات الخبيثة . وفق الله الجميع .
48 ـ كثيرًا ما يطلب والدي من أهلي خدمته في وقت شربه الخمر؛ من إحضاره له وتغسيل آنيته ونحو ذلك، وكذلك يسخر منهم إذا رآهم يصلون؛ فما الحكم في ذلك، وأنا أعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة أشخاص [ رواه الترمذي في " سننه " ( ج4 ص296 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( ج2 ص1122 ) ؛ كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه . ] ؛ فماذا يجب علينا نحو والدنا ؟
هذا الوالد مستهتر، وإذا بلغ من استهتاره أنه يستهزئ بالصلاة وبالمصلين؛ فهذا ردة عن دين الإسلام، فيجب عليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى وأن يرجع إلى دينه من جديد، وأنت لا يجوز لك إعانته على المعصية كما ذكرنا في أول الجواب؛ فلا تُحضروا له ما يستعين به على معصية الله، والواجب إنكار هذا المنكر والتغليظ عليه في ذلك ومضايقته في ذلك لعله يتوب إلى الله سبحانه وتعالى .
49 ـ أفيدكم أني أبلُغُ من العمر الخمسة والأربعين، وقد مضى عليَّ أربع سنين من عمري دون أن أصلي ودون أن أصوم رمضان، ولكنّي في العام الماضي أدَّيت فريضة الحجِّ؛ فهل تكفّر عمَّا فاتني من صوم وصلاة ؟ وإن كانت لا تكفِّر؛ فماذا عليَّ أن أفعله الآن ؟ أرشدونا وفَّقكم الله .(51/6)
ترك الصلاة متعمِّدًا خطير جدًّ؛ لأن الصلاة هي الرُّكن الثاني من أركان الإسلام، وإذا تركها المسلم متعمِّدًا؛ فإنّ ذلك كفر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بينَ العبد وبين الكفر ترك الصلاة ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/88 ) من حديث جابر بن عبد الله بنحوه . ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها؛ فقد كفر ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/346 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/283 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 1/231-232 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/342 ) ؛ كلهم من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه . ] ، والله تعالى يقول في الكفار : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 . ] ، ويقول عن أهل النار : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } [ المدثر : 42-44 . ] . . . إلى غير ذلك من النصوص التي تدلُّ على كفر تارك الصلاة، وإن لم يجحد وجوبها، وهو الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله .
فما ذكرت من أنك تركتها متعمِّدًا مدَّة أربع سنوات؛ هذا يقتضي الكفر، ولكن إذا تُبت إلى الله عز وجل توبة صحيحة، وحافظت على الصلاة في مستقبل حياتك؛ فإن الله يمحو ما كان من ذي قبلُ، والتوبة الصادقة تَجُبُّ ما قبلها .
أما الحجُّ؛ فلا يكفِّرُ ترك الصلاة ولا ترك الصيام؛ لأن هذه كبائر موبقة لا يكفِّرها الحجُّ .
وكذلك الحجُّ إذا كنت أدَّيته وأنت لا تُصلِّي؛ فإنه لا يصحُّ؛ لأن الذي لا يصلي ليس له دين، وليس له إسلام؛ ولا يصحُّ منه عمل إلى أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإذا تُبت إلى الله توبة صحيحة، وحافظت على الصلاة؛ فإنَّ هذا يكفِّر ما سبق، ولكن عليك بالصِّدق والاستمرار على التَّوبة والاهتمام بالصلاة .(51/7)
وإذا كانت أدَّيت الحجَّ في حالة تركك للصلاة؛ فإنَّ الأحوط لك أن تعيده، أمَّا إذا كنت أدَّيته بعدما تُبت؛ فهو حجٌّ صحيح إن شاء الله .
وما مضى من المعصية وترك الصلاة والصيام تكفِّره التَّوبة الصَّادقة .
50 ـ لدي أخ لا يواظب على الصلاة، ولا يحرص على صلة الرَّحم، ويرافق جلساء السُّوء؛ فهل يجب عليَّ أن أهجره ولا أحادثه، خاصة وأنني نصحته عدة ومراتٍ، ولم يمتثل ؟
من يترك الصلاة ويقطع الرحم؛ فإنه تجب مناصحته، فإن لم يقبل؛ وجب هجره حتى يتوب إلى الله؛ لأن ترك الصلاة كفر، وقطيعة الرحم من كبائر الذنوب، والله تعالى يقول : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 . ] .
51 ـ ما حكم زيارة تارك الصلاة في مرضه، أو محاولة علاجه والسعي لذلك، أو تشييع جنازته إذا مات ؟
أما مسألة زيارته والسعي في علاجه؛ فإذا كان هذا سببًا لهدايته ودعوته إلى التَّوبة والرُّجوع عمَّا هو علي؛ فهذا شيء طيِّبٌ؛ فأنتم تزورونه، وتنصحونه، وتدعونه للتَّوبة، لعلَّ الله سبحانه وتعالى أن يمُنَّ عليه بها، وتكونون سببًا في ذلك، ويُختَم له بخير إن مات أو إن شفاه الله من مرضه .
وكذلك السَّعي في علاجه إذا كان هذا يترتَّبُ عليه أو يُرجى منه أو يؤثِّر ذلك على سلوكه وتوبته ورجوعه عمّا هو فيه؛ فهذا شيء طيِّبٌ .(51/8)
أمَّا اتِّباع جنازته إذا مات، وأنتم تعلمون أنَّه لا يصلِّي أبدًا ويترك الصلاة ونهائيًّا متعمِّدًا؛ فهذا لا يجوز لكم اتِّباع جنازته؛ لأنه بذلك يكون كافرًا، ويكون مات على الكفر، والكافر لا يتَّبِعُ جنازته المسلم ولا يصلِّي عليه، بل ولا يُدفن في مقابر المسلمين، إذا ثبت أنه لا يصلِّي أبدًا، وأنه ترك الصلاة متعمِّدًا، ومات على ذلك؛ فإنَّه مات ميتة الكافر والعياذُ بالله؛ فلا يجوز اتِّباع جنازته .
هذا هو الراجح، ومن العلماء من يفصِّل بين من تركها جَحدًا لوجوبها؛ فإنه يكون كافرًا، وبين من يتركها كسلاً مع اعترافه بوجوبها؛ فلا يكفر .
52 ـ في هذا الوقت مع الأسف الشديد نرى كثيرًا من الناس يقولون كلمة التوحيد لا إله إلا الله، ولكنهم لا يحافظون على الصلوات إلا في يوم الجمعة أو في رمضان، والبعض منهم لا يصلي مطلقًا إلا مرة واحدة في العام كله، وهي صلاة عيد الفطر المبارك لكي يراه الناس، مع أن هذه الصلاة فرض كفاية أو سنة مؤكدة، والبعض لا يصلي أبدًا ولا يعرف القبلة أي هي؛ إلا أننا نراهم في ليلة السابع والعشرين من رمضان يذهبون إلى مكة لأداء العمرة، أو في الحج يذهبون مع الناس إلى الحج؛ فما حكم هؤلاء ؟ وقد يموت أحدهم ويأتي أهلهم بجنائزهم فيصَلِّي عليهم المسلمون لأنهم يُحسنون الظن بهم، أليس في هذا غش للمسلمين يجعلهم يصلون عليه ويُدفَنَ في مقابرهم ؟ وهل الصلاة عليه مقبولة أم مردودة ؟ وهل أهل الميت آثمون بعملهم هذا أم لا ؟
هذا وضع خطير وشر كبير يجب التنبه له، وقول السائل وفقه الله : إن هناك أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ولكنهم لا يصلون إلا في أوقات معينة؛ كرمضان أو الجمعة أو العيد، هذا فيه تفصيل :(51/9)
إن كان المراد أنهم لا يصلون مع الجماعة ويصلون في بيوتهم ولا يتركون الفرائض؛ فهؤلاء قد ارتكبوا أمرًا كبيرًا؛ لأن ترك صلاة الجماعة ترك لواجب عظيم يأثمون عليه، ويجب الأخذ على أيديهم وإلزامهم بصلاة الجماعة مع المسلمين، ولكن صلاتهم صحيحة، ولا يخرجون من الإسلام بهذا العمل الذي هو ترك صلاة الجماعة؛ لأن ترك صلاة الجماعة ترك لواجب لا يقتضي الردة .
أما إذا كان قصده من ذلك أنم لا يصلون أبدًا، بل يتركون الصلاة تركًا نهائيًا، فإن هذا ردة عن دين الإسلام، فإن كانوا تركوا الصلاة لأنهم لا يرَون وجوبها؛ فهذا ردة عن الإسلام بإجماع أهل العلم، وإن تركوها مع اعترافهم بوجوبها، ولكنهم تركوها تكاسلاً، وداوموا على تركها متعمدين لذلك؛ فهذا أيضًا ردة على الصحيح من قولي العلماء؛ لأن الصلاة هي عمود الإسلام، والأدلة على كفر تاركها بدون تفصيل أدلة كثيرة من الكتاب والسنة .
وعلى كل حال؛ من ترك الصلاة فأمره خطير، وهذا إذا مات على هذه الحالة؛ فإنه لا تجوز الصلاة عليه؛ لأنه مات على غير الإسلام، ومثل هذا يُدفَنُ بدون صلاة وبدون إجراءات جنائز المسلمين؛ لأنه يعتبر مرتدًا عن دين المسلمين، بل لا يُدفَنُ مع المسلمين في مقابرهم؛ لأنه ليس منهم .(51/10)
وهذا أمر خطير، والصلاة لا تجب في رمضان فقط أو يوم العيد فقط أو يوم الجمعة فقط، بل الصلاة جعلها الله عز وجل خمس صلوات في اليوم والليلة، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( خمسُ صلواتٍ فَرَضَهُنَّ الله في اليوم والليلة ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( ج2 ص63 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( ج1 ص230 ) ؛ كلاهما من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه . ] ، وكما في قوله تعالى : { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } [ النساء : 103 . ] ، فالصلوات تجب المحافظة عليها في مواقيتها في اليوم والليلة في جماعات المسلمين في المساجد، هذا هو دين الإسلام، وما ذكره السائل من التغرير .
53 ـ أنا شابٌّ، وأهلي لا أشاهدهم يصلُّون، وكلَّما نصحت لهم وقلت لهم : صلُّوا؛ لا يستمعون إليَّ، وهم لا يصلُّون؛ هل عليَّ إثم أم لا ؟
الصلاة ركن من أركان الإسلام، بل هي آكدُ أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمود الإسلام، وهي الفارقة بين المؤمن والكافر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( بين العبد وبينَ الكُفرِ والشِّركِ : تركُ الصلاة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/88 ) ؛ بلفظ : " بين الرجل . . . " . من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه . ] .
والمرأة التي لا تصلِّي : إن كانت لا ترى وجوب الصلاة عليها؛ فهي كافرة بإجماع أهل العلم، وإن كانت ترى وجوبها وتركتها تكاسُلاً؛ فإنها تكفر على الصحيح من قولي العلماء .
فعلى هذا لا يصحُّ للمسلم أن يتزوَّجها، وإذا كان قد تزوَّجها؛ فلا يجوز له إمساكها؛ لقوله تعالى : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [ الممتحنة : 10 . ] ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 . ] ؛ فإن تابت توبة صحيحة، وحافظة على الصلاة؛ فإنه يجدِّد العقد عليها . والله أعلم .(51/11)
54 ـ كثيرًا ما أترك صلاة الفجر - والعياذ بالله - فلا أصليها في المسجد، والسبب هو ثِقَلُ النَّوم، وخاصَّة إذا تغيَّر الوقت من الصَّيف إلى الشِّتاء ؟
تجب المحافظة على الصلاة في الجماعة في الفجر وغيرها، والنوم ليس بعذر دائمًا؛ فالذي يعتاد النَّوم ويترك الصلاة ليس بمعذور، والواجب عليه أن يعمل الأسباب التي توقظُهُ؛ من النوم مبكِّرًا، والعزم على القيام للصلاة، وإيصاء من يوقظه من أهله أو جيرانه، أو اتِّخاذ ساعة تنبِّهُهُ للصَّلاة، { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا } [ الطلاق : 2 . ] ؛ فالأمر راجع إلى اهتمام العبد وعدم إهماله .
وقد همَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلِّفين عن صلاة الفجر (1). والله أعلم .
55 ـ هل إذا ذهب المرء إلى المسجد، ووجد أناسًا عند المسجد، ودخل المسجد، ولم يقل لهم : صلُّوا؛ هل عليه إثم أم لا ؟
يجب على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب استطاعته : إمَّا باليد، وإمَّا باللسان، وإمَّا بالقلب، ولا يجوز للمسلم ترك إنكار المنكر، فإذا رأى أناسًا لا يصلون؛ فإنه يأمرهم بالصلاة؛ فإن امتثلوا، وإلا؛ فإن كان له سلطة عليهم؛ ألزمهم وأدَّبهم، وإن لم يكن له سلطة؛ فإنه يبلِّغ أهل السلطة عن وضعهم، ولا يجوز له السُّكوت على المنكر وإقراره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( مَن رأى منكم مُنكرًا، فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه . ] .
56 ـ هل يصحُّ للمرأة أن تصلّي عند صورة في كتاب أو صحيفة، وإذا وضع شيء على الصُّورة أو أغلق الكتاب؛ فهل تصحَّ الصلاة ؟(51/12)
يُكره للمسلم أن يصلِّي مستقبل الصورة، ويُكره أن يصلي في مكان قد عُلِّقت ونُصبت فيه الصُّور، أما الصور الممتهنة والمُلقاة على الأرض؛ فلا تأثير لها، ولا يجوز الاحتفاظ بالصُّور للذِّكريات أو الهواية؛ لأنَّ الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب ولا صورة، ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم بطمس الصُّور (2).
57 ـ هل تجوز الصلاة على الملائكة لفضلهم ورفعة قدرهم ؟ وإذا كانت تجوز؛ هل يجوز أن أُلحق الصلاة بهم بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهُّد في الصلاة أولا ؟
السلام على الملائكة مشروع؛ بأن تقول : عليهم السلام؛ لأنهم عباد مكرمون، وهم خلق من خلق الله، فضَّلهم الله سبحانه وتعالى على غيرهم؛ كما قال تعالى في حقِّهم : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 . ] ، وقال تعالى : { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 15-16 . ] . . . إلى غير ذلك؛ فهم لهم قَدرُهم وفضلُهم وشرفُهم، ويُشرع الصلاة والسلام عليهم .
58 ـ هل يجوز أن أُلحق الصلاة عليهم بالصّلاة على الرسول في التّشهُّد ؟
لا؛ الصّلاة التي في التشهُّد يقتصر فيها على الوارد، ولكن في قولنا : السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين : ما يشمَلُ كلَّ عبد صالح في السماء أو في الأرض، وتدخل فيه الملائكة من باب أولى .
59 ـ هل يجوز للمسلمين أن يؤدُّوا صلاة الجنازة على مسلم مات منتحرًا ؟
تجب الصلاة على جنازة كل مسلم، ولو كان قاتلاً لنفسه؛ لأنَّ قتله لنفسه كبيرة لا تخرجه عن الإسلام؛ فالقاتل لنفسه عاص، له ما للمسلمين من الصلاة عليه والاستغفار له وتغسيله وتكفينه ودفنه في مقابر المسلمين .(51/13)
الردة والجاهلية
60 ـ يُلاحظ على بعض طلبة العلم التَّساهل في إطلاق لفظ ( الرِّدَّة ) على المسلم، بل قد يطالبون المسلمون بانتداب من يرون لإقامة حدِّ الرِّدَّة في المحكوم بردَّته عندهم إذا لم يقم بها السُّلطان ؟
إقامة الحدود من صلاحيَّات سلطان المسلمين، وليس لكل أحد أن يقيم الحدَّ؛ لأنَّ هذا يلزم منه الفوضى والفساد، ويلزم منه تفكُّكُ المجتمع، وحدوث الثارات، وحدوث الفتن؛ فالحدود من صلاحيَّات السُّلطان المسلم .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تعافَوا الحدود فيما بينكم، فإذا بلغت الحدود السلطان؛ فلعنَ الله الشّافعَ والمشفِع ) [ انظر الهيثمي في " مجمع الزوائد " ( 6/259 ) من حديث الزبير، وانظر : " المستدرك " للحاكم ( 4/383 ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وانظر : " سنن أبي داود " ( 4/131 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وانظر : " سنن النسائي " ( 8/70 ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص . ] .
ومن وظائف السلطان في الإسلام ومن صلاحياته إقامة الحدود بعدما تثبت شرعًا لدى المحاكم الشرعيَّة على من وقع في جريمة رتَّب الشارعُ عليها حدًّا؛ كحدِّ الرِّدَّة، وحدّ السرقة . . . إلخ .
فالحاصل أن إقامة الحدود من صلاحيات السلطان، وإذا لم يكن هناك في المسلمين سلطان؛ فإنه يُكتفى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوى إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولا يجوز للأفراد أن تقيم الحدود؛ لأن هذا - كما ذكرنا - يلزم منه الفوضى ويلزم منه حدوث الثَّارات والفتن، وفيه مفسدة أعظم مما فيه من المصلحة، ومن القواعد الشرعيّة المسلَّم بها أنَّ درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح .
61 ـ من هو المرتدُّ فضيلة الشيخ ؟ نرجو تحديده بشكل واضح؛ فقد يُحكم بردَّة شخص لديه شبهة .(52/1)
الحكم بالرِّدَّة والخروج من الدِّين من صلاحيَّات أهل العلم الرَّاسخين في العلم، وهم القضاة في المحاكم الشرعيَّة؛ كغيرها من القضايا، وليس من حق كل أحد، أو من حقِّ أنصاف المتعلِّمين، أو المنتسبين إلى العلم، والذين ينقصُهم الفقه في الدِّين، ليس من صلاحيَّاتهم أن يحكُموا بالرِّدَّة؛ لأن هذا يلزم منه الفساد، وقد يحكمون على المسلم بالرِّدَّة، وهو ليس كذلك، وتفكيرُ المسلم الذي لم يرتكب ناقضًا من نواقض الإسلام فيه خطورة عظيمة، ومن قال لأخيه : يا كافر ! أو : يا فاسق ! وهو ليس كذلك؛ فإنَّ هذا الكلام يعود على قائله؛ فالذين يحكمون بالرِّدَّة هم القضاة الشرعيُّون، والذين ينفِّذون هذا الحكم هم ولاة أمور المسلمين، وما عدا هذا؛ فهو فوضى وشرٌّ .
62 ـ هناك من يطلق لفظ الجاهلية على المجتمعات المسلمة؛ لما فيها من فساد، ويرتِّب على هذا اللفظ ما تعرفون؛ فهل هذا الاتجاه صحيح ؟
الجاهلية العامة انتهت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ببعثته صلى الله عليه وسلم انتهت الجاهلية العامة ولله الحمد، وجاء الإسلام، وجاء العلم، وجاء النُّور، وسيبقى ويستمرُّ إلى يوم القيامة؛ فليس بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم جاهليَّةٌ عامَّةٌ، لكن تكون هناك بقايا من الجاهليَّة، لكنها جاهلية جزئيَّة، وجاهلية بمن قامت به، أمَّا الجاهليَّة العامَّة؛ فقد انتهت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولن تعود إلى قيام السَّاعة .
أما وجود الجاهليَّة في بعض الأفراد أو الجماعات أو بعض المجتمعات؛ فهذا أمر واقع، لكنَّه جاهليَّةٌ خاصَّةٌ بمن وُجِدت فيه، وليس عامَّة؛ فلا يجوز إطلاق الجاهليَّة على وجه العموم؛ كما نبَّه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " اقتضاء الصِّراط المستقيم " (3) .
63 ـ يُلاحظ على من يطلق لفظ الجاهلية على المجتمعات الإسلامية أنه يريد به تكفير تلك المجتمعات، وبالتالي الخروج ؟(52/2)
ليس من حقِّ كلِّ أحد أن يُطلق التكفير أو أن يتكلَّم بالتفكير على الجماعات أو على الأفراد، التَّكفير له ضوابط، فمن يرتكب ناقضًا من نواقض الإسلام؛ فإنه يُحكم بكُفره، ونواقض الإسلام معروفة، أعظمها الشِّرك بالله عز وجل، وادِّعاء علم الغيب، والحكم بغير ما أنزل الله؛ قال تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 . ] .
فالتكفير خطير، ولا يجوز لكل أحد أن يتفوَّه به في حقِّ غيره، إنما هذا من صلاحيَّات المحاكم الشرعيَّة، ومن صلاحيَّات أهل العلم الرَّاسخين في العلم، الذين يعرفون الإسلام، ويعرفون نواقض الإسلام، ويعرفون الأحوال، ويدرسُون واقع الناس والمجتمعات؛ فهم أهل الحكم بالتفكير وغيره .
أمَّا الجهَّال وأفراد الناس وأنصاف المتعلِّمين؛ فهؤلاء ليس من حقِّهم إطلاق التَّكفير على الأشخاص أو على الجماعات أو على الدُّول؛ لأنهم غير مؤهَّلين لهذا الحكم .(52/3)
السحر والكهانة والعرافة والشعوذة والتنجيم
64 ـ نرجو إيضاح حقيقة السحر، وهل يُباح شيء منه ؟ وهل يُعتبر عمل السِّحر مخرجًا عن دين الإسلام ؟
السِّحر في اللغة عبارة عمَّا لَطُفَ وخَفِيَ سببُه .
وحقيقة السحر كما بيَّنها الموفَقُ في " الكافي "(4) عبارة عن عزائم ورُقىً وعُقدٍ يؤثِّرُ في القلوب والأبدان، فيُمرِضُ ويَقتُلُ ويفرِّق بين المرء وزوجه .
والسحر كله حرام، لا يُباح شيء منه؛ قال الله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [ البقرة : 102 . ] ؛ أي : ليس له نصيب، وقال الحسن : " ليس له دين " (5)، وهذا يدلّ على تحريم السحر، وكفر متعاطيه، وقد عدَّه النبي صلى الله عليه وسلم من السَّبع الموبقات (6).
ويجب قتل السَّاحر؛ قال الإمام أحمد رحمه الله : " قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " (7) ؛ أي : صحَّ قتل السَّاحر عن ثلاثة من الصَّحابة، وهم : عمر، وحفصةُ، وجُندَب رضي الله عنهم .
فعمل السحر تعلُّمًا وتعليمًا واحترافًا : كفر بالله، يُخرِج من المِلَّة، ويجب قتل الساحر لإراحة الناس من شرِّه إذا ثبت أنه ساحر؛ لأنه كافر، ولأنَّ شرَّه يتعدَّى إلى المجتمع .
65 ـ هل صحيح ما يقال : إنَّ السَّحرة والكهنة والعرَّافين والمنجِّمين يعرفون كثيرًا من علم الغيب ؟ وكيف نردُّ على إخبارهم ببعض الحوادث المستقبليَّة ووقوعها بعد ذلك ؟
هؤلاء قد يخبرون الناس بأشياء يتلقَّونها من الشَّياطين مما يسترقونه من السَّمع، أو عن أشياء غائبة عن الناس ويطَّلع عليها الشَّياطين فيُخبرون عُملاءهم من شياطين الإنس، وهذا بالنسبة للشياطين ليس غيبًا؛ لأنهم سمعوه أو اطَّلعوا عليه .(53/1)
لكن الشياطين يكذبون مع الكلمة الواحدة التي يسمعونها مئة كذبة، ويصدِّقُهُم الناس في كل ما يقولون بسبب هذه الكلمة التي سمعوها من السماء؛ قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [ الشعراء : 221-223 . ] .
أمَّا علم الغيب؛ فهو من خصائص الله سبحانه، لا يعلمه إلا هو؛ قال تعالى : { قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ } [ النمل : 65 . ] ، وقال تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 . ] .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله : " والمقصود من هذا معرفة أنَّ من يدَّعي علم شيء من المغيَّبات؛ فهو إمَّا داخل في اسم الكاهن، وإمَّا مشارك له في المعنى، فيُلحق به، وذلك أنَّ إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان : يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشّياطين، ويكون بالفأل، والزَّجر، والطَّرق، والضَّرب بالحصى، والخطِّ في الأرض، والتنجيم، والكِهانة، والسِّحر . . . ونحو هذا من علوم الجاهلية، ونعني بالجاهلي : كل من ليس من أتباع الرسل؛ كالفلاسفة والكهَّان والمنجِّمين وجاهليَّة العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ هذه علوم قوم ليس لهم علم بما جاءت به الرُّسل عليهم السلام، وكل هذه الأمور يسمَّى صاحبها كهَّانًا وعرَّافًا أو ما في معناهما، فمن أتاهم فصدَّقهم بما يقولون؛ لحقه الوعيد " (8) انتهى .
66 ـ الاستعانة بالسَّحرة لقضاء بعض الحوائج من غير مضرَّةِ الآخرين؛ هل هو جائز ؟(53/2)
السحر محرَّمٌ وكفرٌ؛ تعلُّمه وتعليمُه؛ قال تعالى : { مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ . . . } إلى قوله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [ البقرة : 102 . ] .
ولا يجوز استعمال السحر لقضاء بعض الحوائج؛ لأنه محرَّم وكفر، والمحرَّم والكفر لا يجوز للمسلم أن يستعمله، بل يجب إنكاره والقضاء عليه، ويجب قتل السَّاحر وإراحة المسلمين من شرِّه .
67 ـ هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِرَ ؟ وإذا ثبت ذلك؛ فكيف كان تعامُلُه عليه الصلاة والسلام مع السّحر ومع من سَحَرَهُ ؟
نعم؛ ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِرَ؛ فعن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، حتى ليُخيَّلُ إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يومٍ : ( أتاني ملَكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال : ما وَجَعُ الرجل ؟ قال : مطبوبٌ . قال : ومن طبَّه ؟ قال : لبيدُ بن الأعصم، في مُشطٍ ومُشاطةٍ وجُفِّ طلعةِ ذَكَرٍ في بئر ذروانَ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/30 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
قال الإمام ابن القيِّم : " وقد أنكر هذا طائفة من الناس، وقالوا : لا يجوز هذا عليه، وظنُّوهُ نقصًا وعيبًا، وليس الأمر كما زعموا، بل هو من جنس ما كان يُؤثِّرُ فيه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع، وهو مرضٌ من الأمراض، وإصابتُه به كإصابته بالسُّمِّ، لا فرقَ بينهما " (9).(53/3)
وذكر رحمه الله عن القاضي عياض أنه قال : " ولا يَقدَحُ في نبوَّتِه، وأما كونه يُخيَّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعلهُ؛ فليس في هذا ما يُدخِلُ عليه داخِلةً في شيء من صدقه؛ لقيام الدَّليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوزُ طُرُوُّهُ عليه في أمر دنياه التي لم يُبعث لسببها ولا فضِّلَ من أجلها، وهو فيها عُرضةٌ للآفات كسائر البشر؛ فغيُ بعيد أن يُخيَّلَ إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان " (10) انتهى .
ولما علم صلى الله عليه وسلم أنه قد سُحِرَ؛ سأل الله تعالى، فدلَّه على مكان السحر، فاستخرجه وأبطله، فذهب ما به، حتى كأنما نُشِطَ من عقال، ولم يعاقب صلى الله عليه وسلم من سحره، بل لما قالوا له : يا رسول الله ! أفلا نأخذ الخبيث نقتُلُه ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( أمَّا أنا؛ فقد شفاني الله، وأكرَهُ أن يُثيرَ على الناس شرًّا ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/30 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
68 ـ من الطُّرُق الشرعيَّة التي يُنصح بها للوقاية من السحر ؟ وما علاجُ من ابتُلِيَ بشيء من ذلك ؟
الطُّرق الشرعية للعلاج من السحر ما ذكره العلامة ابن القيِّم رحمه الله؛ قال :
" وقد رُوِي عنه ( يعني : النبيَّ صلى الله عليه وسلم ) فيه نوعان :
أحدهما : وهو أبلغُهما : استخراج السِّحر وإبطالُه؛ كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربَّه سبحانه في ذلك، فدلَّه عليه، فاستخرجه من بئر، فلما استخرجه؛ ذهب ما به، حتى كأنما نُشِطَ من عقالٍ " (11) .
إلى أن قال : " ومن أنفع علاجات السِّحر الأدوية الإلهيَّة، وذلك بالأذكار والآيات والدَّعوات . . . " (12) انتهى .
وهذا النوع الثاني لعلاج السِّحر، وذلك بالدَّعوات الشرعيَّة، وقراءة القرآن على المسحور؛ بأن يقرأ القارئ الفاتحة، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، والمعوِّذتين، وغير ذلك من القرآن، ويَنفُثَ على المصاب، فيُشفى بإذن الله .(53/4)
69 ـ السِّحر والكِهانة والتنجيم والعرافة؛ هل بينها اختلاف في المعنى ؟ وهل هي سواء في الحكم ؟
السِّحر عبارة عن عزائم ورُقى وعُقد يعملها السَّحرة بقصد التأثير على الناس بالقتل أو الأمراض أو التفريق بين الزَّوجين، وهو كفر وعمل خبيث ومرض اجتماعي شنيع يجب استئصاله وإزالته؛ إراحة للمسلمين من شرِّه .
والكِهانة : ادِّعاء علم الغيب بواسطة استخدام الجنِّ .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في " فتح المجيد " : " وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجنُّ أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار، فيظنُّه الجاهل كشفًا وكرامة، وقد اغترَّ بذلك كثير من الناس، يظنُّون المخبر بذلك عن الجنِّ وليًّا لله، وهو من أولياء الشيطان " (13). انتهى .
ولا يجوز الذَّهاب إلى الكهَّان :
روى مسلم في " صحيحه " عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرَّافًا، فسأله عن شيء، فصدَّقه بما يقولُ؛ لم تُقبل صلاته أربعين يومًا ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 4/1751 ) عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر : " فصدقه بما يقول " . ] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال : ( من أتى عرَّافًا، فسأله عن شيء، فصدَّقه بما يقول؛ لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 4/1751 ) ، لكن ليس عن أبي هريرة، وإنما عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . ] .(53/5)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال : ( مَن أتى كاهنًا، فصدَّقه بما يقولُ؛ فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) [ عند أبي داود ( 4/14 ) بلفظ : " فقد برئ " ؛ بدل : " كفر " ، وأحمد في " مسنده " ( 2/408 ) بلفظ : " فقد برئ " ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 1/164 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/209 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/275-276 ) ، وكذلك البخاري في " التاريخ الكبير " ( 3/16-17 ) ، وكلهم من حديث أبي هريرة . ] ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي .
وروى الأربعة والحاكم، وقال : ( صحيح على شرطهما ) : ( من أتى عرَّافًا أو كاهنًا، فصدَّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/429 ) من حديث أبي هريرة، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/8 ) من حديث أبي هريرة . ] .
قال البغويُّ : " والعرَّافُ هو الذي يدَّعي معرفة الأمور بمقدِّمات يستدلُّ بها على المسروق ومكان الضّالَّة، وقيل : هو الكاهن " (14).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " العرَّاف اسمٌ للكاهن والمنجِّم والرَّمَّال ونحوهم ممَّن يتكلَّم في معرفة الأمور بهذه الطُّرق " (15) انتهى .
والتَّنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكيَّة على الحوادث الأرضيَّة، وهو من أعمال الجاهليَّة، وهو شرك أكبر، إذا اعتقد أن النُّجوم تتصرَّفُ في الكون .
70 ـ مثلُ الخطِّ في الرَّمل أو قراءة الفنجان أو قراءة الكفِّ؛ كما يحدث عن بعض لمخرِّفين اليوم، والإثم لا يقتصر على مرتكب هذه الأعمال نفسه، بل يَلحَقُ حتى من ذهب إليهم أو صدَّقهم ؟
لا شكَّ أنَّ هذه الخرافات والأوهام الجاهليَّة والأعمال الشركيَّة كلَّها من أعمال الشيطان، وكلها من طرق الشرك وأعمال الشرك، لا يجوز للمسلم الذي يؤمنُ بالله واليوم الآخر أن يذهب إلى هؤلاء، ولا أن يصدِّقهم .(53/6)
قال صلى الله عليه وسلم : ( من أتى كاهِنًا أو عرَّافًا، فصدَّقهُ بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/429 ) من حديث أبي هريرة والحسن رضي الله عنهما، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/8 ) من حديث أبي هريرة، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 8/135 ) من حديث أبي هريرة . ] ؛ فلا يجوز الذَّهاب إليهم؛ ولا سؤالهم، ولا تصديقهم .
وعلى المؤمن أن يعتمد على الله، وأن يتوكَّل على الله، وأن يرتبط بالله سبحانه وتعالى، وأن يحذر ممَّا يُفسد دينه، أو يخلخِلُ عقيدته، أو يضلُّه عن الصِّراط المستقيم .
71 ـ ما مدى صحة الحديثين عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال : ( كَذبَ المنجِّمون ولو صدقوا ) (16) قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . " قد بحثت عنه فيما عندي من مراجع ولم أجده . "، وحديث آخر، وهو : ( كان نبي من الأنبياء يخُطُّ؛ فمن وافق خطَّهُ؛ فذاك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1749 ) من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه . ] ؟ وما حكم الشرع في ضرب الرمل والتنجيم ؟ وهل هناك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تحرِّم هذه الأعمال ؟
أما قضية التنجيم؛ فالتنجيم إذا أُريد به الاستدلال بالنُّجوم على الحوادث المستقبليَّة، وأن النُّجوم لها تأثير في الكائنات، وفي نزول الأمطار، أو نزول المرض، أو غير ذلك؛ فهذا شرك أكبر، وهو من اعتقاد الجاهلية، والتنجيم على هذا النَّحو محرَّم أشدَّ التَّحريم .(53/7)
وأما الحديث الذي سألت عنه : ( كذبَ المنجِّمون ولو صدقوا ) (17)؛ فلا أعرفُ له أصلاً من ناحية السَّند، ولم أقف عليه .
وأما معناهُ؛ فهو صحيح؛ فإنَّ المنجمين يتخرَّصون ويكذبون على الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا علاقة للنُّجوم بتدبير الكون، إنما المدبِّرُ هو الله سبحانه وتعالى، هو الذي خلق النُّجوم وخلق غيرها، والنُّجوم خلقها الله لثلاث : زينةً للسَّماء، ورجومًا للشَّياطين، وعلامات يُهتدى بها، هذا ما دلَّ عليه القرآن الكريم، فمن طلب منها غير ذلك؛ فقد أخطأ وأضاع نصيبه .
هذا في ما يتعلَّق بالتَّنجيم .(53/8)
وكذلك بقيَّة الأمور التي هي من الخرافات والشَّعوذة ( الخط في الرَّمل، وغير ذلك من الأمور التي تستعمل لادِّعاء علم الغيب، والإخبار عمَّا يحدث، أو لشفاء الأمراض، أو غير ذلك ) كلُّ هذا يدخل في حكم التنجيم، ويدخل في الكهانة، ويدخل في الأمور الشِّركيَّة؛ لأنَّ القلوب يجب أن تتعلَّق بالله خالقها ومدبِّرها، الذي يملك الضرر والنفع والخير والشَّرَّ، وبيده الخير، وهو على كل شيء قدير، أما هذه الكائنات وهذه المخلوقات؛ فإنها مدبَّرة، ليس لها من الأمر شيء، { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 . ] ، { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 . ] ؛ فكلُّها كائنات مخلوقة مدبَّرة، لها مصالح ربطها الله سبحانه وتعالى بها، وهي تؤدِّي وظائفها طاعة لله وتسخيرًا من الله سبحانه وتعالى، أمَّا أنَّها يُتعَلَّق بها ويُطلَبُ منها رفعً الضَّرر أو جلب الخير؛ فهذا شركٌ أكبر واعتقادٌ جاهليٌّ .
أما حديث ( كان نبي من الأنبياء يخطُّ، فمن وافق خطَّه؛ فذاك ) : هذا حديث صحيح، رواه الإمام مسلم [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1749 ) من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه . ] وأحمد [ ورواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/447 ) من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه . ] وغيرهما .(53/9)
قال العلماء : ومعناه أن هذا من اختصاص ذلك النبيِّ ومن معجزاته، وأن واحدًا لا يمكن أن يوافقه؛ لأنَّ هذا من خصائصه ومن معجزاته؛ فالمراد بهذا نفي أن يكون الخطُّ في الرَّمل يتعلَّق به أمرٌ من الأمور؛ لأنَّ هذا من خصائص ذلك النبيّ، وخصائص الأنبياء ومعجزاتهم لا يشاركهم فيها غيرهم عليهم الصلاة والسلام؛ فالمراد بهذا نفي أن يكون للخطَّاطين أو للرَّمَّالين شيء من الحقائق التي يدَّعونها، وإنما هي أكاذيب؛ لأنّه لا يمكن أن يوافق ذلك النبي في خطِّهِ أحدٌ . والله تعالى أعلم .
72 ـ يحدُث في بعض البلاد أن يقوم شخص في جمعٍ من الناس يعمل استعراضات مثيرة؛ كأن يُدخل سيفًا أو سكينًا في بطنه دون أن يتأثر، وغير ذلك من الحركات التي لا تُصدَّق في حياة الناس العاديَّة؛ فما حكم الشَّرع في مثل هذه الأعمال ؟
هذا مُشعوذ وكذَّاب، وعمله هذا من السِّحر التخييلي؛ فهو من جنس ما ذكره الله عن سحرة فرعون في قوله تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ طه : 66 . ] ، وفي قوله تعالى : { فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } [ الأعراف : 116 . ] .
وهؤلاء يستعملون ما يسمَّى بالقمرَةِ، وهي التخييل للناس خلاف الحقيقة، أو يعملون شيئًا من الحيل الخفيَّة التي تظهر للناس كأنها حقيقة، وهي كذب؛ بأن يُظهِرَ للناس أنه يطعنُ نفسه، أو أنه يقتلُ شخصًا، ثم يردُّهُ كما كان، وفي واقع الأمر لم يحصل شيء من ذلك، أو يُظهر للناس أنه يدخل النار، ولا تضرُّهُ، وهو لم يدخُلها، وإنما عمل حيلةً خفيَّةً ظنَّها الناس حقيقة .
ولا يجوز السَّماح لهؤلاء بمزاولة هذا الباطل والتَّدجيل على المسلمين بحيلهم الباطلة؛ لأن هذا يؤثِّر على العوامِّ .(53/10)
وكان عند بعض الأمراء من بني أمية رجل يلعب بمثل هذا، فذبح إنسانًا، وأبان رأسه، ثم ردَّه كما كان، فعجب الحاضرون، فجاء جُندَبُ الخير الأزديُّ رضي الله عنه، فقتله، وقال : ( إن كان صادقًا؛ فليُحي نفسه ) (18).
ولا يجوز للمسلم أن يحضر هذا الدَّجل والشَّعوذة، أو يصدِّق بها، بل يجب إنكار ذلك، ويجب على ولاة المسلمين منعه والتنكيل بمن يفعَلُه، ولو سمِّي لعبًا وفنًا ! ! فالأسماء لا تغيِّرُ الحقائق، ولا تُبيحُ الحرام، ومثله الذي يُظهر للناس أنه يجذُبُ السيَّارة بشعره، أو ينام تحت كفرات السيارة وهي تمشي، أو غير ذلك من أنواع التديل والتَّخييل والسِّحر .
73 ـ إمام يكتب حُجُبًا فيها المحبَّة وسيطرة الزوجة على الزَّوج والتفريق بينهما؛ فهل هذا هو السِّحر ؟ أفيدونا مأجورين .
الذي يكتب هذا النَّوع من الكتاب يكتب كتابة ليحبِّب بها الزَّوجين بعضهما ببعض أو يفرِّق بين الزَّوجين المتحابَّين، هذا ساحرٌّ؛ كما قال الله تعالى في السّحرة الذين يعلمون السحر وفي الذين يتعلمون منهم؛ قال تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ البقرة : 102 . ] ، وهذا ما يسمى بالصرف والعطف؛ فهذا سحر .(53/11)
والسحر كفر بالله عز وجل، والساحر كافر؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه أن السحر كفر في قوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [ البقرة : 102 . ] ؛ فالأدلة دلّت على أن السحر كفر، وأن تعلُّمه كفر، وأن الساحر كافر؛ في مواضع من هذه الآية الكريمة .
وجاء في الحديث أن حدَّ الساحر ضربة بالسيف؛ أي : أنه يُقتل مرتدًّا عن دين الإسلام على الصحيح .
فمثل هذا لا يصلح أن يكون إمامًا في الصلاة؛ لأنه ليس على دين المسلمين، ولا يجوز الاقتداء بكافر، ولا تصحُّ الصلاة خلفه .
ويجب على ولاة أمور المسلمين الأخذ على يد هذا الساحر، وإجراء الحكم اللازم عليه؛ لئلاً يضرَّ بهم وبمجتمعهم؛ لأن السحر إذا فشا بمجتمع؛ فإن هذا المجتمع ينهار، وتدخلُهُ الذِّلَّةُ، وتسيطر عليه الخرافة، ويسيطر عليه هؤلاء الخرافيُّون، والعياذُ بالله .
74 ـ بعض الناس يذهبون إلى بعض الأئمَّة والدَّراويش، ويقولون : إن بأيديهم نزع السِّحر ! ما مدى صحة هذا القول ؟ !(53/12)
لا يجوز الذَّهاب إلى السَّحرة، ولا تصديقُهُم، وحتى لو أن المسلم أصابه شيء من السحر؛ فإنه لا يَحُلّهُ بسحر مثله، ولكن على المسلم إذا ابتُلي بشيء من هذا أن يلجأ إلى الله عز وجل، وأن يستعيذ به، وأن يستعمل الأدعية الشرعيَّة ويستعمل قراءة القرآن الكريم؛ تشافيًا به، وطلبًا للشفاء من الله عز وجل بآياته وكلماته التامَّة، هذا الذي ينبغي للمسلم، ومن توكَّل على الله كفاه، ومن لجأ إليه حماه .
أمَّا أنّ المسلم يذهب إلى المخرِّفين والسحرة والدَّجَّالين والمُشعوذين؛ فهذا مما يزيده مرضًا نفسيًا ومرضًا جسميًّا، ويسيطر عليه شياطين الإنس والجن، ويكدِّرون عليه حياته، ويفسدون عليه عقيدته؛ فلا ملجأ للمؤمن من الله إلا إليه .
فالواجب على المسلم أن يعتصم بالله، وأن يلجأ إليه، ويتوكّل عليه، وأن يتلُوَ آياته، ولا سيَّما قراءة آية الكرسي والمعوِّذتين؛ فإنَّ في كتاب الله عز وجل الشِّفاء والكفاية للمسلمين .
وهؤلاء الأئمة الدَّراويش أغلبهم أئمَّة ضلال ومخرِّفون، لا يُوثَقُ بعقيدتهم، ولا يجوزُ الذَّهاب إليهم .
75 ـ ما تفسير قوله تعالى : { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [ البقرة : 102 . ] .(53/13)
تفسير الآية الكريمة أن اليهود لما نبذوا التّوراة التي فيها إثبات نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم؛ اعتاضوا عنها بكتب السِّحر الذي كانت الشياطين تعمله على عهد سليمان بن داود عليهما السلام، وتنسبُهُ إلى سليمان كذبًا وافتراء، مع أن سليمان عليه السلام بريءٌ منه كلَّ البراءة؛ لأنّ السحر كفر وضلال، وسليمان نبيٌّ من أنبياء الله، لا يتعاطى ما فيه كفر وضلال، وإنما هذا عمل الشياطين والكفرة من بني آدم، يقصدون به الإفساد والتَّفريق بين الزَّوجين وتشتيت الأسر وإلقاء العداوة بين الناس . وأنَّ الملكين اللذين يعلِّمان السِّحر في أرض بابل من العراق إنما يفعلان ذلك من باب الابتلاء والامتحان للناس، مع أنَّهما ينصحان من أراد أن يتعلَّم منهما بترك التعلُّم؛ لأنه كفر، وأنهما إنما يعلّمانه للابتلاء والامتحان به، لا إقرارًا له، ثم مع هذه النَّصيحة من الملكين؛ فإن الذين يتعلمون السحر منهما يستعملون السحر بما يضرُّ الناس، فارتكبوا مخالفتين : أولاً : تعلُّمَه وهو كفر لا يجوز . وثانيًا : استعماله للإضرار بالناس . ثم أخبر سبحانه أن الأمر بيده سبحانه، وأنه لا يكون نفع ولا ضرر إلا بإذنه القدريَّة؛ فعلى المؤمن أن يتوكَّل على الله، ويعتمد عليه في دفع شرِّ السَّحرة والمفسدين . ثم أخبر سبحانه أن اليهود يعلمون أنَّ تعلُّمَ السحر كفرٌ يوجب الحرمان من الجنة في الآخرة، ومع هذا أقدموا عليه كفرًا وعِنادًا .(53/14)
الجن والصرع وعلاجه
76 ـ في عصرنا الحاضر كثُرَ حديث الناس عن تلبُّس الجنِّ بالإنس، ودخولهم فيهم، ومن الناس من ينكر ذلك، بل إنّ البعض ينكر الجنَّ إطلاقًا؛ فهل لهذا تأثير على عقيدة المسلم ؟ وهل ورد ما يلزم بالإيمان بالجنِّ ؟ ثم ما الفرق بينهم وبين الملائكة ؟
إنكار وجود الجنِّ كفر وردَّةٌ عن الإسلام؛ لأنه إنكارٌ لما تواتر في الكتاب والسنة من الأخبار عن وجودهم؛ فالإيمان بوجودهم من الإيمان بالغيب؛ لأننا لا نراهم، وإنما نعتمد في إثبات وجودهم على الخبر الصَّادق؛ قال تعالى في إبليس وجنوده : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } [ الأعراف : 27 . ] .
أمَّا إنكار دخولهم في الإنس؛ فلا يقتضي الكفر، لكنه خطأ، وتكذيب لما ثبت في الأدلَّة الشرعيَّة والواقع المتكرِّر وجوده، لكن لِخفاء هذه المسألة لا يُكفَّر المخالف فيها، ولكن يخطَّأ؛ لأنه لا يعتمد في إنكار ذلك على دليل، وإنما يعتمد على عقله وإدراكه، والعقل لا يُتَّخذ مقياسًا في الأمور الغيبيَّة، وكذلك لا يكون العقل مقدَّمًا على أدلَّة الشرع؛ إلا عند أهل الضلال .
والفرق بين الجنِّ والملائكة من وجوه :
الوجه الأول : من وجه أصل الخِلقة؛ فالجنُّ خُلِقوا من نار السَّموم، والملائكة خُلِقوا من نور .(54/1)
الوجه الثاني : أن الملائكة عبادٌ مطيعون لله، مقرَّبون، مكرَمون؛ كما قال تعالى : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 26، 27 . ] ، وقال تعالى : { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 . ] . أما الجنُّ؛ فمنهم المؤمن ومنهم الكافر؛ كما قال تعالى إخبارًا عنهم : { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } [ الجن : 14 . ] ، ومنهم المطيع ومنهم العاصي؛ قال تعالى : { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ . . . } [ الجن : 11 . ] إلى غير ذلك من الآيات .
77 ـ نسمع في هذه الأيام عن أناس يعالجون بالقرآن مرضى الصَّرع والمَسِّ والعين وغير ذلك، وقد وجد بعض الناس نتيجة مُرضية عند هؤلاء؛ فهل في عمل هؤلاء محذور شرعيٌّ ؟ وهل يأثم من ذهب إليهم ؟ وما الشُّروط التي ترون أنها ينبغي أن تكون موجودة فيمن يعالج بالقرآن ؟ وهل أُثِرَ عن بعض السَّلف علاج المسحورين والمصروعين وغيره بالقرآن ؟
لا بأس بعلاج مرضى الصَّرع والعين والسِّحر بالقرآن، وذلك ما يسمَّى بالرُّقية؛ بأن يقرأ القارئ وينفُثَ على المصاب؛ فإنَّ الرُّقيةَ بالقرآن وبالأدعية جائزة، وإنما الممنوع الرُّقيةُ الشِّركيَّةُ، وهي التي فيها دعاء لغير الله، واستعانة بالجنِّ والشياطين؛ كعمل المشعوذين والدَّجَّالين، أو بأسماءٍ مجهولةٍ، أمَّا الرُّقيةُ بالقرآن والأدعية الواردة؛ فهي مشروعة .
وقد جعل الله القرآن شفاء للأمراض الحسيَّة والمعنويَّة من أمراض القلوب وأمراض الأبدان، لكن بشرط إخلاص النّيَّة من الرَّاقي والمَرقي، وأن يعتقد كل منهما أنَّ الشِّفاء من عند الله، وأنَّ الرُّقيةَ بكلام الله سببٌ من الأسباب النَّافعة .(54/2)
ولا بأس بالذَّهاب إلى الذين يعالجون بالقرآن إذا عُرفوا بالاستقامة وسلامة العقيدة، وعُرف عنهم أنَّهم لا يعملون الرُّقى الشِّركيَّة، ولا يستعينون بالجنِّ والشَّياطين، وإنما يعالجون بالرُّقية الشَّرعيَّة .
والعلاج بالرُّقية القرآنية من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل السَّلَفِ؛ فقد كانوا يعالجون بها المصاب بالعين والصَّرع والسِّحر وسائر الأمراض، ويعتقدون أنّها من الأسباب النَّافعة المباحة، وأن الشَّافي هو الله وحده .
ولا بدَّ من التَّنبيه على أن بعض المشعوذين والسَّحرة قد يذكرون شيئًا من القرآن أو الأدعية، لكنَّهم يخلُطون ذلك بالشِّرك والاستعانة بالجنِّ والشَّياطين، فيسمعُهُم بعض الجهَّال، ويظنُّ أنهم يعالجون بالقرآن، وهذا من الخداع الذي يجب التنبُّه له والحذر منه .
78 ـ يسأل عن كتاب " آكام المرجان في غرائب وأحكام الجانّ " ؟
" آكام المَرجان في غرائب وأحكام الجانّ " : هذا كتابٌ معروف، يبحث في موضوع الجنِّ؛ من حيث أحكامُهم، وأشكالهم، وتصرُّفاتهم، ويعطي فكرة موسَّعة عنهم، وفيه فائدة للقارئ، وفيه أحكام شرعيَّة؛ فهو كتاب جيِّد في الجملة .
79 ـ ما علاج الحسد وكيفيَّة الوقاية منه شرعًا ؟
الحسد داء خطير، ونقص عظيم، وهو تمنِّي زوال نعمة الله عمَّن أنعم عليه من خلقه، وهو اعتراض على الله، وهو من صفات اليهود والكفار :
قال تعالى : { مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 105 . ] .
وقال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } [ البقرة : 109 . ] .(54/3)
وقال تعالى عن اليهود الذين حسدوا محمدًا صلى الله عليه وسلم : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 . ] .
وعلاج الحسد ليذهب عن الإنسان أن يستعيذ بالله منه، ويسأله أن يعافيه منه، ويكثر من ذكر الله عندما يرى ما يُعجبه .
وأمَّا علاجه بالنسبة للمحسود؛ فهو أن يستعيذ بالله من شرّ الحاسد، ويقرأ المعوِّذتين، ويدعو الله سبحانه وتعالى، ويتوكَّل عليه .(54/4)
الغيبة والرّياء
80 ـ ما هو مدى صحة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنَّ كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته؛ تقول : اللهم اغفر لنا وله ؟ وما هو معنى الغيبة (1) انظر : الأذكار للنووي ( ص 308-309 ) ، وكذلك المقاصد الحسنة للسخاوي ( ص506 ) ، وكذلك الغماز على اللماز للسمهودي ( ص 166 ) " انظر : الأذكار للنووي ( ص 308-309 ) ، وكذلك المقاصد الحسنة للسخاوي ( ص506 ) ، وكذلك الغماز على اللماز للسمهودي ( ص 166 ) . " انظر : الأذكار للنووي ( ص 308-309 ) ، وكذلك المقاصد الحسنة للسخاوي ( ص506 ) ، وكذلك الغماز على اللماز للسمهودي ( ص 166 ) . " انظر : الأذكار للنووي ( ص 308-309 ) ، وكذلك المقاصد الحسنة للسخاوي ( ص506 ) ، وكذلك الغماز على اللماز للسمهودي ( ص 166 ) . " ؟
أمَّا الحديث؛ فلا يحضُرُني الآن حوله شيء، ولا أدري عنه .
وأمَّا الغيبة في حدّ ذاتها؛ فهي محرَّمة وكبيرة من كبائر الذُّنوب، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عباده عن فعلها؛ قال تعالى : { وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [ الحجرات : 12 . ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل المؤمنِ على المؤمنِ حرامٌ؛ دمُه، ومالُه، وعِرضُهُ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1986 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ بلفظ : " كل المسلم على المسلم " . ] ؛ فالغيبة محرَّمة وكبيرة من كبائر الذُّنوب وشنيعةٌ .(55/1)
وأمَّا ما هي الغيبة ؟ فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم معناها لمَّا سُئِلَ عنها، فقال : ( الغيبةُ : ذِكرُكَ أخاكَ بما يَكرَهُ ) . قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : ( إن كان فيه ما تقول؛ فقد اغتبتَهُ، وإن لم يكن فيه ما تقولُ؛ فقد بَهَتَّهُ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2001 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .
والغيبة هي الكلام في عرض الغائب كما بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ أنها ذكرك أخاك بما يكره؛ فإذا كان أخوك غائبًا، وأنت وقعت في عرضه ووصفته بما يكره؛ فقد اغتبتَهُ، وأثمت في ذلك إثمًا عظيمًا، وإذا ندمت وتُبتَ إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإن باب التوبة مفتوح، ولكن هذا حقُّ مخلوق، ومن شروط التوبة فيه أن تستبيح صاحبه؛ فعليك أن تتَّصل بأخيك، وأن تذكُرَ له ذلك، وتطلُب منه المسامحة؛ إلا إذا خشيت من إخباره أن يترتَّب على ذلك مفسدة أعظم؛ فإنَّه يكفي أن تستغفر له، وأن تُثني عليه وتمدحه بما فيه، لعلَّ الله سبحانه وتعالى أن يغفر لك .
81 ـ لي صديق كبير في السن، لا يحلو له المجلس إلا بالتَّحدُّث عن الآخرين بكلام بذيء، ويجعل الغيبة والنميمة هي حديثه؛ فكيف أعمل مع هذا الصَّديق حتى يترك هذه العادة السَّيِّئة ؟
الغيبة والنميمة معصيتان كبيرتان، وفيهما مفاسد عظيمة، وعليك أن تنصح هذا الشخص عنهما، وتبيِّن له خطورتهما، والآثام المترتِّبة عليهما، وتقرأ عليه النصوص الواردة في ذلك من الكتاب والسّنة (2)، فإن لم يمتثل؛ فلا تصاحبه ولا تجالسه إلى أن يتوب .
82 ـ لي ولد كثيرًا ما يُعلِّق على الناس، وقد حرجته على أن لا يتكلم عن أحد وأن لا يُضحِك إخوانه بتعليق أو غيبة أو تقليد، وأنا حللته بقلبي، وكان قصدي أن أخوفه ويتوب عن ذلك؛ فما حكم التحليل في هذه المسألة وهو الحرج ؟ جزاكم الله عنا خير الجزاء .(55/2)
لا جوز للإنسان أن يسخر من الناس وأن يغتابهم وأن يهمزهم أو يلمزهم ويتنقصهم ليُضحِك الناس؛ لأنهم لا يرضون بذلك، وهذا من الغيبة، بل هو من أشد الغيبة .
قال الله سبحانه وتعالى : { وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [ الحجرات : 12 . ] ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الغيبة بأنها ذِكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ في غيبتِهِ، قالوا : يا رسول الله ! إذا كان فيه ما تقول ؟ قال : ( إن كان فيه ما تقولُ؛ فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول؛ فقد بهتَّهُ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2001 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .
وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السخرية بالناس، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 . ] ؛ يعني لا يلمز بعضكم بعضًا ويتنقص بعضكم بعضًا .
وتمثيل الأشخاص بحركاتهم وكلامهم إذا كانوا غائبين أو حاضرين ويكرهون ذلك؛ فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا فيه أذية للمسلمين، والله جل وعلا يقول : { وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 . ] ؛ فهذا الذي يفعله هذا الشخص أمر مُحرَّم، وعليه أن يتوب إلى الله .
وما فعلتيه من الإنكار عليه والتغليظ عليه شيء واجب عليك تؤجرين عليه إن شاء الله؛ لأنه من إنكار المنكر، ولا يلزمك شيء في هذا، بل هذا من إنكار المنكر الذي تثابين عليه إن شاء الله تعالى .
83 ـ هل للرياء علامات يعرف بها المرائي ؟ وما حكم الإسلام فيمن يترك بعض أعمال الإسلام - سواء كانت واجبات أو مستحبَّات - خوف الرِّياء ؟ ومن ابتُلي بالرِّياء؛ فبم تنصحونه ؟(55/3)
الرّياء هو أن يعمل الإنسان العمل الصالح لأجل أن يراه الناس فيمدحوه، وهو محبط للعمل، وموجب للعقاب، وهو شيء في القلب، وقد سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم الشِّرك الخفيَّ (3)
ومن علاماته أن يَنشَط الإنسان في العمل إذا كان يراه الناس، وإذا كانوا لا يرونه؛ ترك العمل .
والذي يُبتَلى بالرِّياء يُنصحُ بالخوف من الله، ويُذّكَّرُ باطّلاع الله على ما في قلبه، وشدَّة عقوبته للمُرائين، وبأنَّ عمله سيكون تعبًا بلا فائدة، وبأنَّ الناس الذين عمل من أجل مدحهم سيذمُّونه ويمقتونه ولا ينفعونه بشيء .
84 ـ قرأت في بعض الكتب أن من علامات الرياء أن يقوى إيمان الشخص إذا كان عند أشخاص أو جماعة، ويضعف إذا كان لوحده، وأنا في الحقيقة أحيانًا أصلي وأحيانًا لا أصلي، وأنا لا أقصد بذلك الرياء، ولكن وجودي مع إخواني يجعلني أنشط عندما أراهم يصلون . أرجو أن توضحوا هذا الأمر وجزاكم الله خير .
هذا ليس من الرياء، هذا من الاقتداء بأهل الخير، ولا شك أن المسلم إذا كان مع أهل الخير؛ فإنه يقتدي بهم ويؤثرون عليه لرغبته في الخير والنشاط في العبادة، وإذا انفرد؛ فإنه يكسل ويفتر عن العبادة؛ نظرًا لأن نفس الإنسان تميل إلى الكسل وإلى الراحة .
الحاصل أن نشاطك إذا كنت مع أهل الخير وفتورك إذا كنت وحدك؛ هذا لا يدل على الرياء، وإنما هذا يدل على طبيعة النفس البشرية، ويدل على استحباب مخالطة أهل الخير؛ لأنهم ينشطون على فعل الخير .
وأما الرياء؛ فإنه من أعمال القلوب ومقاصد القلوب التي لا يعلمها إلا الله؛ فإذا كان قصدك بذلك أن يُثنوا عليك ويمدحوك؛ هذا هو الرياء، وأما إذا كان قصدك لوجه الله عز وجل، وإنما تنشط إذا كنت مع المصلين ومع الذاكرين لله ومع المتعبدين؛ فهذا شيء طيب، وهذا من القدوة الحسنة .(55/4)
معنى كل من : القنوط، عزم الأمور
85 ـ ما هو القنوط من رحمة الله ؟ وما معنى قوله تعالى في سورة يوسف : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 . ] ؟ فما هو اليأس من روح الله ؟ وهل الذي ييأس من رَوحِ الله كافر ؟ وهل هناك فرق بين اليأس والقُنوط ؟
الله سبحانه وتعالى ذو رحمة واسعة، ذو رحمة خاصة بالمؤمنين، وعلى العباد أن يتَّقوه وأن يعبدون؛ راجين رحمته، خائفين من عقابه .
فالمؤمنُ يكون بين الخوف والرَّجاء؛ لا يُغَلِّبُ جانب الخوف حتى يَقنَطَ من رحمة الله أو ييأس من رَوحِ الله، ولا يُغلِّبُ جانب الرَّجاء حتى يأمن مِن مكر الله عز وجل؛ فإنَّ طريقة الأنبياء والمرسلين أنهم يدعون ربَّهُم رَغَبًا ورَهَبًا؛ كما ذكر الله تعالى ذلك عنهم .
وقال أيضًا : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } [ الإسراء : 57 . ] .
فإذا أخذ الإنسان جانب الخوف فقط، وبالغ في ذلك، حتى يقنَطَ من رحمة الله؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد حكم عليه بالضَّلال، قال تعالى : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } [ الحجر : 56 . ] ، وكذلك إذا أيسَ من رحمة الله؛ كما في قوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 . ] ، وهذه طريقة الوعيديَّة من الخوارج وغيرهم، الذين غلَّبوا جانب الوعيد، وشدَّدوا في ذلك، حتى ضَلُّوا والعياذُ بالله .(56/1)
وأما قولُك : هل هناك فرق بين القُنوط من رحمة الله واليأس من رَوحِ الله؛ فالظَّاهر أنه لا فرق بينهما، والضَّلالُ والكفرُ يجتمعان، ويقال : هو ضالٌّ، ويقال : هو كافر؛ فهما وصفان مترادفان؛ فالكفر يسمَّى ضلالاً؛ كما قال تعالى : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 7 . ] .
ومن العلماء من فرَّق بينهما، واعتبر أنَّ اليأس أشدَّ من القنوط؛ استنباطًا من الآيتين الكريمتين؛ حيث إنَّ الله سبحانه قال : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } [ الحجر : 56 . ] ؛ فوصف القانطين بالضلال، وقال تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 . ] ؛ فوصف اليائسين من الرحمة بالكفر .
86 ـ قال الله تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [ لقمان : 17 . ] ، وقال تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [ الشورى : 43 . ] ؛ فما هو عزم الأمور ؟ وما مفهوم هذه العزيمة وأهمِّيَّتُها ؟
عزم الأمور : الأمور التي يُعزَمُ عليها ويُنافَسُ فيها ولا يُوفَّقُ لها إلا أهل العزائم والهمم العالية .(56/2)
العين والحسد والوسوسة
87 ـ عين الحاسد إذا أصابت شيئًا لأحد وأتلفته أو أضرت به؛ فهل عليه شيء، وإن لم يكن ذلك عن قصد منه أو حسد فعلاً، ولكن ذلك خارج عن إرادته ؟ وهل هناك دواء شرعي لذلك للحاسد والمحسود يخفف من أثرِها أو يقطع أثرها بالكلية ؟
العين حق كما في الحديث، وهذا من عجيب صنع الله سبحانه وتعالى أن يجعل في نظر بعض الأشخاص إصابة تضر بما تقع عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( العينُ حقٌّ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( ج4 ص1719 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .
وهناك علاج شرعي للعائن وللمصاب، أما العائن فإذا كان يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين؛ فليدفع شرها بقوله : اللهم ! بارك عليه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لمَّا عان سهل بن حنيف : ( ألا برَّكتَ ؟ ) أي : قُلتَ : اللهم ! بارِك عليه [ رواه الإمام مالك في " موطئه " ( ج2 ص938، 939 ) ، ورواه الإمام أحمد في " مسنده " ( ج3 ص486، 487 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( ج2 ص1160 ) عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، وانظر الذهبي في " سير أعلام النبلاء " ( ج2 ص326 ) . ] .
فإذا خشي العائن أن يضر المنظور؛ فإنه يقول : اللهم ! بارك عليه . وكذلك يُستحَبُّ له أن يقول : ما شاء الله لا قوَّة إلا بالله؛ لأنه رُويَ عن هشام بن عروة عن أبيه؛ أنه كان إذا رأى شيئًا يُعجِبُهُ، أو دَخلَ حائطًا من حِيطانِهِ؛ قال : ما شاء الله لا قُوَّةَ إلا بالله (4).
فإذا لازم العائن هذا الذكر؛ فإنه يدفع ضرره بإذن الله .
أمَّا إذا تعمد إصابة الشخص؛ فإنه يأثم بذلك؛ لأنه يكون معتديًا بهذا، حتى إن الفقهاء رحمهم الله قالوا : إذا تعمد قتل شخص بعينه، وأقر بذلك؛ فإنه يُقتَصُّ منه؛ لأن هذا يُعتبرُ من قتل العمد .(57/1)
وأما نفس المصاب؛ فإنه يستعمل الرقية التي رقى بها جبريل النبي عليه الصلاة والسلام، وهي أن يقول : ( بسم الله أرقيك، من كل شيء يُؤذيك، من شر كل نفسٍ أو عينِ حاسدٍ الله يشفيك، بسم الله أرقيك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( ج4 ص1718، 1719 ) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه . ] . يقول هذا الدعاء بنفسه أو يقوله أحد من إخوانه وينفث عليه، هذا مما تُدفَعُ به العين بإذن الله . والله أعلم .
وكذلك تُعالج إصابة العين بالاستغسال؛ بأن يغتسل العائن بماء ويغسل داخلة سراويله، ثم تُصَبُّ الغسالة على المصاب بالعين؛ كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك (5) .
88 ـ ما الحكم في وسواس النفس ؟ وإذا كانت النفس توسوس بأشياء خبيثة، والشخص يتألم ويتأثر تأثيرًا شديدًا خوفًا من هذا الوسواس، علمًا أنه ربما لا يعتقده ولا يعمل به، بل هو أمر خارج عن إرادته تحدثه به نفسه؛ هل يؤاخذ على ذلك ؟
الوسواس لا يضر الإنسان ولا يؤاخذ به ما لم يتكلم أو يعمل؛ كما في الحديث : ( عُفِيَ لأمَّتي ما حدَّثت به أنفُسَها ما لم تتكلَّم أو تعمل ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 6/169 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ قريب من هذا . ] ؛ فالوسواس الذي يدخل على الإنسان هو من الشيطان، يريد به أن يُحزنَ هذا المسلم وأن يشغله عن طاعة الله سبحانه وتعالى؛ فعلى المسلم أن يستعيذ بالله من الشيطان، وأن لا يلتفت لهذا الوسواس ولا يعتبره شيئًا ويرفضه رفضًا باتًّا ولا يضره بإذن الله .
89 ـ أنا شاب يوسوس لي الشيطان أحيانًا؛ ماذا أعمل لردِّ وسوسته ؟
وسوسة الشَّيطان تُرَدُّ بالاستعاذة بالله من الشَّيطان، وعدم الالتفات إلى وسوسته، والوسوسة لا تضرُّ ما لم يتكلَّم الإنسان؛ فعلى المسلم أن يرفُضَها ويترُكها ولا يلتفت إليها، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرَّجيم .(57/2)
تعليق التمائم
90 ـ ما حكمُ التمائم التي تُعلَّقُ في أعناق الصبيان وغيرهم، والتي تكون من الآيات القرآنيَّة والأدعية النبويَّة، وأشباهِ ذلك من الدَّعواتِ المشروعةِ ؟
الصَّحيحُ من قولي العلماءِ أنه لا يجوزُ تعليقُ مثل هذه التمائم لعدَّة أمور :
1ـ أنه ليس هناك دليلٌ على جواز ذلك، والأصلُ المنعُ؛ لعموم النهي عن تعليق التمائم؛ كقوله صلى الله عليه وسلم : ( من تَعَلَّقَ تميمةً؛ فلا أتمَّ الله له ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/154 ) من حديث عقبة بن نافع، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 4/216 ) من حديث عقبة بن نافع . ] ، ونحوه .
2ـ أن السماحَ بتعليق هذه التمائم يكون وسيلة لتعليق التمائم المشتملة على الشرك والألفاظ المحرَّمة .
3ـ أن السماح بتعليق التمائم وسيلة لامتهان القرآن وتعريضه للدُّخول في المواطن غير المناسبة، وقد يعلَّق على أطفال لا يحترزون من النّجاسة .
. . . إلى غير ذلك من المحاذير .
وفي رُقية المريض مباشرةً وقراءة القرآن على المصاب غُنيَةٌ عن تعليق التَّمائمِ، والحمد لله .
91 ـ نرى بعض القلائد التي تكتبُ عليها بعض الآيات القرآنيَّة؛ فهل يجوز بيعها وشراؤها ولُبسُها وهي على هذه الحالة ؟ أفتونا جزاكم الله خيرًا .
لا يجوز بيعُ ولا لبسُ القلائد التي يُكتَبُ فيها شيء من القرآن، ولا تجوزُ هذه الكتابة؛ لأن في ذلك امتهانًا للقرآن، ولأنَّ هذا قد يتَّخذُ حُجُبًا وتمائم يُعتقَدُ فيها الشِّفاء من الأمراض، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعليق التَّمائم (6)، وهذا النهيُ يعمُّ المعلَّقَ من القرآن وغيره على الصحيح . والله أعلم .
92 ـ نُلاحظ أن بعض الناس يعلِّقون في رقابهم أو أيديهم أساورَ مطليَّةً ببعض الأصباغ المعيَّنة، أو خيوطًا مصنوعة من شعر بعض الحيوانات أو غيرها، ويزعم هؤلاء أنها سبب في دفع ضررٍ قد يأتي من الجانِّ أو غيرهم؛ فهل هذا عمل جائز ؟ وما نصيحتُكم لهؤلاء ؟(58/1)
تعليق الأساور أو لُبسُها، وربط الخيوط من الشعر أو غيره؛ من يفعل ذلك، يعتقدُ أنَّ هذه الأشياء تمنع الضرر أو ترفع بذاتها عمَّن لبسها؛ فهذا شرك أكبر، يُخرِجُ من الملَّة؛ لأنه اعتقد في هذه الأشياء أنَّها تنفع وتدفع الضَّرر، وهذا لا يقدرُ عليه أحدٌ إلا الله سبحانه .
وإن كان يعتقد أنَّ الله هو النَّافعُ، وهو الذي يدفعُ الضَّرر، إنما هذه الأشياء أسباب فقط؛ فهذا محرَّمٌ وشركٌ أصغر يجرُّ إلى الشرك الأكبر؛ لأنه اعتقد السببيَّة فيما لم يجعلهُ الله سببًا للشِّفاء؛ لأنَّ هذه الأشياء ليست أسبابًا، والله جعل أسباب الشِّفاء في الأدوية النافعة المباحة والرُّقى الشرعيَّة، وهذه ليست منها .
