قد يعترض معترض ويقول: الله يبغض الشرك والكفر، فكيف يقدر ذلك؟ ونقول: قدر ذلك لحكمة؛ ليتميز الناس (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب) [آل عمران:179] فنحن لا نعلم المطيع من العاصي إلا بالأعمال، فهي تميز الشقي من السعيد.
فالأمور لا تصلح إلا إذا وجدت المتضادات.
(178) والاستطاعة التي يجب بها الفعل، من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به –فهي مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات –فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) :
الاستطاعة هي القدرة من الإنسان، وهي على قسمين:
الأول: استطاعة يتعلق بها التكليف والأمر والنهي.
الثاني: استطاعة يستطيع بها الإنسان الفعل والتنفيذ.
القسم الأول: الاستطاعة التي يتعلق بها التكليف، معناها: الوسع، أن يكون عند الإنسان وسع، أن يفعل أو لا يفعل، عنده إمكانية وتمكن، فالتكليف يتعلق بهذه الاستطاعة، فالإنسان الذي ليس عنده تمكن واستطاعة لا يكلف، كالمجنون والصغير، فلا يكلف فلا يُؤمر ولا يُنهى، ولكن الصغير إن بلغ سبع سنوات فإن عنده استطاعة فيُؤمر بالصلاة من باب الاستحباب والتربية، والتدريب على فعل العبادة، فلا تجب عليه إلا إذا بلغ فيكلف، وهذا النوع يكون قبل الفعل.(16/138)
القسم الثاني: الاستطاعة التي يكون فيها التنفيذ، وإيجاد الشيء، فهذه تكون مع الفعل فالحج مثلاً فيه الاستطاعتان، قال تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع….) [آل عمران:97] فهذه استطاعة تمكن، فيجب الحج على من يستطيع، والسبيل هو الزاد والراحلة، فيجب عليه الحج إذا وجدهما؛ لأن عنده تمكناً، هذه استطاعة قبل الفعل، أما الاستطاعة مع الفعل –وهو مباشرة الحج- فقد لا يكون عنده قدرة مثل المريض المزمن أو الكبير الهرم، فهذا لا يستطيع استطاعة تنفيذ وفعل، ويستطيع استطاعة تكليف، فهذا يجب عليه الحج في ذمته.
ومثل دخول وقت الصلاة يوجب الصلاة على المكلف، ويكون التنفيذ بحسب استطاعته، فالمريض يصلي قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، فالصلاة تجب عليه على كل حال؛ لأنه في استطاعته ذلك، وهذه الاستطاعة قبل الفعل، أما التي مع الفعل قد تكون معدومة نهائياً، وقد تكون موجودة، ولكن ليست تامة، فيجب عليه على قدر استطاعته.
(فاتقوا الله ما استطعتم) [التغابن:16]، (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) [البقرة:286].
وفيه فرق بين الاستطاعتين:
فالأولى يتعلق الخطاب بها، كما قال تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) [البقرة:286]، والثانية يتعلق بها التنفيذ.
(179) وأفعال العباد خلق الله، وكسب من العباد:
هذه المسألة حصل فيها نزاع ومزلة أقدام ومضلة أفهام، هل الأفعال مخلوقة لله أو هي من خلق العباد؟
القول الأول: قول الجبرية والجهمية: إن العبد مجبور، ليس له دخل في الأفعال، فهي محض خلق الله عز وجل، فصلاته التي يؤديها ليس باختياره، إنما هو مجبور وهؤلاء غلوا في إثبات قدرة الله.
وقولهم هذا ضلال مبين، ومعناه أن الله يظلمهم ويعذبهم على شيء ليس لهم فيه اختيار، وليس لهم فيه استطاعة، وإنما الله يعذب العبد على فعل غيره، ويثيبه على شيء لم يفعله، وهذا المذهب أخبث المذاهب.(16/139)
القول الثاني: وهو مضاد للقول الأول تماماً، وهو قول المعتزلة، يقولون: الأفعال من إنتاج العبد وإرادته المطلقة ومشيئته، وليس لله تدخل فيها، وإنما العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، فهؤلاء غالوا في إثبات قدرة العبد.
ويلزم من قولهم أن الله عاجز، وأن الله يشاركه غيره في الخلق والإيجاد، وهذا قول المجوس، ولذلك المعتزلة سُمُّوا: مجوس هذه الأمة(1)، فالمجوس يقولون: إن للكون خالقين، خالق للخير وخالق للشر، والمعتزلة زادوا عليهم وقالوا: كل يخلق فعل نفسه، فأثبتوا خالقين.
والمذهب التوسط مذهب أهل السنة والجماعة، على ضوء الكتاب والسنة، قالوا: أفعال العباد هي فعلهم بإرادتهم ومشيئتهم، وهي خلق الله عز وجل (والله خلقكم وما تعملون) [الصافات:96] (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) [الزمر:62] (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) [فاطر:3] فالله منفرد بالخلق والتقدير، والعبد له مشيئته وإرادته، وله فعل، فهو باختياره يذهب إلى المسجد، وباختياره يذهب إلى المسارح؛ لأن عنده قدرة، والإنسان الذي لم يعطه الله قدرة ولا استطاعة فهذا قد عذره الله، مثل المجنون والمكره، فليس عنده إرادة، وليس عنده قصد، أما من عنده إرادة وقصد، فهذا الذي يختار الفعل لنفسه، والعقاب والثواب يقع على فعله، وليس على فعل الله عز وجل.
قال الله تعالى: (إن الذين آمنوا) [البقرة:62] [النساء:59]، (إن الذين كفروا) [آل عمران:116] أسند الإيمان إليهم، وكذلك أسند الكفر (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) [النساء:59] (ومن يطع الله ورسوله) [النور:52] أسند الأفعال إلى العباد.
__________
(1) فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم"
…أخرجه أبو داود (رقم4691) .(16/140)
والدليل على أن العبد له إرادة وقصد: قوله تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً) [الإنسان:30]، فأثبت الله سبحانه له مشيئة وللعبد مشيئة، وجعل مشيئة العبد تحت مشيئته سبحانه (لمن شاء منكم أن يستقيم) [التكوير: 28] شاء، أي: باختياره، وفي هذا رد على الجبرية. (إلا أن يشاء الله) [الإنسان:30] في هذا رد على القدرية.
(180) ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون:
قال تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) [البقرة:286]، (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) [البقرة:286]، (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) [البقرة:185]، فالله لا يكلف العباد ما لا يطيقون، إلا من باب العقوبة، كما حمّل بني إسرائيل بسبب تعنتهم (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً* وأخذهم الربا) [النساء:160،161]، فالله عاقبهم فكلفهم بما لا يطيقون، ولذلك جاء في الدعاء (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) [البقرة:286] فالله –فضلاً منه وإحساناً- لا يكلف العباد إلا ما يطيقون، رحمة منه، فهو رحيم (إن الله بالناس لرءوف رحيم) [البقرة:143].
(181) ولا يطيقون إلا ما كلفهم:
هذا فيه نظر؛ بل يطيقون أكثر مما كلفهم، ولكن الله يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، فالله وضع عنهم المشقة، وشرع لهم الدين اليسر، ونهاهم عن الزيادة على الاعتدال، فلا يجوز للإنسان أن يصلي كل الليل، وكذلك لا يجوز له ترك الزواج، قال عليه الصلاة والسلام: "أما أنا فأصلي وأنام وأتزوج النساء وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني"(1)، فالله لا يكلف ما يشق عليهم، والله لو كلفهم لأطاقوا، ولكن لا يرضى لهم المشقة والعسر.
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم5063) ومسلم (رقم1401) .(16/141)
(182) وهو تفسير: "لا حول ولا قوة إلا بالله" . نقول: لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد ولا تحوّل لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله:
(لا حول) أي: لا تحول من حال إلى حال (إلا بالله) عز وجل وإعانته. وكذلك: ليس لك قوة إلا من قوة الله عز وجل، ففي هذا تسليم وبراءة من الحول والقوة، فالإنسان لا يُعجب بحوله ولا بقوته، وإنما يرجع إلى الله عز وجل، فتستعين بالله، فيعينك على الطاعة، ومن التحول من المعصية إلى الطاعة، ومن الكفر إلى الإسلام، فكل شيء بحول الله وقوته، ولو وكلك إلى حولك لم تستطع، وكذلك الكد والكسب لطلب المال، هذا الكد والتعب منك، ولكن التوفيق ووضع البركة من الله عز وجل.
(183) وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره:
لا يقع في ملكه شيء إلا بعلمه وتقديره (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) [التكوير:29].
فهو ما قضاه وقدره، وكتبه في اللوح المحفوظ، فكل ما يجري في الكون فهو بقضاء الله وقدره.
(184) غلبت مشيئته المشيئات كلها:
قال تعالى : (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) [التكوير:29] اثبت للعبد مشيئته، ولكنها داخلة تحت مشيئة الله، وأن العبد لا يستطيع المشيئة إلا بمشيئة الله.
(185) وغلب وقضاؤه الحيل كلها:
مهما عملت من الأسباب ومن الأمور، إذا لم يقدر الله المسبب فلا تنفعك الأسباب، وجميع الأعمال لا تنفع إذا لم يُقدِّر الله عز وجل لك النفع بها، فأنت عليك فعل السبب، والتوفيق على الله، فأنت مأمور بفعل الأسباب.
(186) يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً، تقدّس عن كل سوءٍ وحين، وتنزه عن كل عيب وشين.(16/142)
فالله يفعل ما يشاء من الخير والشر، والنعمة والنقمة، وهو غير ظالم لعباده؛ لأنه يضع الأشياء في مواضعها، فيضع النعمة والتوفيق لمن يتأهل لذلك، ويحرم من التوفيق ومن الطاعة من لا يستحق ذلك، وهو غير ظالم، فلا يعذب المطيع الصالح، ولا يثيب العاصي على معصيته.
فالله سبحانه الكامل في ذاته، والكامل في أسمائه وصفاته، والكامل في أفعاله وخلقه سبحانه وتعالى.
(187) (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) :
وكذلك لا يُسأل سبحانه عما يفعل؛ لأن كل شيء يفعله لحكمة، وواقع موقعه، فأما العباد فيسألون؛ لأنهم يخطئون، ويضعون الأمور في غير مواضعها، ففيه فرق بين الخالق والمخلوق، فالله لا يقع في أفعاله خلل، أما العبد فعنده ظلم وحسد وكبر، وعنده أمور تقتضي أنه يخطئ في أموره وتصرفاته.
(188) وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات:
هذه مسألة فقهية، ولها تعلق بالعقيدة:
قال عليه الصلاة والسلام: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(1).
فالعبد ينقطع عمله بموته، إلا ما تسبب في بقائه بعد موته، مثل الصدقة الجارية، كوقف مسجد أو مدرسة يدرس فيها، فما دام نفعها فأجرها يجري ما دام هذا الوقف ينتفع به.
(أو علم) بأن يكون قد درّس الفقه أو العقيدة، وصار له تلاميذ، فيجري عليه أجر تعليمه، أو ألّف كتباً تنفع الناس، فيجري أجره، وهذا من العلم الذي علَّمه.
(أو ولد صالح يدعو له) فهو تزوج من أجل إعفاف نفسه، وطلباً للذرية الصالحة، فجاءه ولد صالح، وهذا مما تسبب فيه، قال عليه الصلاة والسلام: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم"(2) .
فإن كان صالحاً يدعو له بعد موته، فإن دعاءه يصل إليه، وهذا من عمله الذي تسبب فيه فينفعه عمل غيره.
__________
(1) أخرجه مسلم (رقم1631) .
(2) أخرجه أبو داود (رقم3528) والترمذي (رقم1362) وقال: هذا حديث حسن صحيح.(16/143)
وغير هذه المسألة محل الخلاف، قال سبحانه: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) [النجم:39] منطوق الآية: أن عمل الإنسان لا ينفع غيره، إلا ما تسبب فيه، فأخذ طائفة من العلماء بهذه الآية، وقال: لا ينفعه إلا عمله مطلقاً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأشياء تنفع الميت من عمل غيره، مثل الدعاء والاستغفار (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) [الحشر:10] (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [محمد:19]، هذا يشمل الأموات أيضاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين إذا دفنوا أخاهم أن يقفوا على قبره، وأن يستغفروا له ويسألوا له التثبيت(1)، كذلك الصدقة تنفع الميت، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأن أمة ماتت، ولو تكلمت لتصدقت، أفأتصدّق عنها؟ قال: "نعم"(2).
كذلك الحج ينفع غيره، كما جاءت به الأدلة، كما في حديث شبرمة، قال عليه الصلاة والسلام: "حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة"(3) فهذا عمل للغير ينفع الميت، كذلك لما جاءت امرأة تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج عن أمها: أنها أدركتها فريضة الحج ولم تحج، أفأحج عنها؟ قال: "نعم، حجي عن أمك" (4). فتكون هذه الأشياء: الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والعمرة، تكون نافعة للميت من عمل غيره، فتكون مخصصة للآية (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) [النجم:39].
__________
(1) فعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل".
…أخرجه أبو داود (رقم3221) والحاكم 1/370 وقال : هذا حديث صحيح على شرط الإسناد ولم يخرجاه.
(2) أخرجه البخاري (رقم2760) ومسلم (رقم1004) .
(3) أخرجه أبو داود (رقم1811) وابن ماجه (رقم2903) وابن خزيمة (رقم 3039) .
(4) أخرجه البخاري (رقم1852) .(16/144)
وغلت طائفة في هذا وقالت: ينفع الميت كل شيء من عمل غيره، فيستأجرون المقرئين يقرءون للميت، فمثل هذا العمل لا ينفع الميت ولا الحي؛ لأن القارئ أخذ على قراءته أجرة، فليس له ثواب، ومن ناحية ثانية: أن هذا الأمر مبتدع، ليس عليه دليل، وسبحان الله! لو جعل الأجرة التي يعطيها المقرئ صدقة عن الميت صار تابعاً للسنة وينفع الميت، أما على وجه البدعة فلا ينفع الميت ولا الحي، وهذا نتيجة ترك السنة.
(189) والله تعالى يستجيب الدعوات، ويقضي الحاجات:
هذه من صفات الله عز وجل أنه يجيب من دعاه، قال سبحانه (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) [البقرة:186] .
وأمر الله عز وجل بدعائه فقال: (ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [غافر:60]، وقال سبحانه: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) [النمل:62] إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالدعاء وإجابة الدعاء، وهذا من كرمه وجوده وإحسانه، يأمر عباده بدعائه ليستجيب لهم، مع أنه غني عنهم، ولكن لعلمه سبحانه وتعالى بحاجتهم أمرهم بدعائه، وفي الحديث: "من لا يسأل الله يغضب عليه"(1).
والدعاء أعظم أنواع العبادة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "الدعاء هو العبادة"(2).
وكما أنه أمر بدعائه، نهى عن دعاء غيره والإشراك به في الدعاء، فقال: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) [الجن:18]، (قل إنما ادعوا ربي ولا أشرك به أحداً) [الجن:20]، (ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) [المؤمنون:117].
__________
(1) أخرجه أحمد 2/477 والترمذي (رقم3370) وابن ماجه (رقم3827) والحاكم 1/491 وصححه وأقره الذهبي.
(2) أخرجه أبو داود (رقم1479) والترمذي (رقم3369) وابن ماجه (رقم3828) وقال الترمذي:حسن صحيح.(16/145)
فلا يجوز دعاء غير الله، ومن دعا غير الله فهو مشرك، سواء كان المدعو ملكاً أو نبياً أو ولياً، فقد أشرك الشرك الأكبر (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون) [الأحقاف:5]، (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم) [فاطر:14] فسماه شركاً، وقال سبحانه (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير* ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) [سبأ:22،23].
فالدعاء لا يكون إلا لله، فلا يدعى أحد من دونه من الأحياء أو الأموات، أيّاً كان هذا المدعو.
والدعاء على قسمين:
الأول: دعاء عبادة، وهو الثناء على الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله، فالذي يسبحه ويكبره ويحمده ويثني عليه قد دعاه دعاء عبادة.
الثاني: دعاء مسألة، وهو طلب الحوائج من الله عز وجل، وكلاهما تضمنته سورة الفاتحة، فأولها إلى نصفها دعاء عبادة، إلى قوله (إياك نعبد) وآخر السورة مسألة.
والعلماء يقولون: دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، ودعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة.
والله عز وجل وعد من دعاه أن يستجيب له، وقد يقول قائل: أنا دعوت ولم يستجب لي.
والجواب أن يُقال: المانع من عندك أنت، الدعاء سبب من الأسباب، والنتيجة لا تحصل إلا إذا انتفت الموانع، فقد يكون مانع من الموانع منع استجابة دعوتك، إما أن تكون دعوت بقلب غافل لاهٍ فأنى يُستجاب لقلب غافل لاهٍ؟ كما في الحديث، أو أنك تأكل الحرام وتشرب الحرام وتلبس الحرام، قال عليه الصلاة والسلام في الذي: "يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يارب، يارب، ومطعمه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يُستجاب له"(1)؟
أو يدعو بإثم أو قطيعة رحم، فلا يُستجاب له، هذا من ناحية.
__________
(1) أخرجه مسلم (رقم1015) .(16/146)
ومن ناحية ثانية: أن الله عز وجل أعلم بمصالحك، قد يعجل لك الإجابة وقد يؤخرها، وقد يصرف عنك من السوء مثلها، وأنت لا تدري، كما في الحديث: "ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل دعوته، وإما أن يؤخرها له، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها"(1).
أهل الضلال يقولون: لا حاجة للدعاء؛ لأن الأمر إذا كان قدر فلا يحتاج إلى دعاء؛ لأنه إذا كان الأمر قدر لك فإنه سيأتيك، ولو لم تدع، وإن كان لم يقض لك ويقدر فإنك لو دعوت لم يحصل لك ولا يقدر، وهذا ضلال، والعياذ بالله، ومخالف لكلام الله عز وجل.
والجواب: أنه لا تعارض بين الدعاء والقضاء والقدر، الذي قضى وقدر هو الذي أمر بالدعاء، والدعاء سبب من الأسباب، والمسبب هو الله عز وجل، وهناك بعض الأشياء قدرت على أسباب، إذا وجدت أسبابها وجدت مسبباتها، والدعاء سبب.
(190) ويملك كل شيء، ولا يملكه شيء:
من صفات الله عز وجل: أنه يملك كل شيء، فكل ما في الكون فهو ملك له (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) [الملك:1]، وقال تعالى: (له ملك السموات والأرض) [الحديد:2].
فلا يخرج شيء عن ملكه، والناس وما يملكون فهم ملكه سبحانه وتعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) [آل عمران:26].
فلا أحد يفرض ويلزم ويملي على الله شيئاً؛ لأن الناس عباد لله فقراء إليه، كما قال سبحانه: (وربك يخلق ما يشاء ويختار) [القصص:68]، وقال سبحانه: (إن الله يفعل ما يشاء) [الحج:18].
وإنما هو سبحانه يدبر الأمر بمفرده، ويجريه على حكمته سبحانه وتعالى.
(191) ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين:
الله جل وعلا هو الغني الحميد، والخلق كلهم فقراء إلى الله، وما أحد منهم يمكن أن يستغني عن الله.
__________
(1) أخرجه الترمذي (رقم3390).(16/147)
قال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) [فاطر:15]. فلا أحد يمكن أن يستغني عن الله، ولو كان عنده ملك الدنيا، فالملوك فقراء إلى الله، وكذلك الأغنياء، فلا أحد يستغني عن الله، لا الملائكة المقربون ولا من دونهم من الخلق.
(192) ومن استغنى عن الله طرفة عين، فقد كفر وصار من أهل الحين:
من زعم أنه في غنىً عن الله، وأنه مستغن عن الله، فقد كفر وخرج من الملة، فالواجب على العبد أن يظهر لله ضعفه، ولا يعجبه ما هو فيه من القوة والصحة والغنى؛ لأن الأمور بيد الله عز وجل، فلا يمكن الاستغناء عن الله عز وجل.
(193) والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى:
من صفات الله عز وجل الفعلية: أنه يغضب ويرضى، قال سبحانه: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) [التوبة:100] فالله يرضى عن عباده، قال تعالى: (ورضوان من الله أكبر) [التوبة:72]، وقال تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) [الفتح:18]، وهو كذلك يغضب سبحانه وتعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه) [المائدة:60] فالله يغضب على من عصاه ويمقته، والمقت هو أشد البغض، قال تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً) [النساء:93].
والمخلوق يغضب ويرضى، ولا مشابهة بين غضب ورضا المخلوق وغضب ورضا الخالق، رضا الله وغضبه يليقان به سبحانه، ورضا وغضب المخلوق يليقان به كسائر الصفات (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى:11]، ليس له مثل في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته، وإن كانت له أسماء وصفات، وللمخلوق أسماء وصفات، فلا تشابه.(16/148)
وهذا مذهب أهل السنة ولجماعة، يثبتون الرضا والغضب لله عز وجل وغير ذلك من الصفات، وإن كان جنس هذه الصفات موجوداً في المخلوقين، لكن مع الفارق (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى:11] كذلك المخلوق سميع بصير، وقال الله عن نفسه: (وهو السميع البصير) وقال في أول الآية: (ليس كمثله شيء) فدل على أن هناك فرقاً بين صفات الخالق وصفات المخلوق وهذا شيء معلوم من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقاد أهل السنة والجماعة، أما أهل التأويل والضلال فينفون الأسماء والصفات عن الله؛ لأن جنسها موجود في المخلوقين، ولو أثبتها اقتضى هذا المشابهة –بزعمه- وفي الحقيقة هذا لا يقتضي المشابهة.
ولكن هذا الفهم عقيم، ويأولون الغضب بالانتقام، والرضا بالإنعام، فالواجب التسليم لله ولرسوله وما ثبت عنهما، وأن يترك هذه الترهات والتأويلات.
ولذلك لما سئل مالك عن كيفية استواء الله على عرشه؟ أطرق مالك رأسه خوفاً وحياء من الله، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة).
(194) ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
أصحاب: جمع صاحب، والصحابي هو: الذي لقي الرسول وهو مؤمن به ومات على ذلك، فإن آمن به ولم يلقه فليس بصحابي، ولو كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم، كالنجاشي، وكذلك يشترط الإيمان به والموت على ذلك، فبمجرد الردة والموت عليها تبطل الصحبة وسائر الأعمال، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أفضل القرون والأمم بعد الأنبياء والرسل، وذلك لأنهم أدركوا المصطفى عليه الصلاة والسلام وآمنوا به وجاهدوا معه وتلقوا عنه العلم، وأحبهم النبي صلى الله عليه وسلم واختارهم الله لنبيه أصحاباً.(16/149)
والله يقول: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً) [الفتح:18]، وقال سبحانه: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغظ بهم الكفار وعد الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) [الفتح:29]، والصحابة أفضل القرون؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" فهم خير القرون بفضل صحبتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، فحبهم إيمان وبغضهم نفاق، قال تعالى : (ليغيظ بهم الكفار) [الفتح:29].
فالواجب على المسلمين عموماً حب الصحابة جميعاً، بنص الآية؛ لمحبة الله عز وجل لهم، ولمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنهم جاهدوا في سبيل الله، ونشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وآزروا الرسول وآمنوا به واتبعوا النور الذي أُنزل معه، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة.(16/150)
فالله لما ذكر المهاجرين والأنصار في سورة الحشر، قال سبحانه: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون* والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) [الحشر:8-10] فهذا موقف المسلمين من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، يستغفرون لهم، ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم بغضاً للصحابة، وكذلك آل بيت الرسول فلهم حق القرابة وحق الإيمان، ومذهب أهل السنة والجماعة: موالاة أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام.
وأما النواصب: فيوالون الصحابة، ويبغضون بيت النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك سموا بالنواصب؛ لنصبهم العداوة لأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام.
والروافض: على العكس، والوا أهل البيت بزعمهم، وأبغضوا الصحابة، ويلعنونهم ويكفرونهم ويذمونهم.
والصحابة يتفاضلون، فأفضلهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عن الجميع، الذين قال فيهم النبي عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ"(1) ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة وهم: أبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم.
ثم أهل بدر ثم أهل بيعة الرضوان، قال تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً) [الفتح:18].
__________
(1) أخرجه أبو داود (رقم4607) والترمذي (رقم2678) . وابن ماجه (رقم42) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.(16/151)
ثم الذين آمنوا وجاهدوا قبل الفتح، فهم أفضل من الصحابة الذين آمنوا وجاهدوا بعد الفتح، قال تعالى: (لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى) [الحديد:10] والمراد بالفتح: صلح الحديبية .
ثم المهاجرون عموماً، ثم الأنصار؛ لأن الله قدّم المهاجرين على الأنصار في القرآن، قال سبحانه: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) [التوبة:100]، وقال سبحانه : (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) [الحشر:8] وهؤلاء هم المهاجرون.
ثم قال سبحانه في الأنصار: (والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة زن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) [الحشر:9].
فقدّم المهاجرين وأعمالهم على الأنصار وأعمالهم، مما دل على أن المهاجرين أفضل؛ لأنهم تركوا أوطانهم وأموالهم وهاجروا في سبيل الله، فدل على صدق إيمانهم، فجميع الصحابة يجب حبهم وموالاتهم، ولا نتدخل فيما حصل بينهم من حروب، فما حصل بينهم من الحروب فبتأويل منهم، فهم مجتهدون، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وكذلك عندهم من الحسنات والفضائل العظيمة التي تُكفِّر ما يقع من الخطأ من بعضهم.(16/152)
فالواجب على المسلمين الترضّي عنهم، وطلب العذر لهم، والدفاع عنهم، فمذهب أهل السنة والجماعة: أنهم لا يتدخلون فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم؛ لما لهم من الفضل والسابقة؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"(1) لفضلهم، فمن تدخل فيما حصل بين الصحابة وصار في قلبه شيء، فهذا زنديق، فأما من قال: نتدخل فيما حصل بين الصحابة من باب البحث، فهذا خطر عظيم ولا يجوز، ولذلك لما سُئل عمر بن عبد العزيز عما حصل بين الصحابة قال: "أولئك قوم طهّر الله أيدينا من دمائهم، فيجب أن نطهر ألسنتنا من أعراضهم".
وقال عليه الصلاة والسلام: "هل أنتم تاركو لي أصحابي؟"(2) فلا نتدخل فيما حصل بين الصحابة؛ لأنه من مقتضى الإيمان ومن مقتضى النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم.
(195) ولا نفرط في حب أحد منهم:
الإفراط: الغلو، أي: لا نغلوا في حب أحد منهم، كما غلت الرافضة في حب علي رضي الله عنه على زعمهم، وإلا الظاهر أنهم لا يحبونه ولا يحبون المسلمين عموماً، فغلوا فيه حتى قال بعضهم: إن علياً هو الله، وذلك في زمن علي رضي الله عنه، فخدَّ لهم الأخاديد وأحرقهم بالنار غيرةً لله عز وجل. فالغلو ممنوع سواء في الصحابة أو غيرهم، قال سبحانه : (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) [المائدة:77]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"(3) فنحن نحب أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن لا نغلو فيهم حتى نجعلهم شركاء لله وندعوهم من دون الله، كما تفعل الرافضة والقبوريون، فليس هذا حباً للصحابة، فحبهم باتباعهم والاقتداء بهم والترضي عليهم.
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم3673) ومسلم (رقم2541) .
(2) أخرجه البخاري بلفظ قريب (رقم3661)
(3) أخرجه أحمد في المسند (1/215،347) وابن ماجه (رقم3029).(16/153)
(196) ولا نتبرأ من أحد منهم:
في هذا إشارة إلى الرافضة الذين يتبرؤون من الصحابة، وخاصة أبا بكر، وعمر، وعثمان، بل يكفرون كثيراً من الصحابة، هذا من التفريط، فلا نُفرّط في حبهم؛ لأن التفريط هو ترك محبتهم .
(197) ونبغض من يبغضهم:
من يبغض الصحابة فإنه يبغض الدين؛ لأنهم هم حملة الإسلام وأتباع المصطفى عليه الصلاة والسلام، فمن أبغضهم فقد أبغض الإسلام؛ فهذا دليل على أنه ليس في قلوب هؤلاء إيمان، وفيه دليل على أنهم لا يحبون الإسلام.
(198) وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير:
على ما سبق فلا يجوز الخوض فيما حصل بينهم؛ بل يجب الإمساك عن ذلك وأن لا يُذكروا إلا بخير .
(199) وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان:
هذا أصل عظيم يجب على المسلمين معرفته، وهو محبة الصحابة وتقديرهم؛ لأن ذلك من الإيمان، بغضهم أو بغض أحد منهم من الكفر والنفاق، ولأن حبهم من حب النبي صلى الله عليه وسلم، وبغضهم من بغض النبي صلى الله عليه وسلم.
(200) ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون:(16/154)
لما فرغ مما يجب للصحابة من المحبة والولاء، وترك بغضهم وبغض من يبغضهم، وعدم التدخل فيما جرى بينهم، شرع في ذكر الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي على النحو الذي ذكره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة في آخر حياته، وفي هذا إشارة إلى خلافته، ولذلك قال الصحابة لما بايعوه: (رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، ألا نرضاك لدنيانا؟) فبايعوه، ولما لأبي بكر من السوابق العظيمة قبل الهجرة وبعدها، وهو أولى الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعده عمر بن الخطاب بعهد من أبي بكر، ثم عثمان بإجماع الصحابة باختيار من أصحاب الشورى الذين عينهم عمر قبل وفاته من العشرة المبشرين بالجنة، وهم خيار الصحابة. وبعد مقتل عثمان وليها علي رضي الله عنه، هذا هو ترتيب الخلافة، فمن زعم أن الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه، فهو ضال ومخالف للنبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع المسلمين.
فالشيعة: يزعمون أنها لعلي، ويسمونه الوصي على الأمة، وإنما قصدهم التهويش وإشعال الفتن بين الناس، فهم ليسوا بأحسن نظراً من الصحابة رضي الله عنهم. فالشيعة يقولون: الصحابة ظلمة، وكل وصف ذميم في القرآن المعني به الصحابة عندهم فيصفونهم بأنهم ظالمون وكافرون وضالون، وهذا مما جعل العلماء ينصون على ذكر الخلافة في كتب العقائد؛ لئلا يتأثر أحد بهؤلاء الأرجاس. فترتيب الخلفاء الأربعة على هذا الترتيب هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن الصحابة رتبوا هذا الترتيب وأجمعوا عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من خالف في أمر الخلافة فهو أضل من حمار أهله) .(16/155)
(201) وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة، على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقوله الحق، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة، رضي الله عنهم أجمعين:
فهؤلاء هم العشرة المشهود لهم بالجنة، وأبو عبيدة رضي الله عنه وصف بأنه أمين هذه الأمة؛ لأنه لما عقد النبي صلى الله عليه وسلم العهد مع أهل نجران، وفرض عليهم الجزية، طلبوا منه أن يبعث إليهم أميناً، فاختار أبا عبيدة وقال صلى الله عليه وسلم: "لأبعثن عليكم أميناً، حق أمين" فاستشرف الصحابة لذلك فبعث أبا عبيدة(1).
(202) ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرّيّاته المقدسين من كل رجس؛ فقد برئ من النفاق.
بعد أن ذكر ما يجب للصحابة انتقل إلى ذكر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأول أهل البيت هم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) [الأحزاب:33]، هذا خطاب لهن.
فأول من يدخل في أهل البيت: زوجاته، ثم قرابته عليه الصلاة والسلام، وهم آل العباس وآل أبي طالب، وآل الحارث بن عبد المطلب.
فالرافضة: يقدحون في عائشة ويصفونها بما برأها الله منه، وهذا تكذيب لله عز وجل ووصف لله بأنه اختار لرسوله امرأة لا تصلح له، وهذا كفر بالله، قال تعالى : (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) [النور:26] فالنبي صلى الله عليه وسلم طيب فلا يختار الله له إلا الطيبة.
وذرياته المقصود بهم أولاده عليه الصلاة والسلام، وأولاد ابنته فاطمة، وهم الحسن والحسين وأولادهما، هؤلاء ذريته صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم3745) ومسلم (رقم2420).(16/156)
(203) وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين –أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر –لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل:
لما فرع –رحمه الله- من حقوق الصحابة وأهل البيت، وما يجب لهم من المحبة والموالاة، وعدم التنقُّص لأحد منهم انتقل إلى الذين يلونهم في الفضيلة وهم العلماء، فعلماء هذه الأمة لهم منزلة وفضل بعد الصحابة؛ لأنهم ورثة الأنبياء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "العلماء ورثة الأنبياء"(1) والمراد بهم : علماء أهل السنة والجماعة، أهل العلم والنظر والفقه، وأهل الأثر، وهم أهل الحديث.
فالعلماء على قسمين:
القسم الأول: علماء الأثر، وهم المحدثون الذين اعتنوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وحفظوها وذبُّوا عنها، وقدموها للأمة صافية نقية، كما نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبعدوا عنها كل دخيل وكل كذب، فنحوا الأحاديث الموضوعة وبينوها وحاصروها، فهؤلاء يسمون: علماء الرواية.
القسم الثاني : وهم الفقهاء، وهم الذين استنبطوا الأحكام، من هذه الأدلة، وبينوا فقهها، وشرحوها وبينوها للناس، فهؤلاء يسمون: علماء الدراية.
ومنهم من جمع بين العلمين، ويسمون: فقهاء المحدثين، كالإمام أحمد، ومالك، والشافعي، والبخاري.
وكل هؤلاء العلماء لهم فضل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضّر الله أمرأً سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها"(2) فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم ومدحهم.
فالعلماء قاموا بما أوجب الله عليهم من حماية الدين والعقيدة، فبينوا الأحكام، والمواريث، والحلال والحرام، وبينوا أيضاً فقه الكتاب والسنة، فجعلوا للأمة ثروة عظيمة يستفاد منها ويقاس عليها ما يجد من مشاكل.
والفقه على قسمين:
__________
(1) أخرجه البخاري معلقاً في كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعلم، وأبو داود (رقم463) وابن ماجه (رقم223) والترمذي (رقم2687) .
(2) أخرجه ابن ماجه (رقم230،231،232،3056) .(16/157)
القسم الأول: الفقه الأكبر، وهو فقه العقيدة.
القسم الثاني: وهو فقه عملي، لا يقل عن الفقه الأكبر من حيث الأهمية، وهو فقه الأحكام العملية.
وفي فضل العلماء جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب"(1) وذلك لأن نفعهم يتعدّى، وفي رواية: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"(2) فالعلماء لهم احترام ومنزلة.
فلا يجوز الطعن فيهم وتنقصهم حتى لو حصل من بعضهم خطأ في الاجتهاد، فهذا لا يقتضي تنقصهم؛ لأنهم قد يخطئون، ومع ذلك هم طالبون للحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد"(3) وهذا في حق العلماء وليس المتعالمين؛ لأنه لا يحق لهم أن يدخلوا فيما لا يحسنون .
(204) ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء:
انتقل المصنف –رحمه الله- من العلماء إلى الأولياء.
والأولياء: جمع ولي، والولاية هي القرب والمحبة، فهم أهل القرب والمحبة من الله عز وجل، وسُمُّوا بالأولياء لقربهم من الله، ولأن الله يحبهم، قال تعالى : (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة:222] وقال تعالى: (إن الله يحب المحسنين) [البقرة:195].
وقد بينهم الله في قوله: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون) [يونس:62،63]، فالولي لابد أن يجتمع فيه صفتان:
الأولى: الإيمان.
والثانية: التقوى.
والناس في الولاية والبغض على أقسام ثلاثة:
القسم الأول: أولياء الله الخُلَّص من الملائكة والنبيين والصدّيقين والشهداء وصالح المؤمنين.
__________
(1) أخرجه الترمذي (رقم2687) .
(2) أخرجه الترمذي (رقم2690).
(3) أخرجه البخاري (رقم7352) ومسلم (رقم1716) .(16/158)
القسم الثاني: أعداء لله عداوة خالصة، كالمشرك والكافر والمنافق النفاق الأكبر، فهؤلاء أعداء الله ورسوله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) [الممتحنة:1]، وقال تعالى : (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) [المجادلة:22]، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [المائدة:51].
القسم الثالث: من فيهم ولاية من وجه، وعداوة من وجه، وهو المسلم العاصي، ففيه ولاية بقدر ما معه من طاعة، وفيه عداوة بقدر ما معه من معصية، فكل مسلم ولي لله ولكن على حسب ما معه من إيمان.
فمن ادّعى الولاية أو ادعيت له الولاية وليس معه إيمان، وليس فيه تقوى، فإنما هو دجال وكذاب.
وقد يدعون الولاية وهم سحرة وكهنة ومشعوذون وعرافون، وقد كتب شيخ الإسلام كتاباً سمّاه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وبيّن فيه من يدّعي الولاية، ويُروج على الناس أشياءً يظن أنها كرامات، وهي خوارق شيطانية، وسيأتي بيانه.
فتجب محبة أولياء الله، والاقتداء بهم، وولايتهم، والقرب منهم.
وقوله : (ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام):
رد على الصوفية، فعندهم غلو في الأولياء. وأنهم عندهم أفضل من الأنبياء وأهل السنة والجماعة لا يغلون في الأولياء وينزلونهم منازلهم، أما الصوفية الضلال فيفضلونهم على الأنبياء، يقول قائلهم:
مقام النبوة في منزل فويق الرسول ودون الولي
وهذا كفر؛ لأن الأفضل الرسل ثم الأنبياء ثم الأولياء، وسبب تقديم الولي على النبي عند الصوفية –على زعمهم- أن الولي يأخذ عن الله مباشرة، والنبي يأخذ بواسطة.
وقوله: (ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء) :(16/159)
وهذا لا شك فيه، فجميع الأولياء من أول الخلق إلى آخرهم لا يعادلون نبياً واحداً، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
(205) ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم :
هذا بحث عظيم، وهو بحث الكرامات، فالكرامة هي الخارق للعادة، فإن كانت على يد نبي فهي معجزة، مثل معجزة القرآن، فالإنس والجن عجزوا عن أن يأتوا بمثله، وهي أعظم المعجزات، ومثل معجزة عصا موسى، والتسع الآيات، ومثل إحياء الموتى لعيسى ابن مريم؛ وإن جرت الخارقة على يد رجل صالح فهو كرامة من الله أجراها على يده، وليس من عنده، مثل ما حصل لأصحاب الكهف وما حصل لمريم (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً) [آل عمران:37] فكان يأتيها رزقها وهي تتعبّد الله ولم تخرج من المحراب، وكذلك ما حصل من كرامات لهذه الأمة، وقد ذكر شيخ الإسلام طرفاً منها في كتابه: الفرقان.
أما إذا جرى الخارق على يد كاهن أو ساحر فهذا خارق شيطاني، يجري على يده من أجل الابتلاء والامتحان، فقد يطير في الهواء ويمشي على الماء ويعمل أعمالاً خارقة للعادة وهي من أعمال الشياطين.
والضابط: أننا ننظر إلى عمله، فإن كان موافقاً للإسلام، فما يجري على يده كرامة، وإلا فهو من خدمة الشياطين له.(16/160)
قال تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض) [الأنعام:128]، فالجني استمتع بالإنسي بالخضوع له وطاعته، والإنسي استمتع بالجني لأنه يخدمه ويحضر له ما يريد، قال تعالى: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم* وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) [الأنعام:128،129]، فهذه خوارق شيطانية، فالفارق بينها وبين الكرامة: الإيمان والعمل الصالح؛ وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، أما من عاداهم فقد حصل عنده بسبب فهم الخوارق خلط كثير، فالمعتزلة ومن نحا نحوهم من العقلانيين إلى يومنا هذا ينكرون الكرامات، حتى إن غلاتهم ينكرون بعض المعجزات، ويقولون: هذه لا يثبتها العقل؛ لأنهم يقدمون عقولهم.
الصنف الثاني: وهم القبوريون والصوفيون، غلوا في إثبات الكرامات حتى أثبتوها لأولياء الشيطان، فيثبتونها لمن لا يصلي ولا يصوم إذا جرى على يده خارق للعادة، وهي خوارق شيطانية، ومنهم من يغلو في الولي الصالح ويتخذه إلهاً مع الله كما حدث للقبوريين، فلو قرأت كتاب الشعراني المسمى "طبقات الأولياء" لرأيت العجب العجاب والحكايات الباطلة، فالولي عندهم خرج عن التكاليف ولا يحتاج إلى العبادة.(16/161)
فالإنسان مهما بلغ من الصلاح والعبادة فإنه لا يخرج عن العبودية، لا الملائكة، ولا الأولياء، ولا الأنبياء، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "والله إني لأرجو أن أكون أعلمكم بالله وأتقاكم" ، وهو سيد البشر وخير من مشى على الأرض، ويقول الله له: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [الحجر:99] فما أحد بلغ ما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم وما خرج عن عبادة الله، حتى المسيح صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل فيه: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً* فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً) [النساء:172،173] فهذا بحث عظيم يجب معرفته، وبخاصة في أوقات الجهل والخرافة.
(206) ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال:
الأشراط: جمع شرط، وهو العلامة، ومنه سمي الشرطي: شرطياً؛ لوجود العلامة عليه.
وأشراط الساعة: علاماتها الدالة على قرب وقوعها، قال سبحانة: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها) [محمد:18] فقوله: (فهل ينظرون) أي: ينتظرون، وقوله: (بغتة) أي: لا يعلم وقتها إلا الله، قال سبحانه: (ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة) [الأعراف:187]، وقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: "أخبرني عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل؟ قال: أخبرني عن أماراتها، قال: "إن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان"(1) .
وقد ذكر العلماء أن أشراط الساعة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: العلامات الصغرى، وهذه حصلت وانقضت.
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم50) مسلم (رقم9،10).(16/162)
القسم الثاني: العلامات الوسطى، هذه ما تزال تحدث مثل ما حدث في زماننا من تقدم الصناعات والاتصالات، واستخراج الكنوز من الأرض، وتقارب البلدان، حتى كأن العالم قرية واحدة، واجتماع اليهود في فلسطين انتظاراً للدجال، وتوطئة للملاحم التي ستقوم هناك.
القسم الثالث: العلامات الكبرى، من خروج الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها، فهذه إذا حصل أحدها تتابعت البقية.
وقوله: (من خروج الدجال) :
هو أول العلامات الكبرى، وهو من اليهود، ويدّعي الربوبية، ومعه خوارق شيطانية، تفتن الناس، يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتخرج ما فيها من الكنوز والنبات.(16/163)
والدجّال هو أشد الفتن؛ لأن الذين يفتنون به كثير؛ لشدة ما معه من الفتن، ومعه جنة ونار، ويأتي على جميع الأرض إلا مكة والمدينة، وهذه الفتنة تميز المؤمن من الكافر، وسُمّي دجالاً من الدجل، وهو الكذب؛ لكثرة كذبه، وسمي المسيح؛ لأنه يسير في الأرض ويمسحها بسرعة؛ لما هيأ الله له من وسائل المواصلات السريعة، التي هي أسرع من الريح، وقيل: سمي بذلك لأن عينه ممسوحة، فهو أعور، ويسمى: مسيح الضلالة. فيخرج الدجال فيتبعه اليهود، فيقودهم، ويحصل بسببه على المسلمين فتنة عظيمة، وما من نبي إلا حذر أمته منه، وأشدهم تحذيراً منه نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه آخر الأنبياء، وأمته آخر الأمم، وأقربها للدجال، وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير من الصلاة: "أن نتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال"(1) فهو فتنة عظيمة وشر كبير، فينزل عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء فيقتله بباب "لد" فيريح الله منه المسلمين، ثم يحكم عيسى بحكم الإسلام، فهو تابع للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس بعد نبينا نبي، وليس بعد شريعة الإسلام شريعة.
ثم يخرج في وقته يأجوج ومأجوج، وهم أيضاً فتنة عظيمة، قال تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) [الأنبياء:96]، وهم أمة من الأمم من بني آدم، كانوا في زمان الإسكندر ذي القرنين، وبنى دونهم السد، قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) [الكهف:97] فلا يستطيعون الصعود فوق الحائط، ولا يستطيعون نقبة؛ لقوته؛ لأنه من الحديد والبأس الشديد، ولكن إذا جاء وعد الله جعله دكاً، فيخرجون ويفتكون بالعالم، وليس لأحد طاقة في قتالهم، ثم يهلكهم الله في ساعة واحدة.
(207) ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء:
__________
(1) أخرجه الترمذي (رقم3613) وقال : هذا حديث حسن صحيح.(16/164)
ويسمى بالمسيح؛ لأنه كان يمسح على ذي العاهة فيشفيه الله، ويسمى: مسيح الهداية، ونزوله من السماء إلى الأرض في آخر الزمان متواتر، ومن أنكر ذلك فهو كافر، قال تعالى : (وإنه لعلم للساعة) [الزخرف:61] وفي قراءة: (وإنه لعلم للساعة) –بفتح العين واللام- أي: علامة على قرب الساعة، قال الله سبحانه: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) [النساء:159] وهذا في آخر الزمان؛ لأنه حي في السماء ولا يموت إلا بعد إنهاء المهمة الموكلة إليه، فيموت فيدفن في الأرض بعد أن يقتل الدجال والخنزير ويضع الجزية ويحكم بالإسلام.
(208) ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها:
الشمس مسخرة تجري بأمر الله، فتخرج من المشرق، وتغرب من المغرب، ثم إذا كان آخر الزمان وحان قيام الساعة أمرها الله سبحانه بالطلوع من المغرب، فتكون علامة للقيامة، وإذا طلعت من مغربها فلا يقبل الله توبة التائب، قال سبحانه: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً قل انتظروا إنا منتظرون) [الأنعام:158] فالكافر يسلم، ولكن لا يقبل الله إسلامه، والعاصي يتوب، ولكن لا تقبل توبته.
(209) وخروج دابة الأرض من موضعها:
قال سبحانه: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) [النمل:82] تخرج هذه الدابة فتسم المؤمن والكافر، أي: تضع عليه علامة يتعارف الناس بها، فيتخاطبون، وهذا يقول: يا مسلم، وهذا يقول: يا كافر، ومعنى قول الله : (تكلمهم) بكلام خارق للعادة. وليس عندنا خبر ثابت عن موضع خروجها، لكن نؤمن بخروجها من موضعها الذي يعلمه عالم الغيب والشهادة، قال سبحانه: (أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم) [النمل:82].
(210) ولا نصدق كاهناً ولا عرّافاً:(16/165)
سبق أن ذكر المؤلف الكرامات وضابطها، وأن الكرامات حق ثابت، ولا يجوز الاعتماد عليها، ولا يظن بأن للأولياء مرتبة يُدعون فيها مع الله عز وجل، كما يقوله القبوريون والخرافيون، فيتعلقون بالأولياء والصالحين من أهل هذه الخوارق.
أما قوله رحمه الله: (لا نصدق كاهناً ولا عرافاً) ففيه بيان الفرق بين الكرامة والكهانة والعرافة والسحر والشعوذة والتنجيم، فهذه –أي التي مع الكهان والعرافين- خوارق شيطانية وأعمال حذقوها وتعلموها بسبب تقربهم من الشياطين فيظن الناس والجهال أن هذه كرامات وأنها بسبب ولا يتهم لله، وهذا غلط، إنما هي من فعل الشياطين؛ لخضوعهم لهم وموافقتهم على الشرك، فالسحرة ما توصلوا إلى السحر إلا لخضوعهم للشياطين، فالسحر من عمل الشيطان وهو كفر بالله، فلا يغتر بهم، فهم يقولون: هذه كرامة أو أعمال رياضية أو أعمال بهلوانية، ويحضرون في المحافل والنوادي، ويتركون يعملون السحر أمام الناس، ويقولون: هذه أمور رياضية، ليضلوا الناس وليأكلوا بسحرهم الأموال، فيجب التنبيه على هؤلاء وبغضهم وعداوتهم؛ لأنهم أعداء الله ولرسوله.
والسحر على قسمين :
القسم الأول: سحر حقيقي : وهو ما يؤثر في بدن المسحور فيمرضه أو يؤثر على عقله أو يقتله، فهذا عمل شيطاني.(16/166)
القسم الثاني: سحر تخييلي، قال الله تعالى: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) [طه:66] وهو ما يسمى: القمرة، فيعملون شيئاً على أعين الناس، وهو ليس له حقيقة، فيظهر منه أن يضرب نفسه بالسيف، وأنه يأكل المسامير أو النار أو الزجاج، أو يدخل في النار، أو أن السيارة تمشي عليه، أو ينام على مسامير، أو يجر السيارة بشعره، أو يأتي بأوراق عادية، ويروج على الناس أنها نقود، وإذا ذهب سرحه عادت الأوراق إلى أصلها، كما يحصل من النشالين. ومن أعمال السحرة أيضاً: أن يأتي أحدهم بجعلٍ، وهي الحشرة المعروفة، ويُظهر بسحره أمام الناس أنها خروف، وكذلك فهم يروجون على الناس أنهم يمشون على خيط دقيق، وهو ما يسمى السرك، أو ما يسمى بالبهلوان.
فهذا كله كذب وتدجيل على الناس، وسحر لأعين الناس، وهو سحر تخييلي، إذا ذهب هذا السحر عادت الأمور كما هي، فيجب علينا أن لا نغتر بهم ولا نصدقهم ولا نمكنهم من أولادنا ولا بلادنا من أجل ترويج سحرهم.
وأما الكاهن: فهو الذي يدعي علم الغيب وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الشياطين يسترقون السمع فيسرقون الكلمة، فيخبرون بها الكاهن فيكذب معها مائة كذبة فيصدقه الناس في كل ما قال بسبب تلك الكلمة، قال سبحانه: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين* تنزل على كل أفاك أثيم* يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) [الشعراء:221،223] وكانت الكهانة في الجاهلية كثيرة، فكان في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الأمور الغائبة، ولما جاء الإسلام أبطل الكهانة ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من الذهاب إلى الكهان، قال عليه الصلاة والسلام: "من أتى كاهناً لم يقبل منه صلاة أربعين يوماً"(1) وهذا الحديث في صحيح مسلم.
__________
(1) أخرجه مسلم (رقم2230) .(16/167)
وجاء في السنن "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد"(1) ، ولما سُئل عن الكهان قال: "ليسوا بشيء"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تأتوهم"
فالكاهن: هو الذي يدّعي علم الغيب، بسبب تعامله مع الشيطان.
وأما العراف : فهو الذي يدّعي علم الغيب، لكن ليس بواسطة الشياطين، وإنما بالحدس والتخمين، فيقول: يمكن أن يقع كذا وكذا، بناء على تنبؤات كاذبة.
وقال بعض أهل العلم: إن العراف هو الكاهن، كل منهما يخبر عن الأمور الغائبة لكن باختلاف الوسيلة، فيجب على المسلم أن يكفر بالكهانة والعرافة، ولا يصدق أهلها، فهم ليسوا من أولياء الله، إنما هم من أولياء الشيطان، ومن أراد التوسع في هذا فليراجع كتاب "الفرقان" لشيخ الإسلام.
وأما التنجيم فالمنجم: هو الذي يخبر عن الأمور المستقبلة بواسطة النظر في النجوم، إذا طلع النجم الفلاني يحصل كذا، وإذا غرب النجم الفلاني يحصل كذا، والبرج الفلاني فيه نحس أو فيه سعادة، وهكذا يستندون إلى هذه الأعمال الكاذبة.
فالتنجيم: (هو نسبة الحوادث الأرضية إلى الأحوال الفلكية) كما عرفه شيخ الإسلام. والتنجيم من أمور الجاهلية، قال عليه الصلاة والسلام: "أربع في أمتي من أمور الجاهلية لا يتركونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم"(2)، أي: طلب السقاية من النجوم، قال سبحانه وتعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم* وإنه لقسم لو تعلمون عظيم* إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون* لا يمسه إلا المطهرون* تنزيل من رب العالمين* أفبهذا الحديث أنتم مدهنون* وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) [الواقعة:75،82]، أي : تنسبون ما يحصل لكم من الرزق للنجوم والحوادث الفلكية، فهذا من اعتقاد الجاهلية، فالنجوم إنما هي خلق من خلق الله مسخرة، وخلقها الله لثلاث حكم:
__________
(1) أخرجه أحمد (2/429) والحاكم 1/8 وقال : هذا حديث صحيح على شرطهما جميعاً.
(2) أخرجه مسلم (رقم934) .(16/168)
الأولى: أنها زينة للسماء الدنيا.
الثانية: أنها رجوم للشياطين.
الثالثة: أنها علامات يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، فمن اعتقد أنها لغير ذلك فهو قد أضاع نصيبه.
وإذا تدبرت القرآن وجدت أن الله ذكر للنجوم ثلاث فوائد، أما ما يحدث في الأرض من حوادث فليس للنجوم فيها تأثير، وإنما المنجمون يُدَلسون ويكذبون على الناس، ويقولون: إن هذه الحوادث بسبب النجوم، قال سبحانه: (والنجوم مسخرات بأمره) [النحل:12]، فهذه الأمور تخل بالعقيدة، ويبطل إيمانه إذا صدق أن النجوم هي التي فعلت هذا الشيء بالكون.
(211) ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة:
أي: لا نصدق أحداً يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع؛ لأنها الأدلة التي يعتمد عليها، فما خالفها فهو باطل، سواء من الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات.
(212) ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً:
نرى –معشر أهل السنة والجماعة- أن الاجتماع حق والفرقة عذاب، فالاجتماع للأمة على الحق رحمة، والفرقة بينهما عذاب، وهذا من صميم عقيدة أهل السنة والجماعة، فيجب الاجتماع ونبذ الفرقة، قال سبحانه وتعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) [آل عمران:103]، فحبل الله القرآن والإسلام، وقوله: (جميعاً) أي: اجتمعوا على القرآن والسنة، وقوله: (ولا تفرقوا) لما أمر الله بالاجتماع نهى عن الفرقة، وأخبر أن الاجتماع يكون على حبل الله، وهو القرآن، ولا يجوز الاجتماع على غيره من المذاهب والحزبيات، فهذا يُسبب الفرقة.
فالاجتماع لا يحصل إلا على كتاب الله، قال سبحانه: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) [آل عمران:103].(16/169)
فأمر الله سبحانه بالاجتماع ونبذ الفرقة في الآراء وفي القلوب، فالمسلمون مهما تفرقوا وبعدت أقطارهم فإنّهم مجتمعون على الحق، وقلوبهم مجتمعة، ويحب بعضهم بعضاً، أما أهل الباطل وإن كانوا في مكان واحد، أحدهم إلى جنب الآخر، فهم مجتمعة أبدانهم متفرقة قلوبهم، قال سبحانه: (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى) وقال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) [آل عمران:105]، وقال سبحانه: (ولا تكونوا من المشركين* من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون) [الروم:31،32]، وقال سبحانه: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) [الشورى:13].
فالواجب على المسلمين أن يكونوا أمة واحدة في عقيدتها وفي عبادتها وفي جماعتها وطاعتها لولي أمرها، فتكون يداً واحدة، وجسماً واحداً، وبنياناً واحداً، كما شبهها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا رحمة للمسلمين، تُحقن دماؤهم، وتتآلف قلوبهم، ويأمن مجتمعهم، فإذا حصل هذا درت عليهم الأرزاق. أما إذا تناحروا وتقاطعوا وتباغضوا تسلط عليهم الأعداء، وسفك بعضهم دماء بعض.
والاختلاف على قسمين:(16/170)
القسم الأول: اختلاف في العقيدة، وهذا لا يجوز أبداً؛ لأنه يوجب التناحر والعداوة والبغضاء ويفرق الكلمة، فيجب أن يكون المسلمون على عقيدة واحدة، وهي عقيدة لا إله إلا الله، واعتقاد ذلك قولاً وعملاً واعتقاداً، والعقيدة توقيفية ليست محلاً للاجتهاد، فإذا كانت كذلك فليس فيها مجال للتفرق، فالعقيدة مأخوذة من الكتاب والسنة، لا من الآراء والاجتهادات، فالفرقة في العقيدة تؤدّي إلى التناحر والتباغض والتقاطع، كما حصل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والفرق الضالة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي"(1) فما يجمع الناس إلا ما كان مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
القسم الثاني: اختلاف في الاجتهاد الفقهي، وهذا لا يوجب عداوة؛ لأن سببه هو النظر في الأدلة حسب مدارك الناس، والناس يختلفون في ذلك، وليسوا على حد سواء، فهم يختلفون في قوة الاستنباط وفي كثرة العلم وقلته.
فهذا الخلاف إذا لم يصحبه تعصب للرأي فإنه لا يفضي إلى العداوة، وكان الصحابة يختلفون في المسائل الفقهية، ولا يحدث بينهم عداوة، وهم إخوة، وكذلك السلف الصالح والأئمة الأربعة يختلفون، ولم يحصل بينهم عداوة، وهم إخوة، وكذلك أتباعهم، فإذا تعصب أحدهم للرأي فإن ذلك يوجب العداوة، ويجب على المسلم أن يأخذ الأقوال التي توافق الدليل من الكتاب أو السنة، قال سبحانه: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) [النساء:59]، وقال سبحانه: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) [الشورى:10] فيرجع في الخلاف إلى الكتاب والسنة ويؤخذ ما ترجح بالدليل .
__________
(1) أخرجه أبو داود (رقم4596) وابن ماجه (رقم3991) وأحمد 2/332 والحاكم 1/128 وصححه.(16/171)
(213) ودين الله في الأرض والسماء واحد، وهو دين الإسلام:
والإسلام عبادة الله وحده لا شريك له، فهذا تدين به الملائكة في السماء والإنس والجن في الأرض، وهو دين الإسلام، ومعناه بمفهومه العام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، كما عرفه شيخ الإسلام ونقله عنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الثلاثة الأصول، فالإسلام دين جميع الأنبياء وأتباعهم، فكل نبي دعا قومه إلى ذلك، وكل من اتبعه على ذلك فيعتبر مسلماً، سواء من أول الخلق أو آخرهم، فهو مستسلم لله بالتوحيد ومنقاد إلى الله بالطاعة، فدين الأنبياء واحد، وشرائعهم شتى ومختلفة بسبب حاجة البشر في كل زمان ومكان، ففي الحديث: "الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد"(1) وقال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) [المائدة:48]، فالله يشرع لكل نبي ما يناسب قومه ويناسب مصالحهم، ثم ينسخ الله لأمة أخرى بحسب مصالحها، فمن كان على دين نبي قبل أن ينسخ فهو مسلم، فعبادة الله بما شرعه لذلك النبي، ولكن بعد البعثة المحمدية صار الدين واحداً ونسخ الله ما قبله، وصار الدين المعتبر دينه عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز لأحد أن يبقى على دين من الأديان السابقة؛ لأن رسالته ودينه عليه الصلاة والسلام عام لكل الخلق، وشامل لكل زمان ولكل جيل.
(214) قال الله تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام) . وقال تعالى : (ورضيت لكم الإسلام ديناً):
فهو الدين الذي رضيه لعباده من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة.
(215) وهو بين الغلو والتقصير:
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم3443) ومسلم (رقم2365).(16/172)
فالإسلام وسط بين الغلو، وهو: الزيادة والتشديد، وبين التقصير، وهو: الجفاء، فدين الإسلام وسط لا تشديد فيه ولا تحلل منه، فكلا الطرفين مذموم، والوسط خير، ولهذا قال سبحانه: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) [المائدة:77] وقال عليه الصلاة والسلام: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً(1)، والمتنطعون هم المتشددون في أمور الدين، ولما قال نفر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.. قال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الثالث: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الرابع: أما أنا فاعتزل النساء، فقال عليه الصلاة والسلام: "أما إني أتقاكم لله وأخشاكم لله، وإني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني"(2)؛ لأن هذا تشديد ما أمر الله به، قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) [المائدة:87] يعني : من باب التدين، وقال سبحانه : (ولا تعتدوا) [المائدة:87] فالآية شملت الطرفين، فالدين وسط.
(216) وبين التشبيه والتعطيل:
أي : في العقيدة، بين التعطيل والتشبيه، بين تعطيل أسماء الله وصفاته، وبين تشبيه المخلوق بالخالق، والعقيدة وسط، فالمعطلة غلوا في التنزيه، فنفوا الأسماء والصفات، والمشبهة غلوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه، والعقيدة، وسط، قال سبحانه: (ليس كمثله شيء) [الشورى:11] هذا رد على المشبهة، (وهو السميع البصير) [الشورى:11] هذا فيه رد على المعطلة، -ونحن معشر أهل السنة والجماعة- نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله، من الأسماء والصفات، ولا نعطلها ولا ننفيها، ولا نشبه الله بأحد من خلقه، بل: نقول أسماء الله وصفاته تليق به سبحانه وإن كانت هذه الأسماء والصفات موجودة في البشر، لكن الكيفية مختلفة، والصفة تابعة للموصوف.
__________
(1) أخرجه مسلم (رقم2670).
(2) أخرجه البخاري (رقم5063) ومسلم (رقم1401) .(16/173)
(217) وبين الجبر والقدر:
مذهب أهل السنة والجماعة وسط بين الجبرية والقدرية، فالجبرية يغلون في إثبات القدر حتى يسلبوا العبد عن الاختيار، فيقولون: العبد ليس له اختيار، أفعاله كلها مجبور عليها، فهو آلة يحركه القدر، فصلاته وصيامه وأعماله ليس له فيها اختيار، فهو يحرك كما تحرك الآلة، وهذا مذهب باطل. والقدرية غلوا في إثبات اختيار العبد فنفوا القدر، حتى جعلوا العبد يستقل بأفعاله ويخرجونها من إرادة الله ومشيئته، وأن العبد له إرادة مستقلة، فقالوا: هو الذي يخلق فعل نفسه، وليس لله فيها تصرف، وهذا مذهب المعتزلة.
أما أهل السنة والجماعة فتوسطوا في هذه المسألة، وقالوا: إن العبد له اختيار ومشيئة، يفعل باختياره، ولكنه لا يخرج عن قضاء الله وقدره، فأفعاله خلق الله، وهي فعله وكسبه، فهو الذي يفعل المعاصي ويفعل الطاعات، ولكن الله هو المقدر، فلذلك يعاقب على جرائمه، ويثاب على طاعته، ولو كان يفعل هذا بغير اختياره ما حصل على الثواب ولا العقاب، فالمجنون والصغير لا يؤاخذان، وكذلك المكره الذي ليس له اختيار لا يؤاخذ .
(218) وبين الأمن والإياس :(16/174)
كذلك، هذا من عقيدة أهل السنة والجماعة، وهو الوسط بين الأمن من مكر الله والإياس من رحمته، فهم يرجون رحمة الله، ولا يأمنون من مكر الله، ولا من العذاب والفتنة، لكن لا يقنطون من رحمة الله، فيجمعون بين الخوف والرجاء، وهو ما كان عليه الأنبياء، قال سبحانه: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين) [الأنبياء:90]، فهؤلاء هم الأنبياء، فخوفهم من الله لم يحملهم على القنوط من رحمة الله، قال سبحانه: (إنه لا يأيئس من روح الله إلا القوم الكافرون) [يوسف:87]، وقال سبحانه: (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) [الحجر:56]، وأيضاً: رجاؤهم من الله لم يحملهم على الأمن من مكر الله، قال سبحانه: (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) [الأعراف:99].
فإبراهيم أبو الأنبياء يقول: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) [إبراهيم:35] فإبراهيم ما أمن على نفسه، ولكنه خاف الفتنة؛ لأنه بشر.
فلا يأمن الإنسان على نفسه ويقول: أنا رجل صالح، بل يخاف على نفسه، مع عدم القنوط من رحمة الله، قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) [الزمر:53،54].
فالواجب على الإنسان: أن يفعل أسباب الرحمة، وهي التوبة وإسلام الوجه لله سبحانه، عند ذلك يحصل على رحمة الله، فرحمة الله قريب من المحسنين، والإحسان سبب الرحمة، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهو بين مذهب المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، فإذا كان الإنسان مؤمناً بقلبه فلا تضره المعصية، فهؤلاء أمنوا مكر الله، ويقولون: الأعمال لا تدخل في حقيقة الإيمان، فيدخل الجنة وإن لم يعمل شيئاً عندهم، وهذا مذهب أفسد الدنيا، تحلل الناس من الدين بسببه، وقالوا: ما دام أننا ندخل الجنة، فلا حاجة إلى الأعمال، فيفعلون ما يشاءون.(16/175)
وبين الوعيدية الخوارج الذين يُكفِّرون بالكبائر التي دون الشرك، ويرون إنفاذ الوعيد الذي ذكره الله على من عصاه، فإن الله توعد العصاة، لكن قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء:48]. فهم تحت المشيئة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهو الوسط.
والقول الحق مع أهل السنة والجماعة الذين توسطوا بين الأمن والرجاء، والخوف والقنوط، ولهذا يقولون: الخوف والرجاء بالنسبة للإنسان كجناحي الطائرة، ولابد من سلامة الجناحين، فكذلك الخوف والرجاء لو اختل أحدهما سقط، فلابد من التعادل كما يتعادل جناحا الطائر.
(219) فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً. ونحن براء إلى الله من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه:
أي: ما ذكرناه في هذه العقيدة من أولها إلى آخرها، فهو ديننا معشر المسلمين، ونحن براء من كل من خالفه؛ لأنها عقيدة حق، وما خالفها فهو باطل.
(220) ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به:
هذا تأدب مع الله، لما بين عقيدة أهل السنة والجماعة، سأل الله أن يثبته عليها، فلا يكفي أن الإنسان يعرف العقيدة، فالعالم يَزَلُّ ويخطئ، فلا يغتر الإنسان بعلمه، ولا يأمن الفتن، فهل علمه يعادل علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ وقد دعاء الله فقال: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام* رب أنهن أضللن كثيراً من الناس) [النساء:35،36].
فالإنسان يسأل الله السلامة والعافية، فكم من عالم زل وانحرف عن الدين، وكم وكم.. فالأعمال بالخواتيم.
(221) ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة:(16/176)
ما أضل الناس إلا الأهواء، قال تعالى: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) [القصص:50]، وقال سبحانه: (أفرءيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) [الجاثية:23] فالإنسان يسأل الله السلامة من الهوى، وأن يهديه الحق، وإن خالف هواه، وقال الله عز وجل في اليهود: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون) [البقرة:87]، فالهوى خطير جداً.
(222) والمذاهب الردية:
وهي الفرق التي أخبر عنها عليه الصلاة والسلام بقوله: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار…."(1) الحديث؛ لأنها خارجه عن الحق، إلا من سار على مثل ما سار عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فإنهم ناجون من النار، ولذلك سموا بالفرقة الناجية.
والمذاهب بمعنى الآراء.
(223) مثل المشبهة:
هم الذين شبهوا صفات الله بصفات المخلوقين.
(224) والمعتزلة:
هم الذين عطلوا صفات الله ونفوها، بحجة أنهم ينزهون الله، فغلوا في التنزيه، وهم أتباع واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وكانا من تلاميذ الحسن البصري، وكانوا يحضرون في حلقته، فسئل الحسن البصري عن صاحب الكبيرة، فأجاب بما يوافق الكتاب والسنة، وقال: هو تحت المشيئة، ولا يكفر بالكبيرة، وهو ناقص الإيمان، فعند ذلك أنكر عليه واصل وقال له: هو في منزلة بين المنزلتين، ليس بكافر ولا مسلم. فاخترع هذا المذهب الباطل، واعتزل مجلس الحسن، واجتمع حوله الناس الذين هم من جنسه، فكونوا جماعة سُمُّو بالمعتزلة.
(225) والجهمية والجبرية:
__________
(1) أخرجه أبو داود (رقم4596) وابن ماجه (رقم3991). وأحمد 2/332 والحاكم 1/128. وصححه.(16/177)
وهم أتباع الجهم بن صفوان(1) الترمذي، تبنّى مذهب شيخه الجعد بن درهم(2)، وهذا أخذه عن طالوت اليهودي، الذي أخذه عن لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا المذهب هو القول بخلق القرآن، ومن أقوالهم: الجبر؛ أن الإنسان مجبور على أعماله وغيرها، ولذلك نُسبوا إلى الجهم، وسموا بالجهمية، فالجهم أخذه من الجعد الذي كان في أواخر دولة بني أمية، وقتله خالد بن عبد الله القسري، كان خالد يخطب في عيد الأضحى، فقال: ضحوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضحٍّ بالجعد بن درهم، فإنّه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً. فنزل من على المنبر فذبحه؛ لأنه زنديق، فقتله واجب، وشكر ذلك أهل السنة والجماعة، ولذلك قال ابن القيم في النونية:
ولأجل ذا ضحى بجعدٍ خالدُ الـ قسري يوم ذبائح القربان
لقد شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
فخلفه الجهم، فنُسب المذهب إليه؛ لأنه هو الذي أظهره، فجمع بين الجبر والتجهم.
ولهذا يقول الشاعر:
عجبت لشيطان دعا الناس جهرة إلى النار واشتق اسمه من جهنم
(226) والقدرية:
__________
(1) أبو محرز الراسبي أُس الضلالة ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء وجدال، وكان ينكر الصفات وينزه الباري عنها بزعمه، ويقول بخلق القرآن وأن الله في الأمكنة كلها. وكان يقول: الإيمان عقد بالقلب وإن بالكفر. انظر: سير أعلام النبلاء (6/26،27).
(2) هو مؤدب مروان الحمار، وهو أول من ابتدع بأن الله ما أتخذ إبراهيم خليلاً ولا كلم موسى. قال المدائني: كان زنديقاً. وقد قال له وهب: إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله أن له يداً وأن له عيناً ما قلنا ذلك. ثم لم يلبث أن صلب. انظر: سير أعلام النبلاء (5/433).(16/178)
مثل نفاه القدر، وهم المعتزلة، يقولون: أفعالُ العباد خلقهم، وليست داخلةً في خلق الله ولا إرادته، ولذلك سُمُّوا بمجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس أثبتوا خالقين: خالق للخير، وخالق للشر، أما القدرية فأثبتوا خالقين متعددين مع الله.
(227) وغيرهم، من الذين خالفوا السنة والجماعة، وحالفوا الضلالة:
من الذين خالفوا الكتاب والسنة من سائر الفرق الضالة.
(228) ونحن منهم براء، وهم عندنا ضلال وأرديا. وبالله العصمة والتوفيق:
فنحن نبرأ منهم، ونعاديهم في الله، ونبغضهم؛ لأنهم أهل ضلال وباطل، فالواجب هجرهم وبغضهم، والرد عليهم وعلى باطلهم.
فنحن نتبرأ ممن يقول: إن كل الفرق تحت اسم الإسلام، ويجب أن نتغاضى عن هذه الأمور، أخذاً بحرية الكلمة وحرية الرأي، فالفرق كلها تدخل تحت الإسلام. وهذا مذهب باطل وخطير على الأمة، وحرية الكلمة والرأي مقيدة بالكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة. والفرق المخالفة كلها في النار إلا الفرقة التي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
والإنسان عُرضة للخطأ، العصمة والتوفيق والحول والقوة بيد الله، فالإنسان لا يضمن لنفسه النجاة، إنما يرجو الله ويخافه.
وبهذا انتهت هذه النبذة المباركة، المشتملة على جُمَل عظيمة من اعتقاد أهل السنة والجماعة، فنسأل الله أن ينفعنا بها، وأن يجزل لمؤلفها جزيل الثواب على ما بيّن، وعلى ما وضح وعلى ما كتب، وعلى ما نصح للأمة، فجزاه الله خيراً وسائر أئمة المسلمين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.(16/179)
شرح القواعد الأربع
لشيخ الإسلام الإمام المجدد :
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ـ رحمه الله ـ
بقلم
صالح بن فوزان بن عبد الله آل فوزان
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
الحمد لله، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
وبعد :
فهذا شرح للقواعد الأربع التي ألفها شيخ الإسلام المجدد : محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ، لأنني لم أرَ من شرحها، فأحببت أن أشرحها حسب وسعي وطاقتي .
والله يعفو عما قصرت فيه .
قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ :
(( بسم الله الرحمن الرحيم .
أسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يتولاّك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك مبارَكًا أينما كنت، وأن يجعلك ممّن إذا أُعطيَ شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإنّ هؤلاء الثلاث عنوان السعادة .
اعلم ـ أرشدك الله لطاعته ـ : أن الحنيفيّة ملّة إبراهيم : أن تعبد الله مخلصًا له الدين كما قال ـ تعالى ـ { وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون } .
فإذا عرفت أنّ الله خلقك لعبادته فاعلم : أنّ العبادة لا تسمّى عبادة إلا مع التوحيد، كما أنّ الصلاة لا تسمّى صلاة إلى مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدتْ كالحدَث إذا دخل في الطهارة .
فإذا عرفتَ أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفتَ أنّ أهمّ ما عليك : معرفة ذلك، لعلّ الله أن يخلّصك من هذه الشَّبَكة، وهي الشرك بالله التي قال الله فيه : { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } )) .
[ الشرح ]
هذه (( القواعد الأربع )) التي ألّفها شيخُ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب ـ رحمه الله ـ .
وهي رسالة مستقلّة، ولكنها تُطبَع مع (( ثلاثة الأصول )) من أجل الحاجة إليها لتكون في متناوَل أيدي طلبة العلم .
و ( القواعد ) جمع قاعدة، والقاعدة هي : الأصل الذي يتفرّع عنه مسائلُ كثيرة ـ أو فروعٌ كثيرة ـ .(17/1)
ومضمون هذه القواعد الأربع التي ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ : معرفة التوحيد ومعرفة الشرك .
وما هي القاعدة في التوحيد ؟، وما هي القاعدة في الشرك ؟، لأنّ كثيرًا من الناس يتخبّطون في هذين الأمرين، يتخبّطون في معنى التوحيد ما هو ؟، ويتخبّطون في معنى الشرك، كلٌّ يفسّرهما على حسَب هواه .
ولكن الواجب : أننّا نرجع في تقعيدنا إلى الكتاب والسنّة، ليكون هذا التقعيد تقعيدًا صحيحًا سليمًا مأخوذًا من كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لاسيّما في هذين الأمرين العظيمين ـ التوحيد والشرك ـ .
والشيخ ـ رحمه الله ـ لم يذكر هذه القواعد من عنده أو مِنْ فكره كما يفعل ذلك كثيرٌ من المتخبِّطين، وإنما أخذ هذه القواعد من كتاب الله ومن سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيرته .
فإذا عرفت هذه القواعد وفهمتها سهُل عليك بعد ذلك معرفة التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ومعرفة الشرك الذي حذّر الله منه وبيّن خطره وضرره في الدنيا والآخرة . وهذا أمرٌ مهمّ جدًّا، وهو ألزم عليك من معرفة أحكام الصلاة والزكاة والعبادات وسائر الأمور الدينيّة، لأن هذا هو الأمر الأوّلي والأساس، لأنّ الصلاة والزكاة والحج وغيرها من العبادات لا تصحّ إذا لم تُبنَ على أصل العقيدة الصحيحة، وهي التوحيد الخالص لله ـ عزّ وجل ـ .
وقد قدّم ـ رحمه الله ـ لهذه القواعد الأربع بمقدِّمة عظيمة فيها الدعاء لطلبة العلم، والتنبيه على ما سيقوله، حيث قال : (( أسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يتولاّك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك مبارَكًا أينما كنت، وأن يجعلك ممّن إذا أُعطي شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإنّ هذه الثلاث هي عنوان السعادة )) .
هذه مقدّمة عظيمة، فيها دعاءٌ من الشيخ ـ رحمه الله ـ لكلّ طالبِ علم يتعلّم عقيدته يريد بذلك الحق، ويريد بذلك تجنُّب الضلال والشرك، فإنه حَرِيٌّ بأن يتولاه الله في الدنيا والآخرة .(17/2)
وإذا تولاّه الله في الدنيا والآخرة فإنه لا سبيل إلى المكاره أن تصل إليه، لا في دينه ولا في دنياه، قال ـ تعالى ـ : { الله وليّ الذين آمنوا يُخرجهم من الظّلمات إلى النور والذين كفروا أولياءهم الطاغوت }، فإذا تولاّك الله أخرجك من الظّلمات ـ ظلمات الشرك والكفر والشُّكوك والإلحاد ـ إلى نور الإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، { ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم } .
فإذا تولاّك الله برعايته وبتوفيقه وهدايته في الدنيا وفي الآخرة، فإنّك تسعد سعادة لا شقاء بعدها أبدًا، في الدنيا يتولاّك بالهداية والتوفيق والسير على المنهج السليم، وفي الآخرة يتولاّك بأن يُدخلك جنّته خالدًا مخلَّدًا فيها لا خوف ولا مرض ولا شقاء ولا كبَر ولا مكارِه، هذه وَلاية الله لعبده المؤمن في الدنيا والآخرة .
قال : (( وأن يجعلك مبارَكًا أينما كنت )) إذا جعلك الله مباركًا أينما كنت فهذا هو غاية المطالب، يجعل الله البركة في عمرك، ويجعل البركة في رزقك، ويجعل البركة في علمك، ويجعل البركة في عملك، ويجعل البركة في ذريّتك، أينما كنت تصاحبك البركة، أينما توجّهت، وهذا خيرٌ عظيم، وفضلٌ من الله ـ سبحانه وتعالى ـ .
قال : (( وأن يجعلك ممّن إذا أُعطيَ شكر )) خلاف الذي إذا أُعطي كفر النعمة وبطِرها، فإنّ كثيرًا من الناس إذا أُعطوا النعمة كفَروها وأنكروها، وصرفوها في غير طاعة الله ـ عزّ وجل ـ، فصارتْ سببًا لشقاوتهم، أما مَن يشكُر فإنّ الله يزيده : { وإذْ تأذّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم }، والله ـ جلّ وعلا ـ يزيد الشّاكرين من فضله وإحسانه . فإذا أردّت المزيد من النعم فاشكر الله ـ عزّ وجل ـ، وإذا أردتّ زوال النعم فاكفُرها .(17/3)
قال : (( وإذا ابتُلي صبر )) الله ـ جلّ وعلا ـ يبتلي العباد، يبتليهم بالمصائب، يبتليهم بالمكارِه، يبتليهم بالأعداء من الكفّار والمنافقين، فيحتاجون إلى الصبر وعدم اليأس وعدم القنوط من رحمة الله، ويثبُتون على دينهم، ولا يتزحزحون مع الفِتَن، أو يستسلمون للفتن، بل يثبُتون على دينهم، ويصبرون على ما يقاسون من الأتعاب في سبيلها، بخلاف الذي إذا ابتُلي جزِع وتسخّط وقنِط من رحمة الله ـ عزّ وجل ـ فهذا يُزاد ابتلاء إلى ابتلاء ومصائب إلى مصائب، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إنّ الله إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فعليه السخط ))، (( وأعظم الناس بلاءً : الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل ))، ابتُلي الرسل وابتُلي الصدِّيقون وابتُلي الشهداء وابتُلي عباد الله المؤمنون، لكنهم صبروا، أما المنافِق فقد قال الله فيه : { ومن الناس من يعبُد الله على حَرْف } يعني : طرف { فإنْ أصابه خيرٌ اطمأنّ به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسِر الدنيا والآخرة ذلك هو الخُسران المبين }، فالدنيا ليست دائمًا نعيمًا وتَرَفًا ومَلذّات وسُرورًا ونصرًا، ليست دائمًا هكذا، الله يداوِلها بين العباد، الصحابة أفضل الأمة ماذا جرى عليهم من الابتلاء والامتحان ؟، قال تعالى : { وتلك الأيّام نداولُها بين الناس }، فلْيُوَطِّنِ العبدُ نفسه أنه إذا ابتُلي فإنّ هذا ليس خاصًّا به، فهذا سبق لأولياء الله، فيوطِّن نفسه ويصبِر وينتظر الفرج من الله ـ تعالى ـ، والعاقِبة للمتّقين .(17/4)
قال : (( وإذا أذنب استغفر )) أما الذي إذا أذنب لا يستغفر ويستزيد من الذنوب فهذا شقي ـ والعياذ بالله ـ، لكن العبد المؤمن كلّما صدر منه ذنب بادر بالتوبة { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلاّ الله }، { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب }، والجَهالة ليس معناها عدم العلم، لأن الجاهل لا يؤاخَذ، لكن الجهالة هنا هي ضدّ الحِلْم . فكلّ مَنْ عصى الله فهو جاهل بمعنى ناقص الحِلْم وناقص العقليّة وناقص الإنسانيّة، وقد يكون عالمًا لكنه جاهل من ناحية أخرى من ناحية أنه ليس عنده حِلم ولا ثبات في الأمور، { ثم يتوبون من قريب } يعني : كلّما أذنبوا استغفروا، ما هناك أحد معصوم من الذنوب، ولكن الحمد لله أنّ الله فتح باب التوبة، فعلى العبد إذا أذنب أن يُبادِر بالتوبة، لكن إذا لم يتب ولم يستغفر فهذه علامةُ الشقاء . وقد يقنط من رحمة الله ويأتيه الشيطان ويقول له : ليس لك توبة .
هذه الأمور الثلاث : إذا أُعطي شكر، وإذا ابْتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر هي عنوان السعادة، مَن وُفِّق لها نال السعادة، ومن حُرِم منها ـ أو من بعضها ـ فإنّه شقيّ .
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ :
(( اعلم ـ أرشدك الله لطاعته ـ : أن الحنيفيّة ملّة إبراهيم : أن تعبد الله مخلِصًا له الدين كما قال ـ تعالى ـ : { وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون } )) .
[ الشرح ]
(( اعلم أرشدك الله )) . هذا دعاء من الشيخ ـ رحمه الله ـ، وهكذا ينبغي للمعلم أن يدعو للمتعلم .
وطاعة الله معناها : امتثال أوامره واجتناب نواهيه .
(( أن الحنيفيّة ملة إبراهيم )) الله ـ جلّ وعلا ـ أمر نبيّنا باتّباع ملّة إبراهيم، قال تعالى : { ثم أوحينا إليك أنِ اتّبع ملّة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين } .(17/5)
الحنيفيّة : ملة الحنيف وهو إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ، والحنيف هو : المقبِل على الله المعرِض عمّا سواه، هذا هو الحنيف : المقبِل على الله بقلبه وأعماله ونيّاته ومقاصِده كلّها لله، المعرِض عمّا سواه، والله أمرنا باتّباع ملّة إبراهيم : { وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم } .
وملة إبراهيم : (( أن تعبد الله مخلصًا له الدين )) هذه الحنيفيّة، ما قال : ( أن تعبد الله ) فقط، بل قال : (( مخلصًا له الدين )) يعني : وتجتنب الشرك، لأنّ العبادة إذا خالطها الشرك بطلتْ، فلا تكون عبادة إلاّ إذا كانت سالمَةً من الشرك الأكبر والأصغر .
(( كما قال ـ تعالى ـ : { وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } )) جمع : حنيف، وهو : المخلِص لله ـ عزّ وجل ـ .
وهذه العبادة أمر الله بها جميع الخلْق كما قال ـ تعالى ـ : { وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون }، ومعنى يعبدون : يُفْرِدوني بالعبادة، فالحكمة من خلق الخلق : أنهم يعبدون الله ـ عزّ وجل ـ مخلِصين له الدين، منهم من امتثل ومنهم من لم يمتثل، لكن الحكمة من خلقهم هي هذه، فالذي يعبُد غيرَ الله مخالِف للحكمة من خلق الخلق، ومخالِف للأمر والشرع .(17/6)
وإبراهيم هو : أبو الأنبياء الذين جاءوا من بعده، فكلّهم من ذريّته، ولهذا قال ـ جلّ وعلا ـ : { وجعلنا في ذريّته النبوّة والكتاب }، فكلهم من ( بني إسرائيل ) ـ حفيد إبراهيم عليه السلام ـ، إلا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإنه من ذريّة إسماعيل، فكلّ الأنبياء من أبناء إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ، تكريمًا له . وجعله الله إمامًا للنّاس ـ يعني : قدوة ـ : { قال إني جاعلُك للناس إمامًا } يعني : قدوة، { إن إبراهيم كان أمّة } يعني : إمامًا يُقتدى به . وبذلك أمر الله جميع الخلق كما قال ـ تعالى ـ : { وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون }، فإبراهيم دعا الناس إلى عبادة الله ـ عزّ وجل ـ كغيره من النبيّين، كلّ الأنبياء دعوُا الناس إلى عبادة الله وترْك عبادة ما سواه، كما قال تعالى : { ولقد بعثنا في كلّ أمة رسولاً أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
وأما الشرائع التي هي الأوامر والنواهي والحلال والحرام فهذه تختلف باختلاف الأمم حسب الحاجات، يشرع الله شريعة ثم ينسخها بشريعة أخرى إلى أنْ جاءت شريعة الإسلام فنسخت جميع الشرائع وبقِيَتْ هي إلى أنْ تقوم السّاعة، أما أصل دين الأنبياء ـ وهو التوحيد ـ فهو لم يُنسخ ولن يُنسخ، دينهم واحد وهو دين الإسلام بمعنى : الإخلاص لله بالتوحيد . أما الشرائع فقد تختلف، تُنسخ، لكن التوحيد والعقيدة من آدم إلى آخر الأنبياء، كلهم يدعون إلى التوحيد وإلى عبادة الله، وعبادة الله : طاعته في كلّ وقت بما أمر به من الشرائع، فإذا نًسخت صار العمل بالناسخ هو العبادة، والعمل بالمنسوخ ليس عبادة لله .
قال الشيخ :
(( فإذا عرفتَ أنّ الله خلقك لعبادته فاعلم : أنّ العبادة لا تسمّى عبادة إلا مع التوحيد )) .
[ الشرح ](17/7)
(( فإذا عرفتَ أن الله خلقك لعبادته )) يعني : إذا عرفت من هذه الآية { وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون } وأنت من الإنس، داخلٌ في هذه الآية، وعرفت أن الله ما خلقك عبثًا، أو خلقك لتأكل وتشرب فقط، تعيش في هذه الدنيا وتَسْرَحْ وتَمْرَحْ، لم يخلقك لهذا، خلقك الله لعبادته، وإنما سخّر لك هذه الموجودات من أجل أن تستعين بها على عبادته، لأنّك لا تستطيع أن تعيش إلا بهذه الأشياء، ولا تتوصّل إلى عبادة الله إلا بهذه الأشياء، سخّرها الله لك لأجل أنْ تعبده، ليس من أجل أن تفرح بها وتسرح وتَمْرَحْ وتفسُق وتفجُر تأكل وتشرب ما اشتهيت، هذا شأن البهائم، أمّا الآدميّون فالله ـ جلّ وعلا ـ خلقهم لغايةٍ عظيمة وحكمة عظيمة وهي العبادة، قال ـ تعالى ـ { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أُريد منهم من رزق } الله ما خلقك لتكتسب له، أن تحترف وتجمع له مالاً، كما يفعل بنو آدم بعضهم لبعض يجعلون عُمّالاً يجمعون لهم المكاسب، لا، الله غنيّ عن هذا، والله غنيّ عن العالَمين، ولهذا قال : { ما أُريد منهم من زرق وما أُريد أن يُطعِمون } الله ـ جلّ وعلا ـ يُطعِم ولا يُطعَم، غنيّ عن الطعام، وغني ـ جلّ وعلا ـ بذاته، وليس هو في حاجة إلى عبادتك، لو كفرت ما نقصتَ ملك الله، ولكن أنت الذي بحاجة إليه، أنت الذي بحاجة إلى العبادة، فمن رحمته : أنه أمرك بعبادته من أجل مصلحتك، لأنّك إذا عبدتّه فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ يُكرِمُك بالجزاء والثواب، فالعبادة سببٌ لإكرام الله لك في الدنيا والآخرة، فمن الذي يستفيد من العبادة ؟، المستفيد من العبادة هو العابِد نفسه، أما الله ـ جلّ وعلا ـ فإنّه غنيّ عن خلقه .
قال : (( فاعلم : أن العبادة لا تسمّى عبادة إلاّ مع التوحيد، كما أنّ الصلاة لا تسمّى صلاةً إلا مع الطهارة )) .
[ الشرح ](17/8)
إذا عرفت أن الله خلقك لعبادته فإن العبادة لا تكون صحيحة يرضاها الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلا إذا توفّر فيها شرطان، إذا اختلّ شرطٌ من الشرطين بطلت :
الشرط الأوّل : أنْ تكون خالِصة لوجه الله، ليس فيها شرك . فإنْ خالطها شركٌ بطلتْ، مثْل الطهارة إذا خالطها حدث بطلت، كذلك إذا عبدت الله ثم أشركت به بطلت عبادتك . هذا الشرط الأوّل .
الشرط الثاني : المتابَعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأيّ عبادة لم يأتِ بها الرسول فإنّها باطلة ومرفوضة، لأنّها بدعة وخُرافة، ولهذا يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ عمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدّ ))، وفي رواية : (( مَنْ أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ ))، فلا بدّ أنْ تكون العبادة موافِقة لِمَا جاء به الرّسول - صلى الله عليه وسلم -، لا باستحسانات الناس ونيّاتاهم ومقاصدهم ما دام أنها لم يدلّ عليها دليل من الشرع فهي بدعة ولا تنفع صاحبها بل تضرّه لأنها معصية، وإنْ زعم أنه تقرّب بها إلى الله ـ عزّ وجل ـ .
فلا بد في العبادة من هذين الشرطين : الإخلاص، والمتابعة للرّسول - صلى الله عليه وسلم - حتى تكون عبادةً صحيحة نافعة لصاحبها، فإنْ دخلها شركٌ بطلتْ، وإذا صارت مبتَدَعة ليس عليها دليل فهي باطلة أيضًا، بدون هذين الشرطين لا فائدة من العبادة، لأنّها على غير ما شرع الله ـ سبحانه وتعالى ـ، والله لا يقبل إلا ما شَرع في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - .(17/9)
فلا هناك أحد من الخلق يجب اتّباعه إلاّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أما ما عدا الرسول فإنه يُتْبَع ويُطاع إذا اتّبع الرسول، أما إذا خالف الرّسول فلا طاعة، يقول الله ـ تعالى ـ : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم }، وأولوا الأمر هم : الأمراء والعلماء، فإذا أطاعوا الله وجبتْ طاعتهم واتّباعهم، أما إذا خالفوا أمر الله فإنها لا تجوز طاعتهم ولا اتّباعُهم فيما خالفوا فيه، لأنّه ليس هناك أحدٌ يُطاع استقلالاً من الخلق إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما عداه فإنّه يُطاع ويُتّبَع إذا أطاع الرّسول - صلى الله عليه وسلم - واتّبَع الرسول، هذه هي العبادة الصحيحة .
قال الشيخ :
(( فإذا عرفتَ أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار؛ عرفتَ أنّ أهمّ ما عليك معرفة ذلك، لعلّ الله أن يخلّصك من هذه الشَّبْكَة وهي : الشرك بالله الذي قال الله ـ تعالى ـ فيه : { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لِمَنْ يشاء }، وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله ـ تعالى ـ في كتابه )) .
[ الشرح ]
أي : ما دام أنك عرفتَ التوحيد وهو : إفراد الله بالعبادة، يجب أن تعرف ما هو الشرك، لأنّ الذي لا يعرف الشيء يقع فيه، فلا بدّ أنك تعرف أنواع الشرك من أجل أن تتجنّبها، لأنّ الله حذّر من الشرك وقال : { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }، فهذا الشرك الذي هذا خطرُه، وهو أنه يَحْرِمُ من الجنّة { إنه من يُشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة }، ويَحْرِمُ من المغفرة { إن الله لا يغفر أن يُشرك به } .(17/10)
إذًا : هذا خطرٌ عظيم، يجب عليك أن تعرفه قبل أيّ خطر، لأنّ الشرك ضلّت فيه أفهام وعُقول . لنعرف ما هو الشرك من الكتاب والسنة، الله ما حذّر من شيء إلا ويبيِّنُه، وما أمَر بشيء إلا ويُبيّنه للناس، فهو لن يحرِّم الشرك ويتركه مجمَلاً، بل بيّنه في القرآن العظيم وبيّنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنّة، بيانًا شافيًا، فإذا أردنا أن نعرف ما هو الشرك نرجع إلى الكتاب والسنة حتى نعرف الشرك، ولا نرجع إلى قول فلان . وهذا سيأتي .
قال الشيخ :
(( القاعدة الأولى : أن تعلم أنّ الكفّار الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقِرُّون بأنّ الله ـ تعالى ـ هو الخالِق المدبِّر، وأنّ ذلك لم يُدْخِلْهم في الإسلام، والدليل : قوله ـ تعالى ـ : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يُخرج الحيّ من الميّت ويُخرج الميّت من الحي ومن يدبِّر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتّقون } )) .
[ الشرح ]
القاعدة الأولى : أن تعرف أن الكفّار الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا مقرِّين بتوحيد الرّبوبيّة، ومع ذلك إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يُدخلهم في الإسلام، ولم يحرِّم دماءهم ولا أموالهم .
فدلّ على أنّ التوحيد ليس هو الإقرار بالربوبيّة فقط، وأنّ الشرك ليس هو الشرك في الربوبيّة فقط، بل ليس هناك أحدٌ أشرك في الربوبيّة إلا شواذّ من الخلق، وإلاّ فكل الأمم تُقِرّ بتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية هو : الإقرار بأنّ الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبّر، أو بعبارة أخصر : توحيد الربوبية هو : إفراد الله ـ تعالى ـ بأفعاله ـ سبحانه وتعالى ـ .(17/11)
فلا أحد من الخلق ادّعى أنّ هناك أحدًا يخلُق مع الله ـ تعالى ـ، أو يرزق مع الله، أو يحيي، أو يُميت، بل المشركون مقرّون بأنّ الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبّر : { ولئن سألتهم مَن خلق السموات والأرض ليقولُنّ الله }، { قل مَن ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم فسيقولون لله }، اقرءوا الآيات من آخر سورة المؤمنون تجدون أنّ المشركين كانوا مقرّين بتوحيد الربوبيّة، وكذلك في سورة يونس { قل من يرزقكم من السموات والأرض أمّنْ يملك السمع والأبصار ومن يُخرج الحي من الميّت ويُخرج الميّت من الحي ومن يدبّر الأمر فسيقولون الله }، فهم مقرّون بهذا .
فليس التوحيد هو الإقرار بتوحيد الربوبيّة كما يقول ذلك علماء الكلام والنُظُّار في عقائدهم، فإنّهم يقرّرون بأنّ التوحيد هو الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، فيقولون : ( واحد في ذاته لا قسيم له، واحد في صفاته لا شبيه له، واحدٌ في أفعاله لا شريك له ) وهذا هو توحيد الربوبيّة، ارجعوا إلى أيّ كتاب من كتب علماء الكلام تجدوهم لا يخرجون عن توحيد الربوبيّة، وهذا ليس هو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، والإقرار بهذا وحده لا ينفع صاحبه، لأنّ هذا أقرّ به المشركون وصناديد الكَفَرة، ولم يُخرجهم من الكفر، ولم يُدخلهم في الإسلام، فهذا غلطٌ عظيم، فمن اعتقد هذا الاعتقاد ما زاد على اعتقاد أبي جهل وأبي لهب، فالذي عليه الآن بعض المثقّفين هو تقرير توحيد الربوبية فقط، ولا يتطرّقون إلى توحيد الألوهيّة، وهذا غلطٌ عظيم في مسمّى التوحيد .
وأما الشرك فيقولون : ( هو أن تعتقد أنّ أحدًا يخلُق مع الله أو يرزق مع الله )، نقول : هذا ما قاله أبو جهل وأبو لهب، ما قالوا أن أحدًا يخلُق مع الله ويرزُق مع الله، بل هم مقرّون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت .
قال الشيخ :(17/12)
(( القاعدة الثانية : أنّهم يقولون : ما دعوناهم وتوجّهنا إليهم إلا لطلب القُرْبة والشفاعة، فدليل القُربة قوله ـ تعالى ـ : { والذين اتّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زُلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كاذبٌ كفّار } )) .
[ الشرح ]
القاعدة الثانية : أن المشركين الذين سمّاهم الله مشركين وحكم عليهم بالخُلود في النار، لم يشركوا في الربوبيّة وإنما أشركوا في الأولهية، فهم لا يقولون إنّ آلهتهم تخلُ وترزُق مع الله، وأنهم ينفعون أو يضرّون أو يدبّرون مع الله، وإنما اتخذوهم شفعاء، كما قال الله تعالى عنهم : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله }، { ما لا يضرّهم ولا ينفعهم } هم معترفون بهذا إنهم لا ينفعون ولا يضرّون، وإنما اتخّذوهم شفعاء، يعني : وُسطاء عند الله في قضاء حوائجهم، يذبحون لهم، وينذُرون لهم، لا لأنّهم يخلقون أو يرزقون أو ينفعون أو يضرّون في اعتقادهم، وإنما لأنهم يتوسّطون لهم عند الله، ويشفعون عند الله، هذه عقيدة المشركين .
وأنت لمّا تناقش الآن قبوريًا من القبوريّين يقول هذه المقالة سواءً بسواء، يقول : أنا أدري أنّ هذا الوليّ أو هذا الرجل الصالح لا يضر ولا ينفع، ولكن هو رجلٌ صالح وأُريد منه الشفاعة لي عند الله .
والشفاعة فيها حقّ وفيها باطل، الشفاعة التي هي حقّ وصحيحة هي ما توفّر فيها شرْطان :
الشرط الأوّل : أن تكون بإذن الله .
والشرط الثاني : أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد، أي : من عُصاة الموحدين .
فإنِ اختلّ شرطٌ من الشرطين فالشفاعة باطلة، قال ـ تعالى ـ : { من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه }، { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى }، وهم عُصاة الموحّدين، أما الكفّار والمشركون فما تنفعهم شفاعة الشافعين { ما للظالمين من حميم ولا شفيعٍ يُطاع } .(17/13)
فهؤلاء سمعوا بالشفاعة ولا عرفوا معناها، وراحوا يطلبونها من هؤلاء بدون إذن الله ـ عزّ وجل ـ، بل طلبوها لمن هو مشرِكٌ بالله لا تنفعه شفاعة الشافعين، فهؤلاء يجهلون معنى الشفاعة الحقّة والشفاعة الباطلة .
ولهذا قال الشيخ ـ رحمه الله ـ :
(( ودليل الشفاعة قوله ـ تعالى ـ : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفاؤنا عند الله }، والشفاعة شفاعتان : شفاعة منفيّة وشفاعة مثبَتة : فالشفاعة المنفيّة ما كانت تٌطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلاّ الله، والدليل : قوله ـ تعالى ـ : { يأيها الذين آمنوا أنفِقوا ممّا رزقناكم من قبل أنْ يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خُلّة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون } )) .
والشفاعة المثبَتة هي : التي تُطلب من الله، والشّافع مُكْرَمٌ بالشفاعة، والمشفوع له : من رضيَ الله قوله وعمله بعد الإذن كما قال ـ تعالى ـ : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } )) .
الشرح :
الشفاعة لها شروط ولها قُيود، ليست مطلَقة .
فالشفاعة شفاعتان : شفاعة نفاها الله ـ جلّ وعلا ـ، وهي الشفاعة بغير إذنه ـ سبحانه وتعالى ـ، فلا يشفع أحد عند الله إلاّ بإذنه، وأفضل الخلق وخاتم النبيّين محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يشفع لأهل الموقف يوم القيامة يخرّ ساجدًا بين يدي ربّه ويدعوه ويحمدُه ويُثني عليه، ولا يزال ساجدًا حتى يُقال له : (( ارفع رأسك، وقل تُسْمَعْ، واشفع تُشَفَّعْ ))، فلا يشفع إلا بعد الإذن .
والشفاعة المثبتة هي التي تكون لأهل التوحيد، فالمشرك لا تنفعه شفاعة، والذي يقدِّم القرابين للقبور والنذور للقبور هذا مشرك لا تنفعه الشفاعة .
وخلاصة القول : أن الشفاعة المنفية هي التي تطلب بغير إذن الله، أو تطلب لمشرك .
والشفاعة المثبتة هي التي تكون بعد إذن الله، ولأهل التوحيد .
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ :(17/14)
(( القاعدة الثالثة: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر على أُناسٍ متفرّقين في عباداتهم منهم مَن يعبُد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأحجار والأشجار، ومنهم مَن يعبد الشمس والقمر وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفرِّق بينهم، والدليل قوله ـ تعالى ـ : { وقاتِلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } )) .
[ الشرح ]
القاعدة الثالثة : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث إلى أُناسٍ من المشركين، منهم مَنْ يعبُد الملائكة، ومنهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الأصنام والأحجار والأشجار، ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين .
وهذا من قبح الشرك أنّ أصحابه لا يجتمعون على شيء واحد، بخلاف الموحّدين فإنّ معبودهم واحد ـ سبحانه وتعالى ـ { أأربابٌ متفرّقون خيرٌ أمِ الله الواحد القهّار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سمّيتموها }، فمن سلبيّات الشرك وأباطيله : أنّ أهله متفرّقون في عباداتهم لا يجمعهم ضابط، لأنّهم لا يسيرون على أصل، وإنّما يسيرون على أهوائهم ودعايات المضلّلين، فتكثُر تفرّقاتهم { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكِسون ورجلاً سَلَمًا لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون }، فالذي يعبد الله وحده مثل المملوك الذي يعبده شخص واحد يرتاح معه، يعرف مقاصده ويعرف مطالبه ويرتاح معه، لكن المشرك مثل الذي له عدّة مالكين، ما يدري مَنْ يُرضي منهم، كلّ واحد له هوى، وكلّ واحد له طلب، وكل واحد له رغبة، كل واحد يريده أن يأتي عنده، ولهذا قال سبحانه : { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون } يعني : يملكه عدّة أشخاص، لا يدري مَن يُرضي منهم، { ورجلاً سَلَمًا لرجل } مالكه شخص واحد، هذا يرتاح معه، هذا مثل ضربه الله للمشرك وللموحّد .(17/15)
فالمشركون متفرّقون في عباداتهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم ولم يفرِّق بينهم، قاتل الوثنين، وقاتل اليهود والنصارى، وقاتل المجوس، قاتل جميع المشركين، وقاتل الذين يعبدون الملائكة، والذين يعبدون الأولياء الصالحين، لم يفرِّق بينهم .
فهذا فيه ردٌّ على الذين يقولون : الذي يعبد الصنم ليس مثل الذي يعبد رجلاً صالحًا وملكًا من الملائكة، لأنّ هؤلاء يعبدون أحجارًا وأشجارًا، ويعبدون جمادات، أما الذي يعبد رجلاً صالحًا ووليًّا من أولياء الله ليس مثل الذي يعبد الأصنام .
ويريدون بذلك أن الذي يعبد القبور الآن يختلف حكمه عن الذي يعبد الأصنام، فلا يكفر، ولا يعتبر عمله هذا شركًا، ولا يجوز قتاله .
فنقول : الرسول لم يفرّق بينهم، بل اعتبرهم مشركين كلّهم، واستحلّ دماءهم وأموالهم، ولم يفرِّق بينهم، والذين يعبدون المسيح، والمسيح رسول الله، ومع هذا قاتلهم . واليهود يعبدون عُزيرًا، وهو من أنبيائهم، أو من صالحيهم، قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يفرِّق بينهم . فالشرك لا تفريق فيه بين مَنْ يعبُد رجلاً صالحًا أو يعبُد صنمًا أو حجرًا أو شجرًا، لأن الشرك هو : عبادة غير الله كائنًا مَنْ كان، ولهذا يقول : { واعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئًا }، وكلمة { شيئًا } في سياق النهي تعمّ كلّ شيء، تعمّ كل مَنْ أُشرك مع الله ـ عزّ وجل ـ من الملائكة والرسل والصالحين والأولياء، والأحجار والأشجار .
قال :
(( والدليل قوله ـ تعالى ـ : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله } )) .
[ الشرح ]
أي : الدليل على قتال المشركين من غير نفريق بينهم حسب معبوداتهم؛ قوله تعالى : { وقاتلوهم }، وهذا عامّ لكل المشركين، لم يستثني أحدًا، ثم قال : { حتى لا تكون فتنة } والفتنة : الشرك، أي : لا يوجَد شرك، وهذا عامّ، أيَّ شرك، سواءً الشرك في الأولياء والصالحين، أو بالأحجار، أو بالأشجار، أو بالشمس، أو بالقمر .(17/16)
{ ويكون الدين كلّه لله } : تكون العبادة كلها لله، ليس فيها شَرِكَةٌ لأحد كائنًا مَنْ كان، فلا فرق بين الشرك بالأولياء والصالحين أو بالأحجار أو بالأشجار أو بالشياطين أو غيرهم .
[ المتن ]
قال :
(( ودليل الشمس والقمر قوله ـ تعالى ـ : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } )) .
[ الشرح ]
دلّ على أنّ هناك مَن يسجُد للشمس والقمر، ولهذا نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها سدًّا للذريعة، لأنّ هناك مَن يسجُد للشمس عند طلوعها ويسجد لها عند غروبها، فنهينا أنْ نصليَ في هذين الوقتين وإنْ كانت الصلاة لله، لكن لَمّا كان في الصلاة في هذا الوقت مشابهة لفعل المشركين مُنِعَ من ذلك سدًّا للذريعة التي تُفضي إلى الشرك، والرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بالنهي عن الشرك وسدّ ذرائعه المفضية إليه .
[ المتن ]
قال :
(( ودليل الملائكة قوله ـ تعالى ـ : { ولا يأمرَكم أن تتّخذوا الملائكة والنّبيّين أربابًا } )) .
[ الشرح ]
دلّ على أنّ هناك مَنْ عَبد الملائكة والنبيّين، وأن ذلك شرك .
وعبّاد القبور اليوم يقولون : الذي يعبد الملائكة والنبيّين والصالحين ليس بكافر .
[ المتن ]
قال :
(( ودليل الأنبياء قوله ـ تعالى ـ : { وإذْ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنتَ قلتَ للناس اتّخذوني وأُميَ إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أنْ أقول ما ليس لي بحقّ إنْ كنتُ قلتُه فقد علِمْته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنّك أنت علاّم الغيوب } )) .
[ الشرح ]
هذا فيه دليل على أن عبادة الأنبياء شرك مثل عبادة الأصنام .
ففيه ردٌّ على من فرّق في ذلك من عبّاد القبور(17/17)
فهذا فيه ردّ على هؤلاء الذين يقولون : إن الشرك عبادة الأصنام، ولا يسوَّى عندهم بين مَن عبد الأصنام وبين مَن عبد وليّا أو رجلاً صالحًا، وينكرون التسوية بين هؤلاء، ويزعمون أنّ الشرك مقصورٌ على عبادة الأصنام فقط، وهذا من المغالَطة الواضحة من ناحيتين :
الناحية الأولى : أنّ الله ـ جلّ وعلا ـ في القرآن أنكر على الجميع، وأمر بقتال الجميع .
الناحية الثانية : أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفرِّق بين عابِدِ صنمٍ وعابِد ملَك أو رجل صالح .
[ المتن ]
قال :
(( ودليل الصالحين قوله ـ تعالى ـ : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيُّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ... } الآية )) .
[ الشرح ]
(( ودليل الصالحين )) يعني : ودليل أنّ هناك مَن عبد الصالحين من البشر : قوله ـ تعالى ـ : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيُّهم أقرب } قيل : نزلت هذه الآية فيمن يعبد المسيح وأمّه وعُزيرًا، فأخبر ـ سبحانه ـ أنّ المسيح وأمه مريم، وعُزيرًا كلهم عبادٌ لله، يتقرّبون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه، فهم عبادٌ محتاجون إلى الله مفتقرون إليه يدعونه ويتوسّلون إليه بالطّاعة { يبتغون إلى ربهم الوسيلة } يعني : القُرب منه ـ سبحانه ـ بطاعته وعبادته، فدلّ على أنهم لا يصلُحون للعبادة لأنّهم بشرٌ محتاجون فقراء، يدعون الله، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، ومَن كان كذلك لا يصلُح أن يُعبد مع الله ـ عزّ وجل ـ .
والقول الثاني : أنها نزلت في أُناسٍ من المشركين كانوا يعبدون نفَرًا من الجن، فأسلم الجن ولم يعلم هؤلاء الذين يعبدونهم بإسلامهم، وصاروا يتقرّبون إلى الله بالطاعة والضَّراعة ويرجون رحمته ويخافون عذابه، فهم عبادٌ محتاجون فقراء لا يصلُحون للعبادة .(17/18)
وأيًّا كان المراد بالآية الكريمة فإنّها تدلّ على أنه لا يجوز عبادة الصالحين، سواءً كانوا من الأنبياء والصدِّيقين، أو من الأولياء والصالحين، فلا تجوز عبادتهم، لأنّ الكُل عبادٌ لله فقراء إليه، فكيف يُعبدون مع الله ـ جلّ وعلا ـ .
والوسيلة معناها : الطاعة والقُرب، فهي في اللغة : الشيء الذي يوصِّل إلى المقصود . فالذي يوصِّل إلى رضى الله وجنّته هو الوسيلة إلى الله، هذه هي الوسيلة المشروعة في قوله تعالى : { وابتغوا إليه الوسيلة } .(17/19)
أما المحرِّفون المخرِّفون فيقولون : الوسيلة : أنْ تجعل بينك وبين الله واسطة من الأولياء والصالحين والأموات، تجعلهم واسطة بينك وبين الله ليقرِّبوك إلى الله { ما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زُلفى }، فمعنى الوسيلة عند هؤلاء المخرّفين : أن تجعل بينك وبين الله واسطة تُعرِّف الله بك وتنقُل له حاجاتك وتُخبره عنك، كأنّ الله ـ جلّ وعلا ـ لا يعلم، أو كأن الله ـ جلّ وعلا ـ بخيل لا يعطي إلاّ بعد ما يلحّ عليه بالوسائط ـ تعالى الله عمّا يقولون ـ . ولهذا يشبّهون على النّاس ويقولون : الله ـ جلّ وعلا ـ يقول : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } فدلّ على أنّ اتّخاذ الوسائط من الخلق إلى الله أمرٌ مشروع لأنّ الله أثنى على أهله، وفي الآية الأخرى : { يأيها الذين آمنوا اتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهِدوا في سبيله } قالوا : إن الله أمرنا أن نتّخذ الوسيلة إليه، والوسيلة معناها : الواسطة، هكذا يحرّفون الكَلِم عن مواضعه، فالوسيلة المشروعة في القرآن وفي السنة هي : الطاعة التي تقرِّب إلى الله، والتوسُّل إليه بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى . هذه هي الوسيلة المشروعة، أما التوسُّل بالمخلوقين إلى الله فهو وسيلةٌ ممنوعة، ووسيلة شركيّة، وهي التي اتّخذها المشركون من قبل : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله }، { والذين اتّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زُلفى }، هذا هو شرك الأوّلين والآخرين سواء بسواء، وإنْ سمّوه وسيلة فهو الشرك بعينه، وليس هو الوسيلة التي شرعها الله ـ سبحانه وتعالى ـ، لأنّ الله لم يجعل الشرك وسيلة إليه أبدًا، وإنما الشرك مُبْعِدٌ عن الله ـ سبحانه وتعالى ـ : { إنه مَن يُشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } فكيف يُجعل الشرك وسيلة إلى الله ـ تعالى الله عمّا يقولون ـ .(17/20)
الشّاهد من الآية : أنّ فيها دليلاً على أنّ هناك من المشركين مَن يعبد الصالحين، لأنّ الله بيّن ذلك، وبيّن أن هؤلاء الذين تعبدونهم هم عبادٌ فقراء { يبتغون إلى ربّهم الوسيلة } يعني : يتقرّبون إليه بالطّاعة { أيُّهم أقرب } يتسابقون إلى الله ـ جلّ وعلا ـ بالعبادة لفقرهم إلى الله وحاجتهم { ويرجون رحمته ويخافون عذابه } ومَن كان كذلك فإنّه لا يصلُح أنْ يكون إلهًا يُدعى ويُعبد مع الله ـ عزّ وجل ـ .
[ المتن ]
قال :
(( ودليل الأحجار والأشجار قوله ـ تعالى ـ : { أفرأيتم اللاّت والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى } )) .
[ الشرح ]
في هذه الآية دليل أنّ هناك مَن يعبد الأحجار والأشجار من المشركين .
فقوله : { أفرأيتهم } هذا استفهام إنكار، أي : أخبروني، من باب استفهام الإنكار والتوبيخ .
{ اللات } ـ بتخفيف التاء ـ : اسمُ صنمٍ في الطائف، وهو عبارة عن صخرة منقوشة، عليها بيتٌ مبني، وعليه ستائر، يضاهي الكعبة، وحوله ساحة، وعنده سَدَنَة، كانوا يعبدونها من دون الله ـ عزّ وجل ـ، وهي لثقيف وما والاهم من القبائل، يفاخِرون بها .
وقُرئ : { أفرأيتم اللاتَّ } ـ بتشديد التاء ـ اسم فاعل من ( لَتَّ يَلُتُّ )، وهو : رجلٌ صالح كان يلُتُّ السَّويق ويُطعمه للحُجّاج، فلمّا مات بنوا على قبره بيتًا، وأرْخوا عليه الستائر، فصاروا يعبدونه من دون الله ـ عزّ وجل ـ، هذا هو اللاّت .
{ والعزّى } : شجرات من السَّلَم في وادي نخلة بين مكّة والطائف، حَوْلَها بناء وستائر، وعندها سَدَنة، وفيها شياطين يكلّمون الناس، ويظنّ الجهّال أنّ هذا الذي يكلّمهم هو نفس هذه الشجرات أو هذا البيت الذي بنوه مع أنّ الذي تكلِّمهم هي الشياطين لتضلّهم عن سبيل الله، وكان هذا الصنم لقريش وأهل مكّة ومَن حولهم .(17/21)
{ ومناة } : صخرة كبيرة في مكان يقع قريبًا من جبل قُديد، بين مكّة والمدينة، وكانتْ لخُزاعة والأوس والخزْرج، وكانوا يحرِمون من عندها بالحج، ويعبدونها من دون الله .
فهذه الأصنام الثلاثة هي أكبر أصنام العرب .
قال الله ـ تعالى ـ : { أفرأيتم اللاّت والعزّى ومَناة } هل أغنتكم شيئًا ؟، هل نفعتكم ؟، هل نصرتكم ؟، هل كانت تخلق وترزق وتحيي وتميت ؟، ماذا وجدتّم فيها ؟، هذا من باب الإنكار وتنبيه العقول إلى أنْ ترجع إلى رشدها، فهذه إنما هي صخرات وشجرات ليس فيها نفع ولا ضر، مخلوقة .
ولَمّا جاء الله بالإسلام وفتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة المشرّفة أرسل المغير بن شُعبة وأبا سفيان بن حرْب إلى ( اللاّت ) في الطائف فهدماها بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرسل خالد بن الوليد إلى العزّى فهدمها وقطع الأشجار وقتل الجنيّة التي كانت فيها تخاطِب الناس وتضلّهم ومحاها عن آخرها ـ والحمد لله ـ، وأرسل عليّ بن أبي طالب إلى ( مَناة ) فهدمها ومحاها، وما أنقذت نفسها، فكيف تُنقذ أهلها وعُبّادها { أفرأيتم اللات والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى } أين ذهبت ؟، هل نفعتكم ؟، هل منعتْ نفسها من جنود الله وجيوش الموحّدين ؟ .
فهذا فيه دليل على أنّ هناك مَن يعبد الأشجار والأحجار، بل إنّ هذه الأصنام الثلاثة كانت هي أكبر أصنامهم ومع هذا محاها الله من الوُجود، وما دفعت عنها ولا نفعت أهلها فقد غزاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقاتلهم ولم تمنعهم أصنامهم، فهذا فيه ما استدلّ له الشيخ ـ رحمه الله ـ أنّ هناك مَن يعبد الأحجار والأشجار .
يا سبحان الله ! بشر عقلاء يعبدون الأشجار والأحجار الجامدة التي ليس فيها عقول وليس فيها حركة ولا حياة، أين عقول البشر ؟، تعالى الله عمّا يقولون علوًّا كبيرًا .
[ المتن ]
قال :(17/22)
(( وحديث أبي واقدٍ الليثي ـ رضي الله عنه ـ قال : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين ونحنُ حدثاء عهدٍ بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها : ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ... الحديث )) .
[ الشرح ]
عن أبي واقد الليثي ـ رضي الله عنه ـ وكان ممّن أسلم عام الفتح على المشهور سنة ثمانٍ من الهجرة ـ يقال لها ( ذاتُ أنواط )، والأنواط جمع نوط وهو : التعليق، أي : ذاتُ تعاليق، يعلِّقون بها أسلحتهم للتبرّك بها، فقال بعضُ الصحابة الذين أسلموا قريبًا ولمْ يعرفوا التوحيد تمامًا .
( اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط )، وهذه بليّة التقليد والتشبُّه، وهي من أعظم البلايا، فعند ذلك تعجّب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : (( الله أكبر!، الله أكبر!، الله أكبر! ))، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجبه شيء أو استنكر شيئًا فإنّه يكبِّر أو يقول : (( سبحان الله )) ويكرِّر ذلك .
(( إنها السُّنَن )) أي : الطُرُق التي يسلُكها الناس ويقتدي بعضهم ببعض، فالسبب الذي حملكم على هذا هو اتّباع سنن الأوّلين والتشبُّه بالمشركين .(17/23)
(( قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قالت بنوا إسرائيل لموسى : { اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قومٌ تجهلون } )) . موسى ـ عليه السلام لمّا تجاوز البحر ببني إسرائيل وأغرق الله عدوّهم فيه وهم ينظرون، مرّوا على أُناسٍ يعكُفون على أصنامٍ لهم من المشركين، فقال هؤلاء لموسى ـ عليه السلام ـ : { اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهةً قال إنكم قومٌ تجهلون } أنكر عليهم وقال : { إنّ هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هم فيه } يعني : باطل، { وباطلٌ ما كانوا يعملون } لأنّه شرك، { قال أغيرَ الله أبغيكم إلهًا وهو فضّلكم على العالَمين } أنكر عليهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما أنّ نبيّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أنكر على هؤلاء، ولكن هؤلاء وهؤلاء لم يشركوا، فبنوا إسرائيل لَمّا قالوا هذه المقالة لم يُشركوا لأنّهم لم يفعلوا، وكذلك هؤلاء الصحابة لو اتّخذوا ذات أنواط لأشركوا ولكنّ الله حماهم، لَمّا نهاهم نبيّهم انتهوا، وقالوا هذه المقالة عن جهل، ما قالوها عن تعمُّد، فلمّا علِموا أنها شرك انتهوا ولم ينفّذوا، ولو نفّذوا لأشركوا بالله ـ عزّ وجل ـ .
فالشّاهد من الآية : أنّ هناك مَن يعبد الأشجار، لأنّ هؤلاء المشركين اتّخذوا ذات أنواط، وحاول هؤلاء الصحابة الذين لم يتمكّن العلم من قلوبهم حاولوا أن يتشبّهوا بهم لولا أنّ الله حماهم برسوله - صلى الله عليه وسلم - .
الشاهد : أنّ هناك مَن يتبرّك بالأشجار ويعكُف عندها، والعكوف معناه : البقاء عندها مدّة تقرُّبًا إليها . فالعُكوف هو : البقاء في المكان .
فدلّ هذا على مسائل عظيمة :
المسألة الأولى : خطر الجهل بالتوحيد، فإنْ مَنْ كان يجهلُ التوحيد حَرِيٌّ أنْ يقع في الشرك وهو لا يدري، ومن هنا يجب تعلُّم التوحيد، وتعلُّم ما يضادّه من الشرك حتى يكون الإنسان على بصيرة لئلا يُؤتى من جهله، لا سيّما إذا رأى من يفعل ذلك فيحسبُه حقًّا بسبب جهله، ففيه : خطرُ الجهل، لا سيّما في أمور العقيدة .(17/24)
ثانيًا : في الحديث خطرُ التشبُّه بالمشركين، وأنّه قد يؤدِّي إلى الشرك، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من تشبّه بقومٍ فهو منهم ))، فلا يجوز التشبُّه بالمشركين .
المسألة الثالثة : أنّ التبرُّك بالأحجار والأشجار والأبنية شركٌ وإنْ سُمِّي بغير اسمه، لأنه طلب البركة من غير الله من الأحجار والأشجار والقُبور والأضرحة، وهذا شرك وإنْ سمّوه بغير اسم الشرك .
[ المتن ]
قال :
(( القاعدة الرابعة : أنّ مشركي زماننا أغلظ شركًا من الأوّلين، لأنّ الأوّلين يُشركون في الرخاء ويُخلصون في الشدّة، ومشركوا زماننا شركهم دائم؛ في الرخاء والشدّة . والدليل قوله ـ تعالى ـ : { فإذا ركبوا في الفُلْك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم مشركون } )) .
[ الشرح ]
القاعدة الرابعة ـ وهي الأخيرة ـ : أنّ مشركي زماننا أعظمُ شركًا من الأوّلين الذين بُعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والسبب في ذلك واضح : أنّ الله ـ جلّ وعلا ـ أخبر أن المشركين الأولين يُخلصون لله إذا اشتدّ بهم الأمر، فلا يدعون غير الله ـ عزّ وجل ـ لعلمهم أنّه لا يُنقذ من الشدائد إلاّ الله كما قال ـ تعالى ـ : { وإذا مسّكم الضرّ في البحر ضلّ مَن تدعون إلاّ إياه فلمّا نجّاكم إلى البرّ أعرضتم وكان الإنسان كفورًا }، وفي الآية الأخرى : { وإذا غَشِيَهُمْ موجٌ كالظُّلَل دعوُا الله مخلصين له الدين } يعني : مخلصين له الدعاء، { فلما نجّاهم إلى البر فمنهم مقتصد }، وفي الآية الأخرى : { فلما نجّاهم إلى البر إذا هم يُشركون }، فالأوّلون يُشركون في الرخاء، يدعون الأصنام والأحجار والأشجار . أما إذا وقعوا في شدّة وأشرفوا على الهلاك فإنهم لا يدعون صنمًا ولا شجرًا ولا حجرًا ولا أي مخلوق، وإنما يدعون الله وحده ـ سبحانه وتعالى ـ، فإذا كان لا يخلِّص من الشدائد إلاّ الله ـ جلّ وعلا ـ فكيف يُدعى غيرُه في الرخاء .(17/25)
أما مشركوا هذا الزمان يعني : المتأخّرين الذين حدث فيهم الشرك من هذه الأمّة المحمديّة فإنّ شركهم دائمٌ في الرخاء والشدّة، لا يُخلصون لله ولا في حالة الشدّة، بل كلما اشتدّ بهم الأمر اشتدّ شركهم ونداؤهم للحسن والحسين وعبد القادر والرِّفاعي وغير ذلك، هذا شيء معروف، ويُذكر عنهم العجائب في البحار، أنهم إذا اشتدّ بهم الأمر صاروا يهتفون بأسماء الأولياء والصالحين ويستغيثون بهم من دون الله ـ عزّ وجل ـ، لأنّ دعاة الباطل والضلال يقولون لهم : نحن ننقذكم من البِحار، فإذا أصابكم شيء اهتفوا بأسمائنا ونحنُ ننقذكم . كما يُروى هذا عن مشايخ الطُّرق الصوفية، واقرءوا ـ إنْ شئتم ـ (( طبقات الشعراني )) ففيها ما تقشعرّ منه الجلود ممّا يسمّيه كرامات الأولياء، وأنهم ينقذون من البحار، وأنه يمدّ يده إلى البحر ويحمل المركَب كله ويُخرجه إلى البر ولا تَتَنَدَّى أكمامه، إلى غير ذلك من تُرَّهَاتهم وخُرافاتهم، فشركهم دائم في الرخاء والشدّة، فهم أغلظ من المشركين الأوّلين .
وأيضًا ـ كما قال الشيخ في (( كشف الشبهات )) ـ : من وجه آخر ـ : أنّ الأوّلين يعبدون أُناسًا صالحين من الملائكة والأنبياء والأولياء، أما هؤلاء فيعبدون أُناسًا من أفجر الناس، وهم يعترفون بذلك، فالذين يسمّونهم الأقطاب والأغواث لا يصلّون، ولا يصومون، ولا يتنزهّون عن الزنا واللواط والفاحشة، لأنهم بزعمهم ليس عليهم تكاليف، فليس عليهم حرام ولا حلال، إنما هذا للعوام فقط . وهم يعترفون أنّ سادتهم لا يصلّون ولا يصومون، وأنهم لا يتورّعون عن فاحشة، ومع هذا يعبدونهم، بل يعبدون أُناسًا من أفجر الناس : كالحلاّج، وابن عربي، والرّفاعي، والبدوي وغيرهم .
وقد ساق الشيخ الدليل على أنّ المشركين المتأخّرين أعظم وأغلظُ شركًا من الأوّلين، لأنّ الأوّلين يُخلصون في الشدّة ويُشركون في الرخاء، فاستدل بقوله تعالى : { فإذا ركِبوا في الفُلْك دعوا الله مخلصين له الدين } .(17/26)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين .(17/27)
شرح كتاب كشف الشبهات
بقلم/ الشيخ
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
- حفظه الله -
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فهذه رسالة كشف الشبهات للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى -.
وقبل أن ندخل في موضوع الرسالة نتكلم عن المؤلِّف والتعريف به من أجل أن يكون عند طالب العلم معرفة بهذا المؤلف وطريقته في دعوته لأن هذا من الأمور المهمة في معرفة الأئمة والدعاة إلى الله ومعرفة نشأتهم ودعوتهم من أجل أن يسير طلاب العلم على نهجهم ويقتبسوا من سيرتهم ويقتدوا بهم.
فهو الشيخ الإمام المجدِّد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن مشرف التميمي النَّجدي ولد رحمه الله في بلدة العيينة(1) وهي قرية في شمال الرياض، وكانت محل أسرته.
نشأ في بيت علم فأبوه كان القاضي في البلد وجده الشيخ سليمان كان هو المفتي والمرجع للعلماء وأعمامه كلهم علماء.
فنشأ في بيت علم. ودرس على يد أبيه عبد الوهاب وعلى أعمامه منذ صغره فقد حفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ سن العاشرة فاشتغل في طلب العلم وحفظ القرآن على أبيه. وقرأ كتب التفسير والحديث حتى برع في العلم وهو صغير وأعجب أبوه والعلماء من حوله بذكائه ونبوغه وكان يناقش في المسائل العلمية حتى أنهم استفادوا من مناقشته فاعترفوا له بالفضل ثم إنه لم يكتف بهذا القدر من العلم وإن كان فيه الخير إلا أن العلم لا يشبع منه.
__________
(1) عام 1115هـ المتوفى رحمه الله في عام 1206هـ، انظر الأعلام للزركلي 6/275، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 3/472 برقم (14463).(18/1)
فرحل لطلب العلم وترك أهله ووطنه وسافر إلى الحج وبعد الحج ذهب إلى المدينة والتقى بعلمائها في المسجد النّبوي خصوصًا الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف وكان إمامًا في الفقه وأصوله وهو من أهل نجد من أهل المجمعة في سدير وكذلك ابنه إبراهيم بن عبد الله مؤلف كتاب العذب الفائض شرح ألفية الفرائض. والتقى كذلك بالمحدث الشيخ محمد حياة السندي وأخذ منه إجازة في مروياته من كتب الحديث ثم رجع إلى بلاده، ولم يكتف بهذا بل سار إلى بلاد الأحساء في شرق بلاد نجد وفيها العلماء من حنابلة وشافعية ومالكية وحنفية وأخذ عنهم خصوصًا عن الحنابلة ومنهم محمد بن فيروز وعبد الوهاب بن فيروز أخذ عنهم الفقه.
وأخذ عن عبد الله بن عبد اللطيف الأحسائي.
ولم يكتف بهذا بل ذهب أيضًا إلى العراق – إلى البصرة خاصة – وكانت آن ذاك آهلة بالعلماء في الحديث والفقه فأخذ عن علمائها خصوصًا الشيخ محمد المجموعي وغيره. وكان في كل تنقلاته إذا ظفر بكتاب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومن كتب تلميذه ابن القيم نسخه بقلمه ونسخ كثيرًا من الكتب في الأحساء وفي البصرة فتجمعت لديه مجموعة عظيمة من الكتب.
ثم إنه هم بالسفر إلى بلاد الشام لما فيها من أهل العلم خصوصًا من الحنابلة وأهل الحديث، ولكنه بعدما سار إليها شقّ عليه الطريق وحصل عليه جوع وعطش وكاد أن يهلك في الطريق، وأنتم تعلمون الإمكانات في ذلك الوقت وبعد المسافة.. فرجع إلى البصرة وعدل عن السفر إلى الشام ثم رجع إلى نجد بعد ما تسلح بالعلم وبعدما حصل على مجموعة كبير من الكتب إضافة إلى الكتب التي كانت عند أهله وعند أهل بلده ثم اتجه إلى الدعوة والإصلاح ونشر العلم النَّافع ولم يرض بأن يسكت ويترك الناس على ما هم عليه بل أراد أن ينتشر علمه وأن يدعو إلى الله فنظر في مجتمعه فوجد فيه من الشر والشرك الأمور الكثيرة فأخذته الغَيرة على دين الله والرحمة للمسلمين ورأى أنه لا يسعه السكوت على هذا الوضع.(18/2)
وكان علماء نجد يعنون بالفقه وهم في العقيدة على عقيدة المتكلمين من أشاعرة وغيرهم ليس لهم عناية بعقيدة السّلف كما هو في الشام وفي مصر وغيرها من الأقطار وكانت العقيدة المنتشرة فيها هي عقيدة الأشاعرة، مع ما عند كثير منهم من الإخلال بتوحيد الألوهية.
وأما عقيدة السلف فقلّ من يعنى بها وطغت على الكثير منهم الخرافات والبدع والشرك في العبادة المتمثل بعبادة القبور هذا من النَّاحية العلمية.
وأما من النَّاحية السياسية فكانوا متفرقين ليس لهم دولة تجمعهم بل كل قرية لها أمير مستقل بها. فالعيينة فيها حاكم والدرعية فيها حاكم والرياض فيها حاكم وكل قرية صغيرة فيها حاكم، وكانت بينهم حروب وسلب ونهب فيما بينهم وبين القرى والبادية.
فمن النّاحية السياسية كانت البلاد في قلق وتفرق وفي تناحر وضياع حتى أن أهل البلد الواحد يقاتل بعضهم بعضًا.
وفي بلاد نجد عبادة القبور والاستغاثة بالأموات، فقد كانت عندهم قبور للصَّحابة كقبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه الذي استشهد مع جماعة من الصحابة في حرب مسيلمة الكذاب وكانوا يستنجدون بها ويستغيثون بها وعلى قبر زيد قبة وكانوا يأتون إليها من بعيد. وهي مشهورة عندهم.
وعندهم أشجار ونخيل يعتقدون فيها ويتبركون بها بل كانت عندهم النِّحل الباطلة مثل الصوفية ووحدة الوجود في الرياض والخرج؛ هكذا كانت حالتهم الدينية والعلماء ساكتون عن هذا الوضع بل إن بعض العلماء يشجعون على هذه الخرافات ويؤيدونها. فلما رأى – رحمه الله – حال المسلمين تحرك للدعوة إلى الله عز وجل وقام يدعو إلى الله ويدرِّس التوحيد وينكر هذه الشركيات والخرافات ويقرر منهج السلف الصالح فتكوّن عنده تلاميذ من الدرعية والعيينة ممن أراد الله له الخير.(18/3)
ثم إنه اتصل بأمير العيينة وعرض عليه الدعوة فقبل منه الأمير ووعده بالمناصرة في أول الأمر وهدم قبة زيد بن الخطاب حيث طلب من الأمير هدمها لأنه لا يمكن أن يهدمها إلا من له سلطة أما الفرد فلا يستطيع، ذلك فاستجاب له الأمير. وجاء إلى الشيخ امرأة اعترفت بالزنا وطلبت منه أن يقيم عليها الحد فردها حتى كررت عليه الطلب مثل ما فعلت الغامدية رضي الله عنها في عهد النبي ? (1)، فأقام عليها الحد ورجمها. فلما بلغ أمير الأحساء هدم القبة وأنه رجم المرأة أرسل إلى أمير العيينة وقال: إما أن تطرد هذا المطوع(2) وإلاّ قطعت عنك المساعدة التي أرسلها إليك. فجاء الأمير إلى الشيخ وعرض عليه الأمر وقال أنا لا أقدر أن أقاوم هؤلاء فهدّأه الشيخ ووعده بالخير وأن يتوكل على الله وأن الرزق بيد الله وأن هذه عقيدة التوحيد من قام بها فإن الله يعينه وينصره. لكن الأمير أصرّ على خروج الشيخ من بلده فخرج الشيخ من العيينة في وقت القيلولة وذهب إلى الدرعية وكان له فيها تلميذ من خيار التلاميذ يقال له ابن سويلم فذهب الشيخ من العيينة إلى الدرعية ليس معه إلا المروحة اليدوية يهوي بها على وجهه وهو يمشي ويقول { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }(3) يردد هذه الآية وهو يمشي فلما وصل إلى تلميذه في الدرعية أصاب التلميذ خوف وقلق من مجيء الشيخ لأنه يخشى على نفسه وعلى الشيخ من أهل البلد لأنهم متحاذرون من هذا الشيخ، فهدأه الشيخ وقال: لا يخطر في بالك شيء أبدًا توكل على الله جل وعلا فهو ينصر من نصره.
__________
(1) انظر صحيح الإمام مسلم 3/1321، 1322، كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا، حديث رقم (22/1695) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه
(2) كما يسمونه تصغيرًا لشأنه
(3) الطلاق: 2-3(18/4)
وفيما هم كذلك علمت زوجة أمير الدرعية وكانت امرأة صالحة فعرضت على زوجها الأمير محمد بن سعود أن يناصر هذا الشيخ الذي جاء وأنه نعمة من الله ساقها إليه فالبدار باغتنامه، فأدخلت عليه الطمأنينة وحب الدعوة وحب هذا العلم فقال الأمير: يأتيني، فقالت زوجته بل اذهب أنت إليه لأنك إذا أرسلت إليه وقلت يأتيني ربما يقول الناس طلبه من أجل أن يبطش به، لكنك إذا ذهبت إليه يكون هذا عزًا له ولك.. فذهب إليه الأمير في بيت التلميذ وسلّم عليه وسأله عن قدومه... فشرح له الشيخ وبيّن له أنه ليس عنده إلا دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وهي الدعوة إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، وشرح معناها وبيّن له أنها عقيدة الرسل...(18/5)
فقال الأمير: أبشر بالنصر والتأييد، وقال له الشيخ: وأبشر بالعز والتمكين لأن هذه الكلمة – لا إله إلا الله – من قام بها فإن الله يمكّن له. فقال له الأمير: لكني أشترط عليك شرطًا، قال وما هو؟ قال أن تتركني وما آخذ من الناس، قال الشيخ لعل الله يغنيك عن هذا ويفتح لك باب رزق من عنده. فتفرقا على هذا وقام الشيخ بالدعوة وقام الأمير بالمناصرة. ثم توافد الطلاب على الدرعية وصار للشيخ مكانة فيها، فكان هو الإمام في الصَّلاة والمفتي والقاضي، فتكونت إمارة للتوحيد في بلاد الدرعية من ذلك الوقت وأرسل الشيخ رسائل إلى أهل البلدان والقرى يدعوهم إلى الله والدخول في عقيدة التوحيد وترك البدع والخرافات فمنهم من استجاب وانضم إلى الدعوة بدون جهاد وبدون قتال ومنهم من مانعه وعانده فقاتل جنود التوحيد بقيادة الأمير محمد بن سعود وريادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاتلوا من عاند وعارض.. وامتدت الدعوة في بلاد نجد وسلّمت له البلاد ومن حولها، حتى أمير العيينة الذي كان له موقف مع الشيخ دخل في ولاية محمد بن سعود. وكذلك دخلت الرياض بعد قتال شديد وامتدت إلى الخرج وما وراء الخرج وإلى الشمال والجنوب حتى عمت من حدود الشام شمالاً إلى حدود اليمن جنوبًا ومن البحر الأحمر إلى الخليج العربي شرقًا كلها صارت تحت ولاية الدرعية بادية وحاضرة. وأفاء الله على الناس في الدرعية الخير والرزق والغنى والثروة وقامت بها أسواق تجارية واستنارت بالعلم والقوة ببركة هذه الدعوة السَّلفية التي هي دعوة الرسل عليهم السَّلام.
مؤلفاته:
ألّف الشيخ الكتب وأعظمها كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد.
ومن مؤلفاته هذه الرسالة « كشف الشبهات » التي نحن بصدد شرحها – إن شاء الله تعالى – وهي عبارة عن رد الشبهات التي أثيرت حول دعوة التوحيد التي قام بها الشيخ.
والمراد بالكشف إزالة الغطاء عن الشيء.(18/6)
قال تعالى: { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ }(1) والشبهات جمع شبهة وهي الأمر المشتبه المختلف الذي لا يُدْرَى هل هو حق أم باطل؟ ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « إن الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه »(2).
المشتبهات هنا المراد بها الأمور التي لا يُدْرَى هل هي من الحلال أو من الحرام لسبب تجاذب الأدلة فيها، ولا يعلمها إلا الخواص من أهل العلم. فالشبهات هنا المراد بها الأمور المشتبهة التي فيها تلبيس وتغطية وتمويه على النَّاس يظنونها حقًا وهي ليست بحق وكشفها هو الإيضاح لبطلانها.
__________
(1) ق: 22
(2) رواه الإمام البخاري في صحيحه 1/19، كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه من حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه(18/7)
والمراد هنا كشف ما كان عند النَّاس من شبهات حول عبادة القبور والاستغاثة بها التي عمت كثيرًا من بلاد الإسلام من بعد القرون المفضلة، حيث أُدخل في الإسلام ما ليس منه وذلك عن طريق الشيعة والمتصوفة فهم الذين تسببوا في نشر هذه الشبهات وهذه الشركيات التي انتشرت في بلاد الإسلام بحجج واهية، والجهال يظنونها حقًا؛ فيقولون إن هؤلاء الموتى عباد صالحون ولهم مكانة عند الله ونحن أناس مذنبون فهم يتوسلون بهم ويجعلونهم وسائط بينهم وبين الله في غفران الذنوب ويتقربون إليهم. وبسبب ذلك تغيرت عقيدة التوحيد عند كثير من النّاس من عهد بعيد بعد المائة الرابعة ومضي القرون المفضلة، حتى قيّض الله لهذه الأمة علماء يكشفون هذه الشبهات ومن أبرزهم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الذي قام ودحض هذه الشبهات ووضَّح للناس عقيدة التوحيد وكتب في ذلك الكتب النافعة وبيّن عقيدة السَّلف الصَّالح وسجلها في كتبه مدعمًا مسائلها بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، ودحض هذه الشبهات، ثم تلاه تلاميذه كالإمام ابن القيم في كتبه والإمام ابن كثير والإمام الذهبي والإمام المزّي وجاء بعدهم الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله إلى أن وصل الأمر للشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب فتلقى هذه العقيدة بقوة وقام بالدعوة إليها والجهاد في سبيلها حتى استنارت بها هذه البلاد، ولله الحمد وامتدت إلى البلاد المجاورة في مصر والشام والعراق وحتى في بلاد فارس عند أهل السنة وامتدت إلى الهند وإلى المغرب وإلى كثير من البلاد ولله الحمد، فمن أراد الله له الخير فإنه تأثر بهذه الدعوة المباركة وعرف أنها دعوة حق فاستجاب لها وأيّدها، وقامت الحجة على المعاندين ولله الحمد والمنة وزالت عن البلاد معالم الشرك والوثنية وعوائد الجاهلية.(18/8)
[ قال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم ] ابتدأ الرسالة ببسم الله الرحمن الرحيم وهذه هي السُّنَّة: أن تبدأ الكتب والرسائل ببسم الله الرحمن الرحيم كما ابتدأ الله تعالى بها في كتابه فأول ما ترون في المصحف الشريف { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم، الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }(1) وكذلك قبل كل سورة « بسم الله الرحمن الرحيم »، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كتب يبدأ كتبه بـ« بسم الله الرحمن الرحيم »(2). وإذا تحدث إلى أصحابه يبدأ مجلسه ببسم الله الرحمن الرحيم. والحكمة في البدء ببسم الله الرحمن الرحيم التبرك بها لأنها كلمة مباركة فإذا ذكرت في أول الكتاب أو في أول الرسالة تكون بركة عليه. أما الكتب أو الرسائل التي لا تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم فإنها تكون ناقصة لا خير فيها، ومن ناحية أخرى بسم الله الرحمن الرحيم فيها الاستعانة بالله جل وعلا فقوله: { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم } أي أستعين وأتبرك ببسم الله الرحمن الرحيم. فالجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره أستعين وأتبرك بـ{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم}. والله عَلَم على الذات المقدسة. والرحمن الرحيم اسمان كريمان من أسمائه الحسنى يتضمنان الرحمة. [اعلم رحمك الله] اعلم: هذه الكلمة يبدأ بها في التنبيه إلى الأمور المهمة فإذا أردت أن تنبه شخصًا على شيء مهم من مسائل العلم تقول له: اعلم من أجل أن ينتبه. واعلم فعل أمر من العلم يعني تلعّم ما يأتي واهتم به وألق بالك لما
__________
(1) الفاتحة: 1-2
(2) انظر صحيح الإمام البخاري 4/402 كتاب الجهاد باب دعاء النبي إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله وقوله تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ } إلى آخر الآية. وفي الفتح 6/109، وانظر تفاصيل ذلك في زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 3/688-696، ذكر هديه في مكاتباته إلى الملوك وغيرهم.(18/9)
يلقى عليك ولما يكتب لك. فهذه كلمة يُؤتى بها لأهمية ما يأتي بعدها قال تعالى: { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا }(1) وقال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }(2) وقال تعالى: { اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(3) وقال تعالى: { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ }(4).
فهذه كلمة عظيمة يؤتى بها للاهتمام. ثم قال: « رحمك الله » هذا دعاء من الشيخ رحمه الله لكل من قرأ هذه الرسالة، وهذا من باب التّلطّف لطالب العلم وتحسين الكلام له من أجل أن يُقبل على طلب العلم.
__________
(1) الطلاق: 12
(2) محمد: 19
(3) المائدة: 98
(4) المائدة: 92(18/10)
[ أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة ] أي اعلم هذه المسألة العظيمة واجعلها في ذاكرتك واجعلها في اهتمامك دائمًا وأبدًا وهي « أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة » وليس هو إفراد الله بالربوبية فإن هذا أقرَّ به المشركون ولم يكونوا موحّدين لأنهم لم يفردوا الله بالعبادة، فإقرارهم بتوحيد الربوبية ليس هو التوحيد المطلوب وإنما توحيد الربوبية دليل على توحيد الألوهية ولازم له فمن أقر بتوحيد الربوبية لزمه أن يقر بتوحيد الألوهية والله تعالى يذكر في القرآن في كثير من الآيات توحيد الربوبية دليلاً على توحيد الألوهية كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }(1) هذا هو توحيد الربوبية وهو دليل توحيد الألوهية، فأقام سبحانه وتعالى الحجة عليهم فيما أنكروه من توحيد الألوهية بما اعترفوا به من توحيد الربوبية ليلزمهم بذلك.
__________
(1) البقرة: 21-22(18/11)
حيث قال لهم كيف تعترفون أنه هو الخالق الرازق المحيي المميت وأنه لا شريك له في ذلك ثم تشركون في عبادته. أما الذين يقولون إن التوحيد هو الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت... إلخ فهم غالطون غلطًا فاحشًا، ولم يأتوا بالتوحيد المطلوب الذي دعت إليه الرسل. وعلى هذا المنهج الباطل أغلب عقائد المتكلمين التي تدرس الآن في كثير من المدارس الإسلامية. وقصد الشيخ رحمه الله بهذا التعريف هو الرد على هؤلاء الذين ركّزوا على توحيد الربوبية وتركوا توحيد الألوهية، فهذه أول شبهة وهي: أنهم جعلوا توحيد الربوبية هو التوحيد المطلوب، وأن من أفرد الله به فهو الموحّد وألّفوا كتبهم فيه وبنوا منهجهم عليه وصرفوا همهم إلى تحقيقه.
[ وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده ] فالرسل كلهم ما طلبوا من النّاس أن يقرروا بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت لأنهم معترفون بهذا وإنما طالبوا الأمم بإفراد الله بالعبادة. قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }(1) ما قال أن يقروا بأن الله هو الرب لأنهم مقرون بهذا بل قال: { اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } أي اتركوا الشرك بالله عز وجل في الألوهية.
وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ }(2) ما قال أنه لا رب سواي ولا خالق إلا أنا، بل قال سبحانه: { أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ } أي لا معبود بحق سواي.
هذا الذي بعث به الله الرسل، ما بعث الرسل لتقرير توحيد الربوبية لأن هذا موجود لكنه لا يكفي بل بعثهم لتوحيد الألوهية الذي هو إفراد الله تعالى بالعبادة وهو دين الرسل كلهم من أوَّلهم إلى آخرهم.
__________
(1) النحل:36
(2) الأنبياء: 25(18/12)
[ فأوّلهم نوح عليه السَّلام ] كما قال الله سبحانه وتعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ }(1) فدلّت الآية الكريمة على أن أول الرسل هو نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، فنوح هو أول رسول بعد حدوث الشرك في الأرض، وتتابعت بعده الرسل على هذا المنهج الرباني وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو خاتمهم ولا نبي بعده إلى أن تقوم السَّاعة قال الله سبحانه وتعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }(2) وقال - صلى الله عليه وسلم - : « أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي »(3) فهو آخر الرسل عليهم الصّلاة والسَّلام وآخر الأنبياء لأن كل رسول نبي فلا يبعث بعده لا رسول ولا نبي فمن اعتقد أنه يبعث بعده رسول أو نبي فهو كافر قال - صلى الله عليه وسلم - : « وسيخرج بعدي كذابون ثلاثون كل منهم يدعي أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي » فمن لم يعتقد ختم الرسالة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأجاز أن يبعث بعده نبي فهو كافر بالله عز وجل مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.
