الثاني: من طرق تحصيل العلم أن تتلقى ذلك من معلم موثوق في علمه ودينه، وهذا الطريق أسرع وأتقن للعلم؛ لأن الطريق الأول قد يضل فيه الطالب وهو لا يدري إما لسوء فهمه، أو قصور علمه، أو لغير ذلك من الأسباب، أما الطريق الثاني فيكون فيه المناقشة والأخذ والرد مع المعلم فينفتح بذلك للطالب أبواب كثيرة في الفهم، والتحقيق، وكيفية الدفاع عن الأقوال الصحيحة، ورد الأقوال الضعيفة، وإذا جمع الطالب بين الطريقين كان ذلك أكمل وأتم ، وليبدأ الطالب بالأهم فالأهم، وبمختصرات العلوم قبل مطولاتها حتى يكون مترقيًا من درجة إلى درجة أخرى فلا يصعد إلى درجة حتى يتمكن من التي قبلها ليكون صعوده سليمًا.(7/129)
الفصل الثاني
أخطاء يجب الحذر منها
وهناك أخطاء يرتكبها بعض طلبة العلم:
منها الحسد:
وهو: كراهة ما أنعم الله به على غيره، وليس هو تمني زوال نعمة الله على الغير، بل هو مجرد أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره، فهذا هو الحسد سواء تمنى زواله أو أن يبقى ولكنه كاره له.
كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- فقال: (( الحسد كراهة الإنسان ما أنعم الله به على غيره)).
والحسد قد لا تخلو منه النفوس، يعني قد يكون اضطراريًّا للنفس، ولكن جاء في الحديث: « إذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت لا تحقق » (1) ، يعني أن الإنسان يجب عليه إذا رأى من قلبه حسدًا للغير ألا يبغي عليه بقول أو فعل، فإن ذلك من خصال اليهود الذين قال الله عنهم: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } (النساء الآية :54)
ثم إن الحاسد يقع في محاذير:
أولًا: كراهيته ما قدره الله، فإن كراهته ما أنعم الله به على هذا الشخص كراهة لما قدره كونًا ، ومعارضة لقضاء الله - عز وجل -.
_________
(1) نص الحديث: (( ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة ، والظن، والحسد ، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق )) ذكره الحافظ ابن حجر في (( فتح البار)) جـ 10 ص 213 وقال عنه: (( هذا مرسل أو معضل لكن له شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي في« الشعب» ا . هـ وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد بلفظ: « إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحققوا، وإذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا» وبلفظ آخر: « ثلاث لم يسلم منهم أحد: الطيرة، والظن ، والحسد ، قيل: فما المخرج منهن يا رسول الله قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدتم فلا تبغوا» جـ 6 ص 125. أخرجه الطبراني في «الكبير» بلفظ : ثلاثة لازمات لأمتي: « الطيرة، والحسد ، وسوء الظن» فقال رجل : وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال صلى الله عليه وسلم : « إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا طيرت فامض» جـ 3 ص 8258. وانظر: كشف الخفاء للعجلوني جـ 1 ص 104 ، وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 191 ((سورة الحجرات)).(7/130)
ثانيا: أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب؛ لأن الغالب أن الحاسد يعتدي على المحسود بذكر ما يكره وتنفير الناس عنه، والحطّ من قدره وما أشبه ذلك ، وهذا من كبائر الذنوب التي قد تحيط بالحسنات.
ثالثا: ما يقع في قلب الحاسد من الحسرة والجحيم والنار التي تأكله أكلا ، فكلما رأى نعمة من الله على هذا المحسود اغتم وضاق صدره؛ وصار يراقب هذا الشخص كلما أنعم الله عليه بنعمة حزن واغتم وضاقت عليه الدنيا.
رابعا: أن في الحسد تشبهًا باليهود ، معلوم أن من أتى خصلة من خصال الكفار صار منهم في هذه الخصلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « من تشبه بقوم فهو منهم » (1)
خامسًا: أنه مهما كان حسده ومهما قوي لا يمكن أبدًا أن يرفع نعمة الله عن الغير، إذا كان هذا غير ممكن فكيف يقع في قلبه الحسد.