وقد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بابًا في " كتاب التوحيد " في هذا الموضوع، فقال : " باب : مِن الشِّرك لُبسُ الحَلقةِ والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعهِ " ، أورد فيه أدلةً؛ منها :
حديث عمران بن حصين رضي الله عنه؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً، في يده حلقةٌ من صُفر، فقال : ( ما هذه ؟ ) . قال : من الواهنةِ . قال : ( انزعها؛ فإنها لا تزيدُكَ إلا وَهنًا؛ فإنك لو متَّ وهي عليكَ؛ ما أفلحتَ أبدًا ) .
رواه أحمد بسند لا بأس به [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/445 ) من حديث عمران بن حصين . ] ، وصحَّحه ابن حِبَّان والحاكم [ انظر : " مستدرك الحاكم " ( 4/216 ) . ] ، وأقرَّه الذهبي .
ولابن أبي حاتم عن حذيفة؛ أنه رأى رجلاً في يده خيطٌ من الحمَّى ( أي : لدفع الحمَّى ) ، فقطعه (7)، وتلا قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 . ] .(58/2)
وإن كان يعتقدُ أنَّ هذا يدفعُ شرَّ الجنِّ؛ فالجنُّ لا يدفعُ شرَّهم إلا الله سبحانه؛ قال تعالى : { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ الأعراف : 200 . ] .
93 ـ عندما يُرزق أحدُنا بمولود يُكتَبُ له دعاء وما تيسَّر من القرآن الكريم ويُعلَّق في كتف أو رقبة الطفل، وفعلاً يكون الطفل في راحة نفسية ظاهرة، فهل يجوز ذلك ؟
تعليق التعاويذ والكتابات على الكبار أو الأطفال لا يجوز؛ لأنه تعليق للتمائم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعليق التمائم (8) :
فإذا كانت هذه التمائم من الخزعبلات أو من الطلاسم أو يُكتَبُ فيها بكلامٍ لا يُعرَفُ معناه أو أسماء شياطين أو أسماء جن أو أسماء مجهولة أو غير ذلك؛ فهذا حرام؛ لأنه يُخِلُّ بالعقيدة ويجر إلى الشرك قطعًا بإجماع المسلمين .
وإن كانت هذه التمائم من القرآن أو من الأدعية الشرعية؛ فالصحيح من قولي العلماء أنه لا يجوز تعليقها أيضًا؛ لأن تعليقها وسيلة إلى تعليق ما لا يجوز من التمائم؛ فإذا فُتِحَ البابُ؛ توسّعَ الناس في هذا الشيء، وعلَّقوا ما لا يجوز . هذا من ناحية، والناحية الثانية؛ أنه يكون في تعليق القرآن على الطفل إهانة للقرآن؛ لأن الطفل لا يتحرز من دخول الخلاء ومن النجاسة وغير ذلك؛ ففي تعليق كلام الله عليه إهانة للقرآن الكريم فلا يجوز تعليق هذه الأشياء .(58/3)
وكونه يحصل راحة نفسية بذلك أو يحصل شفاء من مرض؛ هذا لا يدل على جواز هذا الشيء؛ لأن حصول الراحة أو شفاء المريض بعد تعليق هذه الأشياء : قد يكون وافق قضاءً وقدرًا وهم يظنون أنه بسبب هذا التعليق، وقد يكون هذا من باب الاستدراج لهم ومن باب العقوبة لهم حتى يقعوا فيما هو شر من ذلك؛ فحصول المقصود للإنسان الذي يعمل هذه الأشياء غير المشروعة لا يدل على جوازها؛ لأنه إما أن يكون هذا من باب الاستدراج والعقوبة والإملاء، وإما أن يكون هذا وافق قضاء وقدرًا لا علاقة له بتعليق هذا الشيء، فيظن الناس أنه بسبب تعليق هذا الشيء، فيُفتَتنونَ فيه .(58/4)
البدع وما يتصل بالأموات والقبور
94 ـ ما حكم تقسيم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة ؟ وهل يصِحُّ لمن رأى هذا التقسيم أن يحتجَّ بقول الرسول : ( مَن سنَّ سُنَّةً حسنةً في الإسلام . . . ) الحديث، وبقول عمرَ : ( نعمتِ البدعةُ هذه . . . ) ؟ نرجو في ذلك الإفادة، جزاكم الله خيرًا .
ليس مع من قسَّم البدعة إلى بدعةٍ حسنة وبدعةٍ سيئةٍ دليلٌ؛ لأن البدع كلَّها سيئةٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ) [ رواه النسائي في " سننه " ( 3/188-189 ) من حديث جابر بن عبد الله بنحوه، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/592 ) بدون ذكر : " وكل ضلالة في النار " من حديث جابر بن عبد الله . (1)] .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/704-705 ) من حديث جرير بن عبد الله . ] ؛ فالمرادُ به : من أحيا سنَّةً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بمناسبة ما فعلَهُ أحد الصَّحابة من مجيئه بالصَّدقة في أزمةٍ من الأزمات، حتى اقتدى به الناس وتتابعوا في تقديم الصَّدقات .
وأما قول عمر رضي الله عنه : " نعمتِ البدعةُ هذه " (2)؛ فالمراد بذلك البدعة اللغويَّة لا البدعة الشرعيَّةُ؛ لأنَّ عمر قال ذلك بمناسبة جمعه الناس على إمام واحد في صلاة التَّراويح، وصلاة التَّراويح جماعة قد شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث صلاها بأصحابه ليالي، ثم تخلَّفَ عنهم خشية أن تُفرضَ عليهم (3)، وبقي الناس يصلُّونها فرادى وجماعات متفرِّقة، فجمعهم عمر على إمام واحد كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليالي التي صلاها بهم، فأحيى عمر تلك السُّنَّة، فيكون قد أعاد شيئًا قد انقطع، فيُعتبَرُ فعله هذا بدعة لغويَّة لا شرعيَّةً؛ لأنَّ البدعة الشرعية محرَّمة، لا يمكن لعمر ولا لغيره أن يفعلها، وهم يعلمون تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من البدع (4).(59/1)
95 ـ التساهل في النهي عن البدع والأخطار أمر شائع عند الكثير من المثقفين الإسلاميين، حتى إن أحدهم يمر والناس يطوفون بالأضرحة وبالقباب دون أو يوجه كلمة؛ لأنه مشغول ومتوجه إلى قبة البرلمان كما يقول ! ما تعليقكم ؟ ! وما هو رأيكم في مشاركة بعض النيابيين في برلمانات الحكومة التي لا تطبق الشريعة ؟
قال صلى الله عليه وسلم : ( مَن رأى منكم مُنكرًا؛ فليُغيِّرهُ بيدِه، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( ج1 ص69-70 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] .
والطواف على القبور ودعاء أصحابها هو أعظم المنكر، ولا بدَّ لكل مسلم من إنكاره حسب استطاعته؛ فإن لم ينكره ولا بقلبه؛ فهذا دليل على عدم إيمانه .
وأما مشاركة المسلم في البرلمانات الكافرة؛ فهذه قضية تجب دراستها والإجابة عن حكمها لدى المجامع العلمية وجهات الفتوى .
96 ـ أخذ الناس يبتدعون أشياء ويستحسنونها، وذلك أخذًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مَن سنَّ سُنَّةً حسنةً في الإسلام؛ فله أجرها وأجرُ من عمل بها إلى يوم القيامة . . . ) إلى آخر الحديث؛ فهل هم مُحقُّون فيما يقولون ؟ فإن لم يكونوا على حق؛ فما مدلول الحديث السابق ذكره ؟ وهل يجوز الابتداع بأشياء مستحسنة ؟ أجيبونا عن ذلك أثابكم الله ؟
البدعة هي ما لم يكن له دليل من الكتاب والسنة من الأشياء التي يُتَقرَّب بها إلى الله .
قال عليه الصلاة والسلام : ( مَن أحدثَ في أمرُنا هذا ما ليس منه؛ فهو رَدّ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( ج3 ص167 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، وفي رواية : ( مَن عملَ عملاً ليس عليه أمرُنا؛ فهو رَدّ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( ج3 ص1343-1344 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .(59/2)
وقال عليه الصلاة والسلام : ( وإيَّاكُم ومُحدثاتِ الأمور؛ فإن كلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ وكلَّ بدعةٍ ضلالة ) [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 4/126، 127 ) ورواه أبو داود في سننه ( 4/200 ) ورواه الترمذي في سننه ( 7/319، 320 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية . ] .
والأحاديث في النهي عن البدع والمحدثات أحاديث كثيرة ومشهورة، وكلام أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من المحققين كلام معلوم ومشهور وليس هناك بدعة حسنة أبدًا، بل البدع كلها ضلالة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وكُلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ) .
فالذي يزعم أن هناك بدعة حسنة يخالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( فإن كلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ وكُلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ) ، وهذا يقول : هناك بدعة ليست ضلالة ! ولا شك أن هذا محادٌّ لله ولرسوله .(59/3)
أما قوله صلى الله عليه وسلم : ( مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً؛ فلهُ أجرُها وأجرُ مَن عمِلَ بها ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/704-705 ) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه . ] ؛ فهذا لا يدل على ما يقوله هؤلاء؛ لأن الرسول لم يقل من ابتدع بدعة حسنة، وإنما قال : ( مَن سنَّ سُنَّةً حسنةً ) ، والسنة غير البدعة، السنة هي ما كان موافقًا للكتاب والسنة، موافقًا للدليل، هذا هو السنة؛ فمن عمل بالسنة التي دل عليها الكتاب والسنة؛ يكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ يعني : من أحيى هذه السنة وعلمها للناس وبينها للناس وعملوا بها اقتداءً به؛ فإنه يكون له من الأجر مثل أجورهم، وسبب الحديث معروف، وهو أنه لما جاء أناس محتاجون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من العرب، عند ذلك رقَّ لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصابه شيء من الكآبة من حالتهم، فأمر بالصدقة وحث عليها، فقام رجل من الصحابة وتصدق بمال كثير، ثم تتابع الناس وتصدقوا اقتداءً به؛ لأنه بدأ لهم الطريق، عند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً؛ فلهُ أجرُها وأجرُ من عمِلَ بها ) ؛ فهذا الرجل عمل بسنة، وهي الصدقة ومساعدة المحتاجين، والصدقة ليست بدعة؛ لأنها مأمور بها بالكتاب والسنة؛ فهي سنة حسنة، من أحياها وعمل بها وبيّنها للناس حتى عملوا بها واقتدوا به فيها؛ كان له من الأجر مثل أجورهم .
97 ـ ذكرتم فضيلتكم أنَّ كلَّ بدعة ضلالة، وأنه ليس هناك بدعة حسنة، والبعض قسَّم البدعة إلى خمسة أقسام : بدعة واجبة، وبدعة مندوبة، وبدعة محرَّمة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة؛ فما هو الرَّدُّ على هؤلاء ؟(59/4)
الرَّدُّ أنَّ هذه فلسفة وجدل مخالفان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لك بدعة ضلالة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/592 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو جزء من حديث طرفه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب . . . " . ] ، وهم يقولون : ما كلُّ بدعة محرَّمة ! فهذه فلسفة في مقابل كلام الرَّسول صلى الله عليه وسلم وتعقيب على كلامه .
أمَّا ما ذكروه من بعض الأمثلة، وأنها بدعة حسنة؛ مثل جمع القرآن ونسخ القرآن؛ فهذه ليست بدعة، هذه كلُّها تابعة لكتابة القرآن، والقرآن كان يُكتَبُ ويُجمَعُ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه متمِّمات للمشروع الذي بدأه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهي داخلة فيما شرعَهُ .
كذلك ما قالوه من بناء المدارس، هذا كلُّه في تعليم العلم، والله أمر بتعليم العلم، وإعداد العُدَّة له، والرَّسول أمر بذلك؛ فهذا من توابع ما أمر الله به .
لكنَّ البدعة هي التي تحدُثُ في الدِّين، وهي ليست منه؛ كأن يُؤتى بعبادة من العبادات ليس لها دليل من الشرع، هذه هي البدعة .
98 ـ إذا كان التَّنبيهُ على البدعة المتأصِّلة سيُحدِثُ فتنةً؛ فهل السكوتُ عليها أولى ؟ أم يجب التّنبيه ويحدث ما يحدُثُ ؟(59/5)
حسبَ الظُّروف، إذا كان يترتَّبُ مضرَّةٌ أكثر من المصلحة؛ فهنا ارتكاب أخفِّ الضَّررين لدفع أعلاهما هو الأنسب، لكن لا تسكت عن البيان والدَّعوة إلى الله بالموعظة الحسنة وتعليم الناس شيئًا فشيئًا؛ فالله يقول جلَّ وعلا : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 . ] ؛ فإذا كان مثلاً إظهارُ الإنكار يُحدِثُ مفسدة أكبر؛ فنحن لا نُظهِر الإنكار أوَّل مرة، ولكن نعلِّمُ الناس، ونخبرُ ونبيِّنُ، ونبصِّرُ الناس حتى يترُكوا هذا الشيء من أنفسهم، والله جلَّ وعلا يقول : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 . ] ؛ فالجاهل يُبدأ معه بالحكمة واللين، وإذا رأينا منه بعض النُّفور؛ يوعَظُ ويُخوَّفُ بالله عز وجل، وإذا رأينا منه أنَّه لا يقبل الحقَّ ويريد أن يدافع الحقَّ بالقوَّة؛ فإنَّه يقابل بالقوَّة عند ذلك .
فالحاصل أنَّ القاعدة الشرعيَّة أنَّه يجوز ارتكاب أخفّ الضَّررين لتفادي أعلاهما، كذلك درءُ المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح .
ولكن هذا شيء مؤقَّتٌ؛ فنحن نتعامل مع هؤلاء الذين اعتادوا على هذا الشيء وأصرُّوا عليه، نتعامل معهم بالرِّفق واللِّين، ونبيِّن لهم أنَّ هذا خطأ لا يجوز، ومع كثرة التَّذكير والتَّكرار؛ فإن الله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء؛ فربَّما يتأثَّرون بالموعظة والتَّذكير، ويتركون هذا الشيء من أنفسهم؛ فنحن نتَّبِعُ الطُّرق الكفيلة لإنجاح المهمَّة، ونستعمل الحكمة في موضعها، والموعظة في موضعها، ونستعمل الشِّدَّة في موضعها، وهكذا يكون الدّاعية إلى الله عز وجل؛ فلكلِّ مقام مقال .
99 ـ نطلب من فضيلة الشيخ توضيح موقف السَّلف من المبتدعة، وجزاكم الله خيرًا .(59/6)
السَّلفُ لا يبدِّعون كل أحد، ولا يسرفون في إطلاق كلمة البدعة على كل أحد خالف بعض المخالفات، إنما يصفون بالبدعة من فعل فعلاً لا دليل عليه يتقرَّبُ به إلى الله؛ من عبادة لم يشرَعها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أخذًا مِن قوله صلى الله عليه وسلم : ( مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رَدّ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1343-1344 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، وفي رواية : ( مَن أحدثَ في أمرنا ما ليس منه؛ فهو رَدّ ) [ رواها الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/167 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
فالبدعة هي إحداث شيء جديد في الدِّين، لا دليل عليه من كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي البدعة .
وإذا ثبت أنَّ شخصًا ابتدع بدعةً في الدين، وأبى أن يرجع؛ فإنَّ منهج السَّلف أنَّهم يهجرونه ويبتعدون عنه، ولم يكونوا يجالسونه .
هذا منهجهم، لكن كما ذكرت، بعد أن يثبُت أنَّه مبتدع، وبعد أن يُناصح ولا يرجع عن بدعته؛ فحينئذٍ يُهجَرُ؛ لئلاً يتعدَّى ضرره إلى من جالسه وإلى من اتَّصل به، ومِن أجلِ أن يحذر الناس من المبتدعة ومن البدع .
أمَّا المغالاة في إطلاق البدعة على كلِّ من خالف أحدًا في الرأي، فيقال : هذا مبتدعٌ ! كل واحد يسمِّي الآخر مبتدعًا، وهو لم يحدث في الدِّين شيئًا؛ إلا أنه تخالف هو وشخص، أو تخالف هو وجماعة من الجماعات، هذا لا يكون مبتدعًا .
ومن فعل محرَّمًا أو معصية؛ يسمَّى عاصيًا، وما كلُّ عاصٍ مبتدع، وما كلُّ مخطئ مبتدع، لأنَّ المبتدع من أحدث في الدِّين ما ليس منه، هذا هو المبتدع، أمَّا المغالاة في اسم البدعة بإطلاقها على كلِّ من خالف شخصًا؛ فليس هذا بصحيح؛ فقد يكون الصَّواب مع المخالف، وهذا ليس من منهج السَّلف .(59/7)
100 ـ ما الحكم في الموالد التي ابتدعت في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم والتي يدعي من يقوم بها ويحييها من الناس أنك إذا أنكرت ذلك أو لم تشاركهم فيه؛ فلست بمحبٍّ للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأن في المولد الصلاة على النبي والمدائح؛ فأنت بفعلك هذا معارض للصلاة وكاره للنبي ؟
الموالد هي من البدع المُحدَثة في الدين، والبدع مرفوضة ومردودة على أصحابها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهوَ رَدّ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/167 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته إحياء الموالد لا في مولده صلى الله عليه وسلم ولا في مولد غيره، ولم يكن الصحابة يعملون هذه الموالد ولا التابعون لهم بإحسان ولم يكن في القرون المفضَّلة شيء من هذا، وإنما حدث هذا على أيدي الفاطميين الذين جلبوا هذه البدع والخرافات ودسوها على المسلمين، وتابعهم على ذلك بعض الملوك عن جهل وتقليد، حتى فشت في الناس وكثُرت، وظن الجُهَّال أنها من الدين وأنها عبادة، وهي في الحقيقة بدعة مضلّلة وتؤثِم أصحابها إثمًا كبيرًا، هذا إذا كانت مقتصرة على الاحتفال والذكر كما يقولون، أما إذا شملت على شيء من الشرك ونداء الرسول ( والاستغاثة به كما هو الواقع في كثير منها؛ فإنها تتجاوز كونها بدعة إلى كونها تجر إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله، وكذلك ما يخالطها من فعل المحرَّمات كالرقص والغناء، وقد يكون فيها شيء من الآلات المُطرِبَة، وقد يكون فيها اختلاط بين الرجال والنساء . . . إلى غير ذلك من المفاسد؛ فهي بدعة ومحفوفة بمفاسد ومنكرات .
وهذا الذي يريده أعداء الدين؛ يريدون أن يُفسدوا على المسلمين دينهم بهذه البدع وما يصاحبها من هذه المنكرات، حتى ينشغلوا بها عن السنة وعن الواجبات .(59/8)
فهذه الموالد لا أصل لها في دين الإسلام، وهي مُحدَثَة وضلالة، وهي مباءة أيضًا لأعمال شركية وأعمال محرمة كما هو الواقع .
وأما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمحبته عليه الصّلاة والسَّلام فرض على كل مسلم أن يحبه أحب مما يحب نفسه وأحب من ولده ووالديه والناس أجمعين عليه الصلاة والسلام .
ولكن ليس دليل محبته إحداث الموالد والبدع التي نهى عنها عليه الصلاة والسلام، بل دليل محبته اتباعه عليه الصلاة والسلام والعمل بما جاء به؛ كما قال الله سبحانه وتعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 . ] ؛ فدليل المحبة هو الاتباع والاقتداء وتطبيق سنته عليه الصلاة والسلام وترك ما نهى عنه وحذّر منه، وقد حذّر من البدع والخرافات، وحذّر من الشرك وحذّر من وسائل الشرك؛ فالذي يعمل هذه الأشياء لا يكون محبًّا للرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ادعى ذلك؛ لأنه لو كان محبًّا له؛ لتبعه؛ فهذه مخالفات وليست اتباعًا للرسول صلى الله عليه وسلم، والمحب يطيع محبوبه ويتبع محبوبه ولا يخالفه .
فمحبته صلى الله عليه وسلم تقتضي من الناس أن يتَّبعوه، وأن يقدِّموا سنته على كل شيء، وأن يعملوا بسنته، وأن يُنهى عن كل ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم . هذه هي المحبة الصحيحة، وهذا هو دليلها .
أما الذي يدَّعي محبته عليه الصلاة والسلام، ويخالف أمره؛ فيعصي ما أمر به، ويفعل ما نهى عنه، ويحدث البدع من الموالد وغيرها، ويقول : هذه محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ! هذا كاذب في دعواه ومُضلِّل يريد أن يُضلِّل الناس والعوام بهذه الدعوة .(59/9)
ومن حقه صلى الله عليه وسلم علينا بعد اتباعه الصلاةُ والسلام عليه؛ فهي مشروعة، وتجب في بعض الأحيان وفي بعض الأحوال؛ لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [ الأحزاب : 56 . ] ، فنصلي عليه في الأحوال التي شرع الله ورسوله الصلاة عليه فيها .
وأما البدع والمنكرات؛ فهذه ليست محلاً للصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ! كيف يصلي عليه؛ وهو يخالف أمره، ويعصي نهيه، ويرتكب ما حرَّمه الله ورسوله ؟ ! كيف يصلي عليه؛ وهو يحدث الموالد والبدع، ويترك السنة، بل ويُضَيِّع الفرائض ؟ !
101 ـ سائل يقول : نقيم بين حين وآخر مأدبة عشاء، وننحر الذبائح لوجه الله تعالى، ونجتمع على بركة الله، ونقيم ليلة نذكر فيها الله سبحانه وتعالى وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وإلقاء القصائد في مدح الرسول وآله وأصحابه الأطهار، ويرافقها ضرب الدفوف؛ فهل هذا العمل جائز أم لا ؟
هذا من البدع والمنكرات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي تُباعد عن الله عز وجل، وتُوجِب سخطه وعذابه؛ لأن هذه الاحتفالات وما يجري فيها من ذبح الذبائح وإنشاد المدائح كما تقول، وربما تكون مدائح شركية؛ كما في " البُردة " وغيرها من الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وإطرائه الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لا تطرُوني كما أطرَت النَّصارى ابنَ مريم ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 4/142 ) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه . ] ، وهذا الذكر التي تقول : إنه يُعمَلُ في هذه الليلة ! هذا من البدع؛ لأن الذكر لابد أن يكون على الوجه الشرعي، ولابد أن تتبع فيه الأدلة الشرعية؛ بدون أن تحدث له صفة خاصة أو في وقتٍ خاص أو في ليلة خاصة إلا بدليل من الكتاب والسنة .(59/10)
ذكر الله لا شك أنه مشروع، ولكن ذكر الله حسب ما ورد في الأدلة في الحالات وفي الصفات وفي الأزمنة التي شرع الله ذكره فيها، أما أن نبتدع ونخصِّص وقتًا أو ليلة لذكر الله عز وجل بدون دليل؛ فهذا من البدع المُحرَّمة .
وكذلك ما ذكرت من ضرب الدفوف وغير ذلك؛ هذا من المحرَّمِ؛ لأن الدفوف من اللهو من آلات اللهو، وآلات اللهو مُحرَّمة؛ كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يكونُ في أمتي أقوامٌ يستحِلُّونَ الحِرَّ والحريرَ والخَمْرَ والمعازِفَ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( ج6 ص243 ) من حديث أبو عامر أو أبو مالك الأشعري بلفظ ( ليكونن من أمتي . . . ) وللحديث بقية . . ] ، والمعازف هي آلات اللهو باختلاف ألوانها، ومنها الدفوف؛ لأنها آلة لهو؛ فهذا أيضًا من المنكرات .
فهذه الليلة التي تقولها لا يجوز إحياؤها وعملها؛ لأنها تشتمل على بدع وتشتمل على منكرات ومخالفات .
102 ـ يوجد لدينا رجل في العمل يقرُّ الاحتفال بالمَولد ( أي : مولد النبي صلى الله عليه وسلم ) ، ويدافع عنه، ويصرُّ على ذلك؛ هل أهجُرُه في الله أم لا ؟ ماذا أفعل ؟ وجزاكم الله خيرًا .
الاحتفال بالمولد النبويِّ بدعة، والذي يصوِّبه ويرغِّبُ فيه مبتدع، إذا أصرَّ على ذلك، ولم يقبل النَّصيحة، واستمرَّ على الدَّعوة إلى المولد والتَّرغيب فيه؛ فإنَّه يجب هجره؛ لأنَّه مبتدع، المبتدع لا تجوز مصاحبته .
103 ـ يوجد في بلدنا جبل، وفي هذا الجبل كهف صغير، ويعتقد بعض الناس أنه الكهف المذكور في القرآن، ولذلك تراهم دائمًا مجتمعين عنده، ويُقرِّبون عنده القرابين، ويذبحون عنده، ويضعون فيه العشرات من الأكفان وهذا الاعتقاد موجود منذ أكثر من مئتي سنة؛ فما هي نصيحتكم لهؤلاء الناس ؟ وما هي قصة الكهف الحقيقي ؟ وأين هو ؟ وفي أي زمان كانت قصة أصحاب الكهف ؟(59/11)
الكهف الذي ذكر الله في القرآن قصة أصحابه لم يبين الله سبحانه وتعالى في أي زمان هو ولا في أي مكانٍ هو؛ لأنه ليس لنا مصلحة في ذلك، وإنما العبرة فيما حصل لهم من النوم الطويل على حالتهم التي ذكرها الله، ثم إن الله سبحانه وتعالى بعثهم ليكون بذلك عبرة للعباد، ويستدلوا بذلك على البعث من القبور؛ لأن الذي أنام هؤلاء الفتية زمنًا طويلاً ثم بعثهم بعد مدة مع بقاء أجسادهم وشعورهم لم يضع منها شيء؛ هذا دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى وعلى أنه يبعث من القبور .
هذا موطن العبرة من هذه القصة، أما معرفة مكان الكهف، أو زمان حصول هذه القصة؛ فهذا ما لم يبينه الله جل وعلا؛ لأنه لا حاجة لنا بذلك .
وهذا الكهف الذي تذكر لا دليل على أنه الكهف المذكور في القرآن، والكهوف كثيرة في الأرض؛ فما الذي يُميز هذا عن غيره من الكهوف، ويجعله هو الكهف المعني في القرآن ؟ !(59/12)
وحتى لو ثبت أن هذا هو الكهف المذكور في القرآن؛ فإنه لا يجوز لنا أن نعمل حوله شيئًا من العبادات والطاعات؛ لأن العبادات توقيفية، لا يجوز الإقدام على شيء منها في زمان أو مكان أو نوعية العبادة إلا بتوقيف وأمر من الشارع، أما من أحدث شيئًا لم يأمر به الشارع من العبادات أو مكانها أو زمانها أو صفتها؛ فهي بدعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/592 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه . ] ، ويقول عليه الصلاة والسلام : ( عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي؛ تمسَّكُوا بها، وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمور؛ فإنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بدعَةٍ ضلالةٌ ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " 7/319، 320 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه . ] ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رَدّ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/167 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، وفي رواية : ( مَن عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا؛ فهو رَدّ ) [ رواها الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/156 ) مُعلقًا، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1343، 1344 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
بل إن هذه الأعمال التي ذكرتها تتجاوز البدعة إلى الشرك؛ لأن التقرب إلى الأمكنة أو التقرب إلى الأموات أو التقرب إلى أي مخلوقٍ بنوع من العبادة يُعتبر شركًا أكبر مُخرِجًا من المِلَّة .(59/13)
فالواجب عليكم أن تنصحوا وتبينوا لهم عقيدة التوحيد، وأن المؤمن يجب عليه إخلاص العقيدة وإخلاص التوحيد، وإخلاص العبادة لله عز وجل، كما يجب عليه أن يتجنب البدع والمُحدَثَات، ولا يعتمد على حكايات العوام وأخبار العوام، ولا يقتدي بأفعال العوام والجُهّال ولا العلماء المُضلِّلين، وإنما يعتمد على ما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان لا يستطيع معرفة ذلك من الكتاب والسنة؛ فعليه أن يسأل المحقِّقين من أهل العلم والراسخين في العلم والناصحين لعباد الله المُتَمَسِّكين بالعقيدة الصحيحة الذين يُمَيِّزون بين الحق والباطل وبين الهُدى والضلال، حتى يكون على بصيرة من أمره، ولا سيما أمر العقيدة؛ فإنَّ العقيدة هي ضمانة النجاح في الدنيا والآخرة والخلاص من عذاب الله؛ فمن فسدت عقيدته؛ فإنه يكون خاسرًا في الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، ومن صلُحت عقيدته؛ يكون هو السعيد في الدنيا والآخرة .
إذن؛ فالأمر ليس أمرًا سهلاً، وإنما أمرٌ تترتب عليه النجاة أو الهلاك .
فعلى المسلم أن يهتم بعقيدته، وأن يحافظ عليها، وأن يسأل عما أشكلَ عليه أهل العلم المخلصين الذين هم القدوة وبهم الأسوة، يقول الله تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 . ] . وبالله التوفيق .
104 ـ سائلة تقول : أنا من عائلة ديِّنة، وأقيم الفرائض والحمد لله على هدايته، وقد كان أجدادي في حياتهم محافظين على المبادئ الدينية الصحيحة، وتيمنًا بهم فإننا نقوم بزيارة لقبورهم أنا وأولادي بين فترةٍ وأخرى، وننذر لوجه الله تعالى ولروح النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والآل الكرام، ونفي لهم بالنذور بإطعام المساكين أو توزيع الطعام لوجه الله ولروح النبي صلى الله عليه وسلم ولأرواحهم؛ فهل يجوز لنا ذلك ؟(59/14)
أمَّا ما ذكرت السائلة من صلاح آبائها وصلاحها؛ فنرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون ذلك صحيحًا، وأن يتقبل منا ومنهم .
وأما ما ذكرت من التيمن بزيارة قبورهم؛ فهذا لا يجوز؛ لأن التيمن بزيارة القبور يعتبر من البدع أو من وسائل الشرك، وإذا كان القصد التبرك بزيارة قبورهم والاستغاثة بهم؛ فهذا شرك أكبر .
وإنما تُزَارُ القبورُ لأحد أمرين :
إما للدعاء للأموات والاستغفار لهم والترحم عليهم .
وإما للاعتبار بحالهم وتذكر الآخرة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( زُورُوا القُبورَ؛ فإنّها تُذَكِّرُ بالآخرة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/671 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( . . . فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/9 ) من حديث بريدة بلفظ : ( . . . فزوروها . . . ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) من حديث بريدة رضي الله عنه بلفظ : ( . . . فزوروها؛ فإن في زيارتها تذكرة ) . ] .
وأما أن تُزَارَ للتيمن بها؛ فهذا لا يجوز ولا يُقرّه الإسلام .
وأما ما ذكرت من فعل النذور لروح النبي صلى الله عليه وسلم ولأرواح الموتى؛ فهذا أيضًا لا يجوز؛ لأنه لم يكن من هدي السلف الصالح والقرون المُفَضَّلة أنهم ينذرون لروح النبي صلى الله عليه وسلم، وربما يكون هذا شركًا أكبر إذا كان النذر لروح النبي من باب التقرب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النذر عبادة، وصرفها لغير الله من الشرك الأكبر، وإن كان القصد أنهم ينذرون لله عز وجل ويهدون ثوابه لروح النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا من البدع؛ لأنه شيء لا دليل عليه من الكتاب والسنة ولم يفعله السلف الصالح، وإنما الواجب للنبي صلى الله عليه وسلم علينا محبته واتباعه والاقتداء به والصلاة والسلام عليه وسؤال الله الوسيلة له بعد الأذان .
وكذلك النذر لأرواح الموتى؛ إما أنه من وسائل الشرك، أو من الشرك .(59/15)
إذا كان النذر يُقصَدُ به التقرب إلى الموتى فإنه يكون شركًا أكبر يُخرِجُ من المِلَّة، وإن كان النذر لله سبحانه وتعالى ويُهدى ثوابُهُ للموتى؛ فهذا أيضًا لم يَرِد به دليلٌ؛ فهو بدعة ووسيلة للشرك .
وإنما الذي ينبغي أن يُتصَدَّق عن الميت على المحتاجين؛ فالمشروع هو الصدقة عن الميت والدعاء للميت والاستغفار له، هذا هو المشروع لأموات المسلمين، وكذلك زيارة قبورهم على ما ذكرنا بالدعاء لهم والاستغفار لهم والترحم عليهم والاعتبار بحالهم، وهذا خاص بالرجال، أما المرأة؛ فلا يجوز لها أن تزور القبور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لَعَنَ الله زوَّاراتِ القبورِ ) [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ( 2/337 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن . . . " ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/12 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن . . . " ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/502 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . " . ] ، وفي رواية : ( لَعَنَ الله زائراتِ القُبُورِ ) [ رواها الإمام أحمد في " المسند " ( 1/229 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . " ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . " ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 2/4 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . " . ] .
واللعن يقتضي أن هذا كبيرة من كبائر الذنوب؛ فلا يجوز للمرأة أن تزور القبور، وإنما هذا خاص بالرجال .(59/16)
105 ـ في مجتمعنا عادة بالنسبة للمقابر؛ فكل أسرة من الأسر تخصص لها مكانًا من أرضها مقبرة لا يُقبَرُ فيها إلا من كان من تلك الأسرة، وأحيانًا تكون الأرض المخصصة للمقبرة صغيرة، فيدفنون في القبر الواحد أكثر من ميت، إلى أن يصير أحيانًا أربع طبقات أو خمس، إضافة إلى نوع آخر من القبور تسمية " الفاسقية " ، وهذه لا يكون فيها من الموتى عدد كبير؛ فهل يجوز هذا العمل أم لا ؟
من حيث المبدأ؛ لا مانع أن تُخصِّص الأسرة أرضًا تكون مقبرة لأفرادها، ما دام أن هذه البقعة صالحة للدفن وواسعة تسع أمواتًا كثيرين؛ فإذا انتهت وضاقت ولم يبق فيها محل للقبور المستقبلة؛ فإن الموتى يُدفنون في مكان آخر ولا يُدفنون في القبور التي سبقوا إليها؛ لأنه لا يجوز أن يُدفن في القبر المتقدم ميت جديد إلا بعد أن يتحلل جسم الأول ويفنى ولا يبقى له بقية، أما ما دام الجسم الأول له بقية وله رفات؛ فإنه لا يجوز أن يُدفَن معه ميت آخر؛ لأن الأول سبق إلى هذا وصار مًختصًا به .
وكذلك لا يجوز أن يُدفَن في الأرض المملوكة لأشخاص أو الموقوفة لأموات أسرة معينة أن يُدفن معهم غيرهم .
وإذا كان القتلى كثيرين، وليس هناك من يستطيع دفن كل ميت على حدة؛ فعند الحاجة لا بأس أن يُدفنَ في القبر الواحد أكثر من ميت؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أُحد رضي الله عنهم (5).
106 ـ آبائي وأجدادي كانوا يقيمون الفرائض الدينية، ولنا مقبرة خاصة كانوا قد دُفِنُوا فيها، ودُفِنَ معهم من أبناء منطقتنا وأبناء العشائر الأخرى، وشُيدت لبعض المتمسِّكين منهم بالدين كثيرًا بعضُ القبور المتميزة؛ فهل يجوز لنا أن نسكن بالقرب منهم على المقبرة، وإن كان بعض منا قد سكن منذ مدة؛ فماذا يفعل ؟(59/17)
إن كان القصد أنه بُني على بعض هذه القبور قباب وبُني عليها بنايات تعظيمًا لها؛ فهذا لا يجوز، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتخذون القبور مساجد (6)، ونهى عن البناء على القبور (7)؛ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأبي الهياج : ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن لا تَدَعَ قبرًا مُشرِفًا إلا سوَّيتَه ولا صورةً إلا طمستها ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 2/666 ) من حديث أبي الهياج الأسدي رضي الله عنه . ] ، والقبر المُشرف هو المرفوع بالبناء وغيره؛ لأن هذا يلفت النظر إليه، وربما يكون وسيلة للشرك به مع تطاول الزمن وفشوّ الجهل بين الناس كما هو الواقع .
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور، ونهى عن تجصيصها (8)، ونهى عن الكتابة (9) عليها، ونهى عن إسراجها بالسرج والقناديل؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( لَعَنَ الله زوَّارات القبورِ والمُتَّخذين عليها المساجدَ والسُّرُجَ ) [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ( 2/337 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن . . . ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/12 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/502 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . ) . ] .
أما إذا كان القصد أنها بُني عليها مساكن، وجُعل طابقٌ فوق القبور؛ فهذا لا يجوز؛ لأن فيه إهانة للقبور، أما السكن في المساكن القريبة؛ فلا مانع منه، إذا لم يحصل منه أذية للقبور وامتهان لها .
107 ـ يضع بعض الناس علامة حجر كبير من الرُّخام أو وسمًا معينًا لمعرفة قبر الميِّت حتى تتمَّ زيارته بدون التبرُّك وخلافه ؟(59/18)
لا بأس بوضع الحجر على القبر؛ ليكون علامة يُعرَفُ بها عند زيارته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل هذا في قبر عثمان (10)، أمَّا الكتابة على القبر؛ فإنَّها لا تجوز؛ لنهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك (11)، ولأنَّ هذا وسيلة إلى الشِّرك والغلوِّ فيها .
108 ـ هل يجوز كتاب اسم الميت على حجر عند القبر أو كتابة آية من القرآن في ذلك ؟
لا يجوز كتاب اسم الميت على حجر عند القبر أو على القبر؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك (12)، حتى ولو آية من القرآن، ولو كلمة واحدة، ولو حرف واحد؛ لا يجوز .
أمَّا إذا علَّم القبر بعلامة غير الكتاب؛ لكي يُعرف للزِّيارة والسَّلام عليه، كأن يخطَّ خطًّا، أو يضع حجرًا على القبر ليس فيه كتابة، من أجل أن يزور القبر ويسلِّم عليه؛ لا بأس بذلك .
أمَّا الكتابةُ؛ فلا يجوز؛ لأنَّ الكتابة وسيلة من وسائل الشِّرك؛ فقد يأتي جيلٌ من الناس فيما بعد، ويقول : إنَّ هذا القبر ما كُتِبَ عليه إلا لأنَّ صاحبه فيه خيرٌ ونفعٌ للناس، وبهذا حدثت عبادة القبور .(59/19)
109 ـ يوجد لدينا في بعض المناطق، وخصوصًا عشيرتي التي أنتمي إليها، ما يلي في موضوع العزاء والوفياتِ : يقومون بالتَّوافُدِ لدى أقرباء الميت في أعداد كبيرة، وقد يقومون بنصب الخيام في بعض الأحيان لكثرة الزِّحام، ويستقبلون الوفود من العشائر الأخرى، وكل عشيرة معهم شخص يقومُ بالتحدُّث، ويسرد جمعًا من الآيات في الموت والصَّبر، قبل أن يتناول القهوة، ويقول من العبارات كثيرًا؛ مثل : " بلغنا مَن تقدَّست روحُه إلى الجنَّةِ . . . " وأشباهِها ممَّا هو كثير لا يتَّسع المقام لذكره؛ نأمل منكم إخبارنا عن حكم ذلك ؟ وإيضاح الصَّحيح في أمر التَّعزية من جهة المدَّة والمكان والأدعية التي يقولُها من يقدم على مثل هذه الجموع، نُريدُ ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، كما أنّني آمُلُ وأرجو من الله أولاً ثمَّ من أصحاب الفضيلة العلماء وفَّقهم الله الاطلاع على هذه المخالفات في التَّعازي عند كثير من العشائر، وكتابة رسائل في ذلك إذا أمكن ذلك؛ ليعِيَ الناسُ الأحكام الشرعيَّة .
التَّعزية عند الوفاة مشروعة؛ لأنَّها من باب المواساة، وفيها دعاء للميِّت، وذلك بأن يقول المعزِّي لمَن أُصيب بوفاة قريبٍ : أحسنَ الله عزاءَك، وجَبَر مصيبَتَكَ، وغفرَ لميِّتِك .
ولا ينبغي أن يكون هناك مبالغات في العزاء؛ من نَصبِ الخيام، والاجتماع الكبير، والتوسُّع في صنعة الطَّعام والولائم؛ قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه : ( كُنَّا نَعُدُّ صنعة الطَّعام والاجتماع إلى أهل الميِّت مِن النِّياحة ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/204 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/514 ) ؛ من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه . ] .(59/20)
وإنَّما السُّنَّة أن يُصنَعَ طعامٌ من أحد أقارب المُصابين أو جيرانهم، يُقَدَّمُ إليهم بقدر حاجتهم، من باب المواساة لهم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لأهله لمَّا بلَغَهُ استشهادُ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه : ( اصنعوا لآل جعفرٍ طعامًا؛ فإنَّه جاءَهم ما يشغَلُهم ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/205 ) من حديث عبد الله بن جعفر، ورواه الترمذي في " سننه " ( 3/379 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/191 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/514 ) ؛ كلهم من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه . ] .
ثم إنه لا ينبغي الجلوس للعزاء في مكان مخصَّص والإعلان عن ذلك، وإنما يعزَّى المصاب إذا التقي به في أيِّ مكان، ويكون في الوقت القريب من حصول الوفاة . والله أعلم .
110 ـ في مدينتنا عادةٌ غريبٌ، وذلك أنهم إذا دفنوا الميِّتَ، وانتهوا من دفنه؛ وقف رجل على القبر، وقال : يا فلان ابن فلان ! إذا سُئِلتَ : مَن ربُّك ؟ فقل : ربِّي الله . وإذا سُئِلتَ : ما دينُك ؟ فقل : ديني الإسلام . وإذا سُئلتَ : من نبيُّك ؟ فقل : محمد صلى الله عليه وسلم فهل لهذه العادة أصل في دين الله عز وجل من قريب أو بعيد ؟ أفتونا مأجورين .
هذا ما يسمَّى بالتَّلقين، ويُروى فيه حديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا يجوز فعله، ويجب إنكاره؛ لأنه بدعة .
والثَّابتُ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه إذا فُرِغَ من دفن الميِّتِ؛ وقف على قبره وهو وأصحابه، وقال : ( استغفروا لأخيكم، واسألوا له التَّثبيت؛ فإنه الآن يُسأل ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 3/213 ) من حديث هانئ مولى عثمان بن عفان، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/370 ) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه . ] ، وذلك بأن يُقال : اللهم ! اغفر له، واللهم ! ثبِّتهُ . ولا يُنادى الميِّت ويلقَّنُ كما يفعل هؤلاء الجهَّالُ . والله أعلم .(59/21)
111 ـ أسمعُ من بعض الناس أنَّ هناك صلاة تسمَّى صلاة الفدية أو الهديَّة، تنفعُ الميِّتَ في قبره؛ فما صحَّةُ تلك الأقاويل ؟
ليس هناك صلاة تسمَّى صلاة الفدية أو الهدية تنفع الميِّتَ، وهذه الصلاة مُبتدعَةٌ مكذوبة، والذي ينفعُ الميِّت أن يُعملَ له ما شرعَهُ الله من الصَّدقة والدُّعاء والاستغفار له والحج والعمرة له، وما لم يثبُت بدليل صحيح؛ فهو بدعة يضرُّ ولا ينفع؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( مَن عملَ عملاً ليس عليه أمرُنا؛ فهو رَدٌّ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1343-1344 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
112 ـ ما حكم بناء القبور في المساجد ؟ وخاصَّة أنَّ شخصًا قال لي : إنَّ قبر الرَّسول صلى الله عليه وسلم موجود في المسجد النبوي ؟
نهى النبيُّ عن البناء على القبور، وأمر بتسويتها (13)؛ لأنَّ البناء على القبور وسيلة إلى عبادتها من دون الله؛ كما حصل للأمم السابقة، وكما حصل في الإسلام، لمَّا بنى الجهَّال والضُّلاَّل على القبور؛ حصل من الشرك بسبب ذلك ما هو معلوم .
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يُبْنَ على قبره، وإنَّما دُفن في بيته صلى الله عليه وسلم خوفًا من أن يُتَّخَذَ مسجدًا لو دُفِنَ بارزًا مع أصحابه؛ كما قالت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها : لما نُزلَ برسول الله صلى الله عليه وسلم ( يعني : نزل به الموتُ ) ؛ جعل يطرحُ خميصةً لهُ على وجهه، فإذا اغتمَّ بها؛ كشفها، فقال وهو كذلك : ( لعنةُ الله على اليهودِ والنَّصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ ) ؛ يحذِّر ما صنعوا، ولولا ذلك؛ لأبرزَ قبره؛ غير أنَّه خُشِيَ أن يُتَّخذ مسجدًا . رواه الشَّيخان (14)
وبه يُعلَمُ أنه لم يُبنَ على قبر النبي صلى الله عليه وسلم قصدًا، وإنما دُفن في بيته؛ حفاظًا عليه من الغلوِّ فيه وافتتان العوامِّ به . والله أعلم .(59/22)
113 ـ يرى البعض من الناس أنَّ لقبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم مزيَّةً خاصَّة على غيره، تُبرِّرُ الطَّواف به والدُّعاء والصلاة إليه، إلى أيِّ حدٍّ يصحُّ هذا القول ؟ وهل لزيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم أدبٌ خاصٌّ ؟
قبر النبي صلى الله عليه وسلم تُشرعُ زيارته لمن زار مسجده صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز السَّفر لقصد زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وإنَّما يُشرع السَّفر من أجل زيارة مسجده الشَّريف والصلاة فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثة مساجدَ : المسجدِ الحرامِ، ومسجدي هذا، والمسجدِ الأقصى ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 2/56 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ، وفي رواية : ( لا تَشُدُّوا ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/976 ) من حديث أبي سعيد الخدري . ] ؛ بالنَّهي .
فلا يجوز السَّفر لزيارة القبور؛ لا قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا قبر غيره من الأنبياء والصَّالحين، ولا يجوز السَّفر من أجل الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة، ومن باب أولى منع السَّفر للمساجد المبنيَّة على القبور؛ لأنها مشاهد بُنِيَت للشِّرك وعبادة غير الله .
وآداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم : أنَّ مَن زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يسلِّمُ عليه، فيقول : السلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته . ثم يسلِّم على صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (15)، ثم لِينصرف .
ولا يجوز الطَّواف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا بقبر غيره من الأولياء والصَّالحين؛ لأنَّ الطَّواف من خصائص الكعبة المشرَّفة، وهو عبادة لله سبحانه، لم يَشرَعها في غير الكعبة .(59/23)
ولا يجوز الدُّعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم ولا قبر غيره، وإنَّما يكون الدُّعاء في المساجد والمشاعر المقدَّسة في عرفات ومزدلفة ومنى وفي الطَّواف بالبيت والسَّعي بين الصَّفا والمروة، هذه هي الأماكن المخصَّصة للدُّعاء، وما سواها لا مزيَّة له؛ فلا يجوز تخصيصه إلا بدليل، والدُّعاء عند القبور وسيلةٌ إلى الشِّرك؛ فالدُّعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم وعند قبر غيره بدعة ووسيلة من وسائل الشِّرك .
والأدب الذي ينبغي عند زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم هو الهدوء وعدم رفع الصَّوت، ويجب تجنُّبُ البدع التي يفعلها بعض الجهَّال عند قبره صلى الله عليه وسلم وطلب الحوائج منه، وهذا شركٌ أكبر .
وكذلك يُكره تكرار زيارة قبره صلى الله عليه وسلم كلَّما دخل المسجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال : ( لا تتَّخذوا قبري عيدًا ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/367 ) من حديث أبي هريرة، ورواه أبو داود في " سننه " ( 2/225 ) من حديث أبي هريرة . ] ، ولم يكن الصَّحابة رضي الله عنهم يزورون قبره كلَّما دخلوا المسجد، وإنما كان بعضُهم يفعل ذلك إذا قدم من سفر؛ كابن عمر رضي الله عنه (16)، والله أعلم .
114 ـ كان يوجد في قريتنا رجل صالح، فلمَّا مات؛ قام أهلُه بدفنه بالمسجد الصَّغير الذي نؤدِّي به الصلاة، والذي بناه هذا الرجل في حياته، ورفعوا القبر عن الأرض ما يقارب المتر، وربَّما أكثر، وبعد عدَّة سنوات قام ابنُه الكبير بهدم المسجد الصَّغير، وإعادة بنائه على شكل مسجد جامع أكبر من الأوَّل، وجعل هذا القبر في غرفة منعزلة داخل المسجد؛ فما حكم هذا العمل والصلاة في المسجد ؟(59/24)
بناء المساجد على القبور أو دفن الأموات في المساجد؛ هذا أمر يحرِّمه الله ورسوله وإجماع المسلمين، وهذا من رواسب الجاهليَّة، وقد كان النَّصارى يبنون على أنبيائهم وصالحيهم المساجد؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا ذكرت له أمُّ سلمة كنيسةً رأتها بأرض الحبشة وما فيها من التصاوير؛ قال عليه الصلاة والسلام : ( أولئكَ إذا ماتَ فيهمُ العبدُ الصَّالحُ ( أو : الرَّجُلُ الصَّالحُ ) ؛ بَنَوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك التَّصاوير، أولئك شِرارُ الخلق عند الله ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/112 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/377، 378 ) من حديث جندب رضي الله عنه . ] . . . إلى غير ذلك من الأحاديث التي حذَّر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسلُكَ هذه الأمة ما سلكت النَّصارى والمشركون قبلهم من البناء على القبور؛ لأنَّ هذا يُفضي إلى جعلها آلهة تُعبَدُ من دون الله عز وجل؛ كما هو الواقع المشاهد اليوم؛ فإنَّ هذه القبور والأضرحة أصبحت أوثانًا عادت فيها الوثنيَّة على أشدِّها؛ فلا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم .
والواجب على المسلمين أن يحذَروا من ذلك، وأن يبتعدوا عن هذا العمل الشَّنيع، وأن يزيلوا هذه البنايات الشِّركيَّة، وأن يجعلوا المقابر مبتعدة عن المساجد، المساجد للعبادة والإخلاص والتوحيد، { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } [ النور : 36 . ] ، والمقابر تكون لأموات المسلمين، وتكون متَّحدة؛ كما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرون المفضَّلة .(59/25)
أمَّا أن يُدفنَ الميِّتُ في المسجد، أو يُقام المسجد على القبر بعد دفنه؛ فهذا مخالف لدين الإسلام، مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، وهو وسيلة للشِّرك الأكبر الذي تفشَّى ووقع في هذه الأمة بسبب ذلك .
والحاصل أنَّه يجب عليكم أيُّها السائل، وكلَّ من يسمعُ من المسلمين، يجب عليهم إزالة هذا المنكر الشنيع .
فهذا الميِّتُ الذي دُفِنَ في المسجد بعد بناء المسجد واستعماله مسجدًا، ثم دُفِنَ فيه هذا الميت، الواجب أن يُنبشَ هذا الميت، ويُنقلَ، ويُدفَنَ في المقابر، ويُخلَّى المسجد من هذا القبر، ويُفرَّغَ للصلاة وللتَّوحيد وللعبادة، هذا هو الواجب عليكم .
115 ـ في قريتنا مسجد، وبداخله قبر شيخ يُدعى البُستانيَّ؛ فهل يجوز إزالة هذا القبر المبنيّ بداخل المسجد، ويُدخَلَ مكانه في ساحة المسجد ؟ فهناك أناس يقولون : إنَّ هذا خطأ . وأناس يقولون : الشيخ لا يضرُّ ولا ينفعُ؛ فلا داعي لإزالته . علمًا بأنَّ فيه حجرة تُذبح فيها الذَّبائح من نذور وغيره؛ فماذا علينا أن نفعل به ؟ أرشدونا وفَّقكم الله .(59/26)
لقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من بناء المساجد على القبور واتِّخاذها معابد : قال صلى الله عليه وسلم : ( اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتَّخذوا مقابر أنبيائهم وصالحيهم مساجد ) [ رواه الإمام مالك في " الموطأ " ( 1/172 ) من حديث عطاء بن يسار، ورواه عبد الرزاق الصنعاني في " مصنفه " ( 1/406 ) من حديث زيد بن أسلم بدون ذكر ( وصالحيهم ) . ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ مَن كان قبلَكُم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا؛ فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد؛ فإنِّي أنهاكُم عن ذلك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/377-378 ) من حديث جندب . ] . . . وغير ذلك من الأحاديث الواردة في منع هذا العمل القبيح الذي يؤول بالقبور إلى أن تكون أوثانًا تُعبَدُ من دون الله، وتُذبحُ لها القرابين، وتُقرَّبُ لها النُّذور؛ كما ذكر السّائل؛ فإنّ هذا من أفعال الجاهليَّة، ومن فعل اليهود والنَّصارى مع أنبيائهم والصَّالحين منهم، وهذا هو الذي أوقع الشِّرك في قوم نوح عليه السَّلام لمَّا غلَوا في الصَّالحين والأموات، وعبدوهم من دون الله، فنسأل الله العافية والسَّلامة .
وقد وقع ما حذَّر منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، فاتُّخذت القبور مساجد في كثير من الأمصار، وبُنِيَت عليها القباب، وصُرِفَت لها كثيرٌ من أنواع العبادات، وطُلِبَت منها الحوائج من دون الله عز وجل؛ فلا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم .(59/27)
أمَّا ما سأل عنه من أنه : هل يُخرجُ القبر من المسجد أو لا ؟ فالواجب على المسلمين أن ينظروا في هذا الأمر : فإن كان القبر سابقًا على المسجد، وبُني المسجد عليه بعد ذلك؛ فالواجب هدمُ المسجد وإبقاءُ القبر على ما هو عليه؛ لأن الأحقِّيَّة للقبر، والمسجد هذا مسجد أسِّسَ على الشِّرك وعلى معصية الله ورسوله، ويجب هدمُهُ . أمَّا إذا كان العكس، وهو أنَّ المسجد بُنِيَ من الأوَّل على أساس شرعيٍّ وعقيدة سليمة، ثمَّ دفن فيه بعد ذلك؛ فالواجب نبشُ القبر، وإخراجه من المسجد، ودفنه في المقابر، وعود المسجد إلى شرعيَّته، والتخلُّص من هذا الجرم العظيم .
هذا هو ما يجب على المسلمين، وفَّق الله الجميع لما يحبُّه ويرضاه، ووفَّق هذه الأمة إلى أن تطبِّقَ أحكام دينها وما وصَّى به رسولها صلى الله عليه وسلم .
116 ـ لو فُرِضَ أن المسجد هو السابق قبل القبر؛ فما حكم الصلاة فيه قبل أن يُنبشَ القبر ؟
ما دام المسجد فيه القبر، ويُقصَدُ للعبادة وذبح النُّذور؛ فلا تجوز الصلاة فيه؛ لأنه أصبح أثرًا شركيًّا ومعبدًا جاهليًّا لا تجوز الصلاة فيه .
117 ـ وجدت في كتاب " الرَّوض المُربِع " للإمام أحمد بن حنبل أنَّ سبعة أماكن لا تجوز فيها الصلاة، ومن هذه الأماكن المقبرة، وعندنا في بلدنا يصلُّون على الميِّت في المقبرة قبل الدَّفن؛ فما حكم ذلك ؟
السائل يقول : وجدتُ في " الرَّوض المُربِع " للإمام أحمد بن حنبل، والكتاب المذكور ليس للإمام أحمد بن حنبل، لكنَّه لأحد مشايخ مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وهو منصور بن يونُسَ البَهوتيُّ، شرح فيه " زاد المُستنقع " للشيخ موسى بن سالم الحجاويِّ، والكتاب المذكور وأصله كلاهما على المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل عند المتأخِّرين من أصحابه .
ومن المواضع التي ذُكر أنَّ الصلاة لا تصحُّ فيها : المقبرة، وهي مَدفَنُ الموتى .(59/28)
وقد ورد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه الترمذيُّ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الأرضُ كلُّها مسجدٌ؛ إلا المقبرة والحمَّام ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 1/431-432 ) من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه أبو داود في " سننه " ( 1/130 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] .
وروى مسلم عن أبي مرثدٍ الغنويِّ رضي الله عنه؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تجلسوا على القبور، ولا تُصلُّوا إليها ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/668 ) من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه . ] .
وعلى هذا؛ فإن الصلاة في المقبرة لا تجوز، والصلاة إلى القبور لا تجوز؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّنَ أنَّ المقبرة ليست محلاً للصَّلاة، ونهى عن الصَّلاة إلى القبر، والحكمة من ذلك أنَّ الصلاة في المقبرة أو إلى القبر ذريعة إلى الشِّرك، وما كان ذريعة إلى الشِّرك؛ كان محرَّمًا؛ لأنَّ الشارع قد سدَّ كلَّ طريق تؤدِّي إلى الشِّرك، والشَّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدَّم، فيبدأ أولاً في الذَّرائع والوسائل، ثم يبلغ به الغايات .
فلو أنَّ أحدًا من الناس صلَّى صلاة فريضة أو صلاة تطوُّع في مقبرة أو إلى قبر؛ فصلاته غير صحيحة .
أما الصلاة على جنازة؛ فلا بأس بها؛ فقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه صلى على القبر في قصَّة المرأة أو الرجل الذي كان يقمُّ المسجد، فمات ليلاً، فلم يخبر الصَّحابة النبي صلى الله عليه وسلم بموته، فلمَّا أصبح؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( دُلُّوني على قبره _أو : قبرها_ ) . فدلُّوه، فصلَّى عليه صلوات الله وسلامُه عليه [ انظر : " صحيح البخاري " ( 2/92 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .(59/29)
فيُستثنى من الصلاة الصلاة على القبر، وكذلك الصلاة على جنازة قبل دفنها؛ لأن هذه صلاة خاصَّة تتعلَّق بالميِّت؛ فكما جازت الصلاة بعد الدَّفن على الميت؛ فإنها تجوز الصلاة عليها قبل الدَّفن .
118 ـ
في بلدتي عادات جاهلية، وخاصة عندما يموت أحد الناس، تقوم النساء بالحضور عند أهل الميت، ويقمن بالنياحة الشديدة والبكاء المتواصل، وعندما تسير الجنازة بعد غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه؛ يتبعها النساء باللطم والنياحة ووضع التراب على رؤوسهن، دون أن ينكر عليهن أو ينهاهن أحد خشية من أن يقمن بالدعاء عليه، وتبقى النساء كذلك حتى الانتهاء من دفنه، ثم تقوم أم الميت أو أخته بوضع نوع من الطعام أو الفاكهة على قبره، مدعيات أن الميت يأكلها في الليل؛ حيث إنهم إذا وضعوها لا يجدون منها في الصباح إلا القليل، ولكن الحقيقة أن الحيوانات البرية المطلقة هي التي تأكل ذلك دون علم أهل الميت، وبعد أربعين يومًا من وفاته يقوم أهله أو أقرباؤه بعمل عشاء كبير، يحضره لفيف من الأهل والأقرباء والغرباء أحيانًا، وبعد الأكل تُشربُ القهوة والشاي، وما تبقى يُسكَبُ على الأرض حُزنًا على الميت، وبعدها تنتهي التعزية، ويذهب الناس، ويفعلون ذلك بكل إنسان يموت .
والسؤال : ما هو حكم هذه الأفعال ؟ وما حكم من يفعلها ؟ وما هي نصيحتكم لهؤلاء الناس ؟
هذا السؤال يتكون من ذكر عدة أمور، وكلها منكرات يفعلونها :(59/30)
الأمر الأول : النياحة على الميت، والنياحة مُحرَّمة وكبيرة من كبائر الذنوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( النائحَةُ إذا لم تَتُب قبل موتها؛ تُقام يوم القيامة وعليها سربالٌ من قطران ودرع من جَرَبٍ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( ج2 ص644 ) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه . ] ، ولعن صلى الله عليه وسلم الحالقة والصالقة والشاقة (17)، والحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والصالقة هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والشاقة هي التي تشق ثوبها عند المصيبة .
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن النياحة من أمر الجاهليَّة (18)؛ فالواجب التوبة من ذلك وترك النياحة على الميت؛ لأن هذا من التسخط على قدر الله وقضائه، والواجب عند ذلك إظهار الصبر والتحمل والاحتساب؛ يقول الله سبحانه وتعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 155-157 . ] ، ويقول سبحانه وتعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 . ] ؛ قال بعض السلف : { يُؤْمِن بِاللَّهِ } : يعلمُ أن المصيبة من عند الله فيرضى ويُسلِّم (19).(59/31)
الأمر الثاني : اتباع النساء الجنازة ودخولهن المقبرة، والنساء ممنوعات من اتباع الجنائز ومن دخول المقابر وزيارتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لَعَنَ الله زائراتِ القُبُورِ والمتَّخذينَ عليه المساجد والسُّرج ) [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ( 1/229 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ : " لن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . ] .
فاتباع الجنائز وزيارة القبور من خصائص الرجال، أما النساء؛ فهي ممنوعة من ذلك؛ لأنهن ضعيفات، ولا يتحملن، ويظهرن من الجزع والتسخط ما لا يجوز، ولأنهن يفتن الأحياء ويُؤذينَ الأموات .
الأمر الثالث : وضع الطعام على القبر، واعتقاد أن الميت يأكل منه، وهذا خرافة من أمور الجاهليَّة وإضاعة للمال؛ فإنه لا يجوز عمل مثل هذا ووضع الطعام على القبر؛ لأن هذا فيه اعتقاد جاهلي، وفيه إضاعة للمال، بل فيه إهانة للميت أيضًا؛ لأن هذا الطعام سوف يجتمع عليه الحشرات والكلاب والحيوانات والمؤذيات؛ فهذا من السخرية ومن الأمور المضحكة المبكية في الواقع؛ لأنه لا يجوز أن يصدر من المسلمين مثل هذا الذي يضحكُ منه العقلاء؛ فماذا يستفيد الميت من وضع الطعام على قبره ؟ ! واعتقاد أنه يأكل منه؛ هذا اعتقاد باطل؛ لأن الميت قد انتهى من الدنيا، وانتهى من الأكل والشرب، وانتقل إلى الدار الآخرة، ولا يأكل ولا يشرب كما يشرب الأحياء ويأكل الأحياء، وإنما هو في قبره إما في روضةٍ من رياض الجنة وإما في حفرة من حفر النار، وماذا يستفيد من وضع الطعام على قبره ؟ ! ولكن هذا من تلاعب الشيطان بالجُهَّال والأغرار .(59/32)
الأمر الرابع : عمل وليمة بعد الأربعين بقصد العزاء، وهذا بدعة مُحرَّمة وإضاعة للمال، وفيه إقامة للمآتم التي تشتمل على المُحرَّمات والسخط والجزع من قضاء الله وقدره، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت يتأذى بذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ الميِّتَ يُعذَّبُ بما نِيحَ عليه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 2/81، 82 ) من حديث المغيرة رضي الله عنه بلفظ : ( من نيح عليه يعذب بما نيح عليه . . . ) ، وفي لفظ : ( الميت يعذب في قبره بما نيح عليه ) من حديث عمر بن الخطاب " . ] .
فهذه الاجتماعات وهذا العزاء كما يسمونه وعمل هذه الوليمة؛ كل هذا من الأمور المُبتدعة التي ليست من هَدي النبي صلى الله عليه وسلم .
وإنَّما سنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أيام المصيبة أن يُعملَ طعامٌ يُبعَثُ به إلى أهل الميت مساعدةً لهم ومواساةً لهم؛ لأنهم مشغولون بالمصيبة عن عمل الطعام لهم، فيُشرَع لإخوانهم المسلمين أن يعملوا طعامًا يكفيهم ويُرسلون به إليهم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( اصنَعُوا لآلِ جَعفَر طعامًا؛ فإنهم قد جاءهُم ما يشغَلُهم ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( ج3 ص379 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( ج3 ص191 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( ج1 ص514 ) ، ورواه البيهقي في " سننه الكبرى " ( ج4 ص61 ) ، ورواه الإمام أحمد في " المسند " ( ج1 ص205 ) ؛ كلهم من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما . ] .
هذا الذي شرعه صلى الله عليه وسلم، وهو في أيام المصيبة، أما عمل الوليمة بعد الأربعين؛ فهذا لا أصل له في دين الإسلام، وهو من البدع، وإذا انضاف إلى هذا كثرة الاجتماع وتضخيم الولائم؛ فهذا كله من أمور الجاهليَّة .(59/33)
119 ـ في بلدنا عادات في المآتم، وهي إقامة أسبوع للميت وعلى رأس الأربعين والحول وفي كل مناسبة من هذه تُذبحُ الذبائح ويحضر الرجال والنساء وتقوم النساء بلطم الخدود والبكاء وشق الثياب وترديد محاسِن الميت وذر الرماد على الرؤوس؛ فما الحكم في إحياء هذه المناسبات والحكم فيما يُفعل فيها مما ذكرت ؟
هذه المناسبات وهذه المآتم من الآصار والأغلال والمنكرات التي يجب على المسلمين تركها والحذر منها والمنع من الإقدام عليها؛ لأنها من المنكرات الظاهرة؛ لما فيها من المنكرات، وهي :
أولاً : إقامة هذه الحفلات والإسراف في هذا الإنفاق إنفاق للمال بالباطل، فهو حرام ومنكر، ولأنه إنفاق لإقامة بدع ومنكرات .
ثانيًا : إقامة هذه الحفلات في الأربعين وفي كذا وفي كذا؛ كل هذا من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان .
ثالثًا : ما يحصل في هذه البدع من المنكرات الأخرى؛ من لطم الخدود وشق الجيوب وذر الرماد على الرؤوس، كل هذا من النياحة التي حرَّمَها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى عنها أشد النهي، وقال : ( ليس مِنَّا من ضَربَ الخُدُودَ وشقَّ الجيوبَ ودعا بدعوى الجاهليَّة ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( ج2 ص82 ) من حديث عمر بن الخطاب، بدون ذكر ( إن ) . ] ، وأخبر : ( أن النائحة إذا لم تَتُب قبل موتها؛ تُقامُ يوم القيامة وعليها سِربَالٌ من قَطرانٍ ودِرعٌ من جَرَبٍ ) [ انظر : " صحيح الإمام مسلم " ( ج2 ص644 ) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه . ] . . . إلى غير ذلك من الأحاديث التي تُحرِّمُ النياحة، سواءٌ عند وفاة الميت مباشرة أو بعد ذلك بمدة .(59/34)
والواجب على المسلم أن يصبر ويحتسب؛ كما قال الله سبحانه وتعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 155-157 . ] ، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 . ] .
قال بعض السلف في معنى { يَهْدِ قَلْبَهُ } : " إنه المسلم تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلِّم " [ يروى عن الإمام الحافظ أبو شبل علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك، وانظر " تفسير القرآن العظيم " لابن كثير ( ج4 ص375 ) . ] .
وهذا هو الواجب على المسلمين عند نزول المصائب .
أما إقامة هذه المآتم وهذه الحفلات وهذه المنكرات بمناسبة موت الأموات؛ فهذا من البدع والمنكرات والمحرمات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهي بالتالي من الآصار والأغلال التي تُحمِّلُ كاهِلَ أهل الميت بالنفقات، وربما يكون هذا من تركة الميت ويكون له ورثة قصّار، فتؤخذ ظلمًا وعدوانًا من حقهم .
وبعض الجُهَّال يجعل نفقة هذه المآتم المبتدعة المُحرَّمة من الحقوق المتعلقة بتركة الميت مثل تغسيله وتكفينه ودفنه، وهذا خطأ واضح؛ لأن هذه المآتم غير مشروعة، فلا تجوز إقامتها أصلاً ولا تمويلها من تركة الميت ولا من غيرها؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ المائدة : 2 . ] ؛ فالواجب منعها والقضاء عليها وبيان هذا للناس حتى يتركوها .(59/35)
120 ـ تنفق بعض الجماعات والدُّول أموالاً كثيرة لبناء غُرفٍ وقباب ذات تربة خاصّة على قبور زعمائهم وقادتهم، ويخصُّون ذلك القبر بزيارات منتظمة في كلِّ عامٍ؛ فما حكم الشَّرع في مثل ذلك العمل ؟
بناء القباب على قبور الصَّالحين والزُّعماء والقادة ليس من دين الإسلام، وإنما هو دين اليهود والنصارى والمشركين .
قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه لمَّا ذَكَرَت كنيسة بالحبشة فيها من التَّصاوير : ( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح؛ بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصُّور، أولئك شرار الخلق عند الله ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/375-376 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .(59/36)
قال الإمام الشَّوكاني رحمه الله : " اعلم أنه قد اتفق الناس؛ سابقُهم ولاحقُهم، وأوَّلُهم وآخرهم، مِن لَدُن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت : أنَّ رفع القبور والبناء عليها من البدع، التي ثبت النهي عنها، واشتدَّ وعيدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها؛ كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين . . . " وذكر الأدلَّة من السُّنَّة، إلى أن قال : " وفي " صحيح مسلم " وغيره من أبي الهيَّاج الأسدي؛ قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثكَ على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألا أدعَ تمثالاً إلا طمستُه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيتُهُ . وفي " صحيح مسلم " أيضًا عن ثُمامة بن شفيٍّ نحو ذلك [ انظر : " صحيح مسلم " ( 2/666 ) . ] . وفي هذا أعظم دلالة على أنَّ تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع واجبة متعمِّمة؛ فمن إشراف القبور أن يُرفع سَمْكُها، أو يجعل عليها القِباب أو المساجدُ؛ فإنَّ ذلك من المنهيِّ عنه بلا شك ولا شبهة، ولهذا فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث لهدمها أمير المؤمنين، ثم إنَّ أمير المؤمنين بعث لهدمها أبا الهيَّاج الأسديَّ في أيَّام خلافته " انتهى كلام الشوكاني رحمه الله (20).
والبناء على القبور وسيلة إلى الشرك؛ لأن الناس إذا رأوا هذا البناء وهذه الزَّخارف على القبور؛ اعتقدوا أنها تنفع وتضرُّ، وأنها يُتَبَرَّكُ بها، فزاروها من أجل ذلك، وقدَّموا لها القرابين والنُّذور، وطافوا بها وتمسَّحوا بجُدرانها؛ كما هو الواقع اليوم، وهذا هو الشِّركُ الصَّريح والمنكرُ القبيحُ، وسببُه البناء على القبور وزخرفتها .