__________
(1) النساء: 163
(2) الأحزاب: 40
(3) رواه الترمذي في سننه بهذا اللفظ 6/368، 369 (34) كتاب الفتن (43) باب لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون حديث رقم 220 من حديث ثوبان رضي الله عنه. وانظر صحيح الإمام البخاري 4/162، 163، وصحيح مسلم 4/1791، ومسند الإمام أحمد 2/398 حديث رقم 9157، وسنن أبي داود 4/95، وسنن الدارمي 1/40.(18/13)
[ أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ] الغلو هو مجاوزة الحد. والغلو في الصَّالحين هو اعتقاد أنهم ينفعون أو يضرون من دون الله، وود إلخ هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ماتوا في عام واحد، فحزن قومهم عليهم حزنًا شديدًا فجاء الشيطان إليهم وقال لهم: صوّروا صورهم وانصبوها على مجالسهم من أجل أن تتذكروا أحوالهم فتنشطوا على العبادة؛ جاءهم عن طريق النصيحة وهو يريد لهم الهلاك فخدعهم بهذه الحيلة واعتبروا هذه وسيلة صحيحة لأنها تنشِّط على العبادة، فهذا فيه التحذير من فتنة الصور وفتنة الغلو في الصالحين، وهؤلاء نظروا لمصلحة جزئية ولم ينتبهوا لما يترتب عليها من المفاسد فالإنسان لا ينظر إلى المصلحة الجزئية وينسى المضار العظيمة التي تترتب عليها في المستقبل. ثم أهلك قوم نوح بالطوفان فاندرست هذه الأصنام إلى أن جاء عهد الطاغية وهو ملك من ملوك العرب يقال له عمرو بن لحي الخزاعي، وكان له سلطان على الحجاز وكان في أول أمره رجلاً ناسكًا على دين قومه ولكن ذهب إلى الشام للعلاج، فوجد أن أهل الشام يعبدون الأصنام فدخل في فكره هذا الشيء فجاء إلى أهل الحجاز والجزيرة فدعاهم إلى الشرك وجاء الشيطان فأرشده إلى مواطن الأصنام التي كانت تعبد عند قوم نوح والتي سفى(1) عليها الرمل بعد الطوفان، فحفرها ونقَّب عنها فاستخرجها ووزعها على أحياء العرب فانتشر الشرك من ذلك الوقت. وكانت هذه الأصنام الموروثة عن قوم نوح هي أكبر الأصنام وإلا فلهم أصنام كثيرة حتى إنه كان حول الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون صنمًا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى هي أكبر أصنامهم[« ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر » ](2)
__________
(1) سفت الريح التراب تسفيه: ذَرَتْهُ، أو حَمَلتْه. انظر القاموس المحيط ص 1671 مادة «سفت».
(2) انظر صحيح الإمام البخاري 6/73 من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه، كتاب التفسير باب ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا (إنا أرسلنا) بنحوه .(18/14)
[ وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كسر صور هؤلاء الصَّالحين ] كانت حال العرب الدينية قبل بعث النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هي الوثنية ثم بعث الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بملة إبراهيم الحنيفية السمحة ودعاهم إلى التوحيد بمكة وبقي ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى التوحيد بمكة وبقي ثلاثة عشرة سنة يدعوهم إلى التوحيد وينكر عليهم عبادة الأصنام. فاستجاب له من أراد الله له الهداية من الصَّحابة الذين أسلموا معه في مكة. ثم إن الله أذن لهم بالهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة وهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. واجتمع حوله المهاجرون والأنصار وكوّن جيوش التوحيد وصاروا يغزون المشركين.. إلى أن جاء في السنة الثامنة من الهجرة إلى مكة فاتحًا وصارت مكة تحت سلطة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعند ذلك كسر هذه الأصنام التي حول الكعبة وغسل الصور التي في جوف الكعبة، وأرسل إلى الأصنام التي حول مكة (اللات والعزى ومناة) من الصَّحابة من كسرها ومنها صور هؤلاء الصَّالحين من قوم نوح وانتشر التوحيد واندحر الشرك ولله الحمد.
وهذا معنى قول الشيخ – رحمه الله – (كسر صور هؤلاء الصَّالحين) وذلك يوم فتح مكة وطهّر الله به حرمه الشريف من هذه الأصنام.
وامتد التوحيد من بعثته - صلى الله عليه وسلم - وعهد الخلفاء الراشدين وعهد القرون المفضلة كلها خاليًا من الشرك فلما انتهت القرون المفضلة انتشر التصوّف والتشَيُّع وعند ذلك حدث الشرك في الأمة بعبادة القبور والأضرحة وتقديس الأولياء والصالحين إلى وقتنا هذا، وهذا الشرك موجود في الأمة ولكن يقيّض الله جل وعلا من يقيم الحجة على العباد من الدعاة المخلصين، ويهدي الله على أيديهم من أراد الله هدايته.(18/15)
وهكذا ينبغي ويجب على طلبة العلم والدعاة أن يهتموا بهذا الأمر وأن يجعلوا الدعوة للتوحيد وإنكار الشرك ودحض الشبهات من أولويات دعوتم فهذا هو الواجب وهذه دعوة الرسل عليهم الصّلاة والسّلام، لأن كل أمر يهون دون الشرك، فما دام الشرك موجودًا فكيف تنكر الأمور الأخرى! لابد أن نبدأ بإنكار الشرك أولاً ونخلّص المسلمين من هذه العقائد الجاهلية ونبيّن لهم بالحجة والبرهان وبالجهاد في سبيل الله إذا أمكن ذلك حتى تعود الحنيفية إلى المسلمين كل بحسب استطاعته ومقدرته في كل مكان وزمان. يجب على الدعاة ألا يغفلوا عن هذا الأمر ويهتموا بأمورٍ أُخرى ويبذلوا جهودهم فيها ولا يغطوا أعينهم عن واقع الناس الواقعين في الشرك وعبادة الأضرحة واستيلاء الخُرافيين وطواغيت الصوفية على عقول الناس. هذا أمر لا يجوز السُّكوت عليه وكل دعوة لا تتجه للنهي عنه فهي دعوة ناقصة أو دعوة غير صالحة أو دعوة غير مثمرة.
كما إنه يجب أن يعلم أن الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي ولا ينفع إلا إذا كان معه الإقرار بتوحيد الألوهية وتحقيقه قولاً وعملاً واعتقادًا، وأنّ المشركين الذين بعث إليهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ولم ينفعهم إقرارهم به لما كانوا جاحدين لتوحيد الألوهية.(18/16)
[ أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا. ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله. يقولون نريد منهم التقرب إلى الله. ونريد شفاعتهم عنده. مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون مقرون يشهدون أن الله هو الخالق الرزاق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو ولا يحيي إلا هو ولا يميت إلا هو ولا يدبّر الأمر إلا هو وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيها كلها عبيده وتحت تصرفه وقهره ] أي أن مشركي العرب الذين بُعث إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - يعبدون الله ولم تنفعهم هذه العبادة لما كانت مخلوطة بالشرك الأكبر، ولا فرق بين أن يكون المشرك به مع الله سبحانه صنمًا أو عبدًا صالحًا أو نبيًا مرسلاً أو ملكًا مقربًا ولا أن يكون قصد المشرك أن معبوده ليس شريكًا لله في ملكه بل هو مجرد وسيلة إلى الله ومقرب إليه.
فدل ذلك على أمرين:
الأول: أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده لا يكفي للدخول في الإسلام ولا يعصم الدم والمال ولا ينجّي من عذاب الله.
الأمر الثاني: أن عبادة الله إذا دخلها شيء من الشرك أفسدها فلا تصح العبادة إلا مع الإخلاص.(18/17)
[ فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهدون لله هذه الشهادة فاقرأ قوله تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }(1) وقوله: { قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ، قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }(2) وغير ذلك من الآيات ] يقول الشيخ رحمه الله تعالى: فإذا طلبت الدليل على أن المشركين مقرُّون بهذا – يعني بتوحيد الربوبية – وأنهم يشركون في توحيد الألوهية، إذا أردت الدليل على هذه المسألة العظيمة التي يُعرف بها الحق من الباطل فاقرأ قوله تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } فالمشركون يعترفون بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المتصرف في عباده الذي بيده الأمر لا ينكر أحد منهم هذا قال تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } هذا الرزق الذي تأكلون منه وتشربون وتلبسون وتركبون من الذي جاء به هل جاءت به الأصنام؟ الأصنام جمادات وحجارة، أم الأشجار أو الأموات أو القبور والأضرحة كلها لا تأتي بأرزاقكم فهم يعترفون بأن أصنامهم لا تخلق ولا ترزق قال تعالى: { أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ } السمع الحاسة العظيمة
__________
(1) يونس: 31
(2) المؤمنون: 84-87(18/18)
التي تسمع بها الأصوات والبصر الذي تبصر به المرئيات هذه العين التي يجعل الله فيها هذا البصر وهذا النُّور من الذي خلقه فيك؟ هل خلقه أحد غير الله؟ فهل رأيتم أحدًا من الخلق أوجد في أحد السمع إذا سلب منه وهل يستطيع أحد أن يرد للأعمى البصر الذي ذهب عنه؟ لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يجعلوا في عينه بصرًا ما استطاعوا لا الأصنام ولا الأطباء ولا الحُذاق من العلماء، فالمشركون معترفون بأن أصنامهم لا تعمل أي شيء من ذلك قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ }(1) لا يوجد أحد يجيب عن هذا السؤال ولا أحد يستطيع غير الله أن يأتي بالسمع والبصر.
__________
(1) الأنعام: 46(18/19)
{ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ } هذا من العجائب يخرج الحي من الميت يُخرج الزرع من الحبّة ويخرج المؤمن من الكافر { وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ } يخرج الكافر من المؤمن ويخرج البيضة من الطائر. الذي يقدر على هذا هو الله سبحانه وتعالى: { وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ } هذا عموم. يعني كل الأمور من الموت والحياة والمرض والصحة والكفر والإيمان والغنى والفقر والليل والنهار والعز والذل والملك يعطي ذلك من يشاء ويأخذه ممن يشاء كل ما يجري في هذا الكون من تقلبات وتغيّرات من الذي يوجد هذه التغيرات وهذه التقلبات؟ فسيقولون الله، فقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :{فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} ما دام أنكم معترفون أن هذه الأمور بيد الله وأن أصنامكم لا تفعل شيئًا منها أفلا تتقون الله عز وجل وتوحدونه وتفردونه بالعبادة لأنكم إن لم تتقوا الله فإن الله يعذبكم لأنه أقام عليكم الحجة وقطع منكم المعذرة فلم يبق إلا العذاب ما دمتم عرفتم الحق ولم تعملوا به { فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }(1) تبين لكم أن العبادة حق لله تعالى فلا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى فإن لم تعبدوه فإن هذا ضلال فماذا بعد الحق الذي هو التوحيد وإفراد الله بالعبادة إلا الضلال الذي هو الشرك.
__________
(1) يونس: 32(18/20)
فليحذر المسلم من هذا وليقبل الحق إذا تبين له خصوصًا في أمر التوحيد والعقيدة. يقبل الحق إذا تبين له ويخاف أن يصرف عنه فلا يقبله بعد ذلك وقوله تعالى: { قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ، قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }(1) هذه آيات من سورة المؤمنون مثل الآيات التي في سورة يونس التي ساقها المصنِّف ومثل غيرها من الآيات التي تقرر أن المشركين يعترفون لله بربوبيته ولكنهم يعارضون في توحيد الألوهية.
قال تعالى: { قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } مادامت الأرض ومن فيها لله كيف تعبدون الأصنام التي لا تملك شيئًا وتعبدون القبور الميتة التي لا حياة في أصحابها؟
{ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أفلا تذكرون أن الذي يملك الأرض ومن فيها هو المستحق للعبادة دون هذه الأصنام التي تعبدونها.
وهذا إقامة للحجة عليهم بما يعترفون به على ما جحدوه فهم يعترفون بتوحيد الربوبية ويجحدون توحيد الألوهية.
__________
(1) المؤمنون: 84-89(18/21)
[ فإذا تحققت أنهم مقرُّون بهذا، ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفت أنت التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد ] أي إذا عرفت أن المشركين مقرون بتوحيد الربوبية وأن الذي جحدوه هو توحيد الألوهية وهم يقولون إن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت لكن إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }(1) أي إذا قيل لهم اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا قالوا كما قال قوم نوح من قبل: { لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }(2).
كذلك هؤلاء المشركون كان الجدال الذي بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو في عبادة الله وحده لا شريك له، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وهم يقولون: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا }(3).
__________
(1) ص~:5
(2) نوح: 23
(3) ص~:5(18/22)
ويقولون هذا دين آبائنا وأجدادنا حتى إن أبا طالب عند الوفاة لما طلب منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: « لا إله إلا الله » أبى أن يقولها. وقال: هو على ملة عبد المطلب(1) ، وملة عبد المطلب عبادة الأصنام. هذا هو محل النزاع بين الرسل وبين الأمم فالرسل يقولون للأمم اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ولكن المشركين أبوا إلا البقاء على عبادة الأصنام، فالخصومة بين الرسل وبين الأمم هي في توحيد الألوهية. أما توحيد الربوبية فهو محل إجماع عند الجميع لم يخالفوا فيه وإنما خالفوا في توحيد الألوهية فهو محل النزاع وهو الذي شرع من أجله الجهاد في سبيل الله يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله »(2).
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه 6/17،18 من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه كتاب التفسير (سورة القصص)، وانظر الفتح 8/5-6، 3/222.
(2) رواه البخاري في صحيحه 9/140-141، كتاب الاعتصام باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي رواية: « إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله » صحيح البخاري 1/11، 12 كتاب الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم.(18/23)
فلو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يطلب منهم الإقرار بتوحيد الربوبية ما صار بينهم خصومة ولا نزاع لأنهم معترفون به. [ كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهارًا ] وهذا أمر ثان من شأن المشركين كما أنهم يعترفون بتوحيد الربوبية فهم أيضًا يعبدون الله فيدعونه ويحجون إلى البيت ويعتمرون ويتصدقون ويعبدون الله بأنواع من العبادة لكنهم يخلطونها بالشرك بحيث يعبدون الله ويعبدون غيره، وهذا لا ينفعهم شيئًا لأن الشرك يبطل عبادتهم فالعبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص ولهذا يقول جل وعلا: { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا }(1) وقال سبحانه وتعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }(2). ما اقتصر على قوله فليعمل عملاً صالحًا.
بل لابد أن يتجنب الشرك فإذا كان لم يتجنب الشرك ولو كان يعمل أعمالاً كثيرة فإنها تبطل ولا تنفع.
__________
(1) النساء: 36
(2) الكهف: 110(18/24)
فالمشركون كان عندهم عبادات لله عز وجل وهي من بقايا دين إبراهيم الخليل عليه السَّلام، فكانوا في البداية على دين إبراهيم ولكن لما جاء عمرو بن لحي الخزاعي غيّر دينهم وأدخل فيه الشرك، لكن بقيت بقايا من دين إبراهيم عندهم وهم مشركون فهم يدعون الله خصوصًا إذا وقعوا في الشدة فإنهم يخلصون الدعاء لله عز وجل ويتركون دعاء الأصنام لأنها لا تنفع في هذا الموقف ولا تنجدهم في وقت الشدة عليهم بهذا فقال سبحانه: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا }(1) وقال تعالى: { وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }(2).
فالعبادات إذا خالطها شرك تكون باطلة. فالذين يدَّعون الإسلام الآن ويصلّون ويصومون ويحجّون ولكنهم يَدْعُون الحسين والبدوي وعبد القادر الجيلاني هؤلاء مثل المشركين الأولين؛ فالمشركون يتعبدون لله عز وجل ولكنهم يدعون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ولا يقولون إن هذه أرباب بل يقولون هذه تقربنا إلى الله زلفى نريد منها الزلفى عند الله والتقرب إلى الله، فهي وسائط وشفعاء بيننا وبين الله. وهؤلاء يقولون الحسن والحسين وعبد القادر والبدوي إنما هم شفعاء لنا عند الله ولا يقولون إنهم يخلقون ويرزقون ويتصرفون في شيء من الأمور وإنما هذا لله عز وجل، إنما هؤلاء وسائط وشفعاء. ويقول بعض الناس هؤلاء مسلمون فنقول ولماذا لا يكون كفار قريش مسلمين أيضًا؟!.
__________
(1) الإسراء: 67
(2) لقمان: 32(18/25)
وهذا القائل ليس عنده فهم للتوحيد ولا بصيرة لأنه ما فهم التوحيد. والواجب على الإنسان أن يعرف هذا الأمر لأنه مهم جدًا وهذه هي الثقافة الصحيحة. ليست الثقافة أن تعرف أحوال العالم والحكومات والسياسات، هذه ثقافة لا تنفع ولا تضر. الثقافة التي تنفع هي معرفة التوحيد الصحيح ومعرفة ما يضاده من الشرك أو ينقصه من البدع والمحدثات، هذه هي الثقافة الصحيحة وهذا هو المطلوب من المسلم ومن طالب العلم أن يعرف التوحيد وأن يدعو إليه هذا هو المطلوب. ماذا ينفع العلم الكثير من غير تحقيق ومن غير بصيرة؟ لا ينفع شيئًا ولا يفيد صاحبه شيئًا إذا لم يكن مبنيًا على تحقيق وتوحيد وعبادة لله ومعرفة للحق من الباطل فإنه لا ينفع صاحبه إذا كان مجرد اطلاع أو مجرد ثقافة عامة.
[ ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلاً صالحًا مثل اللات أو نبيًا مثل عيسى ] هؤلاء المشركون متفرقون في عباداتهم منهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد عيسى بن مريم ومنهم من يعبد الصَّالحين. هذا دين المشركين وهو الواقع في كثير من العالم الإسلامي اليوم مع الأسف يعبدون الله ويحجّون ويصومون ويصلّون لكنهم واقعون في الشرك الأكبر فيعبدون الأموات ويذبحون لهم ويستغيثون بهم وقد يعتذر لهم بعض من لا بصيرة عنده بالتوحيد.(18/26)
فيقول: هؤلاء معذورون ولا يعتقدون في الأموات أنهم يخلقون ويرزقون وإنما اتخذوهم وسائط وشفعاء، فإن استحيى قال: هؤلاء مخطئون وربما يقول: هؤلاء مجتهدون والمجتهد مأجور أو يقول: هؤلاء جهال، وكيف يكونون جهالاً والقرآن يتلى عليهم والأحاديث تسمع وكلام أهل العلم يتردد عليهم، بل هؤلاء معاندون لأنهم قد قامت عليهم الحجّة فلم يقبلوها. وهناك من يقول إن الإنسان مهما فعل ومهما قال لا يحكم عليه بالكفر ولا بالشرك حتى يعلم ما في قلبه، ويا سبحان الله هل نحن نعلم ما في القلوب أو الله الذي يعلم ما في القلوب؟ نحن نحكم على الظواهر أما البواطن فلا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فالذي يعمل بالشرك يحكم عليه أنه مشرك ويعامل معاملة المشركين حتى يتوب إلى الله تعالى ويلتزم بعقيدة التوحيد. كما أن الذي يعمل بالتوحيد وينطق بالشهادتين يعامل معاملة المسلمين ما لم يظهر منه ما يناقض ذلك فنعامل كلاً حسب ما يظهر منه.
[ وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }(1) ] أي وعرفت أن تَعَبُّدهُم لله مع الشرك به لم ينفعهم لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقبله منهم بل دعاهم إلى إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه. وهذه الآية تمنع عبادة الملائكة وتمنع عبادة الرسل وتمنع عبادة الصالحين ففيها إبطال عبادة غير الله عز وجل كائنًأ من كان ولو كان أصحابها لا يعتقدون فيهم أنهم يخلقون ويرزقون.
__________
(1) الجن: 18(18/27)
وإنما يقولون إن هؤلاء صالحون فيتخذونهم وسائط بينهم وبين الله وشفعاء لهم عند الله عزَّ وجلَّ يقربونهم إلى الله زلفى كما قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(1) وفي زماننا الحاضر يقولون هؤلاء وسائل نتوسل بهم إلى الله عز وجل وهذا كله دين الجاهلية وهو باطل. لأنّه عبادة لغير الله عز وجل.
[ وكما قال تعالى: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ }(2)] له دعوة الحق أي العبادة الصحيحة كما قال تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }(3) والله جل وعلا لا يقبل إلا دعوة الحق يعني الدين الخالص، أما الذي يعبد الله ويعبد معه غيره فهذه دعوة شرك لا يقبلها الله.
وقوله: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } عام في كل من دعي من دونه سواء من الملائكة أو من الرسل أو من الصالحين أو من الأصنام أو من أي شيء وقوله: { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } أي لا يستجيبون لمن دعاهم بشيء لأنهم عاجزون لا يقدرون على شيء.
( فائدة في بيان معنى الرب والإله )
__________
(1) يونس: 18
(2) الرعد: 14
(3) الزمر: 3(18/28)
الله جل وعلا في القرآن ذكر الرب في مواضع، وذكر الإله في مواضع. خذ مثلاً سورة الناس، يقول سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ }(1) فما الفرق بين رب الناس وإله الناس؟ هل هما بمعنى واحد؟ إذًا يكون الكلام مكررًا أو أنهما بمعنيين فلابد من معرفة الفرق بينهما، وكثيرًا ما يأتي ذكر الرب كقوله تعالى: { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ }(2). فتكرر لفظ الرب وتكرر لفظ الإله فما معنى كل منهما؟ فالرب معناه المربي لخلقه بنعمه ومغذيهم برزقه تربية جسمية بالأرزاق والطعام، وتربية قلبية روحية بالوحي والعلم النَّافع وإرسال الرسل.
__________
(1) الناس: 1-3
(2) المؤمنون: 86-87(18/29)
ومن معاني الرب أنه المالك للسماوات والأرض فرب الشي مالكه والمتصرف فيه، ومن معاني الرب المصلح الذي يصلح الأشياء ويدفع عنها ما يفسدها، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يصلح هذا الكون وينظمه على مقتضى إرادته وحكمته سبحانه وتعالى. أما الإله فمعناه المعبود من أله يأله بمعنى عبد يُعبَد فإله معناه معبود وليس معناه الرب وإنما معناه المعبود والإلهية هي العبادة والوله هو الحب لأنه سبحانه وتعالى يحبه عباده المؤمنون ويخافونه ويرجونه ويتقربون إليه. هذا هو معنى الإله فتبين الفرق بين معنى الرب ومعنى الإله وأنهما ليسا بمعنى واحد ومن قال إنهما بمعنى واحد فقد غلط، والعلماء يقولون إذا ذكرا جميعًا صار الرب له معنى والإله له معنى، وإذا ذكر واحد دخل فيه معنى الرب أما إذا ذكرا جميعًا مثل ما في سورة الناس فإنه يكون للرب معنى وللإله معنى آخر كما في لفظ الفقير والمسكين إذا ذكرا جميعًا كما في قوله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ }(1) صار للفقير معنى وللمسكين معنى، فالفقير هو الذي لا يجد شيئًا وأما المسكين فهو الذي يجد بعض الكفاية فالمسكين أحسن حالاً من الفقير. ومثل لفظ الإسلام والإيمان إذا ذكر الإسلام والإيمان صار الإسلام معناه الأعمال الظاهرة والإيمان معناه الأعمال الباطنة كما في حديث جبريل: قال أخبرني عن الإسلام قال: » الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ». فسّره بالأركان الظاهرة. قال أخبرني عن الإيمان قال: » أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره » (2)
__________
(1) التوبة: 60
(2) رواه الإمام مسلم في صحيحه 1/36-38 (1) كتاب الأيمان (1) باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول معه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه .(18/30)
. فسّره بالأعمال الباطنة وهو إيمان القلب. هذا إذا ذكرا جميعًا صار لكل واحد معنى وإذا ذكر أحدهما وحده دخل فيه الآخر. ومن هنا نعرف الفرق أيضًا بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فتوحيد الربوبية هو الإقرار بأن الله هو الخالق والرازق المحيي المميت أي الاعتراف بأفعال الله سبحانه وتعالى؛ وتوحيد الألوهية معناه إفراد الله بأعمال العباد التي يتقربون بها إليه مما شرع. هذا معنى توحيد الألوهية فهناك فرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وما دمنا قد عرفنا معنى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية نأتي إلى حالة المشركين الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا مقرّين بالنّوع الأول الذي هو توحي الربوبية ولم يدخلهم في الإسلام، بل اعتبرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفارًا مشركين وقاتلهم وهم يقرون بتوحيد الربوبية، فهم أقروا بتوحيد الربوبية وجحدوا توحيد الألوهية لما طلب منهم أن يفردوا الله بالعبادة ويتركوا عبادة الأصنام قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }(1) لأنه قال لهم قولوا لا إله إلا الله فهم فهموا معنى لا إله إلا الله وهو أنه لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له وهم لهم أصنام ولهم معبودات كثيرة لا يريدون تركها والاقتصار على عبادة الله وهذا لا يرضيهم ولذلك أنكروا وقالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } طلب منا أن نعبد الله وحده ونترك عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام هذا شيء لا يعقل عندهم { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ }(2) ملة آبائهم فهذا احتجاج بما عليه آباؤهم؛ الحجة الملعونة التي احتجت بها الأمم من قبل إذا دعوا إلى عبادة الله. حتى فرعون يقول: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى }(3) فهم لمّا فهموا معنى لا إله إلا الله استغربوا هذا واستنكروه وتواصوا برفضه
__________
(1) ص:5
(2) ص~:7
(3) طه: 51(18/31)
وفي الآية الأخرى يقول سبحانه فيهم: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ }(1).
وهذا يبين معنى لا إله إلا الله تمامًا ويوضحه ويقطع الجدال، فإن فيه ردًا على من غلط في معنى لا إله إلا الله. فعلماء الكلام في مقرراتهم وعقائدهم يقولون لا إله إلا الله معناها لا خالق ولا رازق ولا قادر على الاختراع إلا الله هذا معنى الإله عندهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: « والحاذق منهم من يقول: الإله هو القادر على الاختراع وهذا غلط وجهل كبير باللغة وبالشرع المطهر إذ معنى الإله المعبود الذي تألهه القلوب وتخضع له وتتقرب إليه »(2) فهم لم يفهموا معنى الإله ولذلك يقولون لا إله إلا الله ويكثرون، ولهم أوراد في الليل والنهار يرددونها ومع هذا يعبدون القبور والأضرحة ويستغيثون بغير الله عز وجل. فلم يفهموا معنى لا إله إلا الله وأنها تطلب منهم ترك عبادة القبور والأضرحة وعبادة ما سوى الله من الأصنام والأشجار والأحجار فإذا قالوها لزمهم ترك عبادة الأوثان، أما هؤلاء فقالوها وعبدوا غير الله، فالأولون أحذق منهم ولهذا يقول الشيخ: لا خير في رجل جهّالُ المشركين أعلمُ منه بمعنى لا إله إلا الله.
__________
(1) الصافات: 35-36
(2) انظر معنى كلامه في التدمرية ص185، 186، تحقيق محمد بن عودة السعوي وفي مجموع الفتاوي 13/203 .(18/32)
[ وتحققت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما قاتلهم ليكون الدعاء كله لله والنذر كله لله والذبح كله لله والاستغاثة كلها لله وجميع أنواع العبادة كلها لله ] أي لا يكون بعض ذلك لله وبعضه للبدوي وبعضه لله وبعضه للحسين، لابد أن يكون الدعاء كله لله والذبح كله لله والنذر كله لله وسائر العبادات كلها لله وهذا هو الدين الصحيح، أما أن تكون العبادة مشتركة بين الله وبين القبور والأضرحة والأولياء والصالحين فهذا ليس هو التوحيد بل هذا هو دين المشركين وإن كان صاحبه يعترف بتوحيد الربوبية ويصوم ويصلي ويحج ويعتمر إلى غير ذلك.
[ وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام ] أي لما كان إقرارهم بتوحيد الربوبية الذي ذكره الله عنهم وسجله عليهم لم يدخلهم في الإسلام، دلّ على أن التوحيد المطلوب ليس هو توحيد الربوبية وإنما هو توحيد الألوهية وهو الفارق بين المسلم والكافر أما توحيد الربوبية فكل مقر به المسلم والكافر وهو لا ينفع وحده.(18/33)
[ وأن قصدهم الملائكة والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم ] أي أنهم لم يقولوا إن الملائكة والأنبياء والأولياء الذين يعبدونهم يخلقون ويرزقون ويحيون ويميتون ما قالوا هذا وإنما اتخذوهم شفعاء ووسائط بينهم وبين الله كما قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(1) ما أرادوا منهم إلا الشفاعة وزعموا أن هذا تعظيم لله يقولون: الله عظيم ما يمكن أن نصل إليه بدعائنا لكن نتخذ من يوصل إليه حاجاتنا من عباده الصالحين، من الملائكة والرسل والصالحين فقاسوا الله على ملوك الدنيا الذين يتوسط عندهم أصحاب الحاجات بالمقربين عندهم، فهم لم يعتقدوا فيهم أنهم يخلقون ويرزقون كما يقول الجهال: إن الشرك هو اعتقاد أن أحدًا يخلق مع الله أو يرزق مع الله، هذا ما قاله أحد من عقلاء بني آدم، وإنما قصدهم الشفاعة وفي الآية الأخرى: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(2) يقولون نحن عباد ضعفاء والله جل وعلا شأنه عظيم ولا نتوصل إليه فهؤلاء يقربونا إلى الله زلفى، شبّهوا الله بملوك الدنيا هذا هو أصل الكفر فدل على أنهم لم يعتقدوا فيهم الشرك في الربوبية وإنما اعتقدوا فيهم الشرك في الألوهية فإذا سألت أي واحد الآن يذبح للقبور أو ينذر لها ما الذي حملك على هذا؟ فإنهم يقولون كلهم بلسان واحد: والله ما اعتقدنا أنهم يخلقون ويرزقون وأنهم يملكون شيئًا من السماوات والأرض إنما اعتقدنا أنهم وسائط لأنهم صالحون يوصلون إلى الله حاجاتنا ويبلغونه حاجاتنا هذا قصدنا. ومع هذا سماهم الله مشركين وأمر نبيه بجهادهم كما قال تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ
__________
(1) يونس:18
(2) الزمر:3(18/34)
لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(1) مع أنهم يقولون لا نعتقد أنهم يخلقون ويرزقون ويدبِّرون مع الله وإنما قصدنا اتخاذهم وسائط فنحن نذبح لهم وننذر لهم ونتوسل بهم لأن الله لا يصل إليه شيء من أمورنا إلا بواسطتهم، فهم يوصلونه إلى الله ويكونون وسائط يقربوننا إلى الله زلفى وشفعاء عند الله، هذه شبهتهم قديمًا وهذه شبهة عباد القبور اليوم. { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } فتشابهت أقوالهم وأفعالهم.
[ عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون ] أي إذا فهمت ما سبق من الآيات البينات التي تدل على أن المشركين الأولين لم يشركوا في الربوبية وإنما أشركوا في الألوهية فاتخذوا الآلهة من دون الله لتقربهم إلى الله عز وجل وتشفع لهم عنده. إذا تبين لك هذا. عرفت أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل وجحده المشركون هو توحيد الألوهية لا توحيد الربوبية وأن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده لا يكفي ولا يدخل من أقرّ به في الإسلام.
ومعرفة ذلك أمر مهم جدًا إذ به يعرف التوحيد والشرك والإسلام والكفر. والجهل بذلك ضرره عظيم وخطره كبير لأن الإنسان قد يخرج من الإسلام وهو لا يدري.
[ وهذا التوحيد هو معنى قوله: لا إله إلا الله ] أي معنى لا إله إلا الله هو توحيد الألوهية لا توحيد الربوبية لأنه لو كان معناها توحيد الربوبية لما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمشركين قولوا لا إله إلا الله لأنهم يقولون إن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت وإنه حينئذٍ يطلب منهم ما هو تحصيل حاصل ويقاتلهم على شيء يعترفون به ويقرون به؛ وهذا القول باطل.
__________
(1) التوبة: 5(18/35)
[ فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكًا أو نبيًا أو وليًا أو شجرة أو قبرًا أو جنيًا ] هذا تعليل لما سبق في تقرير معنى لا إله إلا الله وأنه توحيد الألوهية لأن الإله عند مشركي العرب هو الذي يقصد لقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان وليس الإله عندهم هو الذي يخلق ويرزق ويدبر ليس هذا هو الإله عندهم فالشرك عندهم لم يقع في توحيد الربوبية وإنما وقع في توحيد الإلهية.
[ لم يريدوا أنّ الإله هو الخالق الرازق المدبَّر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده، كما قدمت لك وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ «السيد» ] أي ليس الإله عند المشركين الأولين هو الخالق الرازق المدبر لأن هذا معنى الرب، وفرق بين معنى الرب ومعنى الإله وفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا أي زمان المؤلف بلفظ السيد وإلى الآن يسمون هؤلاء الذي يدّعون صلاحهم ويتقربون إليهم يسمّونهم السادة كالسيد البدوي والسيد الرفاعي والسيد التيجاني، إلى غير ذلك يعتقدون أن هؤلاء السادة لهم منزلة عند الله تؤهلهم أن يتوسطوا لهم عند الله وتؤهلهم أن يُدعوا من دون الله ويذبح وينذر لهم ويطاف بقبورهم ويتبرك بها. فالمشركون الأولون يسمون هذه الأشياء آلهة والمشركون المتأخرون يسمون هذه الأشياء وسائط ووسائل وشفعاء والأسماء لا تغيّر الحقائق فهي آلهة.(18/36)
[ فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها ] أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا المشركين إلى تحقيق معنى: لا إله إلا الله التي هي كلمة التوحيد، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله وهو الذي بعث الله به رسوله إلى المشركين ولم يبعثه إليهم يدعوهم إلى توحيد الربوبية لأنهم مقرّون به وهو لا يكفي، لأنه قاتلهم وهم يقرون به، ومن قال إنه يكفي فإنه يلزم عليه تغليط الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه قاتل أناسًا مسلمين يعترفون بلا إله إلا الله إذا فسرناها بتوحيد الربوبية وهو الإقرار بالخالق الرازق القادر على الاختراع. ومع الأسف هذا التفسير الخاطئ للا إله إلا الله موجود في كتب العقائد التي ألّفها علماء الكلام وعلماء المنطق من المعتزلة والأشاعرة والتي تدرّس في كثير من المعاهد الإسلامية الآن. وعقائدهم مبنية على هذا الرأي وأن الإله معناه القادر على الاختراع فمن اعترف أن الله هو الخالق الرازق يعتبر موحدًا وأما من اعتقد أن أحدًا يخلق أو يرزق مع الله فهذا هو المشرك عندهم مع أن الشرك إنما وقع في توحيد الألوهية ولم يقع في هذا وليس هذا هو معنى لا إله إلا الله.
وإنما معناها: لا معبود بحق إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله وجب عليه أن يُفرد الله بالعبادة وأن يترك عبادة ما سواه، فإن المقصود من هذه الكلمة معناها والعمل بمقتضاها لا مجرد النطق بها دون عمل بمعناها ومقتضاها، فمن قالها وهو يعبد غير الله لم يكن عاملاً بمقتضاها وهو ترك الشرك، ولا ينفعه مجرد النطق بها لأنه قد ناقض فعله قوله، والمشركون الأولون لما سمعوا هذه الكلمة عرفوا معناها وأنه ليس المقصود التلفظ بها فقط ولذلك قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }(1).
__________
(1) ص~:5(18/37)
وفي وقتنا هذا وجد من يفسّر لا إله إلا الله بأن معناها هو إفراد الله بالحاكمية وهذا غلط. لأن الحاكمية جزء من معنى لا إله إلا الله وليست هي الأصل لمعنى هذه الكلمة العظيمة، بل معناها لا معبود بحق إلا الله بجميع أنواع العبادات ويدخل فيها الحاكمية ولو اقتصر الناس على الحاكمية فقاموا بها دون بقية أنواع العبادة لم يكونوا مسلمين، ولهذا تجد أصحاب هذه الفكرة لا ينهون عن الشرك ولا يهتمون به ويسمونه الشرك الساذج، وإنما الشرك عندهم الشرك في الحاكمية فقط وهو ما يسمونه الشرك السياسي، فلذلك يركزون عليه دون غيره، ويفسرون الشرك بأنه طاعة الحكام الظلمة.(18/38)
[ والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه فإنه لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ] أي الكفار يعرفون معنى لا إله إلا الله ولهذا لما قال لهم - صلى الله عليه وسلم - قولوا لا إله إلا الله قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا }(1) ولما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: { أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ، بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ }(2) فهم فهموا معنى لا إله إلا الله وأبوا أن يعترفوا به لأنه يُلزِمُهم بترك عبادة الأصنام وهم لا يريدون هذا، وإنما يريدون البقاء على عبادة الأصنام. ولم يجرؤوا أن يقولوا لا إله إلا الله ويبقوا على عبادة الأصنام لأن في هذا تناقضًا وهم يأنفون من التناقض، في حين أن كثيرًا من المنتمين إلى الإسلام اليوم لا يأنفون من هذا التناقض فهم يقولون لا إله إلا الله بحروفها ولكنهم يخالفونها ويعبدون غير الله من القبور والأضرحة والصالحين بل والأشجار والأحجار وغير ذلك. فهم لا يفهمون معنى لا إله إلا الله. فلا يكفي التلفظ بلا إله إلا الله دون علم بمعناها وعمل بمقتضاها.
بل لابد من العلم بمعناها أوّلاً ثم العمل بمقتضاها لأنه لا يمكن أن يعمل بمقتضاها وهو يجهل معناها ولهذا يقول جل وعلا: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }(3) فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فالذي يجهل معنى لا إله إلا الله لا يمكن أن يعمل بمقتضاها على الوجه الصحيح.
__________
(1) ص~:5
(2) الصافات: 36-37
(3) محمد: 19(18/39)
[ فإذا عرفت أن جهّال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممّن يدّعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة. بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني ] هذا من أعجب العجب أن جهال الكفار والمشركين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرفون أن معنى هذه الكلمة هو إخلاص العبادة لله وترك عبادة غيره فلذلك امتنعوا عن النطق بها تحاشيًا لترك عبادة آلهتهم وتعصبًا لباطلهم؛ ومن يدعي الإسلام اليوم لا يفهم أن معنى هذه الكلمة هو ترك عبادة القبور والأضرحة وإخلاص العبادة لله، فلذلك صار يقولها وهو مقيم على شركه لا يأنف التناقض والجمع بين الضدين فصار جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. وصار هذا المدعي للإسلام يظن أن المراد بهذه الكلمة هو النطق بحروفها من غير اعتقاد لمعناها فصار يردد معها دعاء الموتى والمقبورين ليلاً ونهارً.
[ والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله ] كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة التدمرية وغيرها (1) عن علماء الكلام أن الإله عندهم هو القادر على الاختراع يعني هو الذي يقدر على الخلق والرزق والإحياء والإماتة ويبنون عقائدهم على هذا ويفسرون لا إله إلا الله بهذا المعنى ويجعلون التوحيد هو الإقرار بتوحيد الربوبية وهذا غلط عظيم.
فإذا كان هذا حال العالم منهم فكيف بالجاهل؟ وما هذا إلا من قلة الاهتمام بدعوة التوحيد وتقليد الآباء والأجداد والاكتفاء من الإسلام بمجرد الانتساب لأغراض وأهداف دنيوية الله أعلم بها. من غير تعرّف على الدين الحقيقي الذي أساسه التوحيد الخالص.
__________
(1) انظر التدمرية ص185 تحقيق الدكتور محمد بن عودة السعوي، ومجموع الفتاوى 13/203(18/40)
[ فلا خير في رجل جُهَّالُ الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله ] لا خير في رجل يدعي الإسلام بل يدعي أنه من أهل العلم ولا يفهم معنى لا إله إلا الله وقد فهمها كفار قريش وعرفوا معناها.
إن الأمر خطير، والعار شنيع، والواجب على المسلمين أن ينتبهوا لدينهم ويتأملوا دعوة نبيهم ويفقهوا دينهم فقهًا صحيحًا ويقيموه على أساس سليم من عقيدة التوحيد والبراءة من الشرك وأهله، ولا يكتفوا بمجرد التسمي والانتساب إليه مع البقاء على الرسوم والعادات المخالفة له، وترديد عبارات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع.
[ إذا عرفت ما قلت لك معرفة قلب ] أي إذا عرفت ما ذكرت لك من الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وعرفت أن المشركين أقروا بالأول وجحدوا الثاني فلم يدخلهم في الإسلام وقُتِلُوا واستُحِلَّت دماؤهم وأموالهم، إذا عرفت هذه الأمور معرفة قلب لا معرفة لسان فقط كأن يحفظ الإنسان هذا المعنى ويُؤديه في الامتحان وينجح فيه ولم يتفقّه فيه في قلبه ويفهمه تمامًا فهذا لا يكفي. فالعلم هو علم القلب وعلم البصيرة لا علم اللسان فقط.
[ وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }(1) ] أي الشرك في العبادة لا الشرك الذي هو اعتقاد أن أحدًا يخلق ويرزق ويدبر مع الله بل الشرك الذي حذّر الله منه هو اعتقاد أن أحدًا يستحق العبادة أو شيئًا من العبادة مع الله.
فالشرك هو دعوة غير الله معه أو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، هذا هو الشرك الذي حرمه الله وحرم على صاحبه الجنة وأخبر أن مأواه النار. وهو الشرك الذي يحبط جميع الأعمال وهو الشرك في الألوهية وليس الشرك في الربوبية، وهذا تنبيه من الشيخ رحمه الله إلى أنه كما تجب معرفة التوحيد تجب معرفة الشرك.
__________
(1) النساء: 48(18/41)
[ وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أوَّلهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه ] دين الرسل هو الإسلام وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله هذا هو دين الرسل وهذا هو الإسلام. وأما الانتساب إلى الإسلام في الظاهر دون الباطن أو الانتساب إليه بالتسمي فقط دون التزام لأحكامه، أو الانتساب إليه مع ارتكاب ما يناقضه من الشرك والوثنيات، أو الانتساب إليه مع الجهل بحقيقته، أو الانتساب إليه دون موالاة لأوليائه ومعاداة لأعدائه فليس هذا هو الإسلام الذي جاءت به رسل الله. وإنما هو إسلام اصطلاحي مصطنع لا يغني ولا ينفع عند الله سبحانه وتعالى، وليس هو دين الرسل.
[ وعرفت ما أصبح غالب النّاس فيه من الجهل بهذا ] وهو الجهل بالتوحيد والجهل بالشرك. هذا هو الذي أوقع كثيرًا من الناس في الضلال وهو أنهم يجهلون التوحيد الصحيح ويجهلون الشرك ويفسرون كلاً منهما بغير تفسيره الصحيح، هذا هو الذي أوقع كثيرًا من الناس في الغلط والكفر والشرك والبدع والمحدثات إلى غير ذلك، وذلك بسبب عدم معرفة ما أمر الله به من توحيده وطاعته، وما نهى عنه من الإشراك به ومعصيته فالعوام لا يتعلمون، وغالب العلماء مكبون على علم الكلام والمنطق الذي بنوا عليه عقيدتهم وهو لا يحق حقًا ولا يبطل باطلاً بل هو كما قال بعض العلماء: ( لا ينفع العلم به ولا يضر الجهل به)(1).
[ أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته كما قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }(2) وأفادك أيضًا الخوف العظيم ] أي العلم بهذه الحقائق يفيدك فائدتين:
__________
(1) انظر كتاب الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص3 (بنحوه).
(2) يونس: 58(18/42)
الفائدة الأولى: أنك تفرح بفضل الله حيث مَنَّ عليك بمعرفة الحق من الباطل فإنها نعمة عظيمة، حُرمَ منها الكثير من الخلق، قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } وفضل الله هو الإسلام، ورحمته هي القرآن { فَلْيَفْرَحُواْ } فرح شكر واعتراف بالنعمة. والفرح بفضل الله مشروع لأنه شكر لله سبحانه وتعالى على نعمة التوحيد ومعرفة الشرك وهذه نعمة إذا وُفّقت لها فإنه قد جمع لك الخير كله الفرح بالنعمة مشروع، أما الفرح المنهي عنه فهو الفرح بالدنيا كما قال تعالى: { وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ }(1) فالفرح بالدنيا وحُطَامها مذموم أما الفرح بالدين والفرح بالعلم النافع فهذا مشروع لأن الله أمر به.
__________
(1) الرعد: 26(18/43)
والفائدة الثانية: أنك إذا عرفت التوحيد الصحيح وعرفت الشرك القبيح فإن ذلك يُفيدك الخوف أن تقع فيما وقع فيه كثير من الناس بالمخالفة لهذا الأصل والوقوع في الشرك وأنت لا تدري فلا تأمن على نفسك من الفتنة فلا تغتر بعملك أو بفهمك، ولكن قل لا حول ولا قوة إلا بالله واسأل الله الثبات، فإن إبراهيم الخليل الذي أعطاه الله من العلم واليقين ما لم يعط غيره إلا نبيًا يقول: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ }(1) فإبراهيم لم يأمن على نفسه الفتنة مع علمه ويقينه وهو الذي كسَّر الأصنام بيده وألقي في النار بسبب ذلك، ومع هذا يخاف على نفسه من الفتنة، فلا تغتر بعلمك وتأمن على نفسك من الفتنة ولكن كن دائمًا على حذر من الفتنة بأن لا تزلّ بك القدم وتغتر بشيء يكون سببًا لهلاكك وضلالك، فإن بعض المغرورين اليوم يقول إن الناس تجاوزوا مرحلة الجهل والبدائية وصاروا مثقفين واعين لا يتصور أن يعودوا للوثنية، أو نحوًا من هذا الكلام الفارغ، ولم يفطن لعبادة الأضرحة التي تنتشر في كثير من البلاد الإسلامية ولم ينظر فيما وصل إليه كثير من الناس من الجهل بالتوحيد.
__________
(1) إبراهيم: 35-36(18/44)
[ فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل ] قد يقول الإنسان كلمة من الكفر تُحبط عمله كله كالرجل الذي قال: « والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله جل وعلا: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان. إني قد غفرت له وأحبطت عملك »(1) كلمة واحدة تجرأ فيها على الله وأراد أن يمنع الله أن يغفر لهذا المذنب، فالله جل وعلا أحبط عمله وغضب عليه. والإنسان قد يتكلم بمثل هذه الكلمة ونحوها فيخرج من دين الإسلام، فالذين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قالوا ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا وأكذب ألسنًا وأجبن عند اللقاء يزعمون أنهم قالوها من باب المدح ويقطعون بها الطريق بزعمهم قال الله فيهم: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }(2) دل على أنهم مؤمنون في الأول فلما قالوا هذه الكلمة كفروا والعياذ بالله مع أنهم يقولونها من باب المزح واللعب.
[ وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما كان يظن المشركون ] أي يقول كلمة الكفر وهو يظن أنها تقربه إلى مثل ما يقول المشركون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(3) { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(4).
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه 4/2023 كتاب (45) البر والصلة والآداب (39) باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى حديث رقم 137 –(2621). من حديث جندب رضي الله عنه.
(2) التوبة: 65-66 ، انظر جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري 10/19-20 وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/351-352، وأسباب النزول للواحدي 187-188.
(3) الزمر: 3
(4) يونس:18(18/45)
[ خصوصًا إن ألهمك الله ما قصَّ عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ }(1) فحينئذٍ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلّصك من هذا وأمثاله ] قوم موسى هم بنو إسرائيل الذين آمنوا بموسى خرجوا معه من مصر حيث أمره الله أن يخرج بهم فراراً من فرعون فخفي عليهم هذا الأمر مع أنهم علماء وفيهم صلاح وتقوى وخرجوا مع موسى مقاطعين لفرعون وقومه فلما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم أرادوا تقليدهم في ذلك وطلبوا من موسى فقالوا: { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ }(2) فأنكر عليهم موسى هذه المقالة وأخبرهم أن عمل هؤلاء القوم شرك بالله عز وجل فانظر كيف خفي عليهم هذا الأمر مما يدل على خطورة الجهل بالتوحيد وعدم معرفة حقيقة الشرك مما يسبب أن الإنسان قد يقول الكلمة التي تقتضي الكفر والخروج من الدين وهو لا يدري. ولا يخلصك من هذا وأمثاله إلا العلم النافع الذي به تعرف التوحيد من الشرك، وتحذر به من القول أو الفعل اللذين يوقعانك في الشرك من حيث لا تدري. وهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن من قال كلمة الكفر أو عمل الكفر لا يكفر حتى يعتقد بقلبه ما يقول ويفعل. ومن يقول: إن الجاهل يعذر مطلقًا ولو كان بإمكانه أن يسأل ويتعلم، وهي مقالة ظهرت ممن ينتسبون إلى العلم والحديث في هذا الزمان.
__________
(1) الأعراف:138
(2) الأعراف:138(18/46)
[ واعلم أن الله تعالى بحكمته لم يبعث نبيًا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }(1) وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ }(2) ] حكمة الله تعالى في هذا تتلخص في أمرين:
__________
(1) الأنعام:112
(2) غافر:83(18/47)
الأمر الأول: أنه ما بَعَثَ نبيًا من أنبيائه إلا جعل له أعداء من المشركين كما في الآية التي ذكرها المؤلف وكما في الآية: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا }(1) ولله في ذلك الحكمة من أجل أن يتبين الصادق من الكاذب، ويتبين المطيع من العاصي. إذا بعث الأنبياء يدعون إلى الهدى صار هناك دعاة للضلال من أجل أن يمتحن الناس أيهم يتبع الأنبياء وأيهم يتبع دعاة الضلال، ولولا ذلك لكان الناس كلهم يتبعون الأنبياء ولو في الظاهر ولا يتميز الصادق في اتِّباعه من المنافق لأن الأنبياء يتّبعهم المؤمن الصادق ويتبعهم المنافق الكاذب، والذي يميز هذا من هذا هو الابتلاء والامتحان، فالشدائد هي التي تبيّن الصادقين من المنافقين فالله جعل أعداءً للأنبياء لحكمة من أجل الابتلاء والامتحان { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ }(2) هذه هي الحكمة بأن الله جعل لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن، والشيطان هو المارد العاصي فكل من تمرد عن طاعة الله فإنه شيطان سواء كان من الجن أو من الإنس، حتى الدواب المتمردة تسمى شيطانًا وهو من شاط الشيء إذا اشتد أو من شطن إذا ابتعد، فالشيطان يكون من عالم الجن ويكون من عالم الإنس، وقوله تعالى: { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ }(3) الزخرف في الأصل الذهب وزخرف القول هو القول المموّه المزوّر، لأجل أن يغر الناس. فالقول المزخرف هو الباطل المغلّف بشيء من الحق وهذا من أعظم الفتنة لأن الباطل لو كان مكشوفًا ما قبله أحد لكن إذا غُطي بشيء من الحق فإنه يقبله كثير من الناس وينخدعون بهذه الزخرفة، فهو باطل في صورة الحق، { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } الله قادر على منعهم من ذلك لكنه شاء أن يفعلوه
__________
(1) الفرقان:31
(2) الأنفال:37
(3) الأنعام:112(18/48)
من أجل الابتلاء والامتحان. وإذا كان هذا مع الأنبياء فكيف بغيرهم من الدعاة إلى الله وعلماء التوحيد فأتباع الأنبياء أيضًا يكون لهم أعداء من دعاة الباطل في كل زمان وفي كل مكان. هذا مستمر في الخلق وجود دعاة الحقّ وإلى جانبهم دعاة الباطل في كل زمان ومكان.
الأمر الثاني: وهو العجيب أن دعاة الباطل يكون عندهم علوم وعندهم كتب وعندهم حجج يجادلون بها أهل الحق كما قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم }(1) يعني الكفار { بِالْبَيِّنَاتِ } الحقائق البيّنة والعلم النافع { فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ } الذي توارثوه عن أجدادهم وآبائهم والذي هو عبارة عن كتبهم وعن حججهم التي توارثوها، وهذا واقع الآن، فكم في الساحة من كتب أهل الباطل ككتب الجهمية، وكتب المعتزلة، وكتب الأشاعرة، وكتب الشيعة كم في الساحة من كتب هؤلاء! وعندهم حجج مركبة ومزيفة تغر الإنسان الذي ليس عنده تمكن من العلم فعلم الكلام وعلم المنطق اعتمدوه وجعلوه هو العلم الصحيح الذي يفيد اليقين.
[ إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله تعالى لابد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير سلاحًا تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }(2) ] أما أدلة القرآن والسنة فهي حجج ظنية بزعمهم لا تفيد اليقين وهذا من تمام الفتنة والتزييف على الناس. لأن الواقع الصحيح هو العكس وهو أن أدلة القرآن تفيد اليقين، وأدلة المنطق والجدل تفيد الشك والحيرة والاضطراب. كما أقر بذلك كبراؤهم عند الموت أو عند توبتهم ورجوعهم عن علم الكلام.
__________
(1) غافر:83
(2) الأعراف:16-17(18/49)
إذا كان هؤلاء عندهم فصاحة وعندهم حجج وعندهم كتب فلا يليق بك أن تقابلهم وأنت أعزل بل يجب عليك أن تتعلم من كتاب الله ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تبطل به حجج هؤلاء الذين قال إبليس إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } أي لبني آدم { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي الطريق الموصل إليك { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }(1). تعهد الخبيث أنه سيحاول إضلال بني آدم وكذلك أتباعه من شياطين الإنس من أصحاب الكتب الضالة والأفكار المنحرفة يقومون بعمل إبليس في إضلال الناس.
[ ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيّناته فلا تخف ولا تحزن { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }(2) ] كما قال الله سبحانه وتعالى: { فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } فهم مهما كان عندهم من القوة الكلامية والجدال والبراعة في المنطق والفصاحة إلا أنهم ليسوا على حق وأنت على حق ما دمت متمسكًا بالكتاب والسنة وفهمت الكتاب والسنة فاطمئن فإنهم لن يضروك أبدًا { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }(3) لكن هذا يحتاج إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة فإنك بذلك لا تخاف مهما كان معهم من الحجج والكتب لأنها سراب كما قال الشاعر:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقًا؛ وكل منها كاسر مكسور (4)
__________
(1) الأعراف:17
(2) النساء:76
(3) النساء:76
(4) ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام الخطابي في مجموع الفتاوى 4/82 .(18/50)
فالسراب يزول كذلك هذه الحجج إذا طلعت عليها شمس القرآن وبينات القرآن زال هذا الضباب الذي معهم وهذه سنة الله سبحانه وتعالى: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ }(1). { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاّمُ الْغُيُوبِ }(2) قذائف الحق تدمر الباطل مهما كان.
[ والعامي من الموحّدين يغلب ألفًا من علماء هؤلاء المشركين، قال تعالى : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }(3) ] هذا من العجائب أن العامي غير المتعلم من الموحدين يغلب ألفًا من علماء المشركين، ذلك لأن العامي عنده الفطرة السليمة التي لم تتلوث بالشكوك والأوهام وقواعد المنطق وعلم الكلام. أما العالم المشرك فليس عنده فطرة سليمة ولا علم صحيح وصاحب الفطرة السليمة يتغلب على الذي ليس عنده فطرة ولا علم لأن علمه جهل. إذًا فالناس ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من عنده علم صحيح وفطرة سليمة وهذا أعلى الطبقات وهذا هو الذي أقبل على ربه وأصغى إلى حججه وبيّناته فصار عنده علم صحيح وفطرة سليمة.
القسم الثاني: من ليس عنده علم لكن عنده فطرة سليمة وهو العامي من الموحدين.
القسم الثالث: من ليس عنده فطرة سليمة ولا علم صحيح وإنما عنده سراب لا حقيقة له، فهذا يُهزم أمام العامي فكيف أمام العالم الذي عنده علم صحيح وفطرة سليمة؟ فهذا مما يدلك على أن تعلّم العلم النافع يكون سلاحًا للمؤمن أمام أعداء الله ورسوله.
__________
(1) الأنبياء:18
(2) سبأ: 48
(3) الصافات:173(18/51)
[ فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما هم الغالبون بالسيف والسنان ] قال تعالى: { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }(1) أضاف الجند إليه سبحانه وتعالى، وجند الله هم المؤمنون، يقال لهم جند الله ويقال لهم حزب الله كما في قوله تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ } إلى قوله: { أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(2).
فهم حزب الله وجند الله، والجند جمع جندي وهو المقاتل والمدافع عن دين الله أضافهم إلى نفسه تشريفًا لهم، وجعل لهم الغلبة بالحجة والسلاح.
جند الله هم الغالبون بالحجة واللسان يعني بالعلم والمعرفة ومجادلة أهل الباطل، فما تقابل أهل حق وأهل باطل في خصومة إلا تغلب أهل الحق على أهل الباطل في الخصومات والمناظرات دائمًا وأبدًا. فهم الغالبون بالحجة مع المبطلين كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان في المعارك، إذا تقابل الجندان المسلمون والكفار فإنه ينتصر المسلمون على الكفار إذا توفرت شروط النصر فيهم بأن توكلوا على الله واعتصموا بالله وأطاعوا الله ورسوله، فإن حصل فيهم خلل لحقت بهم الهزيمة كما حصل للصحابة في وقعة أحد لما عصوا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونزلوا من الجبل الذي قال لهم لا تنزلوا منه سواء انتصرنا أو هُزمنا فلما خالفوا ونزلوا من الجبل حلت الهزيمة بالمسلمين(3).
__________
(1) الصافات:173
(2) المجادلة:22
(3) انظر صحيح الإمام البخاري 48/26 كتاب الجهاد والسير باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه وقال تعالى: { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } وقال قتادة الريح الحرب من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.(18/52)
[ وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح ] هذا هو الواقع فالموحد الذي يسلك الطريق ويواجه الكفار ويقول أنا أدعو إلى الله وليس عنده علم لو يقف أمامه واحد من عوامهم ويلقي عليه شبهة ما استطاع الجواب. فهذا مما يُوجب على طلبة العلم وعلى الدعاة إلى الله خصوصًا أن يتفقهوا في دين الله وأن يتعلموا حجج الله وبراهينه وأن يطّلعوا على ما عند الخصوم والكفار والمنافقين من الباطل من أجل أن يدحضوه ويكونوا على معرفة به. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسل معاذًا إلى اليمن قال له: « إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب »(1) من أجل أن يستعد لأن الذين أمامه أهل كتاب وأهل علم وعندهم حجج وعندهم شبهات وعندهم تلبيس، فلا بد أن يكون معاذ رضي الله عنه على استعداد من أجل أن يقوم بالدعوة ويرد الباطل ثم قال له: « فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله » فهذا مما يؤكد على الموحدين عمومًا وعلى طلبة العلم خصوصًا وعلى الدعاة إلى الله بصفة أخص أن يتعلموا ما يدفعون به الباطل وينصرون به الحق وإلا فإنهم سينهزمون أمام أي شبهة تعرض لهم. والمشكلة إذا عجز الداعية إلى الله أن يُجيب على شبه الملبس أمام الناس أو أجابه بجهل، وهذا أشد. ولا يتعارض هذا مع قول الشيخ: « والعامي من الموحدين يغلب ألفًا من علماء المشركين » لأن العامي الموحد وإن كان كذلك فعليه الخوف من شرهم وأخذ الحذر منهم بتعلم العلم النافع. وقد استشكل بعض الإخوان هذه العبارة. وهي قول الشيخ: (والعامي من الموحدين يغلب ألفًا من علماء هؤلاء المشركين) مع قوله: (وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح) والجواب عن هذا الإشكال أن الشيخ رحمه الله يقصد أن العامي عنده فطرة سليمة يستنكر بها الباطل،
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه 2/125 كتاب الزكاة باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه.(18/53)
أما علماء الضلال ففطرهم فاسدة وحججهم واهية فالعامي يغلبهم بالفطرة السليمة من حيث الجملة لا من حيث التفاصيل.
فالعامي الموحد أحسن حالاً من علماء الكلام والمنطق فكتاب الله ما ترك شيئًا نحتاج إليه من أمور ديننا إلا وبيّنه لنا لكن يحتاج منا إلى تفقه وتعلم ولو كان عندك سلاح ولكن لا تعرف تشغيله فإنه لا يدفع عنك العدو وكذلك القرآن لا ينفع إذا كان مهجورًا وكان الإقبال على غيره من العلوم.
[ وقد منَّ الله تعالى علينا بكتاب الذي جعله { تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }(1) .
فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبيّن بطلانها. كما قال تعالى: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }(2). قال بعض المفسرين: هذا الآية عامة في كل حجةٍ يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة ] هذه قاعدة معروفة لأن الله جل وعلا يقول عن القرآن: { تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } ويقول: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } فلا يوجد شبهة في الدنيا أو باطل في الدنيا يُدلي به كافر أو مُلحد إلا وفي القرآن ما يرد عليه لكن لا يتبين هذا إلا بمعرفة القرآن والتفقه فيه ودراسته حق الدراسة حتى يعرف ما فيه من الكنوز وما فيه من السلاح وما فيه من الذخيرة التي نقاوم بها أعداءنا فنقبل على كتاب الله حفظًا وتفهمًا وتلاوة وتدبرًا وعملاً حتى نكون مسلحين بهذا السلاح. أما مجرد وجود القرآن عندنا من غير أن نعتني به وندرسه فلا يكفي، وأهل الكتاب ضلوا وكفروا وعندهم التوراة والإنجيل لما تركوا تعلمهما والعمل بهما.
لكن لابد من دراسة القرآن على ضوء السنة النبوية وتفسير السلف الصالح، لا على ضوء الدراسات المعاصرة المبنية على التخرص والجهل أو ما يسمونه بالإعجاز العلمي.
__________
(1) النحل:89
(2) الفرقان:33(18/54)
فليس هذا خاصًا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهل زمانه مع القرآن بل هذا عام لكل أمته إلى أن تقوم الساعة لكن يحتاج إلى عناية بالقرآن ودراسة للقرآن كما ينبغي، لأن فيه بيان الحق والرد على أهل الباطل.
[ وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابًا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا ] لما ذكر لك هذه القاعدة العظيمة وهو أنه لا يأتي مبطل بشبهته إلا وفي القرآن ما يبين بطلانها وأن ذلك مستمر إلى يوم القيامة، دخل في التمثيل من الواقع الذي جرى للشيخ رحمه الله في وقته مع خصومه. ومن هنا إلى آخر الكتاب كله كشف شبهات يعترضون بها على الشيخ وهو يُجيبهم عنها من كتاب الله ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . ويدحض حججهم وبذلك نصره الله عليهم وأبطل كيدهم. [ فنقول: جواب أهل الباطل من طريقين مجمل ومفصّل. أما المجمل ] المجمل هو القاعدة العامة في جواب أهل الباطل على اختلاف أصنافهم، وفي أي زمان ومكان. والمفصل هو الرد على كل شبهة على حدة فإذا عرفت المجمل والمفصل في رد الشبهات صار عندك سلاح لمنازلة المشركين والمبطلين. [ فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها وذلك قوله تعالى: { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ }(1) ] هذا هو الرد المجمل على الشبهات قال تعالى: { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } يعني القرآن { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } المحكم هو الذي لا يحتاج في بيانه إلى غيره.
__________
(1) آل عمران:7(18/55)
فالقرآن منه آيات على هذا الشكل { مُّحْكَمَاتٌ } يعني بيّنات واضحات في معانيها لا تحتاج إلى غيرها { هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } أم الشيء هو الأصل الذي يرجع إليه فالآيات المحكمات هن الأصل الذي يرجع إليه { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } المتشابه هو الذي يحتاج لبيان معانيه إلى غيره فيرد إلى المحكم، ومن المتشابه المحتمل لمعاني متعددة ويحتاج إلى غيره في بيان المراد منه، ومنه المطلق ومنه المنسوخ. وقد ذكر تعالى موقف الناس من هذين القسمين المحكم والمتشابه فقال: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } يأخذون الآيات غير الواضحة أو الآيات المحتملة ويستدلون بها على ما يريدون مع أنها محتملة ليست نصًا فيما يقولون لكن هم يريدون التلبيس على الناس يقولون نحن استدللنا بالقرآن فيأخذون الآيات التي لا يتضح معناها بنفسها أو الآيات المحتملة لعدة معان فيستدلون بها على ما يريدون { ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ } أي التشكيك والتضليل أو { ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } التأويل يطلق على معنيين كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته التدمرية(1) .
المعنى الأول: أن المراد به التفسير وهذا هو المعروف عند المتقدمين. ولذلك تجد ابن جرير الطبري في تفسيره يقول: القول في تأويل قوله تعالى أي في تفسيره فإن كان هذا هو المقصود في الآية: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } فإنه يعطف الراسخون في العلم على لفظ الجلالة هكذا { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } يعني والراسخون في العلم يعلمون تأويله وهو التفسير وذلك بردّه إلى المحكم الذي يبيّن المراد منه.
__________
(1) التدمرية ص809، وما بعدها: تحقيق الدكتور محمد بن عودة السعوي. .(18/56)
فتفسير القرآن على هذا الوجه لا يعلمه إلا الله وأهل العلم المختصون وأمَّا العوام والجهّال فلا يعلمون تفسيره، وأهل الزيغ يأخذون المتشابه ولا يردونه إلى المحكم ويقطعون بعض القرآن عن بعض فيأخذون بعض الآيات ويتركون البعض الآخر.
أما المعنى الثاني: للتأويل فهو الحقيقة التي يؤول إليها الشيء. وما يصير إليه في المستقبل، مثل حقائق ما في الجنة من أعناب ونخيل وفواكه ولبن وخمر وعسل وأشياء لا يعلم حقائقها إلا الله سبحانه وتعالى، لأنها من علم الغيب، وكذلك كيفية أسماء الله وصفاته لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى فالتأويل على هذا المعنى ما يؤول إليه الشيء في المستقبل فإذا أريد هذا المعنى تَعَيّنَ الوقفُ في الآية على لفظ الجلالة. لأنه لا يعلم تأويله على هذا الوجه إلا هو سبحانه.(18/57)
[ وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذروهم»](1) صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أنه قال: »إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه« أي من القرآن والسنة ويأخذون بالنصوص المجملة ويتركون النصوص المفصلة « فأولئك الذين سمى الله » في هذه الآية: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } « فاحذروهم » أي احذروا أصحاب هذه الطريقة لا يُلبسوا عليكم أمر دينكم فهذا فيه التحذير من علماء الضلال ومن المبتدعة لئلا يلبسوا علينا أمر ديننا فهؤلاء من الذين { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ }(2).
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه 5/165، 166 كتاب التفسير (سورة آل عمران) باب منه آيات محكمات. ورواه الإمام مسلم في صحيحه 4/2053 كتاب العلم باب (1) النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن، حديث رقم (2665) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) البقرة:27(18/58)
[ مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }(1) أو إن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلامًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - يستدل به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بقولك: إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتّبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرّون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(2) هذا أمر محكم بيّن، لا يقدر أحد أن يغيّر معناه، وما ذكرت لي أيها المشرك في القرآن أو كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أعرف معناه ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف كلام الله عز وجل، وهذا جواب سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله فلا تستهن به فإنه كما قال تعالى: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }(3) ] أي إذا قال لك واحد من علماء المشركين الذين يتعلقون بالأولياء ويطلبون منهم المدد ويستغيثون بهم كما هو الحال والواقع الآن عند عبَّاد القبور ويقولون إن الله جل وعلا يقول: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وهؤلاء أولياء والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الصالحين يشفعون وأن الأولياء يشفعون والرسل يشفعون فالجواب أن الشفاعة حق لا شك في ذلك، ولكنها كما ذكر الله لابد لها من شرطين:
الإذن للشافع أن يشفع.
وأن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد.
__________
(1) يونس:62
(2) يونس:18
(3) فصلت:35(18/59)
ولا شك أن الله سبحانه وعد الأولياء أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لكن من الأولياء؟ هل الأولياء طائفة مخصوصة من الناس عليهم عمائم ولباس خاص؟ أو الأولياء الذين بني على قبورهم قباب؟ ليس كذلك. لأن الله سبحانه بيّنهم بعد هذه الآية مباشرة حيث قال: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }(1).
فكل مؤمن تقي فهو ولي لله ليست الولاية خاصة بطائفة معينة أو أشخاص معيّنين لهم لباس خاص ولهم سمات خاصة أو على قبورهم قباب وزخرفات؛ الأولياء كل مؤمن تقي فإنه ولي الله بنص هذه الآية. والولاية تختلف باختلاف الإيمان والتقوى، منهم من هو ولي كامل الولاية ومنهم من هو ولي دون ذلك بحسب إيمانه وبحسب تقواه فليست الولاية خاصة بما تزعمون من هؤلاء الأشخاص أو هؤلاء المقبورين والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: « رُبَّ أشعث مدفوع بالأبواب لو اقسم على الله لأبرّه »(2) فقد يكون الولي غير معروف ولا له مكانة عند الناس.
__________
(1) يونس:63
(2) رواه الإمام مسلم في صحيحه (4/2024) كتاب البر والصلة والآداب باب فضل الضعفاء والخاملين. حديث رقم (138) (2622) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. .(18/60)
هذا من ناحية ومن الناحية الثانية لو ثبت أنه ولي لله عز وجل فإن هذا لا يعطيه شيئًا من الربوبية ولا شيئًا من حق الله، لأنه عبد الله محتاج إلى ربه عز وجل ولا يملك من الأمر شيئًا لا يخلق ولا يرزق فليس المعنى أنه إذا كان وليًا أننا نتعلق به وننزل حاجاتنا به ونستغيث به ونطلب منه لأن الله قال: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }(1) وقال تعالى: { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا }(2) لا من الأولياء ولا غيرهم فالله لا يرضى بهذا سبحانه وتعالى فليس معنى قوله تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }(3) أنهم يملكون شيئًا من الربوبية وأنهم ينفعون ويضرون وأنهم يعطون الشفاعة وأنهم وأنهم.. كما يزعم القبوريون. فمن تعلق بالأولياء وطلب منهم الشفاعة وهم أموات أو طلب منهم الإغاثة وهم أموات أو طلب منهم قضاء الحاجات وهم في قبورهم فإنه مثل المشركين الأولين الذين قال الله فيهم: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(4) هم يقولون نحن لا نعتقد أنهم يخلقون ويرزقون وإنما من أجل أن نجعلهم وسائط بيننا وبين الله لأنهم أولياء ونحن مقصرون ونحن مذنبون فهؤلاء بصلاحهم وجاههم ومكانتهم عند الله يشفعون لنا والله رد عليهم فقال:
__________
(1) النساء:48
(2) النساء:36
(3) يونس:62
(4) يونس:18(18/61)
{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فسمّى هذا شركًا وقال في آية أخرى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(1) يريدون الوساطة فقط عند الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنهم معترفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت فيعترفون بتوحيد الربوبية تمامًا كما ذكر الله عنهم، وإنما قصدوا بفعلهم هذا وساطة هؤلاء الصالحين عند الله فنذروا لهم وذبحوا لهم واستغاثوا بهم: يا سيدي اشفع لي عند الله، افعل كذا، هذا الذي يقولونه عند القبور هل هذا يختلف عما قاله المشركون من قبل، الذين رد عليهم جل وعلا بقوله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }(2) حكم عليهم بالكذب وحكم عليهم بالكفر فعملهم هذا كفر وكذب. وفي سورة يونس نزّه نفسه عن ذلك فقال: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }(3) سماه شركًا.
__________
(1) الزمر:3
(2) الزمر:3
(3) يونس:18(18/62)
فالأولياء عباد صالحون لهم قدرهم ونحترمهم ونحبهم ونقتدي بهم في الأعمال الصالحة لكن ليس لهم شركة مع الله سبحانه وتعالى إنما هم مثلنا محتاجون إلى الله عز وجل فقراء إلى الله عز وجل { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ } هذا عام { وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }(1) كل الخلق فقراء إلى الله عز وجل بما فيهم الأنبياء والرسل، بما فيهم الملائكة عليهم السلام كلهم فقراء إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا مما يزيل اللّبس لأن هؤلاء يأخذون بعض القرآن ويستدلون به ويتركون البعض الآخر؛ يأخذون الآية التي تمدح الأولياء وتثني عليهم ويتركون الآية الأخرى التي تبين أنهم لا يُعبَدُون من دون الله عز وجل وأنَّ مَن طلب منهم شيئًا وهم أموات فإنه مشرك كافر، يتركون هذه الآيات، فهذا من الزيغ الذي ذكره الله سبحانه وتعالى. فلتكن عندك هذه القاعدة أن الإنسان مهما بلغ من الصّلاح والكرامة والمنزلة عند الله فإنه ليس له من الربوبية شيء وإنه لا يُدعى مع الله وإنه لا يكون له شيء من العبادة وهو لا يرضى بذلك. فالأولياء والصّالحون على الحقيقة لا يرضون بذلك وينهون عنه أشد النهي إنما يرضى بذلك الطواغيت الذين يدعون الناس إلى عبادة أنفسهم. أما أولياء الله فحاشاهم من هذا لا يرضون به وإنما يرضى به أولياء الشيطان هذا معنى قول الشيخ رحمه الله.
( لكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف كلام الله) فيجب رد النصوص بعضها إلى بعض وتفسير بعضها ببعض حتى يتضح المطلوب وهذا كما قال الشيخ جواب سديد تجب العناية به لأنه مبني على كتاب الله فمن وفّق له فهو ذو حظ عظيم.
__________
(1) فاطر:15(18/63)
[ وأما الجواب المفصّل: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل، يصدّون بها الناس عنه: منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم. فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرّون بما ذكرت، ومقرّون أن أوثانهم لا تدبّر شيئًا وإنما أرادوا الجاه والشّفاعة، واقرأ عليهم ما ذكر الله في كتابه ووضّحه. فإن قال: هذه الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام أم تجعلون الأنبياء أصنامًا؟ فجاوبه بما تقدم، فإنه إذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن إذا أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }(1) الآية، ويدعون عيسى بن مريم وأمه وقد قال الله تعالى: { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(2) واذكر له قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا
__________
(1) الإسراء:57
(2) المائدة: 75-76(18/64)
يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}(1) وقوله سبحانه وتعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }(2) فقل له: أعرفت أن الله كفَّرَ من قصد الأصنام وكفَّر أيضًا من قصد الصّالحين، وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن قال الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر، لا أريد إلا منه والصّالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم فالجواب: أن هذا قول الكفار سواءً بسواء واقرأ عليه قوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(3) وقوله تعالى:{ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(4). واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم فإذا عرفت أن الله وضّحها في كتابه، وفهمتها فهمًا جيدًا فما بعدها أيسر منها ] ذكر الشيخ رحمه الله في هذا المقطع ثلاث شبهات للمشركين هي من أهم ما عندهم، فإذا عرفت الإجابة الصحيحة عنها فما بعدها من الشبهات أيسر منها:
الشبهة الأولى: أنهم يقولون نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونعلم أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله سبحانه وتعالى وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يملك نفعًا ولا ضرًا فضلاً عن عبد القادر يعني عبد القادر الجيلاني، لكن هؤلاء لهم جاه عند الله فنطلب من الله بهم يعني نجعلهم وسائط بيننا وبين الله لما لهم من الفضل.
__________
(1) سبأ: 40-41
(2) المائدة: 116
(3) الزمر:3
(4) يونس:18(18/65)
فالجواب سهل جدًا من كتاب الله بأن تقول إن المشركين مع أصنامهم ما كانوا يعتقدون فيها أنها تخلق وترزق وتنفع وتضر وإنما اتخذوها وسائط بينهم وبين الله وهذا واضح في قوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
نزّه نفسه عن فعلهم وسماه شركًا مع أنهم يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ويعتقدون أنهم لا ينفعون ولا يضرون وإنما قصدهم التعلق بالجاه فقط. فالآيات تدل على أن المشركين معترفون بأنه لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله سبحانه وتعالى وأن أصنامهم ومعبوداتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تدبر مع الله وإنما اتخذوها وسائط. ولا فرق بينكم وبينهم.
وإذا كنت مذنبًا فلماذا لا تستغفر الله وتطلب من الله ، والله جل وعلا أمرك بالاستغفار ووعدك بالتوبة وأن يقبل منك ويغفر ذنوبك ولم يقل إذا أذنبت فاذهب إلى قبر الولي الفلاني أو العبد الصالح الفلاني وتوسل به واجعله واسطة بيني وبينك.(18/66)
وتقول أيضًا: هؤلاء إذا كان لهم جاه عند الله فإن جاههم لهم وصلاحهم لهم وأنت ليس لك إلا عملك وصلاح الصالحين لهم وجاههم عند الله لهم ما علاقتك بعمل فلان وصلاح فلان كل له عمله { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }(1) { وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }(2) فجاههم وصلاحهم لهم ولا ينفعك إذا كنت مذنبًا حتى والدك أقرب الناس إليك وولدك لا يستطيع ولو كان من أصلح الناس أن ينفعك { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }(3)، { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }(4). { وَاخْشَوْا يَوْمًا لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا }(5). { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ }(6).
الشبهة الثانية: إذا قرأت عليه قوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(7) وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(8) وبيّنت له أن المشركين ما أرادوا ممن عبدوهم إلا الشفاعة وقال لك هذه الآيات نزلت في الذين يعبدون الأصنام وأنا لست أعبد الأصنام وإنما أتوسل إليه بالصالحين فكيف تجعل الصالحين أصنامًا؟
__________
(1) البقرة:134
(2) يس:54
(3) الانفطار:19
(4) المدثر:38
(5) لقمان:33
(6) عبس:34-36
(7) يونس:18
(8) الزمر:3(18/67)
والجواب عن هذا واضح جدًا وهو أن الله ذكر أن المشركين منهم من يعبد الأصنام ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين وسوّى الله بينهم في الحكم ولم يفرّق بينهم وأنت فرّقت بينهم، في ظنك أن عبادة الأصنام لا تجوز وأن عبادة الصالحين تجوز إذا كانت بقصد التوسط، والدليل على هذا أن الله ذكر أنواعًا من المشركين فمنهم من يعبد الصالحين قال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}(1) في يوم القيامة الله جل وعلا يسأل الملائكة وهو أعلم سبحانه وتعالى لكن لأجل إبطال حجة هؤلاء { أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } فدل على أن منهم من يعبد الملائكة لكن الملائكة تتبرأ منهم يوم القيامة وتقول نحن ما أمرناهم بذلك ولا رضينا بذلك { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } يعني الشياطين هي التي أمرتهم بعبادة الملائكة لأن الملائكة لا تأمر إلا بعبادة الله { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }(2) فدل على أن منهم من يعبد الملائكة، والملائكة أصلح الصالحين، كما قال تعالى فيهم: { لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }(3) ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين كالمسيح ابن مريم وأمه.
__________
(1) سبأ:40-41
(2) الأنبياء:29
(3) الأنبياء:27(18/68)
وإذا بطل التوسل بالملائكة والأنبياء ودعاؤهم من دون الله بطل التوسل بغيرهم من الصالحين ودعاؤهم من دون الله كما قال تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }(1) لأن الواجب إخلاص العبادة لله عز وجل بجميع أنواعها من الدعاء والذبح والنذر وغير ذلك.
فمن ذبح لغير الله ودعا غير الله كان مشركًا خارجًا من الدين.
الشبهة الثالثة: إذا سلّم بأن الدعاء لغير الله شرك ولكنه قال أنا لا أدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره وهذا الذي أفعله ليس دعاءً وإنما هو طلب لشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل تنكر شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنك حينئذٍ تدخل معه في خصومة أخرى وشبهة أخرى وهي أنه سمى دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستغاثة به طلبًا للشفاعة ولم يُسمّه دعاءً ويقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُعطي الشفاعة فأنا أطلب منه الشفاعة التي أعطيها.
__________
(1) الزمر:3(18/69)
فتقول له أنا لا أنكر الشفاعة وأقر أن شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - حق وأنه شافع مشفّع أنا لا أنكر هذا ولكن الشفاعة لا تطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ميت وإنما تطلب من الله لأن الشفاعة ملك لله عز وجل، قال الله تعالى: { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }(1) فجميع أنواع الشفاعة ملك لله وما دامت ملكًا لله فإنها لا تطلب إلا ممن يملكها وهو الله سبحانه وتعالى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يملك الشفاعة ولا أحد يملك الشفاعة إلا بإذن الله وإنما هي ملك لله عز وجل. وأيضًا الشفاعة لا تنفع كل أحد وإنما تنفع أهل التوحيد وأنت لست من أهل التوحيد لأنك تدعو غير الله فالشفاعة لها شرطان:
الشرط الأول: أن تطلب من الله سبحانه وتعالى ولا تطلب من غيره.
الشرط الثاني: أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد لا من أهل الشرك والكفر. والدليل على الشرط الثاني قوله تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى }(2) وهو لا يرضى إلا عن أهل التوحيد ودليل الشرط الأول قوله : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } لا الملائكة ولا الرسل ولا الأولياء ولا الصالحون لا أحد يشفع عند الله إلا بعد أن يأذن الله: { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى }(3).
__________
(1) الزمر:44
(2) الأنبياء:28
(3) النجم:26(18/70)
فلا تطلب الشفاعة من المخلوق الميت، وإنما تطلب الشفاعة من الله فتقول اللهم شفّع فيّ نبيك، لا تطلبها من الأموات. وهذا الذي تقول إنه طلب للشفاعة هو الذي كفَّر الله به المشركين، فإن المشركين حينما لجؤوا إلى الأولياء والصالحين وإلى الملائكة وإلى الأنبياء يطلبون منهم الشفاعة كفّرهم الله بذلك فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1) فهذا الذي تقوله هو الذي كفّر الله به المشركين وهو عبادة الأولياء والصالحين طلبًا لشفاعتهم.
[ فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إليهم ودعاؤهم ليس بعبادة ] يعني إذا كان يعترف أن العبادة حق لله عز وجل وأنه لا يجوز عبادة غير الله ولكنه يقول الالتجاء ليس من العبادة فهو جائز.
فإنك تقول له: الالتجاء إلى الله عبادة والالتجاء إلى غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك لأن من التجأ إلى غير الله في الشدائد فقد أشرك مع الله فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، لأنه هو الذي يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء وهو الملجأ سبحانه ولذا لجأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: «لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك»(2) { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ }(3) وقوله تعالى : { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ }(4).
__________
(1) يونس:18
(2) رواه الإمام البخاري في صحيحه 7/147 كتاب الدعوات باب النوم على الشق الأيمن من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه.
(3) الجن:22
(4) المؤمنون:88(18/71)
[ فقل له: أنت تقر أن الله افترض عليك إخلاص العبادة لله وهو حقه عليك، فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }(1).
فإذا أعلمته بهذا فقل له: هل علمت أن هذا عبادة لله؟ فلا بد أن يقول: نعم. والدعاء مخ العبادة: فقل له: إذا أقررت أنه عبادة ودعوت الله ليلاً ونهارًا خوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟ فلا بد أن يقول نعم ] أي تسأله عن معنى العبادة وما الفرق بينهما وبين الالتجاء.
__________
(1) الأعراف:55(18/72)
وقل له: هل العبادة واجبة أو مستحبة؟ فلا بد أن يعترف أن العبادة أمر واجب وحتم على العباد وأنها حق الله على العباد، فإذا اعترف بهذا فقل له: فسّر لي العبادة ما معناها وبيّن لي ما أنواعها، ما دمت أنك اعترفت أن العبادة لله وأنها واجبة على العبد فإنه يجب عليك أن تعرف معناها وأن تعرف أنواعها وإلا فكيف يُوجب الله عليك شيئًا وأنت تجهله ولا تعرفه، فإنه لا يعرف العبادة ولا يعرف أنواعها، وهذه آفة الجهل، ومن هنا يتعين على العباد أن يتعلموا ما أوجب الله عليهم وما فرضه الله عليهم حتى يؤدوه على وجهه الصحيح ويتجنبوا ما يُخل به وما يبطله، أما أن تعبد الله على جهل فإن هذه طريقة النصارى الضالين يعبدون الله على جهل وضلال والله أمرك أن تسأله أن يُجنبك طريقهم فتقول: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }(1) فالضالون هم الذين يعبدون الله على غير علم وعلى غير معرفة بالعبادة وإنما يعبدون الله بالعادات والتقاليد وما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم دون أن يرجعوا إلى ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهذا هو سبب الضلال. والالتجاء هو طلب الحماية من أمر مخوّف لا يدفعه إلا الله. فهو نوع من أنواع العبادة، والله سبحانه يجير ولا يجار عليه ويعيذ من استعاذ به، فمن التجأ إلى ميت فقد عبده من دون الله وكذلك من أعظم أنواع العبادة الدعاء حيث قال الله تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }(2) وأنت بالتجائك إلى غير الله قد دعوت غير الله وهذا شرك.
__________
(1) الفاتحة:6-7
(2) الأعراف:55(18/73)
[ فإذا عملت بقول الله تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }(1) وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: فإذا نحرت لمخلوق، نبي أو جني أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد أن يقر ويقول: نعم ] أي لا بد إذا تلوت عليه الآيات والأحاديث بأن الدعاء عبادة لابد أن يعترف فتقول له لو دعوت الله في الليل والنهار لكنك في بعض الأحيان تدعو غير الله هل تكون مشركًا؟ فلا بد أن يعترف ويقول إنه مشرك لأنه دعا غير الله ومن دعا غير الله فهو مشرك.
وإذا كان من دعا غير الله ولو مرة واحدة في العمر يكون مشركًا مع أنه يدعو الله في الليل والنهار فكيف بالذي يلهج دائمًا بذلك ويقول يا حسين، يا بدوي، يا عبد القادر، يا فلان فيصدر منه الشرك كثيرًا.
فإذا كان من ذبح لغير الله أو صلى لغير الله يكون مشركًا فكيف بمن يلجأ إلى غير الله في كشف الشدائد ألا يكون مشركًا؟ بلى لأن الباب واحد وأنواع العبادة كلها بابها واحد لا يجوز أن يخلص لله في بعضها ويشرك بالله في البعض الآخر.
__________
(1) الكوثر:2(18/74)
[ وقل له أيضًا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة والصّالحين واللات وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول: نعم فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك. وإلا فهم مقرون أنهم عبيده وتحت قهره وأن الله هو الذي يدبّر الأمر ولكن دعوهم والتجؤوا إليهم للجاه والشفاعة وهذا ظاهر جدًا ] أي أن المشركين الأولين ما كان شركهم إلا في هذه الأمور وقد نزل القرآن في الإنكار عليهم والأمر بقتالهم وإباحة أموالهم ودمائهم. ما كانوا مع أصنامهم يعتقدون أنها تخلق وترزق وتحيي وتميت وما كانوا يدعونها إلا من أجل الشفاعة، فكذلك عبَّاد القبور اليوم يدعون الأضرحة والأولياء والصالحين ولا يعتقدون فيهم أنهم يخلقون ويرزقون وأنهم خلقوا السماوات والأرض وإنما اتخذوهم لقضاء الحاجات والتوسل بهم إلى الله ليشفعوا لهم ويقربوهم إليه زلفى والالتجاء إليهم في كشف الكرب والشدائد.(18/75)
[ فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها. فقل لا أنكرها ولا أتبرأ منها. بل هو - صلى الله عليه وسلم - الشَّافع والمشفّع وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله تعالى كما قال تعالى: { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا }(1) ولا تكون إلا بعد إذن الله كما قال تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }(2) ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحد إلا بعد أن يأذن الله فيه، كما قال تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى }(3) وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ }(4) فإذا كانت الشفاعة كلها لله ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن الله إلا لأهل التوحيد تبيّن لك أن الشفاعة كلها لله وأطلبها منه فأقول: اللهمَّ لا تحرمني شفاعته اللهمَّ شفّعه فيّ، وأمثال هذا ] شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينكرها إلا أهل الباطل، والفرق الضالة كالخوارج والمعتزلة، أما أهل السنة والجماعة فإن من أصول عقيدتهم الإقرار بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعة الأولياء والصالحين، ولكنها لا تطلب منهم وهم أموات وإنما تطلب من الله لأن أحدًا لا يشفع عند الله إلا من بعد إذنه، ولا بد أن يكون المشفوع فيه ممن يرضى الله عنه من أهل التوحيد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم الشفعاء يوم القيامة، إذا تقدم له أهل المحشر وطلبوا منه أن يشفع لهم عند الله في فصل القضاء بينهم، فإنه لا يشفع ابتداء، وإنما يستأذن ربه ويطلب منه أن يأذن له بالشفاعة فيخرّ ساجدًا بين يدي ربه ويدعوه ويتضرع إليه ويستمر حتى يقال له: يا محمد ارفع رأسك وسلْ تعطه واشفع تشفّع
__________
(1) الزمر:44
(2) البقرة:255
(3) الأنبياء:28
(4) آل عمران:85(18/76)
(1) ولكن كيف تطلب الشفاعة؟.
الشفاعة تطلب من الله ولا تطلب من المخلوق فتقول: اللهم لا تحرمني شفاعة نبيك، اللهم شفّعه فيّ. وأمثال هذا. والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته لا يطلب منه شيء لا شفاعة ولا غيرها لأن طلب الأشياء من الأموات شرك أكبر.
__________
(1) انظر صحيح البخاري 4/105، 106 كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ } ، وانظر مسلم 1/184-186 كتاب الإيمان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(18/77)
[ فإن قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله تعالى. فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا فقال تعالى: { فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }(1) فإذا كنت تدعو الله أن يشفّع نبيّه فيك فأطعه في قوله: { فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }، وأيضًا، فإن الشفاعة أعطيها غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فصح أن الملائكة يشفعون، والأفراط(2) يشفعون والأولياء يشفعون أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله في كتابه. وإن قلت لا بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله ] أي ليس من لازم إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره الشفاعة جواز طلبها منهم وهم أموات بدليل أن الله سبحانه وتعالى نفي أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه ورضاه عن المشفوع فيه ولأن طلب الشفاعة من الأموات شرك والله قد حرم الشرك وأحبط عمل صاحبه وحرم عليه الجنة، وقد أنكر سبحانه على الذين يدعون غيره ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ونزّه نفسه عن ذلك وسماه شركًا. وأيضًا إعطاء الله الشفاعة ليس خاصًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهل كل من أعطي الشفاعة تطلب منه من دون الله كما كان المشركون الأولون يفعلون ذلك، { يَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(3).
__________
(1) الجن:18
(2) الأفراط: هم الأولاد الصغار الذين ماتوا قبل آبائهم. انظر لسان العرب 7/366 مادة «فرط».
(3) يونس:18(18/78)
[ فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا ولكن الالتجاء إلى الصّالحين ليس بشرك. فقل له: إذا كنت تقر أن الله حرّم الشرك أعظم من تحريم الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره، فإنه لا يدري فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أن الله يحرّمه ولا يبيّنه لنا؟ فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبّر أمر من دعاها؟ فهذا يكذّبه القرآن، وإن قال: هو من قصد خشبةً أو حجرًا أو بنية على قبرٍ أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له يقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى ويدفع الله عنا ببركته ويعطينا ببركته فقل صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب.
ويقال له أيضًا: قولك: (الشرك عبادة الأصنام) هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصّالحين ودعاءَهم لا يدخل في ذلك؟ فهذا يردّه ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصّالحين، فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهذا هو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.
وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله فقل له: وما الشرك بالله، فسره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام فقل وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي: فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله فقل: ما معنى عبادة الله فسرها لي؟ فإن فسّرها بما بيّنه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدَّعي شيئًا وهو لا يعرفه؟(18/79)
وإن فسر ذلك بغير معناه، بيّنت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان وأنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرون علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }(1) ] يبيّن الشيخ رحمه الله أن الشرك ليس مقصورًا على عبادة الأصنام لأن المشركين الأولين منهم من يعبد الملائكة والملائكة أصلح الصالحين كما قال تعالى: { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }(2).
ومنهم من يعبد الصالحين وذلك في قوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ }(3) قيل إنها نزلت فيمن يعبد عزيرًا والمسيح من الأنبياء. وقيل نزلت في قوم كانوا يعبدون الجن فأسلم الجن، ولم يعلم من يعبدهم من الإنس أنهم أسلموا.
__________
(1) ص:5
(2) الأنبياء:26-29
(3) الإسراء:57(18/80)
والمقصود من ذلك أن الله ذكر أن المشركين الأولين منهم من يعبد الأصنام والأشجار والأحجار ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، وسوّى بينهم في الحكم وحكم عليهم بالكفر والشرك. وأنت أيها المشبه تريد أن تفرق بين من عبد الأصنام ومن عبد الصالحين فتفرق بين ما جمع الله وهذا من المحادّة لله سبحانه وتعالى. هذا وجه رد هذه الشبهة حيث تبيّن أنه لا فرق بين شرك الأوّلين وشرك هؤلاء الذين يدَّعون الإسلام وهم يعبدون القبور والأولياء والصالحين لأنهم لا يعرفون أن هذا شرك وهذه نتيجة الجهل بعقيدة التوحيد الصحيحة والجهل بما يضادها من الشرك فإن من لا يعرف الشرك يقع فيه وهو لا يدري. ومن هنا تتضح ضرورة العناية بدراسة العقيدة الصحيحة وما يضادها.(18/81)
[ فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد هو الشرك الذي نزل فيه القرآن وقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس عليه فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين: أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء وأما في الشّدَّة فيخلصون لله الدين كما قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا }(1) وقوله: { قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}(2) وقال تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ }(3) وقوله: { وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }(4).] يقول الشيخ رحمه الله: إذا عرفت مما سبق أنه لا فرق بين شرك أهل الجاهلية الذي نزل فيه القرآن والذي قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وشرك هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام من عبَّاد القبور وأصحاب الطرق الصوفية المنحرفة ونحوهم لا فرق بين شرك هؤلاء وهؤلاء إلا في الاسم حيث يسمونه الاعتقاد فقط، فاعلم أن شرك هؤلاء المتأخرين المنتسبين إلى الإسلام أشد وأغلظ من شرك المتقدمين من أهل الجاهلية من وجهين:
__________
(1) الإسراء:67
(2) الأنعام:40-41
(3) الزمر:8
(4) لقمان:32(18/82)
الأول: أن شرك الأولين إنما يحصل في حال الرخاء وأما في حال الشدة فإنهم يتركون الشرك ويخلصون الدعاء لله لعلمهم أنه لا ينجي من الشدائد إلا الله سبحانه، كما ذكر الله عنهم في الآيات التي ساقها الشيخ وغيرها؛ وأما هؤلاء المشركون المنتسبون إلى الإسلام فشركهم دائم في الرخاء والشدة بل إن شركهم في الشدة يزيد على شركهم في الرخاء ، بحيث إذا وقعوا في خطر وشدة، ارتفعت أصواتهم بالشرك ودعاء غير الله.
هذا هو الوجه الأول من وجوه الفرق بين المشركين الأولين ومشركي زماننا.
والوجه الثاني: سيأتي.
[ فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذي قاتلهم رسول الله يدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم تبيّن له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين ولكن، أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهمًا راسخًا؟! والله المستعان ] يقول رحمه الله : إنه لا يدرك الفرق بين شرك الأولين وشرك المتأخرين في أن شرك المتأخرين أغلظ وأشد، إلا من فهم الآيات القرآنية التي توضح ذلك ومن لم يدرك الفرق فإنه راجع لسوء فهمه.(18/83)
[ والأمر الثاني أن الأولين يدعون مع الله أناسًا مقرّبين عند الله إما أنبياء وإما أولياء، وإما ملائكة، أو يدعون أشجارًا أو أحجارًا مطيعة لله ليست عاصية وأهل زماننا يدعون مع الله أناسًا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكمون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك ] الوجه الثاني: من أوجه الفرق أن المشركين الأولين يدعون أناسًا فيهم صلاح وتقرب إلى الله من الملائكة والأنبياء والصالحين أو يدعون أشجارًا أو أحجارًا ليست عاصية لله. وأما المشركون المتأخرون فيدعون فجرة الخلق وأشدهم كفرًا وفسقًا ممن يزعمون لهم الكرامات وسقوط التكاليف عنهم من ملاحدة الصوفية الذين يستحلون المحرمات ويتركون الواجبات كالبدوي والحلاج وابن عربي وأضرابهم من أئمة الملاحدة، فيعبدونهم وهم يشاهدونهم يفعلون الفواحش ويتركون الفرائض ويزعمون أن هذا من كرامتهم وفضلهم حيث سقطت عنهم التكاليف.
[ والذي يعتقد في الصّالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يُشاهد فسقه وفساده ويشهد به ] هذه نتيجة المقارنة بين شرك الأولين وشرك المتأخرين المنتسبين إلى الإسلام وهي أن الشرك بعبادة الصالحين والمخلوقات التي لا تعصي أخف من الشرك بعبادة الفجرة والملاحدة والعصاة لأن ذلك يدل على تزكيتهم وموافقتهم على كفرهم وفجورهم واعتباره صلاحًا وكرامة وأي محادة لله أشد من هذه المحادة نسأل الله العافية.(18/84)
[ إذا تحقَّقت أن الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصح عقولاً وأخف شركًا من هؤلاء، فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها وهي أنهم يقولون إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذّبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينكرون البعث ويكذّبون القرآن ويجعلونه سحرًا ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟
فالجواب أن لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء وكذّبه في شيء فإنه كافر لم يدخل في الإسلام وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقرّ بالتّوحيد وجحد وجوب الصلاة أو أقرّ بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة أو أقرّ بهذا كله وجحد الصوم أو أقرّ بهذا كله وجحد الحج ولما لم ينقد أناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج أنزل الله في حقهم: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }(1).
ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع وحل دمه وماله كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا }(2).
فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقًا زالت هذه الشبهة وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا.
__________
(1) آل عمران:97
(2) النساء: 150-151(18/85)
ويقال أيضًا: إذا كنت تقرّ أن من صدّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء وجحد وجوب الصّلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقرّ بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدَّق بالباقي وهنا لا تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا. فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج. فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور؟ كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟! سبحانه الله ما أعجب هذا الجهل!
ويقال أيضًا: هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويؤذّنون ويصلّون فإن قال إنهم يقولون إن مسليمة نبي قلنا هذا هو المطلوب. إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابيًا أو نبيًا إلى رتبة جبار السماوات والأرض سبحان الله ما أعظم شأنه: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ }(1).
ويقال أيضًا: الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنَّار كلهم يدّعون الإسلام وهم من أصحاب علي رضي الله عنه وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفّرون المسلمين؟ أتظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفّر؟
__________
(1) الروم: 59(18/86)
ويقال أيضًا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويدّعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب (باب حكم المرتد) وهو المسلم يكفر بعد إسلامه ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفّر ويحل دم الرجل وماله حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو يذكرها على وجه المزح واللعب.
ويقال أيضًا: الذين قال الله فيهم : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ }(1).
أما سمعت الله كفّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجاهدون معهم ويصلّون معه ويزكّون ويحجّون ويوَحِّدون.
__________
(1) التوبة: 74(18/87)
وكذلك الذين قال الله فيهم: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }(1) فهؤلاء الذي صرّح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح(2) ، فتأمل هذه الشبهة هي قولهم تكفّرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق ] ما زال الشيخ رحمه الله يواصل الرد على شبهات المشبهين في مسألة الشرك والتوحيد، فانتهى إلى هذه الشبهة العظيمة التي هي من أعظم شبههم وأخطرها ألا وهي قولهم إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وصلى وصام وحج وأدى الأعمال، فإنه لا يكفر ولو فعل ما فعل من أنواع الردة. أما الذين نزل فيهم القرآن وهم المشركون الأولون فإنهم ليسوا مثل هؤلاء فهم لم يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ولم يدخلوا في الإسلام فهم لا يؤمنون بالله ولا بالرسول ولا بالإسلام ولا بالقرآن، أما هؤلاء فأظهروا الإيمان بالبعث ويصلون ويصومون ويحجون ويزكون ويذكرون الله كثيرًا. فالشيخ رحمه الله عند هذه الشبهة خاصة قال: أصغ سمعك لجوابها فإنها من أعظم شبههم.
ثم ردَّ الشيخ على هذه الشبهة من سبعة وجوه مهمة:
الوجه الأول:
__________
(1) التوبة: 65-66
(2) تقدم العزو إليها(18/88)
أنه من آمن ببعض الأحكام الشرعية وكفر ببعضها الآخر فهو كافر بالجميع. وهؤلاء أنكروا التوحيد الذي جاءت به الرسل وهو إفراد الله بالعبادة فهؤلاء لم يفردوا الله بالعبادة وإنما أشركوا معه غيره من الأولياء والصالحين فالإسلام لا يقبل التجزئة ولا التفرقة وأعظم الإسلام التوحيد وهو دعوة جميع الرسل، وهؤلاء جحدوا أعظم شيء وهو توحيد العبادة وقالوا لا بأس أن ينذر الإنسان لفلان ويذبح لفلان لأنه ولي والوليّ ينفع ويضر مما هو مثل فعل المشركين الأولين.
الوجه الثاني:
ذكر الشيخ رحمه الله وقائع في التاريخ الإسلامي تدل على أن العلماء في كل زمان يكفّرون من آمن ببعض وكفر ببعض. منها أن الصحابة ومن بعدهم قاتلوا الذين يتظاهرون بالشهادتين ويصلون ويصومون ويحجون لكن لما فعلوا شيئًا من الشرك أو جحدوا شيئًا من الدين قاتلوهم واستحلّوا دماءهم وأموالهم وذلك كما يلي:
أولاً: بنو حنيفة اعتقدوا أن مسيلمة رسول الله والذين جحدوا وجوب الزكاة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وثانيًا: في عهد علي رضي الله عنه كفّروا الغلاة الذين قالوا إن عليًا هو الله مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلون ويصومون وهم في جند علي رضي الله عنه، لكن لما أظهروا الغلو حرَّقهم علي رضي الله عنه مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله ولكنه حرَّقهم لما اعتقدوا أن شخصًا له حق في الألوهية كفّرهم وحرقهم بالنار.
ثالثًا: في عهد العباسيين ظهرت فرقة العبيديين، وهم طائفة الشيعة الإسماعيلية لأنهم ينتسبون إلى إسماعيل بن محمد بن جعفر، ولذلك سموا بالإسماعيلية وسموا الفاطمية لأنهم يزعمون أنهم من ذرية فاطمة ولذلك يقال لهم الفاطميون، وفي الحقيقة أنهم من اليهود أظهروا الإسلام ولكن ظهر منهم كفريات وفي النهاية ادعى حكامهم الألوهية مثل الحاكم العبيدي.(18/89)
فالصحابة قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصومون ويحجون لكن لما ادعوا أن مسيلمة نبي كفّروهم لأن من اعتقد في شخص بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه نبي فقد كفر وإن كان يصلي ويصوم ولذلك حكم المسلمون اليوم بكفر القاديانية الذين يدعون نبوة أحمد القادياني. فإذا كان من رفع رجلاً إلى مرتبة النبي كفر فكيف لا يكفر من رفع رجلاً إلى مرتبة رب العالمين وصرف له أنواعًا من العبادة كالذبح والنذر والدعاء والاستغاثة وغير ذلك؟ وقول الشيخ كما رفع تاجًا وشمسان ويوسف ناس في زمانه غلا فيهم الناس بحجة أنهم أولياء ولهم شعوذات وخوارق وهم على طريقة الحلاج وابن عربي.
الوجه الثالث:
أن العلماء رحمهم الله عقدوا بابًا في كتب الفقه سموه باب الردة وذكروا فيه نواقض الإسلام وذكروا أشياء قد تكون صغيرة في أعين الناس ولكن حكموا أن من فعلها أو اعتقدها يكفر مع أنه يصلي ويصوم ويعبد الله، ولم يحصروا حصول الردة فيما ذكرتم.
الوجه الرابع:
أن الله حكم بكفر أناس لقولهم كلمة تكلموا بها أبطلت إسلامهم وإيمانهم كما قال تعالى: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ }(1) فكفّرهم بكلمة مع كونهم مع رسول الله يصلّون ويجاهدون.
الوجه الخامس:
أن الله كفّر أناسًا بسبب كلام قالواه على وجه المزاح واللعب وأنزل في شأنهم: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }(2) مع أنهم يصلّون وقد غزوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك لكن لما قالوا هذه الكلمة كفروا بعد إيمانهم ولم ينفعهم أنهم يصلّون ويصومون ويجاهدون.
__________
(1) التوبة:74
(2) التوبة: 65-66(18/90)
فهذه الوجوه فيها إبطال هذه الشبهة وفي الحقيقة أنها من أعظم الشبه ولكن جوابها واضح ولله الحمد.
الوجه السادس:
إن قولهم إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذّبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينكرون البعث ويكذبون القرآن ويجعلونه سحرًا ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك.
يجاب عنه أن الرجل إذا صدق الله في شيء وكذبه في شيء فهو كافر مرتد عن الإسلام، كمن آمن ببعض القرآن وجحد بعضه وكمن أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة أو أقر بهذا كله وجحد الصوم أو أقر بهذا كله وجحد الحج، وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
الوجه السّابع:
أن مَن جحد وجوب الحج كفر وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلي ويصوم قال تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } إلى قوله: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }(1) فدلت الآيات على أن من جحد وجوب الحج كفر وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله فكيف بمن جحد التوحيد وأجاز عبادة القبور.
__________
(1) آل عمران: 96-97(18/91)
[ ومن الدليل على ذلك أيضًا ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع علمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } وقول أناس من الصحابة « اجعل لنا ذات أنواط »(1) فحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا مثل قول بني إسرائيل لموسى: { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا }، ولكن للمشركين شبهة يُدلُون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون : إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك وكذلك الذين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : « اجعل لنا ذات أنواط » لم يكفروا.
__________
(1) رواه الترمذي في سننه 6/343-334 كتاب الفتن باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم حديث رقم (2181) ورواه الإمام أحمد في مسنده 5/218 حديث رقم (21947-21950-21952) بألفاظ متقاربة، وانظر البداية والنهاية لابن كثير 4/325 كلهم من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه(18/92)
فالجواب أن تقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا وكذلك الذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلوا. ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا. وكذلك لا خلاف أن الذين نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا وهذا هو المطلوب ] أي من الأدلة على أن من ارتكب ناقضًا من نواقض الإسلام يكفر ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله ويصلي ويصوم إلى غير ذلك من الأعمال، ما قصّه الله عن بني إسرائيل حين طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا كآلهة المشركين، وقصة الذين طلبوا من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم ذات أنواط، وأن النبيين الكريمين أنكرا ذلك واعتبراه شركًا يخرجهم من الملة لو فعلوه مع أنهم يؤمنون بالنبيين الكريمين ويجاهدون معهما، ثم أورد الشيخ اعتراضًا على هذا الاستدلال وهو أن بني إسرائيل الذين طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا لم يكفروا، وكذلك الذين طلبوا من محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم ذات أنواط لم يكفروا، وأجاب عن هذا الاعتراض بأن الفريقين لم ينفذا ما قالا ولو فعلا لكفرا ولكن لما نهيا عن ذلك وبيّن لهما أنه كفر تجنبوه وانتهوا عنه. ومحل الشاهد من القصتين أن من فعل الشرك كفر وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله ويؤمن بالأنبياء ويعمل الأعمال الصالحة.(18/93)
[ ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري بها فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجهال: التوحيد فهمناه، أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان، وتفيد أيضًا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبّه على ذلك وتاب من ساعته فإنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتفيد أيضًا أن لو لم يكفّر فإنه يغلّظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] هذه القصة فيها فوائد: الأولى الحذر من الشرك وأنه قد يدب إلى المسلمين عن طريق التقليد والتشبه بالكفار (اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة) (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) ففي ذلك التحذير من مجاراة الكفار والتحذير من الفتن التي تنجم عن ذلك. ومن ذلك عبادة القبور التي أحدثوها وفتنوا بها وصاروا يدعون الناس إليها. والخليل عليه الصَّلاة والسلام الذي كسر الأصنام بيده وأوذي وألقي في النار بسبب إنكار الشرك يقول: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ 35 رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ }(1) خاف على نفسه عليه الصلاة والسلام من الفتنة وخاف على ذريته من الفتنة إذًا كيف يقول جاهل: إن التوحيد يمكن تعلمه في خمس دقائق والمهم عنده البحث في أمور السياسة والكلام في الحكام وفقه الواقع كما يقولون، ومعناه رصد الوقائع الدولية وتحليلاتها والانشغال بها عن التفقه في الدين.
ومنهم من ينتقد مقررات التوحيد في المدارس والمعاهد والكليات ويقول: لا داعي لهذه الكثافة في مقررات التوحيد، الناس مسلمون وأولاد فطرة وبإمكان الطلاب أن يتعلموا التوحيد من البيئة الاجتماعية.. إلخ هذيانهم الفارغ.. ولو سألت واحدًا من هؤلاء عن أبسط مسألة في التوحيد ما أجابك بجواب صحيح. أعني الذين يقولون هذه المقالة.
__________
(1) إبراهيم: 35-36(18/94)
والفائدة الثانية: وهي فائدة عظيمة أن من نطق بكلمة الكفر عن جهل وهو لا يدري ثم نبّه وتاب من ساعته فإنه لا يكفر بدليل قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام وبعض الصّحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو لا يكفر بذلك لكن بهذين الشرطين:
الشرط الأول: أن يكون قال هذا الكلام عن جهل ولم يتعمد.
الشرط الثاني: أن يتوب من ساعته ويترك هذا الشيء إذا تبيّن له أنه كفر.
فهذا لا يضره الكلام الذي قاله وهذا جواب عن شبهتهم التي سبقت وهي أنهم يقولون إن بني إسرائيل لم يكفروا وأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكفروا بهذه الكلمة. نقول لهم إنهم لم يكفروا لأنهم قالوها عن جهل ونبهوا وتركوها وتابوا إلى الله عز وجل، أما أنتم فتنبّهون بالليل والنهار وتصرون على دعاء القبور والصالحين ولا تصغون أسماعكم لما يقال لكم تكبرًا وعنادًا.
والفائدة الثالثة: تفيد هذه القصة أن من لم يكفر بكلمة الكفر إذا قالها جهلاً فإنه لا يتساهل معه بل يغلَّظ عليه في الإنكار كما غلّظ موسى عليه السلام على قومه وكما غلظ محمد - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه الذين قالوا هذه المقالة من باب الزجر والتحذير لاجتناب ذلك والحذر منه.
[ ولهم شبهة أخرى يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله وقال: « أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله»(1) وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»(2) وأحاديث أخر في الكف عمن قالها.
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه 5/88 كتاب المغازي باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينه من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. .
(2) رواه الإمام البخاري في صحيحه 8/140-141 كتاب الاعتصام باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. .(18/95)
ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل.
فيقال لهؤلاء المشركين الجهّال: معلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون لا إله إلا الله وأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلّون ويدّعون الإسلام، وكذلك الذين حرَّقهم علي بن أبي طالب وهؤلاء الجهلة مقرُّون أن من أنكر البعث كفّر وقتل ولو قال لا إله إلا الله وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام كفّر وقتل ولو قال لا إله إلا الله. فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئًا من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل وراسه؟ ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث.
فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادّعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادّعاه إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالفه ذلك وأنزل الله في ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ }(1).
أي فتثبّتوا فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت. فإن تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله: (فتبيّنوا) ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى.
__________
(1) النساء:94(18/96)
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه: أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك. والدليل على هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال : « أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله »(1) وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»(2) هو الذي قال في الخوارج : « أينما لقيتموهم فاقتلوهم. لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد»(3) مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً حتى إن الصحابة يحقّرون أنفسهم عندهم. وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة. كذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة، وكذلك أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو بني المصطلق لمَّا أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }(4) وكان الرجل كاذبًا عليهم(5) ، فكل هذا يدل على أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث ما ذكرناه ] هذه شبهة من شُبه المشركين عباد القبور الذين يدّعون الإسلام ويزعمون أن عبادة القبور والاستغاثة بالأموات ودعاء الغائبين
__________
(1) تقدم تخريجه
(2) تقدم تخريجه
(3) رواه أبوداود في سننه 4/343، 344 كتاب السنة باب في قتال الخوارج حديث رقم 4764-4767 من حديث أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب، ورواه النسائي في سننه 7/117-121 كتاب (37) تحريم الدين باب (26) من شهر سيفه ثم وضعه في الناس حديث رقم (4101، 4102، 4103) من حديث أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي برزة رضي الله تعالى عنهم، وانظر مسند الإمام أحمد 1/404 حديث رقم (3831) من حديث عبد الله بن مسعود بنحوه.
(4) الحجرات:6
(5) انظر تفسير ابن كثير 4/210-211(18/97)
لتفريج الكربات، أن هذه أمور لا تضر ولا تخرج من الإسلام ما دام صاحبها يقول لا إله إلا الله بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة بن زيد رضي الله عنهما لما قتل رجلاً من المشركين أظهر الإسلام وقال لا إله إلا الله فقتله أسامة بعد ذلك ظانًا أنه إنما قالها ليسلم من القتل، فأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فاستدلوا بهذه القصة على أن من قال لا إله إلا الله فهو مسلم ولو فعل ما يناقضها من أنواع الشرك الأكبر وكذلك استدلوا أيضًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل»(1) قالوا فهذا دليل على أن من تلفظ بهذه الكلمة لا يقتل ولو فعل ما فعل من أنواع الشرك في العبادة مع الأموات والأضرحة وصرف العبادات لغير الله ما دام أنه يقول لا إله إلا الله. هذا حاصل شبهتهم وهي شبهة خطيرة إذا سمعها الجاهل ربما تروج عليه لا سيما أنهم طلوها بطلاء خادع وهو الاستدلال بالأحاديث الصحيحة لكن في غير موضعها. وقد أجاب الشيخ رحمه الله عن هذه الشبهة بستة أجوبة مجملها:
الجواب الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل أناسًا يقولون لا إله إلا الله، فقاتل اليهود وهم يقولون لا إله إلا الله وقاتل الصحابة بني حنيفة وهم يقولون لا إله إلا الله لما ظهر منهم ما ينافي هذه الكلمة، ولم تنفعهم هذه الكلمة ولم تكن مانعة من قتلهم.
والجواب الثاني: في بيان تناقض هؤلاء لأنهم يقولون من أنكر الصلاة أو الزكاة والحج أو أنكر البعث والنشور يكفر عندهم، وأما من أنكر التوحيد فإنه لا يكفر عندهم.
__________
(1) تقدم(18/98)
والجواب الثالث: أن معنى حديث أسامة بن زيد ليس كما فهموا أن من قال لا إله إلا الله يكون مسلمًا ولو فعل الشرك والكفر. وإنما معناه أن من قال لا إله إلا الله وجب الكف عنه حتى يظهر منه ما يخالف مدلول هذه الكلمة من كفر أو شرك.
والجواب الرابع: أن الله سبحانه وتعالى قال: { إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا }(1).
فأمر سبحانه وتعالى بالتبيّن يعني التثبّت بشأن من قال لا إله إلا الله فما فائدة التثبّت إذا كان لا يقتل إذا قالها.
والجواب الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الخوارج وهم من أشد الناس عبادةً وخوفًا من الله وورعًا، بل هم تتلمذوا على الصحابة ومع هذا أمر بقتلهم لما فعلوا أشياء تتنافى مع الإسلام وهم يقولون لا إله إلا الله وهم أشد الناس عبادة وصلاة وتلاوة للقرآن.
والجواب السادس: قصة بني المصطلق وهم قبيلة دخلوا في الإسلام وأرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - المصدق لجباية الزكاة ولكنه لم يذهب إليهم بل رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال إنهم منعوا الزكاة فهَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بغزوهم فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }(2).
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - همّ بغزوهم وقتالهم وهم يقولون لا إله إلا الله لماذا؟ لما بلغه أنهم منعوا الزكاة فمنع الزكاة يتنافى مع قول لا إله إلا الله هذا ملخص أجوبة الشيخ رحمه الله عن هذه الشبهة الخطيرة.
[ ولهم شبهة أخرى وهي ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا.
__________
(1) الحجرات:6
(2) الحجرات:6(18/99)
فالجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها كما قال في قصة موسى: { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ }(1) وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها من الأشياء التي يقدر عليها المخلوق ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله.
إذا ثبت ذلك، فالاستغاثة بالأنبياء يوم القيامة يراد منها أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السَّلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسه ] هذه شبهة أخرى من شبههم وهي أنهم يقولون إنه ثبت في الحديث الصحيح حديث الشفاعة العظمى(2) ، أن الناس يوم القيامة إذا طال عليهم الوقوف والقيام على أقدامهم خمسين ألف سنة والشمس قد دنت منهم فالخلائق كلهم مجموعون من أولهم إلى آخرهم في زحام شديد والشمس على رؤوسهم قريبة منهم وهم واقفون على أقدامهم، فعندما يحصل لهم هذا الكرب يتذاكرون الشفاعة عند الله عز وجل فيرون أن الأنبياء هم أول الذين يشفعون عند الله فيأتون إلى آدم يطلبون منه أن يشفع عند الله لهم ليريحهم من الموقف فيعتذر عليه الصَّلاة والسَّلام بسبب ما حصل منه من الخطيئة مع أنه تاب منها وتاب الله عليه ولكن يستحي من الله عز وجل، ثم يأتون إلى نوح أوَّل الرسل فيعتذر، ثم يأتون إلى موسى فيطلبون منه فيعتذر، ثم يأتون إلى عيسى عليه السّلام آخر أنبياء بني إسرائيل فيعتذر لأن الموقف موقف عظيم أمام الله سبحانه وتعالى، ثم يأتون إلى محمد - صلى الله
__________
(1) القصص:15
(2) سيأتي(18/100)
عليه وسلم - فيقول - صلى الله عليه وسلم -: أنا لها أنا لها، ثم يأتي ويسجد بين يدي ربه ويحمدُ الله ويثني عليه ويدعوه ويستمر ساجدًا بين يدي ربه حتى يقال له يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفّع(1) ،لأنه لا أحد يشفّع عند الله إلا بإذنه والرسول ما ذهب إلى الله وشفع ابتداءً بل استأذن من ربه وسجد بين يديه حتى أذن له وهذا كقوله تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }(2) فيطلب من الله أن يفصل بين عباده ويريحهم من الموقف فيستجيب الله شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذه تسمى الشفاعة العظمى والمقام المحمود وهي قوله تعالى: { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا }(3) بمعنى أنه يحمدُه عليه الأولون والآخرون. قال القبوريون فهذا فيه جواز الاستغاثة بالأنبياء والأولياء والصالحين وأنتم تقولون لا يستغاث إلا بالله وقالوا فهذا يدل على أن طلب الشفاعة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - جائز حيًا وميتًا وكذلك غيره.
والجواب عن هذا كما يقول الشيخ إن هذا طلب من إنسان حي قادر على الدعاء وعلى الاستئذان بالشفاعة والطلب من الإنسان في حال حياته وقدرته ليس من الممنوع كما في قصة موسى: { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ }(4).
وكما يستغيث الإنسان بإخوانه في الحرب وغيرها.
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه 8/172-173 كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه.
(2) البقرة:255
(3) الإسراء:79
(4) القصص:15(18/101)
فهذا فيه دليل على أن الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه جائزة والذي يقع من الأمم يوم القيامة هو استغاثة بالحي وطلب الدعاء منه فيجوز أن تذهب إلى إنسان حي قادر يسمع كلامك وتقول يا فلان ادع الله لي بكذا وكذا، والصحابة كانوا يعملون هذا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وليس هذا من الشرك، إنما الذي يكون شركًا وأنكرناه هو الاستغاثة بالميت وهذا لا علاقة له بحديث الشفاعة لأنكم تستغيثون بأموات وتطلبون الشفاعة منهم، والأموات لا يقدرون على شيء فلا يجوز أن يذهب إلى قبر يستنجد به ويدعوه أو يطلب منه الدعاء أو الشفاعة أو غير ذلك ففيه فرق بين عمل هؤلاء المشركين وبين ما في الحديث الصحيح وفي قصة موسى عليه الصّلاة والسّلام فبهذا التفصيل زالت هذه الشبهة والحمد لله.
[ ولهم شبهة أخرى وهي قصة إبراهيم عليه السّلام لما ألقي في النّار اعترض له جبريل في الهواء فقال له ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا(1) فقالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركًا لم يعرضها على إبراهيم.
__________
(1) ذكر هذا الأثر ابن كثير عن بعض السلف كما في البداية والنهاية 1/146 في قصة إبراهيم خليل الرحمن(18/102)
فالجواب: أن هذا من جنس الهيئة الأولى فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه فإنه كما قال الله تعالى فيه: { شَدِيدُ الْقُوَى }(1) فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم عليه السلام في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل. وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجًا فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئًا يقضي به حاجته فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر حتى يأتيه الله برزق لا منّة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟] هذه آخر الشبهات التي ذكرها الشيخ في هذه الرسالة العظيمة فأجاب عنها بجواب سديد موفّق وهي أن عبَّاد القبور الذين يطلبون المدد من الأموات ويستغيثون بهم يقولون إن هذه الاستغاثة ليست شركًا وذلك بدليل قصة جبريل عليه السلام مع إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار فإن جبريل جاء إلى إبراهيم كما يروى(2) فقال جبريل لإبراهيم عليه السلام: هل لك من حاجة يعرض عليه المساعدة لإنقاذه، وجبريل عليه السلام لا شك ذو قوة عظيمة. وعنده قدرة على إنقاذ إبراهيم. وقد وصفه الله عز وجل فقال: { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ }(3) وفي الآية الأخرى { ذُو مِرَّةٍ } يعني قوة، فعرض جبريل على إبراهيم أن يساعده في إخراجه من هذه الشدة، فلمّا كان إبراهيم عظيم الثقة بالله عز وجل قال له: أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم. فإبراهيم عليه السلام لم يرد أن يطلب من مخلوق أن ينقذه من هذه الشدة وإنما توجه إلى ربه كما صح في الحديث أنه قال: « حسبنا الله ونعم الوكيل»(4) فهذا من باب التوكل
__________
(1) النجم:5
(2) وفي ثبوته نظر
(3) التكوير: 20
(4) رواه الإمام البخاري في صحيحه 5/172 كتاب تفسير القرآن باب « إن الناس قد جمعوا لكم.. الآية » من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه.(18/103)
على الله عز وجل وتفويض الأمر إليه وهذه صفة أكمل الخلق إيمانًا حيث إن إبراهيم رفض مساعدة المخلوق وقبل مساعدة الخالق، لأن مساعدة المخلوق فيها منّة وحاجة إلى المخلوق ومساعدة الخالق سبحانه وتعالى لا منّة فيها لغير الله، وهي فضل من الله سبحانه وتعالى، وجبريل عرض على إبراهيم شيئًا يقدر عليه وهو عرض من حي حاضر قادر كما يعرض الغني على الفقير مساعدته بالمال، وليس هذا من جنس الاستغاثة بالأموات أو الغائبين الذين يستغيث بهم القبوريون، فإن الأموات لا يستغاث بهم ولا يقدرون على ما طلب منهم ولا يسمعون دعاء من دعاهم كما قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ، وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }(1) وقال تعالى : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ، إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ }(2).
__________
(1) سبأ: 22-23
(2) فاطر: 13-14(18/104)
[ ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة جدًا تفهم مما تقدم ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون هذا حق ونحن نفهم هذا ونشهد أنه الحق ولكن لا نقدر أن نفعله ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، وغير ذلك من الأعذار ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار كما قال تعالى: { اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً }(1) وغير ذلك من الآيات كقوله: { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }(2).
فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهرًا وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق وهو شر من الكافر الخالص: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ }(3).
__________
(1) التوبة:9
(2) البقرة:146
(3) النساء:145(18/105)
وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة تبيّن لك إذا تأملتها في ألسنة النّاس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دُنيا أو جاه أو مداراة وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا فإذا سألته عمّا يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه ] ختم الشيخ رحمه الله هذه الرسالة بمسألة عظيمة مهمة يجب تفهمها وتعقُّلها لأنه إذا فهمها الإنسان فإنه يدرك أخطاء الناس في العقيدة. وهذه المسألة هي: أن التوحيد يكون بالقول والعمل والاعتقاد، لابد من هذه الأمور الثلاثة فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة صار الإنسان موحدًا مؤمنًا بالله ورسوله وإذا اختل واحدٌ منها لم يكن مؤمنًا ولا موحدًا. وهم في هذا أصناف: الصنف الأول من يعتقد التوحيد بقلبه ويعرف أنه لا إله إلا الله وأن عبادة ما سواه باطلة ولكنه لا يعمل به بجوارحه ولا يقرُّ به بلسانه لطمع دنيوي فهذا كافر مثل فرعون فإن فرعون كان معترفًا بالتوحيد في قلبه وأن ما جاء به موسى هو الحق ولكنه ترك العمل به وتظاهر بخلافه وجحده تكبرًا وعنادًا كما قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }(1).
__________
(1) النمل:14(18/106)
وقال موسى عليه السّلام لفرعون:{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ }(1) لقد علمت أي عرفت بقلبك ما أنزل هذه الآيات التي جئتك بها إلا رب السماوات والأرض بصائر للناس فهذا دليل على أن فرعون كان مستيقنًا بقلبه صدْق ما جاء به موسى عليه السلام وإنما جحد ذلك وتظاهر بجحده كحال كفار قريش الذين قال الله فيهم: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }(2) دلت الآية على أن كفار قريش يصدقون بالرسول بقلوبهم ولكن يجحدون ذلك بظواهرهم وألسنتهم وكما قال الله سبحانه وتعالى في اليهود: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }(3) يعرفون هذا بقلوبهم ويتظاهرون بالكتمان والجحود مع تيقنهم في قلوبهم بأن محمدًا رسول الله، وأنه جاء بالحق من عند الله عز وجل ولكن منعهم الكبر والحسد من اتباعه، واعتقادهم بقلوبهم لا ينفعهم فهم كفار مخلّدون في النار. وكثير من عبَّاد القبور اليوم على هذا، يقولون: نعرف أن الذي تقولون هو التوحيد ولكن ما نقدر أن نخالف أهل بلدنا لأن أهل بلدنا عندهم أضرحة واستغاثة بالأموات ولا نقدر أن نخالفهم لأجل أن نعيش معهم ولا نقدر على مجابهة الناس فهم يوافقون الكفار والمشركين على عقائدهم، إما أن يفعلوا مثل فعلهم وهم يعتقدون بطلان ذلك وإما أن لا ينكروا عليهم ولا يبيّنوا الحق بل ربما يدافعون عنهم، وهذا هو واقعهم الآن. ويقولون لمن دعاهم إلى الحق هذا الرجل خارجي وهذا الرجل جاء بمذهب خامس، وهم يعتقدون أن ما جاء به هو ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو مقتضى الكتاب والسنة، يعرفون هذا وإنما حملهم الحسد أوالكبر أو الطمع في أمور الدنيا لأنهم يظنون
__________
(1) الإسراء:102
(2) الأنعام:33
(3) البقرة:146(18/107)
أنهم إذا وافقوا على هذا الحق وقبلوه سيخسرون رئاستهم ويخسرون أموالهم ويخسرون جاههم عند الناس. والصنف الثاني من وافق في الظاهر ونطق بالتوحيد وقال هذا هو الصحيح وهذا هو الحق وصلى وصام وصار مع المسلمين لكن في قلبه لا يعتقد هذا ويعتقد أن هذا خرافات وأنه تقاليد بالية، فهو لم يعمل به ولم يتكلم به إيمانًا وإنما عمل به وتكلم به نفاقًا كحالة المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار لأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً }(1).
فالناس مع التوحيد ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يعرفه ويؤمن به باطنًا ويجحده ظاهرًا وينكره.
القسم الثاني: من يتكلم به ويعمل به ظاهرًا وينكره ويكفر به باطنًا. وهم المنافقون.
القسم الثالث: من يعتقده باطنًا ويعمل به ظاهرًا وباطنًا. والقسمان الأولان كافران خاسران والقسم الثالث مؤمن مفلح.
__________
(1) المنافقون: 1-2(18/108)
[ ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله أولاهما ما تقدم من قوله : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }(1) فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه اللعب والمزح، تبيّن لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد، أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها. والآية الثانية قوله تعالى: { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ }(2) فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان. وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفًا أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض؛ إلا المكره. والآية تدل على هذا من جهتين الأولى من قوله: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } فلم يستثن الله إلا المكره ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على العمل أو الكلام وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها.
__________
(1) التوبة:66
(2) النحل:106(18/109)
والثانية قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ }(1) فصرّح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين ] نعم إذا عرفت هذه القاعدة وهي معرفة ما يحصل به الإيمان الصحيح فإنه يجب أن تعرف ما يضادها من الأقوال والأفعال ومن ذلك الكلام الذي يتكلم به الإنسان وهو من نواقض الإسلام لكنه يمزح به فإنه يكفر ولو كان ليس جادًا في كلامه، فالدين ليس فيه مزح والدليل على ذلك قصة هؤلاء النفر الذين خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك لغزو الروم لما بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الروم يجمعون على غزو المسلمين، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بادر في وقت الحر وشدة القيظ والصيف ووقت طيب الثمار والمسافة بعيدة من المدينة إلى تبوك. وإن ناسًا من الذين خرجوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - جلسوا في مجلس يمزحون قال واحد منهم ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء يعنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وكان في المجلس غلام من الأنصار فأنكر عليهم وقال كذبت ولكنّك منافق لأخبرن رسول الله، فلمّا ذهب هذا الفتى ليخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجد الوحي قد سبقه ونزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }(2) فجاء هؤلاء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون ويقولون يا رسول الله ما
__________
(1) النحل:107
(2) التوبة: 65-66(18/110)
قصدنا إلا المزح حديث الركب نقطع به عنّا الطريق ولا يزيد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على تلاوة الآية ولا يلتفت إليهم(1) فإذا كان هؤلاء كفروا بالله وارتدوا وقد كانوا مسلمين من قبل بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب فكيف بمن يقول كلام الكفر لا من باب المزح وإنما من باب المحافظة على ماله وعلى جاهه وعلى مكانته وهذا شر من المازح لأنه اشترى الحياة الدنيا بالآخرة؟ فالحاصل أن الذي يتكلم بكلمة الكفر لا يخلو من خمس حالات:
الحالة الأولى: أن يكون معتقدًا ذلك بقلبه فهذا لا شك في كفره.
الحالة الثانية: أن لا يكون معتقدًا ذلك بقلبه ولم يكره على ذلك ولكن فعله من أجل طمع الدنيا أو مداراة الناس وموافقتهم فهذا كافر بنص الآية { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ }(2).
الحالة الثالثة: من فعل الكفر والشرك موافقة لأهله وهو لا يحبه ولا يعتقده بقلبه وإنما فعله شحًا ببلده أو ماله أو عشيرته.
الحالة الرابعة: أن يفعل ذلك مازحًا ولاعبًا كما حصل من النفر المذكورين. وهذا يكون كافرًا بنص الآية الكريمة.
الحالة الخامسة: أن يقول ذلك مكرهًا لا مختارًا وقلبه مطمئن بالإيمان فهذا مرخص له في ذلك دفعًا للإكراه، وأما الأحوال الأربع الماضية فإن صاحبها يكفر كما صرحت به الآيات وفي هذا رد على من يقول إن الإنسان لا يحكم عليه بالكفر ولو قال كلمة الكفر أو فعل أفعال الكفر حتى يُعلم ما في قلبه وهذا قول باطل مخالف للنصوص وهو قول المرجئة الضُّلاَّل.
وذكر الشيخ رحمه الله قاعدة عظيمة في الإكراه الذي يعذر به والذي لا يعذر به حيث قال: (ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على العمل أو الكلام، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها) وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
انتهى في 15/11/1418هـ
بقلم/ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان.
__________
(1) تقدم العزو إليها
(2) النحل:107(18/111)
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الصادق الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد:
فهذا كتاب في علم التوحيد، وقد راعيت فيه الاختصار مع سهولة العبارة، وقد اقتبسته من مصادر كثيرة من كتب أئمتنا الأعلام، ولا سيما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب العلامة ابن القيم، وكتب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه من أئمة هذه الدعوة المباركة، ومما لا شك فيه أن علم العقيدة الإسلامية هو العلم الأساسي الذي تجدر العناية به تعلمًا وتعليمًا وعملًا بموجبه؛ لتكون الأعمال صحيحة مقبولة عند الله نافعة للعاملين، خصوصًا وأننا في زمان كثرت فيه التيارات المنحرفة؛ تيار الإلحاد، وتيار التصوف والرهبنة، وتيار القبورية الوثنية، وتيار البدع المخالفة للهدي النبوي، وكلها تيارات خطيرة ما لم يكن المسلم مسلحًا بسلاح العقيدة الصحيحة المرتكزة على الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة، فإنه حري أن تجرفه تلك التيارات المضلة؛ وهذا مما يستدعي العناية التامة بتعليم العقيدة الصحيحة لأبناء المسلمين من مصادرها الأصيلة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الباب الأول
مدخل لدراسة العقيدة
ويتكون من الفصول التالية:
الفصلُ الأوَّلُ: معنى العقيدة، وبيان أهميتها؛ باعتبارها أساسًا يقوم عليه بناء الدين.
الفصل الثَّاني: مصادر العقيدة الصحيحة، ومنهج السَّلف في تلقيها.
الفصل الثَّالثُ: الانحرافُ عن العقيدة، وسبُلُ التوقِّي منه.
الفصل الأول
في بيان العقيدة وبيان أهميتها باعتبارها أساسًا يقوم عليه بناء الدين
العقيدة لغة:
مأخوذة من العقد وهو ربط الشيء، واعتقدت كذا: عقدت عليه القلب والضمير. والعقيدة: ما يدين به الإنسان، يقال: له عقيدة حسنة، أي: سالمةٌ من الشك. والعقيدةُ عمل قلبي، وهي إيمانُ القلب بالشيء وتصديقه به.
والعقيدةُ شرعًا:(19/1)
هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، و الإيمان بالقدر خيره وشره، وتُسمَّى هذا أركانُ الإيمان.
والشريعة تنقسم إلى قسمين: اعتقاديات وعمليات:
فالاعتقاديات: هي التي لا تتعلق بكيفية العمل، مثل اعتقاد ربوبية الله ووجوب عبادته، واعتقاد بقية أركان الإيمان المذكورة، وتُسمَّى أصلية.
والعمليات:هي ما يتعلق بكيفية العمل مثل الصلاة والزكاة والصوم وسائر الأحكام العملية، وتسمى فرعية؛ لأنها تبنى على تلك صحة وفسادًا. [شرح العقيدة السفارينية (1 / 4 ). وقوله: (على تلك) أي: على الاعتقاديات. ]
فالعقيدةُ الصَّحيحةُ هي الأساسُ الذي يقوم عليه الدين وتَصحُّ معه الأعمال، كما قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا (110) }. [الكهف: 110. ]
وقال تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65) }. [الزمر: 65. ]
وقال تعالى: {فاعبد الله مخلصًا له الدين (2) ألا لله الدين الخالص }. [الزمر: 2، 3. ]
فدلّت هذه الآيات الكريمة، وما جاء بمعناها، وهو كثير، على أن الأعمال لا تُقبلُ إلا إذا كانت خالصة من الشرك، ومن ثَمَّ كان اهتمام الرسل ـ صلواتُ الله وسلامه عليهم ـ بإصلاح العقيدة أولًا، فأول ما يدعون أقوامهم إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، كما قال تعالى:
{ ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت }. [النحل: 36. ]
و كلُّ رسول يقول أول ما يخاطب قومه:
{ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 59، 65، 73، 85.] قالها نوح وهود و صالح وشعيب، و سائر الأنبياء لقومهم.(19/2)
وقد بقي النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعد البعثة ثلاثةَ عشرَ عامًا يدعو الناس إلى التوحيد، و إصلاح العقيدة؛ لأنها الأساسُ الذي يقوم عليه بناءُ الدين. و قد احتذى الدعاة والمصلحون في كل زمان حذو الأنبياء والمرسلين، فكانوا يبدءون بالدعوة إلى التوحيد، و إصلاح العقيدة، ثم يتجهون بعد ذلك إلى الأمر ببقية أوامر الدين.
الفصل الثاني
في بيان مصادر العقيدة ومنهج السلف في تلقيها
العقيدة توقيفية؛ فلا تثبت إلا بدليل من الشارع، ولا مسرح فيها للرأي والاجتهاد، و من ثَمَّ فإن مصادرها مقصورة على ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأنه لا أحدَ أعلمُ بالله وما يجب له و ما ينزه عنه من الله، ولا أحد بعد الله أعلمُ بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان منهج السلف الصالح ومن تبعهم في تلقِّي العقيدة مقصورًا على الكتاب والسنة.
فما دل عليه الكتاب والسنة في حق الله تعالى آمنوا به، واعتقدوه و عملوا به. و ما لم يدل عليه كتاب الله ولا سنة رسوله نفَوْهُ عن الله تعالى ورفضوه؛ ولهذا لم يحصل بينهم اختلاف في الاعتقاد، بل كانت عقيدتهم واحدة، وكانت جماعتهم واحدة؛ لأن الله تكفّل لمن تمسك بكتابه وسنة رسوله باجتماع الكلمة، والصواب في المعتقد واتحاد المنهج، قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا }. [آل عمران: 103. ]
وقال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدي فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) }. [طه: 23. ]
ولذلك سُمُّوا بالفرقة الناجية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بالنجاة حين أخبر بافتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ولما سئل عن هذه الواحدة قال: " هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ". [الحديث رواه الإمام أحمد. ](19/3)
وقد وقع مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فعندما بنى بعض الناس عقيدتهم على غير الكتاب والسنة، من علم الكلام، وقواعد المنطق الموروثَيْن عن فلاسفة اليونان؛ حصل الانحرافُ والتفرق في الاعتقاد مما نتج عنه اختلافُ الكلمة، وتفرُّقُ الجماعة، وتصدع بناء المجتمع الإسلامي.
الفصل الثالث
في بيان الانحراف عن العقيدة وسبل التوقي منه
الانحراف عن العقيدة الصحيحة مهلكة وضياع؛ لأن العقيدة الصحيحة هي الدافع القوي إلى العمل النافع، والفرد بلا عقيدة صحيحة، يكون فريسة للأوهام والشكوك التي ربما تتراكم عليه، فتحجب عنه الرؤية الصحيحة لدروب الحياة السعيدة؛ حتى تضيق عليه حياته ثم يحاول التخلص من هذا الضيق بإنهاء حياته ولو بالانتحار، كما هو الواقع من كثير من الأفراد الذين فقدوا هداية العقيدة الصحيحة. و المجتمع الذي لا تسوده عقيدة صحيحة هو مجتمع بهيمي يفقد كل مقومات الحيادة السعيدة؛ وإن كان يملك الكثير من مقومات الحياة المادية التي كثيرًا ما تقوده إلى الدمار، كما هو مشاهد في المجتمعات الكافرة؛ لأن هذه الموقمات المادية تحتاج إلى توجيه وترشيد؛ للاسفتادة من خصائصها ومنافعها، و لا موجه لها سوى العقيدة الصحيحة؛ قال تعالى: {يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا }. [المؤمنون: 51. ]
وقال تعالى: {* ولقد ءاتينا منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (10) أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحًا إني بما تعملون بصير (11) ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شره وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا ءال داود شكرًا وقليل من عبادي الشكور (13) }. [سبأ: 10 ـ 13. ](19/4)
فقوة العقيدة يجب أن لا تنفك عن القوة المادية؛ فإن انفكت عنها بالانحراف إلى العقائد الباطلة، صارت القوة المادية وسيلة دمار وانحدار؛ كما هو المشاهد اليومَ في الدول الكافرة التي تملكُ مادة، ولا تملك عقيدة صحيحة.
والانحراف عن العقيدة الصحيحة له أسباب تجب معرفتها، من أهمها:
1 ـ الجهل بالعقيدة الصحيحة؛ بسبب الإعراض عن تعلمها وتعليمها، أو قلة الاهتمام والعناية بها؛ حتى ينشأ جيلٌ لا يعرفُ تلك العقيدة، ولا يعرف ما يخالفها ويضادها؛ فيعتقد الحق باطلًا، والباطل حقًا، كما قالَ عمرُ بنُ الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: " إنما تُنقضُ عُرى الإسلام عروةً إذا نشأَ في الإسلام من لا يعَرفُ الجاهلية ".
2 ـ التعصُّبُ لما عليه الآباء والأجداد، و التمسك به وإن كان باطلًا، وترك ما خالفه وإن كان حقًا؛ كما قال الله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا أولو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون }. [البقرة: 170].
3 ـ التقليدُ الأعمى بأخذ أقوال الناس في العقيدة من غير معرفة دليلها، ومعرفة مدى صحتها، كما هو الواقعُ من الفرقِ المخالفة من جهمية ومعتزلة، و أشاعرة وصوفية، وغيرهم، حيثُ قلدوا من قبلهم من أئمة الضلال؛ فضلوا وانحرفوا عن الاعتقاد الصحيح.
4 ـ الغلو في الأولياء والصالحين، ورفعهم فوق منزلتهم، بحيث يعتقد فيهم ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب النفع، ودفع الضر، واتخاذهم وسائط بين الله وبين خلقه في قضاء الحوائج وإجابة الدعاء؛ حتى يؤول الأمر إلى عبادتهم من دون الله، والتقرب إلى أضرحتهم بالذبائح والنذور، والدعاء والاستغاثة وطلب المدد، كما حصل من قوم نوح في حق الصالحين حين قالوا: {لا تذرن ءالهتكم و لا تذرن ودًا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرا }. [نوح: 23. ]
وكام هُوَ الحاصلُ من عبَّاد القُبور اليوم في كثير من الأمصار.(19/5)
5 ـ الغفلة عن تدبر آيات الله الكونية، وآيات الله القرآنية، والانبهار بمعطيات الحضارة المادية؛ حتى ظنوا أنها من مقدور البشر وحده؛ فصاروا يُعظِّمون البشر، ويضيفون هذه المعطيات إلى مجهوده واختراعه وحده، كما قال قارون من قبلُ: {قال إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78.] وكما يقول الإنسان {هذا لي} [فصلت: 50. ]، {إنما أوتيته على علم }. [الزمر: 49. ]
ولم يتفكروا وينظروا في عظمة من أوجد هذه الكائنات، وأودعها هذه الخصائص الباهرة، وأوجد البشر و أعطاهُ المقدرةَ على استخراج هذه الخصائص، والانتفاع بها {والله خلقكم وما تعملون (96) }. [الصافات: 96. ]
{ أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء }. [الأعراف: 185. ]
{ الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33) وءاتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها }. [إبراهيم: 32 ـ 34. ]
6 ـ أصبح البيت في الغالب خاليًا من التوجيه السليم؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " [أخرجه الشيخان.] فالأبوان لهما دور كبير في تقويم اتجاه الطفل.
7 ـ إحجامُ وسائل التعليم والإعلام في غالب العالم الإسلامي عن أداء مهمتهما، فقد أصبحت مناهج التعليم في الغالب لا تولي جانب الدين اهتمامًا كبيرًا، أو لا تهتم به أصلًا، واصبحت وسائلُ الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في الغالب أداة تدمير وانحراف، أو تعني بأشياء مادية وترفيهية، ولا تهتم بما يقوم الأخلاق، ويزرع العقيدة الصحيحة، ويقاوم التيارات المنحرفة، حتى ينشأ جيلٌ أعزلُ أمام جيوش الإلحاد لا يدان له بمقاومتها.
وسبل التوقي من هذا الانحراف تتلخص فيما يلي:(19/6)
1 ـ الرجوع إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتلقي الاعتقاد الصحيح منهما، كما كان السلف الصالح يستمدون عقيدتهم منهما، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، مع الاطلاع على عقائد الفرق المنحرفة، ومعرفة شُبههم للرد عليها والتحذيير منها؛ لأن من لا يعرف الشر يوشك أن يقع فيه.
2 ـ العناية بتدريس العقيدة الصحيحة ـ عقييدة السلف الصالح ـ في مختلف المراحل الدراسية، وإعطاؤها الحصص الكافية من المنهج، والاهتمام البالغ في تدقيق الامتحانات في هذه المادة.
3 ـ أ، تقرر دراسة الكتب السلفية الصافية، ويبتعد عن كتب الفرق المنحرفة، كالصوفية والمبتدعة، والجهمية والمعتزلة، والأشاعرة والمبتدعة، والجهمية والمعتزلة، والأشاعرة والماتوريدية، وغيرهم إلا من باب معرفتها لرد ما فيها من الباطل والتحذير منا.
4 ـ قيام دعاة مصلحين يجددون للناس عقيدة السلف، ويردون ضلالات المنحرفين عنها.
الباب الثاني
في بيان معنى التوحيد وأنواعه
التوحيد: هو إفراد الله بالخلق والتدبر، وإخلاص العبادة له، وترك عبادة ما سواه، وإثبات ما لَهُ من الأسماء الحسنى، والصفات العليا، وتنزيهه عن النقص والعيب؛ فهو بهذا التعريف يشملُ أنواع التوحيد الثلاثة، وبيانها كتالي:
1 ـ توحيد الربوبية
ويتضمن الفصول التالية:
الفصل الأول: في بيان معنى توحيد الربوبية، وفطريته وإقرار المشركين به.
الفصل الثاني: في بيان مفهوم كلمة الرب في القرآن والسنة، وتصورات الأمم الضالَّة في باب الربوبية، والرد عليها.
الفصل الثالث: في بيان خضوع الكون في الانقياد والطاعة لله.
الفصل الرابع: في بيان منهج القرآن في إثباتِ وحدانية الله في الخلق والرزق وغير ذلك.
الفصل الخامس: في بيان استلزام توحيد الربوبية لتوحيد الألوهية.