سادسًا: أن الحسد ينافي كمال الإيمان لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » (2) ولازم هذا أن تكره أن تزول نعمة الله على أخيك، فإذا لم تكن تكره أن تزول نعمة الله عليك فأنت لم تحب لأخيك ما تحب لنفسك وهذا ينافي كمال الإيمان.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 5 ص 5 ، وأبو داود، كتاب اللباس، باب في لبس شهرة، وابن أبي شيبة في (( المصنف )) جـ 5 ص 313، والهيثمي في (( مجمع الزوائد )) جـ 10 ص 271، وابن عبد البر في (( التمهيد)) جـ 6 ص 80 ـ قال الهيثمي: (( رواه الطبراني في الأوسط وفيه علي بن غراب وقد وثقه غير واحد وضعفه بعضهم وبقية رجاله ثقات )) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى: (( إسناده جيد)) الفتاوى جـ 5 ص 331، وقال ابن حجر - بعد ذكر الحديث : - (( حسن من هذا الوجه وأبو منيب لا يعرف اسمه، وفي الإسناد عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف في توثيقه، وله شاهد مرسل بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن سعيد بن جبلة )) فتح الباري 6 / 97، وقد ذكره السيوطي في (( الجامع الصغير )) 1 / 590 وأشار إلى أنه حسن. وصححه أحمد شاكر (( المسند)) رقم 5114).
(2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.(7/131)
سابعًا: أن الحسد يوجب إعراض العبد عن سؤال الله تعالى من فضله، فتجده دائما مهتمًا بهذه النعمة التي أنعم الله بها على غيره ولا يسأل الله من فضله، وقد قال الله تعالى: { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } (النساء الآية : 32) .
ثامنًا : أن الحسد يوجب ازدراء نعمة الله عليه، أي أن الحاسد يرى أنه ليس في نعمة ، وأن هذا المحسود في نعمة أكبر منه، وحينئذ يحتقر نعمة الله عليه فلا يقوم بشكرها بل يتقاعس.
تاسعا: الحسد خلق ذميم؛ لأن الحاسد يتتبع نعم الله على الخلق في مجتمعه، ويحاول بقدر ما يمكنه أن يحول بين الناس وبين هذا المحسود بالحطّ من قدره أحيانًا، وبازدراء ما يقوم به من الخير أحيانًا إلى غير ذلك.
عاشرًا: إن الحاسد إذا حسد فالغالب أن يعتدي على المحسود وحينئذ يأخذ المحسود من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئاته فطرح عليه ثم طرح في النار.(7/132)
والخلاصة: أن الحسد خلق ذميم، ومع الأسف أنه أكثر من يوجد بين العلماء وطلبة العلم، ويوجد بين التجار فيحسد بعضهم البعض، وكل ذي مهنة يحسد من شاركه فيها، لكن مع الأسف أنه بين العلماء أشد وبين طلبة العلم أشد مع أنه كان الأولى والأجدر أن يكون أهل العلم أبعد الناس عن الحسد وأقرب الناس إلى كمال الأخلاق.
وأنت يا أخي إذا رأيت الله قد أنعم على عبده نعمة ما فاسع أن تكون مثله ولا تكره من أنعم الله عليه فقل: اللهم زده من فضلك وأعطني أفضل منه، والحسد لا يغير شيئا من الحال لكنه كما ذكرنا آنفًا فيه هذه المفاسد وهذه المحاذير العشرة، ولعل من تأمل وجد أكثر والله المستعان.(7/133)
ومنها الإفتاء بغير علم:(7/134)
الإفتاء منصب عظيم، به يتصدى صاحبه لبيان ما يشكل على العامة من أمور دينهم، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم؛ لذلك كان هذا المنصب العظيم لا يتصدر له إلا من كان أهلا له لذلك يجب على العباد أن يتقوا الله تعالى وأن لا يتكلموا إلا عن علم وبصيرة، وأن يعلموا أن الله وحده له الخلق والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا مدبر للخلق إلا الله ولا شريعة للخلق سوى شريعة الله، فهو الذي يوجب الشيء، وهو يحرمه، وهو الذي يندب إليه ويحلله، ولقد أنكر الله على من يحللون ويحرمون بأهوائهم فقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ }{ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (يونس الآيتان: 59، 60) وقال تعالى: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ }{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النحل الآيتان:(7/135)
116 ، 117) وإن من أكبر الجنايات أن يقول الشخص عن شيء إنه حلال وهو لا يدري ما حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه حرام وهو لا يدري عن حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه واجب وهو لا يدري أن الله أوجبه، ويقول عن الشيء إنه غير واجب وهو لا يدري أن الله لم يوجبه، إن هذه جناية وسوء أدب مع الله - عز وجل -.