121 ـ يعلِّلُ بعض الناس طوافهم بالقبر أو المزار أو الشجر ونحوه بأنه لمجرَّد التقرُّب بذلك العمل لله سبحانه لخصائص معيَّنة في صاحب ذلك القبر أو المزار أو تلك الشجرة؛ فعملهم لله وليس لذلك الشيء؛ فما حكمُ ذلك ؟(59/37)
قول بعض الناس : إنَّ طوافهم بالقبر أو المزار أو الشجر ونحوه؛ إنه لمجرد التقرُّب إلى الله بذلك العمل؛ لأن صاحب القبر له خصائص وفضائل، ونحن نسأل الله به، وعملُنا لله، وليس ذلك المخلوق؛ هذا القول هو بعينه قول المشركين الأوَّلين .
كما حكى الله ذلك عنهم بقوله سبحانه : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } إلى قوله : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ يونس : 18 . ] ، فسمَّى عملهم هذا شركًا وعبادة لغير الله، مع أنهم يقولون : فنحن لا نعبد هؤلاء، وإنما نتَّخذُهم وسائط بيننا وبين الله في قضاء حوائجنا .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ الزمر : 3 . ] ؛ سمَّاهم كَذَبَةً، وحكم عليهم بالكفر، مع أنهم يقولون : نحن لا نعبد هؤلاء المخلوقين، وإنما نريد منهم أن يقرِّبونا إلى الله؛ بأن يتوسَّطوا لنا عنده، ويشفعوا لنا لديه .
وهذه هي مقالة القبوريين اليوم تمامًا، وقد حكم عليهم الله بالكفر والكذب والشرك، ونزَّهَ نفسه عن فعلهم وعملهم، مع ما في فعلهم هذا من الابتداع في الدِّين، وذلك لأنَّ الله لم يشرع ولا رسولُه الطَّواف بشيء أو زيارة شيء من الأمكنة من أجل العبادة فيها أو الطَّواف بها غير الكعبة المشرَّفة والمساجد الثَّلاثة .
فمن زعم أنَّ زيارة هذه القبور أو المزارات والطَّواف بها أمر مشروع؛ فهو مبتدع في دين الله .
122 ـ يقول بعض الناس : إن السُّجود على تربة قبر الوليِّ قربة وطاعة؛ لاعتقادهم بقدسيَّة ذلك التُّراب وطهارته؛ فهل لهذا أصل في الشَّرع المطهَّر ؟(59/38)
السُّجود على التُّربة المسمَّاة تربة الوليِّ : إن كان المقصود منه التّبرُّك بهذه التربة والتقرُّب إلى الوليِّ؛ فهذا شرك أكبر . وإن كان المقصود التقرُّب إلى الله، مع اعتقاد فضيلة هذه التُّربة، وأن في السُّجود عليها فضيلة كالفضيلة التي جعلها الله في الأرض المقدَّسة في المسجد الحرام والمسجد النبويِّ والمسجد الأقصى؛ فهذا ابتداع في الدين، وقولٌ على الله بلا علم، وشرع دين لم يأذن به الله، ووسيلة من وسائل الشِّرك؛ لأن الله لم يجعل لبقعة من البقاع خاصَّةً على غيرها؛ غير المشاعر المقدَّسة والمساجد الثلاثة، وحتى هذه المشاعر وهذه المساجد لم يُشرَع لنا أخذ تربة منها لنسجد عليها، وإنما لنا حج بيته العتيق والصلاة في هذه المساجد الثلاثة، وما عداها من بقاع الأرض؛ فليس له قدسيَّةٌ ولا خاصيَّةٌ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وجُعِلَت لي الأرض مسجدًا وطَهورًا ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 1/86 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه . ] ، ولم يخصص بقعة دون بقعة، ولا تربة دون تربة، وإنما هذا من افتراء الذين لا يعلمون، وتضليل الدَّجَّالين والمبطلين، الذين يشرعون للناس ما لم يأذن به الله، وليس لهذا العمل أصل في الشَّرع؛ فهو مردود على أصحابه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو ردٌّ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/156 ) معلقًا، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1343-1344 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] .
123 ـ قال الله تعالى في القرآن الكريم : { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } [ يونس : 92 . ] ؛ فلماذا بقي فرعون ببدنه من بين الطَّواغيت والجبَّارين ؟ وأين محلُّ غرقه ؟ وأين يوجد هذا الجسد الآن ؟ وهل يُستَحَبُّ النَّظرُ إليه ؟(59/39)
قال ابن عبَّاس وغيره من السَّلف : إنَّ بعض بني إسرائيل شكُّوا في موت فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يُلقيه بجسده سويًّا بلا روح وعليه درعه المعروفة على نجوةٍ من الأرض ( وهو المكان المرتفع ) ليتحقَّقوا من موته وهلاكه . انتهى (21) .
ومعنى قوله تعالى : { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } ؛ أي : لتكون لبني إسرائيل دليلاً على موتك وهلاكك، وأن الله هو القادر الذي ناصيةُ كل دابَّة بيده، لا يقدر أحد على التخلُّص من عقوبته، ولو كان ذا سُلطة ومكانة بين الناس .
ولا يلزم من هذا أن تبقى جثَّةُ فرعون إلى هذا الزَّمان كما يظنُّهُ الجُهَّالُ؛ لأن الغرض من إظهار بدنه من البحر معرفةُ هلاكه وتحقُّقُ ذلك لمن شكَّ فيه من بني إسرائيل، وهذا الغرض قد انتهى، وجسم فرعون كغيره من الأجسام، يأتي عليه الفناء، ولا يبقى منه إلا ما يبقى من غيره، وهو عجب الذَّنَبِ، الذي منه يُرَكَّبُ خلقُ الإنسان يوم القيامة؛ كما في الحديث (22)؛ فليس لجسم فرعون ميزةٌ على غيره من الأجسام . والله أعلم .
124 ـ هل صحيح أن شهر رجب يُفرَدُ بعبادةٍ معينة أو بخصوصية ؟ أرجو إفادتنا؛ حيث إن هذا الأمر مُلتبسٌ علينا، وهل يُفرَدُ أيضًا زيارة للمسجد النبوي فيه ؟(59/40)
شهر رجب كغيره من الشهور، لا يُخصَّص بعبادة دون غيره من الشهور؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيصه لا بصلاة ولا صيام ولا بعمرة ولا بذبيحة ولا غير ذلك، وإنما كانت هذه الأمور تُفعل في الجاهلية فأبطلها الإسلام؛ فشهر رجب كغيره من الشهور، لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيصه بشيء من العبادات؛ فمن أحدث فيه عبادة من العبادات وخصه بها؛ فإنه يكون مبتدعًا؛ لأنه أحدث في الدين ما ليس منه، والعبادة توقيفية؛ لا يقدم على شيء منها؛ إلا إذا كان له دليل من الكتاب والسنة، ولم يرد في شهر رجب بخصوصيته دليل يُعتمد عليه، وكل ما ورد فيه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان الصحابة ينهون عن ذلك ويُحذِّرون من صيام شيء من رجب خاصة .
أما الإنسان الذي له صلاة مستمر عليها، وله صيام مستمر عليه؛ فهذا لا مانع من استمراره في رجب كغيره، ويدخل تبعًا .
125 ـ من الملاحظ اليوم بروز ظاهرة الغُلُوِّ، واتِّجاه العامَّة للتَّجاوب مع هذا الغُلُوِّ؛ ما السُّبُلُ للحدِّ من هذه الظَّاهرة ؟ ومَن المسؤولُ ؟
النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر أمَّته من الغلوِّ؛ قال عليه الصلاة والسلام : ( إيَّاكُم والغُلُوَّ؛ فإنما أهلَكَ مَن كان قبلَكُمُ الغُلُوُّ ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/347 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 5/268 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1008 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/466 ) ؛ كلهم من حديث ابن عباس . ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( هلكَ المتنطِّعونَ، هلكَ المتنطِّعونَ، هلكَ المتنطِّعونَ ) ؛ قالها ثلاثًا [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2055 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . ] ، والمتنطِّعون هم المتشدِّدون الغالون في دينهم .(59/41)
وقال سبحانه وتعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقِّ } [ النساء : 171 . ] ، والواجب هو الاستقامة، وقال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } [ المائدة : 77 . ] ؛ من غير غُلُوٍّ ومن غير تساهل، وقال تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ولأتباعه : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ } [ هود : 112 . ] ؛ يعني : لا تزيدوا ولا تتشدَّدوا .
فالمطلوب من المسلمين الاستقامة، وهي الاعتدال بين التَّساهُلِ وبين التَّشدُّد، هذا هو منهج الإسلام، وهو منهج الأنبياء جميعًا، وهو الاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى، من غير تشدُّدٍ وتنطُّع وغلوٍّ، ومن غير تساهل وتفسُّخٍ .
126 ـ تحدثتم فضيلتكم عن الغلو؛ فأرجو تعريف هذه الكلمة ؟ أثابكم الله .
الغلو : الزيادة في الدين أو في التدين والخروج عن الحد المشروع؛ لأن الدين وسط بين الغلو والتساهل، وسط بين الجفاء وبين الزيادة، هذا هو الغلو .
ومن مظاهر الغلو اليوم بين الشباب ما يظهر بين بعضهم في الصلاة من تفريق رجليه إذا وقف في الصلاة حتى يضايق من بجانبيه، وحني رأسه في حال القيام في الصلاة إلى قريب من الركوع، ومد ظهره في السجود حتى يكون كالمنبطح على الأرض .(59/42)
ومن مظاهر الغلو عندهم المبالغة في الصلاة إلى السترة حتى إن بعضهم إذا دخل المسجد قبل الإقامة؛ فإنه يترك الصف ويذهب إلى عمود أو جدار ليصلي إليه صلاة النافلة، مع أن السترة سنة ليست بواجبة، إن تيسرت، وإلا؛ فلا يتكلفها ويترك فضيلة القيام في الصف، خصوصًا الصف الأول وحصول مكانه فيه وقربه من الإمام، كل هذه فضائل لا ينبغي إهدارها، بل إن بعضهم يدافع الناس عن المرور أمامه إذا قام يصلي في المسجد الحرام في وقت الزحام، مع أن المرور أمام المصلي في المسجد الحرام والمواطن شديدة الزحام لا بأس به دفعًا للحرج ولله الحمد، وديننا دين اليسر، والمشقة تجلب التيسير .
ومن مظاهر الغلو تقصير الثياب إلى قريب من الركبتين، مما يُخشى معه انكشاف العورة، والمشروع تقصيرها إلى نصف الساق أو إلى الكعبين .
127 ـ بعض الأخيار يجلب التلفاز إلى بيته، ويقول بأنه لا يحب أن يُتَّهم بالغلو؛ فما توجيه فضيلتكم ؟
ترك التلفاز ليس غلوًّا، وإنما هو احتياط للدين وللأسرة وللأولاد؛ فهو تجنب للأسباب الضارة؛ لأنه يترتب على وجوده مضارّ على الأولاد والنساء، مضار حتى على صاحب البيت .
من الذي يأمن على نفسه من الفتنة ؟ !
فكلما سلم الإنسان من أسباب الفتنة؛ كان ذلك أحسن له حالاً ومآلاً، وليس ترك التلفاز من الغلو، وإنما هو من الوقاية .
128 ـ ما حكم الإسلام في زيارة المرأة للقبور؛ حيث إنَّ الشَّيخ ابن باز قال بعدم الجواز، بينما الشَّيخُ الألبانيُّ في كتابه " أحكام الجنائز " أجاز زيارتها؛ لعدَّة أحاديث أوردها .(59/43)
المسألة خلافيَّةٌ، ولكنَّ القول الصَّحيح أنَّ المرأة لا يجوز لها زيارة القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( لعن زوَّارات القبور ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/337 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 4/12 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/502 ) ؛ كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ، وفي رواية : ( لعن زائرات القبور ) [ رواها الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/229 ) ، ورواها أبو داود في " سننه " ( 3/216 ) ، ورواها الترمذي في " سننه " ( 2/4 ) ، ورواها النسائي في " سننه " ( 4/94-95 ) ؛ كلهم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه . ] ، واللعن لا يكون إلا على أمر محرَّم وكبير في التَّحريم، بل هو على كبيرة من كبائر الذُّنوب؛ لأنَّ ضوابط الكبيرة أن يُرَتَّب عليها لعنةٌ أو غضب أو نار أو وعيد أو حدٌّ في الدُّنيا؛ فكون النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعن زوَّارات القبور دلَّ على أنَّ زيارة المرأة للقبور كبيرة من كبائر الذُّنوب .
فعلى هذا يكون الحديث مخصِّصًا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( زوروا القبورَ؛ فإنَّها تذكِّرُكُم بالآخرة ) [ عند مسلم ( 2/671 ) بلفظ : " . . . فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الموت " ، من حديث أبي هريرة، وانظر : " سنن الترمذي " ( 4/9 ) من حديث بريدة رضي الله عنه . ] ، فيكون هذا الحديث خاصًّا بالرِّجال؛ بدليل حديث لعن الله زائرات القبور .
هذا هو القول الصَّحيح الذي يجب أن تسير عليه المرأة المسلمة .
ولأنَّ المرأة ضعيفة، ويُخشى منها أن تُظهِرَ الجزع والنِّياحة عند القبور إذا رأت قبر زوجها أو أخيها أو قريبها أن لا تصبر وأن تظهِرَ النِّياحة والجزع .
ولأنَّ المرأة عورة، ويُخشى عليها إذا ذهبت إلى المقبرة، وأنتم تعلمون أنه حتى المسجد الذي هو موطن العبادة، الأفضل للمرأة أن لا تذهب إليه وتصلِّيَ في بيتها؛ فكيف إلى المقبرة والخوفُ عليها أشدُّ ؟ !(59/44)
فالحاصل أنَّ الحقَّ مع من قال : إنَّ المرأة يحرُمُ عليها زيارة القبور .
129 ـ ما حكم سِباب وشتم الميت ؟ وهل ذلك يؤذيه أو له تأثير عليه ؟
ورد النهي عن سب الأموات (23) لأنهم أفضَوا إلى ما عملوا؛ فلا يجوز سب الأموات؛ إلا إذا ترتب على ذكرهم مصلحة شرعية؛ كأن يكون هذا الميت من علماء الضلال أو الرواة الكذابين أو له آثار سيئة؛ فإنه يجب تنبيه المسلمين عن آثاره وضلاله؛ ليحذروا من ذلك، أما ذكره مجرد غيبة ومجرد سباب لا مصلحة من ورائه؛ فإنه لا يجوز .
130 ـ حضرت درسًا لأحد طلبة العلم في أحد المساجد؛ حيث قال : الأذانُ الأوَّل في صلاة الفجر والجمعة بدعة، وكذلك الرَّكعتين بعد الأذان؛ فما رأيُكم في ذلك ؟
الأذان الأوَّل لصلاة الفجر ليس بدعة؛ لوجوده في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ بلالاً يؤذِّنُ بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذِّنَ ابنُ أمِّ مكتومٍ ) ، وكان رجلاً أعمى لا يؤذِّنُ حتى يقال له : أصبحت أصبحت [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/153 ) . ] ، ولأجل أنَّ الناس بحاجة إلى الأذان الأوَّل قبل الفجر من أجل أن يستيقظ النَّائم ويرجع التَّالي .
وكذلك الأذان الأوَّلُ يوم الجمعة، الذي أمر به أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، ثالثُ الخلفاء الرَّاشدين (24) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاءِ الرِّاشدينَ ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319-320 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/15/16 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/97 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/57 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه . ] .
131 ـ لديَّ عادة أداومُ على فعلها، وهي أنني أصلي ركعتين قبل النَّوم، أقرأ فيهما الفاتحة وبعض السُّور القصيرة؛ فهل ذلك جائز أم بدعة ؟(59/45)
الوارد قبل النوم عن النبي صلى الله عليه وسلم من الآداب التي يُستحبُّ فعلها : أن يتوضَّأ الإنسان، وينام على طهارة، وينام على جنبه الأيمن، ويقرأ بآية الكرسي وبالآيتين من آخر سورة البقرة، وبالمعوِّذتين، وأن يدعو بالدُّعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أدعية كثيرة وجوامع (25) ، أما الصلاة قبل النوم، والتزام هذا؛ فأنا لا أعلم له أصلاً من السنة النبويَّة .
لكن إذا فعله على أنه سنَّةُ الوضوء؛ فلا بأس؛ لثبوت الدليل بذلك .
132 ـ أخبركم أني بعدما أنتهي من صلاتي أدعو بالدُّعاء الآتي، فأقول : " اللهم ! تقبَّل صلاتنا، وطهِّر قلوبنا، وارحم والدينا، واغفر لأمواتنا، وفرِّج همَّنا، ورازقنا بالخيرات، واغفر للمؤمنين والمؤمنات " ؛ أدعو بهذا بعدما أنتهي من الصلاة، وبصفة دائمة؛ هل هذا الدُّعاء يجوز أم لا ؟ أفيدونا أفادكُمُ الله .
الدُّعاء بعد الصلاة مشروع في الجملة بما تيسَّر بعد الذِّكر المشروع، أما مُلازمة هذا الدُّعاء، والمُداومة عليه؛ فهي غير مشروعة؛ لأنَّ هذا لم يرد - فيما أعلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن، أمَّا إذا دعوت به بعض المرَّات، أو بغيره، ولم تلتزمهُ دائمًا؛ فلا حرج في ذلك إن شاء الله، ويكون بدون رفع صوت .
133 ـ بعض الناس يقرؤون الفاتحة بعد الصلاة على أساس أنها دعاء؛ فهل هذا من السُّنَّة في شيء ؟ ثم قراءتها مرَّة أخرى لأرواح الموتى؛ فما هو الحكم في ذلك ؟
أمَّا قراءتها أدبار الصَّلوات؛ فلا أعلم له دليلاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي ورد هو قراءة آية الكرسي (26)، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } ، و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } (27)؛ وردت الأحاديث بقراءة هذه السُّور بعد الصَّلوات الخمس، وأمَّا الفاتحة؛ فلا أعلم دليلاً على مشروعيَّة قراءتها بعد الصَّلاة .(59/46)
والسُّورُ التي ذكرناها لا تُقرأ على صفة جماعيَّةٍ وبصوتٍ مرتفعٍ، وإنما يقرؤها كلُّ مسلم لنفسه فيما بينه وبين نفسه .
وأمَّا قراءة الفاتحة لأرواح الأموات؛ فهذا من البدع، وأرواح الأموات لا تُقرأ لها الفاتحة؛ لأنَّ هذا لم يَرِد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من عمل سلف هذه الأمة، وإنما هو شيء مبتدع؛ لا في المسجد، ولا في المقبرة، ولا في البيت، ولا في غيره، وإنما المشروع للأموات الدُّعاء لهم إذا كانوا مسلمين بالمغفرة والرحمة، والتصدُّقُ عنهم، والحجُّ عنهم، هذا هو الذي وردت به الأدلَّةُ، أمَّا قراءة القرآن الكريم لأرواح الأموات، أو قراءة الفاتحة لأرواح الأموات؛ فهذا شيء مُحدَثٌ وبدعة .(59/47)
الولاء والبراء
134 ـ ما هو السّبيل لموالاة إخواننا المسلمين في فلسطين والصُّومال والبوسنة والهيرسك ؟
المسلمون في أيِّ مكان تجبُ محبَّتُهم في القلوب، والدُّعاء لهم بالنصر والهداية والتَّوفيق، وكذلك مساعدتهم بالمال عبر الوسائل المعدَّة لذلك من هيئات الإغاثة، هيئات الإغاثة الآن موجودة، وله حسابات في المصارف؛ فمن أراد الإحسان إلى هؤلاء؛ فليدفع مالاً، ويكتب أنَّه للجهة الفلانيَّة؛ لإخواننا في كذا وكذا، يكتب عليها، أو يُبلغُ أنَّ هذا المال لإخواننا في فلسطين، في البوسنة، في الصومال، في أيِّ مكان، باب الخير مفتوح ولله الحمد، مع الدُّعاء لهم بالنَّصر والتَّوفيق، مع محبَّتِهم في القلوب .
135 ـ معلوم أنَّ المصرَّ على الكبيرة لا يُخلَّدُ في النار كما هو اعتقادُ أهل السُّنَّة والجماعة، لكن كيف يمكن الجمع بين ذلك وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مدمنُ خمر كعابد وثنٍ ) [ رواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1120 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه البخاري في " التاريخ الكبير " ( 1/129 ) من حديث أبي هريرة . ] ، ومعلوم أنَّ عابد الوثن مشرك، والمشرك مخلَّد في النار ؟
قوله صلى الله عليه وسلم : ( مدمنُ الخمرِ كعابدِ وثنٍ ) : هو من أحاديث الوعيد التي تُمَرُّ كما جاءت، ومعناه الزَّجرُ عن شُرب الخمر، والتَّغليظ في شأنه، وليس المراد منه أنَّ المداوم على شُرب الخمر يُخَلَّدُ في النَّار كما يُخلَّدُ المشرك والكافر؛ لأنه مؤمن ناقص الإيمان، وليس كافر كما تقوله الخوارج .
قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 . ] ، وشُرب الخمر داخل فيما دون الشِّرك، فيشمله هذا الوعيد من الله تعالى بالمغفرة .
والحديث فيه تشبيه مدمن الخمر بعابد الوثن، وهو لا يقتضي التشبيه من كلِّ الوجوه؛ إلا إذا استحلَّ الخمر؛ فإنه يكون كافرًا .(60/1)
وعلى كلِّ حالٍ؛ فالخمر أمُّ الخبائث، وقد قَرَنَها الله بالمَيسر والأنصاب والأزلام، وأخبر أنها رجسٌ من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها (1)، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة (2)؛ ممَّا يدلُّ على شناعتها وشدَّة خطورتها وما تسبِّبه من أضرار بالغة، وقد رتَّب الشَّارع الحدَّ على شاربها، والخمر هي المادَّة المُسكرة؛ من أيِّ شيء كانت، وبأيِّ اسم سمِّيت .
136 ـ هل يُحكم بالنار على من عُرف من خلال سيرته بأنه ظالم للعباد، ومستهتر بشرع الله، ومات على ذلك، ولم يُعرف عنه توبة ؟ وما حكم لعن الشَّخص المعيَّن من الكفَّار ؟
العاصي من المسلمين يُخافُ عليه من النار، أما الحكم عليه بالنار؛ فهذا إلى الله سبحانه : إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، هذا إذا لم تكن معصيتُه كفرًا أو شركًا .
أمَّا الكافر والمشرك إذا ماتا على ذلك؛ فهما خالدان مخلَّدان في النَّار .
أمَّا اللعنُ؛ فالصحيح أنه يجوز لعنُ الجنس، فيُقال : لعنةُ الله على الظَّلمين، لعنة الله على الكاذبين . . .
وأما جواز لعن المعيَّنِ؛ ففيه خلافٌ بين العلماء .
137 ـ هل المجاهر بالمعصية إذا تاب تُقبَلُ توبتُه ؟
لا شكَّ أنَّ الله يقبل التَّوبة من جميع الذُّنوب؛ من المجاهرين وغيرهم، حتى الكفار، { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 . ] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( التَّوبةُ تجبُّ ما قبلها ) [ ذكره الإمام ابن كثير في " تفسيره " ( 3/126 ) . ] ، والله تعالى يقول : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 . ] ؛ فالتوبة الصادقة تكفِّرُ الذُّنوب جميعًا؛ الشِّرك، والكفر، والنِّفاق، وكل المعاصي، من تاب؛ تاب الله عليه .(60/2)
138 ـ إنَّ أصحابي ليس منهم رجل صالح أبدًا؛ ماذا عليَّ أن أفعل؛ وعلى ما قالوا : زيارة الأصحاب تكون فيها سعةُ الصَّدر والفرحُ ؟
لا يجوز للمسلم أن يصاحب العصاة؛ إلا إذا كان يناصحهم وينكر عليهم ويطمع في هدايتهم، وإلا؛ فإنَّه يجب عليه أن يبتعد عنهم، ولا يصاحبهم، ولا يزورهم؛ إلا إذا تابوا .
قال تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ التوبة : 11 . ] ، ومفهوم الآية أنهم إذا لم يتوبوا؛ فليسوا إخواننا في الدين؛ فلا نصاحبُهم ولا نزورُهم؛ إلا من أجل دعوتهم وطلب هدايتهم .
139 ـ مجاهرة البعض بالمعاصي وارتكاب الآثام؛ ما حكمُها ؟
لا يجوز ارتكاب المعاصي لا سرًّا ولا جهرًا؛ قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف : 33 . ] ، والمجاهرة بالمعاصي فيها زيادة إثمٍ على المعاصي الخفيَّة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كلُّ أمَّتي معافىً إلا المجاهرينَ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/89 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ؛ لأن المجاهرة تدلُّ على عدم المبالاة، وتسبِّب الاقتداء بالمعاصي .
البراء من أصحاب المعاصي
140 ـ هل يجوز لعن أصحاب المعاصي أو الظَّلمة، كأن يظلمني شخص بالقول أو الفعل، فألعنه؛ فهل ذلك جائز أم لا ؟
لا يليق بالمسلم أن يكون لعّانًا ولا فاحشًا ولا متفحشًا؛ فينبغي له حفظ لسانه من السب والشتم، حتى ولو سابه أحد أو شاتمه أحد؛ فينبغي له أن لا يرد عليه بالمثل؛ لقوله تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ فصلت : 34 . ] ، وربما يكون الذي لعنته لا يستحق اللعنة، فيرجع إثمها عليك .
141 ـ إذا نوى شخص أن يعمل سوءًا، ولم يفعله؛ فهل تُكتَبُ عليه سيئة أو لا ؟(60/3)
ورد في الحديث : ( أن المسلم إذا همَّ بالسّيِّئة ولم يعملها؛ فإنها تُكتَبُ له حسنة ) [ انظر : " صحيح البخاري " ( 7/187 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وهو معنى جزء من حديث قدسي . ] ، وهذا إذا ترك العمل بها خوفًا من الله سبحانه وتعالى .
أمَّا إذا ترك العمل بها لأنَّه لم يتمكَّن من فعلها، وهو ينوي أنه لو تمكن أن يفعلها؛ فهذا يكون عليه الإثم بسبب نيَّته؛ كما دلَّت على ذلك الأحاديث، ومنها : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار ) . قيل : يا رسول الله ! هذا شأن القاتل؛ فما بالُ المقتول ؟ قال : ( إنه كان حريصًا على قتل صاحبه ) [ رواه النسائي في " سننه " ( 7/125 ) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1311 ) من حديث أبي موصى رضي الله عنه . ] .
142 ـ قال تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } [ الحجرات : 7 . ] ، وذكر الفسوق والفاسقون مرَّات عديدة في القرآن والسُّنَّة؛ فما هو الفسوق ؟ وما تعريفه ؟ وكيف يحذر المسلم أن يكون من القوم الفاسقين ؟
قوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } : ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أنواع المعاصي الثلاثة : المعاصي التي تُخرِجُ من الملَّة؛ كالكفر والشِّرك بالله عز وجل، والمعاصي الكبائر التي هي دون الشِّرك والكفر؛ فلا تخرج من الملَّة، ولكنها تُنقِصُ الإيمان نقصًا ظاهرًا؛ كالزِّنى والسَّرقة وشرب الخمر وغير ذلك من الكبائر، وسُمِّيت فسوقًا، وصاحبُها فاسقًا، لأنَّ الفسق معناه الخروج عن طاعة الله عز وجل، وذكر المعاصي التي هي دون الكبائر، ولا تقتضي الفِسقَ، وهي صغائرُ الذُّنوب .
فأخبر سبحانه أنه كرَّهَ هذه الأنواع الثلاثة إلى أهل الإيمان، وحبَّبَ إليهم أنواع الطاعات والقُرُبات .
143 ـ ما الموقف الصَّحيح تُجاه العصاة من المسلمين ؟(60/4)
الموقف الصَّحيح للعصاة من المسلمين نصيحتهم، ننصحهم في ترك المعاصي والتَّوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ويكون ذلك بحكمة وطريقة لَبِقَةٍ، من غير تنفير ومن غير تشديد، وإنما يكون بالتَّرغيب بالتَّوبة والتَّرهيب من المعصية، هكذا النَّصيحة .
وتكون النصيحة سرًّا بين النَّاصح والمنصوح، من أجل أن يكون ذلك أدعى على قبوله، أمَّا إذا أشهرت به عند الناس، أو تكلَّمت في عِرضِه وهو غائب، وقلت : فلانٌ يعمل كذا، وفلانٌ ما فيه خير، وفلان . . . هذا يزيد الشَّرَّ شرًّا، وليس هذا من النَّصيحة، هذا من الفضيحة .
فتعامُلُنا مع العُصاة هي النَّصيحة، وتكون النَّصيحة بحكمة وموعظة حسنة، وبرفق ولين، وتبشيره بالخير إذا تاب، وكذلك تحذيره من العقوبة .
النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول : ( بشِّروا ولا تُنفِّروا، ويسِّروا ولا تُعسِّروا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/101 ) من حديث سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده بلفظ : يسرا ولا تعسرا . ] ، والله تعالى يقول : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 . ] ، ولما جيء للنبي صلى الله عليه وسلم بشاربٍ للخمر، فأمر بجلده - لأنَّ شارب الخمر يُجلَدُ، فقال بعض الحاضرين : لَعَنَهُ الله، ما أكثر ما يُؤتى به ! قال النبيُّ : ( لا تقل، أما علمت أنه يحبُّ الله ورسوله ؟ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/14 ) بنحوه . ] ، وفي رواية أخرى : ( لا تعينوا عليه الشيطان ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/14 ) . ] .
فالعاصي يُنصَحُ ويُرَغَّب ويُحَذَّر من العقوبة، توصل إليه النَّصيحة بطريقة يقبلها لا بطريقة ينفِرُ منها، هذا هو الصَّحيحُ .(60/5)
144 ـ هل للكفر أنواع ودرجات بعضها أعظم من بعض أم أنه درجة واحدة ؟ إذا كان له درجات؛ فمن أيها يكون سبُّ الدين أو الرّبِّ أو الرَّسولِ والعياذ بالله من ذلك ؟
نعم؛ الكفر - والعياذ بالله - درجات، بعضها أشد من بعض، منه كفر يُخرِجُ من الملَّة، ومنه كفر دون ذلك، وسبُّ الدين أو سب الله أو رسوله من الكفر الأكبر المُخرِج من الملَّةِ والعياذ بالله، وأمَّا الكفر الأصغر مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( سِبابُ المُسلِم فُسُوقٌ وقِتالُهُ كُفرٌ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/91 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ترجِعُوا بعدي كُفَّارً يضرِبُ بعضُكُم رِقَابَ بعضٍ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/91 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنه . ] ؛ فهذا من الكفر الأصغر الذي لا يُخرِجُ من الملَّة .(60/6)
معاملة الكفار والسفر إلى بلادهم ودخولهم بلاد الإسلام
145 ـ يجاورنا بعض الأسر من هذا البلد ( كركوف في بولندا ) ، وهم يُحسنُون جوارنا ويعاملونا معاملة طيبة، ونحن كذلك؛ فهل يجوز لنا الاختلاط بهم عائليًّا ومجالستهم ومؤاكلتهم؛ رغم أنهم يحترمون ديننا، فلا يفعلون شيئًا من المنكرات بحضورنا، فهل يجوز لنا ذلك ؟
لا ينبغي مخالطة الكفار والأنس بهم والاطمئنان إليهم، ولو كانوا من الجيران، ولكن الجار يُحسَنُ إليه ولا يُساءُ إليه، ولو كان كافرًا؛ لأنَّ الجيران ثلاثة :
1ـ جار له ثلاثة حقوق : وهو الجار المسلم القريب؛ له حق الإسلام وحق الجوار وحق القرابة .
2ـ وجارٌ له حقان : وهو الجار المسلم غير القريب - يعني في النسب -؛ فله حقان؛ حق الإسلام وحق الجوار .
3ـ وجارٌ له حقٌّ واحد : وهو الجار الكافر؛ له حق الجوار، الجوار فقط؛ بأن تحسن إليه، ولا يصدر منك أذى في حقه أو سوء جوار، أما الانبساط معهم والاطمئنان إليهم ومحبتهم؛ فلا يجوز للمسلم أن يود الكافر أو أن ينبسط معه أو أن يأمنه أو أن يختلط به؛ لأنهم قد يؤثِّرون - ولو على المدى البعيد - عليكم أو على ذُرِّيَّتِكُم .
146 ـ ما هو الأسلوب الذي نقابل به الكفَّار الذين قَدِموا إلينا؛ هل نعاديهم ؟ أم نُقابِلُهم بالخُلُقِ وندعوهم إلى الله ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا .(61/1)
إذا استقدمناهم وأعطيناهم الأمان؛ لا يجوز أن نعتدي عليهم أو نضرَّهُم، بل يجبُ العدل حتى يذهبوا ويُنهوا عقدهم ويذهبوا إلى بلادهم؛ لأنهم دخلوا بأمان، ونحن استقدمناهُم؛ فيجب أن نتعامل معهم بالعدل، ولا نظلمهم، ونعطيهم حقوقهم، أمَّا محبَّتُهم؛ فنحن لا نُحبُّهم، لكن كوننا نبغضُهم في الله لا يقتضي أننا نظلمُهم أو نبخس شيئًا من حقهم أو نعتدي عليهم؛ لأنّ الله تعالى يقول : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 . ] ، لكن في المستقبل يجب أن نُنهِيَ استقدامهم، ونستبدلهم بإخواننا المسلمين من العمَّال في البلاد الأخرى .
147 ـ يكثر بيننا الكفار والمشركون، ويكثر التعامل معهم في بيع وشراء؛ فما حكم ذلك ؟ وما حكم أرباح تجارتنا إذا كان بعضها من أموالهم نتيجة تعاملنا معهم؛ هل هي حلال أم حرام ؟
التعامل مع الكفار من المشركين والكتابيين وغيرهم إذا كان من التعامل المُباح الذي ليس فيه ربًا وليس فيه ميسر وليس فيه شيء من المكاسِب المحرَّمة : لا بأس به؛ فلا بأس أن نبيع ونشتري مع الكفار في حدود ما أباحته الشريعة الإسلامية .
أما التعامل مع الكفار فيما حرَّم الله من الربا والمكاسب المحرَّمة كالقمار والميسر والمكاسب المحرمة؛ فهذا لا يجوز للمسلم أن يتعامل به لا مع الكفار ولا مع المسلمين، وما ينتج عن ذلك من كسبٍ يكون حرامًا؛ لا يجوز للمسلم أن يأكله أو أن يستعمله أو أن ينتفع به .
148 ـ ما رأيُ فضيلتكم فيمن يتقرَّب إلى الكفَّار ويواليهم بحجَّة أنهم يفهمون في أمور المادَّة أكثر منَّا ؟ وكيف يكون التعامل معه ؟(61/2)
التودُّدُ إلى الكفار لا يجوز، لا تجوز محبَّتُهم في القلوب؛ لأنهم أعداءُ الله ورسوله، تجبُ عداوتهم؛ قال تعالى : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 . ] ؛ فلا يجوز للمسلم أن يحبَّ الكافر .
أما التعامل معه في الأمور المباحة؛ فلا بأس إذا كان الكافر عنده تجارة تبيع معه وتشتري، لا بأس بالبيع والشِّراء معه، هذا من المعاملات المباحة، النبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع اليهود، اشترى منهم، استدان منهم عليه السلام، كذلك إذا كان عندهم خبرات في بعض الأمور، ولا يوجد عند المسلمين من يقوم بها؛ فلا بأس أن نستفيد من خبراتهم، لكن لا نحبُّهُم، ولا نواليهم، وإنما نؤاجِرُهم أجرةً، يؤدُّون لنا عملاً بالأجرة، مع بغضهم ومع عداوتهم .
149 ـ ما حكم من خاف من اعتداء الكفار والمشركين وجاملهم في بعض أفعالهم المنكرات؛ خوفًا منهم، وليس إقرارًا أو رضاء بما يفعلون ؟
لا يجوز للمسلم أن يجامل الكفار على حساب دينه، أو أن يوافقهم في أفعالهم؛ لأن أفعالهم ربما تكون كفرًا وشركًا وكبائر من كبائر الذنوب؛ فلا يجوز للمسلم أن يوافقهم على ذلك، أو أن يشاركهم في ذلك باختياره، بل الواجب عليه أن يُظهِرَ دينه .
ولا يجوز له الإقامة مع الكفار والبقاء في بلادهم إلا إذا كان يقدر على إظهار دينه؛ بأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله عز وجل، هذا هو إظهار الدين؛ فإذا كان لا يستطيع ذلك؛ وجب عليه أن يُهاجِر إلى بلاد المسلمين من بلاد الكفار، ولا يبقى فيها على حساب دينه وعقيدته .(61/3)
وحالة الإكراه لها حكم خاص؛ قال سبحانه وتعالى : { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 . ] ، والمسموح به في هذه الحالة إنما هو القول باللسان دون موافقة القلب .
150 ـ ما حكم زيارة الكفَّار وقبول هداياهم والقيام لجنائزهم وتهنئتهم في المناسبات ؟
زيارة الكفار من أجل دعوتهم إلى الإسلام لا بأس بها؛ فقد زار النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمَّه أبا طالب وهو يحتضرُ، ودعاه إلى الإسلام (3)، وزار اليهوديَّ، ودعاه إلى الإسلام (4)، أما زيارة الكافر للانبساط له والأنس به؛ فإنها لا تجوزُ؛ لأنَّ الواجب بغضهم وهجرهم .
ويجوز قبول هداياهم؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل هدايا بعض الكفَّار؛ مثل هديَّة المقوقس ملك مصر (5).
ولا تجوز تهنئتُهم بمناسبة أعيادهم؛ لأنَّ ذلك موالاة لهم وإقرارًا لباطلهم .
151 ـ ما حكم الاعتداء على الكافر في بلاد المسلمين بالضرب أو القتل وإن كان ذلك بسبب ما يقوم به من إفساد أو فسق ؟
لا يجوز الاعتداء على الكافر إذا دخل بلاد المسلمين بالأمان والعهد؛ لأنه في ذمة المسلمين، ولا يجوز غدر ذمة المسلمين؛ فالله سبحانه وتعالى أمرنا بالوفاء بالعهود؛ قال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } [ التوبة : 6 . ] ، وأما إذا ارتكب شيئًا يقتضي العقوبة؛ فإن الذي يتولى ذلك هو ولي الأمر، ولا يجوز لأفراد الناس أن يعاقبوه؛ لأن هذا يحصل منه الفوضى والاعتداء، ولكن من حصل منه شيء يُخلُّ بدين المسلمين أو يضر بأحد من المسلمين؛ فإنه يُرفَعُ إلى ولي الأمر ليتولَّى هو مجازاة هذا المُعتدي .(61/4)
152 ـ هل يجوز للمسلم أن يسكن مع مسيحي في غرفة واحدة لظروف العمل أو الأكل معًا ؟ أفيدونا في ذلك .
الأفضل أن لا يسكن مع كافر ولا يخالطه؛ فإن كان هناك ضرورة؛ فلا مانع من ذلك؛ أن يسكن المسلم مع مسيحي في غرفة واحدة، وأن يأكل معه أيضًا؛ بشرط أن يحافظ المسلم على دينه .
153 ـ هل التأريخ بالتاريخ الميلادي يُعتبَرُ من موالاة النصارى ؟
لا يُعتبَرُ موالاة، لكن يعتبر تشبُّهًا بهم .
والصَّحابة رضي الله عنهم كان التاريخ الميلادي موجودًا، ولم يستعملوه، بل عدلوا عنه إلى التاريخ الهجريِّ، وضعوا التاريخ الهجريَّ، ولم يستعملوا التاريخ الميلادي، مع أنه كان موجودًا في عهدهم، هذا دليل على أنَّ المسلمين يجب أن يستقلُّوا عن عادات الكفَّار وتقاليد الكفَّار، لا سيَّما وأنَّ التَّاريخ الميلاديَّ رمز على دينهم؛ لأنه يرمز إلى تعظيم ميلاد المسيح والاحتفال به على رأس السَّنة، وهذه بدعة ابتدعها النصارى؛ فنحن لا نشاركهم ولا نشجِّعهم على هذا الشيء، وإذا أرَّخنا بتاريخهم؛ فمعناه أنَّنا نتشبَّه بهم، وعندنا ولله الحمد التاريخ الهجريُّ، الذي وضعه لنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الرَّاشد بحضرة المهاجرين والأنصار، هذا يغنينا .
154 ـ ما حكم السَّفر إلى بلاد غير إسلامية بقصد السُّكنى والاستيطان فيها ؟
الأصل أنَّ السفر إلى بلاد الكفَّار لا يجوز لمن لا يقدر على إظهار دينه، ولا يجوز إلا لضرورة؛ كالعلاج وما أشبه ذلك؛ مع القدرة على إظهار الدِّين، والقيام بما أوجب الله سبحانه وتعالى، وأن لا يداهن ولا يُماري في دينه، ولا يتكاسل عن أداء ما أوجب الله عليه .(61/5)
أمَّا السُّكنى؛ فهي أشدُّ، السُّكنى بين أظهر المشركين لا تجوز للمسلم؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى المسلم أن يقيم بين أظهر المشركين (6)؛ إلا إذا كان في إقامته مصلحة شرعيَّة؛ كأن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويكون لوجوده بين أظهر الكفَّار تأثير بالدَّعوة إلى الله وإظهار دينه ونشر الإسلام؛ فهذا شيء طيبٌ لهذا الغرض، وهو الدَّعوة على الله سبحانه وتعالى، ونشر دينه، وتقويةُ المسلمين الموجودين هناك، أمَّا إذا كان لمجرَّد الإقامة والبقاء معهم من غير أن يكون هناك مصلحة شرعيَّة؛ فإنه لا يجوز له الإقامة في بلاد المشركين .
ومن الأغراض المُبيحة للسَّفر إلى بلاد الكفَّار تعلُّمُ العلوم التي يحتاج إليها المسلمون؛ كالطِّبِّ، والصناعة؛ مما لا يمكن تعلُّمه في بلاد المسلمين .
155 ـ معنى هذا أنه لو كان مثلاً لغرض التجارة فقط؛ فيجوزُ له ذلك ؟
يجوز السَّفر لبلاد المشركين بشرطين : بشرط أن يكون هذا السَّفر لحاجة، وأن يكون يقدر على إظهار دينه؛ بأن يدعو إلى الله، ويؤدِّي الواجبات، ولا يترُكَ أيَّ شيء ممَّا أوجب الله تعالى عليه، ولا يُخالط الكفَّار في محلاَّت فسقهم ومجونهم، ولا يغشى المجامع الفاسدة التي توجد في بلاد الكفَّار .
بهذه الشُّروط لا بأس أن يسافر، أمَّا إذا اختلَّ شرطٌ منها؛ فلا يجوز له .
156 ـ زوجي يصرُّ عليَّ أن أسافر معه إلى خارج المملكة لدولة أوروبّيَّة لقضاء الإجازة هناك، وأنا لا أرغب بالذَّهاب إلى بلاد الكفَّار، ولا أريد أن يذهب لوحده؛ فما العمل الذي يمكن أن أقوم به ؟ وهل يلحقُني إثم لمعصيتي زوجي عند ذهابي معه ؟
لا يجوز السَّفر إلى بلاد الكفَّار من أجل النُّزهة؛ لما في ذلك من الخطر على العقيدة والأخلاق، ولا يجوزُ للمرأة أن تطيع زوجها في السَّفر في هذه الحالة؛ لأنه معصية، ولا طاعة للمخلوق في معصية الخالق .(61/6)
157 ـ والدي فوق السّتِّين عامًا من عُمُره، ويسافر كثيرًا إلى بلاد الكفر للفسق والسفور، وقد نصحته كثيرًا، وهو يوبِّخُني بأنه يريدُ أن يمتع نفسه؛ فهل عليَّ أن أطلب الحجر عليه ومنعه من السفر ؟ أم أتركُهُ وشأنه مرضاة لقوله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 . ] ؟
يجب عليك مناصحة والدك عن السفر إلى بلاد الكفر، وحثُّه على التَّوبة، وإذا كان بإمكانك منعه من ذلك؛ وجب عليك منعه؛ لأنَّ ذلك من أجل مصلحته، ومن التعاون معه على البرِّ والتَّقوى، ومن إنكار المنكر، أما إذا كنت لا تستطيع منعه؛ فيكفيك مناصحتُه والإنكار عليه .
وعلى كل حال؛ مناصحتك له ومنعه إن أمكن هو من أعظم الإحسان إليه؛ فهو داخل في قوله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } .
158 ـ ماذا ترون فيمن يُصادق الرَّافضة، وعند تنبيهه بخطرهم؛ فإنه يصفُهم بحسن الأخلاق وحسن الصُّحبة ؟ وجزاكم الله خيرًا .
يجب أن يُبَيَّنَ له حقيقة هؤلاء، فيجب أن يُبَيَّنَ له ما هم عليه، ومذهبهم، وعداوتهم لأهل السُّنَّة، يجب أن يُبَيَّنَ له؛ لأني أعتقد أنه لو عرف ما هم عليه، وفي قلبه إيمان؛ أنه لن يستمرَّ على هذا الشيء؛ فيجب أن يُبَيَّنَ له، لكن البيان يكون بطريقة صحيحة :
أولاً : يكون البيان مدعَّمًا بالأدلة المقنعة .
وثانيًا : يكون هذا البيان سرّيًّا : إمَّا أن يؤدَّى إليه بالمشافهة، وإمَّا بالكتابة سرًّا إليه . فهذا هو الطَّريقُ الصَّحيح .
159 ـ هل هو صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى قبل وفاته ألا يجتمع في أرض الجزيرة دينان ؟(61/7)
نعم؛ أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وقال : ( لا يبقى في جزيرة العرب دينان ) [ رواه الإمام مالك في " الموطأ " ( 2/892-893 ) بنحوه، وانظر : " صحيح مسلم " ( 3/1258 )(7)] ، وقد نفَّذ هذا الأمر الخليفة الراشد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه (8)، وذلك لأنَّ الجزيرة هي مصدر الدِّين الحقّ، الذي هو دين الإسلام؛ فلا يليق أن يبقى فيها ويصدر منها دينٌ غيره .
160 ـ هل يجوز دخول الخادمات والسَّائقين غير المسلمين الجزيرة العربيَّة ؟
هذا لا يجوز، دخول الكفَّار إلى الجزيرة العربيَّة؛ بمعنى أنَّنا نستقدمُهم ونولِّيهم أمورنا وسرائرنا، ونُطلِعُهُم على أحوالنا؛ هذا لا يجوزُ؛ لأنهم أعداءٌ؛ فاستقدام الأيدي العاملة من الكفرة هذا أمر لا يجوز، وذلك لأمور :
الأمر الأول : أن هذا إعانة للكفَّار على المسلمين، والله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } ؛ يعني : من غيركم؛ يعني : من الكفَّار، { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } [ آل عمران : 118 . ] ؛ ففي إعطائنا أموالنا لهم تقوية لهم على كفرهم وإعانة لهم .
وثانيًا : أن في استقدامهم إلى بلاد المسلمين أثرًا سيِّئًا على المسلمين وعلى أولاد المسلمين، وهو مما يمكِّنُ الكفَّار من بثِّ شرورهم وسمومهم بين المسلمين .
والأمر الثالثُ : أننا نحرُمُ إخواننا المؤمنين من الأيدي العاملة التي هي بحاجة إلى هذه الأموال .
فالواجب على من يريد استقدام عمَّالٍ أن يستقدم من المسلمين؛ لِمَا في ذلك من المصالح العظيمة؛ إعانةً لإخواننا المسلمين؛ وأمنًا لشرِّ أعدائنا .(61/8)
هذا من مقتضى الموالاة في الله أننا نستقدم من إخواننا المؤمنين، هذا من الموالاة في الله، ومن مقتضى المعاداة في الله ألا نستقدم الكفار .(61/9)
بر الوالدين والطاعة
161 ـ معلوم أن الزوجة مجبرة على طاعة زوجها كما في الحديث، ومأمورة أيضًا بطاعة والديها في غير معصية الله؛ فما الحكم إذا تعارضت الطَّاعتان ؟ فأيَّهما تقدِّمُ ؟
لا شك أنَّ المرأة مأمورة بطاعة الله سبحانه وتعالى، ومأمورة بطاعة زوجها، وبطاعة والديها ضمن طاعة الله عز وجل .
أمَّا إذا كان في طاعة المخلوق من والد أو زوج معصية للخالق؛ فهذا لا يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الطاعة في المعروف ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/106 ) من حديث علي رضي الله عنه . ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/66 ) من حديث الحكم بن عمرو الغفاري بلفظ قريب من هذا، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 3/123 ) من حديث علي بن أبي طالب بنحوه، ورواه البغوي في " شرح السنة " ( 10/44 ) من حديث النواس بن سمعان . ] ؛ فلا شكَّ أنَّ حقَّ الوالدين مقدَّمٌ، وهو يأتي بعد حقِّ الله سبحانه وتعالى؛ قال تعالى : { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ النساء : 36 . ] ؛ فحقُّ الوالدين متأكّدٌ .
فإذا كان الزّوج سيحملها على معصية والديها وعلى عقوق والديها؛ فهي لا تُطيعُه في هذا؛ لأنَّ حقَّ الوالدين أسبق من حقِّ الزَّوج؛ فإذا طلب منها أن تَعُقَّ والديها؛ فإنها لا تُطيعُه في ذلك؛ لأنَّ العقوق معصية، ومن أكبر الكبائر بعد الشِّركِ .
162 ـ إذا أرضى إنسان رجلاً ذا قوَّة وجاه بمشاركته في معصية لله تعالى، ولم يكن ذلك الإرضاء إلا لقصد الحصول على متعة خاصَّة، أو دفع مضرَّة دنيويَّة؛ فهل يُعتَبَرُ ذلك من اتِّخاذ الأنداد من دون الله ؟(62/1)
الواجب على الإنسان أن يُطيعَ الله سبحانه، ويلتمس رضاه، ولو سخط عليه الناس؛ فإن الله سبحانه سيرضى عنه ويرضي عنه الناس؛ كما في الحديث : ( من التمسَ رضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمسَ رضى الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 7/132-133 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، والله تعالى يقول : { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } [ التوبة : 13 . ] .
فالواجب على المؤمن أن يُطيع الله، ويجتنب معصيته، ويصبر على ما ينالُهُ من الأذى، وإلا؛ كان من الذين قال الله فيهم : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [ العنكبوت : 10 . ] .
قال العلامة ابن القيِّم : " أخبر عن حال الدَّاخل في الإيمان بلا بصيرة؛ أنه إذا أوذي في الله؛ جعل فتنة الناس له - وهي أذاهم، ونيلُهم منه بالمكروه، وهو الألم الذي لابدَّ أن ينال الرُّسل وأتباعهم ممَّن خالفهم -؛ جعل ذلك في فراره منه وتركه السَّبب الذي يناله به كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان؛ فالمؤمنون - لكما بصيرتهم - فرُّوا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحمَّلوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب، وهذا - لضعف بصيرته - فرَّ من ألم أعداء الرُّسل إلى موافقتهم، ففرَّ من ألم عذابهم إلى عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس بمنزلة ألم عذاب الله، وغُبِنَ كُلَّ الغَبْنِ إذ استجار من الرَّمضاء بالنَّار، وفرَّ من ألم ساعة إلى ألم الأبد " انتهى .
وهذا أيضًا بكونه قدَّم خشية الناس على خشية الله قد اتّخذهم أندادًا من دون الله بقدر ما قام بقلبه من ذلك، والله المستعان .(62/2)
163 ـ رئيسي في العمل يُجبرني على القيام بأعمال فيها إخلال بالنظام والأمانة . . . فإذا أطعته؛ ففيه إخلال بهما، وهذا لا يجوز، وإن عصيتُه عن القيام بذلك؛ أوقع عليَّ جزاء؛ فما الذي أعمله ؟
لا يجوز لرئيس العمل أن يعمل ما يُخِلُّ بالنِّظام والأمانة، ولا يجوز له أن يُجبر من تحت يده على ذلك، ولا يجوز للموظِّف أن يطيع رئيسه في ذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والواجب على الموظِّف في مثل هذه الحالة أن ينتقل إلى العمل في مجال آخر، ويبتعد عن هذا الرئيس السيئ، والأعمال والحمد لله كثيرة، { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2، 3 . ] .
164 ـ
إذا كان والد شخص ما مريضًا، وذهب به إلى أحد المستشفيات، وقرَّروا إجراء عمليَّة له، ولكنَّ الوالد رفض إجراء هذه العمليَّة خوفًا على حياته، ورغبةً من ابنه في شفاء والده من هذا المرض؛ أجبر والده على الموافقة، أو احتال عليه حتى أُجريت له العمليَّة دون علمه ودون موافقته؛ فهل يُعتبر هذا عقوقًا لوالده يأثم عليه؛ علمًا أنَّ الدَّافع له محبَّتُه لوالده وطمعه في شفائه ممَّا يُعاني من مرض ؟
ولو فَرَضنا وحصلت الوفاة نتيجة هذه العملية التي تسبَّب فيها ابنه؛ فهل يَلحَقُهُ إثمٌ بذلك أم لا ؟
تَذْكُر أيُّها السائل أنَّ والدك أصيب بمرض، وهو يحتاج إلى عمليَّة جراحيَّة، ولكنه لا يرغب في ذلك، وأنَّك ألححت عليه أو احتلت عليه حتى أُجرِيَت له العملية؛ فهل عليك في ذلك إثمٌ ؟(62/3)
لا حرج عليك في ذلك إن شاء الله؛ لأنكَ تريد له الخير، وتريد له المصلحة، ولم تُرِد به الضَّرر؛ فأنت محسن، ويُرجى له الأجر إن شاء الله، وحتى لو تُوُفِّي من أثر هذه العمليَّة، ما دامت أنَّها عمليَّة جارية مجراها الطبّيَّ، ولم يحصل فيها تفريط، والطَّبيب من أهل الخبرة، وتوافرت الشُّروط؛ فلا حرج عليك في ذلك؛ لأنك محسن، والله تعالى يقول : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } [ التوبة : 91 . ] . والله تعالى أعلم .(62/4)
الهجر وقطيعة الرحم
165 ـ يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( لا يَحِلُّ لمسلم أن يهجُرَ أخاهُ فوق ثلاث ليالٍ؛ يلتقيان، فيُعرِضُ هذا، ويُعرِض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسَّلام ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/90، 91 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ : ( لا يحل لمسلم . . . ) . ] ، أو كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان هذا الشخص الذي خاصمته لا يصلي ولا يصوم ويفعل المنكرات؛ فهل يعتبر خصامي له حرامًا ؟ أم ما هو المقصود من هذا الحديث ؟
الهجر هو ترك مكالمة الشخص وترك مجالسته والسلام عليه .
هجر المؤمن لا يجوز فوق ثلاثة أيام إذا كان على أمر من أمور الدنيا، بل عليه أن يصالح أخاه وأن يُسلِّم عليه إذا لقيه، ومع أنه لا ينبغي ابتداءًا أن يهجر على أمر من أمور الدنيا، ولكن لو حصل شيء من الهجر؛ فإنه لا يتجاوز ثلاثة أيام، وهذا هو المراد بالحديث : ( لا يَحِلُّ لمؤمن أن يهجُرَ أخاه فوقَ ثلاث ) ؛ يعني إذا كان الهجر على أمر من أمور الدنيا .
أما إذا كان الهجر لأجل معصية ارتكبها ذلك المهجور، وكانت هذه المعصية من كبائر الذنوب، ولم يتركها؛ فإنه يجب مناصحته وتخويفه بالله عز وجل، وإذا لم يمتنع عن فعل المعصية ولم يتب؛ فإنه يُهجَر؛ لأن في الهجر تعزيرًا له وردعًا له لعله يتوب؛ إلا إذا كان في هجره محذورًا؛ بأن يُخشى أن يزيدَ في المعصية وأن يترتب على الهجر مفسدة أكبر؛ فإنه لا يجوز هجره في هذه الحالة؛ فهجر العاصي إنما يجوز إذا كان من ورائه مصلحة ولا يترتب عليه مضرة أكبر، وبالله التوفيق .
166 ـ
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يَحِلُّ لمسلم أن يهجر أخاهُ المسلمَ فوق ثلاث؛ يلتقيان، فيُعرِضُ هذا، ويُعرِض هذا، وخيرُهُما الذي يبدأُ بالسَّلام ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/91 ) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه . ] ، أو كما ورد في الحديث .(63/1)
في هذا العصر كَثُرَت القطيعة بين الناس، وخاصة بين القرابة؛ فعندنا أبناء عمومة متقاطعون من زمن بعيد منذ سن الصبا، وهم يحملون لبعضهم الكره والحقد، وقد سعى بينهم أهل الخير والإصلاح بقصد إصلاح ما فسد؛ إلا أنهم يصرون على الكره لبعضهم، وأحدهم متزوج أخت الآخر، ويقول أحدهم : لا أستطيع السيطرة على قلبي تجاه ابن عمي؛ فقلبي يكرهه ولا أستطيع مجالسته ولا مقابلته ولا حتى رد السلام عليه، رغم أنهم متدينون؛ إلا أن الموعظة لم تؤثر فيهم، ويقول أحدهم : إذا كان لا يدخلني الجنة إلا رضاء فلان؛ فلا أرجو هذا . فما ترون فضيلتكم ؟ وكيف السبيل إلى إصلاحهم مع بعضهم ؟ وهل أعمالهم مقبولة وهم بهذه الحالة رغم تقاربهم في النسب والجوار ؟
إن الله سبحانه وتعالى أوجب صلة الأرحام وحرَّم قطيعتها؛ قال تعالى : { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى } [ النساء : 36 . ] ، وقال تعالى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } [ الروم : 38 . ] ، وقال تعالى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [ النساء : 1 . ] .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، توجب صلة الأرحام، وتُحرِّم قطيعتها . وقد لعن الله قاطع الرحم؛ قال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [ محمد : 22-23 . ] .
فقطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب بلا شكٍّ، وعظيمة وتُوجِب تأخير المغفرة للقاطع؛ كما جاء في المتشاحنين، وأن الله سبحانه وتعالى يقول : ( أنظِروا هذين حتى يصطَلِحا ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1987 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .(63/2)
وهذا فيه خطورة عظيمة على المسلم، وفيه ضرر عاجل وآجل .
أما ما ذكر السائل من أن أقارب جرى بينهم من القطيعة ما وصفه، حتى إن بعضهم لا يُكلِّم بعضًا، ويقول إذا نصح : أنا لا أقدر على السيطرة على قلبي، وربما يبالغ فيقول : إن كان دخول الجنة لا يحصل إلا عن طريق فلان؛ فأنا لا أريدها . هذا كله من الكلام الفظيع، وكله من مجاراة الشيطان والهوى .
فيجب التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وصلة ما بينهم، وأن لا يتمادوا مع عدوهم الشيطان، لا سيما إذا كان بينهم رابطة عائلية؛ كما في السؤال أن أحدهم معه أخت الآخر، فهذا أيضًا يؤثِّر على زوجاتهم ويؤثِّر على ذرياتهم، فينشأ الجميع متقاطعين متعادين فيما بينهم، والخطر في هذا عظيم، والواجب التوبة إلى الله سبحانه وتعالى .
وكما في الحديث الذي ذكره السائل : ( لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يَهجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاث ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1984 ) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه . ] ؛ فالهجر - وهو ترك الكلام مع الشخص أو ترك زيارته أو الاتصال به - لا يحل فوق ثلاث، وأما إن كان لأجل دينه من أنه عاص لله ورسوله، ونُصِح، ولم يمتثل؛ فالهجر في حقه إذا كان يزجره عن المعصية ويؤثر فيه فإنه يكون واجبًا، ولو زاد على ثلاثة أيام، حتى يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا من حقوق الإسلام : أن يُهجَرَ العصاة الذين أبوا أن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى حتى يتوبوا .
وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفُوا خمسين يومًا، حتى نزلت توبة الله عليهم (9).
أما الهجر من أجل أمر من أمور الدنيا أو لأجل ضغينة في النفوس؛ فإنه حرام إذا زاد عن ثلاثة أيام؛ كما في الحديث .(63/3)
فعلى كل حال؛ الواجب على هؤلاء أن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يصلوا ما بينهم؛ قال سبحانه وتعالى : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [ الأنفال : 1 . ] ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ فساد ذات البين هو الحالِقَةُ، وبيَّن أنه يحلق الدين (10)؛ بمعنى أنه يجني على الدين ويقضي على الحسنات؛ فالخطر هنا عظيم .
والواجب على المسلم أن يصل رحمه وإن قطعت به؛ فإنه كما في الحديث : ( ليس الواصِلَ بالمُكافِئِ، ولكن الواصِلَ الذي إذا قُطِعَت رحِمَهُ وصَلهَا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/73 ) من حديث عبد الله بن عمر . ] ؛ فالواجب مواصلة الرحم وإن أساء إليك وإن أخطأ في حقك؛ فإنك تواصله، ويكون هذا سببًا في تأليفه وفي ندمه على ما حصل منه .
قال تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 34، 35 . ] .
وهذا يحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى حمل على النفس، وإلى ابتعاد عن الهوى ونزغات الشيطان، ويحتاج إلى تذكر الوعيد والعقوبة العاجلة والآجلة وسوء العاقبة لمن قطع رحمه؛ فإذا تذكر الإنسان هذه الأمور واستشعرها؛ حمله ذلك على التوبة وعلى صلة الرحم؛ لأن في صلة الرحم أجرًا عظيمًا، وفي قطيعتها إثم كبير وأضرار عاجلة وآجلة، والله الموفق .(63/4)
التوبة
167 ـ أنا شاب قد عصيت الله جل وعلا، وشتمت والديَّ، ولكنّي ندمت كثيرًا، وحاولت معهما أن يسامحاني، ولكن للأسف الشَّديد ما استطعت إلى ذلك سبيلاً؛ فهل أدخُلُ النَّار ؟ وفَّقكم الله .
ما دام أنَّك تبت إلى الله توبة صحيحة؛ فإنَّ الله يتوب عليك، ولكن يجب عليك أن تستسمح والديك؛ لأنَّ هذا حقٌّ لمخلوق، ومن شروط التَّوبة إذا كانت من حقِّ المخلوق أن يسمح له ذلك المخلوق عن حقِّه؛ فعليك ببرِّ والديك والإحسان إليهما حتى يرضيا عنك، عليك ببرِّهما والإحسان إليهما والعطف عليهما لعلَّهما يرضيان عنك إن شاء الله تعالى؛ فلا بدَّ من هذا .
أمَّا لعن الوالدين؛ فإنه كبيرة عظيمة؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( لَعَنَ الله مَن لَعنَ والديه ) . قالوا : وكيف يلعن الرجلُ والديه ؟ قال : ( يلعنُ أبا الرَّجل فيلعنُ أباهُ، ويلعنُ أمَّهُ فيلعنُ أمَّه ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/92 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه بلفظ قريب من هذا . ] ؛ هذا إذا لعن أبوي الآخرين؛ فإنَّ هذا سبب يجعل الآخرين يلعنون أبويه؛ فكيف إذا باشر اللعن على والديه ؟ ! الأمر خطير .(64/1)
ولكنَّ التوبة تَجُبُّ كلَّ الذُّنوب، التوبة لا يبقى معها ذنب؛ قال الله سبحانه وتعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [ طه : 82 . ] ، وقال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 . ] ، والله تعالى يفغر الشِّرك ويغفر الكفر إذا تاب منه؛ قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 . ] ، وقال في النَّصارى الذين يقولون : إنَّ الله ثالثُ ثلاثة ! ويقولون : إنَّ الله هو المسيح ابن مريمَ ! قال تعالى : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة : 74 . ] .
فلا تيأس، ولا تقنط، وتُب إلى الله، وأحسن إلى والديك، وسيعطِّفُ الله قلوبهما عليك، ويسمحان عنك إن شاء الله .
168 ـ أنا شابٌّ أريد أن أتوب إلى الله؛ فماذا أفعل لأتجنَّب المعاصي ؟
التوبة إلى الله واجبة، والمبادرة بها واجبة، لا يجوز تأخير التَّوبة إلى وقت آخر؛ لأنَّ الإنسان لا يدري متى يأخُذُهُ الموت .
قال الله سبحانه وتعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 17 . ] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( أتبِعِ السَّيِّئة الحسنة تَمحُها ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 6/204 ) من حديث أبي ذر رضي الله عنه . ] ، والإتباعُ معناه المبادرة؛ فمن آداب التَّوبة المبادرة بها وعدم تأخيرها .(64/2)
كذلك عليك إذا تبت إلى الله أن تجتنب الأسباب التي أوقعتك في الجريمة؛ تجتنب قرناء السُّوء، تبتعد عن جلساء السوء؛ لأنَّهم هم السببُ في إيقاعك في هذه الجريمة، وتذهب إلى الأخيار، تجالس الأخيار، تلازم الدُّروس وحِلَقَ الذِّكرِ، تبكِّرُ إلى المسجد، تكثر من تلاوة القرآن ومِن ذكر الله سبحانه وتعالى، هذا هو الذي ينبغي للتائب إلى الله : أن يبتعد عن كلِّ أسباب المعصية، وأن يقترب من الخير وأسباب الطَّاعة .
169 ـ رجل كان يتعاطى شرب الخمر وكثيرًا من المعاصي، وقد صدرت بحقه عدة أحكام، ولكنه تاب إلى الله وأصبح مواظبًا على الصلاة مع الجماعة وحريصًا على فعل الخير، ومن ذلك أنه يرغب في الأذان؛ بأن يكون مؤذنًا في المسجد وإمامًا أحيانًا في غياب الإمام الرسمي، ولكن بعض جماعة المسجد يرفضون ذلك منه، وأصَرُّوا على عدم فعله ذلك، وعلى شكواه إن فعل، وربما الاعتداء عليه؛ فهل هم على حق في ذلك أم يجب عليهم تشجيعه والأخذ بيده مادام جاء تائبًا إلى الله، وحكمه حكم المؤلفة قلوبهم ؟
المسلم إذا تاب إلى الله توبة صحيحة مما صدر منه من المعاصي؛ فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، بل حتى الكافر إذا تاب إلى الله توبة صحيحة؛ فإن توبته تَجُبُّ ما قبلها من الكفر؛ قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 . ] ، والله جل وعلا يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات؛ فإذا تاب المذنب توبة صحيحة وأصلح العمل بعد التوبة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يتوب عليه ويمحو ما كان من قبل .(64/3)
والسائل يذكر أن هذا الرجل تاب إلى الله توبة صحيحة، وأنه أحسن العمل، ولم يُعرَف عنه شيءٌ بعد التوبة من المعاصي؛ فما دام كذلك؛ فإنه لا مانع من إمامته ومن توليه الأذان؛ فالذي يعترض عليه يكون مخطئًا؛ إلا إذا كان يَعرِف من حاله أشياءٌ تتنافى مع مقام الأذان أو مع مقام الإمامة؛ فإذا كان المخالف أو المعارض يعلم من حال هذا الشخص أشياءً لا تتناسب مع مقام الإمامة أو مقام الأذان؛ فله الحق في الاعتراض، أما إذا كان لا يعرف شيئًا، وإنما يبني على الأمور التي كانت من قبل التوبة؛ فهذا خطأ، والواجب أن يُمكَّن من الأذان إذا كان يصلح للأذان، ويُمكَّن من الإمامة إذا كان تتوفر فيه شروط الإمامة .
170 ـ أذنبت ذنبًا ثم استغفرت الله وعزمت على التوبة، وذلك بأني أقسمت بالله بأن لا أرجع إليه مرة أخرى، ولكن غلبني الشيطان، ثم كررت التوبة وكفَّرت عن اليمين بصيام ثلاثة أيام، ودائمًا أُكثِر بفضل الله من أعمال الطاعات، وتكرر معي هذا الذنب، فكنت أكرر التوبة وصيام الكفارة ثلاثة أيام، ولكني عملت مؤخرًا أن كفارة اليمين تبدأ بإطعام عشرة مساكين؛ فمن لم يجد؛ فصيام ثلاثة أيام؛ فهل تجب علي إعادة الكفارة ( أي : كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين ) عن كل مرة، أم يكفي ما صمتُه قبل ذلك ؟ أفيدونا جزاكم الله خير الجزاء .
يجب على المسلم أن يتوب ويبادر بالتوبة، وأن يحافظ على دينه، وأن يبتعد عن المعاصي؛ لأن المعاصي تضره في دينه وفي دنياه، فيجب عليه أن يتوب توبة نصوحًا صادقة عازمة لا تنقص، وأن لا يكون عند المسلم ضعفٌ وخَوَرٌ، وأن يستعيذ بالله من الشيطان ومن هوى النفس ويتغلب على نفسه .
أما الذي يتوب ثم يعود على الذنب؛ فهذا يدل على ضعف إيمانه وعلى ضعف عزيمته .
وعلى كل حال؛ فالذي حصل منك نرجو الله أن يغفر لك وأن يعينك على الاستمرار في التوبة الصحيحة .(64/4)
أما بالنسبة لكفارة اليمين؛ فكما تبين لك أنها على الترتيب، وأن الصيام هو آخر مرحلة؛ فكفارة اليمين فيها تخيير وفيها ترتيب، فيها تخيير بين العِتقِ ( عِتق الرقبة ) أو إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين، فأي خصلة من هذه الخصال الثلاث فعلتها؛ فإنها تكفي؛ فإذا لم تقدر على واحدة من هذه الخصال الثلاث؛ فإنك تنتقل إلى الصيام، فتصوم ثلاثة أيام .