الفصل الأول
في بيان معنى توحيد الربوبية وإقرار المشركين به(19/7)
التوحيد: بمعناه العام هو اعتقادُ تفرُّدِ الله تعالى بالربوبية، وإخلاص العبادة له، وإثبات ما له من الأسماء والصفات، فهو ثلاثة أنواع:
توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وكل نوع له معنى لابد من بيانه؛ ليتحدد الفرق بين هذه الأنواع:
1 ـ فتوحيد الربوبية:
هو إفرادُ الله تعالى بأفعاله؛ بأن يُعتقَدَ أنه وحده الخالق لجميع المخلوقات: {الله خالق كل شيء }. [الزمر: 62. ]
وأنه الرازق لجميع الدواب والآدميين وغيرهم: {* وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها }. [هود: 6. ]
و أنه مالكُ الملك، والمدبرُ لشئون العالم كله؛ يُولِّي ويعزل، ويُعزُّ ويُذل، قادرٌ على كل شيء، يُصَرِّفُ الليل والنهار، ويُحيي ويُميت: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير (26) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب (27) }. [آل عمران: 26، 27. ]
وقد نفى الله سبحانه أن يكونَ له شريكٌ في الملك أو معين، كما نفى سُبحانه أن يكونَ له شريكٌ في الخلق والرزق، قال تعالى: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه }. [لقمان: 11. ]
وقال تعالى: {أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه }. [الملك: 21. ]
كما أعلن انفراده بالربوبية على جميع خلقه فقال: {الحمد لله رب العالمين (2)} الفاتحة: 2. ]، وقال: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين (54) }. [الأعراف: 54. ](19/8)
وقد فَطَرَ الله جميعَ الخلق على الإقرار بربوبيته؛ حتى إن المشركين الذين جعلوا له شريكًا في العبادة؛ يقرون بتفرده بالربوبية، كما قال تعالى: {قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم (86) سيقولون لله أفلا تتقون (87) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون (88) سيقولون لله قل فأنى تسحرون (89) }. [المؤمنون: 86 ـ 89. ]
فهذا التوحيدُ لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم؛ بل القلوب مفطورة على الإقرار به؛ أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات؛ كما قالت الرسل فيما حكي الله عنهم: {* قالت رسلهم أفي الله شك فاطر ا لسماوات والأرض }. [إبراهيم: 10. ]
وأشهر منن عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الرب فرعون، وقد كان مستيقنًا به في الباطن كما قال له موسى: {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر }. [الإسراء: 102. ]
وقال عنه وعن قومه: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوًا }. [النمل: 14. ]
وكذلك من ينكر الرب اليوم من الشيوعيين، إنما ينكرونه في الظاهر مكابرة؛ وإلا فهم في الباطن لابد أن يعترفوا أنه ما من موجود إلا وله موجد، وما من مخلوق إلا وله خالق وما من أثر إلا وله مؤثر، قال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون (36) }. [الطور: 35 ـ 36. ]
تأمل العالم كله، علويه وسفليه، بجميع أجزائه؛ تجده شاهدًا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه. فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر؛ بمنزلة إنكار العلم وجحده، لا فرق بينهما [لأن العلم الصحيح يثبت وجود الخالق. ]، و ما تبجح به الشيوعية اليوم من إنكار وجود الرب؛ إنما هو من باب المكابرة، ومصادرة نتائج العقول والأفكار الصحيحة، ومن كان بهذه المثابة، فقد ألغى عقله ودعا الناس للسخرية منه.
قال الشاعر:
كيف يعصي الإله ………ويجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية………تدل على أنه واحد(19/9)
الفصلُ الثاني
مفهومُ كلمةِ الربِّ في القرآن والسنة وتصورات الأمم الضالة
1 ـ مفهوم كلمة الرب في الكتاب والسنة:
الرب في الأصل: مصدرُ ربَّ يرب، بمعنى: نشأ الشيء من حال إلى حال إلى حال التمام، يقالُ: ربه ورباه ورببه، فلفظ (رب) مصدر مستعار للفاعل، ولا يقال: (الرب) بالإطلاق؛ إلا لله تعالى المتكفل بما يصلح الموجودات، نحو قوله: {رب العالمين (2)} [الفاتحة: 2. ]، {ربكم ورب ءابائكم الأولين (26) }. [الشعراء: 26. ]
ولا يقال لغيره إلا مضافا محدودًا، كما يقال: رب الدار؛ وربُّ الفرس. يعني صاحبُها، ومنه قولُه تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه} [يوسف: 42.] على قول في تفسير الآية.
وقوله تعالى: {قال ارجع إلى ربك }. [يوسف: 50. ]
وقوله تعالى: {أما أحدكما فيسقي ربه خمرًا }. [يوسف: 41. ]
وقال صلى الله عليه وسلم في ضالة الإبل: " حتى يجدها ربها ". [من حديث متفق عليه. ]
فتبين بهذا: أن الرب يطلق على الله معرفًا ومضافًا، فيقال: الرب، أو رب العالمين، أو رب الناس، ولا تُطلق كلمة الربِّ على غير الله إلا مضافة، مثل: رب الدار، ورب المنزل، ورب الإبل.
ومعنى (رب العالمين) أي: خالقهم ومالكهم، ومصلحهم ومربيهم بنعمه، وبإرسال رسله، وإنزال كتبه، ومجازيهم على أعمالهم. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (فإنَّ الربوبية تقتضي أمر العباد ونهيهم، وجزاء مُحسنهم بإحسانه، ومُسيئهم بإساءته ). [انظر (1 / 8) من مدارج السالكين. ]
هذه حقيقة الربوبية.
2 ـ مفهوم كلمة الرب في تصورات الأمم الضالة:
خلق الله الخلق مفطورين على التوحيد، ومعرفة الرب الخالق سبحانه، كما قال الله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله }. [الروم: 30. ]
وقال تعالى: {و إذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا }. [الأعراف: 172. ](19/10)
فالإقرار بربوبية الله والتوجه إليه أمر فطري، والشرك حادث طارئ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كلُ مولود يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصرانه أو يُمجِّسانه " [رواه الشيخان. ]، فلو خُلِّيَ العبد وفطرته لاتجه إلى التوحيد وقَبِل دعوة الرسل؛ الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودلت عليه الآيات الكونية، ولكن التربية المنحرفة والبيئة الملحدة هما اللتان تغيران اتجاه المولود، ومن ثَمَّ يقلد الأولاد آباءهم في الضلالة والانحراف.
يقولُ الله تعالى في الحديث القدسي: " خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين " [رواه أحمد ومسلم.] أي: صَرَفَتْهُم إلى عبادة الأصنام، واتخاذها أربابًا من دون الله؛ فوقعوا في الضلال والضياع، والتفرق والاختلاف؛ كل يتخذ له ربًا يعبده غير رب الآخر؛ لأنهم لما تركوا الرب الحق، ابتُلُوا باتخاذ الأرباب الباطلة، كما قال تعالى: {فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: 32.] والضلال ليس له حد ولا نهاية، وهو لازم لكل من أعرض عن ربه الحق، قال الله تعالى: {ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار (39) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان }. [يوسف: 39، 40. ]
والشركُ في الربوبية باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال ممتنع، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن معبوداتهم تملك بعض التصرفات في الكون، وقد تلاعب بهم الشيطان في عبادة هذه المعبودات، فتلاعَبَ بكل قوم على قدر عقولهم، فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى؛ الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كقوم نوح، وطائفةٌ اتخذت الأصنام على صورة الكواكب؛ التي زعموا أنها تؤثر على العالم، فجعلوا لها بيوتًا وسدنة.(19/11)
واختلفوا في عبادتهم لهذه الكواكب: فمنهم من عبد الشمس، ومنهم من عبد القمر، ومنهم من يعبدُ غيرهما بمن الكواكب الأخرى؛ حتى بنوا لها هياكل، لكل كوكب منها هيكل يخصه، ومنهم من يعبدُ النار، وهم المجوس، ومنهم من يعبد البقر، كما في الهند، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبدُ القبور والأضرحة، وكل هذا بسبب أن هؤلاء تصوروا في هذه الأشياء شيئًا من خصائص الربوبية.
فمنهم من يزعم أن هذه الأصنام تمثل أشياء غائبة، قال ابن القيم: (وضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب، فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته؛ ليكون نائبًا منابه، وقائمًا مقامه. وإلا فمن المعلوم أن عاقلًا لا ينحت خشبة أو حجرًا بيده، ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده...) انتهى. [إغاثة اللهفان (2 / 220 ). ]
كما أن عُبَّادَ القبور قديمًا وحديثًا، يزعمون أن هؤلاء الأموات يشفعون لهم، ويتوسطون لهم عند الله في قضاء حوائجهم ويقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3.] {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله }. [يونس: 18. ]
كما أن بعض مشركي العرب والنصارى تصوروا في معبوداتهم أنها ولد الله، فمشركو العرب عبدوا الملائكة على أنها بنات الله، والنصارى عبدوا المسيح ـ عليه السلام ـ على أنه ابن الله.
3 ـ الرد على هذه التصورات الباطلة:
قد رد الله على هذه التصورات الباطلة جميعًا بما يأتي:
أ ـ رد على عبدة الأصنام بقوله: {أفرءيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الآخرى (20) }. [يونس: 18. ]
ومعنى الآية كما قال القرطبي: أفرأيتم هذه الآلهة ! أنفعت أو ضرت؛ حتى تكون شركاء لله تعالى ؟ وهل دفعت عن نفسها حينما حطمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وهدموها.(19/12)
وقال تعالى: {واتل عليهم نبأ إبراهيم (69) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون (70) قالوا نعبد أصنامًا فنظل لها عكافين (71) قال هل يسمعونكم إذ تدعون (72) أو ينفعونكم أو يضرون (73) قالوا بل وجدنا ءاباءنا كذلك يفعلون (74) }. [الشعراء: 69 ـ 74. ]
فقد وافقوا على أنَّ هذه الأصنام لا تسمعُ الدعاءَ ولا تنفعُ ولا تضر، وإنَّما عبدوها تقليدًا لآبائهم، والتقليد حجة باطلة.
ب ـ ورد على من عبد الكواكب والشمس والقمر بقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} [الأعراف: 54. ]، وبقوله: {ومن ءاياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون (37) }. [فصلت: 37. ]
جـ ـ ورد على من عبد الملائكة والمسيح ـ عليهم السلام ـ على أنهم ولد الله ـ بقوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد} [المؤمنون: 91. ]، وبقوله: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} [الأنعام: 101. ]، وبقوله: {لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوًا أحد (4) }. [الإخلاص: 3، 4. ]
الفصل الثالث
الكون وفطرته في الخضوع والطاعة لله
إن جميع الكون بسمائه وأرضه وأفلاكه وكواكبه، ودوابه وشجره ومدره وبره وبحره، وملائكته وجنه وإنسه؛ كله خاضع لله، مطيع لأمره الكوني، قال تعالى: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا} [آل عمران: 83. ]، وقال تعالى: {بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون (116)} [البقرة: 116. ]، {ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون (49)} [النحل: 49. ]، {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} [الحج: 18.] {ولله يسجد منن في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدو والأصال }. [الرعد: 15. ](19/13)
فكُلُّ هذه الكائنات والعوالم؛ مُنقادة لله خاضعة لسلطانه؛ تجري وفق إرداته وطوع أمره، لا يستعصي عليه منها شي؛ تقوم بوظائفها، وتؤدي نتائجها بنظام دقيق، وتنزه خالقها عن النقص والعجز والعيب، قال تعالى: {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم }. [الإسراء: 44. ]
فهذه المخلوقات صامتها وناطقها، وحيها وميتها، كلها مُطيعةٌ لله مُنقادة لأمره الكوني، وكُلُها تنزه الله عن النقائص والعيوب بلسان الحال، ولسان المقال. فكلما تدبّر العاقل هذه المخلوقات؛ علم أنها خُلقت بالحق وللحق، وأنها مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء عن أمر مدبرها؛ فالجميع مُقِرُّون بالخالق بفطرتهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (وهم خاضعون مُستسلمون، قانتون مضطرون، من وجوه:
منها: علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه.
ومنها: خضوعُهُم واستسلامهم لما يجري عليهم من أقداره ومشيئته.
ومنها: دعاؤهم إياهُ عندَ الاضطرار.
والمؤمن يخضع لأمر به طوعًا؛ وكذلك لما يقدره عليه من المصائب، فإنه يَفعلُ عندها ما أمر به من الصبر وغيره طوعًا؛ فهو مسلم لله طوعًا، خاضع له طوعًا [مجموع الفتاوى (1 / 45 ). ]. والكافرُ يخضع لأمر ربه الكوني، وسجود الكائنات المقصود به الخضوعُ، وسجود كل شيء بحسبه، سجود يناسبه ويتضمن الخضوع للرب، وتسبيح كل شيء بحسبه حقيقة لا مجازًا).
وقال شيخ الإسلام ابنُ تيميةَ ـ رحمه الله ـ على قوله تعالى: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون (83) }. [آل عمران: 83. ](19/14)
قال: (فذكر سبحانه إسلام الكائنات طوعًا وكرهًا؛ لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد التام؛ سوا أقر المقر بذلك أو أنكره؛ وهم مدينون له مدبرون؛ فهم مسلمون له طوعًا وكرهًا، وليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، و هو رب العالمين ومليكهم، يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم، وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب مصنوع، مفطور فقير محتاج معبد مقهور؛ وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصور ). [مجموع الفتاوى (10 / 200 ). ]
الفصل الرابع
في بيان منهج القرآن في إثبات وجود الخالق ووحدانيته
منهجُ القرآن في إثبات وجود الخالق ووحدانيته؛ هو المنهج الذي يتمشى مع الفطر المستقيمة، والعقول السليمة، وذلك بإقامة البراهين الصحيحة، التي تقتنع بها العقول، وتسلم بها الخصوم، ومن ذلك:
1 ـ من المعلوم بالضرورة أن الحادث لا بد له من محدث:
هذه قضية ضرورية معلومة بالفطرة؛ حتى للصبيان؛ فإن الصبي لو ضربه ضارب، وهو غافل لا يبصره، لقال: من ضربني ؟ فلو قيل له: لم يضربك أحد؛ لم يقبل عقله أن تكون الضربة حدثت من غير محدث؛ فإذا قيل: فلان ضربك، بكى حتى يُضرب ضاربه؛ ولهذا قال تعالى:
{ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) }. [الطور: 35. ]
وهذا تقسيم حاصر، ذكره الله بصيغة استفهام إنكاري؛ ليبين أن هذه المقدمات معلومة بالضرورة، لا يمكن جحدها، يقول: {أم خلقوا من غير شيء} أي: من غير خالق خلقهم، أم هم خلقوا أنفسهم ؟ وكلا الأمرين باطل؛ فتعين أن لهم خالقًا خلقهم، وهو الله سبحانه، ليس هناك خالق غيره، قال تعالى: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه }. [لقمان: 11. ]
{ أوني ماذا خلقوا من الأرض }. [الأحقاف: 4. ](19/15)
{ أم جلعوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار (16)} [الرعد: 16.] {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له }. [الحج: 73. ]
{ والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون }. [النحل: 20. ]
{ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17) }. [النحل: 17. ]
ومع هذا التحدي المتكرر لم يدع أحد أنه خلق شيئًا، ولا مجرد دعوى ـ فضلًا عن إثبات ذلك ـ، فتعين أن الله سبحانه هو الخالق وحده لا شريك له.
2 ـ انتظام أمر العالم كله وإحكامه: أدل دليل على أن مدبره إله واحد، ورب واحد لا شريك له ولا منازع.
قال تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض }. [المؤمنون: 91. ]
فالإله الحق لا بد أن يكون خالقًا فاعلًا، فلو كان معه سبحانه إله آخر، يُشاركه في مُلكه ـ تعالى الله عن ذلك ـ لكان له خلق وفعل، وحينئذٍ فلا يرضى شركة الإله الآخر معه؛ بل إن قدر على قهر شريكه وتفرد بالملك والإلهية دونه؛ فعل. وإن لم يقدر على ذلك، افنرد بنصيبه في الملك والخلق؛ كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه، فيحصل الانقسام. فلابد من أحد ثلاثة أمور:
أ ـ إما أن يقهر أحدهما الآخر وينفرد بالملك دونه.
ب ـ وإما أن ينفرد كل واحد منهما عن الآخر بملكه وخلقه؛ فيحصل الانقسام.
جـ ـ وإما أن يكونا تحت ملك واحد يتصرف فيهما كيف يشاء؛ فيكون هو الإله الحق وهم عبيده.
وهذا هو الواقع، فإنه لم يحصل في العالم انقسام ولا خلل؛ مما يدل على أن مدبره واحد، لا منازع له، وأن مالكه واحد لا شريكه له.
3 ـ تسخير المخلوقات لأداء وظائفها، والقيام بخصائصها:(19/16)
فليس هناك مخلوق يستعصي ويمتنع عن أداء مهمته في هذا الكون، وهذا ما استدل به موسى ـ عليه السلام ـ حين سأله فرعون: {قال فمن ربكما يا موسى (49)} أجاب موسى بجواب شافٍ كافٍ فقال: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50)} [طه: 49، 50.] أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به؛ من كبر الجسم وصغره وتوسطه وجميع صفاته، ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهذه الهدايةُ هي هداية الدلالة والإلهام وهي الهداية الكاملة المشاهدة في جميع المخلوقات، فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المننافع، وفي دفع المضار عنه، حتى إن الله أعطى الحيوان البهيم من الإدراك؛ ما يتمكن به من فعل ما ينفعه، ودفع ما يضره، وما به يؤدي مهمته في الحياة، وهذا كقوله تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه }. [السجدة: 7. ]
فالذي خلق جميع المخلوقات، وأعطاها خلقها الحسن ـ الذي لا تقترح العقول فوق حسنه ـ وهداها لمصالحها، هو الرب على الحقيقة، فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودًا، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب، فالله أعطى الخلق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به، ولا شك أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه، في المناكحة والألفة والاجتماع، وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به، وفي هذا براهين قاطعة على أنه جل وعلا رب كل شيء، وهو المستحق للعبادة دون سواه...
وفي كل شيء له آية ……………تدل على أنه الواحد
ومما لا شك فيه أن المقصود من إثبات ربوبيته ـ سبحانه ـ لخلقه وانفراده لذلك: هو الاستدلال به على وجوب عبادته وحده لا شريك له؛ الذي هو توحيد الألوهية، فلو أن الإنسان أقر بتوحيد الربوبية ولم يقر بتوحيد الألوهية أو لم يقم به على الوجه الصحيح؛ لم يكن مسلمًا، ولا موحدًا؛ بل يكون كافرًا جاحدًا، وهذا ما سنتحدث عنه في الفصل التالي ـ إن شاء الله تعالى ـ.(19/17)
الفصل الخامس
بيان استلزام توحيد الربوبية لتوحيد الألوهية
ومعنى ذلك أن من أقر بتوحيد الربوبية لله، فاعترف بأنه لا خالق ولا رازق ولا مدبر للكون إلا الله ـ عز وجل ـ، لزمه أن يقر بأنه لا يستحق العبادة بجميع أنواعها إلا الله سبحانه، وهذا هو توحيد الألوهية، فإن الألوهية هي العبادة؛ فالإله معناه: المعبود، فلا يُدعى إلا الله، ولا يُستغاثُ إلا به، ولا يُتوَكَّلُ إلا عليه، و لا تذبح القرابين وتُنذر النذورُ ولا تُصرفُ جميعُ أنواع العبادة إلا له؛ فتوحيدُ الربوبية دليلٌ لوجوب توحيد الألوهية؛ ولهذا كثيرًا ما يتحجُّ الله ـ سبحانه ـ على المنكرين لتوحيد الألوهية بما أقروا به من توحيد الربوبية، مثل قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون (22) }. [البقرة: 21، 22. ](19/18)
فأمرهم بتوحيد الألوهية، وهو عبادتهُ، واحتَجَّ عليهم بتوحيد الرُّبوبية الذي هو خلقُ الناس الأولين والآخرين، وخلقُ السماءِ والأرضِ وما فيهما، وتسخير الرياح وإنزالُ المطر، وإنباتُ النبات، وإخراج الثمرات التي هي رزق العباد، فلا يليق بهم أن يُشركوا معه غيره؛ ممن يعلمون أنه لم يفعل شيئًا من ذلك، ولا من غيره، فالطريق الفطري لإثبات توحيد الألوهية: الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية، فإن الإنسان يتعلق أولًا بمصدر خلقه، ومنشأ نفعه وضره؛ ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقربه إليه، وترضيه عنه، وتوثق الصلة بينه وبينه، فتوحيد الربوبية تبابٌ لتوحيد الألوهية؛ من أجل ذلك اتحج الله على المشركين بهذه الطريقة، وأمر رسَوله أن يحتج بها عليهم، فقال تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85) قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم (86) سيقولون لله قل أفلا تتقون (87) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون (88) سيقولون لله قل فأنى تسحرون }. [المؤمنون: 84 ـ 89. ]
وقال تعالى: {ذالكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه }. [الأنعام: 102. ]
فقد احتج بتفرده بالربوبية على استحقاقه للعبادة، وتوحيد الألوهية: هو الذي خلق الخلق من أجله، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) }. [الذاريات: 56. ](19/19)
ومعنى (يعبدون ): يُفردوني بالعبادة، ولا يكون العبدُ موحدًا بمجرد اعترافه بتوحيد الربوبية؛ حتى يُقرَّ بتوحيد الألوهية، ويقومَ به، وإلا فإنَّ المشركين كانوا مُقرِّينَ بتوحيدِ الربوبية، ولم يُدخلهم في الإسلام، وقاتلهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهمُ يُقرُّون بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87. ]، {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم (9)} [الزخرف: 9. ]، {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله }. [يونس: 31. ]
وهذا كثيرٌ في القرآن، فمن زعمَ أنَّ التوحيدَ هُو الإقرارُ بوجود الله، أو الإقرار بأن الله هو الخالق المتصرف في الكون، واقتصر على هذا النوع؛ لم يكُن عارفًا لحقيقة التوحيد الذي دعَتْ إليه الرسل؛ لأنَّهُ وقفَ عندَ الملزوم وترك اللازم، أو وقف عند الدليل وترك المدلول عليه.
ومن خصائص الألوهية: الكمالُ المطلقُ من جميع الوجوه؛ الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها لها وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء، والإنابة، والتوكل والاستغاثة، وغاية الذلِّ مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلًا وشرعًا و فطرةً أن يكون لغيره.
2 ـ توحيد الألوهية
ويتضمن الفصول التالية:
الفصل الأول: في معنى توحيد الألوهية وأنه موضوع دعوة الرسل.
الفصل الثاني: الشهادتان: معناهما ـ أركانهما ـ شروطهما ـ مقتضهما ـ نواقضهما.
الفصل الثالث: في التشريع: التحليل ـ التحريم ـ حق الله.
الفصل الرابع: في العبادة: معناها ـ أنواعها ـ شمولها.
الفصل الخامس: في بيان مفاهيم خاطئة في تحديد العبادة (وذلك كالتقصير في مدلول العبادة أو الغلو فيها).(19/20)
الفصل السادس: في بيان ركائز العبودية الصحيحة: الحب ـ الخوف ـ الخضوع ـ الرجاء.
الفصل السابع: في بيان شروط قبول العبادة والعمل: وهي الإخلاص ومتابعة الشرع.
الفصل الثامن: في بيان مراتب الدين وهي: الإسلام ـ والإيمان ـ والإحسان. تعريفها وما بينها من عموم وخصوص.
الفصل الأول
في بيان معنى توحيد الألوهية وأنه موضوع دعوة الرسل
توحيد الألوهية: الألوهية هي العبادة:
وتوحيد الألوهية هو: إفراد الله تعالى بأفعال العباد التي يفعلونها على وجه التقرب المشروع، كالدعاء والنذر والنحر، والرجاء والخوف، والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة، وهذا النوع من التوحيد هو موضوع دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36. ]، وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }. [الأنبياء: 25. ]
وكلُّ رسول يبدأ دعوته لقومه بالأمر بتوحيد الألوهية، كما قال نوح وهو وصالح وشعيب: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله} [الأعراف: 59، 65، 73، 85. ]، {وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه }. [العنكبوت: 16. ]
وأنزل على محمد صلى الله عليه وسلم: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصًا له الدين (11) }. [الزمر: 11. ]
وقال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس؛ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ". [الحديث رواه البخاري ومسلم. ]
وأول واجب على المكلف: شهادة أن لا إله إلا الله والعمل بها، قال تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك }. [محمد: 19. ]
وأول ما يؤمر به مَنْ يريد الدخول في الإسلام: النطقُ بالشهادتين، فتبين من هذا: أن توحيد الألوهية هو مقصودُ دعوة الرُّسل، وسُمِّي بذلك، لأن الألوهية وصف الله تعالى الدال عليه اسمه تعالى (الله )، فالله: ذو الألوهية، أي المعبود.(19/21)
ويقال له: توحيد العبادة؛ باعتبار أن العبودية وصفُ العبد، حيثُ إنه يجبُ عليه أن يعبد الله مخلصًا في ذلك؛ لحاجته إلى ربه وفقره إليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
( واعلم أن فقر العبد إلى الله: أن يعبده لا يُشرك به شيئًا، ليس له نظير فيُقاسُ به؛ لكن يُشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة؛ فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلاهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره. ولو حصل للعبد لذات وسرور بغير الله، فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال، وكل وقت وأينما كان فهو معه ). [مجموع الفتاوى (1 / 24 ). ]
وكان هذا النوع من التوحيد هو موضوع دعوة الرسل؛ لأنه الأساسُ الذي تُبنى عليه جميع الأعمال، وبدون تحققه لا تصحُ جميعُ الأعمال: فإنه إذا لم يتحقق؛ حصل ضده، وهو الشركُ، و قد قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 48، 116. ]، وقال تعالى: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88)} [الأنعام: 88. ]، وقال تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين }. [الزمر: 65. ]
ولأن هذا النوع من التوحيد؛ هو أول الحقوق الواجبة على العبد، كما قال تعالى: {* واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا} [النساء: 36.] الآية، وقال تعالى: {* وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا} [الإسراء: 23.] الآية، وقال تعالى: {* قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا} [الأنعام: 151 ـ 153.] الآيات.
الفصل الثاني
في بيان معنى الشهادتين وما وقع فيهما من الخطأ
وأركانهما وشروطهما ومقتضاهما ونواقضهما
أولًا: معنى الشهادتين:(19/22)
معنى شهادة أن لا إله إلا الله: الاعتقاد والإقرار، أنه لا يستحقُ العبادةَ إلا الله، والتزام ذلك والعمل به، (فلا إله) نفي لاستحقاق من سوى الله للعبادة، ومعنى هذه الكلمة إجمالًا: لا معبود بحق إلا الله. وخبر (لا) يجب تقديره: (بحق) ولا يجوز تقديره بموجود؛ لأنَّ هذا خلافُ الواقع، فالمعبوداتُ غيرُ الله موجودة بكثرة؛ فيلزم منه أن عبادة هذه الأشياء عبادة لله، وهذا من أبطل الباطل وهو مذهب أهل وحدة الوجود الذين هم أكفر أهل الأرض. وقد فُسرتْ هذه الكلمةُ بتفسيرات باطلة منها:
( أ) أن معناه: لا معبود إلا الله. وهذا باطل؛ لأن معناه: أن كل معبود بحق أو باطل هو الله، كما سبق بيانه قريبًا.
( ب) أن معناها: لا خالق إلا الله. وهذا جزء من معنى هذه الكلمة؛ ولكن ليس هو المقصود؛ لأنه لا يثبت إلا توحيد الربوبية، وهو لا يكفي وهو توحيد المشركين.
( جـ) أن معناها: لا حاكمية إلا لله، وهذا أيضًا جزء من معناها، وليس هو المقصود؛ لأنه لا يكفي، لأنه لو أفرد الله بالحاكمية فقط ودعا غير الله أو صرف له شيئًا من العبادة لم يكن موحدًا، وكل هذه تفاسير باطلة أو ناقصة؛ وإنما نبهنا عليها لأنها توجد في بعض الكتب المتداولة.
والتفسيرُ الصحيح لهذه الكلمة عند السلف والمحققين:
أن يقال: (لا معبود بحق إلا الله) كما سبق.
2 ـ ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله: هو الاعتراف باطنًا وظاهرًا أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة، والعمل بمقتضى ذلك من طاعته فيما أمر، وتصديقه فما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعبدَ الله إلا بما شرع.
ثانيًا: أركان الشهادتين:
أ ـ لا إله إلا الله: لها ركنان هما: النفي والإثبات:
فالركن الأول: النفي: لا إله: يُبطل الشرك بجميع أنواعه، و يوجب الكفر بكل ما يعبد من دون الله.(19/23)
و الركن الثاني: الإثبات: إلا الله: يثبت أنه لا يستحق العبادة إلا الله، ويوجب العمل بذلك. وقد جاء معنى هذين الركنين في كثير من الآيات، مثل قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى }. [البقرة: 256. ]
فقوله: (من يكفر بالطاغوت) هو معنى الركن الأول (لا إله) وقوله: (و يؤمن بالله) هو معنى الركن الثاني (إلا الله).
وكذلك قوله عن إبراهيم عليه السلام: {إنني براء مما تعبدون (26) إلا الذي فطرني }. [الزخرف: 26، 27. ]
فقوله: (إنني براء) هو معنى النفي في الركن الأول، وقوله: (إلا الذي فطرني) هو معنى الإثبات في الركن الثاني.
أركان شهادة أن محمدًا رسول الله: لها ركنان هما قولنا: عبدُه ورسوله، وهما ينفيان الإفراط والتفريط في حقه صلى الله عليه وسلم فهو عبده ورسوله، وهو أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين، ومعنى العبد هنا: المملوك العابد، أي: أنه بشرٌ مخلوق مما خلق منه البشر؛ يجري عليه ما يجري عليهم، كما قال تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم} [الكهف: 110. ]، وقد وفى صلى الله عليه وسلم العبودية حقها، ومدحه الله بذلك، قال تعالى: {أليس الله بكاف عبده} [الزمر: 36. ]، {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} [الكهف: 1. ]، {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام }. [الإسراء: 1. ]
ومعنى الرسول: المبعوث إلى الناس كافة بالدعوة إلى الله بشيرًا ونذيرًا.
وفي الشهادة له بهاتين الصفتين: نفي للإفراط والتفريط في حقه صلى الله عليه وسلم، فإن كثيرًا ممن يدعي أنه من أمته أفرط في حقه، وغلا فيه؛ حتى رفعه فوق مرتبة العبودية إلى مرتبة العبادة له من دون الله؛ فاستغاث به من دون الله، وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله؛ من قضاء الحاجات وتفريج الكربات. والبعض الآخر جحد رسالته أو فرط في متابعته، واعتمد على الآراء والأقوال المخالفة لما جاء به؛ وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه.(19/24)
ثالثًا: شروط الشهادتين:
أ ـ شروط لا إله إلا الله:
لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها، وهي على سبيل الإجمال:
الأول: العلم المنافي للجهل.
الثاني: اليقين المنافي للشك.
الثالث: القبول المنافي للرد.
الرابع: الانقيادُ المنافي للترك.
الخامس: الإخلاص المنافي للشرك.
السادس: الصدق المنافي للكذب.
السابع: المحبة المنافية لضدها وهو البغضاء.
وأما تفصيلها فكما يلي:
الشرط الأول:
العلم: أي العلم بمعناها المراد منها وما تنفيه وما تثبته، المنافي للجهل بذلك، قال تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (86) }. [الزخرف: 86. ]
أي: (شهد) بلا إله إلا الله، (وهُم يعلمون) بقلوبهم ما شهدت به ألسنتهم، فلو نطق بها وهو لا يعلم معناها، لم تنفعه؛ لأنه لم يعتقد ما تدل عليه.
الشرط الثاني:
اليقين: بأن يكون قائلها مستيقنًا بما تدل عليه؛ فإن كان شاكًا بما تدل عليه لم تنفعه، قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا }. [الحجرات: 15. ]
فإن كان مرتابًا كان منافقًا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من لقيتَ وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا قلبه فبشره بالجنة " [الحديث في الصحيح.] فمن لم يستيقن بها قلبه، لم يستحق دخولَ الجنة.
الشرط الثالث:
القبول لما اقتضته هذه الكلمة من عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه؛ فمن قالها ولم يقبل ذلك ولم يلتزم به؛ كان من الذين قال الله فيهم: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (35) ويقولون إئنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون (36) }. [الصافات: 35، 36. ]
وهذا كحال عباد القبور اليوم؛ فإنهم يقولون: (لا إله إلا الله )، ولا يتركون عبادة القبور؛ فلا يكونون قابلين لمعنى لا إله إلا الله.
الشرط الرابع:(19/25)
الانقياد لما دلت عليه، قال تعالى: {و من يسلم وجهه إلى الله و هو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى }. [لقمان: 22. ]
والعروة الوثقى: لا إله إلا الله؛ ومعنى يسلم وجهه: أي ينقاد لله بالإخلاص له.
الشرط الخامس:
الصدق: وهو أن يقول هذه الكلمة مصدقًا بها قلبُه، فإن قالها بلسانه ولم يصدق بها قلبُه؛ كان منافقًا كاذبًا، قال تعالى: {ومن الناس من يقول ءامنا بالله واليوم الأخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين ءامنوا} إلى قوله: {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10) }. [البقرة: 8 ـ 10. ]
الشرط السادس:
الإخلاص: وهو تصفية العمل من جميع شوائب الشرك؛ بأن لا يقصد بقولها طمعًا من مطامع الدنيا، ولا رياء ولا سمعة؛ لما في الحديث الصحيح من حديث عتبان قال: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله ". [الحديث أخرجه الشيخان. ]
الشرط السابع:
المحبة لهذه الكلمة، ولما تدل عليه، ولأهلها العاملين بمقتضاها، قال تعالى:
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبا لله }. [البقرة: 165. ]
فأهل (لا إله إلا الله) يحبون الله حبا خالصًا، وأهل الشرك يحبونه ويحبون معه غيره، وهذا ينافي مقتضى لا إله إلا الله.
ب ـ وشروط شهادة أن محمدًا رسول الله هي:
1 ـ الاعتراف برسالته، واعتقادها باطنًا في القلب.
2 ـ النطق بذلك، والاعتراف به ظاهرًا باللسان.
3 ـ المتابعة له؛ بأن يعمل بما جاء به من الحق، ويترك ما نهى عنه من الباطل.
4 ـ تصديقه فيما أخبر به من الغيوب الماضية والمستقبلة.
5 ـ محبته أشد من محبة النفس والمال والولد والوالد والناس أجمعين.
6 ـ تقديم قوله على قول كل أحد، والعمل بسنته.
رابعًا: مقتضى الشهادتين:(19/26)
أ ـ مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله: هو ترك عبادة ما سوى الله من جميع المعبودات، المدلول عليه بالنفي وهو قولنا: (لا إله ). وعبادة الله وحده لا شريك له، المدلول عليه بالإثبات، وهو قولنا: (إلا الله )، فكثير ممن يقولها يُخالف مقتضاها؛ فيثبت الإلهية المنفية للمخلوقين والقبور والمشاهد والطواغيت والأشجار والأحجار.
وهؤلاء اعتقدوا أن التوحيد بدعة، وأنكروه على من دعاهُم إليه، وعابوا على من أخلصلى الله عليه وسلم العبادة لله.
ب ـ ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله: طاعتهُ وتصديقُهُ، وترك ما نهى عنه، والاقتصار على العمل بسنته، وترك ما عداها من البدع والمحدثات، وتقديم قوله على قول كل أحد.
خامسًا: نواقض الشهادتين:
هي نواقض الإسلام؛ لأن الشهادتين هنا هما اللتان يدخل المرء بالنطق بهما في الإسلام، والنطق بهما اعتراف بمدلولهما، والتزام بالقيام بما تقضيانه؛ من أداء شعائر الإسلام، فإذا أخل بهذا الالتزام فقد نقض التعهد الذي تعهد به حين نطق بالشهادتين. ونواقض الإسلام كثيرةٌ قد عقد لها الفقهاء في كتب الفقه بابًا خاصًا سموه (باب الردة )، وأهمها عشرة نواقض ذكرها شيخ الإسلام محمدُ بنُ عبد الوهاب رحمه الله في قوله:
1 ـ الشرك في عبادة الله، قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48، 116. ]، وقال تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72)} [المائدة: 72. ]. ومنه الذبحُ لغير الله؛ كالذبح للأضرحة أو الذبح للجن.
2 ـ من جعل بينَهُ وبينَ الله وسائط؛ يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم؛ فإنه يكفر إجماعًا.
3 ـ من لم يكفر المشركين، ومن يشكّ في كفرهم، أو صحح مذهبهم؛ كفر.(19/27)
4 ـ من اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويفضلون حكم القوانين على حكم الإسلام.
5 ـ من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولو عمل به ـ؛ كفر.
6 ـ من استهزأ بشيء من دين الرسول أو ثوابه أو عقابه؛ كفر، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قل أبالله وءايته ورسوله كنتم تستهزءون (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم }. [التوبة: 65، 66. ]
7 ـ السحرُ، ومنهُ الصرفُ والعطفُ (لعله يقصد عمل ما يصَرفُ الرجلَ عن حب زوجته، أو عمل ما يحببها إليه) فمن فعلَه، أو رضي به؛ كفرَ، والدليل قوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر }. [البقرة: 102. ]
8 ـ مظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (51)} [المائدة: 51. ]
9 ـ من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى، عليه السلام؛ فهو كافر. قلت: وكما يعتقده غلاة الصوفية أنهم يَصلون إلى درجةٍ، لا يحتاجون مَعها إلى متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
10 ـ الإعراض عن دين الله، لا يتعلمُهُ، ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {والذين كفروا عما أنذروا معرضون (3)} [الأحقاف: 3. ]، {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون (22) }. [السجدة: 22. ]
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (لا فرق في جميع هذه النواقض، بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعًا، فينبغي للمسلم أن يحذرَها، ويخاف منها على نفسه، نعوذُ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه ). [مجموعة التوحيد النجدية صلى الله عليه وسلم 37 ـ 39. ]
الفصل الثالث
في التشريع(19/28)
التشريع حق لله تعالى: والمراد بالتشريع: ما ينزِّلُه الله لعباده من المنهج الذي يسيرون عليه في العقائد والمعاملات وغيرها؛ ومن ذلك التحليل والتحريم، فليس لأحد أن يحل إلا ما أحله الله، ولا يحرم إلا ما حرم الله، قال تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلل وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} [النحل: 116. ]، وقال تعالى: {قل أرءيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون (59) }. [يونس: 59. ]
فقد نهى الله عن التحليل والتحريم: بدون دليل من الكتاب والسنة، وأخبر أن ذلك من الكذب على الله، كما أخبر سُبحانه أنَّ من أوجَبَ شيئًا أو حرَّمَ شيئًا من غير دليل؛ فقد جعل نفسه شريكًا لله فيما هو من خصائصه، وهو التشريع، قال تعالى: {أم لهم شركاؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }. [الشورى: 21. ]
ومن أطاع هذا المشرِّع من دون الله وهو يعلم بذلك ووافقه على فعله، فقد أشركه مع الله، قال تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (121) }. [الأنعام: 121. ]
يعني: الذين يُحلون ما حرَّم الله من الميتات، مَن أطاعهم في ذلك فهو مشرك، كما أخبر سبحانه أن من أطاع الأحبار والرهبان في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحله الله؛ فقد اتخذهم أربابًا منن دون الله، قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31) }. [التوبة: 312. ]
ولما سمع عديّ بنُ حاتم ـ رضي الله عنه ـ هذه الآية، قال: يا رسول الله، إنَّا لسنا نعبدهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أليسوا يُحلون ما حرَّم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ " قال: بلى، قال: " فتلك عبادتهم ". [الحديث رواه الترمذي. ](19/29)
قال الشيخُ عبد الرحمن بن حسن ـ رحمه الله ـ: (وفي الحديث دليل على أنَّ طاعةَ الأحبار والرهبان في معصية الله؛ عبادة لهم من دون الله، ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله؛ بقوله تعالى في آخر الآية: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)}.
ونظير ذلك قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (121) }. [الأنعام: 121. ]
وهذا وقع فيه كثيرٌ من النَّاس مع من قلدوهم؛ لعدم اعتبارهم الدليل إذا خالف المُقلَّدَ؛ وهو من هذا الشرك) انتهى.
فالتزام شرع الله، وترك شرع ما سواه، هو من مقتضى لا إله إلا الله، والله المستعان.
الفصل الرابع
العبادةُ: مَعناها، شُمولها
1 ـ معنى العبادة:
أصل العبادة التذلل والخضوع.
وفي اشرع: لها تعاريف كثيرة، ومعناها واحد...
منها: أنَّ العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمرَ الله به على ألسنة رسله.
ومنها: أن العبادة، معناها: التذلُّل لله سبحانه فهي: غايةُ الذلِّ لله تعالى مع غاية حُبه، والتعريف الجامع لها هو أن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه؛ من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وهي منُقسمة على القلب واللسان والجوارح، فالخوف والرجاء، والمحبة والتوكل، والرغبة والرهبة: عبادة قلبية، والتسبيح والتهليل والتكبير، والحمد والشكر باللسان والقلب: عبادة لسانية قلبية.
والصلاة والزكاة والحج والجهاد: عبادة بدنية قلبية، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي تجري على القلب واللسان والجوارح، وهي كثيرة.
والعبادةُ: هي التي خلق الله الخلق من أجلها، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطمعون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58) }. [الذاريات: 56 ـ 58. ](19/30)
فأخبرَ سبحانه أن الحكمة من خلق الجن والإنس: هي قيامهم بعبادة الله، والله غنيُّ عن عبادتهم، وإنما هم المحتاجون إليها لفقرهم إلى الله تعالى، فيعبدونه على وفق شريعته، فمن أبى أن يعبد الله؛ فهو مستكبر. ومن عبده وعبد معه غيره؛ فهو مشرك. ومن عبده وحده بغير ما شرع؛ فهو مبتدع. ومن عبده وحده بما شرع فهو المؤمن الموحِّد.
2 ـ أنواع العبادة وشمولها:
العبادة لها أنواع كثيرة؛ فهي تشمل كل أنواع الطاعات الظاهرة على اللسان والجوراح، والصادرة عن القلب؛ كالذكر والتسبيح والتهليل وتلاوة القرآن، والصلاة والزكاة والصيام، والحج، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين وابن السبيل، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاصلى الله عليه وسلم الدين له، والصبر لحكمه والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، فهي شاملة لكل تصرفات المؤمن؛ إذا نوى بها القربة أو ما يعين عليها. حتى العادات، إذا قصد بها التقَوِّي على الطاعات، كالنوم والأكل والشرب، والبيع والشراء وطلب الرزق والنكاح، فإن هذه العادات مع النية الصالحة تصيرُ عبادات؛ يثاب عليها، وليست العبادة قاصرة على الشعائر المعروفة.
الفصل الخامس
في بيان مفاهيمَ خاطئةٍ في تَحدِيد العِبادَة
العبادات توفيقية، بمعنى: أنه لا يشرع شيء منها إلا بدليل من الكتاب والسنة، وما لم يشرع يعتبر بدعة مردودة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد " [متفق عليه.] أي مردود عليه عمله، لا يقبل منه، بل يأثم عليه؛ لأنه معصية وليس طاعة، ثم إن المنهج السليم في أداء العبادات المشروعة هو: الاعتدال بين التساهل والتكاسل؛ وبين التشدد والغلو. قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا }. [هو: 112. ](19/31)
فهذه الآية الكريمة فيها رسم لخطة المنهج السليم في فعل العبادات، وذلك بالاستقامة في فعلها على الطريق المعتدل؛ الذي ليس فيه إفراط ولا تفريط؛ حسب الشرع (كما أمرت) ثم أكد ذلك بقوله: (ولا تطغوا) والطغيان: مجاوزة الحد بالتشدد والتنطع، وهو الغلو. ولما علم صلى الله عليه وسلم بأن ثلاثة من أصحابه تقالوا في أعمالهم، حيث قال أحدهم: أنا أصول ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أصلي ولا أرقد، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء. قال صلى الله عليه وسلم: " أما أنا فأصوم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني ". [الحديث متفق عليه. ]
وهناك الآن فئتان من الناس على طرفي نقيض في أمر العبادة.
الفئة الأولى: قَصَّرتْ في مفهوم العبادة وتساهلت في أدائها حتى عطلت كثيرًا من أنواعها، وقصرتها على أعمال محدودة، وشعائر قليلة تؤدي في المسجد فقط، ولا مجال للعبادة في البيت، ولا في المكتب، ولا في المتجر، ولا في الشارع، ولا في المعاملات، ولا في السياسة، ولا الحكم في المنازعات، ولا غير ذلك من شئون الحياة.
نعم للمسجد فضلٌ، ويجب أن تؤدي فيه الصلوات الخمس، ولكن العبادة تشمل كل حياة المسلم؛ داخل المسجد وخارجه.
والفئة الثانية: تشددت في تطبيق العبادات إلى حد التطرف، فرفعت المستحبات إلى مرتبة الواجبات، وحَرَّمتْ بعض المباحات، وحكمت بالتضليل أو التخطئة على من خالف منهجها، وخَطَّأَ مفاهيمها. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها.
الفصل السادس
في بيان ركائز العبودية الصحيحة
إن العبادة ترتكز على ثلاث ركائز هي: الحبُ والخوفُ والرجاء.
فالحب مع الذل، والخوف مع الرجاء، لا بد في العبادة من اجتماع هذه الأمور، قال تعالى في وصف عباده المؤمنين: {يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54. ]، وقال تعالى: {والذين ءامنوا أشد حبا لله }. [البقرة: 165. ](19/32)
وقال في وصف رُسُله وأنبيائه: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين (90) }. [الأنبياء: 90. ]
وقال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري [أي: من الخوارج. ]، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن مُوحِّد. ذكر هذا شيخُ الإِسلام في رسالة (العبودية) وقال أيضًا: (فدينُ الله: عبادته وطاعته والخضوع له، والعبادة أصل معناها: الذل. يقال: طريقٌ مُعبَّدٌ، إذا كان مُذَلَّلًا قد وطئته الأقدام. لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل، ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى، بغاية الحب له، ومن خضَعَ لإِنسان مع بغضه له لا يكون عابدًا له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له، كما يُحبُّ الرجل ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله...) انتهى. [انظر: مجموعة التوحيد النجدية صلى الله عليه وسلم 549. ]
هذه ركائز العبودية التي تدور عليها، قال العلامة ابن القيم في النونية:
وعبادةُ الرحمن غايةُ حُبِّه
مع ذُلِّ عابده هُما قطبان
وعليهما فَلكُ العبادة دائرٌ
ما دار حتى قامتِ القُطبان
ومَدارهُ بالأمر أمرِ رَسوله
لا بالهوى والنفسِ والشيطانِ
شَبَّه ـ رحمَهُ اللهُ ـ دورانَ العبادة على المحبة والذل للمحبوب، وهو الله جلا وعلا؛ بدوران الفلك على قطبيه، وذكر أن دوران فلك العبادة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وما شرعه، لا بالهوى، وما تأمر به النفس والشيطان، فليس ذلك من العبادة.
فما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يدير فلك العبادة، ولا تُديره البدع والخرافات والأهواء وتقليد الآباء.
3 ـ توحيد الأسماء والصفات
ويتضمن ما يلي:(19/33)
أولًا: الأدلَّةُ من الكتاب والسنة والعقل على ثبوت الأسماء والصفات.
ثانيًا: منهج أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله وصفاته.
ثالثًا: لردُّ على من أنكر الأسماء والصفات، أو أنكر شيئًا منها.
أولًا: الأدلة من الكتاب والسنة والعقل على ثبوت الأسماء والصفات
أ ـ الأدلة من الكتاب والسنة:
سبق أن ذكرنا أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيدُ الرُّبوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وذكرنا جملة من الأَّدلة على النوعين الأولين: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية. والآن نذكر الأدلة على النوع الثالث: وهو توحيد الأسماء والصفات.
فإليك شيئًا من أدلة الكتاب والسنة: فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180) }. [الأعراف: 180. ]
أثبت الله سبحانه في هذه الآية لنفسه الأسماء، وأخبر أنَّها حُسنى. وأمر بدعائه؛ بأن يُقال: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا حي يا قيوم، يا رب العالمين. وتوعد الذين يُلحدون في أسمائه؛ بمعنى أنهم يميلون بها عن الحق؛ إما بنفيها عن الله، أو تأويلها بغير معناها الصحيح، أو غير ذلك من أنواع الإِلحاد. توعدهم بأنه سَيُجازيهم بعملهم السيء.
وقال تعالى: {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى (8)} [طه: 8. ]، {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم (22) هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهمين العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون (23) هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (24) }. [الحشر: 22 ـ 24. ]
فدلّت هذه الآيات على إثبات الأسماء لله.(19/34)
2 ـ ومن الأدلة على ثبوت أسماء الله من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم: ما رواه أبو هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله تسعةً وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة ". [متفق عليه.] وليست أسماءُ الله منحصرة في هذا العدد، بدليل ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أسألُكَ بِكُلِّ اسمٍ هو لَكَ، سمَّيتَ به نفسك، أو أنزلتَهُ في كِتابكَ، أَو علَّمتهُ أحدًا من خَلْقك، أو استأثرت به في عِلم الغَيْب عِندك، أن تجعلَ القُرآن العظيمَ ربيعَ قلبي " الحديث. [رواه أحمد في المسند وصححه ابن حبان ـ وقد دل على عدم حصر أسماء الله في تسعة وتسعين. فيكون المراد بالحديث ـ والله أعلم ـ أن من تعلم هذه الأسماء التسعة والتسعين ودعا الله بها وعبده بها دخل الجنة ويكون ذلك خاصية لها. ]
وكل اسم من أسماء الله، فإنه يتضمن صفة من صفاته؛ فالعليمُ يدل على العلم، والحكيم يدل على الحكمة، والسَّميعُ البصير يدلان على السمع والبصر، وهكذا كلُّ اسم يدل على صفة من صفات الله تعالى، وقال تعالى: {قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4) }. [سورة الإخلاصلى الله عليه وسلم. ](19/35)
عن أنس رضي الله عنه قال: كانَ رجلٌ من الأنصار يؤمهم في مسجد قُباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به؛ افتتح بـ (قل هو الله أحد )، حتى يفرغ منها، ثم كان يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنعُ ذلك في كل ركعة، فكلَّمهُ أصحابهُ فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنه تجزئك حتَّى تقرأ بالأُخرى ! فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلتُ، وإن كرهتم تركتكم، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر. فقالَ: " يا فُلانُ، ما يمنعُك أَن تفعلَ ما يأمرك به أصحابُك ؟ وما حملَكَ على لُزوم هذه السُّورة في كل ركعة ؟ " قال: إنِّي أُحبُّها، قال: " حبُّكَ إياها أدْخَلَكَ الجنَّة ". [رواه البخاري في صحيحه. ]
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثَ رجلًا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختمُ بـ (قل هو الله أحد )، فلما رجعوا ذكروا ذلك للني صلى الله عليه وسلم فقال: " سلوه: لأي شيء يفعلُ ذلك ؟ " فسألوه، فقال: لأنها صفةُ الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " أخبروه أن الله تعالى يحبه " [رواه البخاري في صحيحه.] يعني أنها اشتملتْ على صفاتِ الرَّحمن.
وقد أخبرَ سبحانه أنَّ له وجهًا، قال {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27) }. [الرحمن: 27. ]
وأن له يدين، فقال: {لما خلقت بيدي} [صلى الله عليه وسلم: 75. ]، {بل يداه مبسوطتان }. [المائدة: 64. ]
وأنه يرضى ويحب ويغضب ويسخط، إلى غير ذلك مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
ب ـ وأما الدليل العقلي على ثبوت الأسماء والصفات التي دلَّ عليها الشرع فهو أن يُقال:(19/36)
1 ـ هذه المخلوقات العظيمة على تنوعها، واختلافها، وانتظامها في أداء مصالحها، وسيرها في خططها المرسومة لها، تدل على عظمة الله وقُدرته، وعلمه وحكمته، وإرادته ومشيئته.
2 ـ الإنعام والإحسان، وكشف الضر، وتفريج الكربات؛ هذه الأشياء تدل على الرحمة والكرم والجود.
3 ـ والعقاب والانتقام من العصاة؛ يدلان على غضب الله عليهم وكراهيته لهم.
4 ـ وإكرامُ الطائعين وإثابتهم؛ يدلان على رضا الله عنهم ومحبته لهم.
ثانيًا: منهجُ أهل السنَّة والجماعة في أسماء الله وصفاته
منهجُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة؛ من السلف الصالح وأتباعهم: إثباتُ أسماءِ الله وصفاته، كما وردت في الكتاب والسنة، وينبني منهجهم على القواعد التالية:
1 ـ أنهم يُثبتون أسماء الله وصفاته؛ كما وردت في الكتاب والسنة على ظاهرها، وما تدل عليه ألفاظها من المعاني، ولا يؤولونها عن ظاهرها، ولا يُحرفون ألفاظها ودلالتها عن مواضعها.
2 ـ ينفون عنها مشابهة صفات المخلوقين، كما قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)} [الشورى: 11. ]
3 ـ لا يتجاوزون ما ورد في الكتاب والسنة؛ في إثبات أسماء الله وصفاته، فما أثبته الله ورسوله من ذلك أثبتوه، وما نفاهُ الله ورسولُه نفوه، وما سَكتَ عنه الله ورسوله سكَتُوا عنه.
4 ـ يَعتقدون أنَّ نصوصلى الله عليه وسلم الأسماءِ والصفات من المحكم الذي يُفهم مَعناه ويُفسَّر، وليستْ من المتشابه؛ فلا يُفوِّضون معناها، كما يَنسبُ ذلك إليهم مَن كَذَبَ عليهم، أو لم يعرف منهجهم من بعض المؤلفين والكتاب المعاصرين.
5 ـ يُفوّضونَ كيفية الصفات إلى الله تعالى، ولا يبحثون عنها.
ثالثًا: الردُّ على من أَنْكَرَ الأسماءَ والصفاتِ، أو أنكر بعضها
الذين يُنكرون الأسماء والصفات ثلاثة أصناف:
1 ـ الجهمية: وهم أتباع الجهْمِ بن صفوان، وهؤلاء يُنكرون الأسماء والصفات جميعًا.(19/37)
2 ـ المعتزلة: وهم أتباعُ واصل بن عطاء؛ الذي اعتزل مجلس الحسن البصري، وهؤلاء يُثبتون الأسماءَ على أنها ألفاظ مُجرَّدة عن المعاني، وينفون الصفات كلها.
3 ـ الأشاعرة [هم أتباع مذهب أبي الحسن الأشعري ـ قبل رجوعه إلى مذهب أهل السنة ـ ولم يرجعوا عما رجع عنه، فانتسابهم إليه غير صحيح.] والماتوريدية [هم أتباع أبي منصور الماتوريدي.] ومن تبعهم، وهؤلاء يثبتون الأسماءَ وبعضَ الصِّفات، وينفون بعضَها، والشُّبهة التي بنوا عليها جميعًا مذاهبهم: هيَ الفرارُ من تشبيه الله بخلقه بزعمهم؛ لأن المخلوقين يُسَمَّون ببعضِ تلك الأسماء، ويوصفون بتلك الصفات، فيلزمُ من الاشتراك في لفظ الاسم والصفة ومعناهما: الاشتراك في حقيقتهما، وهذا يَلزمُ منه تشبيه المخلوق بالخالق في نظرهم، والتزموا حيال ذلك أحد أمرين:
أ ـ إما تأويلُ نصوصلى الله عليه وسلم الأسماء والصفات عن ظاهرها، كتأويل الوجه بالذات، واليد بالنعمة.
ب ـ وإما تفويض معاني هذه النصوصلى الله عليه وسلم إلى الله، فيقولون: الله أعلم بمراده منها؛ مع اعتقادهم أنها ليست على ظاهرها.
وأول من عُرفَ عنه إنكار الأسماء والصفات: بعضُ مشركي العرب، الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى: {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عيهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن }. [الرعد: 30. ]
وسببُ نزول هذه الآية: أنَّ قريشًا لما سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن؛ أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: {وهم يكفرون بالرحمن }. وذكر ابن جرير أن ذلك كان في صلح الحديبية؛ حين كتب الكاتبُ في قضية الصلح الذي جرى بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بسم الله الرحمن الرحيم " فقالت قريش: أما الرحمن فلا نَعرفهُ.(19/38)
وروى ابنُ جرير أيضًا عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجدًا يقول: " يا رحمن يا رحيم " فقال المشركون: هذا يزَعمُ أنه يدعو واحدًا، وهو يدعو مثنى. فأنزل الله: {قل ادعوا الله أو أدعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى }. [الإسراء: 110. ]
وقال تعالى في سورة الفرقان: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن }. [الفرقان: 60. ]
فهؤلاء المشركون هُمْ سلف الجهمية، والمعتزلة والأشاعرة، وكل من نفى عن الله ما أثبتَهُ لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته. وبئسَ السلف لِبئس الخلف.
والرد عليهم من وجوه:
الوجه الأول:
أن الله سبحانه وتعالى أثبتَ لنفسه الأسماءَ والصفاتِ، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، فنفيُها عن الله أو نفي بعضِها: نفيٌ لما أثبته الله ورسوله، وهذا محادة لله ورسوله.
الوجه الثاني:
أنه لا يلزم من وجود هذه الصفات في المخلوقين، أو من تسمي بعض المخلوقين بشيء من تلك الأسماء المشابهة بين الله وخلقه، فإن لله سبحانه أسماءً وصفات تخصه، وللمخلوقين أسماء وصفات تخصهمم، فكمَا أن لله سُبحانه وتعالى ذاتًا لا تشبه ذوات المخلوقين، فله أسماء وصفات لا تشبه أسماءَ المخلوقين وصفاتهم، والاشتراك في الاسم والمعنى العام لا يوجب الاشتراك في الحقيقة، فقد سَمَّى اللهُ نفسَهُ عليمًا، حليمًا، وسمَّى بعضَ عباده عليمًا، فقال: {وبشروه بغلام عليم (28)} [الذاريات: 28.] يعني إسحاق، وسمى آخر حليمًا، فقال: {فبشرناه بغلم حليم (101)} [الصافات: 101 ).] يعني إسماعيل، وليسَ العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم، وسمَّى نفسه فقال: {إن الله كان سميعًا بصيرًا (58)} [النساء: 58.] وسمى بعض عباده سميعًا بصيرًا، فقال: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا} [الإنسان: 2. ]، وليس السميعُ كالسَّميعُ ولا البصيرُ كالبصيرُ.(19/39)
وسمَّى نفسهُ بالرؤوف الرحيم فقال: {إن الله بالناس لرءوف رحيم (65)} [الحج: 65. ]، وسمَّى بعضَ عباده رؤوفًا رحيمًا، فقالَ: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريصلى الله عليه وسلم عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128. ]، وليس الرؤوف كالرؤوف، ولا الرحيمُ كالرَّحيم.
وكذلك وصف نفسَهُ بصفاتٍ، ووصَفَ عباده بنظير ذلك، مثل قوله: {ولا يحيطون بشيء من علمه} [البقرة: 255.] فوصف نفسَهُ بالعلم، ووصف عباده بالعلم، فقال: {وما أوتيتم من نالعلم إلا قليلا (85)} [الإسراء: 85. ]، وقال: {وفوق كل ذي علم عليم (76)} [يوسف: 76. ]، وقال: {وقال الذين أوتوا العلم} [القصصلى الله عليه وسلم: 80. ]، ووصف نفسه بالقوة فقال: {إن الله لقوي عزيز (40)} [الحج: 40.] {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)} [الذاريات: 58. ]، ووصف عبادهُ بالقوة فقال: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة} [الروم: 54. ]، إلى غير ذلك.
ومعلومٌ أن أسماء الله وصفاته تخصه وتليق به، وأسماء المخلوقين تخصهم وتليق بهم، ولا يلزمُ من الاشتراك في الاسم والمعنى الاشتراك في الحقيقة؛ وذلك لعدم التماثل بين المُسَمَّميين والموصوفين، وهذا ظاهر، والحمد لله.
الوجه الثالث:
أنَّ الذي ليس له صفات كمال، لا يصلح أن يكون إلهًا؛ ولهذا قال إبراهيم لأبيه: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر }. [مريم: 42. ]
وقال تعالى في الرد على الذين عبدوا العجل: {ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلًا }. [الأعراف: 148. ]
الوجه الرابع:
أنَّ إثبات الصفات كمالٌ، ونفيها نقصلى الله عليه وسلم، فالذي ليس له صفات، إما معدومٌ وإما ناقصلى الله عليه وسلم، والله تعالى مُنزه عن ذلك.
الوجه الخامس:(19/40)
أنَّ تأويلَ الصّفاتِ عن ظاهرها لا دليلَ عليه، فهو باطلٌ، وتفويض معناها ؟ يلزم منه أن الله خاطبنا في القُرآنِ بما لا نفهم معناه، مع أنه أَمرنا أن ندعوه بأسمائه، فكيفَ ندعوه بما لا نفهم معناه ؟ وأمرَنا بتدبر القرآن كله، فكيفَ يأمرنا بتدبر ما لا يُفهم معناه ؟
فتبين من هذا أنه لا بد من إثبات أسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بالله، مع نفي مشابهة المخلوقين، كما قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11) }. [الشورى: 11. ]
فنفى عن نفسه مُماثلة الأشياء، وأثبت له السمع والبصر، فدل على أن إثبات الصفات لا يلزم منه التشبيه، وعلى وجوب إثبات الصفات مع نفي المشابهة، وهذا معنى قول أهل السنة والجماعة في النفي والإثبات في الأسماء والصفات: إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل.
الباب الثالث
في بيان الشرك والانحراف في حياة البشرية
ولمحة تاريخية عن الكفر والإلحاد والشرك والنِّفاق
ويتضمن الفصول التالية:
الفصل الأول: الانحراف في حياة البشرية.
الفصل الثاني: الشرك ـ تعريفه وأنواعه.
الفصل الثالث: الكفر ـ تعريفه وأنواعه.
الفصل الرابع: النفاق ـ تعريفه وأنواعه.
الفصل الخامس: بيان حقيقة كل من: الجاهلية ـ الفسق ـ الضلال ـ الردة: أقسامها، وأحكامها.
الفصل الأول
الانحراف في حياة البشرية
خلق الله الخلق لعبادته، وهيأ لهم ما يعينهم عليها من رزقه، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58) }. [الذاريات: 56 ـ 58. ](19/41)
والنفسُ بفطرتها إذا تركت؛ كانت مقرة لله بالإلهية، مُحبَّةً لله، تَعبدُه لا تُشرك به شيئاُ، ولكن يفسها وينحرف بها عن ذلك ما يُزيِّنُ لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، فالتوحيد مركوز في الفطرة، والشرك طارئ ودخيل عليها، قال الله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله }. [الروم: 30. ]
وقال صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يُولَدُ على الفطرة فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه " [في الصحيحين من حديث أبي هريرة. ]. فالأصلُ في بني آدم: التوحيد.
والدينُ الإسلام وكان عليه آدم عليه السلام، ومنْ جاءَ بَعدَهُ من ذُرّيته قُرونًا طويلة، قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين }. [البقرة: 213. ]
وأول ما حدث الشرك والانحراف عن العقيدة الصحيحة في قوم نوح، فكان عليه السلام أول رسول إلى البشرية بعد حدوث الشرك فيها: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده }. [النساء: 163. ]
قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرةُ قرون؛ كلهم على الإسلام.
قال ابن القيم [إغاثة اللهفان (2/102 ). ]: (وهذا القولُ هو الصواب قطعًا؛ فإنَّ قراءة أُبيّ بنِ كعبٍ ـ يَعني: في آية البقرة ـ: (فاختلفوا فبعث الله النبيين).
ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى في سورة يونس: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} ). [يونس: 19. ](19/42)
يريد ـ رَحمهُ اللهُ ـ أنَّ بعثةَ النبيين سببُها الاختلاف عما كانوا عليه من الدين الصحيح، كما كانت العربُ بعد ذلك على دين إبراهيمَ عليه السلام؛ حتَّى جاء عمرو بن لحي الخزاعي فغير دينَ إبراهيم، وجَلبَ الأصنام إلى أرضِ العرب، وإلى أرض الحجاز بصفة خاصة، فَعُبدت من دون الله، وانتشر الشركُ في هذه البلاد المقدسة، وما جاورها؛ إلى أن بعث الله نبيه محمدًا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فدعا الناس إلى التوحيد، واتباع ملة إبراهيم، وجاهد في الله حق جهاده؛ حتى عادت عقيدة التوحيد وملة إبراهيم، وكسر الأصنام وأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على العالمين، وسارت على نهجه القرون المفضلة من صدر هذه الأمة؛ إلى أن فشا الجهل في القرون المتأخرة، ودخلها الدخيلُ من الديانات الأخرى، فعاد الشرك إلى كثير من هذه الأمة؛ بسبب دعاة الضلالة، وبسبب البناء على القبور، متمثلًا بتعظيم الأولياء والصالحين، وادعاء المحبة لهم؛ حتى بنيت الأضرحة على قبورهم، واتخذت أوثانًا تُعبدُ من دون الله، بأنواع القرُبات من دعاء واستغاثة، وذبح ونذر لمقامهم. وسَموا هذا الشرك: توسُّلًا بالصالحين، وإظهارًا لمحبتهم، وليس عبادة لهم، بزعمهم، ونسوا أن هذا هو قول المشركين الأولين حيث يقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }. [الزمر: 3. ]
ومع هذا الشرك الذي وقع في البشرية قديمًا وحديثًا، فالأكثرية منهم يؤمنون بتوحيد الربوبية، وإنما يشركون في العبادة، كما قال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106) }. [يوسف: 106. ]
ولم يجحد وجودَ الرب إلا نزرٌ يسير من البشر، كفرعون والملاحدة الدهريين، والشيوعيين في هذا الزمان، وجحودهم به من باب المكابرة؛ وإلا فهم مضطرون للإقرار به في باطنهم، وقرارة نفوسهم، كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا }. [النمل: 14. ](19/43)
وعقولهم تعرف أن كل مخلوق لابد له من خالق، وكل موجود لابد له من موجد، وأن نظام هذا الكون المننضبط الدقيق لابد له من مدبر حكيم، قدير عليم، من أنكره فهو إما فاقد لعقله، أو مكابر قد ألغى عقله وسفه نفسه، وهذا لا عِبرةَ به.
الفصل الثاني
الشرك: تعريفه، أنواعه
أ ـ تعريفه:
الشرك هو: جعل شريك لله تعالى في ربوبيته وإلهيته.
والغالب الإشراك في الألوهية؛ بأن يدعو مع الله غيره، أو يصرف له شيئًا من أنواع العبادة، كالذبح والنذر، والخوف والرجاء والمحبة. والشركُ أعظمُ الذنوب؛ وذلك لأمور:
1 ـ لأنه تشبيه للمخلوق بالخالق في خصائصلى الله عليه وسلم الإلهية، فمن أشرك مع الله أحدًا فقد شبهه به، وهذا أعظم الظلم، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم (13) }. [لقمان: 13. ]
والظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه، فمن عبد غير الله؛ فقد وضع العبادة في غير موضعها، وصرفها لغير مستحقها، وذلك أعظم الظلم.
2 ـ أن الله أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }. [النساء: 48. ]
3 ـ أن الله أخبر أنه حرَّم الجنة على المشرك، وأنه خالد مخلد في نار جهنم، قال تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار }. [المائدة: 72. ]
4 ـ أن الشرك يُحبطُ جميعَ الأعمال، قال تعالى: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88) }. [الأنعام: 88. ]
وقال تعالى: {ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65) }. [الزمر: 65. ]
5 ـ أنَّ المشرك حلالُ الدم والمال، قال تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد }. [التوبة: 5. ]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرتُ أن أقاتلَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ". [رواه البخاري ومسلم. ](19/44)
6 ـ أنَّ الشركَ أكبرُ الكبائر، قال صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر " قلنا: بلى يا رسول الله، قال: " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين... " الحديث [رواه البخاري ومسلم. ]
قال العلامة ابن القيم: [الجواب الكافي صلى الله عليه وسلم 109.] (أخبر سُبحانه أن القصد بالخلق والأمر: أن يُعرفَ بأسمائه وصفاته، ويُعبدَ وحده لا يُشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيانات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط }. [الحديد: 25. ]
فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله، وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل، ومن أعظم القسط: التوحيد، وهو رأس العدل وقوامه؛ وإن الشرك ظلم كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم (13) }. [لقمان: 13. ]
فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل، فما كان أشد منافاةً لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر).
إلى أن قال: (فلما كان الشرك منافيًا بالذات لهذا المقصود؛ كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك، وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيدًا لهم لما تركوا القيام بعبوديته، وأبى الله سبحانه أن يقبل لمشرك عملًا، أو يقبلَ فيه شفاعة، أو يَستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقبل له فيها رجاء؛ فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه ندًا، وذلك غاية الجهل به، كما أنه غاية الظلم منه، وإن كان المشرك في الواقع لم يظلم ربَّه، وإنَّما ظَلَمَ نفسَه) انتهى.
7 ـ أنَّ الشركَ تنقصلى الله عليه وسلم وعيب نزه الرب سبحانه نفسه عنهما، فمن أشرك بالله فقد أثبت لله ما نزه نفسه عنه، وهذا غاية المحادَّةِ لله تعالى، وغاية المعاندة والمشاقَّة لله.
ب ـ أنواع الشرك:
الشرك نوعان:(19/45)
النوع الأول: شرك أكبر يُخرج من الملة، ويخلَّدُ صاحبُهُ في النار، إذا مات ولم يتب منه، وهو صرفُ شيء من أنواع العبادة لغير الله، كدعاء غير الله، والتقرب بالذبائح والنذور لغير الله من القبور والجن والشياطين، والخوف من الموتى أو الجن أو الشياطين أن يضروه أو يُمرضوه، ورجاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من قضاء الحاجات، وتفريج الكُربات، مما يُمارسُ الآن حولََ الأضرحة المبنية على قبور الأولياء والصاحين، قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون (18) }. [يونس: 18. ]
والنوع الثاني: شرك أصغر لا يخرج من الملة؛ لكنه ينقصلى الله عليه وسلم التوحيد، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر، وهو قسمان:
القسم الأول: شرك ظاهر على اللسان والجوارح وهو: ألفاظ وأفعال، فالألفاظ كالحلف بغير الله، قال صلى الله عليه وسلم: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " [رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم. ]. وقول: ما شاء الله وشئت، قال صلى الله عليه وسلم: لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: " أجعلتني لله ندًا ؟! قُلْ: ما شاءَ الله وحده ". [رواه النسائي.] وقول: لولا الله وفلان، والصوابُ أن يُقالَ: ما شاءَ الله ثم شاء فلان؛ ولولا الله ثم فلان، لأن (ثم) تفيدُ الترتيب مع التراخي، وتجعلُ مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، كما قال تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين (29) }. [التكوير: 29. ]
وأما الواو: فهي لمطلق الجمع والاشتراك، لا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا؛ ومثلُه قول: ما لي إلا الله وأنت، و: هذا من بركات الله وبركاتك.(19/46)
وأما الأفعال: فمثل لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه، ومثل تعليق التمائم خوفًا من العين وغيرها؛ إذا اعتقد أن هذه أسباب لرفع البلاء أو دفعه، فهذا شرك أصغر؛ لأن الله لم يجعل هذه أسبابًا، أما إن اعتقد أنها تدفع أو ترفع البلاء بنفسها؛ فهذا شرك أكبر لأنه تَعلَّق بغير الله.
القسم الثاني من الشرك الأصغر: شرك خفي وهو الشرك في الإرادات والنيات، كالرياء والسمعة، كأن يعمل عملًا مما يتقرب به إلى الله؛ يريد به ثناء الناس عليه، كأنه يُحسن صلاته، أو يتصدق؛ لأجل أن يُمدح ويُثنى عليه، أو يتلفظ بالذكر ويحسن صوته بالتلاوة لأجل أن يسمعه الناس، فيُثنوا عليه ويمدحوه. والرياء إذا خالط العمل أبطله، قال الله تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا (110) }. [الكهف: 110. ]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أخوفُ ما أخافُ عليكم الشرك الأصغر " قالوا: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر ؟ قال: " الرياء ". [رواه أحمد والطبراني والبغوي في شرح السنة. ]
ومنه: العملُ لأجل الطمع الدنيوي، كمن يحج أو يؤذن أو يؤم الناس لأجل المال، أو يتعلم العلم الشرعي، أو يجاهد لأجل المال. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تَعِسَ عبدُ الدينار، وتعِسَ عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط ". [رواه البخاري. ](19/47)
قال الإمام ابنُ القيم رحمه الله: (وأما الشرك في الإرادات والنيات، فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجو منه. فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئًا غري التقرب إليه وطلب الجزاء منه؛ فقد أشرك في نيته وإرادته، والإخلاصلى الله عليه وسلم: أن يُخلصلى الله عليه وسلم لله في أفعاله وأقواله، وإرادته ونيته. وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يُقبلُ من أحدٍ غيرها، وهي حقيقة الإسلام، كما قال تعالى: {ومن يتبغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85) }. [آل عمران: 85. ]
وهي ملَّةُ إبراهيمَ ـ عليه السلام ـ التي من رغب عنها فهُو من أسفَهِ السُّفهاء) [الجواب الكافي صلى الله عليه وسلم 115.] انتهى.
يتلخَّصلى الله عليه وسلم مما مر أن هناك فروقًا بين الشرك الأكبر والأصغر، وهي:
1 ـ الشرك الأكبر: يُخرج من الملة، والشرك الأصغر لا يُخرج من الملة، لكنه ينقصلى الله عليه وسلم التوحيد.
2 ـ الشرك الأكبرُ يخلَّدُ صاحبه في النار، والشرك الأصغير لا يُخلَّد صاحبُه فيها إن دَخَلها.
3 ـ الشركُ الأكبرُ يحبطُ جميع الأعمال، والشرك الأصغر لا يحبط جميع الأعمال، وإنما يحبط الرياء والعمل لأجل الدنيا العمل الذي خالطاه فقط.
4 ـ الشرك الأكبر يبيح الدم والمال، والشرك الأصغر لا يبيحهما.
الفصل الثالث
الكفر: تعريفه ـ أنواعه
أ ـ تعريفه:
الكفر في اللغة: التغطية والستر، والكفر شرعًا: ضد الإيمان، فإن الكفر: عدم الإيمان بالله ورسله، سواء كان معه تكذيب، أو لم يكن معه تكذيب، بل مجرد شك وريب أو إعراض أو حسد، أو كبر أو اتباع لبعض الأهواء الصادة عن اتابع الرسالة. وإن كان المكذب أعظم كفرًا، وكذلك الجاحدُ والمكذِّب حسدًا؛ مع استيقان صدق الرسل. [مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (12/335 ). ]
ب ـ أنواعه:
الكفر نوعان: النوع الأول: كفر أكبر يخرج من الملة، وهو خمسة أقسام:(19/48)
القسم الأول: كفر التكذيب، والدليل: قوله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (68) }. [العنكبوت: 68. ]
القسم الثاني: كفر الإباء والاستكبار مع التصديق، والدليل قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34) }. [البقرة: 34. ]
القسم الثالث: كفر الشك، وهو كفر الظن، والدليل قوله تعالى: {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا (35) وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرًا منها منقلبًا (36) قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلًا (37) لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدًا (38) }. [الكهف: 35 ـ 38. ]
القسم الرابع: كفرُ الإعراض، والدليل قوله تعالى: {والذين كفروا عما أنذروا معرضون (3) }. [الأحقاف: 3. ]
القسم الخامس: كفر النفاق، والدليل قوله تعالى: {ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون }. [المنافقين: 3. ]
النوع الثاني: كفرٌ أصغرُ لا يُخرجُ من الملة، وهو الكُفرُ العملي، وهو الذنوب التي وردت تسميتها في الكتاب والسنة كفرًا، وهي لا تصل إلى حد الكفر الأكبر، مثل كفر النعمة المذكور في قوله تعالى: {وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان فكفرت بأنعم الله }. [النحل: 112. ]
ومثلُ قتال المسلم المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ". [رواه البخاري ومسلم. ]
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض ". [رواه الشيخان. ]
ومثل الحلف بغير الله، قال صلى الله عليه وسلم: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ". [رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم. ](19/49)
فقد جعل القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخا لولي القصاصلى الله عليه وسلم فقال: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان }. [البقرة: 178. ]
والمرادُ: أخوة الدين، بلا ريب.
وقال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما }. [الحجرات: 9. ]
إلى قوله: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم }. [الحجرات: 10. ]
انتهى من شرح الطحاوية [صفحة (361) ط المكتب الإسلامي.] باختصار.
وملخصلى الله عليه وسلم الفروق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر:
1 ـ أن الكفر الأكبر يخرج من الملة، ويحبط الأعمال، والكفر الأصغر لا يخرج من الملة ولا يحبط الأعمال، لكن ينقصها بحسبه، ويعرض صاحبها للوعيد.
2 ـ أن الكفر الأكبر يخلد صاحبه في النار، والكفر الأصغر إذا دخل صاحبه النار، فإنه لا يخلد فيها؛ وقد يتوب الله على صاحبه، فلا يدخله النار أصلًا.
3 ـ أن الكفر الأكبر يبيح الدم والمال، والكفر الأصغر لا يبيح الدم والمال.
4 ـ أن الكفر الأكبر يوجب العداوة الخالصة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز للمؤمنين محبته وموالاته ولو كان أقرب قريب، وأما الكفر الأصغر فإنهُ لا يمنع الموالاة مطلقًا، بل صاحبه يُحَبُّ ويُوالى بقدر ما فيه من الإيمان، ويبغض ويُعادى بقدر ما فيه من العصيان.
الفصل الرابع
النفاق: تعريفه، أنواعه
أ ـ تعريفه:
النفاق لغة: مصدر نافق، يُقال: نافق يُنافق نفاقًا ومنافقة، وهو مأخوذ من النافقاء: أحد مخارج اليربوع من جحره؛ فإنه إذا طلب من مخرج هرب إلى الآخر، وخرج منه، وقيل: هو من النفق وهو: السرب الذي يستتر فيه. [النهاية لابن الأثير (5/98) بمعناه. ]
وأما النفاق في الشرع فمعناه: إظهارُ الإسلام والخير، وإبطانُ الكفر والشر؛ سمي بذلك لأنه يدخل في الشرع من باب، ويخرج منه من باب آخر، وعلى ذلك نبه الله تعالى بقوله: {إن المنافقين هم الفاسقون (67) }. [التوبة: 67. ]
أي: الخارجون من الشرع.(19/50)
وجعل الله المنافقين شرًا من الكافرين فقال: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار }. [النساء: 145. ]
وقال تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء: 142. ]، {يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10) }. [البقرة: 9، 10. ]
ب ـ أنواع النفاق:
النفاق نوعان: النوع الأول: النفاقُ الاعتقادي: وهو النفاق الأكبر الذي يُظهر صاحبه الإسلام، ويُبطن الكفر، وهذا النوع مخرج من الدين بالكلية، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، وقد وصف الله أهله بصفات الشر كلها: من الكفر وعدم الإيمان، والاستهزاء بالدين وأهله، والسخرية منهم، والميل بالكلية إلى أعداء الدين؛ لمشاركتهم لهم في عدواة الإسلام. وهؤلاء موجودون في كل زمان، ولا سيما عندما تظهر قوة الإسلام ولا يستطيعون مقاومتَه في الظاهر، فإنهم يظهرون الدخول فيه؛ لأجل الكيد له ولأهله في الباطن؛ ولأجل أن يعيشوا مع المسلمين ويَأمنوا على دمائهم وأموالهم؛ فيظهر المنافق إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به، لا يؤمن بالله، ولا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولًا للناس يهديهم بإذنه، وينذرهم بأسه ويخوفهم عقابه، وقد هتك الله أستار هؤلاء المنافين، وكشف أسرارهم في القرآن الكريم، وجلى لعباده أمورهم؛ ليكونوا منها ومن أهلها على حذر. وذكر طوائف العالم الثلاث في أول البقرة: المؤمنين، والكفار، والمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية؛ لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم، وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدًا، لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح، وهو غاية الجهل والفساد.(19/51)
[من رسالة لابن القيم في بيان صفات المنافقين. ]
وهذا النفاق ستة أنواع [مجموعة التوحيد النجدية صفحة (9 ).]:
1 ـ تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
2 ـ تكذيب بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 ـ بُغضُ الرسول صلى الله عليه وسلم.
4 ـ بغضُ بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
5 ـ المسرَّة بانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم.
6 ـ الكراهية لانتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم.
النوع الثاني: النفاق العملي: وهو عمل شيء من أعمال المنافقين؛ مع بقاء الإيمان في القلب، وهذا لا يُخرج من الملة، لكنه وسيلة إلى ذلك، وصاحبه يكونُ فيه إيمان ونفاق، وإذا كثر؛ صارَ بسببه منافقًا خالصًا، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ". [متفق عليه. ]
فمن اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع، فقد اجتمع فيه الشر، وخلصت فيه نعوت المنافقين، ومن كانت فيه واحدة منها صار فيه خصلة من النفاق، فإنه قد يجتمع في العبد خصال خير، وخصال شر، وخصال إيمان، وخصال كفر ونفاق، ويستحق من الثواب والعقاب بحسب ما قام به من موجبات ذلك.
ومنه: التكاسل عن الصلاة مع الجماعة في المسجد؛ فإنه من صافت المنافقين، فالنفاق شر، وخطير جدًا، وكان الصحابة يتخوفون من الوقوع فيه، قال ابن أبي مليكة: (أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه).
الفرق بين النفاق الأكبر والنفاق الأصغر:
1 ـ إن النفاق الأكبر يخرج من الملة، والنفاق الأصغر لا يخرج من الملة.
2 ـ إن النفاق الأكبر: اختلاف السر والعلانية في الاعتقاد، والنفاق الأصغر: اختلاف السر والعلانية في الأعمال دون الاعتقاد.
3 ـ إن النفاق الأكبر لا يصدر من مؤمن، وأما النفاق الأصغر فقد يصدر من المؤمن.(19/52)
4 ـ إن النفاق الأكبر في الغالب لا يتوب صاحبه، ولو تاب فقد اختلف في قبول توبته عند الحاكم. بخلاف النفاق الأصغر؛ فإن صاحبه قد يتوب إلى الله، فيتوب الله عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية [انظر: كتاب الإيمان، صفحة 238. ]: (وكثيرًا ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق، ثم يتوبُ الله عليه، وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق، ويدفعه الله عنه، والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قال الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخر من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: " ذلك صريح الإيمان " [رواه أحمد ومسلم. ]. وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به، قال: " الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة "، أي حصول هذا الوسواس، مع هذه الكراهة العظيمة، ودفعه عن القلب، هو من صريح الإيمان) انتهى.
وأما أهل النفاق الأكبر، فقال الله فيهم: {صم بكم عمي فهم لا يرجعون (18)} [البقرة: 18. ]. أي: إلى الإسلام في الباطن، وقال تعالى فيهم: {أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون (126) }. [التوبة: 126. ]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد اختلف العلماءُ في قبول توبتهم في الظاهر؛ لكون ذلك لا يُعلم، إذ هم دائمًا يظهرون الإسلام ). [انظر: مجموع الفتاوى (28/434 ـ 435 ). ]
الفصل الخامس
بيان حقيقة كل من
الجاهلية ـ الفسق ـ الضلال ـ الردة: أقسامها، أحكامها
أ ـ الجاهلية:(19/53)
هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام؛ من الجهل بالله ورسله، وشرائع الدين، والمفاخرة بالأنساب، والكبر والتجبر، وغير ذلك [النهاية لابن الأثير (1/323 ). ]، نسبة إلى الجهل الذي هو عدم العلم، أو عدم اتباع العلم، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: (فإن من لم يعلم الحق فهو جاهل جهلا بسيطًا، فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلًا مركبًا، فإن قال خلاف الحق عالمًا بالحق، أو غير عالم، فهو جاهل أيضا، فإذا تبين ذلك فالناس قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا في جاهلية منسوبة إلى الجهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال، إنما أحدثه لهم جاهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال، إنما أحدثه لهم جاهل، وإنما يفعله جاهل، وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون، من يهودية ونصرانية، فهو جاهلية، وتلك كانت الجاهلية العامة.
فأما بعد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فقد تكون في مصر دون مصر، كما هي في دار الكفار، وقد تكونُ في شخصلى الله عليه وسلم دون شخصلى الله عليه وسلم، كالرجل قبل أن يسلم فإنه في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام، فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة، والجاهلية المقيدة قد توجد في بعض ديار المسلمين، وفي كثير من الأشخاصلى الله عليه وسلم المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية... " [رواه مسلم.] وقال لأبي ذر: " إنك امرؤ فيك جاهلية " [في الصحيحين.] ونحو ذلك) [اقتضاء الصراط المستقيم (1/255 ـ 227) تحقيق الدكتور ناصر العقل.] انتهى.
وملخصلى الله عليه وسلم ذلك: أن الجاهلية: نسبة إلى الجهل، وهو عدم العلم، وأنها تنقسم إلى قسمين:
1 ـ الجاهلية العامة: وهي ما كان قبل مبعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقد انتهت ببعثته.(19/54)
2 ـ جاهلية خاصة ببعض الدول، وبعض البلدان، وبعض الأشخاصلى الله عليه وسلم، وهذه لا تزال باقية، وبهذا يتضح خطأ من يُعمّمونَ الجاهلية في هذا الزمان فيقولون: جاهلية هذا القرن أو جاهلية القرن العشرين، وما شابه ذلك، والصواب أن يُقالَ: جاهلية بعض أهل هذا القرن، أو غالب أهل هذا القرن؛ وأما التعميم فلا يَصحُّ ولا يجوزُ؛ لأنه ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم زالت الجاهلية العامة.
2 ـ الفسق:
الفسق لغة: الخروج، والمراد به شرعًا: الخروج عن طاعة الله، وهو يشمل الخروج الكلي، فيقالُ للكافر: فاسق، والخروج الجزئي؛ فيقال للمؤمن المرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب: فاسق.
فالفسق فسقان: فسق ينقل عن الملة، وهو الكفر، فيسمى الكافر فاسقًا، فقد ذكر الله إبليس فقال: {ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50. ]، وكان ذلك الفسق منه كفرًا.
وقال الله تعالى: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار }، يريد الكفار، دل على ذلك قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (20) }. [السجدة: 20. ]
ويسمى مرتكب الكبيرة من المسلمين: فاسقًا، ولم يخرجه فسقه من الإسلام، قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصانات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم أبدًا وأولئك هم الفاسقون (4) }. [النور: 4. ]
وقال تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج }. [البقرة: 196. ]
وقال العلماء في تفسير الفسوق هنا: هو المعاصي. [كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية صلى الله عليه وسلم 378. ]
3 ـ الضلال:
الضلال: العدول عن الطريق المستقيم، وهو ضد الهداية، قال تعالى: {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها }. [الإسراء: 15. ]
والضلالُ يطلق على عدة معان:
1 ـ فتارةً يُطلقُ على الكُفر، قال تعالى: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدًا }. [النساء: 136. ](19/55)
2 ـ وتارة يُطلقُ على الشرك، قال تعالى: {ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدًا (116) }. [النساء: 116. ]
3 ـ وتارة يُطلقُ على المخالفة التي هي دون الكفر، كما يقال: الفرق الضالة: أي المخالفة.
4 ـ وتارة يُطلق على الخطأ، ومنه قولُ موسى عليه السلام: {فعلتها إذًا وأنا من الضالين (20) }. [الشعراء: 20. ]
5 ـ وتارةً يُطلقُ على النسيان، ومنه قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى }. [البقرة: 282. ]
6 ـ ويُطلقُ الضلالُ على الضياع والغيبة، ومنه: ضالة الإبل. [صلى الله عليه وسلم 297 ـ 298 من المفردات للراغب. ]
4 ـ الردة وأقسامها وأحكامها:
الردة لغة: الرجوع، قال تعالى: {ولا ترتدوا على أدباركم }. [المائدة: 21. ]
أي: لا ترجعوا، والردة في الاصطلاح الشرعي هي: الكفر بعد الإسلام، قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217) }. [البقرة: 217. ]
أقسامها: الردة تحصل بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام، ونواقض الإسلام كثيرة ترجع إلى أربعة أقسام، هي:
1 ـ الردة بالقول: كسبِّ الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ملائكته، أو أحد من رسله. أو ادّعاء علم الغيب، أو ادّعاء النبوة، أو تصديق من يدعيها. أو دعاء غير الله، أو الاستعانة به فيما لا يقدر عليه إلا الله، والاستعاذة به في ذلك.
2 ـ الردة بالفعل: كالسجود للصنم والشجر، والحجر والقبور، والذبح لها. وإلقاء المصحف في المواطن القذرة، وعمل السحر، وتعلمه وتعليمه، والحكم بغير ما أنزل الله معتقدًا حله.
3 ـ الردة بالاعتقاد، كاعتقاد الشريك لله، أو أن الزنا والخمر والربا حلال، أو أن الخبز حرام، وأن الصلاة غير واجبة، ونحو ذلك مما أُجمع على حله، أو حرمته أو وجوبه، إجماعًا قطعيًا، ومثله لايجهله.(19/56)
4 ـ الردة بالشك في شيء مما سبق، كمن شك في تحريم الشرك، أو تحريم الزنا والخمر، أو في حل الخبز، أو شك في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أو رسالة غيره من الأنبياء، أو في صدقه، أو في دين الإسلام، أو في صلاحيته لهذا الزمان.
5 ـ الردة بالترك، كمن ترك الصلاة متعمدًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة " [رواه مسلم.] وغيره من الأدلة على كفر تارك الصلاة.
وأحكامها التي تترتب عليها بعد ثبوتها هي:
1 ـ استتابة المرتد، فإن تاب و رجعَ إلى الإسلام في خلال ثلاثة أيام؛ قبل منه ذلك و ترك.
2 ـ إذا أبى أن يتوبَ؛ و جب قتله؛ لقوله صلى الله عليه و سلم: " من بَدَّلَ دينه فاقتلوه ". [رواه البخاري و أبو داود. ]
3 ـ يُمنع من التصرف في ماله في مدة استتابته، فإن أسلم فهو له؛ و إلا صار فَيئًا لبيت المال، من حين قتله، أو موته على الردة. و قيل: من حين ارتداده يصرف في مصالح المسلمين.
4 ـ انقطاع التوارث بينه و بين أقاربه؛ فلا يرثهم و لا يرثونه.
5 ـ إذا ماتَ أو قُتلَ على ردته فإنَّه لا يُغسَّلُ و لا يُصلَّى عليه و لا يُدفنُ في مقابر المسلمين، و إنما يُدفَنُ في مقابر الكفّار، أو يُوارى في التراب في أي مكان غير مقابر المسلمين.
الباب الرابع
أقوال و أفعال تُنافي التوحيد أو تُنقِصُه
و فيه فصول:
الفصل الأول: ادعاء علم الغيب في قراءة الكف و الفنجان، و التنجيم... إلخ.
الفصل الثاني: السحر و الكهانة و العرافة.
الفصل الثالث: تقديم القرابين و النذور و الهدايا للمزارات و القبور و تعظيمها.
الفصل الرابع: تعظيم التماثيل و النصب التذكارية.
الفصل الخامس: الاستهزاء بالدين و الاستهانة بحرماته.
الفصل السادس: الحكم بغير ما أنزل الله.
الفصل السابع: ادعاء حق التشريع و التحليل و التحريم.
الفصل الثامن: الانتماء إلى المذاهب الإلحادية، و الأحزاب الجاهلية.
الفصل التاسع: النظرة المادية للحياة.(19/57)
الفصل العاشر: التمائم و الرقى.
الفصل الحادي عشر: الحلف بغير الله، و التوسل و الاستعانة بالمخلوق دون الله.
الفصل الأول
ادِّعاء علم الغيب في قراءة الكف و الفنجان و غيرهما
المراد بالغيب:
ما غاب عن الناس من الأمور المستقبلة و الماضية و ما لا يرونه، و قد اختصلى الله عليه وسلم الله تعالى بعلمه، و قال تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات و الأرض الغيب إلا الله }. [النمل: 65. ]
فلا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وحده، و قد يُطلع رسله على ما شاء من غيبه لحكمة و مصلحة، قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا (26) إلا من ارتضى من رسول }. [الجن: 26، 27. ]
أي: لا يطلع على شيء من الغيب إلا من اصطفاه لرسالته، فيظهره على ما يشاء من الغيب؛ لأنه يُستدل على نبوته بالمعجزات؛ التي منها الإخبار عن الغيب؛ الذي يطلعه الله عليه، و هذا يعم الرسول الملكي و البشري، و لا يطلع غيرهما لدليل الحصر. فمن ادّعى علم الغيب بأي وسيلة من الوسائل غير من استثناه الله من رسله، فهو كاذب كافر؛ سواء ادّعى ذلك بواسطة قراءة الكف أو الفنجان، أو الكهانة أو السحر أو التنجيم، أو غير ذلك، و هذا الذي يحصل من بعض المشعوذين و الدجالين؛ من الإخبار عن مكان الأشياء المفقودة و الأشياء الغائبة، و عن أسباب بعض الأمراض، فيقولون: فلان عَمِلَ لَكَ كذا و كذا فمرضتَ بسببه، و إنما هذا لاستخدام الجن و الشياطين، و يظهرون للناس أن هذا يحصل لهم؛ عن طريق عمل هذه الأشياء من باب الخداع و التلبيس، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية [انظر مجموعة التوحيد (797، 801 ). ]: (و الكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين، يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع، و كانوا يَخلطون الصِّدقَ بالكذب) إلى أن قال: (و من هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة فواكه و حلوى، و غير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، و منهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما) انتهى.(19/58)
و قد يكون إخبارهم عن ذلك عن طريق التنجيم، و هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، كأوقات هُبوب الرياح و مجيء المطر، و تغير الأسعار، و غير ذلك من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بسير الكواكب في مجاريها، و اجتماعها و افتراقها. و يقولون: من تزوج بنجم كذا و كذا، حصل له كذا و كذا، و من سافر بنجم كذا حصل له كذا، و من وُلد بنجم كذا و كذا حصل له كذا؛ من السعود أو النحوس، كما يعلن في بعض المجلات الساقطة من الخزعبلات حول البروج؛ و ما يجري فيها من الحظوظ.
و قد يذهب بعضُ الجهال و ضعاف الإيمان إلى هؤلاء المنجمين؛ فيسألهم عن مستقبل حياته، و ما يجري عليه فيه، و عن زواجه و غير ذلك.
و من ادَّعى علم الغيب أو صَدَّق من يَدَّعيه، فهو مشركٌ كافر؛ لأنه يَدَّعي مشاركة الله فيما هو من خصائصه، و النجومُ مسخَّرة مخلوقة، ليس لها من الأمر شيء، و لا تدل على نحوس، و لا سعود، و لا موت، و لا حياة، و إنما هذا كله من أعمال الشياطين الذين يسترقون السمع.
الفصل الثاني
السحرُ و الكهانةُ و العِرافة
كل هذه الأمور أعمال شيطانية مُحرَّمة تخل بالعقيدة أو تناقضها؛ لأنها لا تحصل إلا بأمور شركية.
أ ـ فالسحرُ عبارةٌ عما خفي و لَطُفَ سبَبُهُ:
سُمِّي سِحْرًا؛ لأنه يحصل بأمور خفية، لا تدرك بالأبصار، و هو: عزائم و رقي، و كلام يتكلم به، و أدوية و تدخينات، و له حقيقة. و منه ما يؤثر في القلوب و الأبدان فيُمرض و يَقتُل و يفرق بين المرء و زوجه، و تأثيره بإذن الله الكوني القَدَريّ، و هو عمل شيطاني، و كثير منه لا يتوصل إليه إلا بالشرك و التقرب إلى الأرواح الخبيثة بما تحب، و التوصل إلى استخدامها بالإِشتراك بها؛ و لهذا قرنهُ الشارع بالشرك، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبعَ الموبقات " قالوا: و ما هي ؟ قال: " الإشراكُ بالله و السحر... " [رواه البخاري و مسلم.] الحديث. فهو داخل في الشرك من ناحيتين:(19/59)
الناحية الأولى: ما فيه من استخدام الشياطين، و التعلق بهم و التقرب إليهم بما يحبونه؛ ليقوموا بخدمة الساحر، فالسِّحرُ من تعليم الشياطين، قال تعالى: {و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }. [البقرة: 102. ]
الثانية: ما فيه من دعوى علم الغيب، و دعوى مشاركة الله في ذلك، و هذا كفر و ضلال، قال تعالى: {و لقد علموا لمن اشتراه ما له في الأخرة من خلاق} [البقرة: 102. ]، أي: نَصيبٌ.
و إذا كان كذلك فلا شكَّ أنه كفر وشرك؛ يناقض العقيدة، و يَجبُ قتل متعاطيه، كما قتله جماعة من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، و قد تساهل الناس في شأن الساحر و السِّحر، و رُبما عدوا ذلك فنًا من الفنون؛ التي يفتخرون بها، و يمنحون أصحابها الجوائز و التشجيع، و يُقيمون النوادي و الحفلات و المسابقات للسحرة، و يحضرها آلاف المتفرجين و المشجعين، أو يسمونه بالسرك، و هذا من الجهل بالدين و التهاون بشأن العقيدة، و تمكين للعابثين.
2 ـ الكهانة و العرافة:
و هما ادعاء علم الغيب، و معرفة الأمور الغائبة، كالأخبار بما سيقع في الأرض، و ما سيحصل، و أين مكان الشيء المفقود؛ و ذلك عن طريق استخدام الشياطين الذين يسترقون السمع من السماء، كما قال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون السمع و أكثرهم كاذبون (223) }. [الشعراء: 221: 223. ](19/60)
و ذلك أن الشيطان يسترق الكلمة من كلام الملائكة، فيلقيها في أذن الكاهن، و يكذب الكاهن مع هذه الكلمة مائة كذبة، فيصدقه الناس بسبب تلك الكلمة، التي سمعت من السماء، و الله عز وجل هو المنفرد بعلم الغيب، فمن ادعى مشاركته في شيء من ذلك، بكهانة أو غيرها، أو صدق من يدعي ذلك؛ فقد جعل لله شريكًا فيما هو من خصائصه. و الكهانة لا تخلو من الشرك؛ لأنها تَقَرُّبٌ إلى الشياطين بما يحبون؛ فهي شرك في الربوبية من حيث ادعاء مشاركة الله في علمه، و شرك في الألوهية من حيث التقرب إلى غير الله بشيء من العبادة.
و عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: " من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم ". [رواه أبو داود. ]
و مما يجب التنبيه عليه و التنبه له: أن السحرة و الكهان و العرافين، يعبثون بعقائد الناس بحيث يظهرون بمظهر الأطباء، فيأمرون المرضى بالذبح لغير الله؛ بأن يذبحوا خروفًا صفته كذا و كذا، أو دجاجة، أو يكتبون لهم الطلاسم الشركية، و التعاويذ الشيطانية بصفة حروز يعلقونها في رقابهم، أو يضعونها في صناديقهم، أو في بيوتهم.
و البعض الآخر يظهر بمظهر المخبر عن المغيبات، و أماكن الأشياء المفقودة؛ بحيث يأتيه الجهال فيسألونه عن الأشياء الضائعة، فيخبرهم بها أو يحضرها لهم، بواسطة عملائه من الشياطين. و بعضهم يظهر بمظهر الولي الذي له خوارق و كرامات أو بمظهر الفنان، كدخول النار و لا تؤثر فيه، و ضرب نفسه بالسلاح، أو وضع نفسه تحت عجلات السيارة و لا تؤثر فيه، أو غير ذلك من الشعوذات التي في حقيقتها سحر من عمل الشيطان، يجري على أيدي هؤلاء للفتنة. أو هي أمور تخيلية لا حقيقة لها؛ بل هي حيل خفية يتعاطونها أمام الأنظار، كعمل سحرة فرعون بالحبال و العصي.(19/61)
قال شيخ الإسلام في مناظرته للسحرة البطائحية الأحمدية الرفاعية (قال: (يعني شيخ البطائحية) و رفع صوته: نحن لنا أحوال و كذا و كذا، و ادَّعى الأحوال الخارقة كالنار و غيرها و اختصاصهم بها، و أنهم يستحقون تسليم الحال إليها لأجلها ). قال شيخ الإسلام: (فقلتُ و رفعتُ صوتي و غضبت: أنا أُخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها: أي شيء فعلوه في النار ؟ ! فأنا أصنع مثل ما تصنعون، و من احترق فهو مغلوب، و ربما قلت: فعليه لعنة الله، و لكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل و الماء الحار، فسألني الأمراء و الناس عن ذلك؛ فقلت: لأن لهم حيلًا في الاتصال بالنار، يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع، و قشر النارنج، و حجر الطلق، فضج الناس بذلك؛ فأخذ يظهر القدرة على ذلك، فقال: أنا و أنت نُلَفتُّ في بارية بعد أن تُطلى جسومُنا بالكبريت. فقلت: فقُم، و أخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك، فمدَّ يده يظهر خلع القميص، فقُلتُ: لا، حتى تغتسل بالماء الحار والخل؛ فأظهر الوهم على عادتهم فقال: من كان يحبُّ الأمير فيلحضر خشبًا ـ أو قال: حزمة حطب ـ فقلتُ: هذا تطويلٌ و تفريقٌ للجمع و لا يَحصلُ به مقصود؛ بل قنديل يوقد و أُدخل أصبعي و أصبعك فيه بعد الغسل، و من احترقت أصبعه فعليه لعنة الله، أو قلت: فهو مغلوب، فلمَّا قلتُ ذلك تغير وذل) انتهى. [مجموع الفتاوى (11/445 ـ 446 ). ]
و المقصود منه بيان أن هؤلاء الدجالين يكذبون على الناس بمثل هذه الحيل الخفية، كجرهم السيارة بشعرة و إلقائه نفسه تحت عجلاتها و إدخال أصياخ الحديد في عينه، إلى غير ذلك من الشعوذات الشيطانية.
الفصل الثالث
تقديم القرابين و النذور و الهدايا للمزارات و القبور و تعظيمها
لقد سد النبي صلى الله عليه و سلم كل الطرق المفضية إلى الشرك، و حذّر منها غاية التحذير، و من ذلك: مسألة القبور، قد وضع الضوابط الواقية من عبادتها، و الغلو في أصحابها، و من ذلك:(19/62)
1 ـ أنه قد حذر صلى الله عليه و سلم من الغلو في الأولياء و الصالحين؛ لأن ذلك يؤدِّي إلى عبادتهم، فقال: " إياكم و الغُلُوَّ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغُلُوَّ " [رواه الإمام أحمد و الترمذي و ابن ماجه. ]، و قال: " لا تُطروني كما أطرتِ النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا: عبدُ الله و رسوله ". [رواه البخاري. ]
2 ـ و حذر صلى الله عليه و سلم من البناء على القبور، كما روى أبو الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، و لا قبرًا مشرفًا إلا سويته ). [رواه مسلم. ]
3 ـ و نهى عن تجصيصها و البناء عليها، عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن تجصيص القبر، و أن يقعد عليه، و أن يبني عليه بناء ). [رواه مسلم. ]
4 ـ وحذرصلى الله عليه و سلم من الصلاة عند القبور، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نُزِلَ برسول الله صلى الله عليه و سلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال و هو كذلك: " لعنةُ الله على اليهود و النصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يَحذرُ ما صنعوا، و لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يُتَّخذَ مسجدًا ). [متفق عليه. ]
وقال صلى الله عليه و سلم: " ألا وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك ". [رواه مسلم في صحيحه. ]
واتخاذُها مساجد معناهُ: الصلاة عندها و إن لم يبن مسجد عليها؛ فكلُ موضع قصد للصلاة فيه فقد اتُّخذَ مسجدًا، كما قال صلى الله عليه و سلم: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا " [رواه البخاري.] فإذا بني عليها مسجد فالأمر أشد.(19/63)
و قد خالف أكثر الناس هذه النواهي، و ارتكبوا ما حذر منه النبي صلى الله عليه و سلم، فوقعوا بسبب ذلك في الشرك الأكبر؛ فبنوا على القبور مساجد و أضرحة و مقامات، ، و جعلوها مزارات تمارس عندها كل أنواع الشرك الأكبر، من الذبح لها، و دعاء أصحابها، و الاستغاثة بهم، و صرف النذور لهم، و غير ذلك.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (و من جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في القبور، و ما أمر به و نهى عنه، و ما كان عليه أصحابه، و بين ما عليه أكثر الناس اليوم [يعني في وقته ـ رحمه الله ـ و قد زاد الأمر على ما ذكر. ]، رأى أحدُهما مضادًا للآخر مناقضًا له؛ بحيث لا يجتمعان أبدًا؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الصلاة إلى القبور، و هؤلاء يبنون عليها المساجد، و يسمونها مشاهد؛ مضاهاة لبيوت الله، و نهى عن إيقاد السُرُج عليها، و هؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديلَ عليها، و نهى عن أن تُتَّخذَ عيدًا، و هؤلاء يتخذونها أعيادًا و مناسك، و يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
و أمر بتسويتها، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثُكَ على ما بَعَثني عليه رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، و لا قبرًا إلا سوَّيته ). و في صحيحه أيضًا عن ثُمامَة بن شُفيّ قال: (كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، برودس فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمر بتسويتها ). [أي بعدم رفعها. ]
و هؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، و يرفعونها عن الأرض كالبيت، و يعقدون عليها القباب).
إلى أن قال: (فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه و سلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور، و بين ما شرعه هؤلاء و قصدوه ؟ ! و لا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره).(19/64)
ثم أخذ يذكر تلك المفاسد، إلى أن قال: (و منها: أن الذي شرعه النبي صلى الله عليه و سلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، و الإحسان إلى المزور بالدعاء له، و الترحم عليه و الاستغفار، و سؤال العافية له؛ فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه و إلى الميت، فقلب هؤلاء المشركون الأمر، و عكسوا الدين، و جعلوا المقصود بالزيارة: الشرك بالميت، و دعاءه و الدعاء به، و سؤال حوائجهم، و استنزال البركات منه، و نصره لهم على الأعداء و نحو ذلك؛ فصاروا مسيئين إلى أنفسهم، و إلى الميت، و لو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه تعالى من الدعاء له و الترحم عليه و الاستغفار له) انتهى. [إغاثة اللهفان (1 / 214، 215، 217 ). ]
و بهذا يتضح أن تقديم النذور و القرابين للمزارات شرك أكبر؛ سببه مخالفة هَدْي النبي صلى الله عليه و سلم في الحالة التي يجب أن تكون عليها القبور؛ من عدم البناء عليها و إقامة المساجد عليها؛ لأنها لما بنيت عليها القباب، و أقيمت حولها المساجد و المزارات، ظن الجهال أن المدفونين فيها ينفعون أو يضرون، و أنهم يُغيثون من استغاث بهم، و يقضون حوائج من التجأ إليهم، فقدموا لهم النذور و القرابين؛ حتى صارت أوثانًا تُعبدُ من دون الله، و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم: " اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد " [رواه مالك و أحمد. ]، و ما دعا بهذا الدعاء إلا لأنه سيحصل شيء من ذلك، و قد حصل عند القبور في كثير من بلاد الإسلام، أما قبره فقد حماه الله ببركة دعائه صلى الله عليه و سلم، و إن كان قد يحصل في مسجده شيء من المخالفات، من بعض الجهال أو الخرافيين، لكنهم لا يقدرون على الوصول إلى قبره؛ لأن قبره في بيته وليس في المسجد، و هو محوط بالجدران، كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله في نونيته:
فأجاب ربُّ العالمين دعاءه…………و أحاطه بثلاثة الجدران
الفصل الرابع
في بيان حكم تعظيم التماثيل و النصب التذكارية(19/65)
التماثيل جمع تمثال، و هو الصورة المجسمة على شكل إنسان أو حيوان، أو غيرهما مما فيه روح، و النصب في الأصل: العَلَمُ، و أحجار كان المشركون يذبحون عندها. و النُّصُبُ التذكارية: تماثيلٌ يُقيمونها في الميادين و نحوها؛ لإحياء ذكرى زعيم أو مُعظَّمٍ.
و لقد حذر النبي صلى الله عليه و سلم من تصوير ذوات الأرواح، و لا سيما تصوير المعظَّمين من البشر كالعلماء و الملوك و العُبَّاد و القادة و الرؤساء، سواء كان هذا التصوير عن طريق رسم الصورة على لوحة أو ورقة، أو جدار أو ثوب، أو عن طريق الالتقاط بالآلة الضوئية المعروفة في هذا الزمان، أو عن طريق النحت، و بناء الصورة على هيئة التمثال، و نهى صلى الله عليه و سلم عن تعليق الصور على الجدران و نحوها، و عن نصب التماثيل، و منها: النصب التذكارية؛ لأن ذلك وسيلة إلى الشرك؛ فإن أول شرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير و نصب الصور، و ذلك أنه كان في قوم نوح رجال صالحون، فلما ماتوا حزن عليهم قومهم، فأوحى إليهم الشيطان: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، و سموها بأسمائهم، ففعلوا و لم تُعبد؛ حتى إذا هلك أولئك و نُسي العلمُ؛ عُبدت [رواه البخاري. ]. و لما بعث الله نبيه نُوحًا عليه السلام ينهى عن هذا الشرك الذي حصل بسبب تلك الصور التي نصبت، امتنع قومه من قبول دعوته، و أصروا على عبادة تلك الصور المنصوبة التي تحوّلت إلى أوثان: {و قالوا لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن ودًا و لا سواعًا و لا يغوث و يعوق و نسرا (23) }. [نوح: 23. ]
و هذه أسماء الرجال الذين صورت لهم تلك الصور على أشكالهم؛ إحياء لذكرياتهم، و تعظيمًا لهم.(19/66)
فانظر ما آل إليه الأمر بسبب هذه الأنصاب التذكارية من الشرك بالله، و معاندة رسله ؟ ! مما سبب إهلاكهم بالطوفان، و مقتهم عند الله و عند خلقه [و شرك قوم إبراهيم كان بعبادة التماثيل و العكوف عندها، و الشرك في بني إسرائيل كان بعبادتهم صورة العجل التي عملها لهم السامري من الذهب، و شرك النصارى كان بعبادتهم الصليب الذي يزعمون أنه على صورة المسيح عليه السلام. ]
، مما يدلك على خطورة التصوير و نصب الصور، و لهذا لعن النبي صلى الله عليه و سلم المصورين، و أخبر أنهم أشدُ الناس عذابًا يوم القيامة، و أمر بطمس الصور، وأخبر أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة، كل ذلك من أجل مفاسدها، و شدة مخاطرها على الأمة في عقيدتها، فإنَّ أول شرك حدث في الأرض كان بسبب نصب الصُور، و سواء كان هذا النصب للصور و التماثيل في المجالس، أو الميادين أو الحدائق؛ فإنه محرم شرعًا؛ لأنه وسيلة إلى الشرك، و فساد العقيدة. و إذا كان الكفار اليومَ يعملون هذا العمل؛ لأنهم ليس لهم عقيدة يحافظون عليها؛ فإنه لا يجوز للمسلمين أن يتشبهوا بهم و يشاركوهم في هذا العمل؛ حفاظًا على عقيدتهمم التي هي مصدر قوتهم و سعادتهم. و لا يقال: إن الناس تجاوزوا هذه المرحلة و عرفوا التوحيد و الشرك؛ لأن الشيطان ينظر للجيل المستقبل حينما يظهر فيهم الجهل، كما عمل مع قوم نوح لما مات علماؤهم و فشا فيهم الجهل، و لأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، كما قال إبراهيم عليه السلام: {و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام (35)} فخاف على نفسه الفتنة، قال بعض السلف: (و من يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟).
الفصل الخامس
في بيان حكم الاستهزاء بالدين و الاستهانة بحرماته
الاستهزاء بالدين ردة عن الإسلام، و خروج عن الدين بالكلية، قال الله تعالى: {قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم }. [التوبة: 65، 66. ](19/67)
هذه الآية: تدل على أن الاستهزاء بالله كفر، و أن الاستهزاء بالرسول كفر، و أن الاستهزاء بآيات الله كفر، فمن استهزأ بواحد من هذه الأمور فهو مستهزئ بجميعها. و الذي حصل من هؤلاء المنافقين: أنهم استهزءوا بالرسول و صحابته؛ فنزلت الآية.
فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم، فالذين يستخفون بتوحيد الله تعالى، و يعظمون دعاء غيره من الأموات؛ و إذا أمروا بالتوحيد و نهوا عن الشرك استخفوا بذلك، كما قال تعالى: {و إذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولًا (41) إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا عليها }. [الفرقان: 41، 42. ]
فاستهزءوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك، و ما زال المشركون يعيبون الأنبياء و يصفهونهم بالسفاهة و الضلال و الجنون، إذا دعوهم إلى التوحيد؛ لما في أنفسهم من تعظيم الشرك. و هكذا تجد من فيه شبه منهم؛ إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك؛ لما عنده من الشرك، قال الله تعالى: {و من الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله }. [البقرة: 165. ]
فمن أحبَّ مخلوقًا مثل ما يُحب الله فهو مشرك. و يجبُ الفرق بين الحب في الله، و الحب مع الله، فهؤلاء الذين اتخذوا القبورَ أوثانًا؛ تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله و عبادته، و يعظمون ما اتخذوه من دون الله شعفاء، و يَحلِفُ أحدُهم بالله اليمين الغموس كاذبًا، و لا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذبًا، و كثير من طوائفَ متعددة ترى أحدهم يرى أن استغاثته بالشيخ ـ إما عند قبره أو غير قبره ـ أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عن السَّحَر ! و يستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد، و كثير منهم يخربون المساجد، و يعمرون المشاهد، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله و بآياته و رسوله، و تعظيمهم للشرك [مجموع الفتاوى (15 / 48، 49 ).] ؟ و هذا كثير وقوعه في القبوريين اليوم.
و الاستهزاء على نوعين:(19/68)
أحدهما: الاستهزاء الصريح، كالذي نزلت الآية فيه، و هو قولهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أ رغب بطونًا، و لا أكذب ألسُنًا، و لا أجبن عند اللقاء. أو نحو ذلك من أقوال المستهزئين، كقول بعضهم: دينكم هذا دينٌ خامس، و قول الآخر: دينكم أخرق، و قول الآخر إذا رأى الآمرين بالمعروف، و الناهين عن المنكر: جاءكم أهل الدِّين، من باب السُخرية بهم، و ما أشبه ذلك مما لا يُحصى إلا بكلفة؛ مما هو أعظم من قول الذين نزلت فيهم الآية.
النوع الثاني: غير الصريح، و هو البحر الذي لا ساحل له، مثل: الرمز بالعين، و إخراج اللسان، و مد الشفة، و الغمز باليد عند تلاوة كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عند الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر [مجموعة التوحيد النجدية صفحة 409. ]. و مثل هذا ما يقوله بعضهم: إنَّ الإسلام لا يَصلُحُ للقرن العشرين؛ و إنما يصلح للقُرون الوسطى، وأنه تأخُّرٌ و رجعية، و أن فيه قسوة و وحشية؛ في عقوبات الحدود و التعازير، و أنه ظلم المرأة حقوقها؛ حيث أباح الطلاق، وتعدد الزوجات. و قولهم: الحكمُ بالقوانين الوضعية أحسنُ للناس من الحكم بالإسلام.
و يقولون في الذي يدعو إلى التوحيد، و يُنكر عبادة القبور و الأضرحة: هذا متطرف، أو يُريد أن يفرق جماعة المسلمين، أو: هذا وهَّابي، أو مذهب خامس، و ما أشبه هذه الأقوال التي كلها سب للدين و أهله، و استهزاء بالعقيدة الصحيحة، و لا حول و لا قوة إلا بالله. و من ذلك: استهزاؤهم بمن تمسَّكَ بسنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم فيقولون: الدين ليس في الشَّعرِ؛ استهزاءً بإعفاء اللحية، و ما أشبه هذه الألفاظ الوقحة.
الفصل السادس
الحكم بغير ما أنزل الله(19/69)
من مقتضى الإيمان بالله تعالى و عبادته: الخضوع لحكمه و الرضا بشرعه، و الرجوع إلى كتابه و سنة رسوله عند الاختلاف في الأقوال، و في العقائد و في الخصومات، و في الدماء و الأموال، و سائر الحقوق، فإنَّ الله هو الحكَمُ و إليه الحُكمُ، فيجبُ على الحكام أن يحكموا بما أنزل الله، و يجب على الرعيَّة أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله في كتابه، و سنة رسوله، قال تعالى في حق الولاة: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل }. [النساء: 58. ]
و قال في حق الرعية: {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا (59) }. [النساء: 59. ]
ثمَّ بين أنه لا يجتمع الإيمان مع التحاكم إلى غير ما أنزل الله، فقال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا (60)} [النساء: 60. ]، إلى قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت و يسلموا تسليمًا (65) }. [النساء: 65. ]
فنفى سُبحانه ـ نفيًا مؤكَّدًا بالقسم ـ الإيمانَ عمن لم يتحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم و يرضى بحكمه و يسلم له، كما أنه حكم بكُفر الولاة الذين لا يحكمون بما أنزل الله، و بظلمهم و فسقهم، قال تعالى: {و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)} [المائدة: 44. ]، {و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45)} [المائدة: 45. ]، {و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47) }. [المائدة: 47. ](19/70)
و لا بُدَّ من الحكم بما أنزل الله، والتحاكُم إليه في جميع مواردِ النّزاع في الأقوال الاجتهادية بين العلماء، فلا يقبل منها إلا ما دل عليه الكتاب و السنة؛ من غير تعصب لمذهب، و لا تحيز لإمام، و في المرافعات و الخصومات في سائر الحقوق؛ لا في الأحوال الشخصية فقط، كما في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام، فإنَّ الإسلامَ كُلٌّ لا يتجزَّأ، قال تعالى: {يا آيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافة }. [البقرة: 208. ]
و قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض }. [البقرة: 85. ]
و كذلك يجب على أتباع المذاهب و المناهج المعاصرة أن يردوا أقوال أئمتهم إلى الكتاب و السنة، فما وافقهما أخذوا به، و ما خالفهما ردوه دون تعصب أو تحيز؛ و لا سيما في أمور العقيدة، فإن الأئمة ـ رحمهم الله ـ يوصون بذلك، و هذا مذهبهم جميعًا، فمن خالف ذلك فليس متبعًا لهم، و إن انتسب إليهم، و هو ممن قال الله فيهم: {اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابًا من دون الله و المسيح ابن مريم }. [التوبة: 31. ](19/71)
فليست الآية خاصة بالنصارى، بل تتناول كل من فعل مثل فعلهم، فمن خالف ما أمر الله به و رسوله، صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعًا لما يهواه و يريده؛ فقد خلع ربقة الإسلام و الإيمان من عنقه، و إن زَعمَ أنه مؤمن، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان؛ فقال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60)} لما في ضمن قوله: (يزعمون) من نفي إيمانهم، فإنَّ (يزعمون) إنما يقال غالبًا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب، لمخالفته لموجبها، و عمله بما ينافيها؛ يحقق هذا قوله: {وقد أمروا أن يكفروا به }؛ لأن الكفر الطاغوت ركن التوحيد، كما في آية البقرة [يعني قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} الآية (256) من سورة البقرة. ]، فإذا لم يَحصُلْ هذا الركن؛ لم يكن مُوحِّدًا، و التوحيدُ هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال، و تفسد بعدمه، كما أن ذلك بين في قوله: {فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} و ذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به. [فتح المجيد صلى الله عليه وسلم 467 ـ 468. ]
و نفي الإيمان عمن لم يحكم بما أنزل الله، يدل على أن تحكيم شرع الله إيمان و عقيدة، و عبادة لله يجب أن يدين بها المسلم، فلا يحكم شرع الله من أجل أن تحكيمه أصلح للناس و أضبط للأمن فقط، فإن بعض الناس يركز على هذا الجانب، و ينسى الجانب الأول، و الله سبحانه قد عاب على من يحكم شرع الله لأجل مصلحة نفسه، من دون تعبد لله تعالى بذلك فقال تعالى: {و إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (48) و إن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (49) }. [النور: 48، 49. ](19/72)
فهم لا يهتمون إلا بما يهوون، و ما خالف هواهم أعرضوا عنه؛ لأنهم لا يتعبدون لله بالتحاكم إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
حكم من حكم بغير ما أنزل الله:
قال الله تعالى: {و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44) }. [المائدة: 44. ]
في هذه الآية الكريمة: أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر، و هذا الكفر تارة يكون كفرًا أكبر ينقل عن الملة، و تارة يكون كفرًا أصغر لا يُخرج من الملة، و ذلك بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، و أنه مخير فيه، أو استهان بحكم الله، و اعتقد أن غيره من القوانين و النظم الوضعية أحسن منه أو مساويًا له، أو أنه لا يصلح لهذا الزمان، أو أراد بالحكم بغير ما أنزل الله استرضاءَ الكفار و المنافقين، فهذا كفر أكبر. و إن اعتقد وجوبَ الحكم بما أنزل الله، و علمه في هذه الواقعة و عدل عنه، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص، ويُسمَّى كافرًا كفرًا أصغر. و إن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده، و استفراغ وسعه في معرفة الحكم، وأخطأه، فهذا مُخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور [شرح الطحاوية صفحة 363 ـ 364. ]. و هذا في الحكم في القضية الخاصة.
و أما الحكم في القضايا العامة فإنه يختلف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية [مجموع الفتاوى (35 / 388 ). ]: (فإنَّ الحاكم إذا كان دَيِّناُ؛ لكنَّهُ حكم بغير علم؛ كان من أهل النار، و إن كان عالمًا لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه؛ كان من أهل النار، و إذا حكم بلا عدل و لا علم أَوْلَى أن يكون من أهل النار. و هذا إذا حكم في قضية لشخص.(19/73)
و أما إذا حكم حُكمًا عامًا في دين المسلمين؛ فجعل الحق باطلًا، و الباطل حقًا، و السنة بدعة، و البدعة سنة، و المعروف منكرًا، و المنكر معروفًا، و نهى عما أمر الله به و رسوله، و أمر بما نهى الله عنه و رسوله، فهذا لون آخر يَحْكُم فيه رب العالمين، و إله المرسلين، مالك يوم الدين؛ الذي له الحمد في الأولى و الآخرة: {له الحكم و إليه ترجعون }. [القصص: 88. ]
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و كفى بالله شهيدًا (28)} ). [الفتح: 28. ]
و قال أيضًا: (لا ريبَ أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلًا من غير اتباع لما أنزل الله؛ فهو كافر، فإنهُ ما من أمة إلا و هي تأمر بالحكم بالعدل، و قد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام؛ يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسواليف البادية (أي عادات من سلفهم )، و كانوا الأمراءَ المطاعين، و يرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب و السنة، و هذا هو الكفر، فإن كثيرًا من الناس أسلموا؛ و لكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية؛ التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل، فلم يلتزموا ذلك، بل اسْتَحَلّوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهُم [منهاج السنة النبوية.] كفار) انتهى.
و قال الشيخ محمد بن إبراهيم: (و أما الذي قيل فيه أنه كفر دون كفر، إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاصٍ، و أنَّ حكم الله هو الحق، فهذا الذي يصدر منه المرة و نحوها. أما الذي جعل قوانين بترتيب و تخضيع، فهو كُفرٌ، و إن قالوا: أخطأنا و حُكْمُ الشرع أعدل؛ فهذا كفر ناقل عن الملة ). [في تقرير الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ. انظر: مجموع فتاواه (12 / 280 ). ](19/74)
ففرَّقَ رحمه الله بينَ الحكم الجزئي الذي لا يتكرر، و بين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام، أو غالبها، و قرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقًا؛ و ذلك لأن من نحى الشريعة الإسلامية، و جعل القانون الوضعي بديلًا منها؛ فهذا دليل على أنه يرى أن القانون أحسن و أصلح من الشريعة، و هذا لا شك أنه كفر أكبر يُخرجُ من الملَّة و يُناقضُ التوحيد.
الفصل السابع
ادعاء حق التشريع و التحليل و التحريم
تشريع الأحكام التي يسير عليها العباد في عباداتهم ومعاملاتهم وسائر شئونهم، و التي تفصل النزاع بينهم و تُنهي الخصومات، حق لله تعالى رب الناس، و خالق الخلق: {ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين (54) }. [الأعراف: 54. ]
و هو الذي يعلم ما يصلح عباده، فيشرعه لهم، فبحكم ربوبيته لهم يشرِّعُ لهم، و بحكم عبوديتهم له يتقبلون أحكامه، و المصلحةُ في ذلك عائدة إليهم، قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الأخر ذلك خير و أحسن تأويلا (59) }. [النساء: 59. ]
وقال تعالى: {و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي }. [الشورى: 10. ]
واستنكر سُبحانه أَنْ يتخذَ العباد مُشرِّعًا غيره فقال: {أم لهم شركاؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }. [الشورى: 21. ]
فمن قبل تشريعًا غير تشريع الله؛ فقد أشرك بالله تعالى، و ما لم يشرعه الله و رسوله من العبادات؛ فهو بدعة، و كل بدعة ضلالة، قال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " [الحديث رواه البخاري و مسلم. ]، وفي رواية: " من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد " [رواه مسلم.] و مالم يشرعه الله و لا رسوله في السياسة والحكم بين الناس، فهو حكم الطاغوت، و حكم الجاهلية: {أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون (50) }. [المائدة: 50. ](19/75)
و كذلك التحليل و التحريم، حق لله تعالى، لا يجوز لأحدٍ أَنْ يُشاركه فيه، قال تعالى: {و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه و إنه لفسق و إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم و إن أطعتموهم إنكم لمشركون (121) }. [الأنعام: 121. ]
فجعل سبحانه طاعة الشياطين و أوليائهم في تحليل ما حرم الله: شركًا به سبحانه، و كذلك من أطاع العلماء و الأمراء في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابًا من دون الله؛ لقول الله تعالى: {اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابًا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31) }. [التوبة: 31. ]
و في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عَديّ بن حاتم الطائي ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا رسول الله، لسنا نعبُدُهم، قال صلى الله عليه وسلم: " أليسَ يُحلون لكم ما حرَّم الله فتُحلونه، و يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ ! " قال: بلى، قال النبي صلى الله عليه وسلم " فتلكَ عبادتُهم ". [رواه الترمذي و ابن جرير و غيرهما. ]
فصارت طاعتهم في التحليل و التحريم من دون الله عبادة لهم و شركًا، وهو شرك أكبر ينافي التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله [فتح المجيد صلى الله عليه وسلم 107. ]، فإن من مدلولها: أن التحليل و التحريم حق لله تعالى، و إذا كان هذا فيمن أطاع العلماء و العباد في التحليل و التحريم الذي يخالف شرع الله و هو يعلم هذه المخالفة، مع أنهم أقرب إلى العلم و الدين، و قد يكونُ خطؤهم عن اجتهاد لم يصيبوا فيه الحق، و هم مأجورون عليه، فكيفَ بمن يُطيعُ أحكام القوانين الوضعية التي هي من صنع الكفار و الملحدين، يجلبها إلى بلاد المسلمين، و يحكم بها بينهم ؟ فلا حولَ و لا قوة إلا بالله.
إنَّ هذا قد اتخذ الكفار أربابًا من دون الله، يُشرِّعونَ له الأحكام، و يبيحونَ لهُ الحرام، و يحكمون بين الأنام.(19/76)
الفصل الثامن
حكم الانتماء إلى المذاهب الإلحادية و الأحزاب الجاهلية
1 ـ الانتماء إلى المذاهب الإلحادية كالشيوعية، و العلمانية، و الرأسمالية، و غيرها من مذاهب الكفر، ردة عن دين الإسلام، فإنْ كانَ المنتمي إلى تلك المذاهب يدّعي الإسلام، فهذا من النفاق الأكبر، فإن المنافقين ينتمون إلى الإسلام في الظاهر، و هم مع الكفار في الباطن، كما قال تعالى فيهم: {و إذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا و إذا خلوا إلى شيطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون (14) }. [البقرة: 14. ]
و قال تعالى: {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم و إن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليمك و نمنعكم من المؤمنين }. [النساء: 141. ]
فهؤلاء المنافقون المخادعون؛ لكل منهم وجهان: وجهٌ يَلقى به المؤمنين، ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين، و له لسانان: أحدُهما يقبله بظاهره المسلمون، و الآخر يُترجم عن سِرّه المكنون: {و إذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم و إنما نحن مستهزءون (14)}.
قد أعرضوا عن الكتاب و السنة؛ استهزاءً بأهلهما و استحقارًا، و أبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين، فرحًا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه إلا اشرًا و استكبارًا، فتراهم أبدًا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون: [صفات المنافقين (رسالة) صلى الله عليه وسلم 19 لابن القيم، و الآية (15) من سورة البقرة. ]
و قد أمر الله بالانتماء إلى المؤمنين: {يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين (119) }. [التوبة: 119. ](19/77)
و هذه المذاهب الإلحادية مذاهبُ متناحرة؛ لأنها مؤسسة على الباطل، فالشيوعية تنكر وجود الخالق ـ سبحانه و تعالى ـ و تحارب الأديان السماوية، و من يرضي لعقله أن يعيش بلا عقيدة، و ينكر البدهيات العقلية اليقينية، فيكون مُلغيًا لعقله ؟ و العلمانية تنكر الأديان، و تعتمدُ على المادية التي لا موجِّه لها، و لا غاية لها في هذه الحاية إلا الحياة البهيمية ؟ و الرأسمالية همها جمع المال من أي وجه و لا تتقيد بحلال و لا حرام، و لا عطف و لا شفقة على الفقراء و المساكين، و قوام اقتصادها على الرِّبا الذي هو محاربة لله و لرسوله؛ و الذي هو دمارُ الدول و الأفراد، و امتصاصُ دماء الشعوب الفقيرة، و أي عاقل ـ فضلًا عمن فيه ذرة من إيمان ـ يرضى أن يعيش على هذه المذاهب، بلا عقل و لا دين، و لا غاية صحيحة من حياته يهدف إليها، و يُناضل من أجلها و إنما غزت هذه المذاهبُ بلاد المسلمين؛ لما غاب عن أكثريتها الدين الصحيح، و ترتب على الضياع و عاشت على التبعية.
2 ـ و الانتماء للأحزاب الجاهلية، و القوميات العنصرية، هو الآخر كُفرٌ وردَّة عن دين الإسلام؛ لأنَّ الإسلام يرفض العصبيات، و النعرات الجاهلية، يقول تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبًا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم }. [الحجرات: 13. ]
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من دعا إلى عصبية، و ليس منها من قاتل على عصبية، و ليس منا من غضب لعصبية ". [رواه الترمذي و غيره. ]
و قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، و فخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم، و آدم خلق من تراب، و لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ". [رواه مسلم. ](19/78)
و هذه الحزبيات تفرق المسلمين، و الله قد أمر بالاجتماع و التعاون على البر و التقوى، و نهى عن التفرق و الاختلاف، و قال تعالى: {و اعتصموا بحبل الله جميعًا و لا تفرقوا و اذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا }. [آل عمران: 103. ]
إن الله سبحانه يريد منا أن نكون مع حزب واحد، هم حزب الله المفلحون؛ و لكن العالم الإسلامي أصبح بعد ما غزته أوروبا سياسيًا، و ثقافيًا، يخضع لهذه العصبيات الدموية، و الجنسية و الوطنية، و يؤمن بها كقضية علمية و حقيقية مقررة، و واقع لا مفرَّ منه، و أصبحت شعوبه تندفع اندفاعًا غريبًا إلى إحياء هذه العصبيات التي أماتها الإسلام، و التغني بها وإحياء شعائرها، و الافتخار بعهدها الذي تقدم على الإسلام، و هو الذي يلح الإسلام على تسميته بالجاهلية، و قد من الله على المسلمين بالخروج عنها، و حثهم على شكر هذه النعمة.
و الطبيعي من المؤمن أن لا يذكر جاهلية تقادم عهدها أو قارب؛ إلا بمقت و كراهية و امتعاض و اقشعرار، و هل يذكر السجين المعذب الذي يطلق سراحه أيام اعتقاله و تعذيبه و امتهانه؛ إلا وعرته قشعريرة ؟ و هل يذكر البريء من علة شديدة طويلة أشرف منها على الموت أيام سقمه، إلا و انكسف باله وانتقع لونه [من رسالة: (ردة و لا أبا بكر لها) لأبي الحسن الندوي.] ؟ و الواجب أن يعلم أن هذه الحزبيات عذاب؛ بعثه الله على من أعرض عن شرعه، و تنكر لدينه، كما قال تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعًا و يذيق بعضكم بأس بعض }. [الأنعام: 65. ]
و قال صلى الله عليه وسلم: " و ما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهمم ". [من حديث رواه ابن ماجه. ](19/79)
إنَّ التعصب للحزبيات، يسبب رفض الحق الذي مع الآخرين، كحال اليهود الذين قال الله فيهم: {و إذا قيل لهم ءامنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا و يكفرون بما وراءه و هو الحق مصدقًا لما معهم }. [البقرة: 91. ]
و كحال أله الجاهلية، الذين رفضوا الحق الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم تعصبًا لما عليه آباؤهم: {و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا }. [البقرة: 170. ]
و يريد أصحاب هذه الحزبيات أن يجعلوها بديلة عن الإسلام الذي من الله به على البشرية.
الفصل التاسع
النظرية المادية للحياة و مفاسد هذه النظرية
هناك نظرتان للحياة، نظرة مادية للحياة، و نظرة صحيحة، و كل من النظرتين آثارها:
أ ـ فالنظرة المادية للحياة معناها:
أن يكون تفكير الإنسان مقصورًا على تحصيل ملذاته العاجلة، و يكون عمله محصورًا في نطاق ذلك، فلا يتجاوز تفكيره ما وراء ذلك من العواقب، و لا يعمل له، و لا يهتم بشأنه، و لا يعلم أن الله جعل هذه الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، فجعل الدنيا دار عمل، و جعل الآخرة دار جزاء، فمن استغل دنياه بالعمل الصالح ربح الدارين، و من ضيع دنياه ضاعت آخرته: {خسر الدنيا و الآخرة ذلك هو الخسران المبين (11) }. [الحج: 11. ]
فالله لم يخلق هذه الدنيا عبثًا بل خلقها لحكمة عظيمة، قال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا }. [الملك: 2. ]
و قال تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملًا (7) }. [الكهف: 7. ]
أوجد سبحانه في هذه الحياة من المتع العاجلة، و الزينة الظاهرة من الأموال و الأولاد، و الجاه والسلطان، و سائر المستلذات، ما لا يعلمه إلا الله.(19/80)
فمن الناس ـ و هم الأكثر ـ من قصر نظره على ظاهرها و مفاتنها، و متع نفسه بها، و لم يتأمل في سرها، فانشغل بتحصيلها و جمعها و التمتع بها عن العمل لما بعدها؛ بل ربما أنكر أن يكون هناك حياة غيرها، كما قال تعالى: {و قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا و ما نحن بمبعوثين (29) }. [الأنعام: 29. ]
و قد توعد الله تعالى من هذه نظرته للحياة؛ فقال تعالى: {إن الذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها و الذين هم عن ءاياتنا غافلون (7) أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون (8) }. [يونس: 7، 8. ]
و قال تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا و زينتها نوف إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار و حبط ما صنعوا فيها و باطل ما كانوا يعملون }. [هود: 15، 16. ]
و هذا الوعيد يشمل أصحابَ هذه النظرة؛ سواء كانوا من الذين يعملون عمل الآخرة؛ يريدون به الحياة الدنيا، كالمنافقين و المرائيين بأعمالهم، أو كانوا من الكفار الذين لا يؤمنون ببعث و لا حساب، كحال أهل الجاهلية و المذاهب الهدامة من رأسمالية و شيوعية، و علمانية إلحادية، و أولئك لم يعرفوا قدر الحياة، و لا تعدو نظرتهم لها أن تكون كنظرة البهائم، بل هم أضل سبيلا؛ لأنهم ألغوا عقولهم، و سخروا طاقاتهم، و ضيعوا أوقاتهم فيما لا يبقى لهم، و لا يبقون له، و لم يعملوا لمصيرهم الذي ينتظرهم و لابد لهم منه.
و البهائم ليس لها مصير ينتظرها، و ليس لها عقول تفكر بها، بخلاف أولئك، و لهذا يقول تعالى فيهم: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا (44) }. [الفرقان: 44. ]
و قد وصف الله أهل هذه النظرة بعدم العلم، قال تعالى: {وعد الله لا يخلف الله وعده و لكن أكثر الناس لا يعلمون (6) يعلمون ظاهرًا منن الحياة الدنيا و هم عن الأخرة هم غافلون (7) }. [الروم: 6، 7. ](19/81)
فهم و إن كانوا أهل خبرة في المخترعات و الصناعات؛ فهم جهال لا يستحقون أن يوصفوا بالعلم، لأن علمهم لم يتجاوز ظاهر الحياة الدنيا، و هذا علم ناقص لا يستحق أصحابه أن يطلق عليهم هذا الوصف الشريف، فيقال: العلماء، و إنما يطلق هذا على أهل معرفة الله و خشيته، كما قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء }. [فاطر: 28. ]
و من النظرة المادية للحياة الدنيا: ما ذكره الله في قصة قارون، و ما آتاه الله من الكنوز: {فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم (79) }. [القصص: 79. ]
فتمنوا مثله و غبطوه، و وصفوه بالحظ العظيم؛ بناء على نظرتهم المادية، و هذا كما هو الحال الآن في الدول الكافرة، و ما عندها من تقدم صناعي و اقتصادي، فإن ضعاف الإيمان من المسلمين ينظرون إليهم نظرة إعجاب دون نظر إلى ما هم عليه من الكفر، و ما ينتظرهم من سوء المصير، فتبعثهم هذه النظرة الخاطئة إلى تعظيم الكفار و احترامهم في نفوسهم، و التشبه بهم في أخلاقهم و عاداتهم السيئة، و لم يقلدوهم في الجد و إعداد القوة و الشيء النافع من المخترعات و الصناعات، كما قال تعالى: {و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة }. [الأنفال: 60. ]
ب ـ النظرة الثانية للحياة: النظرة الصحيحة:
و هي: أن يعتبر الإنسان ما في هذه الحياة من مال و سلطان و قوى مادية: وسيلة يستعان بها لعمل الآخرة.
فالدنيا في الحقيقة لا تذم لذاتها، و إنما يتوجه المدح و الذم إلى فعل العبد فيها، فهي قنطرة و معبر للآخرة، و منها زادُ الجنة، و خير عيش يناله أهل الجنة إنما حصل لهم بما زرعوه في الدنيا.
فهي دار الجهاد، و الصلاة والصيام، و الإنفاق في سبيل الله، و مضمار التسابق إلى الخيرات.
يقول الله تعالى لأهل الجنة: {كلوا و اشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية (24)} [الحاقة: 24.] يعني: الدنيا.
الفصل العاشر
في الرقي و التمائم(19/82)
أ ـ الرقى:
جمع رُقية، و هي: العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى و الصرع، و غير ذلك من الآفات، و يسمونها العزائم، و هي على نوعين:
النوع الأول: ما كان خاليًا من الشرك، بأن يقرأ على المريض شيء من القرآن، أو يعوذ بأسماء الله و صفاته، فهذا مباح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رقى و أمر بالرقية و أجازها، فعن عوف ابن مالك قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك ؟ فقال: " اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا ". [رواه مسلم. ]
قال السيوطي: و قد أجمع العلماء على جواز الرقى، عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله، أو بأسماء الله و صفاته، و أن تكون باللسان العربي، و ما يعرف معناه، و أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى [فتح المجيد صلى الله عليه وسلم 135. ]، و كيفيتها: أن يقرأ و ينفث على المريض، أو يقرأ في ماء ويسقاه المريض، كما جاء في حديث ثابت بن قيس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ترابًا من بطحان، فجعله في قدح، ثم نفث عيله بماء و صبه عليه ). [رواه أبو داود. ]
النوع الثاني: ما لم يخل من الشرك: و هي الرقى التي يستعان فيها بغير الله، من دعاء غير الله و الاستغاثة و الاستعاذة به، كالرقى بأسماء الجن، أو بأسماء الملائكة و الأنبياء و الصالحين، فهذا دعاء لغير الله، و هو شرك أكبر. أو يكون بغير اللسان العربي، أو بما لا يعرف معناه، لأنه يخشى أن يدخلها كفر أو شرك و لا يعلم عنه، فهذا النوع من الرقية ممنوع.
2 ـ التمائم:
و هي جمع تميمة، و هي: ما يعلق بأعناق الصبيان؛ لدفع العين، و قد يعلق على الكبار من الرجال و النساء، و هو على نوعين:
النوع الأول متن التمائم:
ما كان من القرآن؛ بأن يكتب آيات من القرآن أو من أسماء الله و صفاته، و يعلقها للاستشفاء بها؛ فهذا النوع قد اختلف فيه العلماء في حكم تعليقه على قولين:(19/83)
القول الأول: الجواز: و هو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، و هو ظاهر ما روى عن عائشة، و به قال أبو جعفر الباقر، و أحمد بن حنبل في رواية عنه، و حملوا الحديث الوارد في المنع من تعليق التمائم، على التمائم التي فيها شرك.
القول الثاني: المنع من ذلك، و هو قول ابن مسعود و ابن عباس، و هو ظاهر قول حذيفة و عقبة بن عامر، و ابن عكيم، و به قال جماعة من التابعين، منهم: أصحاب ابن مسعود، و أحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، و جزم بها المتأخرون، و احتجوا بما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الرقى و التمائم و التولة شرك ". [رواه أحمد و أبو داود و ابن ماجه و الحاكم. ]
و التولة: شيء يصنعونه، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، و الرجل إلى امرأته.
و هذا هو الصحيح؛ لوجوه ثلاثة:
الأول: عموم النهي و لا مخصص للعموم.
الثاني: سد الذريعة فإنها تفضي إلى تعليق ما ليس مباحًا.
الثالث: أنه إذا علق شيئًا من القرآن، فقد يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة و الاستنجاء و نحو ذلك. [فتح المجيد صلى الله عليه وسلم 136. ]
النوع الثاني من التمائم:
التي تعلق على الأشخاص ما كان من غير القرآن، كالخرز و العظام و الودع و الخيوط و النعال و المسامير، و أسماء الشياطين و الجن و الطلاسم، فهذا محرم قطعًا، و هو من الشرك؛ لأنه تعلق على غير الله سبحانه وأسمائه و صفاته و آياته، و في الحديث: " من تعلق شيئًا وكل إليه " [رواه أحمد و الترمذي.] أي: وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه، فمن تعلق بالله، و التجأ إليه، و فوض أمره إليه؛ كفاه، و قرب إليه كل بعيد، و يسر له كل عسير. و من تعلق بغيره من المخلوقين و التمائم و الأدوية و القبور؛ و كله الله إلى ذلك الذي لا يغني عنه شيئًا، و لا يملك له ضرًا و لا نفعًا، فخسر عقيدته و انقطعت صلته بربه و خذله الله.(19/84)
و الواجب على المسلم: المحافظة على عقيدته مما يفسدها أو يخل بها، فلا يتعاطى ما لا يجوز من الأدوية، و لا يذهب إلى المخرفين و المشعوذين ليتعالج عندهم من الأمراض؛ لأنهم يمرضون قلبه و عقيدته، و من توكل على الله كفاه.
و بعض الناس يعلق هذه الأشياء على نفسه، و هو ليس فيه مرض حسي، و إنما فيه مرض وهمي، و هو الخوف من العين و الحسد، أو يعلقها على سيارته أو دابته أو باب بيته أو دكانه. وهذا كله من ضعف العقيدة، و ضعف توكله على الله، و إن ضعف العقيدة هو المرض الحقيقي الذي يجب علاجه بمعرفة التوحيد و العقيدة الصحيحة.
الفصل الحادي عشر
في بيان حكم الحلف بغير الله و التوسل و الاستغاثة و الاستعانة بالمخلوق
أ ـ الحلف بغير الله:
الحلف: هو اليمين، و هي: توكيد الحكم بذكر معظم على وجه الخصوص. و التعظيم: حق لله تعالى، فلا يجوز الحلف بغيره، فقد أجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله، أو بأسمائه و صفاته، و أجمعوا على المنع من الحلف بغيره [حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد صلى الله عليه وسلم 303. ]، و الحلف بغير الله شرك؛ لما روى ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " [رواه أحمد و الترمذي و الحاكم.] و هو شرك أصغر، إلا إذا كان المحلوف به معظما عند الحالف إلى درجة عبادته له فهذا شرك أكبر، كما هو الحال اليوم عند عباد القبور، فإنهم يخافون من يعظمون من أصحاب القبور، أكثر من خوفهم من الله و تعظيمه، بحيث إذا طلب من أحدهم أن يحلف بالولي الذي يعظمه؛ لم يحلف به إلا إذا كان صادقًا، و إذا طلب منه أن يحلف بالله؛ حلف به و إن كان كاذبًا.
فالحلف تعظيم للمحلوف به لا يليق إلا بالله، و يجب توقير اليمين؛ فلا يكثر منها، قال تعالى: {و لا تطع كل حلاف مهين (10 ). [القلم: 10. ]
و قال تعالى: {و احفظوا أيمانكم }. [المائدة: 89. ](19/85)
أي: لا تحلفوا إلا عند الحاجة، و في حالة الصدق و البر؛ لأن كثرة الحلف أو الكذب فيها يدلان على الاستخفاف بالله، و عدم التعظيم له، و هذا ينافي كمال التوحيد، و في الحديث أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله و لا يزكيهم، و لهم عذاب أليم " و جاء فيه: " و رجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه، و لا يبيع إلا بيمينه " [رواه الطبراني بسند صحيح. ]. فقد شدد الوعيد على كثرة الحلف، مما يدل على تحريمه احترامًا لاسم الله تعالى، و تعظيمًا له سبحانه.
و كذلك يحرم الحلف بالله كاذبًا و هي: اليمين الغموس [هي التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، و هي التي يحلفها على أمر ماض كاذبًا عالمًا. ]، و قد وصف الله المنافقين بأنهم يحلفون على الكذب و هم يعلمون.
فتلخص من ذلك:
1 ـ تحريم الحلف بغير الله تعالى، كالحلف بالأمانة أو الكعبة أو النبي صلى الله عليه وسلم و أن ذلك شرك.
2 ـ تحريم الحلف بالله كاذبًا متعمدًا، و هي الغموس.
3 ـ تحريم كثرة الحلف بالله ـ و لو كان صادقًا ـ إذا لم تدعُ إليه حاجة؛ لأن هذا استخفاف بالله سبحانه.
4 ـ جواز الحلف بالله إذا كان صادقًا، و عند الحاجة.