كيف تعلم أيها العبد أن الحكم لله ثم تتقدم بين يديه فتقول في دينه وشريعته ما لا تعلم ؟ لقد قرن الله القول عليه بلا علم بالشرك به ، فقال سبحانه: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (الأعراف ، الآية :33) .
وإن كثيرًا من العامة يفتي بعضهم بعضًا بما لا يعلمون فتجدهم يقولون هذا حلال، أو حرام، أو واجب، أو غير واجب، وهم لا يدرون عن ذلك شيئًا ، أفلا يعلم هؤلاء أن الله تعالى سائلهم عما قالوا يوم القيامة .(7/136)
أفلا يعلم هؤلاء أنهم إذا أضلوا شخصًا فأحلوا له ما حرم الله ، أو حرَّموا ما أحل الله له فقد باءوا بإثمه وكان عليهم مثل وزر ما عمل وذلك بسبب ما أفتوه به.
إن بعض العامة يجني جناية أخرى فإذا رأى شخصًا يريد أن يستفتي عالمًا يقول له هذا العامي لا حاجة أن تستفتي ، هذا أمر واضح ، هذا حرام مع أنه في الواقع حلال فيحرمه ما أحل الله له ، أو يقول له: هذا واجب فيلزمه بما لم يلزمه الله به، أو يقول هذا غير واجب في شريعة الله فيسقط عنه ما أوجب الله عليه، أو يقول هذا حلال وهو في الواقع حرام، وهذه جناية منه على شريعة الله، وخيانة لأخيه المسلم حيث أفتاه بدون علم، أرأيتم لو أن شخصًا سأل عن طريق بلد من البلدان، فقلت الطريق من هنا وأنت لا تعلم أفلا يعد الناس ذلك خيانة منك؟ فكيف تتكلم عن طريق الجنة وهو الشريعة التي أنزل الله وأنت لا تعلم عنها شيئًا؟!(7/137)
وإن بعض المتعلمين أنصاف العلماء يقعون فيما يقع فيه العامة من الجرأة على الشريعة في التحليل والتحريم والإيجاب فيتكلمون فيما لا يعلمون، ويُجملون في الشريعة ويُفصلون، وهم من أجهل الناس في أحكام الله، إذا سمعت الواحد منهم يتكلم فكأنما ينزل عليه الوحي فيما يقول من جزمه وعدم تورعه، لا يمكن أن ينطق ويقول: لا أدري مع أن عدم العلم هو صفة الحق الثابت ومع ذلك يصر بناء على جهله على أنه عالم فيضر العامة؛ لأن الناس ربما يثقون بقوله ويغترون به، وليت هؤلاء القوم يقتصرون على نسبة الأمر إليهم لا بل تراهم ينسبون ذلك للإسلام فيقولون: الإسلام يرى كذا، وهذا لا يجوز إلا فيما علم القائل أنه من دين الإسلام، ولا طريق إلى ذلك إلا بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله ، أو إجماع المسلمين عليه .
إن بعض الناس لجرأته وعدم ورعه وعدم حيائه من الله وعدم خوفه منه يقول عن الشيء المحرم الواضح تحريمه ما أظن هذا حرام، أو عن الشيء الواجب والواضح وجوبه يقول ما أظن هذا واجبًا، إما جهلا منه، أو عنادًا ومكابرة، أو تشكيكًا لعباد الله في دين الله .(7/138)
أيها الإخوة: إن من العقل والإيمان ومن تقوى الله وتعظيمه أن يقول الرجل عما لا يعلم لا أعلم، لا أدري، اسأل غيري، إن ذلك من تمام العقل؛ لأن الناس إذا رأوا تثبته وثقوا به، ولأنه يعرف قدر نفسه حينئذ وينزلها منزلتها، وإن ذلك أيضًا من تمام الإيمان بالله وتقوى الله حيث لا يتقدم بين يدي ربه ولا يقول عليه في دينه ما لا يعلم، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بدين الوحي فيجيب الله سبحانه عما سئل عنه نبيه { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } (المائدة الآية : 4) { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا } (الكهف الآية :83) { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ } (الأعراف الآية : 187) ولقد كان الأجلاء من الصحابة، تعرض لهم المسألة لا يدرون حكم الله فيها فيهابونها ويتوقفون فيها.