وما حصل أنك صمت ثلاثة الأيام ابتداء وأنت تقدر على الإطعام أو على كسوة المساكين أو على العتق؛ فإن الصيام لا يجزيك في هذه الحالة؛ فلا بد أن تكفِّر بإحدى الخصال الثلاث التي ذكرنا لك ما دمت تقدر عليها .(64/5)
العلم وتعلمه
171 ـ يُلاحظ على الشَّباب في هذه الآونة الأخيرة إهمالهم وزهدهم في تعلُّم العقيدة ومدارستها والاهتمام بها، وانشغالهم بأمور أخرى؛ فما هو توجيه فضيلتكم لمثل هؤلاء الشَّباب ؟
أنصح للشَّباب ولغيرهم من المسلمين أن يهتمُّوا بالعقيدة أوّلاً وقبل كلِّ شيء؛ لأنَّ العقيدة هي الأصل الذي تُبنى عليه جميع الأعمال قبولاً وردًّا، فإذا كانت العقيدة صحيحة موافقة لما جاء به الرُّسُل عليهم الصلاة والسلام، خصوصًا خاتم الرُّسل نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ سائر الأعمال تقبل، إذا كانت هذه الأعمال خالصةً لوجه الله تعالى، وموافقة لما شرع الله ورسوله، وإذا كانت العقيدة فاسدة، أو كانت ضالَّةً مبنيَّةً على العوائد وتقليد الآباء والأجداد، أو كانت عقيدة شركيَّة؛ فإنَّ الأعمال مردودةٌ، لا يُقبل منها شيء، ولو كان صاحبها مخلصًا وقاصدًا بها وجه الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كانت خالصةً لوجهه الكريم، وصوابًا على سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم .
فمن كان يريد النَّجاة لنفسه، ويريد قبول أعماله، ويريد أن يكون مسلمًا حقًّا؛ فعليه أن يعتني بالعقيدة؛ بأن يعرف العقيدة الصَّحيحة وما يضادُّها وما يناقضها وما يُنقِصُها، حتى يبني أعمالَه عليها، وذلك لا يكون إلا بتعلُّمِها من أهل العلم وأهل البصيرة الذي تلقَّوها عن سلف هذه الأمَّةِ .
قال الله سبحانه وتعالى لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 . ] .
وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله ترجمةً قال فيها : " بابٌ : العلمُ قبل القول والعمل " ، وساق هذه الآية الكريمة : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ } ؛ حيث بدأ الله سبحانه وتعالى بالعلم قبل القول والعمل .(65/1)
وقال الله سبحانه وتعالى : { وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 1-3 . ] ؛ فرتَّب السَّلامة من الخسارة على مسائل أربع :
المسألة الأولى : الإيمان، ويعني : الاعتقاد الصَّحيح .
المسألة الثانية : العمل الصالح والأقوال الصَّالحة، وعَطفُ الأقوال الصَّالحة والأعمال الصَّالحة على الإيمان من باب عطف الخاصِّ على العامِّ؛ لأنَّ الأعمال داخلة في الإيمان، وإنَّما عطفها عليه اهتمامًا بها .
والمسألة الثالثة : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ } ؛ يعني : دعوا إلى الله، وأمروا بالمعروف، ونَهَوا عن المنكر، لمَّا اعتَنَوا بأنفسهم أوّلاً، وعرفوا الطَّريق؛ دعوا غيرهم إلى ذلك؛ لأنَّ المسلم مكلَّفٌ بدعوة الناس إلى الله سبحانه وتعالى، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر .
{ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } ، وهذه المسألة الرَّابعةُ : الصَّبرُ على ما يُلاقونَه في سبيل ذلك من التَّعب والمشقَّةِ .
فلا سعادة لمسلم إلا إذا حقَّقَ هذه المسائل الأربع .
أمَّا الاهتمام الثقافات العامَّة، والأمور الصَّحفيَّةِ، وأقوال الناس، وما يدور في العالم؛ فهذه إنَّما يطَّلع الإنسان عليه بعدما يحقِّق التَّوحيد، ويحقِّقُ العقيدة، ويطَّلِعُ على هذه الأمور؛ من أجل أن يعرف الخير من الشَّرِّ، ومن أجل أن يحذر من ما يدور في السّاحة من شرور ودعايات مضلِّلة، لكن هذا بعدما يتسلَّحُ بالعلم ويتسلَّحُ بالإيمان بالله ورسوله، أمَّا أن يدخل في مجالات الثَّقافة والأمور الصَّحفيَّة وأمور السِّياسة وهو على غير علم بعقيدته وعلى غير علم بأمور دينه؛ فإنّ هذا لا ينفعُه شيئًا، بل هذا يشتغلُ بما لا فائدة له منه، ولا يستطيع أن يميِّزَ الحقَّ من الباطل .(65/2)
كثير ممَّن جَهِلوا العقيدة واعتَنَوا بمثل هذه الأمور ضلُّوا وأضلُّوا ولبَّسوا على الناس؛ بسبب أنَّهم ليس عندهم بصيرة وليس عندهم علمٌ يميِّزون به بين الضَّار والنَّافع، وما يُؤخذ وما يترك، وكيف تعالج الأمور؛ فبذلك حصل الخلل، وحصل اللَّبْسُ عند كثير من الناس؛ لأنَّهم دخلوا في مجالات الثَّقافة ومجالات السِّياسة؛ من غير أن يكون عندهم علمٌ بعقيدتهم وبصيرة من دينهم، فحسبوا الحقَّ باطلاً، والباطل حقًّا .
172 ـ لقد أعرض كثير من الشَّباب عن قراءة كتب السَّلف الصَّالح وتصحيح العقيدة عليها؛ ككتاب " السُّنَّة " لابن أبي عاصم وغيره، التي توضِّحُ منهج أهل السُّنَّة والجماعة وموقفهم من السُّنَّة وأهلها والبدع وأهلها، وانشغلوا بالقراءة لمن يُسَمَّون بالمفكِّرين والدُّعاة، الذي يوجد في كلامهم ما يناقض كتب السَّلف، ويُقَرِّرون خلافها؛ فبماذا توجِّهون هؤلاء الشَّباب ؟ وما هي الكتب السَّلفيَّةُ التي تنصحونهم بقراءتها وبناء العقيدة وتصحيحها عليها ؟
هذا سؤال متفرع عن السُّؤال السَّابق، وهول : لمَّا عرفنا أنه يجب العناية بالعقيدة وتعلُّمُها وتعلُّم ما يجب على الإنسان نحوها؛ فإنه يأتي السؤالُ : ما هي المصادر التي تؤخذُ منها هذه العقيدة ؟ ومن هم الذين نتلقَّى عنهم هذه العقيدة ؟(65/3)
المصادر التي تؤخذ عقيدة التَّوحيد وعقيدة الإيمان منها هي الكتاب والسُّنَّةُ ومنهجُ السَّلف الصَّالح؛ فإن القرآن قد بيَّن العقيدة بيانًا شافيًا، وبيَّن ما يُخالِفُها وما يضادُّها وما يخلُّ بها، وشخَّصَ كلّ الأمراض التي تُخِلُّ بها، وكذلك سنَّةُ الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته ودعوته وأحاديثه صلى الله عليه وسلم، وكذلك السَّلف الصَّالح والتَّابعون وأتباع التَّابعين من القرون المفضَّلة قد اعتنوا بتفسير القرآن وتفسير السُّنَّة وبيان العقيدة الصَّحيحة منهما وتبيينها للنَّاس، فيُرجَعُ بعد كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى كلام السَّلف الصَّالح، وهو مدوَّن ومحفوظ في كتب التفسير وشروح الحديث، ومدوَّن أيضًا بشكل خاصٍّ في كتب العقائد .
وأمَّا من يُتَلَقَّى عنه العقيدة؛ فهم أهل التَّوحيد وعلماء التَّوحيد الذين درسوا هذه العقيدة دراسة وافية وتفقَّهوا فيها، وهم متوفِّرون ولله الحمد، خصوصًا في هذه البلاد؛ بلاد التَّوحيد؛ فإنَّ علماء هذه البلاد على وجه الخصوص وعلماء المسلمين المستقيمين على وجه العموم لهم عناية بعقيدة التَّوحيد؛ يدرُسونها، ويفهَمونها، ويوضِّحونها للناس، ويدعون إليها؛ فالرُّجوع إلى أهل التَّوحيد وإلى علماء التَّوحيد الذين سَلِمَت عقيدتهم وصَفَتْ؛ فهؤلاء هم الذين تؤخذ عنهم عقيدة التَّوحيد .
أما الانصراف عن العقيدة إلى كتب الثَّقافات العامَّة والأفكار المستوردة من هنا وهناك؛ فهذه لا تُغني شيئًا، وهي كما يقول القائل : لحمُ جملٍ غثٌّ فوق جبل صعب وعر ! هذه كتبٌ لا يضرُّ الجهل بها، ولا ينفع العلم بها .(65/4)
ولكن من تضلَّع بعلوم التَّوحيد وعلوم العقيدة الشرعية، وأراد أن يطَّلِع عليها من باب معرفة نعمة الله سبحانه وتعالى عليه؛ بأن هداه للعقيدة الصَّحيحة، وحرمَ هؤلاء الذين انشغلوا بالقيل والقال، وملؤوا الكتب والصُّحف بالكلام الذي لا طائل تحته، وشرُّه أكثر من خيره؛ فهذا لا بأس به، على ألا ينشغل عن قراءة ما يُفيد .
فلا يجوز لطالب العلم والمبتدئ بالخصوص أن يشتغل بهذه الكتب؛ لأنها لا تُسمِنُ ولا تُغني من جوع، وإنما تأخذ الوقت، وتشتِّتُ الفكر، وتضيِّعُ الزَّمانَ على الإنسان .
فالواجب على الإنسان أن يختار الكتب النافعة، والكتب المفيدة، والكتب التي تعتني بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتشرحُ فهمَ السَّلف الصَّالح لها؛ فالعلم ما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن القيِّم رحمه الله :
العلمُ قال الله قال رسولُهُ ** قال الصحابة هم أُولو العرفان
ما العلمُ نصْبَكَ للخلاف سفاهة ** بين النُّصوص وبين رأي فلان (1)
173 ـ كثير من الشباب زهدوا في متابعة الدُّروس العلميَّة المسجَّلة ولزوم دروس أهل العلم الموثوقين، واعتبروها غير هامَّة، أو قليلة النَّفع، واتَّجَهوا إلى المحاضرات العصريَّة التي تتحدَّث عن السياسة وأوضاع العالم؛ لاعتقادهم أنَّها أهمُّ؛ لأنَّها تعتني بالواقع؛ فما نصيحتكم لهؤلاء الشباب ؟
هذا كما سبق؛ الاشتغال بالمحاضرات العامَّة والصَّحافة وبما يدور بالعالم دون علم بالعقيدة ودون علم بأمور الشَّرع تضليل وضياع، ويصبح صاحبها مشوَّش الفكر؛ لأنه استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .(65/5)
والله سبحانه وتعالى أمرنا بتعلُّم العلم النافع أولاً؛ قال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } [ محمد : 19 . ] ، { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [ الزمر : 9 . ] ، { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 . ] ، { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [ طه : 114 . ] . . . إلى غير ذلك من الآيات التي تحثُّ على طلب العلم المنزَّل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ هذا هو العلم النافع المفيد في الدُّنيا والآخرة، وهذا هو النُّورُ الذي يبصِرُ الإنسان به الطَّريق إلى الجنة وإلى السَّعادة والطَّريق إلى العيشة الطَّيّبة النزيهة في الدُّنيا .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [ النساء : 174-175 . ] .
ونحن نقرأ سورة الفاتحة، وفيها الدُّعاء العظيم : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6-آخرها . ] .
والذي أنعم الله عليهم هُم الذين جمعوا بين العلم النَّافع والعمل الصالح { مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ النساء : 69 . ] .
و { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ } [ الفاتحة : 7 . ] : هُم الذين أخذوا العِلم وتركوا العمل .
{ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 7 . ] : هم الذين أخذوا العمل وتركوا العلم .(65/6)
فالصنف الأوّل مغضوب عليه؛ لأنه عصى الله على بصيرة، والصِّنف الثاني ضالٌّ؛ لأنه عمل بدون علم، لا ينجو إلا الذين أنعم الله عليهم، وهم أهل العلم النَّافع والعمل الصَّالح؛ فيجب أن يكون هذا لنا على بالٍِ .
وأما الاشتغال بواقع العصر كما يقولون، أو فقه الواقع؛ فهذا إنما يكون بعد الفقه الشرعيِّ؛ إذ الإنسان بالفقه الشرعيِّ ينظر إلى واقع الناس وما يدور في العالم وما يأتي من أفكار ومن آراء، ويعرضها على العلم الشرعيِّ الصَّحيح؛ ليميز خيرها من شرِّها، وبدون العلم الشرعيِّ؛ فإنه لا يُميِّزُ بين الحقِّ والباطل والهُدى والضَّلال؛ فالذي يشتغل بادئ ذي بدء بالأمور الثقافية والأمور الصَّحافيّة والأمور السياسيّة، وليس عنده بصيرة من دينه؛ فإنّه يَضِلُّ بهذه الأمور؛ لأنَّ أكثر ما يدور فيها ضلالة ودعية للباطل وزُخرُفٌ من القول وغرور، نسأل الله العافية والسَّلامة .
174 ـ الأخذ بمناهج دعويَّة مستوردة وافدة؛ هل لذلك أثر على العقيدة، إذا علمنا ضعف عقيدة المتبوعين، أو ضعف عقيدة الولاء والبراء، أو عدم التَّفريق بين الفرق الضَّالَّة بمناهجهم عند أولئك ؟ وجزاكم الله خيرًا .
الفيصل في هذا هو اتِّباع منهج الرُّسل، خصوصًا خاتَمَ الرُّسل محمدًا صلى الله عليه وسلم، وخاتم الرُّسل كان أوَّل ما يأمر التَّوحيدُ، ويوصي دعاته أن يدعوا أوَّل شيء إلى التَّوحيد، ثم يأمرُ بعد ذلك بأوامر الدِّين من صلاة وزكاة وصيامٍ وحجٍّ .
قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ : ( فليَكُن أوَّلَ ما تدعوهُم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هُم أطاعوكَ لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات . . . ) إلى آخر الحديث [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 2/108 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه . ] .(65/7)
ثم أيضًا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة مأخوذ من سيرته ومن كتابه الله؛ لأن الله تعالى يقول : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 . ] ، ويقول تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ يوسف : 108 . ] .
{ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } : فيجب على الدَّاعية أن يكون مخلصًا في نيَّته، بأن يكون قصده الدَّعوة إلى الله، ليس قصده الدَّعوة إلى نفسه أو الدَّعوة إلى شخص معيَّن أو منهج معيَّن أو طائفة معيَّنة، وإنما يقصد الدَّعوة إلى الله، وإخراج الناس من الظُّلُمات إلى النُّور، ونفع الناس، هذا قصدُ الدَّاعية المخلص .
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى على هذه الآية : { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } ؛ قال : " فيه وجوبُ الإخلاصِ في الدَّعوةِ؛ لأنَّ بعض الناس إنما يدعو إلى نفسه، ولا يدعو إلى الله " (2).
فالذي يدعو إلى نفسه، أو يدعو إلى طائفة، أو يدعو إلى منهج، أو يدعو إلى متبوع؛ لا يدعو إلى الله، وإنما يدعو إلى ما دعا إليه من غير الله .
فالواجب على الدَّاعية أن يكون قصدُه الإخلاص لله عز وجل، ويكون قصده نَفْعَ الناس وإخراجهم من الظُّلمات إلى النُّور، لا التحزُّب ولا التّجمُّع مع الطَّوائف الأخرى، ولا المنازعات ولا الخصومات، ولا الانتصار لفلان أو علاّن، وإنما ينتصر للحقِّ، ويتَّبعُ منهج الحقِّ، هذا هو الذي يدعو إلى الله على المنهج الصَّحيح .
الدَّعوة إلى الله بالإخلاص، الدَّعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسنُ .(65/8)
هذا منهج الدَّعوة الملخَّصُ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن سار على هذا المنهج؛ فهو الدَّاعية إلى الله حقًّا، ومن خالف هذا المنهج؛ فإنه ليس داعيةً إلى الله، وإنما هو داعية لما أراد من الأمور الأخرى؛ فلا بدَّ من هذا المنهج .
والمنهج في الإسلام واحد، لا مناهج في الإسلام؛ قال تعالى : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 . ] ؛ هذا منهج الإسلام، وهذه المناهج الأخرى، وقال سبحانه : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 . ] .
ليس في الإسلام إلا منهج واحد؛ منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي سار عليه السَّلف الصَّالح من الصَّحابة والتَّابعين ومن جاء بعدهم من الدُّعاة والمجدِّدين لدين الله، منهج واحدٌ، لا انقسام فيه ولا اختلاف .
وعلامة هذا المنهج أنَّ الذين عليه لا يختلفون، بل يكونون جماعة واحدة، لا يختلفون فيها، بل يكونون مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين، وعلامة المناهج المنحرفة وجود الاختلافات بين أهلها، والعداوة بين أهلها، والنِّزاع بين أهلها؛ فهذا هو الفارق .
الواجب أن نكون على منهج واحد، منهج الكتاب والسُّنَّة وسلف هذه الأمة، وهو المنهج الصَّحيح الذي يجب أن نسير عليه في دعوتنا إلى الله، وفي عملنا، وفي علمنا، وفي جميع أمورنا، لو أخذنا بهذا؛ لم يحصل اختلافٌ، ولم يحصل عداوات، ولم يحصل تفرُّقٌ، إنما يحصل التَّفرُّقُ من مخالفة هذا المنهج، والتماس مناهج أخرى، هذا هو الذي يوجب التفرق واختلاف .(65/9)
175 ـ لماذا يهتمُّ كثيرٌ من المسلمين بعلم العقيدة، وما المقصود بالعقيدة والإيمان والتوحيد ؟ وهل هناك فرق بين هذه المصطلحات ؟ وما رأيكم فيمن يقول : إنَّ بعض أمور العقيدة وموضوعاتها قد انتهى ومضى زمنها، وبالتَّالي لا جدوى من تعميم دراستها ؟
يهتمُّ الموفَّقون من المسلمين بعلم العقيدة اقتداء بالرُّسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ حيث كانوا يبدؤون دعوتهم بتصحيح العقيدة؛ لأنها هي الأساس الذي يُبنى عليه سائر الأعمال؛ فإذا صحَّتِ العقيدةُ؛ صحَّتِ الأعمال الشرعيَّةُ، وما لم تصحَّ العقيدةُ؛ لم تصحَّ الأعمال .
قال تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الزمر : 65 . ] .
وقال تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 . ] .
والمقصود بالعقيدة والإيمان والتَّوحيد شيء واحد؛ من حيث إنَّها عمل قلبيٌّ، ويزيد الإيمان باقترانه مع ذلك - أي : كونه اعتقادًا بالقلب - أنه أيضًا قولٌ باللسان وعمل بالجوارح .
وجميع أمور العقيدة وموضوعاتها لابدَّ من معرفتها والعناية بها في كل زمان ومكان، ولا ينتهي العمل بها إلى أن تقوم السَّاعة .
والذي يرى أنَّ بعض أمور العقيدة ومواضيعها قد انتهى وقتُها؛ لا يخلو :
إمَّا أن يكون جاهلاً لا يعرف مواضيع العقيدة وأهمِّيَّتها .
وإمَّا أن يكون عنده خلل في عقيدته، ويريد التستُّر على هذا الخلل؛ لئلا ينكشف .
كالذين يقولون : اتركوا الكلام في موضوع توحيد الألوهيَّةِ؛ لأنَّ هذا يفرِّقُ بين المسلمين، واكتفوا بالكلام في توحيد الرُّبوبيَّة، وإثبات وجود الله، والرَّدِّ على الملاحدة والشُّوعيِّيين، ولا تتعرَّضوا لعبَّاد القبور والأضرحة !(65/10)
وكالذي يقول : اتركوا الكلام في موضوع إثبات الأسماء والصِّفات والرَّدِّ على ما من يتعرَّض لها بنفي أو تأويل . . . إلى غير ذلك .
وكلُّ هذا كلام باطل لابدَّ من كشف زيفِهِ وبيان مغزاه وتعرية مضمونه الباطل وما ينطوي عليه من سوء معتقد ! والرَّسول صلى الله عليه وسلم جاء ببيان العقيدة للناس، وبيان ما يفسدها قبل كل شيء، وكثير من آيات القرآن وسوره في توضيح هذا الأمر ووجوب بيانه للناس؛ فهل يريد هؤلاء منَّا أن نترُك القرآن وما فيه من بيان العقيدة ؟ ! !
176 ـ هناك من يزهد في دروس العقيدة، ويقول : نحن مسلمون ولسنا بكفرة أو مشركين حتى نتعلم العقيدة أو ندرسها في المساجد . فما توجيه فضيلتكم حيال هذا ؟
ليس معنى تدريس العقيدة وتعليم العقيدة أننا نحكم على الناس أنهم كفَّار، نحن ندرسها للمسلمين والموحدين من أجل أن يعرفوها تمامًا ويعرفوا ما يناقضا ويعرفوا ما يضادها .
وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه صحابي جليل يقول : ( كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن أقع فيه ) [ رواه الإمام البخاري في صحيحه ( 4/178 ) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه . ] .
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : " يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " .
فنحن إذا درسنا العقيدة ليس معناه أننا نحكم على الناس بالكفر، لا بل معناه أننا نريد أن نعرف العقيدة الصحيحة حتى نتمسك بها ونعرف ما يضادها حتى نتجنبها .(65/11)
الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 . ] ؛ فلا بد أن الإنسان يتعلم ولا يكتفي أنه يقول : إنني أنا مسلم ! أنت مسلم والحمد لله؛ لكن لو سألناك : ما هو الإسلام ؟ أو قلنا لك : عرِّف لنا الإسلام ؟ فالكثيرون لا يستطيعون أن يُعرِّفوا الإسلام تعريفًا صحيحًا . ولو قلت : بين لي نواقض الإسلام ؟ فالكثيرون لا يعرفون نواقض الإسلام، وإذا جهلها؛ يوشك أن يقع فيها وهو لا يدري . ولو قلت : بيِّن لي أركان الإسلام، أو : بيِّن لي أركان الإيمان التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم واشرحها لي . لوجدنا الكثيرين لا يعرفون ذلك .
كيف تقول : إنك مسلم وأنت لا تعرف هذه الأمور ؟
بل إن الكثير من الدعاة لا يعرفون شروط الصلاة، ولا يعرفون أحكام الوضوء، ولا يعرفون نواقض الوضوء، ولا يعرفون أركان الصلاة، وواجبات الصلاة، ولا يعرفون مبطلات الصلاة، أين هؤلاء من الإسلام ؟ !
الإسلام ليس دعوى فقط، الإسلام حقيقة ومعرفة . . . لا بد من المعرفة والعلم والبصيرة؛ لأن الذي لا يعلم يقع في الخطر وهو لا يدري، مثل الجاهل الذي يسير في طريق لا يعرفه، وهذا الطريق فيه حفر وفيه أعداء وسباع؛ يقع في الخطر وهو لا يدري .
فلا بد من تعلُّم التوحيد؛ لأن التوحيد هو الأساس، ولا يزهد في تعلم التوحيد إلا أحد رجلين : إما جاهل، والجاهل لا عبرة به، وإما مغرض مُضِل يريد أن يصرف الناس عن عقيدة التوحيد، ويريد أن يسدل الغطاء على عقائد المنحرفين الذين ينتسبون إلى الإسلام وعقائدهم فاسدة، يريد أن يرُخي الستار عليها، ولا ينكر عليها، ويدخلوا مع الناس، ويتزعموا الناس، وهم أصحاب عقائد منحرفة . هذا يمكن يريده كثير من هؤلاء .(65/12)
والله تعالى يقول : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 . ] ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مَن يُرِد الله به خيرًا؛ يُفَقِّههُ في الدِّين ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/25، 26 ) من حديث معاوية رضي الله عنه . ] ؛ فمفهوم الحديث أن الذين لا يريد الله به خيرًا لا يفقهه في الدين؛ فهذا الذي يقول : لا تتعلموا العقيدة ! يقول : لا تتفقهوا في الدين ! وهذا إما جهل وإما تضليل .
177 ـ كيف تنعكس العقيدة على حياة المسلم وتصرُّفاته ؟
كما أشرنا؛ إذا صحَّت العقيدة؛ صحَّت أعمال المسلم؛ لأنَّ العقيدة الصحيحة تحمل المسلم على الأعمال الصَّالحة، وتوجِّهه إلى الخير والأفعال الحميدة، وإنه إذا شهد أن لا إله إلا الله شهادة مبنيَّة على علم ويقين ومعرفة لمدلولها؛ توجه إلى الأعمال الصَّالحة؛ لأنَّ شهادة أن لا إله إلا الله ليست مجرَّد لفظ يقال باللسان، بل هي إعلان للاعتقاد والعمل، ولا تصحُّ هذه الشَّهادة، ولا تنفع؛ إلا إذا قام بمُقتضاها من الأعمال الصَّالحة، فأدَّى أركان الإسلام وأركان الإيمان وما زاد على ذلك من أوامر الدِّين وشرائعه وسننه ومكمِّلاته .
178 ـ إضافةً لحالة التردِّي تعيش الأمة الإسلاميَّة حالة اضطراب فكري، خصوصًا فيما يتعلَّق بالدِّين؛ فقد كثُرت الجماعات والفرق الإسلاميَّة التي تدَّعي أنَّ نهجها هو المنهج الإسلاميُّ الصَّحيح الواجب الاتِّباع، حتى أصبح المسلم في حيرة من أمره؛ أيَّها يتَّبعُ ؟ وأيها على الحق ؟
التّفرُّق ليس من الدين، لأن الدِّين أمرنا بالاجتماع، وأن نكون جماعة واحدة وأمَّة واحدة على عقيدة التَّوحيد وعلى متابعة الرَّسول صلى الله عليه وسلم .(65/13)
يقول تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 . ] ، ويقول تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 . ] ، وقال سبحانه وتعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ الأنعام : 159 . ] ، وهذا وعيد شديد في التفرُّق والاختلاف؛ قال تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 105 . ] .
الإسلام دين الجماعة ودين الإلفة والاجتماع، والتفرُّق ليس من الدِّين؛ فتعدُّد الجماعات هذا ليس من الدِّين؛ لأنَّ الدِّين يأمرنا أن نكون جماعةً واحدةً، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول : ( المسلم للمسلم كالبُنيان يشدُّ بعضه بعضًا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 7/80 ) بلفظ : ( المؤمن للمؤمن ) ؛ من حديث أبي موسى . ] ، ويقول : ( مَثَلُ المؤمنين في توادِّهِم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1999-2000 ) من حديث أبي موسى . ] .
إنّ البنيان وإنَّ الجسد شيء واحد متماسك، ليس فيه تفرُّقٌ؛ لأنّ البنيان إذا تفرَّق؛ سقط، كذلك الجسم إذا تفرَّق؛ فقد الحياة . ولا بدَّ من الاجتماع، وأن نكون جماعة واحدةً، أساسُها التَّوحيدُ، ومنهجُها دعوة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ومسارُها على دين الإسلام؛ قال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 . ] .(65/14)
فهذه الجماعات وهذا التفرُّقُ الحاصل على السَّاحة اليوم لا يُقِرُّهُ دين الإسلام، بل ينهى عنه أشدَّ النَّهي، ويأمر بالاجتماع على عقيدة التَّوحيد، وعلى منهج الإسلام؛ جماعة واحدة، وأمة واحدة؛ كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بذلك .
والتفرُّقُ وتعدُّدُ الجماعات وإنما هو من كيد شياطين الجنِّ والإنس لهذه الأمة؛ فما زال الكفَّارُ والمنافقون من قديم الزَّمان يدسُّونَ الدَّسائس لتفريق الأمَّة؛ قال اليهود من قبل : { آمِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ آل عمران : 72 . ] ؛ أي : يرجع المسلمون عن دينهم إذا رأوكم رجعتم عنه، وقال المنافقون : { لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا } [ المنافقون : 7 . ] ، { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 107 . ] .
179 ـ هناك من يتساهل في أهمِّيَّة العقيدة، ويرى أن الإيمان يكفي؛ هل لكم في بيان أهمِّيَّة العقيدة للمسلم، وكيف تنعكس عليه في حياته وفي علاقاته مع نفسه ومجتمعه ومع غيره المسلمين ؟
إنَّ تصحيح العقيدة هو الأصل؛ لأنَّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله هي أوَّل أركان الإسلام، والرُّسل أول ما تدعوا الأمم إلى تصحيح العقيدة؛ لأجل أن تنبني عليها سائر الأعمال من العبادات والتّصرُّفات، ودون تصحيح العقيدة لا فائدة من الأعمال .
قال تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 . ] ؛ أي : لبطلت أعمالُهم .
وقال سبحانه وتعالى : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ المائدة : 72 . ] .(65/15)
وقال تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الزمر : 65 . ] .
من هذه النُّصوص وغيرها يتبيَّنُ ما لتصحيح العقيدة من أهميَّة، وهي أول أوَّليات الدَّعوة، وأوَّل ما تقوم الدَّعوة على تصحيح العقيدة؛ فقد مكث النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مكة بعد بعثته ثلاث عشرة سنة؛ يدعو الناس إلى تصحيح العقيدة، وإلى التَّوحيد، ولم تُنزَل عليه الفرائض إلا في المدينة، نعم؛ فُرِضَت الصلاة عليه في مكة قبل الهجرة، وبقيَّة الشَّرائع إنما فُرِضَت عليه بعد الهجرة، ممَّا يدلُّ على أنه لا يطالَبُ بالأعمال إلا بعد تصحيح العقيدة .
وهذا الذي يقول : إنه يكفي الإيمان دون الاهتمام بالعقيدة ! هذا تناقض؛ لأنَّ الإيمان لا يكون إيمانًا إلا إذا صحَّتِ العقيدة، أمَّا إذا لم تكن العقيدة صحيحةً؛ فليس هناك إيمانٌ ولا دينٌ .
180 ـ ما الواجب على المسلم أن يعرفه من دينه عقيدة وشريعة ؟
يجب على المسلم أن يعرف جميع أمور دينه عقيدة وشريعة؛ بأن يتعلَّم أمور العقيدة، وما يجب لها، وما يضادُّها، وما يكمِّلُها، وما يُنقِصُها، حتى تكون عقيدته عقيدة صحيحة سليمة، ويجب عليه كذلك أن يتعلَّم أحكام دينه العمليَّة، حتى يؤدِّي ما أوجبه الله عليه، ويترك ما حرَّمَ الله عليه على بصيرة .
قال الله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 . ] ؛ فبدأ بالعلم قبل القول والعمل .
فلا بدَّ من العلم والعمل؛ فالعلم بدون عمل لا يكفي، وإنما يكون مغضوبًا على صاحبه، ويكون حجَّةً على الإنسان، والعمل بدون علم لا يصحُّ؛ لأنه ضلال، وقد أمرنا الله أن نستعيذ من طريق المغضوب عليهم والضَّالين في آخر سورة الفاتحة في كلِّ ركعةٍ من صلاتنا .(65/16)
181 ـ نلاحظ عزوف عدد كبير من الناس عن مجالس العلم المقامة في هذا البلد، وعدم التَّشجيع على هذا المجال من بعض الأهالي، بل قد يكون هناك تثبيط بدلاً من التَّشجيع؛ رغم قلّة هؤلاء؛ إلا أنهم يكثرون من التّشدُّق بالقول، مع الاستهانة بأعراض طلبة العلم، ومحاولة صدِّهم وتشويه دورهم ودَورِ أهل الخير؛ فما توجيهُكم ؟
نقول : الله يهديهم ويدلُّهم على الخير، وهذا الأمر لا يجوز؛ فلا يجوز للإنسان أن يتساهل في حضور مجالس العلم والسَّعي إليها؛ لأنَّه قد يستفيد فائدة تكون سببًا لدخوله الجنَّة، قد يسمع كلمة واحدة تكون سببًا لدخوله الجنَّة ونجاته من النار .
والإعراض عن حضور مجالس العلم فيه خطورة عظيمة، وقد ذكر بعض أهل العلم أنَّ الإعراض عن دين الله لا يعلِّمُه ولا يتعلَّمُه ردَّةٌ عن الإسلام؛ كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ } [ الأحقاف : 3 . ] ، وإن كان إن شاء الله هؤلاء لم يهجروا ويُعرِضوا، وإنما لم يحرصوا على حضور مجالس العلم عن كسل وتهاون لا عن عدم رغبة فيها، وهؤلاء قد حرموا أنفسهم من خير كثير .
أمَّا إذا كان عدم الحضور لأنهم لا يرون العلم ولا يرون تعلُّمَه؛ فهذا خطر عظيم، أو يسخرون من العلم، ويسخرون من العلماء؛ فهذا يكون ردَّةً عن الإسلام .
182 ـ ما هي أفضل الكتب وأسهلها والتي أُلِّفَت في العقيدة ؟(65/17)
الكتب التي أُلِّفَت في بيان العقيدة الصحيحة عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة كتب كثيرة والحمد لله، منها المختصر ومنها المطوَّلُ، ومن أخصرها وأسهلها : رسالة " ثلاثة الأصول " ، ورسالة " كشف الشُّبهات " ، وكتاب " التَّوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد " ، وكلُّها لشيخ الإسلام الإمام المجدِّد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وشروح كتاب " التوحيد " ؛ مثلُ " فتح المجيد " ، و " قرة عيون الموحِّدين " ؛ كلاهما للشَّيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله، وغيرهما، ومن الكتب السهلة المختصرة في العقيدة : " العقيدة الواسطيَّة " لشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، وكتاب " شرح الطَّحاوية " للعزِّ بن أبي العزِّ الحنفي، وكذا قسم العقيدة من " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميَّة " ، ومجموعُ فتاوى ورسائل علماء نجد المسمَّى بـ " الدُّرر السّنّيَّة " جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم، وكتاب " إغاثة اللَّهفان " للإمام ابن القيِّم، و " المنظومة النُّونيَّةُ " له، وكتاب " الصواعق المرسلة على الجهميَّة والمعطِّلة " له أيضًا .(65/18)
الدعوة والدعاة
183 ـ نحن شباب لدينا بعض العلم، وقد طُلِبَ منا الذهابُ إلى الجمهورية السوفييتية المسلمة؛ حيث يعاني المسلمون هناك من الجهل ودخول بعض الفرق المنحرفة لتضليلهم؛ فهل يجوز لنا الذهاب هناك والدعوة إلى توحيد الله والعقيدة الصحيحة؛ علمًا بأن الذهاب يكون شهرًا واحدًا في الإجازة الصيفية ؟ أفيدونا وفقكم الله .
لا شك أن هذا أمر مهم، والذهاب إلى هؤلاء لدعوتهم للإسلام وإلى تصحيح العقيدة مهم جدًا، وهو من الجهاد في سبيل الله، وفيه أجر عظيم، ولكن هذا لمن يكون عنده الاستطاعة العلمية؛ بأن يكون عنده علم يستطيع أن يبين للناس العقيدة الصحيحة ويبين للناس ما يضاد العقيدة أو يُنقِص العقيدة من الشركيات والبدع؛ فإذا كان عنده استعداد علمي؛ فهذا من أفضل الأعمال؛ فليذهب ويدعُ إلى الله ويُعلِّم ويُرشِد، وهو مُثابٌ إذا صَلُحَت نيَّتُه :
قال صلى الله عليه وسلم : ( مَن دعا إلى هُدىً؛ كان له مِنَ الأجر مثلَ أجورِ مَن تَبِعَهُ، لا ينقص ذلك من أُجُورِهِم شيئًا ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2060 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] .
قال الله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ فصلت : 33 . ] .
الدعوة إلى الله من أفضل الأعمال، لكن بشرط أن يكون الداعية مؤهلاً بالعلم النافع .
184 ـ وما رأي فضيلتكم في ذلك التراشق المكتوب والمسموع الذي حدث بين بعض العلماء ؟ وألا ترون أن جلوسهم للحوار كان أجدى ؟ وأن ذلك ربما أفسد مشاريعهم الإسلامية ؟(66/1)
العلماء المعتبرون لم يحصل بينهم شيء مما ذُكِر في السؤال، وإنما الذي يمكن حدوثه من ذلك هو بين بعض المتعلمين والشباب المتحمسين، ونسأل الله لهم الهداية والتوفيق، وندعوهم إلى ترك هذا العمل المشين، والتآخي فيما بينهم على البر والتقوى، والرجوع إلى أهل العلم فيما أُشكِلَ عليهم، وعليهم بدراسة منهج أهل السنة والجماعة على أيدي العلماء، حتى يتضح لهم الحق، ويستبين لهم طريقُ الصواب، وألا يتأثروا بالأفكار الوافدة التي تريد تفريق جماعتهم وفصلهم عن مشائخهم ومنهج سلفهم الصال؛ فإن الفتنة إنما حدثت وتحدث بين شباب المسلمين بسبب الإصغاء إلى الأفكار الوافدة المشبوهة والإعراض عن المنهج الصحيح .
185 ـ ما هي أوصاف العلماء الذين يُقتَدَى بهم ؟
أوصاف العلماء الذين يُقتَدَى بهم هم أهل العلم بالله سبحانه وتعالى، الذين تفقَّهوا في كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحَلَّوا بالعلم النَّافع والعمل الصَّالح؛ فلا يُقتدى بعالم لا يعمل بعلمه، ولا يُقتدى بجاهل ليس عنده علم، ولا يُقتدى إلا بمن جمع بين الأمرين : العلم النافع، والعمل الصَّالح .(66/2)
وبالنسبة للذين يُقتدى بهم في بلادنا ومن تؤخذ أشرطتهم، وهم كثيرون ولله الحمد، معروفون عند الناس، لا يجهلُهُم أحد، لا البادية ولا الحاضرة، ولا الكبار ولا الصِّغارُ، هم القائمون على أعمال هذه الأمة من الفتوى والقضاء والتَّدريس وغير ذلك، الذين عُرِفَ عنهم العلم والتُّقى والورع، وعلى رأس علمائنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله؛ فإنه رجل مَنَّ الله عليه بالعلم الغزير والعمل الصَّالح والدَّعوة إلى الله والإخلاص والصِّدق وما لا يخفى على كلِّ أحد، وهو ولله الحمد صدر عنه خير كثير من الكتابات من والمؤلَّفات ومن الأشرطة ومن الدُّروس، وكذلك العلماء الذين يُفتون في برنامج ( نور على الدَّرب ) ، هؤلاء أيضًا ولله الحمد عُرفت عنهم الفتاوى الصَّائبة والأقوال النَّافعة في الغالب، وكذلك إخوانهم من أصحاب الفضيلة كبار القُضاة؛ لأنه لا يشتغل بالقضاء ويثق الناس به في دمائهم وأموالهم وفروجهم إلا من كان موثوقًا بعلمه .
إنَّ هؤلاء لهم جهود في الدَّعوة والإخلاص والرَّدِّ على من يريدون الانحراف بالدَّعوة عن طريقها الصَّحيح، سواء عن قصد أو عن غير قصد، هؤلاء لهم تجارب ولهم خبرة وسبرٌ للأقوال ومعرفة الصَّحيح من السَّقيم، فيجب أن تُروَّج أشرطتهم ودروسهم، وأن يُنتَفَع بها؛ فإنَّ فيها فائدة كبيرة للمسلمين، وكلُّ عالم لم يُجَرَّب عليه خطأ ولم يُجرَّب عليه انحراف في سيرة أو فكر؛ فإنه يؤخذ عنه .
186 ـ لقد كثر المنتسبون إلى الدَّعوة هذه الأيام، مما يتطلَّب معرفة أهل العلم المعتبرين، الذين يقومون بتوجيه الأمَّة وشبابها إلى منهج الحقِّ والصَّواب؛ فمن هم العلماء الذين تنصح الشّباب بالاستفادة منهم ومتابعة دروسهم وأشرطتهم المسجَّلة وأخذ العلم عنهم والرُّجوع إليهم في المهمَّات والنَّوازل وأوقات الفتن ؟(66/3)
الدَّعوة إلى الله أمر لابدّ منه، والدِّين إنَّما قام على الدّعوة والجهاد بعد العلم النَّافع؛ { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ العصر : 3 . ] ؛ فالإيمان يعني العلم بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته وعبادته، والعمل الصَّالح يكون فرعًا من العلم النَّافع؛ لأنَّ العمل لا بدَّ أن يؤسَّس على علم .
والدَّعوة إلى الله والأمر بالمعروف والتَّناصح بين المسلمين؛ هذا أمر مطلوب، ولكن ما كلُّ أحد يُحسنُ أن يقوم بهذه الوظائف، هذه الأمور لا يقوم بها إلا أهل العلم وأهل الرَّأي النَّاضج؛ لأنها أمور ثقيلة مهمَّةٌ، لا يقوم بها إلا من هو مؤهَّلٌ للقيام بها، ومن المصيبة اليوم أنَّ باب الدّعوة صار بابًا واسعًا، كلٌّ يدخل منه، ويتسمَّى بالدَّعوة، وقد يكون جاهلاً لا يُحسِنُ الدَّعوة، فيفسد أكثر ممَّا يصلح، وقد يكون متحمِّسًا يأخذ الأمور بالعجلة والطَّيش، فيتولَّدُ عن فعله من الشُّرور أكثر ممّا عالج وما قصد إصلاحه، بل ربّما يكون ممّن ينتسبون للدّعوة، ولهم أغراض وأهواء يدعون إليها ويريدون تحقيقها على حساب الدّعوة وتشويش أفكار الشباب باسم الدعوة والغيرة على الدّين، وربّما يقصد خلاف ذلك؛ كالانحراف بالشّباب وتنفيرهم عن مجتمعهم وعن ولاة أمورهم وعن علمائهم، فيأتيهم بطريق النّصيحة وبطريق الدّعوة في الظّاهر؛ كحال المنافقين في هذه الأمة، الذين يريدون للناس الشَّرَّ في صورة الخير .(66/4)
أضرب لذلك مثلاً في أصحاب مسجد الضِّرار؛ بنوا مسجدًا، في الصُّورة والظَّاهر أنه عمل صالح، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلِّيَ فيه من أجل أن يرغِّبَ الناس به ويقرَّهُ، ولكنَّ الله علم من نيَّات أصحابه أنهم يريدون بذلك الإضرار بالمسلمين، الإضرار بمسجد قُباء، أول مسجد أُسِّسَ على التَّقوى، ويُريدون أن يفرِّقوا جماعة المسلمين، فبيَّن الله لرسوله مكيدة هؤلاء، وأنزل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [ التوبة : 107-108 . ] .
يتبيَّن لنا من هذه القصة العظيمة أن ما كلُّ من تظاهر بالخير والعمل الصالح يكون صادقًا فيما يفعل، فربما يقصد من وراء ذلك أمورًا بعكس ما يُظهِرُ .
فالذين ينتسبون إلى الدَّعوة اليوم فيهم مضلِّلون يريدون الانحراف بالشَّباب وصرف الناس عن الدِّين الحقِّ وتفريق جماعة المسلمين والإيقاع في الفتنة، والله سبحانه وتعالى حذَّرنا من هؤلاء : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [ التوبة : 47 . ] ؛ فليس العبرة بالانتساب أو فيما يظهر، بل العبرة بالحقائق وبعواقب الأمور .(66/5)
والأشخاص الذين ينتسبون إلى الدَّعوة يجب أن يُنظر فيهم : أين دَرَسوا ؟ ومِن أين أخذوا العلم ؟ وأين نشؤوا ؟ وما هي عقيدتهم ؟ وتُنظرُ أعمالُهم وآثارهُم في الناس، وماذا أنتجوا من الخير ؟ وماذا ترتَّب على أعمالهم من الإصلاح ؟ يجب أن تُدرس أحوالهم قبل أن يُغتَرَّ بأقوالهم ومظاهرهم، هذا أمر لا بدَّ منه، خصوصًا في هذا الزَّمان، الذي كثر فيه دعاة الفتنة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم دعاة الفتنة بأنهم قومٌ من جلدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا (1)، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ عن الفتن؛ قال : ( دُعاةٌ على أبواب جهنَّمَ، من أطاعَهُم؛ قذفوه فيها ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 8/92-93 ) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه . ] ، سمَّاهم دُعاةً !
فعلينا أن ننتبه لهذا، ولا نحشُدَ في الدَّعوة كلَّ من هبَّ ودبَّ، وكل من قال : أنا أدعو إلى الله، وهذه جماعة تدعو إلى الله ! لا بدَّ من النَّظر في واقع الأمر، ولا بدَّ من النَّظر في واقع الأفراد والجماعات؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى قيَّد الدَّعوة إلى الله بالدَّعوة إلى سبيل الله؛ قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ . . . } [ يوسف : 108 . ] ؛ دلَّ على أنَّ هناك أناسًا يدعون لغير الله، والله تعالى أخبر أنَّ الكفَّار يدعون إلى النار، فقال : { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 221 . ] ؛ فالدُّعاة يجب أن يُنظَرَ في أمرهم .
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهَّاب رحمه الله عن هذه الآية { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } : " فيه الإخلاصُ؛ فإنَّ كثيرًا من الناس إنَّما يدعو إلى نفسه، ولا يدعو إلى الله عز وجل " (2).(66/6)
187 ـ هل أساليب الدَّعوة محدَّدة بضوابط معيَّنة ؟
الله سبحانه في القرآن يقول : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 . ] ؛ لأن الذي يقع في المنكر : إما أن يكون جاهلاً؛ فهذا يكفي فيه الدَّعوة بالحكمة؛ كأن يبيَّنَ له الخطأ، فإذا تبيَّن له الخطأ؛ رجع إلى الصَّواب .
ومِنَ الناس من إذا بُيِّنَ له الخطأ؛ لا يرجع، ويكون عنده تكاسل؛ لأنَّ هواه ينازعه، ونفسه تنازعه؛ فهذا يحتاج إلى موعظة؛ بأن يخوَّف بالله عز وجل، ويبيَّنَ له عقوبة من استمرَّ على المعصية بعد معرفتها .
وهناك صنف ثالث : إذا عرف الحكم؛ فإنَّه يجادل عن الباطل، ويجادل عمَّا هو عليه من المنكر، ويريد تسويغ ما هو عليه من خطأ؛ فهذا يحتاج إلى الجدال، لكن يكون الجدال بالتي هي أحسن، لا يكون بعنف، ولا يكون بتعيير، ولا بتشهير، وإنما يكون بالتالي هي أحسن، وبقرع الحُجَّة بالحُجَّة، حتى يتَّضح الحقُّ، ويزول الباطل .
وهذه الدَّرجات ذكرها الله سبحانه وتعالى في الآية : { بِالْحِكْمَةِ } الدرجة الأولى، وبـ { وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } الدرجة الثانية، والجِدالُ بالتي هي أحسنُ الدّرجة الثالثة، وهي درجات تختلف باختلاف المدعوِّين .
188 ـ ما رأي فضيلتكم فيمن يهتمُّ بأمور المسلمين المهمَّة؛ كالدَّعوة إلى الله وتربية الشَّباب على التمسُّكِ بالقرآن والسُّنَّة المطّهَّرة، ولا يجد الوقت لحفظ القرآن الكريم؛ فما نصيحتكم لمثل هؤلاء ؟
يجب على الدَّاعية أولاً أن يتأهَّل قبل أن يباشر الدَّعوة؛ بأن يدرس القرآن الكريم ومعانيه وتفسيره، ويدرس السُّنَّة النبويَّة ما تيسَّر منها، ويقرأ في شروحها، ويتعلَّم الأحكام الشرعيَّة .
فيجب على الداعية إلى الله أن يكون مؤهلاً؛ فلا يصلُحُ للدَّعوة إلا مَن كان معه علم .(66/7)
قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 . ] : البصيرة هي العلم والحكمة .
وقال تعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 . ] ؛ فالجاهل لا يصلُحُ للدَّعوة؛ لأنه ربَّما يسيء للدَّعوة، كأن يحلِّل حرامًا، أو يحرِّم حلالاً، أو يشدِّد في موضوع لا يتحمَّلُ التّشدُّد، أو غير ذلك .
فلا بدَّ من شروط للدَّاعية، الشرط الأساسيُّ منها أن يكون متعلِّمًا العلم الذي يستطيع به أن يدعو الناس إلى دين الله عز وجل، وأيضًا؛ ربَّما يُعرَضُ على الدَّاعية شُبهات تحتاج إلى جواب عنها، فإذا كان جاهلاً؛ فكيف يجيب على هذه الشُّبُهات ؟ ! كيف يجيب على اعتراضات المعترضين ؟ ! أو كيف يقاوم الملاحدة والفسَّاق والمشبهين، فإذا لم يكن عنده علم؛ فسوف ينهزم أمامهم؛ فلا بدَّ للدَّاعية من العلم بالقرآن وبالسُّنَّة النّبويَّة وبالحديث وبالفقه وبالعقيدة وغيرها من العلوم .
189 ـ الدَّعوة فرض كفاية؛ فهل هذا يوافق ما نحن فيه من الجهل والضَّلال ؟ أم أصبحت الدَّعوة واجبة على الجميع في هذه الأيام بسبب الجهل وانتشار الفساد ؟ الرَّجاء التَّوضيح .
ما كلٌّ يستطيع الدّعوة؛ بمعنى أنّه يعلِّمُ الناس أمور الدِّين وأمور العقيدة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر .
ما كلٌّ يستطيع هذا : إمَّا لضعفٍ في جسمه وشخصيَّته، وإمَّا لضعف في علمه، وأنه ليس عنده من العلم ما يعرف به الحلال والحرام، والواجب والمندوب، والمكروه والمستحبَّ، وإنما تجب الدَّعوة على من يستطيع القيام بها وعند مؤهِّلاتٌ لها .
لكن علي كلِّ مسل مسؤوليَّةٌ بحسب استطاعته؛ فمثلاً صاحبُ البيت - وإن كان عامّيًّا - عليه الدَّعوة لأهل بيته؛ بأن يأمرهم بالمعروف، وينهاهُم عن المنكر، وينقِّيَ البيت من المُنكرات، ويهيِّئَهُ للأعمال الصَّالحة :(66/8)
لأنَّ الله جلَّ وعلا يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [ التحريم : 6 . ] ؛ فالإنسان مكلَّفٌ بالدَّعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر؛ على أهل بيته ومَن تحت يده .
والرَّسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( مُروا أولادكم بالصّلاة لسبعٍ، واضرِبوهُم عليها لعشرٍ ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/130 ) من حديث عمرو بن شيب عن أبيه عن جده ] ؛ فالخطاب هذا موجَّه لعموم الآباء .
فليس هناك أحدٌ من المسلمين ليس عليه مسؤوليَّةٌ : إمَّا عامَّةٌ، وإمَّا خاصَّة، وعلى أهل العلم بالذّات المسؤوليَّة أكبر، والواجب عليهم أعظم .
190 ـ يلاحظ على كثير من الدُّعاة أنَّهم يهتمُّون بجانب واحد من جوانب الدَّعوة، وهو فضائل الأعمال، ولا يتعرَّضون لواقع المسلمين؛ فلم هذا الإعراض ؟ ما رأي فضيلتكم جزاكم الله خيرًا .
الواجب الجمع بين الاثنين، وهو التَّرغيب في فضائل الأعمال، والتَّنبيه على الأخطاء، ولا سيَّما الأخطاء في العقائد .
الواجب أن يبدأ الدَّاعية في أمر العقيدة؛ لأنها الأساس، والفضائل إنّما تأتي بعد صلاح العقيدة، والدَّاعية يبدأ بالأهم فالأهمِّ، والرَّسول صلى الله عليه وسلم أوّل ما بدأ بالعقيدة، فقام بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى العقيدة (3)، وإنّما فُرِضَت عليه شرائع الإسلام بعد الهجرة .
والحاصل من هذا أنَّ الدَّاعية يكون حكيمًا في دعوته، يضع الأمور في مواضعها، ويعالج كلَّ مرض بحسبه، فمن كان عنده انحراف في العقيدة؛ ننبِّهُه على الانحراف، وندلُّه ونبصِّرُه بالطريق الصَّحيح، ومن كان عنده صلاحٌ في العقيدة ولكنه عنده تفريط في الأعمال الصَّالحة أو وقوع في بعض الأعمال المحرَّمة؛ فهذا نستعمل معه الموعظة والتَّذكير والتَّخويف .(66/9)
فالدَّاعية يتعامل مع كلِّ مجتمع بما فيه من المرض، ويعالجُه بما يناسبه، أمَّا الاقتصار على فضائل الأعمال أو الاقتصار على إصلاح الحكم وترك الشِّرك؛ فهذا ضلالٌ وجهل مبين، والدَّعوة التي من هذين النَّوعين لا تُجدي شيئًا ولا تنتجُ نتيجةً صالحةً .
191 ـ ماذا تقول لمن يخرجون إلى خارج المملكة للدَّعوة وهم لم يطلبوا العلم أبدًا؛ يَحُثُّون على ذلك، ويردِّدون شعارات غريبة، ويدَّعون أن من يخرُجُ في سبيل الله للدَّعوة سيُلهِمُهُ الله، ويدَّعون أنَّ العلم ليس شرطًا أساسيًّا، وأنت تعلم أنّ الخارج إلى خارج المملكة سيجد مذاهب وديانات وأسئلة توجَّه إلى الدَّاعي؛ ألا ترى يا فضيلة الشيخ أنَّ الخارج في سبيل الله لا بدَّ أن يكون معه سلاحٌ لكي يواجه النّاس، وخاصة في شرق آسيا، يحاربون مجدِّد الدَّعوة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب ؟ أرجو الإجابة على سؤالي كي تَعُمَّ الفائدة .
الخروج في سبيل الله ليس هو الخروج الذي يعنونه الآن، الخروج في سبيل الله هو الخروج للغزو، أمَّا ما يسمُّونه الآن بالخروج؛ فهذا بدعة، لم يَرِد عن السَّلف .
وخروج الإنسان يدعو إلى الله غير متقيِّد في أيام معيَّنة، بل يدعو إلى الله حسب إمكانيَّته ومقدرته؛ بدون أن يتقيَّد بجماعة أو يتقيَّد بأربعين يومًا أو أقلَّ أو أكثر .
وكذلك ممَّا يجب على الدَّاعية أن يكون ذا علم، لا يجوز للإنسان أن يدعو إلى الله وهو جاهل؛ قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } [ يوسف : 108 . ] ؛ أي : على علم؛ لأنَّ الدّاعية لا بدَّ أن يعرف ما يدعو إليه من واجب ومستحبّ ومحرَّم ومكروه، ويعرف ما هو الشِّرك والمعصية والكفر والفسوق والعصيان؛ يعرف درجات الإنكار وكيفيَّته .(66/10)
والخروج الذي يشغل عن طلب العلم عمل باطل؛ لأن طلب العلم فريضة، وهو لا يحصل إلا بالتعلُّم، لا يحصُلُ بالإلهام، هذا من خرافات الصُّوفيَّة الضَّالَّة؛ لأنّ العمل بدون علم ضلال، والطَّمع بحصول العلم بدون تعلُّم وهمٌ خاطئٌ .
192 ـ ممّا يُلاحظ على الثّقافة الإسلاميّة المعاصرة اليوم أنه يشوبُها شيء من فكر بعض الفرق الضّالّة؛ مثل الخوارج والمعتزلة؛ فتجد في بعضها تكفير المجتمعات والأفراد، وتسويغ العُنف ضدّ العُصاة والفُسّاق من المسلمين؛ فما توجيهُكُم في ذلك ؟
هذا منهج خاطئ؛ لأنه الإسلام ينهى عن العنف في الدعوة؛ يقول تعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 . ] ، ويقول لنبيه موسى وهارون عليهما السلام تُجاه فرعون : { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 44 . ] .
والعنف يقابل بالعنف، ولا يفيد إلا عكس المطلوب، وتكون آثاره على المسلمين سيئة .
فالمطلوب الدّعوة بالحكمة وبالتي هي أحسن وباستعمال الرّفق مع المدعوّين، أما استعمال العنف مع المدعوين، والتشدُّدُ، والمهاترات؛ فهذا ليس من دين الإسلام؛ فالواجب على المسلمين أن يسيروا في الدّعوة على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى حسب توجيهات القرآن الكريم .
والتكفير له ضوابط شرعيّة؛ فمن ارتكب ناقضًا من نواقض الإسلام التي ذكرها علماء أهل السُّنَّة والجماعة؛ حكم بكفره بعد إقامة الحجّة عليه، ومن لم يرتكب شيئًا من هذه النّواقض؛ فليس بكافر .
193 ـ هل العلماء المسلمون كعلماء الطِّبِّ والعلوم والأحياء وغير ذلك من العلوم مما تدلُّهم على زيادة الإيمان بالله وقدرته؛ فهل هؤلاء يدخلون تحت الآية : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 . ] . أم لا ؟(66/11)
عالمُ الطّبِّ وعالم الكيمياء وعالم الاختراع . . . إذا كان معه علم من الشريعة؛ فإن هذا يزيده خيرًا بلا شكٍّ، وهذا جمع بين المصلحتين : العلم الشرعيِّ، والعلم الذي ينفع به مجتمعَهُ .
أما إذا كان عنده العلوم الدُّنيويَّة فقط؛ فهذا لا يستفيد منها إلا المادّة، ولا تفيده خشية الله عز وجل، بل ربما تفيده غفلة عن الله؛ فالعلم الدّنيويُّ لا بدَّ أن يوجَّه بالعلم الشّرعيّ؛ ليُستفاد منه، وإلا أصبح ضررًا .
194 ـ ما رأي فضيلتكم فيمن يتعلَّمُ من المسلمين الطِّبَّ والمخترعات الحديثة بقصد إغناء المسلمين عن الحاجة إلى الكفّار والمشركين ؟
لا بأس في ذلك، ويؤجَرُ عليه، لكن بشرط أن يكون قد تعلّم من دينه ما يحتاج إليه؛ فلا بدّ أن يتعلّم أولاً أمور الدين الضّروريَّة، التي لا يُعذَرُ أحدٌ بتركها، ثم يتعلّم بعد ذلك أمور الطبّ وغيرها من العلوم، أما أن يُقبِلَ على أمور الطّبّ والعلوم الأخرى وهو يجهل أمر دينه؛ فهذا لا يجوز .
195 ـ كثيرًا ما يتفق رأي من يُوصَفُون بالعلمانية، مع رأي السّلفيين في بعض الأمور ؟ مثل الموقف من بعض الجماعات التي اتخذت العنف وسيلةً للإصلاح، والموقف من غلبة المصالح الشخصية في اشتعال الحروب، والموقف من تكلف بعض الشباب ؟ فما تعليقكم ؟
الواجب أن نتمسك بالمنهج الحق المُستمد من الكتاب والسنة والذي كان عليه سلفنا الصالح؛ قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ التوبة : 100 . ] ، وإذا وافقنا على بعض ذلك أحد من العلمانيين أو غيرهم؛ فذلك لا يصرفنا عنه، ولا نتركه من أجلهم، وإنما يعتبر هذا شهادة من أعدائنا على صحة ما نحن عليه، وقد قيل : الحق ما شهدت به الأعداء .(66/12)
والأعداء من قديم الزمان يعترفون بالحق في قرارة نفوسهم ويتركونه تعصبًا منهم لآرائهم ومقاصدهم؛ قال الله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 . ] ، وقال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 . ] .(66/13)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
196 ـ ما هو منهجُنا في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ؟
هذا كما أسلفنا؛ أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان في بلد مسلم؛ فإن الأمور منضبطة ولله الحمد؛ بأن يقوم الإنسان بالمناصحة والتّذكير والموعظة الحسنة، وإذا احتاج الأمر إلى تبليغ السُّلطة من أجل الأخذ على يد العاصي؛ فإنه يرجع إلى السُّلطة ويبلِّغُها، وإذا لم يحتج إلى الرَّفع إلى السُّلطة؛ فإن المطلوب السَّترُ على أصحاب المعاصي إذا رأى منهم تجاوُبًا نحو الإنكار وقبولاً للدعوة وتركًا لما هم عليه من الخطأ؛ فهؤلاء يستُرُ عليهم ويكتفي بأن يغيِّروا هم من أنفسهم من الفساد إلى الصّلاح ما أمكن، وإذا وجد أن هذا العاصي لا يستجيب ولا يقبل النصيحة؛ يرفع الأمر لوليّ الأمر، فإذا بلغ هذا إلى ولي أمر المسلمين؛ برئت ذمَّةُ النَّاصح؛ لأنه أنهى الأمر إلى مُنتهاهُ، أما إذا كانوا في غير مجتمع مسلم؛ فعليهم الدَّعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ودرءُ الفتنة الكبيرة التي قد تعود على المسلمين بالضّرر؛ فلا يكون هناك عنفٌ، ولا يكون هناك مجابهةٌ تؤدِّي لأن تُقابل بأشدَّ منها، وإنما هو نشر للإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والمناصحة لمن يقبل ذلك، ومن لا يقبل؛ فإن أمره إلى الله سبحانه وتعالى .
197 ـ هل الأمر بالمعروف والنَّهيُ عن المنكر واجبٌ على كل مسلم ؟ وكيف يكون ذلك ؟
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجبان على كل مسلم بحسب استطاعته؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( مَن رأى منكم منكرًا؛ فليُغيِّرهُ بيده؛ فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه . ] ؛ فلا يجوز لمسلم أن يقرَّ المنكر ويرضى به، ومن أنكر بحسب استطاعته؛ فقد برئ .(67/1)
198 ـ يلاحظ على بعض المشتغلين في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ أنهم يخرجون عن القاعدة القرآنية التي تقول : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } الآية [ النحل : 125 . ] ما تعليقُ فضيلتكم على ذلك ؟
الذين يشتغلون في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خيرة رجال الأمة، وقد أُسنِدَ إليهم هذا الأمر عن اقتناع المسؤولين بصلاحيَّتهم، وما يُقال عنهم من تجاوزات ليس بصحيح في الغالب، وإنما يُقصدُ به التّشويه وإلقاء العراقيل في طريقهم؛ فلا يجوز أن نُصغي إليه ونصدِّقه، وإن صحَّ منه شيء بحكم أنهم بشرٌ؛ فلا يجوز أن نتّخذه سبيلاً لانتقاصهم؛ فهم كما يقول الشاعر :
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كُلُّها ** كفر المرء نبلاً أن تُعدَّ معايبه
أو كما قال الآخر :
أقِلُّوا عليهم لا أبا لأبيكم ** من اللوم أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا
فالواجب علينا أن نتعاون معهم، وأن نشجِّعهم ونناصرهم؛ عملاً بقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ المائدة : 2 . ] ؛ فهم الذين ينهون عن الفساد في الأرض .
لماذا نتغاضى عن المفسدين ونلتمس عيوب المصلحين ؟ !
199 ـ إنكار المنكر . . . كيف نحققه بما يخدم المصلحة العامة ؟(67/2)
يمكن تحقيق إنكار المنكر للمصلحة إذا كان متمشيًا على ما توجبه الشريعة الإسلامية؛ بأن يكون الإنكار عن علم ويكون بحكمة ورفق وصبر على الأذى، وأن يكون على المنهج الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : ( مَن رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّرهُ بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه ) ؛ فمن بيده سلطة يزيل بيده، ومن عنده علم وليس عنده سلطة ينكره بلسانه، ومن ليس عنده علم ولا سلطة ينكره بقلبه، ومن لم ينكر على هذا الترتيب الوارد في الحديث؛ فليس في قلبه إيمان؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( وليسَ وراءَ ذلك من الإيمان حبَّة خردلٍ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69، 70 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] .
200 ـ ما أهمية تغيير المنكر في الإسلام ؟ وما الرد على الذين يُقصِّرون في ذلك ؟
تغيير المنكر واجب عظيم في الإسلام وفي جميع الأديان السماوية، فقد عاب الله على اليهود وعلى النصارى، ولعنهم لما تركوا هذا الواجب :
فقال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 78، 79 . ] .
وقال تعالى : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ المائدة : 63 . ] .
وقال تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } [ هود : 116 . ] .(67/3)
وقال الله تعالى لهذه الأمة : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 104 . ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن رأى منكم مُنكرًا؛ فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغييره حسب الاستطاعة واجب مهم في الإسلام، والذين يقصرون في ذلك قد عرَّضُوا أنفسهم وعرَّضوا مجتمعهم للعقوبة والهلاك؛ فإن الله سبحانه إنما أهلك الأمم السابقة بسبب تركها لتغيير المنكر؛ قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 165 . ] .
201 ـ ما هو المنكر الذي ينبغي تغييره ؟
المنكر الذي يجب تغييره هو كل ما نهى الله عنه من المعاصي القولية والفعلية، وأعظم ذلك الشرك بالله عز وجل؛ قال تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 . ] ، ثم الزّنى واللواط وشرب المسكرات وتعاطي المخدرات وأكل الربا والتبرج والسفور وترك الصلاة والتكاسل عنها واستماع الأغاني الماجنة والنظر في الأفلام الخليعة والصور الفاتنة . . . إلى غير ذلك من المنكرات التي كَثُرت في بلاد المسلمين، فلا بد من المبادرة بالعمل على تغييرها وإزالتها من بلاد المسلمين .
202 ـ ما مراتب تغيير المنكر ودرجاته ؟(67/4)
مراتب تغيير المنكر قد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( مَن رأى منكم مُنكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] ، هذه مراتب تغيير المنكر ودرجاته، وكل مسلم يجب أن يقوم بما يستطيعه منها، ولا يجوز له أن لا ينكر المنكر، ولا يجوز له أن ينتقل إلى مرتبة وهو يستطيع القيام بالمرتبة التي قبلها؛ فلا يجوز لمن يقدر على تغيير المنكر باليد أن يقتصر على إنكاره باللسان، ولا يجوز لمن يستطيع الإنكار باللسان أن يقتصر على إنكاره بالقلب .
203 ـ من المسؤول عن تغيير المنكر ؟ وكيف يمكن ضبط هذه المسؤولية ؟
إنكار المنكر بالقلب مسؤول عنه كل مسلم، ومن لم ينكر المنكر بقلبه؛ فليس بمسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( فَمَن لم يستطع؛ فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69، 70 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] ، أما إنكاره باليد أو باللسان؛ فإنما يجب على من يقدر على ذلك من الولاة والعلماء وغيرهم من المسلمين إذا لم يترتب على ذلك حصول منكر أشد، أمّا الإنكار بالقلب؛ فلا يعجز عنه أحد ولا يُعذرُ فيه أحد .(67/5)
ويمكن ضبط هذه المسؤولية العظيمة بأن يوكل القيام بها لمن فيه الكفاءة من أهل العلم والدين والغيرة؛ بأن يُكوَّن في الدولة جهاز خاص من العلماء وأهل القوة والغيرة، ويعطون الصلاحيات الكافية والإمكانيات المناسبة؛ كما هو موجود في هذه المملكة من هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي نرجو من الله أن يعينها على القيام بواجبها، وأن يوفق ولاة الأمور لمساعدتها ومساندتها، وإنها لميزة عظيمة لحكومتنا الرشيدة وفقها الله؛ حيث كوَّنت هذا الجهاز الهام، ومنحته الإمكانيات اللازمة حتى يقوم بواجبه؛ فإن هذا من أعظم أسباب النصر والتمكين في الأرض وحصول الأمن والاستقرار .
قال الله تعالى : { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ } [ الحج : 40، 41 . ] .
كما حصر الله الفلاح على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 104 . ] ؛ فإذا قامت جهة خاصة بهذا الأمر كما ينبغي؛ انضبط خير انضباط وحصل المقصود .
204 ـ ما الممارسات الخاطئة في تغيير المنكر ؟ وكيف يمكن علاجها ؟
الممارسات الخاطئة في تغيير المنكر تتلخص فيما يلي :(67/6)
1ـ أن يقوم بتغيير المنكر من لا علم عنده بما يحل ويحرم وما هو منكر وما ليس بمنكر؛ فإن هذا يفسد أكثر مما يصلح، وقد يُحرِّم حلالاً ويُحِلُّ حرامًا . ولا يستطيع دفع الشبهات التي توجه إليه؛ فلا بد أن يكون القائم بذلك عالمًا بما يأمر عالمًا بما ينهى عنه، يستطيع المجادلة بالتي هي أحسن ودفع الشبهات التي توجه إليه من أصحاب الشهوات والمغالطات .
2ـ أو يقوم بتغيير المنكر من ليس عنده حكمة ووضع للأمور في مواضعها وترتيب للأولويات؛ فقد يقوم بإنكار منكر صغير وهناك ما هو أكبر منه وأولى بالبداءة بتغييره، أو يقوم بإنكار منكر يخلفه منكر أعظم منه؛ فلا بد من الحكمة في ذلك .
3ـ أو يقوم بتغيير المنكر بطريق العنف والشدة، ثم تقابل بمثل ذلك أو أشد؛ فلا يحصل المقصود، فلا بد أن يكون الآمر الناهي رفيقًا فيما يأمر به رفيقًا فيما ينهى عنه .
4ـ أو يقوم بإنكار المنكر وتغييره من ليس عنده صبر وتحمل فينقطع في أول الطريق ويترك التغيير لأنه أُصيبَ باليأس، ولا بد في الآمر الناهي من الصبر والتحمل، قال تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 3 . ] ، وقال تعالى عن لقمان : { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [ لقمان : 17 . ] .
5ـ أو يقوم بذلك من لا يتقيد بدرجات الإنكار التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم فربما ينزل إلى درجة وهو يستطيع التي قبلها، أو يصعد إلى درجة وهو ليس من أهلها .(67/7)
6ـ قد يكون من بعض الآمرين بالمعروف تسرُّع في بعض الأمور المهمة؛ بأن تكون له مبادرات لا يرجع فيها إلى أهل العلم والرأي والمشهورة الذين يقومون بدراسة الأمور ويعلمون تجاه كل شيء ما يناسبه، إن ارتكاب هذه الأخطاء أو بعضها تعوق مسيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تُحدِث أمورًا عكسية، وقد يحصل منها نتائج غير كافية، فمثلاً الذي يقوم بإنكار المنكر الخفيف ويترك المنكر الذي هو أعظم منه لا يُنتِج عملُهُ كبير فائدة؛ فالذي يترك إنكار الشرك والبدع وينكر أكل الربا والسفور وغير ذلك من الأمور التي يوجد ما هو أعظم منها يكون قد بدأ من آخر الطريق وعالج جسمًا مقطوع الرأس وخالف منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فقد كانوا يبدؤون بإنكار الأهم فالمهم، كانوا يبدؤون بإنكار الشرك وعبادة غير الله، فإذا صححوا العقيدة أولاً؛ التفتوا إلى إنكار المعاصي الأخرى .