ب ـ التوسل بالمخلوق إلى الله تعالى:
التوسل: هو التقرب إلى الشيء و التوصل إليه، و الوسيلة: القربة، قال الله تعالى: {و ابتغوا إليه الوسيلة }. [المائدة: 35. ]
أي القربة إليه سبحانه بطاعته، و اتباع مرضاته.
و التوسل قسمان:
القسم الأول: توسل مشروع، و هو أنواع:
1 ـ النوع الأول: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه و صفاته، كما أمر الله تعالى بذلك في قوله: {و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها و ذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعلمون }. [الأعراف: 180. ](19/86)
2 ـ النوع الثاني: التوسل إلى الله تعالى بالإيمان و الأعمال الصالحة التي قام بها المتوسل، كما قال تعالى عن أهل الإيمان: {ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن ءامنوا بربكم فامنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا و كفر عنا سيئاتنا و توفنا مع الأبرار (193) }. [آل عمران: 193. ]
و كما في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فسدت عليهم باب الغار، فلم يستطيعوا الخروج، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم؛ ففرج الله عنهم [هذا مضمون الحديث و هو متفق عليه.] فخرجوا يمشون.
3 ـ النوع الثالث: التوسل إلى الله تعالى بتوحيده؛ كما توسل يونس عليه السلام: {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك }. [الأنبياء: 87. ]
4 ـ النوع الرابع: التوسل إلى الله تعالى بإظهار الضعف و الحاجة و الافتقار إلى الله، كما قال أيوب عليه السلام: {أني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين (83) }. [الأنبياء: 83. ]
5 ـ النوع الخامس: التوسل إلى الله بدعاء الصالحين الأحياء، كما كان الصحابة إذا أجدبوا طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم، و لما توفي صاروا يطلبون من عمه العباس ـ رضي الله عنه ـ فيدعو لهم. [رواه البخاري. ]
6 ـ النوع السادس: التوسل إلى الله بالاعتراف بالذنب: {قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي }. [القصص: 16. ]
القسم الثاني: توسل غير مشروع:
و هو التوسل بما عدا الأنواع المذكورة في التوسل المشروع، كالتوسل بطلب الدعاء و الشفاعة من الأموات، و التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، و التوسل بذات المخلوقين أو حقهم، و تفصيل ذلك كما يلي:
1 ـ طلب الدعاء من الأموات لا يجوز:(19/87)
لأن الميت لا يقدر على الدعاء، كما كان يقدر عليه في الحياة، و طلب الشفاعة من الأموات لا يجوز؛ لأن عمر بن الخطاب و معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ، و من بحضرتهما من الصحابة و التابعين لهم بإحسان، لما أجدبوا استسقوا و توسلوا و استشفعوا بمن كان حيًا، كالعباس و كيزيد بن الأسود، و لم يتوسلوا و لم يستشفعوا و لم يستسقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لا عند قبره و لا عند غيره، بل عدلوا إلى البدل كالعباس و كيزيد، و قد قال عمر: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، و إنا نتوسل بعم نبينا فاسقنا) فجعلوا هذا بدلًا من ذلك، لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه.
و قد كان منن الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به [مجموع الفتاوى (1 / 318 ـ 319 ). ]، يعني: لو كان جائزًا. فتركهم لذلك دليل على عدم جواز التوسل بالأموات، لا لطلب الدعاء و الشفاعة منهم و هم أموات، فلو كان طلب الدعاء منه و الاستشفاع به حيًا و ميتًا سواء؛ لم يعدلوا عنه إلى غيره ممن هو دونه.
2 ـ و التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاه غيره لا يجوز:
و الحديث الذي فيه: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم) حديث مكذوب، ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها، و لا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث [مجموع الفتاوى (10 / 319 ). ]، و مادام لا يصح فيه دليل، فهو لا يجوز؛ لأن العبادات لا تثبت إلا بدليل صريح.
3 ـ والتوسل بذوات المخلوقين لايجوز:
لأنه إن كانت الباء للقسم، فهو إقسام به على الله تعالى، و إذا كان الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز، و هو شرك كما في الحديث؛ فكيف بالإقسام بالمخلوق على الخالق جل و علا ؟ !
و إن كانت الباء للسببية فالله سبحانه لم يجعل السؤال بالمخلوق سببًا للإجابة، و لم يشرعه لعباده.
4 ـ و التوسل بحق المخلوق لا يجوز لأمرين:(19/88)
الأول: أن الله سبحانه لا يجب عليه حق لأحد، و إنما هو الذي يتفضل سبحانه على المخلوق بذلك، كما قال تعالى: {و كان حقا علينا نصر المؤمنين (47) }. [الروم: 47. ]
فكون المطيع يستحق الجزاء، هو استحقاق فضل و إنعام، و ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق.
الثاني: أن هذا الحق الذي تفضل الله به على عبده هو حق خاص به، لا علاقة لغيره به، فإذا توسل به غير مستحقه كان متوسلًا بأمر أجنبي، لا علاقة له به، و هذا لا يجديه شيئًا.
و أما الحديث الذي فيه: " أسألك بحق السائلين " فهو حديث لم يثبت؛ لأن في إسناده عطية العوفي، و هو ضعيف مجمع على ضعفه، كما قال بعض المحدثين، و ما كان كذلك، فإنه لا يحتج به في هذه المسألة المهمة من أمور العقيدة، ثم إنه ليس فيه توسل بحق شخص معين، و إنما فيه التوسل بحق السائلين عمومًا، و حق السائلين الإجابة كما و عدهم الله بذلك.
وهو حق أوجبه على نفسه لهم، لم يوجبه عليه أحد، فهو توسل إليه بوعده الصادق لا بحق المخلوق.
جـ ـ حكم الاستعانة و الاستغاثة بالمخلوق:
الاستعانة: طلب العون و المؤازرة في الأمر.
و الاستغاثة: طلب الغوث، و هو إزالة الشدة.
فالاستغاثة و الاستعانة بالمخلوق على نوعين:
النوع الأول: الاستعانة و الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه، و هذا جائز، قال تعالى: {و تعاونوا على البر و التقوى }. [المائدة: 2. ]
و قال تعالى في قصة موسى عليه السلام:
{ فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه }. [القصص: 15. ]
و كما يستغيث الرجل بأصحابه في الحرب و غيرها، مما يقدر عليه المخلوق.(19/89)
النوع الثاني: الاستغاثة و الاستعانة بالمخلوق؛ فيما لا يقدر عليه إلا الله، كالاستغاثة و الاستعانة بالأموات، و الاستغاثة بالأحياء، و الاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله من شفاء المرضى، و تفريج الكربات و دفع الضر، فهذا النوع غير جائز، و هو شرك أكبر، و قد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه لا يستغاث بي، و إنما يستغاث بالله " رواه الطبراني. ]، كره صلى الله عليه وسلم أن يستعمل هذا اللفظ في حقه، و إن كان مما يقدر عليه في حياته؛ حماية لجناب التوحيد و سدًا لذرائع الشرك، و أدبًا و تواضعًا لربه، و تحذيرًا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال و الأفعال؛ فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يستغاث به بعد مماته، و يطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله [فتح المجيد صلى الله عليه وسلم 196 ـ 197. ]، و إذا كان هذا لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى.
الباب الخامس
في بيان ما يجب اعتقاده في الرسول صلى الله عليه وسلم و أهل بيته و صحابته
و ذلك في فصول:
الفصل الأول: في وجوب محبة الرسول و تعظيمه، و النهي عن الغلو و الإطراء في مدحه، و بيان منزلته صلى الله عليه وسلم.
الفصل الثاني: في وجوب طاعته و الاقتداء به.
الفصل الثالث: في مشروعية الصلاة و السلام عليه.
الفصل الرابع: في فضل أهل البيت، و ما يجب لهم من غير جفاء و لا غلو.
الفصل الخامس: في فضل الصحابة و ما يجب اعتقاده فيهم، و مذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بينهم.
الفصل السادس: في النهي عن سب الصحابة و أئمة الهدى.
الفصل الأول
في وجوب محبة الرسول و تعظيمه، و النهي عن الغلو و الإطراء في مدحه، و بيان منزلته صلى الله عليه وسلم.(19/90)
1 ـ وجوب محبة الرسول و تعظيمه صلى الله عليه وسلم:
يجب على العبد أولًا: محبة الله عز و جل، و هي من أعظم أنواع العبادة، قال تعالى: {و الذين ءامنوا أشد حبا لله }. [البقرة: 165. ]
لأنه هو الرب المتفضل على عباده بجميع النعم ظاهرها و باطنها، ثم بعد محبة الله تعالى، تجب محبة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي دعا إلى الله، و عرف به، و بلغ شريعته، و بين أحكامه، فما حصل للمؤمنين من خير في الدنيا و الآخرة، فعلى يد هذا الرسول، و لا يدخل أحد الجنة إلا بطاعته و اتباعه صلى الله عليه وسلم، و في الحديث: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما، و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، و أن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار ". [متفق عليه. ]
فمحبة الرسول تابعة لمحبة الله تعالى، لازمة لها، وتليها في المرتبة، وقد جاء بخصوص محبته صلى الله عليه وسلم و وجوب تقديمها على محبة كل محبوب سوى الله تعالى، قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده و الناس أجمعين ". [متفق عليه. ]
بل ورد أنه يجب على المؤمن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، كما في الحديث: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: " و الذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك "، فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي، فقال: " الآن يا عمر ". [رواه البخاري. ]
ففي هذا أن محبة الرسول واجبة و مقدمة على امحبة كل شيء سوى محبة الله، فإنها تابعة لها لازمة لها؛ لأنها محبة في الله و لأجله، تزيد بزيادة محبة الله في قلب المؤمن، و تنقص بنقصها، و كل من كان محبًا لله؛ فإنما يحب في الله و لأجله.(19/91)
و محبته صلى الله عليه وسلم تقتضي تعظيمه و توقيره و اتباعه، و تقديم قوله على قول كل أحد من الخلق، و تعظيم سنته.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (و كل محبة و تعظيم للبشر، فإنما تجوز تبعًا لمحبة الله و تعظيمه، كمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، فإنها من تمام محبة مرسله و تعظيمه، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له، و يعظمونه ويجلونه لإجلال الله له، فهي محبة لله من موجبات محبة الله.
و المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى الله عليه من المهابة و المحبة... ولهذا لم يكن بشر أحب إلى بشر، و لا أهيب و أجل في صدره، من رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدور أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ، قال عمرو بن العاص بعد إسلامه: إنه لم يكن شخص أبغض إلي منه. فلما أسلمت، لم يكن شخص أحب إلي منه، و لا أجل في عيني منه، قال: و لو سئلت أن أصفه لكم لما أطلقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه، إجلالًا له.
و قال عروة بن مسعود لقريش: يا قوم، و الله لقد وفدت إلى كسرى و قيصر و الملوك، فما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه، ما يعظم أصحاب محمد محمدًا صلى الله عليه وسلم، و الله ما يحدون النظر إليه تعظيمًا له، و ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فيدلك بها وجهه وصدره، و إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه) انتهى. [جلاء الأفهام صلى الله عليه وسلم 120 ـ 121. ]
2 ـ النهي عن الغلو و الإطراء في مدحه:
الغلو: تجاوز الحد، يقال: غلا غلوا، إذا تجاوز الحد في القدر، قال تعالى: {لا تغلوا في دينكم} [النساء: 171.] أي: لا تجاوزوا الحد.
و الإطراء: مجاوزة الحد في المدح، و الكذب فيه، و المراد بالغلو في حق النبي صلى الله عليه وسلم: مجاوزة الحد في قدره؛ بأن يرفع فوق مرتبة العبودية و الرسالة، و يجعل له شيء من خصائص الإلهية، بأن يدعى ويستغاث به من دون الله، ويحلف به.(19/92)
و المراد بالإطراء في حقه صلى الله عليه وسلم: أن يزاد في مدحه، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: " لا تروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله و رسوله " [متفق عليه. ]، أي: لا تمدحوني بالباطل، و لا تجاوزوا الحد في مدحي، كما غلت النصارى في عيسى ـ عليه السلام ـ فادعوا فيه الألوهية، و صفوني بما و صفوني به ربي، فقولوا: عبد الله و رسوله. و لما قال له بعض أصحابه: أنت سيدنا، فقال: " السيد الله تبارك و تعالى "، و لما قالوا: أفضلنا و أعظمنا طولًا، فقال: " قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، و لا يستجرينكم الشيطان ". [رواه أبو داود بسند جيد. ]
و قال له ناس: يا رسول الله، يا خيرنا و ابن خيرنا، و سيدنا و ابن سيدنا، فقال: " يا أيها الناس، قولوا بقولكم، و لا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز و جل ". [رواه أحمد و النسائي. ]
كره صلى الله عليه وسلم أن يمدحوه بهذه الألفاظ: أنت سيدنا ـ أنت خيرنا ـ أنت أفضلنا ـ أنت أعظمنا، مع أنه أفضل الخلق و أشرفهم على الإطلاق، لكنه نهاهم عن ذلك، ابتعادًا بهم عن الغلو و الإطراء في حقه، و حماية للتوحيد، و أرشدهم أن يصفوه بصفتين، هما أعلى مراتب العبد، وليس فيهما غلو ولا خطر على العقيدة، وهما: عبد الله و رسوله، ولم يحب أن يرفعوه فوق ما أنزله الله عز وجل من المنزلة التي رضيها له، و قد خالف نهيه صلى الله عليه وسلم كثير من الناس فصاروا يدعونه، و يستغيثون به، و يحلفون به، و يطلبون منه ما لا يطلب إلا من الله، مكا يفعل في الموالد و القصائد و الأناشيد، و لا يميزون بين حق الله و حق الرسول.
يقول العلامة ابن القيم في النونية:
لله حق لا يكون لغيره
و لعبده حق هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقا واحدًا
من غير تمييز و لا فرقان
3 ـ بيان منزلته صلى الله عليه وسلم:(19/93)
لا بأس ببيان منزلته بمدحه صلى الله عليه وسلم بما مدحه الله به، وذكر منزلته التي فضله الله بها و اعتقاد ذلك، فله صلى الله عليه وسلم المنزلة العالية التي أنزله الله فيها، فهو عبد الله و رسوله، و خيرته من خلقه، وأفضل الخلق على الإطلاق، و هو رسول الله إلى الناس كافة، و إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وهو أفضل الرسل، و خاتم النبيين، لا نبي بعده، قد شرح الله له صدره، ورفع له ذكره، و جعل الذلة و الصغار على من خالف أمره، و هو صاحب المقام المحمود الذي قال الله تعالى فيه: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا (79) }. [الإسراء: 79. ]
أي: المقام الذي يقيمه الله فيه للشفاعة للناس يوم القيامة؛ ليريحهم ربهم من شدة الموقف، و هو مقام خاص به صلى الله عليه وسلم دون غيره من النبيين.
و هو أخشى الخلق لله، و أتقاهم له، و قد نهى الله عن رفع الصوت بحضرته صلى الله عليه وسلم، و أثنى علي الذين يغضون أصواتهم عنده، فقال تعالى: {يا أيها الذين أمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشغرون (2) إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم (3) إن الذين يناودنك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4) و لو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم و الله غفور رحيم (5) }. [الحجرات: 3 ـ 5. ]
قال الإمام ابن كثير ـ رحمه الله ـ: (هذه آيات أدب الله فيها عباده المؤمنين فيما يعاملون به النبي صلى الله عليه وسلم من التوقير و الاحترام، والتبجيل و الإعظام... أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته).(19/94)
و نهى سبحانه و تعالى أن يدعى الرسول باسمه كما يدعى سائر الناس، فيقال: يا محمد، و إنما يدعى بالرسالة و النبوة فيقال: يا رسول الله، يا نبي الله، قال تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا }. [النور: 63. ]
كما أن الله سبحانه يناديه بـ يا أيها النبي، يا أيها الرسول. و قد صلى الله وملائكته عليه، و أمر عباده بالصلاة و التسليم عليه، فقال تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56) }. [الأحزاب: 56. ]
لكن لا يخصص لمدحه صلى الله عليه وسلم وقت و لا كيفية معينة إلا بدليل صحيح من الكتاب و السنة، فما يفعله أصحاب الموالد من تخصيص اليوم الذي يزعمون أنه يوم مولده لمدحه: بدعة منكرة.
و من تعظيمه صلى الله عليه وسلم: تعظيم سنته، و اعتقاد وجوب العمل بها، و أنها في المنزلة الثانية بعد القرآن الكريم في وجوب التعظيم و العمل، لأنها وحي من الله تعالى، كام قال تعالى: {و ما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) }. [النجم: 3، 4. ]
فلا يجوز التشكيك فيها، و التقليل من شأنها، أو الكلام فيها بتصحيح أو تضعيف لطرقها و أسانيدها أو شرح لمعانيها إلا بعلم و تحفظ، و قد كثر في هذا الزمان تطاول الجهال على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم خصوصًا من بعض الشباب الناشئين، الذين لا يزالون في المراحل الأولى من التعليم، صاروا يصححون و يضعفون في الأحاديث، و يجرحون في الرواة بغير علم سوى قراءة الكتب، و هذا خطر عظيم عليهم و على الأمة، فيجب عليهم أن يتقوا الله، و يقفوا عند حدهم.
الفصل الثاني
في وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم و الاقتداء به(19/95)
تجب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، و هذا من مقتضى شهادة أنه رسول الله، و قد أمر الله تعالى بطاعته في آيات كثيرة، تارة مقرونة مع طاعة الله، كما في قوله: {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول} [النساء: 59.] و أمثالها من الآيات، و تارة يأمر بها منفردة، كما في قوله: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80. ]، {و أطيعوا الرسول لعلكم ترحمون (56) }. [النور: 56. ]
و تارة يتوعد من عصى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63) }. [النور: 63.] \
أي: تصيبهم فتنة في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، أو عذاب أليم في الدنيا، بقتل أو حد أو حبس، أو غير ذلك من العقوبات العاجلة.
و قد جعل الله طاعته و اتباعه سببًا لنيل محبة الله للعبد و مغفرة ذنوبه، قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم }. [آل عمران: 31. ]
و جعل طاعته هداية، و معصيته ضلالًا، قال تعالى: {و إن تطيعوه تهتدوا }. [النور: 54. ]
و قال تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم و من أضل ممن اتبع هواه بغي هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين (50) }. [القصص: 50. ]
و أخبر سبحانه و تعالى أن فيه القدوة الحسنة لأمته، فقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله و اليوم الآخر و ذكر الله كثيرًا (21) }. [الأحزاب: 21. ]
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: (هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله و أفعاله و أحواله، و لهذا أمر تبارك و تعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره و مصابرته، و مرابطته و مجاهدته، و انتظاره الفرج من ربه ـ عز و جل ـ صلوات الله و سلامه عليه دائمًا، إلى يوم الدين).(19/96)
و قد ذكر الله طاعة الرسول و اتباعه في نحو أربعين موضعًا من القرآن، فالنفوس أحوج إلى معرفة ما جاء به و اتباعه منها إلى الطعام و الشراب، فإن الطعام و الشراب إذا فات الحصول عليهما؛ حصل الموت في الدنيا، و طاعة الرسول و اتباعه إذا فاتا؛ حصل العذاب و الشقاء الدائم، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به في أداء العبادات، و أن تؤدي على الكيفية التي كان يؤديها بها، فقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21. ]، و قال النبي صلى الله عليه وسلم: " صلوا كما رأيتموني أصلي " [الحديث رواه البخاري. ]، وقال: " خذوا عني مناسككم " [الحديث رواه مسلم. ]، و قال: " من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد " [الحديث متفق عليه ]، و قال: " من رغب عن سنتي فليس مني " [متفق عليه.] إلى غير ذلك من النصوص، التي فيها الأمر بالاقتداء به، و النهي عن مخالفته.
الفصل الثالث
في مشروعية الصلاة و السلام على الرسول ص
من حقه الذي شرع الله له على أمته أن يصلوا و يسلموا عليه، فقد قال الله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56) }. [الأحزاب: 56. ]
و قد ورد أن معنى صلاة الله تعالى: ثناؤه عليه عند الملائكة، و صلاة الملائكة: الدعاء، و صلاة الآدميين: الاستغفار [ذكره البخاري عن أبي العالية. ]، و قد أخبر الله سبحانه في هذه الآية عن منزلة عبده و نبيه عنده في الملأ الأعلى؛ بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، و أن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة و التسليم عليه؛ ليجتمع الثناء عليه من أهل العالم العلوي و السفلي.(19/97)
و معنى: {و سلموا تلسيمًا} أي: حيوه بتحية الإسلام، فإذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة و التسليم؛ فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول: (صلى الله عليه) فقط، و لا يقول: (عليه السلام) فقط؛ لأن الله تعالى أمر بهما جميعًا.
و تشرع الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في مواطن يتأكد طلبها فيها، إما وجوبًا و إما استحبابًا مؤكدًا، و ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه: (جلاء الأفهام) واحدًا و أربعين موطنًا، بدأها بقوله: (الموطن الأول: ـ و هو أهمها و آكدها ـ في الصلاة في آخر التشهد، و قد أجمع المسلمون على مشروعيته، و اختلفوا في وجوبه فيها) [جلاء الأفهام صلى الله عليه وسلم 222، 223.] ثم ذكر من المواطن: آخر القنوت، و في الخطب كخطبة الجمعة، و العيدين و الاستسقاء، و بعد إجابة المؤذن، و عند الدعاء، و عند دخول المسجد و الخروج منه، و عند ذكره صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ـ رحمه الله ـ الثمرات الحاصلة من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر فيها أربعين فائدة [جلاء الأفهام 302. ]، ومنها:
امتثال أمر الله سبحانه بذلك.
و منها: حصول عشر صلوات من الله على المصلي مرة.
و منها: رجاء إجابة الدعاء إذا قدمها أمامه.
و منها: أنها سبب لشفاعته صلى الله عليه وسلم إذا قرنها بسؤال الوسيلة له صلى الله عليه وسلم.
و منها: أنها سبب لغفران الذنوب.
و منها: أنها سبب لرد النبي صلى الله عليه وسلم على المصلي و المسلم عليه.
فصلوات الله وسلامه على هذا النبي الكريم.
الفصل الرابع
في فضل أهل البيت و ما يجب لهم من غير جفاء و لا غلو
أهل البيت هم آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين حرمت عليهم الصدقة، و هم آل علي، و آل جعفر، و آل عقيل، و آل العباس، و بنو الحارث بن عبد المطلب، و أزواج النبي صلى الله عليه وسلم و بناته؛ لقوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرًا (33) }. [الأحزاب: 33. ](19/98)
قال الإمام ابنُ كثير ـ رحمه الله ـ: (ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن، أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرًا (33) }. [الأحزاب: 33. ]
فإن سياق الكلام معهن، و لهذا قال بعد هذا كله: {و اذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايت الله و الحكمة }. [الأحزاب: 34. ]
أي: و اعملن بما ينزل الله تبارك و تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن، من الكتاب و السنة. قاله قتادة و غير واحد.
و اذكرن هذه النعمة التي خُصِصْتُنّ… بها من بين الناس: أن الوحي نزل في بيوتكن دون سائر الناس، و عائشة الصديقة بنت الصديق ـ رضي الله عنها ـ أولاهن بهذه النعمة، و أخصهن من هذه الرحمة العميمة، فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك صلوات الله و سلامه عليه، و قال بعض العلماء: لأنه لم يتزوج بكرًا سواها، و لم ينم معها رجل في فراشها سواه (يريد أنها لم تتزوج غيره) فناسب أن تخصص بهذه المزية، و أن تفرد بهذه المرتبة العلية، و لكن إذا كان أزواجه من أهل بيته، فقرابته أحق بهذه التسمية) انتهى من تفسير ابن كثير.
فأهل السنة و الجماعة يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم و يتولونهم، و يحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال يوم غدير خم (اسم موضع ): " أذكركم الله في أهل بيتي ". [رواه مسلم ]
فأهل السنة يحبونهم و يكرمونهم؛ لأن ذلك من محبة النبي صلى الله عليه وسلم و إكرامه، و ذلك بشرط: أن يكونوا متبعين للسنة مستقيمين على الملة، كما كان عليه سلفهم كالعباس و بنوه، و علي الملة، كما كان عليه سلفهم كالعباس و بنوه، و علي و بنوه، أما من خالف السنة، و لم يستقم على الدين، فإنه لا تجوز موالاته و لو كان من أهل البيت.(19/99)
فموقف أهل السنة و الجماعة من أهل البيت موقف الاعتدال و الإنصاف، يتولون أهل الدين و الاستقامة منهم، و يتبرءون ممن خالف السنة و انحراف عن الدين، و لو كان من أهل البيت، فإن كونه من أهل البيت و من قرابة الرسول، لا ينفعه شيئًا حتى يستقيم على دين الله، فقد روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {و أنذر عشيرتك الأقربين (214) }. [الشعراء: 214. ]
فقال: " يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس ابن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أغني عنك من الله شيئًا، و يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغنى عنك من الله شيئًا ". [رواه البخاري. ]
و الحديث: " من بطأ عمله لم يسرع به نسبه ". [رواه مسلم. ]
و يتبرأ أهل السنة و الجماعة من طريقة الروافض؛ الذين يغلون في بعض أهل البيت، و يدعون لهم العصمة، و من طريقة النواصب؛ الذين ينصبون العداوة لأهل البيت المستقيمين، و يطعنون فيهمم، و من طريقة المبتدعة و الخرافيين الذين يتوسلون بأهل البيت، و يتخذونهم أربابًا من دون الله.
فأهل السنة في هذا الباب و غيره على المنهج المعتدل، و الصراط المستقيم الذي لا إفراط فيه و لا تفريط، و لا جفاء و لا غلو في حق أهل البيت و غيرهم، و أهل البيت المستقيمون ينكرون الغلو فيهم، و يتبرأون من الغلاة، فقد حرق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ الغلاة الذين غلوا فيه بالنار، و أقره ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ على قتلهم، لكن يرى قتلهم بالسيف بدلًا من التحريق، و طلب علي ـ رضي الله عنهما ـ عبد الله بن سبأ رأس الغلاة ليقتله؛ لكنه هرب و اختفى.
الفصل الخامس
في فضل الصحابة و ما يجب اعتقاده فيهم
و مذهب أهل السنة و الجماعة فيما حدث بينهم
ما المراد بالصحابة، و ما الذي يجب اعتقاده فيهم:(19/100)
الصحابة جمع صحابي: و هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به و مات على ذلك، و الذي يجب اعتقاده فيهم أنهم أفضل الأمة، و خير القرون؛ لسبقهم و اختصاصهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم و الجهاد معه، و تحمل الشريعة عنه، و تبليغها لمنن بعدهم، و قد أثنى الله عليهم في محكم كتابه، قال تعالى: {و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم (100) }. [التوبة: 100. ]
و قال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحما بينهم تراهم ركعًا سجًا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين ءامنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرًا عظيمًا (29) }. [الفتح: 29. ]
و قال تعالى: {للفقراء المهجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانًا و ينصرون الله و رسوله أولئك هم الصادقون (8) و الذين تبوءو الدار و الإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9) }. [الحشر: 8، 9. ](19/101)
ففي هذه الآيات أن الله سبحانه أثنى على المهاجرين و الأنصار، وو صفهم بالسبق إلى الخيرات، و أخبر أنه قد رضي الله عنهم، و أعد لهم الجنات، و وصفهم بكثرة الركوع و السجود، و صلاح القلوب، و أنهم يعرفون بسيما الطاعة و الإيمان، و أن الله اختارهم لصحبة نبيه ليغيظ بهم أعداءه الكفار، كما وصف المهاجرين بترك أوطانهم و أموالهم من أجل الله و نصرة دينه، و ابتغاء فضله و رضوانه، و أنهم صادقون في ذلك، و وصف الأنصار بأنهم أهل دار الهجرة و النصرة، و الإيمان الصادق، و وصفهم بمحبة إخوانهم المهاجرين، و إيثارهم على أنفسهم، و مواساتهم لهم، و سلامتهم من الشح، و بذلك حازوا على الفلاح. هذه بعض فضائلهم العامة، و هناك خاصة و مراتب يفضل بها بعضهم بعضًا، رضي الله عنهم، و ذلك بحسب سبقهم إلى الإسلام و الجهاد و الهجرة.
فأفضل الصحابة الخلفاء الأربعة: أبو بكر و عمر و عثمان و علي، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، و هم هؤلاء الأربعة و طلحة، و الزبير، و عبد الرحمن بن عوف، و أبو عبيدة بن الجراح، و سعد بن أبي وقاص، و سعيد بن زيد، و يفضل المهاجرون على الأنصار، و أهل بدر و أهل بيعة الرضوان، و يفضل من أسلم قبل الفتح و قاتل، على من أسلم بعد الفتح.
2 ـ مذهب أهل السنة و الجماعة فيما حدث بين الصحابة من القتال و الفتنة:(19/102)
سبب الفتنة: تآمر اليهود على الإسلام و أهله، فدسوا ماكرًا خبيثًا تظاهر بالإسلام كذبًا وزورًا هو: عبد الله بن سبأ، من يهود اليمن، فأخذ هذا اليهودي ينفث حقده و سمومه ضد الخليفة الثالث من الخلفاء الراشدين: عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه و أرضاه ـ و يختلق التهم ضده، فالتف حوله من انخدع به من قاصري النظر و ضعاف الإيمان و محبي الفتنة، و انتهت المؤامرة بقتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه مظلومًا، وعلى أثره مقتله حصل الاختلاف بين المسلمين، و شبت الفتنة بتحريض من هذا اليهودي و أتباعه، و حصل القتال بين الصحابة عن اجتهاد منهم.
قال شارح الطحاوية: (إن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق، قصده إبطال دين الإسلام، و القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك العلماء، فإن عبد الله بن سبأ، لما أظهر الإسلام، أراد أن يفسد دين الإسلام بمكره وخبثه ـ كما فعل بولس بدين النصرانية ـ فأظهر التنسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، حتى سعى في فتنة عثمان وقتله، ثم لما قدم على الكوفة أظهر الغلو في علي، والنصر له، ليتمكن بذلك من أغراضه، وبلغ ذلك عليًا فطلب قتله؛ فهرب منه إلى قرقيس، وخبره معروف في التاريخ).
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فلما قتل عثمان رضي الله عنه، تفرقت القلوب وعظمت الكروب، و ظهرت الأشرار و ذل الأخيار، و سعى في الفتنة من كان عاجزًا عناه، وعجز عن الخير و الصلاح من كان يحب إقامته، فبايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وهو أحق الناس بالخلافة حينئذ، و أفضل من بقي، لكن كانت القلوب متفرقة، ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة، و لم تنتظم الجماعة، و لم يتمكن الخليفة و خيار الأمة من كل ما يريدونه من الخير، و دخل في الفرقة و الفتنة أقوام، و كان ما كان ). [مجموع الفتاوى (25 / 304 ـ 305 ). ](19/103)
و قال أيضًا مبينًا عذر المتقاتلين من الصحابة؛ في قتال علي و معاوية: (و معاوية لم يدع الخلافة، و لم يبايع له بها حين قاتل عليًا، و لم يقاتل على أنه خليفة، و لا أنه يستحق الخلافة, و كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، و لا كان معاوية و أصحابه يرون أن يبتدئوا عليًا و أصحابه بالقتال؛ بل لما رأى علي ـ رضي الله عنه ـ و أصحابه أنه يجب عليهم طاعته و مبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، و أنهم خارجون عن طاعته؛ يمتنعون هذا الواجب، و هم أهل شوكة، رأى أن يُقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة و الجماعة. و هم (أي معاوية و من معه) قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، و أنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قُتِلَ مَظلومًا باتفاق المسلمين، و قتلته في عسكر علي، و هم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا و اعتدوا علينا، و علي لا يمكنه دفعهم كما لم يمكنه الدفع عن عثمان، و إنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينُصفنا و يبذل لنا الإنصاف.
و مذهب أهل السنة و الجماعة في الاختلاف الذي حصل، و الفتنة التي وقعت من جرائها الحروب بين الصحابة، يتلخص في أمرين:
الأمر الأول: أنهم يمسكون عن الكلام فيما حصل بين الصحابة، و يكفون عن البحث فيه؛ لأن طريق السلامة هو السكون عن مثل هذا، و يقولون: {ربنا افغر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10) }. [الحشر: 10. ]
الأمر الثاني: الإجابة عن الآثار المروية في مساويهم، و ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الآثار منها ما هو كذب؛ قد افتراه أعداؤهم ليشوهوا سمعتهم.
الوجه الثاني: أن هذه الآثار منها ما قد زيد و نقص فيه و غُيِّرَ عن وجهه الصحيح، و دخله الكذب، فهو محرف لا يلتفت إليه.(19/104)
الوجه الثالث: أن ما صح من هذه الآثار ـ و هو القليل ـ هم فيه معذورون؛ لأنهم إما مجتهدون مصيبون، و إما مجتهدون مخطئون، فهو من موارد الاجتهاد الذي إن أصاب المجتهد فيه فله أجران، و إن أخطأ فله أجر واحد، و الخطأ مغفور؛ لما في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا اجتهدَ الحاكمُ فأصاب فله أجران، و إن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ". [في الصحيحين من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنهما. ]
الوجه الرابعُ: أنهم بشر يجوز على أفرادهم الخطأ، فهم ليسوا معصومين من الذنوب بالنسبة للأفراد؛ لكن ما يقع منهم فله مكفرات عديدة منها:
1 ـ أن يكون قد تاب منه، و التوبة تمحو السيئة مهما كانت، كما جاءت به الأدلة.
2 ـ أن لهم من السوابق و الفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهم، إن صدر، قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات }. [هود: 114. ]
و لهم من الصُّحبة و الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يغمر الخطأ الجزئي.
3 ـ أنهم تُضاعفُ لهم الحسنات أكثر من غيرهم، و لا يساويهم أحد في الفضل، و قد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، و أن المُدَّ من أحدهم إذا تصدق به؛ أفضل من جبل أُحد ذهبًا إذا تصدق به غيرهم [في الحديث متفق عليه.] ـ رضي الله عنهم ـ و أرضاهم).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (و سائر أهل السنة و الجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة، و لا القرابة و لا السابقين و لا غيرهم، بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، و الله تعالى يغفرُ لهم بالتوبة، و يرفع لها درجاتهم، و يغفر لهم بحسنات ماحية، أو بغير ذلك من الأسباب، قال تعالى: {و الذي جاء بالصدق و صدق به أولئك هم المتقون (33) لهم ما يشأون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين (34) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا و يجزيهم أجرهم باحسن الذي كانوا يعملون (35) }. [الزمر: 32 ـ 35. ](19/105)
و قال تعالى: {حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي و على والدي و أن أعمل صالحًا ترضاه و أصلح لي في ذريتي إني تبت إليك و إني منن المسلمين (15) أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا و نتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة} [الأحقاف: 15، 16.] انتهى ). [انظر: مجموع الفتاوى (35 / 69 ). ]
و قد اتخذ أعداء الله ما وقع بين الصحابة وقت الفتنة من الاختلاف و الاقتتال سببًا للوقيعة بهم، و النيل من كرامتهم و قد جرى على هذا المخطط الخبيث بعض الكتاب المعاصرين؛ الذين يهرفون بما لا يعرفون، فجعلوا أنفسهم حكمًا بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يصوّبون بعضَهم، و يخطئون بعضَهم، بلا دليل، بل بالجهل و اتباع الهوى، و ترديد ما يقوله المغرضون و الحاقدون من المستشرقين و أذنابهم؛ حتى شككوا بعضَ ناشئة المسلمين ـ ممن ثقافتهم ضَحلة ـ بتاريخ أمتهم المجيد، و سلفهم الصالح الذين هم خير القرون؛ لينفذوا بالتالي إلى طعن في الإسلام، و تفريق كلمة المسلمين، و إلقاء البُغضَ في قلوب آخر هذه الأمة لأولها، بدلًا من الاقتداء بالسلف الصالح، و العمل بقوله تعالى: {و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلًا للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10) }. [الحشر: 10. ]
الفصل السادس
في النهي عن سب الصحابة و أئمة الهدى
1 ـ النهي عن سب الصحابة:
من أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم و ألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله بذلك في قوله تعالى: {و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلًا للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10) }. [الحشر: 10. ](19/106)
و طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " لا تسُبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مدَّ أحدهم و لا نصيفه ". [الحديث متفق عليه. ]
و يتبرءون من طريقة الرافضة و الخوارج الذين يسبون الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ و يبغضونهم، و يجحدون فضائلهم، و يكفرون أكثرهم.
و أهل السنة يقبلون ما جاء في الكتاب و السنة من فضائلهم، ويعتقدون أنهم خير القرون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خيركم قرني... " الحديث. [الحديث في الصحيحين. ]
و لما ذكر صلى الله عليه وسلم افتراق الأمة إلى ثلاث و سبعين فرقة، و أنها في النار إلا واحدة، و سألوه عن تلك الواحدة، قال " هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم و أصحابي ". [رواه الإمام أحمد و غيره. ]
قال أبو زرعة ـ و هو أجل شيوخ الإمام مسلم ـ: إذا رأيت الرجل ينتقص امرءًا من الصحابة؛ فاعلم أنه زنديق، و ذلك أن القرآن حق، و الرسول حق، و ما جاء به حق، و ما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة؛ فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب و السُنَّة؛ فيكون الجرح به أليق، و الحكم عليه بالزندقة و الضلال أقوم و أحق.
قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين: من سَبَّ أحدًا من الصحابة مُستحلًا؛ كفر، و إن لم يستحل فسق، و عنه: يكفر مطلقًا، و من فَسَّقهم، أو طعن في دينهم، أو كفَّرهم؛ كفر. [شرح عقيد السفاريني (2 / 388 ـ 389 ). ]
2 ـ النهي عن سب أئمة الهدى من علماء هذه الأمة:
يلي الصحابة في الفضيلة و الكرامة و المنزلة: أئمة الهدى من التابعين و أتباعهم من القرون المفضلة، و من جاء من بعدهم ممن تبع الصحابة بإحسان، كما قال تعالى: {و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه} [التوبة: 100. ]. الآية.(19/107)
فلا يجوزُ تنقصهم و سبهم؛ لأنهم أعلام هدى، فقد قال تعالى: {و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى و نصله جهنم و ساءت مصيرًا (115) }. [النساء: 115. ]
قال شارح الطحاوية: (فيجبُ على كل مسلم بعد مُوالاة الله و رسوله: موالاة المؤمنين، كما أطلق القُرآنُ، خصوصًا الذين هُمْ ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يُهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، و قد أجمعَ المسلمون على هدايتهم ودرايتهم.
فإنهم خُلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته، و المحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب و به قاموا، و بهم نطق الكتاب و به نطقوا، و كلهم متفقون اتفاقًا يقينًا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، و لكن: إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له في تركه من عذر).
و جماع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
الثالث: اعتقاده أن الحكم منسوخ.
فلهم الفضل علينا و المنة؛ بالسبق و تبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم و أرضاهم {و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلًا للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10) }. [الحشر: 10. ](19/108)
و الحط من قدر العلماء؛ بسبب وقوع الخطأ الاجتهادي من بعضهم، هو من طريقة المبتدعة، و من مُخططات أعداء الأمة؛ للتشكيك في دين الإسلام، و لإيقاع العداوة بين المسلمين، و لأجل فصل خلف الأمة عن سلفها، و بث الفرقة بين الشباب والعلماء، كما هو الواقع الآن، فليتنبه لذلك بعض الطلبة المبتدئين؛ الذين يحطون من قدر الفقهاء؛ و من قدر الفقه الإسلامي، و يزهدون في دراسته، و الانتفاع بما فيه من حق و صواب، فليعتزوا بفقههم، و ليحترموا علماءهم؛ و لا ينخدعوا بالدعايات المضللة و المغرضة. و الله الموفق.
الباب السادس
البدع
و يتضمن الفصول التالية:
الفصل الأول: تعريف البدعة ـ أنواعها ـ أحكامها.
الفصل الثاني: ظهورالبدع في حياة المسلمين، و الأسباب التي أدت إليها.
الفصل الثالث: موقف الأمة الإسلامية من المبتدعة، و منهج أهل السنة و الجماعة في الرد عليهم.
الفصل الرابع: في الكلام على نماذج من البدع المعاصرة و هي:
1 ـ الاحتفال بالمولد النبوي.
2 ـ التبرك بالأماكن و الآثار و الأموات، و نحو ذلك.
3 ـ البدع في مجال العبادات و التقرب إلى الله.
الفصل الأول
تعريف البدعة، أنواعها و أحكامها
1 ـ تعريفها: البدعة في اللغة:
مأخوذة من البَدْع، و هو الاختراع على غير مثال سابق، و منه قوله تعالى: {بديع السماوات و الأرض }. [البقرة: 117. ]
أي مخترعها على غير مثال سابق، قوله تعالى: {قل ما كنت بدعًا من الرسل }. [الأحقاف: 9. ]
أي: ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل.
و يقال: ابتدع فلان بدعة، يعني: ابتدأ طريقة لم يسبق إليها.
و الابتداع على قسمين:
ابتداع في العادات كابتداع المخترعات الحديثة، و هذا مباح؛ لأن الأصل في العادات: الإباحة.(19/109)
و ابتداع في الدين، و هذا مُحرَّم؛ لأن الأصل فيه التوقيف، قال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " [رواه البخاري ومسلم. ]، وفي رواية: " من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". [في صحيح مسلم. ]
2 ـ أنواع البدع:
البدعة في الدين نوعان:
النوع الأول: بدعة قولية اعتقادية، كمقالات الجهمية و المعتزلة و الرافضة، و سائر الفرق الضالة، و اعتقادهم.
النوع الثاني: بدعة في العبادات، كالتعبد لله بعبادة لم يشرعها، و هي أقسام:
القسم الأول: ما يكون في أصل العبادة: بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع، كأن يحدث صلاة غير مشروعة أو صيامًا غير مشروع أصلًا، أو أعيادًا غير مشروعة كأعياد الموالد و غيرها.
القسم الثاني: ما يكون من الزيادة في العبادة المشروعة، كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلًا.
القسم الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة المشروعة؛ بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، و ذلك كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مُطربة، و كالتشديد على النفس في العبادات إلى حد يخرج عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
القسم الرابع: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة؛ لم يخصصه الشرع كتخصيص يوم النصف من شعبان و ليلته بصيام و قيام، فإن أصل الصيام و القيام مشروع، و لكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل.
3 ـ حكم البدعة في الدين بجميع أنواعها:(19/110)
كل بدعة في الدين فهي محرمة و ضلال، لقوله صلى الله عليه وسلم: " و إياكم و محدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة " [رواه الترمذي و قال: حديث حسن صحيح. ]، و قوله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" [متفق عليه. ]، وفي رواية: " من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". [رواه مسلم.] فدل الحديثان على أن كل محدث في الدين فهو بدعة، و كل بدعة ضلالة مردودة، و معنى ذلك أن البدع في العبادات و الاعتقادات محرمة، و لكن التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة، فمنها ما هو كفر صراح، كالطواف بالقبور تقربًا إلى أصحابها، و تقديم الذبائح و النذور لها، و دعاء أصحابها، و الاستغاثة بهم، و كأقوال غلاة الجهمية و المعتزلة. و منها ما هو من وسائل الشرك، كالبناء على القبور و الصلاة و الدعاء عندها، و منها ما هو فسق اعتقادي كبدعة الخوارج و القدرية و المرجئة في أقوالهم و اعتقاداتهم المخالفة للأدلة الشرعية، و منها ما هو معصية كبدعة التبتل و الصيام قائمًا في الشمس، و الخصاء بقصد قطع شهوة الجماع. [انظر: الاعتصام للشاطبي (2 / 37 ). ]
تنبيه:(19/111)
من قَسَّمَ البدعة إلى بدعة حسنة، و بدعة سيئة؛ فهو مخطئ و مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: " فإن كل بدعة ضلالة " لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم على البدع كلها بأنها ضلالة، و هذا يقول: ليس كل بدعة ضلالة؛ بل هناك بدعة حسنة. قال الحافظُ ابنُ رجب في شرح الأربعين: (فقوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " من جوامع الكلم؛ لا يخرج عنه شيء، و هو أصل عظيم من أصول الدين، و هو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " فكل من أحدث شيئًا و نسبَهُ إلى الدين، و لم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، و الدين بريء منه، و سواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة و الباطنة) [جامع العلوم و الحكم صلى الله عليه وسلم 233.] انتهى.
و ليس لهؤلاء حجة على أن هناك بدعة حسنة، إلا قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح: (نعمت البدعة هذه).
و قالوا أيضًا: أنها أُحدثت أشياء لم يستنكرها السلف، مثل جمع القرآن في كتاب واحد، و كتابة الحديث و تدوينه.
و الجواب عن ذلك أن هذه الأمور لها أصل في الشرع، فليست مُحدثة، و قول عمر: (نعمت البدعة) يريدُ البدعة اللُّغوية لا الشرعية، فما كان له أصل في الشرع يُرجَعُ إليه، إذا قيل: إنه بدعة، فهو بدعةٌ لغةً لا شرعًا؛ لأن البدعة شرعًا: ما ليس له أصل في الشرع. و جمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن، لكن كان مكتوبًا متفرقًا، فجمعة الصحابة رضي الله عنهم في مصحف و احد حفظًا له.(19/112)
و التراويح قد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليالي، و تخلَّفَ عنهم في الأخير خشية أن تفرض عليهم، و استمر الصحابةُ رضي الله عنهم يصلونها أوزاعًا متفرقين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم و بعد وفاته، إلى أن جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على إمام واحد كما كانوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، و ليس هذا بدعة في الدين.
و كتابة الحديث أيضًا لها أصل في الشرع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة بعض الأحاديث لبعض أصحابه؛ لما طلب منه ذلك، و كان أبو هريرة رضي الله عنه يكتب الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، و كان المحذور من كتابته بصفة عامة في عهده: خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، فلما تُوفي صلى الله عليه وسلم انتفى هذا المحذور؛ لأن القرآن قد تكامل، و ضبط قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، فدوَّنَ المسلمون الحديثَ بعد ذلك حفظًا له من الضياع، فجزاهُمُ الله عن الإسلام و المسلمين خيرًا؛ حيث حفظوا كتاب ربهم و سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم من الضياع و عبث العابثين.
الفصل الثاني
ظهور البدع في حياة المسلمين و الأسباب التي أدت إليها
1 ـ ظهور البدع في حياة المسلمين، وتحته مسألتان:
المسألة الأولى: وقت ظهور البدع:(19/113)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [مجموع الفتاوى (10 / 354 ). ]: واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعوم و العبادات إنما وقع في الأمة في أواخر عهد الخلفاء الراشدين، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " من يعش منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين " [رواه أبو داود و الترمذي و قال: حديث حسن صحيح.] و أول بدعة ظهرت: بدعةُ القدر، و بدعة الإرجاء، و بدعة التشيع و الخوارج، و لما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية، ثم في أواخر عصر الصحابة، حدثت القدرية في آخر عصر ابن عمر و ابن عباس و جابر وأمثالهم من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ و حدثت المرجئة قريبًا من ذلك، و أما الجهمية فإنما حدثوا في أواخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبد العزيز، و قد روي أنه أنذر بهم، و كان ظهور جهم بخُراسان في خلافة هشام بن عبد الملك.
هذه البدع ظهرت في القرن الثاني، و الصحابةُ موجودون، و قد أنكروا على أهلها، ثم ظهرت بدعة الاعتزال، و حدثت الفتن بين المسلمين، و ظهر اختلاف الآراء و الميل إلى البدع و الأهواء، و ظهرت بدعة التصوف، و بدعة البناء على القبور بعد القرون المفضلة، و هكذا كلما تأخر الوقت زادت البدع و تنوعت.
المسألة الثانية: مكان ظهر البدع:(19/114)
تختلف البلدان الإسلامية في ظهور البدع فيها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، و خرج منها العلم و الإيمان خمسة: الحرمان، و العراقان، والشام، منها خرج القرآن و الحديث، و الفقه و العبادة، و ما يتبع ذلك من أمور الإسلام، و خرج من هذه الأمصار بدع أصولية، غير المدينة المنورة، فالكوفة خرج منها التشيع و الإرجاء، و انتشر بعد ذلك في غيرها، و البصر خرج مناه القدر و الاعتزال و النسك الفاسد، و انتشر بعد ذلك في غيرها، و الشام كان بها النصب و القدر، و أما التجهم فإنما ظهر في ناحية خراسان، و هو شر البدع.
و كان ظهور ابدع بحسب البعد عن الدار النبوية، فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية، و أما المدينة النبوية، فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك، فكان عندهم مهانًا مذمومًا، إذ كان بها قوم من القدرية و غيرهم، و لكن كانوا مقهورين ذليلين، بخلاف التشيع و الإرجاء في الكوفة، و الاعتزال و بدع النساك بالبصرة، و النصب بالشام، فإنه كان ظاهرًا، و قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجَّالَ لا يدخلها، و لم يزل العلم و الإيمان ظاهرًا إلى زمن أصحاب مالك، و هم من أهل القرن الرابع ). [مجموع الفتاوى (20 / 300 ـ 303 ). ]
فأما العصور الثلاثة المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة البتة، و لا خرج منها بدعة في أصول الدين البتة، كما خرج من سائر الأمصار.
2 ـ الأسباب التي أدت إلى ظهور البدع:
مما لا شك فيه أن الاعتصام بالكتاب والسنة فيه منجاة من الوقوع في البدع والضلال، قال تعالى: {و أن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }. [الأنعام: 153. ](19/115)
و قد وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا فقال: " هذا سبيل الله " ثم خط خطوطًا عن يمينه، وعن شماله ثم قال: " وهذه سبل، على كل سبيل منهها الشيطان يدعو إليه " ثم تلا: {و أن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }. [رواه أحمد و ابن حبان والحاكم و غيرهم. ]
فمن أعرض عن الكتاب والسنة؛ تنازعته الطرق المضللة، و البدع المحدثة.
فالأسباب التي أدت إلى ظهور البدع تتلخص في الأمور التالية: الجهل بأحكام الدين، اتباع الهوى، التعصب للآراء و الأشخاص، التشبه بالكفار و تقليدهم، و نتناول هذه الأسباب بشيء من التفصيل:
أ ـ الجهل بأحكام الدين:
كلما امتد الزمن، وبعد الناس عن آثار الرسالة؛ قل العلم وفشا الجهل، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا " [من حديث رواه أبو داود و الترمذي و قال: حديث حسن صحيح. ]، وقوله: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق علمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ". [جامع بيان العلم و فضله لابن عبد البر (1 / 180 ). ]
فلا يقاوم البدع إلا العلم والعلماء، فإذا فقد العلم و العلماء أتيحت الفرصة للبدع أن تظهر و تنتشر، و لأهلها أن ينشطوا.
ب ـ اتباع الهوى:
من أعرض عن الكتاب و السنة اتبع هواه، كما قال تعالى:
{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يبتعون أهواءهم و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدي من الله }. [القصص: 50. ]
وقال تعالى: {أفرءيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم و ختم على سمععه وقلبه و جعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله }. [الجاثية: 23. ]
و البدع إنَّما هي نسيجُ الهوى المتَّبع.
جـ ـ التعصب للآراء و الرجال:(19/116)
التعصب للآراء و الرجال يحول بين المرء واتباع الدليل، و معرفة الحق، قال تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا }. [البقرة: 170. ]
و هذا هو الشأن في المتعصبين اليوم، من بعض أتباع المذاهب الصوفية و القبوريين، إذا دعوا إلى اتباع الكتاب و السنة، و نبذ ما هم عليه مما يخالفهما؛ احتجوا بمذاهبهم، و مشائخهم و آبائهم و أجدادهم.
د ـ التشبه بالكفار:
و هو من أشد ما يوقع في البدع، كما في حديث أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، و نحن حدثاء عهد بكفر، و للمشركين سدرة يعكفون عندها و ينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر، إنها السنن ! قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم ءالهة قال إنكم قوم تجهلون (138)} [الأعراف: 138.] لتركبن سنن من قبلكم ". [رواه الترمذي و صححه. ]
ففي هذا الحديث: أن التشبه بالكفار هو الذي حمل بني إسرائيل أن يطلبوا هذا الطلب القبيح، و هو أن يجعل لهم آلهة يعبدونها، و هو الذي حمل بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسألوه أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها من دون الله، و هذا نفس الواقع اليوم، فإن غالب الناس من المسلمين، قلدوا الكفار في عمل البدع و الشركيات، كأعياد الموالد، و إقامة الأيام و الأسابيع لأعمال مخصصة، و الاحتفال بالمناسبات الدينية و الذكريات، و إقامة التماثيل، و النصب التذكارية، و إقامة المآتم، و بدع الجنائز، و البناء على القبور، وغير ذلك.
الفصل الثالث
موقف الأمة الإسلامية من المبتدعة، و منهج أهل السنة و الجماعة في الرد عليهم
1 ـ موقف أهل السنة و الجماعة من المبتدعة:(19/117)
ما زال أهل السنة و الجماعة يردون على المبتدعة، و ينكرون عليهم بدعهم، و يمنعونهم من مزاولتها، و إليك نماذج من ذلك:
( أ) عن أم الدرداء قالت: (دخل علي أبو الدرداء مغضبًا، فقلت له: ما لك: فقال: و الله ما أعرف فيهم شيئًا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعًا ). [رواه البخاري. ]
( ب) عن عمر بن يحيى قال: (سمعتُ أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج عليكم أبو عبد الرحمن بعد ؟ فقلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرتهُ، و لم أرَ ـ و الحمد لله ـ إلا خيرًا، قال: و ما هو ؟ قال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، و في أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم ؟ فقال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك، أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، و ضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء ؟(19/118)
ثم مضى و مضينا معه؛ حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير و التهليل و التسبيح و التحميد، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، و يحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون، و هذه ثيابه لم تبل، و آنتيه لم تُكسر، و الذي نفسي بيده: إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: و الله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير، قال: و كم مريد للخير لن يصيبه ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، و ايم الله لا أدري لعل أكثرهم منكم. ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك يطاعنونا يوم النهروان مع الخوراج ). [رواه الدارمي. ]
( جـ) جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ فقال: من أين أحرم ؟ فقال: من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم و أحرم منه، فقال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه، فقال مالك: لا أرى ذلك، فقال: ما تكره من ذلك، قال: أكره عليك الفتنة، قال: و أي فتنة في ازدياد الخير ؟ فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن امره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63) }. [النور: 63. ]
و أي فتنة أعظم من أنك خصصت بفضل لم يختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! [ذكره أبو شامة في كتاب: الباعث على إنكار البدع و الحوادث نقلًا عن أبي بكر الخلال صلى الله عليه وسلم 14. ]
هذا نموذج، و لا زال العلماء ينكرون على المبتدعة في كل عصر، و الحمد لله.
2 ـ منهج أهل السنة والجماعة في الرد على أهل البدع:(19/119)
منهجهم في ذلك مبني على الكتاب و السنة، و هو المنهج المقنع المفحم، حيث يوردون شبه المبتدعة و ينقضونها، و يستدلون بالكتاب و السنة على وجوب التمسك بالسنن، و النهي عن البدع و المحدثات، و قد ألقوا المؤلفات الكثيرة في ذلك، و ردوا في كتب العقائد على الشيعة و الخوارج و الجهمية و المعتزلة و الأشاعرة، في مقالاتهم المبتدعة في أصول الإيمان و العقيدة، و ألفوا كتبًا خاصة في ذلك، كما ألف الإمام أحمد كتاب الرد على الجهمية، و ألف غيره من الأئمة في ذلك كعثمان بن سعيد الدارمي، و كما في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، و غيرهم، من الرد على تلك الفرق، و على القبورية و الصوفية، و أما الكتب الخاصة في الرد على أهل البدع، فهي كثيرة، منها على سبيل المثال من الكتب القديمة:
1 ـ كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي.
2 ـ كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد استغرق الرد على المتبدعة جزءًا كبيرًا منه.
3 ـ كتاب إنكار الحوادث و البدع لابن وضاح.
4 ـ كتاب إنكار الحوادث و البدع للطرطوشي.
5 ـ كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة.
ومن الكتب العصرية:
1 ـ كتاب الإبداع في مضار الابتداع للشيخ على محفوظ.
2 ـ كتاب السنن و المبتدعات المتعلقة بالأذكار و الصلوات للشيخ محمد بن أحمد الشقيري الحوامدي.
3 ـ رسالة التحذير من البدع لشيخ عبد العزيز بن باز.
ولا يزالُ علماء المسلمين ـ والحمد لله ـ ينكرون البدع و يردون على المبتدعة من خلال الصحف و المجلات والإذاعات و خطب الجمع و الندوات و المحاضرات، مما له كبير الأثر في توعية المسلمين، و القضاء على البدع و قمع المبتدعين.
الفصل الرابع
في بيان نماذج من البدع المعاصرة
وهي:
1 ـ الاحتفال بالمولد النبوي.
2 ـ التبرك بالأماكن و الآثار و الأموات و نحو ذلك.
3 ـ البدع في مجال العبادات و التقرب إلى الله.(19/120)
البدع المعاصرة كثيرة؛ بحكم تأخر الزمن، و قلة العلم، و كثرة الدعاة إلى البدع و المخالفات، و سريان التشبه بالكفار في عاداتهم و طقوسهم، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم ". [رواه الترمذي وصححه. ]
1 ـ الاحتفال بمناسبة المولد النبوي:
و هو تشبه بالنصارى في عمل ما يسمى بالاحتفال بمولد المسيح، فيحتفل جهلة المسلمين، أو العلماء المضلون في ربيع الأول أو في غيره من كل سنة بمناسبة مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. فمنهم من يقيم هذا الاحتفال في المساجد، و منهم من يقيمه في البيوت، أو الأمكنة المعدة لذلك، و يحضر جموع كثيرة من دهماء الناس و عوامهم، يعملون ذلك تشبهًا بالنصارى في ابتداعهم الاحتفال بمولد المسيح، عليه السلام، و الغالبُ أن هذا الاحتفال علاوة على كونه بدعة، وتشبهًا بالنصارى، لا يخلو من وجود الشركيات و المنكرات، كإنشاد القصائد التي فيها الغلو في حق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة دعائه من دون الله، و الاستغاثة به، و قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه فقال: " لا تطروني كما أطرت النصاى ابن مريم؛ إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله و رسوله " [رواه الشيخان. ]. وقد يصحب هذا الاحتفال اختلاط بين الرجال والنساء و فساد الأخلاق و ظهور المسكرات و غير ذلك.(19/121)
الإطراء معناه: الغلو في المدح، و ربما يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحضر احتفالاتهم، و من المنكرات التي تصاحب هذه الاحتفالات: الأناشيد الجماعية المنغمة و ضرب الطبول، و غير ذلك من عمل الأذكار الصوفية المبتدعة، و قد يكون فيه اختلاط بين الرجال والنساء، مما يسبب الفتنة، ويجر إلى الوقوع في الفواحش، وحتى لو خلا هذا الاحتفال من هذه المحاذير، و اقتصر على الاجتماع و تناول الطعام، و إظهار الفرح ـ كما يقولون ـ؛ فإنه بدعة محدثة (و كل محدثة بدعة، و كل بدعة ضلالة )، و أيضًا هو وسيلة إلى أن يتطور، و يحصل فيه ما يحصل في الاحتفالات الأخرى من المنكرات.
و قلنا: إنه بدعة؛ لأنه لا أصل له في الكتاب و السنة و عمل السلف الصالح و القرون المفضلة، و إنما حدث متأخرًا بعد القرن الرابع الهجري، أحدثه الفاطميون الشيعة، قال الإمام أبو حفص تاج الدين الفاكهاني ـ رحمه الله ـ: (أما بعد: فقد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول، و يسمونه المولد، هل له أصل في الدين، و قصدوا الجواب عن ذلك مبينًا، و الإيضاح عنه معينًا، فقلت ـ و بالله التوفيق ـ:
لا أعلم لهذا المولد أصلاُ في كتاب و لا سنة، و لا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها الباطلون، و شهوة نفس اغتنى بها الأكالون ). [رسالة المورد في عمل المولد. ](19/122)
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (و كذلك ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا... من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا، و مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف، و لو كان هذا خيرًا محضًا، أو راجحًا، لكان السلف ـ رضي الله عنهم ت أحق به منا، فإنهم كانوا اشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم و تعظيمًا له منا، و هم على الخير أحرص، و إنما كان محبته و تعظيمه في متابعته و طاعته، و اتباع امره وإحياء سنته باطنًا و ظاهرًا، و نشر ما بعث به، و الجهاد على ذلك بالقلب و اليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان) [اقتضاء الصراط المستقيم (2 / 615) بتحقيق الدكتور ناصر العقل.)... انهى ببعض اختصار.
و قد ألف في إنكار هذه البدعة كتب و رسائل قديمة و حديثة، و هو علاوة على كونه بدعة و تشبهًا، فإنه يجر إلى إقامة موالد أخرى كموالد الأولياء و المشائخ و الزعماء، فيفتح أبواب شر كثيرة.
2 ـ التبرك بالأماكن و الآثار و الأشخاص أحياء و أمواتًا:
من البدع المحدثة: التبرك بالمخلوقين، و هو لون من ألوان الوثنية، و شبكة يصطاد بها المرتزقة أموال السذج من الناس، و التبرك: طلب البركة و هي: ثبوت الخير في الشيء و زيادته، و طلب ثبوت الخير و زيادته إنما يكونُ ممن يملك ذلك و يقدر عليه، و هو الله سبحانه، فهو الذي ينزل البركة و يثبتها، أما المخلوق فإنه لا يقدر على منح البركة و إيجادها، و لا على إبقائها و تثبيتها، فالتبرك بالأماكن و الآثار و الأشخاص ـ أحياء و أمواتًا ـ لا يجوز؛ لأنه إما شرك، إن اعتقد أن ذلك الشيء يمنح البركة، أو وسيلة إلى الشرك إن اعتقد أن زيارته و ملامسته و التمسح به، سبب لحصولها من الله.(19/123)
و أما ما كان الصحابة يفعلونه من التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم و ريقه و ما انفصل من جسمه صلى الله عليه وسلم، خاصة كما تقدم [في صفحة 183. ]؛ فذلك خاص به صلى الله عليه وسلم و لم يكن الصحابة يتبركون بحجرته و قبره بعد موته، و لا كانوا يقصدون الأمكان التي صلى فيها أو جلس فيها؛ ليتبركوا بها، و كذلك مقامات الأولياء من باب أولى، و لم يكونوا يتبركون بالأشخاص الصالحين، كأبي بكر و عمر و غيرهما من أفاضل الصحابة، لا في الحاية و لا بعد الموت، و لم يكونوا يذهبون إلى غار حراء ليصلوا فيه أو يدعوا، و لم يكونوا يذهبون إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى ليصلوا فيه و يدعوا، أو إلى غير هذه الأمكنة منن الجبال التي يقال إن فها مقامات الأنبياء أو غيرهم، و لا إلى مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء.
وأيضًا فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة النبوية دائمًا لم يكن أحد من السلف يستلمه و لا يقبله، و لا موضع الذي صلى فيه بمكة و غيرها، فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه صلى الله عليه وسلم بقدميه الكريمتين، ويصلي عليه، لم يشرع لأمته التمسح به و لا تقبيله، فكيف بما يقال إن غيره صلى فيه أو نام عليه ؟ فتقبيل شيء من ذلك و التمسح به قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام: أن هذا ليس من شريعته صلى الله عليه وسلم. [انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2 / 795 ـ 802) تحقيق الدكتور ناصر العقل. ]
3 ـ البدع في مجال العبادات و التقرب إلى الله:
البدع التي أحدثت في مجال العبادات في هذا الزمان كثيرة، و الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع شيء منها إلا بدليل، و ما لم يدل عليه دليل فهو بدعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد ". [رواه مسلم. ]
و العبادات التي تمارس الآن و لا دليل عليها كثيرة جدًا، منها:(19/124)
الجهر بالنية للصلاة: بأن يقول: نويت أن أصلي لله كذا و كذا، و هذه بدعة؛ لأنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، و لأن الله تعالى يقول: {قل أتعلمون الله بدينكم و الله يعلم ما في السماوات و ما في الأرض و الله بكل شيء عليم (16) }. [الحجرات: 16. ]
و النية محلها القلب، فهي عمل قلبي لا يعمل لساني.
و منها: الذكر الجماعي بعد الصلاة، لأن المشروع أن كل شخص يقول الذكر الوارد منفردًا.
و منها: طلب قراءة الفاتحة في المناسبات، و بعد الدعاء، و للاموات.
و منها: إقامة المآتم على الأموات، و صناعة الأطعمة واستئجار المقرئين، يزعمون أن ذلك من باب العزاء، أو أن ذلك ينفع الميت، و كل ذلك بدع لا أصل لها، و آصار و أغلال ما أنزل الله بها من سلطان.
و منها: الاحتفال بالمناسبات الدينية، كمناسبة الإسراء و المعراج، و مناسبة الهجرية النبوية، و هذا الاحتفال بتلك المناسبات لا اصل له في الشرع.
و من ذلك: ما ييفعل في شهر رجب، و ما يفعل فيه من العبادات الخاصة به، كالتطوع بالصلاة و الصيام فيه خاصة، فإنه لا ميزة له على غيره من الشهور، لا في الصيام و الصلاة و الذبح للنسك فيه، و لا غير ذلك.
و من ذلك: الأذكار الصوفية بأنواعها، كلها بدع و محدثات، لأنها مخالفة للأذكار المشروعة في صيغها و هيئاتها و أوقاتها.
و من ذلك: تخصيص ليلة النصف من شعبان بقيام، و يوم النصف من شعبان بصيام، فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء خاص به.
و من ذلك: البناء على القبور، و اتخاذها مساجد، و زيارتها لأجل التبرك بها، و التوسل بالموتى، و غير ذلك من الأغراض الشركية، و زيارة النساء لها؛ مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور، و المتخذين عليها المساجد و السرج.(19/125)
و ختامًا نقول: إن البدع بريد الكفر، و ههي زيادة دين لم يشرعه اللهه ولا رسوله، و البدعة شر من المعصية الكبيرة، و الشيطان يفرح بها أكثر مما يفرح بالمعاصي الكبيرة؛ لأن العاصي يفعل المعصية و هو يعلم أنها معصية فيتوب منها، و المبتدع يفعل البدعة يعتقدها دينًا يتقرب به إلى الله، فلا يتوب منها، و البدع تقضي على السنن، و تكره إلى أصحابها فعل السنن و أهل السنة.
و البدعة تباعد عن الله، و توجب غضبه و عقابه، و تسبب زيغ القلوب و فسادها.
ما يعامل به المبتدعة:
تحرم زياة المبتدع و مجالسته إلا على وجه النصيحة له و الإنكار عليه؛ لأن مخالطته تؤثر على مخالطه شرًا، و تنشر عداوته إلى غيره، ويجب التحذير منهم، و من شرهم، إذا لم يكن الأخذ على أيديهم، و منعهم من مزاولة البدع، و إلا فإنه يجب على علماء المسلمين وولاة أمورهم منع البدع، و الأخذ على أيدي المبتدعة، و ردعهم عن شرهم؛ لأن خطرهم على الإسلام شديد، ثم إنه يجب أن يعلم أن دول الكفر تشجع المبتدعة على نشر بدعتهم، و تساعدهم على ذلك بشتى الطرق؛ لأن في ذلك القضاء على الإسلام، و تشويه صورته.
نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويخذل أعداءه، و صلى الله و سلم على نبينا محمد و آله و صحبه.(19/126)
أسئلة وأجوبة
في
مسائل الإيمان والكفر
لفضيلة الشيخ الدكتور
صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان
عضو اللجنة الدائمة للإفتاء وعضو هيئة كبار العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد.. فهذه أسئلة مهمة(1) من طلاب العلم والدعاة إلى الله إلى شيخنا الفاضل الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله تعالى وبارك فيه وفي علمه ، ونفع به الإسلام والمسلمين .. نقدمها إليه رجاءً منه بالإجابة بما يفتح الله عليه من الكتاب والسنة لعل الله أن ينفع بها :
السؤال الأول:
بمَ يكون الكفر الأكبر أو الردّة؟ هل هو خاص بالاعتقاد والجحود والتكذيب، أم هو أعم من ذلك؟
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فإن مسائل العقيدة مهمة جداً ، ويجب تعلم العقيدة بجميع أبوابها وجميع مسائلها وتلقيها عن أهل العلم ، فلا يكفي فيها إلقاء الأسئلة وتشتيت الأسئلة فيها ، فإنها مهما كثرت الأسئلة وأجيب عنها ، فإن الجهل سيكون أكبر . فالواجب على من يريد نفع نفسه ونفع إخوانه المسلمين أن يتعلم العقيدة من أولها إلى آخرها، وأن يلم بأبوابها ومسائلها ، ويتلقاها عن أهل العلم ومن كتبها الأصيلة ، من كتب السلف الصالح .. وبهذا يزول عنه الجهل ولا يحتاج إلى كثرة الأسئلة ، وأيضاً يستطيع هو أن يبين للناس وأن يعلم الجهّال، لأنه أصبح مؤهلاً في العقيدة.
كذلك لا يتلقى العقيدة عن الكتب فقط .. أو عن القراءة والمطالعة ، لأنها لا تؤخذ مسائلها ابتداءً من الكتب ولا من المطالعات ، وإنما تؤخذ بالرواية عن أهل العلم وأهل البصيرة الذين فهموها وأحكموا مسائلها ..
هذا هو واجب النصيحة ..
__________
(1) هذه الأسئلة عرضت على الشيخ وأجاب عليها ولكنها لم تعرض عليه بعد تفريغها من الشريط وكتابتها فلذلك جرى هذا التنبيه .(20/1)
أما ما يدور الآن في الساحة من كثرة الأسئلة حول العقيدة ومهماتها من أناس لم يدرسوها من قبل، أو أناس يتكلمون في العقيدة وأمور العقيدة عن جهل أو اعتماد على قراءتهم للكتب أو مطالعاتهم ، فهذا سيزيد الأمر غموضاً ويزيد الإشكالات إشكالات أخرى ، ويثبط الجهود ويحدث الاختلاف، لأننا إذا رجعنا إلى أفهامنا دون أخذ للعلم من مصادره، وإنما نعتمد على قراءتنا وفهمنا ، فإن الأفهام تختلف والإدراكات تختلف .. وبالتالي يكثر الاختلاف في هذه الأمور المهمة . وديننا جاءنا بالاجتماع والائتلاف وعدم الفرقة ، والموالاة لأهل الإيمان والمعاداة للكفار .. فهذا لا يتم إلا بتلقي أمور الدين من مصادرها ومن علمائها الذين حملوها عمن قبلهم وتدارسوها بالسند وبلغوها لمن بعدهم .. هذا هو طريق العلم الصحيح في العقيدة وفي غيرها ، ولكن العقيدة أهم لأنها الأساس ، ولأن الاختلاف فيها مجال للضلال ومجال للفرقة بين المسلمين.
والكفر والردّة يحصلان بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام ، فمن ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام المعروفة عند أهل العلم فإنه بذلك يكون مرتداً ويكون كافراً ، ونحن نحكم عليه بما يظهر منه من قوله أو فعله، نحكم عليه بذلك لأنه ليس لنا إلا الحكم بالظاهر، أما أمور القلوب فإنه لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. فمن نطق بالكفر أو فعل الكفر، حكمنا عليه بموجب قوله وبموجب نطقه وبموجب فعله إذا كان ما فعله أو ما نطق به من أمور الردّة .
السؤال الثاني:
هناك من يقول : " الإيمان قول واعتقاد وعمل، لكن العمل شرط كمال فيه " ، ويقول أيضاً : " لا كفر إلا باعتقاد " .. فهل هذا القول من أقوال أهل السنة أم لا؟
الجواب :
الذي يقول هذا ما فهم الإيمان ولا فهم العقيدة ، وهذا هو ما قلناه في إجابة السؤال الذي قبله : من الواجب عليه أن يدرس العقيدة على أهل العلم ويتلقاها من مصادرها الصحيحة، وسيعرف الجواب عن هذا السؤال.(20/2)
وقوله : إن الإيمان قول وعمل واعتقاد .. ثم يقول : إن العمل شرط في كمال الإيمان وفي صحته، هذا تناقض !! كيف يكون العمل من الإيمان ثم يقول العمل شرط، ومعلوم أن الشرط يكون خارج المشروط، فهذا تناقض منه . وهذا يريد أن يجمع بين قول السلف وقول المتأخرين وهو لا يفهم التناقض، لأنه لا يعرف قول السلف ولا يعرف حقيقة قول المتأخرين ، فأراد أن يدمج بينهما .. فالإيمان قول وعمل واعتقاد ، والعمل هو من الإيمان وهو الإيمان، وليس هو شرطاً من شروط صحة الإيمان أو شرط كمال أو غير ذلك من هذه الأقوال التي يروجونها الآن . فالإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
السؤال الثالث:
هل الأعمال ركن في الإيمان وجزء منه أم هي شرط كمال فيه؟
الجواب :
هذا قريب من السؤال الذي قبله، سائل هذا السؤال لا يعرف حقيقة الإيمان. فلذلك تردد : هل الأعمال جزء من الإيمان أو أنها شرط له ؟ لأنه لم يتلق العقيدة من مصادرها وأصولها وعن علمائها. وكما ذكرنا أنه لا عمل بدون إيمان ولا إيمان بدون عمل ، فهما متلازمان ، والأعمال هي من الإيمان بل هي الإيمان : الأعمال إيمان، والأقوال إيمان، والاعتقاد إيمان ، ومجموعها كلها هو الإيمان بالله عز وجل، والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره.
السؤال الرابع:
ما أقسام المرجئة ؟ مع ذكر أقوالهم في مسائل الإيمان ؟
الجواب :
المرجئة أربعة أقسام :
القسم الأول : الذين يقولون الإيمان وهو مجرد المعرفة ، ولو لم يحصل تصديق .. وهذا قول الجهمية، وهذا شر الأقوال وأقبحها ، وهذا كفر بالله عز وجل لأن المشركين الأولين وفرعون وهامان وقارون وإبليس كلٌ منهم يعرفون الله عز وجل ، ويعرفون الإيمان بقلوبهم، لكن لما لم ينطقوه بألسنتهم ولم يعملوا بجوارحهم لم تنفعهم هذه المعرفة .(20/3)
القسم الثاني: الذين قالوا إن الإيمان هو تصديق القلب فقط ، وهذا قول الأشاعرة، وهذا أيضاً قول باطل لأن الكفار يصدقون بقلوبهم، ويعرفون أن القرآن حق وأن الرسول حق ، واليهود والنصارى يعرفون ذلك : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) فهم يصدقون به بقلوبهم ! قال تعالى في المشركين : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) ..فهؤلاء لم ينطقوا بألسنتهم ،ولم يعملوا بجوارحهم مع إنهم يصدقون بقلوبهم فلا يكونون مؤمنين.
الفرقة الثالثة: التي تقابل الأشاعرة وهم الكرَّامية ، الذين يقولون : إن الإيمان نطق باللسان ولو لم يعتقد بقلبه ، ولا شك أن هذا قول باطل لأن المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار يقولون : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله بألسنتهم ، ولكنهم لا يعتقدون ذلك ولا يصدقون به بقلوبهم ، كما قال تعالى: ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ @ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ، قال سبحانه وتعالى : ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ )
الفرقة الرابعة: وهي أخف الفرق في الإرجاء ، الذين يقولون إن الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان ولا يدخل فيه العمل وهذا قول مرجئة الفقهاء وهو قول باطل أيضا .
السؤال الخامس:
هل خلاف أهل السنة مع مرجئة الفقهاء في أعمال القلوب أو الجوارح؟ وهل الخلاف لفظي أو معنوي ؟ نرجو من فضيلتكم التفصيل.
الجواب :(20/4)
خلافهم في العمل ، خلاف مرجئة الفقهاء مع جمهور أهل السنة هو اختلاف في العمل الظاهر ، كالصلاة والصيام والحج، فهم يقولون إنه ليس من الإيمان وإنما هو شرط للإيمان، إما شرط صحة وإما شرط كمال ، وهذا قول باطل كما عرفنا .
والخلاف بينهم وبين جمهور أهل السنة خلاف معنوي وليس خلافاً لفظي، لأنهم يقولون إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص بالأعمال ، فلا يزيد بالطاعة ولا ينقص بالمعصية .. وإيمان الناس سواء لأنه عندهم التصديق بالقلب مع القول باللسان ! وهذا قول باطل.
السؤال السادس:
ما حكم من ترك جميع العمل الظاهر بالكلية لكنه نطق بالشهادتين ويقر بالفرائض لكنه لا يعمل شيئاً البتة، فهل هذا مسلم أم لا ؟ علماً بأن ليس له عذر شرعي يمنعه من القيام بتلك الفرائض ؟
الجواب:
هذا لا يكون مؤمناً، من كان يعتقد بقلبه ويقر بلسانه ولكنه لا يعمل بجوارحه ، عطّل الأعمال كلها من غير عذر هذا ليس بمؤمن، لأن الإيمان كما ذكرنا وكما عرفه أهل السنة والجماعة أنه : قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، لا يحصل الإيمان إلا بمجموع هذه الأمور، فمن ترك واحداً منها فإنّه لا يكون مؤمناً .
السؤال السابع:
هل تصح هذه المقولة: " من قال الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص فقد بريء من الإرجاء كله حتى لو قال لا كفر إلا باعتقاد وجحود " ؟
الجواب:
هذا تناقض !! إذا قال لا كفر إلا باعتقاد أو جحود فهذا يناقض قوله إن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، هذا تناقض ظاهر ، لأنه إذا كان الإيمان قول باللسان واعتقاد الجنان وعمل بالجوارح وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية … فمعناه أنه من تخلى من شيء من ذلك فإنه لا يكون مؤمناً .
السؤال الثامن:
هل هذا القول صحيح أم لا : ( أن من سب الله وسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس بكفر في نفسه ، ولكنه أمارة وعلامة على ما في القلب من الاستخفاف والاستهانة ) ؟
الجواب:(20/5)
هذا قول باطل، لأن الله حكم على المنافقين بالكفر بعد الإيمان بموجب قولهم : ( ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أجبن عند اللقاء ) يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأنزل الله فيهم قوله سبحانه وتعالى : ( قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ @ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) ، فكفّرهم بهذه المقالة ولم يشترط في كفرهم أنهم كانوا يعتقدون ذلك بقلوبهم، بل إنه حكم عليهم بالكفر بموجب هذا المقالة . وكذلك قوله تعالى : ( وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) فرتب الكفر على قول كلمة الكفر .
السؤال التاسع:
ما حكم من يسب الله ورسوله ويسب الدين فإذا نُصح في هذا الأمر تعلَّل بالتكسب وطلب القوت والرزق ، فهل هذا كافر أم هو مسلم يحتاج إلى تعزير وتأديب ؟ وهل يقال هنا بالتفريق بين السب والساب ؟
الجواب :
لا يجوز للإنسان أن يكفر بالله بالقول أو بالفعل أو بالاعتقاد ويقول إن هذا لأجل طلب الرزق، فالرزق عند الله سبحانه وتعالى ، والله جل وعلا يقول: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) ، فالرزق بيد الله عز وجل ، والله جل وعلا حكم بالكفر على من آثر الدنيا على الآخرة ، قال سبحانه وتعالى في وصف المرتدين والمنافقين : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) ، فحكم عليهم بأنهم تركوا إيمانهم بسبب أنهم يريدون أن يعيشوا مع الناس ويكونوا مع الناس ، ( وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) ، فلو توكلوا على الله لرزقهم الله عز وجل .
السؤال العاشر:(20/6)
ما هو القول فيمن نصب الأصنام والأضرحة والقبور ، وبنى عليها المساجد والمشاهد ، وأوقف عليها الرجال والأموال ، وجعل لها هيئات تشرف عليها ، ومكَّن الناس من عبادتها والطواف حولها ودعائها والذبح لها ؟
الجواب :
هذا حكمه أنه يكفر بهذا العمل، لأن فعله هذا دعوة للكفر .
إقامته للأضرحة وبناؤه لها ودعوة الناس إلى عبادتها وتنصيب السدنة لها، هذا يدل على رضاه بهذا الأمر ، وعلى أنه يدعو إلى الكفر ويدعوا إلى الضلال والعياذ بالله .
السؤال الحادي عشر:
هل تصح الصلاة خلف إمام يستغيث بالأموات ويطلب المدد منهم أم لا ؟
وماذا عن رجل يكذب ويتعمد الكذب و يؤذي الصالحين ويؤم الناس. هل يقدم في الصلاة إذا عرف عنه الكذب والفسوق؟
الجواب :
لا تصح الصلاة خلف المشرك الذي شركه شرك أكبر يخرج من الملة ، ودعاء الأموات والاستغاثة بهم ، هذا شرك أكبر يخرج من الملّة .
فهذا ليس بمسلم لا تصح صلاته في نفسه ولا تصح صلاة من خلفه، إنما يشترط للإمام أن يكون مؤمناً بالله وبرسوله ، ويكون عاملاً بدين الإسلام ظاهراً وباطناً .
أما الرجل الأخر وما يفعله فهذه كبائر من كبائر الذنوب : الكذب، واكتساب الكبائر التي دون الشرك وأذية المسلمين .. هذه كبائر من كبائر الذنوب، لا تقتضي الكفر ، ولا ينبغي أن يُنصَّب إماماً للناس، لكن من جاء ووجدهم يصلون وهو يصلي بهم، يصلي خلفه ولا يصلي منفرداً، إلى أن يجد إماماً صالحاً مستقيماً فيذهب إليه.
السؤال الثاني عشر:
هناك بعض الأحاديث التي يستدل بها البعض على أن من ترك جميع الأعمال بالكلية فهو مؤمن ناقص الإيمان .. كحديث ( لم يعملوا خيراً قط ) وحديث البطاقة وغيرها من الأحاديث ؛ فكيف الجواب على ذلك ؟
الجواب :(20/7)
هذا من الاستدلال بالمتشابه ، هذه طريقة أهل الزيغ الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) ، فيأخذون الأدلة المتشابهة ويتركون الأدلة المحكمة التي تفسرها وتبينها .. فلا بد من رد المتشابهة إلى المحكم، فيقال من ترك العمل لعذر شرعي ولم يتمكن منه حتى مات فهذا معذور ، وعليه تحمل هذه الأحاديث .. لأن هذا رجل نطق بالشهادتين معتقداً لهما مخلصاً لله عز وجل ، ثم مات في الحال أو لم يتمكن من العمل ، لكنه نطق بالشهادتين مع الإخلاص لله والتوحيد كما قال صلى الله عليه وسلم : ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله فقد حرم دمه وماله ) .. وقال : ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) ، هذا لم يتمكن من العمل مع انه نطق بالشهادتين واعتقد معناهما وأخلص لله عز وجل، لكنه لم يبق أمامه فرصة للعمل حتى مات فهذا هو الذي يدخل الجنة بالشهادتين ، وعليه يحمل حديث البطاقة وغيره مما جاء بمعناه ، والذين يُخرجون من النار وهم لم يعملوا خيراً قط لأنهم لم يتمكنوا من العمل مع أنهم نطقوا بالشهادتين ودخلوا في الإسلام، هذا هو الجمع بين الأحاديث.
السؤال الثالث عشر:
ما حكم من يدعو غير الله وهو يعيش بين المسلمين وبلغه القرآن ، فهل هذا مسلم تلبس بشرك أم هو مشرك ؟
الجواب :
من بلغه القرآن والسنة على وجه يستطيع أن يفهمه لو أراد ثم لم يعمل به ولم يقبله فإنه قد قامت عليه الحجة ، ولا يعذر بالجهل لأنه بلغته الحجة ، والله جل وعلا يقول: ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) ، سواء كان يعيش مع المسلمين أو يعيش مع غير المسلمين .. فكل من بلغه القرآن على وجه يفهمه لو أراد الفهم ثم لم يعمل به فإنه لا يكون مسلماً ولا يعذر بالجهل.
السؤال الرابع عشر:(20/8)
هل يشترط في إقامة الحجة فهم الحجة فهماً واضحاً جلياً أم يكفي مجرد إقامتها ؟ نرجو التفصيل في ذلك مع ذكر الدليل ؟
الجواب :
هذا ذكرناه في الجواب الذي قبل هذا، أنه إذا بلغه الدليل من القرآن أو من السنة على وجه يفهمه لو أراد .. أي بلغه بلغته ، وعلى وجه يفهمه ، ثم لم يلتفت إليه ولم يعمل به فهذا لا يعذر بالجهل لأنه مفرِّط .
السؤال الخامس عشر:
هل تكفير شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – للطائفة الممتنعة من أداء شعيرة الزكاة - حين فعل هذا من ارتد من العرب - لأجل جحدهم للوجوب أم لأجل مجرد المنع وعدم الالتزام بالأداء ؟
الجواب :
هذا فصّل فيه أهل العلم، قالوا إن مانع الزكاة إن كان يجحد وجوبها فهذا كافر ويقاتل قتال ردة ، وأما إن كان منعه لها من أجل بخل وهو يعتقد وجوبها فهذا يقاتل حتى يخضع لأداء الزكاة فلا يحكم بكفره، فيقاتل امتناعاً لمنعه الزكاة حتى تؤخذ منه. وأما ما نُسب إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى أنه كفرهم مطلقاً فأنا لم أطلع على هذا الكلام .
السؤال السادس عشر:
ما حكم تنحية الشريعة الإسلامية واستبدالها بقوانين وضعية كالقانون الفرنسي البريطاني وغيرها ، مع جعله قانوناً ينص فيه على أن قضايا النكاح والميراث بالشريعة الإسلامية ؟
الجواب :
من نحّى الشريعة الإسلامية نهائياً وأحل مكانها القانون فهذا دليل على أنه يرى جواز هذا الشيء ، لأنه ما نحاها وأحل محلها القانون إلا لأنه يرى أنها أحسن من الشريعة ، ولو كان يرى أن الشريعة أحسن منها لما أزاح الشريعة وأحل محلها القانون، فهذا كفر بالله عز وجل .
أما من نص على أن قضايا النكاح والميراث فقط تكون على حسب الشريعة ، هذا يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، يعني يحكّم الشريعة في بعض، ويمنعها في بعض، والدين لا يتجزأ، تحكيم الشريعة لا يتجزأ، فلا بد من تطبيق الشريعة تطبيقا كاملاً، ولا يطبق بعضها ويترك بعضها .
السؤال السابع عشر:(20/9)
ما حكم من يقول بأن من قال : أن من ترك العمل الظاهر بالكلية بما يسمى عند بعض أهل العلم بجنس العمل أنه كافر ؛ أن هذا القول قالت به فرقة من فرق المرجئة ؟
الجواب :
هذا كما سبق. أن العمل من الإيمان، العمل إيمان، فمن تركه يكون تاركاً للإيمان، سواء ترك العمل كله نهائياً فلم يعمل شيئاً أبداً، أو أنه ترك بعض العمل لأنه لا يراه من الإيمان ولا يراه داخلاً في الإيمان فهذا يدخل في المرجئة .
السؤال الثامن عشر:
هل تكفير السلف - رضوان الله عليهم – للجهمية ، كفر أكبر مخرج من الملة أم هو كفر دون كفر والمراد منه الزجر والتغليظ فقط ؟
الجواب :
تكفير السلف للجهمية تكفير بالكفر الأكبر لأنهم جحدوا كلام الله عز وجل، قالوا : كلام الله مخلوق ، وجحدوا أسماء الله وصفاته فهم معطلة ، وهم مكذبون لما في القرآن وما في السنة من إثبات أسماء الله وصفاته ، وأيضاً يعتقدون بالحلول وأن الله تعالى حال في كل مكان تعالى الله عمّا يقولون . فمقالاتهم تقتضي الكفر الأكبر، فتكفير السلف لهم هو من التكفير بالكفر الأكبر، إلا من كان جاهلاً مقلداً اتبعهم وهو يظن أنهم على حق ولم يعرف مذهبهم ولم يعرف حقيقة قولهم فهذا قد يعذر بالجهل.
السؤال التاسع عشر:
هل إطلاقات السلف في تكفير أعيان الجهمية كتكفير الشافعي لحفص الفرد حين قال بخلق القرآن فقال له الشافعي : كفرت بالله العظيم ؛ كما نقل ذلك اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة ، وكتكفير الجهم بن صفوان وبشر المريسي والنظَّام وأبو الهذيل العلاّف كما ذكر ذلك ابن بطة في الإبانة الصغرى … يراد منه تكفير أعيان هؤلاء أم تكفير ألفاظهم لا أعيانهم ؟
الجواب :
من نطق بالكفر أو فعل الكفر فإنه يكفر بعينه ، فمن فعل الكفر أو نطق به وهو ليس ممن يعذر بالجهل فإنه يكفر بعينه ، ونحكم عليه بالكفر .
السؤال العشرون:(20/10)
ترد بعض الإصطلاحات في كتب أهل السنة مثل : الالتزام، الإقناع، كفر الإعراض، فما معنى هذه المصطلحات؟
الجواب :
الكفر أنواع: منه كفر الإعراض وكفر التكذيب ومنه كفر الجحود، كل هذه أنواع من الكفر، فالكفر ليس نوعاً واحداً وإنما هو أنواع . وأيضا الكفر ينقسم إلى كفر أكبر مخرج من الملة ، وكفر أصغر لا يخرج من الملّة، فلا بد من دراسة هذه الأمور ومعرفتها بالتفصيل، فالكفر ليس على حد سواء.
السؤال الحادي والعشرون:
ما معنى قول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الناقض الثالث من نواقض الإسلام : " من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فهو مثلهم " ؟
الجواب :
أي نعم هو كذلك، لأنه رضي بما هم عليه ووافقهم على ما هم عليه، فمن لم يكفرهم أو رضي بما هم عليه أو دافع دونهم فإنّه يكون كافراً مثلهم، لأنه رضي بالكفر وأقرّه ولم ينكره.
السؤال الثاني والعشرون:
ما حكم من يقول : ( إن الشخص إذا لم يكفر النصارى لعدم بلوغ آية سورة المائدة : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ...} فإنه لا يكفر حتى يعلم بالآية ) ؟
الجواب :
ليس تكفير اليهود والنصارى قاصراً على سورة المائدة، بل تكفيرهم كثير في القرآن ، وأيضاً كفرهم ظاهر من أقوالهم وأفعالهم وما في كتبهم التي يتدارسونها ، مثل قولهم : المسيح ابن الله، أو قولهم إن الله ثالث ثلاثة، وقولهم إن الله هو المسيح ابن مريم، أو قول اليهود إن عزيراً ابن الله، أو أن الله فقير ونحن أغنياء أو يد الله مغلولة .. أو غير ذلك مما هو موجود في كتبهم التي في أيديهم، فكفرهم ظاهر في غير سورة المائدة.
السؤال الثالث والعشرون:
ما الدليل على مشروعية شروط شهادة : أن لا إله إلا الله ، من العلم والانقياد والصدق والإخلاص والمحبة والقبول واليقين ، وما الحكم في من يقول " تكفي شهادة أن لا إله إلا الله بمجرد قولها دون هذه الشروط " ؟
الجواب :(20/11)
هذا إمّا أنه مضلل، يريد تضليل الناس وإمّا أنه جاهل يقول ما لا يعلم. فلا إله إلا الله ليست مجرد لفظ، بل لا بد لها من معنى ومقتضى، ليست مجرد لفظ يقال باللسان . والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ) ، أو قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) ، إلا بحق لا إله إلا الله .. فلم يكتف بمجرد قولهم لا إله إلا الله إذا لم يلتزموا بحقها وهو العمل بمقتضاها ومعرفة معناها، فليست لا إله إلا الله مجرد لفظ يقال باللسان .. ومنها تؤخذ هذه الشروط العشرة التي ذكرها أهل العلم.
السؤال الرابع والعشرون:
نرجو تفسير قوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } الآية تفسيراً مفصَّلاً مع بيان حكم الإكراه في هذه الآية ؟
الجواب :(20/12)
هذه الآية تدل على أن من نطق بكلمة الكفر مكرهاً عليها وهو غير معتقد لها، وإنما قالها ليتخلص بها من الإكراه فإنه معذور. كما في قصة عمّار بن ياسر رضي الله عنه لمّا أجبره المشركون على أن يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآذوه وأبوا أن يطلقوه حتى يسب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فتكلم بلسانه بما يطلبون منه، وجاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كيف تجد قلبك؟ قال: أجد في قلبي الإيمان بالله ورسوله، فأنزل الله تعالى ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ @ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ)
فإذا قال الإنسان كلمة الكفر مكرهاًَ عليها يريد التخلص من الإكراه فقط ولم يوافقه بقلبه فإنها رخصة رخص الله فيها للمكره، وهذه خاصة بالمكره دون غيره. وكذلك في قوله: ( إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) أي من الكفار ، فهذا في الإكراه ، وأما في غير الإكراه فلا يجوز موافقتهم ولا إعطائهم ما يطلبون من كلام الكفر أومن فعل الكفر.
السؤال الخامس والعشرون:
ما حكم موالاة الكفار والمشركين؟ ومتى تكون هذه الموالاة كفراً أكبر مخرجاً عن الملّة؟ ومتى تكون ذنباً وكبيرة من كبائر الذنوب؟
الجواب :(20/13)
الله جلّ وعلى يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، وقوله سبحانه : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) ، فيجب معاداة الكفار وبغضهم وعدم مناصرتهم على المسلمين ، وقطع الصلة معهم من ناحية المودة والمحبة وبغض ما هم عليه من الكفر، كل هذا يجب على المسلم أن يقاطعهم فيه وأن يبتعد عنهم ولا يحبهم ولا يناصرهم على المسلمين ولا يدافع عنهم ولا يصحح مذهبهم، بل يصرح بكفرهم وينادي بكفرهم وضلالهم ويحذر منهم .
السؤال السادس والعشرون:
ما هي نصيحتكم لطلبة العلم لمن أراد ضبط مسائل التوحيد والشرك ومسائل الإيمان والكفر ؟ وما هي الكتب التي تكلمت عن هذه المسائل وفصَّلتها ؟
الجواب :(20/14)
هذا أشرنا إليه في مطلع الأجوبة ، بأن المعتمد في هذا كتب السلف الصالح . فعليه أن يراجع كتب سلف هذه الأمة من الأئمة الأربعة وقبلهم الصحابة والتابعون وأتباعهم والقرون المفضلة، وهذا موجود في كتبهم ولله الحمد ، في كتب الإيمان وكتب العقيدة وكتب التوحيد المتداولة المعروفة عن الأئمة الكبار رحمهم الله ، مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكتب الإمام ابن القيم ، وكتب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب .. وكتب السلف الصالح : مثل كتاب الشريعة للآجري ، والسنة لعبدالله بن الإمام أحمد، والسنّة للخلال ، ومثل كتاب العقيدة الطحاوية وشرحها للعز بن أبي العز … كل هذه من كتب أهل السنة ومن العقائد الصحيحة الموروثة عن السلف الصالح فليراجعها المسلم. ولكن كما ذكرنا لا يكفي الاقتصار على مطالعة الكتب وأخذ العلم عنها بدون معلم وبدون مدرس، بل لا بد من اللقاء مع العلماء ولابد من الجلوس في حلقات التدريس، إما الفصول الدراسية وإما في حلق العلم في المساجد ومجالس العلم، فلا بد من تلقي العلم عن أهله سواء في العقيدة أو في غير العقيدة ، و لكن العقيدة الحاجة أشد في هذا لأنها هي الأساس ، ولأن الغلط والخطأ فيها ليس كالخطأ والغلط في غيرها.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(20/15)
شرح
العقيدة الواسطية
لفضيلة الشيخ
صالح بن فوزان الفوزان
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
وبعد :
فهذا شرح مختصر على العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية جمعته من المصادر التالية :
1- " الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية " للشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض .
2- " التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية " للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد .
3- " التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة " للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي .
4- نقلت من فوائد علقتها على نسختي وقت الطلب .
5- وفيما يتعلق بتفسير الآيات نقلت من كتب التفسير " كفتح القدير " للإمام محمد بن علي الشوكاني . و " تفسير القرآن العظيم " للشيخ : إسماعيل بن كثير .
وكانت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قد طبعته عدة مرات ووزعته على طلبة المرحلة الثانوية فشكر الله للقائمين عليها وزادهم من الخير والتوفيق لما فيه صلاح المسلمين .
كما أني أسال الله أن ينفع به ويجعله مؤديًا للمطلوب من توضيح هذه العقيدة العظيمة وأن يغفر لي ما وقع مني من خطأ ويثيبني على ما فيه من صواب إنه سميع مجيب وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين .
المؤلف
قال المصنف :
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح :
ابتدأ المصنف ـ رحمه الله ـ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز حيث جاءت البسملة في ابتداء كل سورة ما عدا سورة براءة . واقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث كان يبدأ بها في مكاتباته .
وقوله : { بِسْمِ اللَّهِ } الباء للاستعانة .
والاسم في اللغة : ما دل على مسمى . وفي الاصطلاح : ما دل على معنى في نفسه ولم يقترن بزمان .
والجار والمجرور متعلق بمحذوف ينبغي أن يقدر متأخرًا ليفيد الحصر .(21/1)
والله : علم على الذات المقدسة، ومعناه : ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين . مشتق من أله يأله ألوهة، بمعنى عبد يعبد عبادة . فالله إله بمعنى مألوه أي معبود .
و { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } : اسمان كريمان من أسمائه الحسنى دالان على اتصافه تعالى بالرحمة على ما يليق بجلاله . فالرحمن : ذو الرحمة العامة لجميع المخلوقات . والرحيم : ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين، كما قال تعالى : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } .
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدًا . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا مزيدًا ـ .
الشرح :
افتتح هذه الرسالة الجليلة بهذه الخطبة المشتملة على حمد الله والشهادتين والصلاة على رسوله تأسيًا بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أحاديثه وخطبه، وعملًا بقوله : ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع ) رواه أبو داود وغيره . ويروى : ( ببسم الله الرحمن الرحيم ) ومعنى أقطع : أي معدوم البركة . ويجمع بين الروايتين للحديث بأن الابتداء ببسم الله حقيقي وبالحمد لله نسبي إضافي .
قوله : { الحمد لله } الألف واللام للاستغراق، أي : جميع المحامد لله ملكًا واستحقاقًا . والحمد لغة : الثناء بالصفات الجميلة والأفعال الحسنة . وعرفًا : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا وهو ضد الذم .
{ لله } تقدم الكلام على لفظ الجلالة .(21/2)
{ الذي أرسل رسوله } الله سبحانه يحمد على نعمه التي لا تحصى ومن أجل هذه النعم أن { أرسل } أي : بعث { رسوله } محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ . والرسول لغة : من بعث برسالة . وشرعًا : هو إنسان ذكر أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه . { بالهدى } أي : العلم النافع وهو كل ما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإخبارات الصادقة والأوامر والنواهي وسائر الشرائع النافعة .
والهدى نوعان :
النوع الأول : هدى بمعنى الدلالة والبيان، ومنه قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } الآية ( 17 ) فصلت . وهذا يقوم به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
النوع الثاني : هدى بمعنى التوفيق والإلهام وهذا هو المنفي عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يقدر عليه إلا الله تعالى كما في قوله تعالى : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } [ القصص الآية : 56 ] . ( ودين الحق ) هو العمل الصالح . والدين يطلق ويراد به الجزاء، كقوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } . ويطلق ويراد به الخضوع والانقياد، وإضافة الدين إلى الحق من إضافة الموصوف إلى صفته ـ أي الدين الحق ـ والحق مصدر : حق يحق بمعنى ثبت ووجب، وضده الباطل .
{ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } أي : ليعليه على جميع الأديان بالحجة والبيان والجهاد حتى يظهر على مخالفيه من أهل الأرض من عرب وعجم مليين ومشركين . وقد وقع ذلك فإن المسلمين جاهدوا في الله حق جهاده حتى اتسعت رقعة البلاد الإسلامية وانتشر هذا الدين في المشارق والمغارب .(21/3)
{ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } أي : شاهدًا أنه رسوله ومطلع على جميع أفعاله وناصره على أعدائه وفي ذلك دلالة قاطعة على صدق هذا الرسول، إذ لو كان مفتريًا لعاجله الله بالعقوبة كما قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } [ الحاقة : الآيتان 44 ـ 45 ] .
( وأشهد أن لا إله إلا الله ) أي : أقر وأعترف أن لا معبود بحق إلا الله ( وحده لا شريك له ) في هاتين الكلمتين تأكيد لما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله من النفي والإثبات : نفي الإلهية عما سوى الله وإثباته لله فقوله : ( وحده ) تأكيد للإثبات، وقوله : ( لا شريك له ) تأكيد للنفي .
وقوله : ( إقرارًا به وتوحيدًا ) مصدران مؤكدان لمعنى الجملة السابقة . ( وأشهد أن لا إله إلا الله ) إلخ، أي : إقرارًا باللسان وتوحيدًا . أي : إخلاصًا في كل عبادة قولية أو فعلية أو اعتقادية .
وقوله : ( وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ) أي : أقر بلساني وأعتقد بقلبي أن الله أرسل عبده محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الناس كافة لأن الشهادة لهذا الرسول بالرسالة مقرونة بالشهادة لله بالتوحيد لا تكفي إحداهما عن الأخرى . وفي قوله : ( عبده ورسوله ) رد على أهل الإفراط والتفريط في حق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأهل الإفراط غلوا في حقه ورفعوه فوق منزلة العبودية . وأهل التفريط قد نبذوا ما جاء به وراء ظهورهم كأنه غير رسول فشهادة أنه عبد الله تنفي الغلو فيه ورفعه فوق منزلته . وشهادة أنه رسول الله تقتضي : الإيمان به وطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه، واتباعه فيما شرع .(21/4)
وقوله : ( صلى الله عليه ) الصلاة لغة : الدعاء، وأصح ما قيل في معنى الصلاة من الله على الرسول : ما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال : صلاة على رسوله ثناؤه عليه في الملأ الأعلى . ( وعلى آله ) آل الشخص من ينتمون إليه بصلة وثيقة من قرابة ونحوها . وأحسن ما قيل في المراد بآل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا أنهم أتباعه على دينه . ( وأصحابه ) جمع صاحب . من عطف الخاص على العام . والصحابي : هو من لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمنًا به ومات على ذلك .
( وسلم تسليمًا مزيدًا ) السلام بمعنى التحية، أو السلامة من النقائص والرذائل . وقوله : ( مزيدًا ) اسم مفعول من الزيادة وهي النمو . وجمع بين الصلاة والسلام امتثالًا لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } الآية [ الأحزاب : 56 ] .
أما بعد : فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة .
الشرح :
( أما بعد ) هذه الكلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، ومعناها : مهما يكن من شيء . ويستحب الإتيان بها في الخطب والمكاتبات اقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث كان يفعل ذلك . ( فهذا ) إشارة إلى ما تضمنته هذه الرسالة واحتوت عليه من العقائد الإيمانية التي أجملها بقوله : ( وهو الإيمان بالله ـ إلخ ) .
( اعتقاد ) مصدر : اعتقد كذا إذا اتخذه عقيدة، والعقيدة : هي ما يعقد عليه المرء قلبه . تقول اعتقدت كذا، أي : عقدت عليه القلب والضمير . وأصله مأخوذ من عقد الحبل إذا ربطه . ثم استعمل في عقيدة القلب وتصميمه الجازم .
( الفرقة ) أي : الطائفة والجماعة . ( الناجية ) أي : التي سلمت من الهلاك والشرور في الدنيا والآخرة وحصلت على السعادة . وهذا الوصل مأخوذ من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ) رواه البخاري ومسلم .(21/5)
( المنصورة ) أي : المؤيدة على من خالفها ( إلى قيام الساعة ) أي : مجيء ساعة موتهم بمجيء الريح التي تقبض روح كل مؤمن، فهذه هي الساعة في حق المؤمنين . وأما الساعة التي يكون بها انتهاء الدنيا فهي لا تقوم إلا على شرار الناس لما في صحيح مسلم . ( لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله ) وروى الإمام الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ وفيه : ( ويبعث الله ريحًا ريحها ريح المسك ومسها مس الحرير فلا تترك أحدًا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة ) .
أهل السنة والجماعة
الشرح :
( أهل السنة ) أهل بالكسر على أنه بدل من الفرقة، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره ( هم ) . والسنة : هي الطريقة التي كان عليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أقواله وأفعاله وتقريراته . وسموا أهل السنة لانتسابهم لسنة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون غيرها من المقالات والمذاهب، بخلاف أهل البدع فإنهم ينسبون إلى بدعهم وضلالاتهم كالقدرية والمرجئة، وتارة ينسبون إلى إمامهم كالجهمية، وتارة ينسبون إلى أفعالهم القبيحة كالرافضة والخوارج .
( والجماعة ) لغة : الفرقة المجتمعة من الناس . والمراد بهم هنا الذين اجتمعوا على الحق الثابت بالكتاب والسنة وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان ولو كانوا قلة، كما قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ .
وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره .
الشرح :
( وهو ) أي : اعتقاد الفرقة الناجية ( الإيمان ) الإيمان معناه لغة : التصديق . قال الله تعالى في الآية ( 17 ) من سورة يوسف : { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا } أي : مصدق . وتعريفه شرعًا : أنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح .(21/6)
وقوله : ( بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره ) هذه هي أركان الإيمان الستة التي لا يصح إيمان أحد إلا إذا آمن بها جميعًا على الوجه الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة وهذه الأركان هي :
1 ـ الإيمان بالله : وهو الاعتقاد الجازم بأنه رب كل شيء ومليكه، وأنه متصف بصفات الكمال منزه عن كل عيب ونقص، وأنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له . والقيام بذلك علمًا وعملًا .
2 ـ الإيمان بالملائكة : أي التصديق بوجودهم وأنهم كما وصفهم الله في كتابه كما في الآية ( 26 ـ 27 ) من سورة الأنبياء : { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة وأوصافهم، وأنهم موكلون بأعمال يؤدونها كما أمرهم الله فيجب الإيمان بذلك كله .
3 ـ الإيمان بالكتب : أي التصديق بالكتب التي أنزلها الله على رسله، وأنها كلامه وأنها حق ونور وهدى فيجب الإيمان بما سمى الله منها كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن والإيمان بما لم يسم الله منها .
4 ـ الإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله إلى خلقه : أي التصديق بهم جميعًا وأنهم صادقون فيما أخبروا به، وأنهم بلغوا رسالات ربهم . لا نفرق بين أحد منهم بل نؤمن بهم جميعًا : من سمى الله منهم في كتابه ومن لم يسم منهم كما قال تعالى في الآية ( 164 ) من سورة النساء : { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } وأفضلهم أولو العزم وهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ثم بقية الرسل ثم الأنبياء، وأفضل الجميع خاتم الرسل نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وأصح ما قيل في الفرق بين النبي والرسول : أن النبي : من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه . . والرسول : من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه .(21/7)
5 ـ الإيمان بالقدر خيره وشره : وهو التصديق بأن الله سبحانه علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل وجودها، ثم كتبها في اللوح المحفوظ، ثم أوجدها بقدرته ومشيئته في مواعيدها المقدرة . فكل محدث من خير أو شر فهو صادر عن علمه وتقديره ومشيئته وإرادته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
هذا شرح مجمل لأصول الإيمان وسيأتي ـ إن شاء الله شرحها مفصلًا .
ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل .
الشرح :
بعد ما ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ الأصول التي يجب الإيمان بها مجملة شرع يذكرها على سبيل التفصيل وبدأ بالأصل الأول وهو الإيمان بالله تعالى فذكر أنه يدخل فيه الإيمان بصفاته التي وصف نفسه بها في كتابه أو وصفه بها رسوله في سنته، وذلك بأن نثبتها له كما جاءت في الكتاب والسنة بألفاظها ومعانيها من غير تحريف لألفاظها ولا تعطيل لمعانيها ولا تشبيه لها بصفات المخلوقين . وأن نعتمد في إثباتها على الكتاب والسنة فقط لا نتجاوز القرآن والحديث لأنها توفيقية .
والتحريف : هو التغيير إمالة الشيء عن وجهه . يقال : انحرف عن كذا إذا مال . وهو نوعان :
النوع الأول : تحريف اللفظ وهو العدول به عن جهته إلى غيرها إما بزيادة كلمة أو حرف أو نقصانه، أو تغيير حركة كقول أهل الضلال في قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } أي : استولى، فزادوا في الآية حرفًا . وكقولهم في قوله تعالى : { وَجَاء رَبُّكَ } أي : أمر ربك، فزادوا كلمة . وكقولهم في قوله تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } بنصب لفظ الجلالة فغيروا الحركة الإعرابية من الرفع إلى النصب .
النوع الثاني : تحريف المعنى، وهو العدول به عن وجهه وحقيقته وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر كقول المبتدعة : إن معنى الرحمة : إرادة الإنعام . وإن معنى الغضب إرادة الانتقام .(21/8)
والتعطيل لغة : الإخلاء، يقال : عطله، أي : أخلاه والمراد به هنا نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى . والفرق بين التحريف والتعطيل : أن التحريف هو نفي المعنى الصحيح الذي دلت عليه النصوص واستبداله بمعنى آخر غير صحيح . والتعطيل : هو نفي المعنى الصحيح من غير استبدال له بمعنى آخر، كفعل المفوضة . فكل محرف معطل وليس كل معطل محرفًا .
والتكييف : هو تعيين كيفية الصفة . يقال : كيف الشيء إذا جعل له كيفية معلومة، فتكييف صفات الله هو تعيين كيفيتها والهيئة التي تكون عليها وهذا لا يمكن للبشر لأنها مما استأثر الله تعالى بعلمه فلا سبيل إلى الوصول إليه، لأن الصفة تابعة للذات، فكما أن ذات الله لا يمكن للبشر معرفة كيفيتها، فكذلك صفته سبحانه لا تعلم كيفيتها . ولهذا لما سئل الإمام مالك ـ رحمه الله ـ فقيل له : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كيف استوى فقال : الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة . وهذا يقال في سائر الصفات .
والتمثيل : هو التشبيه بأن يقال : إن صفات الله مثل صفات المخلوقين، كأن يقال يد الله كأيدينا وسمعه كسمعنا، تعالى الله عن ذلك، قال تعالى في الآية ( 11 ) من سورة الشورى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } فلا يقال في صفاته إنها مثل صفاتنا أو شبه صفاتنا أو كصفاتنا، كما لا يقال : إن ذات الله مثل أو شبه ذواتنا، فالمؤمن الموحد يثبت الصفات كلها على الوجه اللائق بعظمة الله وكبريائه . والمعطل ينفيها أو ينفي بعضها . والمشبه الممثل يثبتها على وجه لا يليق بالله وإنما يليق بالمخلوق .
بل يؤمنون بأن الله ـ سبحانه ـ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه . ولا يحرفون الكلم عن مواضعه .
الشرح :(21/9)
لما ذكر المصنف ـ رحمه الله ـ أن الواجب هو الإيمان بصفات الله الثابتة في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، بين موقف أهل السنة والجماعة من ذلك . وهو أنهم يؤمنون بتلك الصفات على هذا المنهج المستقيم، فيثبتونها على حقيقتها نافين عنها التمثيل فلا يعطلون ولا يمثلون على وفق ما جاء في قوله تعالى في الآية ( 11 ) من سورة الشورى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } فقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } رد على الممثله . وقوله : { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } رد على المعطلة لأن فيه إثبات السمع والبصر، فالآية الكريمة دستور واضح في باب الأسماء والصفات لأنها جمعت بين إثبات الصفات لله ونفي التمثيل عنها . وسيأتي تفسيرها إن شاء الله .
وقوله : ( فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ) أي لا يحمل أهل السنة والجماعة إيمانهم بأن الله ليس كمثله شيء على أن ينفوا عنه ما وصف به نفسه، كما يفعل ذلك الذين غلوا في التنزيه حتى عطلوه من صفاته بحجة الفرار من التمثيل بصفات المخلوقين صفات تخصهم وتليق به، وللمخلوقين صفات تخصهم وتليق بهم، ولا تشابه بين صفات الخالق وصفات المخلوق فلا يلزم هذا المحذور الذي ذكرتم أيها المعطلة .
وقوله : [ ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ] تقدم بيان معنى التحريف . أي : لا يغيرون كلام الله فيبدلون ألفاظه أو يغيرون معانيه فيفسرونه بغير تفسيره كما يفعل المعطلة الذين يقولون في : { اسْتَوَى } استولى، وفي : { وَجَاء رَبُّكَ } وجاء أمر ربك، ويفسرون رحمة الله بإرادة الإنعام ونحو ذلك .
ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه .
الشرح :(21/10)
( ولا يلحدون في أسماء الله وآياته ) الإلحاد لغة : الميل والعدول عن الشيء، ومنه اللحد في القبر سمي بذلك لميله وانحرافه عن سمت الحفر إلى جهة القبلة . والإلحاد في أسماء الله وآياته هو العدول والميل بها عن حقائقها ومعانيها الصحيحة إلى الباطل . والإلحاد في أسماء الله وصفاته أنواع :
النوع الأول : أن تسمى الأصنام بها . كتسمية اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان .
النوع الثاني : تسميته سبحانه وتعالى بما لا يليق به كتسمية النصارى له أبًا، وتسمية الفلاسفة له موجبًا أو علة فاعلة .
النوع الثالث : وصفه سبحانه وتعالى بما ينزه عنه من النقائض كقول اليهود الذين قالوا : { إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } وقولهم : { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } وأنه استراح يوم السبت . تعالى الله عما يقولون .
النوع الرابع : جحد معانيها وحقائقها، كقول الجهمية : إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، فالسمع لا يدل على سمع . والبصير لا يدل على بصر والحي لا يدل على حياة . ونحو ذلك .
النوع الخامس : تشبيه صفاته بصفات خلقه، كقول الممثل يده كيدي إلى غير ذلك . تعالى الله . وقد توعد الله الملحدين في أسمائه وآياته بأشد الوعيد فقال سبحانه في الآية ( 180 ) من سور الأعراف : { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقال في الآية ( 40 ) من سورة فصلت : { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } .
قوله : ( ولا يكيفون ولا يمثلون ) إلخ تقدم بيان معنى التكييف والتمثيل .
لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفؤ له ولا ند له ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى . فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلًا وأحسن حديثًا من خلقه .
الشرح :(21/11)
( لأنه سبحانه لا سمي له ) هذا تعليل لما سبق من قوله عن أهل السنة : ( ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفاته بصفات خلقه ) و ( سبحانه ) سبحان : مصدر مثل غفران، من التسبيح وهو التنزيه . ( لا سمي له ) أي : لا نظير له يستحق مثل اسمه، كقوله تعالى في الآية ( 65 ) من سورة مريم : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } استفهام معناه النفي أي : لا أحد يساميه أو يماثله ( ولا كفؤ له ) الكفؤ هو المكافئ المماثل . أي : لا مثل له كقوله تعالى : في سورة الإخلاص : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ( ولا ند له ) الند : هو الشبيه والنظير . قال تعالى في الآية ( 22 ) من سورة البقرة : { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا } .
( ولا يقاس بخلقه ) القياس في اللغة : التمثيل، أي : لا يشبه ولا يمثل بهم، قال سبحانه في الآية 74 من سورة النحل : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ } فلا يقاس سبحانه بخلقه لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته ولا في أفعاله، وكيف يقاس الخالق الكامل بالمخلوق الناقص ؟ ! تعالى الله عن ذلك ( فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره ) . وهذا تعليل لما سبق من وجوب إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات ومنع قياسه بخلقه، فإنه إذا كان أعلم بنفسه وبغيره وجب أن يثبت له من الصفات ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
والخلق لا يحيطون به علمًا فهو الموصوف بصفات الكمال التي لا تبلغها عقول المخلوقين، فيجب علينا أن نرضى بما رضيه لنفسه فهو أعلم بما يليق به ونحن لا نعلم ذلك . وهو سبحانه : ( أصدق قيلاً وأحسن حديثًا من خلقه ) فما أخبر به فهو صدق وحق يجب علينا أن نصدقه ولا نعارضه، وألفاظه أحسن الألفاظ وأفصحها وأوضحها وقد بين ما يليق به من الأسماء والصفات أتم بيان فيجب قبول ذلك والتسليم له .
ثم رسله صادقون مصدقون بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون .
الشرح :(21/12)
( ثم رسله صادقون مصدقون ) هذا عطف على قوله : ( فإنه أعلم بنفسه . . إلخ ) الصدق : مطابقة الخبر للواقع . أي : صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، مصدقون، أي : فيما يأتيهم من الوحي بواسطة الملائكة لأنه من عند الله فهم لا ينطقون عن الهوى . وهذا توثيق لسند الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد قيل لهم الحق وبلغوه للخلق فيجب قبول ما وصفوا الله به فهم ( بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون ) أي : بخلاف الذين يقولون على الله بلا علم في شرعه ودينه وفي أسمائه وصفاته بل بمجرد ظنونهم وتخيلاتهم أو بما يتلقونه عن الشياطين كالمتنبئين الكذبة والمبتدعة والزنادقة والسحرة والكهان والمنجمين وعلماء السوء، كما قال تعالى في الآيات ( 221 ـ 223 ) من سورة الشعراء : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } وقال تعالى في الآية ( 79 ) من سورة البقرة : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ } الآية .
فإذا كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم بنفسه وبغيره، وكان أصدق قولًا وأحسن حديثًا من خلقه، وكان رسله عليهم الصلاة والسلام صادقين في كل ما يخبرون عنه، والواسطة بينهم وبين الله التي تأتيهم بالوحي من عنده واسطة صادقة من ملائكته الكرام، وجب التعويل إذا على ما قاله الله ورسله لا سيما في باب الأسماء والصفات نفيًا وإثباتًا، ورفض ما قاله المبتدعة والضلال ممن يدعي المجاز في الرسل، معتمدين على أهوائهم، أو مقلدين لمن لا يصلح للقدوة من الضلال .(21/13)
ولهذا قال : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل . وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب .
الشرح :
المفردات :
ولهذا : تعليل لما سبق من كون كلام الله وكلام رسله أصدق وأحسن .
سبحان : اسم مصدر من التسبيح وهو التنزيه .
ربك : الرب هو المالك السيد المربي لخلقه بنعمه .
العزة : القوة والغلبة والمنعة . وإضافة الرب إلى العزة من إضافة الموصوف إلى الصفة .
يصفون : أي يصفه به المخالفون للرسل مما لا يليق بجلاله .
وسلام : قيل : هو من السلام بمعنى التحية . وقيل : من السلامة من المكاره .
على المرسلين : الذين أرسلهم الله إلى خلقه وبلغوا رسالات ربهم، جمع مرسل وتقدم تعريفه .
العالمين : جمع عالم وهم كل من سوى الله .
المعنى الإجمالي : قد بينه الشيخ ـ رحمه الله ـ بقوله : فسبح نفسه . . . إلخ .
ما يستفاد من الآيات :
1 ـ تنزيه الله ـ سبحانه ـ عما يصفه به الضلال والجهال مما لا يليق بجلاله .
2 ـ صدق الرسل ووجوب قبول ما جاءوا به وما أخبروا به عن الله .
3 ـ مشروعية السلام على الرسل عليهم الصلاة والسلام واحترامهم .
4 ـ رد كل ما يخالف ما جاءت به الرسل لا سيما ما يتعلق بأسماء الله وصفاته .
5 ـ مشروعية الثناء على الله وشكره على نعمه التي من أجلها نعمه التوحيد .
وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون فإنه الصراط المستقيم .
الشرح :(21/14)
( وهو سبحانه قد جمع إلخ ) هذا بيان للمنهج الذي رسمه الله في كتابه لإثبات أسمائه وصفاته، وهو المنهج الذي يجب أن يسير عليه المؤمنون في هذا الباب المهم . فإنه سبحانه : ( قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه ) أي في جميع أسمائه وصفاته ( بين النفي والإثبات ) وهو نفي ما يضاد الكمال من أنواع العيوب والنقائص كنفي الند والشريك والسنة والنوم والموت واللغوب .
وأما الإثبات فهو إثبات صفات الكمال ونعوت الجلال لله كقوله تعالى في الآيتين ( 23 ـ 24 ) من سورة الحشر : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الخالق الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وغير ذلك مما سيذكر له المؤلف نماذج فيما يأتي .
وقوله : ( فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون ) أي : لا ميل لهم ولا انحراف عن ذلك . بل هم مقتفون آثارهم مستضيئون بأوارهم . ومن ذلك إثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عما لا يليق به . فإن الرسل قد قرروا ذلك الأصل العظيم . وأما أعداء الرسل فإنهم قد عدلوا عن ذلك .
وقوله : ( فإنه الصراط المستقيم ) تعليل لقوله : ( فلا عدول لأهل السنة ) أي لأن ما جاء به المرسلون هو الصراط المستقيم . والصراط المستقيم هو الطريق المعتدل الذي لا تعدد فيه ولا انقسام وهو المذكور في قوله تعالى من سورة الفاتحة : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } وقوله في الآية ( 153 ) من سورة الأنعام : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } وهو الذي ندعو الله في كل ركعة من صلواتنا أن يهدينا إليه .(21/15)
صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
الشرح :
أي أن الصراط المستقيم الذي جاء به المرسلون في الاعتقاد وغيره وسلكه أهل السنة والجماعة هو ( صراط الذين أنعم الله عليهم ) أي : أنعم الله عليهم الإنعام المطلق التام المتصل بسعادة الأبد، وهم الذين أمرنا الله أن ندعوه أن يهدينا طريقهم، فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة وهم :
1 ـ النبيون : جمع نبي، وهم الذين اختصهم الله بنبوته ورسالته وتقدم تعريفهم .
2 ـ الصديقون : جمع صديق وهو المبالغ في الصدق والتصديق، أي : المبالغ في الانقياد للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع كمال الإخلاص لله .
3 ـ الشهداء : جمع شهيد، وهو المقتول في سبيل الله . سمي بذلك لأنه مشهود له بالجنة ولأن ملائكة الرحمة تشهده .
4 ـ الصالحون : جمع صالح وهو القائم بحقوق الله وحقوق عباده .
والصراط تارة يضاف إلى الله ـ تعالى ـ كقوله تعالى في الآية ( 153 ) من سورة الأنعام : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } لأنه هو الذي شرعه ونصبه، وتارة يضاف إلى العباد كما في قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } لكونهم سلكوه . وفي قوله : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } تنبيه على الرفيق في هذا الطريق وأنهم هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ليزول عن سالك هذا الطريق وحشة التفرد عن أهل زمانه إذا استشعر أن رفقته على هذا الصراط الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون .
ثم أورد الشيخ ـ رحمه الله ـ فيما يلي نماذج من الكتاب والسنة تشتمل على إثبات أسماء الله وصفاته وفيما يلي إيراد ذلك .
الاستدلال على إثبات أسماء الله وصفاته من القرآن الكريم
1 ـ الجمع بين النفي والإثبات في وصفه تعالى(21/16)
وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن . حيث يقول : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } .
الشرح :
( وقد دخل في هذه الجملة ) أي : التي تقدمت وهي قوله : ( وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات ) فأراد هنا أن يورد ما يدل على ذلك من الكتاب والسنة، وبدأ بسورة الإخلاص لفضلها . وسميت بذلك لأنها أخلصت في صفات الله ولأنها تخلص قارئها من الشرك .
قوله : ( التي تعدل ثلث القرآن ) أي : تساويه وذلك لأن معاني القرآن ثلاثة أنواع : توحيد . وقصص . وأحكام، وهذه السورة فيها صفة الرحمن فهي في التوحيد وحده، فصارت تعدل ثلث القرآن . والدليل على أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكر له ذلك وكأن الرجل يتقالها، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن ) قال الإمام ابن القيم : والأحاديث بكونها تعدل ثلث القرآن تكاد تبلغ مبلغ التواتر .
( حيث يقول ) الله جل شأنه : { قل } أي : يا محمد وفي هذا دليل على أن القرآن كلام الله إذ لو كان كلام محمد أو غيره لم يقل : { قل } ، { هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أي واحد لا نظير له ولا وزير ولا مثيل ولا شريك له . { اللَّهُ الصَّمَدُ } أي : السيد الذي كمل في سؤدده وشرفه وعظمته وفيه جميع صفات الكمال، والذي تصمد إليه الخلائق وتقصده في جميع حاجاتها ومهماتها .
{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } أي ليس له ولد ولا والد . وفيه الرد على النصارى ومشركي العرب الذين نسبوا لله الولد . { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } أي ليس له مكافئ ولا مماثل ولا نظير .(21/17)
والشاهد من هذه السورة : أنها تضمنت وجمعت بين النفي والإثبات فقوله : { اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } إثبات . وقوله : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } نفي .
وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ـ أي لا يكرثه ولا يثقله ـ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم } ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ حتى يصبح .
الشرح :
( وما وصف به نفسه في أعظم آية من كتابه ) أي : ودخل في الجملة السابقة ما وصف الله به نفسه الكريمة ( في أعظم آية ) والآية في اللغة : العلامة . والمراد بها هنا طائفة من كلمات القرآن متميزة عن غيرها بفاصلة، وتسمى هذه الآية التي أوردها هنا آية الكرسي لذكر الكرسي فيها .
والدليل على أنها أعظم آية في القرآن ما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سأله : أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال : الله ورسوله أعلم، فرددها مرارًا ثم قال أبي : آية الكرسي . فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ليهنك العلم أبا المنذر ) وسبب كونها أعظم آية لما اشتملت عليه من إثبات أسماء الله وصفاته وتنزيهه عما لا يليق به .(21/18)
فقوله تعالى : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } أي : لا معبود بحق إلا هو، وما سواه فعبادته من أبطل الباطل . { الْحَيُّ } أي : الدائم الباقي الذي له كمال الحياة والذي لا سبيل للفناء عليه . { الْقَيُّومُ } أي : القائم بنفسه المقيم لغيره، فهو غني عن خلقه، وخلقه محتاجون إليه . وقد ورد أن { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى لدلالة { الْحَيُّ } على الصفات الذاتية، ودلالة { الْقَيُّومُ } على الصفات الفعلية، فالصفات كلها ترجع إلى هذين الاسمين الكريمين العظيمين ولكمال قيوميته .
{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } السنة : النعاس وهو نوم خفيف ويكون في العين فقط والنوم أقوى من السنة، وهو أخو الموت ويكون في القلب . { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ملكًا وخلقًا وعبيدًا فهو يملك العالم العلوي والسفلي . { مَن ذَا الَّذِي } أي : لا أحد . { يَشْفَعُ عِنْدَهُ } الشفاعة : مشتقة من الشفع وهو ضد الوتر، فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال غيره فصيره شفعًا بعد أن كان وترًا . والشفاعة : سؤال الخير للغير، بمعنى أن يسأل المؤمن ربه أن يغفر ذنوب وجرائم بعض المؤمنين . لكنها ملك لله سبحانه فلا تكون { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي : بأمره وذلك لكبريائه وعظمته سبحانه وتعالى لا يستطيع أحد أن يتقدم إليه بالشفاعة عنده لأحد إلا بعد أن يأذن .(21/19)
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي : علمه واطلاعه محيط بالأمور الماضية والمستقبلة فلا يخفى عليه منها شيء { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } أي : العباد لا يعلمون شيئًا من علم الله إلا ما علمهم الله إياه على ألسنة رسله وبطرق وأسباب متنوعة { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } كرسيه سبحانه قيل : إنه العرش، وقيل : إنه غيره فقد ورد أنه موضع القدمين، وهو كرسي بلغ من عظمته وسعته أنه وسع السموات والأرض { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي : لا يكرثه ولا يشق عليه ولا يثقله حفظ العالم العلوي والسفلي لكمال قدرته وقوته .
{ وَهُوَ الْعَلِيُّ } أي : له العلو المطلق علو الذات بكونه فوق جميع المخلوقات { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } . وعلو القدر، فله كل صفات الكمال ونعوت الجلال، وعلو القهر فهو القادر على كل شيء المتصرف في كل شيء لا يمتنع عليه شيء { الْعَظِيمِ } الذي له جميع صفات العظمة، له التعظيم الكامل في قلوب أنبيائه وملائكته وعباده المؤمنين، فحقيق بآية تحتوي على هذه المعاني أن تكون أعظم آية في القرآن . وأن تحفظ قارئها من الشرور والشياطين .(21/20)
والشاهد منها : أن الله جمع فيها فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فقد تضمنت إثبات صفات الكمال ونفي النقص عن الله، ففي قوله : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } نفي الإلهية عما سواه وإثباتها له . وفي قوله : { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } إثبات الحياة والقيومية له . وفي قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } نفي السنة والنوم عنه، وفي قوله : { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } إثبات ملكيته الكاملة للعالمين العلوي والسفلي . وفي قوله : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } نفي الشفاعة عنده بغير إذنه لكمال عظمته وفناه عن خلقه . وفي قوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } إثبات كمال علمه لكل شيء ماضيًا أو مستقبلًا . وفي قوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } بيان حاجة الخلق إليه وإثبات غناه عنهم . وفي قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } إثبات كرسيه وإثبات كمال عظمته وجلالته وصغر المخلوقات بالنسبة إليه . وفي قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } نفي العجز والتعب عنه سبحانه . وفي قوله : { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } إثبات العلو والعظمة له سبحانه .
وقول المصنف ـ رحمه الله ـ ( ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح ) يشير إلى ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ فيه : ( إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } ، حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ) الحديث . والشيطان : يطلق على كل متمرد عات من الجن والإنس ـ من ( شطن ) إذا بعد ـ سمي بذلك لبعده عن رحمة الله، أو من شاط يشيط إذا اشتد .
2 ـ الجمع بين علوه وقربه وأزليته وأبديته(21/21)
وقوله سبحانه : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
الشرح :
قوله : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ } الآية . هذه الآية الكريمة قد فسرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الذي رواه مسلم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء . وأنت الآخر فليس بعدك شيء . وأنت الظاهر فليس فوقك شيء . وأنت الباطن فليس دونك شيء ) .
فقد فسر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الأسماء الأربعة بهذا التفسير المختصر الواضح، وفي هذه الأسماء المباركة إحاطته سبحانه من كل وجه . ففي اسمه الأول والآخر إحاطته الزمانية . وفي اسمه الظاهر والباطن إحاطته المكانية . قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( فهذه الأسماء الأربعة متقابلة : اسمان لأزليته وأبديته سبحانه، واسمان لعلوه وقربه، فأوليته سبحانه سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته سبحانه ثابتة بعد آخرية كل ما سواه . فأوليته : سبقه لكل شيء، وآخريته : بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته : فوقيته وعلوه على كل شيء . ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء ما علا منه . وبطونه سبحانه : إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه وهذا قرب الإحاطة العامة ) . اه ـ .
وقوله تعالى : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي قد أحاط علمه بكل شيء من الأمور الماضية والحاضرة والمستقبلة، ومن العالم العلوي والسفلي ومن الظواهر والبواطن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء .
والشاهد من الآية الكريمة : إثبات هذه الأسماء الكريمة لله المقتضية لإحاطته بكل شيء زمانًا ومكانًا واطلاعًا وتقديرًا وتدبيرًا . تعالى وتقدس ( علوًا كبيرًا ) .
وقوله سبحانه : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } . وقوله : { وَهُوَ الْحَكِيمُ الخبِيرُ } .
الشرح :(21/22)
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } أبدًا، أي : فوض أمورك إليه فالتوكل لغة : التفويض، يقال : وكلت أمري إلى فلان، أي فوضته . ومعناه شرعًا : اعتماد القلب على الله في جلب ما ينفع وجعف ما يضر، والتوكل على الله نوع من أنواع العبادة وهو واجب، ولا ينافي الأخذ بالأسباب بل يتفق معه تمامًا . وخص صفة الحياة إشارة إلى أن الحي هو الذي يوثق به في تحصيل المصالح . ولا حياة على الدوام إلا به سبحانه وأما الأحياء المنقطعة حياتهم فإنهم إذا ماتوا ضاع من يتوكل عليهم .
والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات الحياة الكاملة لله ـ سبحانه ـ ونفي الموت عنه، ففيها الجمع بين النفي والإثبات في صفات الله تعالى .
وقوله : { وَهُوَ الْحَكِيمُ } له معنيان أحدهما : أنه الحاكم بين خلقه بأمره الكوني وأمره الشرعي في الدنيا والآخرة . والثاني : أنه المحكم المتقن للأشياء، مأخوذ من الحكمة وهي وضع الأشياء في مواضعها . فهو ـ سبحانه ـ الحاكم بين عباده الذي له الحكمة في خلقه وأمره لم يخلق شيئًا عبثًا ولم يشرع إلا ما هو عين المصلحة . { الخبِيرُ } من الخبرة وهي الإحاطة ببواطن الأشياء وظواهرها . يقال : خبرت الشيء إذا عرفته على حقيقته . فهو سبحانه الخبير، أي : الذي أحاط ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظواهرها .
والشاهد من الآية أن فيها إثبات اسمين من أسمائه سبحانه : الحكيم، الخبير، وهما يتضمنان صفتين من صفاته وهما الحكمة والخبرة .
3 ـ إحاطة علمه بجميع مخلوقاته(21/23)
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .
الشرح :
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ } أي : ما يدخل فيها من القطر والبذور والكنوز والموتى وغير ذلك . { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } أي : من الأرض من النبات والمعادن وغير ذلك . { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء } أي : من المطر والملائكة وغير ذلك . { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي : يصعد في السماء من ملائكة وأعمال وغير ذلك .(21/24)
والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات علم الله سبحانه المحيط بكل شيء . وقوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } أي : عند الله وحده خزائن الغيب . أو ما يتوصل به إلى علمه { لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } فمن ادعى عمل شيء منها فقد كفر . وقد ورد تفسير مفاتح الغيب في الحديث الذي رواه ابن عم كما في الصحيحين عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ) ثم قرأ الآية : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } . { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ } أي : اليابس المعمور والقفار من السكان والنبات والدواب وغير ذلك . { والبحر } أي : يعلم ما فيه من الحيوانات والجواهر ونحو ذلك . { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ } أي : أشجار البر والبحر وغير ذلك . { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } أي : يعلمها ويعلم زمان سقوطها ومكانه . { وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ } أي : ولا تكون حبة في الأمكنة المظلمة أو في بطن الأرض . { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } من جميع الموجودات عموم بعد خصوص . { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي : لا يحصل شيء من ذلك إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ .
وجه الشاهد من الآية : أن فيها إثبات أنه لا يعلم الغيب إلا الله وأن علمه محيط بكل شيء . وفيها إثبات القدر والكتابة في اللوح المحفوظ .
{ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } وقوله : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } .
الشرح :(21/25)
{ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي : لا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به، فلا يخرج شيء عن علمه وتدبيره . فيعلم ـ سبحانه ـ في أي يوم تحمل الأنثى وفي أي يوم تضع ونوع حملها هل هو ذكر أو أنثى .
{ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } اللام متعلقة بقوله تعالى : { خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } أي : فعل ذلك لتعلموا كمال قدرته . { وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } أي : ولتعلموا إحاطة علمه بالأشياء فلا يخرج عن علمه شيء منها كائنًا ما كان . و { عِلْمًا } منصوب على التمييز أو على المصدرية لأن أحاط بمعنى علم .
الشاهد من الآيتين : أن فيهما إثبات علم الله المحيط بكل شيء وإثبات قدرته على كل شيء .
وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ } أي : لا رازق غيره الذي يرزق مخلوقاته، ويقوم بما يصلحهم فهو كثير الرزق واسعه فلا تعبدوا غيره . { ذُو الْقُوَّةِ } أي : صاحب القوة التامة الذي لا يعتريه ضعف . { الْمَتِينُ } أي : البالغ في القوة والقدرة نهايتهما فلا يلحقه في أفعاله مشقة ولا كلفة ولا تعب . والمتانة معناها الشدة والقوة .
الشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات اسمه الرزاق ووصفه بالقوة التامة التي لا يعتريها ضعف ولا تعب سبحانه وتعالى . وفيها الاستدلال على وجوب عبادته وحده لا شريك له .
شرح العقيدة الواسطية
( 3 من 8 )
السابق التالي
4 ـ إثبات السمع والبصر لله سبحانه
وقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } وقوله : { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } .
الشرح :(21/26)
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أول الآية قوله تعالى : { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا } . قال الإمام ابن كثير في تفسيره : أي ليس كخالق الأزواج كلها شيء لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له . اه ـ . { وَهُوَ السَّمِيعُ } الذي يسمع جميع الأصوات . { البَصِيرُ } الذي يرى كل شيء ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
قال الإمام الشوكاني في تفسيره : ومن فهم هذه الآية الكريمة حق فهمها وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على جادة بيضاء واضحة، ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله : { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للمماثل قد اشتمل على برد اليقين وشفاء الصدور وانثلاج القلوب، فاقدر يا طالب الحق قدر هذه الحجة النيرة والبرهان القوي، فإنك تحطم بها كثيرًا من البدع وتهشم بها رؤوسًا من الضلالة وترغم بها أنوف طوائف من المتكلمين، ولا سيما إذا ضممت إليه قوله تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } . اه ـ .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا } قبله قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } . { نعم } : من ألفاظ المدح و { ما } قيل : نكرة موصوفة كأنه قيل : نعم شيئًا يعظكم به . وقيل : إن ما موصولة، أي نعم الشيء الذي يعظكم به . وقوله : { يعظكم } أي : يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بين الناس بالعدل . وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } أي : أنه سبحانه سميع لما تقولون . بصير بما تفعلون .
الشاهد من الآيتين الكريمتين : أن فيهما إثبات السمع والبصر لله، وفي الآية الأولى نفي مماثلة المخلوقات ففي ذلك الجمع فيما وصف وسمى به نفسه النفي والإثبات .(21/27)
5 ـ إثبات المشيئة والإرادة لله سبحانه
وقوله : { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ } . { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } . وقوله : { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } .
الشرح :
قوله : { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ } أي : هلا إذ دخلت بستانك . { قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ } أي : إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها اعترافًا بالعجز وأن القدرة لله سبحانه . قال بعض السلف : من أعجبه شيء فليقل : ما شاء الله لا قوة إلا بالله .
وقوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } أي : لو شاء سبحانه عدم اقتتالهم لم يقتتلوا، لأنه لا يجري في ملكه إلا ما يريد، لا راد لحكمه ولا مبدل لقضائه .
وقوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُم } أي : أبيحت والخطاب للمؤمنين . { بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } أي : والمراد به المذكور في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } الآية التي بعدها بقليل .
وقوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } استثناء آخر من بهيمة الأنعام .
والمعنى : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيًا فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام، فقوله : { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } في محل نصب على الحال، والمراد بالحرم من هو محرم بحج أو عمرة أو بهما . { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } من التحليل والتحريم لا اعتراض عليه .
الشاهد من الآيات : أن فيها إثبات المشيئة والقوة والحكم والإرادة صفات لله تعالى على ما يليق بجلاله .(21/28)
وقوله : { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء } .
الشرح :
{ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ } أي : من شاء الله سبحانه أن يوقه وجعل قلبه قابلًا للخير . و { من } : اسم شرط جازم، ويرد : مجزوم على أنه فعل الشرط . { يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } مجزوم بجواب الشرط . والشرح : الشق، وأصله التوسعة، وشرحت الأمر : بينته ووضحته . والمعنى : يوسع الله صدره للحق الذي هو الإسلام حتى يقبله بصدر منشرح . { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } أي : ومن شاء سبحانه أن يصرفه عن قبول الحق . { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا } أي : لا يتسع لقبول الحق . { حَرَجًا } أي : شديد الضيق فلا يبقى فيه منفذ للخير، وهو تأكيد لمعنى { ضَيِّقًا } . { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء } أصله يتصعد، أي كأنما تكلف ما لا يطيق مرة بعد مرة كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء . شبه الكافر في ثقل الإيمان عليه بمن يتكلف ما لا يطيقه كصعود السماء .
الشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات الإرادة لله سبحانه وأنها شاملة للهداية والإضلال، أي : يريد الهداية ويريد الإضلال كونًا وقدرًا لحكمة بالغة .
فالإرادة الربانية نوعان :
النوع الأول : إرادة كونية قدرية، وهذه مرادفة للمشيئة، ومن أمثلتها قوله تعالى : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } وقوله تعالى : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } وقوله : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } .(21/29)
النوع الثاني : إرادة دينية شرعية، ومن أمثلتها قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } الآية ( 27 ) النساء وقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ } الآية ( 6 ) المائدة . وقوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } الآية ( 33 ) الأحزاب .
الفرق بين الإرادتين :
1 ـ الإرادة الكونية قد يحبها الله ويرضاها، وقد لا يحبها ولا يرضاها والإرادة الشرعية لابد أنه يحبها ويرضاها . فالله أراد المعصية كونًا ولا يرضاها شرعًا .
2 ـ والإرادة الكونية مقصودة لغيرها، كخلق إبليس وسائر الشرور لتحصل بسبب ذلك المجاهدة والتوبة والاستغفار وغير ذلك من المحاب . والإرادة الشرعية مقصودة لذاتها، فالله أراد الطاعة كونًا وشرعًا وأحبها ورضيها .
3 ـ الإرادة الكونية لابد من وقوعها، والإرادة الشرعية لا يلزم وقوعها فقد تقع وقد لا تقع .
تنبيه : تجتمع الإرادتان الكونية والشرعية في حق المخلص المطيع وتنفرد الإرادة الكونية في حق العاصي .
تنبيه آخر : من لم يثبت الإرادتين ويفرق بينهما فقد ضل كالجبرية والقدرية . فالجبرية أثبتوا الإرادة الكونية فقط، والقدرية أثبتوا الإرادة الشرعية فقط . وأهل السنة أثبتوا الإرادتين وفرقوا بينهما .
6 ـ إثبات محبة الله ومودته لأوليائه على ما يليق بجلاله(21/30)
وقوله : { وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } ، وقوله : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } . وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } وقوله : { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } .
الشرح :
لما ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ الآيات التي تدل على إثبات المشيئة والإرادة، ذكر الآيات على إثبات المحبة لله سبحانه وفي ذلك الرد على من سوى بين المشيئة والمحبة وقال : إنهما متلازمان فكل ما شاء الله فقد أحبه وقد قدمنا أن في ذلك تفصيلًا، فقد يشاء الله ما لا يحبه ككفر الكافر وسائر المعاصي . وقد يشاء ما يحب كالإيمان وسائر الطاعات .
وقوله تعالى : { وَأَحْسِنُوَاْ } هذا أمر من الله تعالى بالإحسان، وهو : الإتيان بالعمل على أحسن أحواله وأكملها، والإحسان هو أعلى مقامات الطاعة . { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } هذا تعليل للأمر بالإحسان فهو أمر به لأنه يحبه ويحب أهله فيكون ذلك حافزًا على امتثال الأمر به . وقوله تعالى : { وَأَقْسِطُوا } أمر بالإقساط وهو العدل في المعاملات والأحكام مع القريب والبعيد . { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } تعليل للأمر بالإقساط فهو أمر به لأنه { يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : العادلين ومحبته سبحانه لهم تستلزم أن يجزيهم أحسن الجزاء .(21/31)
وقوله تعالى : { فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } أي : ما استقام لكم المشركون على العهد فلم ينقضوه فاستقيموا على الوفاء لهم فلا تقاتلوهم . { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } تعليل للأمر بالاستقامة على العهد فهو أمر بها لأنها من أعمال المتقين الذين يحبهم الله، وفيه إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين، والتقوى : هي التحرز بطاعة الله عن معصيته رجاء ثوابه وخوفًا من عقابه .
وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } التوابين : جمع تواب صغة مبالغة من التوبة وهي لغة : الرجوع . وشرعًا : الرجوع عن الذنب . هذا تفسيرها في حق العبد، وأما في حق الله فالتواب من أسماء الله تعالى . قال ابن القيم : العبد تواب، والله تواب، فتوبة البد رجوعة إلى سيده . وتوبة الله نوعان : إذن وتوفيق . وقبول واعتداد . { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } المتطهرين : جمع متطهر اسم فاعل من الطهارة وهي النزاهة والنظافة عن الأقذار حسية كانت أو معنوية . وفي الآية الكريمة إخبار من الله سبحانه عن محبته لهذين الصنفين من عباده التوابين والمتطهرين .
وقوله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } سبب نزول هذه الآية الكريمة كما ذكره ابن كثير وغيره : أن قومًا زعموا أنهم يحبون الله فابتلاهم الله ( أي اختبرهم ) بهذه الآية فهي حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية بأنه كاذب في دعواه . وقوله : { يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } أي : يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول .(21/32)
وقوله تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } هذا جواب الشرط في قوله : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } . يقول تعالى مخبرًا عن قدرته العظيمة : أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته أنه يستبدل به من هو خير منه، وهم قوم متصفون بصفات عظيمة من أعظمها أن الله يحبهم وهم يحبونه . والمراد بهم أبو بكر الصديق وجيشه من الصحابة والتابعين ـ رضي الله عنهم ـ الذين قاتلوا أهل الردة، ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدين إلى يوم القيامة .
وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ } إخبار منه مؤكد أنه سبحانه يحب من اتصف بهذه الصفة . { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ } أي : يجاهدون بأموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمة الله . { صفًا } أي : يصفون أنفسهم عند القتال ولا يزولون عن أماكنهم { كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } قد رص بعضه ببعض، وألزق بعضه ببعض، فليس فيه فرجة ولا خلل . وقوله : { وَهُوَ الْغَفُورُ } أي : يستر ذنوبه ويتجاوز عن خطاياه . { الْوَدُودُ } من الود وهو خالص الحب فهو سبحانه ( ودود ) بمعنى : أنه يحب أهل طاعته . وفي ذكر هذين الاسمين الكريمين مقترنين سر لطيف وهو أنه يحب عبده بعد المغفرة فيغفر له ويحبه بعد ذلك .