فها هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول: (( أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله بغير علم)).(7/139)
وها هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تنزل به الحادثة فيجمع لها الصحابة ويستشيرهم فيها، قال ابن سيرين : لم يكن أحد أهيب مما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه :- ((أيها الناس من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم)). وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أحسنها، فقال له أصحابه: قد استحيينا لك، فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: { لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } (البقرة الآية :32) .(7/140)
وهناك أمثلة كثيرة على الإفتاء بغير علم: منها أن المريض إذا تنجست ثيابه ولم يمكن أن يطهرها يُفتى بأنه لا يصلي حتى يُطهر ثيابه، وهذه فتوى كاذبة خاطئة باطلة ، فالمريض يصلي ولو كان عليه ثياب نجسة ، ولو كان بدنه نجسًا إذا كان لا يستطيع أن يطهر ذلك؛ لأن الله يقول: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (التغابن الآية : 16) فيصلي المريض على حسب حاله وعلى حسب ما يقدر عليه، يصلي قائمًا ، فإن لم يستطع فقاعدًا فإن لم يستطع فعلى جنبه يومئ برأسه إذا استطاع، فإن لم يستطع أومأ بعينه عند بعض أهل العلم، فإن لم يستطع الإيماء بعينه وكان معه عقله فلينو الفعل بقلبه وليقل القول بلسانه مثلا: يقول الله أكبر ثم يقرأ الفاتحة وسورة ، ثم يقول: الله أكبر وينوي أنه راكع، ثم يقول سمع الله لمن حمده وينوي أنه رفع الركوع، ثم يقول هكذا في السجود وبقية أفعال الصلاة، ينوي الفعل الذي لا يقدر عليه، ينويه بقلبه ولا يؤخر الصلاة عن وقتها.
وبسبب هذه الفتوى الكاذبة الخاطئة يموت بعض المسلمين وهم لا يصلون من أجل هذه الفتوى الكاذبة، ولو أنهم علموا أن الإنسان المريض يصلي على أي حال لماتوا وهم يصلون .(7/141)
ومثل هذه المسألة وأشباهها كثير فيجب على العامة أن يتلقوا أحكامها من أهل العلم حتى يعرفوا بذلك حكم الله - عز وجل - وحتى لا يقولوا في دين الله ما يعلمون.
ومنها: الكبر:
وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأجمع التفسير وأبينه وأوضحه فقال :
« الكبرٌ بطَر الحق وغمْط الناس » (1)
وبطر الحق هو : رد الحق، وغمط الناس يعني احتقارهم، ومن الكبرياء ردك على معلمك، والتطاول عليه وسوء الأدب معه، وأيضا استنكافك عمن يفيدك ممن هو دونك كبرياء، وهذا يقع لبعض الطلبة إذا أخبره أحد بشيء وهو دونه في العلم استنكف ولم يقبل، وتقصيرك عن العمل بالعلم عنوان حرمان - نسأل الله العافية -:
وفي هذا يقول القائل:
العلم حربٌ للفتى المتعالي ... كالسيل حربٌ للمكان العالي
ومعنى البيت:
أن الفتى المتعالي لا يمكن أن يدرك العلم؛ لأن العلم حرب له كالسيل حرب للمكان العالي؛ لأن المكان العالي ينفض عنه السيل يمينًا وشمالا ولا يستقر عليه، كذلك العلم لا يستقر مع الكبر والعلو، وربما يسلب العلم بسبب ذلك.