خذ هذا مثلاً في منهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد بقي في مكة ينكر الشرك ويدعو إلى التوحيد ثلاث عشرة سنة قبل أن ينكر الربا والزنى وشرب الخمر ويأمر بالصلاة والزكاة .
قد يقول قائل : هذا كان في مجتمع المشركين؛ أما نحن؛ ففي مجتمع مسلم عنده بعض المخالفات . فنقول : إن ما كان موجودًا عند المشركين في الجاهلية يوجد اليوم في غالب بلاد المسلمين ما هو مثله أو أعظم منه من الشرك بالله المتمثل في عبادة الأضرحة والطرق الصوفية والبدع في الدين؛ فالواجب على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في تلك البلاد أن يهتموا بذلك وأن يبدؤوا بإنكاره بجد وعزيمة حتى تطهر البلاد منه ثم يواصلوا مسيرتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بقية المخالفات .(67/8)
السلفية
205 ـ هناك من يرى أن من يسير على مذهب السَّلف لديه سطحيَّة في فهم أمور العقيدة، معلِّلين ذلك بأن مذهب السَّلف لا يَسبُرُ غَوْرَ النُّصوص، ولا يتفاعل معها، ويرون أن طريقة غيرهم أكثر فهمًا للنصوص في مسائل العقائد؛ فما رأيكم في مثل هذا الكلام ؟
القول بأن مذهب السلف فيه سطحيَّة لأنه - في نظر القائل - لا يَسبُرُ غَوْرَ النُّصوص، وأن مذهب الخلف أكثر فهمًا للنصوص في مسائل العقيدة وأوسع ! هذا القول يقولُه علماء الكلام من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم؛ حيث قالوا : طريقة السلف أسلم، وطريق الخلف أعلم وأحكم ! وهذا القول مبنيٌّ على فهم فاسد لمذهب السلف ومذهب الخلف؛ حيث ظنُّوا أن مذهب السلف لا فهم فيه، وإنما هو تفويض نصوص الصفات دون فهم لمعانيها، وأن الخلفَ فهموا وعرفوا أن هذه النصوص على غير ظاهرها، فأوَّلوها إلى معان أخرى؛ كتفسير الوجه بالذَّات، واليد بالقدرة، والاستواء على العرش بالاستيلاء . . . وغير ذلك .
وهذا الفهم لمذهب السلف مذهب باطل، وفيه تجهيل للصحابة والتابعين والقرون المفضَّلة، واتِّهامٌ لهم بأنهم لا يفهمون هذه النصوص، وهذا خلاف الواقع؛ فإن السلف لم يكن مذهبهم التفويض، وإنما مذهبهم الإيمان بهذه النصوص كما جاءت، وإثبات معانيها التي تدلُّ عليها على حقيقتها ووضعها اللغوي، مع نفي التَّشبيه عنها؛ كما قال تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى : 11 . ] ؛ فطريقتهم أعلم وأسلم وأحكمُ؛ لأنَّ الأسلم لا بدَّ أن يكون أعلم وأحكم .
فقول الخلف : طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم ! قول متناقضٌ؛ إذ كيف تكون السّلامة بدون العلم والحكمة ؟ !(68/1)
ثم أيضًا؛ كيف يكون المتأخرون أعلم من السابقين الأوَّلين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وأتباع التابعين، الذين شَهِدَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيريَّة، فقال : ( خيركم قرني، ثم الذين يلونَهم، ثم الذين يلونَهم ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/151 ) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه . ] ؟ !
206 ـ يتردَّد على ألسنة بعض الناس أن فلانًا هذا سلفي، وفلانًا غير سلفي؛ فما المقصود بالمذهب السلفي ؟ ومن أبرز من دعا إليه من علماء المسلمين ؟ وهل يمكن تسميتهم بأهل السنة والجماعة أو الفرقة الناجية ؟ ثم ألا يُعتبَرُ هذا من باب التّزكية للنفس ؟
المقصود بالمذهب السّلفي هو ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة المعتبرين من الاعتقاد الصّحيح والمنهج السّليم والإيمان الصّادق والتمسُّك بالإسلام عقيدة وشريعة وأدبًا وسلوكًا؛ خلاف ما عليه المبتدعة والمنحرفون والمخرِّفون .
ومن أبرز من دعا إلى مذهب السّلف الأئمة الأربعة، وشيخ الإسلام ابن تيميَّة، وتلاميذه، والشيخ محمد بن عبد الوهَّاب، وتلاميذه، وغيرهم من كلّ مصلح ومجدِّد، حيث لا يخلو زمان من قائم لله بحجَّةٍ .
ولا بأس من تسميتهم بأهل السنة والجماعة؛ فرقًا بينهم وبين أصحاب المذاهب المنحرفة .
وليس هذا تزكية للنفس، وإنما هو من التمييز بين أهل الحق وأهل الباطل .
207 ـ ما هي الضّوابط الشرعية التي يحافظ بها المسلم على التزامه وتمسُّكه بمنهج السّلف الصّالح وعدم الانحراف عنه والتّأثُّر بالمناهج الدّخيلة المنحرفة ؟
الضّوابط الشّرعيّة تُفهم من مجموع ما سبق الكلام فيه، وذلك بأن :
1ـ يرجع الإنسان إلى أهل العلم وأهل البصيرة يتعلّمُ منهم ويستشيرُهم في ما يجول في فكره من أمور؛ ليستصدر رأيهم في ذلك .(68/2)
2ـ التروِّي في الأمور، وعدم العجلة، وعدم التسرُّع في الحكم على الناس، بل عليه أن يتثبَّت؛ قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ الحجرات : 6 . ] ، وقال سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [ النساء : 94 . ] ؛ تبيَّنوا؛ أي : تثبَّتوا مما بلغكم .
3ـ ثم إذا ثبت؛ فعليكم بمعالجته بالطُّرق الكفيلة بالإصلاح؛ لا بالطرق المعنِّفة أو بالطّرق المشوشة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بشِّروا ولا تُنفِّروا ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/25 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه . ] ، وقال : ( إنما بُعِثتُم مُبَشِّرين لا مُنفِّرين ) ، وقال صلى الله عليه وسلم لبعض فضلاء أصحابه : ( إن منكم لَمُنفِّرين؛ فمن أمَّ الناس، فليُخفِّف؛ فإنَّ وراءه الضَّعيفَ وذا الحاجة ) [ رواه الإمام البخاري ( 1/31 ) بلفظ : ( إنكم منفرون، فمن صلى بالناس . . . ) من حديث أبي مسعود الأنصاري . ] .
وعلى كل حال؛ فالأمور تعالج بحكمة ورويَّة، ولا يصلح لكل أحد أن يتدخَّل في مجال لا يُحسِنُ التّصرُّف فيه .(68/3)
4ـ وكذلك من الضَّوابط أن يتزوَّد الإنسان من العلم النّافع بمجالسة أهل العلم والاستماع لآرائهم، وكذلك بقراءة كتب السّلف الصالح وسير المصلحين من سلف هذه الأمة وعلمائها، وكيف كانوا يعالجون الأمور، وكيف كانوا يَعِظونَ الناس، وكيف كانوا يأمرون بالمعروف وينهونَ عن المنكر، وكيف كانوا يحكمون على الأشياء، وهذا مدوَّن في سيرهم وفي تراجمهم وفي أخبارهم وفي قصص الماضين من أهل الخير وأهل الصّلاح وأهل الصِّدق؛ { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 . ] ؛ فالإنسان فردٌ من هذه الأمة، والأمة هي مجموع المسلمين من أول ظهور الإسلام إلى قيام السّاعة، هذا هو مجموع الأمة، والمسلم يراجع سير السَّلف الصَّالح، وأخبارهم، وكيف كانوا يعالجون الأمور، وهديهم في ذلك، حتى يسير على نهجهم، ولا ينظر إلى أقوال المتسرِّعين وأخبار الجهلة الذين يحمِّسون الناس على غير بصيرة .
كثير من الكتيبات اليوم أو المحاضرات أو المقالات تصدر عن جهلاء بأمور الشّرع؛ يحمّسون الناس، ويأمرون الناس بما لم يأمرهم الله به ولا رسوله، ولو كان هذا صادرًا عن حسن قصد وحسن نيَّةٍ؛ فالعبرة ليست بالقصد والنية، العبرة بالصّواب، والحق هو ما وافق الكتاب والسنة بفهم السّلف، أما الناس - ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم -؛ فإنهم يخطئون ويصيبون، فيُقبَلُ الصواب، ويُترَكُ الخطأ .
208 ـ يزعم بعض الناس أنَّ منهج أهل السّنة والجماعة لم يعد مناسبًا لهذا العصر، مستدلّين بأنّ الضّوابط الشرعيّة التي يراها أهل السنة والجماعة لا يمكن أن تتحقَّق اليوم .
الذي يرى أن منهج السلف الصالح لم يعد صالحًا لهذا الزَّمان؛ هذا يعتبر ضالاً مضلاً؛ لأن منهج السلف الصالح هو المنهج الذي أمرنا الله باتباعه حتى تقوم الساعة :(68/4)
يقول صلى الله عليه وسلم : ( فإنه مَن يعش منكم؛ فسوف يرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319، 320 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن ساري رضي الله عنه . ] ، وهذا خطاب للأمة إلى أن تقوم الساعة، وهذا يدلّ على أنه لا بدّ من السّير على منهج السّلف، وأن منهج السّلف صالحٌ لكلّ زمان ومكان .
والله سبحانه وتعالى يقول : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 . ] : { اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } : يشملُ الأمة إلى أن تقوم الساعة؛ فالواجب عليها أن تتابع منهج السّابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، والإمام مالك بن أنس يقول : " لا يُصلح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلح أوّلها " .
فالذي يريد أن يعزل الأمة عن ما فيها، ويعزل الأمة عن السّلف الصّالح؛ يريد الشّرّ بالمسلمين، ويريد تغيير هذا الإسلام، ويريد إحداث البدع والمخالفات؛ هذا يجب رفضُهُ ويجب قطع حجَّتِه والتّحذير من شرّه؛ لأنه لا بدّ من التمسُّك بمنهج السّلف والاقتداء بالسّلف، ولا بدّ من السّير على منهج السّلف، وذلك في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا .
فالذي يريد قطع خلف الأمة عن سلفها مفسد في الأرض، يجب أن يُرفَضَ قوله، وأن يردّ قوله، وأن يحذر منه، والذين عرف عنهم هذا القول السيئ هم الشيعة ومَن وافقهم من المضلِّلين؛ فلا عبرة بهم .(68/5)
الجماعات
209 ـ يزعم بعض الناس أنّ السّلفيّة تعتبر جماعة من الجماعات العاملة على السّاحة، وحكمها حكم باقي الجماعات؛ فما هو تفنيدُكم لهذا الزّعم ؟
ذكرنا أن الجماعة السلفية هي الجماعة الأصيلة، التي على الحقِّ، وهي التي يجب الانتماء إليها والعمل معها والانتساب إليها، وما عداها من الجماعات يجب ألا تُعتبرَ من جماعات الدَّعوة؛ لأنها مخالفة، وكيف نتَّبِعُ فرقة مخالفة لجماعة أهل السُّنَّة وهدي السّلف الصّالح ؟ !
فالقول : إن الجماعة السلفية واحدة من الجماعات الإسلامية ! هذا غلط، فالجماعة السلفية هي الجماعة الوحيدة التي يجب اتباعها والسير على منهجها والانضمام إليها والجهاد معها، وما عداها؛ فإنه لا يجوز للمسلم الانضمام إليه؛ لأنه من الفرق الضالة، وهل يرضى الإنسان أن ينضمَّ إلى الفرق الضالة ؟ ! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319، 320 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن ساري رضي الله عنه . ] ، وسُئلَ الرّسول صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية ؟ فقال : ( ما أنا عليه وأصحابي ) [ رواه الترمذي في سننه ( 7/296، 297 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . وابن ماجه ( 2/1322 ) بنحوه من حديث عوق بن مالك وأنس بن مالك .
وانظر مسند الإمام أحمد ( 2/332 ) وسنن أبي داود ( 4/197 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه ذكر ( كلها في النار إلا واحدة، قيل . . . ) . ] ؛ هل يريد الإنسان النَّجاة ويسلُكُ غير طريقها ؟
ترجو النَّجاة ولم تسلُك مسالكها ** إن السّفينة لا تجري على اليبس (1)(69/1)
210 ـ ما وجه صحّة نسبة الجماعات الموجودة اليوم إلى الإسلام، أو وصفهم بالإسلامية، وصحة إطلاقة لفظ الجماعات عليهم، وإنما جماعة المسلمين واحدة؛ كما في حديث حذيفة رضي الله عنه ؟
الجماعات فرق توجد في كل زمان، وليس هذا بغريب؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثة وسبعين فرقة؛ كلهم في النار؛ إلا واحدة ) (2)؛ فوجود الجماعات ووجود الفرق هذا أمر معروف، وأخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : ( مَن يَعِش منكم؛ فسيرى اختلافًا كثيرًا ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319، 320 ) ، كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه . ] .
ولكن الجماعة التي يجب السّير معها والاقتداء بها والانضمام إليها هي جماعة أهل السّنّة والجماعة؛ الفرقة الناجية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بين هذه الفرق؛ قال : ( كلها في النار؛ إلا واحدة ) . قالوا : مَن هي ؟ قال : ( ما أنا عليه وأصحابي ) (3).
هذا هو الضّابطُ؛ فالجماعات إنما يجب الاعتبار بمن كان منها على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من السّلف الصالح، والله تعالى يقول : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ التوبة : 100 . ] .(69/2)
هؤلاء هم الجماعة؛ جماعة واحدة، ليس فيها تعدُّدٌ ولا انقسام، مِن أوّل الأمة إلى آخرها، هم جماعة واحدة، { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر : 10 . ] .
هذه هي الجماعة الممتدَّةُ من وقت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام السّاعة وهم أهل السنة والجماعة، وأما ما خالفهم من الجماعات؛ فإنها لا اعتبار بها، وإن تسمّت بالإسلاميّة، وإن تسمّت جماعة الدّعوة أو غير ذلك؛ فكل ما خالف الجماعة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنها من الفرق المخالفة المتفرّقة التي لا يجوز لنا أن ننتمي إليها أو ننتسب إليها؛ فليس عندنا انتماء إلا لأهل السنة والتوحيد، { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } [ الفاتحة : 6، 7 . ] ، والذين أنعم الله عليهم بيَّنَهُم في قوله : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ النساء : 69 . ] .(69/3)
فالجماعة التي اتخذت منهجها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعملت بقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإنه من يَعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي؛ تمسّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319، 310 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه . ] ؛ هؤلاء هم الجماعة المعتبرة، وما عداها من الجماعات؛ فإنه لا اعتبار بها، بل هي جماعة مخالفة، وتختلف في بعدها عن الحق وقربها من الحق، ولكن كلها تحت الوعيد، كلها في النار؛ إلا واحدة، نسأل الله العافية .
211 ـ يدّعي البعض أنّ قيام هذه الجماعات لازم للقيام بالدّعوة إلى الله، خصوصًا في المجتمعات التي لا تكون شوكةُ الدّين فيها ظاهرة ؟
الدّعوة إلى الله مطلوبة وواجبة؛ قال سبحانه وتعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 . ] ، ولكن ليس من منهج الدّعوة أن يتفرَّق المسلمون وأن تكون كل طائفة منهم تزعم لنفسها أنها على حق وأنّ غيرها ليس على حقٍّ؛ كما هو الواقع في هذه الجماعات اليوم .(69/4)
فالواجب على المسلم الذي عنده علم وقدرة أن يدعو إلى الله على بصيرة، ويتعاون مع الآخرين، من غير أن تكون كل جماعة لها منهج مختصٌّ بها يخالف الجماعة الأخرى، بل الواجب أن يكون المنهج واحدًا عند المسلمين، وأن يتعاونوا جميعًا، وأن يتشاوروا فيما بينهم، ولا حاجة إلى إيجاد جماعات ومناهج متفرِّقة ومتشتّتة؛ لأن هذا يقضي على وحدة المسلمين وعلى كلمة المسلمين، ويسبِّبُ النّزاع والخصام بين الناس؛ كما هو الواقع اليوم بين تلك الجماعات على الساحة في البلاد الإسلاميّة وغيرها؛ فليس من ضروريّات الدّعوة تكوين جماعة، إنما من ضروريّات الدّعوة أنّ من عنده علم وعنده حكمة وعنده معرفة أن يدعو إلى الله عز وجل، ولو كان واحدًا .
212 ـ ما حكم من ينتمي إلى تلك الجماعات، خصوصًا تلك التي تقوم على السّرّية والبيعة ؟
النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بحصول التّفرُّق، وأمرنا عند ذلك بالاجتماع، وأن نكون على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
قال صلى الله عليه وسلم : ( افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النّصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار؛ إلا واحدة ) . قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : ( مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 7/297 ) من حديث عبد الله بن عمرو، وقد رواه غير الترمذي بألفاظ قريبة من هذا، وفي بعضها نقص، كابن ماجه وغيره . ] .(69/5)
وقال صلى الله عليه وسلم لمّا طلب منه أصحابه الوصيّة؛ قال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد؛ فإنه مَن يَعِش منكم؛ فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي؛ تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126-127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319-320 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه . ] .
وهذا منهج يجب أن يسير عليه المسلمون إلى يوم القيامة، وهو أنه عند وجود الاختلاف؛ فإنهم يرجعون إلى ما كان عليه سلفُ هذه الأمة في المنهج والدّين والبيعة وغير ذلك .
213 ـ مما يتساهل به الناس قضيّة البيعة؛ فهناك من يرى جواز أخذ البيعة لجماعة من الجماعات مع وجود بيعة أخرى، وقد لا يكون المُبايع في هذه الجماعات معروفًا بدواعي السّرّيّة؛ ما حكمُ هذا ؟ ثم هل يختلف الحكم في بلاد الكفّار أو تلك التي لا تحكم بما أنزل الله ؟
البيعة لا تكون إلا لوليّ أمر المسلمين، وهذه البيعات المتعدِّدة مبتدعة، وهي من إفرازات الاختلاف، والواجب على المسلمين الذين هم في بلد واحد وفي مملكة واحدة أن تكون بيعتهم واحدة لإمام واحد، ولا يجوز المبايعات المتعدّدة، وإنما هذا من إفرازات تجوّزُ المبايعات من اختلافات هذا العصر، ومن الجهل بالدّين .(69/6)
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التفرُّق في البيعة وتعدُّد البيعة، وقال : ( مَن جاءكم وأمركم جميعٌ على واحد منكم، يريد تفريق جماعتكم؛ فاضربوا عُنُقه ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1480 ) من حديث عرفجة رضي الله عنه . ] ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وإذا وجد من ينازع وليّ الأمر الطّاعة، ويريد شقّ العصا وتفريق الجماعة؛ فقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وليَّ الأمر وأمر المسلمين معه بقتال هذا الباغي؛ قال تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [ الحجرات : 9 . ] .
وقد قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعه أكابر الصَّحابة؛ قاتلوا الخوارج البُغاة حتى قضوا عليهم، وأخمدوا شوكَتَهُم، وأراحوا المسلمين من شرِّهم، وهذه سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أمر بقتال البُغاة وبقتال الخوارج الذين يريدون شقَّ عصا الطّاعة، وذلك من أجل الحفاظ على جماعة المسلمين وعلى كيان المسلمين من التّفرُّق والاختلاف .
214 ـ وهل يرى فضيلتكم أن كتابات سيد قطب هي المعوّل الحقيقي لفكر الجماعات ولظهور الفكر التكفيري ؟ وهل العدالة مع الرجل أن يُستفادَ من بعض الجيد من رؤاه وكتاباته أم يُنبذ بكلّيَّته ؟
كلٌّ يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقبل أن نأخذ عن شخص ما يجب أن ننظر في علمه وفقهه وصدقه؛ لأن هدفنا الحق لا تجريح الرجال، والرجوع يجب أن يكون إلى المصادر الصحيحة من كتاب وسنة رسوله وكتب أهل العلم المبنية على الكتاب والسنة، ولا يكون همنا : أصاب فلان، وأخطأ فلان، ولكن ليكن همنا طلب الحق في مظانه وأخذه من مصادره الأصلية .(69/7)
215 ـ ما قولكم لمن يقول : إن الاستنتاجات الدالة على فساد فكر البعض ( البنا وقطب وسرور ) مجرد تحميل ووهم وإن ما ذُكِرَ يضيع وسط خبرهم الكثير ؟
الواجب على من نسب إلى شخص خطأ في قول أو اعتقاد أن يُبَيِّن المصدر الذي فيه هذا الخطأ من كتب الشخص نفسه، فإذا بيَّنَ ذلك فقد برئ من العهدة وانتفت عنه التهمة .
وأما أن هذا الخطأ إذا صح صدوره من الشخص يضيع وسط خيره الكثير؛ فهذا فيه تفصيل : إن كان هذا الخطأ في الاعتقاد بأن يكون شركًا أكبر؛ فهذا يضيع معه كل خير ولا يبقى معه عمل صالح، وإن كان الخطأ دون ذلك من مسائل الاعتقاد ولا يصل إلى حد الكفر والشرك؛ فهذا نرجو أن يغفره الله لصاحبه وأن يرجح به حسناته، وإن كان الخطأ في مسائل الاجتهاد -؛ والشخص من أهل الاجتهاد -؛ فهذا خطأ مغفور ولصاحبه الأجر على اجتهاده .
216 ـ بعض المنتمين لـ " الإخوان " مثلاً يقولون : إن غايتنا الإسلام لا الكرسي وإننا الصوت المتعقل في الوسط ؟ وإننا ننادي بطلب العلم وتطبيق السنن كما غيرنا من السلف ؟
النظر إنما يكون إلى الحقائق لا الدعاوى؛ فكل يدَّعي أنه مصلح، ولكن { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [ البقرة : 220 . ] ، ونحن ننظر إلى الأفعال لا إلى الأقوال، وننظر إلى الأسس التي يقوم عليها البناء لا إلى ظاهر البناء، { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [ التوبة : 109 . ] ، ونحو نودُّ وندعو الله أن يُصلح كل من ينتمي إلى الإسلام وينتسب إلى الدعوة إليه، وأن يصلح الغايات والمقاصد، وأن تكون كل الجماعات جماعة واحدة على كتاب الله وسنة رسوله ومنهج السلف الصالح؛ فنحن ما ضرنا إلا التفرق واتباع الأهواء والتعصب للآراء والأفكار والأشخاص .(69/8)
217 ـ من الأمور غير المتضحة عند الشباب مسألة الانضواء تحت الجماعات . . . فما وجه الحقيقة في هذا الأمر؛ خاصة وأن البعض يقول : إن الخلاف في منهج الدعوة فقط؛ أما الأسس؛ فنحن متفقون عليها ؟
الإسلام يأمرنا أن نكون جماعة واحدة، وينهانا عن تعدد الجماعات؛ قال الله تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 . ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [ الأنعام : 159 . ] ، ومنهج الدعوة يجب أن يكون منهجًا واحدًا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا اتحد المصدر، وهو كتاب الله وسنة رسوله؛ فلن يكون هناك نزاع واختلاف وإنما يكون النزاع والاختلاف إذا اختلفت مصادر الجماعات؛ بأن تكون كل جماعة تستوحي منهجها من أفكار فلان وتخطيط فلان؛ دون رجوع إلى الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة .
218 ـ هل لكم يا فضيلة الشيخ بكلمة توجيهية حول هذه الجماعات الموجودة على الساحة . . . ؟(69/9)
نحن ولله الحمد على طريق واضح، عاشت عليه أجيال في هذه البلاد وماتت عليه، وجُرِّبَ صلاحُهُ ونفعه؛ فلنتمسك به ولنترك ما خالفه، ولا حاجة أن نُسمي الجماعة الفلانية أو الجماعة الأخرى، لسنا بحاجة إلى هذا، نحن نقول : نسير على هذا الخط الذي نسير عليه وسار عليه علماؤنا وأجدادنا وآباؤنا وصَلُح عليه أمرهم واستقام عليه دينهم وحُقِنَت به دماؤهم وسَلِمَت أموالهم وعاشوا عليه آمنين مطمئنين؛ فلنسر على هذا المنهج، وهذه الجماعة؛ جماعة التوحيد؛ جماعة الدعوة إلى دين الله؛ المتمثلة في علماء هذه البلاد، ونترك ما عداها من الجماعات، سموها ما شئتم؛ سموها تبليغية سموها إخوانية سموها ما شئتم، أنا ما علي من الأسماء، أنا أقول : نحن نسير على هذا الخط الذي سرنا عليه وجربناه، ونترك ما عداه مهما سُمِّي ومهما حُسّن ومهما زوِّق، نقول : ما فيه من خير؛ فهو موجود عندنا، وما كان فيه من شر؛ فنحن لا نريد الشر، نحن نريد الخير، ما التبس أمر هذه الجماعات إلا على إنسان مضطرب الفكر، أما الإنسان البصير؛ فلا يضطرب عليه أمر هذه الجماعات؛ يعرف أن كل ما خالف الحق فهو ضلال؛ { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } [ يونس : 32 . ] ، فما كان من خير؛ فنحن نقبل الخير؛ وهذا الخير ولله الحمد موجود عندنا، علينا أن نقوم به وأن ننشره وأن ندعو إليه وأن نوضحه للناس، أما ما كان في تلك المناهج والجماعات من شر؛ فنستعيذ بالله منها ولا نريدها ولا نسمح لها أن تدخل بلادنا وتغير أفكارنا وناشئتنا وشبابنا .
219 ـ فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى : نطلب منكم كلمة توجيهية ختامية لطلبة العلم بخصوص الأحزاب والجماعات المغرضة التي بدأت تظهر الدعوة إليها بين صفوف الشباب وجزاكم الله خيرًا .(69/10)
هذه البلاد ولله الحمد كانت جماعة واحدة وأمة واحدة على الحق؛ لا يعرف فيهم انقسام، ولم توجد فيهم أحزاب وأفكار متفرقة، وإنما فكرهم واحد واتجاههم واحد وعقيدتهم التوحيد وأخلاقهم على الإسلام ولله الحمد واتباع لمنهج السلف الصالح؛ حاكمهم ومحكومهم، غنيهم ونفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، ذكروهم وإناثهم؛ كلهم جماعة واحدة من أقصى البلاد إلى أقصاها .
فهذه البلاد لا تسمح بقبول مناهج وافدة أو مذاهب وافدة أو أفكار وافدة؛ لأنها ولله الحمد غنية بما عندها من الحق ومن الاجتماع على الكتاب والسنة مما لا يوجد له نظير في دول العالم اليوم، هذه البلاد ولله الحمد هي أمثل دول العالم في الأمن والاستقرار في العقيدة؛ في الأخلاق والسلوك، في جميع الأمور، وذلك ببركة اتباع الكتاب والسنة، ثم ببركة دعوة الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله ومناصريها من حكام هذه البلاد وفقهم الله .(69/11)
فلا يجوز لهذه البلاد أن تقبل أي فكر وافد أو أي مذهب وافد أو أي منهج وافد؛ لأن عندها ولله الحمد ما يغني عن ذلك، ليس هذا من باب عدم قبول أو رفض الحق، لا؛ لأن الحق موجود ولله الحمد؛ فماذا يأتي به الوافد، إلينا إن كان يريد الحق؛ فهو موجود عندنا ولله الحمد، وإن كان يريد التفرقة ويريد الهدم؛ فنحن نقول : لا، نحن لا نسمح لأي مذهب أو لأي حزب أن يدخل بيننا؛ لأن ذلك يُفرِّق جماعتنا ويزيل نعمتنا ويردنا إلى ما كانت عليه هذه البلاد قبل هذه الدعوة من أمور الجاهلية والتفرق؛ والله تعالى نهى عن التفرق، قال تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ . . . } [ آل عمران : 103 . ] ، وقال تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 105 . ] ، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [ الأنعام : 159 . ] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه من يَعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنّتي وسُنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي؛ تمسّكوا بها وعضُّوا عليها بالنّواجذ وإيّاكم ومُحدثات الأمور فإن كل مُحدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة ) (4) ، والله تعالى يقول : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 . ] ؛ ماذا يريد هؤلاء ؟ يريدون صلاح العقيدة، هذا موجود ولله الحمد، يريدون الحكم بما أنزل الله، هذا موجود عندنا ولله الحمد، يريدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا موجود عندنا ولله الحمد، يريدون إقامة الحدود، هذا موجود عندنا ولله الحمد، أنا لا أقول : إننا كاملون من كل وجه، أقول : عندنا نقص، ولكن هذا النقص يمكننا إصلاحه بإذن الله(69/12)
إذا أخلصنا لله عز وجل وتناصحنا فيما بيننا بالطريقة الشرعية؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدِّينُ النَّصيحةُ، الدِّينُ النَّصيحةُ، الدِّينُ النَّصيحةُ ) . قلنا : لمن ؟ قال : ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامَّتهم ) [ رواه الإمام مسلم في صحيحه ( 1/74 ) من حديث تميم الداري رضي الله عنه . ] ، فبإمكاننا أن نصلح ما عندنا من الخلل والنقص، وإن كان شيئًا يسيرًا ولله الحمد، وربما يكون كثيرًا، لكنه لا يُخِلُّ بالعقيدة ولا يُخِلُّ بالمنهج السليم، نعم وُجِدَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من يزني ووُجِدَ من يسرق ووُجِد من يقتل النفوس بغير حق، لكن كان تقام عليهم الحدود ويؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، كذلك في بلدنا هذا تُقام الحدود ولله الحمد، ويُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، وإن كان النقص موجودًا .
أمّا أن يُقال : لا بد من تأسيس جديد ومن إقامة أمة جديدة؛ فهذا من الباطل الذي يُرادُ به إزالة هذه النعمة الموجودة في هذه البلاد، وهو مما يحسدنا عليه الأعداء ويريدون إزالته عنا .
220 ـ ما هي جماعة التّبليغ ؟ وما هو منهجُها الذي تسير عليه ؟ وهل يجوز الانضمام إليها والخروج مع أفرادها - كما يقولون - للدّعوة، ولو كانوا متعلّمين وأهل عقيدة صحيحة كأبناء هذه البلاد مثلاً ؟
القاعدة التي يجب اتِّباعُها : أنَّ الجماعة التي يجب الانضمام إليها والسَّيرُ معها والعملُ معها هي الجماعة التي تسير على ما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، أمَّا ما خالفها؛ فإنه يجب أن نتبرَّأ منه .(69/13)
نعم؛ يجب علينا أن ندعُوَهم إلى الله، وأن نبيِّنَ أخطاؤهم، وأن ندعُوَهُم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السّلف الصَّالحُ؛ لأنَّ هذا واجبٌ علينا، أمّا أن ننضمَّ إليهم، ونخرج معهم، ونمشي على تخطيطهم، ونحن نعلم بأنهم على تخطيط غير صحيح؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه ولاء لغير الجماعة المتمسِّكة بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
221 ـ ما حكم وجود مثل هذه الفرق - التَّبليغ والإخوان وغيرها - في بلاد المسلمين عامَّة ؟
هذه الجماعات الوافدة يجب ألا نتقبَّلها؛ لأنها تريد أن تنحرف بنا وتفرِّقنا؛ تجعل هذا تبليغيًّا وهذا إخوانيًّا وهذا كذا ! لم هذا التّفرُّق ؟ هذا كفر بنعمة الله سبحانه وتعالى، نحن على جماعة وعلى وحدة وعلى بيِّنةٍ من أمرنا، لماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ لماذا نتنازل عمّا أكرمنا الله سبحانه وتعالى به من الاجتماع والإلفة والطّريق الصحيح وننتمي إلى جماعات تفرِّقُنا وتشتِّتُ شملنا وتزرعُ العداوة بيننا ؟ هذا لا يجوز أبدًا .
222 ـ في الختام نشكر لفضيلتكم التّكرُّم بالإجابة على الأسئلة، ونودُّ التّكرُّم بتوجيهٍ للذين اغترُّوا بمثل هذه الجماعات وانضمُوا إليها أو دَعوا بدعوتها .(69/14)
ندعو جميع شباب المسلمين إلى الرجوع عن الخطأ، وأن ينضمُّوا إلى الفرقة الناجية المتمثِّلة في زماننا هذا - ولله الحمد - فيما كان عليه علماء هذه البلاد الحقيقيُّون وشعبُها وكلُّ من سار على هذا المنهج من المسلمين في سائر بقاع الأرض؛ فكلُّهم نشئوا على التَّوحيد، وساروا على الجادَّة الصَّحيحة؛ فنحن على بيِّنة من أمرنا، فننصح شبابنا أن يسيروا مع هذه الدّعوة ومع هذه الجماعة ومع هذه الأمة التي تسير على المنهج الصّحيح، وألا تلتفت إلى الفرق وإلى الجماعات وإلى الحزبيّات وإلى المخالفات؛ لأنّ هذا يسلب هذه النعمة عنهم، ويشتِّتُ جماعتنا، ويفرِّقُ بين قلوبنا، وهذا التّعادي الذي يحصُلُ بين الشّباب الآن هو بسبب النَّظر إلى مثل هذه الجماعات، والاغترار بها، وترويج أفكارها .(69/15)
وأدعوهم إلى التّمسُّك بالعقيدة الصَّحيحة، وبالمنهج الصَّحيح، الذي يدعو إلى الكتاب والسّنّة بفهم السَّلف الصَّالح، والذي يمثِّلُ منهج الفرقة الناجية، والتي تبنَّتها بلادنا منذ أكثر من مئتي سنة، والمتمثِّل بدعوة المجدِّد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب، الذي هو امتداد لدعوة السَّلف الصَّالح، والتي جدَّدها شيخ الإسلام ابن تيميَّة وتلامذته من بعده؛ فإنَّ بلادنا قائمة على التَّوحيد، وناجحةٌ، وحتى الأعداء دوَّنوا اعترافاتهم بأننا نعيش في أرقى أنواع الأمن في العالم والاستقرار والسَّلامة؛ فلماذا نستبدل هذه النِّعمة بأفكار الآخرين التي ما نفعت في بلادها؛ فهذه الدَّعوات وهذه الجماعات ما نفعت في بلادها، ولا كوَّنت في بلادها جماعة إصلاحيَّةً، ولم تنتج في بلادها خيرًا، لم تحوِّلها من علمانيّةٍ أو وثنيّةٍ أو قبوريّةٍ إلى جماعة إسلامية صحيحة، بل هذه الجماعات ليس لديها أيُّ اهتمام في العقيدة؛ فهذا دليل على عدم صلاحها؛ فلماذا نحن نعجب بها ونروِّج لها وندعو لها ؟ { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [ البقرة : 61 . ] .(69/16)
ولي أمر المسلمين
223 ـ يفهم كثير من الشّباب اليومَ معنى قوله تعالى : { وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } [ المائدة : 54 . ] ؛ أنهم الذين يذكرون أخطاء الحكّام على المنابر وأمام الملأ وفي الأشرطة المسجّلة، ويحصرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذلك أيضًا؛ نرجو توجيه هؤلاء هداهم الله إلى السُّلوك الصَّحيح، وتوضيح المعنى الصحيح لهذه الآية، وبيان حكم أولئك الذين يتكلَّمون في الحكّام علنًا .
يقول الله سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } [ المائدة : 54 . ] ؛ هذه الآية في كل من قال كلمة الحق، وجاهد في سبيل الله، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر؛ طاعة لله تعالى، ولم يترك النّصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من أجل الناس أو من خشية الناس؛ فإنّ هذا هو الملومُ .
ولكنّ قضية النّصيحة والدّعوة إلى الله؛ كما قال الله تعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 . ] ، والله سبحانه وتعالى قال لموسى وهارون لمّا أرسلهم إلى فرعون : { فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 44 . ] ، وقال تعالى في حق نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [ آل عمران : 159 . ] .(70/1)
فالنّصيحة للحكّام تكون بالطُّرق الكفيلة بوصولها إليهم من غير أن يُصاحبها تشهير أو يصاحبها استنفار لعقول النّاس السّذّج والدَّهماء من الناس، والنّصيحة تكون سرًّا بين النَّاصح وبين وليِّ الأمر : إمّا بالمشافهة، وإمّا بالكتابة له، وإمّا أن يتّصل به ويبيّن له هذه الأمور، ويكون ذلك بالرِّفق، ويكون ذلك بالأدب المطلوب .
أمّا النّصيحة لولاة الأمور على المنابر وفي المحاضرات العامَّة؛ فهذه ليست بالنَّصيحة، هذا تشهير، وهذا زرع للفتنة والعداوة بين الحكّام وشعوبها، وهذا يترتّب عليه أضرار كبيرة، قد يتسلَّط الولاة على أهل العلم على الدُّعاة بسبب هذه الأفعال؛ فهذه تفرِزُ من الشُّرور ومن المحاذير أكثر ممّا يُظَنُّ فيها من الخير .
فلو رأيت على شخص عاديٍّ ملاحظة، أو وقع في مخالفة، ثم ذهب إلى الملأ، وقلت : فلان عمل كذا وكذا ! لاعتُبِرَ هذا من الفضيحة وليس من النّصيحة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَن سترَ مسلمًا؛ ستره الله في الدّنيا والآخرة ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/98 ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه . ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينبِّهَ على شيء؛ لا يخصُّ قومًا بأعيانهم، بل يقول : ( ما بالُ أقوامٍ يفعلونَ كذا وكذا ) (1)؛ لأنّ التّصريح بالأسماء يفسد أكثر ممّا يصلح، بل ربّما لا يكون فيه صلاحٌ، بل فيه مضاعفة سيّئةٍ على الفرد وعلى الجماعة .
طريق النّصيحة معروف، وأهل النّصيحة الذين يقومون بها لا بدَّ أن يكونوا على مستوىً من العلم والمعرفة والإدراك والمقارنة بين المضارِّ والمصالح والنظر في العواقب .(70/2)
ربّما يكون إنكار المنكر منكرًا؛ كما قال ذلك شيخ الإسلام رحمه الله (2)، وذلك إذا أنكر المنكر بطريقة غير شرعيَّةٍ؛ فإنّ الإنكار نفسه يكون منكرًا؛ لما يولِّدُ من الفساد، وكذلك النَّصيحة ربَّما نسمِّيها فضيحة ولا نسمِّيها نصيحة، نسمِّيها تشهيرًا، نسمِّيها إثارة، ونسمِّيها زيادة شرٍّ وفتنة، إذا جاءت بغير الطّريق الشرعيِّ المأمور به .
224 ـ نقطة أخيرة أريد أن أستوضحها في هذه المسألة، وهي تتعلَّق بالمفتئت ( المتعدِّي ) على حق السُّلطان؛ ما حكم من نفَّذ حدًّا على أحد من الناس؛ فهناك من يدَّعي بأن ليس للسُّلطان أكثر من السّجن ؟
لا يجوز الافتئاتُ على السُّلطان والتّعدِّي على صلاحيَّات سلطان المسلمين، ومن قتل أحدًا بغير حكم شرعيٍّ، وإنما قتله بموجب رأيه هو؛ فهذا يقام عليه القِصاصُ إذا طالب وليُّ المقتول؛ إلا إذا ثبت شرعًا أنَّ المقتول مرتدٌّ عن الإسلام؛ فلا قصاص عليه، لكن للسُّلطان أن يؤدِّبَه لتعدِّيه على صلاحيَّاته بما يراه رادعًا .
225 ـ ماذا عن الحدِّ تعزيرًا ؟
أحيانًا يصلُ التّعزير إلى القتل، إذا رأى وليُّ أمر المسلمين أنّ هذا المفسد لا يندفع شرُّه إلا بالقتل؛ فإنه يقتُلُه .
226 ـ الدّين النّصيحة، والنّصيحة أصلٌ من أصول الإسلام، ومع هذا نجد بعض الإشكال فيما يتعلَّق بمعنى النّصيحة لولاة الأمر، وحدودها، وكيف تُبذلُ ؟ وكيف يُتدرَّجُ ؟ ومن أبرز الإشكالات تلك المتعلِّقة بالتَّغيير باليد؛ هل لكم في إيضاح هذه المسألة ؟
النبي صلى الله عليه وسلم وضَّح هذا وقال : ( الدِّينُ النَّصيحةُ ) . قُلنا : لِمَن ؟ قال : ( لله، ولكتابه،ولرسوله، ولأئمّة المسلمين وعامّتهم ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/74 ) من حديث تميم الداري رضي الله عنه . ] .(70/3)
النّصيحة لأئمّة المسلمين تكون بطاعتهم بالمعروف، وتكون بالدُّعاء لهم، وبيان الطّريق الصّحيح لهم، وبيان الأخطاء التي قد تقع منهم من أجل تجنُّبها، وتكون النَّصيحة لهم سرّيّة بينهم وبين النّاصح، وتكون أيضًا بالقيام بالأعمال التي يكلونها إلى موظّفيهم وإلى من تحت أيديهم بأن يؤدُّوا أعمالهم بأمانة وإخلاص . هذا من النّصيحة لوليّ أمر المسلمين .
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن رأى منكم منكرًا؛ فليغيّرهُ بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/69 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ] .
ومعنى ذلك أنّ المسلمين على ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل : من عنده العلم والسُّلطة؛ فهذا يغيِّرُ المنكر بيده، وذلك مثل ولاة الأمور ومثل رجال الهيئات والحسبة الذين نصّبهم وليّ الأمر للقيام بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، هؤلاء يغيّرون بأيديهم بالطّريقة الحكيمة المشروعة .
وهناك من عنده علم، وليس عنده سلطة؛ فهذا يغيّر بلسانه؛ بأن يبيّن للناس حكم الحلال والحرام، والمعروف والمنكر، ويأمر وينهى، ويرشد ويعظ وينصح، هذا من الإنكار باللسان .
وهناك من ليس عنده علم، وليس عنده سلطة، ولكنّه مسلم؛ فهذا عليه أن يُنكر المنكر بقلبه؛ بأن يكره المنكر وأهل المنكر، ويبعد نفسه عن الاجتماع بأهل المنكر؛ لئلا يؤثِّروا عليه، هذه هي درجات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر .
227 ـ هناك من يسوّغُ للشّباب الخروج على الحكومات دون الضّوابط الشّرعيّة؛ ما هو منهجنا في التّعامل مع الحاكم المسلم وغير المسلم ؟(70/4)
منهجنا في التّعامل مع الحاكم المسلم السَّمعُ والطّاعة؛ يقول الله سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 . ] . والنبي صلى الله عليه وسلم كما مرَّ في الحديث يقول : ( أوصيكم بتقوى الله والسّمع والطّاعة، وإن تأمّر عبدٌ؛ فإنّه مَن يَعِش منكم؛ فسوف يرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي ) (3)؛ هذا الحديث يوافق الآية تمامًا . ويقول صلى الله عليه وسلم : ( مَن أطاع الأميرَ؛ فقد أطاعني، ومَن عصى الأمير؛ فقد عصاني ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 4/7-8 ) . ] . . . إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في الحثِّ على السّمع والطّاعة، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( اسمع وأطِع، وإن أُخِذ مالُك، وضُرِبَ ظهرُك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1476 ) من حديث حذيفة رضي الله عنه بلفظ قريب من هذا . ] .
فوليُّ أمر المسلمين يجب طاعته في طاعة الله، فإن أمر بمعصيةٍ؛ فلا يطاع في هذا الأمر ( يعني : في أمر المعصية ) ، لكنّه يُطاع في غير ذلك من أمور الطّاعة .(70/5)
وأمّا التعامل مع الحاكم الكافر؛ فهذا يختلف باختلاف الأحوال : فإن كان في المسلمين قوَّةٌ، وفيهم استطاعة لمقاتلته وتنحيته عن الحكم وإيجاد حاكم مسلم؛ فإنه يجب عليهم ذلك، وهذا من الجهاد في سبيل الله . أمّا إذا كانوا لا يستطيعون إزالته؛ فلا يجوز لهم أن يَتَحَرَّشوا بالظَّلمة الكفرة؛ لأنَّ هذا يعود على المسلمين بالضَّرر والإبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم عاش في مكة ثلاثة عشرة سنة بعد البعثة، والولاية للكفَّار، ومع من أسلم من أصحابه، ولم يُنازلوا الكفَّار، بل كانوا منهيِّين عن قتال الكفَّار في هذه الحقبة، ولم يُؤمَر بالقتال إلا بعدما هاجر صلى الله عليه وسلم وصار له دولةٌ وجماعةٌ يستطيع بهم أن يُقاتل الكفَّار .
هذا هو منهج الإسلام : إذا كان المسلمون تحت ولايةٍ كافرةٍ ولا يستطيعون إزالتها؛ فإنّهم يتمسَّكون بإسلامهم وبعقيدتهم، ويدعون إلى الله، ولكن لا يخاطرون بأنفسهم ويغامرون في مجابهة الكفّار؛ لأنّ ذلك يعود عليهم بالإبادة والقضاء على الدّعوة، أمّا إذا كان لهم قوّةٌ يستطيعون بها الجهاد؛ فإنّهم يجاهدون في سبيل الله على الضّوابط المعروفة .
228 ـ هل المقصود بالقوّة هنا القوّة اليقينيّة أم الظّنّيّةُ ؟
القوّة معروفة؛ فإذا تحقّقت فعلاً، وصار المسلمون يستطيعون القيام بالجهاد في سبيل الله، عند ذلك يُشرعُ جهاد الكفّار، أما إذا كانت القوّة مظنونةً أو غير متيقّنةٍ؛ فإنه لا تجوز المخاطرة بالمسلمين والزَّجُّ بهم في مخاطرات قد تؤدّي بهم إلى النّهاية، وسيرةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم في مكّة والمدينة خير شاهد على هذا .
229 ـ بعض الناس يعيب على خطباء الجوامع الدعاء لولاة الأمر على المنبر؛ فما توجيه فضيلتكم حيال ذلك ؟(70/6)
من قال ذلك؛ فالعيب فيه هو وليس في الخطباء . الخطباء إذا دعوا لولاة الأمور؛ فهم على السنة ولله الحمد؛ لأن الدعاء لولاة الأمور من النصيحة لهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدِّينُ النَّصيحةُ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/74 ) من حديث تميم الداري رضي الله عنه . ] ، ومن النّصيحة وأعظم النصيحة الدعاء للمسلمين ولولاة أمورهم، هذا من أعظم النصيحة .
والإمام أحمد رحمه الله كان يُعذِّبُ من قبل الوالي، فيُضرَبُ ويُجَرُّ، ومع هذا كان يقول : لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان، وذلك لأن السلطان إذا صلح؛ أصلح الله به البلاد والعباد، فالدعاء لولاة الأمور أمر مستحب موافق للسنة وعمل المسلمين، وما زال المسلمون يدعون لولاة الأمور على المنابر، يدعون لهم بالصلاح والهداية، ولا ينكر هذا إلا جاهل أو مغرض يريد الفتنة بين المسلمين، وإذا كان الكافر يُدعى له بالهداية؛ فكيف لا يُدعى للمسلم بالهداية والصلاح .
230 ـ العلاقة بولي الأمر حددها الإسلام دون شك؛ فهل نستطيع القول : إن له حقوقًا ملزمة لا يجوز للمسلم تجاوزها، كما أن للوالد حقًا لا يجوز تجاوزه ؟
لولي أمر المسلمين حق الطاعة بالمعروف؛ لقوله تعالى : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } [ النساء : 59 . ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( على المرء المسلم السَّمع والطَّاعةُ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1469 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنه . ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( فعليكم بتقوى الله والسَّمع والطّاعة وإن تأمَّر عليكم عبد ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/126، 127 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/200 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/319، 320 ) ؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه . ] ، ومَن لم يُطِع ولي الأمر فقد عصى الله ورسوله .(70/7)
ومن حقوق ولي الأمر النّصيحة له بالمشورة الصالحة وإرشاده إلى الصواب والقيام بالعمل الذي يعهد به إلى أحد المسلمين من الأمراء والموظفين؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( الدِّين النَّصيحة ) . قلنا : لِمَن يا رسول الله ؟ قال : ( لله ولكتابه ولرسولِهِ ولأئمّة المسلمين وعامَّتهم ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/74 ) من حديث تميم الداري رضي الله عنه . ] .
231 ـ وهل ترون أن التقصير في مناصحة ولاة الأمر أيًّا كانوا تفريط بحق الإسلام والمسلمين ونزعة هوى تؤذن بالشر ؟ وكيف ؟ ولكن البعض يظن أنه لا يجد أذنًا سامعة أو سيجد إجابات دبلوماسية ؟
التقصير في نصيحة ولي الأمر تُعتبرُ خيانة له وعدم قيام بحقه . ولكن لابد أن تكون النصيحة بالطرق الشرعيّة فيما بينهم وبين النّاصح، لا بالتّشهير على المنابر وفي المجامع أو في الأشرطة والمنشورات التي تُحدِثُ البلبلة ويستغلها المغرضون؛ فإنّ هذه الطريقة ليست نصيحة، وإنما هي إثارة وفضيحة وتفريق للكلمة، ومن قام بالنّصيحة بالطريقة الشرعيّة؛ فالغالب أنه يحصل بها المقصود أو بعضه؛ فإن لم يحصل لها تأثير؛ فقد برئت ذمّة النّاصح وحصل على الثّواب من الله .(70/8)
الشباب
232 ـ القدوة نِبراسٌ يضيء الطّريق للآخرين؛ فكيف يختار الشّباب المسلم قُدرته ؟ وما هو السّبيل إلى السّعادة والطّمأنينة في نفوس الشّباب ؟
تكون القدوة الصّالحة للشّباب في الآباء الصّالحين، والمدرّسين المستقيمين، والدُّعاة المصلحين، والمجتمع الإسلامي النَّظيف، والبيئة الصَّالحة التي يعيش فيها شباب المسلمين، وذلك ممَّا يؤكِّدُ على المسلمين العناية بتربية أولادهم وشبابهم على ضوء الإسلام وحمايتهم من التّيّارات المؤثّرة الضّارّة، والله الموفّق .
ويشعر الإنسان بالسّعادة إذا تمسّك بالإسلام دينًا وتخلّق بأخلاقه وآدابه؛ قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [ يونس : 62-64 . ] ، وقال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 . ] ، وقال تعالى : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى } [ طه : 123 . ] . . . إلى غير ذلك من الأدلة، وقال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 . ] .
233 ـ فضيلة الشيخ : إني أحبك في الله وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا وإياك في الجنة وجميع إخواننا المسلمين وبعد : يا فضيلة الشيخ : نرجو منك توجيه نصيحة للشباب في هذه المدينة، والسبب أن بينهم فجوة كبيرة؛ فكلٌّ يقول : إنه على الحق، والله يعلم من معه الحق؛ فنرجو أن توجهوا نصيحة في طلب العلم وكيف ينهجون خاصة في بداية تعلمهم وفي بداية طلبهم للعلم ؟(71/1)
بسم الله الرحمن الرحيم . لا شك أن الشيطان لعنه الله يريد أن يُفَرِّق بين المسلمين، وكذلك أعوان الشيطان من بني الإنسان يريدون أن يفرقوا بين المسلمين؛ شبابهم وشيبهم، هذا أمر معروف منذ تعهد الشيطان بذلك حين قال ما ذكره الله عنه : { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً، قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا، وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } [ الإسراء : 62-65 . ] ؛ يعني آدم عليه السلام . هذا مهنة الشيطان، ولا يقاوم الشيطان وأعوان الشيطان إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بذلك، مع الرجوع لأهل العلم والبصيرة بالتعلم منهم ومشاورتهم، ثم الحذر من الدسائس التي تتخلل المجتمع من هنا وهناك على أيدي دعاة السوء الذين يريدون أن يُفرِّقوا هذا المجتمع؛ لأن هذا المجتمع في هذه البلاد ولله الحمد ما زال بخير، يمتاز به على سائر الناس في البلدان الأخرى . . . يحكم فيه شرعُ الله سبحانه وتعالى، والولاية فيه ولله الحمد ولاية مسلمة مؤمنة؛ لا نقول : إن عندها الكمال في كل شيء، وما عندنا من النقص يمكن إصلاحه بالمناصحة الشرعية، كذلك هذه البلاد على عقيدة التوحيد، ليس فيها قباب أو أضرحة تُعبَدُ من دون الله، ليس فيها مزارات شركية كما في البلاد الأخرى، وهي بلاد الحرمين الشريفين، ترفل بالأمن والاستقرار، نأمن على أنفسنا وأموالنا وعلى أولادنا، بينما البلاد الأخرى على تخوف .(71/2)
فكروا يا عباد الله بهذه النعمة، والنعمة تستوجب الشكر؛ فإن لم تُشكر؛ فإنها تزول { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم : 7 . ] ؛ فعلى شباب المسلمين أن يتذكَّرُوا هذه النعمة، وأن يسعوا في بقائها وإصلاح ما يحصل فيها من خلل بالطرق الصحيحة، وعليهم أن يحذروا كل الحذر من المفسدين الذين يتسمون باسم الدعوة وباسم الإسلام، وهم ينشرون العداوة والأحقاد بين المسلمين، ويتصيدون في الماء العكر، ويتلمسون الزلات البسيطة ليكبروها، حتى يجعلوها كأنها جرائم ليس لها علاج وليس لها إصلاح، وأنها كفر، وأنها، وأنها .
علينا أن نحذر من هذا النوع من الناس، وإن تلبسوا باسم الإسلام وباسم الدعاة؛ لأن الدّاعية من صفاته الإخلاص والسعي بالإصلاح والسعي بإزالة الفرقة بين المسلمين .
أما هذه الدعوة التي تُفرِّقُ بين الناس وتشتتهم؛ فهذه دعوة إلى الفتنة؛ فالذي يُشَهِّر بالأخطاء والذي ينشر المخازي والذي يُقَنِّط الناس من الإصلاح؛ فهذا داعية سوء، علينا أن نحذر من أمثال هؤلاء، وأن نعود إلى رشدنا، وأن نشكر نعمة الله علينا، وأن نُقبِل على تعلم العلم النافع، وأن نُزِيل ما بيننا من الاختلاف بالرّجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 . ] .
234 ـ الرَّجاء منكم إعطاؤنا كلمة تؤلِّفُ بين الشّباب، وتُبعِدُهُم عن الفرقة والاختلاف؛ لأنّ الفرقة والاختلاف شرٌّ؛ كما لا يخفى عن فضيلتكم .(71/3)
نعم؛ نحن والله لا نودُّ لإخواننا وأبنائنا وجميع المسلمين في هذه البلاد وفي غيرها، لا نودُّ لهم إلا الخير، ولا نودُّ لهم إلا الاجتماع على الخير، ولا نُبغِضُ أحدًا من أجل شخصه، وإنّما نُبغِضُ من أبغضَهُ الله ورسولهُ، نُبغِضُ أعداء الدِّين وأهل الضلال، هؤلاء نُبغضُهم؛ لأنّ الله يُبغِضُهم، لا نُبغِضُ الأشخاص من أجل أشخاصهم، وإنما نبغض المناهج المنحرفة والمناهج الضّالّة، ونُبغِضُ من تمسَّكَ بها وأبى أن يرجِعَ عنها، هذا نُبغِضُهُ، هذا من الموالاة في الله والمعاداة في الله، مع رجائنا أنّ المخالف يرجع إلى الصّواب؛ لأنه أخونا، نريدُ له الخير .
فنحن نوصي الشّباب أن يتركوا الفُرقة والاختلاف، وأن يَعرِضوا ما حصل بينهم على أهل العلم، هُم لا يمكنهم أن يرجعوا إلى الكتاب والسّنّة؛ لأنهم قد لا يتمكّنون من هذا؛ لقصور علمهم، ولكن يرجعون إلى أهل العلم، ويقول أحدهم : أنا أقول كذا، وفلان يقول كذا، أيُّنا على الصّواب ؟ ويصدُرون عن أهل العلم لبيان الحقِّ .
هذا الذي نريد لهم؛ أن يرجعوا إلى أهل العلم : إمّا بالمشافهة إذا حضروا عندهم، وإمّا بالكتابة؛ يكتبون إلى العلماء، ويشرحون لهم القضيّة؛ يقولون : أيُّنا على الصَّواب ؟ نحن نقول كذا، وفلانٌ يقول كذا، دليل فلان كذا، ودليل فلان كذا، أيُّنا على الصَّواب ؟ ثم يأخذون الإجابة الصّحيحة إن شاء الله .
ويكتبون إلى أهل العلم الموثوقين والمعروفين بعلمهم، ويصدُّرون عن إرشادهم وتوجيههم، هذا هو الذي أوصيكم به .
235 ـ أمسى الشباب الذين كانوا موضع الفرح بصحوتهم محل استهجان البعض؛ لعدم انضباط الشباب بالضابط الشرعي الرزين؛ فما هو تعليقكم ؟(71/4)
الشباب الذي مَنَّ الله عليه بالهداية والرغبة بالتمسك بالدين يجب تشجيعه وتوجيهه إلى طريق الصواب وتعليمه أحكام الدين الصحيح وحمايته من التيارات والأفكار المشبوهة والمناهج المنحرفة التي تتسمى بالإسلام وهي تريد الكيد له والصّدّ عنه؛ فإن المنافقين من قديم الزمان وما زالوا يتسمَّون بالإسلام ظاهرًا ويحاربونه باطنًا، { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } [ آل عمران : 119 . ] ، { يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا } [ البقرة : 9 . ] .
236 ـ ما هي توجيهات فضيلتكم لبعض شباب الصّحوة الذين يستعجلون في ممارسة الدّعوة وإصدار الفتاوى بغير علم ؟
لا شك أنّ الدّعوة إلى الله تعالى واجبة على من عنده الاستطاعة للقيام بها عمليًّا وبدنيًّا وعقليًّا، ومن لا يستطيع القيام بالدّعوة؛ فإنه يدعو للمسلمين بالتّوفيق والنّصر، وإن كان ذا مالٍ؛ فإنّه يساعد على الدّعوة بماله؛ من طبع الكتب، وتوزيعها، وإعانة الدُّعاة إلى الله .
وأمّا الفتوى؛ فإنّها منصبٌ خطيرٌ، لا يجوز الإقدام عليه؛ إلا ممّن هو مؤهّلٌ بالعلم الذي تلقّاهُ عن ثقات العلماء، ولا يفتي إلا عند الضّرورة، إذا لم يوجد من هو أعلم منه .
237 ـ هل لكم يا فضيلة الشيخ أن تُبيِّنوا لنا علاقة الشباب بالعلماء وما الذي ينبغي أن يكونوا عليه؛ لأنه يوجد من ينتقص من علمائنا الكبار ويختار دعاة الشباب ؟(71/5)
هذا خطر عظيم، إذا حصل انفصال بين العلماء وبين الشباب، حصل الخطر العظيم؛ لأن الشباب إذا انفصلوا عن علمائهم؛ تولاهم دعاة السوء وحَرفُوهم عن الحق، كالذئب يحاول فصل الغنم عن الراعي من أجل أن يعبث بها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنّما يأكُلُ الذّئبُ مِنَ الغنم القاصية ) [ رواه الإمام أحمد في مسنده ( 5/196 ) ورواه أبو داود في سننه ( 1/147 ) ورواه النسائي في سننه ( 106، 107 ) كلهم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه . بدون ذكر ( من الغنم ) . ] ؛ فالتي تخرج عن جماعتنا وعن منهجنا هذه يأكلها الذئب، والذئب هنا من دعاة السوء .
فعلى شباب المسلمين أن يرتبطوا بعلمائهم، وعلماء هذه البلاد - ولا نزكي على الله أحدًا - الذي نعلم من حالهم أنهم من خيرة الناس وأنهم من أصلح الناس ولله الحمد؛ لأنهم نشئوا على عقيدة سليمة، وتعلموا من مشايخهم علمًا صحيحًا، تفقهوا في دين الله على يد علمائهم، وعلماؤهم تفقهوا على من قبلهم، وهكذا . . . الخط ماش ولله الحمد، فلا تزهدوا في علماء هذه البلاد .
وجربتم الفرق بين علماء هذه البلاد وبين غيرها، أنا لا أنتقص العلماء الآخرين، ولكن أقول : علماؤنا معروفون لدينا، نثق بهم ونعرف من أين تعلموا ومن أين أخذوا العلم وأين نشئوا، فهم معروفون لدين، أما غيرهم من العلماء الآخرين؛ فلا نطعن فيهم، ولكن نقول : نحن لا نعرف من أين أخذوا العلم، ولا نعرف من أين تعلموا، لا نعرف مستواهم العلمي، لا نعرف مقاصدهم ونياتهم؛ فنحن نتوقف في أمرهم وفي شأنهم، لا نطعن فيهم ولا نسارع في الثقة بهم من غير معرفة .
أنتم تعرفون منهج رواة الحديث : إذا كان الراوي مجهولاً لا تُعرَفُ حالَتُه؛ توقفوا عن الرواية عنه؛ لأنهم لا يريدوا أن يغامروا ويمنحوا الثقة لكل أحد؛ من يعرفون ومن لا يعرفون .(71/6)
هذا دين، والدين لابد أن يؤخذ عن توثق وعن يقين وعن معرفة وعن بصيرة، وعلماء هذه البلاد حسب علمنا بهم أنهم ولله الحمد من خيرة العلماء، ما قصَّروا في تعليمنا وفي توجيهنا وفي إرشادنا؛ فلماذا يرخصون علينا، ونزهد فيهم، ونلتمس العلم عن غيرهم، ونلتمس التوجيه من غيرهم ؟ هذا خطأ عظيم .
238 ـ لقد انتشر بين الشّباب فكر جديد ورأي جديد، وهو أنّهم يقولون : لا نُبَدِّعُ من أظهر بدعة حتى نقيم عليه الحُجَّة، ولا نبدِّعُهُ حتى يقتنع ببدعته؛ دون الرُّجوع إلى أهل العلم والفتوى؛ فما هو منهج السّلف في هذه القضيّة الهامّة ؟
البدعة هي ما أُحدِثَ في الدّين من زيادة أو نقصان أو تغيير، من غير دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما قال صلى الله عليه وسلم : ( من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 3/167 ) من حديث عائشة رضي الله عنها . ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( وإيّاكم ومُحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار ) [ رواه النسائي في " سننه " ( 3/188، 189 ) من حديث جابر بن عبد الله، ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " بدون ذكر " وكل ضلالة في النار " ( 2/592 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه(4). ] ، وقال تعالى : { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 . ] .(71/7)
فالبدعة إذًا إحداث شيء في الدين، ولا تُعرَفُ بآراء هؤلاء ولا بأهوائهم، وليس الأمر راجعًا إليهم، وإنما الأمر راجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فليست السّنّة ما تعارفه الناس والبدعة ما لم يتعارفوه، أو السنة ما رضي به زيد أو فلان . . . فإن الله سبحانه وتعالى لم يكلنا إلى عقولنا أو آراء الناس، بل أغنانا بالوحي المنزَّل على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالسّنّة ما جاء بها الرّسول صلى الله عليه وسلم، والبدعة ما لم يأت بها الرّسول صلى الله عليه وسلم؛ من الأقوال والأفعال .
ليس لأحد أن يحكم على شيء بأنه بدعة أو أنه سنّة حتى يعرضَهُ على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمّا إن فعله عن جهل، وظنّ أنّه حقٌّ، ولم يُبيّن له؛ فهذا معذورٌ بالجهل، لكن في واقع أمره يكون مبتدعًا، ويكون عمله هذا بدعة، ونحن نعامله معاملة المبتدع، ونعتبر أنّ عمله هذا بدعة .
وننصح الشّباب الذين يسلُكون هذا المنهج، ويحكمون على الأشياء حسب أهوائهم : أن يتَّقوا الله سبحانه وتعالى، وأن لا يتكلَّموا في الدّين إلا عن علم ومعرفة .
لا يجوز للجاهل أن يتكلّم عن الحلال والحرام، والسّنّة والبدعة، والضّلالة والهُدى، بدون علم؛ فإنّ هذا قرين الشّرك؛ قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 . ] ؛ فجعل القول على الله بلا علم مع الشّرك؛ ممّا يدلّ على خطورته .(71/8)
فأمور الدّين وأمور العلم لا يجوز الكلام فيها إلا على بصيرة وبيّنة من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس الكذب على الله كالكذب على غيره، وليس الكذبُ على الرّسول صلى الله عليه وسلم كالكذب على غيره؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( مَن كذبَ عليّ مُتعمّدًا؛ فليتبوّأ مقعده من النّار ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 1/35-36 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، (5) ] ، وقال سبحانه وتعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [ الزمر : 32 . ] ؛ فلا يجوز لأحد أن يتكلّم في أمور الدّين والحكم على الناس إلا بالعلم والدّليل والبيّنة من كتاب الله وسنّة رسوله .
239 ـ لقد تفشَّى بين الشّباب ورعٌ كاذبٌ، وهو أنهم إذا سمعوا النّاصحين من طلبة العلم أو العلماء يحذّرون من البدع وأهلها ومناهجها، ويذكرون حقيقة ما هم عليه، ويردُّون عليهم، وقد يوردون أسماء بعضهم، ولو كان ميِّتًا؛ لافتتان الناس به، وذلك دفاعًا عن هذا الدّين، وكشفًا للمتلبّسين والمندسّين بين صفوف الأمّة؛ لبثِّ الفرقة والنّزاع فيها، فيدَّعون أنّ ذلك من الغيبة المحرَّمة؛ فما هو قولُكم في هذه المسألة ؟
القاعدة في هذا التّنبيه على الخطأ والانحراف، وتشخيصُه للناس، وإذا اقتضى الأمر أن يصرَّحَ باسم الأشخاص، حتى لا يُغتَرَّ بهم، وخصوصًا الأشخاص الذين عندهم انحراف في الفكر أو انحراف في السّير والمنهج، وهم مشهورون عند الناس، ويُحسِنون بهم الظّنّ؛ فلا بأس أن يُذكَروا بأسمائهم، وأن يُحذَّرَ منهم .
والعلماء بحثوا في علم الجرح والتّعديل، فذكروا الرُّواة وما يُقالُ فيهم من القوادح، لا من أجل أشخاصهم، وإنما من أجل نصيحة الأمة أن تتلقّى عنهم أشياء فيها تجنٍّ على الدِّين أو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .(71/9)
فالقاعدة أولاً أن يُنَبَّهَ على الخطأ، ولا يُذكرَ صاحبُه، إذا كان يترتَّب على ذكره مضرَّةٌ، أو ليس لذكره فائدة، أمّا إذا اقتضى الأمر أن يصرَّحَ باسمه لتحذير الناس منه؛ فهذا من النّصيحة لله وكتاب ورسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، خصوصًا إذا كان له نشاط بين الناس، ويحسنون الظّنّ به، ويقتنون أشرطته وكتبه، لا بدّ من بيان وتحذير الناس منه؛ لأنّ في السُّكوت ضررًا على الناس؛ فلا بدّ من كشفه، لا من أجل التّجريح أو التّشفّي، وإنما من أجل النّصيحة لله وكتابه ورسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم .
240 ـ من الأشياء المؤسفة اليوم ما نجده من حرص البعض على تصنيف الناس والاستمتاع بهذا ؟
لا يجوز للمسلم أن يشغل نفسه بالكلام في الناس وتفريق كلمة المسلمين والحكم على الناس بغير علم؛ لأنّ هذا من الفساد؛ قال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 . ] .
والواجب على المسلم أن يسعى بالإصلاح وجمع الكلمة والسّعي في توحيد الصّفّ على الحقّ، لا أن يفرّق المسلمين ويصنّفهم إلى جماعات أو إلى فرق أو إلى غير ذلك، بل المطلوب منه إذا رأى شيئًا من الخلل في المسلمين أن يسعى إلى إصلاحه، فإذا رأى فرقة؛ يسعى إلى جمع كلمة المسلمين .
هذا هو المطلوب من المسلم؛ أن يدعو إلى جمع الكلمة، وإزالة أسباب الفرقة؛ لأنّ هذا من أعظم النّصيحة لأئمّة المسلمين وعامّتهم .
241 ـ ما هي المسائل التي يجوز الاختلاف فيها ؟ وتلك التي ينبغي التّوقُّفُ عن الخلاف فيها ؟ وما واجب المسلمين تُجاه دينهم ؟
الاختلاف على قسمين :
القسم الأول : الاختلاف في مسائل العقيدة، وهذا لا يجوز؛ لأنّ الواجب على المسلمين اعتقاد ما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، وعدم التّدخُّل في ذلك بعقولهم واجتهاداتهم؛ لأنّ العقيدة توقيفيّة، ولا مجال للاجتهاد والاختلاف فيها .(71/10)
القسم الثاني : اختلاف في المسائل الفقهيَّة المستنبطة من النُّصوص، وهذا لابدّ منه؛ لأنّ مدارك الناس تختلف، ولكن يجب الأخذ بما ترجّح بالدّليل من أقوالهم، وهذا هو سبيل الخروج من هذا الخلاف .
ويجب على المسلم أن يهتمَّ بأمور دينه، ويحافظ على أداء ما أوجب الله عليه، ويترك ما حرَّمَ الله عليه، وأن يتحلَّى بالأخلاق الفاضلة مع إخوانه، وأن يصدُقَ في معاملته، ويحفظ أمانته، ويكون قدوةً صالحةً لغيره .
ويجب أن يتربَّوا على التّمسّك بالدّين والأخلاق الفاضلة، وأن يبتعدوا عن الأخلاق الرّذيلة وقرناء السُّوء، وأن يهتمُّوا بما ينفعهم في دينهم ودُنياه، وأن يكونوا قوَّة للإسلام والمسلمين .