الشاهد من هذه الآيات الكريمة : أن فيها إثبات المحبة والمودة لله سبحانه وأنه يحب ويود بعض الأشخاص والأعمال والأخلاق فهو يحب بعض الأشياء دون بعض على ما تقتضيه حكمته البالغة فهو يحب المحسنين ويحب المقسطين ويحب المتقين . ويحب المتبعين لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويحب المجاهدين في سبيله . ويحب التوابين والمتطهرين .(21/33)
وفيها إثبات المحبة من الجانبين، جانب العبد وجانب الرب . { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } { إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ففي ذلك الرد على من نفى المحبة من الجانبين كالجهمية والمعتزلة . فقالوا : لا يحب ولا يحب، وأولوا محبة العباد له بمعنى محبتهم عبادته وطاعته، ومحبته للعباد بمعنى إحسانه إليهم وإثابتهم ونحو ذلك . وهذا باطل لأن مودته ومحبته سبحانه وتعالى لعباده على حقيقتهما كما يليق بجلاله كسائر صفاته ليستا كمودة ومحبة المخلوق .
7 ـ إثبات اتصافه بالرحمة والمغفرة سبحانه وتعالى
وقوله : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا } { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } .
الشرح :
وقوله : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } تقدم تفسيرها في أول الكتاب، ومناسبة ذكرها هنا أن فيها إثبات الرحمة لله تعالى صفة من صفاته كما في الآيات المذكورة بعدها . قال الإمام ابن القيم : الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعليقها بالمرحوم كما قال تعالى : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } ولم يجئ قط : رحمن بهم . وكان الأول للوصف والثاني للفعل . فالأول دال على أن الرحمة وصفة، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته . اه ـ .(21/34)
قوله : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا } هذا حكاية عن الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للذين آمنوا فيقولون : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا } أي : وسعت رحمتك وعلمك كل شيء . ف ـ { رَّحْمَةً وَعِلْمًا } منصوبان على التمييز المحول عن الفاعل، وفي ذلك دليل على سعة رحمة الله وشمولها . فما من مسلم ولا كافر إلا وقد نالته رحمة الله في الدنيا، وأما في الآخرة فتختص بالمؤمنين .
وقوله : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } هذا إخبار من الله ـ سبحانه ـ أنه رحيم بالمؤمنين يرحمهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم وبصرهم الطريق الذي ضل عنه غيرهم . أما رحمته بهم في الآخرة فآمنهم من الفزع الأكبر ويدخلهم الجنة . وقوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أي : أوجبها على نفسه الكريمة تفضلًا منه وإحسانًا . وهذه الكتابة كونية قدرية لم يوجبها عليه أحد .
وقوله : { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } يخبر سبحانه عن نفسه أنه متصف بالمغفرة والرحمة لمن تاب إليه وتوكل عليه، ولو من أي ذنب كان كالشرك فإنه يتوب عليه ويغفر له ويرحمه .
وقوله : { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا } هذا مما حكاه الله تعالى عن نبيه يعقوب ـ عليه السلام ـ حين طلب منه بنوه أن يرسل معهم أخاهم . وتعهدوا بحفظه، فقال لهم : إن حفظ الله سبحانه له خير من حفظكم . وهذا تفويض من يعقوب إلى الله في حفظ ابنه . ومن أسمائه تعالى : الحفيظ الذي يحفظ عباده بحفظه الخاص عما يفسد إيمانهم وعما يضرهم في دينهم ودنياهم .(21/35)
الشاهد من الآيات الكريمة : أن فيها وصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالرحمة والمغفرة على ما يليق بجلاله كسائر صفاته . وفيها الرد على الجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن ينفون عن الله اتصافه بالرحمة والمغفرة فرارًا من التشبيه بزعمهم قالوا : لأن المخلوق يوصف بالرحمة . وتأولوا هذه الآيات على المجاز وهذا باطل، لأن الله سبحانه أثبت لنفسه هذه الصفة . ورحمته سبحانه ليست كرحمة المخلوق حتى يلزم التشبيه كما يزعمون، فإن الله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } والاتفاق في الاسم لا يقتضي الاتفاق في المسمى . فللخالق صفات تليق به وتختص به، وللمخلوق صفات تليق به وتختص به والله أعلم .
8 ـ ذكر رضا الله وغضبه وسخطه وكراهيته في القرآن الكريم وأنه متصف بذلك
وقوله : { رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } وقوله : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } وقوله : { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وقوله : { وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ } وقوله : { كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } .
الشرح
قوله : { رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } أي : رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به من النعيم . والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم . قال تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } الآية ( 72 ) من سورة التوبة . ورضاهم عنه هو رضا كل منهم بمنزلته حتى يظن أنه لم يؤت أحد خيرًا مما أوتي .(21/36)
وقوله : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا } احترز بقوله : { مُؤْمِنًا } عن قتل الكافر، وبقوله : { مُّتَعَمِّدًا } عن قتل الخطأ . والمتعمد : هو الذي يقصد من يعلمه آدميًا معصومًا فيقتله بما يغلب على الظن موته به . وقوله : { فَجَزَآؤُهُ } أي عقابه في الآخرة { جَهَنَّمُ } طبقة من طبقات النار { خَالِدًا فِيهَا } أي : مقيمًا في جهنم والخلود هو المكث الطويل { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ } معطوف على مقدر دل عليه السياق، أي : جعل جزاءه جهنم وغضب عليه { ولعنه } أي : طرده عن رحمته، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله .
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } أي ما ذكر في الآية قبلها من شدة توفي الملائكة للكفار من أجل أنهم { اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ } من الانهماك في المعاصي والشهوات المحرمة . { وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } أي : كرهوا ما يرضيه من الإيمان والأعمال الصالحة . وقوله : { فَلَمَّا آسَفُونَا } أي : أغضبونا . { انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي : عاقبناهم، والانتقام هو أشد العقوبة .
وقوله : { وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ } أي : أبغض الله خروجهم معكم للغزو { فَثَبَّطَهُمْ } أي : حبسهم عن الخروج معك . وخذلهم قضاءً وقدرًا وإن كان قد أمرهم بالغزو شرعًا . وأقدرهم عليه حسًا، لكنه لم يعنهم عليه لحكمة يعلمها . وقد بينها في الآية التي بعدها في قوله : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا } الآية .(21/37)
وقوله : { كَبُرَ مَقْتًا } أي : عظم ذلك في المقت وهو البغض، ومقتًا منصوب على التميز . { أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } أي : أن تعدوا من أنفسكم خيرًا ثم لا تفوا بما وعدتم . وقد ورد في سبب نزولها أن ناسًا من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون وددنا لو أن الله أخبرنا بأحب الأعمال فنعمل به، فأخبر الله نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أحب الأعمال إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } .
الشاهد من الآيات : أن فيها وصف الله بالغضب والرضا واللعن والانتقام والكراهية والأسف والمقت، وهذه كلها من صفات الأفعال التي يفعلها جل وعلا متى شاء إذا شاء كيف شاء . وأهل السنة يثبتون ذلك لله كما أثبته لنفسه على ما يليق بجلاله .
9 ـ ذكر مجيء الله سبحانه لفصل القضاء بين عباده على ما يليق بجلاله
وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ } وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا } .
الشرح :(21/38)
{ هَلْ يَنظُرُونَ } هذا تهديد للكفار التاركين للدخول في السلم أي الإسلام، المتبعين لخطوات الشيطان . ومعنى { يَنظُرُونَ } : ينتظرون يقال نظرته وانتظرته بمعنى واحد . { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ } ذاته سبحانه لفصل القضاء بينهم يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله . { فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } الظلل : جمع ظلة وهي ما يظلك، والغمام : السحاب الرقيق الأبيض سمي بذلك لأنه يغم، أي : يستر . { والْمَلآئِكَة } أي : والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام . { وَقُضِيَ الأَمْرُ } أي : فرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم .
وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ } أي : لقبض أرواحهم { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } أي : بذاته سبحانه لفصل القضاء بين العباد { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ } وهو طلوع الشمس من مغربها، وذلك أحد أشراط الساعة الكبار، إذا وقع أغلق باب التوبة فلا تقبل .
وقوله : { كلا } حرف ردع وزجر عما ذكر قبلها أي : ما هكذا ينبغي أن يكون عملكم من عدم إكرام اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين وأكل التراث وحب المال بكثرة شديدة . { إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا } أي : زلزلت وحركت تحريكًا بعد تحريك حتى انهدم كل ما عليها من بناء وعاد هباءً منبثًا . { وَجَاء رَبُّكَ } بذاته سبحانه لفصل القضاء بين عباده . { والملك } أي : جنس الملائكة، { صَفًّا صَفًّا } منصوب على الحال، أي : مصطفين صفًا بعد صف، قد أحدقوا بالجن والإنس . كل أهل سماء يكونون صفًا واحدًا محيطين بالأرض ومن فيها فيكونون سبعة صفوف .
وقوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء } أي : يوم القيامة . { تَشَقَّقُ السَّمَاء } أي : تنفطر وتنفرج . { بِالْغَمَامِ } الذي هو ظلل النور العظيم الذي يبهر الأبصار . { وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا } إلى الأرض فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر ثم يجيء الرب لفصل القضاء بين عباده .(21/39)
الشاهد من الآيات : أنها أفادت إثبات المجيء والإتيان لله يوم القيامة بذاته على ما يليق بجلاله فصل القضاء بين عباده ومجيئه وإتيانه سبحانه من صفاته الفعلية يجب إثباتهما على حقيقتهما، ولا يجوز تأويلهما بمجيء إتيان أمرو كما يفعله نفاة الصفات . فيقولون : { وَجَاء رَبُّكَ } أي : جاء أمره وهذا من تحريف آيات الله .
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : الإتيان والمجيء المضاف إليه ـ سبحانه ـ نوعان : مطلق ومقيد . فإذا كان المراد مجيء رحمته أو عذابه ونحو ذلك قيد بذلك كما في الحديث : ( حتى جاء الله بالرحمة والخير ) ، وقوله : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ } . النوع الثاني : الإتيان والمجيء المطلق فهذا لا يكون إلا مجيئه سبحانه كقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } ، وقوله : { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } ا . ه ـ .
10 ـ إثبات الوجه لله سبحانه
وقوله : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } .
الشرح :
{ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم . فإن الرب سبحانه لا يموت بل هو الحي الذي لا يموت أبدًا . { ذُو الْجَلالِ } أي : العظمة والكبرياء . { وَالإِكْرَامِ } أي : المكرم لأنبيائه وعباده الصالحين . وقيل : المستحق أن يكرم عن كل شيء لا يليق به .
وقوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ } أي : كل من في السماء ومن في الأرض سيذهبون ويموتون . { إِلاَّ وَجْهَهُ } منصوب على الاستثناء . وهذا إخبار بأنه الدائم الباقي الذي تموت الخلائق ولا يموت .(21/40)
الشاهد من الآيتين : أن فيهما إثبات الوجه لله ـ سبحانه ـ وهو من صفاته الذاتية فهو وجه على حقيقته يليق بجلاله . { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } لا كما يزعم معطلة الصفات أن الوجه ليس على حقيقته وإنما المراد به الذات أو الثواب أو الجهة أو غير ذلك، وهذه تأويلات باطلة من وجوه :
منها أنه جاء عطف الوجه على الذات كما في الحديث : ( أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم ) والعطف يقتضي المغايرة . ومنها أنه أضاف الوجه إلى الذات فقال : { وَجْهُ رَبِّكَ } ووصف الوجه بقوله : { ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } فلما قال : { ذُو الْجَلالِ } تبين أنه وصف للوجه لا للذات وأن الجه صفة للذات . ومنها : أنه لا يعرف في لغة أمة من الأمم أن وجه الشيء بمعنى ذاته أو الثواب، والوجه في اللغة مستقبل كل شيء لأنه أول ما يواجه منه وهو في كل شيء بحسب ما يضاف إليه .
11 ـ إثبات اليدين لله تعالى في القرآن
وقوله : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وقوله { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } .
الشرح :
{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } الخطاب لإبليس لعنه الله لما امتنع من السجود لآدم ـ عليه السلام ـ أي : شيء صرفك وصدك عن السجود . { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } أي : باشرت خلقه بيدي من غير واسطة، وفي هذا تشريف وتكريم لآدم . قوله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ } اليهود في الأصل من قولهم : { هُدْنَا إِلَيْكَ } وكان اسم مدح ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازمًا لهم وإن لم يكن فيه معنى المدح . وقيل : سموا بذلك نسبة إلى يهودا بن يعقوب ـ عليه السلام ـ .(21/41)
{ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } يخبر تعالى عنهم بأنهم وصفوه بأنه بخيل، كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء، لا أنهم يعنون أن يده موثقة . { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } هذا رد عليهم من الله تعالى بما قالوه ومقابلة لهم بما افتروه واختلقوه . وهكذا وقع لهم فإن فيهم من البخل والحسد الشيء الكثير، فلا ترى يهوديًا إلا وهو من أبخل خلق الله . { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } معطوفة على ما قبله والباء سببية، أي : أبعدوا من رحمة الله بسبب هذه المقالة .
ثم رد عليهم سبحانه بقوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أي : بل هو في غاية ما يكون من الجود والعطاء فيداه مبسوطتان بذلك . { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } : جملة مستأنفة مؤكدة لكمال جوده . فإنفاقه على ما تقتضيه مشيئته فإن شاء وسع وإن شاء ضيق . فهو الباسط القابض على ما تقتضيه حكمته . الشاهد من الآيتين الكريمتين : أن فيهما إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى، وأنهما يدان حقيقيتان لائقتان بجلاله وعظمته ليسنا كيدي المخلوق، وزعم أن المراد باليد القدرة أو النعمة وهذا تأويل باطل وتحريف للقرآن الكريم .
فالمراد باليد القدرة والنعمة، إذ لو كان المراد باليد القدرة كما يقولون لبطل تخصيص آدم بخلقه بهما، فإن جميع المخلوقات حتى إبليس خلقت بقدرته، فأي مزية لآدم على إبليس في قوله : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } . فكان يمكن لإبليس أن يقول : وأنا خلقتني بيديك إذا كان المراد بها القدرة . وأيضًا لو كان المراد باليد القدرة لوجب أن يكون لله قدرتان وقد أجمع المسلمون على بطلان ذلك، وأيضًا لو كان المراد باليد النعمة لكان المعنى أنه خلق آدم بنعمتين وهذا باطل لأن نعم الله كثيرة لا تحصى وليست نعمتين فقط .
12 ـ إثبات العينين لله تعالى(21/42)
وقوله : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ } { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } .
الشرح :
{ وَاصْبِرْ } الصبر لغة الحبس والمنع . فهو حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن التشكي والتسخط وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب . { لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي : لقضائه الكوني والشرعي . { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي : بمرأى منا وتحت حفظنا فلا تبال بأذى الكفار، فإنهم لا يصلون إليك .
قوله : { وَحَمَلْنَاهُ } أي : نوحًا ـ عليه السلام ـ . { عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } أي : على سفينة ذات أخشاب عريضة . ومسامير شدت بها تلك الألواح، مفردها : دسار . { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي : بمنظر ومرأى منا وحفظ لها . { جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي : فعلنا بنوح ـ عليه السلام ـ وبقومه ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابًا لمن كفر به وجحد أمره، وهو نوح ـ عليه السلام ـ .
وقوله : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } الخطاب لموسى ـ عليه السلام ـ أي : وضعتها عليك فأحببتك وحببتك إلى خلقي . { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } أي : ولتربى وتغذى بمرأى مني، أراك وأحفظك .
الشاهد من الآيات : أن فيها إثبات العينين لله تعالى حقيقة على ما يليق به سبحانه . فقد نطق القرآن بلفظ العين مضافة إليه مفردة ومجموعة، ونطقت السنة بإضافتها إليه مثناة، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إن ربكم ليس بأعور ) . وذلك صريح بأنه ليس المراد إثبات عين واحدة فإن ذلك عور ظاهر تعالى الله عنه .(21/43)
ولغة العرب جاءت بإفراد المضاف وتثنيته وجمعه بحسب أحوال المضاف إليه . فإن أضافوا الواحد المتصل إلى مفرد أفردوه، وإن أضافوا إلى جمع ظاهرًا أو مضمرًا فالأحسن جمعه مشاكلة للفظ كقوله سبحانه : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } . وكقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } وإن أضافوه إلى اسم مثنى فالأفصح في لغتهم جمعه كقوله : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } وإنما هما قلبان فلا يلتبس على السامع قول المتكلم نراك بأعيننا ونأخذك بأيدينا ولا يفهم منه بشر على وجه الأرض عيونًا كثيرة على وجه الأرض عيونًا كثيرة على وجه واحد، والله أعلم .
13 ـ إثبات السمع والبصر لله تعالى
وقوله : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } وقوله : { لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } وقوله : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } وقوله : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ }
الشرح :(21/44)
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي } وهي خولة بنت ثعلبة { تُجَادِلُكَ } أيها النبي أي تراجعك الكلام في شأن { زَوْجِهَا } وهو أوس بن الصامت وذلك حين ظاهر منها . { وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } : معطوف على { تُجَادِلُكَ } وذلك أنه كلما قال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( قد حرمت عليه ) قالت : والله ما ذكر طلاقًا، ثم تقول : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وأن لي صبية صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا . وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك .
{ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } أي : تراجعكما في الكلام . { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } يسمع كل الأصوات ويبصر ويرى كل المخلوقات، ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة .
وقوله : { لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } هم قوم من اليهود قالوا هذه المقالة لما أنزل الله : { مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } الآية ( 245 ) من سورة البقرة، قالوا ذلك تمويها على ضعفائهم لا أنهم يعتقدون ذلك لأنهم أهل كتاب، وإنما قالوا ذلك ليشككوا في دين الإسلام . وقوله : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ } ما يسرون به في أنفسهم أو ما يتحادثون به سرًا في مكان خال . { وَنَجْوَاهُم } أي : ما يتناجون به فيما بينهم . والنجوى : ما يتحدث به الإنسان مع رفيقه ويخفيه عن غيره . { بلى } نسمع ذلك ونعلم به . { وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } أي : الحفظة عندهم يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل .(21/45)
وقوله : { إِنَّنِي مَعَكُمَا } ، يقول تعالى لموسى وأخيه هارون ـ عليهما السلام ـ لما أرسلهما إلى فرعون : { إِنَّنِي مَعَكُمَا } أي : بحفظي وكلاءتي ونصري لكما . { أَسْمَعُ وَأَرَى } أي : أسمع كلامكما وكلام عدوكما وأرى مكانكما ومكانه وما يجري منكما ومنه . وهذا تعليل لقوله : { لا تَخَافَا } . قوله : { أَلَمْ يَعْلَمْ } أبو جهل حينما نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الصلاة { بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } أي : أما علم أن الله يراه ويسمع كلامه وسيجازيه على فعله أتم الجزاء . والاستفهام للتقريع والتوبيخ .
قوله : { الَّذِي يَرَاكَ } أي : يبصرك { حِينَ تَقُومُ } للصلاة وحدك { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } أي : ويراك إن صليت في الجماعة راكعًا وساجدًا وقائمًا { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } لما تقوله { الْعَلِيمُ } به .
قوله : { وَقُلِ اعْمَلُواْ } أي : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين : { اعْمَلُواْ } ما شئتم واستمروا على باطلكم ولا تحسبوا أن ذلك سيخفى . { فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } أي : ستظهر أعمالكم للناس وترى في الدنيا { وَسَتُرَدُّونَ } بعد الموت { إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فيجازيكم على ذلك .
الشاهد من الآيات الكريمة : في هذه الآيات وصف الله سبحانه بالسمع والبصر وأنه تعالى يسمع ويبصر حقيقة على ما يليق به منزه عن صفات المخلوقين ومماثلتهم، فالآيات صريحة في إثبات السمع والبصر حيث جاء فيها إثبات السمع لله بلفظ الماضي والمضارع واسم الفاعل سمع ويسمع وسميع . ولا يصح في كلام العرب أن يقال لشيء هو سميع بصير إلا وذلك الشيء يسمع ويبصر هذا هو الأصل فلا يقال : جبل سميع بصير لأن ذلك مستحيل إلا لمن يسمع ويبصر .
14 ـ إثبات المكر والكيد لله تعالى على ما يليق به(21/46)
وقوله : { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } وقوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } وقوله : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } وقوله : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا } .
الشرح :
قوله : { وَهُوَ } أي : الله سبحانه { شَدِيدُ الْمِحَالِ } المحل في اللغة : الشدة، أي شديد الكيد، قال الزجاج : يقال : ما حلته محالًا إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد . وقال ابن الأعرابي : المحال : المكر . فهو سبحانه شديد المكر وشديد الكيد، والمكر من الله : إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر .
وقوله : { وَمَكَرُوا } أي : الذين أحس عيسى منهم الكفر، وهم كفار بني إسرائيل الذين أرادوا قتل عيسى وصلبه . والمكر : فعل شيء يراد به ضده . { وَمَكَرَ اللَّهُ } أي : استدرجهم وجازاهم على مكرهم فألقى شبه عيسى على غيره . ورفع عيسى إليه . { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } أي : أقواهم وأقدرهم على إيصال الضرر بمن يستحقه من حيث لا يشعر ولا يحتسب .
وقوله : { وَمَكَرُوا } أي : الكفار الذين تحالفوا على قتل نبي الله صالح ـ عليه السلام ـ وأهل خفية خوفًا من أوليائه . { وَمَكَرْنَا مَكْرًا } جازيناهم بفعلهم هذا فأهلكناهم ونجينا نبينا . { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } بمكرنا . وقوله : { إنهم } أي : كفار قريش { يَكِيدُونَ كَيْدًا } أي : يمكرون لإبطال ما جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الدين الحق . { وَأَكِيدُ كَيْدًا } أي : أستدرجهم وأجازيهم على كيدهم فآخذهم على غرة وهم لا يشعرون .(21/47)
الشاهد من الآيات : في هذه الآيات وصف الله بالمكر والكيد ونسبة لك إيه سبحانه حقيقة على بابه، فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة والمكر . والكيد نوعان : قبيح وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه . وحسن وهو إيصاله إلى من يستحقه عقوبة له، الأول مذموم، والثاني ممدوح . والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلًا منه وحكمة، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب، لا كما يفعل الظلمة بعباد الله والله أعلم .
والله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق . وقد علم أن المجازاة حسنة من المخلوق، فكيف بالخالق سبحانه وتعالى ؟ ! .
تنبيه : نسبة الكيد والمكر ونحوهما إليه سبحانه من إطلاق الفعل عليه تعالى، والفعل أوسع من الاسم ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالًا لم يتسم منها بأسماء الفاعل، كأراد وشاء ولم يسم بالمريد والشائي . وكذا مكر ويمكر . وأكيد كيدًا، ولا يقال الماكر والكائد لأن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم .
15 ـ وصف الله بالعفو والمغفرة والرحمة والعزة والقدرة
وقوله تعالى : { إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقوله : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ } وقوله عن إبليس : { فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } .
الشرح :
{ إِن تُبْدُواْ خَيْرًا } أي : تظهروه { أَوْ تُخْفُوهُ } فتعملوه سرا . { أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ } أي : تتجاوزوا عمن أساء إليكم { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } عن عباده يتجاوز عنهم { قَدِيرًا } على الانتقام منهم بما كسبت أيديهم فاقتدوا به سبحانه فإنه يعفو مع القدرة .(21/48)
قوله : { وَلْيَعْفُوا } أي : ليستر ويتجاوز أولو الفضل والسعة المذكورون في أول الآية { وَلْيَصْفَحُوا } بالإعراض عن الجاني والإغماض عن جنايته . { أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } بسبب عفوكم وصفحكم عن المسيئين إليكم { وَاللَّهُ غَفُورٌ } كثير المغفرة { رَّحِيمٌ } كثير الرحمة .
قوله : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ } هذا رد على المنافقين الذين زعموا أن العزة لهم على المؤمنين والعزة هي : القوة والغلبة وهي لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسوله وصالحي عبيده لا لغيرهم .
قوله عن إبليس : { فَبِعِزَّتِكَ } أقسم بعزة الله تعالى : { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } لأضلن بني آدم بتزيين الشهوات لهم وإدخال الشبهات عليهم حتى يصيروا غاوين جميعًا . ثم لما علم أن كيده لا ينجح إلا في أتباعه من أهل الكفر والمعاصي استثنى فقال : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } .
الشاهد من الآيات : أن فيها وصف الله بالعفو والقدرة والمغفرة والرحمة والعزة وهي صفات كمال تليق به .
16 ـ إثبات الاسم لله ونفي المثل عنه
وقوله : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } .
الشرح :
{ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } البركة لغة النماء والزيادة . والتبرك : الدعاء بالبركة . ومعنى { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } تعاظم أو علا وارتفع شأنه . وهذا اللفظ لا يطلق إلا على الله { ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } تقدم تفسيره في آيات إثبات الوجه .(21/49)
قوله : { فَاعْبُدْهُ } أي : أفرده بالعبادة ولا تعبد معه غيره . والعبادة لغة : الذل والخضوع، وشرعًا : اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة . { وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } أي : اثبت على عبادته ولازمها واصبر على مشاقها { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } الاستفهام للإنكار، والمعنى أنه ليس له مثل ولا نظير حتى يشاركه في العبادة .
وقوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } الكفء في لغة العرب : النظير، أي : ليس له نظير ولا مثيل ولا شريك من خلقه . قوله : { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا } الند في اللغة : المثل والنظير والشبيه، أي : لا تتخذوا لله أمثالًا ونظراء تعبدونهم معه وتساوونهم به في الحب والتعظيم . { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه ربكم وخالقكم وخالق كل شيء وأنه لا يد له يشاركه في الخلق .
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاد } لما فرغ سبحانه من ذكر الدليل على وحدانيته في الآية التي قبلها، أخبر أنه مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه وجليل قدرته وتفرده بالخلق أخبر أنه مع ذلك قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه ندًا يعبده من الأصنام العاجزة { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } أي : أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة تلك الأنداد بل أحبوها حبًا عظيمًا وأفرطوا في حبها كما يحبون الله، فقد سووهم بالله في الخلق والرزق والتدبير .
الشاهد من الآيات : أن فيها إثبات اسم الله وتعظيمه وإجلاله . وفيها نفي السمي والكفء والند عن الله سبحانه وهو نفي مجمل، وهذه في الطريقة الواردة في الكتاب والسنة فيما ينفي عن الله تعالى وهي أن ينفي عن الله ـ عز وجل ـ كل ما يضاد كماله الواجب من أنواع العيوب والنقائص .
17 ـ نفي الشريك عن الله تعالى(21/50)
{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
الشرح :(21/51)
{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ } الحمد : هو الثناء وأل فيه للاستغراق، أي : الحمد كله لله { الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } أي : ليس له ولد كما تقوله اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب { وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } أي : ليس له مشارك في ملكه وربوبيته كما تقول الثنوية ونحوهم ممن يقول بتعدد الآلهة . { وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ } أي : ليس بذليل فيحتاج إلى أن يكون له ولي أو وزير أو مشير، فلا يحالف أحدًا ولا يستنصر بأحد { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } أي عظمه وأجله عما يقوله الظالمون .
قوله : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أي : تنزهه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه عن كل نقص وعيب { لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ } يختصان به ليس لغيره منهما شيء . وما كان لعباده من الملكية فهو من عطائه { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لا يعجزه شيء .
{ تَبَارَكَ } فعل ماض مأخوذ من البركة، وهي النماء والزيادة المستقرة الثابتة الدائمة، وهذه اللفظة لا تستعمل إلا لله سبحانه . ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي { الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ } أي : القرآن سمي فرقانًا لأنه يفرق بين الحق والباطل { عَلَى عَبْدِهِ } يعني : محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذه صفة مدح وثناء لأنه أضافه إليه إضافة تشريف وتكريم في مقام إنزال القرآن عليه { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ } الإنس والجن، وهذا من خصوصياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ { نَذِيرًا } أي : منذرًا، مأخوذ من الإنذار وهو الإعلام بأسباب المخافة، وقوله : { لِيَكُونَ } تعليل لإنزال الفرقان عليه أي ليخصه بالرسالة العامة .(21/52)
ثم وصف نفسه سبحانه بأربع صفات : الأولى : قوله { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } دون غيره فهو المتصرف فيهما وحده . الصفة الثانية : { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } كما تزعم النصارى واليهود وذلك لكمال غناه وحاجة كل مخلوق إليه . الصفة الثالثة : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } فيه رد على طوائف المشركين من الوثنية والثنوية وغيرهم . الصفة الرابعة : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } من المخلوقات . ويدخل في ذلك أفعال العباد فهي خلق الله وفعل العبد { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } أي : قدر كل شيء مما خلق من الآجال والأرزاق والسعادة والشقاوة وهيأ كل شيء لما يصلح له .
قال ابن كثير : نزه نفسه عن الولد وعن الشريك، ثم أخبر أنه خلق كل شيء فقدره تقديرًا، أي : كل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره . انتهى .
قوله : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } في هذه الآية ينزه تعالى نفسه على أن يكون له ولد أو شريك في الملك والتصرف والعبادة و { من } في الموضعين لتأكيد النفي { إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ } هذا استدلال لما سبق في أول الآية من نفي الولد والشريك في الألوهية، أي : لو قدر تعدد الآلهة لانفرد كل منهم عن الآخر بما خلق، وحينئذ لا ينتظم الكون لوجود الانقسام . والواقع المشاهد أن الكون منتظم أتم انتظام لم يحصل فيه تعدد ولا انقسام { وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي : ولو كان معه إله آخر لكان كل منهم يطلب قهر الآخر ومخالفته، فيعلو بعضهم على بعض كحال ملوك الدنيا، وحينئذ فذلك المغلوب الضعيف لا يستحق أن يكون إلها .(21/53)
وإذا تقرر بطلان المشارك تعين أن يكون الإله واحدًا هو الله وحده، ولهذا قال : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } من الشريك والولد { عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : هو المختص بعلم ما غاب عن العباد وعلم ما يشاهدونه . وأما غيره فهو وإن علم شيئًا من المشاهد فإنه لا يعلم الغيب { فَتَعَالَى } أي : تنزه الله وتقدس { عَمَّا يُشْرِكُونَ } به فهو سبحانه متعال عن أن يكون له شريك في الملك .
قوله : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ } ينهى سبحانه عن ضرب الأمثال له . وضرب المثل هو تشبيه حال بحال . وكان المشركون يقولون : إن الله أجل من أن يعبده الواحد منا فلابد من اتخاذ واسطة بيننا وبينه فكانوا يتوسلون إليه بالأصنام وغيره تشبيهًا له بملوك الدنيا فنهى سبحانه عن ذلك لأنه سبحانه لا مثل له فلا يمثل بخلقه ولا يشبه بهم { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ } أنه لا مثل له { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ففعلكم هذا صدر عن توهم فاسد وخاطر باطل . ولا تعلمون أيضًا ما في عبادة الأصنام من سوء العاقبة .(21/54)
وقوله : { قل } الخطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي ذلك دليل على أن القرآن كلام الله وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبلغ عن الله . { إنما } أداة حصر { حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } أي : جعلها حرامًا . والفواحش : جمع فاحشة وهي ما تناهى قبحه من المعاصي { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي : ما أعلن منها وما أسر { وَالإِثْمَ } : كل معصية يتسبب عنها الإثم، وقيل : هو الخمر خاصة { وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : الظلم المجاوز للحد والتعدي على الناس { وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ } أي : تجعلوا له شريكًا في العبادة . { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } أي : حجة وبرهانًا . وهذا موضع الشاهد من الآية { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدًا ونحو ذلك مما لا علم لكم به، ومثل ما كانوا ينسبون إليه من التحليلات والتحريمات التي لم يأذن بها .
الشاهد من هذه الآيات الكريمة : أن فيها نفي الشريك عن الله تعالى وإثبات تفرده بالكمال ونفي الولد والمثل عنه سبحانه وأن جميع مخلوقاته تنزهه عن ذلك وتقدسه، كما فيها إقامة الحجة على بطلان الشرك وأنه مبني على جهل وخيال . وأنه سبحانه لا مثل له ولا شبيه له . والله أعلم .
18 ـ إثبات استواء الله على عرشه(21/55)
وقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } في سبعة مواضع : في سورة الأعراف قوله : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وقال في سورة يونس ـ عليه السلام ـ : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وقال في سورة الرعد : { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وقال في سورة طه : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وقال في سورة الفرقان : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } وقال في سورة الم السجدة : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وقال في سورة الحديد : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } .
الشرح :
أي قد ورد إثبات استواء الله على عرشه في سبع آيات من كتاب الله، كلها قد ورد فيها إثبات الاستواء بلفظ واحد هو : { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فهو نص في معناه الحقيقي لا يحتمل التأويل بمعنى آخر . والاستواء صفة فعلية ثابتة لله سبحانه على ما يليق بجلاله كسائر صفاته، وله في لغة العرب أربعة معان هي : علا، وارتفع، وصعد، واستقر . وهذه المعاني الأربعة تدور عليها تفاسير السلف للاستواء الوارد في هذه الآيات الكريمة .(21/56)
فقوله في الآية الأولى والثانية : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ } أي : هو خالقكم ومربيكم بنعمه والذي يجب عليكم أن تعبدوه وحده { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } أي : هو خالق العالم . سماواته وأرضه وما بين ذلك { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } هي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، ففي يوم الجمعة اجتمع الخلق كله وفيه خلق آدم ـ عليه السلام ـ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أي : علا وارتفع على العرش كما يليق بجلاله . وهذا محل الشاهد من الآية . والعرش في اللغة هو سرير الملك . والمراد هنا كما يدل عليه مجموع النصوص : سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم هو سقف المخلوقات .
وقوله في الآية الثالثة : { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ } أي : رفعها عن الأرض رفعًا بعيدًا لا ينال ولا يدرك مداه { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } العمد هي الأساطين جمع عماد . أي : قائمة بغير عمد تعتمد عليها بل بقدرته سبحانه . وقوله : { تَرَوْنَهَا } تأكيد لنفي العمد . وقيل لها عمد ولكن لا نراها . ولأول أصح . { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } هذا محل الشاهد من الآية الكريمة لإثبات الاستواء . والكلام على بقية الآيات كالكلام على هذه الآية .
ويستفاد منها جميعًا : إثبات استواء الله على عرشه على ما يليق بجلاله، وفيها الرد على من أول الاستواء بأنه الاستيلاء والقهر، وفسر العرش بأنه الملك، فقال استوى على العرش، معناه استولى على الملك وقهر غيره . وهذا باطل من وجوه كثيرة منها :
أولًا : أن هذا تفسير محدث مخالف لتفسير السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، وأول من قال به : الجهمية والمعتزلة . فهو مردود .(21/57)
ثانيًا : لو كان المراد بالاستواء على العرش الاستيلاء على الملك لم يكن هناك فرق بين العرش والأرض السابعة السفلى والدواب وجميع المخلوقات، لأنه مستولٍ على الجميع ومالك للجميع . فلا يكون لذكر العرش فائدة .
ثالثًا : أن هذا اللفظ { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } قد اطرد في الكتاب والسنة ولم يأت في لفظ واحد ( استولى على العرش ) حتى تفسر به بقية النصوص .
رابعًا : أنه أتى ب ـ { ثم } التي تفيد الترتيب والمهلة، فلو كان معنى الاستواء الاستيلاء على العرش والقدرة عليه لم يتأخر ذلك إلى ما بعد خلق السموات والأرض فإن العرش كان موجودًا قبل خلق السموات والأرض، بخمسين ألف سنة كما ثبت في الصحيحين فكيف يجوز أن يكون غير قادر ولا مسئول عليه إلى أن خلق السموات والأرض . هذا من أبطل الباطل، والله أعلم .
19 ـ إثبات علو الله على مخلوقاته
وقوله : { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } { بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا } { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } .
الشرح :(21/58)
{ يَا عِيسَى } خطاب من الله ـ تبارك وتعالى ـ لعيسى بن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } الذي عليه الأكثر أن المراد بالوفاة هنا النوم كما قال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } الآية ( 42 ) من سورة الزمر . { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } أي : رفعه الله إليه في السموات وهو حي . وهذا محل الشاهد من الآية وهو إثبات العلو لله لأن الرفع يكون إلى أعلى .
وقوله : { بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } هذا رد على اليهود الذين يدعون أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم فقال تعالى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ } إلى قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } الآية ( 157 ) من سورة النساء { بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } أي : رفع الله سبحانه وتعالى المسيح ـ عليه السلام ـ إليه وهو حي لم يقتل . وهذا محل الشاهد لأن فيه إثبات علو الله على خلقه لأن الرفع يكون إلى أعلى .
وقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ } أي : إلى الله سبحانه لا إلى غيره يرتفع { الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } أي : الذكر والتلاوة والدعاء { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } أي : العمل الصالح، يرفع الكلم الطيب، فإن الكلم الطيب لا يقبل إلا مع العمل الصالح فمن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه، قال إياس بن معاوية : ولولا العمل الصالح لم يرفع الكلام . وقال الحسن وقتادة : لا يقبل قول إلا بعمل . والشاهد من الآية : أن فيها إثبات علو الله على خلقه لأن والرفع يكونان إلى أعلى .(21/59)
وقوله تعالى : { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا } هذا من مقولة فرعون لوزيره هامان يأمره أن يبني له قصرًا منيفًا عاليًا { لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ } أي : طرق السموات أو أبوابها { فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } بنصب { فَأَطَّلِعَ } بأن مضمرة بعد فاء السببية، ومعنى مقالته هذه تكذيب موسى ـ عليه السلام ـ في أن الله أرسله، أو أن إلهًا في السماء . ولذلك قال : { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا } أي : فيما يدعيه من الرسالة أو فيما يدعيه بأن له إلها في السماء والشاهد من الآية : أن فيها إثبات علو الله على خلقه، حيث أن موسى ـ عليه السلام ـ أخبر بذلك وحاول فرعون في تكذيبه .
وقوله تعالى : { أَأَمِنتُم } الآمن : ضد الخوف { مَّن فِي السَّمَاء } أي : عقوبة من في السماء وهو الله سبحانه، ومعنى { فِي السَّمَاء } أي على السماء، كقوله تعالى : { وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } وهذا إن أريد بالسماء السماء المبنية، وإن أريد بالسماء مطلق العلو ففي للظرفية، أي : في العلو . { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ } أي : يقلعها بكم كما فعل بقارون { فإذا هي تمور } أي : تضطرب وتتحرك .
{ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } أي : حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل . وقيل : سحاب فيها حجارة، وقيل : ريح فيها حجارة { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } أي : إنذاري إذا عاينتم العذاب ولا ينفعكم حينذاك هذا العلم .
والشاهد من الآيتين : أن فيهما إثبات علو الله على خلقه حيث صرحنا أنه سبحانه في السماء، فقد دلت هذه الآيات التي ذكرها المؤلف ـ رحمة الله عليه ـ على إثبات العلو . كما دلت هذه الآيات التي قبلها على إثبات استواء الله على العرش . والفرق بين الاستواء والعلو :(21/60)
1 ـ أن العلو من صفات الذات والاستواء من صفات الأفعال، فعلو الله على خلقه وصف لازم لذاته، والاستواء فعل من أفعاله سبحانه يفعله ـ سبحانه وتعالى ـ بمشيئته وقدراته إذا شاء ولذا قال فيه : { ثُمَّ اسْتَوَى } وكان ذلك بعد خلق السموات والأرض .
2 ـ أن العلو من الصفات الثابتة بالعقل والنقل . والاستواء ثابت بالنقل لا بالعقل .
20 ـ إثبات معية الله لخلقه
وقوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وقوله : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } { وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } .
الشرح :
قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ ـ إلى قوله ـ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } : تقدم تفسيره . وقوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } أي : هو معكم بعلمه رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم في بر أو بحر في ليل أو نهار في البيوت أو القفار الجميع في علمه على السواء تحت سمعه وبصره . يسمع كلامكم، يرى مكانكم، وهذا محل الشاهد من الآية الكريمة ففيه إثبات المعية العامة { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا يخفى عليه شيء من أعمالكم .(21/61)
وقوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ } النجوى : السر، والمعنى : ما يوجد من تناجي ثلاثة { إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } أي : جاعلهم أربعة وجاعلهم ستة من حيث إنه سبحانه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى، وتخصيص هذين العددين بالذكر لأن أقل عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو خمسة، أو أن سبب النزول تناجي ثلاثة في واقعة وخمسة في واقعة أخرى . وإلا فهو سبحانه مع كل عدد قل أو كثر ولهذا قال تعالى : { وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } أي : ولا أقل من العدد المذكور كالواحد والاثنين ولا أكثر منه كالستة والسبعة { إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } بعلمه يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عيه شيء منه .
قال المفسرون : إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوؤهم فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر، شكوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمرهم أن لا يتناجون فيما يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله هذه الآيات .
وقوله تعالى : { أَيْنَ مَا كَانُوا } معناه : إحاطة علمه سبحانه بكل تناج يقع منهم في أي مكان { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم } أي يخبرهم سبحانه { بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ويجازيهم على ذلك وفي هذا تهديد لهم وتوبيخ { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } لا يخفى عليه شيء .
والشاهد من الآية أن فيها إثبات معية الله لخلقه، وهي معية عامة مقتضاها الإحاطة والعلم بجميع أعمالهم ولهذا يقول الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم .(21/62)
وقوله تعالى : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } هذا خطاب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصاحبه أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ حينما كانا في الغار وقت الهجرة وقد لحق بهما المشركون، فحزن أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ خوفًا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أذى الكفار فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا تحزن ) أي : دع الحزن ( إن الله معنا ) بنصره وعونه وتأييده . ومن كان الله معه فلن يغلب . ومن لا يغلب لا يحق له أم يحزن .
والشاهد من الآية : أن فيها إثبات المعية الخاصة بالمؤمنين التي مقتضاها النصر والتأييد .
وقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } أي : لا تخافا من فرعون { إِنَّنِي مَعَكُمَا } تعليل للنهي، أي : معكما بالنصر لكما والمعونة على فرعون { أَسْمَعُ } كلامكما وكلامه { وَأَرَى } مكانكما ومكانه لا يخفى علي من أمركم شيء .
والشاهد من الآية : أن فيها إثبات المعية الخاصة في حق الله تعالى لأوليائه بالنصر والتأييد، كما أن فيها إثبات السمع والبصر له ـ سبحانه وتعالى ـ . وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ } أي : تركوا المحرمات والمعاصي على اختلاف أنواعها { وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا به، فهو سبحانه مع هؤلاء بتأييده ونصره ومعونته، وهذه معية خاصة وهي محل الشاهد من الآية الكريمة .
وقوله : { وَاصْبِرُوا } فهو سبحانه مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه .
والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات معية الله للصابرين على طاعته والمجاهدين في سبيله، قال الإمام الشوكاني : ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غال ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات وإن كانت كثيرة . اه ـ .(21/63)
وقوله تعالى : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً } الفئة : الجماعة والقطعة منهم { بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : بإرادته وقضائه ومشيئته { وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } : هذا محل الشاهد من الآية الكريمة، وهو إثبات معية الله سبحانه للصابرين على الجهاد في سبيله، وهي معية خاصة مقتضاها النصر والتأييد .
ما يستفاد من مجموع الآيات السابقة : أفادت إثبات المعية، وأنها نوعان :
النوع الأول : معية عامة كما في الآيتين الأوليين، ومقتضى هذه المعية إحاطته سبحانه بخلقه وعلمه بأعمالهم خيرها وشرها ومجازاتهم عليها .
النوع الثاني : معية خاصة بعباده المؤمنين ومقتضاها النصر التأييد والحفظ، وهذا النوع تدل عليه الآيات الخمس الباقية التي أوردها المؤلف ـ رحمه الله ـ . ومعيته ليس كقرب المخلوق ومعية المخلوق للمخلوق، فإنه سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ولأن المعية مطلق المقارنة لا تقتضي مماسة ولا محاذاة . تقول العرب : ما زلنا نمشي والقمر معنا مع أنه فوقهم والمسافة بينهم وبينه بعيدة . فعلو الله ـ جل جلاله ـ ومعيته لخلقه لا تنافي بينهما . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله .
21 ـ إثبات الكلام لله تعالى(21/64)
وقوله : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ } { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ } { وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ } { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
الشرح :
قوله تعالى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ } أي : لا أحد أصدق منه سبحانه فهو استفهام إنكاري { حَدِيثًا } أي : في حديثه وخبره وأمره ووعده ووعيده وقوله : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } القيل : مصدر قال كالقول . أي : لا أحد أصدق قولًا من الله ـ عز وجل ـ .
والشاهد من الآيتين الكريمتين أن فيهما إثبات الحديث والقيل لله سبحانه، ففيهما إثبات الكلام له سبحانه .(21/65)
وقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } أي : اذكر { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ } جمهور المفسرين ذهب إلى أن هذا القول منه سبحانه يكون يوم القيامة، وهو توبيخ للذين عبدوا المسيح وأمه من النصارى . وهي كالآيتين السابقتين فيهما إثبات القول لله تعالى وأنه يقول إذ شاء .
وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } المراد بالكلمة كلامه سبحانه . وقوله : { صِدْقًا } أي : في إخباره سبحانه { وَعَدْلًا } أي : في أحكامه و { صدقًا، وعدلًا } منصوبان على التمييز، وفي الآية إثبات الكلام لله تعالى . وقوله : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } هذا تشريف لموسى ـ عليه السلام ـ بأن الله كلمه أي أسمعه كلامه، ولهذا يقال له : الكليم و { تَكْلِيمًا } مصدر مؤكد لدفع كون التكليم مجازًا . ففي الآية إثبات الكلام لله وأنه كلم موسى ـ عليه السلام ـ .
وقوله تعالى : { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ } أي من الرسل عيهم الصلاة والسلام { مَّن كَلَّمَ اللَّهُ } أي : أسمعه كلامه بلا واسطة يعني موسى ومحمدًا عليهما الصلاة والسلام، وكذا آدم كما ورد به الحديث في صحيح ابن حبان . ففي الآية إثبات الكلام لله تعالى وأنه كلم بعض الرسل .
وقوله تعالى : { وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا } أي : حصل مجيئه في الوقت الذي واعده الله فيه { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } أي : أسمعه كلامه من غير واسطة، فالآيات فيها إثبات الكلام لله وأنه يتكلم متى شاء سبحانه، وأنه كلم موسى ـ عليه السلام ـ بلا واسطة .(21/66)
وقوله تعالى : { وَنَادَيْنَاهُ } أي : نادى الله تعالى موسى ـ عليه السلام ـ . والنداء هو الصوت المرتفع { مِن جَانِبِ الطُّورِ } : جبل بين مصر ومدين { الأَيْمَنِ } أي : الجانب الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من النار التي رآها جذوة، وليس المراد أيمن الجبل نفسه فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال . { وَقَرَّبْنَاهُ } أي : أدنيناه حتى كلمناه { نَجِيًّا } أي : مناجيًا، والمناجاة ضد المناداة .
وفي الآية الكريمة إثبات الكلام لله تعالى وأنه ينادي ويناجي، وهما نوعان من الكلام، فالمناداة بصوت مرتفع والمناجاة بصوت غير مرتفع .
وقوله : { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى } أي : واتل أو اذكر ذلك { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى } النداء هو الدعاء { أَنِ ائْتِ } : { أَنِ } يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية، أي : اذهب إلى { الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وصفهم بالظلم لأنهم جمعوا بين الكفر الذي ظلموا به أنفسهم وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم كاستعبادهم بني إسرائيل وذبح أبنائهم . وفي الآية الكريمة : إثبات الكلام لله تعالى وأنه ينادي من شاء من عباده ويسمعه كلامه .
وقوله : { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } أي : نادى الله تعالى آدم وحواء عليهما السلام قائلًا لهما { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } أي : عن الأكل منها . وهذا عتاب من الله لهما وتوبيخ، حيث لم يحذرا ما حذرهما منه . وفي الآية الكريمة، إثبات الكلام لله تعالى والنداء منه لآدم وزوجه .
وقوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } أي : ينادي الله سبحانه هؤلاء المشركين يوم القيامة { فَيَقُولُ } لهم { مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } أي : ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي، والشاهد من الآية : إثبات الكلام لله، وأنه ينادي يوم القيام .(21/67)
وقوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } الذين أمرت بقتالهم { اسْتَجَارَكَ } يا محمد، أي : طلب جوارك وحمايتك وأمانك { فَأَجِرْهُ } أي : كن له جارًا ومؤمنًا { حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ } منك ويتدبره ويقف على حقيقة ما تدعو إليه .
والشاهد من الآية : أن فيها إثبات الكلام لله تعالى، وأن الذي يتلى هو كلام الله . وقوله : { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } أي : اليهود والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه { يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّه } أي : التوارة { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } أي : يتأولونه على غير تأويله { مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } أي : فهموه، ومع هذا يخالفونه على بصيرة { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله .
والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات الكلام لله تعالى وأن التوراة من كلامه تعالى . وأن اليهود حرفوها وغيروا فيها وبدلوا .
وقوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } { يُرِيدُونَ } أي : المخلفون من الأعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم وتركوا المسير مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين خرج عام الحديبية { أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } أي : يغيروا كلام الله الذي وعد الله به أهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } هذا نفي في معنى النهي أي : لا تتبعونا { كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } أي : وعد الله أهل الحديبية أن غنيمة خيبر لهم خاصة .
والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات الكلام لله وإثبات القول له وأن الله سبحانه يتكلم ويقول متى شاء إذا شاء، وأنه لا يجوز تبديل كلامه سبحانه بل يجب العمل به واتباعه .(21/68)
وقوله : { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ } أمر الله نبيه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه . والوحي : هو الإعلام بسرعة وخفاء، وله كيفيات مذكورة في كتب أصول التفسير { مِن كِتَابِ رَبِّكَ } بيان للذي أوحي إليه { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه } أي : لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل .
والشاهد من الآية : إثبات الكلمات لله تعالى .
قوله : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } وهم حملة التوراة والإنجيل { أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } كاختلافهم في عيسى، فاليهود افتروا في حقه والنصارى غلوا فيه . فجاء القرآن بالقول الوسط الحق أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .
والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات أن القرآن كلام الله تعالى لما تضمنه من الإحاطة بالكتب السابقة، والحكم في الخلاف بين طوائف أهل الكتاب بالقسط، وهذا لا يكون إلا من عند الله .
ويستفاد من مجموع الآيات التي ساقها المؤلف : إثبات الكلام لله، ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات ما دل عليه الكتاب والسنة من أن الله موصوف بالكلام، وكلامه سبحانه من صفاته الذاتية لقيامه به واتصافه به . ومن صفاته الفعلية الواقعة بمشيئته وقدرته فيتكلم إذا شاء كيف شاء بما شاء، ولم يزل متكلمًا ولا يزال متكلمًا لأنه لم يزل ولا يزال كاملًا والكلام من صفات الكمال . ولأن الله وصف به نفسه ووصفه به رسوله . وسيأتي ذكر مذهب المخالفين في هذه المسألة مع الرد عليهم إن شاء الله .
22 ـ إثبات تنزيل القرآن من الله تعالى(21/69)
وقوله : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } .
الشرح :
لما أورد المؤلف ـ رحمه الله ـ الآيات الدالة على إثبات الكلام لله تعالى وأن القرآن العظيم من كلامه سبحانه، شرع في سياق الآيات الدالة على القرآن منزل من عند الله فقوله تعالى : { وهذا } الإشارة إلى القرآن الكريم واسم الإشارة مبتدأ خبره { كتاب } و { أنزلنه مبارك } صفتان لكتاب، وقد صفة الإنزال لأن الكفار ينكرونها، والمبارك : كثير البركة لما هو مشتمل عليه من المنافع الدينية والدنيوية .
وقوله تعالى : { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } هذا إخبار عن عظمة القرآن وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب . فإنه لو أنزل على جبل مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة لو فهم هذا القرآن لخشع وتصدع من خوف الله حذرًا من عقابه . فكيف يليق بكم أنها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع . وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه . د(21/70)
وقوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } هذا شروع منه سبحانه في ذكر شبهة كفرية حول القرآن الكريم مع الرد عليها، وقوله : { بَدَّلْنَا } معنى التبديل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وتبديل الآية : رفعها بأخرى غيرها وهو نسخها بآية سواها { قَالُواْ } أي : كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ : { إِنَّمَا أَنتَ } يا محمد { مُفْتَرٍ } أي : كاذب مختلق متقول على الله حيث تزعم أنه أمرك بشيء ثم تزعم أنه أمرك بخلافه، فرد الله عليهم بما يفيد جهلهم فقال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } شيئًا من العلم أصلًا أو لا يعلمون الحكمة في النسخ فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره . ولو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعلموا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق اللطف .
ثم رد عليهم في زعمهم أن هذا التبديل من عند محمد وأنه بذلك مفتر على الله، فقال سبحانه : { قُلْ نَزَّلَهُ } أي : القرآن { رُوحُ الْقُدُسِ } أي : جبريل، والقدس : الطهر . والمعنى : نزله الروح المطهر، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته { مِن رَّبِّكَ } أي : ابتداء تنزيله من عند الله سبحانه { بِالْحَقِّ } في محل نصب على الحال، أي : متصفًا بكونه حقًا { لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ } على الإيمان فيقولون : كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا . ولأنهم إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتوا على الإيمان { وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } معطوفان على محل ليثبت . أي تثبيتًا لهم، وهداية وبشرى .(21/71)
ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبههم فقال : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } أي : ولقد نعلم أن هؤلاء الكفار يقولون : إنما يعلم محمدًا القرآن بشر من بني آدم وليس ملكًا من الملائكة . وهذا البشر الذي يعمله كان قد درس التوراة والإنجيل والكتب الأعجمية، لأن محمدًا رجل أمي لا يمكن أن يأتي بما ذكر في القرآن من أخبار القرون الأولى .
فرد عليهم بقوله : { لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ } أي : لسان الذي يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمك يا محمد أعجمي، أي : غير عربي، فهو لا يتلكم العربية { وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } أي : وهذا القرآن ذو بلاغة عربية وبيان واضح، فكيف تزعمون أن بشرًا يعلمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العجم، وقد عجزتم أنتم عن معارضته أو معارضة سورة أو سور منه وأنتم أهل اللسان العربي ورجال الفصاحة وقادة البلاغة ؟ !
ما يستفاد من الآيات : يستفاد من هذه الآيات الكريمة : إثبات أن القرآن منزل من عند الله تعالى، وأنه كلامه جل وعلا لا كلام غيره من الملائكة أو البشر . والرد على من زعم أنه كلام مخلوق . وفي الآيات أيضًا إثبات العلو لله سبحانه، لأن الإنزال لا يكون إلا من أعلى، والله أعلم .
23 ـ إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
وقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } { عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } { لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } وهذا الباب في كتاب الله كثير . ومن تدبر القرآن طلبًا للهدى تبين له طريق الحق .
الشرح :(21/72)
قوله تعالى : { وُجُوهٌ } أي : وجوه المؤمنين { يَوْمَئِذٍ } أي : يوم القيامة { نَّاضِرَةٌ } بالضاد من النضارة وهي البهاء والحسن . أي : ناعمة غضة حسنة مضيئة مشرقة { إِلَى رَبِّهَا } أي : خالقها { نَاظِرَةٌ } أي : تنظر إليه بأبصارها كما تواترت به الأحاديث الصحيحة، وأجمع عليه الصحابة والتابعون وسلف الأمة واتفق عليه أئمة الإسلام . فالشاهد من الآية الكريمة : إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة . وقوله : { عَلَى الأَرَائِكِ } جمع أريكة وهي السرر { يَنظُرُونَ } إلى الله ـ عز وجل ـ .
وأما الكفار فقد تقدم في الآيات التي قبل هذه الآية أنهم { عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } والشاهد من الآية إثبات رؤية المؤمنين لربهم ـ عز وجل ـ .
وقوله تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الأعمال والكف عما نهاهم عنه من المعاصي { الْحُسْنَى } أي : المثوبة الحسنى . وقيل : الجنة . { وَزِيَادَةٌ } هي النظر إلى وجه الله الكريم، كما ثبت تفسيرها بذلك عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحيح مسلم وغيره، وكما فسرها بذلك سلف هذه الأمة، وعلى ذلك يكون الشاهد من الآية الكريمة : إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة .
وقوله تعالى : { لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا } أي : للمؤمنين في الجنة ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم من فنون النعيم وأنواع الخير { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } أي : زيادة على ذلك هو النظر إلى وجه الله الكريم . وهذا هو الشاهد من الآية الكريمة وهو إثبات النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة .(21/73)
ما يستفاد من الآيات الكريمة : يستفاد منها إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وأنها أعظم النعيم الذي ينالونه . وهذا هو قول الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين . خلافًا للرافضة والحهمية والمعتزلة الذين ينفون الرؤية يخالفون بذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها . ويعتمدون على شبه واهية وتعليلات باطلة منها :
1 ـ قولهم : إن إثبات الرؤية يلزم منه إثبات أن الله في جهة، ولو كان في جهة لكان جسمًا ـ والله منزه عن ذلك ـ والجواب عن هذه الشبهة أن نقول : لفظ الجهة فيه إجمال . فإن أريد بالجهة أنه حال في شيء من مخلوقاته فهذا باطل والأدلة ترده وهذا لا يلزم من إثبات الرؤية . وإن أريد بالجهة أنه سبحانه فوق مخلوقاته فذا ثابت لله سبحانه ونفيه باطل وهو لا يتنافى مع رؤيته سبحانه .
2 ـ استدلوا بقوله تعالى لموسى : { لَن تَرَانِي } والجواب عن هذا الاستدلال : أن الآية الكريمة واردة في نفي الرؤية في الدنيا ولا تنفي ثبوتها في الآخرة كما ثبت في الأدلة الأخرى . وحالة الناس في الآخرة تختلف عن حالتهم في الدنيا .
3 ـ استدلوا بقوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } والجواب عن هذا الاستدلال : أن الآية إنما فيها نفي الإدراك وليس فيها نفي الرؤية . والإدراك معناه الإحاطة، فالله سبحانه وتعالى يراه المؤمنون ولا يحيطون به، بل نفي الإدراك يلزم منه وجود الرؤية . فالآية من أدلة إثبات الرؤية والله تعالى أعلم .(21/74)
وقول المؤلف ـ رحمه الله ـ : ( وهذا الباب في كتاب الله كثير ) أي : باب إثبات أسماء الله وصفاته في القرآن كثير وإنما ذكر المؤلف بعضه . فقد ورد في آيات كثيرة من كتاب الله إثبات أسماء الله وصفاته على ما يليق به ( ومن تدبر القرآن ) أي : تفكر فيه وتأمل ما يدل عليه من الهدى ( تبين له طريق الحق ) أي : اتضح له سبيل الصواب وتدبر القرآن هو المطرب من تلاوته قال تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } وقال تعالى : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وقال تعالى : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } .
الاستدلال على إثبات أسماء الله وصفاته من السنة
فصل
ثم في سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه .
الشرح :
قوله : ( ثم في سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) هذا عطف على قوله فيما سبق : ( وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص . . . إلخ ) أي : ودخل فيها ما وصف به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه فيما وردت به السنة الصحيحة . لأن السنة هي الأصل الثاني الذي يجب الرجوع إليه بعد كتاب الله ـ عز وجل ـ قال تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } الآية ( 59 ) من سورة النساء . والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه، والرد إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد وفاته هو الرجوع إلى سنته . والسنة لغة : الطريقة، واصطلاحًا : هي ما ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قول أو فعل أو تقرير .
مكانة السنة(21/75)
قال : ( فالسنة تفسر القرآن ) أي : تبين معانيه ومقاصده . فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبين للناس ما أنزل إليه . قال الله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } الآية ( 44 ) من سورة النحل .
والسنة أيضًا : ( تبين القرآن ) أي : توضح مجمله كالصلاة والصوم والحج والزكاة وغالب الأحكام التي تأتي مجملة في القرآن وتبينها السنة النبوية .
والسنة أيضًا : ( تدل على القرآن وتعبر عنه ) أي : تدل على ما دل عليه القرآن وتعبر عما عبر عنه القرآن، فتكون موافقة للقرآن فيكون الحكم مما دل عليه الكتاب والسنة كأسماء الله وصفاته . وما وصف الرسول به ربه ـ عز وجل ـ من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك .
الشرح :
قوله : ( وما وصف إلخ ) : مبتدأ خبره قوله : ( وجب الإيمان بها كذلك ) أي : كما يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه في القرآن الكريم . لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما وصفه ربه ـ عز وجل ـ بقوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } . فالسنة التي نطق بها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحي من الله كما قال تعالى : { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فالكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة . فيجب الإيمان بما ورد في السنة لاسيما في باب الاعتقاد قال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } .
لكن لابد في قبول الحديث والإيمان به من ثبوته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولهذا قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : ( من الأحاديث الصحاح ) : والصحاح جمعه صحيح . والحديث الصحيح : هو ما نقله راو عدل تام الضبط عن مثله من غير شذوذ ولا علة . فهو ما اجتمع فيه خمسة شروط :
عدالة الرواه . ضبطهم . اتصال السند . سلامته من العلة . سلامته من الشذوذ .(21/76)
وقوله : ( تلقاها أهل المعرفة ) أي : قبلها وأخذ بها أهل العلم بالحديث فلا عبرة بغيرهم . ثم ذكر الشيخ أمثلة مما ورد في السنة من صفات الله ـ عز وجل ـ فقال :
1 ـ ثبوت النزول الإلهي إلى سماء الدنيا على ما يليق بجلال الله
فمن ذلك مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ ) . متفق عليه .
الشرح :
قوله : ( ينزل ربنا ) أي : نزولًا يليق بجلاله نؤمن به، ولا نشبهه بنزول المخلوق لأنه سبحانه { ليس كمثله شيء } . ( إلى سماء الدنيا ) أي : السماء الدنيا من إضافة الموصوف إلى صفته، ( حين يبقى ثلث الليل الآخر ) برفع الآخر صفة لثلث، وفي هذا تعيين لوقت النزول الإلهي . قوله : ( فأستجيب له ) أي : أجيب دعوته .
والشاهد من الحديث : أن فيه ثبوت النزول الإلهي . وهو من صفات الأفعال وفي الحديث أيضًا إثبات العلو لله تعالى . فإن النزول يكون من العلو، وفيه الرد على من أول الحديث بأن معناه نزول رحمته أو أمره . لأن الأصل الحقيقة وعدم الحذف . ولأنه قال : ( من يدعوني فأستجيب له ) فهل يعقل أن تقول رحمته أو أمره هذا المقال ؟ ! .
وفي الحديث إثبات الكلام لله تعالى حيث جاء فيه : ( فيقول إلخ . . ) وفيه إثبات الإعطاء والإجابة والمغفرة لله سبحانه وهي صفات أفعال . وقوله : ( متفق عليه ) أي : بين البخاري ومسلم .
2 ـ إثبات أن الله يفرح ويضحك
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لله أشد فرح بتوبة عبده من أحدكم براحلته ) الحديث . متفق عليه . وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة ) متفق عليه .
الشرح :(21/77)
( لله ) اللام لام الابتداء ( أشد فرحًا ) منصوب على التمييز، والفرح في اللغة : السرور ولذة القلب ( بتوبة عبده ) التوبة : هي الإقلاع عن الذنب والرجوع إلى الطاعة ( براحلته ) الراحلة الناقة التي تصلح أن ترحل . ( الحديث ) منصوب بفعل مقدر أي : أكمل الحديث، لأن المصنف اقتصر على الشاهد منه، وهو إثبات الفرح لله سبحانه على ما يليق بجلاله، وهو صفة كمال لا يشبهه فرح أحد من خلقه بل هو كسائر صفاته . وهو فرح إحسان وبر ولطف لا فرح محتاج إلى توبة عبده ينتفع بها، فإنه سبحانه لا تنفعه طاعة المطيع ولا تضره معصية العاصي .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( يضحك الله إلى رجلين . . . إلخ ) قد بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آخر الحديث سبب ذلك في قوله : ( يقاتل هذا في سبيل الله ـ عز وجل ـ فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم، فيقاتل في سبيل الله ـ عز وجل ـ فيستشهد ) وهذا من كمال إحسان الله سبحانه وسعة رحمته، فإن المسلم يقاتل في سبيل الله فيقتله الكافر فيكرم الله المسلم بالشهادة، ثم يمن الله على ذلك الكافر القاتل فيهديه للإسلام فيدخلان الجنة جميعًا . فهذا أمر عجيب، والضحك يكون من الأمور المعجبة التي تخرج عن نظائرها .
والشاهد من الحديث : إثبات الضحك لله سبحانه وهو صفة من صفاته الفعلية التي تثبتها له على ما يليق بجلاله وعظمته ليس كضحك المخلوق .
3 ـ إثبات أن الله يعجب ويضحك
وقوله : ( عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب ) حديث حسن .(21/78)
( عجب ربنا ) قال في المصباح : التعجب يستعمل على وجههين أحدهما : ما يحمده الفاعل، ومعناه الاستحسان والإخبار عن رضاه به . والثاني : ما يكرهه ومعناه الإنكار والذم له . ( من قنوط عباده ) القنوط : شدة اليأس من الشيء . والمراد هنا اليأس من نزول المطر وزوال القحط ( وقرب غيره ) غيره بكسر الغين وفتح الياء، أي : تغييره الحال من شدة إلى رخاء . ( ينظر إليكم أزلين ) الأزل بسكون الزاي : الضيق . وقد أزل الرجل بأزل أزلًا صار في ضيق وجدب .
( فيظل يضحك ) : هذا من صفاته الفعلية التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته، ففي الحديث إثبات صفتين من صفات الله الفعلية هما العجب والضحك وهما صفتان تلقيان بجلاله ليستا كعجب المخلوق وضحك المخلوق . وفي الحديث أيضًا إثبات النظر لله سبحانه، وهو من صفاته الفعلية أيضًا . فإنه ينظر إلى عباده ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
4 ـ إثبات الرجل والقدم لله سبحانه
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول : هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها رجله ـ وفي رواية : عليها قدمه ـ فينزوي بعضها إلى بعض فتقول : قط قط ) متفق عليه .
الشرح :
قوله : ( لا تزال جهنم ) جهنم : اسم من أسماء النار، قيل : سميت بذلك لبعد قعرها، وقيل : لظلمتها، من الجهومة وهي الظلمة . ( يلقى فيها ) أي : يطرح فيها أهلها . ( وهي تقول : هل من مزيد ) أي : تطلب الزيادة لسعتها وقد وعدها الله أن يملأها ( حتى يضع رب العزة فيها رجله ) لما كانت النار في غاية الكبر والسعة وقد وعدها الله ملأها، وكان مقتضى رحمته سبحانه أن لا يعذب أحدًا بغير جرم حقق وعده ووضع عليها رجله . ( فينزوي بعضها إلى بعض ) أي : ينضم بعضها إلى بعض ويتلاقى طرفاها ولا يبقى فيها فضل عن أهلها ( فتقول : قط قط ) أي : حسبي ويكفيني .(21/79)
والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات الرجل والقدم لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه، وهو من صفات الذات كالوجه واليد . والله تعالى أعلم .
وقد غلط في تفسير هذا الحديث المعطلة حيث قالوا : ( قدمه ) : نوع من الخلق . وقالوا : ( رجله ) : جماعة من الناس كما يقال : رجل جراد . والرد على هذا أن يقال إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : حتى ( يضع ) ولم يقل : حتى يلقي، كما قال في أول الحديث : ( يلقي فيها ) . وأيضًا القدم لا يصح تفسيره بالقوم لا حقيقة ولا مجازًا .
5 ـ إثبات النداء والصوت والكلام لله تعالى
وقوله : ( يقول الله تعالى : يا آدم، فيقول : لبيك وسعديك، فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار ) متفق عليه . وقوله : ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان ) .
الشرح :
قوله : ( لبيك وسعديك ) لبيك أي : أنا مقيم على طاعتك من ألب بالمكان إذا أقام، وهو منصوب على المصدر . وثني للتأكيد، وسعديك : من المساعدة وهي المطاوعة، أي : مساعدة في طاعتك بعد مساعدة . قوله : ( فينادي ) بكسر الدال والمنادى هو الله تعالى ( بصوت ) تأكيد لقوله : ( ينادى ) لأن النداء لا يكون إلا صوت، وهذا كقوله تعالى : { وكلم الله موسى تكليما } . وقوله : ( بعثًا إلى النار ) البعث هنا بمعنى المبعوث الموجه إليها . ومعنى ذلك : ميز أهل النار من غيرهم .
والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات القول من الله والنداء بصوت يسمع، وأن ذلك سيحصل يوم القيامة، ففيه أن الله يقول وينادي متى شاء وكما يشاء .
وقوله : ( ما منكم من أحد ) الخطاب للصحابة وهو عما لجميع المؤمنين ( إلا سيكلمه ربه ) أي : بلا واسطة ( ليس بينه وبينه ترجمان ) الترجمان : من يعبر بلغة عن لغة . أي : ينقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى .(21/80)
والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات تكليم الله سبحانه لعباده . وأنه سبحانه يتكلم إذا شاء . فكلامه من صفاته الفعلية . وأنه يكلم كل مؤمن يوم القيامة .
6 ـ إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه
وقوله في رقية المريض : ( ربنا الله الذي في السماء تقدس اسم، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ ) حديث حسن رواه أبو داود وغيره .
وقوله : ( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ) حديث صحيح . وقوله : ( والعرش فوق ذلك والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه ) حديث حسن رواه أبو داود وغيره . وقوله للجارية : ( أين الله ؟ قالت : في السماء . قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله . قال : أعتقها فإنها مؤمنة ) رواه مسلم .
الشرح :
( في رقبة المريض ) أي : القراءة على المريض طلبًا لشفائه، وهي مشرعة إذا كانت بالقرآن والأدعية المباحة، وممنوعة إذا كانت بألفاظ شركية أو أعمال شركية . ( ربنا الله الذي في السماء ) أي : على السماء، ففي هنا بمعنى على كقوله تعالى : { فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ } الآية ( 2 ) من سورة التوبة . أي : على الأرض . ويجوز أن تكون . في للظرفية على بابها ويكون المراد بالسماء مطلق العلو .
( تقدس اسمك ) أي : تقدست أسماؤك عن كل نقص فهو مفرد مضاف فيعم جميع أسماء الله . ( أمرك في السماء والأرض ) أي : أمرك الكوني القدري الذي ينشأ عنه جميع المخلوقات والحوادث، ومنه قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } الآية ( 82 ) من سورة يس . وأمرك الشرعي المتضمن للشرائع التي شرعها لعباده .(21/81)
( كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض ) هذا توسل إليه برحمته التي شملت أهل السموات كلهم أن يجعل لأهل الأرض منها نصيبًا . ( اغفر لنا حوبنا وخطايانا ) هذا طلب للمغفرة وهي الستر ووقاية الإثم، ومنه المغفر الذي يلبس على الرأس لستره ووقايته من الضرب . والحوب : الإثم، والخطايا هي الذنوب .
( أنت رب الطيبين ) هذا توسل آخر، والطيبين جمع طيب وهم النبيون وأتباعهم . وإضافة ربوبيته لهؤلاء إضافة تشريف وتكريم وإلا هو سبحانه رب كل شيء . ومليكه ( أنزل رحمة من رحمتك ) أي : الرحمة المخلوقة . فإن رحمة الله نوعان، النوع الأول : رحمته التي هي صفة من صفاته كما في قوله تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } الآية ( 156 ) من سورة الأعراف . النوع الثاني : رحمة تضاف إليه سبحانه من إضافة المخلوق إلى خالقه كالمذكورة في هذا الحديث . وكما في حديث : ( خلق الله مائة رحمة ) الحديث . فطلب ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ربه إنزال هذه الرحمة على المريض لحاجته إليها ليشفيه بها .
والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات العلو لله تعالى وأنه في السماء والعلو صفة ذاتية كما سبق . كما أن في الحديث التوسل إلى الله تعالى بالثناء عليه بربوبيته وإلهيته وقدسيته وعلوه وعموم أمره وبرحمته، ثم في الحديث طلب المغفرة من الله وشفاء المرض .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ألا تأمنوني ) هذا خطاب منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن اعترض عليه في بعض قسمته المال . وألا : أداة استفتاح وتنبيه، وتأمنوني ـ من الأمانة ـ وهي عدم المحاباه والخيانة، أي : ألا تأمنوني في قسمة المال ( وأنا أمين من في السماء ) وهو الله سبحانه قد ائتمنني على وحيه ورسالته وتبليغ شرعة، وكفى بذلك شهادة على أمانته وصدقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات العلو لله سبحانه . حيث قال : ( من في السماء ) وسبق شرح الجملة قريبًا .(21/82)
وقوله : ( والعرش فوق ذلك ) تقدم تفسير العرش . وقوله : ( فوق ذلك ) أي : فوق المخلوقات التي بينها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه في الحديث الذي ذكر فيه بعد ما بين السماء والأرض، وما بين كل سماء وسماء وكثف كل سماء والبحر الذي فوق السماء السابعة وما بين أسفله وأعلاه، وما فوق ذلك البحر من الأوعال الثمانية العظيمة ثم فوق ذلك العرش ( والله فوق العرش ) أي : مستو عليه استواء يليق بجلاله ( وهو يعلم ما أنتم عليه ) بعلمه المحيط الذي لا يخفى عليه شيء .
والشاهد من الحديث : إثبات علو الله على عرشه وأن عرشه فوق المخلوقات كلها وأن علم الله سبحانه محيط بأعمال العباد لا يخفى عليه منها شيء .
( وقوله للجارية ) أي : أمة معاوية بن الحكم حينما غضب عليها سيدها معاوية فلطمها، ثم ندم وأخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : أفلا أعتقها ؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( بلى جئني بها ) . فأتى بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لها : ( أين الله ؟ ) فيه دليل على جواز السؤال عن الله بأين . ( قالت : في السماء ) أي : الله سبحانه في السماء . وتقدم تفسير هذه الكلمة . ( قال ) لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضًا : ( من أنا ؟ ) سألها عن اعتقادها فيه ( قالت : أنت رسول الله ) فأقرت له بالرسالة ( قال ) ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسيدها : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) فيه دليل على أن من شهد هذه الشهادة أنه مؤمن وأن العق يشترط له الإيمان .
والشاهد من الحديث : أن فيه دليلًا على علو الله على خلقه فوق سماواته، وأنه يشار إليه في جهة العلو إشارة حسية .
7 ـ إثبات معية الله تعالى لخلقه وأنها لا تنافي علوه فوق عرشة(21/83)
وقوله : ( أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك أينما كنت ) حديث حسن أخرجه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت . وقوله : ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت قدمه ) متفق عليه . وقوله : ( اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها . أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء . وأنت الظاهر فليس فوقك شيء . وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر ) رواه مسلم . وقوله لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر : ( أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا قريبًا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) متفق عليه .
الشرح :
قوله : ( أفضل الإيمان ) أي : من أفضل خصاله، وفي هذا دليل على أن الإثمان يتفاضل ( أن تعلم أن الله معك ) أي : يعلمه واطلاعه ( حيثما كنت ) أي : في أي مكان وجدت . فمن علم ذلك استوت علانيته وسريرته فهابه في كل مكان ( أخرجه الطبراني ) أبو القاسم سليمان اللخمي أحد الحفاظ المكثرين . وقد روى هذا الحديث في المعجم الكبير .
وفي الحديث دليل على إثبات معية الله لخلقه بعلمه وإحاطته بأعمالهم وأنه يجب على العبد أن يتذكر ذلك دائما فيحسن عمله .(21/84)
وقوله : ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة ) أي : إذا شرع فيها ( فلا يبصق أي : لا يتفل ( قبل وجهه ) أي أمامه ( قبل بكسر القاف وفتح الباء ( فإن الله قبل وجهه ) هذا تعليل للنهي عن البصاق في قبله المصلي بأن الله سبحانه ( قبل وجهه ) أي : مواجهه وهذه المواجهة كما يليق بالله سبحانه لا يلزم منها أنه سبحانه مختلط بخلقه بل هو فوق سمواته مستو على عرشه وهو قريب من خلقه محيط بهم . ( ولا عن يمينه ) أي : ولا يبصق المصلى عن يمينه تشريفًا لليمين ولأن الملكين عن يمينه كما في رواية للبخاري ( ولكن عن يساره أو تحت قدمه ) أي : ولكن ليبصق المصلي في جهة يسارة أو يبصق تحت قدمه .
والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات قرب الله سبحانه من عبده المصلي وإقباله عليه وهو سبحانه فوقه .
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( اللهم رب السموات السبع ) اللهم أصله : يا الله . فالميم عوض عن ياء النداء . رب السموات السبع . أي : خالقها ومالكها . ( ورب العرش العظيم ) أي : الكبير الذي لا يقدر قدره إلا الله فهو أعظم المخلوقات . وتقدم تفسير ( ربنا ورب كل شيء ) أي : خالقنا ورازقنا وخالق كل شيء ومالكه ففيه إثبات ربوبيته لكل شيء ( فالق الحب والنوى ) أي : شاق حب الطعام ونوى التمر للإثبات ( منزل التوراة ) على موسى ( والإنجيل ) على عيسى ( والقرآن ) على محمد عليهم أفضل الصلاة والسلام وفي ذلك دليل على فضل هذه الكتب وأنها منزلة من الله تعالى .
( أعوذ ) أي : ألتجئ وأعتصم ( بك ) يا الله ( من شر كل دابة ) أي : كل ما دب على وجه الأرض ( أنت آخذ بناصيتها ) الناصية مقدم الرأس، أي : هي تحت قهرك وسلطانك تصرفها كيف تشاء، لتصرف شرها عني .
( أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء ) هذه الأسماء الأربعة : اسمان لأزليته وأبديته وهما ( الأول والآخر ) واسمان لعلوه وقربه وهما ( الظاهر والباطن ) .(21/85)
وهما محل الشاهد من الحديث : لأن فيهما إثبات علو الله وقربه، وأنهما لا يتنافيان ولا يتناقضان فهو قريب في علوه علي في دنوه .
( اقض عني الدين ) أي : أد عني حقوق الله وحقوق الخلق، وفي هذا التبريء من الحول والقوة، ( وأغنني من الفقر ) الفقر : الحاجة والفقير : هو من لا يجد شيئًا، أو يجد بعض الكفاية . وفي الحديث أيضًا مشروعية التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته في قضاء الحاجة وإجابة الدعاء .
( وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رفع الصحابه أصواتهم بالذكر ) وذلك في غزوة خيبر كما جاء في بعض طرق الحديث وأن الذكر الذي رفعوا به أصواتهم هو التكبير : الله أكبر لا إله إلا الله .
وقوله : ( اربعوا ) أي : ارفقوا ( فإنكم ) تعليل للأمر بالرفق ( لا تدعون أصم ولا غائبًا ) لا يسمع دعاءكم ولا يراكم فنفي الآفة المانعة من السمع، والآفة المانعة من النظر، وأثبت ضدهما فقال : ( إنما تدعون سميعًا بصيرًا قريبًا ) فلا داعي لرفع الصوت ( إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) فهو قريب ممن دعاه وذكره . فلا حاجة لرفع الأصوات وهو قريب يسمعها إذا خفضت كما يسمعها إذا رفعت .
والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات قرب الله سبحانه من داعيه، يسمع الأصوات الخفية كما يسمع الأصوات الجهرية . فأفادت هذه الأحاديث جميعًا إثبات معية الله لخلقه وقربه منهم وسماعه لأصواتهم ورؤيته لحركاتهم . وذلك لا ينافي علوه واستواءه على عرشه وقد تقدم الكلام على المعية وأنواعها وشواهدها من القرآن الكريم مع تفسير تلك الشواهد . والله أعلم .
8 ـ إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
وقوله : ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا ) متفق عليه .
الشرح :(21/86)
قوله : ( إنكم سترون ربكم ) الخطاب للمؤمنين . والسين للتنفيس ويراد بها التأكيد، وقوله : ( ترون ربكم ) أي : تعاينونه بأبصاركم، والأحاديث الواردة بإثبات رؤية المؤمنين لربهم متواترة . قوله : ( كما ترون القمر ليلة البدر ) أي : ليلة كماله، وهي الليلة الرابعة عشرة من الشهر . فإنه في تلك الليلة يكون قد امتلأ نورًا . والمراد من هذا التشبيه تحقيق الرؤية وتأكيدها ونفي المجاز عنها . وهو تشبيه للرؤية بالرؤية لا تشبيه للمرئي بالمرئي لأنه سبحانه : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
وقوله : ( لا تضامون في رؤيته ) بضم التاء وتخفيف الميم أي : لا يلحقكم ضيم، أي : ظلم بحيث يراه بعضكم دون بعض . وروي بفتح التاء وتشديد الميم، من التضام، أي : لا ينضم بعضكم إلى بعض لأجل رؤيته . والمعنى على هذه الرواية : لا تجتمعون في مكان واحد لرؤيته فيحصل بينكم الزحام . والمعنى على الروايتين : أنكم ترونه رؤية محققة كل منكم يراه وهو في مكانه . وقوله : ( فإن استطعتم أن لا تغلبوا ) أي : لا تصيروا مغلوبين، ( على صلاة قبل طلوع الشمس وهي صلاة الفجر ( وصلاة قبل غروبها ) وهي صلاة العصر ( فافعلوا ) أي : حافظوا على هاتين الصلاتين في الجماعة في أوقاتهما . وخص هاتين الصلاتين لاجتماع الملائكة فيهما، فهما أفضل الصلوات فناسب أن يجازي من حافظ عليهما بأفضل العطايا وهو النظر إلى وجه الله تعالى .
والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات رؤية المؤمنين لربهم عيانًا يوم القيامة . وقد تقدم ذكر من خالف في ذلك مع الرد عليه . عند الكلام على تفسير الآيات التي فيها إثبات الرؤية والله أعلم .(21/87)
موقف أهل السنة من هذه الأحاديث التي فيها إثبات الصفات الربانية إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله ـ صلى عليه وسلم ـ عن ربه بما يخبر به . فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل . ومن غير تكييف ولا تمثيل .
الشرح :
هذا بيان لموقف أهل السنة والجماعة من أحاديث الصفات الواردة عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ . أنه كموقفهم من آيات الصفات الواردة في القرآن سواء . وهو الإيمان بها واعتقاد ما دلت عليه على حقيقته . لا يصرفونها عن ظاهرها بأنواع التأويل الباطل . ولا ينفون ما دلت عليه فيعطلونها . ولا يشبهون الصفات المذكورة فيها بصفات المخلوقين لأن الله ( ليس كمثله شيء ) .
وهم بذلك يخالفون طريقة المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين كان موقفهم من هذه النصوص موقف المنكر لها أو المؤول لما دلت عليه، وبخلاف المشبهة الذين غلوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه . ( تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ) . مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة بل هم الوسط في فرق الأمة . كما أن الأمة هي الوسط في الأمم . فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم وفي باب وعيد الله بين المرجئة والعيدية من القدرية وغيرهم . وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية، وفي باب أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين الرافضة والخوارج .
الشرح :
لما بين الشيخ ـ رحمه الله ـ موقف أهل السنة والجماعة من النصوص الواردة في الكتاب والسنة في صفات الله تعالى، أراد أن يبين مكانتهم بين فرق الأمة حتى يعرف قدرهم وفضلهم بمقارنتهم بغيرهم .
فإن الضد يظهر حسنه الضد ** وبضدها تتبين الأشياء(21/88)
قال ـ رحمه الله ـ : ( بل هم الوسط في فرق الأمة ) قال في المصباح المنير : الوسط بالتحريك : المعتدل والمراد بالوسط هنا العدل الخيار . قال تعالى في الآية ( 143 ) من سورة البقرة : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } .
فأهل السنة وسط بمعنى أنهم عدول خيار . وبمعنى أنهم متوسطون بين فريقي الإفراط والتفريط، فهم وسط بين الفرق المنتسبة للإسلام، كما أن الأمة الإسلامية وسط بين الأمم . فهذه الأمة وسط بين الأمم التي تميل إلى الغلو والإفراط والأمم التي تميل إلى التفريط والتساهل . وأهل السنة والجماعة من هذه الأمة وسط بين فرق الأمة المبتدعة التي انحرفت عن الصراط المستقيم فغلا بعضها وتطرف، وتساهل بعضها وانحرف .
ثم بين الشيخ ـ رحمه الله ـ تفصيل ذلك فقال : ( فهم ) أي : أهل السنة والجماعة أولًا : ( وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل ) فالجهمية ( نسبة إلى الجهم بن صفوان الترمذي ) هؤلاء غلوا وأفرطوا في التنزيه حتى نفوا أسماء الله وصفاته حذرًا من التشبيه بزعمهم، وبذلك سموا معطلة . لأنهم عطلوا الله من أسمائه وصفاته .
( وأهل التمثيل المشبهة ) سموا بذلك لأنهم غلوا وأفرطوا في إثبات الصفات حتى شبهوا الله بخلقه ومثلوا صفاته بصفاتهم ( تعالى الله عما يقولون ) . وأهل السنة توسطوا بين الطرفين فأثبتوا صفات الله على الوجه اللائق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل، فلم يغلوا في التنزيه ولم يغلوا في الإثبات . بل نزهوا الله بلا تعطيل وأثبتوا له الأسماء والصفات بلا تمثيل .(21/89)
ثانيًا : وأهل السنة والجماعة ( وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية ) فالجبرية : ( نسبة إلى الجبر لأنهم يقولون إن العبد مجبور على فعله ) فهم غلوا في إثبات أفعال الله حتى نفوا أفعال العباد، وزعموا أنهم لا يفعلون شيئًا وإنما الله هو الفاعل والعبد مجبور على فعله فحركاته وأفعاله كلها اضطرارية كحركات المرتعش، وإضافة الفعل إلى العبد مجاز .
( والقدرية ) نسبة إلى القدر غلوا في إثبات أفعال العباد فقالوا : إن العبد يخلق فعل نفسه بدون مشيئة الله وإرادته، فأفعال العباد لا تدخل تحت مشيئة الله وإرادته، فالله لم يقدرها ولم يردها وإنما فعلوها هم استقلالًا . وأهل السنة توسطوا، وقالوا : للعبد اختيار ومشيئة وفعل يصدر منه ولكنه لا يفعل شيئًا بدون إرادة الله ومشيئته وتقديره . قال تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } الآية ( 96 ) من سورة الصافات . فأثبت للعباد عملًا هو من خلق الله تعالى وتقديره . وقال تعالى : { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } الآية ( 29 ) من سورة التكوير فأثبت للعباد تأتي بع مشيئة الله تعالى . وسيأتي لهذا مزيد إيضًاح إن شاء الله تعالى في مبحث القدر .
ثالثًا : وأهل السنة والجماعة وسط ( في باب وعيد الله ) . الوعيد : التخويف والتهديد، والمراد هنا النصوص التي فيه توعد للعصاة بالعذاب والنكال . وقوله : ( بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم ) المرجئة : نسبة إلى الإرجاء وهو التأخير . سموا بذلك لأنهم أخروا الأعمال عن مسمى الإيمان حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق . وقالوا : لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة فعندهم أن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان غير معرض للوعيد، فهم تساهلوا في الحكم على العاصي وأفرطوا في التساهل حتى زعموا أن المعاصي لا تنقص الإيمان ولا يحكم على مرتكب الكبيرة بالفسق .(21/90)
وأما الوعيدية : فهم الذين قالوا بإنفاذ الوعيد على العاصي، وشددوا في ذلك حتى قالوا : إن مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب فهو مخلد في النار . وحكموا بخروجه من الإيمان في الدنيا .
وأهل السنة والجماعة توسطوا بين الطرفين فقالوا : إن مرتكب الكبيرة آثم ومعرض للوعيد وناقص الإيمان ويحكم عليه بالفسق ( لا كما تقول المرجئة إنه كامل الإيمان وغير معرض للوعيد ) ولكنه لا يخرج من الإيمان ولا يخلد في النار إن دخلها . فهو تحت مشيئة الله : إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه بقدر معصيته، ثم يخرج من النار ويدخل الجنة ( لا كما تقوله الوعيدية بخروجه من الإيمان وتخليده في النار ) فالمرجئة أخذوا بنصوص الوعد . والوعيدية أخذوا بنصوص الوعيد . وأهل السنة والجماعة جمعوا بينهما .
رابعًا : وأهل السنة والجماعة وسط ( في باب أسماء الإيمان والدين ) أي : الحكم على الإنسان بالكفر أو الإسلام أو الفسق وفي جزاء العصاة في الدنيا والآخرة . ( بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية ) الحرورية : هم الخوارج سموا بذلك نسبة إلى حرورى : قرية بالعراق اجتمعوا فيها حين خرجوا على علي ـ رضي الله عنه ـ . والمتعزلة : هم أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري وانحاز إليه أتباعه بسبب خلاف وقع بينهما في حكم مرتكب الكبيرة من المسلمين، فقال الحسن ـ رحمه الله ـ عن واصل هذا : إنه قد اعتزلنا، فسموا معتزلة .(21/91)
فمذهب الخوارج والمعتزلة في حكم مرتكب الكبيرة من المسلمين مذهب متشدد حيث حكموا عليه بالخروج من الإسلام . ثم قال المعتزلة : إنه ليس بمسلم ولا كافر بل هو بالمنزلة بين المنزلتين . وقال الخوارج : إنه كافر . واتفقوا على أنه إذا مات على تلك الحال أنه خالد مخلد في النار . وقابلتهم المرجئة والجهمية فتساهلوا في حكم مرتكب الكبيرة وأفرطوا في التساهل معه فقالوا : لا يضر مع الإيمان معصية لأن الإيمان عندهم هو تصديق القلب فقط أو مع نطق اللسان على خلاف بينهم، ولا تدخل فيه الأعمال فلا يزيد بالطاعة ولا ينقص بالمعصية . فالمعاصي لا تنقص الإيمان ولا يستحق صاحبها النار إذا لم يستحلها .
وأهل السنة والجماعة توسطوا بين الفرقتين فقالوا : إن العاصي لا يخرج من الإيمان لمجرد المعصية . وهو تحت المشيئة إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذبه في النار، لكنه لا يخلد فيها كما تقول الخوارج والمعتزلة . والمعاصي تنقص الإيمان ويستحق صاحبها دخول النار إلا أن يعفوا الله عنه . ومرتكب الكبيرة يكون فاسقًا ناقص الإيمان، لا كما تقول المرجئة إنه كامل الإيمان والله تعالى أعلم .
خامسًا : وأهل السنة والجماعة وسط في حق ( أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين الرافضة والخوارج ) : الصحابي : هول من لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمنًا به ومات على ذلك . والرافضة : اسم مأخوذ من الرفض وهو الترك . سموا بذلك لأنهم قالوا لزيد بين علي بن الحسين : تبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر، فأبى وقال : معاذ الله . فرفضوه فسموا رافضة .(21/92)
ومذهبهم في صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهم غلوا في علي ـ رضي الله عنه ـ وأهل البيت وفضلوهم على غيرهم، ونصبوا العداوة لبقية الصحابة خصوصًا الخلفاء الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ وسبوهم ولعنوهم، وربما كفروهم أو كفروا بعضهم . وقابلهم الخوارج فكفروا عليا ـ رضي الله عنه ـ وكفروا معه كثيرًا من الصحابة وقاتلوهم واستحلوا دماءهم وأموالهم .
وأهل السنة والجماعة خالفوا الجميع فوالوا جميع الصحابة ولم يغلوا في أحد منهم واعترفوا بفضل جميع الصحابة وأنهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها . ويأتي لهذا مزيد بيان .
وجوب الإيمان باستواء الله على عرشه وعلوه على خلقه ومعيته لخلقه وأنه لا تنافي بينهما
فصل
قال ـ رحمه الله ـ : وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه علي على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون . كما جمع بين ذلك في قوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وليس معنى قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ } أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة . وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة . وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته .
الشرح :(21/93)
خصص المصنف ـ رحمه الله ـ هاتين المسألتين : ( الاستواء على العرش ومعيته للخلق ) بالتنبيه ليزيل الإشكال فقد يتوهم وجود التنافي بينهما فقد يظن الظان أن ذلك مثل صفات المخلوقين وأنه مختلط بهم فكيف يكون فوق خلقه مستويًا على عرشه، ويكون مع خلقه قريبًا منهم بدون مخالطة . والجواب عن هذه الشبهة، كما وضحه الشيخ ـ رحمه الله ـ من وجوه :
الوجه الأول : أن هذا لا توجبه لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم . فإن كلمة ( مع ) في اللغة لمطلق المصاحبة لا تفيد اختلاطًا وامتزاجًا ولا مجاورة ولا مماسة . فإنك تقول : زوجتي معي، وأنت في مكان وهي في مكان آخر . وتقول : ما زلنا نسير والقمر معنا، وهو في السماء ويكون مع المسافر وغير المسافر أينما كان . وإذا صح أن يقال هذا في حق القمر وهو مخلوق صغير، فكيف لا يقال في حق الخالق الذي هو أعظم من كل شيء ؟ .
الوجه الثاني : أن هذا القول خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ( وهم القرون المفضلة ) الذين هم القدوة، فقد أجمعوا على أن الله مستو على عرشه عال على خلقه بائن منهم، وأجمعوا على أنه مع خلقه بعلمه سبحانه وتعالى . كما فسروا قوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ } بذلك .
الوجه الثالث : أن هذا خلاف ما فطر الله عليه الخلق، أي : ركزه في فطرهم . فإن الخلق فطروا على الإقرار بعلو الله سبحانه على خلقه فإن الخلق يتجهون إلى الله عند الشدائد والنوازل نحو العلو لا تلتفت يمنة ولا يسرة من غير أن يرشدهم إلى ذلك أحد، وإنما ذلك موجب الفطرة التي فطر الله الناس عليها .(21/94)
الوجه الرابع : أن هذا خلاف ما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله من أنه سبحانه وتعالى على عرشه علي على خلقه وهو معهم أينما كانوا . والمتواتر من النصوص : هو ما رواه جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء ) والآيات والأحاديث في هذا كثيرة منها الآية التي ذكرها المصنف ـ رحمه الله ـ والله أعلم .
وقول المصنف ـ رحمه الله ـ : ( وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم ) تقرير وتأكيد لما سبق من ذكر علوه على عرشه وكونه مع خلقه بذكر اسمين من أسمائه سبحانه وهما ( الرقيب والمهيمن ) . قال الله تعالى : { إن الله كان عليكم رقيبًا } والرقيب هو المراقب لأحوال عباده وفي ذلك دلالة على قربه منهم . وقال تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ } والمهيمن هو : الشاهد على خلقه المطلع على أعمالهم الرقيب عليهم .
( إلى غير ذلك من معاني ربوبيته ) ، أي : أن مقتضى ربوبيته سبحانه أن يكون فوق خلقه بذاته ويطلع على أعمالهم ويكون قريبًا منهم بعلمه وإحاطته يصرف شؤونهم ويحصي أعمالهم ويجازيهم عليها .
ما يجب اعتقاده في علوه ومعيته سبحانه ومعنى كونه سبحانه : ( في السماء ) وأدلة ذلك
وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج تحرف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله : { فِي السَّمَاء } أن السماء تقله أو تظله وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان فإن الله قد { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } وهو الذي { يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا } { وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ } .
الشرح :(21/95)
يبين الشيخ ـ رحمه الله ـ ما يجب اعتقاده بالنسبة لما أخبر الله به عن نفسه من كونه فوق العرش وهو معنا، أنه يجب الإيمان به كما أخبر الله، ولا يجوز تأويله وصرفه عن ظاهره كما يفعله المعطلة من الجهمية والمعتزلة وأشباههم فيزعمون أن ذلك ليس حقيقة وإنما هو مجاز فيؤولون الاستواء على العرش بالاستيلاء على الملك وعلو الله على خلقه بعلو قدره وقهره ونحو ذلك من التأويلات الباطلة التي هي تحريف لكلام الله عن مواضعه . ومنهم من يقول : إن معنى كونه معنا أنه حال في كل مكان، كما تقوله حلولية الجهمية وغيرهم، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا .
وقوله : ( ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن ظاهر قوله : { فِي السَّمَاء } أن السماء تقله أو تظله ) تقله : أي تحمله . وتظله : أي تستره، والظلة : الشيء الذي يظلك من فوقك . وليس هذان المعنيان مرادين في كونه سبحانه في السماء . ومن ظن ذلك فقد أخطأ غاية الخطأ وذلك لأمرين :
الأمر الأول : أن هذا خلاف ما أجمع عليه أهل العلم والإيمان فقد أجمعوا على أنه سبحانه فوق عرشه بائن من خلقه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته . وقد تقدم الكلام في تفسير قوله تعالى : { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } وأنه إن أريد بالسماء السماء المبنية ( ففي ) بمعنى ( على ) أي : على السماء كقوله : { لأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي : على جذوع النخل . وإن أريد بالسماء العلو كان المعنى ( في السماء ) أي : في العلو والله أعلم .(21/96)
الأمر الثاني : أن هذا الظن مخالف ومصادم لأدلة القرآن الدالة على عظمة الله وغناه عن خلقه وحاجة خلقه وحاجة خلقه إليه، كما في قوله تعالى : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } والكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش وهو أعظم من السموات والأرض والعرش أعظم منه، فإذا كانت السموات والأرض أصغر من الكرسي والكرسي أصغر من العرش . والله أعظم من كل شيء فكيف تحويه السماء أو تقله أو تظله ؟ .
وكذلك قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا } { وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ } فهذه الآيات تدل على أن السموات والأرض بحاجة إليه فهو الذي يمسكها أن تزول أو تقع ويكون قيامها بأمره وحده . فلا يعقل مع هذا أن يكون سبحانه بحاجة إليها لتقله أو تظله، تعالى الله عن هذا الظن الباطل علوًا كبيرًا .
وجوب الإيمان بقربه من خلقه وأن ذلك لا ينافي علوه وفوقيته
فصل
قال ـ رحمه الله ـ : وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب، كما جمع بين ذلك في قوله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) . وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته . وهو علي في دنوه قريب في علوه .
الشرح :(21/97)
لما قرر المصنف وجوب الإيمان بعلو الله سبحانه على خلقه واستوائه على عرشه نبه في هذا الفصل إلى أنه يجب مع ذلك الإيمان بأنه قريب من خلقه وقوله : ( وقد دخل في ذلك ) أي : في الإيمان بالله ( الإيمان بأنه قريب ) أي : من خلقه ( مجيب ) لدعائهم ( كما جمع بين ذلك ) أي : بين القرب والإجابة في قوله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي } ورد في سبب نزول هذه الآية . أن رجلًا جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فسكت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فنزلت هذه الآية . { فإني قريب } من الداعي { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } . وهذا يدل على الإرشاد إلى المناجاة في الدعاء بدون رفع الصوت، كما في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) سبق شرحه .
وفي هذه الآية وهذا الحديث دلالة على قرب الله تعالى من الداعي بإجابته وهذا القرب لا يناقض علوه، ولهذا قال مصنف : ( وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته ) لأن الكل حق والحق لا يتناقض ولأن الله تعالى : [ ليس كمثله شيء في جميع نعوته ] أي : صفاته، فلا يقال : إذا كان فوق خلقه فكيف يكون معهم ؟ لأن هذا السؤال ناشئ عن تصور خاطئ هو قياسه سبحانه بخلقه وهذا قياس باطل، لأن الله سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . فالقرب والعلو يجتمعان في حقه لعظمته وكبريائه وإحاطته وأن السموات السبع في يده كخردلة في يد العبد، فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه ويقرب من خلقه كيف يشاء وهو على العرش . ( وهو علي في دنوه قريب في علوه ) سبحانه وتعالى كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، وأجمع عليه علماء الملة وهو من خصائصه سبحانه ( علي في دنوه ) أي : في حال قربه من خلقه ( قريب في علوه ) أي : قريب من خلقه في حال علوه على عرشه .(21/98)
وجوب الإيمان بأن القرآن كلام الله حقيقة
فصل
قال ـ رحمه الله ـ : ومن الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة . وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره . ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة . بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة . فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا . وهو كلام الله حروفه ومعانيه . ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف .
الشرح :
من أصول الإيمان : الإيمان بالله والإيمان بكتبه . كما سبق ويدخل في هذين الأصلين الإيمان بأن القرآن كلام الله . فالإيمان بالله ـ عز وجل ـ يتضمن الإيمان بصفاته، وكلامه من صفاته فإن الله تعالى موصوف بأنه يتكلم بما يشاء إذا شاء لم يزل ولا يزال يتكلم وكلامه لا ينفد، ونوع الكلام في حقه أزلي أبدي ومفرداته لا تزال تقع شيئًا فشيئًا حسب حكمته تعالى .
ومن كلامه القرآن العظيم الذي هو أعظم كتبه، فهو داخل في الإيمان بكتبه دخولًا أوليًا وهو منزل منه سبحانه، فهو تكلم به وأنزل على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو ( منزل غير مخلوق ) لأنه صفة من صفاته أضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها، وصفاته غير مخلوقه فكلامه غير مخلوق . وقد خالف في هذا طوائف، ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ هنا مقاله بعضهم فذكر :(21/99)
1 ـ مقالة الجهمية حيث يقولون : إن الله لا يتكلم وإنما خلق كلامًا في غيره وجعله يعبر عنه، فإضافة الكلام عندهم إلى الله مجاز لا حقيقة لأنه خلق الكلام فهو متكلم بمعنى خالق الكلام في غيره . وهذا القول باطل مخالف للأدلة السمعية والعقلية، ومخالف لقول السلف وأئمة المسلمين فإنه لا يعقل أن يسمى متكلمًا إلا من قام به الكلام حقيقة فكيف يقال : قال الله والقائل غيره ؟ وكيف يقال : كلام الله وهو كلام غيره ؟ ! .
وقول المصنف : ( منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره ) قصده بهذا الرد على الجهمية الذين يقولون إن القرآن بدأ من غيره وأن الله لم يتكلم به حقيقة بل مجازًا، وهو كلام غيره أضيف إليه لأنه خالقه . ومعنى قوله : ( منه بدأ ) أن القرآن بدأ وخرج من الله تعالى وتكلم به . ( ومن ) لابتداء الغاية وقوله : ( وإليه يعود ) أي : أن القرآن يرجع إلى الله تعالى لأنه يرفع في آخر الزمان فلا يبقى منه شيء في الصدور ولا في المصاحف، وذلك من علامات الساعة، أو معنى ذلك أنه ينسب إليه .
2 ـ ثم ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ هنا مقالة الكلابية ( أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب ) في القرآن أنه حكاية عن كلام الله، لأن كلام الله عندهم هو المعنى القائم في نفسه لازم لذاته كلزوم الحياة والعلم، لا يتعلق بمشيئته وإرادته . وهذا المعنى القائم في نفسه غير مخلوق وهذه الألفاظ المكونة من حروف وأصوات مخلوقة وهي حكاية لكلام الله وليست هي كلامه .
3 ـ وذكر مقالة الأشاعرة ( أتباع أبي الحسن الأشعري ) أن القرآن عبارة عن كلام الله، لأن كلام الله عندهم معنى قائم في نفسه، وهذا المعنى غير مخلوق . أما هذه الألفاظ المقروءة فهي عبارة عن ذلك المعنى القائم بالنفس وهي مخلوقة ولا يقال إنها حكاية عنه .(21/100)
وبعض العلماء يقول : إن الخلاف بين الكلابية والأشاعرة خلاف لفظي لا طائل تحته، فالأشاعرة والكلابية يقولون : القرآن نوعان : ألفاظ ومعان، فالألفاظ مخلوقة هي هذه الألفاظ الموجودة، والمعاني قديمة قائمة بالنفس وهي معنى واحد لا تبعض فيه ولا تعدد . وعلى كل حال فالقولان إن لم يكونا متفقين فهما متقاربان .
وقد أشار الشيخ ـ رحمه الله ـ إلى بطلان هذين القولين بقوله : ( ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله ) أي : كما تقول الكلابية ( أو عبارة عنه ) كما تقول الأشاعرة ( بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله حقيقة ) أي : أن القرآن العظيم كلام الله ألفاظه ومعانيه أين وجد، سواء حفظ في الصدور أو تلي بالألسنة أو كتب في المصاحف لا يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة .
ثم ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ دليل ذلك فقال : ( فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا ) فإن المبلغ المؤدي إنما يسمى واسطة فقط . قال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ } الآية ( 6 ) من سورة التوبة . والسماع المذكور في هذه الآية إنما يكون بواسطة المبلغ وسمي المسموع كلام الله، فدل على أن الكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئًا .
4 ـ ثم ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ مقالة المعتزلة، حيث يقولون : إن كلام الله الحروف دون المعاني فيقولون : إن مسمى القول والكلام عند الإطلاق اسم للفظ فقط، والمعنى ليس جزء مسماه بل مدلول مسماه .
ثم ذكر ـ رحمه الله ـ المذهب المقابل لذلك فقال : ( ولا المعاني دون الحروف ) كما هو مذهب الكلابية والأشاعرة وكما سبق شرحه . والمذهب الحق أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه كما هو قول أهل السنة والجماعة، وهو الذي قامت عليه الأدلة من الكتاب والسنة والحمد لله رب العالمين .(21/101)
وجوب الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ومواضع الرؤية
فصل
قال ـ رحمه الله ـ : وقد دخل أيضًا فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وملائكته وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عيانًا بأبصارهم، كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته . يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة . ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله .
الشرح :
وجه دخول الإيمان بالرؤية في الإيمان بالله وبكتبه وبرسله أن الله سبحانه أخبر بها في ككتابه وأخبر بها رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمن لم يؤمن بها كان مكذبًا لله ولكتبه ولرسله، فإن الذي يؤمن بالله وكتبه ورسله يؤمن بكل ما أخبروا به وقوله : ( عيانًا ) بكسر العين أي : رؤية محققة لا خفاء فيها، فليست مجازًا كما تقوله المعطلة ( كما يرن الشمس صحوًا ليس دونها سحاب وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته ) أي : رؤية حقيقية لا مشقة فيها كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث التي سبق شرحها .
وقوله : ( يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة ثم يرونه بعد دخول الجنة ) هذا بيان للمواضع التي تحصل فيها الرؤية . وذلك في موضعين :
الموضع الأول : في عرصات القيامة، والعرصات جمع عرصة وهي الموضع الواسع الذي لا بناء فيه، وعرصات القيامة : مواقف الحساب . وهل يختص المؤمنون برؤيته في هذا الموضع ؟ في المسألة ثلاثة أقوال . قيل : يراه في عرصات القيامة المؤمنون والمنافقون والكفار . وقيل : يراه المؤمنون والمنافقون فقط دون الكفار وقيل : يراه المؤمنون فقط . والله أعلم .(21/102)
الموضع الثاني : يراه المؤمنون بعد دخولهم الجنة كما ثبت ذلك في الأدلة من الكتاب والسنة، وسبق ذكر بعض تلك الأدلة مشروحة، وسبق ذكر شبه من نفى الروية مع الرد عليها، والجنة في اللغة : البستان، والمراد بها هنا : الدار التي أعدها الله لأوليائه وهي دار النعيم المطلق الكامل . وقول الشيخ : ( كما يشاء الله ) أي : من غير إحاطة . ولا تكييف لرؤيته .
ما يدخل في الإيمان باليوم الآخر
فصل
1 ـ ما يكون في القبر
قال ـ رحمه الله ـ : ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه . فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ . فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . فيقول المؤمن : ربي الله والإسلام ديني ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبيي . وأما المرتاب فيقول : هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته . فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق . ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب .
الشرح :
اليوم الآخر هو يوم القيامة والإيمان به أحد أركان الإيمان، وقد دل عليه العقل والفطرة، وصرحت به جميع الكتب السماوية ونادى به جميع الأنبياء والمرسلين . وسمي باليوم الآخر لتأخره عن الدنيا . وقد ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ هنا ضابطًا شاملًا لمعنى الإيمان باليوم الآخر بأنه الإيمان بكل ما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يكون بعد الموت، فيدخل فيه الإيمان بكل ما دلت عليه النصوص من حالة الاحتضار وحالة الميت في القبر والبعث من القبور وما يحصل بعده . ثم أشار الشيخ ـ رحمه الله ـ إلى أشياء من ذلك .
منها ما يكون في القبر فقال : ( فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه ) فذكر أمرين :(21/103)
الأمر الأول : فتنة القبر، والفتنة لغة : الامتحان والاختبار، والمراد بها هنا سؤال الملكين للميت، ولهذا قال : ( فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل ) أي : الميت سواء كان رجلًا أو امرأة، ولعل ذكر الرجل من باب التغليب . ثم ذكر الأسئلة التي توجه إلى الميت، وما يجيب به المؤمن، وما يجيب به غير المؤمن وما يكون بعد هذه الإجابة من نعيم أو عذاب .
والإيمان بسؤال الملكين واجب لثبوته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أحاديث يبلغ مجموعها حد التواتر . ويدل على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء } سورة إبراهيم الآية ( 27 ) فقد أخرج الشيخان من حديث البراء بن عازب ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ } نزلت في عذاب القبر . زاد مسلم : ( يقال له : من ربك ؟ فيقول ربي الله ونبيي محمد ) فذلك قوله : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ } ، والقول الثابت هو كلمة التوحيد التي ثبتت في قلب المؤمن بالحجة والبرهان، وتثبيت المؤمنين بها في الدنيا أنهم يتمسكون بها ولو نالهم في سبيلها ما نالهم من الأذى والتعذيب . وتثبيتهم بها في الآخرة توفيقهم للجواب عند سؤال الملكين .(21/104)
وقوله : ( وأما المرتاب ) أي : الشاك ( فيقول ) إذا سئل : ( هاه هاه ) كلمة تردد وتوجع، ( لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته ) لأنه غير مؤمن بما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيستعجم عليه الجواب، ولو كان من أعلم الناس وأفصحهم كما قال تعالى : { وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ } فيضرب بمرزبة من حديد وهي المطرقة الكبيرة ( فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان لصعق ) أي : خر ميتًا أو غشي عليه، ومن حكمة الله أيضًا أن ما يجري على الميت في قبره لا يحس به الأحياء، لأن الله تعالى جعله من الغيب، ولو أظهره لفاتت الحكمة المطلوبة وهي الإيمان بالغيب .
الأمر الثاني : مما يجري على الميت في قبره ما أشار إليه الشيخ بقوله : ( ثم بعد الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى ) هذا فيه إثبات عذاب القبر أو نعيمه . ومذهب أهل السنة والجماعة أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه كما تواترت به الأحاديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيجب الإيمان به ولا يتكلم في كيفيته وصفته لأن ذلك لا تدركه العقول، لأنه من أمور الآخرة، وأمور الآخرة لا يعلمها إلا الله، ومن أطلعهم الله على شيء منه وهم الرسل ـ صلوات الله سلامه عليهم ـ .
وأنكر عذاب القبر المعتزلة، وشبهتهم في ذلك أنهم لا يدركونه ولا يرون الميت يعذب ولا يسأل . والجواب عن ذلك : أن عدم إدراكنا ورؤيتنا للشيء لا يدل على عدم وجوده ووقوعه، فكم من أشياء لا نراها وهي موجودة، ومن ذلك عذاب القبر أو نعيمه . وأن الله تعالى جعل أمر الآخرة وما كان متصلًا بها غيبًا وحجبها عن إدراك العقول في هذه الدار ليتميز الذين يؤمنون بالغيب من غيرهم . وأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا . والله أعلم .
وعذاب القبر على نوعين :(21/105)
النوع الأول : عذاب دائم وهو عذاب الكافر . كما قال تعالى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } سورة غافر الآية ( 46 ) .
النوع الثاني : يكون إلى مدة ثم ينقطع وهو عذاب بعض العصاة من المؤمنين فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه . وقد ينقطع العذاب بسبب دعاء أو صدقة أو استغفار .
2 ـ القيامة الكبرى وما يجري فيها
إلى أن تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلى الأجساد . وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلًا .
الشرح :
أشار الشيخ ـ رحمه الله ـ في هذا وما بعده إلى ما يكون في الدار الآخرة وهي التي تبدأ بالقيامة الكبرى . فإن الدور ثلاث : دار الدنيا . ودار البرزخ . والدار الآخرة . وكل دار من هذه الدور الثلاث لها أحكام تخصها . وحوادث تجري فيها، وقد تكلم الشيخ على ما يكون في دار البرزخ .(21/106)
وهنا أخذ يتكلم على ما يكون في الدار الآخرة فيقول : ( إلى أن تقوم القيامة الكبرى ) القيامة قيامتان : قيامة صغرى وهي الموت . وهذه القيامة تقوم على كل إنسان في خاصته من خروج روحه وانقطاع سعيه . وقيامة كبرى، وهذه تقوم على الناس جميعًا وتأخذهم أخذة واحدة . وسميت قيامة لقيام الناس من قبورهم لرب العالمين . ولهذا قال : ( فتعاد الأرواح إلى الأجساد ) وذلك عندما ينفخ إسرافيل في الصور قال تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } الآيتان ( 51 ـ 52 ) من سورة يس . وقال تعالى : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } الآية ( 68 ) من سورة الزمر . والأرواح : جمع روح، وهي ما يحيا به الإنسان وغيره من ذوات الأرواح، ولا يعلم حقيقتها إلا الله قال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } الآية ( 85 ) الإسراء .
وقوله : ( وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون ) إشارة إلى أدلة البعث، وأنه ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين والعقل والفطر السليمة . فقد أخبر الله عنه في كتابه وأقام الدليل عليه، ورد على المنكرين للبعث في غالب سور القرآن . ولما كان نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم النبيين بين تفاصيل الآخرة بيانًا لا يوجد في كثير من كتب الأنبياء .(21/107)
والجزاء على الأعمال ثابت بالعقل وواقع في الشرع، فإن الله نبه العقول إلى ذلك في مواضع كثيرة من القرآن حيث ذكرها أنه لا يليق بحكمته وحمده أن يترك الناس سدى أو يخلقهم عبثًا لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون . وأن يكون المحسن كالمسيء أو يجعل المسلمين كالمجرمين . فإن بعض المحسنين يموت قبل أن يجزى على إحسانه . وبعض المجرمين يموت قبل أن يجازى على إجرامه . فلابد أن هناك دارًا يجازى فيها كل منهما . ومنكر البعث كافر . كما قال تعالى : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا } الآية ( 7 ) التغابن .
وقوله : ( فيقوم الناس من قبورهم حفاة ) : جمع حاف وهو الذي ليس على رجله نعل ولا خف ( عراة ) : جمع عار، وهو الذي ليس عليه لباس ( غرلًا ) : جمع أغرل وهو الأقلف الذي لم يختن، وهذه الصفات الثلاث يكونون عليها حين قيامهم من قبورهم، وهذا ثابت في الصحيح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلًا ) الحديث .
ما يجري في يوم القيامة(21/108)
وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } وتنشر الدواوين، وهي صحائف الأعمال . فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره . كما قال سبحانه وتعالى : { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } ويحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، كما وصف ذلك في الكتاب والسنة . وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها .
الشرح :
ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ في هذا الكلام بعض ما يجري في يوم القيامة مما ذكر في الكتاب والسنة . فإن تفاصيل ما يجري في هذا اليوم مما لا يدرك بالعقل، وإنما يدرك بالنقول الصحيحة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا ينطق عن الهوى { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } ومن الحكمة في محاسبة الخلائق على أعمالهم ووزنها وظهورها مكتوبة في الصحف مع إحاطة علم الله بذلك، ليرى عباده كمال حمده وكمال عدله وسعة رحمته وعظمة ملكه . وذكر الشيخ مما يجري في هذا اليوم العظيم على العباد :(21/109)
1 ـ ( أنها تدنو منهم الشمس ) أي : تقرب من رؤوسهم كما روى مسلم عن المقداد ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين ) قوله : ( ويلجمهم العرق ) أي : يصل إلى أفواههم، فيصير بمنزلة اللجام يمنعهم من الكلام وذلك نتيجة لدنو الشمس منهم، وذلك بالنسبة لأكثر الخلق، ويستثنى من ذلك الأنبياء ومن شاء الله .
2 ـ ومما ذكر في هذا اليوم قوله : ( وتنصب الموازين وتوزن بها الأعمال ) الموازين : جمع ميزان، وهو الذي توزن به الحسنات والسيئات، وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان، وهو من أمور الآخرة نؤمن به كما جاء ولا نبحث عن كيفيته إلا على ضوء ما ورد من النصوص . والحكمة في وزن الأعمال إظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبه { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أي : رجحت حسناته على سيئاته { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : الفائزون والناجون من النار المستحقون لدخول الجنة . { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي : ثقلت سيئاته على حسناته { فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } أي : خابوا وصاروا إلى النار { فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } أي : ماكثون في النار .
والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات الموازين والوزن يوم القيامة . وقد ورد ذكر الوزن والموازين في آيات كثيرة من القرآن، وقد أفاد مجموع النصوص أنه يوزن العامل والعمل والصحف، ولا منافاة بينها فالجميع يوزن، ولكن الاعتبار في الثقل والخفة يكون بالعمل نفسه لا بذات العامل ولا بالصحيفة والله أعلم . وقد تأول المعتزلة النصوص في ذلك على أن المراد بالوزن والميزان العدل، وهذا تأويل فاسد مخالف للنصوص وإجماع سلف الأمة وأئمتها .(21/110)
قال الشوكاني : وغاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية، وليس في ذلك حجة على أحد . فهذا إذا لم تقبله عقولهم فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى جاءت البدع كالليل المظلم، وقال كل ما شاء وتركوا الشرع خلف ظهورهم . اه ـ . وأمور الآخرة ليست مما تدركها العقول والله أعلم .
3 ـ ومما ذكره الشيخ من حوادث هذا اليوم العظيم قوله : ( وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال ) أي : الصحائف التي كتبت فيها أعمال العباد التي عملوها في الدنيا وكتبتها عليهم الحفظة لأنها تطوى عند الموت وتنشر . أي : تفتح عند الحساب ليقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها، ( فآخذ كتابه بيمينه وآخذ ككتابه بشماله أو من وراء ظهره ) هذا فيه بيان كيفية أخذ الناس لصحفهم كما جاء ذلك في القرآن الكريم على نوعين : آخذ كتابه بيمينه، وهو المؤمن، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره وهو الكافر . بأن تلوى يده اليسرى من وراء ظهره ويعطى كتابه بها . كما جاءت الآيات بهذا وهذا ولا منافاة بينهما لأن الكافر تغل يمناه إلى عنقه وتجعل يسراه وراء ظهره فيأخذ بها كتابه .(21/111)
ثم استدل الشيخ بقوله تعالى : { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } الآية . وطائره : ما طار عنه من عمله من خير وشر ( في عنقه ) أي : يلزم به ويجازى به لا محيد له عنه، فهو لازم له لزوم القلادة في العنق . { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا } أي : نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة، إما بيمينه إن كان سعيدًا، أو بشماله إن كان شقيًا، { مَنشُورًا } أي : مفتوحًا يقرؤه هو وغيره . وإنما قال سبحانه : { يَلْقَاهُ مَنشُورًا } تعجيلًا للبشرى بالحسنة والتوبيخ على السيئة { اقْرَأْ كَتَابَكَ } أي : نقول له ذلك . قيل : يقرأ ذلك الكتاب من كان قارئًا ومن لم يكن قارئًا { كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } أي : حاسبًا، وهو منصوب على التمييز . وهذا أعظم العدل حيث جعله حسيب نفسه ليرى جميع عمله لا ينكر منه شيئًا .
والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات إعطاء كل إنسان صحيفة عمله يوم القيامة يقرؤها بنفسه ويطلع عليها هو لا بواسطة غيره .
4 ـ ثم ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ الحساب فقال : ( ويحاسب الله الخلائق ) الحساب : هو تعريف الله ـ عز وجل ـ للخلائق بمقادير الجزاء على أعمالهم وتذكيره إياهم ما قد نسوه من ذلك، أو بعبارة أخرى : هو توقيف الله عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيرًا كانت أم شرًا .
ثم ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ أن الحساب على نوعين :(21/112)
النوع الأول : حساب المؤمن قال فيه : ( ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك بالكتاب والسنة ) كما قال الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا } الآيتان ( 8، 9 ) الانشقاق، وفي الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا . أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك، قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته ) ومعنى يقرره بذنوبه : يجعله يقر، أي : يعترف بها . كما في هذا الحديث : أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا . ومن المؤمنين من يدخل الجنة بغير حساب، كما صح في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب .
والحساب يختلف، فمنه اليسير وهو العرض، ومنه المناقشة . وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إنما ذلك العرض وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب ) .(21/113)
النوع الثاني : حساب الكفار، وقد بينه بقوله : ( وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم ) أي : ليس لهم حسنات توزن مع سيئاتهم لأن أعمالهم قد حبطت بالكفر فلم يبق لهم في الآخرة إلا سيئات فحسابهم معناه أنهم ( تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها ) أي : يخبرون بأعمالهم الكفرية ويعترفون بها ثم يجازون عيها كما قال تعالى : { فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } الآية ( 50 ) فصلت . وقال تعالى : { وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } الآية ( 37 ) الأعراف . وقال : { فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ } الآية ( 11 ) الملك .
حوض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومكانه وصفاته
وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل . آنيته عدد نجوم السماء . طوله شهر وعرضه شهر . من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا .
الشرح :
5 ـ مما يوجد في القيامة حوض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد ذكره الشيخ هنا وبين أوصافه فقال : ( وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) كما ثبت ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قال الإمام ابن القيم : وقد روى أحاديث الحوض أربعون صحابيًا وكثير منها أو أكثرها في الصحيح . انتهى . وتقدم بيان معنى العرصات .(21/114)
والحوض لغة : مجمع الماء . وقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات الحوض، وخالفت في ذلك المعتزلة فلم تقل بإثباته وأولوا النصوص الواردة فيه وأحالوها عن ظاهرها . ثم ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ أوصاف الحوض فقال : ( ماؤه أشد بياضًا من اللبن . . إلخ ) وهذه الأوصاف ثابتة في الأحاديث كحديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه . قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك وكيزاته كنجوم السماء، من شرب منه لا يظمأ أبدًا ) .
الصراط ومعناه ومكانه وصفة مرور الناس عليه
والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار . يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر ومنهم من يسر كالبرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفرس الجواد ومنهم من يمر كركاب الإبل ومنهم من يعدو عدوا ومنهم من يمشي مشيًا ومنهم من يزحف زحفًا ومنهم من يخطف ويلقى في جهنم . فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم .
الشرح
6 ـ ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ في هذا أن مما يحصل يوم القيامة المرور على الصراط . والصراط في اللغة : هو الطريق الواضح . وأما في الشرع : فهو ما بينه الشيخ بقوله : ( وهو الجسر الذي بين الجنة والنار ) وبين مكانه بقوله : ( على متن جهنم ) أي : على ظهر النار . ثم بين صفة مرور الناس عليه بقوله : ( يمر الناس عليه على قدر أعمالهم ) ووقت المرور عليه بعد مفارقة الناس للموقف والحشر والحساب فإن الصراط ينجو عليه المؤمنون من النار إلى الجنة ويسقط منه أهل النار فيها كما ثبت في الأحاديث .(21/115)
ثم فصل الشيخ ـ رحمه الله ـ أحوال الناس في المرور على الصراط فقال : ( فمنهم من يمر كلمح البصر ) إلخ . أي : أنهم يكونون في سرعة المرور وبطئه على حسب إيمانهم وأعمالهم الصالحة التي قدموها في الدنيا، فبحسب استقامة الإنسان على دين الإسلام وثباته عليه يكون ثباته ومروره على الصراط، فمن ثبت على الصراط المعنوي وهو الإسلام ثبت على الصراط الحسي المنصوب على متن جهنم . ومن زل عن الصراط المعنوي زل عن الصراط الحسي . وقوله : ( يعدو عدوًا ) أي : يركض ركضًا . وقوله : ( يزحف زحفًا ) أي : يمشي على مقعدته بدل رجليه . وقوله : ( عليه كلاليب ) جمع كلوب بفتح الكاف اللام المشددة المضمومة وهي حديدة معطوفة الرأس .
وقوله : تخطف بفتح الطاء ويجوز كسرها من الخطف وهو أخذ الشيء بسرعة . وقوله : ( بأعمالهم ) أي : بسبب أعمالهم السيئة فيكون اختطاف الكلاليب فهم على صراط جهنم بحسب اختطاف الشبهات والشهوات لهم عن الصراط المستقيم .
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بالصراط المنصوب على متن جهنم ومرور الناس عليه على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وخالف في ذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي وكثير من أتباعه وقالوا : المراد بالصراط المذكور طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى : { سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } . وهذا قول باطل ورد للنصوص الصحيحة بغير برهان . والواجب حمل النصوص على ظاهرها .
القنطرة بين الجنة والنار
فمن مر على الصراط دخل الجنة . فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض . فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم دخول الجنة .
الشرح :(21/116)
7 ـ ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ مما يكون يوم القيامة الوقوف على القنطرة، فقال : ( فمن مر على الصراط ) أي : تجاوزه وسلم من السقوط في جهنم، ( دخل الجنة ) لأن من نجا من النار دخل الجنة، قال تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } وقال تعالى : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } .
لكن قبل دخول الجنة لابد من إجراء القصاص بين المؤمنين حتى يدخلوا الجنة وهم على أكمل حالة . قد خلصوا من المظالم، وهذا ما أشار إليه الشيخ بقوله : ( إذا عبروا ) أي : تتجاوزوا الصراط ونجوا من السقوط في النار ( وقفوا على قنطرة ) هي : الجسر وما ارتفع من البنيان . وهذه القنطرة، قيل : هي طرف الصراط مما يلي الجنة، وقيل : هي صراط آخر خاص بالمؤمنين .
( فيقتص لبعضهم من بعض ) أي : يجري بينهم القصاص في المظالم، فيؤخذ للمظلوم حقه ممن ظلمه ( فإذا هذبوا ونقوا ) أي : خلصوا من التبعات والحقوق ( أذن لهم في دخول الجنة ) وقد ذهب ما في قلوب بعضهم على بعض من الغل كما قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } .
أول من يستفتح باب الجنة وأول من يدخلها وشفاعات النبي ـ صلى الله عليه وسلم
وأول من يستفتح باب الجنة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأول من يدخلها من الأمم أمته . وله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القيامة ثلاث شفاعات : أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم، بعد أن يتراجع آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه . وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له . وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له، ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم . فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها . ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها .
الشرح :(21/117)
8 ـ يبين الشيخ ـ رحمه الله ـ ما ينتهي إليه أمر المؤمنين يوم القيامة بعد اجتيازهم لتلك الأحوال التي مر ذكر أهمها فيقول : ( فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ) فهم لا يدخلون إلا بعد إذن من الله تعالى وطلب لفتح أبوابها، ( وأول من يستفتح باب الجنة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) كما في الصحيح عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد، فيقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ) والاستفتاح طل الفتح وفي هذا تشريف له ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإظهار لفضله .
( وأول من يدخلها من الأمم أمته ) وذلك لفضها على سائر الأمم . ودليل ذلك ما في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ونحن أول من يدخل الجنة ) قوله : ( وله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القيامة ثلاث شفاعات ) الشفاعات جمع شفاعة والشفاعة لغة : الوسيلة . وعرفًا : سؤال الخير للغير . مشتقة من الشفع الذي هو ضد الوتر . فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له بعد أن كان منفردًا .
وقول الشيخ ـ رحمه الله ـ : ( وله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القيامة ثلاث شفاعات ) بيان للشفاعات التي يقوم بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في يوم القيامة بإذن الله تعالى . هكذا ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ أنواع الشفاعة هنا مختصرة، وهي على سبيل الاستقصاء ثمانية أنواع : منه ما هو خاص بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنها ما هو مشترك بينه وبين غيره .
الشفاعة الأولى : الشفاعة العظمى ( وهي المقام المحمود ) وهي أن يشفع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقضي الله سبحانه بين عباده بعد طول الموقف عليهم، وبعد مراجعتهم الأنبياء للقيام بها فيقوم بها نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد إذن ربه .(21/118)
الشفاعة الثانية : شفاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دخول أهل الجنة بعد الفراغ من الحساب .
الشفاعة الثالثة : شفاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب وهذه خاصة به . لأن الله أخبر أن الكافرين لا تنفعهم شفاعة الشافعين، ونبينا أخبر أن شفاعته لأهل التوحيد خاصة . فشفاعته لعمه أبي طالب خاصة به وخاصة لأبي طالب . وهذه الأنواع الثلاثة من الشفاعة خاصة بنبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
الشفاعة الرابعة : شفاعته فيمن استحق النار من عصاة الموحدين أن لا يدخلها .
الشفاعة الخامسة : شفاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيمن دخل النار من عصاة الموحدين أن يخرج منها .
الشفاعة السادسة : شفاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رفع درجات بعض أهل الجنة .
الشفاعة السابعة : شفاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيمن استوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلوا الجنة، وهم أهل الأعراف على قول .
الشفاعة الثامنة : شفاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دخول بعض المؤمنين الجنة بلا حساب ولا عذاب . وهذه الأنواع الخمسة الباقية يشاركه فيها غيره من الأنبياء والملائكة والصديقين والشهداء .
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذه الشفاعات كلها لثبوت أدلتها وأنها لا تحقق إلا بشرطين :
الشرط الأول : إذن الله للشافع أن يشفع، كما قال تعالى : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } الآية ( 255 ) البقرة { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } الآية ( 3 ) من سورة يونس .
الشرط الثاني : رضا الله عن المشفوع له كما قال تعالى : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } الآية ( 28 ) الأنبياء ويجمع الشرطين قوله تعالى : { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } الآية ( 26 ) النجم .(21/119)
وقد خالفت المعتزلة في الشفاعة لأهل الكبائر من المؤمنين فيمن استحق النار منهم أن لا يدخلها وفيمن دخلها أن يخرج منها، أي : في النوع الخامس والسادس من أنواع الشفاعة، ويحتجون بقوله تعالى : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } الآية ( 48 ) المدثر . والجواب عنها : أنها واردة في حق الكفار فهم الذين لا تنفعهم شفاعة الشافعين . أما المؤمنين فتنفعهم الشفاعة بشروطها . . هذا وقد انقسم الناس في أمر الشفاعة إلى ثلاثة أصناف :
الصنف الأول : غلوا في إثباتها وهم النصارى والمشركون وغلاة الصوفية والقبوريون حيث جعلوا شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا عند الملوك، فطلبوها من دون الله كما ذكر الله ذلك عن المشركين .
الصنف الثاني : وهم المعتزلة والخوارج غلوا في نفي الشفاعة فأنكروا شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشفاعة غيره في أهل الكبائر .
الصنف الثالث : وهم أهل السنة والجماعة أثبتوا الشفاعة على وفق ما جاءت به النصوص القرآنية والأحاديث النبوية فأثبتوا الشفاعة بشروطها .
إخراج بعض العصاة من النار برحمة الله بغير شفاعة واتساع الجنة عن أهلها
ويخرج الله من النار أقوامًا بغير شفاعة بل بفضله ورحمته . ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله أقوامًا فيدخلهم الجنة . وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء، والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء . وفي العلم الموروث عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك ما يشفي ويكفي، فمن ابتغاه وجده .
الشرح :(21/120)
9 ـ لما ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ أن من أنواع الشفاعات التي تقق بإذن الله الشفاعة بإخراج بعض من دخلوا النار منها . ذكر هنا أن الخروج من النار له سبب آخر غير الشفاعة، وهو رحمة الله سبحانه وفضله وإحسانه، فيخرج من النار من عصاة الموحدين من في قلبه مثقال حبة من إيمان . قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } الآية ( 48 ) النساء . وفي الحديث المتفق عليه : ( يقول الله : شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرا قط ) الحديث .
وقوله : ( ويبقى في الجنة فضل ) أي : متسع ( عمن دخلها من أهل الدنيا ) لأن الله وصفها بالسعة فقال : { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } الآية ( 133 ) آل عمران ( فينشئ الله ) أي : يخلق ويوجد ( أقوامًا ) أي : جماعات ( فيدخلهم الجنة ) بفضله ورحمته لأن الجنة رحمته يرحم بها من يشاء . وأما النار فلا يعذب فيها إلا من قامت عليه حجته وكذب رسله .
وقوله : ( وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة . . . إلخ ) لما ذكر ـ رحمه الله ـ ما ذكر من أحوال اليوم الآخر وما يجري فيه، أحال على الكتاب والسنة في معرفة تفاصيل البقية مما لم يذكره، لأن ذلك من علم الغيب الذي لا يعرف إلى من طريق الوحي .
الإيمان بالقدر وبيان ما يتضمنه
وتؤمن الفرقة الناجية ـ أهل السنة والجماعة ـ بالقدر خيره وشره . والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين .
الشرح :
القدر : مصدر قدرت الشيء إذا أحطت بمقداره . والمراد به هنا : تعلق علم الله بالكائنات وإرادته لها أزلًا قبل وجودها . فلا حادث إلا وقد قدره الله، أي : سبق علمه به وتعلقت به إرادته . والإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، وهو الإيمان بالقدر خيره وشره .(21/121)
وفي قول الشيخ ـ رحمه الله ـ : ( وتؤمن الفرقة الناجية ـ أهل السنة والجماعة ـ بالقدر خيره وشره ) إشارة إلى أن من لم يؤمن بالقدر فليس من أهل السنة والجماعة، وهذا هو مقتضى النصوص كما في حديث جبريل حين سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإيمان، فقال : ( الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) فجعل ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإيمان بالقدر سادس أركان الإيمان فمن أنكره فليس بمؤمن . كما لو لم يؤمن بغيره من أركان الإيمان .
وقوله : ( والإيمان بالقدر على درجتين . . إلخ ) وذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ هنا أن الإيمان بالقدر يشتمل على أربع مراتب هي إجمالًا كما يلي :
الأولى : علم الله الأزلي بكل شيء . ومن ذلك عليه بأعمال العباد قبل أن يعملوها .
الثانية : كتابة ذلك في اللوح المحفوظ .
الثالثة : مشيئته الشاملة وقدرته التامة لكل حادث .
الرابعة : إيجاد الله لكل المخلوقات وأنه الخالق وما سواه مخلوق . هذا مجمل مراتب القدر، وإليك بيانها بالتفصيل .
تفصيل مراتب القدر
الدرجة الأولى وما تتضمنه(21/122)
فالدرجة الأولى : الإيمان بأن الله تعالى عليم بما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلًا وأبدًا . وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال . ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق . فأول ما خلق الله القلم، قال له : اكتب . قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة . فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه . وما أخطأه لم يكن ليصيبه . جفت الأقلام وطويت الصحف . كما قال تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وقال : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلًا . فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء . وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكًا فيؤمر بأربع كلمات فيقال له : اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد . ونحو ذلك . فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديما ومنكروه اليوم قليل .
الشرح :
قوله : ( أزلًا ) الأزل : القدم الذي لا بداية له . وقوله : ( أبدًا ) الأبد : هو الدوام في المستقبل الذي لا نهاية له . و ( الطاعات ) : جمع طاعة وهي موافقة الأمر . و ( المعاصي ) : جمع معصية وهي مخالفة الأمر، و ( الأرزاق ) : جمع رزق وهو ما ينفع . ( والآجال ) : جمع أجل وهو مدة الشيء . وأجل الإنسان نهاية وقته في الدنيا بالموت . و ( اللوح المحفوظ ) وهو أم الكتاب ( محفوظ ) من الزيادة والنقصان فيه . ذكر الشيخ هنا ما تتضمنه الدرجة الأولى من درجتي الإيمان بالقدر وأنها تتضمن شيئين أي مرتبتين .(21/123)
المرتبة الأولى : الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء من الموجودات والمعدومات، هذا العلم الذي هو صفة من صفاته تعالى الذاتية التي لا يزال متصفا بها أزلًا وأبدًا . ومن ذلك علمه بأعمال الخلق من الطاعات والمعاصي وعلمه بأحوالهم من الأرزاق والآجال وغيرها .
المرتبة الثانية : مرتبة الكتابة . هي أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق فما يتحدث شيء في الكون إلا وقد علمه الله وكتبه قبل حدوثه .
ثم استدل الشيخ ـ رحمه الله ـ على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة . فمن أدلة السنة على ذلك الحديث الذي ذكر الشيخ معناه . ولفظه كما رواه أبو داود في سننه عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( أول ما خلق الله القلم . فقال له : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) فهذا الحديث يدل على مرتبة الكتابة وأن المقادير كلها مكتوبة .
وقوله : ( أول ما خلق الله القلم قال له اكتب ) روي بنصب ( أول ) و ( القلم ) على أن الكلام جملة واحدة ومعناه : أنه عند أول خلقه القلم قال له : اكتب . وروي برفع ( أول ) و ( القلم ) على أن الكلام جملتان : الأولى ( أول ما خلق الله القلم ) ، و ( قال له اكتب ) جملة ثانية . فيكون المعنى : أن أول المخلوقات من هذا العالم القلم .
وقوله : ( فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه . . إلخ ) من كلام عبادة بن الصامت راوي الحديث . أي : ما يصيب الإنسان مما ينفعه أو يضره فهو مقدر عليه لابد أن يقع به ولا يقع به خلافه . وقوله : ( جفت الأقلام وطويت الصحف ) كناية عن سبق كتابة المقادير والفراغ منها . وهو معنى ما جاء في حديث ابن عباس : ( رفعت الأقلام وجفت الصحف ) رواه الترمذي .(21/124)
ثم ذكر الشيخ من أدلة القرآن قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } { أَلَمْ تَعْلَمْ } : الاستفهام للتقرير . أي : قد علمت يا محمد وتيقنت { أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ } فيه إحاطة علمه بالعالم العلوي والعالم السفلي وهذه مرتبة العلم { إِنَّ ذَلِكَ } أي : الذي في السماء والأرض من معلوماته { فِي كِتَابٍ } أي : أن إحاطة علمه بما في السماء والأرض وكتابته يسير عليه .
والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات علم الله بالأشياء وكتابتها في اللوح المحفوظ، وهذا هو ما تتضمنه الدرجة الأولى
واستدل الشيخ أيضًا بقوله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ } من قحط مطر وضعف نبات ونقص ثمار { وَلا فِي أَنفُسِكُمْ } بالآلام والأسقام وضيق العيش { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } أي : إلا وهي مكتوبة في اللوح المحفوظ { مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } أي : قبل أن نخلقها ونوجدها { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي : أن لإثباتها في الكتاب على كثرتها يسير على الله سبحانه .
والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها دليلًا على كتابة الحوادث في اللوح المحفوظ قبل وقوعها . ويتضمن ذلك علمه بها قبل الكتابة فهي دليل على مرتبتي العلم والكتابة .(21/125)
ثم بعد ذلك أشار الشيخ ـ رحمه الله ـ إلى أن التقدير نوعان : تقدير عام شامل لكل كائن، وهو الذي تقدم الكلام عليه بأدلته وهو المكتوب في اللوح المحفوظ، وتقدير خاص، وهو تفصيل للقدر العام، وهو ثلاثة أنواع : تقدير عمري، وتقدير حولي، وتقدير يومي . هذا معنى قول الشيخ . ( وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة ) أي : تقديرًا عامًا وهو المكتوب في اللوح المحفوظ يعم جميع المخلوقات ( وتفصيلًا ) أي : تقديرًا خاصًا مفصلًا للتقدير العام وهو :
1 ـ التقدير العمري، كما في حديث ابن مسعود في شأن ما يكتب على الجنين في بطن أمه من أربع الكلمات : رزقه وأجله وعمله وشقاوته أو سعادته .
2 ـ تقدير حولي، وهو ما يقدر في ليلة القدر من وقائع العام كما في قوله تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } الآية ( 4 ) من سورة الدخان .
3 ـ تقدير يومي وهو ما يقدر من حوادث اليوم من حياة وموت وعزل وذل إلى غير ذلك . كما في قوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } الآية ( 29 ) من سورة الرحمن . وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ( إن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابته نور وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يحيى ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء . فكذلك قوله سبحانه : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ) رواه عبد الرزاق وابن المنذر والطبراني والحاكم [ رواه الحاكم ( 2/474 ) و ( 519 ) ـ وصححه ! ـ وابن جرير الطبري ( 27/135 ) وأبو الشيخ في ( العظمة ) ( 2/492 ) والبيهقي في ( الأسماء والصفات ) ( 828 ) ] .(21/126)
وقوله : ( فهذا القدر ) أي : الذي سبق بيانه بنوعيه العام والخاص ( قد كان ينكره غلاة القدرية ) أي : المبالغون في نفي القدر فنكرون علم الله بالأشياء قبل وجودها وكتابته لها في اللوح المحفوظ وغيره، ويقولون : إن الله أمر ونهى وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه فالأمر أنف . أي : مستأنف لم يسبق في علم الله وتقديره . وهؤلاء كفرهم الأئمة لكنهم انقرضوا، ولهذا قال الشيخ : ( ومنكروه اليوم قليل ) وبقيت الفرقة التي تقر بالعلم، ولكن تنفي دخول أفعال العباد في القدر وتزعم أنها مخلوقة لهم استقلالًا لم يخلقها الله ولم يردها . كما يأتي بيانه .
الدرجة الثانية وما تتضمنه
وأما الدرجة الثانية : فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن . وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه . لا يكون في ملكه ما لا يريد . وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات . فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره ولا رب سواه .
الشرح :
هذا بيان للمرتبة الثالثة [ اعتبرها المصنف ـ رحمه الله ـ ( الثانية ) لأنه جعل العلم والكتابة درجة واحدة . والمرتبة الرابعة من مراتب القدر ] . أشار إلى الثالثة بقوله : ( فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة ) والنافذة : هي الماضية التي لا راد لها، والشاملة هي العامة لكل شيء من الموجودات والمعدومات .(21/127)
وقوله : ( وهو الإيمان ) أي : ومعنى الإيمان بهذه المرتبة اعتقاد : ( أن ما شاء الله كان ) أي : وجد ( وما لم يشأ لم يكن ) أي : لم يوجد ( وأنه ما في السموات من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله ) أي : لا يحصل شيء من ذلك إلا وقد شاءه الله سبحانه ( لا يكون في ملكه ما لا يريد ) وقوعه كونًا وقدرًا ( وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات ) لدخولها تحت عموم ( كل شيء ) فالله قد أخبر في آيات كثيرة أنه على كل شيء قدير .
وقوله : ( فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه ) هذا فيه إشارة إلى المرتبة الرابعة وهي مرتبة الخلق والإيجاد، فكل ما سوى الله فهو مخلوق وكل الأفعال خيرها وشرها صادرة عن خلقه وإحداثه لها ( لا خالق غيره ولا رب سواه ) .
ولما فرغ الشيخ من ذكر مراتب القدر نبه على مسائل تتعلق بهذا الموضوع .
المسألة الأولى : أنه لا تعارض بين القدر والشرع .
المسألة الثانية : لا تعارض بين تقدير الله وقوع المعاصي وبغضه لها .
المسألة الثالثة : لا تعارض بين تقدير الله لأفعال العباد وكونهم يفعلونها باختيارهم .
1، 2 ـ لا تعارض بين القدر والشرع، ولا بين تقديره للمعاصي
وبضغه لها ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته . وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين . ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين . ولا يرضى عن القوم الفاسقين . ولا يأمر بالفحشاء . ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد .
الشرح :(21/128)
لما قرر الشيخ ـ رحمه الله ـ القدر بمراتبه الأربع : العلم، والكتابه، والمشيئة والإرادة، والخلق والإيجاد . وأنه ما من شيء يحدث إلا وقد علمه الله وكتبه وشاءه وأراده وأوجده، بين هنا أنه لا تعارض بين ذلك وبين كونه أمر العباد بطاعته ونهاهم عن معصيته، ولا بين تقديره وقوع المعصية وبغضه لها . فقوله : ( ومع ذلك ) أي : مع كونه سبحانه هو الذي علم الأشياء وقدرها وكتبها وأرادها وأوجدها ( فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله ونهاهم عن معصيته ) كما دلت على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، أمر فيها بالطاعة ونهى عن المعصية، ولا تعارض في ذلك بين شرعه وقدره كما يظنه بعض الضلال الذين يعارضون بين الشرع والقدر .
يقول الشيخ ـ رحمه الله ـ في هذا الموضوع في رسالته التدميرية : وأهل الضلال انقسموا إلى ثلاث فرق : مجوسية ومشركية وإبليسية . فالمجوسية : الذين كذبوا بقدر الله وإن آمنوا بأمره ونهيه فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب، ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته، وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم .
والفرقة الثانية : المشركية الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } الآية ( 148 ) الأنعام . فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي فهو من هؤلاء .
والفرقة الثالثة : وهم الإبليسية الذين أقروا بالأمرين لكن جعلوا هذا تناقضًا من الرب سبحانه وتعالى وطعنوا في حكمته وعدله . كما يذكر ذلك عن إبليس مقدمهم .
والمقصود أن هذا مما تقوله أهل الضلال . وأما أهل الهدى والفلاح فيؤمنون بهذا وهذا . ويؤمنون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير . وأحاط بكل شيء علمًا . وكل شيء أحصاه في إمام مبين . ا ه ـ .(21/129)
وقوله : ( وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ) أي : يحب من اتصف بالصفات الحميدة كالتقوى والإحسان والقسط ( ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) كما أخبر بذلك في آيات كثيرة لما اتصفوا به من الإيمان والعمل الصالح ( ولا يحب الكافرين . ولا يرضى عن القوم الفاسقين ) أي : لا يرضى عمن اتصف بالصفات التي يبغضها كالكفر والفسوق وسائر الصفات الذميمة ( ولا يأمر بالفحشاء ) وهي ما تناهى قبحه من الأقوال والأفعال ( ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد ) لقبحهما ولما فيهما من المضرة على العباد والبلاد .
ويريد الشيخ ـ رحمه الله ـ بهذا الكلام الرد على من زعم أن الإرادة والمحبة بينهما تلازم، فإذا أراد الله شيئًا فقد أحبه وإذا شاء شيئًا فقد أحبه . وهذا قول باطل والقول الحق أنه لا تلازم بين الإرادة والمحبة أو بين المشيئة والمحبة . أعني الإرادة الكونية والمشيئة، فقد يشاء الله ما لا يحبه . وقد يحب ما لا يشاء وجوده . مثال الأول مشيئة وجود إبليس وجنوده ومشيئته العامة لما في الكون مع بغضه لبعضه . ومثال الثاني محبته لإيمان الكفار وطاعات الكفار ولم يشأ وجود ذلك منهم ولو شاءه لوجد .