ومنها : التعصب للمذاهب والآراء:
فيجب على طالب العلم أن يتخلى عن:
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه.(7/142)
الطائفية والحزبية بحيث يعقد الولاء والبراء على طائفة معينة أو على حزب معين ؛ فهذا لا شك خلاف منهج السلف، فالسلف الصالح ليسوا أحزابًا بل هم حزب واحد، ينضوون تحت قول الله - عز وجل -: { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } (الحج: الآية 78) .(7/143)
فلا حزبية ولا تعدد، ولا موالاة ، ولا معاداة إلا على حسب ما جاء في الكتاب والسنة، فمن الناس مثلا من يتحزب إلى طائفة معينة، يقرر منهجها ويستدل عليه بالأدلة التي قد تكون دليلا عليه، ويحامي دونها، ويضلل من سواه حتى وإن كانوا أقرب إلى الحق منه، ويأخذا مبدأ: من ليس معي فهو عليّ، وهذا مبدأ خبيث؛ لأن هناك وسطًا بين أن يكون لك أو عليك، وإذا كان عليك بالحق، فليكن عليك وهو في الحقيقة معك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا » (1) ونصر الظالم أن تمنعه من الظلم، فلا حزبية في الإسلام، ولهذا لما ظهرت الأحزاب في المسلمين، وتنوعت الطرق، وتفرقت الأمة، وصار بعضهم يُضَلّل بعضًا، ويأكل لحم أخيه ميتًا، لحقهم الفشل كما قال الله تعالى: { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (الأنفال: الآية 46) لذلك نجد بعض طلاب العلم يكون عند شيخ من المشايخ، ينتصر لهذا الشيخ بالحق والباطل ويعادي من سواه، ويضلله ويبدعه، ويرى أن شيخه هو العالم المصلح، ومن سواه إما جاهل أو مفسد، وهذا غلط كبير، بل يجب أخذ قول من وافق قوله الكتاب والسنة وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب المظالم باب: أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا، ومسلم كتاب البر والصلة، باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا.(7/144)
ومنها: التصدر قبل التأهل:
مما يجب الحذر منه أن يتصدر طالب العلم قبل أن يكون أهلا للتصدر؛ لأنه إذا فعل ذلك كان هذا دليلا على أمور:
الأمر الأول : إعجابه بنفسه حيث تصدر فهو يرى نفسه عَلَم الأعلام.
الأمر الثاني : أن ذلك يدل على عدم فقهه ومعرفته للأمور؛ لأنه إذا تصدر، ربما يقع في أمر لا يستطيع الخلاص منه، إذ إن الناس إذا رأوه متصدرًا أو ردوا عليه من المسائل ما يبين عواره.
الأمر الثالث: أنه إذا تصدر قبل أن يتأهل لزمه أن يقول على الله ما لا يعلم؛ لأن الغالب أن من كان هذا قصده، أنه لا يبالي ويجيب على كل ما سُئِلَ ويخاطر بدينه وبقوله على الله - عز وجل - بلا علم.
الأمر الرابع: أن الإنسان إذا تصدر فإنه في الغالب لا يقبل الحق؛ لأنه يظن بسفهه أنه إذا خضع لغيره ولو كان معه الحق كان هذا دليلا على أنه ليس بعالم.
ومنها: سوء الظن:(7/145)
فيجب على طالب العلم الحذر من أن يظن بغيره ظنًّا سيئًا مثل أن يقول: لم يتصدق هذا إلا رياء، لم يُلق الطالب هذا السؤال إلا رياءً ليعرف أنه طالب فاهم، وكان المنافقون إذا أتى المتصدق من المؤمنين بالصدقة، إن كانت كثيرة قالوا: مُرَائ، وإذا كانت قليلة قالوا: إن الله غني عن صدقة هذا كما قال الله عنهم: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (التوبة الآية :79) فإياك وسوء الظن بمن ظاهره العدالة، ولا فرق بين أن تظن ظنًّا سيئًا بمعلمك أو بزميلك، فإن الواجب إحسان الظن بمن ظاهره العدالة، أما من ظاهره غير العدالة فلا حرج أن يكون في نفسك سوء ظن به ، لكن مع ذلك عليك أن تتحقق حتى يزول ما في نفسك من هذا الوهم ، لأن بعض الناس قد يسيء الظن بشخص ما بناء على وهم كاذب لا حقيقة له.(7/146)
فالواجب إذا أسأت الظن بشخص، سواء من طلبة العلم أو غيرهم، الواجب أن تنظر هل هناك قرائن واضحة تسوغ لك سوء الظن فلا بأس، وأما إذا كان مجرد أوهام فإنه لا يحل لك أن تسيء الظن بمسلم ظاهره العدالة، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ } (الحجرات الآية :12) لم يقل كل الظن؛ لأن بعض الظنون لها أصل ولها مبرر .