242 ـ الصّحوة الإسلاميّة تعبير شائع هذه الأيام لما نُطلِقُ عليه المدّ الإسلامي والعودة إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ماذا تقولون عنه ؟ وبماذا تنصحون الشّباب ؟
كلمة الصحوة التي شاعت على ألسنة الناس في هذه الأيام كلمة تحتاج إلى تأمّل؛ خصوصًا في هذه البلاد التي ما زالت ولن تزال بإذن الله متمسّكة بالإسلام، ولم تكن غافلةً عنه أو نائمة ثمّ استيقظت وصحت؛ فهذا التّعبير إن صحّ في بعض المجتمعات؛ فإنه لا يصحُّ في المجتمع السُّعوديِّ الذي يحكِّمُ كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر؛ فهو شعب صالح ومستيقظ . والحمد لله .(71/11)
أمّا ما ننصح به الشّباب؛ فهو تعلُّمُ العلم النّافع على أيدي العلماء، وعدم التّسرّع في الأحكام، وعدم تقبُّلِ الأفكار بدون تمحيص ونظر فيها وفيما تنطوي عليه، بل عليهم أن يتثبَّتوا، وأن يسألوا العلماء، وأن لا يتسرَّعوا، وأن يبتعدوا عن الانفعالات والحماس الذي يوقِعُهُم في الخطأ؛ كما أنصحهم بالبُعد عن الانتماءات التي تُبعِدهم عن منهج الكتاب والسُّنَّة ومذهب أهل السّنّة والجماعة؛ كما قال تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ آل عمران : 103 . ] ، { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 . ] ؛ فالاجتماع على الحقِّ رحمةٌ، والفُرقة عذاب .(71/12)
الأمة
243 ـ فضيلة الشيخ : المتابع لوضع الأمة العام لا يجد أن حمل الإسلام ونصرته همًّا عامًّا على مستوى الحكومات، بل العكس قد يتدارى من نازعته العاطفة الإسلامية لخدمة الإسلام . . . لماذا ؟
هذا التعميم لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تزالُ طائفة من أُمَّتي على الحقِّ ظاهرين، لا يضرُّهُم مَن خذلَهُم ولا مَن خالفَهُم، حتى يأتي أمرُ الله تبارك وتعالى وهُم على ذلك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1523 ) من حديث ثوبان رضي الله عنه . ] .
وإننا والحمد لله نرى من حكومة هذه البلاد قيامًا بالواجب نحو الإسلام وتحكيمًا لشريعته - ولو وُجِدَ بعضُ النقص في ذلك، ونرجو الله أن يصلحه .
وأيضًا مهما أصاب المسلمين من المصائب فإن اليأس لا يجوز { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 . ] ، وهذا لدين باق بحفظ الله له، وإذا تركه قوم استبدلهم الله بآخرين؛ كما قال تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 . ] .
244 ـ هل نستطيع القول : إن جذوة العزة بالإسلام قد انطفأت في الصدور ؟
الإسلام سيبقى بإذن الله مهما اشتدت الخطوب إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة المسيح الدجال كما جاء في الأحاديث (6).
ولا تنطفئ جذوة الإيمان في جميع الناس، بل لا بد أن يبقى لهذا الدين من يحمله ويدافع عنه بإذن الله؛ كما في الحديث الذي سبق ذكره : ( لا تزالُ طائفةٌ من أمّتي على الحقّ ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1523 ) من حديث ثوبان رضي الله عنه . ] .
245 ـ نسمع من يقول بتجديد الإسلام؛ فهل هو محق في قوله ؟(72/1)
إن كان المراد بتجديد الإسلام هو الدعوة إليه وإزالة ما علق به عند بعض المسلمين من الشركيات والبدع والخرافات وبيان الإسلام الصحيح الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وسار عليه السلف الصالح؛ فهذا تجديد واجب وحق، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كلّ مئة سنة من يُجدّد لها دينها (7).
وإن كان المراد بتجديد الإسلام استبدال أحكامه بما يوافق رغبات الناس وأهواءهم من الاجتهادات الخاطئة والآراء المخالفة لهدي الإسلام؛ فهذا تجديد باطل مرفوض، وهذا هو ما ينادي به بعض الجهلة وأصحاب الأفكار الملوثة .
246 ـ ما سبيلنا لإحياء معاني الانتماء للإسلام وسط هذه الغربة والمؤاخذة العالمية للدول المتعاطفة مع الإسلام ؟
سبيلنا هو التمسك بالدين بعد تعلمه ومعرفته والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه؛ كما قال تعالى : { وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ العصر : 1-3 . ] ؛ فهي أربع درجات : العلم ثم العمل ثم الدعوة إليه ثم الصبر على الأذى فيه .
247 ـ أصبح الإسلام رديفًا لمعاني الإرهاب والوحشية، ألا ترى أن أخطاء بعض المسلمين هي المورِّث الحقيقي لهذه الصورة المنكرة ؟ وما طريق الخلاص ؟(72/2)
الكفار من قديم يحاربون الإسلام ويصفونه بأقبح الصفات تنفيرًا منه { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ التوبة : 32 . ] ، ومن ذلك وصفهم له بالإرهاب والوحشية، وينسون أن الإرهاب والوحشية وقتل الشعوب والتسلط على الخلق بغير الحق وكل صفات الذم إنما هي في دين الكفر ومن صفات الكفار، وكون بعض المنتسبين إلى الإسلام تصدر منهم بعض التصرفات الخاطئة - إما عن جهل أو عن قصد سيئ - فإن ذلك لا ينسب إلى الإسلام؛ لأن الإسلام ينهى عن ذلك . وطريق الخلاص من هذا الاتهام السيئ للإسلام أن يُبَيَّن أن فعل هؤلاء الأشخاص ليس من الإسلام وإنما هو تصرف شخصي، وأن كل مسلم فهو عرضة للخطأ وليس هناك معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
248 ـ ما هي أبرزُ القضايا التي تحتاج إلى وقفة المسلمين في هذا العصر ؟
أبرز القضايا التي تحتاج إلى وقفة المسلمين في هذا العصر : قضية الجهل بعقيدة التّوحيد عند كثير من المنتسبين إلى الإسلام، والانتماءات إلى المذاهب المخالفة للإسلام، والغزو الفكريُّ الوافد من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام؛ كلُّ هذه القضايا تحتاج إلى وقفة صحيحة ومدافعةٍ قويَّةٍ، وذلك ببيان الإسلام الصحيح بعقيدته وتشريعاته الحكيمة، والتحذير من كلِّ ما خالَفَه من خلال المناهج الدّراسيّة والوسائل الإعلاميّة ونشر الكتب النافعة .
249 ـ الأخطار تُحدق بالأمّة الإسلاميّة من كلّ جانب؛ فما هو أشدُّها خطرًا على الأمّة ؟ وكيف السّبيلُ إلى صدّ هذا الخطر ؟
أشدُّ خطر يواجه الأمة الإسلاميّة هو بعدها عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واستبدالهما بالقوانين الوضعيّة والمذاهب المنحرفة .(72/3)
وكذلك أشدُّ خطر يواجه الأمّة الإسلاميّة هو الضّلال والانحراف في العقيدة، وتسرُّبُ الأفكار الكفريَّة والشِّركيَّة والبدعيَّة من قبوريَّة وصوفيَّة وبدع وخرافات .
كما أنَّ مِن أشدِّ الأخطار على الأمّة الإسلاميّة تفرُّقَها فيما بينها وعداوة بعضها لبعض .
وعلاج ذلك بالرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة تعلُّمًا وتعليمًا وحكمًا بين النّاس وتخلُّقًا بأخلاقهما .
250 ـ ماذا تقولون في الغياب عن قضايا العصر ؟ واختلاف العلماء ؟ وصوم الصِّغار ؟ هل تضعوا النُّقط على الحروف حول هذه المسائل ؟
ليس هذا الإطلاق صحيحًا، فليس العالم الإسلاميُّ كلُّه غائبًا عن قضايا العصر، بل هناك والحمد لله من المسلمين من هو على يقظةٍ وتفهُّم لقضايا العصر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تزالُ طائفة من أُمَّتي، على الحقّ ظاهرين، لا يضرُّهم من خذلهم ولا مَن خالفهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وهُم على ذلك ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1523 ) من حديث ثوبان رضي الله عنه . ] .
علماء هذه البلاد المعتبرون ليس بينهم تباين واختلاف ولله الحمد كما هو موجود عند الفرق الأخرى، وإن قُدِّرَ وجود اختلاف؛ فإنَّما هو في المسائل الاجتهاديّة التي للاجتهاد فيها مسرح، ومع ذلك؛ فهم جماعة واحدة، وأخوة متحابُّون، ولله الحمد .
الصِّغار المميِّزون الذين هم دون البلوغ يؤمرون بالصلاة والصّيام ليتدرّبوا عليهما؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مُروا أولادكم بالصّلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/130 ) من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواه الترمذي في " سننه " ( 2/74 ) من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده . ] ، وكان السّلف يصوِّمون صبيانهم، فإذا طلبوا الأكل والشَّراب؛ شغلوهُم ببعض الألعاب (8).(72/4)
251 ـ يقول البعض : إن ذهاب ثمرة الجهاد الأفغاني هو نتيجة طبيعية لعدم اعتماد المنهج الصحيح، ما ردكم ؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن قاتل لتكونَ كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/206 ) من حديث أبي موسى رضي الله عنه . ] ، فما خرج عن هذا الضابط من أنواع القتال فهو ليس في سبيل الله، وبالتالي تكون نتيجته الفشل، وما يحصل عند الأفغانيين الآن لابد أنه نتيجة خلل حاصل، والواجب عليهم مراجعة أنفسهم والرجوع إلى الحق والاحتكام إلى الكتاب والسّنّة؛ قال الله تعالى : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 1 . ] .
252 ـ إن أعداء الدين يسيرون بخطة مرسومة ونظريات حتى إن طاغوتًا من كبار طواغيتهم قال : إنّه في سنة 2000م ستصبح إفريقيّة كلّها مسيحيّة؛ فلماذا المسلمون لا يتّخذون خططًا مكافئةً لها ؟
الله جل وعلا يقول : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا } [ النساء : 123 . ] ؛ فإذا قال أهل الكتاب : سيحصل كذا ! وسيتنصَّرُ من الناس كذا ! فهذا لا يضيرُنا، ولا يبعث في نفوسنا القنوط ولا الكسل، وإنّما يبعثنا ويحثُّنا على العمل والجدِّ والاجتهاد في الدّعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقول : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 . ] .(72/5)
هم قالوا أعظم من هذا؛ قالوا : { لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : 111 . ] ، حتى الجنة احتجزوها؛ فهل هذا منطق عاقل أو إنسان، والله جلّ وعلا ردَّ عليهم بقوله : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 . ] ، وقال تعالى : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا } [ النساء : 123 . ] .
وهم قالوا أعظم من هذا، قالوا لموسى : { أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً } [ النساء : 153 . ] ، وقالوا، وقالوا . . . وعندهم أقاويل والعياذ بالله تروِّعُ، ولكنها كلَّها ترتدُّ في نحورهم، ولا تضرُّ أهل الإيمان أبدًا إذا استقام أهل الإيمان وأعدُّوا عُدَّتَهُم ولم يتخاذلوا .
الآن نرى النَّصارى يُنفقون الأموال ويبنون المباني والمدارس والإرساليَّات، ويتعبون، ويتنصَّرُ قليل من الناس، ثم يترُكونَ النّصرانيّة عمّا قليل، ونرى كثيرًا من الناس يُسلِمون بدون دعوة من أحد من النّاس، وبدون شيء، إنما يسلمون إذا رأوا تعاليم الإسلام، وسَمِعوا القرآن مجرَّد سماع، وإذا قرؤوا مجرَّد قراءة عن الإسلام؛ فإنهم يسلمون، هذا مع كسل المسلمين، هكذا تأثير الإسلام عليهم؛ فكيف لو أنّ المسلمين جدُّوا ودَعَوا إلى الله وأظهروا محاسن الإسلام وطبَّقوه في أنفسهم أولاً حتى يكونوا قدوة لغيرهم وحتى يمثِّلوا الإسلام تمثيلاً صحيحًا ؟ !
يقول بعضُ النَّصارى : نحن أنفقنا كذا مليونًا وتنصَّر واحد فقط في مقابل هذه الملايين، بينما المسلمون يُسلِمُ الآلاف بدون أن يبذُلَ المسلمون درهمًا واحدًا .(72/6)
فالحقُّ واضح والحمد لله، ولكن الحقَّ يحتاج إلى من يحملُه؛ فالحقُّ مثلُ السّيف، إذا حمله إنسان شجاع حملاً صحيحًا؛ لن يقف في وجهه عدوٌّ، ولكنّ السّلاح إذا وُجِدَ بدون يدٍ تحمِلُه؛ فإنّه لا يفيد .(72/7)
الجامع في مسائل العقيدة
253 ـ ما الحكمة في أنّ القرآن العظيم محفوظ من التّبديل والتّحريف، في حين إنّ الكتب الأخرى كالتّوراة والإنجيل ليست كذلك ؟ وهل يعني الإيمان بالكتب الإيمان بما فيها على ما هي عليه الآن، خاصّة وأنّ بعضها دَخَلَهُ التَّحريفُ ؟
القرآن الكريم تكفَّل الله تعالى بحفظه؛ لأنّه الكتابُ الباقي إلى قيام السّاعة، النّاسخ لما سبقه، ولا يتطرّق إليه نسخ، أمّا الكتب السّابقة؛ فاستُحفِظ عليها الرّبانيّون والأحبار؛ ابتلاءً وامتحانًا لهم، ولأنّها - والله أعلم - مؤقّتةٌ، ويتطرَّق إليها النسخ بشرائع أخرى تأتي بعدها، وهي أيضًا خاصّةٌ بمن أُنزِلَت عليهم في وقتهم، والقرآن عامٌّ لجميع الثّقلين الجنّ والإنس إلى يوم القيامة .
والإيمانُ بالكتب الإلهيّة من أركان الإيمان .
والإيمان بالكتب السّابقة إيمان مجمل، والإيمان بالقرآن إيمان مفصَّلٌ بكلِّ ما فيه، من أنكر منه حرفًا أو آية أو أقلَّ أو أكثر؛ فهو مرتدٌّ عن دين الإسلام، وكذلك من أنكر حكمًا من أحكامه؛ كقطع يد السَّارق، والاقتصاص من الجاني، أو أنكر صلاحيته للحكم بين النّاس في هذا الزمان، أو في أيّ زمان؛ فهو كافر، أمّا الإيمان بالكتب السّابقة؛ فهو إيمانٌ مجمل، يتناول أصولها وما فيها من حقٍّ، دون ما فيها من تحريف وتبديل؛ لأنّ الله أمر بالإيمان بها مع ذكره سبحانه أنّ أهلها قد حرَّفوها وغيَّروا فيها؛ فالإيمان بأصولها وأنها من عند الله دون ما فيها من تحريف وتبديل؛ فهذا مردود على أصحابه .
قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } [ البقرة : 79 . ] .(73/1)
وقال تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران : 78 . ] .
254 ـ أنا فتاة مؤمنة بالله تعالى، أحاول جاهدة أن التزم بتعاليم الإسلام، ولكن كثيرًا ما تُراودني أفكار عن المصير والحساب يوم القيامة، والسؤال : هل يتمُّ الحساب يوم القيامة في يوم واحد لكافّة الخلائق ؟ أم ماذا ؟ أم لا يجوز لنا أن نفكِّرَ في هذا ؟
هذا السؤال المقدَّمُ من هذه المرأة فيه إشكال يحتاج إلى الجواب كما قالت .
وفيه أنّ المرأة أثنت على نفسها خيرًا؛ بكونها مؤمنة بالله تعالى، وتحاول تطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا الثّناء على النّفس : إن أراد به الإنسان التّحدُّث بنعمة الله عز وجل، أو أن يتأسَّى به غيره من أقرانه ونظرائه؛ فهذا لا بأس به، وإن أراد به الإنسان تزكية نفسه، وإدلاله بعمله على ربّه عز وجل؛ فإنّ هذا فيه شيء من المنّة، وقد قال الله تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الحجرات : 17 . ] . وأما إذا كان المراد به مجرَّد الخبر؛ فلا بأس به، لكنّ الأولى تركُه .
فالأحوال في ثناء المرء على نفسه أربع :
1ـ أن يريد بذلك التّحدُّث بنعمة الله عليه بما حباه به من الإيمان والثّبات .
2ـ أن يريد بذلك تنشيط أمثاله ونظرائه على مثل ما كان عليه .
وهاتان الحالان محمودتان؛ لما يشتملان عليه من النّيّة الطّيّبة .
3ـ أن يريد بذلك الفخر والتّباهي والإدلال على الله عزّ وجلّ بما هو عليه من الإيمان والثّبات، وهذا غير جائز؛ لما ذكرنا من الآية .(73/2)
4ـ أن يريد بذلك مجرد الخبر عن نفسه بما هو عليه من الإيمان والثّبات؛ فهذا جائز، والأولى تركُه .
أمّا المشكلة الثانية التي ذكرتها في السؤال، وهي : هل يومُ الحساب يومٌ واحدٌ أو أكثر ؟
فالجواب أنّ يوم الحساب يوم واحد، ولكنّه يوم مقداره خمسون ألف سنة؛ كما قال الله تعالى : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ، مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 1-4 . ] ؛ أي أنّ هذا العذاب يقع للكافرين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . وفي " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من صاحب ذهبٍ ولا فضّة لا يؤدّي منها حقّها؛ إلا كان يوم القيامة؛ صُفِّحت له صفائح من نار، وأُحمي عليها في نار جهنّم، فيُكوى بها جنبُه وجبينُه وظهرُه، كلّما بردت؛ أُعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/680 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولهذا الحديث بقية . ] .
وهذا اليوم الطويل هو يوم عسير على الكافرين؛ كما قال تعالى : { وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [ الفرقان : 26 . ] ، وقال تعالى : { عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [ المدثر : 10 . ] ، ومفهوم هاتين الآيتين هو أنَّ هذا اليوم يسيرٌ على المؤمنين .(73/3)
وهذا اليوم فيه من الأمور العظيمة ما يجعل الولدان شيبًا؛ قال تعالى : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَومَئِذٍ زُرْقًا، يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُم إن لَّبِثْتُمْ إلاَّ عَشْرًا، نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُم طَرِيقَةً إن لَّبِثْتُُمْ إلاَّ يَوْمًا، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا، يَومَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتٍ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إلاَّ هَمْسًا، يَومَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً } [ طه : 102-109 . ] .
والتفكير والتعمُّقُ في مثل هذه الأمور الغيبيّة هو من التّنطّع الذي قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيه : ( هلكَ المُتنطِّعُونَ، هلكَ المُتنطِّعُونَ ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 4/2055 ) من حديث عبد الله رضي الله عنه . ( قالها ثلاثًا ) . ] .
وواجب الإنسان في هذه الأمور الغيبيّة التسليم وأخذُ الأمور على ظاهر معناها دون أن يتعمّق أو يحاول المقايسة بينها وبين الأمور في الدُّنيا؛ فإنّ أمور الآخرة ليست كأمور الدُّنيا، وإن كانت تشبِهُها في أصل المعنى، لكن بينهما فرق عظيم .(73/4)
وأضرب لك مثلاً فيما ذكره الله تعالى في الجنّة من النَّخل والرُّمان والفاكهة ولحم الطّير والعسل والماء واللبن وما أشبه ذلك، مع قوله عز وجل : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 . ] ، وقوله في الحديث القدسيِّ : ( أعددتُ لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 6/21 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ؛ فهذه الأسماء التي لها مسمَّياتٌ في هذه الدُّنيا لا تعني أنَّ المسمَّى كالمسمَّى به، وإن اشتركا في الاسم وفي أصل المعنى؛ فكلُّ الأمور الغيبيَّة التي تشارك ما يشاهد في الدُّنيا في أصل المعنى لا تكون مماثلةً له في الحقيقة .
فينبغي للإنسان أن ينتبه لهذه القاعدة، وأن يأخذ أمور الغيب بالتَّسليم، وما يقتضيه ظاهرها من المعنى، وأن لا يحاول شيئًا وراء ذلك .
ولمّا سُئِلَ الإمام مالك رحمه الله عن قول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 . ] ؛ كيف استوى ؟ أطرقَ رحمه الله برأسه، حتى علاه الرُّحَضاءُ؛ أي : العرقُ، وصار يتصبَّبُ عرقًا، وذلك لعظم السؤال في نفسه، ثم رفع رأسه، وقال قولَتَه الشهيرة التي كانت ميزانًا لجميع ما وصف الله به نفسه؛ قال رحمه الله : ( الاستواءً غيرُ مجهولٍ، والكيفُ غيرُ معقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسُّؤالُ عنه بدعةٌ ) (9).
فالسؤال المتعمِّقُ في مثل هذه الأمور بدعةٌ؛ لأنّ الصّحابة رضوان الله عليهم - وهم أشدُّ الناس حرصًا على العلم وعلى الخير - لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه الأسئلة، وكفى بهم قدوة .(73/5)
وما قلته الآن بالنسبة لليوم الآخر يجري بالنسبة لصفات الله عز وجل التي وصف بها نفسه من العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك؛ فإنّ مسمّيات هذه الألفاظ بالنسبة إلى الله عزّ وجلّ لا يماثلُها شيء ممّا يشاركُها في هذا الاسم بالنسبة للإنسان؛ فكلُّ صفةٍ تابعةٌ لموصوفها؛ فكما أنّ الله لا مثيل له في ذاته؛ فلا مثيل له في صفاته .
وخلاصة الجواب : أنّ اليوم الآخر يومٌ واحد، وأنه عسير على الكافرين، ويسير على المؤمنين، وأنّ ما ورد فيه من أنواع الثّواب والعقاب أمر لا يُدرك كنههُ في هذه الحياة الدُّنيا، وإن كان أصل المعنى فيه معلومًا لنا في هذه الحياة الدُّنيا .
255 ـ بعض الناس في بعض القرى البعيدة عن التعليم والدعوة إلى الإسلام يجهلون الكثير من أحكام الدين ومن فرائضه، ومن ذلك الصلاة، فهم لا يعرفون عدد ركعات الفروض، ومنهم من يصلي الفجر ثلاث ركعات أو أربع، يجمعون السنة والفريضة بسلام واحد، وهكذا في بقية الفروض جهلاً منهم؛ فما الحكم فيما مضى من صلواتهم وفيمن مات منهم وهو على تلك الحالة ؟(73/6)
إذا كان فعلهم هذا بسبب التساهل بأن لم يسألوا أو لم يبحثوا وبإمكانهم أن يجدوا من يرشدهم ويفيدهم، ولكنهم أهملوا ذلك ولم يبالوا؛ فإن صلاتهم لا تصحّ؛ لأنهم غير معذورين في هذه الحالة لأنه مطلوب من المسلم أن يعرف أحكام العبادة قبل أن يؤدِّيها . وأمّا إن كانوا غير قادرين على معرفة أحكام الصلاة لبعدهم عمن يرشدهم وتعذر الوصول إليه؛ فإنّهم يصلون على حسب حالهم، وصلاتهم صحيحة؛ لقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 . ] ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإذا أمرتُكُم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) [ رواه الإمام مسلم في صحيحه ( 2/975 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو جزء من حديث أوله : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أيها الناس . . . ) الحديث . ] .
256 ـ ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ للشَّهيد ستَّ كراماتٍ، وهي أنه : لا يجد ألم الموت إلا كقرصة بعوضة، يُغفَرُ له عند أول قطرة من دمه، لا يصل الفتَّانُ إليه في قبره، يكسى تاجَ الوقار، يُنزَل في منازل النّبيِّين، ويشفع في سبعين من أهل بيته؛ هل هذا الحديث صحيح ؟ وما معنى الفتَّانُ ؟
ما ذُكر في هذا السؤال من الكرامات التي ينالُها الشَّهيدُ في سبيل الله، كلُّها جاءت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما عدا قول السَّائل : يُنزَلُ منازل النبيّين؛ فإنه لم يرد بهذا اللفظ، وإنما ورد بلفظ : ( لا يفضُلُهُ النبيُّون إلا بفضل درجة النّبوّة ) [ انظر : " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " ( 5/291 ) من حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه . ] . والله أعلم .
257 ـ هل يجوز للفرد الذي يدخل الإسلام أن يقوم بتغيير اسمه ؟(73/7)
إذا دخل الكافر في الإسلام؛ فإنه لا يلزمه تغيير اسمه؛ إلا إذا كان اسمًا مكروهًا؛ مثل : حَزن، أو كان معبدًا لغير الله؛ مثل : عبد المسيح، أو عبد الكعبة، أو غير ذلك من الأسماء المحرَّمة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم غيّر أسماء أشخاص من هذين النّوعين (10).
258 ـ إذا أسلم كافر وتاب إلى الله عز وجل وفي ذمته بعض الحقوق للناس، فهل الإسلام يمحو ذنب تلك المظالم دون أن يردها إلى أهلها أم لابد من ذلك ؟
حقوق الآدميين لا تسقط إلا إذا سمحوا هم عنها وتنازلوا عنها، أما ما لم يتنازلوا عنها؛ فإنها لا تسقط عن المتحمل لها، ولو أسلم وتاب إلى الله؛ فإن ذلك لا يسقط عنه بالتوبة، وإنما تسقط عنه حقوق الله التي تركها قبل التوبة؛ لأن التوبة تجبُّ ما قبلها؛ قال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 . ] .
259 ـ كفيل يظلِمُني، ويهضم حقوق المادّيّة والمعنويّة، ولا أملك له شيئًا سوى الدُّعاء عليه وبغضه، علمًا بأنه يصلّي وملتزم، لكنّه يقسو على مكفوليه في المعاملة المادّيّة، ونشعر بالظُّلم الشَّديد؛ فهل إن أبغضته أكون ناقص الإيمان ؟
الحقيقة أنّ هذه المسألة يشكو منها كثير من العمَّال، وهي ظلم، ولا يجوز ظلم العمَّال، ولو كانوا غير مسلمين .
الظُّلم لا يجوز بحال من الأحوال، والله تعالى يقول : ( إني حرّمتُ الظُّلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا؛ فلا تظالَموا ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/1994 ) من حديث أبي ذر رضي الله عنه . ] ، ويقول صلى الله عليه وسلم لمّا بعثَ معاذًا إلى اليمن؛ قال له : ( واتّق دعوةَ المظلوم؛ فإنّه ليس بينها وبينَ الله حجابٌ ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/99 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه . ] .
فلا يجوز الظُّلم بحال من الأحوال، لا مع المسلمين، ولا مع الكفّار .(73/8)
والأجير له حقٌّ؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( أعطوا الأجير أجرته قبل أن يَجِفَّ عَرَقُه ) [ رواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/817 ) من حديث عبد الله بن عمر، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 6/121 ) من حديث أبي هريرة، وانظر : " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " للهيثمي ( 4/98 ) . ] ، وجاء في الحديث : ( ثلاثةٌ أنا خصمُهم يوم القيامة . . . ) وذكرَ منهم من استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يؤدِّ له حقَّه [ رواه البخاري في " صحيحه " ( ج3، ص41 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( . . . ولم يعطه أجره ) . ] .
فلا يجوز الظّلم، فلا يجوز للكفيل أن يستغلّ ضعف هؤلاء العمَّال المساكين، يستغلَّ ضعفَهُم، ويتسلَّط عليهم، ويتجبَّر عليهم، ويهضم حقوقهم، هذا ظلمٌ، هذا والله ظلمٌ لا يجوز، والواجب العدل، والواجب إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، والواجب تقوى الله سبحانه وتعالى .
والظُّلم يوجب العقوبة؛ قال صلى الله عليه وسلم : ( دعوة المظلوم يرفعُها الله فوقَ الغَمامِ، ويقول الله : وعزَّتي وجلالي؛ لأنتصرنَّ لكِ، ولو بعد حين ) [ رواه ابن حبان في " صحيحه " كما في " الإحسان " ( ج3 ص158 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ] ، والله تعالى يقول : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 . ] ؛ فالظَّالم نادم، ويقول سبحانه : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 . ] ؛ الظُّلم لا يجوز لا مع العمَّال ولا مع غيرهم .(73/9)
260 ـ يقول الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165 . ] ؛ هل يدخُلُ في ذلك حبُّ الأندية الرّياضيّة التي تجعل الشّخص يؤخّرُ الصّلاة مثلاً، نسأل الله السّلامة ؟ وهل يدخُلُ في ذلك حبُّ النّساء والمال والولد والمنزل وغير ذلك من أمور الدُّنيا ؟
الأنداد يُرادُ بهم الشُركاءُ؛ كالأصنام والأضرحة التي تُعبدُ من دون الله، هؤلاء هم الأنداد، النِّدُّ هو العديل والشَّبيهُ والنَّظيرُ، فجعلوا هذه المعبودات مساوية لله ومعادلة له :
كما قال الله تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يقولون : { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 98 . ] ؛ يقول المشركون لأصنامهم يوم القيامة ومعبوديهم إذا دخلوا في النار : { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ؛ يعني : في الدُّنيا، { إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } .
ويقول تعالى : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 . ] ؛ يعني : يعدلون به غيره من الأشباه والأنداد والشُّركاء، والله جلَّ وعلا واحدٌ أحد، فرد صمدٌ، لا ندَّ له، ولا شبيه له، ولا شريك له، سبحانه وتعالى .(73/10)
هؤلاء هم الأنداد، أمّا الأندية الرّياضيّة؛ فليست من الأنداد، ولكن؛ إذا كان فيها شُغلٌ عن ذكر الله؛ فإنها يحرُمُ الاشتغال بها وترك ذكر الله عز وجل؛ كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ } [ المنافقون : 9 . ] ؛ إذا كانت الأموال والأولاد لا يجوز الاشتغال بها عن ذكر الله؛ فكيف بالأندية ؟ ! مع أنّ الأموال والأولاد فيهم نفع، فيهم خير، ولكن إذا شغلوا عن ذكر الله؛ فيجب على الإنسان أن لا يستمرَّ على الاشتغال بهم عن ذكر الله، بل يترك البيع والشراء ويُقبل على الصلاة وقت الصلاة، فإذا فرغت الصلاة؛ يرجِعُ إلى البيع والشّراء، { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
فالأندية الرّياضيّة إذا كانت متابعتُها مشغلةً عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فهذا محرَّمٌ؛ كالاشتغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله، أما إذا كان هذا لا يشغل عن ذكر الله، ولا يشغل عن الصلاة؛ فهذا قد يكون من المباحات، ولكن لو اشتغل بغيرها يكون أولى وأحسن، لو اشتغل بشيء نافع؛ طالع كتابًا، أو قرأ قرآنًا، أو باع واشترى وشغل الوقت بما هو مفيد له في دينه ودُنياه، هذا أحسن من كونه يشتغل بمتابعة الأندية الرّياضيّة .
261 ـ ما حكم تعليق بعض الأذكار التي تُلصَقُ على الأبواب أو السّيّارة وغيرها، وذلك للتذكير بهذه الأدعية، فيوضع دعاء الرّكوب في السيارة، ودعاء دخول الحمّام على باب الحمام . . . وهكذا ؟ أفتوني جزاكم الله خيرًا .(73/11)
تعليق الأدعية على الأبواب وغيرها ليس معروفًا عن السّلف، ثم إننا مأمورون بالذّكر والدّعاء بألسنتنا وقلوبنا لا بالكتاب والتعليق، وإنما هذه عادة جرت، مع ما قد يترتّب على هذا العمل من ابتذال تلك الأدعية وتعريضها للإهانة وفيها أسماء الله تعالى أو آيات من القرآن أو أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة؛ فينبغي ترك هذا العمل وتجنُّبُه .
262 ـ عندما أريد أن أدخُلَ دورة المياه - أكرمكم الله - آخذ معي كتابًا أو جريدة حتى أقضي حاجتي؛ فهل يجوز ذلك ؟
لا يجوز دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله عز وجل من كتاب أو جريدة أو غير ذلك؛ لما في ذلك من الامتهان لذكر الله عز وجل .(73/12)
المجلد الثاني(/)
1 ـ الإيمان
1 ـ يقول الله تعالى في محكم التنزيل : { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } [ سورة الحجرات : آية14 ] . ما معنى هذه الآية ؟ وهل هناك فرق بين الإيمان والإسلام ؟ وما هو ؟
الدين ثلاث مراتب . .
المرتبة الأولى : الإسلام . . وأعلى منها : الإيمان، وأعلى من الإيمان الإحسان . كما جاء ذلك في حديث جبريل - عليه الصلاة والسلام - حين سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذه المراتب، وأجابه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كل مرتبة . . وفي النهاية قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه : ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم ) .
وقد ذكرها مرتبة مبتدئًا بالأدنى ثم ما هو أعلى منه ثم ما هو أعلى منه . . . فالأعراب لما جاءوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أول دخولهم في الإسلام ادعوا لأنفسهم مرتبة لم يبلغوها . . . جاءوا مسلمين، وادعوا الإيمان وهي مرتبة لم يبلغوها بعد . . ولهذا رد الله عليهم بقوله : { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/36-38 ) . من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وهو جزء من حديث جبريل الطويل ] .
فهم في أول إسلامهم لم يتمكن الإيمان في قلوبهم وإن كان عندهم إيمان ولكن إيمانهم ضعيف أو إيمان قليل . . ويستفاد من قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أنه سيدخل في المستقبل، وليسوا كفارًا أو منافقين ولكنهم مسلمون ومعهم شيء من الإيمان لكنه قليل لم يستحقوا أن يسموا مؤمنين . لكنهم سيتمكن الإيمان في قلوبهم فيما بعد في قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ سورة الحجرات : آية 14 ] .(74/1)
والإسلام والإيمان إذا ذكر معًا افترقا . فصار للإسلام معنى خاص وللإيمان معنى خاص . . كما في حديث جبريل فإنه سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإسلام فقال : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ) .
وسأله عن الإيمان فقال : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/36-38 ) . من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وهو جزء من حديث جبريل الطويل ] .
فعلى هذا يكون الإسلام هو الانقياد الظاهري، والإيمان هو الانقياد الباطني هذا إذا ذكرا جميعًا . .
أما إذا ذكر الإسلام وحده أو الإيمان وحده فإنه يدخل أحدهما في الآخر، إذا ذكر الإسلام وحده أو الإيمان وحده فإن أحدهما داخل في الآخر . إذا ذكر الإسلام فقط دخل فيه الإيمان . . وإذا ذكر الإيمان فقط دخل فيه الإسلام .
لهذا يقول أهل العلم : إنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا . . فالإيمان عند أهل السنة والجماعة : هو عمل بالأركان وقول باللسان وتصديق بالجنان . . ويدخل فيه الإسلام، يكون قولاً باللسان وعملاً بالأركان وتصديقًا بالجنان . . إذا ذكر وحده، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . . . .
2 ـ فضيلة الشيخ صالح الفوزان وفقه الله لما يحبه ويرضاه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد . .
فقد كثر الكلام في الآونة الأخيرة بين طلبة العلم حول مسألة مهمة تتعلق بأصل الدين، وسأذكر بعض الأقوال التي أرجو من الشيخ أن يبين هل هي موافقة لعقيدة أهل السنة والجماعة، أم أن فيها شيئًا من الخلل :(74/2)
1ـ قول بعض الناس : ( إن عقيدة أهل السنة والجماعة أن العمل شرط في كمال الإيمان وليس شرطًا في صحة الإيمان ) ، مع أن من المعلوم أن الإيمان عند أهل السنة قول وعمل، وأنه لا إيمان إلا بعمل كما صرح بذلك بعض أئمة السلف .
2ـ قول بعض الناس : ( إن الكفر المخرج من الملة هو الكفر الاعتقادي فقط، أما العمل فلا يخرج من الملة إلا إذا كان يدل على اعتقاد كالسجود لصنم مثلاً، فإنه يعتبر كفرًا لأنه يدل على عقيدة في الباطن لا لمجرد السجود فقط، ومثله سب الله أو الاستهزاء بالدين أو نحو ذلك . . فلا يكفر الإنسان بعمل مهما كان ) .
أرجو من الشيخ - وفقه الله - أن يتفضل ببيان ما في هاتين المقالتين من الحق أو الباطل ؟ سائلاً الله تعالى أن يوفقه للصواب، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
1ـ القول الأول : هو قول مرجئة أهل السنة وهو خطأ، والصواب أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان فهو اعتقاد وقول وعمل يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهذا قول جمهور أهل السنة لأن الله سمى الأعمال إيمانًا كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [ سورة الأنفال : آية2 ] الآيتين . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ) الحديث [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/63 ) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ] .
2ـ هذا في الغالب وهناك أعمال تخرج من الملة كترك الصلاة تكاسلاً وكالسحر تعلمه وتعليمه، ومن نطق بكلمة الكفر مختارًا، وكل عمل لابد أن يصاحبه قصد، فلا يعتد بعمل الناسي والنائم والصغير والمجنون والمكره لعدم القصد . هذا وأنصح لهؤلاء أن يتعلموا قبل أن يتكلموا لأن الكلام في مثل هذه المسائل خطير، ويحتاج إلى علم .(74/3)
3 ـ ما صحة حديث البطاقة المشهور لدى العلماء وهل فيه استدلال على عدم تكفير تارك الصلاة حيث إنه من غير المعقول أن شخصًا يصلي وليس له حسنات فالصلاة وقبلها الوضوء والمشي إلى المسجد كلها حسنات، والرجل لم يعمل حسنة قط وله 99 سجلاً كلها سيئات ومعاصي فما رأي فضيلتكم ؟
حديث البطاقة حديث صحيح . قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم . وقال الذهبي في " التلخيص " : صحيح - وهو حديث عبد الله بن عمرو : ( يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسع وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر . ثم يقال : أتنكر من هذا شيئًا ؟ فيقول : لا يا رب . فيقال : ألك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل ويقول : لا . فيقال : بلى إن لك عندنا حسنة . وإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة - وهي الورقة الصغيرة - فيها : أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله . فيقول : يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم . فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ) [ رواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/529 ) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ] فهذا الحديث الشريف فيه أن التوحيد يكفر الله به الخطايا التي لا تقتضي الردّة والخروج من الإسلام، أما الأعمال التي تقتضي الردة فإنها تناقض كلمة التوحيد وتصبح لفظًا مجردًا لا معنى له، قيل للحسن البصري رحمه الله : إن ناسًا يقولون : من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة . فقال : من قال : لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة (1).
فكلمة لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، والسبب لا ينفع إلا إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه، فالمنافقون يقولون : لا إله إلا الله فلا تنفعهم، وهم في الدرك الأسفل من النار، لأنهم يقولونها بألسنتهم فقط من غير اعتقاد لمعناها وعمل بمقتضاها .(74/4)
4 ـ ما قولكم لمن إذا قيل له : اتق الله في نفسك من بعض المعاصي مثل حلق اللحية وشرب الدخان وإسبال الثياب، يقول : الإيمان في القلب، وليس الإيمان في تربية اللحية وترك الدخان ولا في إسبال الثياب، ويقول : إن الله لا ينظر إلى أجسامكم يقصد ( اللحية والدخان وإسبال الثياب ) ولكن ينظر إلى قلوبكم ؟
أرجو من فضيلتكم الإجابة ليعلم من يقول : إن الإيمان في القلب ؟
هذه الكلمة كثيرًا ما يقولها بعض الجهال أو المغالطين، وهي كلمة حق يراد بها باطل . لأن قائلها يريد تبرير ما هو عليه من المعاصي؛ لأنه يزعم أنه يكفي الإيمان الذي في القلب عن عمل الطاعات وترك المحرمات، وهذه مغالطة مكشوفة، فإن الإيمان ليس في القلب فقط، بل الإيمان كما عرفه أهل السنة والجماعة : قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح .
قال الإمام الحسن البصري رحمه الله : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال .(74/5)
وعمل المعاصي وترك الطاعات دليل على أنه ليس في القلب إيمان أو فيه إيمان ناقص . والله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا } [ سورة آل عمران : آية130 ] ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ } [ سورة المائدة : آية35 ] ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } [ سورة المائدة : آية95 ] ، { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [ سورة البقرة : آية 277 ] ، { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } [ سورة البقرة : آية 62 ] ، فالإيمان لا يسمى إيمانًا كاملاً إلا مع العمل الصالح وترك المعاصي . ويقول تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم { وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ سورة العصر : الآيات 1-3 ] ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } [ سورة النساء : آية 59 ] ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ سورة الأنفال : آية 24 ] فلا يكفي العمل الظاهر بدون إيمان بالقلب؛ لأن هذه صفة المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار .
ولا يكفي الإيمان بالقلب دون نطق باللسان وعمل بالجوارح؛ لأن هذا مذهب المرجئة من الجهمية وغيرهم، وهو مذهب باطل بل لابد من الإيمان بالقلب والقول باللسان والعمل بالجوارح، وفعل المعاصي دليل على ضعف الإيمان الذي في القلب ونقصه، لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .(74/6)
2 ـ التوحيد والشرك
5 ـ لعدم معرفتي لأنواع التوحيد وحقيقته ورغبة مني في التجرد من الشرك لذا أرجو إجابتي على الأسئلة التالية :
ما هي أنواع التوحيد مع إيضاح كل نوع منها ؟
زادك الله رغبة في الخير، والحقيقة أن هذا يدل منك على الاهتمام بعقيدتك، ويجب على كل مسلم أن يهتم بعقيدته؛ لأنها الأساس الذي ينبني عليه عمله، فالعمل إنما يصح ويثاب عليه بشرطين :
الأول : أن يكون مبنيًّا على عقيدة سليمة .
والشرط الثاني : أن يكون موافقًا لما شرعه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاهتمامك بعقيدتك وحرصك على معرفة أنواع التوحيد يدل على خير وعلى أنك - والحمد لله - تريد الحق وتريد العقيدة الصحيحة، وهذا واجب كل مسلم .
أما بالنسبة لأنواع التوحيد فالتوحيد ثلاثة أنواع :
الأول : توحيد الربوبية ومعناه : إفراد الله تعالى بأفعاله كالخلق والرزق والإحياء والإماتة والضر والنفع وغير ذلك من أفعال الله سبحانه وتعالى فيعتقد المسلم أن الله لا شريك له في ربوبيته .(75/1)
والنوع الثاني : توحيد الألوهية : وهو إفراد الله تعالى بأنواع العبادة التي شرعها من الصلاة والصيام والحج والزكاة والدعاء والنذر والنحر والرغبة والرجاء والخوف والخشية إلى آخر أنواع العبادة، فإفراد الله تعالى بها يسمى بتوحيد الألوهية، وهذا النوع هو المطلوب من الخلق . أما النوع الأول وهو توحيد الربوبية فالخلق مقرون به حتى المشركون الذين بعث إليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقرون بتوحيد الربوبية كما في قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ سورة الزخرف : آية 87 ] { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ سورة المؤمنون : آية 86، 87 ] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن المشركين مقرون بتوحيد الربوبية، ولكن المطلوب منهم هو إفراد الله بالعبادة إذا أقروا له بتوحيد الربوبية وجب عليهم أن يقروا له بتوحيد العبادة، والرسل إنما دعوا إلى توحيد العبادة كما في قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ سورة النحل : آية 36 ] فكل رسول يدعو إلى توحيد العبادة . أما توحيد الربوبية فهذا موجود في الفطر ولكنه لا يكفي .
والنوع الثاني : توحيد الأسماء والصفات : وذلك بأن يثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عز وجل - من الأسماء والصفات، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النقائص والعيوب، هذه أنواع التوحيد الثلاثة التي يجب على كل مسلم معرفتها والاعتناء بها والعمل بها .
6 ـ ما أنواع الشرك القولية والفعلية ؟(75/2)
الشرك : هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله سبحانه وتعالى كالذبح لغير الله والنذر لغير الله والدعاء لغير الله والاستغاثة بغير الله كما يفعل عُبَّاد القبور اليوم عند الأضرحة من مناداة الأموات، وطلب قضاء الحاجات، وتفريج الكربات من الموتى، والطواف بأضرحتهم، وذبح القرابين عندها تقربًا إليهم، والنذور لهم وما أشبه ذلك، هذا هو الشرك الأكبر لأنه صرف للعبادة لغير الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا يقول : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ سورة الكهف : آية 110 ] ويقول : { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } [ سورة النساء : آية 36 ] ويقول جل وعلا : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [ سورة البينة : آية 5 ] والآيات في هذا الموضوع كثيرة، والشرك أنواع :
النوع الأول : الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة وهو الذي ذكرنا أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله كأن يذبح لغير الله أو ينذر لغير الله أو يدعو غير الله أو يستغيث بغير الله فهذا شرك أكبر يخرج من الملة، وفاعله خالد مخلد في نار جهنم إذا مات عليه ولم يتب إلى الله، كما قال الله تعالى : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } [ سورة المائدة : آية 72 ] وهذا لا يغفره الله عز وجل إلا بالتوبة، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ سورة النساء : آية 48 ] .(75/3)
والنوع الثاني : شرك أصغر لا يخرج من الملة لكن خطره عظيم، وهو أيضًا على الصحيح لا يغفر إلا بالتوبة لقوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } [ سورة النساء : آية 48 ] وذلك يشمل الأكبر والأصغر، والشرك الأصغر مثل الحلف بغير الله، ومثل قوله : ما شاء الله وشئت، بأن تعطف مشيئة المخلوق على مشيئة الخالق بالواو، لأن ( الواو ) تقتضي التشريك .
والصواب أن تقول : ما شاء الله ثم شئت؛ لأن ( ثم ) تقتضي الترتيب، وكذا لولا الله وأنت، وما أشبه ذلك كله من الشرك في الألفاظ، وكذلك الرياء أيضًا وهو شرك خفي؛ لأنه من أعمال القلوب ولا ينطق به ولا يظهر على عمل الجوارح، ولا يظهر على اللسان إنما هو شيء في القلوب لا يعلمه إلا الله .
إذًا فالشرك على ثلاثة أنواع : شرك أكبر وشرك أصغر وشرك خفي وهو الرياء وما في القلوب من القصود - النيات - لغير الله سبحانه وتعالى .
والرياء معناه : أن يعمل عملاً ظاهره أنه لله لكنه يقصد به غير الله سبحانه وتعالى كأن يقصد أن يمدحه الناس وأن يثني عيه الناس أو يقصد به طمعًا من مطامع الدنيا، كما قال سبحانه وتعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ سورة هود الآية : 15، 16 ] .
فالذي يحج أو يطلب العلم أو يعمل أعمالاً هي من أعمال العبادة لكنه يقصد بها طمعًا من مطامع الدنيا، فهذا إنما يريد بعمله الدنيا، وهذا محبط للعمل .(75/4)
فالرياء محبط للعمل، وقصد الدنيا بالعمل يحبط العمل قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ) فسئل عنه فقال : ( الرياء ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/428 ) ، ورواه البغوي في " شرح السنة " ( 14/323، 324 ) ، ورواه الطبراني في " الكبير " ( 4/253 ) حديث رقم ( 4301 ) ، وانظر " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " ( 1/102 ) و " المغني عن حمل الأسفار في الأسفار " ( 3/291 ) ، كلهم من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه ] وقال عليه الصلاة والسلام : ( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل وكفارته أن يقول : اللهم إنني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/303 ) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بنحوه، ورواه البخاري في " الأدب المفرد " ( ص242 ) ، من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه بنحوه، وانظر " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " ( 10/223، 224 ) ] فالواجب على المسلم أن يخلص لله في أفعاله وأقواله ونياته، لله جميع ما يصدر منه من قول أو عمل أو نية ليكون عمله صالحًا مقبولاً عند الله عز وجل .
7 ـ يوجد رجل في القرية التي نحن فيها يقرأ القرآن بدون ترتيل ولا تجويد، ويعتقد في القبور والموتى، وينذر لهم بنذور، ويعتقد أنهم ينفعون ويضرون هل تجوز الصلاة خلف هذا الإمام ؟ وهل يجوز أن يصلى على الميت إذا مات وهو في هذا العمل ؟(75/5)
من كان يعتقد في الأموات أنهم ينفعون أو يضرون وينذر لهم ويتقرب إليهم فهذا مشرك الشرك الأكبر، والعياذ بالله، لأن هذا يعبد غير الله فلا تجوز الصلاة خلفه، ولا تصح لأنه ليس بمسلم مادام على هذه الحالة . ولكن الواجب عليكم أن تناصحوه، وأن تبينوا له أن هذا شرك أكبر، وأنه يجب عليه التوبة إلى الله عز وجل، والعمل بالتوحيد الخالص، وترك عبادة الأموات، فإن تاب ورجع إلى الله جازت الصلاة خلفه، أما مادام على هذه الحالة فهو ليس بمسلم ولا تصح منه صلاة ولا تجوز الصلاة خلفه، وإذا مات فإنه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابل المسلمين ولا يتولاه المسلمون وإنما يتولاه الكفار .
8 ـ يعتقد بعض الناس عندنا إذا سمعوا نباح كلب - أعزكم الله - أو شاهدوا طائر البوم يحلق فوق مكان أو يطلق صوتًا أن ذلك يعني وفاة أحد من أهل ذلك المكان، فهل هذا صحيح ؟ وهل مثل هذا الاعتقاد يؤثر على عقيدة المسلم ؟
هذا من التطير والتشاؤم الذي ينهى الله سبحانه وتعالى عنه، وهو من فعل الكفرة كما تطير قوم فرعون بموسى ومن معه، وكما تطير قوم صالح عليه الصلاة والسلام به ومن معه، وكما تطير المشركون بمحمد صلى الله عليه وسلم .(75/6)
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيّن أن الطيرة شرك قال عليه الصلاة والسلام : ( الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/389، 438، 440 ) ، ورواه البخاري في " الأدب المفرد " ( ص304 ) حديث رقم ( 912 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/17، 18 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 8/139 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/16 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 5/36 ) ، ورواه الطحاوي في " مشكل الآثار " ( 1/358 ) ، ورواه البغوي في " شرح السنة " ( 12/177، 178 ) ، كلهم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] فإذا اعتقد الإنسان أن هذا الطائر يدل على حدوث شر فإن هذا هو الطيرة المذمومة التي جاء النهي عنها، فإن هذه المخلوقات خلقها الله سبحانه وتعالى لِحكم ومصالح وليس عندها نفع ولا ضر، إنما هذا بتدبير الله سبحانه وتعالى وتقديره .
والواجب على المسلم إذا وجد شيئًا من ذلك أن يدفعه بالإيمان واليقين وأن يقول : ( اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/220 ) ، وانظر " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " ( 5/105 ) ، وانظر " فتح الباري " ( 10/213 ) ] ويقول : ( اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 4/17، 18 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 8/139 ) كلاهما من حديث عروة بن عامر، ورواه عبد الرزاق الصنعاني في " المصنف " ( 10/406 ) . عن الأعمش ] .
والفرق بين الطيرة والفأل : أن الطيرة تأميل للشر، والتفاؤل تأميل للخير، والتفاؤل شيء طيب، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعجبه الفأل، والفأل أمل للخير خلاف الطيرة فإنها أمل للشر وسوء الظن بالله سبحانه وتعالى، أما الفأل من حسن الظن بالله سبحانه وتعالى وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه الفأل (1).(75/7)
9 ـ هل يجوز للمسلم أن يعلق آية الكرسي أو غيرها من الآيات أو الأدعية على رقبته أو في بيته أو سيارته أو مكتبه تبركًا بها واعتقادًا بأنها سبب في طرد الشياطين ؟
لا يجوز للمسلم أن يعلق آية الكرسي أو غيرها من آيات القرآن أو الأدعية الشرعية على رقبته لدفع شر الشياطين أو للاستشفاء بها من المرض، هذا هو الصحيح من قولي العلماء؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن تعليق التمائم وهذا منه .
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب " التوحيد " :
التمائم : شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين . عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) . رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 1/381 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/9 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 2/1166، 1167 ) ، ورواه الحاكم في " مستدركه " ( 4/217 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 9/350 ) ، ورواه البغوي في " شرح السنة " ( 12/156، 157 ) ، كلهم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] . فتعليق الآيات على الرقبة أو غيرها من البدن لا يجوز على الصحيح من قولي العلماء لعموم النهي عن تعليق التمائم وهذا منه، ولأجل سد الذريعة التي تفضي إلى تعليق ما ليس من القرآن تعريضًا لامتهانه وعدم احترامه .
وأما تعليق الآيات على غير جسم الإنسان من سيارة أو جدار بيت أو مكتب للتبرك وطرد الشياطين فهذا لا أعلم من قال بجوازه؛ لأنه من اتخاذ التمائم المنهي عنه، وفيه امتهان للقرآن . ولم يكن من عمل السلف، فما كانوا يعلقون الآيات على الجدران تبركًا بها ودفعًا للضرر بتعليقها . وإنما كانوا يحفظون القرآن في صدورهم، ويكتبونه في مصاحفهم، ويعملون به، ويتعلمون أحكامه، ويتدبرون معانيه كما أمر الله بذلك .(75/8)
10 ـ ما حكم الشرع في كتابة آيات القرآن وحملها بقصد الحماية من المشاكل أو كسب مودة إنسان ؟
لا يجوز على أصح قولي العلماء أن يكتب القرآن على شكل كتب وحروز وتعلق على الأشخاص؛ لأن القرآن لم ينزل لهذا، وإنما الذي ورد أن القرآن يقرأ على المصاب وعلى المريض، أما أنه يكتب على شكل حروز وعلى شكل حجب، وتعلق على الشخص المريض، فهذا لا يجوز في أصح قولي العلماء؛ لأن هذا لا دليل عليه؛ ولأنه وسيلة إلى امتهان القرآن، ووسيلة إلى أن يكتب غير القرآن من التعاويذ الشركية والألفاظ المجهولة، فإذا فتح هذا الباب فإنه لا يقتصر على كتابة القرآن، وإنما تكتب الأمور المحظورة والشركية . كما هو الواقع عند الجهال والمخربين . . فلا يفتح هذا الباب وينبغي إقفاله . ومن باب أولى تحريم تعليق القرآن وحمله بقصد الحماية مما لم يقع أو لكسب المودة فهذا لا يجوز من غير خلاف فيما أعلم .(75/9)
3 ـ الأسماء والصفات
11 ـ ما معنى قوله تعالى في سورة النور : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ سورة النور : آية 35 ] ؟
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ذكر العلماء رحمهم الله أن الله سبحانه وتعالى نور السماوات والأرض الحسي والمعنوي وذلك بأنه تعالى بذاته نور، وحجابه نور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه وما انتهى إليه بصره من خلقه، وبه استنار العرش والكرسي والشمس والقمر، وبه استنارت الجنة . وكذلك هو نور السماوات والأرض النور المعنوي فنور السماوات والأرض المعنوي يرجع إلى الله تعالى فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان به والمعرفة به في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور، فلولا نوره تعالى لتراكمت الظلمات، ولهذا كل محل يفقد نوره فَثَمَّ الظلمة والحسرة، قد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعائه المشهور : ( أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ) [ انظر " البداية والنهاية " لابن كثير ( 3/136 ) ، و " الكامل في التاريخ " لابن الأثير ( 2/64 ) وأوله : ( اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي . . . ) وذلك عند رجوعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الطائف ] .(76/1)
{ مَثَلُ نُورِهِ } الذي يهدي إليه وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين { كَمِشْكَاةٍ } : أي : كوَّة فيها مصباح، لأن الكوة تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق، ذلك المصباح في زجاجة، الزجاجة من صفائها وبهائها { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي : كوكب مضيء إضاءة الدر { يُوقَدُ } ذلك المصباح الذي في تلك الزجاجة الدرية، { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ } أي : يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما يكون { لا شَرْقِيَّةٍ } فقط فلا تصيبها الشمس آخر النهار { وَلا غَرْبِيَّةٍ } فقط فلا تصيبها الشمس أول النهار، وإذا انتفى عنها الأمران كانت متوسطة من الأرض كزيتون الشام تصيبه الشمس أول النهار وآخره فيحسن ويطيب، ويكون أصفى لزيتها، ولهذا قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ } أي : من صفائه يضيء { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } فإذا مسته النار أضاء إضاءة بليغة { نُّورٌ عَلَى نُورٍ } أي : نور النار ونور الزيت .(76/2)
ووجه هذا المثل الذي ضربه الله وتطبيقه على حالة المؤمن ونور الله في قلبه أن فطرته التي فطر عليها بمنزلة الزيت الصافي، ففطرته صافية مستعدة للتعاليم الإلهية والعمل المشروع، فإذا وصل إليه العلم والإيمان اشتعل ذلك النور في قلبه بمنزلة إشعال النار فتيلة ذلك المصباح، وهو صافي القلب من سوء القصد ومن سوء الفهم عن الله، إذا وصل إليه الإيمان أضاء إضاءة عظيمة لصفائه من الكدرات، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية فيتجمع له نور الفطرة ونور الإيمان ونور العلم وصفاء المعرفة { نُّورٌ عَلَى نُورٍ } ولما كان هذا من نور الله تعالى، وليس كل أحد يصلح له ذلك قال : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ } [ سورة النور : آية 35 ] ممن يعلم زكاؤه وفطرته وطهارته، وأنه يزكو معه وينمو هداه { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } ليعقلوا عنه، ويفهموا لطفًا منه سبحانه وتعالى { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ سورة النور : آية 35 ] والله أعلم .
12 ـ يقول الله عز وجل في سورة الأنفال : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ سورة الأنفال : آية 30 ] ما معنى { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } ؟
هذه الآية في سياق ما ذكر الله سبحانه وتعالى من مكيدة المشركين ومكرهم برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما تآمروا على قتله وترصدوا له ينتظرون خروجه - عليه الصلاة والسلام - فأخرجه الله من بينهم ولم يشعروا به، وذهب هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه واختبيا في الغار ( في غار ثور ) قبيل الهجرة إلى المدينة ثم إن الله سبحانه وتعالى صرف أنظارهم حينما وصلوا إلى الغار، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مختبئ فيه هو وصاحبه، ووقفوا عليه ولم يروه .(76/3)
حتى إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 4/189، 190 ) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ] فأنزل الله جل وعلا : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ سورة التوبة : آية 40 ] .
هذا هو المكر الذي مكره الله جل وعلا لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن أخرجه من بين أعدائه ولم يشعروا به مع حرصهم على قتله وإبادته ثم إنهم خرجوا في طلبه، ووقفوا على المكان الذي هو فيه، ولم يروه لأن الله صرفهم عنه كما قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ سورة الأنفال : آية 30 ] .
وهذا المكر المضاف إلى الله جل وعلا والمسند إليه ليس كمكر المخلوقين، لأن مكر المخلوقين مذموم، وأما المكر المضاف إلى الله سبحانه وتعالى فإنه محمود، لأن مكر المخلوقين معناه الخداع والتضليل، وإيصال الأذى إلى من لا يستحقه، أما المكر من الله جل وعلا فإنه محمود؛ لأنه إيصال للعقوبة لمن يستحقها فهو عدل ورحمة .(76/4)
13 ـ دار نقاش بيني وبين زميل لي في المكتب حول وجود الله سبحانه وتعالى في السماء، وهذا الشخص ينفي وجود الله سبحانه وتعالى في السماء وأنا أثبته بدليل قوله تعالى : { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ . . . } [ سورة الملك : آية 16 ] الآية، ولحديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للجارية قال لها : ( أين الله ؟ ) قالت : في السماء [ رواه الإمام مالك في " الموطأ " ( 2/777 ) ، ورواه الشافعي في " الرسالة " ( ص75 ) " فقرة 242 " تحقيق أحمد محمد شاكر، وانظر " صحيح مسلم " ( 1/381، 382 ) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، ورواه الإمام ابن خزيمة في " كتاب التوحيد " ( 1/278-289 ) ، وانظر " مختصر العلو للعلي الغفار " ( ص81 ) ] . المطلوب من فضيلتكم توضيح الصواب وجزاكم الله خير الجزاء وبارك فيكم ؟(76/5)
لا شك أن الله سبحانه وتعالى في السماء، وهذا يعتقده المسلمون وأتباع الرسل قديمًا وحديثًا، فهو محل إجماع لرسالات الله سبحانه وتعالى وعباده المؤمنين أن الله جل وعلا في السماء، وقد تضافرت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة بما يزيد على ألف دليل على علو الله سبحانه وتعالى، وأنه في السماء وأنه استوى على عرشه سبحانه وتعالى كما أخبر الله جل وعلا بذلك، ومن ذلك ما ذكره السائل من قوله تعالى : { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } [ سورة الملك : الآيتين 16، 17 ] وحديث الجارية الذي في " الصحيح " أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها : ( أين الله ؟ ) قالت : في السماء، قال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/381، 382 ) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه ] ، ومعنى كونه في السماء إذا أريد بالسماء العلو فـ ( في ) للظرفية وهو أن الله جل وعلا في العلو بائن من خلقه سبحانه وتعالى عالٍ على مخلوقاته بائن من خلقه . وأما إذا أريد بالسماء السماء المبنية وهي السبع الطباق فمعنى ( في ) هنا : بمعنى على يعني : على السماء كما في قوله تعالى : { سِيرُواْ فِي الأَرْضِ } [ سورة الأنعام : آية 11 ] يعني : على الأرض، وكما في قوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [ سورة طه : آية 71 ] يعني : على جذوع النخل .(76/6)
وعلى كل حال فالآيات المتضافرة والأحاديث المتواترة وإجماع المسلمين وأتباع الرسل على أن الله جل وعلا في السماء أما من نفى ذلك من الجهمية وأفراخهم وتلاميذهم فإن هذا المذهب باطل وإلحاد في أسماء الله، والله جل وعلا يقول : { وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ سورة الأعراف : آية 180 ] فالإلحاد في أسماء الله وصفاته جريمة عظيمة، وهذا الذي ينفي كون الله في السماء يكذب القرآن ويكذب السنة ويكذب إجماع المسلمين، فإن كان عالمًا بذلك فإنه يكفر بذلك، أما إذا كان جاهلاً فإنه يبين له فإن أصر بعد البيان فإنه يكون كافرًا، والعياذ بالله .
14 ـ قال الله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [ سورة البقرة : آية 34 ] فهل إبليس من الملائكة ؟
هذا موضع خلاف بين أهل العلم قيل : إنه من الملائكة لظاهر الاستثناء في قوله تعالى : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ } [ سورة ص : الآيتين : 73، 74 ] ثم إنه بعد ذلك لما حصل منه ما حصل من استكبار عن طاعة الله، فإن الله سبحانه وتعالى عاقبه وأحل به لعنته، وهذا قول ضعيف .
والصحيح : أنه ليس من الملائكة لقوله تعالى : { إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ سورة الكهف : آية 50 ] فالصحيح : أنه ليس من الملائكة، لأن الملائكة خلقت من نور كما في الحديث (1) والشيطان خلق من نار كما قال : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ سورة الأعراف : آية 12 ] .(76/7)
4 ـ القرآن الكريم
1 ـ آداب التلاوة .
2 ـ حفظه ونسيانه .
3 ـ فضائل السور .
4 ـ قصص القرآن .
5 ـ مسائل في علوم القرآن .
1 ـ آداب التلاوة
15 ـ هل يجب استقبال القبلة عند التلاوة ؟
ينبغي استقبال القبلة، لأن تلاوة القرآن عبادة، والعبادة يستحب فيها استقبال القبلة فإذا تيسر هذا فهو من المكملات، وإذا لم يستقبل القبلة فلا حرج في ذلك .
16 ـ هل القراءة من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر قلب ؟ نرجو الإفادة ؟
أما من جهة قراءة القرآن في غير الصلاة فالقراءة من المصحف أولى، لأنه أقرب إلى الضبط وإلى الحفظ إلا إذا كانت قراءته عن ظهر قلب أحفظ لقلبه وأخشع له فليقرأ عن ظهر قلب .
وأما في الصلاة فالأفضل أن يقرأ عن ظهر قلب وذلك لأنه إذا قرأ من المصحف فإنه يحصل له عمل متكرر في حمل المصحف وإلقائه وفي تقليب الورق وفي النظر إلى حروفه، وكذلك يفوته وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر في حال القيام، وربما يفوته التجافي في الركوع والسجود إذا جعل المصحف في إبطه، ومن ثَمَّ رجحنا قراءة المصلي عن ظهر قلب على قراءته من المصحف .
هذا وبعض المأمومين نشاهدهم خلف الإمام يحملون المصحف يتابعون قراءة الإمام وهذا أمر لا ينبغي لما فيه من الأمور التي ذكرناها، ولأنه لا حاجة بهم إلا أن يتابعوا الإمام . نعم لو فرض أن الإمام ليس بجيد الحفظ وقال لأحد المأمومين : صلِّ ورائي وتابعني في المصحف إذا أخطأت، فرد عليه فإن هذا لا بأس به .
17 ـ سؤال حول قراءة القرآن الكريم يقول : أحاول قضاء وقتي في قراءة القرآن الكريم، ولكنني أتلعثم كثيرًا في قراءته، وعندي كثير من الأخطاء في القراءة فهل عليَّ إثم في ذلك ؟ وأيضًا أثناء قراءتي القرآن الكريم والأحاديث والأدلة، تخرج تلك الأجهزة المعلقة في جسمي لقضاء حاجتي عن طريقها تخرج عن مكانها فأضطر لإعادتها بيدي وبعد ذلك أحاول رفع المصحف الشريف، أو تطبيقه فهل أنا آثم بذلك ؟(77/1)
أما قراءة القرآن الكريم فإنك تقرأ القرآن الكريم على حسب حالك، ولكن إذا كان عندك خطأ في القراءة فإنه يجب عليك أن تعدلها وأن تطلب ممن هو أحفظ منك للقراءة وأتقن أن يعدل لك القراءة وتتعلم عليه ما يلزم إذا أمكن ذلك، وإذا لم يمكن ذلك فإنك تقرأ على حسب استطاعتك، ولو مع المشقة . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/549 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] . فلا تترك القراءة، لكن مهما أمكنك أن تصلح أخطاءك، فإنه يجب عليك ذلك .
أما من ناحية مس المصحف، فلا يجوز لك إلا من وراء حائل وأنت على هذه الحالة التي تذكر، أن الحدث يخرج باستمرار، ومن غير شعور منك، لأن المصحف لا يجوز أن يمسه إلا الطاهر، ولكن عليك أن تتلقى القراءة من غيرك، وأن تستمع إلى من يقرأ، أو تتخذ من الأشرطة المسجلة من القرآن الكريم والمصحف المرتل ما تسمع منه القرآن الكريم وتستفيد منه، هذا الذي أراه لك .
أما مس المصحف فلا يجوز لك وأنت على هذه الحالة، ولكن لا بأس أن تقرأ ما تحفظه من السور، ولا بأس أن تذكر الله عز وجل، بأنواع الأذكار الواردة، ولا بأس أيضًا، أن تقرأ الأحاديث النبوية، إنما الذي يُمنع هو مسُّ المصحف بدون طهارة، وإذا مسست المصحف من وراء حائل فلا بأس بذلك .
18 ـ هل تصح قراءة القرآن وأنا مضطجع على السرير وإذا كانت لا تصح فما تفسير الآية الكريمة :
بسم الله الرحمن الرحيم : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : آية 191 ] ؟(77/2)
قراءة القرآن من المضطجع لا بأس بها سواء كان مضطجعًا على السرير أو على الأرض . لا بأس بذلك فيتلو الإنسان القرآن على أي حال كان . قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا . وسواء كان متوضئًا أو محدثًا حدثًا أصغر . إذا كانت القراءة عن ظهر قلب . أما إذا كانت القراءة من المصحف فإن المحدث لا يجوز له مس المصحف حتى يتوضأ .
والحاصل أنه لا مانع من قراءة القرآن على أي حال ما لم يكن الإنسان على جنابة فإذا كان الإنسان جنبًا فإنه تحرم عليه تلاوة القرآن حتى يغتسل . وكذلك الحيض والنفاس يمنعان المرأة من قراءة القرآن إلا في حال الضرورة كخوف نسيانه .
19 ـ سمعت أن من يقرأ القرآن وهو لا يجيد قراءته أنه يأثم بذلك فهل هذا صحيح ؟ وهل معنى هذا أن عدم قراءته له أفضل من قراءته مكسرًا ؟
هذا له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون قادرًا على إصلاح أخطائه في القراءة بأن يكون عنده من يتمكن من تعديل القراءة عليه ويعلمه القراءة الصحيحة فهذا لا يجوز له أن يبقى على القراءة المكسرة بل يجب عليه أن يعدل قراءته وأن يصححها، لأنه متمكن من ذلك .
والحالة الثانية : يكون لا يقدر على تعديل القراءة فهذا يقرأ حسب استطاعته ومقدرته ولا يترك قراءة القرآن، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/549 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] فهذا له أجر القراءة وأجر المشقة .
20 ـ إني أحاول أن أقرأ القرآن الكريم، وأحب كتاب الله كثيرًا، ولكن صدري يضيق عليَّ، فلا أستطيع أن أكمل التلاوة؛ فما هو الحل ؟(77/3)
الحل فيما أرشد الله سبحانه وتعالى إليه في قوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ سورة النحل : الآيات 98-100 ] .
أرشدنا الله سبحانه وتعالى قبل أن نتلو القرآن أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم من أجل أن يطرد الله عنا هذا العدو وأن يبعده عنا .
وعليك بالتدبر؛ فإنك إذا تدبرته؛ فإن هذا مما يجلب لك الخشوع، ويرغبك بالقرآن الكريم، ولا يكون كل همك إكمال السورة أو ختم الجزء أو ما أشبه ذلك، بل يكون مقصودك هو التدبر والتفكر فيما تقرأ من آيات الله سبحانه وتعالى .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطيل القراءة في صلاة الليل، ولا يمر على آية رحمة؛ إلا وقف وسأل الله، ولا يمر بآية فيها ذكر العذاب؛ إلا وقف واستعاذ بالله، مما يدل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقرأ بتدبر وحضور قلب (1) .
21 ـ والدتي أمية لا تقرأ ولا تكتب ولكنها والحمد لله تصوم وتصلي إلا أنها في قراءتها في الصلاة تقرأ آيات من القرآن الكريم مع شيء من التغيير بسبب جهلها فهل يعد هذا تحريفًا في القرآن الكريم تأثم عليه أم لا تؤاخذ على ذلك ؟ وقد حاولت تعليمها القراءة الصحيحة فلم أستطع معها ؟(77/4)
والدتك لا تؤاخذ على ذلك إن شاء الله، لأن هذا هو منتهى مقدرتها، وقد جاء في الحديث أن ( الذي يقرأ القرآن الكريم ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/549 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ] فما دمت أنك علمتها وحاولت إقامة لسانها في القراءة فقد فعلت حسنًا . وهي حاولت أيضًا ولكنها لم تستطع فلا حرج عليها في ذلك إن شاء الله ولكن عليها أن تحاول تعديل القراءة، إما عن طريق التعليم وإما إسماعها السور التي تحفظها من أشرطة تسجيلات القرآن الكريم أو من مقرئ تحضر عنده - لعلها تستفيد - والإنسان إذا حاول أعانه الله .