3 ـ لا تنافي بين إثبات القدر وإسناد أفعال العباد إليهم حقيقة وأنهم يفعلونها باختيارهم
والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم . كما قال تعالى : { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ( 1 ) الآيتان ( 28، 29 ) من سورة التكوير .(21/130)
وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجوس هذه الأمة . ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها .
الشرح :
أراد الشيخ ـ رحمه الله ـ بهذا الكلام أن يبين أنه لا تنافي بين إثبات القدر بجميع مراتبه السابقة وبين كون العباد يفعلون باختيارهم ويعملون بإرادتهم، وقصده بهذا الرد على من زعم أن إثبات ذلك يلزم منه التناقض، ومن ثم ذهبت طائفة منهم إلى الغلو في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته واختياره . وذهبت الطائفة الثانية إلى الغلو في إثبات أفعال العباد واختيارهم حتى جعلوهم هم الخالقين لها ولا تعلق لها بمشيئة الله ولا تدخل تحت قدرته .
ويقال للطائفة الأولى : الجبرية لأنهم يقولون : إن العبد مجبر على ما يصدر منه لا اختيار له فيه . ويقال للطائفة الثانية : القدرية النفاة لأنهم ينفون القدر .
فقول الشيخ ـ رحمه الله ـ : ( والعباد فاعلون حقيقة ) رد على الطائفة الأولى وهم الجبرية لأنهم يقولون إن العباد ليسوا فاعلين حقيقة وإسناد الأفعال إليهم من باب المجاز . وقوله : ( والله خالقهم وخالق أفعالهم ) رد على الطائفة الثانية القدرية النفاة لأنهم يقولون : إن الله لم يخلق أفعال العباد وإنما هم خلقوها استقلالًا دون مشيئة الله وتقديره لها .
وقوله : ( والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة ) رد على الجبرية، أي : ليس العباد بمجبرين على تلك الأعمال لأنه لو كان كذلك لما صح وصفهم بها، لأن فعل المجبر لا ينسب إليه ولا يوصف به ولا يستحق عليه الثواب أو العقاب .(21/131)
وقوله : ( والله خالقهم وخالق قدرتهم ) رد على القدرية النفاة حيث زعموا أن العباد يخلقون أفعالهم بدون إرادة الله ومشيئته كما سبق . ثم استدل الشيخ في الرد على الطائفتين بقوله تعالى : { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } فقوله تعالى : { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } فيه الرد على الجبرية لأنه أثبت للعباد مشيئة وهم يقولون لا مشيئة لهم . وقوله : { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } فيه الرد على القدرية القائلين بأن مشيئة العبد مستقلة بإيجاد الفعل من غير توقف على مشيئة الله، وهذا باطل لأن الله علق مشيئة العباد على مشيئته سبحانه وربطها بها .
قوله : ( وهذه الدرجة من القدر ) وهي عموم مشيئته وإرادته لكل شيء، وعموم خلقه لكل شيء، وأن العباد فاعلون حقيقة والله خالقهم وخالق أفعالهم ( يكذب بها عامة القدرية ) النفاة حيث يزعمون أن العبد يخلق فعل نفسه بدون مشيئة الله وإرادته ( الذين سماهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجوس هذه الأمة ) [ رواه أبو داود ( 4691 ) واللالكائي ( 2/641 ) وابن أبي عاصم ( 145 ) عن حذيفة . ورواه أحمد ( 2/86 ) عن ابن عمر . وحسنه الحافظ ابن حجر في ( أجوبة المصابيح ) ( رقم 2 ) ] . لمشابهتهم المجوس الذين يثبتون خالقين هما : النور والظلمة، فيقولون : إن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنويه . وكذلك هؤلاء القدرية جعلوا خالقًا مع الله حيث زعموا أن العباد يخلقون أفعالهم بدون إرادة الله ومشيئته، بل يستقلون بخلقها، ولم يثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سماهم مجوس هذه الأمة لتأخر ظهورهم عن وقت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأكثر ما يجيء من ذمهم إنما هو موقوف على الصحابة .(21/132)
وقوله : ( ويغلو فيها ) أي : هذه الدرجة من القدر . والغلو هو الزيادة في الشيء عن الحد المطلوب ( قوم من أهل الإثبات ) : فاعل يغلو، والمراد بهم الجبرية الذين قالوا : إن العبد مجبر على فعله ( حتى سلبوا العبد قدرته واختياره ) .
فالأولون غلوا في إثبات أفعال العباد حتى أخرجوها عن مشيئة الله، وهؤلاء غلوا في نفي أفعال العباد حتى سلبوهم القدرة والاختيار . وقوله : ( ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها ) جمع حكمة ومصلحة، أي : أن الجبرية في مذهبهم هذا حينما نفوا أفعال العباد وسلبوهم القدرة والاختيار نفوا حكمة الله في أمره ونهيه وثوابه وعقابه، فقالوا : إنه يثيب أو يعاقب العباد على ما ليس من فعلهم ويأمرهم بما لا يقدرون عليه، فاتهموا الله بالظلم والعبث، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا .
حقيقة الإيمان وحكم مرتكب الكبيرة
فصل(21/133)
ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح . وأن الإيمان بزيد بالطاعة وينقص بالمعصية . وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي . كما قال سبحانه في آية القصاص : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [ الآية ( 178 ) من سورة البقرة ] . وقال : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } الآيتان ( 9، 10 ) من سورة الحجرات . ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية . ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة . بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } الآية ( 92 ) من سورة النساء . وقد لا دخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ) الآية ( 2 ) من سورة الأنفال . وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ) [ رواه البخاري ( 2475 ) ومسلم ( 57 ) عن أبي هريرة ] . ونقول هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم .
الشرح :(21/134)
قوله : ( ومن أصول أهل السنة والجماعة ) أي : القواعد التي بنيت عليها عقيدتهم ( أن الدين ) هو لغة : الذل والانقياد . وشرعًا : هو ما أمر الله به ( والإيمان ) لغة : التصديق (1) ، وشرعًا : هو ما ذكره الشيخ بقوله : ( قول وعمل : قول القلب واللسان . وعمل القلب واللسان والجوارح ) هذا هو تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة : أنه قول وعمل . فالقول قسمان : قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان هو التكلم بكلمة الإسلام . والعمل قسان : عمل القلب وهو نية وإخلاص . وعمل الجوارح ـ أي : الأعضاء ـ كالصلاة والحج والجهاد .
والفرق بين أقوال القلب وأعماله : أن أقواله هي العقائد التي يعتبر فها ويعتقدها، وأما أعمال القلب فهي حركته التي يحبها الله ورسوله، وهي محبة الخير وإرادته الجازمة وكراهية الشر والعزم على تركه . وأعمال القلب تنشأ عنها أعمال الجوارح وأقوال اللسان . ومن ثم صارت أقوال اللسان وأعمال الجوارح من الإيمان .
أقوال الناس في تعريف الإيمان :
1 ـ عند أهل السنة والجماعة : أنه اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان .
2 ـ عند المرجئة : أنه اعتقاد بالقلب ونطق باللسان فقط .
3 ـ عند الكرامية : أنه نطق باللسان فقط .
4 ـ عند الجبرية : أنه الاعتراف بالقلب أو مجرد المعرفة في القلب .
5 ـ عند المعتزلة : أنه اعتقاد القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح .
والفرق بينهم، أي : المعتزلة وبين أهل السنة أن مرتكب الكبيرة يسلب اسم الإيمان بالكلية ويخلد في النار عندهم، وعند أهل السنة لا يسلب الإيمان بالكلية بل هو مؤمن ناقص الإيمان ولا يخلد في النار إذا دخلها . والحق ما قاله أهل السنة والجماعة لأدلة كثيرة .(21/135)
وقوله : ( وإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ) أي : ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان يتفاضل بالزيادة والنقصان فتزيده الطاعة وينقص بالمعصية . ويدل على ذلك أدلة كثيرة منها قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } الآية ( 2 ) الأنفال، وقوله تعالى : { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } الآية ( 4 ) الفتح وغير ذلك من الأدلة .
وقوله : ( وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاضي والكبائر كما يفعله الخوارج ) أي : وأهل السنة والجماعة مع أنهم يرون أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، هم مع ذلك لا يحكمون بالكفر على من يدعي الإسلام ويستقبل الكعبة بمطلق ارتكابه المعاصي التي هي دون الشرك والكفر ( كما يفعله الخوارج ) حيث قالوا : من فعل كبيرة فهو في الدنيا كافر وفي الآخرة مخلد في النار لا يخرج منها .
فأهل السنة يرون ( أن الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي ) فالعاصي أخ لنا في الإيمان، واستدل الشيخ على ذلك بقوله تعالى في آية القصاص : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } المعنى : أن الجاني إذا عفا عنه المجني عليه أو وليه عن القصاص ورضي بأخذ المال في الدية فعلى مستحق المال أن يطلبه بالمعروف من غير عنف، وعلى من عليه المال أن يؤديه إليه من غير مماطله . ووجه الاستدلال من الآية : أنه سمى القاتل أخًا للمقتول مع أن القتل كبيرة من كبائر الذنوب ومع هذا لم تزل معه الأخوة الإيمانية .(21/136)
واستدل الشيخ أيضًا بقوله تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } الآيتين، ووجه الاستدلال من الآيتين الكريمتين أنه سماهم مؤمنين مع وجود الاقتتال والبغي بينهم، وسماهم إخوة للمؤمنين بقوله : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } .
ومعنى الآية إجمالًا : أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين فعلى المسلمين أن يسعوا في الصلح بينهم ويدعوهم إلى حكم الله، فإن حصل بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى ولم تقبل الصلح، كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه، فإن رجعت تلك الطائفة عن بغيها وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحرروا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم وتؤدي ما يجب عليها للأخرى .
ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المقتتلتين، فقال : { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : اعدلوا إن الله يحب العادلين . وقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } : جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإصلاح . والمعنى : إنهم يرجعون إلى أمر واحد هو الإيمان فهم إخوة في الدين { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } يعني : كل مسلمين تخاصمًا وتقاتلًا، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوقهما بطريق الأولى . ( واتقوا الله ) في كل أموركم ( لعلكم ترحمون ) بسبب التقوى .(21/137)
وقوله : ( ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة ) أي : ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم ( لا يسلبون ) أي : لا ينفون عن ( الفاسق ) الفسق : هو الخروج عن طاعة الله، والمراد بالفاسق هنا : الذي يرتكب بعض الكبائر كشرب الخمر والزنا والسرقة مع اعتقاد حرمة ذلك . ( الملي ) أي : الذي على ملة الإسلام، ولم يرتكب من الذنوب ما يوجب كفره . فأهل السنة والجماعة لا يسلبونه الإسلام بالكلية فيحكمون عليه بالكفر كما تقوله الخوارج في الدنيا ( ولا يخلدونه في النار ) أي : يحكمون عليه بالكفر كما تقوله الخوارج في الدنيا ( ولا يخلدونه في النار ) أي : يحكمون عليه بإلخلود في النار في الآخرة وعدم خروجه منها إذا دخلها ( كما تقوله المعتزلة ) والخوارج، فالمعتزلة يرون أن الفاسق لا يسمى مسلمًا ولا كافرًا، بل هو عندهم بالمنزلة بين المنزلتين، هذا حكمه عندهم في الدنيا . وأما حكمه عندهم في الآخرة فهو مخلد في النار . والأدلة على بطلان هذا المذهب كثيرة، وقد مر بعضها، وسيأتي ذكر بقيتها .
ثم بين الشيخ ـ رحمه الله ـ الحكم الصحيح الذي ينطبق على الفاسق الملي مؤيدًا بأدلته من الكتاب والسنة فقال : ( بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق ) أي : مطلق الإيمان الذي يدخل فيه الإيمان الكامل والإيمان الناقص كما في قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } فإن من أعتق رقبة مؤمنة وإن كان المعتق فاسقًا فيما يشترط فيه إيمان الرقبة المعتقة، ككفارة الظهار والقتل، أجزأه ذلك العتق باتفاق العلماء لأن ذلك يدخل في عموم الآية وإن لم يكن المعتق من أهل الإيمان الكامل .(21/138)
وقوله : ( وقد لا يدخل ) أي : الفاسق الملي ( في اسم الإيمان المطلق ) أي : إذا أريد بالإيمان الكامل كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية لأن المراد بالإيمان المذكور في الآية الكريمة الإيمان الكامل، فلا يدخل فيه الفاسق لأن إيمانه ناقص . ولنرجع إلى تفسير الآية الكريمة : { إِنَّمَا } : أداة حصر تثبت الحكم للمذكور وتنفيه عما سواه { الْمُؤْمِنُونَ } أي : الإيمان الكامل { إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ } أي : ذكرت عظمته وقدرته وما خوف به من عصاه { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : خافت . { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ } أي : قرئت آياته المنزلة أو ذكرت آياته الكونية { زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } أي : زاد إيمانهم بسبب ذلك { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : يفوضون جميع أمورهم إليه لا إلى غيره .
ثم ذكر الشيخ دليلًا من السنة على أن الفاسق الملي لا يدخل في اسم الإيمان الكامل وهو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن . . إلخ ) أي : كامل الإيمان فالمنفي هنا عن الزاني والسارق والشارب هو كمال الإيمان لا جميع الإيمان، بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر . فقد دل الحديث على أن هؤلاء حين فعلهم المعصية قد انتفى الإيمان الكامل عنهم، وقد دلت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة على أنهم غير مرتدين بذلك، فعلم أن الإيمان المنفي في هذا الحديث إنما هو كمال الإيمان الواجب .
وقوله : ( ولا ينتهب نهبة ذات شرف . . إلخ ) النهبة بضم النون : هي الشيء المنهوب، والنهب : أخذ المال بالغلبة والقهر ( ذات شرف ) أي : قدر . وقيل : ذات استشراف يستشرف الناس إليها ناظرين إليها رافعين أبصارهم .(21/139)
ثم إن الشيخ ـ رحمه الله ـ ذكر النتيجة للبحث السابق واستخلص الحكم بقوله في حق الفاسق الملي : ( ونقول : هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ) وهذا هو الحكم العادل جمعًا بين النصوص التي نفت الإيمان عنه كحديث : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) والنصوص التي أثبتت الإيمان له، كآية القصاص وآية حكم البغاة السابقتين وبناء على ذلك ( فلا يعطى الاسم المطلق ) أي : اسم الإيمان الكامل ( ولا يسلب مطلق الاسم ) أي : الإيمان الناقص . فيحكم عليه بالخروج من الإيمان كما تقوله المعتزلة والخوارج . والله أعلم فالإيمان المطلق هو الإيمان الكامل . ومطلق الإيمان هو الإيمان الناقص .
الواجب نحو أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكر فضائلهم
ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما وصفهم الله به في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } الآية ( 10 ) من سورة الحشر . وطاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله : ( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) [ رواه البخاري ( 3673 ) ومسلم ( 2541 ) عن أبي سعيد إلخدري وأبي هريرة ] .
الشرح :(21/140)
أي من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة ( سلامة قلوبهم ) من الغل والحقد والبغض وسلامة ( ألسنتهم ) من الطعن واللعن والسب ( لأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) لفضلهم وسبقهم واختصاصهم بصحبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولما لهم من الفضل على جميع الأمة لأنهم الذين تحملوا الشريعة عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبلغوها لمن بعدهم ولجهادهم مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومناصرتهم له .
وغرض الشيخ من عقد هذا الفصل الرد على الرافضة والخوارج الذين يسبون الصحابة ويبغضونهم ويجحدون فضائلهم . وبيان براءة أهل السنة والجماعة من هذا المذهب إلخبيث . وأنهم مع صحابة نبيهم كما وصفهم الله في قوله : { وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ } أي : بعد المهاجرين والأنصار وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة من عموم المسلمين { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } المراد بالأخوة هنا أخوة الدين . فهم يستغفرون لأنفسهم ولمن تقدمهم من المهاجرين والأنصار { وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا } أي : غشًا وبغضًا وحسدًا { لِّلَّذِينَ آمَنُوا } أي : لأهل الإيمان، ويدخل في ذلك الصحابة دخولًا أوليًا لكونهم أشرف المؤمنين ولكون السياق فيهم .(21/141)
قال الإمام الشوكاني : فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمر الله به في هذه الآية . فإن وجد في قلبه غلًا لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانفتح له باب من إلخذلان ما يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجوء إلى الله سبحانه والاستغاثة به بأن ينزغ عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة . فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسخطه . وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان وزين لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة وإلخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . ا . ه ـ .
والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها فضل الصحابة لسبقهم بالإيمان، وفضل أهل السنة الذين يتولونهم وذم الذين يعادونهم . وفيها مشروعية الاستغفار للصحابة والترضي عنهم . وفيها سلامة قلوب أهل السنة وألسنتهم لأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففي قولهم : { ربنا اغفر لنا } إلخ سلامة الألسنة . وفي قولهم : { وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا } سلامة القلوب .(21/142)
وفي الآية تحريم سبهم وبغضهم وأنه ليس من فعل المسلمين . وأن من فعل ذلك لا يستحق من الفيء شيئًا . وقوله : ( وطاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله ) أي : أن أهل السنة يطيعون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحابه، والكف عن سبهم وتنقصهم حيث نهاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك بقوله : ( لا تسبوا أصحابي ) أي : لا تنتقصوا ولا تشتموا ( أصحابي ) أي : لا تنتقصوا ولا تشتموا ( أصحابي ) : جمع صاحب . ويقال لمن صاحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : صحابي . وهو من لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمنًا به ومات على ذلك .
( فوالذي نفسي بيده ) هذا قسم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد به تأكيد ما بعده : ( لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ) جواب الشرط، وأحد جبل معروف في المدينة سمي بذلك لتوحده عن الجبال، وذهبًا : منصوب على التمييز ( ما بلغ مد أحدهم ) المد مكيال وهو ربع الصاع النبوي ( ولا نصيفه ) لغة في النصف كما يقال : ثمين بمعنى الثمن .
والمعنى أن الإنفاق الكثير في سبيل الله من غير الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لا يعادل الإنفاق القليل من الصحابة، وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقلة أهله وكثرة الصوارف عنه وضعف الدواعي إلي لا يمكن أن يحصل لأحد مثله ممن بعدهم .
والشاهد من الحديث : أن فيه تحريم سب الصحابة . وبيان فضلهم على غيرهم . وأن العمل يتفاضل بحسب نية صاحبه وبحسب الوقت الذي أدي فيه . والله أعلم . وفي الحديث أن من أحب الصحابة وأثنى عليهم فقد أطاع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن سبهم وأبغضهم فقد عصى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
فضل الصحابة وموقف أهل السنة والجماعة منه وبيان تفاضلهم(21/143)
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم . ويفضلون من أنفق من قبل الفتح ـ وهو صلح الحديبية ـ وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل . ويفضلون المهاجرين على الأنصار . ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) [ رواه البخاري ( 3007 ) ومسلم ( 2494 ) عن أنس ] . وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (2) وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة (3) ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة (4) ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي ـ رضي الله عنهم ـ (5) كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي ـ رضي الله عنهما ـ بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا، وربعوا بعلي، وقدم قوم عليًا وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي .
الشرح :
بين الشيخ ـ رحمه الله ـ في هذا المقطع من كلامه تفاضل الصحابة بعد أن بين فيما سبق فضلهم عمومًا وموقف أهل السنة والجماعة من ذلك . فقوله : ( ويقبلون ) أي : أهل السنة والجماعة ( ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع ) أي : إجماع المسلمين ( من فضائلهم ومراتبهم ) وكفى بهذه المصادر الثلاثة شاهدًا على فضلهم .(21/144)
ثم إنهم ليسوا على درجة واحدة في الفضل بل بحسب سبقهم إلى الإسلام والجهاد والهجرة، وبحسب ما قاموا به من أعمال تجاه نبيهم ودينهم ورضي الله عنهم ولذلك قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : ( ويفضلون من أنفق من قبل الفتح وهو صلح الحديبية ) لأن الله سماه فتحًا بقوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا } الآية ( 1 ) الفتح، وذلك هو المشهور أن المراد بالفتح صلح الحديبية لأن سورة الفتح نزلت عقيبه .
والحديبية : بئر قرب مكة وقعت عنده البيعة تحت شجرة كانت هناك حينما صد المشركون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه عن دخول مكة فبايعوه على الموت . وسميت هذه البيعة فتحًا لما حصل بسببها من الخير والنصر للمسلمين . والدليل على تفضيل هؤلاء قوله تعالى : { لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا } الآية ( 10 ) الحديد . وهؤلاء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار قال الله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } الآية ( 100 ) من سورة التوبة .
قال : ( ويقدمون المهاجرين على الأنصار ) المهاجرون جمع مهاجر والمراد بهم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، والهجرة لغة : الترك، وشرعًا : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام . والأنصار : أي الذين ناصروا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم الأوس وإلخزرج سماهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا الاسم .(21/145)
والدليل على تفضيل المهاجرين على الأنصار أن الله قدمهم في الذكر كما قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } وقال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } وقال تعالى : { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } الآية ( 117 ) التوبة . وقال تعالى : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } الآية . الآيتان ( 8 ـ 9 ) الحشر . فدلت هذه الآيات الكريمة على فضل المهاجرين والأنصار وعلى تقديم المهاجرين على الأنصار في الفضل لتقديمهم في الذكر ولما قاموا به من ترك بلادهم وأموالهم وأولادهم طلبًا للأجر ونصرة لله ولرسوله وصدقهم في ذلك ـ رضي الله عنهم ـ .
قال : ( ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) كما جاء في الصحيحين في قصة حاطب بن أبي بلتعة . وبدر : قرية مشهورة على نحو أربع مراحل من المدينة حصلت عندها الوقعة التي أعز الله بها الإسلام وسمي يوم بدر يوم الفرقان .(21/146)
وقوله : ( وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ) هكذا ورد عددهم في صحيح البخاري . وقوله : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) قال ابن القيم في الفوائد : أشكل على كثير من الناس معناه، ثم ذكر الأقوال في ذلك . ثم قال : فالذي نظن في ذلك ـ والله أعلم ـ أن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم بل يموتون على الإسلام وأنهم قد يقارفون ما يقارفه غيرهم من الذنوب ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها بل يوقفهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك . ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم لأنه قد تحقق ذلك فيهم وأنهم مغفور لهم، ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم، كما لا يقتضي أن يعطلوا الفرائض وثوقًا بالمغفرة . فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا حج ولا زكاة ولا جهاد وهذا محال . انتهى .
قال : ( وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . بل لقد ـ رضي الله عنهم ـ ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ) هذا الكلام في شأن أهل بيعة الرضوان، وهي البيعة التي حصلت في الحديبية حين صد المشركون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن دخول مكة كما سبق بيانه قريبًا . وقد ذكر لهم الشيخ مزيتين :
الأولى : أنه لا يدخل النار أحد منهم . ودليل ذلك ما في صحيح مسلم من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ) .
الثانية : أن الله قد رضي عنهم . وهذا صريح القرآن كما في قوله تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } الآية ( 18 ) الفتح . وقوله : ( وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ) هذا بناء على الصحيح في عددهم . والله أعلم .(21/147)
وقوله : ( ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة ) أي : يشهد أهل السنة والجماعة بالجنة لمن شهد له الرسول بذلك، أما من لم يشهد له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجنة فلا يشهدون له لأن في هذا تقولًا على الله . لكن يرجون للمحسنين ويخافون على المسيئين . وهذا أصل من أصول العقيدة .
وقوله : ( كالعشرة ) هم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة بن الجراح وطلحة بن عبيد الله ـ رضي الله عنهم ـ . وقد صحت الأحاديث بالشهادة لهؤلاء بالجنة وقوله : ( وثابت بن قيس بن شماس ) هو خطيب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبشارته بالجنة ثابتة في صحيح البخاري (6) عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقوله : ( وغيرهم من الصحابة ) أي : غير من ذكر ممن أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهم في الجنة كعكاشة بن محصن وعبد الله بن سلام وغيرهما .
قوله : ( ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وغيره ) أي : يعترف أهل السنة والجماعة ويعتقدون ( ما تواتر به النقل ) أي : ما ثبت بطريق التواتر، ( والتواتر هو أقوى الأسانيد ) ، ( عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وغيره ) من الصحابة ( أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلثون بعثمان ) أي : يجعلونه الثالث في الترتيب ( ويربعون بعلي ) أي : يجعلونه الرابع ( ـ رضي الله عنهم ـ ) وفي هذه الرواية المتواترة عن علي رد على الرافضة الذين يفضلون عليًا على أبي بكر وعمر ويقدمونه عليهما في الخلافة، فيطعنون في خلافة الشيخين . وهذا البحث يتضمن مسألتين :(21/148)
الأولى : مسألة الخلافة، الثانية : مسألة التفضيل . فأما مسألة الخلافة : فقد أجمع أهل السنة والجماعة بما فيهم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على أن إلخليفة بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي . وأما مسألة التفضيل : فقد أجمعوا على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، كما تواتر به النقل عن علي .
واختلفوا في عثمان وعلي ـ رضي الله عنهما ـ أيهما أفضل . وقد ذكر الشيخ هنا في المسألة ثلاثة أقوال حيث يقول : ( فقدم قوم عثمان وسكتوا، وربعوا بعلي . وقدم قوم عليًا وقوم توقفوا ) هذا حاصل الخلاف في المسألة : تقديم عثمان . تقديم علي، التوقف عن تقديم أحدهما على الآخر . وأشار الشيخ إلى ترجيح الرأي الأول وهو تقديم عثمان لأمور : الأمر الأول : أن هذا هو الذي دلت عليه الآثار الواردة في مناقب عثمان ـ رضي الله عنه ـ الثاني : إجماع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة وما ذاك إلا أنه أفضل فترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة .
الثالث : أنه استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي، كما سبق أنهم قدموه في البيعة . قال عبد الرحمن بن عوف لعلي ـ رضي الله عنه ـ : إني نظرت أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان . قال أبو أيوب : من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار . فهذا دليل على أن عثمان أفضل لأنهم قدموه باختيارهم بعد تشاورهم وكان علي ـ رضي الله عنهم ـ من جملة من بايعه وكان يقيم الحدود بين يديه .
حكم تقديم علي ـ رضي الله عنه ـ على غيره من الخلفاء الأربعة في الخلافة
وإن كانت هذه المسألة ـ مسألة عثمان وعلي ـ ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة . وذلك لأنهم يؤمنون أن إلخليفة بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي . ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله .
الشرح :(21/149)
أبدى الشيخ ـ رحمه الله ـ موازنة بين المسألتين : مسألة تقديم علي على عثمان في الفضل، ومسألة تقديم علي على غيره في الخلافة من حيث ما يترتب على ذلك التقديم من خطورة . فبين أن مسألة تفضيل علي على عثمان لا يضلل، أي لا يحكم بضلال من قال بها، نظرًا لوجود الخلاف فيها بين أهل السنة . وإن كان الراجح تفضيل عثمان ـ رضي الله عنه ـ . ( لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة ) أي : يحكم بضلال من خالف فيها فرأى تقديم علي في الخلافة على عثمان أو غيره من الخلفاء الذين سبقوه . أو قدم عليًا على أبي بكر وعمر في الفضيلة .
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن إلخليفة بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لفضله وسابقته، وتقديم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له على جميع الصحابة وإجماع الصحابة على بيعته . ثم إلخليفة من بعد أبي بكر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لفضله وسابقته وعهد أبي بكر إليه واتفاق الأمة عليه بعد أبي بكر . ثم إلخليفة بعد عمر عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ لتقديم أهل الشورى له واتفاق الأمة عليه . ثم بعد عثمان إلخليفة علي ـ رضي الله عنه ـ لفضله وإجماع أهل عصره عليه . فهؤلاء هم الخلفاء الأربعة المشار إليهم في حديث العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) .
ولهذا قال الشيخ : ( ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء ) يعني : الأربعة المذكورين ( فهو أضل من حمار أهله ) لمخالفته النص والإجماع من غير حجة ولا برهان، وذلك كالرافضة الذين يزعمون أن الخلافة بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي بن أبي طالب . والحاصل في مسألة تقديم علي ـ رضي الله عنه ـ على غيره من الخلفاء الثلاثة :
1 ـ من قدمه في الخلافة فهو ضال بالاتفاق .(21/150)
2 ـ من قدمه في الفضيلة على أبي بكر وعمر فهو ضال أيضًا . ومن قدمه على عثمان في الفضيلة فلا يضلل وإن كان هذا خلاف الراجح .
مكانة أهل بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند أهل السنة والجماعة
ويحبون أهل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال يوم غدير خم : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) [ رواه مسلم ( 2408 ) عن زيد بن أرقم ] . وقال أيضًا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم : فاقل : ( والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) [ رواه طرد الزيني في ( أماليه ) ( ق 88/ب ) عن العباس، بسند صحيح ] . وقال : ( إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ) [ رواه مسلم ( 2276 ) عن وائلة بن الأسقع ] .
الشرح :
بين الشيخ ـ رحمه الله ـ في هذا مكانة أهل البيت عند أهل السنة والجماعة وأنهم ( يحبون أهل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) وأهل البيت هم آل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين حرمت عليهم الصدقة، وهم : آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس وبنو الحارث بن عبد المطلب، وأزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبناته من أهل بيته، كما قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } الآية ( 33 ) الأحزاب .(21/151)
فأهل السنة يحبونهم ويحترمونهم ويكرمونهم لأن ذلك من احترام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإكرامه، ولأن الله ورسوله قد أمرا بذلك قال تعالى : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } الآية ( 23 ) الشورى وجاءت نصوص من السنة بذلك منها ما ذكره الشيخ، وذلك إذا كانوا متبعين للسنة مستقيمين على الملة كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وبنيه، أما من خالف السنة ولم يستقم على الدين، فإنه لا تجوز محبته ولو كان من أهل البيت .
وقوله : ( ويتولونهم ) أي : يحبونهم من الولاية بفتح الواو، وهي المحبة . وقوله : ( ويحفظون فيهم وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) أي : يعملون بها ويطبقونها ( حيث قال يوم غدير خم ) الغدير هنا : هو مجمع السيل، ( وخم ) قيل : اسم رجل نسب الغدير إليه . وقيل : هو الغيضة أي : الشجر الملتف، نسب هذا الغدير إليها لأنه واقع فيها . وهذا الغدير كان في طريق المدينة مر به ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عودته من حجة الوداع وخطب فيه فكان من خطبته ما ذكره الشيخ : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) أي : أذكركم ما أمر الله به في حق أهل بيتي من احترامهم وإكرامهم والقيام بحقهم .
وقال أيضًا : ( للعباس عمه ) هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ( وقد اشتكى إليه ) أي : أخبره بما يكره ( أن بعض قريش يجفو ) الجفاء ترك البر والصلة ( فقال ) أي : النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( والذي نفسي بيده ) هذا قسم منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( لا يؤمنون ) أي : الإيمان الكامل الواجب ( حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) أي لأمرين : الأول : التقرب إلى الله بذلك لأنهم من أوليائه .(21/152)
الثاني : لكونهم قرابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي ذلك إرضاء له وإكرام له . ( وقال ) النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبينًا فضل بني هاشم الذين هم قرابته : ( إن الله اصطفى ) أي : اختار . والصفوة : إلخيار ( بني إسماعيل ) بن إبراهيم إلخليل عليهما السلام ( واصطفى من بني إسماعيل كنانة ) اسم قبيلة أبوهم كنانة بن خزيمة ( واصطفى من كنانة قريشًا ) وهم أولاد مضر بن كنانة ( واصطفى من قريش بني هاشم ) وهم بنو هاشم بن عبد مناف ( واصطفاني من بني هاشم ) فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
والشاهد من الحديث : أن فيه دليلًا على فضل العرب، وأن قريشًا أفضل العرب وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل بني هاشم فهو أفضل الخلق نفسًا وأفضلهم نسبًا . وفيه فضل بني هاشم الذين هم قرابة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
مكانة أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند أهل السنة والجماعة
ويتولون أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمهات المؤمنين . ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة خصوصًا خديجة ـ رضي الله عنها ـ أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره وكان لها منه المنزلة العالية . والصديقة بنت الصديق ـ رضي الله عنها ـ التي قال فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) [ رواه البخاري ( 3770 ) ومسلم ( 2446 ) عن أنس ] .
الشرح :(21/153)
ذكر الشيخ ـ رحمه الله ـ تعالى في هذه الجملة عقيدة أهل السنة والجماعة في أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ( ويتولون أزواج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) أي : يحبونهم ويوقرونهم لأنهن ( أمهات المؤمنين ) في الاحترام والتوقير وتحريم نكاحهن على الأمة . أما بقية الأحكام فحكمهن حكم الأجنبيات من حيث تحريم إلخلوة بهن والنظر إليهن . قال تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } الآية ( 6 ) الأحزاب . وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أبدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا } الآية ( 53 ) الأحزاب، وقال تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ } الآية ( 53 ) الأحزاب، فهن أمهات المؤمنين في الاحترام والتحريم لا في المحرمية .
وقد توفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تسع وهن : ( عائشة وحفصة وزينب بنت جحش وأم سلمة وصفية وميمونة وأم حبيبة وسودة وجويرية ) وأما خديجة فقد تزوجها قبل النبوة ولم يتزوج عليها حتى ماتت . وتزوج ـ صلى الله عليه وسلم ـ زينب بنت خزيمة الهلالية ولم تلبث إلا يسيرًا ثم توفيت . هؤلاء جملة من دخل بهن من النساء، وهن إحدى عشرة ـ رضي الله عنهن ـ . ( ويؤمنون ) أي : أهل السنة والجماعة ( بأنهن أزواجه في الآخرة ) وفي هذا شرف لهن وفضيلة جليلة ( خصوصًا خديجة ـ رضي الله عنها ـ ) فلها من المزايا والفضائل الشيء الكثير وقد ذكر الشيخ منها :
1 ـ أنها أم أكثر أولاده، فكل أولاده منها ما عدا إبراهيم فمن مارية القبطية .
2 ـ أنها أول من آمن به، مطلقًا على قول، وهو الذي ذكر الشيخ هنا، أو هي أول من آمن به من النساء على القول الآخر .
3 ـ هي أول من عاضده وأعانه في أول أمره وكانت نصرتها له في أعظم أوقات الحاجة .(21/154)
4 ـ أنها كان لها منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ المنزلة العالية فكان يحبها ويذكرها كثيرًا ويثني عليها .
( والصديقة بنت الصديق ـ رضي الله عنهما ـ ) يعني : عائشة بنت أبي بكر، والصديق : هو المبالغ في الصدق، وقد لقب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكر بذلك . ولعائشة ـ رضي الله عنها ـ فضائل كثيرة منها : أنها أحب أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه . وأنه لم يتزوج بكرًا غيرها . وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينزل عليه الوحي في لحافها . وأن الله برأها مما رماها به أهل الإفك، وأنها أفقه نسائه وكان أكابر الصحابة إذا أشكل عليهم الأمر استفتوها . وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ توفى في بيتها، بين سحرها ونحرها ودفن في بيتها إلى غير ذلك من فضائلها .
وقد ذكر الشيخ من فضائلها هنا : ( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال فيها : فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) والثريد : هو أفضل الأطعمة لأنه : ( خبز ولحم ) وإلخبز من البر وهو أفضل الأقوات، واللحم أفضل الإدام، فإذا كان اللحم سيد الإدام والبر سيد القوت ومجموعها الثريد كان الثريد أفضل الطعام .
تبرؤ أهل السنة والجماعة مما يقوله المبتدعة في حق الصحابة وأهل البيت(21/155)
ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل . ويمسكون عما شجر بين الصحابة . ويقولون : إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيره عن وجهه . والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون . وهم مع ذلك يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره . بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة . ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر . حتى أنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم . لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم . وقد ثبت بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهم خير القرون . وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبًا ممن بعدهم . ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه . أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هم أحق الناس بشفاعته . أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه . فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور ؟ ثم القدر الذي ينكر من فعلهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح . ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله .
الشرح :
بين الشيخ ـ رحمه الله ـ في هذا :(21/156)
أولًا : موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة وأهل البيت وأنه موقف الاعتدال والوسط بين الإفراط والتفريط والغلو والجفاء، يتولون جميع المؤمنين لا سيما السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ويتولون أهل البيت . يعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم .
( ويتبرؤون من طريقة الروافض ) الذين يسبون الصحابة ويطعنون فيهم . ويغلون في حق علي بن أبي طالب وأهل البيت . ( ومن طريقة النواصب ) الذين ينصبون العدواة لأهل البيت ويكفرونهم ويطعنون فيهم، وقد سبق بيان مذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة وأهل البيت، ولكن الغرض من ذكره هنا مقارنته بالمذاهب المنحرفة المخالفة له .
ثانيًا : بين الشيخ ـ رحمه الله ـ موقف أهل السنة والجماعة من الاختلاف الذي وقع بين الصحابة في وقت الفتنة والحروب التي حصلت بينهم . وموقفهم مما ينسب إلى الصحابة من مساوئ ومثالب اتخذها أعداء الله سببًا للوقيعة فيهم والنيل منهم، كما حصل من بعض المتأخرين والكتاب العصريين الذين جعلوا أنفسهم حكمًا بين أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصوبوا وخطؤوا بلا دليل، بل باتباع الهوى وتقليد المغرضين الذين يحاولون الدس على المسلمين بتشكيكهم بتاريخهم المجيد وسلفهم الصالح الذين هم خير القرون، لينفذوا من ذلك إلى الطعن في الإسلام وتفريق كلمة المسلمين .
وما أحسن ما ذكره الشيخ هنا من تجلية الحق وإيضًاح الحقيقة فقد ذكر أن موقف أهل السنة مما نسب إلى الصحابة وما شجر بينهم، أي : تنازعوا فيه . يتلخص في أمرين :
الأمر الأول : أنهم ( يمسكون عما شجر بين الصحابة ) أي : يكفون عن البحث فيه ولا يخوضون فيها لما في إلخوض في ذلك من توليد الإحن والحقد على أصحاب ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك من أعظم الذنوب، فطريق السلامة هو السكوت عن ذلك وعدم التحدث به .(21/157)
الأمر الثاني : الاعتذار عن الآثار المروية في مساويهم لأن في ذلك دفاعًا عنهم وردًا لكيد أعدائهم، وقد ذكر أن جملة الاعتذارات تتلخص فيما يلي :
1 ـ ( هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ) قد افتراه أعداؤهم ليشوهوا سمعتهم كما تفعله الرافضة قبحهم الله . والكذب لا يلتفت إليه .
2 ـ هذه المساوئ المروية ( منها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه الصحيح ) ودخله الكذب فهو محرف لا يعتمد عليه . لأن فضل الصحابة معلوم وعدالتهم متيقنة، فلا يترك المعلوم المتيقن لأمر محرف مشكوك فيه .
3 ـ ( والصحيح منه ) أي : من هذه الآثار المروية ( هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون ) فهو من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد . لما في الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران . وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ) [ رواه البخاري ( 7352 ) ومسلم ( 1716 ) عن عمرو بن العاص ] .
4 ـ أنهم بشر يجوز على أفرادهم ما يجوز على البشر من الخطأ فأهل السنة : ( لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ) لكن ما يقع منهم من ذلك فله مكفرات عديدة منها :
أ ـ أن ( لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر ) فما يقع من أحدهم يغتفر بجانب ماله من الحسنات العظيمة، كما في قصة حاطب لما وقع منه ما وقع في غزوة الفتح غفر له بشهوده وقعة بدر ( حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم ) وقد قال الله تعالى : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [ الآية ( 114 ) من سورة هود ] .(21/158)
ب ـ أنهم تضاعف لهم الحسنات أكثر من غيرهم ولا يساويهم أحد في الفضل، ( وقد ثبت بقول رسول الله أنهم خير القرون [ رواه البخاري ( 3651 ) ومسلم ( 2513 ) عن ابن مسعود ] . وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبًا ممن بعدهم [ تقدم تخريجه ] . أخرجه الشيخان وغيرهما أحاديث عن أبي هريرة وابن مسعود وعمران بن حصين : ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ) الحديث . والقرون : جمع قرن . والقرن : أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، ويطلق القرن على المدة من الزمان .
ج ـ كثرة مكفرات الذنوب لديهم فإنهم يتوفر لهم من المكفرات ما لم يتوفر لغيرهم ( فإذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته ) أي : الأعمال الصالحة التي أسبقها قبله ( أو بشفاعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه ) أي : امتحن وأصيب بمصيبة محي عنه ذلك الذنب بسببها . كما في الصحيح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( ما يصيب المؤمن من وصف ولا نصب ولا غم ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) متفق عليه [ رواه البخاري ( 5641 ) ومسلم ( 2573 ) عن أبي هريرة وأبي سعيد . والصحابة أولى الناس بذلك ] .
قال : ( فإذا كان هذا في الذنوب المحققة ) أي : الواقعة منهم فعلًا وأن لديهم رصيدًا من الأعمال الصالحة التي تكفرها ( فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين ) الاجتهاد : هو بذل الطاقة في معرفة الحكم الشرعي ( إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور، كما سبق بيان دليل ذلك قريبًا، وإذًا فما يصدر من الصحابي من خطأ على قلته هو بين أمرين : الأول : أن يكون صدر عن اجتهاد، وعنده من الأعمال والفضائل والسوابق الخيرة ما يكفره ويمحوه .(21/159)
وقوله : ( ثم القدر الذي نكر من فعل بعضهم ) إلخ، هو كالتلخيص لما سبق وبيان فضائل الصحابة إجمالًا وهي :
1 ـ الإيمان بالله ورسوله وهو أفضل الأعمال .
2 ـ الجهاد في سبيل الله وهي من أفضل الأعمال .
3 ـ الهجرة في سبيل الله وهي من أفضل الأعمال .
4 ـ النصرة لدين الله، قال تعالى فيهم : { وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الآية ( 80 ) من سورة الحشر ] .
5 ـ العلم النافع والعمل الصالح .
6 ـ أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، فأمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير الأمم كما قال تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ الآية ( 110 ) من سورة آل عمران ] . وخير هذه الأمة صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ) الحديث .
7 ـ أنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله سبحانه ) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه [ رواه الترمذي ( 4087 ) وابن ماجه ( 4287 ) والحاكم ( 4/84 ) وأحمد ( 2/391 ) والطبراني ( 1012 ) وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم ] .
مذهب أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء
ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات . والمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة .
الشرح :(21/160)
قوله : ( ومن أصول أهل السنة ) أي : من أصول عقيدتهم ( التصديق بكرامات الأولياء ) الكرامات : جمع كرامة وهي ( ما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات ) فالكرامة : أمر خارق للعادة . أي : لمألوف الآدميين . والأولياء جمع ولي، وهو المؤمن المتقي كما قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ الآيتان ( 62، 63 ) من سورة يونس ] . سمي وليًا اشتقاقًا من الولاء وهو المحبة والقرب، فولي الله : من والى الله بموافقته في محبوباته والتقرب إليه بمرضاته .
وكرامات الأولياء حق، وقد دل عليها الكتاب والسنة والآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين . والناس في كرامات الأولياء على ثلاثة أصناف :
الصنف الأول : من ينفيها من المبتدعة كالمعتزلة والجهمية وبعض الأشاعرة، وشبهتهم : أن الخوارق لو جاز ظهورها على أيدي الأولياء لالتبس النبي بغيره، إذ الفرق بين النبي وغيره هو المعجزة التي هي خرق العادة .
الصنف الثاني : من يغلو في إثبات الكرامة من أصحاب الطرق الصوفية والقبوريين الذين يدجلون على الناس ويأتون بخوارق شيطانية، كدخول النار وضرب أنفسهم بالسلاح وإمساك الثعابين، وغير ذلك مما يدعونه لأصحاب القبور من التصرفات التي يسمونه كرامات .(21/161)
الصنف الثالث : الذين ذكرهم الشيخ هنا وهم أهل السنة والجماعة فيؤمنون بكرامات الأولياء ويثبتونها على مقتضى ما جاء في الكتاب والسنة . ويردون على من نفاها بحجة منع الاشتباه بين النبي وغيره : بأن هناك فوارق عظيمة بين الأنبياء وغيرهم غير خوارق العادات . وأن الولي لا يدعي النبوة ولو ادعاها لخرج عن الولاية وصار مدعيا كذابًا لا وليًا، ومن سنة الله أن يفضح الكاذب، كما حصل لمسيلمة الكذاب وغيره . ويردون على من غلا في إثباتها فادعاها للمشعوذين والدجالين، بأن هؤلاء ليسوا أولياء الله، وإنما هم أولياء للشيطان وما يجري عليهم إما كذب وتدجيل، أو فتنة لهم ولغيرهم واستدراج، والله أعلم . ولشيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الموضوع كتاب جليل اسمه : ( الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) .
وفي قوله : ( في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات ) إشارة إلى أن الكرامة منها ما يكون من باب العلم والكشف بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره أو يرى ما لا يراه غيره يقظة أو منامًا . أو يعلم ما لا يعلمه غيره . ومنها ما هو من باب القدرة والتأثير .
مثال النوع الأول : قول عمر : يا سارية الجبل وهو بالمدينة، وسارية في المشرق (7) وإخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى (8) وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلًا . وقصة صاحب موسى وعلمه بحال الغلام .
ومثال النوع الثاني : قصة الذي علم من الكتاب وإتيانه بعرش بلقيس إلى سليمان ـ عليه السلام ـ . وقصة أهل الكهف وقصة مريم وقصة خالد بن الوليد لما شرب السم ولم يحصل له منه ضرر (9)(21/162)
وقوله : ( والمأثور عن سالم الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة ) يشير بذلك إلى الكرامات التي وقعت وذكرت في القرآن الكريم وغيره من النقول الصحيحة، فمما ذكره الله في القرآن الكريم عن سالم الأمم مما ذكره الله عن حمل مريم بلا زوج، وما ذكر في سورة الكهف من قصة أصحاب الكهف وقصة صاحب موسى وقصة ذي القرنين .
وكالمأثور، أي : المنقول بالسند الصحيح عن ( صدر هذه الأمة ) أي : أولها من الصحابة والتابعين كرؤية عمر لجيش سارية وهو على منبر المدينة وجيش سارية بنهاوند بالمشرق وندائه له : يا سارية الجبل، فسمعه سارية وانتفع بهذا التوجيه وسلم من كيد العدو . وقوله : ( وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة ) أي : لا تزال الكرامات موجودة في هذه الأمة إلى يوم القيامة ما وجدت فيهم الولاية بشروطها والله أعلم .
فصل في صفات أهل السنة والجماعة ولم سموا بذلك
ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ باطنًا وظاهرًا واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . واتباع وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ) [ رواه أحمد ( 4/126 ) وأبو داود ( 4607 ) والترمذي ( 2676 ) وابن ماجه ( 42 ) عن العرباض وصححه جماهير علماء الأمة ] . ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ .(21/163)
ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس ويقدمون هدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هدي كل أحد، ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة، وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة . وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسمًا لنفس القوم المجتمعين . والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين . وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين . والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة .
الشرح :
لما ذكر الشيخ طريقة أهل السنة في مسائل العقيدة ذكر في هذا الفصل والذي بعده طريقتهم في عموم الدين أصوله وفروعه وأوصافهم التي تميزوا بها عن أهل البدع والمخالفات فمن صفاتهم :
1 ـ ( اتباع آثار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باطنًا وظاهرًا ) أي : سلوك طريقه والسير على منهاجه ( باطنًا وظاهرًا ) بخلاف المنافقين الذين يتبعونه في الظاهر دون الباطن . وآثار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنته، وهي ما روي عنه وأثر عنه من قول أو فعل أو تقرير . لا آثاره الحسية كمواضع جلوسه ونومه ونحو ذلك لأن تتبع ذلك سبب للوقوع في الشرك . كما حصل في الأمم السابقة .
2 ـ ومن صفات أهل السنة ( اتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ) لما خصهم الله به من العلم والفقه فقد شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل وتلقوا عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدون واسطة فهم أقرب إلى الصواب وأحق بالاتباع بعد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فاتباعهم يأتي بالدرجة الثانية بعد اتباع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فأقوال الصحابة حجة يجب اتباعها إذا لم يوجد نص عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . لأن طريقهم أسلم وأعلم وأحكم، لا كما يقول بعض المتأخرين : إن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم فيتبعون طريقة الخلف ويتركون طريقة السلف .(21/164)
3 ـ ومن صفات أهل السنة اتباع وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور . فإن كل بدعة ضلالة ) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه . وقال الترمذي : حسن صحيح .
وغرض الشيخ أن يبين أن أهل السنة والجماعة يتبعون طريقة الخلفاء الراشدين على الخصوص بعد اتباعهم لطريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على وجه العموم لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوصى باتباع طريقة الخلفاء الراشدين وصية خاصة في هذا الحديث، ففيه قرن سنة الخلفاء الراشدين بسنته عليه الصلاة والسلام، فدل على أن ما سنه الخلفاء الراشدون أو أحدهم لا يجوز العدول عنه .
( والخلفاء الراشدون ) هم الخلفاء الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ووصفوا بالراشدين لأنهم عرفوا الحق واتبعوه، فالراشد هو من عرف الحق وعمل به، وضده الغاوي، وهو من عرف الحق ولم يعمل به .
وقوله : ( المهديين ) أي : الذين هداهم الله إلى الحق . ( تمسكوا بها ) أي : الزموها ( وعضوا عليها بالنواجذ ) كناية عن شدة التمسك بها، والنواجذ : آخر الأضراس . و ( محدثات الأمور ) هي البدع ( فإن كل بدعة ضلالة ) . والبدعة لغة : ما ليس له مثال سابق . وشرعًا : ما لم يدل عليه دليل شرعي . فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له دليل هو بدعة وضلالة سواء في العقيدة أو في الأقوال أو الأفعال .(21/165)
4 ـ ومن صفات أهل السنة أنهم يعظمون كتاب الله وسنة رسوله ويجلونهما ويقدمونهما في الاستدلال بهما والاقتداء بهما على أقوال الناس وأعمالهم لأنهم : ( يعلمون أن أصدق الكلام كلام الله ) قال الله تعالى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } . { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } [ الآيتان ( 122، 87 ) من سورة النساء ] . ويعلمون : ( أن خير الهدي هدي محمد ) الهدي، بفتح الهاء وسكون الدال : السمت والطريقة والسيرة . وقرئ بضم الهاء وفتح الدال . أي : الدلالة والإرشاد .
( ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس ) أي : يقدمونه ويأخذون به ويتركون ما عارضه من كلام الخلق أيًا كانوا رؤساء أو علماء أو عبادًا ( ويقدمون هدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) أي : سنته وسيرته وتعليمه وإرشاده ( على هدي كل أحد ) من الخلق مهما عظمت مكانته إذا كان هديه يعارض هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وذلك عملًا بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ الآية ( 59 ) من سورة النساء ] .
وقوله : ( ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة ) أي : لأجل تمسكهم بكتاب الله وإيثارهم لكلامه على كلام كل أحد . وتمسكهم بهدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقديمه على هدي كل أحد سموا أهل الكتاب والسنة لأجل ذلك لقبوا بهذا اللقب الشريف الذي يفيد اختصاصهم بهما دون غيرهم ممن حاد عن الكتاب والسنة من فرق أهل الضلال كالمعتزلة والخوارج والروافض ومن وافقهم في أقوالهم أو في بعضها .(21/166)
وقوله : ( وسموا أهل الجماعة ) أي : كما سموا أهل الكتاب والسنة سموا ( أهل الجماعة ) والجماعة : ضد الفرقة، لأن التمسك بالكتاب والسنة يفيد الاجتماع والائتلاف، قال تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [ الآية ( 103 ) من سورة آل عمران ] . فالجماعة هنا هم المجتمعون على الحق .
5 ـ فمن صفات أهل السنة الاجتماع على الأخذ بالكتاب والسنة والاتفاق على الحق والتعاون على البر والتقوى، وقد أثمر هذا وجود الإجماع ( والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين ) وقد عرف الأصوليون الإجماع بأنه : اتفاق علماء العصر على أمر ديني، وهو حجة قاطعة يجب العمل به . وقوله : ( وهو الأصل الثالث ) أي : بعد الأصلين الأولين وهما الكتاب والسنة .
6 ـ من صفات أهل السنة أنهم ( يزنون بهذه الأصول الثلاثة ) الكتاب والسنة والإجماع ( جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين ) فهم يجعلون هذه الأصول الثلاثة ميزانًا لبيان الحق من الباطل والهدى من الضلال فيما يصدر من الناس من تصرفات قولية أو فعلية اعتقادية أو عملية ( مما له تعلق بالدين ) من أعمال الناس كالصلاة والصيام والحج والزكاة والمعاملات وغيرها . أما ما ليس له تعلق بالدين من الأمور العادية والأمور الدنيوية فالأصل فيه الإباحة .
ثم بين الشيخ ـ رحمه الله ـ حقيقة الإجماع الذي جعل أصلًا في الاستدلال فقال : ( والإجماع الذي ينضبط ) أي : يجزم بحصوله ووقوعه : ( هو ما كان عليه السلف الصالح ) لما كانوا قليلين مجتمعين في الحجاز يمكن ضبطهم ومعرفة رأيهم في القضية ( وبعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة ) أي : بعد السلف الصالح صار الإجماع لا ينضبط لأمرين :
أولًا : كثرة الاختلاف بحيث لا يمكن الإحاطة بأقوالهم .(21/167)
ثانيًا : انتشار الأمة في أقطار الأرض بعد الفتوح بحيث لا يمكن عادة بلوغ الحادثة لكل واحد منهم ووقوفه عليها . ثم لا يمكن الجزم بأنهم أطبقوا على قول واحد فيها .
تنبيه : إنما اقتصر الشيخ ـ رحمه الله ـ على ذكر الأصول الثلاثة، ولم يذكر الأصل الرابع وهو القياس، لأن القياس مختلف فيه كما اختلفوا في أصول أخرى مرجعها كتب الأصول .
فصل في بيان مكملات العقيدة من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التي تحلى بها أهل السنة
ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا . ويحافظون على الجماعات . ويدينون بالنصحية للأمة . ويعتقدون معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه ) [ رواه البخاري ( 6026 ) ومسلم ( 2585 ) عن أبي موسى ] . وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) [ رواه البخاري ( 6011 ) ومسلم ( 2586 ) عن النعمان بن بشير ] . ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء .
الشرح :
هذا الفصل كالمتمم للفصل الذي قبله فيه بيان لصفات أهل السنة التي هي من مكملات العقيدة فقوله : ( ثم هم ) أي : أهل السنة ( مع هذه الأصول ) أي : التي مر ذكرها، أي : مع قيامهم بها علمًا وعملًا يتحلون بصفات هي من مكملاتها وثمراتها فهم ( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) كما وصفهم الله بذلك في قوله : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } [ الآية ( 110 ) من سورة آل عمران ] . والمعروف هو اسم جامع لكل ما يحيه الله من الإيمان والعمل الصالح . والمنكر : اسم جامع لكل ما يكرهه الله وينهى عنه .(21/168)
( على ما توجبه الشريعة ) أي : باليد ثم باللسان ثم بالقلب تبعًا للقدرة والمصلحة، خلافًا للمعتزلة الذين يخالفون ما توجبه الشريعة في هذا، فيرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الخروج على الأئمة .
قوله : ( ويرون إقامة الحج والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا ) أي : ويعتقد أهل السنة وجوب إقامة هذه الشعائر مع ولاة أمور المسلمين ( أبرارًا كانوا أو فجارًا ) أي : سواء كانوا صالحين مستقيمين أو فساقًا فسقًا لا يخرجهم عن الملة . وذلك لأن غرض المسلمين من ذلك هو جمع الكلمة والابتعاد عن الفرقة والخلاف، ولأن الوالي الفاسق لا ينعزل بفسقه، ولا يجوز الخروج عليه لما يترتب على ذلك من ضياع الحقوق وإراقة الدماء . قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد أكثر من الذي في إزالته . ا ه ـ . وأهل السنة يخالفون في ذلك أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة الذين يرون قتال الولاة والخروج عليهم، إذا فعلوا ما هو ظلم أو ظنوه ظلمًا، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقوله : ( ويحافظون على الجماعات ) أي : ومن صفات أهل السنة أنهم يحافظون على حضور صلاة الفريضة مع الجماعة جمعة أو غيرها، لأن ذلك من أعظم شعائر الإسلام وطاعة لله ورسوله في ذلك خلافًا للشيعة الذين لا يرون الصلاة إلا مع الإمام المعصوم . وخلافًا للمنافقين الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة . وقد وردت أحاديث في فضل صلاة الجماعة والأمر بها والنهي عن تركها، ليس هذا موضع ذكرها .(21/169)
قوله : ( ويدينون بالنصيحة للأمة ) أي : يرونها من الدين . وأصل النصح في اللغة : الخلوص، وشرعًا : هي إرادة الخير المنصوح له وإرشاده إلى مصالحه . فأهل السنة يريدون الخير للأمة ويرشدونها إلى ما فيه صلاحها . ومن صفات أهل السنة التعاون على الخير . والتألم لألم المصابين منهم فهم يعتقدون معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه ) رواه البخاري ومسلم وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) رواه البخاري ومسلم وغيرهما .
فالحديثان يمثلان ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون من تعاون وتراحم . وأهل السنة يعملون بمقتضاهما وقوله : ( المؤمن للمؤمن ) وقوله : ( مثل المؤمنين ) المراد بالإيمان هنا الإيمان الكامل، ( كالبنيان ) هذا التمثيل يقصد منه التقريب للفهم ( يشد بعضه بعضًا ) بيان لوجه الشبه ( وشبك بين أصابعه ) تمثيل آخر يقصد منه التقريب للفهم . قوله : ( كمثل الجسد الواحد ) أي : بالنسبة إلى جميع أعضائه من حيث الشعور بالراحة أو التعب . ( توادهم ) أي : محبة بعضهم لبعض ( تعاطفهم ) أي : عطف بعضهم على بعض ( إذا اشتكى ) : تألم، ( تداعى ) : شارك بعضه البعض الآخر في الألم ( سائر الجسد ) : باقية ( بالحمى ) : ما ينشأ عن الألم من حرارة الجسم ( السهر ) : عدم النوم .
وهذا الحديث خبر معناه الأمر، أي كما أنه إذا تألم بعض جسده سرى ذلك الألم إلى جميع جسده، فكذا المؤمنون ليكونوا كنفس واحدة إذا أصاب أحدهم مصيبة يغتم جميعهم ويعملون على إزالتها وفي هذا التشبيه تقريب للفهم وإظهار المعاني في الصور المرئية .(21/170)
ومن صفات أهل السنة ثباتهم في مواقف الامتحان ( يأمرون بالصبر عند البلاء ) الصبر لغة : الحبس، ومعناه هنا : حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب .
( البلاء ) : الامتحان بالمصائب والشدائد ( والشكر عند الرخاء ) الشكر : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لكونه منعمًا، وهو صرف العبد ما أنعم الله به عليه في طاعته . ( الرخاء ) : اتساع النعمة ( والرضا بمر القضاء ) الرضا : ضد السخط، والقضاء لغة : الحكم . وعرفًا : إرادة الله المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه . ومر القضاء، ما يجري على العبد مما يكرهه كالمرض والفقر وأذى الخلق والحر والبرد والآلام .
ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال . ويعتقدون معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا ) [ رواه أحمد ( 2/472 ) وأبو داود ( 4682 ) والترمذي ( 1162 ) وابن حبان ( 1311 ) عن أبى هريرة . وصححه الترمذي وابن حبان ] . ويندبون إلى أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك . وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق . . ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها . وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة .
الشرح :(21/171)
يهتم أهل السنة بالأخلاق فيتحلون بالأخلاق الفاضلة ويرغبون فيها غيرهم فهم ( يدعون إلى مكارم الأخلاق ) أي : أحسنها . والأخلاق : جمع خلق، بضم الخاء واللام وهو الصورة الباطنة، والخلق : بفتح الخاء وسكون اللام هو الصورة الظاهرة، وهو الدين والسجية والطبع، ويدعون إلى ( محاسن الأعمال ) كالكرم والشجاعة والصدق والأمانة ( ويعتقدون معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) أي : يؤمنون به ويعملون بمقتضاه . ( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا ) رواه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح . وقوله : ( أحسنهم خلقًا ) أي : ألينهم وألطفهم وأجملهم .
ففي الحديث الحث على التخلق بأحسن الأخلاق . وفيه أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان . وأن الإيمان يتفاضل . وأهل السنة يدعون إلى التعامل مع الناس بالتي هي أحسن، وإلى إيتاء ذوي الحقوق حقوقهم، ويحذرون من أضداد تلك الأخلاق من الكبر والتعدي على الناس، فهم ( يندبون ) أي : يدعون ( إلى أن تصل من قطعك ) أي : تحسن إلى من أساء إليك ( وتعطي من حرمك ) أي : تبذل العطاء وهو التبرع والهدية ونحوها لمن منع ذلك عنك لأن ذلك من الإحسان، ( وتعفو عمن ظلمك ) أي : تسامح من تعدى عليك في مال أو عرض، لأن ذلك مما يجلب المودة ويكسب الأجر والثواب .(21/172)
( ويأمرون ) أي : أهل السنة بما أمر الله به من إعطاء ذوي الحقوق حقوقهم ( ببر الوالدين ) أي : طاعتهما في غير معصية والإحسان إليهما بالقول والفعل : ( وصلة الأرحام ) أي : الإحسان إلى الأقربين، والأرحام : جمع رحم وهو من تجمعك به قرابة ( وحسن الجوار ) أي : الإحسان إلى من يسكن بجوارك يبذل المعروف وكف الأذى ( والإحسان إلى اليتامى ) : جمع يتيم، وهو لغة : المنفرد، وشرعًا : من مات أبوه قبل بلوغه . والإحسان إليهما هو برعاية أحوالهم وأموالهم والشفقة عليهم . ( والمساكين ) أي : والإحسان إلى المساكين، جمع مسكين، وهو المحتاج الذي أسكنته الحاجة والفقر، والإحسان إليهم يكون بالتصدق عليهم والرفق بهم ( وابن السبيل ) أي : والإحسان إلى ابن السبيل، وهو المسافر المنقطع به الذي نفدت نفقته أو ضاعت أو سرقت، وقيل : هو الضيف . ( والرفق بالمملوك أي : ويأمرون بالرفق بالمملوك، وهو الرقيق، ويدخل فيه من البهائم، والرفق ضد العنف وهو لين الجانب .
( وينهون عن الفخر ) وهو المباهاة بالمكارم والمناقب من حسب ونسب ( والخيلاء ) بضم إلخاء : الكبر والعجب ( والبغي ) وهو العدوان على الناس ( والاستطالة على الخلف ) أي : الترفع عليهم واحتقارهم والوقيعة فيهم ( بحق وبغير حق ) لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر، وإن استطال بغير حق فقد بغى، ولا يحل لا هذا ولا هذا . ( ويأمرون بمعالي الأخلاق ) أي : يأمر أهل السنة بالأخلاق العالية . وهي الأخلاق الحسنة ( وينهون عن سفاسفها ) أي : رديئها وحقيرها، السفساف : الأمر الحقير والرديء من كل شيء، وهو ضد المعالي والمكارم، وأصله ما يطير من غبار الدقيق إذا نخل والتراب إذا أثير .(21/173)
( وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة ) أي : كل ما يقوله وفعله أهل السنة ويأمرون به وينهون عنه مما تقدم ذكره في هذه الرسالة وما لم يذكر؛ فقد استفادوه من كتاب ربهم وسنة نبيهم، لم يبتدعوه من عند أنفسهم ولم يقلدوا فيه غيرهم . فقد قال الله تعلى : { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شيئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } والأحاديث في هذا كثيرة منها ما ذكره الشيخ .
وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ . لكن لما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة . وفي حديث عنه أنه قال : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أخل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة .
وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هديتهم . وهم الطائفة المصورة الذين قال فيهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ) . فنسأل الله أن يجعلنا منهم وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا . وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب . وصلى الله على محمد آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
الشرح :(21/174)
يواصل الشيخ ـ رحمه الله ـ بيان مزايا أهل السنة والجماعة فيبين مزيتهم العظمى وهي : أن ( طريقتهم دين الإسلام ) أي : هو مذهبهم وطريقهم إلى الله، وأنهم عند الافتراق الذي أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن حدوثه في هذه الأمة ثبتوا على الإسلام وصاروا هم الفرقة الناجية من بين تلك الفرق، وهم الجماعة الثابتة على ما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، وهو الإسلام المحض الخالص من الشوائب ولذلك فازوا بلقب أهل السنة والجماعة . وصار فيهم ( الصديقون ) ، المبالغون في الصدع والتصديق ( والشهداء ) : القتلى في سبيل الله ( والصالحون ) : أهل الأعمال الصالحة ( وفيهم أعلام الهدى . . . إلخ ) أي :
وفي أهل السنة العلماء الأعلام المتصفون بكل وصف حميد علمًا وعملًا ( وفيهم الأبدًال ) وهم الأولياء والعباد، سموا بذلك ـ قيل ـ لأنهم كلما مات منهم أحد أبدل بآخر . وفي رواية عن أحمد أنهم أصحاب الحديث ( وفيهم أئمة الدين ) أي : في أهل السنة العلماء المقتدى بهم كالأئمة الأربعة وغيرهم ( وهم الطائفة المنصورة ) أي : وأهل السنة هم الطائفة المذكورة في الحديث ( لا تزال طائفة من أمتي ) الحديث رواه البخاري ومسلم . ثم ختم الشيخ رسالته المباركة بالدعاء والصلاة والسلام على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو خير ختام والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ثبت المصادر والمراجع
ملحوظة رتبت هذه المصادر حسب ورودها في الكتاب :
1- القرآن الكريم .
2- " الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية " للشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض .
3- " التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية " للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد .
4- " التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة " للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي .
5- نقلت من فوائد علقتها على نسختي وقت الطلب .(21/175)
6- وفيما يتعلق بتفسير الآيات نقلت من كتب التفسير " كفتح القدير " للإمام محمد بن علي الشوكاني . و " تفسير القرآن العظيم " للشيخ : إسماعيل بن كثير .
7- سنن إبي داود .
8- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي .
9- الفتوحات الربانية لابن جحر .
10- أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني .
11- صحيح البخاري .
12- صحيح مسلم .
13- المستدرك للحاكم .
14- شرح أصول اعتقاد أهل السنة اللالكائي .
15- فتح الباري لابن حجر العسقلاني .
16- سنن النسائي .
17- سنن البيهقي .
18- الأذكار للنووي .
19- أسباب النزول للواحدي .
20- الكشاف للزمخشري .
21- حادي الأرواح لابن القيم .
22- شرح الطحاوي لابن أبي العز الحنفي .
23- مسند أحمد
24- سنن ابن ماجه .
25- السلسلة الصحيحة للألباني .
26- مصباح الزجاجة .
27- عمل اليوم والليلة للنسائي .
28- المعجم الأوسط للطبراني .
29- المعجم الكبير للطبراني .
30- تفسير الطبري .
31- تهذيب السنن لابن القيم .
32- صحيح ابن حبان .
33- التوحيد لابن خزيمة .
34- سنن الترمذي .
35- جامع العلوم والحكم لابن رجب .
36- السنة لابن أبي عاصم .
37- الأسماء والصفات للبيهقي .
38- العظمة لأبي الشيخ .
39- أجوبة المصابيح لابن حجر .
40- فضائل الصحابة لأحمد .
41- المصنف لابن أبي شيبة .
42- دلائل النبوة للبيهقي .
43- الدلائل لأبي نعيم .
44- تاريخ ابن كثير .
45- الإصابة لابن حجر .
46- تخريج الأربعين السلمية للسخاوي .
47- المقاصد للسخاوي .
48- الموطأ للإمام مالك بن أنس .
49- كرامات الأولياء لللالكائي .
50- مجمع الزوائد للهيثمي .(21/176)
مسائل في الإيمان
فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان
$مقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
فهذه مجموعة من الأسئلة ألقيت على سماحة والدنا وشيخنا العلامة صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان في مسائل الإيمان ، وقد أجاب عنها سماحته في إحدى المقابلات معه بعنوان : أسئلة وأجوبة في مسائل الإيمان وقمت بتفريغ هذه الأجوبة وعرضها عليه ، فوافق على نشرها ابتغاءً للأجر من الله تعالى ونفعًا لطلبة العلم فجزاه الله خير الجزاء ورفع قدره ونفع به عموم المسلمين .
وبلا شك أن مسائل الإيمان من المسائل المهمة ، وعليها يجري كثير من الخلافات قديمًا وحديثًا ، وقد كثر حولها الكلام في الآونة الأخيرة من عدد من المنتسبين للعلم ، فمنهم من وفق للحق ومنهم من أخطأ طريقه ، وانتشر الخلاف حتى خاض فيه من ليس أهلا للعلم ، وأتى بعضهم بالعجائب والغرائب ؛ لذا وجب رد مثل هذه المسائل إلى الله ورسوله أولًا ثم النقل عن السلف الصالح وقبول الحق الذي جاء عنهم كما قال تعالى : { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } وقال تعالى { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وقال تعالى { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } والرد إلى العلماء من الرد إلى الله والرسول .
ونشر مثل هذا الكتاب هو من الرجوع إلى أهل العلم وقد بذلت جهدي لإخراجه بأحسن صورة ليعم نفعه .
وقد كتبت ترجمة مختصرة لسماحة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان .
والله أسال أن يجزي سماحته خيرًا على ما قدمه للإسلام والمسلمين ، وأن يرفع درجته في المهديين ، وأن يجمعنا وإياه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة . . . آمين
وكتبه(22/1)
عبد الرحمن بن محمد بن علي الهرفي
a-alharfi@hotmail.com
$ترجمة مختصرة
اسمه ونسبه : هو سماحة الشيخ العلامة الفقيه : صالح بن فوزان بن عبد الله من آل فوزان ، من الوداعين من قبيلة الدواسر من أهل بلدة الشماسية ، من أعمال منطقة القصيم .
$$نشأته ودراسته :
ولد عام 1354 هـ ، وتوفي والده وهو صغير فتربى في كنف أسرته ، وتعلم القرآن الكريم ، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة على يد إمام مسجد البلد كعادة الناس في ذلك الوقت ، وكان ذلك الإمام قارئًا متقنًا وهو فضيلة الشيخ : حمود بن سليمان التلال – رحمه الله - ، الذي تولى القضاء أخيرًا في بلدة ضرية في منطقة القصيم .
ثم التحق سماحته بالمدرسة الحكومية حين افتتاحها في الشماسية عام 1369 هـ ، وأكمل دراسته الابتدائية في المدرسة الفيصلية ببريدة عام 1371 هـ ، وتعين مدرسًا في الابتدائي ، ثم التحق بالمعهد العلمي ببريدة عند افتتاحه عام 1373 هـ ، وتخرج منه عام 1377 هـ ، ثم التحق بكلية الشريعة بالرياض ، وتخرج منها عام 1381هـ ، ثم نال درجة الماجستير في الفقه وكانت رسالته بعنوان ( التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية ) وهو يدرس الآن في الكليات الشرعية ، ثم نال درجة الدكتوارة من هذه الكلية في تخصص الفقه أيضًا وكانت رسالته بعنوان ( أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية )
$$أعماله الوظيفية :(22/2)
بعد تخرجه في كلية الشريعة عين مدرسًا في المعهد العلمي في الرياض ، ثم نقل للتدريس في كلية الشريعة ، ثم نقل للتدريس في الدراسات العليا بكلية أصول الدين ، ثم في المعهد العالي للقضاء ، ثم عين مديرًا للمعهد العالي للقضاء ، ثم عاد للتدريس فيه بعد انتهاء مدة الإدارة ، ثم نقل عضوًا في اللجنة الدائمة للإفتاء والبحوث العلمية ، وعضوًا في هيئة كبار العلماء ، وهو – أيضًا – عضو في المجمع الفقهي بمكة المكرمة التابع للرابطة وعضو في لجنة الإشراف على الدعاة في الحج ، وإمام وخطيب جامع الأمير متعب بن عبد العزيز في الملز ، ويشارك في الإجابة في برنامج ( نور على الدرب ) في الإذاعة ، كما أن له مشاركات في المجلات العلمية على هيئة بحوث ودراسات ومقالات وفتاوى ، جمع وطبع بعضها ، كما أنه يشرف على الكثير من الرسائل العلمية في درجتي الماجستير والدكتوراه .
مشايخه : تتلمذ سماحة الشيخ صالح على أيدي عدد من العلماء والفقهاء البارزين ، ومن أشهرهم سماحة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - ، وسماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - ، وسماحة الشيخ عبد الله بن حميد - رحمه الله - ، وفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - ، وفضيلة الشيخ صالح بن عبد الرحمن السكيتي - رحمه الله - ، وفضيلة الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي - رحمه الله - ، وفضيلة الشيخ محمد بن سبيل – حفظه الله - ، وفضيلة الشيخ عبد الله بن صالح الخليفي - رحمه الله - ، وفضيلة الشيخ إبراهيم بن عبيد العبد المحسن – حفظه الله - ، وفضيلة الشيخ حمود بن عقلا الشعيبي - رحمه الله - ، وفضيلة الشيخ صالح العلي الناصر - رحمه الله - ، وتتلمذ على غيرهم من شيوخ الأزهر الذين درسوا في المعاهد والكليات في المملكة العربية السعودية .
$$مؤلفاته :
1- التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية ، في المواريث .
2- أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية .(22/3)
3- الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد .
4- شرح العقيدة الواسطية .
5- البيان فيما أخطأ فيه بعض الكتاب .
6- مجموع محاضرات في العقيدة والدعوة .
7- الخطب المنبرية في المناسبات العصرية .
8- من أعلام المجددين في الإسلام .
9- رسائل في مواضيع مختلفة .
10- مجموع فتاوى في العقيدة والفقه ، مفرغة من نور على الدرب .
11- نقد كتاب الحلال والحرام في الإسلام .
12- إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد .
13- عقيدة التوحيد .
14- تعقيب على ما ذكره الخطيب في حق الشيخ محمد بن عبد الوهاب .
15- الملخص الفقهي .
16- إتحاف أهل الإيمان بدروس شهر رمضان .
17- الضياء اللامع من الأحاديث القدسية الجوامع .
18- بيان ما يفعله الحاج والمعتمر .
19- فتاوى ومقالات نشرت في مجلة الدعوة .
20- شرح زاد المستقنع ( لم ينشر بعد ) .
21- شرح كشف الشبهات .
22- التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية .
23- شرح مسائل الجاهلية .
24- مسائل في الإيمان ، وهو كتابنا هذا .
25- ما يجب في التعامل مع العلماء .
26- نظرات وتعقيبات على ما في كتاب السلفية للبوطي .
27- الرد على الشيخ السيابي في تعقيبه على فتوى الشيخ ابن باز .
28- الولاء والبراء في الإسلام .
29- ظاهرة التبديع والتفسيق والتكفير وضوابطها .
30- لمحة عن الفرق الضالة .
31- وجوب التحاكم إلى ما أنزل الله وتحريم التحاكم إلى غيره .
علاوة على العديد من الكتب والبحوث والرسائل العلمية ، منها ما هو مطبوع ، ومنها ما هو في طريقه للطبع .
$$الشيخ ابن باز يوصي بالرجوع إلى الشيخ :
تواترت الأخبار بأن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز لما سئل من نسأل بعدك قال : الشيخ صالح الفوزان ، فقيل له : أنسأل فلاناً ؟ فقال : فلان فقيه ، ولكن اسأل الشيخ صالح . وقد أخبرني أحد طلبة العلم المقربين من سماحة الشيخ ابن باز أنه سأل الشيخ بنفسه فكان هذا جوابه .(22/4)
فأوصي نفسي وجميع الأخوة بالإفادة من علم الشيخ صالح – متع الله المسلمين بحياته - .
وأسأل الله تعالى أن ينفع بسماحته ، وأن يغفر له ، وأن يختم له بخير ، وأن يلحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا ، وأن يعز به الإسلام والمسلمين . آمين .
وكتبه
عبد الرحمن بن محمد الهرفي
الدمام
فجر يوم الثلاثاء 12/9/1422 هـ .
$مقدمة فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :(22/5)
فإن مسائل العقيدة مهمة جدًا فيجب تعلم العقيدة بجميع أبوابها وجميع مسائلها وتلقيها عن أهل العلم فلا يكفي فيها إلقاء الأسئلة وتلقي الأجوبة فيها ، فإنها مهما كثرت الأسئلة وأجيب عنها ، فإن الجهل سيكون أكثر . فالواجب على من يريد نفع نفسه ونفع إخوانه المسلمين أن يتعلم العقيدة من أولها إلى آخرها ، وأن يلم بأبوابها ومسائلها ويتلقاها عن أهل العلم ومن كتبها الأصلية من كتب السلف الصالح وبهذا يزول عنه الجهل ولا يحتاج إلى كثرة الأسئلة وأيضًا يستطيع هو أن يبين للناس وأن يعلم الجُهَّال ، لأنه أصبح مؤهلًا في العقيدة . كذلك لا يتلقى العقيدة عن الكتب فقط ، أو عن القراءة والمطالعة لأنها لا تؤخذ مسائلها ابتداءً من الكتب ولا من المطالعات وإنما تؤخذ بالرواية عن أهل العلم وأهل البصيرة الذين فهموها وأحكموا مسائلها هذا هو واجب النصيحة علينا لطلبة العلم ، أما ما يدور الآن في الساحة من كثرة الأسئلة حول العقيدة ومهماتها من أناس لم يدرسوها من قبل . أو أناس يتكلمون في العقيدة وأمور العقيدة عن جهل أو اعتماد على قراءتهم للكتب أو مطالعاتهم فهذا سيزيد الأمر غموضًا ويزيد الإشكالات إشكالات أخرى ويثبط الجهود ويحدث الاختلاف ، لأننا إذا رجعنا إلى أفهامنا دون أخذ بالعلم من مصادره وعن أهله ، وإنما نعتمد على قراءتنا وفهمنا فإن الأفهام تختلف والإدراكات تختلف وبالتالي يحصل الاختلاف في هذه الأمور المهمة . وديننا جاءنا بالاجتماع والائتلاف وعدم الفرقة ، وجاء بالموالاة لأهل الإيمان والمعاداة للكفار فهذا لا يتم إلا بتلقي أمور الدين من مصادرها ومن علمائها الذين حملوها عمن قبلهم وتدارسوها بالتلقي وبلغوها لمن بعدهم ، هذا هو طريق العلم الصحيح في العقيدة وفي غيرها ولكن العقيدة أهم لأنها الأساس ولأن الاختلاف فيها مجال للضلال ومجال للفرقة بين المسلمين . ولا حاجة بنا إلى مؤلفات جديدة في العقيدة بل تكفينا كتب علماء السلف وأتباعهم(22/6)
فما تلفظه المطابع الآن في هذا المجال أكثره غثاءً لا فائدة فيه .
وهذه الإجابة عن الأسئلة المطروحة وبالله التوفيق
$السؤال الأول :
بم يكون الكفر الأكبر أو الردة ؟ هل هو خاص بالاعتقاد والجحود والتكذيب ، أم هو أعم من ذلك ؟
الجواب :
الكفر والردة يحصلان بارتكاب ناقضٍ من نواقض الإسلام المعروفة عند أهل العلم فمن ارتكب شيئًا منها من غير جهل يعذر به فإنه بذلك يكون مرتدًا ويكون كافرًا ولنا أن نحكم عليه بما يظهر منه من قوله أو فعله ، نحكم عليه بذلك لأنه ليس لنا إلا الحكم بالظاهر ، أما أمور القلوب فإنه لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى . فمن نطق بالكفر أو فعل الكفر ، حكمنا عليه بحسب قوله وبموجب نطقه وبموجب فعله إذا كان ما فعله أو نطق به من أمور الردة إلا إذا كان جاهلًا جهلًا يعذر به أو مكرهًا . هذا في أمور العقيدة الظاهرة في الكتاب والسنة مثل الشرك الأكبر والكفر أما الأمور الخفية فلابد فيها من إقامة الحجة بإفهام المخالف وجه الصواب فيها .
$السؤال الثاني :
هناك من يقول الإيمان قول واعتقاد وعمل ، لكن العمل شرط كمال فيه . ويقول أيضًا لا كفر إلا باعتقاد . فهل هذا القول من أقول أهل السنة أم لا ؟
الجواب :
الذي يقول هذا ما فهم الإيمان ، ولا فهم العقيدة ، وهذا هو ما قلناه في المقدمة من أن الواجب عليه أن يدرس العقيدة على أهل العلم ويتلقاها من مصادرها الصحيحة ، وسيعرف الجواب عن هذا السؤال .
وقوله : أن الإيمان قول وعمل واعتقاد ثم يقول : أن العلم شرط في كمال الإيمان وفي صحته ، هذا تناقض . كيف يقول العمل من الإيمان ثم يقول العمل شرط ؟ ! .(22/7)
ومعلوم أن الشرط يكون خارج المشروط والعمل داخل عند أهل السنة في الإيمان لا خارج عنه فهذا تناقض منه . فهذا يريد أن يجمع بين قول السلف وقول المتأخرين وهو لا يفهم التناقض ، لأنه لا يعرف قول السلف ولا يعرف حقيقية قول المتأخرين فأراد أن يدمج بعضهما ببعض ، فالإيمان قول وعمل واعتقاد والعمل هو من الإيمان وجزء منه ، وليس هو شرطًا من شروط صحة الإيمان أو شرط كمال أو غير ذلك من هذه الأقوال التي يروجونها الآن . فالإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية . هذا ما درج عليه أهل السنة والجماعة قديمًا وحديثًا خلافًا للمرجئة .
$السؤال الثالث :
هل الأعمال ركن من الإيمان وجزء منه أم هي شرط كمال فيه ؟
الجواب :
هذا من نفس السؤال الذي قبله سائل هذا السؤال لا يعرف حقيقة الإيمان . فلذلك تردد هل الإعمال جزء من الإيمان أو أنها شرط له لأنه لم يتلقى العقيدة من مصادرها وأصولها وعن علمائها . وكما ذكرنا أنه لا عمل بدون إيمان ولا إيمان بدون عمل فهما حقيقة الإيمان ، والأعمال من الإيمان ، والأقوال من الإيمان ، والاعتقاد من الإيمان ومجموعها كله هو الإيمان بالله عز وجل ، مع الإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره .
$السؤال الرابع :
ما أقسام المرجئة مع ذكر أقوالهم في مسائل الإيمان ؟
الجواب :
المرجئة أربعة أقسام :
القسم الأول : الذين يقولون الإيمان هو مجرد المعرفة ولو لم يحصل تصديق ، وهذا قول الجهمية ، وهذا شر الأقوال وأقبحها وهذا كفر بالله عز وجل لأن المشركين الأولين وفرعون وهامان وقارون وإبليس كل منهم يعرفون الله عز وجل بقلوبهم ، لكن لما لم ينطقوا بألسنتهم ولم يصدقوا بقلوبهم ولم يعملوا بجوارحهم لم تنفعهم هذه المعرفة .(22/8)
القسم الثاني : الذين قالوا أن الإيمان هو تصديق القلوب فقط وهذا قول الأشاعرة ، وهذا أيضًا قول باطل لأن الكفار يصدقون بقلوبهم ، يعرفون أن القرآن حق وأن الرسول حق واليهود والنصارى يعرفون ذلك { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 146 ] ويصدقون به بقلوبهم . قال تعالى في المشركين { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] فهؤلاء لم ينطقوا بألسنتهم ولم يعملوا بجوارحهم مع أنهم يصدقون بقلوبهم فلا يكونون مؤمنين .
القسم الثالث : قول الفرقة التي تقابل الأشاعرة وهم الكرامية ، الذين يقولون أن الإيمان نطق باللسان ولو لم يعتقد بقلبه ، ولا شك أن هذا قول باطل لأن المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار يقولون نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله بألسنتهم ويعملون بجوارحهم ولكنهم لا يعتقدون ذلك ولا يصدقون به في قلوبهم كما قال تعالى : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ المنافقين : 1 ، 2 ] قال سبحانه وتعالى { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ الفتح : 11 ] .
القسم الرابع : قول مرجئة الفقهاء وهم أخف الفرق في الإرجاء الذين يقولون أن الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان ولا يدخل فيه العمل وهذا قول مرجئة الفقهاء وهو قول غير صحيح أيضًا . لأنه لا إيمان بدون عمل .
$السؤال الخامس :(22/9)
هل خلاف أهل السنة مع مرجئة الفقهاء في أعمال القلوب أو الجوارح ؟ وهل هو لفظي أو معنوي ؟ نرجوا من فضيلتكم التفصيل .
الجواب :
خلاف مرجئة الفقهاء مع جمهور أهل السنة هو اختلاف في عمل الجوارح ، العمل الظاهر كالصلاة والصيام والحج ، فهم يقولون إنه ليس من الإيمان وإنما هو شرط للإيمان ، إما شرط صحة وإما شرط كمال وهذا قول غير صحيح كما عرفنا والخلاف بينهم وبين جمهور أهل السنة خلاف معنوي وليس خلافًا لفظيًا ، لأنهم يقولون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص بالأعمال فلا يزيد بالطاعة ولا ينقص بالمعصية وإيمان الناس سواء لأنه عندهم التصديق بالقلب مع القول باللسان وهذا قول غير صحيح كما سبق ، لأن الله سمى الصلاة [ إيمانًا ] { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ]
[ قال ابن كثير - رحمه الله - : وقوله { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ما كان يضيع ثوابها عند الله وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السبيعي عن البراء قال : مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس ، فقال الناس ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل الله تعالى { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأخرى أي ليعطيكم أجرهما جميعًا ] .
أي صلاتكم إلى بيت المقدس ، سمى الصلاة إيمانًا وهي عمل ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان )(22/10)
[ متفق عليه ، واللفظ لمسلم أخرجه في كتاب الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان برقم : 35 ، ولفظ البخاري ( . . وستون شعبة . . ) ]
وهذه الشعب بعضها قول وبعضها اعتقاد وبعضها عمل وسماها كلها إيمانًا . فقال : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ) ولو كان شيئًا واحدًا لم يتشعب .
$السؤال السادس :
ما حكم من ترك جميع العمل الظاهر بالكلية لكنه نطق بالشهادتين ويقر بالفرائض لكنه لم يعمل شيئًا البتة ، فهل هذا مسلم أم لا ؟
[ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( الإيمان الأوسط ص : 556 ) تحقيق د/ علي بخيت الزهراني . : ( من الممتنع أن يكون الرجل مؤمنًا إيمانًا ثابتًا من قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ، ولا يصوم يومًا من رمضان ولا يؤدي لله الزكاة ولا يحج إلى بيته فهذا ممتنع ، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق القلب وزندقة ، لا مع إيمان صحيح ) وقال ص 577 : ( وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل وإنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله ، بقلبه أو بقلبه ولسانه ، ولم يؤد واجبًا ظاهرًا لا صلاة وزكاة ولا صيامًا ولا غير ذلك من الواجبات ، ولو قدر أن يؤدي الواجبات لا لأجل أن الله أوجبها ، مثل من يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث أو يعدل في قسمه وحكمه من غير إيمان بالله ورسوله لم يخرج بذلك من الكفر . فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور فلا يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم مع عدم شيء من الواجبات التي اختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم ]
علما بأن ليس له عذر شرعي يمنعه من القيام بتلك الفرائض ؟
الجواب :(22/11)
هذا لا يكون مؤمنًا ، من كان يعتقد بقلبه ويقر بلسانه ولكنه لا يعمل بجوارحه ، وعطل الأعمال كلها من غير عذر فهذا ليس بمؤمن ، لأن الإيمان كما ذكرنا وكما عرفه أهل السنة والجماعة أنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ، لا يحصل الإيمان إلا بمجموع هذه الأمور ، فمن ترك واحدًا منها فإنه لا يكون مؤمنًا .
$السؤال السابع :
هل تصح هذه المقولة : أن من قال الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص فقد برئ من الإرجاء كله حتى لو قال لا كفر إلا باعتقاد وجحود ؟
الجواب :
هذا تناقض لأنه إذا قال : لا كفر إلا باعتقاد أو جحود ، فهذا يناقض قوله : أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح .
لأنه إذا كان الإيمان قولًا باللسان واعتقادًا بالجنان وعملًا بالجوارح وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فمعناه أن من تخلى عن الأعمال نهائيًا فإنه لا يكون مؤمنًا ، لأن الإيمان مجموع هذه الأشياء ولا يكفي بعضها . والكفر ليس مقصورًا على الجحود . وإنما الجحود نوع من أنواعه فالكفر يكون بالقول وبالفعل وبالاعتقاد وبالشك كما ذكر العلماء ذلك . وانظر باب أحكام المرتد من كتب الفقه .
$السؤال الثامن :
هل هذا القول صحيح أم لا : ( أن من سب الله وسب الرسول صلى الله عليه وسلم فليس هذا بكفر في نفسه ، ولكنه إمارة وعلامة على ما في القلب من استخفاف واستهانة ) ؟
[ قال شيخ الإسلام - رحمه الله – في الصارم المسلول تحقيق : محمد الحلواني ومحمد شوادري 3/955 : ( إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرًا وباطنًا ، وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم ، أو كان مستحلًا له ، أو كان ذاهلًا عن اعتقاده ، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل ) ] .
الجواب :
هذا قول باطل ، لأن الله حكم على المنافقين بالكفر بعد الإيمان بموجب قولهم : ( ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أجبن عند اللقاء )(22/12)
[ قال ابن كثير - رحمه الله - : ( وقال عبد الله بن وهب : أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء . فقال رجل في المسجد : كذبت ولكنك منافق لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن فقال عبد الله بن عمر أنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة وهو يقول يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ } الآيات ] . يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأنزل الله فيهم قوله سبحانه وتعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ التوبة : 65 ،66 ]
[ قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله – ( فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوا على وجه المزح تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر ويعمل به خوفًا من نقص مال أو مضارة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها ) كشف الشبهات ص 100 ، بتحقيق عبد الله بن عايض القحطاني . دار الصميعي . الأولى 1418 هـ . ولمعالي الشيخ صالح الفوزان شرح نفيس على كشف الشبهات ، فليراجع ] .(22/13)
فكفرهم بهذه المقالة ولم يشترط في كفرهم أنهم كانوا يعتقدون ذلك بقلوبهم ، بل إنه حكم عليهم بالكفر بموجب هذه المقالة وهم يقولون { إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } يعني لم نقصد ما قلنا بقلوبنا . وكذلك قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } [ التوبة : 74 ] فرتب الكفر على قول كلمة الكفر . وأخبرهم أنهم كفروا بعد إسلامهم .
$السؤال التاسع :
ما حكم من يسب الله ورسوله ويسب الدين فإذا نصح في هذا الأمر تعلل بالتكسب وطلب القوت والرزق ، فهل هذا كافر أم هو مسلم يحتاج إلى تعزير وتأديب ؟ وهل يقال هنا بالتفريق بين السب والساب ؟
الجواب :
لا يجوز للإنسان أن يكفر بالله بالقول أو بالفعل أو بالاعتقاد أو بالشك ويقول أن هذا طلب الرزق لأن الرزق عند الله سبحانه وتعالى ، والله جلا وعلا يقول : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 ، 3 ] فالرزق بيد الله - عز وجل - والله - جل وعلا – حكم بالكفر على من آثر الدنيا على الآخرة قال سبحانه وتعالى في وصف المرتدين والمنافقين : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [ النحل : 107 ] فحكم عليهم بأنهم تركوا إيمانهم بسبب أنهم يريدون أن يعيشوا مع الناس ويكونوا مع الناس ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] وتوكلوا على الله لرزقهم الله عز وجل . فمن وافق الكفار على الكفر من أجل أن يعيش معهم فهو كافر مثلهم لأنه استحب الحياة الدنيا على الآخرة .
$السؤال العاشر :(22/14)
ما هو القول فيمن بنى الأضرحة على القبور وبنى عليها المساجد والمشاهد وأوقف عليها الأموال وجعل لها هيئات تشرف عليها ومكن الناس من عبادتها والطواف حولها ودعائها والذبح لها ؟
الجواب :
هذا حكمه أنه يكفر بهذا العمل ، لأن فعله هذا دعوة للكفر . إقامته للأضرحة وبنائه لها ودعوة الناس إلى عبادتها وتنصيب السدنة لها ، هذا يدل على رضاه بهذا الأمر وعلى أنه يدعو إلى الكفر ويدعو إلى الضلال والعياذ بالله وإن كان قصده كسب المال من ورائها فإنه يبيع دينه بدنياه فهو يدخل في قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [ النحل : 107 ]
$السؤال الحادي عشر :
هل تصح الصلاة خلف إمام يستغيث بالأموات ويطلب المدد منهم أو لا ؟ وهل تصح خلف رجل يكذب ويتعمد الكذب ويؤذي الصالحين ويؤم الناس ؟ هل يقدم في الصلاة ؟ إذا عرف عنه الكذب والفسوق ؟
الجواب :
لا تصح الصلاة خلف من يستغيث بالأموات ، لأن هذا شرك أكبر يخرج من الملة ، فهذا ليس بمسلم لا تصح صلاته في نفسه ولا تصح صلاة من خلفه ، ويشترط في الإمام أن يكون مؤمنًا بالله وبرسوله ويكون عاملًا بدين الإسلام ظاهرًا وباطنًا .
أما الكذب وإيذاء الصالحين فهذه كبائر من كبائر الذنوب ، والكبائر التي دون الشرك ، لا تقتضي الكفر ، ولكن هذا لا ينبغي أن ينصب إمامًا للناس . لكن من جاء ووجدهم يصلون وهو يصلي بهم ، يصلي خلفه ولا يصلي منفردًا ، إلى أن يجد إمامًا صالحًا مستقيمًا فيصلي خلفه .
$السؤال الثاني عشر :
هناك بعض الأحاديث التي يستدل بها البعض على أن من ترك جميع الأعمال بالكلية فهو مؤمن ناقص الإيمان كحديث ( لم يعمل خيرًا قط )
[ أخرجه مسلم في كتاب الإيمان – باب معرفة طريق الرؤيا برقم : 183 ]
وحديث البطاقة(22/15)
[ أخرجه الترمذي – كتاب : الإيمان – باب : فيما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله . برقم : 2639 ، ابن ماجه كتاب الزهد باب : فيما يرجى من رحمة الله يوم القيامة – برقم : 4355 ]
وغيرها من الأحاديث ، فكيف الجواب على ذلك ؟
الجواب :
هذا من الاستدلال بالمتشابه ، وهذه طريقة أهل الزيغ الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم : { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } [ آل عمران : 7 ] فيأخذون الأدلة المتشابهة ويتركون الأدلة المحكمة التي تفسرها وتبينها ، فلابد من رد المتشابه إلى المحكم ، فيقال من ترك العمل لعذر شرعي ولم يتمكن منه حتى مات فهذا معذور وعليه تحمل هذه الأحاديث فيقال هذا رجل نطق بالشهادتين معتقدًا لهما مخلصًا لله عز وجل ثم مات في الحال ولم يتمكن من العمل لكنه نطق بالشهادتين مع الإخلاص لله والتوحيد كما قال صلى الله عليه وسلم ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله )
[ أخرجه البخاري – كتاب الجمعة باب صلاة النوافل . برقم : 1186 ] وقال : ( فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )(22/16)
[ أخرجه البخاري كتاب الصلاة – باب المساجد في البيوت برقم : 425 ] ، هذا لم يتمكن من العمل مع أنه نطق بالشهادتين واعتقد معناهما وأخلص لله عز وجل لكنه لم يبق أمامه فرصة للعمل حتى مات فهذا هو الذي يدخل الجنة بالشهادتين وعليه يحمل حديث البطاقة وغيره مما جاء بمعناه ، وعليه يحمل حديث الذين يخرجون من النار وهم لم يعملوا خيرًا قط لأنهم لم يتمكنوا من العمل مع أنهم نطقوا بالشهادتين ودخلوا في الإسلام أما من ترك الأعمال كلها مختارًا مع تمكنه منها فهذا لا يكون مؤمنًا [ انظر كلام شيخ الإسلام المنقول في هامش صفحة 22 ] هذا هو الجمع بين الأحاديث .
$السؤال الثالث عشر :
ما حكم من يدعو غير الله وهو يعيش بين المسلمين وبلغه القرآن ، فهل هذا مسلم تلبس بشرك أم هو مشرك ؟
الجواب :
من بلغه القرآن على وجه يستطيع أن يفهمه لو أراد لكنه أعرض عن فهمه ثم لم يعمل به ولم يقبله فإنه قد قامت عليه الحجة ولا يعذر بالجهل لأنه بلغته الحجة ، والله جل وعلا يقول : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ](22/17)
[ قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية : ( أي هو نذير لكل من بلغه كقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع وأبو أسامة وأبو خالد عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب في قوله { وَمَن بَلَغَ } من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم زاد أبو خالد وكلمه . ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب قال : من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى : { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله ]
سواء كان يعيش مع المسلمين أو يعيش مع غير المسلمين فكل من بلغه القرآن أو السنة الصحيحة على وجه يفهمه لو أراد الفهم ثم لم يعمل بما بلغه فإنه لا يكون مسلمًا ولا يعذر بالجهل .
$السؤال الرابع عشر :
هل يشترط في إقامة الحجة فهم الحجة فهمًا واضحًا جليًا أم يكفي مجرد إقامتها ، نرجو التفصيل في ذلك مع ذكر الدليل ؟ وبارك الله فيكم .
الجواب :(22/18)
هذا ذكرناه في الجواب الذي قبل هذا ، أنه إذا بلغه الدليل من القرآن أو من السنة على وجه يفهمه لو أراد . يعني يفهمه بلغته ، أو يفهمه باللغة العربية ثم لم يلتفت إليه ولم يعمل به فهذا لا يعذر بالجهل لأنه مفرط ومعرض وقد قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ } [ الأحقاف : 3 ] [ وقال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } [ الكهف : 57 ] . وقال تعالى : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون } [ السجدة : 22 ] ] .
$السؤال الخامس عشر :
هل تكفير شيخ الإسلام – رحمه الله – للطائفة الممتنعة من آداء شعيرة الزكاة حين فعل هذا من فعله من العرب لأجل جحدهم للوجوب أو لأجل مجرد المنع وعدم الالتزام بالآداب ؟
[ مجموع الفتاوى 28/ ( 468-501 ) ( 501-508 ) ( 519 ) قال الشيخ تقي الدين – رحمه الله - : ( وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة فلهذا كانوا مرتدين ، وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله . . . ) ]
الجواب :(22/19)
هذا فصل فيه أهل العلم ، قالوا إن مانع الزكاة إن كان يجحد وجوبها فهذا كافر ويقاتل قتال ردة ، وأما إن كان منعه لها من أجل بخل وهو يعتقد وجوبها فهذا يقاتل لأجل أخذ الزكاة منه لأنه حق وجب عليه لغيره وامتنع من أدائه ، وهو شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام حتى يخضع لأداء الزكاة فلا يحكم بكفره ، فيقاتل لمنعه الزكاة إذا كان له شوكة تدافع عنه حتى تؤخذ منه . وأما ما نسب إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية أنه كفرهم مطلقًا فأنا لم أطلع على هذا الكلام لكن العلماء قالوا : يقاتل من امتنع من شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام مثل الأذان والإقامة وليس من لازم ذلك أنه يكفر . بل يقاتل لأجل إقامة الشعيرة الظاهرة
$السؤال السادس عشر :
ما حكم تنحية الشريعة الإسلامية واستبدالها بقوانين وضعية كالقانون الفرنسي والبريطاني وغيرها مع جعله قانونًا يحكم فيه بجميع القضايا ؟
الجواب :
من نحى الشريعة الإسلامية نهائيًا وأحل مكانها القانون فهذا دليل على أنه يرى جواز هذا الشيء واستحلاله لأنه ما نحاها وأحل محلها القانون إلا لأنه يرى أنه أحسن من الشريعة ولو كان يرى أن الشريعة أحسن منه لما أزاح الشريعة وأحل محلها القانون ، وهذا كفر بالله عز وجل ، وكذلك من أبقى الحكم بقضايا النكاح والميراث حسب الشريعة ، فهذا يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ، يعني يحكم الشريعة في بعض ، ويمنعها في بعض ، والدين لا يتجزأ ، وتحكيم الشريعة لا يتجزأ ، فلابد من تطبيق الشريعة تطبيقا كاملًا ، ولا يطبق بعضها ويترك بعضها ، قال تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [ البقرة : 85 ]
$السؤال السابع عشر :
ما حكم من يقول بأن من قال : أن من ترك العمل الظاهر بالكلية بما يسمى عند بعض أهل العلم بجنس العمل إنه كافر ، إن هذا القول قالت به فرقة من فرق المرجئة ؟(22/20)
[ قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في الإيمان الأوسط ( 566 ) : هذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زاحت عنه الشبهة في هذا الباب ، واعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب – الصلاة – وامتنع عن الفعل لا يقتل أو يقتل مع إسلامه فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل . ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان وإن الأعمال ليست من الإيمان ، وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب ، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءً من الإيمان ]
الجواب :
هذا كما سبق أن العمل من الإيمان ، فمن تركه يكون تاركًا للإيمان ، سواء ترك العمل كله نهائيًا فلم يعمل شيئًا أبدًا ، أو أنه ترك بعض العمل لأنه لا يراه من الإيمان ولا يراه داخلًا في الإيمان فهذا يدخل في المرجئة . والعمل قد يزول الإيمان بزواله كترك الصلاة ومنه ما ينقص الإيمان بزواله كبقية الأعمال نقصًا كبيرًا أو نقصًا يسيرًا بحسب نوعية العمل .
$السؤال الثامن عشر :
هل تكفير السلف – رضوان الله عليهم – للجهمية على أنه كفر أكبر مخرج من الملة أم هو كفر دون كفر والمراد منه الزجر والتغليظ فقط ؟
الجواب :(22/21)
تكفير السلف للجهمية تكفير بالكفر الأكبر لأنهم جحدوا كلام الله عز وجل ، قالوا : كلام الله مخلوق وجحدوا أسماء الله وصفاته فهم معطلة مكذبون لما في القرآن وما في السنة من إثبات أسماء الله وصفاته وأيضًا يعتقدون بالحلول وأن الله تعالى حال في كل مكان تعالى الله عما يقولون . فمقالتهم تقتضي الكفر الأكبر ، فتكفير السلف لهم هو من التكفير بالكفر الأكبر ، إلا من كان جاهلًا مقلدًا اتبعهم وهو يظن أنهم على حق ولم يعرف مذهبهم ولم يعرف حقيقة قولهم فهذا يعذر بالجهل إلى أن يبين له .
$السؤال التاسع عشر :
هل إطلاقات السلف في تكفير أعيان الجهمية كتكفير الشافعي لحفص الفرد حين قال بخلق القرآن فقال له الشافعي : كفرت بالله العظيم ، كما نقل ذلك اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة
[ انظر : ( أصول اعتقاد أهل السنة : 1/252-253 ) ] وكتكفير الجهم بن صفوان وبشر المريسي والنظام وأبو الهزيل العلاف كما ذكر ذلك ابن بطة في الإبانة الصغرى [ انظر : ( الإبانة الصغرى : 224 ) ] يراد منه تكفير أعيان هؤلاء أم تكفير ألفاظهم لا أعيانهم ؟
الجواب :
من فعل الكفر أو نطق به وهو ليس ممن يعذر بالجهل فإنه يكفر بعينه فيحكم عليه بالكفر
$السؤال العشرين :
ترد بعض الاصطلاحات في كتب أهل السنة مثل الالتزام ، الإقناع ، كفر الإعراض ، فما معنى هذه المصطلحات ؟
الجواب :
الكفر أنواع : منه كفر الإعراض وكفر التكذيب وكفر الجحود . كل هذه أنواع من الكفر . الكفر ليس نوعًا واحدًا وإنما هو أنواع .
هذا والكفر ينقسم إلى كفر أكبر مخرج من الملة وكفر أصغر لا يخرج من الملة ، فلابد من دراسة هذه الأمور ومعرفتها بالتفصيل ، فالكفر ليس على حد سواء بل هو يختلف كما سبق .
$السؤال الحادي والعشرون :
ما معنى قول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – في الناقض الثالث من نواقض الإسلام : من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فهو من مثلهم ؟(22/22)
الجواب :
نعم هو كذلك ، لأنه رضي بما هم عليه ووافقهم على ما هم عليه فمن لم يكفرهم أو رضي بما هم عليه أو دافع دونهم فإنه يكون كافرًا مثلهم لأنه رضي بالكفر وأقره ولم ينكره .
$السؤال الثاني والعشرون :
ما حكم من يقول : ( أن الشخص الذي لم يكفر النصارى لعدم بلوغه آية سورة المائدة : { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } فإنه لا يكفر حتى يعلم بالآية ؟
الجواب :
ليس تكفير اليهود والنصارى قاصرًا على سورة المائدة ، بل تكفيرهم كثيرًا في القرآن ، وأيضا كفرهم ظاهر من أقوالهم وأفعالهم وما في كتبهم التي يتدارسونها مثل قولهم المسيح ابن الله ، أو قولهم إن الله ثالث ثلاثة ، وقولهم إن الله هو المسيح ابن مريم ، أو قول اليهود إن عزيرًا ابن الله ، أو إن الله فقير ونحن أغنياء ، أو يد الله مغلولة أو غير ذلك . وذلك موجود في كثير من آيات القرآن وفي كتبهم التي في أيديهم ، فكفرهم ظاهر في غير سورة المائدة .
$السؤال الثالث والعشرون :
ما الدليل على مشروعية شروط شهادة أن لا إله إلا الله ، مع العلم والانقياد والصدق والإخلاص والمحبة والقبول واليقين وما الحكم فيمن يقول ( تكفي شهادة أن لا إله إلا الله بمجرد قولها دون هذه الشروط ) ؟
الجواب :(22/23)
هذا إما أنه مضلل ، يريد تضليل الناس وإما أنه جاهل يقول ما لا يعلم فلا إله إلا الله ليست مجرد لفظ ، بل لابد لها من معنى ومقتضى ، ليست مجرد لفظ يقال باللسان ، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ) [ أخرجه مسلم – كتاب الإيمان – باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله : برقم : 23 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) [ أخرجه البخاري – كتاب الجمعة باب صلاة النوافل برقم : 1186 ] قيدها بهذه القيود ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) [ أخرجه البخاري – كتاب : الاعتصام بالكتاب والسنة باب : وأمرهم شورى بينهم ] إلا بحق لا إله إلا الله ، فلم يكتف بمجرد قولهم لا إله إلا الله إذا لم يلتزموا بحقها وهو العمل بمقتضاها ومعرفة معناها ، فليست لا إله إلا الله مجرد لفظ يقال باللسان ، ومن هذه الأدلة تؤخذ هذه الشروط التي ذكرها أهل العلم .
$السؤال الرابع والعشرون :(22/24)
نرجو تفسير قوله تعالى : { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} [ النحل : 106-109 ] [ قال شيخ الإسلام - رحمه الله – شارحًا هذه الآية : ( فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده في الآخرة ثم قال { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ } وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض وهؤلاء يقولون إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم وإن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة وبأنه ما له في الآخرة من خلاق وأيضًا فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره لأن الإكراه على ذلك ممتنع فعلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حالة الإكراه ، وقوله تعالى { وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي لاستحبابه الدنيا على الآخرة ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا ) [ أخرجه مسلم – كتاب الإيمان برقم : 118 ] والآية نزلت في عمار(22/25)
بن ياسر وبلال بن رباح – رضي الله عنهما – وأمثالهما من المؤمنين المستضعفين لما أكرههم المشركون على سب النبي ونحو ذلك من كلمات الكفر فمنهم من أجاب بلسانه كعمار ومنهم من صبر على المحنة كبلال ولم يكره أحد منهم على خلاف ما في قلبه بل أكرهوا على التكلم فمن تكلم بدون الإكراه لم يتكلم إلا وصدره منشرح به ) مجموع الفتاوى 7/560 وقال – رحمه الله - : ( فإن قيل فقد قال تعالى : { وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } قيل : وهذا موافق لأولها فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدرًا وإلا ناقض أول آخرها ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره وذلك يكون بلا إكراه لمن يستثن المكره فقط بل كان يجب أن يستثني المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعًا فقد شرح بها صدرًا وهي كفر وقد دل على ذلك قوله تعالى : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [ التوبة : 64-66 ] فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم : إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له بل كنا نخوض ونلعب وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر لا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام ) مجموع الفتاوى 7/220 . وقال ابن كثير – رحمه الله – شرحًا لهذه الآية : ( أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر وشرح صدره بالكفر واطمأن به أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه وأن لهم(22/26)
عذابًا عظيمًا في الدار الآخرة وأما قوله { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهًا لما ناله من ضرب وأذى وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله . ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل حتى أنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول : أحد أحد ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها رضي الله عنه وأرضاه . وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب أتشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقول نعم فيقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول لا أسمع فلم يزل يقطعه إربًا إربًا وهو ثابت على ذلك . والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله ) .
الجواب :(22/27)
هذه الآية تدل على أن من نطق بكلمة الكفر مكرهًا عليها وهو غير معتقد لها ، وإنما قالها ليتخلص بها من الإكراه أنه معذور . كما في قصة عمار بن ياسر – رضي الله عنه – لما أجبره المشركون على أن يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآذوه وأبوا أن يطلقوه حتى يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم بلسانه بما يريدون ، وجاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كيف تجد قلبك ؟ قال : أجد في قلبي الإيمان بالله ورسوله ، فأنزل الله تعالى { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [ النحل : 106-107 ] فإذا قال الإنسان كلمة الكفر مكرهًا عليها يريد التخلص من الإكراه فقط ولم يوافق بقلبه فإنه رخصة رخص الله فيها للمكره ، وهذه خاصة بالمكره دون غيره . وكذلك في قوله : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [ آل عمران : 28 ] أي من الكفار ، فهذا في الإكراه ، وأما في غير الإكراه فلا يجوز موافقتهم ولا إعطاؤهم ما يطلبون من كلام الكفر أو من فعل الكفر .
$السؤال الخامس والعشرون :
ما حكم موالاة الكفار والمشركين ؟ ومتى تكون هذه الموالاة كفرًا أكبرًا مخرجًا عن الملة ؟ ومتى تكون ذنبًا وكبيرة من كبائر الذنوب ؟ [ انظر الدرر السنية 8/422 ]
الجواب :(22/28)
الله جل وعلا يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [ المائدة : 51 ] وقوله سبحانه : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } [ المجادلة : 22 ] [ التعليق على قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء. . . } قال سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الدرر السنية 8/128 : ( نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وأخبر أن من تولاهم من المؤمنين فهو منهم وهكذا حكم من تولى الكفار من المجوس وعباد الأوثان فهو منهم . فإن جادل مجادل في أن عبادة القباب ودعاء الأموات مع الله ليس بشرك ، وأن أهلها ليسوا بمشركين بان أمره واتضح عناده وكفره ولم يفرق تعالى بين الخائف وغيره ) . التعليق على قوله تعالى : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . } قال سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الدرر السنية 8/140 : ( أخبر تعالى أنك لا تجد من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب وأن هذا مناف للإيمان مضاد له لا يجتمع هو والإيمان إلا كما يجتمع الماء والنار ) ] فيجب معادة الكفار وبغضهم وعدم مناصرتهم على المسلمين وقطع المودة لهم ، كل هذا يجب على المسلم أن يقاطعهم فيه وأن يبتعد عنهم ولا يحبهم ولا يناصرهم على المسلمين ولا يدافع عنهم ولا يصحح مذهبهم ، بل يصرح بكفرهم وينادي بكفرهم وضلالهم ويحذر(22/29)
منهم . ولا أعرف تفصيلًا في ذلك كما جاء في السؤال .
$السؤال السادس والعشرون ؟
يشاع أنك غير موافق على بيان اللجنة الدائمة حول كتاب الحكم بغير ما أنزل الله لخالد العنبري ؟ ويقال أيضًا لماذا يظهر البيان في هذا الوقت مع أن الكتاب طبع قبل سنتين ؟ ويقال أيضًا أن هذا البيان يشجع أهل التكفير ؟ فما قولكم ؟
الجواب :
أنا موقع على البيان بعدما قرأته ووافقت عليه ، أما لماذ لم يظهر البيان إلا في هذا الوقت فإن الكتاب لم يعرض إلا في الأيام التي كتبت فيها الفتوى ، أما كون البيان يشجع على التكفيريين فنحن نبين الحق ، لاسيما لما طلب منا بيانه فإنه لا يجوز الكتمان لئلا ندخل تحت وعيد من سئل عن علم فكتمه
$السؤال السابع والعشرون :
ما هي نصيحتكم لطلبة العلم لمن أراد ضبط مسائل التوحيد والشرك ومسائل الإيمان والكفر ؟ وما هي الكتب التي تكلمت عن هذه المسائل وفصلتها ؟ جزاكم الله خيرًا . وحفظكم الله .
الجواب :
هذا أشرنا إليه في مطلع الأجوبة بأن المعتمد في هذا كتب السلف الصالح . فعليه أن يراجع كتب سلف هذه الأمة من الأئمة الأربعة وما عليه الصحابة والتابعون وأتباعهم والقرون المفضلة ومن جاء بعدهم ، وهذا موجود في كتبهم – ولله الحمد – في كتب الإيمان وكتب العقيدة وكتب التوحيد المتدوالة المعروفة عن الأئمة الكبار – رحمهم الله – مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وكتب الإمام ابن القيم وكتب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، ومثل كتاب الشريعة للآجري ، والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد ، والسنة للخلال ، وشرح أصول أهل السنة لللالكائي ، كلها موجودة ومطبوعة ، ومثل كتاب العقيدة الطحاوية مع شرح العز بن أبي العز ومقدمة القيرواني لرسالته المعروفة ، كل هذه من كتب أهل السنة ومن العقائد الصحيحة الموروثة عن السلف الصالح فليراجعها المسلم(22/30)
ولكن كما ذكرنا لا يكفي الاقتصار على الكتب ، وأخذ العلم عنها بدون معلم وبدون مدرس ، بل لابد من اللقاء مع العلماء ولابد من الجلوس في حلقات التدريس ، إما في الفصول الدراسية وإما في حلق العلم في المساجد ومجالس العلم ، فلابد من تلقي العلم عن أهله سواء في العقيدة أو في غير العقيدة ولكن العقيدة أشد لأنها هي الأساس ولأن الغلط فيها والخطأ فيها ليس كالخطأ والغلط في غيرها .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .(22/31)
كتب الفقه(/)
المجلد الأول(/)
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين , وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد : فهذا ملخص في الفقه , مقرون بأدلته من الكتاب والسنة , كنت ألقيته في الإذاعة على حلقات , وقد تكرر الطلب ممن سمعوه , وألحوا علي بطباعته ; ليبقى الانتفاع به إن شاء الله , وما كنت أنوي ذلك حال إعداده , ولكن نزولا عند رغبة الكثير ; أعدت النظر فيه , ورتبته , وقدمته للطباعة . وها هو بين يديك أيها القارئ الكريم ; فما وجدت فيه من صواب وفائدة ; فالفضل فيه راجع إلى الله وحده , وما وجدت فيه من خطأ ; فهو مني , واستغفر الله . وقد لخصته من كتاب " شرح الزاد - الروض المربع " , ومن حاشيته للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم , مع بعض التنبيهات مني إذا مرت مناسبة .
هذا ; وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعا للعلم النافع والعمل الصالح . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
فضل التفقه في الدين
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد : فإن التفقه في الدين من أفضل الأعمال , وهو علامة الخير : قال صلى الله عليه وسلم : من يرد الله به خيرا ; يفقه في الدين وذلك لأن التفقه في الدين يحصل به العلم النافع الذي يقوم عليه العمل الصالح .
قال الله تعالى : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فالهدى هو العلم النافع , ودين الحق هو العمل الصالح .(23/1)
وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله الزيادة من العلم : قال تعالى : وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا قال الحافظ ابن حجر : " وهذا واضح الدلالة في فضل العلم ; لأن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء ; إلا من العلم , وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المجالس التي يتعلم فيها العلم النافع ب ( رياض الجنة ) , وأخبر أن العلماء هم ورثة الأنبياء .
ولا شك أن الإنسان قبل أن يقدم على أداء عمل ما , لا بد أن يعرف الطريقة التي يؤدي بها ذلك العمل على وجهه الصحيح , حتى يكون هذا العمل صحيحا , مؤديا لنتيجته التي ترجى من ورائه ; فكيف يقدم الإنسان على عبادة ربه التي تتوقف عليها نجاته من النار ودخوله الجنة : كيف يقدم على ذلك بدون علم ؟ ! ومن ثم افترق الناس بالنسبة للعلم والعمل ثلاث فرق :
الفريق الأول : الذين جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح , وهؤلاء قد هداهم الله صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين , وحسن أولئك رفيقا .
الفريق الثاني : الذين تعلموا العلم النافع ولم يعملوا به , وهؤلاء هم المغضوب عليهم من اليهود ومن نحا نحوهم .
الفريق الثالث : الذين يعملون بلا علم , وهؤلاء هم أهل الضلال من النصارى ومن نحا نحوهم .
ويشمل هذه الفرق الثلاث قوله تعالى في سورة الفاتحة التي نقرؤها في كل ركعة من صلواتنا : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : وأما قوله تعالى : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فالمغضوب عليهم هم العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم , والضالون العاملون بلا علم :
فالأول: صفة اليهود
والثاني: صفة النصارى(23/2)
وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم وأن النصارى ضالون ; ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم , وهو يقرأ أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء , ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات ! ! فيا سبحان الله ! كيف يعلمه الله ويختار له ويفرض عليه أن يدعو ربه دائما ; مع أنه لا حذر عليه منه , ولا يتصور أن فعله هذا هو ظن السوء بالله ؟ ! انتهى كلام الشيخ رحمه الله .
وهو يبين لنا الحكمة في فريضة قراءة هذه السورة العظيمة - سورة الفاتحة - في كل ركعة من صلاتنا ; فرضها , ونفلها ; لما تشتمل عليه من الأسرار العظيمة , التي من جملتها هذا الدعاء العظيم : أن يوفقنا الله لسلوك طريق أصحاب العلم النافع والعمل الصالح , الذي هو طريق النجاة في الدنيا والآخرة , وأن يجنبنا طريق الهالكين , الذين فرطوا بالعمل الصالح أو بالعلم النافع .
ثم اعلم أيها القارئ الكريم أن العلم النافع إنما يستمد من الكتاب والسنة تفهما وتدبرا , مع الاستعانة على ذلك بالمدرسين الناصحين وكتب التفسير وشروح الحديث وكتب الفقه وكتب النحو واللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم , فإن هذه الكتب طريق لفهم الكتاب والسنة .
فواجب عليك يا أخي المسلم - ليكون عملك صحيحا - أن تتعلم ما يستقيم به دينك ; من صلاتك وصومك وحجك , وتتعلم أحكام زكاة مالك , وكذلك تتعلم من أحكام المعاملات ما تحتاج إليه ; لتأخذ منها ما أباح الله لك ; وتتجنب منها ما حرم الله عليك ; ليكون كسبك حلالا , وطعامك حلالا ; لتكون مجاب الدعوة , كل ذلك مما تمس حاجتك إلى تعلمه , وهو ميسور بإذن الله متى ما صحت عزيمتك وصلحت نيتك .(23/3)
فاحرص على قراءة الكتب النافعة , واتصل بالعلماء ; لتسألهم عما أشكل عليك , وتتلقى عنهم أحكام دينك , وكذلك تعني بحضور الندوات والمحاضرات الدينية التي تقام في المساجد وغيرها , وتستمع إلى البرامج الدينية من الإذاعة , وتقرأ المجلات الدينية والنشرات التي تعني بمسائل الدين , فإذا حرصت وتتبعت هذه الروافد الخيرية ; نمت معلوماتك , واستنارت بصيرتك .
ولا تنس يا أخي أن العلم ينمو ويزكو مع العمل فإذا عملت بما علمت ; زادك الله علما ; كما تقول الحكمة المأثورة : " من عمل بما علم ; أورثه الله علم ما لم يعلم " , ويشهد لذلك قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ والعلم أحق ما تصرف فيه الأوقات , ويتنافس في نيله ذوو العقول , فبه تحيا القلوب وتزكو الأعمال .
ولقد أثنى الله جل ذكره وتقدست أسماؤه على العلماء العاملين , ورفع من شأنهم في كتابه المبين قال تعالى : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ وقال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فبين سبحانه وتعالى ميزة الذين أوتوا العلم المقرون بالإيمان , ثم أخبر أنه خبير بما نعمله , ومطلع عليه ; ليدلنا على أنه لا بد من العلم والعمل معا , وأن يكون كل ذلك صادرا عن الإيمان ومراقبة الله سبحانه .
ونحن عملا بواجب التعاون على البر والتقوى سنقدم لك بحول الله من خلال هذا الكتاب بعض المعلومات من الرصيد الفقهي الذي استنبطه لنا علماؤنا ودونوه في كتبهم , سنقدم لك ما تيسر من ذلك , لعله يكون دافعا لك على الاستفادة والاستزادة من العلم النافع .(23/4)
ونسأل الله أن يمدنا وإياك بالعلم النافع , ويوفقنا للعمل الصالح , ونسأله سبحانه أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه , ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه , إنه سميع مجيب .(23/5)
كتاب الطهارة
باب في أحكام الطهارة والمياه
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين , وهي الفارقة بين المسلم والكافر , وهي عمود الإسلام , وأول ما يحاسب عنه العبد , فإن صحت وقبلت ; قبل سائر عمله . وإن ردت ; رد سائر عمله .
وقد ذكرت الصلاة في مواطن كثيرة من القرآن الكريم على صفات متنوعة ; فتارة يأمر الله بإقامتها , وتارة يبين مزيتها , وتارة يبين ثوابها , وتارة يقرنها مع الصبر ويأمر بالاستعانة بهما على الشدائد . ومن ثم كانت قرة عين الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا ; فهي حلية النبيين , وشعار الصالحين , وهي صلة بين العبد وبين رب العالمين , وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر .
ولما كانت هذه الصلاة لا تصح إلا بطهارة المصلي من الحدث والنجس حسب القدرة على ذلك , وكانت مادة التطهر هي الماء أو ما يقوم مقامه من التيمم عند عدم الماء ; صار الفقهاء رحمهم الله يبدءون بكتاب الطهارة ; لأنها لما قدمت الصلاة بعد الشهادتين على غيرها من بقية أركان الإسلام ; ناسب تقديم مقدماتها , ومنها الطهارة , فهي مفتاح الصلاة ; كما في الحديث : مفتاح الصلاة الطهور وذلك لأن الحدث يمنع الصلاة ; فهو كالقفل يوضع على المحدث , فإذا توضأ ; انحل القفل . فالطهارة أوكد شروط الصلاة , والشرط لا بد أن يقدم على المشروط .
ومعنى الطهارة لغة : النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسية والمعنوية , ومعناها شرعا : ارتفاع الحدث وزوال النجس . وارتفاع الحدث يحصل باستعمال الماء مع النية : في جميع البدن إن كان حدثا أكبر , أو في الأعضاء الأربعة إن كان حدثا أصغر , أو استعمال ما ينوب عن الماء عند عدمه أو العجز عن استعماله - وهو التراب - على صفة مخصوصة , وسيأتي إن شاء الله بيان لصفة التطهر من الحدثين .(24/1)
وغرضنا الآن بيان صفة الماء الذي يحصل به التطهر والماء الذي لا يحصل به ذلك . قال الله تعالى : وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا وقال تعالى : وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ والطهور هو الطاهر في ذاته المطهر لغيره , وهو الباقي على خلقته - أي : صفته التي خلق عليها - , سواء كان نازلا من السماء كالمطر وذوب الثلوج والبرد , أو جاريا في الأرض كماء الأنهار والعيون والآبار والبحار , أو كان مقطرا . فهذا هو الذي يصح التطهر به من الحدث والنجاسة , فإن تغير بنجاسة ; لم يجز التطهر به ; من غير خلاف , وإن تغير بشيء طاهر لم يغلب عليه ; فالصحيح من قولي العلماء صحة التطهر به أيضا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " أما مسألة تغير الماء اليسير أو الكثير بالطاهرات ; كالأشنان , والصابون , والسدر , والخطمي , والتراب , والعجين . .. وغير ذلك مما قد يغير الماء , مثل الإناء إذا كان فيه أثر سدر أو خطمي , ووضع فيه ماء , فتغير به , مع بقاء اسم الماء ; فهذا فيه قولان معروفان للعلماء " .
ثم ذكرها مع بيان وجه كل قول , ورجح القول بصحة التطهر به , وقال : " هو الصواب ; لأن الله سبحانه وتعالى قال : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ وقوله : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً نكرة في سياق النفي , فيعم كل ما هو ماء , لا فرق في ذلك بين نوع ونوع " انتهى .(24/2)
فإذا عدم الماء , أو عجز عن استعماله مع وجوده ; فإن الله قد جعل بدله التراب , على صفة لاستعماله بينها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته , وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله في بابه . وهذا من لطف الله بعباده , ورفع الحرج عنهم , قال تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا
قال ابن هبيرة : " وأجمعوا على أن الطهارة بالماء تجب على كل من لزمته الصلاة مع وجوده , فإن عدمه ; فبدله , لقوله تعالى : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ولقوله تعالى : وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ انتهى .
وهذا مما يدل على عظمة هذا الإسلام , الذي هو دين الطهارة والنزاهة الحسية والمعنوية , كما يدل ذلك على عظمة هذه الصلاة , حيث لم يصح الدخول فيها بدون الطهارتين : الطهارة المعنوية من الشرك , وذلك بالتوحيد وإخلاص العبادة لله , والطهارة الحسية من الحدث والنجاسة , وذلك يكون بالماء أو ما يقوم مقامه .
واعلم أن الماء إذا كان باقيا على خلقته , لم تخالطه مادة أخرى ; فهو طهور بالإجماع , وإن تغير أحد أوصافه الثلاثة - ريحه أو طعمه أو لونه - بنجاسة ; فهو نجس بالإجماع , لا يجوز استعماله , وإن تغير أحد أوصافه بمخالطة مادة طاهرة - كأوراق الأشجار أو الصابون أو الإشنان والسدر أو غير ذلك من المواد الطاهرة - , ولم يغلب ذلك المخالط عليه ; فلبعض العلماء في ذلك تفاصيل وخلاف , والصحيح أنه طهور , يجوز التطهر به من الحدث , والتطهر به من النجس .
فعلى هذا ; يصح لنا أن نقول : إن الماء ينقسم إلى قسمين(24/3)
القسم الأول : طهور يصح التطهر به , سواء كان باقيا على خلقته , أو خالطته مادة طاهرة لم تغلب عليه ولم تسلبه اسمه .
القسم الثاني : نجسه لا يجوز استعماله ; فلا يرفع الحدث , ولا يزيل النجاسة , وهو مما تغير بالنجاسة . ...
والله تعالى أعلم .
باب
في أحكام الآنية وثياب الكفار
الآنية هي الأوعية التي يحفظ فيها الماء وغيره , سواء كانت من الحديد أو الخشب أو الجلود أو غير ذلك .
والأصل فيها الإباحة , فيباح استعمال واتخاذ كل إناء طاهر , ما عدا نوعين هما :
1: إناء الذهب والفضة , والإناء الذي فيه ذهب أو فضة , طلاء أو تمويها أو غير ذلك من أنواع جعل الذهب والفضة في الإناء , ما عدا الضبة اليسيرة من الفضة تجعل في الإناء للحاجة إلى إصلاحه . ودليل تحريم إناء الذهب والفضة قوله صلى الله عليه وسلم : لا تشربوا في آنية الذهب والفضة , ولا تأكلوا في صحافهما ; فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة رواه الجماعة , وقوله صلى الله عليه وسلم : الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم متفق عليه , والنهي عن الشيء يتناوله خالصا أو مجزءا , فيحرم الإناء المطلي أو المموه بالذهب أو الفضة أو الذي فيه شيء من الذهب والفضة , ما عدا الضبة اليسيرة من الفضة كما سبق ; بدليل حديث أنس رضي الله عنه : أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر , فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة رواه البخاري .
قال النووي رحمه الله : " انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب فيها , وجميع أنواع الاستعمال في معنى الأكل والشرب بالإجماع " . انتهى .
وتحريم الاستعمال والاتخاذ يشمل الذكور والإناث ; لعموم الأخبار , وعدم المخصص , وإنما أبيح التحلي للنساء لحاجتهن إلى التزين للزوج .
وتباح آنية الكفار التي يستعملونها ما لم تعلم نجاستها , فإن علمت نجاستها ; فإنها تغسل وتستعمل بعد ذلك .(24/4)
2: جلود الميتة يحرم استعمالها ; إلا إذا دبغت ; فقد اختلف العلماء في جواز استعمالها بعد الدبغ , والصحيح الجواز , وهو قول الجمهور ; لورود الأحاديث الصحيحة بجواز استعماله بعد الدبغ , ولأن نجاسته طارئة , فتزول بالدبغ ; كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : يطهره الماء والقرظ وقوله صلى الله عليه وسلم : دباغ الأديم طهوره
وتباح ثياب الكفار إذا لم تعلم نجاستها ; لأن الأصل الطهارة ; فلا تزول بالشك , ويباح ما نسجوه أو صبغوه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يلبسون ما نسجه الكفار وصبغوه . والله تعالى أعلم .
باب
فيما يحرم على المحدث مزاولته من الأعمال
هناك بعض من الأعمال التي يحرم على المسلم إذا لم يكن على طهارة أن يزاولها لشرفها ومكانتها , وهذه الأعمال نبينها لك بأدلتها ; لتكون منك على بال ; فلا تقدم على واحد منها إلا بعد التهيؤ له بالطهارة المطلوبة .
اعلم يا أخي أن هناك أشياء تحرم على المحدث , سواء كان حدثه أكبر أو أصغر , وهناك أشياء يختص تحريمها بمن هو محدث حدثا أكبر . فالأشياء التي تحرم على المحدث أي الحدثين :
1 - مس المصحف الشريف ; فلا يمسه المحدث بدون حائل ; لقوله تعالى : لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ أي : المتطهرون من الحدث جنابة أو غيرها , على القول بأن المراد بهم المطهرون من البشر , وهناك من يرى أن المراد بهم الملائكة الكرام . وحتى لو فسرت الآية بأن المراد بهم الملائكة ; فإن ذلك يتناول البشر بدلالة الإشارة , وكما ورد في الكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ; قوله : لا يمس المصحف إلا طاهر رواه النسائي وغيره متصلا .
قال ابن عبد البر : " إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول " . قال شيخ الإسلام عن منع مس المصحف لغير المتطهر : " هو مذهب الأئمة الأربعة " .(24/5)
وقال ابن هبيرة في " الإفصاح " : " أجمعوا ( يعني : الأئمة الأربعة ) أنه لا يجوز للمحدث مس المصحف " انتهى .
ولا بأس أن يحمل غير المتطهر المصحف في غلاف أو كيس من غير أن يمسه , وكذلك لا بأس أن ينظر فيه ويتصفحه من غير مس .
2 - ويحرم على المحدث الصلاة فرضا أو نفلا وهذا بإجماع أهل العلم , إذا استطاع الطهارة ; لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا الآية , وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يقبل الله صلاة بغير طهورا رواه مسلم وغيره , وحديث : لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ فلا يجوز له أن يصلي من غير طهارة مع القدرة عليها , ولا تصح صلاته , سواء كان جاهلا أو عالما , ناسيا أو عامدا , لكن العالم العامد إذا صلى من غير طهارة ; يأثم ويعزر , وإن كان جاهلا أو ناسيا ; فإنه لا يأثم , لكن ; لا تصح صلاته .
3 - يحرم على المحدث الطواف بالبيت العتيق لقوله صلى الله عليه وسلم : الطواف بالبيت صلاة ; إلا أن الله أباح فيه الكلام وقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم للطواف , وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر , كل ذلك مما يدل على تحريم الطواف على المحدث حتى يتطهر .
ومما يدل على تحريمه على المحدث حدثا أكبر قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا أي : لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا ماري طريق ; فمنعه من دخول المسجد للبقاء فيه يقتضي منعه من الطواف من باب أولى . وهذه الأعمال تحرم على المحدث سواء كان حدثه أكبر أو أصغر .(24/6)
وأما الأشياء التي تحرم على المحدث حدثا أكبر خاصة فهي :
1 - يحرم على المحدث حدثا أكبر قراءة القرآن , لحديث علي رضي الله عنه : لا يحجبه ( يعني : النبي صلى الله عليه وسلم ) عن القرآن شيء , ليس الجنابة رواه الترمذي وغيره , ولفظ الترمذي : " يقرئنا القرآن ما لم يكن جنبا " ; فهذا يدل على تحريم قراءة القرآن على الجنب وبمعناه الحائض والنفساء , ولكن رخص بعض العلماء - كشيخ الإسلام - للحائض أن تقرأ القرآن إذا خشيت نسيانه .
ولا بأس أن يتكلم المحدث بما وافق القرآن إن لم يقصد القرآن بل على وجه الذكر ; مثل : بسم الله الرحمن الرحيم , والحمد لله رب العالمين , لحديث عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه
2 - ويحرم على المحدث حدثا أكبر من جنابة أو حيض أو نفاس اللبث في المسجد بغير وضوء , لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا أي : لا تدخلوا المسجد للبقاء فيه , ولقوله صلى الله عليه وسلم : لا أحل المسجد لحائض ولا جنب رواه أبو داود من حديث عائشة , وصححه ابن خزيمة .
فإذا توضأ من عليه حدث أكبر ; جاز له اللبث في المسجد ; لقول عطاء : رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة والحكمة من هذا الوضوء تخفيف الجنابة .(24/7)
وكذلك يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمر بالمسجد لمجرد العبور منه من غير جلوس فيه ; لقوله تعالى : إلا عابري سبيل أي : متجاوزين فيه للخروج منه , والاستثناء من النهي إباحة , فيكون ذلك مخصصا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : لا أحل المسجد لحائض ولا جنب وكذلك مصلى العيد لا يلبث فيه من عليه حدث أكبر بغير وضوء , ويجوز له المرور منه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وليعتزل الحيض المصلى
باب
في آداب قضاء الحاجة
اعلم وفقني الله وإياك وجميع المسلمين أن ديننا كامل متكامل , ما ترك شيئا مما يحتاجه الناس في دينهم ودنياهم ; إلا بينه , ومن ذلك آداب قضاء الحاجة ; ليتميز الإنسان الذي كرمه الله عن الحيوان بما كرمه الله به ; فديننا دين النظافة ودين الطهر ; فهناك آداب شرعية تفعل عند دخول الخلاء وحال قضاء الحاجة .
فإذا أراد المسلم دخول الخلاء - وهو المحل المعد لقضاء الحاجة - ; فإنه يستحب له أن يقول : بسم الله , أعوذ بالله من الخبث والخبائث . ويقدم رجله اليسرى حال الدخول , وعند الخروج يقدم رجله اليمنى , ويقول : غفرانك , الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني . وذلك لأن اليمنى تستعمل فيما من شأنه التكريم والتجميل , واليسرى تستعمل فيما من شأنه إزالة الأذى ونحوه .
وإذا أراد أن يقضي حاجته في فضاء - أي : في غير محل معد لقضاء الحاجة - ; فإنه يستحب له أن يبعد عن الناس ; بحيث يكون في مكان خال , ويستتر عن الأنظار بحائط أو شجرة أو غير ذلك , ويحرم أن يستقبل القبلة أو يستدبرها حال قضاء الحاجة , بل ينحرف عنها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة , وعليه أن يتحرز من رشاش البول أن يصيب بدنه أو ثوبه , فيرتاد لبوله مكانا رخوا , حتى لا يتطاير عليه شيء منه .(24/8)
ولا يجوز له أن يمس فرجه بيمينه , وكذلك لا يجوز له أن يقضي حاجته في طريق الناس , أو في ظلهم , أو موارد مياههم ; لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ; لما فيه من الإضرار بالناس وأذيتهم .
ولا يدخل موضع الخلاء بشيء فيه ذكر الله عز وجل أو فيه قرآن , فإن خاف على ما معه مما فيه ذكر الله ; جاز له الدخول به , ويغطيه . ولا ينبغي له أن يتكلم حال قضاء الحاجة ; فقد ورد في الحديث أن الله يمقت على ذلك , ويحرم عليه قراءة القرآن .
فإذا فرغ من قضاء الحاجة ; فإنه ينظف المخرج بالاستنجاء بالماء أو الاستجمار بالأحجار أو ما يقوم مقامها , وإن جمع بينهما ; فهو أفضل , وإن اقتصر على أحدهما ; كفى .
والاستجمار يكون بالأحجار أو ما يقوم مقامها من الورق الخشن والخرق ونحوها مما ينقى المخرج وينشفه , ويشترط ثلاث مسحات منقية فأكثر إذا أراد الزيادة .
ولا يجوز الاستجمار بالعظام ورجيع الدواب - أي : روثها - ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك , وعليه أن يزيل أثر الخارج وينشفه ; لئلا يبقى شيء من النجاسة على جسده , ولئلا تنتقل النجاسة إلى مكان آخر من جسده أو ثيابه .
قال بعض الفقهاء : إن الاستنجاء أو الاستجمار شرط من شروط صحة الوضوء لا بد أن يسبقه , فلو توضأ قبله ; لم يصح وضوؤه , لحديث المقداد المتفق عليه : يغسل ذكره , ثم يتوضأ
قال النووي : والسنة أن يستنجي قبل الوضوء , ليخرج من الخلاف , ويأمن انتقاض طهره .
أيها المسلم ! احرص على التنزه من البول ; فإن عدم التنزه منه من موجبات عذاب القبر ; فعن أبي هريرة رضي الله عنه , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استنزهوا من البول ; فإن عامة عذاب القبر منه رواه الدارقطني , قال الحافظ : " صحيح الإسناد , وله شواهد , وأصله في " الصحيحين " .
أيها المسلم ! إن كمال الطهارة يسهل القيام بالعبادة , ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها .(24/9)
روى الإمام أحمد رحمه الله عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح , فقرأ الروم فيها , فأوهم , فلما انصرف ; قال : إنه يلبس علينا القرآن , إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء , فمن شهد الصلاة معنا ; فليحسن الوضوء وقد أثنى الله على أهل مسجد قباء بقوله : فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ولما سئلوا عن صفة هذا التطهر ; قالوا : إنا نتبع الحجارة الماء رواه البزار .
وهنا أمر يجب التنبيه عليه , وهو أن بعض العوام يظن أن الاستنجاء من الوضوء , فإذا أراد أن يتوضأ ; بدأ بالاستنجاء , ولو كان قد استنجى سابقا بعد قضاء الحاجة , وهذا خطأ ; لأن الاستنجاء ليس من الوضوء , وإنما هو من شروطه ; كما سبق , ومحله بعد الفراغ من قضاء الحاجة , ولا داعي لتكراره من غير وجود موجبه - وهو قضاء الحاجة وتلوث المخرج بالنجاسة .
أيها المسلم ! هذا ديننا دين الطهارة والنظافة والنزاهة , أتى بأحسن الآداب وأكرم الأخلاق , استوعب كل ما يحتاجه المسلم , وكل ما يصلحه , ولم يغفل شيئا فيه مصلحة لنا ; فلله الحمد والمنة , ونسأله الثبات على هذا الدين , والتبصر في أحكامه , والعمل بشرائعه , مع الإخلاص لله في ذلك , حتى يكون عملنا صحيحا مقبولا .
باب في السواك وخصال الفطرة
روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ; أن النبي صلى الله عليه وسلم ; قال : السواك مطهرة للفم مرضاة للرب رواه أحمد وغيره .
وثبت في " الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه ; قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خمس من الفطرة : الاستحداد , والختان , وقص الشارب , ونتف الإبط , وتقليم الأظافر
وفي " الصحيحين " أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى من هذه الأحاديث وما جاء بمعناها أخذ الفقهاء الأحكام التالية :(24/10)
مشروعية السواك , وهو استعمال عود أو نحوه في الأسنان واللثة , ليذهب ما علق بهما من صفرة ورائحة . وقد ورد أنه من سنن المرسلين ; فأول من استاك إبراهيم عليه الصلاة والسلام , وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مطهرة للفم ; أي : منظف له مما يستكره , وأنه مرضاة للرب ; أي : يرضي الرب تبارك وتعالى , وقد ورد في بيانه والحث عليه أكثر من مائة حديث , مما يدل على أنه سنة مؤكدة , حث الشارع عليه , ورغب فيه , وله فوائد عظيمة , من أعظمها وأجمعها ما أشار إليه في هذا الحديث : أنه مطهرة للفم مرضاة للرب . ويكون التسوك بعود لين من أراك أو زيتون أو عرجون أو غيرها مما لا يتفتت ولا يجرح الفم .
ويسن السواك في جميع الأوقات , حتى للصائم في جميع اليوم , على الصحيح , ويتأكد في أوقات مخصوصة ; فيتأكد عند الوضوء ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لولا أن أشق على أمتي ; لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء فالحديث يدل على تأكد استحباب السواك عند الوضوء ويكون ذلك حال المضمضة ; لأن ذلك أبلغ في الإنقاء وتنظيف الفم , ويتأكد السواك أيضا عند الصلاة فرضا أو نفلا ; لأننا مأمورون عند التقرب إلى الله أن نكون في حال كمال ونظافة ; إظهارا لشرف العبادة , ويتأكد السواك أيضا عند الانتباه من نوم الليل أو نوم النهار ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل ; يشوص فاه بالسواك , والشوص : الدلك , وذلك لأن النوم تتغير معه رائحة الفم ; لتصاعد أبخرة المعدة , والسواك في هذه الحالة ينظف الفم من آثارها , ويتأكد السواك أيضا عند تغير رائحة الفم بأكل أو غيره , ويتأكد أيضا عند قراءة قرآن ; لتنظيف الفم وتطييبه لتلاوة كلام الله عز وجل .
وصفة التسوك أن يمر المسواك على لثته وأسنانه ; فيبتدئ من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر , ويمسك المسواك بيده اليسرى .(24/11)
ومن المزايا التي جاء بها ديننا الحنيف خصال الفطرة التي مر ذكرها في الحديث , وسميت خصال الفطرة ; لأن فاعلها يتصف بالفطرة التي فطر الله عليها العباد , وحثهم عليها , واستحبها لهم ; ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها , وليكونوا على أجمل هيئة وأحسن خلقة , وهي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع , وهذه الخصال هي :
1 - الاستحداد : وهو حلق العانة , وهي الشعر النابت حول الفرج , سمي استحدادا ; لاستعمال الحديدة فيه , وهي الموسى , وفي إزالته تجميل ونظافة ; فيزيله بما شاء من حلق أو غيره .
2- الختان : وهو إزالة الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تبرز الحشفة , ويكون زمن الصغر ; لأنه أسرع برأ , ولينشأ الصغير على أكمل الأحوال . ومن الحكمة في الختان تطهير الذكر من النجاسة المتحقنة في القلفة وغير ذلك من الفوائد .
3- قص الشارب وإحفاؤه وهو المبالغة في قصه ; لما في ذلك من التجميل والنظافة ومخالفة الكفار . وقد وردت الأحاديث في الحث على قصه وإحفائه وإعفاء اللحية وإرسالها وإكرامها ; لما في بقاء اللحية من الجمال ومظهر الرجولة , وقد عكس كثير من الناس الأمر ; فصاروا يوفرون شواربهم ويحلقون لحاهم أو يقصونها أو يحاصرونها في نطاق ضيق ; إمعانا في المخالفة للهدي النبوي , وتقليدا لأعداء الله ورسوله , ونزولا عن سمات الرجولة والشهامة إلى سمات النساء والسفلة , حتى صدق عليهم قول الشاعر :
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وقول الآخر :
ولا عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجيب
4- ومن خصال الفطرة : تقليم الأظافر , وهو قطعها ; بحيث لا تترك تطول ; لما في ذلك من التجميل وإزالة الوسخ المتراكم تحتها , والبعد عن مشابهة السباع البهيمية , وقد خالف هذه الفطرة النبوية طوائف من الشباب المتخنفس والنساء الهمجيات ; فصاروا يطيلون أظافرهم ; مخالفة للهدي النبوي , وإمعانا في التقليد الأعلى .(24/12)
5- ومن خصال الفطرة : نتف الإبط - أي : إزالة الشعر النابت في الإبط - , فيسن إزالة هذا الشعر بالنتف أو الحلق أو غير ذلك , لما في إزالة هذا الشعر من النظافة وقطع الرائحة الكريهة التي تتضاعف مع وجود هذا الشعر .
أيها المسلم ! هكذا جاء ديننا بتشريع هذه الخصال ; لما فيها من التجمل والتنظف والتطهر ; ليكون المسلم على أحسن حال وأجمل مظهر ; مخالفا بذلك هدي المشركين , ولما في بعضها من تمييز بين الرجال والنساء ; ليبقى لكل منهما شخصيته المناسبة لوظيفته في الحياة , لكن ; أبى كثير من المخدوعين , الذين يظلمون أنفسهم , فأبوا إلا مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم , واستيراد التقاليد التي لا تتناسب مع ديننا وشخصيتنا الإسلامية , واتخذوا من سفلة الغرب أو الشرق قدوة لهم في شخصيتهم ; فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير , بل استبدلوا الخبيث بالطيب , والكمال بالنقص ; فجنوا على أنفسهم وعلى مجتمعهم , وجاءوا بسنة سيئة , باءوا بإثمها وإثم من عمل بها تبعا لهم , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
اللهم وفق المسلمين لإصلاح أعمالهم وأقوالهم , وارزقهم الإخلاص لوجهك الكريم , والتمسك بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم .
باب
في أحكام الوضوء
يقول الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ الآية ; فهذه الآية الكريمة أوجبت الوضوء للصلاة , وبينت الأعضاء التي يجب غسلها أو مسحها في الوضوء , وحددت مواقع الوضوء منها , ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة الوضوء بقوله وبفعله بيانا كافيا .(24/13)
اعلم أيها المسلم ! أن للوضوء شروطا وفروضا وسننا , فالشروط والفروض لا بد منها حسب الإمكان ; ليكون الوضوء صحيحا , وأما السنن ; فهي مكملات الوضوء , وفيها زيادة أجر , وتركها لا يمنع صحة الوضوء :
فالشروط هي :
- الإسلام , والعقل , والتمييز , والنية ; فلا يصح الوضوء من كافر , ولا من مجنون , ولا من صغير لا يميزه , ولا ممن لم ينو الوضوء ; بأن نوى تبردا , أو غسل أعضاءه ليزيل عنها نجاسة أو وسخا .
- ويشترط للوضوء أيضا أن يكون الماء طهورا كما سبق , فإن كان نجسا ; لم يجزئه . ويشترط للوضوء أيضا أن يكون الماء مباحا , فإن كان مغصوبا أو تحصل عليه بغير طريق شرعي ; لم يصح الوضوء به .
- وكذلك يشترط للوضوء أن يسبقه استنجاء أو استجمار على ما سبق تفصيله .
- ويشترط للوضوء أيضا إزالة ما يمنع وصول الماء إلى الجلد ; فلا بد للمتوضئ أن يزيل ما على أعضاء الوضوء من طين أو عجين أو شمع أو وسخ متراكم أو أصباغ سميكة ; ليجري الماء على جلد العضو مباشرة من غير حائل .
باب
في أحكام الوضوء
يقول الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ الآية ; فهذه الآية الكريمة أوجبت الوضوء للصلاة , وبينت الأعضاء التي يجب غسلها أو مسحها في الوضوء , وحددت مواقع الوضوء منها , ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة الوضوء بقوله وبفعله بيانا كافيا .
اعلم أيها المسلم ! أن للوضوء شروطا وفروضا وسننا , فالشروط والفروض لا بد منها حسب الإمكان ; ليكون الوضوء صحيحا , وأما السنن ; فهي مكملات الوضوء , وفيها زيادة أجر , وتركها لا يمنع صحة الوضوء :
فالشروط هي :(24/14)
- الإسلام , والعقل , والتمييز , والنية ; فلا يصح الوضوء من كافر , ولا من مجنون , ولا من صغير لا يميزه , ولا ممن لم ينو الوضوء ; بأن نوى تبردا , أو غسل أعضاءه ليزيل عنها نجاسة أو وسخا .
- ويشترط للوضوء أيضا أن يكون الماء طهورا كما سبق , فإن كان نجسا ; لم يجزئه . ويشترط للوضوء أيضا أن يكون الماء مباحا , فإن كان مغصوبا أو تحصل عليه بغير طريق شرعي ; لم يصح الوضوء به .
- وكذلك يشترط للوضوء أن يسبقه استنجاء أو استجمار على ما سبق تفصيله .
- ويشترط للوضوء أيضا إزالة ما يمنع وصول الماء إلى الجلد ; فلا بد للمتوضئ أن يزيل ما على أعضاء الوضوء من طين أو عجين أو شمع أو وسخ متراكم أو أصباغ سميكة ; ليجري الماء على جلد العضو مباشرة من غير حائل .
وأما فروض الوضوء - وهي أعضاؤه - ; فهي ستة :
أحدها : غسل الوجه بكامله , ومنه المضمضة والاستنشاق , فمن غسل وجهه وترك المضمضة والاستنشاق أو أحدهما ; لم يصح وضوءه , لأن الفم والأنف من الوجه , والله تعالى يقول : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فأمر بغسل الوجه كله , فمن ترك شيئا منه ; لم يكن ممتثلا أمر الله تعالى , والنبي صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق .
الثاني : غسل اليدين مع المرفقين , لقوله تعالى : وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ أي : مع المرافق ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه , وفي حديث آخر : غسل يديه حتى أشرع في العضد مما يدل على دخول المرفقين في المغسول .
والثالث : مسح الرأس كله , ومنه الأذنان ; لقوله تعالى : وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وقال صلى الله عليه وسلم : الأذنان من الرأس رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما ; فلا يجزئ مسح بعض الرأس.
والرابع : غسل الرجلين مع الكعبين , لقوله تعالى : وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ و ( إلى ) بمعنى ( مع ) , وذلك للأحاديث الواردة في صفة الوضوء ; فإنها تدل على دخول الكعبين في المغسول .(24/15)
والخامس : الترتيب ; بأن يغسل الوجه أولا , ثم اليدين , ثم يمسح الرأس , ثم يغسل رجليه ; لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ والنبي صلى الله عليه وسلم رتب الوضوء على هذه الكيفية , وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به رواه أبو داود وغيره .
السادس : الموالاة , وهي أن يكون غسل الأعضاء المذكورة متواليا , بحيث لا يفصل بين غسل عضو وغسل العضو الذي قبله , بل يتابع غسل الأعضاء الواحد تلو الآخر حسب الإمكان .
هذه فروض الوضوء التي لا بد منها فيه على وفق ما ذكره الله في كتابه .
وقد اختلف العلماء في حكم التسمية في ابتداء الوضوء هل هي واجبة أو سنة ؟ فهي عند الجميع مشروعة , ولا ينبغي تركها , وصفتها أن يقول : بسم الله , وإن زاد : الرحمن الرحيم , فلا بأس .
والحكمة - والله أعلم - في اختصاص هذه الأعضاء الأربعة بالوضوء , لأنها أسرع ما يتحرك من البدن , لاكتساب الذنوب , فكان في تطهير ظاهرها تنبيه على تطهير باطنها , وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم كلما غسل عضوا منها ; حط عنه كل خطيئة أصابها بذلك العضو , وأنها تخرج خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء .
ثم أرشد صلى الله عليه وسلم بعد غسل هذه الأعضاء إلى تجديد الإيمان بالشهادتين , إشارة إلى الجمع بين الطهارتين الحسية والمعنوية . فالحسية تكون بالماء على الصفة التي بينها الله في كتابه من غسل هذه الأعضاء , والمعنوية تكون بالشهادتين اللتين تطهران من الشرك .(24/16)
وقد قال تعالى في آخر آية الوضوء : مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وهكذا - أيها المسلم - شرع الله لك الوضوء ; ليطهرك به من خطاياك , وليتم به نعمته عليك .
وتأمل افتتاح آية الوضوء بهذا النداء الكريم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فقد وجه سبحانه الخطاب إلى من يتصف بالإيمان ; لأنه هو الذي يصغي لأوامر الله , وينتفع بها , ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن
وما زاد عما ذكر في صفة الوضوء ; فهو مستحب : من فعله ; فله زيادة أجر , ومن تركه ; فلا حرج عليه , ومن ثم سمى الفقهاء تلك الأفعال : سنن الوضوء أي : مستحباته ; فسنن الوضوء هي :
أولا : السواك , وتقدم بيان فضيلته وكيفيته , ومحله عند المضمضة , ليحصل به والمضمضة تنظيف الفم لاستقبال العبادة والتهيؤ لتلاوة القرآن ومناجاة الله عز وجل .
ثانياً : غسل الكفين ثلاثا في أول الوضوء قبل غسل الوجه ; لورود الأحاديث به , ولأن اليدين آلة نقل الماء إلى الأعضاء , ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء .
ثالثاً : البداءة بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه ; لورود البداءة بهما في الأحاديث , ويبالغ فيها إن كان غير صائم , ومعنى المبالغة في المضمضة : إدارة الماء في جميع فمه , وفي الاستنشاق : جذب الماء إلى أقصى أنفه .
رابعاً : ومن سنن الوضوء تخليل اللحية الكثيفة بالماء حتى يبلغ داخلها , وتخليل أصابع اليدين والرجلين .
خامساً : التيامن , وهو البدء باليمنى من اليدين والرجلين قبل اليسرى .
سادساً : الزيادة على الغسلة الواحدة إلى ثلاث غسلات في غسل الوجه واليدين والرجلين.(24/17)
هذه شروط الوضوء وفروضه وسننه , يجدر بك أن تتعلمها وتحرص على تطبيقها في كل وضوء , ليكون وضوءك مستكملا للصفة المشروعة , لتحوز على الثواب . ونسأل الله لنا ولك المزيد من العلم النافع والعمل الصالح .
باب
في بيان صفة الوضوء
بعد أن عرفت شرائط الوضوء وفرائضه وسننه على ما سبق بيانه , كأنك تطلعت إلى بيان صفة الوضوء التي تطبق فيها تلك الأحكام , وهي صفة الوضوء الكامل المشتمل على الفروض والسنن مستوحاة من نصوص الشرع ; لتعمل على تطبيقها إن شاء الله ; فصفة الوضوء :
- أن ينوي الوضوء لما يشرع له الوضوء من صلاة ونحوها .
- ثم يقول : بسم الله .
- ثم يغسل كفيه ثلاث مرات .
- ثم يتمضمض ثلاث مرات , ويستنشق ثلاث مرات , وينثر الماء من أنفه بيساره .
- ويغسل وجهه ثلاث مرات , وحد الوجه طولا من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن , واللحيان عظمان في أسفل الوجه : أحدهما من جهة اليمين , والثاني من جهة اليسار , والذقن مجمعهما , وشعر اللحية من الوجه ; فيجب عسله , ولو طال , فإن كانت اللحية خفيفة الشعر ; وجب غسل باطنها وظاهرها , وإن كانت كثيفة ( أي : ساترة للجلد ) ; وجب غسل ظاهرها , ويستحب تخليل باطنها كما تقدم , وحد الوجه عرضا من الأذن إلى الأذن , والأذنان من الرأس ; فيمسحان معه كما تقدم .
- ثم يغسل يديه مع المرفقين ثلاث مرات , وحد اليد هنا : من رءوس الأصابع مع الأظافر إلى أول العضد , ولا بد أن يزيل ما علق باليدين قبل الغسل من عجين وطين وصبغ كثيف على الأظافر حتى يتبلغ بماء الوضوء .
- ثم يمسح كل رأسه وأذنيه مرة واحدة بماء جديد غير البلل الباقي من غسل يديه , وصفة مسح الرأس أن يضع يديه مبلولتين بالماء على مقدم رأسه , ويمرهما إلى قفاه , ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه , ثم يدخل أصبعيه السبابتين في خرقي أذنيه , ويمسح ظاهرهما بإبهاميه .(24/18)
- ثم يغسل رجليه ثلاث مرات مع الكعبين , والكعبان : هما العظمان الناتئان في أسفل الساق .
ومن كان مقطوع اليد أو الرجل ; فإنه يغسل ما بقي من الذراع أو الرجل , فإن قطع من مفصل المرفق ; غسل رأس العضد , وإن قطع من الكعب , غسل طرف الساق ; لقوله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وقوله صلى الله عليه وسلم : إذا أمرتكم بأمر ; فأتوا منه ما استطعتم فإذا غسل بقية المفروض ; فقد أتى بما استطاع .
ثم بعد الفراغ من الوضوء على الصفة التي ذكرنا , يرفع بصره إلى السماء , ويقول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأدعية في هذه الحالة , ومن ذلك : أشهد لا إله إلا الله وحده , لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , اللهم اجعلني من التوابين , واجعلني من المتطهرين , سبحانك اللهم وبحمدك , أشهد أن لا إله إلا أنت , أستغفرك وأتوب إليك
والمناسبة في الإتيان بهذا الذكر والدعاء بعد الوضوء : أنه لما كان الوضوء طهارة للظاهر ; ناسب ذكر طهارة الباطن ; بالتوحيد والتوبة , وهما أعظم المطهرات , فإذا اجتمع له الطهوران ; طهور الظاهر بالوضوء , وطهور الباطن بالتوحيد والتوبة ; صلح للدخول على الله , والوقوف بين يديه , ومناجاته .
ولا بأس أن ينشف المتوضئ أعضاءه من ماء الوضوء بمسحه بخرقة ونحوها .
ثم اعلم أيها المسلم : أنه يجب إسباغ الوضوء وهو إتمامه باستكمالالأعضاء وتعميم كل عضو بالماء , ولا يترك منه شيئا لم يصبه الماء : فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا ترك موضع ظفر على قدمه ; فقال له : ارجع , فأحسن وضوءك(24/19)
وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ; أنه رأى رجلا يصلي وفي بعض قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء ; فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة , وقال صلى الله عليه وسلم : ويل للأعقاب من النار وذلك لأنه قد يحصل التساهل في تعاهدهما ; فلا يصل إليهما الماء , أو تبقى فيهما بقية لا يعمها الماء ; فيعذبان بالنار بسبب ذلك .
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره : إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ; فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين , ثم يمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين
ثم اعلم أيها المسلم أنه ليس معنى إسباغ الوضوء كثرة صب الماء , بل معناه تعميم العضو بجريان الماء عليه كله , وأما كثرة صب الماء ; فهذا إسراف منهي عنه , بل قد يكثر صب الماء ولا يتطهر الطهارة الواجبة , وإذا حصل إسباغ الوضوء مع تقليل الماء , فهذا هو المشروع : فقد ثبت في " الصحيحين " ; أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد .
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في الماء ; فقد مر صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ ; فقال : ما هذا السرف ؟ , فقال : أفي الوضوء إسراف ؟ ! فقال : نعم , ولو كنت على نهر جار رواه أحمد وابن ماجه , وله شواهد , والسرف ضد القصد .
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يكون في أمته من يتعدى في الطهور , وقال ; إن للوضوء شيطانا يقال له : الولهان ; فاتقوا وسواس الماء والسرف في صب الماء - مع أنه يضيع الماء من غير فائدة - يوقع في مفاسد أخرى :
منها : أنه قد يعتمد على كثرة الماء ; فلا يتعاهد وصول الماء إلى أعضائه ; فربما تبقى بقية لم يصلها الماء , ولا يدري عنها , فيبقى وضوؤه ناقصا , فيصلي بغير طهارة .
ومنها : الخوف عليه من الغلو في العبادة ; فإن الوضوء عبادة , والعبادة إذا دخلها الغلو ; فسدت .
ومنها : أنه قد يحدث له الوسواس في الطهارة بسبب الإسراف في صب الماء .(24/20)
والخير كله في الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم , وشر الأمور محدثاتها , وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .
فعليك أيها المسلم بالحرص على أن يكون وضوءك وجميع عباداتك على الوجه المشروع , من غير إفراط ولا تفريط ; فكلا طرفي الأمور ذميم , وخير الأمور أوسطها , والمتساهل في العبادة ينتقصها , والغالي فيها يزيد عليها ما ليس منها , والمستن فيها بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يوفيها حقها .
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه , وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه , ولا تجعله ملتبسا علينا ; فنضل .
باب
في أحكام المسح على الخفين
وغيرهما من الحوائل
إن ديننا دين يسر لا دين مشقة وحرج , يضع لكل حالة ما يناسبها من الأحكام مما به تتحقق المصلحة وتنتفي المشقة , ومن ذلك ما شرعه الله في حالة الوضوء , إذا كان على شيء من أعضاء المتوضئ حائل يشق نزعه ويحتاج إلى بقائه : إما لوقاية الرجلين كالخفين ونحوهما , أو لوقاية الرأس كالعمامة , وإما لوقاية جرح ونحوه كالجبيرة ونحوها ; فإن الشارع رخص للمتوضئ أن يمسح على هذه الحوائل , ويكتفي بذلك عن نزعها وغسل ما تحتها ; تخفيفا منه سبحانه وتعالى على عباده , ودفعا للحرج عنهم .
فأما مسح الخفين أو ما يقوم مقامهما من الجوربين والاكتفاء به عن غسل الرجلين ; فهو ثابت بالأحاديث الصحيحة المستفيضة المتواترة في مسحه صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر , وأمره بذلك , وترخيصه فيه .(24/21)
قال الحسن : حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين وقال النووي : روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة وقال الإمام أحمد : ليس في نفسي من المسح شيء , فيه أربعون حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن المبارك وغيره : ليس في المسح على الخفين بين الصحابة اختلاف , هو جائز ونقل ابن المنذر وغيره إجماع العلماء على جوازه , واتفق عليه أهل السنة والجماعة ; بخلاف المبتدعة الذين لا يرون جوازه . وحكم المسح على الخفين : أنه رخصة , فعله أفضل من نزع الخفين وغسل الرجلين ; أخذا برخصة الله عز وجل , واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم , ومخالفة للمبتدعة , والمسح يرفع الحدث عما تحت الممسوح , وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلف ضد حاله التي عليها قدره , بل إن كانتا في الخفين ; مسح على الخفين , وإن كانتا مكشوفتين ; غسل القدمين ; فلا يشرع لبس الخف ليمسح عليه .
ومدة المسح على الخفين بالنسبة للمقيم ومن سفره لا يبيح له القصر يوم وليلة , وبالنسبة لمسافر سفرا يبيح له القصر ثلاثة أيام بلياليها ; رواه مسلم ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن , وللمقيم يوم وليلة
وابتداء المدة في الحالتين يكون من الحدث بعد اللبس ; لأن الحدث هو الموجب للوضوء , ولأن جواز المسح يبتدئ من الحدث , فيكون ابتداء المدة من أول جواز المسح , ومن العلماء من يرى أن ابتداء المدة يكون من المسح بعد الحدث .
شروط المسح على الخفين ونحوهما :(24/22)
1- يشترط للمسح على الخفين وما يقوم مقامهما من الجوارب ونحوها أن يكون الإنسان حال لبسهما على طهارة من الحدث ; لما في " الصحيحين " وغيرهما ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أراد نزع خفيه وهو يتوضأ : دعهما ; فإني أدخلتهما طاهرتين وحديث : أمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر وهذا واضح الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس للخفين , فلو كان حال لبسهما محدثا ; لم يجز المسح عليهما .
2- ويشترط أن يكون الخف ونحوه مباحا , فإن كان مغصوبا أو حريرا بالنسبة للرجل ; لم يجز المسح عليه ; لأن المحرم لا تستباح به الرخصة .
3- ويشترط أن يكون الخف ونحوه ساترا للرجل ; فلا يمسح عليه إذا لم يكن ضافيا مغطيا لما يجب غسله ; بأن كان نازلا عن الكعب أو كان ضافيا لكنه لا يستر الرجل ; لصفائه أو خفته ; كجورب غير صفيق ; فلا يمسح على ذلك كله ; لعدم ستره .
ويمسح على ما يقوم مقام الخفين ; فيجوز المسح على الجورب الصفيق الذي يستر الرجل من صوف أو غيره , لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين , رواه أحمد وغيره وصححه الترمذي , ويستمر المسح عليه إلى تمام المدة ; دون ما يلبس فوقه من خف أو نعل ونحوه , ولا تأثير لتكرار خلعه ولبسه إذا كان قد بدأ المسح على الجورب .
ويجوز المسح على العمامة بشرطين :
أحدهما : تكون ساترة لما لم تجر العادة بكشفه من الرأس .
الشرط الثاني : أن تكون العمامة محنكة , وهي التي يدار منها تحت الحنك دور فأكثر , أو تكون ذات ذؤابة , وهي التي يرخى طرفها من الخلف ; فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على العمامة بأحاديث أخرجها غير واحد من الأئمة , وقال عمر : من لم يطهره المسح على العمامة , فلا طهره الله(24/23)
وإنما يجوز المسح على الخفين والعمامة في الطهارة من الحدث الأصغر , وأما الحدث الأكبر ; فلا يمسح على شيء من ذلك فيه , بل يجب غسل ما تحتهما . ويمسح على الجبيرة , وهي أعواد ونحوها تربط على الكسر , ويمسح على الضماد الذي يكون على الجرح , وكذلك يمسح على اللصوق الذي يجعل على القروح , كل هذه الأشياء يمسح عليها ; بشرط أن تكون على قدر الحاجة ; بحيث تكون على الكسر أو الجرح وما قرب هنه مما لا بد من وضعها عليه لتؤدي مهمتها , فإن تجاوزت قدر الحاجة ; لزمه نزع ما زاد عن الحاجة .
ويجوز المسح على الجبيرة ونحوها في الحدث الأصغر والأكبر , وليس للمسح عليها وقت محدد , بل يمسح عليها إلى نزعها أو برء ما تحتها ; لأن مسحها لأجل الضرورة إليها , فيتقدر بقدر الضرورة .
والدليل على مسح الجبيرة حديث جابر رضي الله عنه ; قال : خرجنا في سفر , فأصاب رجلا منا حجر , فشجه في رأسه , ثم احتلم , فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء . فاغتسل , فمات , فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أخبر بذلك , فقال : قتلوه قتلهم الله , ألا سألوا إذا لم يعلموا ; فإنما شفاء العي السؤال , إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها رواه أبو داود وابن ماجه , وصححها ابن السكن .
محل المسح من هذه الحوائل :
يمسح ظاهر الخف والجورب , ويمسح أكثر العمامة , ويختص ذلك بدوائرها , ويمسح على جميعا لجبيرة . وصفة المسح على الخفين أن يضع أصابع يديه مبلولتين بالماء على أصابع رجليه ثم يمرهما إلى ساقه , يمسح الرجل اليمنى باليد اليمنى , والرجل اليسرى باليد اليسرى , ويفرج أصابعه إذا مسح , ولا يكرر المسح .وفقنا الله جميعا للعلم النافع والعمل الصالح .
باب
في بيان نواقض الوضوء(24/24)
عرفت مما سبق كيف يتم الوضوء بشروطه وفروضه وسننه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم ; فكنت بحاجة إلى معرفة ما يفسد هذا الوضوء وينقضه ; لئلا تستمر على وضوء قد بطل مفعوله , فتؤدي به عبادة لا تصح منك .
فاعلم أيها المسلم : أن للوضوء مفسدات لا يبقى مع واحد منها له تأثير , فيحتاج إلى استئنافه من جديد عند إرادته مزاولة عمل من الأعمال التي يشرع لها الوضوء , وهذه المفسدات تسمى نواقض وتسمى مبطلات , والمعنى واحد , وهذه المفسدات أو النواقض أو المبطلات أمور عينها الشارع , وفي علل تؤثر في إخراج الوضوء عما هو المطلوب منه , وهي إما أحداث تنقض الوضوء بنفسها - كالبول والغائط وسائر الخارج من السبيلين - , وأما أسباب للأحداث ; بحيث إذا وقعت ; تكون مظنة لحصول الأحداث ; كزوال العقل , أو تغطيته بالنوم والإغماء والجنون ; فإن زائل العقل لا يحس بما يحصل منه , فأقيمت المظنة مقام الحدث . .. وإليك بيان ذلك بالتفصيل :
1- الخارج من سبيل , أي : من مخرج البول والغائط , والخارج من السبيل إما أن يكون بولا أو منيا أو مذيا أو دم استحاضة أو غائطا أو ريحا .
فإن كان الخارج بولا أو غائطا , فهو ناقض للوضوء بالنص والإجماع , قال تعالى في موجبات الوضوء : أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ وإن كان منيا أو مذيا , فهو ينقض الوضوء بدلالة الأحاديث الصحيحة , وهى الإجماع على ذلك ابن المنذر وغيره . وكذا ينقض خروج دم الاستحاضة , وهو دم فساد , لا دم حيض ; لحديث فاطمة بنت أبي حبيش ; أنها كانت تستحاض , فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : فتوضئي وصلي , فإنما هو دم عرق رواه أبو داود والدارقطني , وقال : إسناده كلهم ثقات .(24/25)
وكذا ينقض الوضوء خروج الريح بدلالة الأحاديث الصحيحة وبالإجماع , قال صلى الله عليه وسلم : ولا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ وقال صلى الله عليه وسلم فيمن شك هل خرج منه ريح أولا : فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا
وأما الخارج من البدن من غير السبيلين كالدم والقيء والرعاف ; فموضع خلاف بين أهل العلم , هل ينقض الوضوء أو لا ينقضه ؟ على قولين , والراجح أنه لا ينقض , لكن لو توضأ خروجا من الخلاف ; لكان أحسن .
2- من النواقض زوال العقل أو تغطيته , وزوال العقل يكون بالجنون ونحوه ; وتغطيته تكون بالنوم أو الإغماء ونحوهما , فمن زال عقله أو غطي بنوم ونحوه ; انتقضت وضوؤه ; لأن ذلك مظنة خروج الحدث , وهو لا يحس به , إلا يسير النوم , فإنه لا ينقض الوضوء , لأن الصحابة رضي الله عنهم كان يصيبهم النعاس وهم ينتظرون الصلاة , وإنما ينقضه النوم المستغرق ; جمعا بين الأدلة .
3- من نواقض الوضوء أكل لحم الإبل سواء كان قليلا أو كثيرا , لصحة الحديث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصراحته . قال الإمام أحمد رحمه الله : فيه حديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما أكل اللحم من غير الإبل فلا ينقض الوضوء .
وهناك أشياء قد اختلف العلماء فيها ; هل تنقض الوضوء أو لا ؟ وهي : مس الذكر , ومس المرأة بشهوة , وتغسيل الميت , والردة عن الإسلام , فإن العلماء من قال : إن كل واحد من هذه الأشياء ينقض الوضوء ومنهم من قال : لا ينقض , والمسألة محل نظر واجتهاد , لكن لو توضأ من هذه الأشياء خروجا من الخلاف ; لكان أحسن .
هذا , وقد بقيت مسألة مهمة تتعلق بهذا الموضوع , وهي : من تيقن الطهارة , ثم شك في حصول ناقض من نواقضها ماذا يفعل ؟(24/26)
لقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا , فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا ; فلا يخرج من المسجد , حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا فدل هذا الحديث الشريف وما جاء بمعناه على أن المسلم إذا تيقن الطهارة وشك في انتقاضها ; أنه يبقى على الطهارة ; لأنها الأصل , ولأنها متيقنة , وحصول الناقض مشكوك فيه , واليقين لا يزول بالشك .
وهذه قاعدة عظيمة عامة في جميع الأشياء ; أنها تبقى على أصولها حتى يتيقن خلافها , وكذلك العكس , فإذا تيقن الحدث وشك في الطهارة ; فإنه يتوضأ ; لأن الأصل بقاء الحدث ; فلا يرتفع بالشك .
أخي المسلم ! عليك بالمحافظة على الطهارة للصلاة والاهتمام بها ; لأنها لا تصح صلاة بدون طهور , كما يجب عليك أن تحذر من الوسواس وتسلط الشيطان عليك ; بحيث يخيل إليك انتقاض طهارتك ويلبس عليك ; فاستعذ بالله من شره , ولا تلتفت إلى وساوسه , واسأل أهل العلم عما أشكل عليك من أمور الطهارة , لتكون على بصيرة من أمرك , واهتم أيضا بطهارة ثيابك من النجاسة ; لتكون صلاتك صحيحة وعبادتك مستقيمة ; فإن الله سبحانه وتعالى : يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وفقنا الله جميعا للعلم النافع والعمل الصالح .
باب
في أحكام الغسل
عرفت مما سبق أحكام الطهارة من الحدث الأصغر ونواقضها ; فكنت بحاجة إلى أن تعرف أحكام الطهارة من الحدث الأكبر ; جنابة كان أو حيضا أو نفاسا , وهذه الطهارة تسمى - بالغسل - بضم الغين - , وهو استعمال الماء في جميع البدن على صفة مخصوصة يأتي بيانها .
والدليل على وجوبه : قول الله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا
وقد ذكروا أن الغسل من الجنابة كان معمولا به في الجاهلية , وهو من بقايا دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيهم .(24/27)
وموجبات الغسل ستة أشياء , إذا حصل واحد منها ; وجب على المسلم الاغتسال :
أحدها : خروج المني من مخرجه من الذكر أو الأنثى , ولا يخلو : إما أن يخرج في حال اليقظة , أو حال النوم , فإن خرج في حال اليقظة ; اشترط وجود اللذة بخروجه , فإن خرج بدون لذة ; لم يوجب الغسل ; كالذي يخرج بسبب مرض أو عدم إمساك , وإن خرج في حال النوم , وهو ما يسمى بالاحتلام , وجب الغسل مطلقا ; لفقد إدراكه , فقد لا يشعر باللذة ; فالنائم إذا استيقظ ووجد أثر المني ; وجب عليه الغسل , وإن احتلم , ولم يخرج منه مني , ولم يجد له أثرا ; لم يجب عليه الغسل .
الثاني : من موجبات الغسل إيلاج الذكر في الفرج , ولو لم يحصل إنزال ; للحديث الذي رواه مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا قعد بين شعبها الأربع , ثم مس الختان الختان ; فقد وجب الغسل فيجب الغسل على الواطئ والموطوءة بالإيلاج , ولو لم يحصل إنزال ; لهذا الحديث , ولإجماع أهل العلم على ذلك .
الثالث : من موجبات الغسل عند طائفة من العلماء : إسلام الكافر , فإذا أسلم الكافر ; وجب عليه الغسل ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعض الذين أسلموا أن يغتسلوا , ويرى كثير من أهل العلم أن اغتسال الكافر إذا أسلم مستحب , وليس بواجب ; لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر به كل من أسلم , فيحمل الأمر به على الاستحباب ; جمعا بين الأدلة , والله أعلم .
الرابع : من موجبات الغسل : الموت , فيجب تغسيل الميت ; غير الشهيد في المعركة ; فإنه لا يغسل , وتفاصيل ذلك تأتي في أحكام الجنائز إن شاء الله .
الخامس والسادس : من موجبات الغسل الحيض والنفاس ; لقوله صلى الله عليه وسلم : وإذا ذهبت حيضتك ; فاغتسلي وصلي وقوله تعالى : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ يعني : الحيض يتطهرن بالاغتسال بعد انتهاء الحيض .
وصفة الغسل الكامل
- أن ينوي بقلبه .
- ثم يسمي ويغسل يديه ثلاثا ويغسل فرجه .(24/28)
- ثم يتوضأ وضوءا كاملا .
- ثم يحثي الماء على رأسه ثلاث مرات , يروي أصول شعره .
- ثم يعم بدنه بالغسل , ويدلك بدنه بيديه , ليصل الماء إليه .
والمرأة الحائض أو النفساء تنقض رأسها للغسل من الحيض والنفاس , وأما الجنابة ; فلا تنقضه حين تغتسل لها , لمشقة التكرار , ولكن ; يجب عليها أن تروي أصول شعرها بالماء .
ويجب على المغتسل رجلا كان أو امرأة أن يتفقد أصول شعره ومغابن بدنه وما تحت حلقه وإبطيه وسرته وطي ركبتيه , وإن كان لابسا ساعة أو خاتما ; فإنه يحركهما ليصل الماء إلى ما تحتهما .
وهكذا يجب أن يهتم بإسباغ الغسل ; بحيث لا يبقى من بدنه شيء لا يصل إليه الماء , وقال صلى الله عليه وسلم : تحت كل شعرة جنابة ; فاغسلوا الشعر , وأنقوا البشر رواه أبو داود والترمذي .
ولا ينبغي له أن يسرف في صب الماء , فالمشروع تقليل الماء مع الإسباغ ; فقد كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ; فينبغي الاقتداء به في تقليل الماء وعدم الإسراف .
كما يجب على المغتسل أن يستتر ; فلا يجوز أن يغتسل عريانا بين الناس ; لحديث : إن الله حيي يحب الحياء والستر , فإذا اغتسل أحدكم ; فليستتر رواه أبو داود والنسائي .
والغسل من الحدث الأكبر أمانة من جملة الأمانات التي بين العبد وبين ربه , يجب عليه أن يحافظ عليه , وأن يهتم بأحكامه ; ليؤديه على الوجه المشروع , وما أشكل عليه من أحكامه وموجباته ; سأل عنه , ولا يمنعه الحياء من ذلك ; فإن الله لا يستحي من الحق , فالحياء الذي يمنع صاحبه من السؤال عن أمور دينه حياء مذموم , وهو جبن من الشيطان ; ليثبط به الإنسان عن استكمال دينه ومعرفة ما يلزمه من أحكامه .
وأمر الطهارة عظيم , والتفريط في شأنها خطير ; لأنها تترتب عليها صحة الصلاة التي هي عمود الإسلام . سأل الله لنا ولجميع المسلمين البصيرة في دينه والإخلاص له في القول والعمل .
باب في أحكام التيمم(24/29)
إن الله سبحانه وتعالى قد شرع التطهر للصلاة من الحدثين الأصغر والأكبر بالماء الذي أنزله الله لنا طهورا , وهذا واجب لا بد منه مع الإمكان , لكن قد تعرض حالات يكون الماء فيها معدوما , أو في حكم المعدوم , أو موجودا , لكن يتعذر استعماله لعذر من الأعذار الشرعية , وهنا قد جعل الله ما ينوب عنه , وهو التيمم بالتراب ; تيسيرا على الخلق , ورفعا للحرج .
يقول الله تعالى في محكم تنزيله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
والتيمم في اللغة : القصد , والتيمم في الشرع : هو مسح الوجه واليدين بصعيد على وجه مخصوص . وكما هو ثابت في القرآن الكريم ; فهو ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة , وهو فضيلة لهذه الأمة المحمدية , اختصها الله به , ولم يجعله طهورا لغيرها ; توسعة عليها , وإحسانا منه إليها .(24/30)
ففي " الصحيحين " وغيرهما : قال صلى الله عليه وسلم : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر , وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا , فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة ; فليصل وفي لفظ : فعنده مسجده وطهوره . فالتيمم بدل طهارة الماء عند العجز عنه شرعا , يفعل بالتطهر به كل ما يفعل بالتطهر بالماء من الصلاة والطواف وقراءة القرآن وغير ذلك , فإن الله جعل التيمم مطهرا كما جعل الماء مطهرا , قال عليه الصلاة والسلام : وجعلت تربتها ( يعني : الأرض ) لنا طهورا . ..
وينوب التيمم عن الماء في أحوال هي :
أولا : إذا عدم الماء : لقوله تعالى : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا سواء عدمه في الحضر أو السفر , وطلبه , ولم يجده .
ثانيا : إذا كان معه ماء يحتاجه لشرب وطبخ , فلو تطهر منه ; لأضر حاجته ; بحيث يخاف العطش على نفسه , أو عطش غيره من آدمي أو بهيمة محترمين .
ثالثا : إذا خاف باستعمال الماء الضرر في بدنه بمرض أو تأخر برء ; لقوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى إلى قوله : فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا الآية .
رابعا : إذا عجز عن استعمال الماء لمرض لا يستطيع معه الحركة , وليس عنده من يوضئه , وخاف خروج الوقت .
خامسا : إذا خاف بردا باستعمال الماء , ولم يجد ما يسخنه به ; تيمم وصلى ; لقوله تعالى : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ففي تلك الأحوال يتيمم ويصلي .
وإن وجد ماء يكفي بعض طهره ; استعمله فيما يمكنه من أعضائه أو بدنه , وتيمم عن الباقي الذي قصر عنه الماء ; لقوله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وإن كان به جرح يتضرر بغسله أو مسحه بالماء , تيمم له , وغسل الباقي ; لقوله تعالى : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وإن كان جرحه ولا يتضرر بالمسح ; مسح الضماد الذي فوقه بالماء , وكفاه المسح عن التيمم .(24/31)
ويجوز التيمم بما على وجه الأرض من تراب وسبخة ورمل وغيره , هذا هو الصحيح من قولي العلماء ; لقوله تعالى : فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا أدركتهم الصلاة , تيمموا بالأرض التي يصلون عليها , ترابا أو غيره , ولم يكونوا يحملون معهم التراب .
وصفة التيمم أن يضرب التراب بيديه مفرجتي الأصابع , ثم يمسح وجهه بباطن أصابعه , ويمسح كفيه براحتيه , ويعمم الوجه والكفين بالمسح , وإن مسح بضربتين إحداهما يمسح بها وجهه والثانية يمسح بها بدنه ; جاز , لكن الصفة الأولى هي الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ويبطل التيمم عن حدث أصغر بمبطلات الوضوء وعن حدث أكبر بموجبات الغسل من جنابة وحيض ونفاس ; لأن البدل له حكم المبدل , ويبطل التيمم أيضا بوجود الماء إن كان التيمم لعدمه , وبزوال العذر الذي من أجله شرع التيمم من مرض ونحوه .
ومن عدم الماء والتراب أو وصل إلى حال لا يستطيع معه لمس البشرة بماء ولا تراب ; فإنه يصلي على حسب حاله ; بلا وضوء ولا تيمم , لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها , ولا يعيد هذه الصلاة ; لأنه أتى بما أمر به ; لقوله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْوقوله صلى الله عليه وسلم : إذا أمرتكم بأمر ; فأتوا منه ما استطعتم هذه جملة من أحكام التيمم سقناها لك , فإن أشكل عليك شيء منها أو من غيرها ; فعليك أن تسأل أول العلم , ولا تتساهل في أمر دينك , لا سيما أمر الصلاة التي هي عمود الإسلام ; فإن الأمر مهم جدا . وفقنا الله جميعا للصواب والسداد في القول والعمل , وأن يكون عملنا خالصا لوجهه الكريم , إنه سميع مجيب الدعاء .
باب في أحكام إزالة النجاسة(24/32)
فكما أنه مطلوب من المسلم أن يكون طاهرا من الحدث إذا أراد الصلاة ; فكذلك مطلوب منه طهارة البدن والثوب والبقعة من النجاسة , قال تعالى : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة بغسل دم الحيض من ثوبها .
لما كان الأمر كذلك , تطلب منا أن نلقي الضوء على هذا الموضوع , وهو موضوع إزالة النجاسة , عارضين لأهم أحكامه , رجاء أن ينتفع بذلك من يقرؤه من إخواننا المسلمين , ولقد كان الفقهاء رحمهم الله يعقدون لهذا الموضوع بابا خاصا , يسمونه : باب إزالة النجاسة ; أي : تطهير موارد النجاسة , التي تطرأ على محل طاهر من الثياب والأواني والفرش والبقاع ونحوها .
والأصل الذي تزال به النجاسة هو الماء ; فهو الأصل في التطهير ; لأن الله وصفه بذلك ; كما في قوله تعالى : وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ
والنجاسة التي تجب إزالتها - إما أن تكون على وجه الأرض وما اتصل بها من الحيطان والأحواض والصخور : فهذه يكفي في تطهيرها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة ; بمعنى أنها تغمر بالماء بصبه عليها مرة واحدة ; لأمره صلى الله عليه وسلم بصب الماء على بول الأعرابي الذي بال في المسجد , وكذا إذا غمرت بماء المطر والسيول , فإذا زالت بصب الماء عليها أو بماء المطر النازل أو الجاري عليها ; كفى ذلك في تطهيرها .
- وإن كانت النجاسة على غير الأرض وما اتصل بها : فإن كانت من كلب أو خنزير وما تولد منهما ; فتطهيرها بسبع غسلات , إحداهن بالتراب ; بأن يجعل التراب مع إحدى الغسلات ; لقوله صلى الله عليه وسلم إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم ; فليغسله سبعا أولاهن بالتراب رواه مسلم وغيره , وهذا الحكم عام في الإناء وغيره ; كالثياب والفرش .
وإن كانت نجاسة غير كلب أو خنزير ; كالبول والغائط والدم ونحوها ; فإنها تغسل بالماء مع الفرك والعصر , حتى تزول ; فلا يبقى لها عين ولا لون .
فالمغسولات على ثلاثة أنواع :(24/33)
النوع الأول : ما يمكن عصره , مثل الثوب ; فلا بد من عصره .
النوع الثاني : ما لا يمكن عصره , ويمكن تقليبه ; كالجلود ونحوها ; فلا بد من تقليبه .
النوع الثالث : ما لا يمكن عصره ولا تقليبه ; فلا بد من دقه وتثقيله ; بأن يضع عليه شيئا ثقيلا , حتى يذهب أكثر ما فيه من الماء .
- وإن خفي موضع نجاسة في بدن أو ثوب أو بقعة صغيرة كمصلى صغير ; وجب غسل ما احتمل وجود النجاسة فيه , حتى يجزم بزوالها , وإن لم يدر في أي جهة منه ; غسله جميعه .
- ويكفي في تطهير بول الغلام الذي لم يأكل الطعام رشه بالماء ; لحديث أم قيس ; أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأجلسه في حجره , فبال على ثوبه , فدعا بماء , فنضحه ولم يغسله . متفق عليه .
وإن كان يأكل الطعام لشهوة واختيار ; فبوله مثل بول الكبير , وكذا بول الأنثى الصغيرة مثل بول الكبيرة , وفي جميع هذه الأحوال يغسل كغسل سائر النجاسات .
فالنجاسات على ثلاثة أنواع : نجاسة مغلظة , وهي نجاسة الكلب ونحوه . ونجاسة مخففة , وهي نجاسة الغلام الذي لا يأكل الطعام . ونجاسة بين ذلك , وهي بقية النجاسات .
ويجب أن نعرف ما هو طاهر وما هو نجس من أرواث وأبوال الحيوانات فما كان يحل أكل لحمه منها ; فبوله وروثه طاهر ; كالإبل والبقر والغنم ونحوها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنين أن يلحقوا بإبل الصدقة , فيشربوا من أبوالها وألبانها . متفق عليه . فدل على طهارة بولها ; لأن النجس لا يباح التداوي به وشربه , فإن قيل : إنما أبيح للضرورة ; قلنا : لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغسل أثره إذا أرادوا الصلاة .
وفي " الصحيح " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم وأمر بالصلاة فيها وهي لا شك تبول فيها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " الأصل في الأرواث الطهارة , إلا ما استثنى . .. " انتهى .(24/34)
وسؤر ما يؤكل لحمه طاهر وهو بقية طعامه وشرابه . وسؤر الهرة طاهر ; لحديث أبي قتادة في الهرة ; قال : إنها ليست بنجس , إنها من الطوافين عليكم والطوافات رواه الترمذي وغيره وصححه , شبهها بالمماليك من خدم البيت الذين يطوفون على أهله للخدمة ولعدم التحرز منها ; ففي ذلك رفع للحرج والمشقة .
وألحق بعض العلماء بالهرة ما كان دونها في الخلقة من طير وغيره ; فسؤره طاهر كسؤر الهرة ; بجامع الطواف . وما عدا الهرة وما ألحق بها مما لا يؤكل لحمه ; فروثه وبوله وسؤره نجس.
أيها المسلم ! عليك أن تهتم بالطهارة ظاهرا وباطنا : باطنا بالتوحيد والإخلاص لله في القول والعمل , وظاهرا بالطهارة من الحدث والأنجاس ; فإن ديننا دين الطهارة والنظافة والنزاهة من الأقذار الحسية والمعنوية ; فالمسلم طاهر نزيه ملازم للطهارة , وقال صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان . ..
فعليك يا عبد الله بالاهتمام بالطهارة , والابتعاد عن الأنجاس ; فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عامة عذاب القبر من البول حينما لا يتحرز منه الإنسان , فإذا أصابك نجاسة ; فبادر إلى تطهيرها ما أمكنك ; لتبقى طاهرا , لا سيما عندما تريد الصلاة ; فتفقد حالك من جهة الطهارة , وعندها تريد الدخول في المسجد ; فانظر في نعليك , فإن وجدت فيهما أذى ; فامسحهما ونقهما ولا تدخل بهما أو تدخلهما في المسجد وفيهما نجاسة . .. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه من القول والعمل .
باب
في أحكام الحيض والنفاس(24/35)
أولا : الحيض وأحكامه قال الله تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ والحيض هو دم طبيعة وجبلة , يخرج من قعر الرحم في أوقات معلومة , خلقه الله لحكمة غذاء الولد في بطن أمه ; لافتقاره إلى الغذاء , إذ لو شاركها في غذائها ; لضعفت قواها , فجعل الله له هذا الغذاء ; لذلك قل أن تحيض الحامل , فإذا ولدت ; قلبه الله لبنا يدر من ثدييها ; ليتغذى به ولدها , ولذلك قل أن تحيض المرضع , فإذا خلت المرأة من حمل ورضاع , بقي لا مصرف له ; ليستقر في مكان من رحمها , ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة أيام , وقد يزيد عن ذلك أو يقل , ويطول شهر المرأة ويقصر حسبما ركبه الله من الطباع .
وللحائض خلال حيضها وعند نهايته أحكام مفصلة في الكتاب والسنة :
- من هذه الأحكام أن الحائض لا تصلي ولا تصوم حال حيضها , قال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت أبي حبيش : إذا أقبلت الحيضة , فدعي الصلاة فلو صامت الحائض أو صلت حال حيضها ; لم يصح لها صوم ولا صلاة , لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها عن ذلك , والنهي يقتضي عدم الصحة , بل تكون بذلك عاصية لله ولرسوله . - فإذا طهرت من حيضها ; فإنها تقضي الصوم دون الصلاة بإجماع أهل العلم , قالت عائشة رضي الله عنها : كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فكنا نؤمر بقضاء الصوم , ولا نؤمر بقضاء الصلاة متفق عليه .(24/36)
- ومن أحكام الحائض أنها لا يجوز لها أن تطوف بالبيت , ولا تقرأ القرآن , ولا تجلس في المسجد , ويحرم على زوجها وطؤها في الفرج حتى ينقطع حيضها وتغتسل : قال تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ومعنى الاعتزال : ترك الوطء . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اصنعوا كل شيء إلا النكاح رواه الجماعة إلا البخاري , وفي لفظ : إلا الجماع .
- ويجوز لزوج الحائض أن يستمتع منها بغير الجماع في الفرج , كالقبلة واللمس ونحو ذلك . - ولا يجوز لزوجها أن يطلقها وهي حائض , قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي : طاهرات من غير جماع , وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من طلق امرأته وهي حائض أن يراجعها ثم يطلقها حال طهرها إن أراد .
والطهر هو انقطاع الدم , فإذا انقطع دمها , فقد طهرت , وانتهت فترة حيضها ; فيجب عليها الاغتسال , ثم تزاول ما منعت منه بسبب الحيض , وإن رأت بعد الطهر كدرة أو صفرة ; لم تلتفت إليها ; لقول أم عطية رضي الله عنها : كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا , رواه أبو داود وغيره , وله حكم الرفع ; لأنه تقرير منه صلى الله عليه وسلم.
تنبيه هام : إذا طهرت الحائض أو النفساء قبل غروب الشمس لزمها أن تصلي الظهر والعصر من هذا اليوم , ومن طهرت منهما قبل طلوع الفجر ; لزمها أن تصلي المغرب والعشاء من هذه الليلة ; لأن وقت الصلاة الثانية وقت للصلاة الأولى في حال العذر .(24/37)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " الفتاوى " ( 22 \ 434 ) : ولهذا كان جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد إذا طهرت الحائض في آخر النهار ; صلت الظهر والعصر جميعا , وإذا طهرت في آخر الليل ; صلت المغرب والعشاء جميعا ; كما نقل ذلك عن عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس ; لأن الوقت مشترك بين الصلاتين في حال العذر , فإذا طهرت في آخر النهار ; فوقت الظهر باق , فتصليها قبل العصر , ماذا طارت في آخر الليل , فوقت المغرب باق في حال العذر , فتصليها قبل العشاء انتهى .
وأما إذا دخل عليها وقت صلاة , ثم حاضت أو نفست قبل أن تصلي , فالقول الراجح أنه لا يلزمها قضاء تلك الصلاة التي أدركت أول وقتها ثم حاضت أو نفست قبل أن تصليها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " ( 23 \ 335 ) في هذه المسألة : والأظهر في الدليل مذهب أبي حنيفة ومالك ; أنها لا يلزمها شيء ; لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد , ولا أمر هنا يلزمها بالقضاء , ولأنها أخرت تأخيرا جائزا ; فهي غير مفرطة , وأما النائم أو الناسي , وإن كان غير مفرط أيضا ; فإن ما يفعله ليس قضاء , بل ذلك وقت الصلاة في حقه حين يستيقظ ويذكر انتهى .
ثانيا : الاستحاضة وأحكامها
الاستحاضة : سيلان الدم في غير وقته على سبيل النزيف من عرق يسمى العاذل . والمستحاضة أمرها مشكل ; لاشتباه دم الحيض بدم الاستحاضة , فإذا كان الدم ينزل منها باستمرار أو غالب الوقت ; فما الذي تعتبره منه حيضا وما الذي تعتبره استحاضة لا تترك من أجله الصوم والصلاة ; فإن المستحاضة يعتبر لها أحكام الطاهرات .
وبناء على ذلك ; فإن المستحاضة لها ثلاث حالات :(24/38)
الحالة الأولى : أن تكون لها عادة معروفة لديها قبل إصابتها بالاستحاضة , بأن كانت قبل الاستحاضة تحيض خمسة أيام أو ثمانية أيام مثلا في أول الشهر أو وسطه , فتعرف عددها ووقتها ; فهذه تجلس قدر عادتها , وتدع الصلاة والصيام , وتعتبر لها أحكام الحيض , فإذا انتهت عادتها ; اغتسلت وصلت , واعتبرت الدم الباقي دم استحاضة ; لقوله صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة :
امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك , ثم اغتسلي وصلي رواه مسلم , ولقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : إنما ذلك عرق , وليس بحيض , فإذا أقبلت حيضتك ; فدعي الصلاة متفق عليه .
الحالة الثانية : إذا لم يكن لها عادة معروفة , لكن دمها متميز , بعضه يحمل صفة الحيض ; بأن يكون أسود أو ثخينا أو له رائحة , وبقيته لا تحمل صفة الحيض ; بأن يكون أحمر ليس له رائحة ولا ثخينا ; ففي هذه الحالة تعتبر الدم الذي يحمل صفة الحيض حيضا , فتجلس وتدع الصلاة والصيام , وتعتبر ما عداه استحاضة , تغتسل عند نهاية الذي يحمل صفة الحيض , وتصلي وتصوم , وتعتبر طاهرا ; لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : إذا كان دم الحيض , فإنه أسود يعرف ; فأمسكي عن الصلاة , فإذا كان الآخر ; فتوضئي وصلي رواه أبو داود والنسائي , وصححه ابن حبان والحاكم ; ففيه أن المستحاضة تعتبر صفة الدم , فتميز بها بين الحيض وغيره .
الحالة الثالثة : إذا لم يكن لها عادة تعرفها ولا صفة تميز بها الحيض من غيره ; فإنها تجلس غالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام من كل شهر ; لأن هذه عادة غالب النساء ; لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش : إنما هي ركضة من الشيطان ; فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام , ثم اغتسلي , فإذا استنقأت , فصلي أربعة وعشرين أو ثلاثة وعشرين , وصومي وصلي , فإن ذلك يجزئك , وكذلك فافعلي كما تحيض النساء رواه الخمسة , وصححه الترمذي .(24/39)
والحاصل مما سبق أن المعتادة ترد إلى عادتها , والمميزة ترد إلى العمل بالتمييز , والفاقدة لهذا تحيض ستا أو سبعا , وفي هذا جمع بين السنن الثلاث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والعلامات التي قيل بها ست : إما العادة ; فإن العادة أقوى العلامات , لأن الأصل مقام الحيض دون غيره , وإما التمييز ; لأن الدم الأسود والثخين المنتن أولى أن يكون حيضا من الأحمر , وإما اعتبار غالب عادة النساء ; لأن الأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب ; فهذه العلامات الثلاث تدل عليها السنة والاعتبار , , ثم ذكر بقية العلامات التي قيل بها .
وقال في " النهاية " : " وأصوب الأقوال اعتبار العلامات التي جاءت بها السنة , وإلغاء ما سوى ذلك " انتهى .
ما يلزم المستحاضة في حال الحكم بطهارتها
1- يجب عليها أن تغتسل عند نهاية حيضتها المعتبرة حسبما سيأتي بيانه .
تغسل فرجها لإزالة ما عليه من الخارج عند كل صلاة , وتجعل في المخرج قطنا ونحوه يمنع الخارج , وتشد عليه ما يمسكه عن السقوط , ثم تتوضأ عند دخول وقت كل صلاة . لقوله صلى الله عليه وسلم في المستحاضة :
2- تدع الصلاة أيام أقرائها , ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال : " حديث حسن " , وقال صلى الله عليه وسلم : أنعت لك الكرسف , تحشين به المكان والكرسف القطن , ويمكن استعمال الحفائظ الطبية الموجودة الآن .
ثالثا : النفاس وأحكامه
والنفاس كالحيض فيما يحل ; كالاستمتاع منها بما دون الفرج , وفيما يحرم ; كالوطء في الفرج ومنع الصوم والصلاة والطلاق والطواف وقراءة القرآن واللبث في المسجد , وفي وجوب الغسل على النفساء عند انقطاع دمها كالحائض , ويجب عليها أن تقضي الصيام دون الصلاة ; فلا تقضيها كالحائض .(24/40)
والنفاس دم ترخيه الرحم للولادة وبعدها , وهو بقية الدم الذي احتبس في مدة الحمل , وأكثر مدته عند الجمهور أربعون يوما .
قال الترمذي : أجمع أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما ; إلا أن ترى الطهر قبل ذلك ; فتغتسل وتصلي ا ه .
فإذا انقطع دم النفساء قبل الأربعين , فقد انتهى نفاسها , فتغتسل وتصلي وتزاول ما منعت منه بسبب النفاس .
وإذا ألقت الحامل ما تبين فيه خلق إنسان , بأن كان فيه تخطيط , وصار معها دم بعده ; فلها أحكام النفساء , والمدة التي يتبين فيها خلق الإنسان في الحمل ثلاثة أشهر غالبا , وأقلها واحد وثمانون يوما , وإن ألقت علقة أو مضغة ; لم يتبين فيها تخطيط إنسان ; لم تعتبر ما ينزل بعدها من الدم نفاسا ; فلا تترك الصلاة ولا الصيام , وليست لها أحكام النفساء .
تنبيه هام :
وهنا مسألة يجب التنبيه عليها , وهي أن البعض من النساء قد تتناول دواء لمنع نزول دم الحيض حتى تتمكن من صيام رمضان أو أداء الحج فإن كانت هذه الحبوب لمنع نزول الدم فترة ولا تقطعه ; فلا بأس بتناولها , وإن كانت تقطع الحيض قطعا مؤبدا ; فهذا لا يجوز ; إلا بإذن الزوج ; لأن هذا يترتب عليه قطع النسل .
هذه جمل من أحكام الحيض , مررنا عليها مرا سريعا , وتفاصيلها تحتاج إلى وقت طويل , لكن يجب على من أشكل عليه شيء منها أو من غيرها أن يسأل العلماء , فسيجد عندهم إن شاء الله ما يزيل إشكاله , وبالله التوفيق(24/41)
كتاب الصلاة
باب في وجوب الصلوات الخمس
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين , وقد وضعت على أكمل وجوه العبادة وأحسنها , وقد تضمنت هذه الصلاة كثيرا من أنواع العبادة , أن ذكر الله , وتلاوة لكتابه , وقيام بين يدي الله , وركوع , وسجود , ودعاء , وتسبيح , وتكبير , وهي رأس العبادات البدنية , ولم تخل منها شريعة رسول من رسل الله .
وقد فرضها الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل ليلة المعراج في السماء ; بخلاف سائر الشرائع ; فدل ذلك على عظمتها وتأكد وجوبها ومكانتها عند الله .
وقد جاء في فضلها ووجوبها على الأعيان أحاديث كثيرة , وفرضيتها معلومة من دين الإسلام بالضرورة , فمن جحدها ; فقد ارتد عن دين الإسلام , يستتاب , فإن تاب , وإلا ; قتل بإجماع المسلمين .(25/1)
والصلاة في اللغة : الدعاء , قال الله تعالى : وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي : ادع لهم . .. ومعناها في الشرع : أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم , سميت بذلك لاشتمالها على الدعاء ; فالمصلي لا ينفك عن دعاء عبادة أو ثناء أو طلب ; فلذلك سميت صلاة , وقد فرضت ليلة الإسراء قبل الهجرة خمس صلوات في اليوم والليلة بدخول أوقاتها على كل مسلم مكلف . قال تعالى : إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا أي : مفروضا في الأوقات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وبفعله . وقال تعالى : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وقال تعالى : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ في مواضع كثيرة من كتابه الكريم . وقال تعالى : قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وقال سبحانه : فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ فمن أتى عليه وقتها وهو بالغ عاقل ; وجبت عليه ; إلا حائضا ونفساء ; فلا تجب عليهما , ولا يقضيانها إذا طهرتا إجماعا , ومن كان زائل العقل بنوم أو إغماء ونحوه , وجب عليه القضاء حين يصحو . قال تعالى : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي وقال صلى الله عليه وسلم : ومن نام عن صلاة أو نسيها , فليصلها إذا ذكرها رواه مسلم .
ويلزم ولي الصغير أن يأمره بالصلاة إذا بلغ كسبع سنين وإن كانت لا تجب عليه , ولكن ; ليهتم بها , ويتمرن عليها , وليكتب له ولوليه الأجر إذا صلى ; لعموم قوله تعالى : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفعت إليه امرأة صبيا , فقالت : ألهذا حج ; قال : نعم , ولك أجر فيعلمه وليه الصلاة والطهارة لها .(25/2)
ويجب على الولي أن يضرب الصغير إذا تهاون بالصلاة وقد بلغ عشر سنين , لقوله صلى الله عليه وسلم : مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين , واضربوهم عليها لعشر , وفرقوا بينهم في المضاجع رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم .
ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها قال الله تعالى : إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا أي : مفروضة في أوقات معينة , لا يجوز تأخيرها عنها ; إلا لمن يريد جمعها مع ما بعدها جمع تأخير , إذا كانت مما يجمع , وكان ممن يباح لهم الجمع , وأما تأخير صلاة الليل إلى النهار أو صلاة النهار إلى الليل أو الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس , فلا يجوز بحال من الأحوال ; لا لجنابة , ولا نجاسة , ولا غير ذلك , بل يصليها في وقتها على حسب حاله .
وبعض الجهال قد يكون في حالة علاج في المستشفى على سرير لا يستطيع النزول منه , أو لا يستطيع تغيير ثيابه التي عليها نجاسة , أو ليس عنده تراب يتيمم به , أو لا يجد من يناوله إياه , فيؤخر الصلاة عن وقتها , ويقول : أصليها فيما بعد إذا زال العذر , وهذا خطأ عظيم , وتضييع للصلاة , أوقعه فيه الجهل وعدم السؤال ; فالواجب على مثل هذا أن يصلي على حسب حاله في الوقت , وتجزئه صلاته في هذه الحالة , ولو صلى بدون تيمم أو بثياب نجسة , قال الله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ حتى ولو صلى إلى غير القبلة إذا كان لا يستطيع استقبال القبلة ; فصلاته صحيحة .
ومن ترك الصلاة تهاونا أو كسلا من غير جحد لوجوبها كفر على الصحيح من قولي العلماء , بل هو الصواب الذي تدل عليه الأدلة كحديث : بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة رواه مسلم , وغيره من الأدلة .(25/3)
وينبغي الإشاعة عن تاركها بتركها ليفتضح حتى يصلي , ولا ينبغي السلام عليه , ولا إجابة دعوته , حتى يتوب ويقيم الصلاة ; لأن الصلاة عمود الدين , وهي الفارقة بين المسلم والكافر ; فمهما عمل العبد من الأعمال ; فإنه لا ينفعه ما دام مضيعا للصلاة . نسأل الله العافية .
باب في أحكام الآذان والإقامة
لما كانت الصلوات الخمس مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز فعلها قبل دخول تلك الأوقات , وكان الكثير من الناس لا يعرف دخول الوقت , أو قد يكون مشغولا لا ينتبه لدخوله ; شرع الله الأذان للصلاة , إعلاما بدخول وقتها .
وقد شرع الأذان في السنة الأولى للهجرة النبوية , وسبب مشروعيته أنه لما عسر معرفة الأوقات عليهم ; تشاوروا في نصب علامة لها ; فأري عبد الله بن زيد هذا الأذان في المنام , وأقره الوحي , وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ وقال تعالى : وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
وكل من الأذان والإقامة لهما ألفاظ مخصوصة من الذكر , وهو كلام جامع لعقيدة الإيمان ; فأولهما التكبير , وهو إجلال الله عز وجل , ثم إثبات الوحدانية لله عز وجل , وإثبات الرسالة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالشهادتين , ثم الدعاء إلى الصلاة التي هي عمود الإسلام , والدعاء إلى الفلاح , وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم , ثم يختمه بتكبير الله وإجلاله وكلمة الإخلاص التي هي من أفضل الذكر وأجله , والتي لو وزنت بالسماوات وعامرهن غير الله والأرضين السبع وعامرهن ; لرجحت بهن لعظمها وفضلها .
وقد جاءت أحاديث في فضل الأذان وأن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة .(25/4)
والأذان والإقامة فرض كفاية , وفرض الكفاية ما يلزم جميع المسلمين إقامته , فإذا قام به من يكفي ; سقط الإثم عن الباقين , وهما من شعائر الإسلام الظاهرة , وهما مشروعان في حق الرجال حضرا وسفرا للصلوات الخمس , يقاتل أهل بلد تركوهما ; لأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة , فلا يجوز تعطيلهما .
والصفات المعتبرة في المؤذن : أن يكون صيتا ; لأنه أبلغ في الإعلام , أمينا ; لأنه مؤتمن يعتبر أذانه في دخول وقت الصلاة والصيام والإفطار , ويكون عالما بالوقت , ليؤذن في أوله .
والأذان خمس عشرة جملة , كما كان بلال يؤذن به بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما , ويستحب أن يتمهل بألفاظ الأذان من غير تمطيط ولا مد مفرط , ويقف على كل جملة منه , ويستحب أن يستقبل القبلة حال الأذان , ويجعل أصبعيه في أذنيه ; لأنه أرفع للصوت , ويلتفت يمينا عند قوله : " حي على الصلاة " , وشمالا عند قوله : " حي على الفلاح " , ويقول بعد " حي على الفلاح الثانية " من أذان الفجر خاصة : " الصلاة خير من النوم " ; مرتين ; لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك ; لأنه وقت ينام الناس فيه غالبا , ولا يجوز الزيادة على ألفاظ الأذان بأذكار أخرى قبله ولا بعده , يرفع بها صوته , لأن ذلك من البدع المحدثة ; فكل ما يفعل غير الأذان الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , فهو بدعة محرمة ; كالتسبيح , والنشيد , والدعاء , والصلاة والسلام على الرسول جهرا قبل الأذان أو بعده , كل ذلك محدث مبتدع , يحرم فعله , ويجب إنكاره على من فعله.(25/5)
والإقامة إحدى عشرة جملة , يحدرها - أي : يسرع فيها - لإنهاء إعلام الحاضرين ; فلا داعي للترسل فيها , ويستحب أن يتولى الإقامة من تولى الأذان , ولا يقيم إلا بإذن الإمام ; لأن الإقامة منوط وقتها بنظر الإمام ; فلا تقام إلا بإشارته , ولا يجزئ الأذان قبل الوقت ; لأنه شرع للإعلام بدخوله ; فلا يحصل به المقصود , ولأن فيه تغريرا لمن يسمعه ; إلا أذان الفجر , فيجوز تقديمه قبل الصبح ; ليتأهب الناس لصلاة الفجر , لكن ينبغي أن يؤذن آذانا آخر عند طلوع الفجر , ليعرف الناس دخول الوقت وحلول الصلاة والصيام .
ويسن لمن سمع المؤذن إجابته بأن يقول مثل ما يقول , ويقول عند حي على الصلاة وحي على الفلاح : " لا حول ولا قوة إلا بالله " , ثم يقول بعدما يفرغ المؤذن : " اللهم رب هذه الدعوة التامة , والصلاة القائمة , آت محمدا الوسيلة والفضيلة , وابعثه المقام المحمود الذي وعدته " , ويحرم الخروج من المسجد بعد الأذان بلا عذر أو نية رجوع , وإذا شرع المؤذن في الأذان والإنسان جالس ; فلا ينبغي له أن يقوم , بل يصبر حتى يفرغ ; لئلا يتشبه بالشيطان .
وينبغي للمسلم إذا سمع الأذان أن يتوجه إلى المسجد ويترك سائر الأعمال الدنيوية . قال الله تعالى : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ الآيات .
باب
في شروط الصلاة
الشرط لغة : العلامة , وشرعا : ما يلزم من عدمه العدم , ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته , وشروط الصلاة ما تتوقف صحتها عليها مع الإمكان .
وللصلاة شرائط لا تصح إلا بها , إذا عدمت أو بعضها ; لم تصح الصلاة , ومنها :(25/6)
أولا : دخول وقتها : قال تعالى : إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا أي : مفروضا في أوقات محددة , فالتوقيت هو التحديد , وقد وقت الله الصلاة ; بمعنى أنه سبحانه حدد لها وقتا من الزمان , وقد أجمع المسلمون على أن للصلوات الخمس أوقاتا مخصوصة محدودة لا تجزئ قبلها .
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " الصلاة لها وقت شرطه الله لها لا تصح إلا به " . فالصلاة تجب بدخول وقتها ; لقوله تعالى : أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ وقد أجمع العلماء على فضيلة الإتيان بالصلاة في أول وقتها في الجملة ; لهذه الآية , ولقوله تعالى : فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ وقوله تعالى : وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وقال تعالى : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ وفي " الصحيحين " أنه صلى الله عليه وسلم سئل : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : الصلاة على وقتها وقال تعالى : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ومن المحافظة عليها الإتيان بها أول وقتها .
والصلوات المفروضات خمس في اليوم والليلة , لكل صلاة منها وقت مناسب اختاره الله لها , يتناسب مع أحوال العباد , بحيث يؤدون هذه الصلوات في هذه الأوقات , ولا تحبسهم عن أعمالهم الأخرى , بل تعينهم عليها , وتكفر عنهم خطاياهم التي يصيبونها ; فقد شبهها النبي صلى الله عليه وسلم بالنهر الجاري , الذي يغتسل منه الإنسان خمس مرات , فلا يبقى من درنه شيء . وهذه المواقيت كما يلي :(25/7)
1 - صلاة الظهر : ويبدأ وقتها بزوال الشمس ; أي : ميلها إلى المغرب عن خط المسامتة , وهو الدلوك المذكور في قوله تعالى : أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ويعرف الزوال بحدوث الظل في جانب المشرق بعد انعدامه من جانب المغرب , ويمتد وقت الظهر إلى أن يصير ظل الشيء مثله في الطول , ثم ينتهي بذلك ; لقوله صلى الله عليه وسلم : وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله رواه مسلم . ويستحب تعجيلها في أول الوقت ; إلا في شدة الحر ; فيستحب تأخيرها إلى أن ينكسر الحر ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا اشتد الحر , فأبردوا بالصلاة , فإن شدة الحر من فيح جهنم
2- صلاة العصر : يبدأ وقتها من نهاية وقت الظهر , أي : من مصير ظل كل شيء مثله , ويمتد إلى اصفرار الشمس على الصحيح من قولي العلماء . ويسن تعجيلها في أول الوقت , وهي الصلاة الوسطى التي نص الله عليها لفضلها , قال تعالى : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وقد ثبت في الأحاديث أنها صلاة العصر .
3- وصلاة المغرب : يبدأ وقتها بغروب الشمس ; أي : غروب قرصها جميعه ; بحيث لا يرى منه شيء ; لا من سهل ولا من جبل , ويعرف غروب الشمس أيضا بإقبال ظلمة الليل من المشرق ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا أقبل الليل من ها هنا , وأدبر النهار من ها هنا ; فقد أفطر الصائم ثم يمتد وقت المغرب إلى مغيب الشفق الأحمر , والشفق : بياض تخالطه حمرة , ثم تذهب الحمرة ويبقى بياض خالص ثم يغيب , فيستدل بغيبوبة البياض على مغيب الحمرة .
ويسن تعجيل صلاة المغرب في أول وقتها ; لما روى الترمذي وصححه عن سلمة ; أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب قال : وهو قول أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم .(25/8)
4- وصلاة العشاء : يبدأ وقتها بانتهاء وقت المغرب ; أي : بمغيب الشفق الأحمر , ويمتد إلى طلوع الفجر الثاني , وينقسم إلى قسمين : وقت اختيار يمتد إلى ثلث الليل , ووقت اضطرار من ثلث الليل إلى طلوع الفجر الثاني .
وتأخير الصلاة إلى آخر الوقت المختار ( إلى ثلث الليل ) أفضل إن سهل , فإن شق على المأمومين ; فالمستحب تعجيلها في أول وقتها ; دفعا للمشقة . ويكره النوم قبل صلاة العشاء ; لئلا يستغرق النائم فتفوته , ويكره الحديث بعدها , وهو التحادث مع الناس ; لأن ذلك يمنعه من المبادرة بالنوم حتى يستيقظ مبكرا ; فينبغي النوم بعد صلاة العشاء مباشرة , ليقوم في آخر الليل , فيتهجد , ويصلي الفجر بنشاط ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها . وهذا إذا كان سهره بعد العشاء من غير فائدة , أما إذا كان لغرض صحيح وحاجة مفيدة ; فلا بأس .
5- وصلاة الفجر يبدأ وقتها بطلوع الفجر الثاني , ويمتد إلى طلوع الشمس , ويستحب تعجيلها إذا تحقق طلوع الفجر .(25/9)
هذه مواقيت الصلوات الخمسة التي فرضها الله فيها ; فعليك بالتقيد بها ; بحيث لا تصليها قبل وقتها , ولا تؤخرها عنه ; فقد قال الله تعالى : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ أي : الذين يؤخرون الصلاة عن أوقاتها , وقال تعالى : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ ومعنى أضاعوها : أخروها عن وقتها ; فالذي يؤخر الصلاة عن وقتها سماه الله ساهيا عنها ومضيعا لها , وتوعده بالويل والغي , وهو واد في جهنم , ومن نسيها أو نام عنها ; تجب عليه المبادرة إلى فضائها ; قال صلى الله عليه وسلم : من نسي صلاة أو نام عنها , فليصلها إذا ذكرها , لا كفارة لها إلا ذلك فتجب المبادرة لقضاء الصلاة الفائتة على الفور , ولا ينتظر إلى دخول وقت الصلاة التي تشابهها كما يظن بعض العوام , ولا يؤخرها إلى خروج وقت النهي , بل يصليها في الحال . ..
ثانيا: ستر العورة
ومن شروط الصلاة ستر العورة وهي ما يجب تغطيته , ويقبح ظهوره , ويستحيى منه , قال الله تعالى : يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي : عند كل صلاة , وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يقبل الله صلاة حائض ( أي : بالغ ) ; إلا بخمار رواه أبو داود والترمذي وحسنه .
قال ابن عبد البر : " أجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عريانا ; فلا خلاف في وجوب ستر العورة في الصلاة وبحضرة الناس " وفي الخلوة على الصحيح , قال النبي صلى الله عليه وسلم : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت : فإذا كان القوم بعضهم في بعض ؟ قال : فإن استطعت أن لا يراها أحد ; فلا يرينها قال : فإذا كان أحدنا خاليا ؟ قال : الله أحق أن يستحى منه رواه أبو داود وغيره .(25/10)
وقد سمى الله كشف العورة فاحشة في قوله عن الكفار : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وكانوا يطوفون بالبيت عراة , ويزعمون أن ذلك من الدين ; فكشف العورة والنظر إليها يجر إلى شر خطير , ووسيلة إلى الوقوع في الفاحشة وهدم الأخلاق ; كما هو مشاهد في المجتمعات المتحللة التي ضاعت كرامتها وهدمت أخلاقياتها ; فانتشرت فيها الرذيلة , وعدمت فيها الفضيلة .
فستر العورة إبقاء على الفضيلة والأخلاق , ولهذا يحرص الشيطان على إغراء بني آدم بكشف عوراتهم , وقد حذرنا الله منه في قوله : يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا فكشف العورات مكيدة شيطانية قد وقع فيها كثير من المجتمعات البشرية اليوم , وربما يسمون ذلك رقيا وتفننا ; فتكونت نوادي العراة , وتفشى السفور في النساء , فعرضت أجسادها أمام الرجال ; بلا حياء ولا خجل .
أيها المسلم ! إنه يجب ستر العورة بما لا يصف بشرتها , قال تعالى : يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ فمواراة العورة باللباس الساتر أمر مطلوب وواجب , وحد عورة الرجل الذكر من السرة إلى الركبة ; لحديث علي رضي الله عنه : لا تبرز فخذك , ولا تنظر إلى فخذ حي أو ميت رواه أبو داود وابن ماجه , وفي الحديث الآخر : غط فخذك ; فإن الفخذ عورة رواه مالك وأحمد والترمذي وحسنه , ومع هذا كله ; نرى مع الأسف الشديد كثيرا من الرجال عندما يزاولون الألعاب يكشفون أفخاذهم ولا يغطون إلا العورة المغلظة , وهذه مخالفة صريحة لهذه النصوص ; فالواجب عليهم التنبه لذلك , والتقيد بأحكام دينهم , وعدم الالتفات لما يخالفها .(25/11)
والمرأة كلها عورة ; لقوله صلى الله عليه وسلم : والمرأة عورة صححه الترمذي , ولحديث أم سلمة : أتصلي المرأة في درع وخمار وليست عليها إزار ؟ قال : إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها رواه أبو داود , ولأبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث عائشة : لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار قال الترمذي : والعمل عليه عند أهل العلم ; أن المرأة إذا أدركت فصلت وشيء من عورتها مكشوف ; لا تجوز صلاتها . هذه الأحاديث , مع قوله تعالى : وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ الآية , وقوله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ وقوله تعالى : وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وقول عائشة : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم محرمات , فإذا مر بنا الرجال ; سدلت إحدانا خمارها على وجهها , فإذا جاوزونا : كشفناه هذه النصوص وما جاء بمعناها من الكتاب والسنة , وهي كثيرة شهيرة , تدل على أن المرأة كلها عورة أمام الرجال الأجانب , لا يجوز أن يظهر من بدنها شيء بحضرتهم في الصلاة وغيرها , أما إذا صلت في مكان خال من الرجال الأجانب ; فإنها تكشف وجهها في الصلاة ; فهو ليس بعورة في الصلاة , لكنه عورة عند الرجال غير المحارم ; فلا يجوز نظرهم إليه .
وإنه لمن المؤسف المحزن ما وصل إليه كثير من نساء العصر المسلمات من تهتك وتساهل في الستر , وتسابق إلى إبراز مفاتنهن , واتخاذ اللباس الذي لا يستر ; تقليدا لنساء الكفرة والمرتدين ; فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(25/12)
إن الله تعالى قد أمر بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة , وهو أخذ الزينة ; فقال تعالى : يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فأمر بأخذ الزينة لا بستر العورة فقط , مما يدل على أن المسلم ينبغي له أن يلبس أحسن ثيابه وأجملها في الصلاة للوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى , فيكون المصلي في هذا الموقف على أكمل هيئة ظاهرا وباطنا . ..
ثالثا: اجتناب النجاسة
ومما يشترط للصلاة اجتناب النجاسة ; بأن يبتعد عنها المصلي , ويخلو منها تماما في بدنه وثوبه وبقعته التي يقف عليها للصلاة .
والنجاسة قذر مخصوص يمنع جنسه الصلاة ; كالميتة , والدم , والخمر , والبول , والغائط : لقوله تعالى : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ قال ابن سيرين : " اغسلها بالماء " , وقال صلى الله عليه وسلم : تنزهوا من البول ; فإن عامة عذاب القبر منه وأمر صلى الله عليه وسلم المرأة أن تغسل ثوبها إذا أصابه دم الحيض وتصلي فيه , وأمر بدلك النعلين ثم الصلاة فيهما , وأمر بصب الماء على البول الذي حصل في المسجد . .. وغير ذلك من الأدلة الدالة على اجتناب النجاسة ; فلا تصح صلاة مع وجود النجاسة في بدن المصلي أو ثوبه أو البقعة التي يصلي عليها , وكذلك إذا كان حاملا لشيء فيه نجاسة .
ومن رأى عليه نجاسة بعد الصلاة ولا يدري متى حدثت ; فصلاته صحيحة , وكذا لو كان عالما بها قبل الصلاة , لكن نسي أن يزيلها ; فصلاته صحيحة على القول الراجح .
وإن علم بالنجاسة في أثناء الصلاة وأمكنه إزالتها من غير عمل كثير ; كخلع النعل والعمامة ونحوهما ; أزالهما وبنى , وإن لم يتمكن من إزالتها ; بطلت الصلاة .(25/13)
ولا تصح الصلاة في المقبرة غير صلاة الجنازة ; لقوله صلى الله عليه وسلم : الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه الخمسة إلا النسائي , وصححه الترمذي , وقال صلى الله عليه وسلم : لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها رواه الجماعة إلا البخاري , وقال عليه الصلاة والسلام : فلا تتخذوا القبور مساجد وليس العلة في النهي عن الصلاة في المقابر أو عندها خشية النجاسة , وإنما هي خشية تعظيمها واتخاذها أوثانا ; فالعلة سد الذريعة عن عبادة المقبورين , وتستثنى صلاة الجنازة ; فيجوز فعلها في المقبرة ; لفعل النبي صلى الله عليه وسلم , وذلك يخصص النهي , وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه ; لأن النهي يشمل المقبرة وفنائها الذي حولها .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المسجد المبني على القبر : لا يصلى فيه فرض ولا نفل , فإن كان المسجد قبل القبر ; غير : إما بتسوية القبر , أو نبشه إن كان جديدا , وإن كان القبر قبل المسجد ; فإما أن يزال المسجد , وإما أن تزال صورة القبر .
ولا تصح الصلاة في المسجد الذي قبلته إلى قبر ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تصلوا إلى القبور ولا تصح الصلاة في الحشوش , وهي المراحيض المعدة لقضاء الحاجة ; فيمنع من الصلاة في داخل الحش ; لكونه معدا للنجاسة , ولأن الشارع منع من ذكر الله فيه ; فالصلاة أولى بالمنع , ولأن الحشوش تحضرها الشياطين .
ولا تصح الصلاة في الحمام , وهو المحل المعد للاغتسال ; لأنه محل كشف العورات , ومأوى الشياطين , والمنع يشمل كل ما يغلق عليه باب الحمام ; فلا تجوز الصلاة فيه .
ولا تصح الصلاة في أعطان الإبل , وهي المواطن التي تقيم فيها وتأوي إليها . قال الشيخ تقي الدين : " نهي عن الصلاة في أعطانها ; لأنها مأوى الشياطين , وكما نهي عن الصلاة في الحمام ; لأنه مأوى الشياطين ; فإن مأوى الأرواح الخبيثة أحق بأن تجتنب الصلاة فيه " .(25/14)
وتكره الصلاة في مكان فيه تصاوير قال الإمام ابن القيم : " وهو أحق بالكراهة من الصلاة في الحمام ; لأن كراهة الصلاة في الحمام : إما لكونه مظنة النجاسة , وإما لكونه بيت الشيطان , وهو الصحيح , وأما محل الصور ; فمظنة الشرك , وغالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور " ا هـ .
أيها المسلم ! عليك بالعناية بصلاتك ; فتطهر من النجاسة قبل دخولك فيها , وتجنب المواضع المنهي عن الصلاة فيها ; لتكون صلاتك صحيحة على وفق ما شرعه الله , ولا تتهاون بشيء من أحكامها أو تتساهل فيه ; فإن صلاتك عمود دينك , متى استقامت ; استقام الدين , ومتى اختلت ; اختل الدين . .. وفقنا الله جميعا لما فيه الخير والاستقامة .
رابعا: استقبال القبلة
ومن شروط الصلاة استقبال القبلة وهي الكعبة المشرفة , سميت قبلة لإقبال الناس عليها , ولأن المصلي يقابلها , قال تعالى : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فإن قرب من الكعبة , وكان يراها ; وجب عليه استقبال نفس الكعبة بجميع بدنه ; لأنه قادر على التوجه إلى عينها قطعا , فلم يجز له العدول عنها , ومن كان قريبا منها , لكن لا يراها ; لوجود حائل بينه وبينها ; اجتهد في إصابتها , والتوجه إليها ما أمكنه , ومن كان بعيدا عن الكعبة في أي وجهة من جهات الأرض ; فإنه يستقبل في صلاته الجهة التي فيها الكعبة , ولا يضر التيامن ولا التياسر اليسيران , لحديث : ما بين المشرق والمغرب قبلة صححه الترمذي , وروي عن غير واحد من الصحابة , وهذا بالنسبة لأهل المدينة وما وافق قبلتها مما سامتها , ولسائر البلدان مثل ذلك ; فالذي في المشرق مثلا تكون قبلته بين الجنوب والشمال والذي في المغرب كذلك .(25/15)
فلا تصح الصلاة بدون استقبال القبلة , لقوله تعالى : وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي : في بر أو جو أو بحر أو مشرق أو مغرب ; إلا العاجز عن استقبال الكعبة : كالمربوط أو المصلوب لغير القبلة إذا كان موثقا لا يقدر عليه ; فإنه يصلي حسب استطاعته , ولو لم يستقبل القبلة ; لأن هذا الشرط يسقط عنه للعجز بإجماع أهل العلم , وكذا في حال اشتداد الحرب , والهارب من سيل أو نار أو سبع أو عدو , والمريض الذي لا يستطيع استقبال القبلة ; فكل هؤلاء يصلون على حسب حالهم , ولو إلى غير القبلة , وتصح صلاتهم ; لأنه شرط عجز عنه ; فسقط , قال تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : وإذا أمرتكم بأمر ; فأتوا منه ما استطعتم وورد في الحديث المتفق عليه ; أنهم عند اشتداد الخوف يصلون مستقبلي القبلة وغير مستقبليها .
ويستدل على القبلة بأشياء كثيرة ; منها : الإخبار , فإذا أخبره بالقبلة مكلف ثقة عدل ; عمل بخبره , إذا كان المخبر متيقنا القبلة , وكذا إذا وجد محاريب إسلامية ; عمل بها , واستدل بها على القبلة ; لأن دوام التوجه إلى جهة تلك المحاريب يدل على صحة اتجاهها , وكذلك يستدل على القبلة بالنجوم , قال الله تعالى : وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ
خامسا: النية
ومن شروط الصلاة النية وهي لغة : القصد , وشرعا : العزم على فعل العبادة تقربا إلى الله تعالى . ومحلها القلب ; فلا يحتاج إلى التلفظ بها , بل هو بدعة , لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ; فينوي بقلبه الصلاة التي يريدها , كالظهر والعصر ; لحديث : إنما الأعمال بالنيات وينوي مع تكبيرة الإحرام , لتكون النية مقارنة للعبادة , وإن تقدمت بزمن يسير في الوقت ; فلا بأس .(25/16)
ويشترط أن تستمر النية في جميع الصلاة , فإن قطعها في أثناء الصلاة ; بطلت الصلاة . ويجوز لمن أحرم في صلاة فريضة وهو مأموم أو منفرد أن يقلب صلاته نافلة إذا كان ذلك لغرض صحيح ; مثل أن يحرم منفردا , فيريد الصلاة مع الجماعة .
واعلم أن بعض الناس قد أحدثوا في النية بدعة وتشددا ما أنزل الله بهما من سلطان , وذلك بأن يقول أحدهم : نويت أن أصلي فرض كذا عدد كذا من الركعات أداء لله خلف هذا الإمام . .. ونحو ذلك من الألفاظ , وهذا شيء لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلم ينقل عنه أنه تلفظ بالنية لا سرا ولا جهرا , ولا أمر بذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " اتفق الأئمة أنه لا يشرع الجهر بها ولا تكريرها , بل من اعتاده ينبغي تأديبه , والجاهر بها مستحق للتعزير بعد تعريفه , لا سيما إذا آذى به أو كرره . .. " إلى أن قال : " وبعض المتأخرين خرج وجها من مذهب الشافعي في ذلك , وغلطه جماهير أصحاب الشافعي , قال الشافعي : إن الصلاة لا بد من النطق في أولها , فظن الغالط أنه أراد النطق بالنية , وإنما أراد التكبير " ا هـ كلام الشيخ .
والتلفظ بالنية كما أنه بدعة , فقد يدخل في الرياء أيضا ; لأن المطلوب إخلاص العمل لله وإخفاؤه ; إلا ما ورد دليل بإظهاره ; فالذي ينبغي للمسلم أن يكون وقافا عند حدود الشريعة , عاملا بالسنن , تاركا للبدع , مهما كان نوعها , وممن كان مصدرها . .. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه , والله تعالى يقول : قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فالله أعلم بنيات القلوب ومقاصدها ; فلا حاجة إلى التلفظ بها في الصلاة وفي جميع العبادات , والله تعالى أعلم .
باب في آداب المشي إلى الصلاة(25/17)
أيها المسلم ! إنك بحاجة ماسة إلى معرفة الآداب المشروعة التي تسبق الصلاة ; استعدادا لها ; لأن الصلاة عبادة عظيمة ينبغي أن يسبقها استعداد وتهيؤ مناسب ; ليدخل المسلم في هذه العبادة على أحسن الهيئات : فإذا مشيت إلى المسجد لتؤدي الصلاة مع جماعة المسلمين ; فليكن ذلك بسكينة ووقار , والسكينة : هي الطمأنينة والتأني في المشي , والوقار : الرزانة والحلم وغض البصر وخفض الصوت وقلة الالتفات .
وقد ورد في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم ; قال : إذا أتيتم الصلاة ( وفي لفظ : إذا سمعتم الإقامة ) ; فامشوا وعليكم السكينة , فما أدركتم ; فصلوا , وما فاتكم ; فأتموا وروى الإمام مسلم ; قال : إن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة ; فهو في صلاة وليكن خروجك أيها المسلم إلى المسجد مبكرا ; لتدرك تكبيرة الإحرام , وتحضر الصلاة مع الجماعة من أولها , وقارب بين خطاك في مشيك إلى الصلاة ; لتكثر حسناتك ; ففي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم , أنه قال : إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء , ثم خرج إلى المسجد , لم يخط خطوة ; إلا رفعت له بها درجة , وحطت عنه بها خطيئة فإذا وصلت باب المسجد ; فقدم رجلك اليمنى عند الدخول , وقل : بسم الله , أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم , اللهم صل على محمد , اللهم اغفر لي ذنوبي , وافتح لي أبواب رحمتك . وإذا أردت الخروج ; قدم رجلك اليسرى , وقل الدعاء الذي قلته عند الدخول , وتقول بدل : " وافتح لي أبواب رحمتك " : " وافتح لي أبواب فضلك " , وذلك لأن المسجد محل الرحلة , وخارج المسجد محل الرزق , وهو فضل من الله . فإذا دخلت المسجد ; فلا تجلس حتى تصلي ركعتين تحية المسجد ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا دخل المسجد , فلا يجلس حتى يصلي ركعتين(25/18)
ثم تجلس تنتظر الصلاة , ولتكن حال جلوسك في المسجد لانتظار الصلاة مشتغلا بذكر الله وتلاوة القرآن , وتجنب العبث ; كتشبيك الأصابع وغيره ; فقد ورد النهي عنه في حق منتظر الصلاة , قال صلى الله عليه وسلم : إذا كان أحدكم في المسجد ; فلا يشبكن ; فإن التشبيك من الشيطان أما من كان في المسجد لغير انتظار الصلاة ; فلا يمنع من تشبيك الأصابع , فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شبك أصابعه في المسجد بعد ما سلم من الصلاة .
وفي حال انتظارك الصلاة في المسجد ; لا تخض في أحاديث الدنيا ; لأنه ورد في الحديث أن ذلك يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب , وقد ورد في الحديث الأخر أن العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة , والملائكة تستغفر له ; فلا تفرط أيها المسلم في هذا الثواب وتضيعه بالعبث والاشتغال بالقيل والقال .
وإذا أقيمت الصلاة ; فقم إليها عند قول المؤذن . : " قد قامت الصلاة " , لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك , وإن قمت عند بدء الإقامة ; فلا بأس بذلك , هذا إذا كان المأموم يرى الإمام , فإن كان لا يراه حال الإقامة ; فالأفضل أن لا يقوم حتى يراه .
أيها المسلم ! احرص أن تكون في الصف الأول ; فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول , ثم لا يجدون إلا أن يستهموا عليه ; لاستهموا متفق عليه , وقال صلى الله عليه وسلم : خير صفوف الرجال أولها واحرص على -88- القرب من الإمام ; فقد قال صلى الله عليه وسلم : ليلني منكم أولو الأحلام والنهى هذا بالنسبة للرجل , وأما بالنسبة للمرأة , فالصف الأخير من صفوف النساء أفضل لها ; لقوله صلى الله عليه وسلم : وخير صفوف النساء آخرها لأن ذلك أبعد لها عن رؤية الرجال .(25/19)
ويتأكد في حق الإمام والمصلين الاهتمام بتسوية الصفوف , قال صلى الله عليه وسلم : سووا صفوفكم ; فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة متفق عليه , وفي الحديث الآخر : لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم وتسوية الصفوف هي تعديلها بمحاذاة المناكب والأكعب .
ويتأكد في حق المصلين سد الفرج والتراص في الصفوف ; لقوله صلى الله عليه وسلم : سووا صفوفكم وتراصوا رواه البخاري , ومعناه : لاصقوا الصفوف حتى لا يكون بينكم فرج , فالمراصة : التصاق بعض المأمومين ببعض ; ليتصل ما بينهم , وينسد الخلل ; فلا تبقى فرجات للشيطان .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بتسوية الصفوف بتراص المأمومين فيها اهتماما بالغا , مما يدل على أهمية ذلك وفائدته , وليس معنى رص الصفوف ما يفعله بعض الجهال اليوم من فحج رجليه حتى يضايق من بجانبه ; لأن هذا العمل يوجد فرجا في الصفوف , ويؤذي المصلين , ولا أصل له في الشرع ; فينبغي للمسلمين الاهتمام بذلك , والحرص عليه , اقتداء بنبيهم , وإتماما لصلاتهم , وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .
باب
في أركان الصلاة وواجباتها وسننها
أيها المسلم ! إن الصلاة عبادة عظيمة , تشتمل على أقوال وأفعال مشروعة تتكون منها صفتها الكاملة ; فهي كما يعرفها العلماء : أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم .
وهذه الأقوال والأفعال ثلاثة أقسام : أركان , وواجبات , وسنن .
فالأركان : إذا ترك منها شيء , بطلت الصلاة , سواء كان تركه عمدا أو سهوا , أو بطلت الركعة التي تركه منها , وقامت التي تليها مقامها , كما يأتي بيانه .
والواجبات : إذا ترك منها شيء عمدا ; بطلت الصلاة , وإن كان تركه سهوا ; لم تبطل , ويجبره سجود السهو .
والسنن لا تبطل الصلاة بترك شيء منها لا عمدا ولا سهوا , لكن تنقص هيئة الصلاة بذلك . والنبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة كاملة بجميع أركانها وواجباتها وسننها , وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي . ..(25/20)
فأركان الصلاة أربعة عشر : وهي كما يلي :
الركن الأول : القيام في صلاة الفريضة : قال تعالى : وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ وفي حديث عمران مرفوعا : صل قائما , فإن لم تستطع , فقاعدا , فإن لم تستطع ; فعلى جنب فدلت الآية والحديث على وجوب القيام في الصلاة المفروضة مع القدرة عليه . فإن لم يقدر على القيام لمرض ; صلى على حسب حاله قاعدا أو على جنب , ومثل المريض الخائف والعريان , ومن يحتاج للجلوس أو الاضطجاع لمداواة تتطلب عدم القيام , وكذلك من كان لا يستطيع القيام لقصر سقف فوقه , ولا يستطيع الخروج , ويعذر أيضا بترك القيام من يصلي خلف الإمام الراتب الذي يعجز عن القيام , فإذا صلى قاعدا ; فإن من خلفه يصلون قعودا ; تبعا لإمامهم ; لأنه صلى الله عليه وسلم لما مرض ; صلى قاعدا , وأمر من خلفه بالقعود .
وصلاة النافلة يجوز أن تصلى قياما وقعودا ; فلا يجب القيام فيها ; لثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها أحيانا جالسا من غير عذر .
الركن الثاني : تكبيرة الإحرام في أولها : لقوله صلى الله عليه وسلم : ثم استقبل القبلة وكبر وقوله صلى الله عليه وسلم : تحريمها التكبير ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه افتتح الصلاة بغير التكبير , وصيغتها أن يقول : الله أكبر , لا يجزيه غيرها ; لأن هذا هو الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
الركن الثالث : قراءة الفاتحة : لحديث : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب
وقراءتها ركن في كل ركعة , وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرؤها في كل ركعة , وحينما علم صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته كيف يصلي ; أمره بقراءة الفاتحة .
وهل هي واجبة في حق كل مصل , أو يختص وجوبها بالإمام والمنفرد ؟ فيه خلاف بين العلماء , والأحوط أن المأموم يحرص على قراءتها في الصلوات التي لا يجهر فيها الإمام , وفي سكتات الإمام في الصلاة الجهرية .(25/21)
الركن الرابع : الركوع في كل ركعة : لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وقد ثبت الركوع في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ; فهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع . وهو في اللغة الانحناء , والركوع المجزئ من القائم هو أن ينحني حتى تبلغ كفاه ركبتيه إذا كان وسط الخلقة ; أي : غير طويل اليدين أو قصيرهما , وقدر ذلك من غير وسط الخلقة , والمجزئ من الركوع في حق الجالس مقابلة وجهه ما وراء ركبتيه من الأرض .
الركن الخامس والسادس : الرفع من الركوع والاعتدال واقفا كحاله قبله : لأنه صلى الله عليه وسلم داوم على فعله , وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي
الركن السابع : السجود : وهو وضع الجبهة على الأرض , ويكون على الأعضاء السبعة , في كل ركعة مرتين ; لقوله تعالى : وَاسْجُدُوا وللأحاديث الواردة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم به , وفعله له , وقوله : صلوا كما رأيتموني أصلي فالأعضاء السبعة هي : الجبهة , والأنف , واليدان , والركبتان , وأطراف القدمين ; فلا بد أن يباشر كل واحد من هذه الأعضاء موضع السجود وحسب الإمكان , والسجود أعظم أركان الصلاة , وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ; فأفضل الأحوال حال يكون العبد فيها أقرب إلى الله , وهو السجود .
الركن الثامن : الرفع من السجود والجلوس بين السجدتين : لقول عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجود ; لم يسجد حتى يستوي قاعدا رواه مسلم .
الركن التاسع : الطمأنينة في كل الأفعال المذكورة : وهي السكون , وإن قل , وقد دل الكتاب والسنة على أن من لا يطمئن في صلاته ; لا يكون مصليا , ويؤمر بإعادتها .(25/22)
الركن العاشر والحادي عشر : التشهد الأخير وجلسته : وهو أن يقول : ( التحيات . .. " إلخ " اللهم صل على محمد " ; فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لازمه , وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي وقال ابن مسعود رضي الله عنه : كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد ; فقوله : قبل أن يفرض : دليل على فرضه .
الركن الثاني عشر : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير : بأن يقول : " اللهم صل على محمد ... " وما زاد على ذلك ; فهو سنة .
الركن الثالث عشر : الترتيب بين الأركان : لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها مرتبة , وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي وقد علمها للمسيء مرتبة ب ( ثم ) .
الركن الرابع عشر : التسليم : لقوله صلى الله عليه وسلم : وختامها التسليم وقوله صلى الله عليه وسلم : وتحليلها التسليم فالتسليم وشرع للتحلل من الصلاة ; فهو ختامها وعلامة انتهائها .
أيها القارئ الكريم ! من ترك ركنا من هذه الأركان : فإن كان التحريمة ; لم تنعقد صلاته , وإن كان غير التحريمة , وقد تركه عمدا ; بطلت صلاته أيضا , وإن كان تركه سهوا - كركوع أو سجود - , فإن ذكره قبل شروعه في قراءة ركعة أخرى ; فإنه يعود ليأتي به وبما بعده من الركعة التي تركه فيها , وإن ذكره بعد شروعه في قراءة الركعة الأخرى ; ألغيت الركعة التي تركه منها وقامت الركعة التي شرع في قراءتها مقامها , ويسجد للسهو , وإن علم الركن المتروك بعد السلام , فإن كان تشهدا أخيرا أو سلاما ; أتى به , وسجد للسهو وسلم , وإن كان غيرهما - كركوع أو سجود - ; فإنه يأتي بركعة كاملة بدل الركعة التي تركه منها , ويسجد للسهو , ما لم يطل الفصل , فمان طال الفصل , أو انتقض وضوؤه ; أعاد الصلاة كاملة . فما أعظم هذه الصلاة وما تشمل من الأقوال والأفعال الجليلة ! وفق الله الجميع لإقامتها والمحافظة عليها .
واجبات الصلاة ثمانية(25/23)
الأول : جميع التكبيرات التي في الصلاة غير تكبيرة الإحرام واجبة ; فجميع تكبيرات الانتقال من قبيل الواجب لا من قبيل الركن .
الثاني : التسميع ; أي قول : " سمع الله لمن حمده " , وإنما يكون واجبا في حق الإمام والمنفرد , فأما المأموم ; فلا يقوله .
الثالث : التحميد ; أي قول : " ربنا ولك الحمد " , للإمام والمأموم والمنفرد ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده ; فقولوا : ربنا ولك الحمد
الرابع : قول : " سبحان ربي العظيم " , في الركوع , مرة واحدة , ويسن الزيادة إلى ثلاث هي أوفى الكمال , وإلى عشر وهي أعلاه .
الخامس : قوله : " سبحان ربي الأعلى " , في السجود , مرة واحدة , وتسن الزيادة إلى ثلاث .
السادس : قول : " رب اغفر لي " , بين السجدتين , مرة واحدة , وتسن الزيادة إلى ثلاث .
السابع : التشهد الأول , وهو أن يقول : " التحيات لله والصلوات والطيبات , السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته , السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين , أشهد أن لا إله إلا الله , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " , أو نحو ذلك مما ورد .
الثامن : الجلوس للتشهد الأول ; لفعله صلى الله عليه وسلم ذلك , ومداومته عليه , مع قوله صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي
ومن ترك واجبا من هذه الواجبات القولية والفعلية الثمانية متعمدا ; بطلت صلاته ; لأنه متلاعب فيها , ومن تركه سهوا أو جهلا ; فإنه يسجد للسهو ; لأنه ترك واجبا يحرم تركه , فيجبره بسجود السهو .
سنن الصلاة
والقسم الثالث من أفعال وأقوال الصلاة غير ما ذكر في القسمين الأولين : سنة , لا تبطل الصلاة بتركه .
وسنن الصلاة نوعان :(25/24)
النوع الأول : سنن الأقوال , وهي كثيرة ; منها : الاستفتاح , والتعوذ , والبسملة , والتأمين , والقراءة بعد الفاتحة بما تيسر من القرآن في صلاة الفجر وصلاة الجمعة والعيد وصلاة الكسوف والركعتين الأوليين من المغرب والعشاء والظهر والعصر .
ومن سنن الأقوال قول : " ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد " ; بعد قوله : " ربنا ولك الحمد " , وما زاد على المرة الواحدة في تسبيح ركوع وسجود , والزيادة على المرة في قول : " رب اغفر لي " ; بين السجدتين , وقوله : " اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم , ومن عذاب القبر , ومن فتنة المحيا والممات , ومن فتنة المسيح الدجال " , وما زاد على ذلك من الدعاء في التشهد الأخير .
والنوع الثاني : سنن الأفعال ; كرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام , وعند الهوي إلى الركوع , وعند الرفع منه , ووضع اليد اليمنى على اليسرى , ووضعهما على صدره أو تحت سرته في حال القيام , والنظر إلى موضع سجوده , ووضع اليدين على الركبتين في الركوع , ومجافاة بطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه في السجود , ومد ظهره في الركوع معتدلا , وجعل رأسه حياله ; فلا يخفضه ولا يرفعه , وتمكين جبهته وأنفه وبقية الأعضاء من موضع السجود , وغير ذلك من سنن الأقوال والأفعال مما هو مفصل في كتب الفقه .
وهذه السنن لا يلزم الإتيان بها في الصلاة , بل من فعلها أو شيئا منها ; فله زيادة أجر , ومن تركها أو بعضها ; فلا حرج عليه ; شأن سائر السنن .(25/25)
ومن هنا لا نرى مبررا لما يفعله بعض الشباب اليوم من التشدد في أمر السنن في الصلاة , حتى ربما أدى بهم هذا إلى التزيد في تطبيقها بصورة غريبة ; كأن يحني أحدهم رأسه في القيام إلى قريب من الركوع , ويجمع يديه على ثغرة نحره بدلا من وضعهما على صدره أو تحت سرته ; كما وردت به السنة , وتشددهم في شأن السترة , حتى إن بعضهم يترك القيام في الصف لأداء النافلة , ويذهب إلى مكان آخر , يبحث فيه عن سترة , وكذا مد أحدهم رأسه إلى أمام ورجليه إلى خلف في السجود , حتى يصبح كالقوس أو قريبا من المنبطح , وكذا فحج أحدهم رجليه في حال القيام حتى يضيق على من بجانبه , وهذه صفات غريبة , ربما تؤدي بهم إلى الغلو الممقوت . ونسأل الله لنا ولهم التوفيق للحق والعمل به .
باب
في صفة الصلاة
بعد أن بينا أركان الصلاة وواجباتها وسننها القولية والفعلية نريد أن نذكر صفة الصلاة المشتملة على تلك الأركان والواجبات والسنن حسبما وردت به النصوص من صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم , لتكون قدوة للمسلم ; عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي وإليك سياق ذلك :
- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة ; استقبل القبلة , ورفع يديه , واستقبل ببطون أصابعها القبلة , وقال : " الله أكبر " .
- ثم يمسك شماله بيمينه , ويضعهما على صدره .
- ثم يستفتح , ولم يكن صلى الله عليه وسلم يداوم على استفتاح واحد ; فكل الاستفتاحات الثابتة عنه يجوز الاستفتاح بها , ومنها ; " سبحانك اللهم وبحمدك , وتبارك اسمك , وتعالى جدك , ولا إله غيرك " .
- ثم يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم , بسم الله الرحمن الرحيم .
- ثم يقرأ فاتحة الكتاب , فإذا ختمها ; قال : " آمين " .(25/26)
- ثم يقرأ بعد ذلك سورة طويلة تارة وقصيرة تارة ومتوسطة تارة , وكان يطيل قراءة الفجر أكثر من سائر الصلوات , وكان يجهر بالقراءة في الفجر والأوليين من المغرب والعشاء ويسر القراءة فيما سوى ذلك , وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية .
- ثم يرفع يديه كما رفعهما في الاستفتاح , ثم يقول : " الله أكبر " , ويخر راكعا , ويضع يديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع , ويمكنهما , ويمد ظهره , ويجعل رأسه حياله , لا يرفعه ولا يخفضه , ويقول : " سبحان ربي العظيم " .
- ثم يرفع رأسه قائلا : " سمع الله لمن حمده " , ويرفع يديه كما يرفعهما عند الركوع .
- فإذا اعتدل قائما ; قال : " ربنا لك الحمد " , وكان يطيل هذا الاعتدال .
- ثم يكبر , ويخر ساجدا , ولا يرفع يديه , فيسجد على جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وأطراف قدميه , ويستقبل بأصابع يديه ورجليه القبلة , ويعتدل في سجوده , ويمكن جبهته وأنفه من الأرض , ويعتمد على كفيه , ويرفع مرفقيه , ويجافي عضديه عن جنبيه , ويرفع بطنه عن فخذيه , وفخذيه عن ساقيه , وكان يقول في سجوده : " سبحان ربي الأعلى " .
- ثم يرفع رأسه قائلا : " الله أكبر " , ثم يفرش رجله اليسرى , ويجلسه عليها , وينصب اليمنى , ويضع يديه على فخذيه , ثم يقول : " اللهم اغفر لي , وارحمني , واجبرني , واهدني , وارزقني " .
- ثم يكبر ويسجد , ويصنع في الثانية مثل ما صنع في الأولى .
- ثم يرفع رأسه مكبرا , وينهض على صدور قدميه , معتمدا على ركبتيه وفخذيه .
- فإذا استتم قائما ; أخذ في القراءة , ويصلي الركعة الثانية كالأولى .(25/27)
- ثم يجلس للتشهد الأول مفترشا كما يجلس بين السجدتين , ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى , ويده اليسرى على فخذه اليسرى , ويضع إبهام يده اليمنى على أصبعه الوسطى كهيئة الحلقة , ويشير بأصبعه السبابة , وينظر إليها , ويقول : " التحيات لله , والصلوات , والطيبات , السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته , السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين , أشهد أن لا إنه إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " , وكان صلى الله عليه وسلم يحفف هذه الجلسة .
- ثم ينهض مكبرا , فيصلي الثالثة والرابعة , ويخففهما عن الأوليين , ويقرأ فيهما بفاتحة الكتاب .
- ثم يجلس في تشهده الأخير متوركا ; يفرش رجله اليسرى , بأن يجعل ظهرها على الأرض , وينصب رجله اليمنى , ويخرجهما عن يمينه , ويجعل أليتيه على الأرض .
- ثم يتشهد التشهد الأخير , وهو التشهد الأول , ويزيد عليه : " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد , كما صليت على آل إبراهيم ; إنك حميد مجيد , وباك على محمد وعلى آل محمد , كما باركت على آل إبراهيم ; إنك حميد مجيد " .
- ويستعيذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال , ويدعو بما ورد من الأدعية في الكتاب والسنة .
- ثم يسلم عن يمينه , فيقول : " السلام عليكم ورحمة الله " , وعن يساره كذلك , يبتدئ السلام متوجها إلى القبلة , وينهيه مع تمام الالتفات .
- فماذا سلم , قال : " استغفر الله ( ثلاثا ) , اللهم إنك أنت السلام , ومنك السلام , تباركت يا ذا الجلال والإكرام " , ثم يذكر الله بما ورد .(25/28)
أيها المسلم ! هذه جملة مختصرة في صفة الصلاة حسبما ورد في النصوص ; فعليك أن تهتم بصلاتك غاية الاهتمام , وأن تكون صلاتك متفقة حسب الإمكان مع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ! , فقد قال الله تعالى : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًاونسأل الله للجميع التوفيق والقبول .
باب
في بيان ما يكره في الصلاة
يكره في الصلاة الالتفات بوجهه وصدره ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : وهو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد رواه البخاري ; إلا أن يكون ذلك لحاجة ; فلا بأس به ; كما في حالة الخوف , أو كان لغرض صحيح . فإن استدار بجميع بدنه , أو استدبر الكعبة في غير حالة الخوف ; بطلت صلاته ; لتركه الاستقبال بلا عذر .
فتبين بهذا أن الالتفات في الصلاة في حالة الخوف لا بأس به ; لأن ذلك من ضروريات القتال , وإن كان في غير حالة الخوف , فإن كان بالوجه والصدر فقط دون بقية البدن , فإن كان لحاجة ; فلا بأس , وإن كان لغير حاجة ; فهو مكروه , وإن كان بجميع البدن ; بطلت صلاته .
ويكره في الصلاة رفع بصره إلى السماء , فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من يفعل ذلك ; فقال : ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم ؟ ! واشتد قوله في ذلك , حتى قال : لينتهن أو لتخطفن أبصارهم رواه البخاري .
وقد سبق أنه ينبغي أن يكون نظر المصلي إلى موضع سجوده ; فلا ينبغي له أن يسرح بصره فيما أمامه من الجدران والنقوش والكتابات ونحو ذلك ; لأن ذلك يشغله عن صلاته .
ويكره في الصلاة تغميض عينيه لغير حاجة ; لأن ذلك من فعل اليهود , لأن كان التغميض لحاجة , كأن يكون أمامه ما يشوش عليه صلاته ; كالزخارف والتزويق ; فلا يكره إغماض عينيه عنه , هذا معنى ما ذكره ابن القيم رحمه الله .(25/29)
ويكره في الصلاة إقعاؤه في الجلوس , وهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا رفعت رأسك من السجود ; فلا تقع كما يقعي الكلب رواه ابن ماجه , وما جاء بمعناه من الأحاديث .
ويكره في الصلاة أن يستند إلى جدار ونحوه حال القيام ; إلا من حاجة ; لأنه يزيل مشقة القيام , فإن فعله لحاجة - كمرض ونحوه - ; فلا بأس .
ويكره في الصلاة افتراش ذراعيه حال السجود ; بأن يمدهما على الأرض مع إلصاقهما بها , قال صلى الله عليه وسلم : اعتدلوا في السجود , ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب متفق عليه , وفي حديث آخر : ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب
ويكره في الصلاة العبث - وهو اللعب - وعمل ما لا فائدة فيه بيد أو رجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك , ومنه مسح الأرض من غير حاجة .
ويكره في الصلاة التخصر , وهو وضع اليد على الخاصرة , وهي الشاكلة ما فوق رأس الورك من المستدق , وذلك لأن التخصر فعل الكفار والمتكبرين , وقد نهينا عن التشبه بهم , وقد ثبت في الحديث المتفق عليه النهي عن أن يصلي الرجل متخصرا .
ويكره في الصلاة فرقعة أصابعه وتشبيكها .
ويكره أن يصلي وبين يديه ما يشغله ويلهيه ; لأن ذلك يشغله عن إكمال صلاته .
وتكره الصلاة في مكان فيه تصاوير ; لما فيه من التشبه بعبادة الأصنام , سواء كانت الصورة منصوبة أو غير منصوبة على الصحيح .
ويكره أن يدخل في الصلاة وهو مشوش الفكر بسبب وجود شيء يضايقه ; كاحتباس بول , أو غائط , أو ريح , أو حالة برد أو حر شديدين , أو جوع أو عطش مفرطين ; لأن ذلك يمنع الخشوع.
وكذا يكره دخوله في الصلاة بعد حضور طعام يشتهيه ; لقوله عليه الصلاة والسلام : لا صلاة بحضرة طعام , ولا هو يدافعه الأخبثان رواه مسلم . وذلك كله رعاية لحق الله تعالى ليدخل العبد في العبادة بقلب حاضر مقبل على ربه .
ويكره للمصلي أن يخص جبهته بما يسجد عليه ; لأن ذلك من شعار الرافضة ; ففي ذلك الفعل تشبه بهم .(25/30)
ويكره في الصلاة مسح جبهته وأنفه مما علق بهما من أثر السجود , ولا بأس بمسح ذلك بعد الفراغ من الصلاة .
ويكره في الصلاة العبث بمس لحيته وكف ثوب وتنظيف أنفه ونحو ذلك ; لأن ذلك يشغله عن صلاته .
والمطلوب من المسلم أن يتجه إلى صلاته بكليته , ولا يتشاغل عنها بها ليس منها , يقول الله سبحانه : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فالمطلوب إقامة الصلاة بحضور القلب والخشوع , والإتيان بما يشرع لهما , وترك ما ينافيهما أو ينقصهما من الأقوال والأفعال ; لتكون صلاة صحيحة مبرئة لذمة فاعلها , ولتكون صلاة في صورتها وحقيقتها , لا في صورتها فقط وفق الله الجميع لها فيه الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .
باب في بيان ما يستحب أو يباح فعله في الصلاة
يسن للمصلي رد المار من أمامه قريبا منه ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا كان أحدكم يصلي , فلا يدعن أحدا يمر بين يديه , فإن أبى , فليقاتله ; فإن معه القرين رواه مسلم .
لكن إذا كان أمام المصلي سترة ( أي : شيء مرتفع من جدار أو نحوه ) ; فلا بأس أن يمر من ورائها , وكذا إذا احتاج إلى المرور لضيق المكان ; فيمر , ولا يرده المصلي , وكذا إذا كان يصلي في الحرم ; فلا يمنع المرور بين يديه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة والناس يمرون بين يديه وليس دونهم سترة , رواه الخمسة .(25/31)
واتخاذ السترة سنة في حق المنفرد والإمام ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا صلى أحدكم , فليصل إلى سترة , وليدن منها رواه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد , وأما المأموم ; فسترته سترة إمامه . وليس اتخاذ السترة بواجب , لحديث ابن عباس ; أنه صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء رواه أحمد وأبو داود . وينبغي أن تكون السترة قائمة كمؤخرة الرحل ; أي : قدر ذراع , سواء كانت دقيقة أو عريضة . والحكمة في اتخاذها ; لتمنع المار بين يديه , ولتمنع المصلي من الانشغال بما وراءها . وإن كان في صحراء ; صلى إلى شيء شاخص من شجر أو حجر أو عصا , فإن لم يمكن غرز العصا في الأرض ; وضعه بين يديه عرضا .
وإذا التبست القراءة على الإمام ; فللمأموم أن يسمعه القراءة الصحيحة .
ويباح للمصلي لبس الثوب ونحوه , وحمل شيء ووضعه , وفتح الباب , وله قتل حية وعقرب ; لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة , الحية والعقرب رواه أبو داود والترمذي وصححه , لكن , لا ينبغي له أن يكثر من الأفعال المباحة في الصلاة إلا لضرورة , فإن أكثر منها من غير ضرورة , وكانت متوالية ; أبطلت الصلاة , لأن ذلك مما ينافي الصلاة ويشغل عنها .(25/32)
وإذا عرض للمصلي أمر ; كاستئذان عليه , أو سهو إمامه , أو خاف على إنسان الوقوع في هلكة , فله التنبيه على ذلك ; بأن يسبح الرجل وتصفق المرأة , لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا نابكم شيء في صلاتكم ; فلتسبح الرجال , ولتصفق النساء متفق عليه . ولا يكره السلام على المصلي إذا كان يعرف كيف يرد , وللمصلي حينئذ رد السلام في حال الصلاة بالإشارة لا باللفظ ; فلا يقول : وعليكم السلام , فإن رده باللفظ ; بطلت به صلاته ; لأنه خطاب آدمي , وله تأخير الرد إلى ما بعد السلام . ويجوز للمصلي أن يقرأ عدة سور في ركعة واحدة ; لما في " الصحيح " : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة من قيامه بالبقرة وآل عمران والنساء ويجوز له أن يكرر قراءة السورة في ركعتين , وأن يقسم السورة الواحدة بين ركعتين , ويجوز له قراءة أواخر السور وأوسطها ; لما روى أحمد ومسلم عن ابن عباس ; أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأولى من ركعتي الفجر قوله تعالى : قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الآية , وفي الثانية الآية في آل عمران : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الآية , ولعموم قوله تعالى : فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ لكن لا ينبغي الإكثار من ذلك , بل يفعل أحيانا . وللمصلي أن يستعيذ عند قراءة آية فيها ذكر عذاب , وأن يسأل الله عند قراءة آية فيها ذكر رحمة , وله أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءة ذكره ; لتأكد الصلاة عليه عند ذكره .(25/33)
هذه جملة من الأمور التي يستحب لك أو يباح لك فعلها حال الصلاة عرضناها عليك رجاء أن تستفيد منها وتعمل بها , حتى تكون على بصيرة من دينك , ونسأل الله لنا ولك المزيد من العلم النافع والعمل الصالح . وليعلم أن الصلاة عبادة عظيمة , لا يجوز أن نفعل أو نقال فيها إلا في حدود الشرع الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ; فعليك بالاهتمام بها ومعرفة ما يكملها وما ينقصها , حتى تؤديها على الوجه الأكمل .
باب السجود للسهو
لما كان الإنسان عرضة للنسيان والذهول , وكان الشيطان يحرص على أن يشوش عليه صلاته ببعث الأفكار وإشغال باله بها عن صلاته , وربما ترتب على ذلك نقص في الصلاة أو زيادة فيها بدافع النسيان والذهول ; فشرع الله للمصلي أن يسجد في آخر صلاته ; تفاديا لذلك , وإرغاما للشيطان , وجبرا للنقصان , وإرضاء للرحمن , وهذا السجود هو ما يسميه العلماء سجود السهو .
والسهو هو النسيان , وقد سها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة , وكان سهوه من تمام نعمة الله على أمته وإكمال دينهم ; ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو ; فقد حفظ عنه صلى الله عليه وسلم وقائع السهو في الصلاة , سلم من اثنتين فسجد , وسلم من ثلاث فسجد , وقام من اثنتين ولم يتشهد فسجد , وغير ذلك , وقال صلى الله عليه وسلم : إذا سها أحدكم ; فليسجد
و يشرع سجود السهو لأحد ثلاثة أمور
أولاً : إذا زاد في الصلاة سهوا .
ثانيا : إذا نقص منها سهوا .
ثالثا : إذا حصل عنده شك في زيادة أو نقص .
فيسجد لأحد هذه الثلاثة حسبما ورد به الدليل , لا لكل زيادة أو نقص أو شك .
ويشرع سجود السهو إذا وجد سببه , سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة ; لعموم الأدلة .
فالحالة الأولى من الأحوال التي يشرع لها سجود السهو : هي حالة الزيادة في الصلاة , وهي إما زيادة أفعال أو زيادة أقوال :(25/34)
- فزيادة الأفعال إذا كانت زيادة من جنس الصلاة ; كالقيام في محل القعود , والقعود في محل القيام , أو زاد ركوعا أو سجودا , فإذا فعل ذلك سهوا ; فإنه يسجد للسهو ; لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود : فإذا زاد الرجل أو نقص قي صلاته ; فليسجد سجدتين رواه مسلم , ولأن الزيادة في الصلاة نقص من هيئتها في المعنى , فشرع السجود لها ; لينجبر النقص وكذا لو زاد ركعة سهوا , ولم يعلم إلا بعد فراغه منها ; فإنه يسجد للسهو , أما إن علم في أثناء الركعة الزائدة ; فإنه يجلس في الحال , ويتشهد إن لم يكن تشهد , ثم يسجد للسهو ويسلم .
وإن كان إماما ; لزم من علم من المأمومين بالزيادة تنبيهه بأن يسبح الرجال وتصفق النساء , ويلزم الإمام حينئذ الرجوع إلى تنبيههم إذا لم يجزم بصواب نفسه ; لأنه رجوع إلى الصواب , وكذا يلزمهم تنبيهه على النقص .
- وأما زيادة الأقوال ; كالقراءة في الركوع والسجود , وقراءة سورة في الركعتين الأخيرتين من الرباعية والثالثة من المغرب , فإذا فعل ذلك سهوا , استحب له السجود للسهو .
وأما الحالة الثانية , وهي ما إذا نقص من الصلاة سهوا , بأن ترك منها شيئا : فإن كان المتروك ركنا , وكان هذا الركن تكبيرة الإحرام ; لم تنعقد صلاته , ولا يغني عنه سجود السهو . وإن كان ركنا غير تكبيرة الإحرام , كركوع أو سجود , وذكر هذا المتروك قبل شروعه في قراءة ركعة أخرى ; فإنه يعود وجوبا , فيأتي به وبما بعده , وإن ذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى , بطلت الركعة التي تركه منها , وقامت الركعة التي تليها مقامها ; لأنه ترك ركنا لم يمكنه استدراكه ; لتلبسه بالركعة التي بعدها .(25/35)
وإن لم يعلم بالركن المتروك إلا بعد السلام , فإنه يعتبره كترك ركعة كاملة , فإن لم يطل الفصل , وهو باق على طهارته ; أتى بركعة كاملة , وسجد للسهو , وسلم , وإن طال الفصل , أو انتقض وضوؤه ; استأنف الصلاة من جديد ; إلا أن يكون المتروك تشهدا أخيرا أو سلاما , فإنه لا يعتبر كترك ركعة كاملة , بل يأتي به ويسجد ويسلم .
وإن نسي التشهد الأول , وقام إلى الركعة الثالثة ; لزمه الرجوع للإتيان بالتشهد ; ما لم يستتم قائما , فإن استتم قائما ; كره رجوعه , فإن رجع ; لم تبطل صلاته , وإن شرع في القراءة ; حرم عليه الرجوع , لأنه تلبس بركن آخر ; فلا يقطعه . وإن ترك التسبيح في الركوع أو السجود ; لزمه الرجوع للإتيان به ; ما لم يعتدل قائما في الركعة الأخرى , ويسجد للسهو في كل هذه الحالات .
وأما الحالة الثالثة - وهي حالة الشك في الصلاة - : فإن شك في عدد الركعات ; بأن شك أصلى ثنتين أم ثلاثا مثلا ; فإنه يبني على الأقل , لأنه المتيقن , ثم يسجد للسهو قبل السلام ; لأن الأصل عدم ما شك فيه , ولحديث عبد الرحمن بن عوف : إذا شك أحدكم في صلاته , فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين , فليجعلها واحدة , أو لم يدر ثنتين أو ثلاثا , فليجعلها اثنتين رواه أحمد ومسلم والترمذي . وإن شك المأموم أدخل مع الإمام في الأولى أو في الثانية , جعله في الثانية , أو شك هل أدرك الركعة أو لا ; لم يعتد بتلك الركعة , ويسجد للسهو . وإن شك في ترك ركن ; فكما لو تركه , فيأتي به وبما بعده على التفصيل السابق . وإن شك في ترك واجب ; لم يعتبر هذا الشك , ولا يسجد للسهو , وكذا لو شك في زيادة ; لم يلتفت إلى هذا الشك , لأن الأصل عدم الزيادة . هذه جمل من أحكام سجود السهو , ومن أراد الزيادة ; فليراجع كتب الأحكام , والله الموفق .
باب في الذكر بعد الصلاة(25/36)
قال الله سبحانه وتعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا
وخصص سبحانه الأمر بذكره بعد أداء العبادات :
- فأمر بذكره بعد الفراغ من الصلوات ; فقال سبحانه : فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ وقال سبحانه : فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
- وأمر بذكره بعد إكمال صيام رمضان , فقال سبحانه : وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
- وأمر بذكره بعد قضاء مناسك الحج ; فقال سبحانه : فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا وذلك - والله أعلم - جبر لما يحصل في العبادة من النقص والوساوس , ولإشعار الإنسان أنه مطلوب منه مواصلة الذكر والعبادة ; لئلا يظن أنه إذا فرغ من العبادة ; فقد أدى ما عليه .
والذكر المشروع بعد صلاة الفريضة يجب أن يكون على الصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم , لا على الصفة المحدثة المبتدعة التي يفعلها الصوفية المبتدعة .
ففي " صحيح مسلم " عن ثوبان رضي الله عنه , قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته ; أستغفر الله ثلاثا , وقال : اللهم أنت السلام ومنك . السلام تباركت يا ذا الجلال والإكراموفي " الصحيحين " عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ; أن رسول الله -110- صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة ; قال : لا إله إلا الله وحده , لا شريك له , له الملك , وله الحمد , وهو على كل شيء قدير , اللهم لا مانع لما أعطيت , ولا معطي لما منعت , ولا ينفع ذا الجد منك الجد(25/37)
وفي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهلل دبر كل صلاة حين يسلم بهؤلاء الكلمات : لا إله إلا الله وحده , لا شريك له , له الملك , وله الحمد , وهو على كل شيء قدير , لا حول ولا قوة إلا بالله , لا إله إلا الله , ولا نعبد إلا إياه , له النعمة , وله الفضل , وله الثناء الحسن , لا إله إلا الله , مخلصين له الدين , ولو كره الكافرون
وفي " السنن " من حديث أبي ذر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم : لا إله إلا الله وحده , لا شريك له , له الملك , وله الحمد , يحي ويميت , وهو على كل شيء قدير , عشر مرات ; كتب له عشر حسنات , ومحي عنه عشر سيئات , ورفع له عشر درجات , وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه , وحرس من الشيطان , ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم ; إلا الشرك بالله " قال الترمذي : " هذا حديث حسن صحيح " , وورد أن هذه التهليلات العشر تقال بعد صلاة المغرب أيضا في حديث أم سلمة عند أحمد , وحديث أبي أيوب الأنصاري في " صحيح ابن حبان " . ويقول بعد المغرب والفجر أيضا : " رب أجرني من النار " ; سبع مرات ; لما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم . ثم يسبح الله بعد كل صلاة ثلاثا وثلاثين , ويحمده ثلاثا وثلاثين , ويكبره ثلاثا وثلاثين , ويقول تمام المئة : " لا إله إلا الله , وحده لا شريك له , له الملك , وله الحمد , وهو على كل شيء قدير " ; لما روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين , وحمد الله ثلاثا وثلاثين , وكبر الله ثلاثا وثلاثين , فتلك تسعة وتسعون , ثم قال تمام المئة : لا إله إلا الله وحده , لا شريك له , له الملك , وله الحمد , وهو على كل شيء قدير ; غفرت له خطاياه , وإن كانت مثل زبد البحر ثم يقرأ آية الكرسي , و قُلْ هُوَ اللَّهُ(25/38)
أَحَدٌ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ لما رواه النسائي والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه ; قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة ; لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت يعني : لم يكن بينه وبين دخول الجنة إلا الموت , وفي حديث آخر : كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى وفي " السنن " عن عقبة بن عامر رضي الله عنه ; قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ المعوذتين دبر كل صلاة
لقد دلت هذه الأحاديث الشريفة على مشروعية هذه الأذكار بعد الصلوات المكتوبة , وعلى ما يحصل عليه من قالها من الأجر والثواب ; فينبغي لنا المحافظة عليها , والإتيان بها ; على الصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم , وأن نأتي بها بعد السلام من الصلاة مباشرة , قبل أن نقوم من المكان الذي صلينا فيه , ونرتبها على هذا الترتيب :
- فإذا سلمنا من الصلاة ; نستغفر الله ثلاثا .
- ثم نقول : " اللهم أنت السلام , ومنك السلام , تباركت يا ذا الجلال والإكرام "
- ثم نقول : " لا إله إلا الله وحده , لا شريك له , له الملك , وله الحمد , وهو على كل شيء قدير , اللهم لا مانع لما أعطيت , ولا معطي لما منعت , ولا ينفع ذا الجد منك الجد " أي : لا ينفع الغني منك غناه , وإنما ينفعه العمل الصالح .
- ثم نقول : " لا حول ولا قوة إلا بالله , لا إله إلا الله , ولا نعبد إلا إياه , له النعمة , وله الفضل , وله الثناء الحسن , لا إله إلا الله , مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " .
- ثم نسبح الله ثلاثا وثلاثين , ونحمده ثلاثا وثلاثين , ونكبره ثلاثا وثلاثين , ونقول تمام المئة : " لا إله إلا الله وحده , لا شريك له , له الملك , وله الحمد , وهو على كل شيء قدير " .
- وبعد صلاة المغرب وصلاة الفجر نأتي بالتهليلات العشر , ونقول . " رب أجرني من النار " ; سبع مرات .(25/39)
- ثم بعد أن نفرغ من هذه الأذكار على هذا الترتيب ; نقرأ آية الكرسي , وسور قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين . ويستحب تكرار قراءة هذه السور بعد صلاة المغرب وصلاة الفجر ثلاث مرات .
ويستحب الجهر بالتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلاة , لكن لا يكون بصوت جماعي , وإنما يرفع به كل واحد صوته منفردا .
ويستعين على ضبط عدد التهليلات وعدد التسبيح والتحميد والتكبير بعقد الأصابع , لأن الأصابع مسئولات مستنطقات يوم القيامة . ويباح استعمال السبحة ليعد بها الأذكار والتسبيحات , من غير اعتقاد أن فيها فضيلة خاصة , وكرهها بعض العلماء , وإن اعتقد أن لها فضيلة ; فاتخاذها بدعة , وذلك مثل السبح التي يتخذها الصوفية , ويعلقونها في أعناقهم , أو يجعلونها كالأسورة في أيديهم , وهذا مع كونه بدعة ; فإن فيه رياء وتكلفا .(25/40)
ثم بعد الفراغ من هذه الأذكار يدعو سرا بما شاء ; فإن الدعاء عقب هذه العبادة وهذه الأذكار العظيمة أحرى بالإجابة , ولا يرفع يديه بالدعاء بعد الفريضة كما يفعل بعض الناس ; فإن ذلك بدعة , وإنما يفعل هذا بعد النافلة أحيانا , ولا يجهر بالدعاء , بل يخفيه ; لأن ذلك أقرب إلى الإخلاص والخشوع , وأبعد عن الرياء . وما يفعله بعض الناس في بعض البلاد من الدعاء الجماعي بعد الصلوات بأصوات مرتفعة مع رفع الأيدي , أو يدعو الإمام والحاضرون يؤمنون رافعي أيديهم ; فهذا العمل بدعة منكرة ; لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الفراغ من الصلاة على هذه الصفة , لا في الفجر , ولا في العصر , ولا غيرهما من الصلوات , ولا استحب ذلك أحد من الآئمة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : من نقل ذلك عن الإمام الشافعي ; فقد غلط عليه , فيجب التقيد بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وفي غيره ; لأن الله تعالى يقول : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ويقول سبحانه : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا
باب صلاة التطوع
اعلموا أن ربكم سبحانه وتعالى شرع لكم بجانب فرائض الصلوات التقرب إليه بنوافل الصلوات ; فالتطوع بالصلاة من أفضل القربات بعد الجهاد في سبيل الله وطلب العلم ; لمداومة النبي صلى الله عليه وسلم على التقرب إلى ربه بنوافل الصلوات , وقال عليه الصلاة والسلام : استقيموا ولن تحصوا , واعلموا أن خير أعمالكم الصلاةوالصلاة تجمع أنواعا من العبادة ; كالقراءة , والركوع , والسجود , والدعاء , والذل , والخضوع , ومناجاة الرب سبحانه وتعالى , والتكبير , والتسبيح , والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .(25/41)
وصلوات التطوع على نوعين :
النوع الأول : صلوات مؤقتة بأوقات معينة , وتسمى بالنوافل المقيدة .
والنوع الثاني : صلوات غير مؤقتة بأوقات معينة , وتسمى بالنوافل المطلقة .
والنوع الأول أنواع متعددة , بعضها آكد من بعض , وآكد أنواعه صلاة الكسوف , ثم صلاة الاستسقاء , ثم صلاة التراويح , ثم صلاة الوتر , وكل من هذه الصلوات سيأتي عنه حديث خاص إن شاء الله تعالى .
باب في صلاة الوتر وأحكامها
ولنبدأ الآن بالحديث عن صلاة الوتر لأهميته , فقد قيل :
إنه آكد التطوع , وذهب بعض العلماء إلى وجوبه , وما اختلف وجوبه ; فهو آكد من غيره مما لم يختلف في عدم وجوبه .
اتفق المسلمون على مشروعية الوتر , فلا ينبغي تركه , ومن أصر على تركه ; فإنه ترد شهادته : قال الإمام أحمد : " من ترك الوتر عمدا ; فهو رجل سوء , لا ينبغي أن تقبل شهادته " , وروى أحمد وأبو داود مرفوعا : من لم يوتر , فليس منا
والوتر : اسم للركعة المنفصلة عما قبلها , ولثلاث الركعات وللخمس والسبع والتسع والإحدى عشرة ( إذا كانت هذه الركعات متصلة بسلام واحد ) , فإذا كانت هذه الركعات بسلامين فأكثر , فالوتر اسم للركعة المنفصلة وحدها .
ووقت الوتر يبدأ من بعد صلاة العشاء الآخرة ويستمر إلى طلوع الفجر , ففي " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها ; قالت : من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ; من أوله , وأوسطه , وآخره , وانتهى وتره إلى السحر(25/42)
وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على أن جميع الليل وقت للوتر , إلا ما قبل صلاة العشاء , فمن كان يثق من قيامه في آخر الليل , فتأخير الوتر إلى آخر الليل أفضل , ومن كان لا يثق من قيامه في آخر الليل ; فإنه يوتر قبل أن ينام , بهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ; فقد روى مسلم من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أيكم خاف ألا يقوم من آخر الليل ; فليوتر ثم ليرقد , ومن وثق بقيامه من آخر الليل ; فليوتر من آخره ; فإن قراءة آخر الليل مشهودة , وذلك أفضل
وأقل الوتر ركعة واحدة ; لورود الأحاديث بذلك , وثبوته عن عشرة من الصحابة رضي الله عنهم , لكن الأفضل والأحسن أن تكون مسبوقة بالشفع .
وأكثر الوتر إحدى عشرة ركعة , أو ثلاث عشرة ركعة , يصليها ركعتين ركعتين , ثم يصلي ركعة واحدة يوتر بها , لقول عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة , يوتر منها بواحدة رواه مسلم , وفي لفظ : يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة وله أن يسردها , ثم يجلس بعد العاشرة , ويتشهد ولا يسلم , ثم يقوم ويأتي بالحادية عشرة , ويتشهد ويسلم . وله أن يسردها , ولا يجلس إلا بعد الحادية عشرة , ويتشهد ويسلم . والصفة الأولى أفضل .
وله أن يوتر بتسع ركعات , يسرد ثمانيا , ثم يجلس عقب الركعة الثامنة , ويتشهد التشهد الأول ولا يسلم , ثم يقوم , فيأتي بالركعة التاسعة , ويتشهد التشهد الأخير ويسلم .
وله أن يوتر بسبع ركعات أو بخمس ركعات , لا يجلس إلا في آخرها , ويتشهد ويسلم , لقول أم سدرة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام
وله أن يوتر بثلاث ركعات , يصلي ركعتين ويسلم , ثم يصلي الركعة الثالثة وحدها , ويستحب أن يقرأ في الأولى ب ( سبح ) , وفي الثانية : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ والثالثة : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(25/43)
وقد تبين مما مر أن لك أن توتر : بإحدى عشرة ركعة , أو ثلاث عشرة , وبتسع ركعات , وبسبع ركعات , وبخمس ركعات , وبثلاث ركعات , وبركعة واحدة ; فأعلى الكمال إحدى عشرة , وأدنى الكمال ثلاث ركعات , والمجزئ ركعة واحدة .
ويستحب لك أن تقنت بعد الركوع في الوتر ; بأن تدعو الله سبحانه , فترفع يديك , وتقول : " اللهم اهدني فيمن هديت . .. " إلخ الدعاء الوارد .
باب صلاة التراويح وأحكامها
مما شرعه نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان المبارك صلاة التراويح , وهى سنة مؤكدة , سميت تراويح لأن الناس كانوا يستريحرن فيها بين كل أربع ركعات , لأنهم كانوا يطيلون الصلاة .
وفعلها جماعة في المسجد أفضل ; فقد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في المسجد ليالي , ثم تأخر عن الصلاة بهم , خوفا من أن تفرض عليهم ; كما ثبت في " الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها ; أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة , وصلى بصلاته ناس , ثم صلى من القابلة , وكثر الناس , ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة , فلم يخرج إليهم , فلما أصبح ; قال : قد رأيت الذي صنعتم , فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان , وفعلها صحابته من بعده , وتلقتها أمته بالقبول , وقال صلى الله عليه وسلم : من قام مع الإمام حتى ينصرف ; كتب له قيام ليلة وقال عليه الصلاة والسلام : من قام رمضان إيمانا واحتسابا , غفر له ما تقدم من ذنبه متفق عليه .(25/44)
فهي سنة ثابتة , لا ينبغي للمسلم تركها . أما عدد ركعاتها , فلم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم , والأمر في ذلك واسع . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . " له أن يصلي عشرين ركعة , كما هو مشهور من مذهب أحمد والشافعي , وله أن يصلي ستا وثلاثين , كما هو مذهب مالك , وله أن يصلي إحدى عشرة ركعة وثلاث عشرة ركعة , وكل حسن , فيكون تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول القيام وقصره " . وعمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أبي ; صلى بهم عشرين ركعة , والصحابة رضي الله عنهم منهم من يقل ومنهم من يكثر , والحد المحدود لا نص عليه من الشارع . وكثير من الأئمة ( أي : أئمة المساجد ) في التراويح يصلون صلاة لا يعقلونها , ولا يطمئنون في الركوع ولا في السجود , والطمأنينة ركن , والمطلوب في الصلاة حضور القلب بين يدي الله تعالى , واتعاظه بكلام الله إذ يتلى , وهذا لا يحصل في العجلة المكروهة , وصلاة عشر ركعات مع طول القراءة والطمأنينة أولى من عشرين ركعة مع العجلة المكروهة ; لأن لب الصلاة وروحها هو إقبال القلب على الله عز وجل , ورب قليل خير من كثير , وكذلك ترتيل القراءة أفضل من السرعة , والسرعة المباحة هي التي لا يحصل معها إسقاط شيء من الحروف , فإن أسقط بعض الحروف لأجل السرعة , لم يجز ذلك , وينهى عنه , وأما إذا قرأ قراءة بينة ينتفع بها المصلون خلفه ; فحسن . وقد ذم الله الذين يقرءون القرآن بلا فهم معناه , فقال تعالى : وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ أي : تلاوة بلا فهم , والمراد من إنزال القرآن فهم معانيه والعمل به لا مجرد التلاوة انتهى كلامه رحمه الله . وبعض أئمة المساجد لا يصلون التراويح على الوجه المشروع ; لأنهم يسرعون في القراءة سرعة تخل بأداء القرآن على الوجه الصحيح , ولا يطمئنون في القيام والركوع والسجود , والطمأنينة ركن من أركان الصلاة , ويأخذون بالعدد الأقل(25/45)
من الركعات , فيجمعون بين تقليل الركعات وتخفيف الصلاة وإساءة القراءة , وهذا تلاعب بالعبادة , فيجب عليهم أن يتقوا الله ويحسنوا صلاتهم , ولا يحرموا أنفسهم ومن خلفهم من أداء التراويح على الوجه المشروع .
وفق الله الجميع لما فيه الصلاح والفلاح .
باب في السنن الراتبة مع الفرائض
اعلموا أيها الأخوان أن السنن الراتبة يتأكد فعلها ويكره تركها , ومن داوم على تركها ; سقطت عدالته عند بعض الأئمة , وأثم بسبب ذلك ; لأن المداومة على تركها تدل على قلة دينه , وعدم مبالاته .وجملة السنن الرواتب عشر ركعات , وبيانها كالتالي :
- ركعتان قبل الظهر , وعند جمع من العلماء أربع ركعات قبل الظهر ; فعليه تكون جملة السنن الرواتب اثنتي عشرة ركعة .
- وركعتان بعد الظهر .
- وركعتان بعد المعرب .
- وركعتان بعد العشاء .
- وركعتان قبل صلاة الفجر بعد طلوع الفجر .(25/46)
والدليل على هذه الرواتب بهذا التفصيل المذكور هو حديث ابن عمر رضي الله عنهما ; قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات : ركعتين قبل الظهر , وركعتين بعدها , وركعتين بعد المغرب في بيته , وركعتين بعد العشاء في بيته , وركعتين قبل الصبح , كانت ساعة لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها أحد , حدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر , صلى ركعتين متفق عليه . وفي " صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها : " كان يصلي قبل الظهر أربعا في بيتي , ثم يخرج فيصلي بالناس , ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتينفيؤخذ من هذا أن فعل الراتبة في البيت أفضل من فعلها في المسجد , وذلك لمصالح تترتب على ذلك ; منها : البعد عن الرياء والإعجاب ولإخفاء العمل عن الناس , ومنها : أن ذلك سبب لتمام الخشوع والإخلاص , ومنها : عمارة البيت بذكر الله والصلاة التي بسببها تنزل الرحمة على أهل البيت ويبتعد عنه الشيطان , وقد قال عليه الصلاة والسلام : اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم , ولا تجعلوها قبورا
وآكد هذه الرواتب ركعتا الفجر ; لقول عائشة رضي الله عنها : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر متفق عليه , وقال صلى الله عليه وسلم : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليهما وعلى الوتر في الحضر والسفر . وأما ما عدا ركعتي الفجر والوتر من الرواتب ; فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى راتبة في السفر غير سنة الفجر والوتر .
وقال ابن عمر رضي الله عنهما لما سئل عن سنة الظهر في السفر ; قال : لو كنت مسبحا ; لأتممت وقال ابن القيم رحمه الله : " وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في سفره الاقتصار على الفرض , ولم يحفظ عنه أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها , إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر " .(25/47)
والسنه تخفيف ركعتي الفجر ; لما في " الصحيحين " وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها ; أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح ويقرأ في الركعة الأولى من سنة الفجر بعد الفاتحة : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وفي الثانية : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أو يقرأ في الأولى منهما : قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الآية التي في سورة البقرة , ويقرأ في الركعة الثانية : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا الآية التي في سورة آل عمران .
- وكذلك يقرأ في الركعتين بعد المغرب بالكافرون والإخلاص ; لما روى البيهقي والترمذي وغيرهما عن ابن مسعود , قال : " ما أحصي ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل الفجر : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
وإذا فاتك شيء من هذه السنن الرواتب , فإنه يسن لك قضاؤه , وكذا إذا فاتك الوتر من الليل , فإنه يسن لك قضاؤه في النهار ; لأنه صلى الله عليه وسلم قضى ركعتي الفجر مع الفجر حين نام عنهما , وقضى الركعتين اللتين قبل الظهر بعد العصر , ويقاس الباقي من الرواتب في مشروعية قضائه إذا فات على ما فيه النص , وقال صلى الله عليه وسلم : من نام عن الوتر أو نسيه , فليصله إذا أصبح أو ذكر رواه الترمذي وأبو داود . ويقضى الوتر مع شفعه ; لما في " الصحيح " عن عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا منعه من قيام الليل نوم أو وجع ; صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة(25/48)
أيها المسلم ! حافظ على هذه السنن الرواتب ; لأن في ذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم , وقد قال الله تعالى : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا وفي المحافظة على هذه السنن الرواتب أيضا جبر لما يحصل في صلاة الفريضة من النقص والخلل , والإنسان معرض للنقص والخلل , وهو بحاجة إلى ما يجبر به نقصه ; فلا تفرط بهذه الرواتب أيها المسلم , فإنها من زيادة الخير الذي تجده عند ربك , وهكذا كل فريضة ليشرع إلى جانبها نافلة من جنسها , كفريضة الصلاة , وفريضة الصيام , وفريضة الزكاة , وفريضة الحج , كل من هذه الفرائض يشرع إلى جانبها نافلة من جنسها ; تجبر نقصها وتصلح خللها , وهذا من فضل الله على عباده , حيث نوع لهم الطاعات ليرفع لهم الدرجات , ويحط عنهم الخطايا .
فنسأل الله لنا جميعا التوفيق لما يحبه ويرضاه , إنه سميع مجيب . ..
باب في صلاة الضحى
اعلم أيها المسلم أنه قد وردت في صلاة الضحى أحاديث كثيرة :
منها ما في " الصحيحين " : عن أبي هريرة رضي الله عنه , قال : " أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث : صيام ثلاثة أيام من كل شهر , وركعتي الضحى , وأن أوتر قبل أن أنام(25/49)
وفي حديث أبي سعيد ; أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى حتى نقول : لا يدعها , ويدعها حتى نقول : لا يصليهاوأقل صلاة الضحى ركعتان ; لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الذي ذكرنا قريبا : " وركعتي الضحى " , ولحديث أنس : من قعد في مصلاه حين ينصرف من الصبح , حتى يسبح ركعتي الضحى , لا يقول إلا خيرا , غفرت له خطاياه , وإن كانت أكثر من زبد البحر رواه أبو داود . وأكثرها ثمان ركعات ; لما روت أم هانئ , أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح صلى ثمان ركعات سبحة الضحى رواه الجماعة , ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها : كان يصلي الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء اللهووقت صلاة الضحى يبتدئ من ارتفاع الشمس بعد طلوعها قدر رمح , ويمتد إلى قبيل الزوال , أي : وقت قيام الشمس في كبد السماء , والأفضل أن يصلي إذا اشتد الحر ; لحديث : صلاة الأوابين حين ترمض الفصال رواه مسلم ; أي : حين تحمى الرمضاء ; فتبرك الفصال من شدة الحر .
باب في سجود التلاوة
ومن السنن سجود التلاوة , سمي بذلك من إضافة المسبب للسبب ; لأن التلاوة سببه , فهو سجود شرعه الله ورسوله عبودية عند تلاوة الآيات واستماعها ; تقربا إليه سبحانه , وخضوعا لعظمته , وتذللا بين يديه .(25/50)
ويسن سجود التلاوة للقارئ والمستمع , وقد أجمع العلماء على مشروعيته . قال ابن عمر رضي الله عنهما : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة , فيسجد , ونسجد معه , حتى ما يجد أحدنا موضعا لجبهته متفق عليه . قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله : " ومواضع السجدات أخبار وأوامر : خبر من الله عن سجود مخلوقاته له عموما أو خصوصا ; فسن للتالي والسامع أن يتشبه بهم عند تلاوته آية السجدة أو سماعها , وآيات الأوامر ( أي : التي تأمر بالسجود ) بطريق الأولى " . وعن أبي هريرة مرفوعا : إذا قرأ ابن آدم السجدة , فسجد ; اعتزل الشيطان يبكي , يقول : يا ويله ! أمر ابن آدم بالسجود , فسجد ; فله الجنة ; وأمرت بالسجود , فأبيت , فلي النار رواه مسلم وابن ماجه . ويشرع سجود التلاوة في حق القارئ والمستمع , وهو الذي يقصد الاستماع للقراءة , وفي حديث ابن عمر : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة ; فيسجد ونسجد معه ففيه دلالة على مشروعية سجود المستمع , وأما السامع , وهو الذي لم يقصد الاستماع ; فلا يشرع في حقه سجود التلاوة ; لما روى البخاري ; أن عثمان رضي الله عنه مر بقارئ يقرأ سجدة ليسجد معه عثمان ; فلم يسجد , وقال : " إنما السجدة على من استمع وروي ذلك عن غيره من الصحابة . وسجدات التلاوة والقرآن ; في : الأعراف , والرعد , والنحل , والإسراء , ومريم , والحج , والفرقان , والنمل , و ( ألم تنزيل ) , و ( حم ) السجدة , والنجم , والانشقاق , و اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وفي سجدة ( ص ) خلاف بين العلماء , هل هي سجدة شكر أو سجدة تلاوة ; والله أعلم .(25/51)
ويكبر إذا سجد للتلاوة لحديث ابن عمر : كان عليه الصلاة والسلام يقرأ علينا القرآن , فإذا مر بالسجدة ; كبر , وسجد , وسجدنا معه رواه أبو داود . ويقول في سجوده : " سبحان ربي الأعلى " ; كما يقول في سجود الصلاة , وإن قال : " سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره , وشق سمعه وبصره , بحوله وقوته , اللهم اكتب لي بها أجرا , وضع عني بها وزرا , واجعلها لي عندك ذخرا , وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود " ; فلا بأس . والإتيان بسجود التلاوة عن قيام أفضل من الإتيان به عن قعود .
أيها المسلم ! إن طرق الخير كثيرة , فعليك بالجد والاجتهاد فيها , والإخلاص في القول والعمل , لعل الله أن يكتبك من جملة السعداء .
باب في التطوع المطلق
روى أهل السنن ; أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة ; قال : الصلاة في جوف الليل
وقال صلى الله عليه وسلم : إن في الليل ساعة , لا يوافقها عبد مسلم , يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة ; إلا أعطاه إياه
وقال صلى الله عليه وسلم : وعليكم بقيام الليل , فإنه دأب الصالحين قبلكم , وهو قربة إلى ربكم , ومكفرة للسيئات , ومنهاة عن الإثم " رواه الحاكم .