2 ـ حفظه ونسيانه
22 ـ أنا شاب عاقل والحمد لله، ولكن عندي مشكلة وهي : أنني أحفظ آياتٍ من كتاب الله أو أجزاء ثم لا ألبث إلا أن أنساها فهل عليَّ إثم في حفظي لآيات الله ثم نسيانها ؟
ينبغي لمن حفظ شيئًا من كتاب الله أن يتعاهده بالتلاوة لئلا ينساه كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا نسيه فإن كان ذلك بسبب آفة أصابته فأضعفت ذاكرته فلا إثم عليه، وإن كان نسيانه نتيجة تفريط فلا يبعد القول بتأثيمه، لأنه لم يعمل بوصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإرشاده، ولأن هذا يدل على عدم الرغبة والعناية بكتاب الله عز وجل .
23 ـ حفظت من القرآن الكريم جزءين، وكلما حفظت سورة نسيت بعض الآيات من السورة التي حفظتها قبلاً فأفيدوني بشيء فيه دواء وشفاء عن هذا الداء الذي هو النسيان جزاكم الله خيرًا ؟
أولاً : عليك بحسن النية في تعلمك القرآن الكريم .
وثانيًا : عليك بالإكثار من تلاوة القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم كما يبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتاج إلى تعاهد وكثرة قراءة، لأنه اشد تفلتًا من الإبل في عقلها (1) فيحتاج منك إلى تعاهد وكثرة تلاوة، فإذا حفظت سورة فأكثر من تلاوتها وترديدها إلى أن تثبت، ولا تنتقل عنها إلا إذا أتقنت حفظها .
فالحاصل :(77/5)
أولاً : يجب عليك إحسان النية والعمل بما علمك الله، والله تعالى يقول : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [ سورة البقرة : آية 282 ] .
ثانيًا : عليك بكثرة التلاوة .
ثالثًا : عليك بإتقان الحفظ بحيث لا تنتقل من آية إلى أخرى، ومن سورة إلى أخرى إلا بعد إتقانها وثباتها في ذاكرتك .
24 ـ من حفظ شيئًا من القرآن الكريم ثم نسيه هل عليه إثم في نسيانه هذا ؟
من حفظ القرآن الكريم فإنه ينبغي له العناية بتلاوته واستذكاره واستحضاره، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حث على تعاهد القرآن، وأخبر أنه أشد تفلتًا من الإبل في عقلها، فلا يجوز لمن حفظ القرآن أن يتساهل في شأنه حتى ينساه، لأن ذلك يدل على عدم رغبته في الخير، وعدم اهتمامه بكتاب الله، فمن حفظ القرآن أو حفظ شيئًا منه فقد أوتي نعمة عظيمة وخيرًا كثيرًا، فلا ينبغي له أن يفرط بهذه النعمة وبهذا الخير العظيم، بل يتعاهده بالإكثار من تلاوته حتى يبقى في حفظه وينتفع به، مع ما في التلاوة من الأجر العظيم، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول : ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 8/115 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] ، وأيضًا في تلاوة القرآن تأثير على القلب بالخشوع والخشية والخوف من الله سبحانه وتعالى .
وفيه زيادة في الفقه والعلم وبصيرة لمن تدبره، فتلاوة القرآن فيها مصالح عظيمة فلا ينبغي للمسلم أني فرط في هذا الخير العظيم والنعمة الكبرى التي مَنّ الله تعالى بها عليه .
أما إذا نسيه لآفة أصابته في حفظ لا لتفريط وقع منه فهو معذور شرعًا .(77/6)
25 ـ ورد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( عرضت عليَّ ذنوب أمتي، فلم أر أعظم من رجلٍ حفظ آيةً ثم نسيها ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 1/123 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 8/118 ) كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ] ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ فما معنى هذا الحديث ؟
أنا لا أعرف هذا الحديث، ولم أطلع عليه، ولكن النسيان على قسمين :
الأول : إذا كان ذهولاً أو بسبب مرضٍ أصاب الإنسان؛ فهذا لا يؤاخذ عليه .
والثاني : إذا كان بسبب الإعراض عن تلاوة كتاب الله؛ فهذا يؤاخذ عليه؛ لأنه نسيه بسبب الأهمال .
26 ـ رجل يقول : إنه يحاول حفظ القرآن لكنه لا يتمكن من قراءة التفسير لظروف عمله هل يستمر بالحفظ فقط ؟
لا بأس بذلك، فليس من لوازم الحفظ أن تقرأ التفسير، بل إذا أمكن أن تحفظ وأن تقرأ التفسير فهذا شيء طيب وإذا لم يتيسر فإنك تحفظ القرآن أولاً وإذا تيسر الأمر وسنحت الفرصة فإنه تقرأ التفسير بعد الحفظ، فالجمع بين الحفظ والتفسير أكمل إذا تيسر .
أما إذا لم يمكن قراءة التفسير ولم تتمكن إلا من الحفظ فإنك تقتصر على الحفظ وتحفظ القرآن، ثم بعد ذلك تقرأ التفسير، وفي كلا الحالتين لابد من العمل بالقرآن، فإنه لا يكفي الحفظ ومطالعة التفسير بدون عمل .
27 ـ ما نصيحتكم للشباب في أسهل طريقة لحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى ؟
القرآن ميسر وسهل الحفظ؛ قال الله تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ سورة القمر : آية 17 ] ، والشأن هو عزيمة الإنسان، وصدق نيته، فإذا كان لديه عزيمة صادقة، وإقبال على القرآن؛ فإن الله ييسر له حفظه ويسهله عليه .(77/7)
وهناك أمور تساعد على حفظه؛ كتخصيص وقت مناسب في كل يوم، تحضر مع مدرس القرآن في المسجد، والحمد لله المدرسون اليوم كثيرون، ولا تجد حيًا من الأحياء إلا وفيه من يدرس القرآن، وهذه فرصة عظيمة، ما كانت موجودة في الزمان السابق؛ فعلى الأخ أن يختار أي حلقة من الحلقات، أو أي مدرس من المدرسين، ويلازم الحضور معه يوميًّا، إلى أن يكمل القرآن .
وأيضًا؛ عليك أن تكثر من استعادة ما قرأت مرة ثانية وثالثة وحتى يثبت في قلبك وذاكرتك، وعليك بالعمل بكتاب الله؛ فإنه أعظم وسيلة لتعلمه، قال تعالى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ سورة البقرة : آية 282 ] .
3 ـ فضائل السور
28 ـ يقول تعالى في سورة الحجر : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [ سورة الحجر : آية 87 ] ما هي السبع المثاني ؟ ولماذا سميت كذلك ؟
السبع المثاني قيل : إنها الفاتحة؛ لأنها سبع آيات، وهذا هو المشهور، وقيل : إن المراد بالسبع المثاني السبع الطوال التي هي البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، لأن الأنفال والتوبة سورة واحدة، والقرآن العظيم هذا معطوف على السبع المثاني من عطف العام على الخاص، والمثاني هي التي تكرر فيها المواعظ والعبر .
29 ـ سمعت أن من قرأ سورة الواقعة لا يصيبه الفقر، فهل هذا صحيح ؟ وهل هناك مزايا لبعض سور القرآن عن غيرها وما هي ؟(77/8)
نعم : ورد في ذلك ما رواه أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في " الشعب " عن ابن مسعود سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدًا ) [ وانظر " تفسير القرآن العظيم " لابن كثير ( 4/383 ) ] ، وكذا أخرج ابن عساكر عن ابن عباس عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( سورة الواقعة سورة الغنى فاقرءوها وعلموها أولادكم ) [ انظر " فتح القدير " ( 5/146 ) ] .
وأيضًا ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : ( علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى ) [ انظر " فتح القدير " ( 5/146 ) ] ، وهذه الأحاديث تدل على فضل سورة الواقعة وفضل قراءتها، والله أعلم .
30 ـ هل هناك سورة تفضل على غيرها من السور ؟ وهل هناك شيء مخصوص بذاته ؟
نعم لا شك أن القرآن يتفاضل بعضه أفضل من بعض، فهناك سور مفضلة، وهناك آيات مفضلة، فمن السور المفضلة سورة البقرة، وسورة آل عمران، كما جاء في الحديث ( أنهما يأتيان يوم القيامة يقدمان القرآن كأنهما غمامتان أو غيايتان ) ، قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ) ، وقال : ( إنها لا تطيقها البطلة ) ، وأخبر أنها سنام القرآن، وكذلك ورد فضل سورة الفاتحة ( فاتحة الكتاب ) ، وأنها أم القرآن، وورد أيضًا فضل سورة الإخلاص وأنها تعدل ثلث القرآن، وورد فضل قراءة المعوذتين، ولا شك أن القرآن يتفاضل وهو كله كلام الله عز وجل، وكله فاضل، وكله عظيم، لكن الله فضّل بعضه على بعض .
31 ـ سمعت أن من قرأ سورة الحشر في كل ليلة فمات من ليلته كان شهيدًا وما صحة هذا ؟(77/9)
لم أقف على هذا الحديث، وسورة الحشر سورة عظيمة تشتمل على أحكام عظيمة، وعلى تنزيه الله سبحانه وتعالى في أولها، وعلى أسمائه في ختامها، فهي سورة عظيمة تشتمل كذلك على بيان صفة المهاجرين والأنصار وما قدموه من أعمال جليلة في خدمة الإسلام ونصرة النبي عليه الصلاة والسلام، وتشتمل كذلك على التحذير من صفات المنافقين وبيان شرهم ومكائدهم، فهي سورة عظيمة بلا شك، وفيها فضل عظيمة كغيرها من سور القرآن العظيم .
32 ـ قرأت حديثًا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول فيه : ( إن من قرأ ثلاث آيات من سورة الحشر وكّل الله به سبعين ملكًا يصلون عليه، وإن مات من يومه فهو شهيد، وإن أمسى مثل ذلك ) [ انظر " تفسير القرآن العظيم " لابن كثير ( 4/344 ) ، وانظر " سنن الترمذي " ( 8/122 ) من حديث معقل بن يسار ] هل هذا الحديث صحيح ؟ وهل الشهداء مراتب، فالذي يستشهد في سبيل الله كالذي يستشهد دون ماله ؟
هذا الحديث ذكره الإمام ابن كثير في " تفسيره " في تفسير آخر سورة الحشر، وعزاه إلى الترمذي، وقال عنه : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه (1)، وعزاه الشوكاني في " فتح القدير " إلى أحمد والدارمي والترمذي، وقال : حسنه، وإلى الطبراني والبيهقي في " الشعب " ، وذكر له شواهد (2) .
ولا شك أن الشهداء يتفاوتون في الفضل، فشهيد المعركة أفضل من غيره من الشهداء، وكذلك فهو يختص بأحكام ليست لغيره من الشهداء .
33 ـ هل صحيح أن قراءة سورة تبارك تمنع من عذاب القبر ؟
نعم ذكر الحافظ ابن كثير (3) وغيره في مقدمته لتفسير هذه السورة جملة أحاديث تدل على فضلها، فيرجى لمن تعلمها وقرأها بنية صالحة أن يحل على خير كثير مما دلت عليه هذه الأحاديث الواردة في فضلها . . والله أعلم .
34 ـ ما هي الفضائل التي وردت في سورة الملك ؟(77/10)
سورة الملك سورة عظيمة ورد في فضلها أحاديث منها ما رواه أصحاب السنن الأربعة أن رجلاً قرأ سورة من ثلاثين آية شفعت له، وورد أن سورة الملك أيضًا قراءتها تقي من عذاب القبر أو ما هذا معناه، وفيها فضل وثواب عظيم لما تشتمل عليه من المعاني العظيمة، فهي سورة عظيمة .
35 ـ ما مدى صحة هذا الحديث : ( من قرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } في ليلة ألف مرة فقد شرى نفسه من الله ) ؟ وما معنى وكيف يشري نفسه من الله ؟
أما سورة : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فهي سورة عظيمة أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أحاديث صحيحة أنها تعادل ثلث القرآن (4) ، وذلك لما تتضمنه من أوصاف الله سبحانه وتعالى ونعوت جلاله، فهي سورة خالصة في التوحيد، ولهذا تسمى سورة الإخلاص، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأها مع المعوذتين عند النوم (5) ، وكان يحث على قراءتها (6) لما فيها من الفضل العظيم، وأنها تعدل ثلث القرآن .
أما ما ذكره من الحديث أن من قرأها ألف مرة شرى نفسه من الله فهذا لم أقف له على أصل له، وقد ذكر الحافظ ابن كثير في " تفسيره " من الأحاديث الواردة في فضلها، وأطال في ذلك (7) واستقصى ولم يذكر هذا الحديث من بينها، فلا أعرف حاله، ولكن في الأحاديث الثابتة في فضل هذه السورة وعظمتها كفاية ولله الحمد، وكذلك في فضل تلاوتها وقراءتها والإكثار من ذلك لما تضمنته من الخير العظيم كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ بها وبـ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } في ركعتي الطواف (8) وفي سنة الفجر (9) لما تضمنته هاتان السورتان من توحيد الله عز وجل، وتوحيد العبادة، ففي : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } توحيد العبادة، وفي : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } توحيد الربوبية والأسماء والصفات .
36 ـ هل من قرأ سورة الإخلاص في كل ليلة يعتبر أنه ختم المصحف الشريف بكامله لأنها تعدل ثلث القرآن ؟(77/11)
سورة الإخلاص فيها فضل عظيم، وقد ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( إنها تعدل ثلث القرآن ) [ انظر " صحيح الإمام البخاري " ( 6/105 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] ، وذلك لما تشتمل عليه من صفة الرب سبحانه وتعالى، ففيها فضل عظيم وفي قراءتها فضل عظيم لكن ليس من قرأها واقتصر عليها وكررها يكون كقارئ القرآن كله، بل إذا قرأ القرآن كله فقد حصل على أجره وثوابه، ويكون أيضًا قارئًا لسورة الإخلاص فيكون حائزًا على ثواب هذه السورة وعلى ثواب تلاوة القرآن كله . فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول : ألم حرف، ولكن أقول : ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 8/115 ) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] .
فالاقتصار على قراءة سورة الإخلاص لا يكفي عن قراءة القرآن، ولكن فيه أجر تلاوتها وقراءتها الخاص بها .
4 ـ قصص القرآن الكريم
37 ـ أرجو تفسير هذه الآيات من سورة البقرة : يقول الله تعالى : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ سورة البقرة : الآيات 94-96 ] .(77/12)
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء اليهود الذين يزعمون أنه لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا أو نصرانيًا وأن دخول الجنة محصور عليهم لا يدخلها غيرهم يقول الله جل وعلا لنبيه قل لهؤلاء الكاذبين : إن كانت لكم الدار الآخرة - وهي الجنة - عند الله خالصة من دون الناس لا يدخلها إلا أنتم فتمنوا الموت .
وفي هذا قولان لأهل العلم :
القول الأول : أن هذا من باب المباهلة، وأن الله أمر نبيه أن يباهلهم بأن يقول : تعالوا ندعو بالموت على الكاذب منا أو منكم، فإنهم لن يقدموا على ذلك لعلمهم أنهم هم الكاذبون .
القول الثاني : أنكم مادمتم ضامنين أن لكم الجنة عند الله فلماذا لا تتمنوا الموت لتنتقلوا إلى الجنة بزعمكم ؟ ! لأن من كان ضامنًا أن له الجنة وأن له السعادة عند الله وأنهم هم أبناء الله وأحباؤه، فإن المحب يفرح بلقاء حبيبه . . إذاً تمنوا الموت لكي تخرجوا من سجن الدنيا إلى نعيم الآخرة وإلى لقاء الله الذي تزعمون أنكم أحباؤه .
وقد أيد الحافظ ابن كثير في " تفسيره " الرأي الأول، وأن هذا من باب المباهلة والتحدي لهم، لأنهم يعلمون أنهم كاذبون، فلهذا لا يتمنون الموت؛ لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى النار وإلى العذاب وهم يؤثرون البقاء في الدنيا، لأن الدنيا جنة الكافر، وسجن المؤمن، فهم يكرهون الموت، لأنهم يعلمون ما وراءه من سوء مصيرهم عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال : { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } [ سورة البقرة : آية 95 ] .(77/13)
ثم بين عز وجل أنهم يحبون الحياة ويكرهون الموت فقال تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [ سورة البقرة : آية 96 ] أي : أنهم أشد حبًا للحياة حتى من الكفار الذي لا كتاب لهم من المشركين الذين لا كتاب لهم وليس لهم دين سماوي فهم يحبون الحياة أكثر من هؤلاء لعلمهم بمصيرهم عند الله سبحانه وتعالى وما يلحقهم من الخزي والعار فهم يريدون أن يتأخروا في هذه الدنيا عن العقوبة اللاحقة لهم في الآخرة، قال تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ سورة البقرة : آية 96 ] أي : يود أحد اليهود لو يعمر ألف سنة، لأنه يحب الحياة الدنيا ويكره الآخرة . ويقول تعالى : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } [ سورة البقرة : آية 96 ] أي : ليس حياته في الدنيا وإن طالت، فإنها لا تغنيه من عذاب الله من شيء وهم واقعون فيما قد فروا منه ولا محالة حتى وإن طالت أعمارهم وامتدت آجالهم { وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ سورة البقرة : آية 96 ] أي : أن النجاة عند الله سبحانه وتعالى والفوز عنده ليس بطول العمر وإنما بالعمل الصالح واتباع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا هو السعيد عند الله عز وجل الذي يفرح بلقاء الله . والله جل وعلا يحب لقاءه ويجد الكرامة عند الله .
38 ـ ما معنى قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } [ سورة آل عمران : آية 7 ] وهل هؤلاء الراسخون في العلم هم في زمن نزول القرآن أم هم موجودون إلى قيام الساعة أم أن علم التأويل مقتصر على الله وحده، وقوله : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } [ سورة آل عمران : آية 7 ] بداية كلام جديد ؟(77/14)
هذا محل خلاف بين أهل العلم في موضع الوقوف هل هو على لفظ الجلالة { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } [ سورة آل عمران : آية 7 ] .
{ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } [ سورة آل عمران : آية 7 ] جملة مستأنفة، أو أن الراسخين في العلم معطوفون على لفظ الجلالة ولا يتعين الوقف على لفظ الجلالة وهذا يرجع إلى معنى التأويل والمراد به، فإن كان المراد بالتأويل التفسير ومعرفة المعنى فإنه يصح العطف على لفظ الجلالة فتقرأ الآية : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } [ سورة آل عمران : آية 7 ] بمعنى أن الراسخين في العلم يعرفون معاني المتشابه ويفسرونه بأن يحملوه على المحكم ويردوه إلى المحكم . وإن أريد بالتأويل هنا مآل الشي وكيفيته وما يؤول إليه الشيء من الأمور التي أخبر الله عنها من المغيبات فهذا لا يعلمه إلا الله ويتعين الوقف على لفظ الجلالة فتقرأ الآية : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } [ سورة آل عمران : آية 7 ] ويوقف على لفظ الجلالة يعني أن الحقيقة التي يؤول إليها والكيفية التي هو عليها مما أخبر الله عنه في كتابه من الأمور المغيبة كذاته سبحانه وتعالى وكيفية صفاته وما في الدار الآخرة من النعيم والعذاب وغير ذلك فهذا لا يعلمه إلا الله .
ومن هذا قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [ سورة الأعراف : آية 53 ] فالمراد بتأويله هنا حقيقته التي يؤول إليها وكيفيته لا تفسيره ومعناه .
39 ـ نرجو من فضيلتكم تبيين الحكمة في نزول سورة التوبة بدون البسملة ؟
نعم كل سورة من القرآن تأتي في بدايتها " بسم الله الرحمن الرحيم " إلا سورة التوبة، وقد أجابوا عن هذا بجوابين :(77/15)
الأول : أن سورة التوبة مكملة لسورة الأنفال فلذلك لم تأت في بدايتها " بسم الله الرحمن الرحيم " ، لأنها مكملة لسورة الأنفال .
والقول الثاني : أن سورة التوبة لم تأت قبلها البسملة لأنها سورة ذكر فيها الجهاد وقتال الكفار وذُكر فيها وعيد المنافقين وبيان فضائحهم ومخازيهم، و " بسم الله الرحمن الرحيم " يؤتى بها للرحمة وهذا الموطن فيه ذكر الجهاد وذكر صفات المنافقين، وهذا ليس من مواطن الرحمة بل هو من مواطن الوعيد والتخويف . فلذلك لم تذكر " بسم الله الرحمن الرحيم " في بدايتها .
40 ـ ما المقصود بقوله تعالى في سورة هود : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ سورة هود : آية 34 ] ؟
يقول نوح عليه السلام لقومه : إن كان الله سبحانه وتعالى أراد إضلالكم ودماركم بسبب كفركم وإعراضكم فلا راد لقضائه .
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في " تفسيره " : أي إن إرادة الله غالبة . فإنه إذا أراد أن يغويكم لردكم الحق فلو حرصت غاية مجهودي ونصحت لكم أتم النصح - وهو قد فعل عليه السلام - فليس ذلك بنافع لكم شيئًا انتهى (1) .
وكأنه عليه السلام لما رأى عنادهم وإصرارهم على الكفر عرف أن الله سبحانه سيعاقبهم . كما هي سنة الله في خلقه أن من أعرض عن قبول الحق بعد وضوحه ودعوته إليه فإن ذلك علامة على نزول العقوبة به، ونوح عليه السلام قال ذلك لقومه لما طلبوا منه إيقاع العقوبة التي كان يخوفهم منها، فطلبوا منه إيقاعها بهم من باب التحدي له فبين عليه السلام لهم أن ذلك ليس بيده وإنما هو بيد الله . وأنه سبحانه إذا أراد عقوبتهم فلا راد لما أراده .(77/16)
41 ـ ما معنى هذه الآية التي تبين ما أصاب قوم شعيب عليه السلام من العذاب وما هي قصتهم وأعمالهم التي استحقوا عليها ذلك العذاب، يقول الله تعالى : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ سورة هود : آية 94 ] وما معنى قوله تعالى في سورة الشعراء : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ سورة الشعراء : آية 189 ] وهل هذه في قوم شعيب أيضًا أم في غيرهم ومن هم ؟
قوم شعيب أمة كافرة تسكن في أرض الأردن وتسمى مدين، بعث الله إليها نبيه شعيبًا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده ونبذ عبادة ما سواه وكانوا مع شركهم يبخسون الناس أشياءهم ينقصون المكيال والميزان .
فهم يسيئون في حق الله سبحانه وتعالى ويسيئون في حق الناس، كما قال سبحانه : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } [ سورة هود : آية 84 ] الآية فهم جمعوا بين هاتين الجريمتين، ولمّا حذرهم نبي الله شعيب عليه السلام من نقمة الله وبطشه استهزءوا وقالوا : { أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } [ سورة هود : آية 87 ] فانتهى أمرهم إلى أن عاقبهم الله عقابًا مستأصلاً فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم .(77/17)
ويوم الظلة ذكر المفسرون أن الله سبحانه وتعالى ألقى عليهم حرًا شديدًا يصلاهم في بيوتهم ومساكنهم، فلما اشتد عليهم الحر في بيوتهم خرجوا إلى الصحارى وهي ملتهبة بسبب الرمضاء وأشعة الشمس المحرقة، ثم إن الله سبحانه ساق سحابة لها ظل ففرحوا بها واجتمعوا تحتها ووجدوا فيها بردًا، فلما تكاملوا تحتها أمطرتهم نارًا تلظّى فأهلكهم الله سبحانه وتعالى بذلك . هذه قصة إهلاكهم .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : وقد ذكر الله صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق ففي الأعراف ذكر أنهم { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ سورة الأعراف : آية 78 ] وذلك لأنهم قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [ سورة الأعراف : آية 88 ] فأرجفوا بنبي الله ومن اتبعه فاخذتهم الرجفة، وفي سورة هود قال : { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } [ سورة هود : آية 67 ] وذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم : { أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ سورة هود : آية 87 ] قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال : { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } [ سورة هود : آية 67 ] الآية، وهاهنا - يعني في سورة الشعراء - قالوا : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ } [ سورة الشعراء : آية 187 ] على وجه التعنت والعناد فناسب أن يحق عليهم ما استبعدوا وقوعه ( فأخذهم عذاب يوم الظلة . . . ) إنه كان عذاب يوم عظيم .(77/18)
قال قتادة : قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : إن الله سلّط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء، ثم إن الله أنشأ لهم سحابة فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها وأصاب تحتها بردًا وراحة، فأعلم بذلك قومه فأتوها جميعًا فاستظلوا تحتها فأججت عليهم نارًا نعوذ بالله من ذلك (2) .
42 ـ يقول الله تعالى في كتابه العزيز في سورة الإسراء : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا } [ سورة الإسراء : الآيات 4-6 ] فما معنى هذه الآيات ؟ وما المقصود بالإفساد في الأرض مرتين ؟ وهل قد مضت المرتان ؟ وما معنى قوله : { فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ } ؟ وماذا يفهم من هذه الآيات ؟
يقول الله سبحانه وتعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : أخبرناهم وبيّنا لهم أنهم سيحصل منهم إفساد في الأرض بالكفر والمعاصي وقتل الأنبياء مرتين .(77/19)
ولما حصل منهم الإفساد في المرة الأولى بعث الله عليهم عدوًا من الكفار، من كفار المجوس أو من غيرهم فقتلوهم شر قتلة واستباحوا بلادهم وديارهم عقوبة لهم، ثم إن الله سبحانه وتعالى أعاد الكرّة لبني إسرائيل فنموا وكثروا وأعاد لهم قوتهم أي بعدما عاقبهم الله سبحانه وتعالى على الإفساد الأول منّ عليهم بأن أعاد لهم قوتهم وعزتهم وكثرة الغنى والأولاد، ثم إنهم لم يقيدوا نعمة الله بالشكر وعادوا إلى إفسادهم مرة ثانية فأفسدوا في الأرض مرة ثانية عند ذلك بعث الله عليهم عدوًا آخر أيضًا استباح بلادهم وأهلك الحرث والنسل ودخلوا المسجد الذي هو بيت المقدس وخربوه كما دخله العدو الأول، قال تعالى : { وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا } [ سورة الإسراء : آية 7 ] أي يدمر هذا العدو ويفسد ما حصل لكم في هذه الفترة من النشاط ومن العمران وكثرة الأموال والأولاد عقوبة لكم فالله جل وعلا أخبر في هذه الآيات عن بني إسرائيل أنهم حصل منهم إفساد في الأرض مرتين وهذا في الزمن الماضي حصلت الإفسادتان والعقوبتان .
ثم توعدهم أنه إذا كرروا هذا فسيعيد لهم العقوبة إلى يوم القيامة فقال تعالى : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } [ سورة الإسراء : آية 8 ] هذا وعيد من الله أنه كما أنه عاقبهم على المرتين الأوليين فهو كذلك سيعاقبهم كلما أفسدوا في الأرض إلى آخر الدنيا وهذا واقع ومشاهد أن اليهود مازالوا يسلط عليهم الجبابرة ويسلط عليهم عدوهم كلما حصل منهم علو في الأرض وإفساد في الأرض، وهذه عقوبة من الله سبحانه وتعالى لهذا الشعب الذي لازال يفسد في الأرض وينشر الفساد فيها ويتكبر على العباد .(77/20)
وآخر عقوباتهم في الدنيا حين ينزل المسيح ابن مريم عليه السلام ويقتل الدجال وينتصر المسلمون معه على اليهود ويقتلونهم في أرض فلسطين كما دلت على ذلك الأدلة المتواترة من الكتاب والسنة .
43 ـ يقول الله تعالى في سورة الإسراء : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا } [ سورة الإسراء : آية 101 ] يقول السائل المعروف أن الآيتين اللتين نعرفهما هما العصا واليد فما هن السبع الأخر ؟
السبع الأخر هي المذكورة في سورة الأعراف وهي : الطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم مع اليد والعصا والأخذ بالسنين ونقص الثمرات فهذه تسع آيات .
44 ـ يقول الله تعالى في سورة مريم : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } [ سورة مريم : الآيتين 24، 25 ] يقول : من هو المنادي ؟ ومن هو المقصود بقوله : { سَرِيًّا } ؟
المنادي قيل : إنه جبريل عليه السلام نادى مريم من تحتها وسمعت صوته، وقيل : إن المنادي هو عيسى عليه السلام ولكن الراجح الأول أنه جبريل عليه السلام، وأما عيسى فإنه لم يتكلم إلا لما حملته إلى قومها وكما ذكر الله سبحانه وتعالى لما أشارت إليه { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } [ سورة مريم : آية 27 ] وقالوا لها ما قالوا من الاستنكار فأشارت إليه فتكلم بإذن الله عز وجل، أما قبل ذلك فلم يرو أنه تكلم عليه الصلاة والسلام، فالراجح أن الذي ناداها من تحتها هو جبريل .
والسري : هو النهر الذي تشرب منه ولهذا قال : { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } [ سورة مريم : آية 26 ] .(77/21)
45 ـ ما معنى قوله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } ؟ [ سورة طه : آية 124 ] ما معنى تفسير هذه الآية ؟
يقول الله سبحانه وتعالى : { فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [ سورة طه : الآيتين 123، 124 ] في الآيتين الكريمتين أن من اتبع القرآن وعمل به فإن الله سبحانه وتعالى تكفل له بأن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، وفي الآية الثانية أن من أعرض عن القرآن ولم يعمل به فإن الله جل وعلا يعاقبه بعقوبتين :
الأولى : أنه يكون في معيشة ضنكًا وقد فسر ذلك بعذاب القبر، وأن يعذب في قبره وقد يراد به المعيشة في الحياة الدنيا وفي القبر أيضًا فالآية عامة .
والحاصل أن الله توعده بأن يعيش عيشة سيئة مليئة بالمخاطر والمكاره والمشاق جزاء له على إعراضه عن كتاب الله جل وعلا، لأنه ترك الهدى فوقع في الضلال ووقع في الحرج .
والعقوبة الثانية : أن الله جل وعلا يحشره يوم القيامة أعمى، لأنه عمي عن كتاب الله في الدنيا فعاقبه الله بالعمى في الآخرة، قال : { رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [ سورة طه : الآيتين : 125، 126 ] ، فإذا عمي عن كتاب الله في الدنيا بأن لم يلتفت إليه ولم ينظر فيه ولم يعمل به، فإنه يحشر يوم القيامة على هذه الصورة البشعة والعياذ بالله .(77/22)
وهذا كقوله تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ، أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } [ سورة الزخرف : الآيات 36-40 ] فالحاصل أن الله جل وعلا توعد من أعرض عن كتابه ولم يعمل به في الحياة الدنيا بأن يعاقبه عقوبة عاجلة في حياته في الدنيا وعقوبة آجلة في القبر والعياذ بالله وفي الحشر، والله تعالى أعلم .
46 ـ ما معنى قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [ سورة الزخرف : الآيات 36-40 ] ومتى حصل هذا الفتق في السماوات والأرض ؟
ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن معنى الآية أن السماء كانت لا تمطر والأرض كانت لا تنبت، ففتقهما الله عز وجل بأن جعل السماء تمطر وجعل الأرض تنبت وهذا أصح الأقوال، لأنه قال : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ سورة الأنبياء : آية 30 ] .
القول الثاني : أن معنى كون السماوات والأرض كانتا رتقًا أن الأرض أول ما وجدت كانت كتلة واحدة ثم إن الله سبحانه وتعالى فتقها وجعلها سبع طباق، كذلك السماوات كانت شيئًا واحدًا ففتقها الله جل وعلا وجعلها سبع سماوات .
والقول الثالث : أن السماء والأرض كانتا شيئًا واحدًا مجتمعتين ثم إن الله سبحانه وتعالى فتق السماء من الأرض ورفع السماء وأقرَّ الأرض في مكانها .
هذا حاصل الأقوال في هذه الآية الكريمة والأول هو أصحها، وأما وقت ذلك فالله أعلم به .(77/23)
47 ـ قال الله تعالى : { وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } [ سورة الحج : آية 5 ] ما معنى هذه الآية ؟
معنى هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر خلق الإنسان وتطوره وقدرته سبحانه وتعالى على تنشئته وتنقله من طور إلى طور قال جل وعلا : { وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى } [ سورة الحج : آية 5 ] يعني : في وقت مبكر من حياته ومنكم من يمدد في حياته ويزاد في عمره حتى يستكمله، ويرد إلى أرذل العمر بأن يبلغ منتهاه حتى ينتهي إلى حالة ضعف وحالة زوال الإدراك : { لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } [ سورة الحج : آية 5 ] لأنه كان في إبان قوته ومراحل عمره المتوسطة بين الطفولة والهرم ذا علم وذا فطنة بعد مرحلة الطفولة وذا إدراك ثم يتضاعف هذا الشيء مع امتداد العمر حتى يفقد بالكلية ويعود إلى الحالة الأولى التي كان عليها أول الطفولة .
فهذا فيه تذكير للإنسان بقدرة الله كما قال تعالى في آية أخرى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [ سورة الروم : آية 54 ] .(77/24)
48 ـ قال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ . . . } [ سورة فاطر : آية 32 ] الآية، وقال أيضًا : { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ سورة النساء : آية 110 ] ، وقال تعالى في سورة يوسف على لسان امرأة العزيز : { وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ سورة يوسف : آية 53 ] ، وقال أيضًا : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ سورة النساء : آية 79 ] فالآيتان الأوليان تدلان على أن الإنسان هو الظالم لنفسه لكونه خالف أوامر ربه تعالى، وفي الآيتين الأخريين فيهما البيان أن النفس هي الظالمة للإنسان لكونها تأمره وتحثه على فعل السوء، فكيف الجمع بينهما مع إيماني الشديد بأن القرآن لا تعارض فيه، ولكن أريد التوفيق بين تلك الآيات الكريمات جزاكم الله خيرًا ؟
لا تعارض بين هذه الآيات الكريمة التي ذكرها السائل، وذلك لأن الآيات الأولى فيها أن الإنسان يظلم نفسه بتعريضها لعذاب الله سبحانه وتعالى، وفي الآيات الثانية أن النفس أمارة بالسوء نزاعة للشر محبة للشهوات المحرمة فالإنسان يظلمها إذا تركها . . . مع هواها وأفسح لها المجال في تناول ما تشتهيه من المحرمات، لأن الله استرعاه عليها وأمره بحفظها والأخذ بزمامها وعدم تركها مع ما تشتهيه مما يضرها، قال تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ سورة الشمس : الآيات 7-10 ] فالإنسان يظلم نفسه إذا تركها تتناول ما تشتهي من المحرمات، فلا تعارض والحمد لله .(77/25)
49 ـ ما معنى هذه الآية من سورة ( ص~ ) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ } [ سورة ص : الآيتين 32، 33 ] ؟
هذه الآية وردت في سياق قصة سليمان عليه السلام : قال { إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } وتفسير هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام كان يستعرض الخيل " لأن المراد بالخير الخيل " ، وكان يستعرضها بعد العصر حتى غربت الشمس فقوله تعالى : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } يعني : حتى غربت الشمس ونسي أن يصلي العصر؛ لأن رؤية الخيل شغلته عن ذلك، فعند ذلك ندم لما تنبه عليه الصلاة والسلام على ما فعل وقال : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ } يلوم نفسه بهذا : { عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } يعني : حتى غربت الشمس : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ } .
القول الصحيح في تفسير ذلك : أنه أمر بذبحها وذلك بضرب سوقها وأعناقها بالسيف، لأنها شغلته عن طاعة الله عز وجل فأراد أن يكفر ما حصل بذبح هذه الخيل والتّصدّق بلحمها؛ لأن الخيل على الصحيح يؤكل لحمها، هذا هو الذي رجحه ابن كثير ورجحه أيضًا الشوكاني وغيرهما من المفسرين .
وهذا قد يعترض عليه بأنه لماذا يذبح الخيل ويعقرها وهي لا ذنب لها وهذا فيه إتلاف مال ؟ والجواب عن هذا في أحد أمرين : إما لأن هذا جائز في شرع من قبلنا، وإما أن هذا من العقوبة بإتلاف المال، والعقوبة بإتلاف المال جائزة على الصحيح حتى في شرعنا، مع أن ذبح الخيل والتصدق بلحمها على الفقراء والمحتاجين مباح وقربة إلى الله سبحانه وتعالى، فليس في هذا غرابة .(77/26)
50 ـ ما معنى قوله تعالى : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ } [ سورة الرحمن : الآيتين 19، 20 ] وما هما البحران المقصود بهما في الآية ؟
{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } يعني يتجاوران أي : يتجاور البحران العذب والمالح وقيل : المراد بذلك بحر فارس وبحر الروم حيث يلتقيان في المحيط، فالبحران إما المراد بهما البحر العذب والمالح بينهما برزخ لا يبغيان - أي أن هذا لا يختلط بهذا مع التقائهما، والبرزخ قيل : إنه العازل بينهما وقيل : إن البرزخ المقصود به شيء من الأرض فالبرزخ هو إما عازل بينهما أو حاجز من الأرض - نعم هذا بقدرة الله سبحانه أن هذه البحار تتجاور ويلتقي بعضها ببعض ولا يؤثر بعضها على بعض لا المالح ينقلب إلى عذب ولا العذب ينقلب إلى مالح بل كل منهما يبقى على خصوصياته .
ومعنى { مَرَجَ } الظاهر والله أعلم معنى " مرج " هنا : التقى أو خلط بينهما أي جعل بينهما التلاقي .
51 ـ يسأل عن كلمة " عبس " الموجودة في سورة عبس وما معنى العبس الوارد في القرآن ؟
العبس معناه : عبس الإنسان إذا قطب جبينه وظهرت عليه الكراهة يعني : يتضايق الإنسان من شيء فيظهر على وجه الكراهة والعبوس وعدم الانبساط هذا هو الأصل .(77/27)
و { عَبَسَ وَتَوَلَّى } في القرآن . معناها : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حصل منه بعض الكراهية والتضايق بسبب أن عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى ـ رضي الله تعالى عنه ـ جاءه يسأله عن أمور من أمور دينه، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحضرته ناس من أكابر قريش، وكان عليه الصلاة والسلام يطمع في إسلامهم وترغيبهم والتحدث معهم لعل الله أن يهديهم ليدعوهم إلى الله عز وجل، فلما جاء عبد الله ابن أم مكتوم ـ رضي الله عنه ـ يسأله وهو مشغول مع هؤلاء كأنه كره مجيء عبد الله ابن أم مكتوم في هذه الساعة وكره سؤاله، لأنه يشغله عن التحدث مع هؤلاء فعاتبه الله ـ عز وجل ـ على ذلك وقال : { عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءَهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى } [ سورة عبس : الآيات 1-10 ] .
والمعنى أن الله ينكر على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عدم استقباله لعبد الله ابن أم مكتوم الذي جاءه راغبًا في الخير ومقبلاً على الخير، وانشغاله مع قوم لا رغبة بهم في الخير ولا محبة لهم في دين الإسلام بل هم في زعمهم أنهم في غنى عنه ليسوا راغبين ولا مقبلين على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، من هنا جاء العتاب لنبي الله صلى الله عليه وسلم .
52 ـ يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ } [ سورة البروج : آية 4 ] من هم أصحاب الأخدود ؟
أصحاب الأخدود هم جماعة من الكفار كادوا المسلمين في وقتهم لما حاولوا معهم أن يصرفوهم عن دينهم، فثبت هؤلاء المسلمون على دينهم، وصبروا على التعذيب .(77/28)
قال الله جل وعلا : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ } [ سورة البروج : آية 4 ] أي : لعن أصحاب الأخدود وجمعه أخاديد، وهي الحفر التي في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله عز وجل فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فأبوا عليهم فحفروا لهم في الأرض أخدودًا وأججوا فيه نارًا، وأعدوا لها وقودًا يسعرونها به ثم أرادوهم أن يرجعوا عن دينهم فلم يقبلوا فقذفوهم فيها، ولهذا قال تعالى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } [ سورة البروج : الآيات 4-7 ] أي : مشاهدون لما يُفعل بأولئك المؤمنين .
قال الله تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ سورة البروج : آية 8 ] أي : وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه المنيع، الحميد بجميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، والله تعالى أعلم .
53 ـ ما معنى قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } [ سورة الفجر : الآيات 6-8 ] وما المقصود بـ { إِرَمَ } ؟(77/29)
هذه القبيلة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى هي من الأمم الكافرة والعاتية التي اغترت بقوتها وجبروتها؛ لأن الله أعطاها من القوة البدنية وقوة الحضارة والملك ما اغترت به، وطغت بسببه، قال تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ } [ سورة فصلت : الآيتين 15، 16 ] لأنهم لما جاءهم نبي الله هود عليه السلام، ودعاهم إلى توحيد الله وعبادته تكبروا وتجبروا واغتروا بقوتهم، قد ذكر الله قصتهم في مواضع كثيرة من كتابه، ومن ذلك هذا الموضع من سورة الفجر : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } [ سورة الفجر : الآيتين 6، 7 ] .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : ( وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين خارجين عن طاعته مكذبين لرسله جاحدين لكتبه فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم وجعلهم أحاديث وعبر فقال : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } وهؤلاء عاد الأولى وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح، قال ابن إسحاق : وهم الذي بعث الله فيهم رسوله هودًا عليه السلام فكذبوه وخالفوه، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم وأهلكهم { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } [ سورة الحاقة : الآيات 6-8 ] .(77/30)
وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع ليعتبر بمصرعهم المؤمنون، فقوله تعالى : { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } [ سورة الفجر : آية 7 ] عطف بيان وزيادة تعريف بهم .
قوله تعالى : { ذَاتِ الْعِمَادِ } لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة، وأقواهم بطشًا؛ ولهذا ذكرهم هود بتلك النعمة، وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم فقال : { وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ سورة الأعراف : آية 69 ] ) انتهى كلامه رحمه الله (3) وبه يتبين المراد بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } [ سورة الفجر : الآيتين : 6، 7 ] والله أعلم .
54 ـ ما تفسير قوله تعالى : { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا } [ سورة العاديات : الآيتين : 1، 2 ] وما المراد بالعاديات هنا ؟(77/31)
يقسم الله سبحانه وتعالى بالعاديات، وهي الخيل التي تعدو بركابها عند الحاجة كما في حالة القتال في سبيل الله والغارات، ومعنى { ضَبْحًا } أي : ارتفعت أصواتها عندما تعدو { فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا } أي : أنها تقدح بحوافرها الحجارة عندما تغير، { فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا } هي الخيل أيضًا، وكل هذا أوصاف للخيل وحالاتها عند الغارة في سبيل الله عز وجل، في هذا دليل على فضل الجهاد في سبيل الله وركوب الخيل للجهاد في سبيل الله، والله تعالى يقول : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [ سورة الأنفال : آية 60 ] وكل هذه أوصاف للخيل { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا } كل هذه أوصاف للخيل حالة غارتها للجهاد في سبيل الله عز وجل .
55 ـ ما معنى قوله تعالى : { الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ . . . } [ سورة القارعة : الآيات 1-3 ] إلى آخر السورة ؟
القارعة : يوم القيامة سمي بالقارعة؛ لأنه يقرع الأسماع بأهواله وهذا أحد أسمائه، وقد سمي بأسماء كثيرة : القارعة، والصاخة، والطامة الكبرى، والساعة، والحاقة، وغير ذلك من أسمائه؛ لأنه يوم عظيم ويوم فيه أهوال عظيمة .
قوله تعالى : { الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ } هذا التكرار من أجل تعظيم هذا اليوم، وشد الانتباه لما يجري فيه من الأهوال حتى يكون المسلم على استعداد لملاقاته .(77/32)
ثم إن الله سبحانه وتعالى بيّن ذلك بقوله : { يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ } [ سورة القارعة : الآيتين 4، 5 ] بيّن ما يكون في هذا اليوم من الحشر وجمع الخلائق، ومن تغير هذه الكائنات حتى إن الجبال الرواسي تذوب، وتكون كالعهن، وهو الصوف المنفوش من الينها وذوبانها بعد أن كانت جامدة قوية صلبة، ثم بيّن سبحانه وتعالى انقسام الناس إلى قسمين : سعداء وأشقياء، أما السعداء فهم الذين ثقلت موازين حسناتهم، فرجحت بسيئاتهم ففازوا برضاء الله سبحانه وتعالى ونعيم الجنة خالدين مخلدين فيه . والأشقياء هم الذي خفت موازينهم بمعنى أن سيئاتهم رجحت على حسناتهم والعياذ بالله، فهؤلاء خابوا وخسروا، وانقلبوا إلى أسوء عاقبة وهي أن النار مقرهم ومصيرهم أبد الآباد .
56 ـ ما معنى قول الله تعالى في سورة الماعون بسم الله الرحمن الرحيم : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [ سورة الماعون : الآيات 4-7 ] ؟(77/33)
( ويل ) كلمة عذاب وتهديد ووعيد شديد، وقيل : إنه واد في جهنم، { لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } أي : الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها يعني : يصلي الفجر بعدما تطلع الشمس، ويصلي الظهر في وقت العصر، والعصر في وقت المغرب وهكذا، فالذي يخرج الصلاة عن وقتها هذا يعتبر ساهيًا عنها ومضيعًا لها كما في الآية الأخرى { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [ سورة مريم : آية 59 ] فإضاعة الصلاة والسهو عنها الذي ورد الوعيد عليه في هاتين الآيتين هو إخراجها عن وقتها من غير عذر شرعي؛ لأن الله تعالى يقول : { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } [ سورة النساء : آية 103 ] أي : مفروضة في أوقاتها لا يجوز إخراجها عنها من غير عذرٍ شرعي .
وقوله تعالى : { الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ } [ سورة الماعون : آية 6 ] يعني : يراءون الناس في أعمالهم يريدون مدحهم، ويؤدون الأعمال الصالحة لا يريدون بها وجه الله، وإنما يريدون أن يمدحهم الناس كالذي يتصدق لأجل أن يمدحه الناس أو يصلي أو يطلب العلم أو يؤدي أي عبادة من العبادات لا رغبة في الطاعة والثواب، وإنما يريد بذلك أن يمدحه الناس ويثنوا عليه، فهذا هو الرياء .(77/34)
وهذا يحبط العمل كما قال سبحانه وتعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ سورة الكهف : آية 110 ] ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ) . فسئل عنه فقال : ( الرياء ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/63 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] فالرياء محبط للعمل وهو شرك . شرك أصغر، وهو خطر شديد، وهو من صفات المنافقين، لأنهم كما قال الله تعالى : { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ سورة النساء : آية 142 ] . فالرياء داء خطر ومرض وبيل . والواجب على المسلم أن يخلص عمله لله عز وجل ولا يقصد من ورائه رياء ولا سمعة .
وأما الذين يمنعون الماعون : المراد بالماعون هنا العاريّة، لأن بذل العاريّة للمحتاج من الطاعة والإحسان يثاب عليها الإنسان، فالذي يمنع العاريّة عن المحتاج، وهو لا ضرر عليه في بذلها عليه هذا الوعيد العظيم . قد فسر الماعون بما يشمل القدر، والفأس، والحبل، والدلو، وكل ما يحتاج الناس لأمورهم التي يضطرون إليها، فبذل العاريّة للمحتاجين إذا لم يترتب على ذلك ضرر بالمعير وهو في غنى عنها فإن بذلها من الطاعة ومنعها من المتوعد عليه في هذه الآية الكريمة .
5 ـ مسائل في علوم القرآن
57 ـ ما الحكمة في أن القرآن العظيم محفوظ من التبديل والتحريف في حين أن الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل ليست كذلك ؟ وهل يعني الإيمان بالكتب الإيمان بما فيها على ما هي عليه الآن خاصة أن بعضها دخل التحريف ؟(77/35)
القرآن الكريم تكفل الله تعالى بحفظه؛ لأنه الكتاب الباقي إلى قيام الساعة، الناسخ لما سبقه، ولا يتطرق إليه نسخ، أما الكتب السابقة فاستحفظ عليها الربانيون والأحبار ابتلاء وامتحانًا لهم؛ ولأنها - والله أعلم - مؤقتة ويتطرق إليها النسخ بشرائع أخرى تأتي بعدها، وهي أيضًا خاصة بمن أنزلت عليهم في وقتهم، والقرآن عام لجميع الثقلين الجن والإنس إلى يوم القيامة والإيمان بالكتب الإلهية من أركان الإيمان، والإيمان بالكتب السابقة إيمان مجمل، والإيمان بالقرآن إيمان مفصل بكل ما فيه، من أنكر منه حرفًا أو آية أو أقل أو أكثر فهو مرتد عن دين الإسلام، وكذلك من أنكر حكمًا من أحكامه كقطع يد السارق والاقتصاص من الجاني، أو أنكر صلاحيته للحكم بين الناس في هذا الزمان أو في أي زمان فهو كافر .
أما الإيمان بالكتب السابقة فهو إيمان مجمل يتناول أصولها وما فيها من حق دون ما أدخل فيها من تحريف وتبديل؛ لأن الله أمر بالإيمان بها مع ذكره سبحانه أن أهلها قد حرفوها وغيروا فيها، فالإيمان بأصولها وأنها من عند الله دون ما فيها من تحريف وتبديل فهذا مردود على أصحابه، قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } [ سورة البقرة : آية 79 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ سورة آل عمران : آية 78 ] .
58 ـ هل يجوز قراءة المعوذتين بدون لفظ كلمة الأمر في أول السورة { قُلْ } ؟(77/36)
لا يجوز هذا لأن { قُلْ } من القرآن والذي يعتقد أنه ليس قرآنًا فإنه يكون جاحدًا لبعض القرآن فيكون كافرًا، والعياذ بالله؛ لأن من جحد شيئًا من القرآن ولو حرفًا أو كلمة يكون كافرًا بالله عز وجل فكلمة { قُلْ } في { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ سورة الإخلاص : آية 1 ] ، { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } [ سورة الفلق : آية 1 ] ، { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } [ سورة الناس : آية 1 ] ، وفي غير هذه السور هي كلمة من القرآن والقرآن كله يجب الإيمان به واعتقاد أنه كلام الله سبحانه وتعالى حروفه ومعانيه يجب الإيمان بكل حرف وبكل كلمة وبكل آية منه وبكل سورة، ومن جحد شيئًا من ذلك فهو كافر بالله .
59 ـ هل من الصواب أن يقول المسلم : " صدق الله العظيم " بعد قراءة القرآن وهل هي واردة ؟
لم يرد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أحدًا من صحابته أو السلف الصالح كانوا يلتزمون بهذه الكلمة بعد الانتهاء من تلاوة القرآن . فالتزامها دائمًا واعتبارها كأنها من أحكام التلاوة ومن لوازم تلاوة القرآن يعتبر بدعة ما أنزل به من سلطان .
أما أن يقولها الإنسان في بعض الأحيان إذا تليت عليه آية أو تفكر في آية ووجد لها أثرًا واضحًا في نفسه وفي غيره فلا بأس أن يقول : صدق الله لقد حصل كذا وكذا . . قال تعالى : { قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ سورة آل عمران : آية 95 ] .
يقول سبحانه وتعالى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } [ سورة النساء : آية 87 ] .
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إن أصدق الحديث كتاب الله ) فقول : " صدق الله " في بعض المناسبات إذا ظهر له مبرر كما لو رأيت شيئًا وقع، وقد نبه الله عليه سبحانه وتعالى في القرآن لا بأس بذلك .(77/37)
أما أن نتخذ " صدق الله " كأنها من أحكام التلاوة فهذا شيء لم يرد به دليل، والتزامه بدعة، إنما الذي ورد من الأذكار في تلاوة القرآن أن نستعيد بالله في بداية التلاوة : قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [ سورة النحل : آية 98 ] .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعيذ بالله من الشيطان في بداية التلاوة ويقول : بسم الله الرحمن الرحيم إذا كان في أول سورة سوى براءة أما بد نهاية التلاوة فلم يرد التزام ذكر مخصوص لا صدق الله ولا غير ذلك .
60 ـ أختم القرآن - ولله الحمد والمنة - ويراودني في نفسي شيء ألا وهو أن أجمع أهل بيتي عند الختمة وأدعو الله بما تيسر من الدعاء، فهل هذا العمل جائز ؟
يجوز جمع الأهل والإخوان عند دعاء ختم القرآن لأن ذلك مظنة الإجابة، وقد كان بعض الصحابة يفعله . فالدعاء بعد ختم القرآن مأثور من السلف في الصلاة وخارج الصلاة وهو مظنة الإجابة (1).
61 ـ أحيانًا أقرأ القرآن الكريم وأنا مكشوفة الرأس فإذا صادفتني سجدة فهل أسجد بدون غطاء أم أغطي رأسي ثم أسجد بعد ذلك ؟
لا بأس أن تقرئي القرآن الكريم وأنت مكشوفة الرأس إذا لم يكن عندك رجال غير محارم وينبغي أن تغطي رأسك عند سجود التلاوة نظرًا لأن بعض أهل العلم يرى أنه صلاة، وأنه يأخذ أحكام الصلاة، فتغطية الرأس أحوط في هذا وأحسن . والله تعالى أعلم .
62 ـ هل يجوز حرق أوراق من المصحف الشريف إذا خيف عليها الامتهان ؟(77/38)
نعم إذا درس المصحف وتمزق وخشي عليه من الامتهان أصبح في حالة لا يمكن الانتفاع به والقراءة فيه فلا بأس أن يحرق أو يدفن في أرض طاهرة؛ لأن كلا من الأمرين فعله الصحابة رضي الله عنهم فقد دفنوا المصاحف، وكذلك حرقوا المصاحف لما جمعوا الناس على مصحف واحد، وهو مصحف عثمان ـ رضي الله عنه ـ وحرقوا ما عداه من بقية المصاحف، فالمصحف إذا كان في حالة لا يمكن الانتفاع به لتمزقه فإنه إما أن يدفن في مكان طاهر وإما أن يحرق .
63 ـ هي يجوز تعليق لوحات تجميلية في المنازل وقد كتب عليها آيات قرآنية ؟
الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن هدى ونورًا وشفاء لما في الصدور، وأنزله ليتلى ويتدبر ويعمل به ويستنار بهديه ويتخذ إمامًا وقائدًا إلى الله جل وعلا وإلى جنته، فهو حجة الله على خلقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والقرآن حجة لك أو عليك ) [ انظر " صحيح مسلم " ( 1/203 ) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه ] إن تمسكت به وعملت به صار حجة لك، وهو دليل لك إلى الجنة، وإن أعرضت عنه صار حجة عليك، يدفعك إلى النار لمخالفته وعدم العمل به، فهذا هو الواجب نحو القرآن .
الواجب نحو القرآن أن نتلوه حق تلاوته، وأن نهتدي بهديه، ونستنير بنوره، وأن نعظمه ونجله ونحترمه ونصونه عن العبث والامتهان؛ لأنه كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأن نعمل به وأن نحكمه فيما اختلفنا فيه كما قال تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ سورة النساء : آية 59 ] .(77/39)
أما كتابته حجبًا أو رقاعًا أو على لوحات، ويعلق على الجدران، فهذا لا ينبغي ويحرم كتابته حجبًا وحروزًا يعلق على الصبيان أو على الرقاب أو على النساء أو الرجال هذا لا يجوز على الصحيح من قولي العلماء؛ لأن فيه امتهانًا للقرآن وتعريضًا لإهانته، وربما يكون سببًا للاعتقاد في الشفاء من غير الله عز وجل ويكون فتحًا لباب تعليق ما لا يجوز تعليقه من العوذ الشيطانية والألفاظ الشركية .
فالصحيح من قولي العلماء أنه لا يجوز اتخاذ القرآن حروزًا وتعاويذ تكتب وتعلق على الرقاب أو على الأجسام، وكذلك كتابته على لوحات وتعليقه على الجدران هذا لا يجوز، لأنه ربما يهان القرآن، ربما أن المكان الذي علقت فيه هذه اللوحة التي فيها آية من كتاب الله، أنه يكون فيه شيء من المعاصي، ويكون فيه شيء من الفسوق، ويكون في هذا إهانة للقرآن العظيم، وربما تسقط هذه اللوحة وتداس وتمتهن أو تؤول هذه اللوحة إلى سكان لا يعبئون بالقرآن، وينزلون هذا المنزل فيهينون هذا القرآن المعلق، ففي تعليقه على الجدران تعريض له للامتهان، ولم يكن هذا من هدي السلف الصالح، لم يعلم أنهم كانوا يكتبون القرآن على لوحات أو براويز ويعلقونه على الجدران وإنما كان القرآن يكتب في القلوب، ويعمل به ظاهرًا وباطنًا، ويحفظ ويتلى ويدرس، أما كتابته في لوحات وبراويز وما أشبه ذلك فهذا لم يكن معروفًا عن السلف، ولا فائدة من وراء ذلك، وإنما يخشى من المضرة والإهانة للقرآن الكريم .
64 ـ ما حكمُ تعليقِ الآيات القرآنية على الجدران ؟
يجبُ تعظيمُ القرآنِ الكريمِ وتلاوته وتدبُّره والعمل به، أما تعليقه على الجدران؛ فهو من العبث، وقد يؤدي ذلك إلى امتهانه، وأيضًا قد يتَّخذُ ذلك من باب تجميل الجدران بالديكورات والرسومات والكتابات، فيُجعل القرآن ضمن ذلك، وقد يُكتب على شكل نقوش يُقصد منها المناظرُ فقط .(77/40)
وعلى كل حال؛ فالقرآن يجب أن يُصان عن هذا العبث، وما كان السَّلف يعملون هذا، والقرآن لم ينزل ليُكتب على الجدران، وإنما أنزل ليُكتب في القلوب، ويظهر أثره على الأعمال والتصرُّفات .
65 ـ هل يجوز تعليق آيات قرآنية أو أدعية نبوية على جدران المنزل ؟
تعليق الآيات المكتوبة أو الأحاديث والأدعية كل هذا لم يكن من عمل السلف . ما كانوا يكتبون الآيات والأدعية والأحاديث ويعلقونها على الجدران، إنما كانوا يحفظونها ويعملون بها، ويحترمونها غاية الاحترام، ويكتبونها في الكتب .
أما تعليق الآيات والأحاديث والأدعية فهذا لا يجوز خصوصًا الآيات القرآنية، فإن في تعليقها تعريضًا لها للامتهان . قد تسقط هذه المعلقات أو الملصقات وتداس وتمتهن . وقد ينالها ما ينالها من الأذى والامتهان، فهذا من العبث . وغالبًا ما يفعل من أجل الزينة والمناظر التي تعلق، وربما تكتب الآيات على شكل لا يجوز حتى إن بعضهم يكتبها على شكل حيوان أو طائر، أو يكتبها على صورة مصباح كهربائي أو قنديل، فهذا كله عبث لا يجوز .
كما تكتب أحيانًا على شكل غير مقروء وعلى شكل نقوش مما يدل على أن القصد من ذلك النقوش وإبراز جمال الخطوط والزينة، وهذا كله من العبث الذي يصان عنه كتاب الله عز وجل .
66 ـ هل يجوز تعليق آيات من كتاب الله في المجالس، مع أن الآية القرآنية قد زينت ووضع عليها برواز للتجميل ؟(77/41)
الذي أراه أن هذا العمل لا يجوز لما فيه من تعريض القرآن للإهانة خصوصًا وأن بعض الناس يعلقه للزينة والمناظر الجميلة، وربما يعلقه إلى جانب صورة محرمة . وربما تكتب الآيات أو الآية على شكل نقوش وفنون كأن تكتب على صورة مصباح أو على صورة كأس أو ما هو أشد من ذلك كأن تكتب على شكل حيوان من طائر أو فراشة أو غير ذلك، وكل هذا من العبث بكتاب الله، وأيضًا فإن القرآن لم ينزل ليعلق على الجدران، وإنما أنزل ليتلى ويعمل به ويرسخ في القلوب . وأيضًا لم يكن هذا من عمل السلف، فالواجب صيانة كتاب الله واحترامه .
67 ـ نسمع كثيرًا من الإخوان يستخدمون الآيات القرآنية لضرب أمثلة كقوله تعالى : { لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ } [ سورة الغاشية : آية 7 ] ، وقوله : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [ سورة طه : آية 55 ] فهل هذا جائز أم لا ؟ وإذا كان جائزًا ففي أي الحالات يمكن ذكرها وترديدها . جزاكم الله خيرًا ؟
لا بأس بالتمثل بالقرآن الكريم إذا كان لغرض صحيح كأن يقول : هذا الشي لا يسمن ولا يغني من جوع أو يقول : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [ سورة طه : آية 55 ] إذا أراد التذكير بحالة الإنسان مع الأرض، وأنه خلق منها، ويعود إليها بعد الموت ثم يبعثه الله منها، فالتمثل بالقرآن الكريم إذا لم يكن على وجه السخرية والاستهزاء لا بأس به، أما إذا كان على وجه السخرية والاستهزاء فهذا يعتبر ردة عن الإسلام، لأن من استهزأ بالقرآن الكريم أو بشيء من ذكر الله عز وجل وهزل بشيء من ذلك فإنه يرتد عن دين الإسلام، كما قال تعالى : { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ سورة التوبة : آية 65، 66 ] . فيجب تعظيم القرآن واحترامه .
68 ـ ما الفرق بين الحديث القدسي وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ؟(77/42)
الحديث القدسي هو الذي يرويه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الله عز وجل بلفظه ومعناه، والحديث غير القدسي هو الذي يكون معناه وحيًا من الله، ولفظه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قال تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } [ سورة النجم : آية 3، 4 ] .
69 ـ إذن فما الفرق بين القرآن والحديث القدسي ؟
هناك عدة فروق :
أولاً : القرآن معجز . والحديث القدسي ليس من المعجز بلفظه .
ثانيًا : القرآن متعبد بتلاوته . والحديث القدسي ليس متعبدًا بتلاوته .
ثالثًا : القرآن متواتر . والحديث القدسي لا يلزم أن يكون متواترًا .
رابعًا : القرآن لا يمسه إلا طاهر، والحديث القدسي لا بأس بمسه من غير طهارة .
70 ـ ما رأيكم في " تفسير الجلالين " ؟
" تفسير الجلالين " تفسير مختصر ألفه الحافظان : الحافظ المحلي والمحافظ السيوطي، وكل منهما يلقب بجلال الدين، لذلك سمي بالجلالين، أي : تفسير جلال الدين المحلي وتفسير جلال الدين السيوطي؛ لأن جلال الدين المحلي توفي قبل إكماله فأكمله السيوطي .
وهو تفسير مختصر جدًا يسهل على طالب العلم أو المبتدئ قراءته أو حفظه، لكن من المعلوم أن كلا المُفسّرين على عقيدة الأشاعرة وهما يؤولان آيات الصفات كما هو مذهب الأشاعرة، ومن هذه الناحية يجب الحذر في الاعتماد على تفسيرهما في آيات الصفات .
71 ـ التَّفاسير كثيرة؛ فما هو التَّفسير الذي تنصح بقراءته ؟ وجزاك الله خيرًا .
لا شك أن التفاسير كثيرة والحمد لله، وهذا من نِعَمِ الله سبحانه وتعالى، والتفاسير متفاوتة، منها المطوَّلُ، ومنها المختصر، ومنها التفسير السَّالم من الأخطاء، ومنها التفسير الذي فيه أخطاء، ولا سيما في العقيدة .(77/43)
والذي أنصحُ به إخواني هو " تفسير ابن كثير " ؛ فإنه من أعظم التّفاسير وأحسنها طريقة ومنهجًا، لأنه يفسّر القرآن بالقرآن أولاً، ثم بالسنة النبوية، ثم بأقوال السلف، ثم بمقتضى اللغة العربية التي نزل بها؛ فهو تفسير متقن وموثوق .
وأيضًا هناك " تفسير البغوي " وهو تفسير مختصر جيد على منهج السلف، وتفسير الحافظ ابن جرير الطبري؛ فهو تفسير واسع وشامل؛ فهذه التفاسير موثوق بها، وكذلك تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ فهو تفسير جيد وسهل العبارة غزير العلم .
أما بقية التفاسير، فهي تجيد في بعض النواحي، ولكنها فيها أخطاء، ولا سيما في العقيدة، ولا يصلح أن يقرأ فيها إلا الإنسان المتمكن، بحيث يأخذ منها ما فيها من الخير، ويتجنب ما فيها من الخطأ، لكن المبتدئ لا يستطيع هذا؛ فعليه أن يأخذ التفسير الذي ليس فيه مزالق وليس فيه أخطاء؛ مثل " تفسير ابن كثير " و " تفسير البغوي " و " تفسير الحافظ ابن جرير " ، وكلها تفاسير - والحمد لله - قيمة وجيدة .(77/44)
5 ـ الرسل والرسالات
72 ـ ما معنى قوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الأفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ سورة الأنعام : الآيات 76-78 ] ؟
هذا إبطال لعبادة الكواكب؛ لأنهم كانوا يعبدون الكواكب فهو أراد أن يبين لهم بطلان عبادتهم للكواكب، وتدرج من الكوكب إلى القمر إلى الشمس، وهذه من أبرز الكواكب، فدل على أنها مدبرة ومسيرة، وأنها مخلوقات لا تصلح للعبادة، فهو - عليه الصلاة والسلام - أراد أن يقيم عليهم الحجة ببطلان عبادة هذه الكواكب؛ لأنها بكونها تتغير وتغيب فهذا دليل على أنها مخلوقة ومدبرة ليس لها من الأمر شيء، وأن إبراهيم ساقها في سياق لمناظرة لقومه لإقامة الحجة عليهم .
73 ـ يقول الله تعالى في سورة التحريم : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } [ سورة التحريم : آية 10 ] ، يقول : في أي شيء كانت خيانتهما ؟
أولاً : هذه الآية الكريمة مثلاً ضربه الله لمخالطة الكافر بالمسلم، وأن الكافر لا ينفعه مخالطة المسلم، ما دام أنه لم يدخل في الإسلام فإنه في يوم القيامة يكون في النار، ولا تنفعه معاشرته للمسلم ومخالطته للمسلم وإن توثقت الصلة والعلاقة؛ لأنه ليس بمسلم .(78/1)
أما الخيانة التي حصلت من امرأة نوح وامرأة لوط فهي خيانة الملة، لأن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين فخانتاهما في الدين، حيث لم تدخلا في دين زوجيهما، وذلك ليس خيانة عرض، لأن فرش الأنبياء معصومة من خيانة العرض، ولا يمكن أن يتزوج نبي بامرأة خائنة، في عرضها، فالمراد هاهنا بالخيانة خيانة الدين .
وقيل : إن خيانتهما أن امرأة نوح كانت تخبر الكفار بأسرار نوح عليه الصلاة والسلام . . وتصفه بأنه مجنون . . وخيانة امرأة لوط أنها كانت تدل قومها على أضياف لوط، ليفعلوا بهم الفاحشة . . فهما خائنتان للأمانة التي بينهما وبين زوجيهما من ناحية حفظ السر، وعدم الدلالة على ما عندهما من الأسرار ومن الأضياف .
74 ـ هل صحيح أن بعض الأنبياء ليس من أولي العزم ؟ ولماذا إن كان ذلك صحيحًا ؟ وما معنى هذه الكلمة ؟ ومن هم أولو العزم ؟ ولماذا وصفوا بهذا الوصف ؟
العزم معناه : القوة والثبات والعزم في الأمر، والله سبحانه وتعالى قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } [ سورة الأحقاف : آية 35 ] ، لما اشتد أذى الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره الله بالصبر والتحمل وانتظار الفرج اقتداء بإخوانه من أولي العزم من الرسل، أما من هم أولو العزم :(78/2)
فالمشهور أنهم خمسة هم : نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وصلى الله عليهم أجمعين، وهم المذكورون في قوله سبحانه وتعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا } [ الأحزاب : آية 7 ] ، وفي قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } [ سورة الشورى : آية 13 ] ، هؤلاء الخمسة المذكورون في هاتين الآيتين الكريمتين قال كثير من المفسرين : إنهم هم أولو العزم، ومن المفسرين من يرى أن الرسل كلهم أولو عزم، وأن ( مِن ) في قوله تعالى : { مِنَ الرُّسُلِ } [ الأحقاف : آية 35 ] بيانية وليست تبعيضية، ومنهم من يرى أن أولي العزم أكثر من هؤلاء الخمسة، وليس كل الرسل من أولي العزم، ولكنهم أكثر من هؤلاء الخمسة .
والأقوال مذكورة في كتب التفسير، والله تعالى أعلم .(78/3)
75 ـ قال الله تعالى في سورة يس : { يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ، وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ سورة يس : الآيات 1-9 ] ، ما معنى هذه الآيات ؟ ومن هم هؤلاء القوم الذين لم ينذروا مع أن الله يقول : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ سورة النحل : آية 36 ] ؟
قوله تعالى : { يس } [ سورة يس : آية 1 ] الصحيح أن هذا من الحروف المقطعة في أوائل السور، والله جل وعلا أعلم بمراده بها، ومن ظن أن { يس } اسم من أسماء الرسول ( ، فقد غلط فليس من أسمائه { يس } ولا { طه } ، وإنما هي حروف مقطعة، مثل { الم } و { طس } وغيرها .
{ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } [ سورة يس : آية 2 ] هذا قسم من الله سبحانه وتعالى بالقرآن الذي هو كلامه وآياته التي نزلها، وهو يدل على عظمة هذا القرآن، لأن الله أقسم به، و { الْحَكِيمِ } [ سورة يس : آية 2 ] يعني : المحكم الذي لا يعتريه نقص ولا يعتريه تناقض ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
{ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ سورة يس : آية 3 ] هذا هو المقسم عليه، وهو أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المرسلين، ففي هذا إثبات الرسالة لنبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الله عز وجل ورد على المشركين الذين أنكروا رسالته .(78/4)
{ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ سورة يس : آية 4 ] أي : أنك أيها الرسول على طريق واضح وطريق صحيح هو صراط الله سبحانه وتعالى .
{ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } [ سورة يس : آية 5 ] أي : أن هذه الرسالة وهذا القرآن من الله عز وجل فهو الذي أرسل هذا الرسول وهو الذي أنزل هذا الكتاب، { الْعَزِيزِ } [ سورة يس : آية 5 ] يعني : القوي الذي لا يغالب، { الرَّحِيمِ } [ سورة يس : آية 5 ] بعباده المؤمنين حيث أرسل إليهم هذا الرسول، وأنزل عليهم هذا الكتاب .
{ لِتُنذِرَ قَوْمًا } [ سورة يس : آية 6 ] يعني : لتبين لهم ولتخوفهم بالله عز وجل، وتنبههم على طريق الصواب وطريق الهدى، وتحذرهم وتنذرهم من طريق الشرك وطريق النار، والمراد بهؤلاء القوم : العرب؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بُعث فيهم أصالة وغيرهم تبعًا، وإلا فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ بُعث لجميع الثقلين الجن والإنس، كما قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ سورة الأعراف : آية 185 ] .
وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ سورة الأنبياء : آية 107 ] .
وقال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ سورة الفرقان : آية 1 ] .
وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [ سورة سبأ : آية 28 ] .
فرسالته عامة، وإن كان بُعث في العرب، وبدأ بإنذار العرب وهذا من التدرج في الإبلاغ، فهو يبلغ العرب ويبلغ غيرهم، ولهذا كتب ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك إلى كسرى وقيصر يدعوهم إلى الإسلام؛ لأنه رسول إليهم .(78/5)
{ مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ } [ سورة يس : آية 6 ] ، لا منافاة بين هذا وبين الآيات الأخرى التي فيها أن الله قد بعث في كل أمة رسولاً، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً } [ سورة النحل : آية 36 ] ، لأن العرب لم يبعث فيهم بعد إسماعيل - عليه السلام - رسول منهم، إلى أن جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يبعث في العرب رسول بعد إسماعيل إلا ابنه محمد صلى الله عليه وسلم . . وإن كانوا قد بلغتهم دعوة إبراهيم عليه السلام ودعوات الأنبياء، وأيضًا الذي بعث فيهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا في زمن فترة من الرسل .
ولم يبعث منهم رسول إلا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا مأمورين باتباع الأنبياء السابقين إلى أن بعث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمروا باتباعه .
{ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ } [ سورة يس : آية 7 ] يعني : وجب عليهم العذاب بكفرهم وعنادهم لهذا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعدم استجابتهم لدعوته، فلذلك حقت عليهم كلمة العذاب، { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [ سورة يس : آية 7 ] .(78/6)
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ، وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } [ سورة يس : الآيات 8-11 ] ، هذه الآيات كلها إلى قوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ } كلها في حق المعاندين الذين عرفوا الحق وبلغتهم الرسالة فاستكبروا وعاندوا واستمروا على عبادة الأصنام ودين الآباء والأجداد، وزهدوا بالحق الذي جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله جل وعلا ختم على قلوبهم عقوبة لهم، وحق عليهم العذاب فلا مناص لهم من ذلك، وعميت بصائرهم، فمثلهم مثل الذي غلَّت يداه إلى عنقه، وارتفع رأسه ونظره بسبب الغل الذي طوق عنقه، فلا يستطيع النظر إلى مواقع قدميه، وصار يمشي بين سدين إن تقدم تعثر بالسد الذي أمامه، وإن تأخر تعثر بالسد الذي خلفه، فاجتمع عليه عدة أمور :
أولاً : أنه مقمح بمعنى أنه مرتفع الرأس بسبب الغل الذي في عنقه، فلا ينظر إلى ما تحته .
وثانيًا : أن أمامه سد، ومن خلفه سد، وأن الله أغشى بصره فلا يبصر ما حوله، وهذا بسبب أنهم أعرضوا عن آيات الله ولم تصل إلى شغاف قلوبهم، ولم يصل نورها إلى أفئدتهم، فهم صاروا في ظلمات وفي تردد وفي زيغ والعياذ بالله، وهذا يحصل لكل من خلف هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، واستكبر عن دعوته بعد أن عرفها إلى يوم القيامة، نسأل الله العافية والسلامة .(78/7)
76 ـ يقول تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ سورة التوبة : آية 33 ] ما المراد بالهدى ودين الحق في الآية الكريمة ؟ وما المقصود بالدين كله ؟ وهل يفهم من هذا أن هناك اختلافًا في الأصول التي دعا إليها الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وبين ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم ؟
المراد بالهدى ودين الحق في قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } [ سورة التوبة : آية 33 ] أن الهدى هو : العلم النافع، ودين الحق هو : العمل الصالح، والمراد بقوله تعالى : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ سورة التوبة : آية 33 ] أن دين الإسلام الذي جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناسخ لجميع الأديان، وأنه سينتشر في الأرض ويبسط سلطانه على البشرية ويكثر أتباعه، ومن لم يدخل فيه من اليهود والنصارى فسيخضع له ويدفع الجزية لأهله، وقد تحقق وعد الله، فبلغ هذا الدين مشارق الأرض ومغاربها، وضرب الجزية على أهل الكتابين فأعطوها للمسلمين وهم صاغرون، كما أن هذا الدين ظاهر بالحجة والبرهان على سائر الأديان، وأصول دعوة الرسل عليهم السلام واحدة، فكلهم يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأما شرائعهم فهي مختلفة بحسب ما تقتضيه حاجة كل أمة وما يناسبها .
77 ـ ما معنى الآية : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا } [ سورة الإسراء : آية 60 ] ؟(78/8)
معنى الآية : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ } [ سورة الإسراء : آية 60 ] الرؤيا المراد بها : رؤيا العين التي رأى النبي ( ليلة الإسراء، كما ذكر ذلك في أول سورة النجم : { لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [ سورة النجم : آية 18 ] ، فالمراد بالرؤيا هنا رؤية العين، وليس المراد رؤيا المنام، وهي كما ذكر المفسرون كابن كثير وغيره أنها الآيات التي رآها ليلة عرج به ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السماء .
وأما الشجرة الملعونة فالمراد بها شجرة الزقوم؛ وذلك لأن المشركين افتتنوا بهاتين المسألتين :
أولاً : لما أخبرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أُسري به وعرج به إلى السماء في ليلة واحدة، فاستغربوا هذا، وفرح المشركون بذلك، وجعلوا يتندرون به ويضحكون منه، وكذلك ضعاف الإيمان من المسلمين منهم من ارتد عن الإيمان بسبب ذلك، أما أهل الثبات وأهل الإيمان فإنه ما زادهم ذلك إلا إيمانًا وثباتًا وتصديقًا بالنبي صلى الله عليه وسلم .
فهذا وجه الحكمة في هذه الرؤيا أن من الناس من فتن بها وارتد عن دينه، ومنهم من فرح وجعل يتندر بها كالكفار وأعداء الإسلام، ومنهم من زادتهم إيمانًا ويقينًا .
وأما شجرة الزقوم فكذلك، جعلوا يتندرون بها ويقولون : إن النار محرقة فكيف ينبت فيها شجر ؟ فالله جل وعلا بيَّن أنه يقدر على أن ينبت الشجر في النار كما قال تعالى : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ، إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } [ سورة الصافات : الآيات 62-65 ] .(78/9)
وقال تعالى في آية أخرى : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } [ سورة الدخان : الآيات 43-46 ] .
فالله جل وعلا قادر على أن ينبت الشجر في النار، وأن يكون هذا الشجر شجرًا حقيقيًا يبقى فيها .(78/10)
6 ـ الفتن وأشراط الساعة
78 ـ ما المراد بالفتن ؟ وما موقف المسلم منها مع بيان الفتن التي يجب عدم الخوض فيها والفتن التي تجب مواجهتها ؟
الفتن : جمع فتنة، والمراد بالفتنة : الابتلاء والامتحان، كفتنة المال والولد، والفتن على نوعين : فتن شبهات، وفتن شهوات، ففتن الشبهات، هي : العقائد الفاسدة والبدع والشكوك والأوهام، وفتن الشهوات : كفتنة المال والولد، وفتنة الزنا، والسرقة، وشرب المسكر - إلى غير ذلك - وموقف المسلم من الفتن جميعها أن يستعيذ بالله من شرها، وأن ينكر على مروجيها ويجاهدهم، ويسعى في إبعادها عن نفسه وعن إخوانه المسلمين، ويبطل شبهات الدعاة إلى الفتن .
79 ـ نسمع عن المسيح الدجال وعن فتنته التي استعاذ منها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمرنا بالاستعاذة منها، فمن هو المسيح الدجال ؟ وما صفته ؟ وما هي فتنته ؟ ومتى يظهر ؟ وماذا يجب فعله كي نأمن من خطره ؟
المسيح الدجال رجل يخرج آخر الزمان، ويتبعه اليهود، وخروجه عن علامات الساعة، وهو يخرج معه بفتن عظيمة تؤثر على ضعاف الإيمان، وقد يهلك بسببه خلق كثير من الناس، إلا من عصم الله سبحانه وتعالى، أما أوصافه فإنه رجل كافر، وأعور، وفاتن، يفتن الناس، ويريد تحويلهم عن دينهم بشتى الوسائل، ففتنته عظيمة، وخطره عظيم، وهو يخرج قرب قيام الساعة، وفتنته خاصة بالأحياء، ويجب علينا أن نستعيذ بالله من فتنته كما أمرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (1).
80 ـ هل هناك أماكن لا يصل إليها المسيح الدجال ؟
لا يصل مكة ولا المدينة النبوية، ويسير في الأرض بسرعة إلا مكة والمدينة، فإنه يمنع من دخولهما، ولكن المدينة ترجف وتُخرج منها كل منافق .
81 ـ ما مدى صحة الحديث الذي معناه : ( إن الدين يأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها ) ؟ وما هو لفظ الحديث كاملاً ؟ وما معناه ؟
أما درجة الحديث فقد أخرجه الترمذي رحمه الله، وقال عنه : حديث حسن .(79/1)
أما لفظه فهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( إن الدين يأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من الجبل، إن الدين بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء : وهم الذي يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي ) [ رواه الترمذي في " سننه " ( 7/288 ) من حديث عمرو بن عوف بن زيد بن ملحمة عن أبيه عن جده ] .
ومعناه : أن الإيمان والدين في آخر الزمان يجتمع في الحجاز، وأنه يعتصم به كما يعتصم الصيد برأس الجبل، وأن الإسلام يعودُ غريبًا كما بدأ غريبًا أول ما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من تمسك به فإن له الجنة، فقد ورد في معنى هذا الحديث حديثٌ آخر رواه مسلم : ( إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 1/131 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ] ، والله أعلم .
82 ـ ما مدى صحة هذا الحديث وما معناه : ( لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق عند الله ) ؟
الحديث صحيح رواه الإمام الحاكم في " مستدركه " ، وقال : صحيح الإسناد [ رواه الحاكم في " مستدركه " ( 4/494 ) ، من حديث أبي الأحوص عن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ بلفظ : ( على شرار الخلق ) فقط .
ورواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 4/2268 ) من حديث أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه ] . ومعناه واضح أنه في آخر الزمان عند قيام الساعة تقبض أرواح المؤمنين - كما ورد في الحديث - ولا يبقى إلا الكفار، وعليهم تقوم الساعة .
83 ـ الحديث الآخر : ( لا تقوم الساعة حتى لا يُقال في الأرض : الله الله ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/131 ) من حديث أنس رضي الله عنه ] ؟
لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق وعلى الكفار، أما المؤمنون فإنهم تقبض أرواحهم قبل ذلك .(79/2)
7 ـ القضاء والقدر
84 ـ ما المراد بحديث : ( لا يرد القدر إلا الدعاء ) ؟ وما المقصود منه ؟
حديث : ( لا يرد القدر إلا الدعاء ) أخرجه الحاكم وغيره [ رواه الحاكم في " مستدركه " ( 1/493 ) . من حديث ثوبان رضي الله عنه، ورواه الترمذي في " سننه " ( 6/313 ) من حديث سلمان رضي الله عنه بلفظ : " لا يرد القضاء . . " ] ، ومعناه : أن الدعاء سبب في حصول الخير، وأن هناك أشياء مقدرة ومربوطة بأسباب، فإذا تحقق السبب وقع المقدر، وإذا لم يتحقق السبب لم يقع، فإذا دعا المسلم ربه حصل له الخير، وإذا لم يدعُ وقع به الشر، كما جعل الله صلة الرحمن سببًا لطول العمر، وقطيعة الرحم سببًا لضده، والله أعلم .
85 ـ ما معنى قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ سورة السجدة : آية 13 ] ؟
هذا بعد قوله تعالى عن المشركين : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [ سورة السجدة : آية 12 ] ( يعني : يوم القيامة ) إذا رأوا العذاب ووقفوا على الحقيقة : { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [ سورة السجدة : آية 12 ] .
قال تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [ سورة السجدة : آية 13 ] .(80/1)
وكما في قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ سورة الأنعام : آية 27 ] يقولون ذلك حينما يعاينون العذاب والحقيقة التي كفروا بها من قبل وجحدوها، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلم من حالهم أنهم لا يصلحون للهداية، وأنهم لا يصدقون في مقالتهم هذه، ولهذا قال : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ سورة الأنعام : آية 28 ] .
فالله سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه قسم الخلق إلى شقي وسعيد وابتلاهم وامتحنهم ليظهر المطيع المنقاد من العاصي المتمرد، وجعل لهم دارين : دار الجنة للمتقين المؤمنين، ودار العذاب - وهي جهنم - للكفار والمنافقين، ولهذا قال : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ } أي : من الجن، { وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ سورة السجدة : آية 13 ] أي : من الإنس الذين كفروا بالله عز وجل وجحدوا بآياته وعاندوا بعد المعرفة، وعصوا بعد قيام الحجة، فهم لا يصلحون لهداية، ولا يقبلون الخير والنور والهدى تكبرًا وعنادًا، ولذلك كانت عاقبتهم النار .
86 ـ نعلم حكمة ما يصيب الإنسان المسلم من مصائب، فقد تكون امتحانًا وابتلاء، وقد تكون عقوبة لما حصل منه من أخطاء، هنا يأتي سؤال : ما الحكمة من المصائب التي تقع على الإنسان الكافر ؟ وما الحكمة من وقوع المصائب والأوجاع على الأطفال الصغار ؟ حيث تقع على بعض الأطفال دون البعض الآخر ؟ وماذا يُقال عن المصائب ( من مرض أو كسر أو جرح ) التي تقع على بعض الحيوانات والطيور ؟(80/2)
حكمة الله تعالى في خلقه لا يمكن الإحاطة بها، فمنها ما ندركه، ومنها ما لا ندركه، لكننا نقطع ونؤمن أن الله سبحانه لا يفعل شيئًا إلا لحكمة بالغة، لأنه سبحانه منزه عن العبث، وما يصيب الكافر من المصائب فإنه عقوبة على كفره ومعاصيه، قال تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ سورة السجدة : آية 21 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ } [ سورة الطور : آية 47 ] ، وأما ما يصيب الصغار، فإنه قد يكون عقوبة لآبائهم أو ابتلاء لآبائهم، ليظهر صبرهم واحتسابهم إلى غير ذلك، وكذا ما يصيب البهائم فإنه عقوبة لملاكها أو ابتلاء لهم، قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [ سورة البقرة : الآيتين 155، 156 ] .
87 ـ إن الله تعالى خلق الإنسان ويعلم في علم الغيب عنده إن كان شقيًا أم سعيدًا صالحًا أم كافرًا، فلماذا إذن يعذبه حينما يعصيه ويدخله النار علمًا بأن الله سبحانه وتعالى هو الحكم العدل ؟(80/3)
لا شك أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء، وقدر كل شيء قال تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ سورة القمر : آية 49 ] ، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم ما العباد عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً وأبدًا، ولكنه سبحانه وتعالى لا يعذب العباد بمقتضى العلم والقدر، فلا يعذبهم لأنه يعلم أنهم يعملون كذا أو لأنه قدر عليهم كذا وكذا، ولكنه يعذبهم بأعمالهم التي اكتسبوها باختيارهم وقدرتهم كما قال تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ سورة البقرة : آية 286 ] . وقال تعالى : { وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ سورة يس : آية 54 ] .
والله سبحانه وتعالى قد أقام الحجة على خلقه بإرسال الرسل قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ سورة الإسراء : آية 15 ] ، وبإنزال الكتب، وببيان طريق الخير من طريق الشر، وبإعطاء العباد قدرة واختيارًا بها يعملون ويختارون، فهو يعذبهم بمقتضى ذلك، ولا يعذبهم بمجرد علمه أنهم يعملون هذه الأعمال، وإنما يعذبهم إذا عملوها ووقعت منهم فعلاً فظهرت منهم واكتسبوها، وهو سبحانه وتعالى حكم عدل لا يظلم أحدًا، وإنما يجازي العبد بأفعاله وأعماله ونياته ومقاصده التي قدمها لنفسه : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } [ سورة فصلت : آية 46 ] .(80/4)
فإذا علمت أن الله قد بيّن لك طريق الخير وطريق الشر، وأعطاك القدرة والاختيار والاستطاعة، وأمرك أن تطيعه، ونهاك أن تعصيه ثم خالفت ذلك وأقدمت على المعصية باختيارك وطوعك وقدرتك، فإنك تستحق العقوبة بموجب العقل والشرع، ولو أن أحدًا من الناس اعتدى عليك وضربك وأخذ مالك فإنك لا تسكت وتقول : الله يعلم أنّ هذا الشخص يعمل بي كذا وكذا أو قدر ذلك ؟ ولكن تغضب وتطلب الانتقام منه والقصاص منه والعدل فيه؛ لأنك ترى أن هذه جريمة، وأن هذا عدوان عليك يستحق به العقاب، فكيف ترى العدوان في حق غيرك ولا ترى العدوان في حق نفسك ؟ ! وهذا أمر واضح لمن تدبره وعقله .(80/5)
8 ـ فرع في عمل الإنسان
88 ـ ما معنى الآيتين الكريمتين في قوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى } [ سورة النجم : آية 39 ] وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ سورة الطور : آية 22 ] وهل بينهما نسخ أو تعارض وماذا نستفيد منهما ؟
ليس بين الآيتين إشكال ذلك أن الآية الأولى فيها أن الإنسان لا يملك إلا سعيه، ولا يملك سعي غيره، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فملكيته محصورة في سعيه لا ينفعه إلا سعيه، بينما الآية الأخرى فيها أن الذرية إذا آمنت فإنها تلحق بآبائها في الجنة، وتكون معهم في درجتهم وإن لم تكن عملت عملهم، فالذرية إذن استفادت من عمل غيرها .
قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ سورة الطور : آية 22 ] الآية الكريمة تدل على أن الذرية يلحقون بآبائهم في درجاتهم، ويرفعون في درجاتهم، وإن لم يكن عملهم كعمل آبائهم .
فظاهر الآية أنهم انتفعوا بعمل غيرهم وسعي غيرهم بينما الآية الأخرى تفيد أن الإنسان لا ينفعه إلا سعيه، وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال بعدة أجوبة الجواب الأول : أن الآية الأولى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى } مطلقة والآية الثانية : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } مقيدة، والمطلق يحمل على المقيد كما هو مقرر في علم الأصول .
والقول الثاني : أن الآية الأولى : تخبر أن الإنسان لا يملك إلا سعيه ولا ينفعه إلا سعيه ولكنها لم تنف أن الإنسان ينتفع بعمل غيره من غير تملك له، فالآية الأولى في الملكية، والآية الثانية في الانتفاع .(81/1)
إن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره وإن لم يكن ملكه، ولهذا ينفعه إذا تصدق عنه وينفعه إذا استغفر له ودعا له، فالإنسان يستفيد من دعاء غيره ومن عمل غيره وهو ميت، والانتفاع غير الملكية، فالآية الأولى في نوع، والآية الثانية في نوع آخر، ولا تعارض بينهما .
وهذا الجواب أحسن من الأول .
وهناك جواب ثالث هو أن الآية الأولى منسوخة، لأنها في شرع من قبلنا لأن الله تعالى يقول : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى } [ سورة النجم : الآيات 36-39 ] فهذه تحكي ما كان في صحف موسى وصحف إبراهيم عليهما السلام . لكن جاءت شريعتنا بأن الإنسان ينتفع بعمل غيره فيكون ذلك نسخًا، وهذا الجواب ضعيف، والجواب الذي قبله أرجح في نظري .
89 ـ هل من شروط صحة العمل الصالح المداومة عليه ؟
العمل الصالح إذا كان من الواجبات فلا بد من المداومة عليه، ولا يجوز تركه . قال تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } [ سورة البقرة : آية 238 ] وكذلك بقية الواجبات المتكررة، وأما العمل الصالح المستحب فلا يشترط المداومة عليه، بل له أجر ما فعل ولو لم يداوم عليه، ولكن تستحب المداومة عليه لتكثير الأجر والثواب . وإن كان ينوي فعله ولم يتمكن منه لعذر حال بينه وبينه كتب الله له أجر ذلك العمل الذي نواه كما في الأحاديث الصحيحة (1) .
90 ـ كيف يكون ترك العمل خوفًا من الرياء رياء ؟(81/2)
لا يجوز ترك العمل الصالح من أجل الخوف من الرياء، لأن هذا من تثبيط الشيطان، ولكن على المسلم أن يعمل العمل الصالح، ويخلص فيه نيته لله، ويحرص على إخفاء عمله عن الناس إلا ما يشرع إظهاره كصلاة الجماعة وإظهار الصدقة على المحتاجين حتى يعرفهم الناس فيقتدون به ويتصدقون عليهم؛ لأن هذا من السنة الحسنة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 2/704، 705 ) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه ] .
91 ـ هل عمل الإنسان في حياته يتحكم في طريقة موته ؟
المسلم إذا كان ملازمًا لطاعة الله مستقيمًا على طاعته فإنه حريّ أن يختم له بالخير، وأن يموت على ما عاش عليه من الطاعة والعقيدة والتوحيد؛ والذي يضيّع نفسه في المعاصي وأوقاته في المخالفات فإنه يخشى عليه من سوء الخاتمة، وأن يموت على خاتمة سيئة .
فعلى المسلم أن يحفظ عمره في طاعة الله سبحانه وتعالى، وأن لا يدركه الموت وهو على حالة سيئة . فالعمل الصالح والطاعة من الأسباب التي يرجى لصاحبهما أن يختم له بالخير . وأما المعصية والمخالفات وإضاعة الواجبات فهي من الأسباب التي يخاف أن يختم لصاحبها بشرٍّ .
فحسن الخاتمة وسوء الخاتمة لا شك أنهما متعلقان بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى . وقد جاء في الحديث ( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها . وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) هذا من ناحية القضاء والقدر .
لكن من ناحية عمل الإنسان واهتمام الإنسان، فإن عليه أن يحرص على طاعة الله، ويجتنب معصيته ويتمسك بذلك، وهذا من الأسباب التي يوفقه الله بها لحسن الخاتمة، والموت على الإسلام .(81/3)
والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهو يحب التوابين، ويحب المتطهرين والمحسنين، ورحمته قريب منهم، وما على الإنسان إلا أن يبذل الأسباب التي تجلب له حسن الخاتمة، ويترك الأسباب التي تجلب له الشر، وكل ميسر لما خلق له . والله الموفق .(81/4)
9 ـ من نواقض الإسلام
92 ـ ما هي نواقض الإسلام وما هي الكتب التي شرحتها بالتفصيل حتى نحذر من الوقوع فيها ؟
نواقض الإسلام كثيرة وخطيرة جدًا - أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها - وقد يكون بعضها خفيًا يحتاج إلى عناية وتنبيه، وقد ذكر الشيخ محمد ابن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - عشرة من نواقض الإسلام، وهي رسالة مستقلة مطبوعة ضمن " مجموعة التوحيد " ، وكذلك من أراد التوسع في معرفة هذا الباب المهم فليرجع إلى باب الردة في " كشاف القناع " في الفقه الحنبلي أو في غيره من كتب الفقه في المذاهب الأخرى، فإن باب الردة يتضمن بيان الأسباب التي يرتد بها الشخص بعد إسلامه . وهذه النواقض العشرة التي ذكرها الشيخ رحمه الله :
الأول منها : الشرك في عبادة الله عز وجل، ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو القبر .
والثاني : من نواقض الإسلام : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم .
والثالث : من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم .
والرابع : من اعتقد أن غير هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه صلى الله عليه وسلم .
والخامس : من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يرتد ولو عمل به .
والسادس : من استهزأ بشيء من دين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو ثوابه أو عقابه، والدليل قوله تعالى : { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ سورة التوبة : الآيتين 65، 66 ] .
السابع : السحر تعلمه وتعليمه فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [ سورة البقرة : آية 102 ] .(82/1)
والثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ سورة المائدة : آية 51 ] .
والتاسع : من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهذا كافر .
والعاشر : الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } [ سورة السجدة : آية 22 ] قال الشيخ رحمه الله تعالى : ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعًا فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه .
93 ـ ما مدى صحة الحديث القائل : ( من بدل دينه فاقتلوه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/50 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] وما معناه وكيف نجمع بينه وبين قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [ سورة البقرة : آية 256 ] وبين قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ سورة يونس : آية 99 ] وبين الحديث القائل : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل ) وهل يفهم أن اعتناق الدين بالاختيار لا بالإكراه ؟(82/2)
أولاً الحديث ( من بدل دينه فاقتلوه ) حديث صحيح رواه البخاري وغيره من أهل السنة بهذا اللفظ : ( من بدل دينه فاقتلوه ) . وأما الجمع بينه وبين ما ذكر من الأدلة فلا تعارض بين الأدلة ولله الحمد . لأن قوله صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 8/50 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] في المرتد الذي يكفر بعد إسلامه فيجب قتله بعد أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وأما قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [ سورة البقرة : آية 256 ] وقول تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ } [ سورة يونس : آية 99 ] فلا تعارض بين هذه الأدلة؛ لأن الدخول في الإسلام لا يمكن الإكراه عليه؛ لأنه شيء في القلب واقتناع في القلب، ولا يمكن أن نتصرف في القلوب، وأن نجعلها مؤمنة، هذا بيد الله عز وجل هو مقلب القلوب، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء .
لكن واجبنا الدعوة إلى الله عز وجل والبيان والجهاد في سبيل الله لمن عاند بعد أن عرف الحق، وعاند بعد معرفته، فهذا يجب علينا أن نجاهده، وأما أننا نكرهه على الدخول في الإسلام، ونجعل الإيمان في قلبه هذا ليس لنا، وإنما هو راجع إلى الله سبحانه وتعالى لكن نحن، أولاً : ندعو إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة ونبيّن للناس هذا الدين .
وثانيًا : نجاهد أهل العناد وأهل الكفر والجحود حتى يكون الدين لله وحده، عز وجل، حتى لا تكون فتنة .(82/3)
أما المرتد فهذا يقتل، لأنه كفر بعد إسلامه، وترك الحق بعد معرفته، فهو عضو فاسد يجب بتره، وإراحة المجتمع منه؛ لأنه فاسد العقيدة ويخشى أن يفسد عقائد الباقين، لأنه ترك الحق لا عن جهل، وإنما عن عناد بعد معرفة الحق، فلذلك صار لا يصلح للبقاء فيجب قتله، فلا تعارض بين قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [ سورة البقرة : آية 256 ] وبين قتل المرتد، لأن الإكراه في الدين هنا عند الدخول في الإسلام، وأما قتل المرتد فهو عند الخروج من الإسلام بعد معرفته وبعد الدخول فيه .
على أن الآية قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [ سورة التوبة : آية 5 ] فيها أقوال للمفسرين منهم من يقول : إنها خاصة بأهل الكتاب، وأن أهل الكتاب لا يكرهون، وإنما يطلب منهم الإيمان أو دفع الجزية فيقرون على دينهم إذا دفعوا الجزية، وخضعوا لحكم الإسلام، وليست عامة في كل كافر، ومن العلماء من يرى أنها منسوخة بقوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ سورة التوبة : آية 5 ] فهي منسوخة بهذه الآية .
ولكن الصحيح أنها ليست منسوخة، وأنها ليست خاصة بأهل الكتاب، وإنما معناها أن هذا الدين بيِّن واضح تقبله الفطر والعقول، وأن أحدًا لا يدخله عن كراهية، وإنما يدخله عن اقتناع وعن محبة ورغبة . هذا هو الصحيح .
94 ـ ما رأي الدين في الذين يستنجدون بالرسل أو الأنبياء أو الأولياء عندما تحل بهم كارثة كأن يقول الشخص الذي حلت به المصيبة : يا رسول الله أو بالمهدي أو نحو ذلك ؟(82/4)
الذين يستنجدون بالأموات من الرسل والأولياء والصالحين أو الأحياء فيما لا يقدرون عليه، ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات مشركون شركًا أكبر؛ لأنه لا يطلب مثل هذه الأمور إلا من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الاستغاثة والدعاء من أنواع العبادة، والعبادة كلها مستحقة لله، وصرفها لغيره شرك، وهؤلاء الأموات لا يقدرون على مساندة من ناداهم ولا نجدة من دعاهم لأنهم أموات انتقلوا إلى الدار الآخرة فالاستنجاد والاستغاثة بالأموات والغائبين لطلب النجدة ولطلب الإغاثة ولطلب تفريج الكرب وكشف الغم وغير ذلك كل هذا من الوثنية ومن شركيات الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها قال تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } [ سورة يونس : آية 18 ] وقال سبحانه وتعالى : { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ سورة الزمر : آية 2، 3 ] .(82/5)
وهذا الذي ذكره السائل من أنواع الشرك الأكبر، وعلى من فعله أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة صحيحة، وأن يرجع إلى رشده، وأن يترك هذا الشرك الذي إذا مات عليه فهو خالد مخلد في النار - نسأل الله العافية والسلامة - قال تعالى : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ سورة المائدة : آية 72 ] ، مع أن يحبط عمله في الدنيا قال تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } [ سورة الزمر : آية 65، 66 ] فالشرك محبط للعمل ومخلد في النار إلا من تاب وآمن وعمل صالحًا، فإن الله يتوب عليه ومن تاب تاب الله عليه . والتوبة تَجُبُّ ما قبلها، فعلى من وقع في مثل هذه الأمور أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة صحيحة، وأن يخلص العبادة بجميع أنواعها لله، وأن ينقذ نفسه من النار قبل أن يحضره الأجل، وهو على عقيدة الشرك، نسأل الله العافية والسلامة .
95 ـ هناك من يقع في التوسل بغير الله، ويطل بالمدد من الأولياء والصالحين رغم أنه يوحد الله بالقول ويصلي ويصوم، وإذا نهيناه عن ذلك كابر وجادل وحاول أن يحرِّف في معاني القرآن ويقول : إنني لا أطلب الرزق مباشرة أو دفع الضر، ولكني أطلب من الله ببركتهم وصلاحهم وتقواهم فهل في هذا فرق بين من يطلبهم مباشرة أو يطلب الله بواسطتهم وهل هذا القائل على حق أم لا ؟(82/6)
التوسل بالأموات والغائبين أمر محرم ولا يجوز، لأن الميت والغائب لا يقدر أن يعمل شيئًا مما طلب منه ثم هذا يختلف حكمه باختلاف نوع التوسل، فإن كان توسلاً بالغائب والميت، ويتقرب إليه بشيء من أنواع العبادة كالذبح له والنذر له ودعائه فهذا شرك أكبر ينقل من الملة ـ والعياذ بالله ـ لأنه صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله، أما إذا كان التوسل بالغائب والميت بمعنى أنه يدعو الله سبحانه وتعالى، ويجعل هذا واسطة فيقول : أسألك بحق فلان فهذا بدعة لا يصل إلى حد الشرك الأكبر، لكنه بدعة محرمة، وهو وسيلة إلى الشرك، وباب إلى الشرك، فلا يجوز التوسل بالأموات والغائبين بهذا المعنى، فإن كان يطلب منهم الحاجة، ويذبح لهم فهذا شرك أكبر، قال الله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } [ سورة يونس : آية 18 ] .
96 ـ نرجو من فضيلتكم إيضاح أمر الاستعانة والاستغاثة بغير الله المباحة والمحرمة ؟(82/7)
الاستعانة والاستغاثة بغير الله فيهما تفصيل : فإن كانت فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه من شفاء المرضى وجلب الخير ودفع الشر، أو الاستغاثة بالموتى، فهي شرك أكبر؛ لأنها صرف للعبادة لغير الله تعالى، فالاستعانة والاستغاثة اللتان من هذا النوع من أعظم أنواع العبادة . . قال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ سورة الفاتحة : آية 5 ] . وقال تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } [ سورة الأنفال : آية 9 ] ، أما إذا كانت الاستعانة والاستغاثة بالمخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه من دفع عدو أو إعانة على حمل شيء فلا بأس بها . قال تعالى : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } [ سورة القصص : آية 15 ] قال الشيخ عبد الرحمن ابن حسن - رحمه الله - في " فتح المجيد " نقلاً عن الشيخ صنع الله الحلبي : والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسيّة في قتال أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه كقولهم : يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة، ولا تجوز الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه، فهي من خصائص الله لا يطلب فيها غيره (1) . . انتهى .
97 ـ بعض الناس حينما يصاب لهم قريب أو عزيز يذهبون به إلى شخص يسمونه " الطبيب الشعبي " وحينما يؤتى بالمريض إلى هذا الطبيب يسرد لولي المريض جملة من الأمراض، ويؤكد بأن هذا المريض لن يشفى إلا إذا ذبح له حيوان معيّن لا يذكر اسم الله عليه، ويدفن بعد ذلك في مكان يحدده .
هل إذا فعل الإنسان ذلك طلبًا للشفاء غير قاصد الشرك يكون آثمًا، وهل يعتبر ذلك من الشرك الأكبر ثم ما تأثير الذبح لغير الله عمومًا على عقيدة المسلم ؟(82/8)
الذبح لغير الله من أجل شفاء المريض أو لغير ذلك من الأغراض شرك أكبر، لأن الذبح عبادة قال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ سورة الكوثر : آية 2 ] وقال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ سورة الأنعام : الآيتين 162، 163 ] فأمر سبحانه بأن يكون الذبح لله وحده، وقرنه مع الصلاة، كما أمر سبحانه بالأكل مما يذكر اسم الله عليه من الذبائح، ونهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، قال تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } [ سورة الأنعام : آية 118 ] إلى قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [ سورة الأنعام : آية 121 ] .
فالذبح لغير الله شرك أكبر لأي غرض من الأغراض سواء كان لأجل شفاء المريض كما يزعمون أو لغير ذلك من الأغراض، وهذا الذي يأمر أقارب المريض بأن يذبحوا ذبيحة لا يذكرون اسم الله عليها مُشعوذ يأمر بالشرك، فيجب إبلاغ ولاة الأمور عنه ليأخذوا على يديه، ويريحوا المسلمين من شره .
والله سبحانه وتعالى جعل لنا أدوية مباحة يعالج بها المرضى، وذلك بأن نذهب إلى الأطباء والمستشفيات، ونعالج بالعلاج النافع المباح . وكذلك شرع الله سبحانه لنا الرقية بكتابه بأن نقرأ على المريض من كتاب الله، وندعو الله له بالشفاء بالأدعية الواردة . . وفي هذا كفاية للمؤمن { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } [ سورة الطلاق : آية 3 ] أما هؤلاء المشعوذون فإنهم كذّابون دجّالون يريدون إفساد عقائد المسلمين، وأكل أموال الناس بالباطل، فلا يجوز تركهم يعبثون بالناس، ويضلونهم بل يجب ردعهم، وكف شرهم . .(82/9)
أما تركهم فإنه من أعظم المنكر والفساد في الأرض . . ويجب على المسلم المحافظة على عقيدته، فلا يعالج جسمه بما يفسد دينه وعقيدته، ولا يذهب إلى هؤلاء المشبوهين والدجّالين . وإذا كانوا يخبرون الناس عن الأشياء الغائبة فهم كُهّان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أتى كاهنًا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " رواه أحمد وأبو داود والترمذي [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 2/408، 476 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/14 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 1/164 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/209 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 7/198 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/275، 276 ) ، كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وانظر " تحفة الأشرف " ( 10/123، 124 ) ] .
98 ـ هل تجوز الصلاة خلف إمام يعتقد بالأولياء والصالحين ؟
الاعتقاد بالأولياء والصالحين بأنهم ينفعون ويضرون أو يشفون المرضى أو يفرجون الكربات كما يعتقده القبوريون اليوم بأصحاب الأضرحة هذا شرك أكبر - والعياذ بالله - صاحبه خارج عن الملة؛ لأنه يعبد غير الله عز وجل؛ لأنه لا يملك الضر والنفع، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات إلا الله، لا يملك ذلك إلا الله سبحانه وتعالى، والاعتقاد بالأموات والمقبورين أنهم ينفعون أو يضرون أو حتى بالأحياء أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى من شفاء المرضى وجلب الرزق ودفع الضر هذا شرك أكبر؛ لأنه تعلق على غير الله سبحانه وتعالى، وتوكل على غير الله بل وصرف أعظم أنواع العبادة لغير الله عز وجل، فهذا الإمام إذا كان كما ذكرت فإنه ليس من أهل الإسلام مادام على هذا الاعتقاد ولا تصح إمامته، لأنه مشرك بالله عز وجل .(82/10)
99 ـ الأصناف الثمانية الذين تدفع إليه الزكاة أوضحهم القرآن الكريم في قوله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ . . . } إلى آخر الآية [ سورة التوبة : آية 60 ] ولكن هناك أي ما يسمون أنفسهم شيوخًا ولا يتصفون بصفة من صفات أهل الزكاة المستحقين لها بل هم أغنياء ولكن هم يأخذون الزكاة من الناس بسبب اعتقاد البعض من العوام أنهم أصحاب أنساب رفيعة ومكانة عالية، ويجب أن ينالوا رضاهم وإلا أصيبوا بمصائب وعواقب وخيمة حتى إنهم يحلفون بهم ويستثنون مشيئتهم مع مشيئة الله فما حكم مثل هذا العمل ؟
هذا العمل حرام من وجهين :
أولاً : أنه إعطاء للزكاة لغير مستحقيها والله يقول : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ . . . } [ سورة التوبة : آية 60 ] إلخ فحصرها في ثمانية أصناف، وهؤلاء ليسوا من هؤلاء الأصناف فهم أخذوها بغير حق فلا تبرأ ذمة الدافع، ولا تباح للمدفوعة له فهي سحت وحرام .
أما الأمر الثاني : فهو ما اقترن بذلك من أن هؤلاء يتعظمون على الخلق ويترفعون عليهم، ويزعمون أنهم يصيبونهم بالأذى والأمراض إذا لم يدفعوا لهم، هذا من اتخاذهم أربابًا من دون الله عز وجل، فاعتقاد أن مخلوقًا ينفع أو يضر من دون الله عز وجل هو الشرك الأكبر، والعياذ بالله .(82/11)
والواجب أن يفقه هؤلاء أن لا أحد من المخلوقين مهما ارتفع نسبه وشرف أصله لا يصلح أنه يعتقد فيه أنه ينفع أو يضر من دون الله أو أن له تأثيرًا في الكون أو جلبًا للرزق أو دفعًا للشر، فهذا كله لله عز وجل الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير، أما هؤلاء فهم مخلوقون محتاجون إلى الله، وهم ضعاف ليس لهم تأثير . فالله سبحانه وتعالى يقول : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ سورة الحجرات : آية 13 ] جعل التقوى هي سبب الكرامة أما النسب فإنه لا تأثير له عند الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ سورة المؤمنون : آية 101 ] ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى ) [ رواه أبو نعيم في " الحلية " ( 3/100 ) من حديث جابر رضي الله عنه ورواه غيره ] ، فهؤلاء مثل غيرهم ليس لهم كرامة إلا بالتقوى، أما نسبهم أو أصلهم فلا دخل له ولا ينفعون ولا يضرون، بل هم من أحقر الناس إذا لم يتقوا الله سبحانه وتعالى، أما إذا اتقوه فيكونون من أشرف الناس، ومن أرفع الناس عند الله سبحانه وتعالى، ولكن ليس لهم من الأمر شيء .
100 ـ لي زوجة ولي منها أولاد ولكنها للأسف لا تؤدي الصلاة، وقد طلبت منها ذلك مرارًا ونصحتها ولكنها لا تُطيع وتصرُّ على ترك الصلاة فهل أستمر في حياتي معها أم أفارقها ؟ أفيدونا وفقكم الله .(82/12)
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي الفارقة بين المسلم والكافر، قال صلى الله عليه وسلم : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/346 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/283 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 1/231، 232 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/342 ) ، كلهم من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه ] ، وقال : ( بين العبد وبين الكفر - أو الشرك - ترك الصلاة ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/88 ) من حديث جابر بن عبد الله بنحوه ] والأحاديث في هذا كثيرة، والصلاة هي عمود الإسلام، فمن تركها متعمدًا فإنه كفر بذلك سواء تركها جاحدًا لوجوبها أو تركها تكاسلاً على الصحيح من قول العلماء، فالذي يترك الصلاة جاحدًا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، وهذه المرأة التي يسأل عنها السائل تركت الصلاة، وقد نصحها مرارًا، واستمرت على ترك الصلاة هذه تعتبر كافرة لا يجوز بقاء المسلم زوجًا لها قال تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ سورة البقرة : آية 221 ] وقال تعالى : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [ سورة الممتحنة : آية 10 ] ، وهذه كافرة يتعين عليك تركها، ويعوضك الله خيرًا منها من المسلمات الصالحات إن شاء الله تعالى . وإن تابت، وحافظت على الصلاة، فجدد العقد عليها إن كنت تريدها .
101 ـ لي بعض أقارب لا يصلون تهاونًا وكسلاً، وقد نصحتهم كثيرًا ولكن دون جدوى فهل أستمر في مواصلتهم والإحسان إليهم على أمل التأثير عليهم أم أقاطعهم وأعاملهم على أنهم كفار، وما الحكم فيمن يصوم رمضان وهو لا يصلي وهل الأفضل أن يصوم وهو لا يصلي أو يترك الصيام مادام لا يصلي ؟(82/13)
لا شك أن الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمود الإسلام، وأمرها في الإسلام أمر مهم ومكانتها عظيمة، وقد أكد الله سبحانه وتعالى في شأنها في آيات كثيرة في كتابه الكريم، أمر بإقامتها، وأثنى على الذين يقيمونها، ويحافظون عليها، ووعدهم بجزيل الثواب، وتوعد الذين يتساهلون في شأنها، أو يتركونها ولا يقيمونها بأشد الوعيد مما يؤكد على المسلم أن يهتم بشأن الصلاة، وأن يحافظ عليها، ويداوم عليها، وأن ينكر على من يتخلف عنها أو يتساهل فيها أشد النكير، وأن يكون اهتمام المسلمين بوجه عام بالصلاة اهتمامًا بالغًا . يتواصون بإقامتها، ويتناصحون في شأنها ويأخذون على يد من يتهاون بها أو يتخلف عنها كما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الكرام والسلف الأول من صدر هذه الأمة .(82/14)
أما من يترك الصلاة متعمدًا فإنه إن كان مع تركه لها جاحدًا لوجوبها ويرى أنها غير واجبة، وأنها ليست بشيء فهذا كافر بإجماع المسلمين، ليس له في الإسلام نصيب، وإن كان يقر بوجوبها ويعترف بركنيتها ومكانتها في الإسلام، ولكنه تركها تهاونًا وتكاسلاً، فإنه يكون كافرًا أيضًا على أصح قولي العلماء، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في الكفار : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ سورة التوبة : آية 5 ] ويقول في الآية الأخرى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ سورة التوبة : آية 9 ] والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة من تركها فقد كفر ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 5/346 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 7/283 ) ، ورواه النسائي في " سننه " ( 1/231، 232 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/342 ) ، كلهم من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ) [ رواه مسلم في " صحيحه " ( 1/88 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بنحوه ] ، والأحاديث في هذا كثيرة جدًا .(82/15)
وما ذكرت أيها السائل من أن لك أقارب يتركون الصلاة، وأنك تناصحهم، فهل تستمر على ذلك وتواصلهم رجاء التأثير عليهم ؟ نعم يجب عليك أن تناصحهم وأن تنكر عليهم، وأن تواصل ذلك معهم لعل الله أن يهديهم على يدك، وأن تكون سببًا في إنقاذهم من الكفر ومن النار . أما إذا كانوا لا تجدي فيهم النصيحة، ولا ينفع فيهم الوعظ والتذكير، فإنه يجب عليك أن ترفع بشأنهم لولاة الأمور وأهل الحسبة ليأخذوا على أيديهم، ولا يجوز تركهم على حالهم أبدًا إذا كان المسلم يستطيع أن ينكر عليهم، وأن يقوم عليهم ويناصحهم ويرفع بشأنهم لولاة الأمر . فإن لم يكن هناك من يلزمهم بالصلاة فاعتزلهم وابتعد عنهم وأبغضهم في الله .
أما الصيام مع ترك الصلاة فإنه لا يجدي ولا ينفع ولا يصح مع ترك الصلاة، ولو عمل الإنسان مهما عمل من الأعمال الأخرى من الطاعات فإنه لا يجديه ذلك مادام أنه لا يصلي لأن الذي لا يصلي كافر، والكافر لا يقبل منه عمل، فلا فائدة من الصيام مع ترك الصلاة .
والواجب عليهم أن يقيموا الصلاة ويقيموا أركان الإسلام كلها، لأن الإسلام بني على خمسة أركان لابد من إقامتها، ومن آكدها بعد الشهادتين الصلاة وهي عمود الإسلام فمن ترك الصلاة فإنه لا يصح منه عمل من الأعمال الأخرى، والله أعلم .
102 ـ أنا أبلغ من العمر 36 عامًا ولكن أكثر أعمالي خلال هذا العمر غير مرضية فقد ارتكبت كثيرًا من المخالفات، ولم أكن أصوم رمضان سوى من عامين فقط، وكذلك الصلوات فماذا يجب عليّ نحو الصلاة والصيام، فإني قد عقدت العزم على التوبة الصادقة إلى الله ؟ كذلك حلفت أيمانًا كثيرة وقد حنثت في الكثير منها ولكني أجهل عددها فهل عليّ كفارة وكيف تؤدى وأنا أجهل عدد الأيمان التي حنثت فيها ؟(82/16)
أما القضية الأولى وهي تركك للصلوات سنين، وتركك للصيام فهذه الفترة التي كنت فيها على هذه الحالة لست فيها على الإسلام، لأن من ترك الصلاة متعمدًا فهو كافر سواءً كان جاحدًا لوجوبها أو يقر بوجوبها وتركها كسلاً على الصحيح، فكل هذه الفترة وأنت لست على دين لكن لما منَّ الله عليك بالتوبة، وتبت إلى الله، وحافظت على الصيام والصلاة، فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها ولا يلزمك قضاء ما فات قبل التوبة .
وأما من ناحية الأيمان التي حلفتها وخالفتها وأنت لا تصلي ولا تصوم حينذاك فليس عليك فيها كفارة، لأن الكفارة إنما تجب على المسلم، وتارك الصلاة متعمدًا ليس بمسلم .
103 ـ ما هو السحر وكيف يعمل المسلم لتلافي الوقوع فيه ؟ وإن وقع عليه سحر فكيف يعالجه بالطرق المشروعة ؟
السحر عمل شيطاني - وهو عبارة عن رقى شيطانية وعقد وأبخرة - والسحر يؤثر في جسم المسحور فيقتل أو يمرض، وفي قلبه فيفرق بين المرء وزوجه وبين الأحبة، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، كما قال تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ سورة البقرة : آية 102 ] ، أي : بقضائه وقدره وهو يوجب على المسلم اللجوء إلى الله والاستعاذة به من شر السحرة كما أمر الله نبيه وعباده المؤمنين أن يستعيذوا برب الفلق من النفاثات في العقد . ومن السحر ما هو تخييلي وليس له حقيقة وهو ما يسمى بالسحر التخييلي وبالقمرة بحيث يظهر الأشياء أمام الناظر على غير حقيقتها كما قال تعالى : { سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ } [ سورة الأعراف : آية 116 ] ، وكما في قوله تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ سورة طه : آية 66 ] ، وهذا النوع هو الذي يستعمله المشعوذون من الصوفية ومن الذين يسمون بالبهلوانيين .(82/17)
104 ـ ما مدى صحة الحديث القائل : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/399 ) ، ورواه ابن حبان في " صحيحه " ، ورواه أبو يعلى في " المسند " من حديث أبي موسى رضي الله عنه ] ، وكيف يكون التصديق بالسحر ؟ أهو بقدرة الساحر أو بالتصديق بما يراه المسحور قد تغير عما كان قبل أن يسحر أرجو توضيح هذه المسألة جزاكم الله كل خير ؟
أما الحديث الذي أشار إليه السائل ( ثلاثة لا يدخلون الجنة ) فقد رواه الإمام أحمد وابن حبان في " صحيحه " وصححه الحاكم وأقره الذهبي - رحم الله الجميع - وأما معناه فهو الوعيد الشديد لمن يصدق بالسحر مطلقًا ومنه التنجيم لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من اقتبس شعب من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 4/15 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] .
والتصديق بالسحر ذنب عظيم وجرم كبير، لأن الواجب تكذيب السحرة والمنجمين ومنعهم، والأخذ على أيديهم من تعاطي هذه الأعمال الذميمة، لأنهم بذلك يضلون الخلق ويروجون على الناس ويفسدون العقائد، والسحر كفر كما دل على ذلك القرآن الكريم والسنة، والواجب قتل السحرة فإذا صدقهم فمعناه أنه وافقهم، وأنه أقرهم على مهنتهم الخبيثة، والواجب تكذيبهم ومحاربتهم ومنعهم من مزاولة ذلك .
أما تأثير السحر وما يترتب عليه من إصابات فذلك شيء واقع ويؤثر ويقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجته ويفسد بين الناس فتأثيره شيء واقع، أما تصديق الساحر أو المنجم في أمور الغيب المستقبلة فهذا فيه وعيد عظيم وفيه إثم كبير .(82/18)
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ( 2/408، 476 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/14 ) ، ورواه الترمذي في " سننه " ( 1/164 ) ، ورواه ابن ماجه في " سننه " ( 1/209 ) ، ورواه الدارمي في " سننه " ( 1/275، 276 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 7/198 ) ، كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر " تحفة الأشراف " ( 10/123، 124 ) ] .
105 ـ هل تجوز الصلاة خلف الساحر أو المصدق بالسحر، وهل يجوز فك السحر بالسحر إذا لم توجد وسيلة أخرى ؟
السحر من أعظم كبائر الذنوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : ( الشرك بالله والسحر وقتل النفس ) [ رواه الإمام البخاري في " صحيحه " ( 3/195، 7/29 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] إلى آخر الحديث .(82/19)
فعدَّ السحر من الموبقات وجاء بعد الشرك بالله عز وجل والسحر كفر، لأنّ الله سبحانه وتعالى ذكر عن اليهود أنهم استبدلوا كتاب الله بالسحر كما قال تعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } [ سورة البقرة : الآيتين 101، 102 ] ، السحر من فعل الشياطين، وهو كفر وفي الآية يقول سبحانه وتعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [ سورة البقرة : آية 102 ] ، فدل على أن تعلم السحر كفر، وفي ختام الآية قال : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [ سورة البقرة : آية 102 ] ، يعني : من نصيب، فدل على أن الساحر إذا لم يتب إلى الله أنه ليس له نصيب في الآخرة وهذا هو الكافر، فالسحر كفر وعلى هذا لا تصح الصلاة خلف الساحر، وكذلك من يصدق بالسحر، ويعتقد أنه شيء حق، وأنه يجوز عمله فهذا مثل الساحر يأخذ حكمه .(82/20)
أما قضية حل السحر بسحر مثله فقد نص كثير من العلماء على أن ذلك لا يجوز، لأن التداوي إنما يكون بالحلال والمباح، ولم يجعل الله شفاء المسلمين فيما حرم عليهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تداووا ولا تداووا بحرام ) [ رواه أبو داود في " سننه " ( 4/7 ) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وهو جزء من حديث أوله ( إن الله أنزل الداء والدواء . . . ) ] . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 6/247، 248 ) معلقًا من كلام ابن مسعود رضي الله عنه ] ، ومن أعظم المحرمات السحر فلا يجوز التداوي به ولا حل السحر به، وإنما السحر يحل بالأدوية المباحة وبالآيات القرآنية والأدعية المأثورة هذا الذي يجوز حل السحر به .
وأما حله بسحر مثله فهذا هو النشرة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنها من عمل الشيطان ) [ رواه الإمام أحمد في " مسنده " ( 3/294 ) ، ورواه أبو داود في " سننه " ( 4/5، 6 ) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ( 9/351 ) كلهم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وانظر " مجمع الزوائد ومنبع الفوائد " ( 5/102 ) ] ، وقال الحسن : ( لا يحل السحر إلا ساحر ) [ ذكره ابن مفلح في " الآداب الشرعية " عن ابن الجوزي في " جامع المسانيد " ( 3/ 77 ) بلفظ : ( لا يطلق ) ] ، ومنع منها كثير من العلماء .
106 ـ هناك من يعمل بالسحر التخييلي من الطعن والنار والضرب بالمطارق ويظهرون في وسائل الإعلام على أنهم يأتون بمعجزات فكيف ينهى عن هذا وكيف يواجه هذا الأمر ؟
الواجب إنكار هذا ومنعه من وسائل الإعلام التي لنا عليها سلطة ولنا عليها قدرة . أما وسائل الإعلام التي ليس لنا عليها قدرة ولا سلطة فنمنعها من بلادنا . وإذا حصل شيء من ذلك فإنه يطلب من المسئولين إزالته والقضاء عليه حماية للمسلمين من شره وخطره .
107 ـ ما نصيحتكم لمن يقول : إن عصا موسى سحرية ؟(82/21)
هذا كفر بالله - والعياذ بالله - إذا كان يعتقد أن موسى ساحر وأن عصاه أداة سحر، وما كانت عصا موسى سحرية، وإنما هي معجزة من آيات الله سبحانه وتعالى . فالذي يقول هذا الكلام يتوب إلى الله، لأن هذا كلام شنيع . وإن كان لا يقصد أن موسى ساحر وإنما قالها تقليدًا لغيره ومجاراة لكلام الناس فقد أخطأ في ذلك خطأ كبيرًا فيجب الابتعاد عن هذا التعبير .
108 ـ بعض الناس عندهم جهل بالقراءة ويستعينون بالجان ويقولون : هذا جني مسلم ويسألونه عن مكان السحر . هل من كلمة بهذا الموضوع ؟
لا يستعان بالجان وإن كان يقول : إنه مسلم فإنه يقول : إنه مسلم وهو كذاب من أجل أن يتدجّل على الإنس فيغلق هذا الباب من أصله .
ولا يجوز الاستعانة بالجن، لأن هذا يفتح باب الشر، والاستعانة بالغائب لا تجوز سواء كان جنيًّا أو غير جني سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، فالاستعانة بالغائب لا تجوز إنما يستعان بالجن الحاضر الذي يقدر على الإعانة كما قال الله تعالى عن موسى : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } [ سورة القصص : آية 15 ] هذا حاضر ويقدر على الإغاثة فلا مانع من هذا في الأمور العادية .
109 ـ ما حكم تحضير الأرواح وهل هو نوع من أنواع السحر ؟
لا شك أن تحضير الأرواح نوع من أنواع السحر أو من الكهانة وهذه الأرواح ليست أرواح الموتى، كما يقولون، وإنما هي شياطين تتمثل بالموتى وتقول : إن روح فلان أو أنا فلان وهو من الشياطين فلا يجوز هذا .
وأرواح الموتى لا يمكن تحضيرها، لأنها في قبضة الله سبحانه وتعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [ سورة الزمر : آية 42 ] .(82/22)
فالأرواح ليست كما يزعمون أنها تذهب وتجيء إلا بتدبير الله عز وجل فتحضير الأرواح باطل، وهو نوع من السحر والكهانة .
110 ـ بعض الناس إذا أراد أن يبني بيتًا ذبح في هذا البيت خروفًا أو شاة وقال : هذا من أجل أن يثبت البنيان والأصل ؟
هذا شرك بالله عز وجل وهو ذبح للجن، لأنهم يذبحون على عتبة البيت أو إذا وضعوا مشروع شركة أو مصنع يذبحون أول ما تدار الحركات ويقولون : هذا فيه مصلحة للمصنع وهو شرك بالله، لأن هذا ذبح للجن واعتقاد بالجن، وهم الذين أمروهم بهذا وأوحوا إليهم أن هذا الذبح ينفعهم . ومن ذبح لغير الله فقد أشرك .
وفي الحديث ( لعن الله من ذبح لغير الله ) [ رواه الإمام مسلم في " صحيحه " ( 3/1567 ) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ] ، قال الله سبحانه وتعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ سورة الأنعام : آية 162 ] ، فالنسكُ : هي الذبح . قرنها مع الصلاة . فكما أن الإنسان لا يصلي لغير الله فكذلك لا يذبح لغير الله قال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ سورة الكوثر : آية 2 ] ، فالنحر عبادة لا تجوز إلا لله .
111 ـ هل تعتبر من التنجيم معرفة أمور حساب السنين والشهور والأيام ومعرفة توقيت المطر والزرع ونحو ذلك ؟
ليس هذا من التنجيم وإنما هو من العلم المباح، وقد خلق الله الشمس والقمر لمعرفة الحساب، قال تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } [ سورة يونس : آية 5 ] وهذا ما يُسمّى بعلم التسيير .
قال الخطابي : أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال وتعلم جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نُهِيَ عنه . . والله أعلم .(82/23)
وكذلك الاستدلال بالنجوم على معرفة الجهات لا بأس به، قال تعالى : { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ سورة النحل : آية 16 ] ، قال ابن رجب : وأما علم التسيير فتعلم ما يحتاج إليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطُرق جائز عند الجمهور وما زاد عليه لا حاجة إليه لشغله عما هو أهم منه .
قال البخاري في " صحيحه " : قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث : زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأوّل فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلّف ما لا عِلم له به .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله : هذا مأخوذ من القرآن في قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ } [ سورة الملك : آية 5 ] ، وقوله تعالى : { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ سورة النحل : آية 16 ] ، وقوله : { وَعَلامَاتٍ } أي دلالات على الجهات والبلدان (2).
وأما معرفة توقيت المطر فهذا لا يمكن، لأن معرفة وقت نزول المطر من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وربط نزول المطر بأحوال النجوم هذا هو الاستسقاء بالأنواء وهو من أمور الجاهلية .
وأما معرفة وقت بذار الزروع فهذا يرجع إلى معرفة الفصول، وهو علم يدرك بالحساب . والله أعلم .
112 ـ هل الاستدلال بالنجوم على المواقع الأرضية سحر ؟
النجوم تدل على الطريق والاتجاه للمسافر، فإذا رأى النجم عرف الاتجاه، ويعرف الطريق هذا هو المقصود { لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [ سورة الأنعام : آية 97 ] ، فإن كان قصد السائل بالمواقع الأرضية معرفة الاتجاه والطريق فهذا صحيح .
113 ـ فضيلة الشيخ : ما رأيكم في قراءة الفنجان وقراءة الكف وما يسمى بالأبراج التي تنشر في الجرائد ؟(82/24)
كل هذه من الكهانة والشعوذة قراءة الفنجان والكف والأبراج التي تنشر في الجرائد كلها من ادعاء علم الغيب، فهي كهانة، والكهانة نوع من السحر، كلها أعمال باطلة : الكهانة والسحر والعيافة وطرق الحصى وضرب الودع ونثر الودع كلها من أنواع الباطل وادعاء علم الغيب والتدجيل على الناس لإفساد عقائدهم .
114 ـ نسمع من يقول : عُرف كذا أو حدث كذا، قبل مائة مليون سنة، أو مائة وخمسين مليون سنة . . هل يجوز لهم أو يمكنهم أن يقدروا حدوث بعض الأشياء ؟ ثم هل يُعد ما بيننا وبين آدم عليه السلام، هل يعد بملايين السنين ؟
قول بعضهم : حدث كذا منذ مليون سنة، أو أقل أو أكثر، هو من التخرص الذي لا دليل عليه، والغيوب الماضية لا يجوز الكلام فيها إلا بدليل صحيح من كتاب الله أو سنّة رسوله أو إخبار الثقات، ولا يعلم القرون الماضية إلا الله قال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ } [ سورة الإسراء : آية 17 ] ، وقال تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ } [ سورة إبراهيم : آية 9 ] ، فما يقال في بعض وسائل الإعلام أو بعض الكتب عن بعض الآثار من تحديد ملايين السنين للأشياء هو تخرص وافتراء وقول بلا علم .(82/25)
10 ـ الرقى
115 ـ هل ورد في الشرع المطهر ما يمنع من رقية المريض بالقرآن الكريم ؟ وهل يجوز للراقي أن يأخذ أجرًا على عمله أو هدية ؟
رقية المريض بالقرآن الكريم إذا كانت على الطريقة الواردة بأن يقرأ وينفث على المريض أو على موضع الألم أو في ماء يشربه المريض فهذا العمل جائز ومشروع؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رقى ورُقي وأمر بالرقية وأجازها (1).
قال السيوطي : وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط : أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته . وباللسان العربي وما يعرف معناه .
وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى (2).
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب : والرقى هي التي تسمى بالعزائم وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العين والحمة (3) - يعني : سم العقرب إذا لسعت الإنسان، وكذا لدغ الحية . فإن الرقية من ذلك تنفع بإذن الله .
ولا بأس أن يأخذ الراقي أجرة أو هدية على عمله؛ لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقر الصحابة الذين أخذوا الأجرة على رقية اللديغ وقال : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله ) [ رواه البخاري في " صحيحه " ( 7/23 ) ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ] .
116 ـ أنا أكتب المحو للمرضى فهل يجوز أن أكتب لهم آيات من القرآن الكريم فيشربه المريض أم لا ؟(83/1)
الوارد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرقية على المريض بأن يقرأ عليه مباشرة وينفث على جسمه، هذه هي الرقية الواردة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (4) . وكذلك يعوذه بما عوذ به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يقول : ( أعيذك بكلمات الله التامات من شرِّ ما خلق، باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، ومن شرِّ كل نفس وعين حاسد الله يشفيك، ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا جرمنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك ) (5) ، ونحو ذلك من الأدعية الشرعية الواردة التي يرقى بها المريض .
أما كتاب القرآن الكريم بأوراق أو بصحون أو أواني ثم تغسل ويشرب المريض محوها، فهذا أجازه بعض أهل العلم ويعتبرونه داخلاً في الرقية .
لكن الأولى ما ذكرنا، وهو أن يرقى المريض مباشرة إما بأن يقرأ عليه، أو بأن يقرأ في ماء ويشربه المريض . كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم . هذا هو الأولى اقتصارًا على ما ورد به الدليل . والله أعلم .
117 ـ ما رأيكم فيمن يأخذ من أحد الرجال الصالحين بعض الكتابات القرآنية للشفاء من مرض حيث يقوم هذا الرجل بكتابة الآيات على ورقة ويقول : اجعلها في ماء حتى تذوب الكتابة ثم يشرب المريض ثلاث مرات، والباقي يمسح به الجزء المراد شفاؤه كأن يكون المرض في صدره أو ظهره أو أحد أعضائه فما حكم ذلك ؟(83/2)
الأولى أن يقرأ المسلم على أخيه بأن ينفث على جسمه بعد ما يقرأ الآيات أو على موضع الألم منه وهذه هي الرقية الشرعية (6) وإن قرأ له في ماء وشربه فكذلك أيضًا، لأن هذا ورد به الحديث (7) ، أما كتابة الآيات في ورقة ثم تمحى هذه الورقة في ماء ويشربها المريض فهذا رخص فيه كثير من العلماء (8) قياسًا على ما ورد، وأخذًا لعموم الاستشفاء بالقرآن الكريم، لأن الله أخبر أنه شفاء فلا بأس به - إن شاء الله - ولكن الأولى هو ما ذكرناه وهو الوارد عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو القراءة على المريض مباشرة أو القراءة في ماء ويشربه .
118 ـ قبل أن أهتدي وأداوم على الصلوات في أوقاتها وقراءة القرآن الكريم ذهبت إلى إحدى الساحرات وطلبت مني أن أخنق دجاجة لكي تعمل لي حجابًا تربطني بزوجي، لأنه كان يوجد دائمًا مشكلات بيني وبينه، وقد خنقت الدجاجة فعلاً بيدي فهل عليّ في فعل هذا إثم، وماذا أفعل حتى أخلص من هذا الخوف الذي يراودني والقلق ؟
أولاً : الذهاب إلى الساحرات حرام شديد التحريم، لأن السحر كفر وإضرار بعباد الله عز وجل، فالذهاب إليهم جريمة كبيرة وما ذكرت أنك خنقت الدجاجة جريمة أخرى، لأن هذا فيه تعذيب للحيوان وقتل للحيوان بغير حق، وتقرب إلى غير الله بهذا العمل فيكون شركًا، ولكن مادمت قد تبت إلى الله سبحانه وتعالى توبة صحيحة فما سبق منك يغفره الله سبحانه وتعالى ولا تعودي إليه في المستقبل، والله تعالى يغفر لمن تاب .
ولا يجوز للمسلمين أن يتركوا السحرة يزاولون سحرهم بين المسلمين بل يجب الإنكار عليهم ويجب على ولاة أمور المسلمين قتلهم وإراحة المسلمين من شرهم .
119 ـ ما حكم الشرع في كتابة آيات من القرآن أو اسم من أسماء الله الحسنى ومحوها بالماء وشربها بقصد الشفاء من مرض أو جلب منفعة ؟(83/3)
ينبغي للذي يعالج المرضى بالقرآن أن يقرآ على المريض مباشرة بأن يرقيه بالقراءة بأن يقرأ القرآن، وينفث على المريض مباشرة، هذا أنفع وأحسن وأكمل، وهذا الذي كان يفعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ (9) وكان السلف يفعلونه، ويجوز أن يقرأ في ماء ويسقى للمريض أيضًا، وبذلك ورد بعض الأحاديث ويجوز، أمّا أن يكتب القرآن على شيء طاهر كصحن أو ورق بشيء طاهر ويغسل المكتوب ويسقى للمريض فقد رخص فيه بعض السلف مثل الإمام أحمد بن حنبل (10) وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموعة الفتاوى " (11) وأنه شيء معروف عن بعض السلف، وتركه أحسن للاقتصار على ما ورد . والله أعلم .
120 ـ هل يجوز التداوي من مرض بكتابة آيات من القرآن على لوح خشبي ثم تمحى بماء يسقى به المريض ؟ وهل يجوز أخذ الأجرة عن هذا العمل ؟
يرى بعض العلماء أنه لا بأس بكتابة القرآن على شيء طاهر، ويغسل هذا المكتوب، ويشربه المريض للاستشفاء بمثل هذا، لأنه داخل في الرقية كما ذكر هذا عنهم العلماء في كتبهم وفتاويهم كشيخ الإسلام ابن تيمية في " الفتاوى " (12) وغيرهم من أهل العلم، ولكن الأولى أن تكون الرقية بالقراءة على المريض مباشرة بأن يقرأ القرآن وينفث على المريض أو على محل الإصابة هذا هو الأفضل والأكمل .
وأما أخذ الأجرة على كتابة العزائم من القرآن على الصفة المذكورة فلا بأس بذلك أيضًا . لأن أخذ الأجرة على الرقية جائز؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقر الصحابة الذين أخذوا الجعل على الرقية . . كما جاء ذلك في الحديث الصحيح في قصة اللديغ (13).
121 ـ نحن في الصعيد إذا مرض لنا طفل أو بهيمة نذهب إلى الشيخ ويكتب لنا ورقة نحرقها ثم نتبخر بها أو نقوم بشربها أو نعلقها على رقبة المريض أو البهيمة ما حكم هذا العمل بارك الله فيكم ؟(83/4)
هذه الورقة لا ندري ماذا كتب فيها ربما يكون قد كتب فيها الشرك والكفر بالله عز وجل من هؤلاء المشعوذين، فعلى كل حال يجب عليكم تجنب مثل هذا الشيء، وعليكم بالاعتماد على الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [ سورة يونس : آية 107 ] وقال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [ سورة الأنعام : آية 17 ] .
قال الخليل عليه السلام : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ سورة الشعراء : آية 80 ] فيجب على المسلم أن يعتمد على الله في طلب الشفاء بالدعاء والعبادة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى فهو الذي يملك الشفاء والعافية، أما الذهاب إلى المشائخ - كما ذكرت - وأخذ الأوراق منهم وإحراقها واستنشاقها وما أشبه ذلك، فهذا يجب تركه ولا يجوز تعليق هذه الأوراق على البهائم؛ لأن هذا من تعليق التمائم، وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن عليق التمائم، وأخبر أن ذلك من الشرك (14) ، وعليكم بالأخذ بما أباح الله من الأدوية، فإن الله ما أنزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه، وجهله من جهله، فعليكم بتعاطي الأدوية المباحة .
122 ـ حصل وأن اشتغلت عاملاً في إحدى الكنائس بأجرٍ يومي فما حكم هذا الأجر الذي أخذته أهو حلال أم حرام ؟
لا يجوز للمسلم أن يعمل في أماكن الشرك وعبادة غير الله عز وجل من الكنائس والأضرحة وغير ذلك، لأنه بذلك يكون مقرًّا للباطل، ومعينًا لأصحابه عليه، وعمله محرم، فلا يجوز له أن يتولى هذا العمل، وما أخذته من الأجر مقابل لهذا العمل كسبٌ محرم، فعليك التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ولو تصدقت بهذا المبلغ الذي حصلت عليه لكان أبوأ لذنبك، ويكون دليلاً على صحة ندمك وتوبتك .(83/5)