وقد مدح الله القائمين من الليل : قال تعالى : إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
وقال تعالى : تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
والنصوص في ذلك كثيرة تدل على فضل قيام الليل , فالتطوع المطلق أفضله قيام الليل ; لأنه أبلغ في الإسرار , وأقرب إلى الإخلاص , ولأنه وقت غفلة الناس , ولما فيه من إيثار الطاعة على النوم والراحة .(25/52)
ويستحب التنفل بالصلاة في جميع الأوقات ; غير أوقات النهي , وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار , لما سبق , وأفضل صلاة الليل الصلاة في ثلث الليل بعد نصفه ; لما في " الصحيح " مرفوعا : أفضل الصلاة صلاة داود , كان ينام نصف الليل , ويقوم ثلثه , وينام سدسه فكان يريح نفسه بنوم أول الليل , ثم يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه , فيقول : هل من سائل فأعطيه سؤله ؟ ثم ينام بقية الليل في السدس الأخير , ليأخذ راحته , حتى يستقبل صلاة الفجر بنشاط , هذا هو الأفضل , وإلا ; فالليل كله محل القيام .
قال الإمام أحمد رحمه الله : " قيام الليل من المغرب إلى طلوع الفجر " .
وعليه ; فالنافلة بين العشاءين من قيام الليل , لكن تأخير القيام إلى آخر الليل أفضل كما سبق , قال تعالى : إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا والناشئة هي القيام بعد النوم , والتهجد إنما يكون بعد النوم
فينبغي للمسلم أن يجعل له حظا من قيام الليل , يداوم عليه , وإن قل .
- وينبغي أن ينوي قيام الليل .
- فإذا استيقظ ; استاك , وذكر الله , وقال : " لا إله إلا الله وحده , لا شريك له , له الملك , وله الحمد , وهو على كل شيء قدير , الحمد لله , وسبحان الله , ولا إله إلا الله , والله أكبر , ولا حول ولا قوة إلا بالله " , ويقول : " الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور , الحمد لله الذي رد علي روحي , وعافاني في جسدي , وأذن لي بذكره " .
- ويستحب أن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين ; لحديث أبي هريرة : إذا قام أحدكم من الليل ; فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين رواه مسلم وغيره .
- ويسلم في صلاة الليل من كل ركعتين ; لقوله صلى الله عليه وسلم : صلاة الليل مثنى مثنى رواه الجماعة , ومعنى : " مثنى مثنى " ; أي : ركعتان ركعتان , بتشهد وتسليمتين , فهي ثنائية لا رباعية .
- وينبغي إطالة القيام والركوع والسجود .(25/53)
- وينبغي أن يكون تهجده في بيته ; فقد اتفق أهل العلم على أن صلاة التطوع في البيت أفضل , وكان صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته , وقال عليه الصلاة والسلام : صلوا في بيوتكم , فإن أفضل صلاة المرء في بيته ; إلا المكتوبة رواه مسلم , ولأنه أقرب إلى الإخلاص .
- وصلاة النافلة قائما أفضل من الصلاة قاعدا بلا عذر , لقوله صلى الله عليه وسلم : من صلى قائما ; فهو أفضل , ومن صلى قاعدا ; فله نصف أجر صلاة القائم متفق عليه .
- وأما من صلى النافلة قاعدا لعذر ; فأجره كأجر القائم , لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا مرض العبد أو سافر ; كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم وجواز التطوع جالسا مع القدرة على القيام مجمع عليه .
- ويختم صلاته بالوتر ; فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل آخر صلاته بالليل وترا , وأمر بذلك في أحاديث كثيرة .
ومن فاته تهجده من الليل ; استحب له قضاؤه قبل الظهر ; لحديث : من نام عن حزبه من الليل , أو عن شيء منه , فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ; كتب له , كأنما قرأه من الليل
أيها المسلم ! لا تحرم نفسك من المشاركة في قيام الليل , ولو بشيء قليل تداوم عليه ; لتنال من ثواب القائمين المستغفرين بالأسحار , وربما يدفع بك القليل إلى الكثير , والله لا يضيع أجر المحسنين .
باب في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
سبق أن بينا جملا من أحكام صلاة التطوع , ويجدر بنا الآن أن ننبه على أن هناك أوقاتا ورد النهي عن الصلاة فيها ; إلا ما استثني , وهي أوقات خمسة :
الأول : من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا طلع الفجر ; فلا صلاة إلا ركعتي الفجر رواه أحمد وأبو داود وغيرهما , فإذا طلع الفجر ; فإنه لا يصلي تطوعا إلا راتبة الفجر .
الثاني : من طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح في رأي العين .(25/54)
والثالث : عند قيام الشمس حتى تزول , وقيام الشمس يعرف بوقوف الظل , لا يزيد ولا ينقص , إلى أن تزول إلى جهة الغرب ; لقول عقبة بن عامر : ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا : حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع , وحين يقول قائم الظهيرة حتى تزول , وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب رواه مسلم .
والرابع : من صلاة العصر إلى غروب الشمس ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس , ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس متفق عليه .
والخامس : إذا شرعت الشمس في الغروب حتى تغيب .
واعلم أنه يجوز قضاء الفرائض الفائتة في هذه الأوقات ; لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : من نام عن صلاة أو نسيها , فليصلها إذا ذكرها متفق عليه . يجوز أيضا فعل ركعتي الطواف في هذه الأوقات ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة من ليل أو نهار رواه الترمذي وصححه ; فهذا إذن منه صلى الله عليه وسلم بفعلها في جميع أوقات النهي , ولأن الطواف جائز قي كل وقت ; فكذلك ركعتاه . ويجوز أيضا على الصحيح من قولي العلماء في هذه الأوقات فعل ذوات الأسباب من الصلوات ; كصلاة الجنازة , وتحية المسجد , وصلاة الكسوف , للأدلة الدالة على ذلك , وهي تخص عموم النهي عن الصلاة في هذه الأوقات , فتحمل على ما لا سبب له ; فلا يجوز فعلها بأن تبتدأ في هذه الأوقات صلاة تطوع لا سبب لها . ويجوز قضاء سنة الفجر بعد صلاة الفجر , وكذا يجوز أن يقضي سنة الظهر بعد العصر , ولا سيما إذا جمع الظهر مع العصر ; فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم , أنه قضى سنة الظهر بعد العصر.
باب في وجوب صلاة الجماعة وفضلها(25/55)
شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام , وهى صلاة الجماعة في المساجد , فقد اتفق المسلمون على أن أداء الصلوات الخمس في المساجد من أوكد الطاعات وأعظم القربات , بل وأعظم وأظهر شعائر الإسلام . فقد شرع الله لهذه الأمة الاجتماع في أوقات معلومة , منها ما هو في اليوم والليلة , كالصلوات الخمس ; فإن المسلمين يجتمعون لأدائها في المساجد كل يوم وليلة خمس مرات , ومن هذه الاجتماعات ما هو في الأسبوع مرة ; كالاجتماع لصلاة الجمعة , وهو اجتماع أكبر من الاجتماع للصلوات الخمس , ومنها اجتماع يتكرر كل سنة مرتين , وهو الاجتماع لصلاة العيدين , وهو أكبر من الاجتماع لصلاة الجمعة , بحيث يشرع فية اجتماع أهل البلد , ومنها اجتماع مرة واحدة في السنة , وهو الاجتماع في الوقوف بعرفة , وهو أكبر من اجتماع العيدين ; لأنه يشرع للمسلمين عموما في كل أقطار الأرض . وإنما شرعت هذه الاجتماعات العظيمة في الإسلام ; لأجل مصالح المسلمين ; ليحصل التواصل بينهم بالإحسان والعطف والرعاية , ولأجل التوادد والتحابب بينهم في القلوب , ولأجل أن يعرف بعضهم أحوال بعض , فيقومون بعيادة المرضى , وتشييع المتوفى , وإغاثة الملهوفين , ولأجل إظهار قوة المسلمين وتعارفهم وتلاحقهم , فيغيظون بذلك أعداءهم من الكفار والمنافقين , ولأجل إزالة ما ينسجه بينهم شياطين الجن والإنس من العداوة والتقاطع والأحقاد , فيحصل الائتلاف واجتماع القلوب على البر والتقوى , ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تختلفوا ; فتختلف قلوبكمومن فوائد صلاة الجماعة ; تعليم الجاهل , ومضاعفة الأجر والنشاط على العمل الصالح عندما يشاهد المسلم إخوانه المسلمين يزاولون الأعمال الصالحة , فيقتدي بهم .(25/56)
وفي الحديث المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم : صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة وفي رواية : بخمس وعشرين .فصلاة الجماعة فرض على الرجال في الحضر والسفر , وفي حال الأمان وحال الخوف , وجوبا عينيا , والدليل على ذلك الكتاب والسنة وعمل المسلمين قرنا بعد قرن , خلفا عن سلف .
ومن أجل ذلك ; عمرت المساجد , ورتب لها الأئمة والمؤذنون , وشرع النداء لها بأعلى صوت : حي على الصلاة , حي على الفلاح .وقال الله تعالى في حال الخوف : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الآية ; فدلت هذه الآية الكريمة على تأكد وجوب صلاة الجماعة , حيث لم يرخص للمسلمين في تركها حال الخوف , فلو كانت غير واجبة , لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف ; فإن الجماعة في صلاة الخوف يترك لها أكثر واجبات الصلاة , فلولا تأكد وجوبها ; لم يترك من أجلها تلك الواجبات الكثيرة ; فقد اغتفرت في صلاة الخوف أفعال كثيرة من أجلها .
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ; أنه قال : أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر , ولو يعلمون ما فيهما , لأتوهما ولو حبوا , ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام , ثم آمر رجلا فيصلي بالناس , ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب , إلى قوم لا يشهدون الصلاة , فأحرق عليهم بيوتهم بالنار
ووجه الاستدلال من الحديث على وجوب صلاة الجماعة من ناحيتين :(25/57)
الناحية الأولى : أنه وصف المتخلفين عنها بالنفاق , والمتخلف عن السنة لا يعد منافقا ; فدل على أنهم تخلفوا عن واجب . والناحية الثانية : أنه صلى الله عليه وسلم هم بعقوبتهم على التخلف عنها , والعقوبة إنما تكون على ترك واجب , وإنما منعه صلى الله عليه وسلم من تنفيذ هذه العقوبة من في البيوت من النساء والذراري الذين لا تجب عليهم الجماعة . وفي " صحيح مسلم أن رجلا أعمى قال : يا رسول الله ! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد , فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته , فرخص له , فلما ولى ; دعاه , فقال : " هل تسمع النداء ؟ " , قال : نعم , قال : " فأجب فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالحضور إلى المسجد لصلاة الجماعة وإجابة النداء مع ما يلاقيه من المشقة , فدل ذلك على وجوب صلاة الجماعة . وقد كان وجوب صلاة الجماعة مستقرا عند المؤمنين من صدر هذه الأمة :قال ابن مسعود رضي الله عنه : ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق , ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف فدل ذلك على استقرار وجوبها عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم يعلموا ذلك إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم , ومعلوم أن كل أمر لا يتخلف عنه إلا منافق يكون واجبا على الأعيان . وروى الإمام أحمد وغيره مرفوعا : الجفاء كل الجفاء , والكفر والنفاق , من سمع المنادي إلى الصلاة , فلا يجيبه
وثبت حديث بذلك : يد الله على الجماعة , فمن شذ ; شذ في النار
وسئل ابن عباس عن رجل يقوم الليل ويصوم النهار ولا يحضر الجماعة , فقال : " هو في النار نسأل الله العافية والتوفيق لمعرفة الحق واتباعه , إنه سميع مجيب .
حكم المتخلف عن صلاة الجماعة وما تنعقد به صلاة الجماعة
إن المتخلف عن صلاة الجماعة إذا صلى وحده ; فله حالتان :(25/58)
الحالة الأولى : أن يكون معذورا في تخلفه لمرض أو خوف , وليس من عادته التخلف لولا العذر , فهذا يكتب له أجر من صلى في جماعة لما في الحديث الصحيح : إذا مرض العبد أو سافر ; كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما فمن كان عازما على الصلاة مع الجماعة عزما جازما , ولكن حال دونه ودون ذلك عذر شرعي ; كان بمنزلة من صلى مع الجماعة ; نظرا لنيته الطيبة .
والحالة الثانية : أن يكون تخالفه عن الصلاة مع الجماعة لغير عذر ; فهذا إذا صلى وحده , تصح صلاته عند الجمهور , لكنه يخسر أجرا عظيما وثوابا جزيلا , لأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة , وكذلك يفقد أجر الخطوات التي يخطوها إلى المسجد , ومع خسرانه لهذا الثواب الجزيل يأثم إثما عظيما , لأنه ترك واجبا عليه من غير عذر , وارتكب منكرا يجب إنكاره عليه وتأديبه من قبل ولي الأمر , حتى يرجع إلى رشده .
أيها المسلم ! ومكان صلاة الجماعة هو المساجد , لإظهار شعار الإسلام , وما شرعت عمارة المساجد إلا لذلك , وفي إقامة الجماعة في غيرها تعطيل لها :
وقد قال الله تعالى : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ
وقال تعالى : إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ
ففي هاتين الآيتين الكريمتين تنويه بالمساجد وعمارها , ووعد لهم بجزيل -136- الثواب , وفي ضمن ذلك ذم من تخلف عن الحضور للصلاة فيها .
وقد روي أنه : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد وعن علي رضي الله عنه مثله , وزاد : وجار المسجد من أسمعه المنادي رواه البيقهي بإسناد صحيح .(25/59)
قال ابن القيم رحمه الله : " ومن تأمل السنة حق التأمل ; تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجماعة , فترك حضور المساجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر , وبهذا تتفق الأحاديث وجميع الآثار . .. " انتهى .
وقد توعد الله من عطل المساجد ومنع إقامة الصلاة فيها , فقال تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ وفي إقامة صلاة الجماعة خارج المسجد تعطيل للمساجد أو تقليل من المصلين فيها , وبالتالي يكون في ذلك تقليل من أهمية الصلاة في النفوس , والله تعالى يقول : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وهذا يشمل رفعها حسيا ومعنويا ; فكل ذلك مطلوب .
لكن إذا دعت حاجة لإقامة صلاة الجماعة خارج المسجد , كأن يكون المصلون موظفين في دائرتهم وفي مجمع عملهم , وإذا صلوا في مكانهم , كان أحزم للعمل , وكان في ذلك إلزام الموظفين بحضور الصلاة وإقامتها , ولا يتعطل من جراء ذلك المسجد الذي حولهم لوجود من يصلي فيه غيرهم , لعله في تلك الحال - ونظرا لهذه المبررات - لا يكون عليهم حرج في الصلاة في دائرتهم.
وأقل ما تنعقد به صلاة الجماعة اثنان ; دون الجماعة مأخوذة من الاجتماع , والاثنان أقل ما يتحقق به الجمع , ولحديث أبي موسى مرفوعا : الاثنان فما فوقهما جماعة رواه ابن ماجه , ولحديث : من يتصدق على هذا . فقام رجل فصلى معه , فقال : وهذان جماعة رواه أحمد وغيره , ولقوله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث : وليؤمكما أكبركما وحكي الإجماع على هذا.(25/60)
يباح للنساء حضور صلاة الجماعة في المساجد بإذن أزواجهن غير متطيبات وغير متبرجات بزينة مع التستر التام والابتعاد عن مخالطة الرجال , ويكن وراء صفوف الرجال ; لحضورهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . ويسن حضورهن مجالس الوعظ ومجالس العلم منفردات عن الرجال .
ويسن لهن أن يصلين مع بعضهن جماعة منفردات عن الرجال , سواء كانت إمامتهن منهن , أو يومهن رجل ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم ورقة أن تجعل لها مؤذنا , وأمرها أن تؤم أهل دارها رواه أحمد وأهل السنن , وفعله غيرها من الصحابيات , ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم : تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجهوالأفضل للمسلم أن يصلي في المسجد الذي لا تقام فيه صلاة الجماعة إلا بحضوره ; لأنه يحصل بذلك على ثواب عمارة المسجد ; فقد قال الله تعالى : إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ(25/61)
ثم الأفضل بعد ذلك صلاة الجماعة في المسجد الذي يكون أكثر جماعة من غيره , لأنه أعظم أجرا , لقوله صلى الله عليه وسلم : صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده , وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل , وما كان أكثر , فهو أحب إلى الله رواه أحمد وأبو داود , وصححه ابن حبان ; ففيه أن ما كثر جمعه فهو -138- أفضل ; لما في الاجتماع من نزول الرحمة والسكينة , ولشمول الدعاء ورجاء الإجابة , لا سيما إذا كان فيهم من العلماء وأهل الصلاح , قال تعالى : فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ففيه استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين المحافظين على الطهارة لإسباغ الوضوء . ثم الأفضل بعد ذلك الصلاة في المسجد القديم ; لسبق الطاعة فيه على المسجد الجديد . ثم الأفضل بعد ذلك الصلاة في المسجد الأبعد عنه مسافة , فهو أفضل من الصلاة في المسجد القريب , لقوله صلى الله عليه وسلم : أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى , وذلك بأن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء , وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة ; لم يخط خطوة ; إلا رفع له بها درجة , وحط عنه بها خطيئة , حتى يدخل المسجد ولقوله عليه الصلاة والسلام : يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم وبعض العلماء يرى أن أقرب المسجدين أولى , لأن له جوارا , فكان أحق بصلاته فيه , ولأنه قد ورد : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ولأن تعدي المسجد القريب إلى البعيد قد يحدث عند جيرانه استغرابا , ولعل هذا القول أولى ; لأن تخطي المسجد الذي يليه إلى غيره ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه , وإحراج لإمامه , بحيث يساء به الظن .(25/62)
ومن أحكام صلاة الجماعة أنه يحرم أن يؤم الجماعة في المسجد أحد غير إمامه الراتب , إلا بإذنه أو عذره ; ففي " صحيح مسلم " وغيره : ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه قال النووي : " معناه أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره , ولأن في ذلك إساءة إلى إمام المسجد الراتب , وتنفيرا عنه , وتفريقا بين المسلمين " .
وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا صلى بجماعة المسجد غير إمامه الراتب بدون إذنه أو عذر شرعي يسوغ ذلك , أنها لا تصح صلاتهم , مما يدل على خطورة هذه المسألة , فلا ينبغي التساهل في شأنها , ويجب على جماعة المسلمين أن يراعوا حق إمامهم , ولا يتعدوا عليه في صلاحيته , كما يجب على إمام المسجد أن يحترم حقا المأمومين ولا يحرجهم .(25/63)
وهكذا ; كل يراعي حق الآخر , حتى يحصل الوئام والتآلف بين الإمام والمأمومين , فإن تأخر الإمام عن الحضور وضاق الوقت , صلوا , لفعل أبي بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما حين غاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم , فصلى أبو بكر رضي الله عنه , وصلى عبد الرحمن بن عوف بالناس لما تخلف النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة أخرى , وصلى معه النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأخيرة , ثم أتم صلاته وقال : " أحسنتم " ومن أحكام صلاة الجماعة أن من سبق له أن صلى , ثم حضر إقامة الصلاة في المسجد ; سن له أن يصلي مع الجماعة تلك الصلاة التي أقيمت , لحديث أبي ذر : صل الصلاة لوقتها , فإن أقيمت وأنت في المسجد ; فصل , ولا تقل : إني صليت , فلا أصلي رواه مسلم . وتكون هذه الصلاة في حقه نافلة ; كما جاء في الحديث الآخر من قوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين أمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة : فإنهما لكما نافلة ولئلا يكون قعوده والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به وأنه ليس من المصلين . ومن أحكام صلاة الجماعة , أنها إذا أقيمت الصلاة - أي : إذا شرع المؤذن في إقامة الصلاة - ; لم يجز الشروع في صلاة نافلة لا راتبة ولا تحية مسجد ولا غيرها , لقوله عليه الصلاة والسلام : إذا أقيمت الصلاة , فلا صلاة إلا المكتوبة رواه مسلم , وفي رواية : فلا صلاة إلا التي أقيمت فلا تنعقد صلاة النافلة التي أحرم فيها بعد إقامة الفريضة التي يريد أن يفعلها مع ذلك الإمام الذي أقيمت له . قال الإمام النووي رحمه الله : " والحكمة أن يتفرغ للفريضة من أولها , فيشرع فيها عقب شروع الإمام , والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بالناقلة , ولأنه نهى صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف على الأئمة , ولحصول تكبيرة الإحرام , ولا تحصل فضيلتها المنصوصة إلا بشهود تحريم الإمام " .(25/64)
وإن أقيمت الصلاة وهو في صلاة نافلة قد أحرم بها من قبل ; أتمها خفيفة , ولا يقطعها ; إلا أن يخشى فوات الجماعة ; لقول الله تعالى : وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ فإن خشي فوت الجماعة , قطع النافلة ; لأن الفرض أهم .
باب في الأحكام التي تتعلق بالمسبوق
الصحيح من قولي العلماء أن المسبوق لا يدرك صلاة الجماعة ; إلا بإدراك ركعة , فإن أدرك أقل من ذلك ; لم يكن مدركا للجماعة , لكن يدخل مع الإمام فيما أدرك , وله بنيته أجر الجماعة , كما إذا وجدهم قد صلوا ; فإن له بنيته أجر من صلى في جماعة ; كما وردت به الأحاديث ; أن من نوى الخير ولم يتمكن من فعله ; كتب له مثل أجر من فعله .
وتدرك الركعة بإدراك الركوع على الصحيح ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من أدرك الركوع , فقد أدرك الركعة رواه أبو داود , ولما في " الصحيح " من حديث أبي بكرة , وقد جاء والنبي صلى الله عليه وسلم في الركوع , فركع دون الصف , ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الركعة , فدل على الاجتراء بها .(25/65)
فإذا أدرك الإمام راكعا فإنه يكبر تكبيرة الإحرام قائما , ثم يركع معه بتكبيرة ثانية , هذا هو الأفضل , وإن اقتصر على تكبيرة الإحرام ; أجزأته عن تكبيرة الركوع ; فتكبيرة الإحرام , لا بد من الإتيان بها وهو قائم , وأما تكبيرة الركوع ; فمن الأفضل الإتيان بها بعدها . وإذا وجد المسبوق الإمام على أي حال من الصلاة ; دخل معه ; لحديث أبي هريرة وغيره : إذا جئتم إلى الصلاة , ونحن سجود , فاسجدوا , ولا تعدوها شيئافإذا سلم الإمام التسليمة الثانية ; قام المسبوق ليأتي بما فاته من الصلاة , ولا يقوم قبل التسليمة الثانية . وما أدرك المسبوق مع إمامه ; فهو أول صلاته على القول الصحيح , وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخرها ; لقوله عليه الصلاة والسلام : وما فاتكم ;فأتموا وهو رواية الجمهور للحديث , وإتمام الشيء لا يأتي إلا بعد تقدم أوله , ورواية : وما فاتكم ; فاقضوا لا تخالف رواية : " فأتموا " لأن القضاء يراد به الفعل , لقوله تعالى : فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ وقوله تعالى : فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فيحمل قوله : " فاقضوا " على الأداء والفراغ . .. , والله أعلم .
وإذا كانت الصلاة جهرية ; وجب على المأموم أن يستمع لقراءة الإمام , ولا يجوز له أن يقرأ وإمامه يقرأ , لا سورة الفاتحة ولا غيرها ; لقوله تعالى : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(25/66)
قال الإمام أحمد رحمه الله : " أجمعوا على أن هذه الآية في الصلاة " . فلو أن القراءة تجب على المأموم ; لما أمر بتركها لسنة الاستماع , ولأنه إذا انشغل المأموم بالقراءة ; لم يكن لجهر الإمام فائدة , ولأن تأمين المأموم على قراءة الإمام ينزل منزلة قراءتها ; فقد قال تعالى لموسى وهارون : قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا وقد دعا موسى , فقال . : رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الآية , وأمن هارون على دعائه , فنزل تأمينه منزلة من دعا , فقال تعالى : قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فدل على أن من أمن على دعاء ; فكأنما قاله .
أما إذا كانت الصلاة سرية , أو كان المأموم لا يسمع الإمام ; فإنه يقرأ الفاتحة في هذه الحال , وبهذا تجتمع الأدلة ; أي : وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة السرية دون الجهرية . .. والله أعلم .
ومن أحكام صلاة الجماعة المهمة وجوب اقتداء المأموم بالإمام بالمتابعة التامة له , وتحريم مسابقته ; لأن المأموم متبع لإمامه , مقتد به , والتابع المقتدي لا يتقدم على متبوعه وقدوته :
وقد قال صلى الله عليه وسلم أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار , أو يجعل صورته صورة حمار ؟ ! متفق عليه , فمن تقدم على إمامه ; كان كالحمار الذي لا يفقه ما يراد بعمله , ومن فعل ذلك ; استحق العقوبة . وفي الحديث الصحيح : إنما جعل الإمام ليؤتم به ; فلا تركعوا حتى يركع , ولا تسجدوا حتى يسجدوروى الإمام أحمد وأبو داود : إنما جعل الإمام ليؤتم به , فإذا ركع ; فاركعوا , ولا تركعوا حتى يركع , وإذا سجد ; فاسجدوا , ولا تسجدوا حتى يسجد(25/67)
وكان الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم لا يحني أحد منهم ظهره حتى يقع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا , ثم يقعون سجودا بعده .و لما رأى عمر رضي الله عنه رجلا يسابق الإمام ; ضربه , وقال : لا وحدك صليت , ولا بإمامك اقتديت وهذا شيء يتساءل فيه أو يتجاهله بعض المصلين , فيسابقون الإمام , ويتعرضون للوعيد الشديد , بل يخشى أن لا تصح صلاتهم .
وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم , أنه قال : لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " مسابقة الإمام حرام باتفاق الأئمة , لا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه , ولا يرفع قبله , ولا يسجد قبله , وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك " .
ومسابقة الإمام تلاعب من الشيطان ببعض المصلين حتى يخل بصلاته , وإلا ; فماذا يستفيد الذي يسابق الإمام ; لأنه لن يخرج من الصلاة إلا بعد سلام الإمام ؟ !
فيجب على المسلم أن يتنبه لذلك , وأن يكون ملتزما لأحكام الائتمام والاقتداء .
نسأل الله للجميع الفقه في دينه والبصيرة في أحكامه , إنه سميع مجيب ; فإنه من يرد الله به خيرا ; يفقهه في الدين .
باب في حكم حضور النساء إلى المساجد(25/68)
إن ديننا كامل وشامل لمصالحنا في الدنيا والآخرة , جاء بالخير للمسلمين رجالا ونساء : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فهو قد اهتم بشأن المرأة , ووضعها موضع الإكرام والاحترام , إن هي تمسكت بهديه , وتحلت بفضائله . ومن ذلك أنه سمح لها بالحضور إلى المساجد للمشاركة في الخير من صلاة الجماعة وحضور مجالس الذكر مع الاحتشام والتزام الاحتياطات التي تبعدها عن الفتنة وتحفظ لها كرامتها . فإذا استأذنت إلى المسجد ; كره منعها , قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله , وبيوتهن خير لهن , وليخرجن تفلات رواه أحمد وأبو داود , وذلك لأن أداء الصلاة المكتوبة في جماعة فيها فضل كبير للرجال والنساء , وكذلك المشي إلى المسجد , وفي " الصحيحين " وغيرهما : إذا استأذنت نساؤكم بالليل إلى المسجد ; فأذنوا لهن ووجه كونها تستأذن الزوج في ذلك , لأن ملازمة البيت حق للزوج , وخروجها للمسجد في تلك الحال مباح ; فلا تترك الواجب لأجل مباح , فإذا أذن الزوج , فقد أسقط حقه , وقوله صلى الله عليه وسلم : وبيوتهن خير لهن أي : خير لهن من الصلاة في المساجد , وذلك لأمن الفتنة بملازمتهن البيوت . وقوله صلى الله عليه وسلم : وليخرجن تفلات أي : غير متطيبات , وإنما أمرن بذلك ; لئلا يفتن الرجال بطيبهن , ويصرفوا أنظارهم إليهن , فيحصل بذلك الافتتان بهن , ويلحق بالطيب ما كان بمعناه كحسن الملبس وإظهار الحلي , فإن تطيبت أو لبست ثياب زينة ; حرم عليها ذلك , ووجب منعها من الخروج , وفي " صحيح مسلم " وغيره : أيما امرأة أصابت بخورا ; فلا تشهدن معنا العشاء الأخير
وكذلك إذا خرجت المرأة إلى المسجد ; فلتبتعد عن مزاحمة الرجال .(25/69)
-147- قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " يجب على ولي الأمر أن يمنع من اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق ومجامع الرجال , وهو مسئول عن ذلك , والفتنة به عظيمة , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء . .. إلى أن قال : " يجب عليه منعهن متزينات متجملات , ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات كالثياب الواسعة الرقاق , ومنعهن من حديث الرجال ; أي : التحدث إليهم في الطرقات , ومنع الرجال من ذلك " انتهى .
فإذا تمسكت المرأة بآداب الإسلام من لزوم الحياء , والتستر , وترك الزينة والطيب , والابتعاد عن مخالطة الرجال , أبيح لها الخروج إلى المسجد لحضور الصلاة والاستماع للتذكير , وبقاؤها في بيتها خير لها من الخروج في تلك الحال ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : وبيوتهن خير لهن
وأجمع المسلمون على أن صلاة المرأة في بيتها خير لها من الصلاة في المسجد ; ابتعادا عن الفتنة , وتغليبا لجانب السلامة , وحسما لمادة الشر .
أما إذا لم تلتزم بآداب الإسلام , ولم تجتنب ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من استعمالها الزينة والطيب للخروج , فخروجها للمسجد حينئذ حرام , ويجب على وليها وذوي السلطة منعها منه . وفي " الصحيحين " من حديث عائشة رضي الله عنها : " لو رأى ( تعني :
الرسول صلى الله عليه وسلم ) ما رأينا , لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل فخروج المرأة إلى المساجد مراعى فيه المصلحة واندفاع المفسدة , فإذا كان جانب المفسدة أعظم ; منعت .(25/70)
وإذا كان هذا الشأن في خروجها للمسجد ; فخروجها لغير المسجد من باب أولى أن تراعى فيه الحيطة والابتعاد عن مواطن الفتنة . -147- وإذا كان هناك اليوم قوم ينادون بخروج المرأة لمزاولة الأعمال الوظيفية كما هو شأنها في الغرب ومن هم على شاكلة الغرب ; فإن هؤلاء يدعون إلى الفتنة , ويقودون المرأة إلى شقائها وسلب كرامتها . .. فالواجب إيقاف هؤلاء عند حدهم , وكف ألسنتهم وأقلامهم عن هذه الدعوى الجاهلية , وكفى ما وقعت فيه المرأة في بلاد الغرب ومن حذا حذوها من ويلات , وتورطت فيه من واقع مؤلم , تئن له مجتمعاتهم , وليكن لنا فيهم عبرة , فالسعيد من وعظ بغيره . وليس لهؤلاء من حجة يبررون بها دعوتهم ; إلا قولهم : إن نصف المجتمع معطل عن العمل , وبهذا يريدون أن تشارك المرأة الرجل في عمله وتزاحمه فيه جنبا إلى جنب , ونسوا أو تناسوا أو تجاهلوا ما تقوم به المرأة من عمل جليل داخل بيتها , وما تؤديه للمجتمع من خدمة عظيمة , لا يقوم بها غيرها , تناسب خلقتها , وتتمشى مع فطرتها ; فهي الزوجة التي يسكن إليها زوجها , وهي الأم والحامل والمرضع , وهي المربية للأولاد , وهي القائمة بعمل البيت , فلو أنها أخرجت من البيت , وشاركت الرجال في أعمالهم , من ذا سيقوم بهذه الأعمال ؟ ! إنها ستتعطل , ويومها سيفقد المجتمع نصفه الثاني ; فماذا يغنيه النصف الباقي ؟ ! سيختل بنيانه , وتتداعى أركانه . إننا نقول لهؤلاء الدعاة : ثوبوا إلى رشدكم , ولا تكونوا ممن بدلوا نعمة الله كفرأ وأحلوا قومهم دار البوار , كونوا دعاة بناء ولا تكونوا دعاة هدم . أيتها المرأة المسلمة ! تمسكي بتعاليم دينك , ولا تغرنك دعايات المضللين الذين يريدون سلب كرامتك التي بوأك منزلتها دين الإسلام , وليس غير الإسلام , ومن يبغ غير الإسلام دينا ; فلن يقبل منه , وهو في الأخرى من الخاسرين . وفقنا الله جميعا لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة .
باب في بيان أحكام الإمامة(25/71)
هذه الوظيفة الدينية المهمة التي تولاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وتولاها خلفاؤه الراشدون .
وقد جاء في فضل الإمامة أحاديث كثيرة ; منها : قوله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة وذكر أن منهم رجلا أم قوما وهم به راضون , وفي الحديث الآخر , أن له من الأجر مثل أجر من صلى خلفهولهذا ; كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعلني إمام قومي ; لما يعلمون في ذلك من الفضيلة والأجر .
لكن مع الأسف الشديد ; نرى في وقتنا هذا كثيرا من طلبة العلم يرغبون عن الإمامة , ويزيدون فيها , ويتخلون عن القيام بها , إيثارا للكسل وقلة رغبة في الخير , وما هذا إلا تخذيل من الشيطان .
فالذي ينبغي لهم القيام بها بجد ونشاط واحتساب للأجر عند الله ; فإن طلبة العلم أولى الناس بالقيام بها وبغيرها من الأعمال الصالحة .
وكلما توافرت مؤهلات الإمامة في شخص ; كان أولى بالقيام بها ممن هو دونه , بل يتعين عليه القيام بها إذا لم يوجد غيره :
- فالأولى بالإمامة الأجود قراءة لكتاب الله تعالى , وهو الذي يجيد قراءة القرآن , بأن يعرف مخارج الحروف , ولا يلحن فيها , ويطبق قواعد القراءة من غير تكلف ولا تنطع , ويكون مع ذلك يعرف فقه صلاته وما يلزم فيها ; كشروطها وأركانها وواجباتها ومبطلاتها , لقوله صلى الله عليه وسلم : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وما ورد بمعناه من الأحاديث الصحيحة , مما يدل على أنه يقدم في الإمامة الأجود قراءة للقرآن الكريم , الذي يعلم فقه الصلاة ; لأن الأقرأ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يكون أفقه .(25/72)
- فإذا استووا في القراءة , قدم الأفقه ( أي : الأكثر فقها ) ; لجمعه بين ميزتين : القراءة والفقه , لقوله صلى الله عليه وسلم : فإن كانوا في القراءة سواء ; فأعلمهم بالسنة أي : أفقههم في دين الله , ولأن احتياج المصلي إلى الفقه أكثر من احتياجه إلى القراءة ; لأن ما يجب في الصلاة من القراءة محصور , وما يقع فيها من الحوادث غير محصور .
- فإذا استووا في الفقه والقراءة , قدم الأقدم هجرة , والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام .
- فإذا استووا في القراءة والفقه والهجرة ; قدم الأكبر سنا ; لقوله صلى الله عليه وسلم : وليؤمكم أكبركم متفق عليه , لأن كبر السن في الإسلام فضيلة , ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء .
والدليل على هذا الترتيب الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ; قال : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله , فإن كانوا في القراءة سواء , فأعلمهم بالسنة , فإن كانوا في السنة سواء ; فأقدمهم هجرة , فإن كانوا في الهجرة سواء ; فأقدمهم سنا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فقدم النبي صلى الله عليه وسلم بالفضيلة بالعلم بالكتاب والسنة , فإن استووا في العلم ; قدم بالسبق إلى العمل الصالح , وقدم السابق باختياره إلى العمل الصالح ( وهو المهاجر ) على من سبق بخلق الله وهو كبر السن " انتهى .
وهناك اعتبارات يقدم أصحابها في الإمامة على من حضر ولو كان أفضل منه , وهي :
أولا : إمام المسجد الراتب إذا كان أهلا للإمامة ; لم يجز أن يتقدم عليه غيره , ولو كان أفضل منه ; إلا بإذنه .
ثانيا : صاحب البيت إذا كان يصلح للإمامة ; لم يجز أن يتقدم عليه أحد في الإمامة ; إلا بإذنه .
ثالثا : السلطان , وهو الإمام الأعظم أو نائبه , فلا يتقدم عليه أحد في الإمامة , إلا بإذنه , إذا كان يصلح للإمامة .(25/73)
والدليل على تقديم أصحاب هذه الاعتبارات على غيرهم ما رواه أبو داود من قوله صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في سلطانه وفي " صحيح مسلم " : ولا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في سلطانه إلا بإذنه وسلطانه محل ولايته أو ما يملكه .
قال الخطابي : " معناه : أن صاحب المنزل أولى بالإمامة في بيته إذا كان من القراءة أو العلم بمحل يمكنه أن يقيم الصلاة , وإذا كان إمام المسجد قد ولاه السلطان أو نائبه أو اتفق على تقديمه أهل المسجد ; فهو أحق ; لأنها ولاية خاصة , ولأن التقدم عليه يسيء الظن به , وينفر عنه "
مما تقدم يتبين لك شرف الإمامة في الصلاة وفضلها ومكانتها في الإسلام ; لأن الإمام في الصلاة قدوة , والإمامة مرتبة شريفة ; فهي سبق إلى الخير , وعون على الطاعة وملازمة الجماعة , وبها تعمر المساجد بالطاعة , وهي داخلة في عموم قوله تعالى فيما حكاه من دعاء عباد الرحمن : وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا
فالإمامة في الصلاة من الإمامة في الدين , ولا سيما إذا كان الإمام يبذل النصح والوعظ والتذكير لمن يحضره في المسجد , فإنه بذلك من الدعاة إلى -152- الله , الذين يجمعون بين صالح القول والعمل , وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فلا يرغب عن القيام بالإمامة إلا محروم , ولا حول ولا قوة إلا بالله .
باب في من لا تصح إمامته في الصلاة
إن الإمامة في الصلاة مسئولية كبرى , وكما أنها تحتاج إلى مؤهلات يجب توافرها في الإمام أو يستحب تحليه بها ; كذلك يجب أن يكون الإمام سليما من صفات تمنعه من تسنم هذا المنصب أو تنقص أهليته له :(25/74)
فلا يجوز أن يولى الفاسق إمامة الصلاة , والفاسق هو من خرج عن حد الاستقامة بارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب التي هي دون الشرك .
والفسق نوعان : فسق عملي , وفسق اعتقادي : فالفسق العملي : كارتكاب فاحشة الزنى , والسرقة , وشرب الخمر . .. ونحو ذلك . والفسق الاعتقادي : كالرفض , والاعتزال , والتجهم .
فلا يجوز تولية إمامة الصلاة الفاسق , لأن الفاسق لا يقبل خبره , قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا فلا يؤمن على شرائط الصلاة وأحكامها , ولأنه يكون قدوة سيئة لغيره ; ففي توليته مفاسد .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تؤمن امرأة رجلا , ولا أعرابيا مهاجرا , ولا فاجر مومنا ; إلا أن يقهره بسلطان يخاف سوطه رواه ابن ماجه , والشاهد منه قوله : " ولا فاجر مؤمنا " والفجور هو العدول عن الحق . فالصلاة خلف الفاسق منهي عنها , ولا يجوز تقديره مع القدرة على ذلك ; فيحرم على المسئولين تنصيب الفاسق إماما للصلوات ; لأنهم مأمورون بمراعاة المصالح ; فلا يجوز لهم أن يوقعوا الناس في صلاة مكروهة , بل قد اختلف العلماء في صحة الصلاة خلف الفاسق , وما كان كذلك ; وجب تجنيب الناس من الوقوع فيه . ولا تصح إمامة العاجز عن ركوع أو سجود أو قعود ; إلا بمثله ; أي : مساويه في العجز عن ركن أو شرط , وكذا لا تصح إمامة العاجز عن القيام لقادر عليه ; إلا إذا كان العاجز عن القيام إماما راتبا لمسجد , وعرض له عجز عن القيام يرجى زواله ; فتجوز الصلاة خلفه , ويصلون خلفه في تلك الحال جلوسا ; لقول عائشة رضي الله عنها : صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك , فصلى جالسا , وصلى وراءه قوم قياما , فأشار إليهم أن اجلسوا , فلما انصرف , قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به . .. الحديث , وفيه : وإذا صلى جالسا ; فصلوا جلوسا أجمعون وذلك لأن الإمام الراتب يحتاج إلى تقديمه .(25/75)
ولو صلوا خلفه قياما أو صلى بعضهم قائما في تلك الحالة ; صحت صلاتهم على الصحيح , وإن استخلف الإمام في تلك الحال من يصلي بهم قائما ; فهو أحسن ; خروجا من الخلاف , ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ; فقد فعل الأمرين ; بيانا للجواز , والله أعلم .
ولا تصح إمامة من حدثه دائم ; كمن به سلس أو خروج ريح أو نحوه مستمر ; إلا بمن هو مثله في هذه الآفة , أما الصحيح ; فلا تصح صلاته خلفه ; لأن في صلاته خللا غير مجبور ببدل ; لأنه يصلي مع خروج النجاسة المنافي للطهارة , وإنما صحت صلاته للضرورة , وبمثله لتساويهما في خروج الخارج المستمر . وإن صلي خلف محدث أو متنجس ببدنه أو ثوبه أو بقعته , ولم يكونا يعلمان بتلك النجاسة أو الحدث حتى فرغ من الصلاة ; صحت صلاة المأموم دون الإمام ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا صلى الجنب بالقوم ; أعاد صلاته , وتمت للقوم صلاتهم(25/76)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وبذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين ; فإنهم صلوا بالناس , ثم رأوا الجنابة بعد الصلاة , فأعادوا , ولم يأمروا الناس -155- بالإعادة , وإن علم الإمام أو المأموم بالحدث أو النجاسة في أثناء الصلاة ; بطلت صلاتهم " . ولا تصح إمامة الأمي , والمراد به هنا من لا يحفظ سورة الفاتحة أو يحفظها ولكن لا يحسن قراءتها ; كأن يلحن فيها لحنا يحيل المعنى ; ككسر كاف ( إياك ) , وضم تاء ( أنعمت ) , وفتح همزة ( اهدنا ) , أو يبدل حرفا بغيره , وهو الألثغ , كمن يبدل الراء غينا أو لاما , أو السين تاء . .. ونحو ذلك ; فلا تصح إمامة الأمي إلا بأمي مثله ; لتساويهما , إذا كانوا عاجزين عن إصلاحه , فإن قدر الأمي على الإصلاح لقراءته , لم تصح صلاته ولا صلاة من صلى خلفه ; لأنه ترك ركنا مع القدرة عليه . ويكره أن يؤم الرجل قوما أكثرهم يكرهه بحق ; بأن تكون كراهتهم لها مبرر من نقص في دينه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم : العبد الأبق حتى يرجع , وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط , وإمام قوم وهم له كارهون رواه الترمذي وحسنه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " إذا كانوا يكرهونه لأمر في دينه , مثل كذبه أو ظلمه أو جهله أو بدعته ونحو ذلك , ويحبون آخر أصلح منه في دينه ; مثل أن يكون أصدق أو أعلم أو أدين ; فإنه يجب أن يولى عليهم هذا الذي يحبونه , وليس لذلك الرجل الذي يكرهونه أن يؤمهم ; كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم ; أنه قال : ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم : رجل أم قوما وهم له كارهون , ورجل لا يأتي الصلاة إلا دبارا , ورجل اعتبد محررا(25/77)
وقال أيضا : " إذا كان بينهم معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء -156- والمذاهب ; لم ينبغ أن يؤمهم , لأن المقصود بالصلاة جماعة أن يتم الائتلاف , وقال عليه الصلاة والسلام : لا تختلفوا , فتختلف قلوبكم ا ه . أما إذا كان الإمام ذا دين وسنة , وكرهوه لذلك ; لم تكره الإمامة في حقه , وإنما العتب على من كرهه . وعلى كل ; فينبغي الائتلاف بين الإمام والمأمومين , والتعاون على البر والتقوى , وترك التشاحن والتباغض تبعا للأهواء والأغراض الشيطانية ; فيجب على الإمام أن يراعي حق المأمومين , ولا يشق عليهم , ويحترم شعورهم , ويجب على المأمومين أن يراعوا حق الإمام , ويحترموه , وبالجملة ; فينبغي لكل منهما أن يتحمل ما يواجهه من الآخر من بعض الانتقادات التي لا تخل بالدين والمروءة , والإنسان معرض للنقص :
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
هذا ; ونسأل الله للجميع الهداية والتوفيق .
باب في ما يشرع للإمام في الصلاة
الإمام عليه مسئولية عظمى , وهو ضامن , وله الخير الكثير إن أحسن , وفضل الإمامة مشهور , تولاها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه , ولم يختاروا لها إلا الأفضل , وفي الحديث : ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة : رجل أم قوما وهم به راضون الحديث , وفي الحديث الآخر أن له من الأجر مثل أجر من صلى خلفه . ومن علم من نفسه الكفاءة ; فلا مانع من طلبه للإمامة ; فقد قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعلني إمام قومي . قال : " أنت إمامهم , واقتد بأضعفهم ويشهد لذلك أيضا قوله تعالى : وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا(25/78)
وينبغي لمن تولى الإمامة أن يهتم بشأنها , وأن يوفيها حقها ما استطاع , وله في ذلك الأجر العظيم , ويراعي حالة المأمومين , ويقدر ظروفهم , ويتجنب إحراجهم , ويرغبهم ولا ينفرهم ; عملا بقوله عليه الصلاة والسلام : إذا صلى أحدكم بالناس ; فليخفف ; فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة , وإذا صلى لنفسه ; فليطول ما شاء رواه الجماعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه , وفي " الصحيح " من حديث أبي مسعود : أيها الناس إن منكم منفرين , فأيكم أم الناس ; فليوجز ; فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ويقول أحد الصحابة . " ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم " وهو القدوة في ذلك وفي غيره . قال الحافظ : " من سلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم في الإيجاز والإتمام ; لا يشتكى منه تطويل , والتخفيف المطلوب هو التخفيف الذي يصحبه إتمام الصلاة بأداء أركانها وواجباتها وسننها على الوجه المطلوب , والتخفيف المأمور به أمر نسبي يرجع إلى ما فعله صلى الله عليه وسلم وواظب عليه وأمر به , لا إلى شهوة المأمومين. قال بعض العلماء : ومعنى التخفيف المطلوب : هو الاقتصار على أدنى الكمال من التسبيح وسائر أجزاء الصلاة , وأدنى الكمال في التسبيح في الركوع والسجود هو أن يأتي بثلاث تسبيحات , وإذا آثر المأمومون التطويل , وعددهم ينحصر , بحيث يكون رأيهم في طلب التطويل واحدا ; فلا بأس أن يطول الإمام الصلاة ; لاندفاع المفسدة , وهي التنفير . قال الإمام ابن دقيق العيد : " قول الفقهاء : " لا يزيد الإمام في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات " ; لا يخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ; أنه كان يزيد على ذلك ; لأن رغبة الصحابة في الخير . تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلا " انتهى .(25/79)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " ليس له أن يزيد على قدر المشروع , وينبغي أن يفعل غالبا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله غالبا , ويزيد وينقص للمصلحة ; كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد وينقص أحيانا للمصلحة " . وقال النووي : " قال العلماء : واختلاف قدر القراءة في الأحاديث كان بحسب الأحوال , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من حال المؤمنين في وقت أنهم يؤثرون التطويل ; فيطول بهم , وفي وقت لا يؤثرونه لعذر ونحوه ; فيخفف , وفي وقت يريد إطالتها , فيسمع بكاء الصبي , فيخفف كما ثبت ذلك في الصحيح " انتهى .(25/80)
ويكره أن يخفف الإمام في الصلاة تخفيفا لا يتمكن معه المأموم من الإتيان بالمسنون ; كقراءة السورة , والإتيان بثلاث تسبيحات في الركوع والسجود . ويسن أن يرتل القراءة , ويتمهل في التسبيح والتشهد بقدر ما يتمكن من خلفه من الإتيان بالمسنون من التسبيح ونحوه , وأن يتمكن من ركوعه وسجوده . ويسن للإمام أن يطيل الركعة الأولى ; لقول أبي قتادة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يطول في الركعة الأولى متفق عليه . ويستحب للإمام إذا أحس بداخل وهو في الركوع أن يطيل الركوع حتى يلحقه الداخل فيه ويدرك الركعة ; إعانة له على ذلك ; لما رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن أبي أوفى في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ; أنه كان يقول في الركعة الأولى من صلاة الظهر , حتى لا يسمع وقع قدم . ما لم يشق هذا الانتظار على مأموم , فإن شق عليه ; تركه , لأن حرمة الذي معه أعظم من حرمة الذي لم يدخل معه . وبالجملة ; فيجب على الإمام أن يراعي أحوال المأمومين , ويراعي إتمام الصلاة وإتقانها , ويكون مقتديا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم , عاملا بوصاياه وأوامره ; ففيها الخير للجميع . وبعض الأئمة قد يتساهل في شأن الإمامة ومسئوليتها , ويتغيب كثيرا عن المسجد , أو يتأخر عن الحضور , مما يحرج المأمومين , ويسبب الشقاق , ويشوش على المصلين , ويكون هذا الإمام قدوة سيئه للكسالى والمتساهلين بالمسئولية ; فمثل هذا يجب الأخذ على يده , حتى يواظب على أداء مهمته بحزم , ولا ينفر المصلين , ويعطل إمامة المسجد , أو ينحى عن الإمامة إذا لم يراجع صوابه . اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه .
باب في صلاة أهل الأعذار
أهل الأعذار هم المرضى والمسافرون والخائفون الذين لا يتمكنون من أداء الصلاة على الصفة التي يؤديها غير المعذور , فقد خفف الشارع عنهم , وطلب منهم أن يصلوا حسب استطاعتهم , وهذا من يسر هذه الشريعة وسماحتها , فقد جاءت برفع الحرج :(25/81)
قال الله تعالى : وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
وقال تعالى : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
وقال تعالى : لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
وقال تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أمرتكم بأمر ; فأتوا منه ما استطعتم . ..إلى غير ذلك من النصوص التي تبين فضل الله على عباده وتيسيره في تشريعه .
ومن ذلك ما نحن بصدد الحديث عنه , وهو ; كيف يصلي من قام به عذر من مرض أو سفر أو خوف ؟
أولا : صلاة المريض
إن الصلاة لا تترك أبدا ; فالمريض يلزمه أن يؤدي الصلاة قائما , وإن احتاج إلى الاعتماد على عصا ونحوه في قيامه ; فلا بأس بذلك ; لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
فإن لم يستطع المريض القيام في الصلاة ; بأن عجز عنه أو شق عليه أو خيف من قيامه زيادة مرض أو تأخر برء ; فإنه - والحالة ما ذكر - يصلي قاعدا .
ولا يشترط لإباحة القعود في الصلاة تعذر القيام , ولا يكفي لذلك أدنى مشقة , بل المعتبر المشقة الظاهرة .
وقد أجمع العلماء على أن من عجز عن القيام في الفريضة ; صلاها قاعدا , ولا إعادة عليه , ولا ينقص ثوابه , وتكون هيئة قعوده حسب ما يسهل عليه , لأن الشارع لم يطلب منه قعدة خاصة ; فكيف قعد ; جاز .
فإن لم يستطع المريض الصلاة قاعدا , بأن شق عليه الجلوس مشقة ظاهرة , أو عجز عنه , فإنه يصلي على جنبه , ويكون وجهه إلى القبلة , والأفضل أن يكون على جنبه الأيمن , وإن لم يكن عنده من يوجهه إلى القبلة , ولم يستطع التوجه إليها بنفسه ; صلى على حسب حاله , إلى أي جهة تسهل عليه .
فإذا لم يقدر المريض أن يصلي على جنبه ; تعين عليه أن يصلي على ظهره , وتكون رجلاه إلى القبلة مع الإمكان .(25/82)
وإذا صلى المريض قاعدا , ولا يستطيع السجود على الأرض , أو صلى على جنبه أو على ظهره كما سبق ; فإنه يومئ برأسه للركوع والسجود , ويجعل الإيماء للسجود أخفض من الإيماء للركوع . وإذا صلى المريض جالسا وهو يستطيع السجود على الأرض ; وجب عليه ذلك , ولا يكفيه الإيماء .
والدليل على جواز صلاة المريض على هذه الكيفية المفصلة ما أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ; قال : كانت بي بواسير , فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : " صل قائما , فإن لم تستطع ; فصل قاعدا , فإن لم تستطع ; فعلى جنبك زاد النسائي : " فإن لم تستطع , فمستلقيا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
وهنا يجب التنبيه على أن ما يفعله بعض المرضى ومن تجرى لهم عمليات جراحية , فيتركون الصلاة بحجة أنهم لا يقدرون على أداء الصلاة بصفة كاملة , أو لا يقدرون على الوضوء , أو لأن ملابسهم نجسة , أو غير ذلك من الأعذار , وهذا خطأ كبير ; لأن المسلم لا يجوز له ترك الصلاة . إذا عجر عن بعض شروطها أو أركانها وواجباتها , بل يصليها على حسب حاله , قال الله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وبعض المرضى يقول : إذا شفيت ; قضيت الصلوات التي تركتها , وهذا جهل منهم أو تساهل ; فالصلاة تصلى في وقتها حسب الإمكان , ولا يجوز تأخيرها عن وقتها , فينبغي الانتباه لهذا , والتنبيه عليه , ويجب أن يكون في المستشفيات توعية دينية , وتفقد لأحوال المرضى من ناحية الصلاة وغيرها من الواجبات الشرعية التي هم بحاجة إلى بيانها .(25/83)
وما سبق بيانه هو في حق من ابتدأ الصلاة معذورا , واستمر به العذر إلى الفراغ منها , وأما من ابتدأها وهو يقدر على القيام , ثم طرأ عليه العجز عنه , أو ابتدأها وهو لا يستطيع القيام , ثم قدر عليه في أثنائها , أو ابتدأها قاعدا , ثم عجز عن القعود في أثنائها , أو ابتدأها على جنب , ثم قدر على القعود ; فإنه في تلك الأحوال ينتقل إلى الحالة المناسبة له شرعا , ويتمها عليها وجوبا ; لقوله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فينتقل إلى القيام من قدر عليه , وينتقل إلى الجلوس من عجز عن القيام في أثناء الصلاة . .. وهكذا .
وأن قدر على القيام والقعود , ولم يقدر على الركوع والسجود , فإنه يومئ برأسه بالركوع قائما , ويومئ بالسجود قاعدا ; ليحصل الفرق بين الإيماءين حسب الإمكان .
وللمريض أن يصلي مستلقيا مع قدرته على القيام إذا قال له طبيب مسلم ثقة : لا يمكن مداواتك إلا إذا صليت مستلقيا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالسا حين جحش شقه , وأم سلمة تركت السجود لرمد بها .
ومقام الصلاة في الإسلام . عظيم ; فيطلب من المسلم , بل يحتم عليه أن يقيمها في حال الصحة وحال الأرض ; فلا تسقط عن المريض , لكنه يصليها على حسب حاله ; فيجب على المسلم أن يحافظ عليها كما أمره الله .
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .
ثانيا : صلاة الراكب(25/84)
ومن أهل الأعذار الراكب إذا كان يتأذى بنزوله للصلاة على الأرض بوحل أو مطر , أو يعجز عن الركوب وإذا نزل , أو يخشى فوات رفقته إذا نزل , أو يخاف على نفسه إذا نزل من عدو أو سبع , ففي هذه الأحوال يصلي على مركوبه ; من دابة وغيرها , ولا ينزل إلى الأرض ; لحديث يعلى بن مرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه , وهو على راحلته , والسماء من فوقهم , والبلة من أسفل منهم , فحضرت الصلاة , فأمر المؤذن فأذن وأقام , ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته , فصلى بهم يومئ إيماء ; يجعل السجود أخفض من الركوع " رواه أحمد والترمذي .
ويجب على من يصلي الفريضة على مركوبه لعذر مما سبق أن يستقبل القبلة إن استطاع ; لقوله تعالى : وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ويجب عليه فعل ما يقدر عليه من ركوع وسجود وإيماء بهما وطمأنينة ; لقوله تعالى . فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وما لا يقدر عليه لا يكلف به . وإن لم يقدر على استقبال القبلة ; لم يجب عليه استقبالها , وصلى على حسب حاله , وكذلك راكب الطائرة يصلي فيها بحسب استطاعته من قيام أو قعود وركوع وسجود أو إيماء بهما ; بحسب استطاعته , مع استقبال القبلة ; لأنه ممكن .
ثالثا : صلاة المسافر
ومن أهل الأعذار المسافر , فيشرع له قصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين ; كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع , قال الله تعالى : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في السفر إلا قصرا , والقصر أفضل من الإتمام في قول جمهور العلماء , وفي " الصحيحين " : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ; فأقرت صلاة السفر , وزيد في صلاة الحضر وقال ابن عمر : صلاة السفر ركعتان , تمام غير قصر .(25/85)
ويبدأ القصر بخروج المسافر من عامر بلده ; لأن الله أباح القصر لمن ضرب في الأرض , وقبل خروجه من بلده لا يكون ضاربا في الأرض ولا مسافرا , ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يقصر إذا ارتحل , ولأن لفظ السفر معناه الإسفار ; أي : الخروج إلى الصحراء , يقال : سفرت المرأة عن وجهها : إذا كشفته , فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف فيها من بين المساكن ; لم يكن مسافرا .
ويقصر المسافر الصلاة , ولو كان يتكرر سفره , كصاحب البريد وسيارة الأجرة ممن يتردد أكثر وقته في الطريق بين البلدان .(25/86)
ويجوز للمسافر الجمع بين الظهر والعصر , والجمع بين المغرب والعشاء ; في وقت أحدهما ; فكل مسافر يجوز له القصر , فإنه يجوز له الجمع , وهو رخصة عارضة , يفعله عند الحاجة , كما إذا جد به السير ; لما روى معاذ رضي الله عنه ; أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك : إذا ارتحل قبل زيغ الشمس ; أخر الظهر حتى يجمعه إلى العصر ويصليهما جميعا , وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس ; صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار , وكان يفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء رواه أبو داود والترمذي . وإذا نزل المسافر في أثناء سفره للراحة ; فالأفضل له أن يصلي كل صلاة في وقتها قصرا بلا جمع . ويباح الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء للمريض الذي يلحقه بترك الجمع مشقة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن الأمة , فإذا احتاجوا الجمع , جمعوا , والأحاديث كلها تدل على أنه يجمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته , فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة , وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى " اه . وقال أيضا : " يجمع المرضى كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالجمع في حديثين , ويباح الجمع لمن يعجز عن الطهارة لكل صلاة ; كمن به سلس بول , أو جرح لا يرقأ دمه , أو رعاف دائم ; قياسا على المستحاضة ; فقد قال عليه الصلاة والسلام لحمنة حين استفتته في الاستحاضة : وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر , فتغتسلين , ثم تصلين الظهر والعصر جمعا , ثم تؤخري المغرب وتعجلي العشاء , ثم تغتسلين , وتجمعين بين الصلاتين ; فافعلي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه . ويباح الجمع بين المغرب والعشاء خاصة لحصول مطر يبل الثياب , وتوجد معه مشقة ; لأنه عليه الصلاة والسلام جمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة , وفعله أبو بكر وعمر(25/87)
. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " يجوز الجمع للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء ونحو ذلك , وإن لم يكن المطر نازلا في أصح قولي العلماء , وذلك أولى من أن يصلوا في بيوتهم , بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة ; إذ السنة أن تصلى الصلوات الخمس في المساجد جماعة , وذلك أولى من الصلاة في البيوت باتفاق المسلمين , والصلاة جمعا في المساجد أولى من الصلاة في البيوت مفرقة باتفاق الأئمة الذين يجوزون الجمع , كمالك والشافعي وأحمد " انتهى .
ومن يباح له الجمع ; فالأفضل له أن يفعل الأرفق به من جمع تأخير أو جمع تقديم , والأفضل بعرفة جمع التقديم بين الظهر والعصر , وبمزدلفة الأفضل جمع التأخير بين المغرب والعشاء , لفعله عليه الصلاة والسلام , وجمع التقديم بعرفة لأجل اتصال الوقوف , وجمع التأخير بمزدلفة من أجل مواصلة السير إليها .
وبالجملة , فالجمع بين الصلاتين في عرفة ومزدلفة سنة , وفي غيرهما مباح يفعل عند الحاجة , وإذا لم تدع إليه حاجة , فالأفضل للمسافر أداء كل صلاة في وقتها ; فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في أيام الحج إلا بعرفة ومزدلفة , ولم يجمع بمنى ; لأنه نازل , وإنما كان يجمع إذا جد به السير .
هذا ونسأل الله للجميع التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح .
رابعا : صلاة الخوف
تشرع صلاة الخوف في كل قتال مباح ; كقتال الكفار والبغاة والمحاربين ; لقوله تعالى : إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقيس عليه الباقي ممن يجوز قتاله , ولا تجوز صلاة الخوف في قتال محرم .
والدليل على مشروعية صلاة الخوف الكتاب والسنة والإجماع :(25/88)
قال الله تعالى : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ
قال الإمام أحمد رحمه الله : " صحت صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه أو ستة كلها جائزة " اهـ .
فهي مشروعة في زمنه عليه الصلاة والسلام , وتستمر مشروعيتها إلى آخر الدهر , وأجمع على ذلك الصحابة وسائر الأئمة ما عدا خلافا قليلا لا يعتد به .
وتفعل صلاة الخوف عند الحاجة إليها سفرا وحضرا , إذا خيف هجوم العدو على المسلمين ; لأن المبيح لها هو الخوف لا السفر , لكن صلاة الخوف في الحضر لا يقصر فيها عدد الركعات , وإنما تقصر فيها صفة الصلاة , وصلاة الخوف في السفر يقصر فيها عدد الركعات إذا كانت رباعية , وتقصر فيها الصفة .
وتشرع صلاة الخوف بشرطين :
الشرط الأول : أن يكون العدو يحل قتاله كما سبق .
الشرط الثاني : أن يخاف هجومه على المسلمين حال الصلاة ; لقوله تعالى : إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله : وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً(25/89)
ومن صفات صلاة الخوف الصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سهل ابن أبي حثمة الأنصاري رضي الله عنه , وقد اختار الإمام أحمد العمل بها ; لأنها أشبه بالصفة المذكورة في القرآن الكريم , وفيها احتياط للصلاة واحتياط للحرب , وفيها نكاية بالعدو , وقد فعل عليه الصلاة والسلام هذه الصلاة في غزوة ذات الرقاع , وصفتها كما رواها سهل هي : أن طائفة صفت مع النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة وجاه العدو , فصلى بالتي معه ركعة , ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم , ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو , وجاءت الطائفة الأخرى , فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته , ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم , ثم سلم بهم " متفق عليه .
ومن صفات صلاة الخوف ما روى جابر , قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف , فصففنا صفين - والعدو بيننا وبين القبلة - , فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبرنا , ثم ركع وركعنا جميعا , ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا , ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه , وقال الصف المؤخر في نحر العدو , فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود , وقام الصف الذي يليه ; انحدر الصف المؤخر بالسجود , وقاموا , ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم , ثم ركع وركعنا جميعا , ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا , ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وكان مؤخرا في الركعة الأولى , وقال الصف المؤخر في نحر العدو , فلما قضى صلى الله عليه وسلم السجود , وقال الصف الذي يليه ; انحدر الصف المؤخر بالسجود , فسجدوا , ثم سلم صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا رواه مسلم .
ومن صفات صلاة الخوف ما رواه ابن عمر , قال : صلى النبي صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين والأخرى مواجهة العدو , ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو , وجاء أولئك , فصلى بهم ركعة , ثم سلم , ثم قضى هؤلاء ركعة , وهؤلاء ركعة متفق عليه .(25/90)
ومن صفات صلاة الخوف أن يصلي بكل طائفة صلاة , ويسلم بها , رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
ومن صفات صلاة الخوف ما رواه جابر ; قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , " حتى إذا كنا بذات الرقاع " قال : " فنودي للصلاة , فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا , فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين " قال : " فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع وللقوم ركعتان متفق عليه .
وهذه الصفات تفعل إذا لم يشتد الخوف , فإذا اشتد الخوف , بأن تواصل الطعن والضرب والكر والفر , ولم يمكن تفريق القوم وصلاتهم على ما ذكر , وحان وقت الصلاة ; صلوا على حسب حالهم , رجالا وركبانا , للقبلة وغيرها يومئون بالركوع والسجود حسب طاقتهم , ولا يؤخرون الصلاة , لقوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا أي : فصلوا رجالا أو ركبانا , والرجال جمع راجل , وهو الكائن على رجليه ماشيا أو واقفا , والركبان جمع راكب .
ويستحب أن يحمل معه في صلاة الخوف من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله , لقوله تعالى : وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ
ومثل شدة الخوف حالة الهرب من عدو أو سيل أو سبع أو خوف فوات عدو يطلبه ; فيصلي في هذه الحالة راكبا أو ماشيا , مستقبل القبلة وغير مستقبلها , يومئ بالركوع والسجود .
ونستفيد من صلاة الخوف على هذه الكيفيات العجيبة والتنظيم الدقيق : أهمية الصلاة في الإسلام , وأهمية صلاة الجماعة بالذات ; فإنهما لم يسقطا في هذه الأحوال الحرجة ; كما نستفيد كمال هذه الشريعة الإسلامية , وأنها شرعت لكل حالة ما يناسبها , كما نستفيد نفي الحرج عن هذه الأمة , وسماحة هذه الشريعة , وصلاحيتها لكل زمان ومكان .
نسأل الله أن يرزقنا التمسك بها والوفاة عليها ; إنه سميع مجيب .
باب في أحكام صلاة الجمعة(25/91)
سميت بذلك لجمعها الخلق الكثير , ويومها أفضل أيام الأسبوع , ففي " الصحيحين " وغيرهما : من أفضل أيامكم يوم الجمعة وقال صلى الله عليه وسلم : نحن الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة , بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا , ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم , فاختلفوا فيه , فهدانا الله له , والناس لنا فيه تبع وروى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا , فكان لليهود يوم السبت , وللنصارى يوم الأحد , فجاء الله بنا , فهدانا ليوم الجمعة
شرع اجتماع المسلمين فيه لتنبيههم على عظم نعمة الله عليهم , وشرعت فيه الخطبة لتذكيرهم بتلك النعمة , وحثهم على شكرها , وشرعت فيه صلاة الجمعة في وسط النهار , ليتم الاجتماع في مسجد واحد .
وأمر الله المؤمنين بحضور ذلك الاجتماع واستماع الخطبة وإقامة تلك الصلاة , قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَقال ابن القيم : " كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره , وقد اختلف العلماء , هل هو أفضل أم يوم عرفة ; على قولين , هما وجهان لأصحاب الشافعي , وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجره بسورتي ( الم تنزيل ) , و هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ إلى أن قال : " وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يومها ; فإنهما اشتملتا على خلق آدم , وعلى ذكر المعاد , وحشر العباد , وذلك يكون يوم الجمعة , وكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون , والسجدة جاءت تبعا , ليست مقصودة حتى يقصد المصلي قراءتها حيث اتفقت ( يعني : من أي سورة ) "(25/92)
ومن خصائص يوم الجمعة استحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي ليلته ; لقوله صلى الله عليه وسلم : أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة رواه البيهقي .
ومن أعظم خصائص يوم الجمعة صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام ومن أعظم مجامع المسلمين , من تركها تهاونا بها , طبع الله على قلبه . ومن خصائص يوم الجمعة الأمر بالاغتسال فيه , وهو سنة مؤكدة , ومن العلماء من يوجبه مطلقا , ومنهم يوجبه في حق من به رائحة يحتاج إلى إزالتها . ومن خصائص يوم الجمعة استحباب التطيب فيه , وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع . ومن خصائص هذا اليوم ; استحباب التبكير للذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة , والاشتغال بالصلاة النافلة والذكر والقراءة حتى يخرج الإمام للخطبة , ووجوب الإنصات للخطبة إذا سمعها , فإن لم ينصت للخطبة , كان لاغيا , ومن لغا , فلا جمعة له , وتحريم الكلام وقت الخطبة ; ففي " المسند " مرفوعا : والذي يقول لصاحبه : أنصت , فلا جمعة له
ومن خصائص يوم الجمعة قراءة سورة الكهف في يومها ; فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة ; سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء , يضيء به يوم القيامة , وغفر له ما بين الجمعتين رواه الحاكم والبيهقي . ومن خصائص يوم الجمعة أن فيه ساعة الإجابة ; ففي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة : إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا , إلا أعطاه إياه ( وقال بيده ; يقللها )(25/93)
ومن خصائص يوم الجمعة أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولرسوله جمع بالرسالة وتذكير العباد . وخصائص هذا اليوم كثيرة , ذكرها الإمام ابن القيم في كتابه " زاد المعاد " , فأوصلها إلى ثلاث وثلاثين ومئة . ومع هذا ; يتساهل كثير من الناس في حق هذا اليوم , فلا يكون له مزية عندهم على غيره من الأيام , والبعض الآخر يجعل هذا اليوم وقتا للكسل والنوم , والبعض يضيعه باللهو واللعب والغفلة عن ذكر الله , حتى إنه لينقص عدد المصلين في المساجد في فجر ذلك اليوم نقصا ملحوظا ; فلا حول ولا قوة إلا بالله .
ويستحب التبكير في الذهاب إلى المسجد يوم الجمعة , فإذا دخل المسجد ; صلى تحية المسجد ركعتين . وإن كان مبكرا فأراد أن يتنفل بزيادة صلوات ; فلا مانع من ذلك ; لأن السلف كانوا يبكرون ويصلون حتى يخرج الإمام .(25/94)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام ; لما في " الصحيح " من قوله صلى الله عليه وسلم " ثم يصلي ما كتب له " , بل ألفاظه صلى الله عليه وسلم فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت , وهو المأثور عن الصحابة , كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة ; يصلون من حين يدخلون ما تيسر ; فمنهم من يصلي عشر ركعات , ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة , ومنهم من يصلي ثماني ركعات , ومنهم من يصلي أقل من ذلك , ولهذا ; كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد , والصلاة قبل الجمعة حسنة , وليست بسنة راتبة , وإن فعل أو ترك , لم ينكر عليه , وهذا أعدل الأقوال , وحينئذ ; فقد يكون الترك أفضل , إذا اعتقد الجهال أنها سنة راتبة " ا ه . هذا ما يتعلق بصلاة النافلة قبل صلاة الجمعة ; فليس لها راتبة قبلها , وإنما راتبتها بعدها , ففي " صحيح مسلم " : إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات وفي " الصحيحين " : أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين والجمع بين الحديثين أنه إن صلى في بيته ; صلى ركعتين , وإن صلى في المسجد , صلى أربع ركعات , وإن شاء صلى ست ركعات ; لقول ابن عمر : و كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة , تقدم فصلى ركعتين , ثم تقدم فصلى أربعاوالأحقية في المكان في المسجد للسابق بالحضور بنفسه , وأما ما يفعله الناس من حجز مكان في المسجد , توضع فيه سجادة أو عصا أو نعلان , ويتأخر هو عن الحضور , ويحرم المتقدم من ذلك المكان , فإن ذلك عمل غير سائغ , بل صرح بعض العلماء أن لمن أتى المسجد رفع ما وضع في ذلك المكان والصلاة فيه ; لأن السابق يستحق الصلاة في الصف الأول , ولأن وضع الحمى للمكان في المسجد دون حضور من الشخص اغتصاب للمكان .(25/95)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش ونحوها إلى المسجد يوم الجمعة قبل صلاتهم ; فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين , بل محرم , وهل تصح صلاة على ذلك المفروش ؟ فيه قولان للعلماء ; لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها , ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان , والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد , فإذا قدم المفروش ونحوه وتأخر هو ; فقد خالف الشريعة من جهتين : من جهة تأخره وهو مأمور بالتقدم , ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد ومنعه السابقين له , وأن يتموا الصف الأول فالأول , ثم إنه إذا حضر يتخطى رقاب الناس " ا هـ .
ومن أحكام الجمعة أن من دخل المسجد والإمام يخطب ; لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام ; فليصل ركعتين , متفق عليه زاد مسلم : وليتجوز فيهما أي : يسرع . فإن جلس ; قام فأتى بهما , لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي جلس قبل أن يصليهما , فقال له : قم فاركع ركعتين(25/96)
ومن أحكام صلاة الجمعة أنه لا يجوز الكلام والإمام يخطب : لقوله تعالى : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قال بعض المفسرين : " إنها نزلت في الخطبة , وسميت قرانا ; لاشتمالها على القرآن " , وحتى على القول الآخر بأن الآية نزلت في الصلاة , فإنها تشمل بعمومها الخطبة . وقال صلى الله عليه وسلم : من قال صه ; فقد لغا , ومن لغا ; فلا جمعة له رواه أحمد . وفي الحديث الآخر : من تكلم , فهو كالحمار يحمل أسفارا , والذي يقول له : أنصت ; ليست له جمعة والمراد لا جمعة له كاملة . وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة : إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب ; فقد لغوت أي : قلت اللغو , واللغو الإثم , فإذا كان الذي يقول للمتكلم : أنصت - وهو في الأصل يأمر بمعروف - , قد لغا , وهو منهي عن ذلك ; فغير ذلك من الكلام من باب أولى .
ويجوز للإمام أن يكلم بعض المأمومين حال الخطبة , ويجوز لغيره أن يكلمه لمصلحة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم سائلا , وكلمه هو , وتكرر ذلك في عدة وقائع كلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة وكلموه حال الخطبة فيما فيه مصلحة وتعلم , ولأن ذلك لا يشغل عن سماع الخطبة .
ولا يجوز لمن يستمع الخطبة أن يتصدق على السائل وقت الخطبة , لأن السائل فعل ما لا يجوز له فعله ; فلا يعينه على ما لا يجوز , وهو الكلام حال الخطبة .
وتسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها من الخطيب , ولا يرفع صوته بها ; لئلا يشغل غيره بها .(25/97)
ويسن أن يؤمن على دعاء الخطيب بلا رفع صوت . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ورفع الصوت قدام الخطيب مكروه أو محرم اتفاقا , ولا يرفع المؤذن ولا غيره صوته بصلاة ولا غيرها " اه . ويلاحظ أن هذا الذي نبه عليه الشيخ لا يزال موجودا في بعض الأمصار , من رفع الصوت بالصلاة على الرسول أو غير ذلك من الأدعية حال الخطبة أو قبلها أو بين الخطبتين , وربما أن بعض الخطباء يأمر الحاضرين بذلك , وهذا جهل وابتداع لا يجوز فعله .
ومن دخل والإمام يخطب ; فإنه لا يسلم , بل ينتهي إلى الصف بسكينة , ويصلي ركعتين خفيفتين كما سبق , ويجلس لاستماع الخطبة , ولا يصافح من بجانبه .(25/98)
ولا يجوز له العبث حال الخطبة بيد أو رجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من مس الحصا ; فقد لغا , ومن لغا , فلا جمعة له صححه الترمذي , ولأن العبث يمنع الخشوع . وكذلك لا ينبغي له أن يتلفت يمينا وشمالا , ويشتغل بالنظر إلى الناس , أو غير ذلك , لأن ذلك يشغله عن الاستماع للخطبة , ولكن ليتجه إلى الخطيب كما كان الصحابة رضي الله عنهم يتجهون إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال الخطبة . وإذا عطس ; فإنه يحمد الله سرا بينه وبين نفسه . ويجوز الكلام قبل الخطبة وبعدها وإذا جلس الإمام بين الخطبتين لمصلحة , لكن لا ينبغي التحدث بأمور الدينا . وبالجملة ; فخطبتا الجمعة لهما أهمية عظيمة في الإسلام ; لما تشتملان عليه من تلاوة القرآن وذكر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم , وتضمنهما التوجيهات النافعة والموعظة الحسنة والتذكير بأيام الله , فيجب الاهتمام بهما من قبل الخطيب ومن قبل المستمعين ; فليست خطبة الجمعة مجرد حديث عادي كالأحاديث التي تلقى في النوادي والاحتفالات والاجتماعات العادية . ومما ينبغي التنبيه عليه أن بعض المستمعين لخطبتي الجمعة يرفع صوته بالتعوذ عندما يسمع شيئا من الوعيد في الخطبة , أو يرفع صوته بالسؤال والدعاء عندما يسمع شيئا من ذكر الثواب أو الجنة , وهذا شيء لا يجوز , وهو داخل في الكلام المنهي عنه حال الخطبة .(25/99)
وقد دلت النصوص على أن الكلام حال الخطبة يفسد الأجر , وأن المتكلم لا جمعة له , وأنه كالحمار يحمل أسفارا , فيجب الحذر من ذلك والتحذير منه . وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن صلاة الجمعة فرض مستقل , ليست بدلا من الظهر . قال عمر رضي الله عنه : " صلاة الجمعة ركعتان , تمام غير قصر , على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وذلك لأنها تخالف صلاة الظهر في أحكام كثيرة , وهي أفضل من صلاة الظهر , وآكد منها , لأنه ورد على تركها زيادة تهديد , ولأن لها شروطا وخصائص ليست لصلاة الظهر , ولا تجزئ عنها صلاة الظهر ممن وجبت عليه ما لم يخرج وقتها ; فصلاة الظهر حينئذ تكون بدلا عنها . وصلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم ذكر حر مكلف مستوطن : روى أبو داود بسنده عن طارق بن شهاب مرفوعا : الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة , إلا أربعة : عبد مملوك , أو امرأة , أو صبي , أو مريض إسناده ثقات , وصححه غير واحد . وروى الدارقطني بسنده عن جابر ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ; فعليه الجمعة يوم الجمعة ; إلا مريضا , أو مسافرا , أو صبيا , أو مملوكا قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " كل قوم مستوطنين ببناء متقارب , لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا , تقام فيه الجمعة إذا كان مبنيا بما جرت به عادتهم من مدر أو خشب أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك , فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك , وإنما الأصل أن يكونوا مستوطنين , ليسوا كأهل الخيام والحلل , الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر , وينتقلون في البقاع , وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا " انتهى .
ولا تجب الجمعة على مسافر سفر قصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره , فلم يصل أحد منهم الجمعة في السفر .
ومن خرج إلى البر في نزهة أو غيرها , ولم يكن حوله مسجد تقام فيه الجمعة , فلا جمعة عليه , ويصلي ظهرا .
ولا تجب على امرأة .(25/100)
قال ابن المنذر وغيره : " أجمعوا أن لا جمعة على النساء , وأجمعوا أنهن إذا حضرن فصلين الجمعة ; أن ذلك يجزئ عنهن , وكذلك إذا حضرها المسافر ; أجزأته , وكذلك المريض ; لأن إسقاطها عن هؤلاء للتخفيف عنهم , ولا يجوز لمن تلزمه الجمعة السفر في يومها بعد زوال الشمس حتى يصليها , وقبل الزوال يكره السفر إن لم يكن سيصليها في طريقه "
و يشترط لصحة الجمعة
1- دخول الوقت ; لأنها صلاة مفروضة , فاشترط لها دخول الوقت كبقية الصلوات ; فلا تصح قبل وقتها ولا بعده , لقوله تعالى : إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا وأداؤها بعد الزوال أفضل وأحوط ; لأنه الوقت الذي كان يصليها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر أوقاته , وأداؤها قبل الزوال محل خلاف بين العلماء , وآخر وقتها آخر وقت صلاة الظهر , بلا خلاف .
2 - أن يكون المصلون مستوطنين بمساكن مبنية بما جرت العادة بالبناء به ; فلا تصح من أهل الخيام وبيوت الشعر الذين ينتجعون في الغالب مواطن القطر وينقلون بيوتهم ; فقد كانت قبائل العرب حول المدينة , ولم يأمرهم النبي -179- صلى الله عليه وسلم بصلاة الجمعة .
ومن أدرك مع الإمام من صلاة الجمعة ركعة ; أتمها جمعة ; لحديث أبي هريرة مرفوعا : من أدرك ركعة من الجمعة , فقد أدرك الصلاة رواه البيهقي , وأصله في " الصحيحين " .
وإن أدرك أقل من ركعة , بأن رفع الإمام رأسه من الركعة الثانية قبل دخوله معه ; فاتته صلاة الجمعة , فيدخل معه بنية الظهر , فإذا سلم الإمام , أتمها ظهرا .
3 - ويشترط لصحة صلاة الجمعة تقدم خطبتين ; لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما , وقال ابن عمر : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم , يفصل بينهما بجلوس متفق عليه .(25/101)
ومن شروط صحتهما : حمد الله , والشهادتان , والصلاة على رسوله , والوصية بتقوى الله , والموعظة , وقراءة شيء من القرآن , ولو آية ; بخلاف ما عليه خطب بعض المعاصرين اليوم , من خلوها من هذه الشروط أو غالبها .قال الإمام ابن القيم : " ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه ; وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد , وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الإيمان الكلية , والدعوة إلى الله , وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه , وأيامه التي تخوفهم من بأسه , والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه ; فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه , ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه , فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم .
ثم طال العهد , وخفي نور النبوة , وصارت الشرائع والأوامر رسوما تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها , فجعلوا الرسوم والأوضاع سننا لا ينبغي الإخلال بها , وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها , فرصعوا الخطب بالتسجيع والفقر وعلم البديع , فنقص بل عدم حظ القلوب منها , وفات المقصود بها " .
هذا ما قاله الإمام ابن القيم في طابع الخطب في عصره , وقد زاد الأمر على ما وصف , حتى صار الغالب على الخطب اليوم أنها حشو من الكلام قليل الفائدة :
فبعض الخطباء أو كثير منهم يجعل الخطبة كأنها موضوع إنشاء مدرسي , يرتجل فيه ما حضره من الكلام بمناسبة وبدون مناسبة , ويطيل الخطبة تطويلا مملا , حتى إن بعضهم يهمل شروط الخطبة أو بعضها , ولا يتقيد بمواصفاتها الشرعية , فهبطوا بالخطب إلى هذا المستوى الذي لم تعد معه مؤدية للغرض المطلوب من التأثير والتأثر والإفادة .(25/102)
وبعض الخطباء يقحم في الخطبة مواضيع لا تتناسب مع موضوعها , وليس من الحكمة ذكرها في هذا المقام , وقد لا يفهمها غالب الحضور , لأنها أرفع من مستواهم , فيدخلون فيها المواضيع الصحفية والأوضاع السياسية وسرد المجريات التي لا يستفيد منها الحاضرون .
فيا أيها الخطباء ! عودوا بالخطبة إلى الهدي النبوي , لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ركزوا مواضيعها على نصوص من القرآن والسنة التي تتناسب مع المقام , ضمنوها الوصية بتقوى الله والموعظة الحسنة , عالجوا بها أمراض مجتمعاتكم بأسلوب واضح مختصر , أكثروا فيها من قراءة القرآن العظيم الذي به حياة القلوب ونور البصائر .
إنه ليس المقصود وجود خطبتين فقط , بل المقصود أثرهما في المجتمع ; كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " لا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت , لأنه لا بد من اسم الخطبة عرفا بما يحرك القلوب ويبعث بها إلى الحير , وذم الدنيا والتحذير منها مما تواصى به منكرو الشرائع , بل لا بد من الحث على الطاعة , والزجر عن المعصية , والدعوة إلى الله , والتذكير بآلائه " , وقال . " ولا تحصل الخطبة باختصار يفوت به المقصود , وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب , احمرت عيناه , وعلا صوته , واشتد غضبه , حتى كأنه منذر جيش , يقول : صبحكم ومساكم " اه .
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه يسن في خطبتي الجمعة أن يخطب على منبر ; لفعله عليه الصلاة والسلام , ولأن ذلك أبلغ في الإعلام وأبلغ في الوعظ حينما يشاهد الحضور الخطيب أمامهم .
قال النووي رحمه الله : " واتخاذه سنة مجمع عليها " .
ويسن أن يسلم الخطيب على المأمومين إذا أقبل عليهم ; لقول جابر : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر , سلم رواه ابن ماجه وله شواهد .(25/103)
ويسن أن يجلس على المنبر إلى فراغ المؤذن , لقول ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن , ثم يقوم فيخطب رواه أبو داود .
ومن سنن خطبتي الجمعة أن يجلس بينهما , لحديث ابن عمر : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم , يفصل بينهما بجلوس متفق عليه .
ومن سننهما أن يخطب قائما ; لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم , ولقوله تعالى : وَتَرَكُوكَ قَائِمًا وعمل المسلمين عليه .
ويسن أن يعتمد على عصا ونحوه .
ويسن أن يقصد تلقاء وجهه ; لفعله صلى الله عليه وسلم , ولأن التفاته إلى أحد جانبيه إعراض عن الآخر ومخالفة للسنة ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقصد تلقاء وجهه في الخطبة , ويستقبله الحاضرون بوجوههم ; لقول ابن مسعود رضي الله عنه : كان إذا استوى على المنبر ; استقبلناه بوجوهنا رواه الترمذي .
ويسن أن يقصر الخطبة تقصيرا معتدلا , بحيث لا يملوا وتنفر نفوسهم , ولا يقصرها تقصيرا مخلا , فلا يستفيدون منها , فقد روى الإمام مسلم عن عمار مرفوعا : إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه ; فأطيلوا الصلاة , وأقصروا الخطبة ومعنى قوله : " مئنة من فقهه " ; أي : علامة على فقهه .
ويسن أن يرفع صوته بها ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب ; علا صوته , واشتد غضبه , ولأن ذلك أوقع في النفوس , وأبلغ في الوعظ , وأن يلقيها بعبارات واضحة قوية مؤثرة وبعبارات جزلة .
ويسن أن يدعو للمسلمين بما فيه صلاح دينهم ودنياهم , ويدعو لإمام المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والتوفيق , وكان الدعاء لولاة الأمور في الخطبة معروفا عند المسلمين , وعليه عملهم ; لأن الدعاء لولاة أمور المسلمين بالتوفيق والصلاح من منهج أهل السنة والجماعة , وتركه من منهج المبتدعة , قال الإمام أحمد : " لو كان لنا دعوة مستجابة ; لدعونا بها للسلطان " , ولأن في صلاحه صلاح المسلمين .(25/104)
وقد تركت هذه السنة حتى صار الناس يستغربون الدعاء لولاة الأمور , ويسيئون الظن بمن يفعله .
ويسن إذا فرغ من الخطبتين أن تقام الصلاة مباشرة , وأن يشرع في الصلاة من غير فصل طويل .
وصلاة الجمعة ركعتان بالإجماع , يجهر فيهما بالقراءة , ويسن أن يقرأ في الركعة الأولى منهما بسورة الجمعة بعد الفاتحة , ويقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة بسورة المنافقين ; لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بهما ; كما رواه مسلم عن ابن عباس , أو يقرأ في الأولى ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وفي الثانية بـ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ أحيانا بالجمعة والمنافقين , وأحيانا ب ( سبح ) والغاشية , ولا يقسم سورة واحدة من هذه السور بين الركعتين , لأن ذلك خلاف السنة .
والحكمة في الجهر بالقراءة في صلاة الجمعة كون ذلك أبلغ في تحصيل المقصود .
باب في أحكام صلاة العيدين
صلاة العيدين - عيد الفطر وعيد الأضحى - مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين , وقد كان المشركون يتخذون أعيادا زمانية ومكانية , فأبطلها الإسلام , وعوض عنها عيد الفطر وعيد الأضحى ; شكرا لله تعالى على أداء هاتين العبادتين العظيمتين : صوم رمضان , وحج بيت الله الحرام .
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ; أنه لما قدم المدينة , وكان لأهلها يومان يلعبون فيهما ; قال صلى الله عليه وسلم : قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما , يوم النحر , ويوم الفطر(25/105)
قلا تجوز الزيادة على هذين العيدين بإحداث أعياد أخرى كأعياد الموالد وغيرها ; لأن ذلك زيادة على ما شرعه الله , وابتداع في الدين , ومخالفة لسنة سيد المرسلين , وتشبه بالكافرين , سواء سميت أعيادا أو ذكريات أو أياما أو أسابيع أو أعواما , كل ذلك ليس من سنة الإسلام , بل هو من فعل الجاهلية , وتقليد للأمم الكفرية من الدول الغربية وغيرها , وقد قال صلى الله عليه وسلم : من تشبه بقوم , فهو منهما وقال صلى الله عليه وسلم : إن أحسن الحديث كتاب الله , وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها , وكل بدعة ضلالة
نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه , وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه .
وسمي العيد عيدا لأنه يعود ويتكرر كل عام , ولأنه يعود بالفرح والسرور , ويعود الله فيه بالإحسان على عباده على إثر أدائهم لطاعته بالصيام والحج .
والدليل على مشروعية صلاة العيد : قوله تعالى : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وقوله تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده يداومون عليها . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها حتى النساء , فيسن للمرأة حضورها غير متطيبة ولا لابسة لثياب زينة أو شهرة ; لقوله عليه الصلاة والسلام : وليخرجن تفلات , ويعتزلن الرجال , ويعتزل الحيض المصلى قالت أم عطية رضي الله عنها : كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد , حتى تخرج البكر من خدرها , وحتى تخرج الحيض , فيكن خلف الناس , فيكبرن بتكبيرهم , ويدعون بدعائهم ; يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته(25/106)
والخروج لصلاة العيد وأداء صلاة العيد على هذا النمط المشهود من الجميع فيه إظهار لشعار الإسلام , فهي من أعلام الدين الظاهرة , وأول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم للعيد يوم الفطر من السنة الثانية من الهجرة , ولم يزل صلى الله عليه وسلم يواظب عليها حتى فارق الدنيا صلوات الله وسلامه عليه , واستمر عليها المسلمون خلفا عن سلف , فلو تركها أهل بلد مع استكمال شروطها فيهم , قاتلهم الإمام ; لأنها من أعلام الدين الظاهرة ; كالأذان .
وينبغي أن تؤدى صلاة العيد في صحراء قريبة من البلد ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين في المصلى الذي على باب المدينة ; فعن أبي سعيد : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى متفق عليه , ولم ينقل أنه صلاها في المسجد لغير عذر , ولأن الخروج إلى الصحراء أوقع لهيبة المسلمين والإسلام , وأظهر لشعائر الدين , ولا مشقة في ذلك ; لعدم تكرره ; بخلاف الجمعة ; إلا في مكة المشرفة ; فإنها تصلى في المسجد الحرام .
ويبدأ وقت صلاة العيد إذا ارتفعت الشمس بعد طلوعها قدر رمح , لأنه الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها فيه , ويمتد وقتها إلى زوال الشمس .
فإن لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال , صلوا من الغد قضاء ; لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار ; قالوا : غم علينا هلال شوال , فأصبحنا صياما , فجاء ركب في آخر النهار , فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس , فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا من يومهم , وأن يخرجوا غدا لعيدهما رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وحسنه , وصححه جماعة من الحفاظ , فلو كانت تؤدى بعد الزوال ; لما أخرها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغد , ولأن صلاة العيد شرع لها الاجتماع العام ; فلا بد أن يسبقها وقت يتمكن الناس من التهيؤ لها .(25/107)
ويسن تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر ; لما روى الشافعي مرسلا ; أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم : أن عجل الأضحى , وأخر الفطر , وذكر الناس وليتسع وقت التضحية بتقديم الصلاة في الأضحى , وليتسع الوقت لإخراج زكاة الفطر قبل صلاة الفطر .
ويسن أن يأكل قبل الخروج لصلاة الفطر تمرات , وأن لا يطعم يوم النحر حتى يصلي ; لقول بريدة : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر , ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي رواه أحمد وغيره .
قال الشيخ تقي الدين : " لما قدم الله الصلاة على النحر في قوله : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وقدم التزكي على الصلاة في قوله : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى كانت السنة أن الصدقة قبل الصلاة في عيد الفطر , وأن الذبح بعد الصلاة في عيد النحر .
ويسن التبكير في الخروج لصلاة العيد ; ليتمكن من الدنو من الإمام , وتحصل له فضيلة انتظار الصلاة , فيكثر ثوابه .
ويسن أن يتجمل المسلم لصلاة العيد بلبس أحسن الثياب , لحديث جابر . كانت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة رواه ابن خزيمة قي " صحيحه " , وعن ابن عمر أنه كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه رواه البيهقي بإسناد جيد .
ويشترط لصلاة العيد الاستيطان ; بأن يكون الذين يقيمونها مستوطنين في مساكن مبنية بما جرت العادة بالبناء به , كما في صلاة الجمعة ; فلا تقام صلاة العيد إلا حيث يسوغ إقامة صلاة الجمعة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وافق العيد في حجته , ولم يصلها , وكذلك خلفاؤه من بعده .(25/108)
وصلاة العيد ركعتان قبل الخطبة , لقول ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان يصلون العيدين قبل الخطبة متفق عليه , وقد استفاضت السنة بذلك وعليه عامة أهل العلم , قال الترمذي : " والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم , أن صلاة العيدين قبل الخطبة " .
وحكمة تأخير الخطبة عن صلاة العيد وتقديمها على صلاة الجمعة أن خطبة الجمعة شرط للصلاة , والشرط مقدم على المشروط , بخلاف خطبة العيد ; فإنها سنة .
وصلاة العيدين ركعتان بإجماع المسلمين , وفي " الصحيحين " وغيرهما عن ابن عباس ; أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر , فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما و قال عمر : صلاة الفطر والأضحى ركعتان , تمام غير قصر , على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم , وقد خاب من افترى رواه أحمد وغيره .
ولا يشرع لصلاة العيد أذان ولا إقامة ; لما روى مسلم عن جابر : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد غير مرة ولا مرتين , فبدأ بالصلاة قبل الخطبة , بغير أذان ولا إقامة
ويكبر في الركعة الأولى بعد تكبيرة الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ست تكبيرات ; فتكبيرة الإحرام ركن , لا بد منها , لا تنعقد الصلاة بدونها , وغيرها من التكبيرات سنة , ثم يستفتح بعدها ; لأن الاستفتاح في أول الصلاة , ثم يأتي بالتكبيرات الزوائد الست , ثم يتعوذ عقب التكبيرة السادسة ; لأن التعوذ للقراءة , فيكون عندها , ثم يقرأ .
ويكبر في الركعة الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات غير تكبيرة الانتقال ; لما روى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ; أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة , سبعا في الأولى , وخمسا في الآخرة وإسناده حسن .
وروي غير ذلك في عدد التكبيرات : قال الإمام أحمد رحمه الله : " اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير , وكله جائز "(25/109)
ويرفع يديه مع كل تكبيرة ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير .
ويسن أن يقول بين كل تكبيرتين : الله أكبر كبيرا , والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا , وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا ; لقول عقبة بن عامر : سألت ابن مسعود عما يقوله بعد تكبيرات العيد ; قال : " يحمد الله , ويثني عليه , ويصلي على النبي
ورواه البيهقي بإسناده عن ابن مسعود قولا وفعلا .
وقال حذيفة : " صدق أبو عبد الرحمن " .
وإن أتى بذكر غير هذا ; فلا بأس , لأنه ليس فيه ذكر معين .
قال ابن القيم : " كان يسكت بين كل تكبيرتين سكتة يسيرة , ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرات " اه .
وإن شك في عدد التكبيرات , بنى على اليقين , وهو الأقل .
وإن نسي التكبير الزائد حتى شرع في القراءة ; سقط ; لأنه سنة فات محلها .
وكذا إن أدرك المأموم الإمام بعدما شرع في القراءة ; لم يأت بالتكبيرات الزوائد , أو أدركه راكعا ; فإنه يكبر تكبيرة الإحرام , ثم يركع , ولا يشتغل بقضاء التكبير .
وصلاة العيد ركعتان , يجهر الإمام فيهما بالقراءة , لقول ابن عمر : كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في العيدين والاستسقاء رواه الدارقطني , وقد أجمع العلماء على ذلك , ونقله الخلف عن السلف , واستمر عمل المسلمين عليه .
ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ويقرأ في الركعة الثانية بالغاشية , لقول سمرة : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى و هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ رواه أحمد .
أو يقرأ في الركعة الأولى ب ( ق ) , وفي الثانية ب ( اقتربت ) , لما في " صحيح مسلم " و " السنن " وغيرها ; أنه صلى الله عليه وسلم " كان يقرأ ب ( ق ) و ( اقتربت ) .(25/110)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " مهما قرأ به ; جاز , كما تجوز القراءة في نحوها من الصلوات , لكن إن قرأ : ( ق ) و ( اقتربت ) أو نحو ذلك مما جاء في الأثر ; كان حسنا , وكانت قراءته في المجامع الكبار بالسور المشتملة على التوحيد والأمر والنهي والمبدأ والمعاد وقصص الأنبياء مع أممهم وما عامل الله به من كذبهم وكفر بهم وما حل بهم من الهلاك والشقاء ومن آمن بهم وصدقهم وما لهم من النجاة والعافية " انتهى .
فإذا سلم من الصلاة ; خطب خطبتين , يجلس بينهما ; لما روى عبيد الله بن عبيد الله بن عتبة ; قال : السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين , يفصل بينهما بجلوس رواه الشافعي , ولابن ماجه عن جابر : خطب قائما , ثم قعد قعدة , ثم قام وفي " الصحيح " وغيره : بدأ بالصلاة , ثم قام متوكئا على بلال , فأمر بتقوى الله , وحث على طاعته . .. الحديث , ولمسلم . ثم ينصرف , فيقوم مقابل الناس , والناس جلوس على صفوفهم
ويحثهم في خطبة عيد الفطر على إخراج صدقة الفطر , ويبين لهم أحكامها ; من حيث مقدارها , ووقت إخراجها , ونوع المخرج فيها . ويرغبهم في خطبة عيد الأضحى في ذبح الأضحية , ويبين لهم أحكامها , لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في خطبة الأضحى كثيرا من أحكامها .
وهكذا ينبغي للخطباء أن يركزوا في خطبهم على المناسبات ; فيبينوا للناس ما يحتاجون إلى بيانه في كل وقت بحسبه بعد الوصية بتقوى الله والوعظ والتذكير , لا سيما في هذه المجامع العظيمة والمناسبات الكريمة ; فإنه ينبغي أن تضمن الخطبة ما يفيد المستمع ويذكر الغافل ويعلم الجاهل .(25/111)
وينبغي حضور النساء لصلاة العيد , كما سبق بيانه , وينبغي أن توجه إليهن موعظة خاصة ضمن خطبة العيد , لأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أنه لم يسمع النساء ; أتاهن , فوعظهن , وحثهن على الصدقة , وهكذا ينبغي أن يكون للنساء نصيب من موضوع خطبة العيد ; لحاجتهن إلى ذلك , واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
ومن أحكام صلاة العيد أنه يكره التنفل قبلها وبعدها في موضعها , حتى يفارق المصلي ; لقول ابن عباس رضي الله عنهما : خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد ; فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما متفق عليه , ولئلا يتوهم أن لها راتبة قبلها أو بعدها .
قال الإمام أحمد : " أهل المدينة لا يتطوعون قبلها ولا بعدها " .
وقال الزهري : " لم أسمع أحدا من علمائنا يذكر أن أحدا من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها , وكان ابن مسعود وحذيفة ينهيان الناس عن الصلاة قبلها " .
فإذا رجع إلى منزله ; فلا بأس أن يصلي فيه ; لما روى أحمد وغيره , أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل إلى منزله ; صلى ركعتين
ويسن لمن فاتته صلاة العيد أو فاته بعضها قضاؤها على صفتها , بأن يصليها ركعتين ; بتكبيراتها الزوائد ; لأن القضاء يحكي الأداء , ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم فما أدركتم ; فصلوا , وما فاتكم , فأتموا فإذا فاتته ركعة مع الإمام ; أضاف إليها أخرى , وإن جاء والإمام يخطب ; جلس لاستماع الخطبة , فإذا انتهت ; صلاها قضاء , ولا بأس بقضائها منفردا أو مع جماعة .(25/112)
ويسن في العيدين التكبير المطلق , وهو الذي لا يتقيد بوقت , يرفع به صوته , إلا الأنثى ; فلا تجهر به , فيكبر في ليلتي العيدين , وفي كل عشر ذي الحجة ; لقوله تعالى : وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ويجهر به في البيوت والأسواق والمساجد وفي كل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى , ويجهر به في الخروج إلى المصلى ; لما أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عمر ; أنه كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى ; يجهر بالتكبير , حتى يأتي المصلى , ثم يكبر حتى يأتي الإمام وفي " الصحيح " : كنا نؤمر بإخراج الحيض , فيكبرن بتكبيرهم ولمسلم : يكبرن مع الناس فهو مستحب لما فيه من إظهار شعائر الإسلام .
والتكبير في عيد الفطر آكد ; لقوله تعالى : وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ فهو في هذا العيد آكد ; لأن الله أمر به .
ويزيد عيد الأضحى بمشروعية التكبير المقيد فيه , وهو التكبير الذي شرع عقب كل صلاة فريضة في جماعة , فيلتفت الإمام إلى المأمومين , ثم يكبر ويكبرون ; لما رواه الدارقطني وابن أبي شيبة وغيرهما من حديث جابر ; أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة , يقول : الله أكبر . .. الحديث .
ويبتدأ التكبير المقيد بأدبار الصلوات في حق غير المحرم من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق , وأما المحرم ; فيبتدئ التكبير المقيد في حقه من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق ; لأنه قبل ذلك مشغول بالتلبية .
روى الدارقطني عن جابر : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر في صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق حين يسلم من المكتوبات وفي لفظ : كان إذا صلى الصبح من غداة عرفة ; أقبل على أصحابه فيقول : مكانكم , ويقول : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله , والله أكبر الله أكبر ولله الحمد(25/113)
وقال الله تعالى : وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ وهي أيام التشريق .
وقال الإمام النووي : " هو الراجح وعليه العمل في الأمصار "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " أصح الأقوال في التكبير الذي عليه الجمهور من السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة : أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة ; لما في " السنن " : يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام , وهي أيام أكل وشرب وذكر لله وكون المحرم يبتدئ التكبير المقيد من صلاة الظهر يوم النحر ; لأن التلبية تقطع برمي جمرة العقبة , ووقت رمي جمرة العقبة المسنون ضحى يوم النحر , فكان المحرم فيه كالمحل , فلو رمى جمرة العقبة قبل الفجر , فلا يبتدئ التكبير إلا بعد - صلاة الظهر أيضا ; عملا على الغالب " . انتهى .
وصفة التكبير أن يقول : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله , والله أكبر الله -193- أكبر ولله الحمد .
ولا بأس بتهنئة الناس بعضهم بعضا ; بأن يقول لغيره : تقبل الله منا ومنك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه , ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره " اه .
والمقصود من التهنئة التودد وإظهار السرور .
وقال الإمام أحمد : " لا أبتدئ به , فإن ابتدأني أحد ; أجبته " .
وذلك لأن جواب التحية واجب , وأما الابتداء بالتهنئة ; فليس سنة مأمورا بها , ولا هو أيضا مما نهي عنه , ولا بأس بالمصافحة في التهنئة .
باب في أحكام صلاة الكسوف
قال الله تعالى : هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(25/114)
وقال تعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
صلاة الكسوف سنة مؤكدة باتفاق العلماء , ودليلها السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والكسوف آية من آيات الله يخوف الله بها عباده , قال تعالى : وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا
ولما كسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , خرج إلى المسجد مسرعا فزعا , يجر رداءه , فصلى بالناس , وأخبرهم أن الكسوف آية من آيات الله , يخوف الله به عباده , وأنه قد يكون سبب نزول عذاب بالناس , وأمر بما يزيله , فأمر بالصلاة عند حصوله والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق وغير ذلك . من الأعمال الصالحة , حتى ينكشف ما بالناس ; ففي الكسوف تنبيه للناس وتخويف لهم ليرجعوا إلى الله ويراقبوه .
وكانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف إنما يحصل عند ولادة عظيم أو موت عظيم , فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الاعتقاد , وبين الحكمة الإلهية في حصول الكسوف :
فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود الأنصاري , قال : انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم , فقال الناس : انكسفت الشمس لموت إبراهيم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله , لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته , فإذا رأيتم ذلك ; فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة
وفي حديث آخر في " الصحيحين " : فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى ; قال : هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته , ولكن الله يخوف بها عباده , فإذا رأيتم شيئا من ذلك ; فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره(25/115)
فالله تعالى يجري على هاتين الآيتين العظيمتين الشمس والقمر الكسوف والخسوف ليعتبر العباد ويعلموا أنهما مخلوقان يطرأ عليهما النقص والتغير كغيرهما من المخلوقات ; ليدل عباده بذلك على قدرته التامة واستحقاقه وحده للعبادة ; كما قال تعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
ووقت صلاة الكسوف من ابتداء الكسوف إلى التجلي , لقوله عليه الصلاة والسلام : فإذا رأيتم ذلك , فصلوا متفق عليه , وفي حديث آخر : وإذا رأيتم شيئا من ذلك , فصلوا حتى ينجلي رواه مسلم .
ولا تقضى صلاة الكسوف بعد التجلي ; لفوات محلها , فإن تجلى الكسوف قبل أن يعلموا به ; لم يصلوا له .
و صفة صلاة الكسوف أن يصلي ركعتين يجهر فيهما بالقراءة على الصحيح من قولي العلماء : ويقرأ في الركعة الأولى الفاتحة وسورة طويلة كسورة البقرة أو قدرها , ثم يركع ركوعا طويلا , ثم يرفع رأسه ويقول : " سمع الله لمن حمده , ربنا لك الحمد " , بعد اعتداله كغيرها من الصلوات , ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى بقدر سورة آل عمران , ثم يركع فيطيل الركوع , وهو دون الركوع الأول , ثم يرفع رأسه ويقول : " سمع الله لمن حمده , ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه , ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد " ثم يسجد سجدتين طويلتين , ولا يطيل الجلوس بين السجدتين , ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى بركوعين طويلين وسجودين طويلين مثلما فعل في الركعة الأولى , ثم يتشهد ويسلم .(25/116)
هذه صفة صلاة الكسوف ; كما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكما روي ذلك عنه من طرق , بعضها في " الصحيحين " ; منها ما روت عائشة رضي الله عنها : " أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقام وكبر وصف الناس وراءه , فاقترأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة , فركع ركوعا طويلا , ثم رفع رأسه , فقال : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد , ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى , ثم كبر فركع ركوعا طويلا هو أدنى من الركوع الأولى , ثم قال : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد , ثم سجد , ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك , حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات , وانجلت الشمس قبل أن ينصرف متفق عليه .
ويسن أن تصلى في جماعة ; لفعل النبي صلى الله عليه وسلم , ويجوز أن تصلى فرادى كسائر النوافل , لكن فعلها جماعة أفضل ويسن
أن يعظ الإمام الناس بعد صلاة الكسوف , ويحذرهم من الغفلة والاغترار , ويأمرهم بالإكثار من الدعاء والاستغفار ; ففي " الصحيح " عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف , فخطب الناس , فحمد الله وأثنى عليه , وقال : " إن الشمس والقصر آيتان من آيات الله , لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته , فإذا رأيتم ذلك ; فادعوا الله , وصلوا , وتصدقوا . .. الحديث .
فإن انتهت الصلاة قبل أن ينجلي الكسوف , ذكر الله ودعاه حتى ينجلي , ولا يعيد الصلاة , وإن انجلى الكسوف وهو في الصلاة ; أتمها خفيفة , ولا يقطعها , لقوله تعالى : وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ فالصلاة تكون وقت الكسوف ; لقوله : " حتى ينجلي " , وقوله : " حتى ينكشف ما بكم "(25/117)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " والكسوف يطول زمانه تارة ويقصر أخرى , بحسب ما يكسف منه ; فقد تكسف كلها , وقد يكسف نصفها أو ثلثها , فإذا عظم الكسوف ; طول الصلاة حتى يقرأ بالبقرة ونحوها في أول ركعة , وبعد الركوع الثاني يقرأ بدون ذلك , وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا , وشرع تخفيفها لزوال السبب , وكذا إذا علم أنه لا يطول , وإن خف قبل الصلاة ; شرع فيها وأوجز , وعليه جماهير أهل العلم , لأنها شرعت لعلة , وقد زالت , وإن تجلى قبلها ; لم يصل . . . " انتهى .
باب في أحكام صلاة الاستسقاء
الاستسقاء هنا هو طلب السقي من الله تعالى ; فالنفوس مجبولة على الطلب ممن يغيثها , وهو الله وحده , وكان ذلك معروفا في الأمم الماضية , وهو من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , قال الله تعالى : وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ واستسقى خاتم الأنبياء نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لأمته مرات متعددة وعلى كيفيات متنوعة , وأجمع المسلمون على مشروعيته .
ويشرع الاستسقاء إذا أجدبت الأرض - أي : أمحلت - وانحبس المطر وأضر ذلك بهم ; فلا مناص لهم أن يتضرعوا إلى ربهم ويستسقوه ويستغيثوه بأنواع من التضرع : تارة بالصلاة جماعة أو فرادى , وتارة بالدعاء في خطبة الجمعة , يدعو الخطيب والمسلمون يؤمنون على دعائه , وتارة بالدعاء عقب الصلوات وفي الخلوات بلا صلاة ولا خطبة ; فكل ذلك وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وحكم صلاة الاستسقاء أنها سنة مؤكدة ; لقول عبد الله بن زيد : خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي , فتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه , ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة متفق عليه , ولغيره من الأحاديث .(25/118)
و صفة صلاة الاستسقاء في موضعها وأحكامها كصلاة العيد ; فيستحب فعلها في المصلى كصلاة العيد , وأحكامها كأحكام صلاة العيد في عدد الركعات والجهر بالقراءة , وفي كونها تصلى قبل الخطبة , وفي التكبيرات الزوائد في الركعة الأولى والثانية قبل القراءة ; كما سبق بيانه في صلاة العيد .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي العيد قال الترمذي : " حديث حسن صحيح " , وصححه الحاكم وغيره .
ويقرأ في الركعة الأولى بسورة : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وفي الثانية بسورة الغاشية .
ويصليها أهل البلد في الصحراء , لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا في الصحراء , ولأن ذلك أبلغ في إظهار الافتقار إلى الله تعالى .(25/119)
وإذا أراد الإمام الخروج لصلاة الاستسقاء ; فإنه ينبغي أن يتقدم ذلك تذكير الناس بما يلين قلوبهم من ذكر ثواب الله وعقابه , ويأمرهم بالتوبة من المعاصي , والخروج من المظالم , بردها إلى مستحقيها ; لأن المعاصي سبب لمنع القطر وانقطاع البركات , والتوبة والاستغفار سبب لإجابة الدعاء , قال الله تعالى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ويأمرهم بالصدقة على الفقراء والمساكين , لأن ذلك سبب للرحمة , ثم يعين لهم يوما يخرجون فيه ليتهيئوا ويستعدوا لهذه المناسبة الكريمة بما يليق بها من الصفة المسنونة , ثم يخرجون في الموعد إلى المصلى بتواضع وتذلل وإظهار للافتقار إلى الله تعالى , ولقول ابن عباس رضي الله عنهما : خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللا متواضعا متخشعا متضرعا قال الترمذي : " حديث حسن صحيح " وينبغي أن لا يتأخر أحد من المسلمين يستطيع الخروج , حتى الصبيان والنساء اللاتي لا تخشى الفتنة بخروجهن , فيصلي بهم الإمام ركعتين كما سبق , ثم يخطب خطبة واحدة , وبعض العلماء يرى أنه يخطب خطبتين , والأمر واسع , ولكن الاقتصار على خطبة واحدة أرجح من حيث الدليل , وكذلك كون الخطبة بعد صلاة الاستسقاء هو أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم , واستمر عمل المسلمين عليه , وورد أنه صلى الله عليه وسلم خطب قبل الصلاة , وقال به بعض العلماء , والأول أرجح , والله أعلم .(25/120)
وينبغي أن يكثر في خطبة الاستسقاء من الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به , لأن ذلك سبب لنزول الغيث , ويكثر من الدعاء بطلب الغيث من الله تعالى , ويرفع يديه , لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في دعائه بالاستسقاء , حتى يرى بياض إبطيه , ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم , لأن ذلك من أسباب الإجابة , ويدعو بالدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن ; اقتداء به , . قال الله تعالى : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ
ويسن أن يستقبل القبلة في آخر الدعاء , ويحول رداءه ; فيجعل اليمين على الشمال والشمال على اليمين , وكذلك ما شابه الرداء من اللباس كالعباءة ونحوها , لما في " الصحيحين " ; أن النبي صلى الله عليه وسلم حول إلى الناس ظهره , واستقبل القبلة يدعو , ثم حول رداءه . . . والحكمة في ذلك - والله أعلم - التفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه من الشدة إلى الرخاء ونزول الغيث , ويحول الناس أرديتهم لما روى الإمام أحمد : وحول الناس معه أرديتهم ولأن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق أمته , ما لم يدل دليل على اختصاصه به , ثم إن سقى الله المسلمين , وإلا ; أعادوا الاستسقاء ثانيا وثالثا ; لأن الحاجة داعية إلى ذلك .
وإذا نزل المطر يسن أن يقف في أوله ليصيبه منه ويقول : اللهم صيبا نافعا , ويقول : مطرنا بفضل الله ورحمته .
وإذا زادت المياه وخيف منها الضرر ; سن أن يقول : اللهم حوالينا ولا علينا , اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك , متفق عليه , والله أعلم .
باب في أحكام الجنائز(25/121)
إن شريعتنا - ولله الحمد - كاملة شاملة لمصالح الإنسان في حياته وبعد مماته , ومن ذلك ما شرعه الله من أحكام الجنائز , من حين الأرض والاحتضار إلى دفن الميت في قبره , من عيادة المريض , وتلقينه , وتغسيله , وتكفينه , والصلاة عليه , ودفنه , وما يتبع ذلك من قضاء ديونه , وتنفيذ وصاياه , وتوزيع تركته , والولاية على أولاده الصغار .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " وكان هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدي , مخالفا لهدي سائر الأمم , مشتملا على إقامة العبودية لله تعالى على أكمل الأحوال , وعلى الإحسان للميت ومعاملته بما ينفعه قي قبره ويوم معاده , من عيادة , وتلقين , وتطهير , وتجهيز إلى الله تعالى على أحسن الأحوال وأفضلها , فيقفون صفوفا على جنازته , يحمدون الله , ويثنون عليه , ويصلون على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ويسألون للميت المغفرة والرحمة والتجاوز , ثم يقفون على قبره , يسألون له التثبيت , ثم زيارة قبره , والدعاء له , كما يتعاهد الحي صاحبه في الدنيا , ثم الإحسان إلى أهل الميت وأقاربه وغير ذلك " ا ه .
ويسن الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له بالتوبة من المعاصي ورد المظالم إلى أصحابها , والمبادرة بالأعمال الصالحة قبل هجوم الموت على غرة .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : أكثروا من ذكر هاذم اللذات رواه الخمسة بأسانيد صحيحة , وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما , وهاذم اللذات : بالذال : هو الموت .
وروى الترمذي وغيره عن ابن مسعود مرفوعا : استحيوا من الله حق الحياء . قالوا : إنا نستحي يا نبي الله والحمد لله . قال : ليس كذلك , ولكن من استحيا من الله حق الحياء , فليحفظ الرأس وما وعى , وليحفظ البطن وما حوى , وليذكر الموت والبلى , ومن أراد الآخرة , ترك زينة الدنيا , ومن فعل ذلك , فقد استحيا في الله حق الحياء
أولا : أحكام المريض والمحتضر(25/122)
وإذا أصيب الإنسان بمرض , فعليه أن يصبر ويحتسب ولا يجزع ويسخط لقضاء الله وقدره , ولا بأس أن يخبر الناس بعلته ونوع مرضه , مع الرضى بقضاء الله , والشكوى إلى الله تعالى , وطلب الشفاء منه لا ينافي الصبر , بل ذلك مطلوب شرعا ومستحب , فأيوب عليه السلام نادى ربه وقال : أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
وكذلك لا بأس بالتداوي بالأدوية المباحة بل ذهب بعض العلماء إلى تأكد ذلك , حتى قارب به الوجوب , فقد جاءت الأحاديث بإثبات الأسباب والمسببات , والأمر بالتداوي , وأنه لا ينافي التوكل . كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالطعام والشراب .
ولا يجوز التداوي بمحرم , لما في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه , أنه قال : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم وروى أبو داود وغيره عن أبي هريرة مرفوعا : إن الله أنزل الدواء , وأنزل الداء , وجعل لكل داء دواء , ولا تداووا بحرام وفي " صحيح مسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخمر : إنه ليس بدواء ولكنه داء
وكذلك يحرم التداوي بما يمس العقيدة , من تعليق التمائم المشتملة على ألفاظ شركية أو أسماء مجهولة أو طلاسم أو خرز أو خيوط أو قلائد أو حلق تلبس على العضد أو الذراع أو غيره , يعتقد فيها الشفاء ودفع العين والبلاء , لما فيها من تعلق القلب على غير الله في جلب نفع أو دفع ضر , وذلك كله من الشرك أو من وسائله الموصلة إليه , ومن ذلك أيضا التداوي عند المشعوذين من الكهان والمنجمين والسحرة والمستخدمين للجن فعقيدة المسلم أهم عنده من صحته .
وقد جعل الله الشفاء في المباحات النافعة للبدن والعقل والدين , وعلى رأس ذلك القرآن الكريم والرقية به وبالأدعية المشروعة .
قال ابن القيم : " ومن أعظم العلاج فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء والتضرع إلى الله والتوبة , وتأثيره أعظم من الأدوية , لكن بحسب استعداد النفس وقبولها " . انتهى .(25/123)
ولا بأس بالتداوي بالأدوية المباحة على أيدي الأطباء العارفين بتشخيص الأمراض وعلاجها في المستشفيات وغيرها .
وتسن عيادة المرضى , لما في " الصحيحين " وغيرهما : خمس تجب للمسلم على أخيه , وذكر منها عيادة المريض فإذا زاره , سأل عن حاله , فقد كان النبي يدنو من المريض , ويسأله عن حاله وتكون الزيارة يوما بعد يوم , أو بعد يومين , ما لم يكن المريض يرغب الزيارة كل يوم , ولا يطيل الجلوس عنده , إلا إذا كان المريض يرغب ذلك , ويقول للمريض : " لا بأس عليك , طهور إن شاء الله " , ويدخل عليه السرور , ويدعو له بالشفاء , ويرقيه بالقرآن , لا سيما سورة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين .
ويسن للمريض أن يوصي بشيء من ماله في أعمال الخير , ويجب أن يوصي بماله وما عليه من الديون وما عنده من الودائع والأمانات , وهذا مطلوب , حتى من الإنسان الصحيح , لقوله صلى الله عليه وسلم : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده متفق عليه , وذكر الليلتين تأكيد لا تحديد , فلا ينبغي أن يمضي عليه زمان , وإن كان قليلا , إلا ووصيته مكتوبة عنده , لأنه لا يدري متى يدركه الموت .
ويحسن المريض ظنه بالله , فإن الله عز وجل يقول . أنا عند ظن عبدي بي ويتأكد ذلك عند إحساسه بلقاء الله .
ويحسن لمن يحضره تطميعه في رحمة الله , ويغلب في هذه الحالة جانب الرجاء على جانب الخوف , وأما في حالة الصحة , فيكون خوفه ورجاؤه متساويين , لأن من غلب عليه الخوف , أوقعه في نوع من اليأس , ومن غلب عليه الرجاء , أوقعه في نوع من الأمن من مكر الله .(25/124)
فإذا احتضر المريض , فإنه يسن لمن حضره أن يلقنه لا إله إلا الله , لقوله صلى الله عليه وسلم : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله رواه مسلم , وذلك لأجل أن يموت على كلمة الإخلاص , فتكون ختام كلامه , فعن معاذ مرفوعا : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله , دخل الجنة ويكون تلقينه إياها برفق , ولا يكثر عليه , لئلا يضجره وهو في هذه الحال . ويسن أن يوجه إلى القبلة ، ويقرأ عنده سورة ( يس ) , لقوله صلى الله عليه وسلم : اقرءوا على موتاكم سورة " يس " رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان , والمراد بقوله : " موتاكم " . من حضرته الوفاة , أما من مات , فإنه لا يقرأ عليه , فالقراءة على الميت بعد موته بدعة , بخلاف القراءة على الذي يحتضر , فإنها سنة , فالقراءة عند الجنازة أو على القبر أو لروح الميت , كل هذا من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان , والواجب على المسلم العمل بالسنة وترك البدعة .
ثانيا : أحكام الوفاة
ويستحب إذا مات الميت تغميض عينيه , لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغمض أبا سلمة رضي الله عنه لما مات , وقال : إن الروح إذا قبض , تبعه البصر , فلا تقولوا إلا خيرا , فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون رواه مسلم ,
ويسن ستر الميت بعد وفاته بثوب , لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي , سجي ببرد حبرة متفق عليه .
وينبغي الإسراع في تجهيزه إذا تحقق موته , لقوله صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله رواه أبو داود , ولأن في ذلك حفظا للميت من التغير , قال الإمام أحمد رحمه الله : " كرامة الميت تعجيله " , ولا بأس أن ينتظر به من يحضره من وليه أو غيره إن كان قريبا ولم يخش على الميت من التغير .(25/125)
ويباح الإعلام بموت المسلم , للمبادرة لتهيئته , وحضور جنازته , والصلاة عليه , والدعاء له , وأما الإعلام بموت الميت على صفة الجزع وتعداد مفاخره فذلك من فعل الجاهلية , ومنه حفلات التأبين إقامة المآتم .
ويستحب الإسراع بتنفيذ وصيته , لما فيه من تعجيل الأجر , وقد قدمها الله تعالى في الذكر على الدين , اهتماما بشأنها , وحثا على إخراجها . ويجب الإسراع بقضاء ديونه , سواء كانت لله تعالى من زكاة وحج أو نذر طاعة أو كفارة , أو كانت الديون لآدمي كرد الأمانات والغصوب والعارية , سواء أوصى بذلك أم لم يوص به , لقوله صلى الله عليه وسلم : نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه رواه أحمد والترمذي وحسنه , أي : مطالبة به , عليه من الدين محبوسة , ففي هذا الحث على الإسراع في قضاء الدين عن الميت وهذا فيمن له مال يقضى منه دينه , ومن لا مال له ومات عازما على القضاء , فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله يقضي عنه .
ثالثا : تغسيل الميت
ومن أحكام الجنازة وجوب تغسيل الميت على من علم به وأمكنه تغسيله , قال صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته : اغسلوه بماء وسدر . .. الحديث متفق عليه , وقد تواتر تغسيل الميت في الإسلام قولا وعملا , وغسل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الطاهر المطهر , فكيف بمن سواه , فتغسيل الميت فرض كفاية على من علم بحاله من المسلمين .(25/126)
والرجل يغسله الرجل , والأولى والأفضل أن يختار لتغسيل الميت ثقة عارف بأحكام التغسيل , لأنه حكم شرعي له صفة مخصوصة , لا يتمكن من تطبيقها إلا عالم بها على الوجه الشرعي , ويقدم قي تولي تغسيل الميت وصيه , فإذا كان الميت قد أوصى أن يغسله شخص معين , وهذا المعين عدل ثقة , فإنه يقدم في تولي تغسيله وصيه بذلك ; لأن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس , فالمرأة يجوز أن تغسل زوجها , كما أن الرجل يجوز أن يغسل زوجته , وأوصى أنس رضي الله عنه أن يغسله محمد بن سيرين ثم يلي الوصي في تغسيل الميت أبو الميت , فهو أولى بتغسيل ابنه , لاختصاصه بالحنو والشفقة على ابنه , ثم جده , لمشاركته للأب في المعنى المذكور , ثم الأقرب فالأقرب من عصباته , ثم الأجنبي منه , وهذا الترتيب في الأولوية إذا كانوا كلهم يحسنون التغسيل وطالبوا به , وإلا , فإنه يقدم العالم بأحكام التغسيل على من لا علم له .
والمرأة تغسلها النساء , والأولى بتغسيل المرأة الميتة وصيتها , فإن كانت أوصت أن تغسلها امرأة معينة , قدمت على غيرها إذا كان فيها صلاحية لذلك , ثم بعدها تتولى تغسيلها القربى فالقربى من نسائها .
فالمرأة تتولى تغسيلها النساء على هذا الترتيب , والرجل يتولى تغسيله الرجال على ما سبق , ولكل واحد من الزوجين غسل صاحبه , فالرجل له أن يغسل زوجته والمرأة لها أن تغسل زوجها ; لأن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله زوجته ولأن عليا رضي الله عنه غسل فاطمة وورد مثل ذلك عن غيرهما من الصحابة .
ولكل من الرجال والنساء غسل من له دون سبع سنين ذكرا كان أو أنثى , قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه أن المرأة تغسل الصبي الصغير " ا ه ; ولأنه لا عورة له في الحياة , فكذا بعد الموت , ولأن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم غسله النساءوليس لامرأة غسل ابن سبع سنين فأكثر , ولا لرجل غسل ابنة سبع سنين فأكثر .(25/127)
ولا يجوز لمسلم أن يغسل كافرا أو يحمل جنازته أو يكفنه أو يصلي عليه أو يتبع جنازته , لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فالآية الكريمة تدل بعمومها على تحريم تغسيله وحمله واتباع جنازته , وقال تعالى : وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وقال تعالى : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولا يدفنه , لكن إذا لم يوجد من يدفنه من الكفار , فإن المسلم يواريه , بأن يلقيه في حفرة , منعا للتضرر بجثته , ولإلقاء قتلى بدر في القليب , وكذا حكم المرتد كتارك الصلاة عمدا وصاحب البدعة المكفرة , وهكذا يجب أن يكون موقف المسلم من الكافر حيا وميتا , موقف التبري والبغضاء : قال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم والذين معه : إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُوقال تعالى : لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وذلك لما بين الكفر والإيمان من العداء , ولمعاداة الكفار لله ولرسله ولدينه , فلا تجوز موالاتهم أحياء ولا أمواتا .
نسأل الله أن يثبت قلوبنا على الحق , وأن يهدينا صراطه المستقيم .
ويشترط أن يكون الماء الذي يغسل به طهورا مباحا , والأفضل أن يكون باردا , إلا عند الحاجة لإزالة وسخ على الميت أو في شدة برد , فلا بأس بتسخينه .
ويكون التغسيل في مكان مستور عن الأنظار ومسقوف من بيت أو خيمة ونحوها إن أمكن .(25/128)
ويستر ما بين سرة الميت وركبته وجوبا قبل التغسيل ثم يجرد من ثيابه , ويوضع على سرير الغسل منحدرا نحو رجليه , لينصب عنه الماء وما يخرج منه . ويحضر التغسيل الغاسل ومن يعينه على الغسل , ويكره لغيرهم حضوره . ويكون التغسيل بأن يرفع الغاسل رأس الميت إلى قرب جلوسه , ثم يمر يده على بطنه ويعصره برفق , ليخرج منه ما هو مستعد للخروج , ويكثر صب الماء حينئذ , ليذهب بالخارج , ثم يلف الغاسل على يده خرقة خشنة , فينجي الميت , وينقي المخرج بالماء , ثم ينوي التغسيل , ويسمي , ويوضئه كوضوء الصلاة , إلا في المضمضة والاستنشاق , فيكفي عندنا مسح الغاسل أسنان الميت ومنخريه بإصبعيه مبلولتين أو عليهما خرقة مبلولة بالماء , ولا يدخل الماء فمه ولا أنفه , ثم يغسل رأسه ولحيته برغوة سدر أو صابون , ثم يغسل ميامن جسده , وهي صفحة عنقه اليمنى , ثم يده اليمنى وكتفه , ثم شق صدره الأيمن وجنبه الأيمن وفخذه الأيمن وساقه وقدمه الميامن , ثم يقلبه على جنبه الأيسر , فيغسل شق ظهره الأيمن , ثم يغسل جانبه الأيسر كذلك , ثم يقلبه على جنبه الأيمن , فيغسل شق ظهره الأيسر , ويستعمل السدر مع الغسل أو الصابون ,
ويستحب أن يلف على يده خرقة حال التغسيل . والواجب غسله واحدة إن حصل الإنقاء , والمستحب ثلاث غسلات , وإن لم يحصل الإنقاء , زاد في الغسلات حتى ينقي إلى سبع غسلات , ويستحب أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافورا ; لأنه يصلب بدن الميت , ويطيبه , ويبرده , فلأجل ذلك , يجعل في الغسلة الأخيرة , ليبقي أثره . ثم ينشف الميت بثوب ونحوه , ويقص شاربه , وتقلم أظافره إن طالت , ويؤخذ شعر إبطيه , ويجعل المأخوذ معه في الكفن , ويضفر شعر رأس المرأة ثلاثة قرون , ويسدل من ورائها .(25/129)
وأما إذا تعذر غسل الميت لعدم الماء , أو خيف تقطعه بالغسل كالمجذوم والمحترق , أو كان الميت امرأة مع رجال ليس فيهم زوجها , أو رجلا مع نساء ليس فيهم زوجته , فإن الميت في هذه الأحوال ييمم بالتراب , بمسح وجهه وكفيه من وراء حائل على يد الماسح , وإن تعذر غسل بعضا الميت , غسل ما أمكن غسله منه , ويمم عن الباقي . ويستحب لمن غسل ميتا أن يغتسل بعد تغسيله , وليس ذلك بواجب .
رابعا : أحكام التكفين
وبعد تمام الغسل والتجفيف يشرع تكفين الميت ويشترط في الكفن أن يكون ساترا , يستحب أن يكون أبيض نظيفا , سواء كان جديدا - وهو الأفضل - أو غسيلا .
ومقدار الكفن الواجب ثوب يستر جميع الميت , والمستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف , وتكفين المرأة في خمسة أثواب , إزار وخمار وقميص ولفافتين , ويكفن الصغير في ثوب واحد , ويباح في ثلاثة أثواب , وتكفن الصغيرة في قميص ولفافتين , ويستحب تجمير الأكفان بالبخور بعد رشها بماء , الورد ونحوه , لتعلق بها رائحة البخور .
ويتم تكفين الرجل بأن تبسط اللفائف الثلاث بعضها فوق بعض , ثم يؤتى بالميت مستورا وجوبا بثوب ونحوه ويوضع فوق اللفائف مستلقيا , ثم يؤتى بالحنوط وهو الطيب ويجعل منه في قطن بين أليتي الميت , ويشد فوقه خرقة , ثم يجعل باقي القطن المطيب على عينيه ومنخريه وفمه وأذنيه وعلى مواضع سجوده : جبهته , وأنفه , ويديه , وركبتيه , وأطراف قدميه , ومغابن البدن : الإبطين , وطي الركبتين وسرته , ويجعل من الطيب بين الأكفان وفي رأس الميت , ثم يرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن , ثم طرفها الأيمن على شقه الأيسر , ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك , ويكون الفاضل من طول اللفائف عند رأسه أكثر مما عند رجليه , ثم يجمع الفاصل عند رأسه ويرد على وجهه , ويجمع الفاضل عند رجليه فيرد على رجليه , ثم يعقد على اللفائف أحزمة , لئلا تنتشر وتحل العقد في القبر .(25/130)
وأما المرأة فتكفن في خمسة أثواب إزار تؤزر به , ثم تلبس قميصا , ثم تخمر بخمار على رأسها , ثم تلف بلفافتين .
خامسا : أحكام الصلاة على الميت
ثم يشرع بعد ذلك الصلاة على الميت المسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شهد الجنازة حتى يصلى عليها , فله قيراط , ومن شهدها حتى تدفن , فله قيراطان . قيل : وما القيراطان , قال : مثل الجبلين العظيمين متفق عليه .
والصلاة على الميت فرض كفاية , إذا فعلها البعض , سقط الإثم عن الباقين , وتبقى في حق الباقين سنة , وإن تركها الكل , أثموا .
ويشترط في الصلاة على الميت : النية , واستقبال القبلة , وستر العورة , وطهارة المصلي والمصلى عليه واجتناب النجاسة , وإسلام المصلي والمصلى عليه , وحضور الجنازة إن كانت بالبلد , وكون المصلي مكلفا . وأما أركانها , فهي : القيام فيها , والتكبيرات الأربع , وقراءة الفاتحة , والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم , والدعاء للميت والترتيب , والتسليم .(25/131)
وأما سننها , فهي : رفع اليدين مع كل تكبيرة , والاستعاذة قبل القراءة , وأن يدعو لنفسه وللمسلمين , والإسرار بالقراءة , وأن يقف بعد التكبيرة الرابعة وقبل التسليم قليلا , وأن يضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره , والالتفات على يمينه في التسليم . تكون الصلاة على الميت بأن يقوم الإمام والمنفرد عند صدر الرجل ووسط المرأة ويقف المأمومون خلف الإمام , ويسن جعلهم ثلاثة صفوف , ثم يكبر للإحرام , ويتعوذ بعد التكبير مباشرة فلا يستفتح , ويسمي , ويقرأ الفاتحة , ثم يكبر , ويصلي بعدها على النبي صلى الله عليه وسلم مثل الصلاة عليه قي تشهد الصلاة , ثم يكبر , ويدعو للميت بما ورد , ومنه : اللهم اغفر لحينا وميتنا , وشاهدنا وغائبنا , وصغيرنا وكبيرنا , وذكرنا وأنثانا , إنك تعلم منقلبنا ومثوانا , وأنت على كل شيء قدير , اللهم من أحييته منا , فأحيه على الإسلام والسنة , ومن توفيته منا , فتوفه عليهما , اللهم اغفر له , وارحمه , وعافه , واعف عنه , وأكرم نزله , ووسع مدخله , واغسله بالماء والثلج والبرد , ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس , وأبدله دارا خيرا من داره , وزوجا خيرا من زوجه , وأدخله الجنة , وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار , وأفسح له في قبره , ونور له فيه وإن كان المصلى عليه أنثى , قال : " اللهم اغفر لها " , بتأنيث الضمير في الدعاء كله , وإن كان المصلى عليه صغيرا , قال : اللهم اجعله ذخرا لوالديه , وفرطا , وأجرا , وشفيعا مجابا , اللهم ثقل به موازينهما , وأعظم به أجورهما , وألحقه بصالح سلف المؤمنين , واجعله في كفالة إبراهيم , وقه برحمتك عذاب الجحيم , ثم يكبر , ويقف بعدها قليلا , ثم يسلم تسليمة واحدة عن يمينه .(25/132)
ومن فاتته بعض الصلاة على الجنازة , دخل مع الإمام فيما بقى , ثم إذا سلم الإمام قضى ما فاته على صفته , وإن خشي أن ترفع الجنازة , تابع التكبيرات ( أي : بدون فصل بينها ) , ثم سلم .
ومن فاتته الصلاة على الميت قبل دفنه , صلى على قبره .
ومن كان غائبا عن البلد الذي فيه الميت , وعلم بوفاته , فله أن يصلي عليه صلاة الغائب بالنية.
وحمل المرأة إذا سقط ميتا وقد تم له أربعة أشهر فأكثر , صلي عليه صلاة الجنازة , وإن كان دون أربعة أشهر , لم يصل عليه .
سادسا : حمل الميت ودفنه
حمل الميت ودفنه من فروض الكفاية على من علم بحاله من المسلمين , ودفنه مشروع بالكتاب والسنة , قال الله تعالى : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا وقال تعالى : ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي : جعله مقبورا , والأحاديث في دفن الميت مستفيضة , وهو بر وطاعة وإكرام للميت واعتناء به .
ويسن اتباع الجنازة وتشييعها إلى قبرها , ففي " الصحيحين " : من شهد جنازة حتى يصلى عليها , فله قيراط , ومن شهدها حتى تدفن , فله قيراطان . قيل : وما القيراطان , قال : مثل الجبلين العظيمين وللبخاري بلفظ : من شيع ولمسلم بلفظ : من خرج معها , ثم تبعها حتى تدفن ففي الحديث برواياته الحث على تشييع الجنازة إلى قبرها .
ويسن لمن تبعها المشاركة في حملها إن أمكن , ولا بأس بحملها في سيارة أو على دابة , لا سيما إذا كانت المقبرة بعيدة .
ويسن الإسراع بالجنازة , لقوله صلى الله عليه وسلم : أسرعوا بالجنازة , فإن تك صالحة , فخير تقدمونها إليه , وإن تك سوى ذلك , فشر تضعونه عن رقابكم متفق عليه , لكن , لا يكون الإسراع شديدا , ويكون على حامليها ومشيعيها السكينة , ولا يرفعون أصواتهم , لا بقراءة ولا غيرها من تهليل وذكر أو قولهم : استغفروا له , وما أشبه ذلك ; لأن هذا بدعة .(25/133)
ويحرم خروج النساء مع الجنائز , لحديث أم عطية : نهينا عن اتباع الجنائز ولم تكن النساء يخرجن مع الجنائز على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فتشييع الجنائز خاص بالرجال.
ويسن أن يعمق القبر ويوسع , لقوله صلى الله عليه وسلم : احفروا وأوسعوا وعمقوا قال الترمذي : " حسن صحيح " .
ويسن ستر قبر المرأة عند إنزالها فيه لأنها عورة .
ويسن أن يقول من ينزل الميت في القبر : " بسم الله , وعلى ملة رسول الله " لقوله صلى الله عليه وسلم إذا وضعتم موتاكم في القبور , فقولوا : بسم الله , وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الخمسة إلا النسائي , وحسنه الترمذي .
ويوضع الميت في لحده على شقه الأيمن مستقبل القبلة , لقوله صلى الله عليه وسلم في الكعبة : قبلتكم أحياء وأمواتا رواه أبو داود وغيره .
ويجعل تحت رأسه لبنة أو حجر أو تراب , ويدنى من حائط القبر الأمامي , ويجعل خلف ظهره ما يسنده من تراب , حتى لا ينكب على وجهه , أو ينقلب على ظهره . ثم تسد عليه فتحة اللحد باللبن والطين حتى يلتحم , ثم يهال عليه التراب , ولا يزاد عليه من غير ترابه .
ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر , ويكون مسنما - أي : محدبا كهيئة السنام - لتنزل عنه مياه السيول , ويوضع عليه حصباء , ويرش بالماء ليتماسك ترابه ولا يتطاير , والحكمة في رفعه بهذا المقدار , ليعلم أنه قبر فلا يداس , ولا بأس بوضع النصائب على طرفيه لبيان حدوده , وليعرف بها , من غير أن يكتب علمها .
ويستحب إذا فرغ من دفنه أن يقف المسلمون على قبره ويدعوا له ويستغفروا له لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا فرغ من دفن الميت , وقف عليه , وقال : استغفروا لأخيكم , واسألوا له التثبيت , فإنه الآن يسأل رواه أبو داود , وأما قراءة شيء من القرآن عند القبر , فإن هذا بدعة ; لأنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام , وكل بدعة ضلالة .(25/134)
ويحرم البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها , لقول جابر : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر , وأن يقعد عليه , وأن يبنى عليه رواه مسلم , وروى الترمذي وصححه من حديث جابر مرفوعا : نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن توطأ ولأن هذا من وسائل الشرك والتعلق بالأضرحة ; لأن الجهال إذا رأوا البناء والزخرفة على القبر , تعلقوا به .
ويحرم إسراج القبور - أي : إضاءتها بالأنوار الكهربائية وغيرها , ويحرم اتخاذ المساجد عليها - أي : ببناء المساجد عليها - , والصلاة عندها أو إليها , وتحرم زيارة النساء للقبور لقوله صلى الله عليه وسلم لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه أهل السنن , وفي " الصحيح " لعن الله اليهود والنصارى , اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولأن تعظيم القبور بالبناء عليها ونحوه هو أصل شرك العالم .
وتحرم إهانة القبور بالمشي عليها ووطئها بالنعال والجلوس عليها وجعلها مجتمعا للقمامات أو إرسال المياه عليها , لما روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا : لأن يجلس أحدكم على جمرة , فتحرق ثيابه , فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " من تدبر نهيه عن الجلوس على القبر والاتكاء عليه والوطء عليه , علم أن النهي إنما كان احتراما لسكانها أن يوطأ بالنعال على رءوسهم " .
سادسا : أحكام التعزية وزيارة القبور
وتسن تعزية المصاب بالميت , وحثه على الصبر والدعاء للميت , لما روى ابن ماجه - وإسناده ثقات - عن عمرو بن حزم مرفوعا : ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة , إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة ووردت بمعناه أحاديث .ولفظ التعزية أن يقول : " أعظم الله أجرك , وأحسن عزاءك , وغفر لميتك "(25/135)
ولا ينبغي الجلوس للعزاء والإعلان عن ذلك كما يفعل بعض الناس اليوم , ويستحب أن يعد لأهل الميت طعامًا يبعثه إليهم لقوله صلى الله عليه وسلم : اصنعوا لآل جعفر طعاما , فقد جاءهم ما يشغلهم رواه أحمد والترمذي وحسنه .
أما ما يفعله بعض الناس اليوم من أن أهل البيت يهيئون مكانا لاجتماع الناس عندهم , ويصنعون الطعام , ويستأجرون المقرئين لتلاوة القرآن , ويتحملون في ذلك تكاليف مالية , فهذا من المآتم المحرمة المبتدعة , لما روى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله , قال : " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة " إسناده ثقات .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " جمع أهل المصيبة الناس على طعامهم ليقرئوا ويهدوا له ليس معروفا عند السلف , وقد كرهه طوائف من أهل العلم من غير وجه " , انتهى .
وقال الطرطوشي : " فأما المآتم , فممنوعة بإجماع العلماء , والمأتم هو الاجتماع على المصيبة , وهو بدعة منكرة , لم ينقل فيه شيء , وكذا ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث والرابع والسابع والشهر والسنة , فهو طامة , وإن كان من التركة وفي الورثة محجور عليه أو من لم يأذن , حرم فعله , وحرم الأكل منه " انتهى .
وتستحب زيارة القبور للرجال خاصة , لأجل الاعتبار والاتعاظ , ولأجل الدعاء للأموات والاستغفار لهم , لقوله صلى الله عليه وسلم : كنت نهيتكم عن زيارة القبور , فزوروها رواه مسلم والترمذي , وزاد : فإنها تذكركم الآخرة , , ويكون ذلك بدون سفر , فزيارة القبور تستحب بثلاث شروط :
1 - أن يكون الزائر من الرجال لا النساء ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لعن الله زوارات القبور
2- أن تكون بدون سفر , لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد(25/136)
3- أن يكون القصد منها الاعتبار والاتعاظ والدعاء للأموات , فإن كان القصد منها التبرك بالقبور والأضرحة وطلب قضاء الحاجات وتفريج الكربات من الموتى فهذه زيارة بدعية شركية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " زيارة القبور على نوعين : شرعية وبدعية , فالشرعية : المقصود بها السلام على الميت والدعاء له كما يقصد بالصلاة على جنازته من غير شد رحل , والبدعية : أن يكون قصد الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت , وهذا شرك أكبر , أو يقصد الدعاء عند قبره , أو الدعاء به , وهذا بدعة منكرة , ووسيلة إلى الشرك , وليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم , ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها , انتهى , والله تعالى أعلم , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .(25/137)
كتاب الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم
باب في مشروعية الزكاة ومكانتها
اعلموا وفقني الله وإياكم أنه لا بد من معرفة تفاصيل أحكام الزكاة وشروطها وبيان من تجب عليه ومن تجب له وما تجب فيه من الأموال .
فالزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام - كما تظاهرت بذلك دلالة الكتاب والسنة - , وقد قرنها الله تعالى بالصلاة في كتابه في اثنين وثمانين موضعا , مما يدل على عظم شأنها , وكمال الاتصال بينها وبين الصلاة , ووثاقة الارتباط بينهما , حتى قال صديق هذه الأمة وخليفة الرسول الأول أبو بكر الصديق : " لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " قال الله تعالى : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وقال تعالى : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة . .. الحديث .
وأجمع المسلمون على فرضيتها , وأنها الركن الثالث من أركان الإسلام , وعلى كفر من جحد وجوبها , وقتال من منع إخراجها .
فرضت في السنة الثانية للهجرة النبوية , وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السعاة لقبضها وجبايتها لإيصالها إلى مستحقيها , ومضت بذلك سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين .
وفي الزكاة إحسان إلى الخلق , وهي مطهرة للمال من الدنس , وحصانة له من الآفات , وعبودية للرب سبحانه , قال الله تعالى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وبالتالي , فهي تطهير للنفوس من الشح والبخل , وامتحان للغني حيث يتقرب إلى الله بإخراج شيء من ماله المحبوب إليه .(26/1)
وقد أوجبها الله في الأموال التي تحتمل المواساة . ويكثر فيها النمو والربح - ما ينمو فيها بنفسه كالماشية والحرث , وما ينمو بالتصرف وإدارته في التجارة كالذهب والفضة وعروض التجارة - , وجعل الله قدر المخرج في الزكاة على حسب التعب في المال الذي تخرج منه , . فأوجب في الركاز , وهو ما وجد من أموال الجاهلية - الخمس , وما فيه التعب من طرف واحد - وهو ما سقي بلا مؤنة - نصف الخمس , وما وجد فيه التعب من طرفين ربع الخمس , وفيما يكثر فيه التعب والتقلب - كالنقود - وعروض التجارة ثمن الخمس.
وقد سماها الله بالزكاة , لأنها تزكي النفس والمال , فهي ليست غرامة ولا ضريبة تنقص الحال وتضر صاحبه , بل هي على العكس تزيد المال نموا من حيث لا يشعر الناس , قال صلى الله عليه وسلم : ما - نقص مال من صدقة
والزكاة في الشرع حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص , هو تمام الحول في الماشية والنقود وعروض التجارة , وعند اشتداد الحب وبدو الصلاح في الثمار , وحصول ما تجب فيه من العسل , واستخراج ما تجب فيه من المعادن , وغروب الشمس ليلة العيد في زكاة الفطر .
وتجب الزكاة على المسلم إذا توفرت فيه شروط خمسة
أحدها : الحرية , فلا تجب على مملوك ; لأنه لا مال له , وما بيده ملك لسيده , فتكون زكاته على السيد .(26/2)