( إن بعض الظن إثم ) وليس كل الظن، فالظن الذي يحصل فيه العدوان على الغير لا شك أنه إثم، وكذلك الظن الذي لا مستند له، وأما إذا كان له مستند فلا بأس أن تظن الظن السيء بحسب القرائن والأدلة.(7/147)
لذلك ينبغي للإنسان أن ينزل نفسه منزلتها، وأن لا يدنسها بالأقذار، وأن يحذر هذه الأخطاء مما تقدم؛ لأن طالب العلم شرَّفه الله بالعلم وجعله أسوة وقدوة، حتى إن الله رد أمور الناس عند الإشكال إلى العلماء فقال: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ( الأنبياء الآية : 7) وقال تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } (النساء الآية : 83) فالحاصل أنك يا طالب العلم محترم، فلا تنزل بنفسك إلى ساحة الذل والضعة، بل كن كما ينبغي أن تكون.(7/148)
في كتب طالب العلم وفتاوى حول العلم وفوائد
الفصل الأول
كتب طالب العلم
قبل البدء في هذا الفصل لا بد أن نُبين بعض الأمور المهمة لطالب العلم وهي:
الأمر الأول: كيف تتعامل مع الكتاب ؟
التعامل مع الكتاب يكون بأمور:
الأول: معرفة موضوعه: حتى يستفيد الإنسان منه؛ لأنه يحتاج إلى التخصص، ربما يكون كتاب سحر أو شعوذة أو باطل، فلا بد من معرفة موضوع الكتاب حتى تحصل الفائدة منه.
الثاني: معرفة مصطلحاته: لأن معرفة المصطلحات يحصل بها أنك تحفظ أوقاتًا كثيرة، وهذا يفعله العلماء في مقدمات الكتب، فمثلا نعرف أن صاحب (( بلوغ المرام )) إذا قال متفق عليه يعني رواه البخاري ومسلم، لكن صاحب (( المنتقى )) على خلاف ذلك فإذا قال صاحب المنتقى - متفق عليه فإنه يعني رواه الإمام أحمد والبخاري، ومسلم، وكذلك في كتب الفقه يفرق كثير من العلماء بين القولين، والوجهين، والروايتين، والاحتمالين، فالروايتان عن الإمام، والوجهان عن الأصحاب، وهم أصحاب المذهب الكبار أهل التوجيه، والاحتمالان للتردد بين قولين، والقولان أعم من ذلك كله .(7/149)
كذلك يحتاج أن تعرف مثلا إذا قال المؤلف إجماعًا أو وفاقًا، إذا قال إجماعًا يعني بين الأمة، وإذا قال وفاقًا يعني مع الأئمة الثلاثة كما هو اصطلاح صاحب ((الفروع)) في فقه الحنابلة، وكذلك بقية أصحاب المذاهب ؛ كلّ له اصطلاح ، فلا بد أن تعرف اصطلاح المؤلف.
الثالث: معرفة أسلوبه وعباراته: ولهذا تجد أنك إذا قرأت الكتاب أول ما تقرأ - لا سيما في الكتب العلمية المملوءة علمًا - تجد أنه تمر بك العبارة تحتاج إلى تأمل وتفكير في معناها؛ لأنك لم تألفه، فإذا كررت هذا الكتاب ألفته.
وهناك أيضا أمر خارج عن التعامل مع الكتاب وهو : التعليق بالهوامش أو الحواشي. فهذا أيضًا مما يجب لطالب العلم أن يغتنمه، وإذا مرت به مسألة تحتاج إلى شرح، أو إلى دليل، أو إلى تعليل ويخشى أن ينساه فإنه يُعلق إما بالهامش - وهو الذي على اليمين أو اليسار - أو بالحاشية - وهي التي في الأسفل - وكثيرًا ما يفوت الإنسان مثل هذه الفوائد التي لو علقها لم تستغرق عليه إلا دقيقة أو دقيقتين، ثم إذا عاد ليتذكرها بقي مدة يتذكرها وقد لا يذكرها.(7/150)
فينبغي على طالب العلم أن يعتني بذلك لا سيما في كتب الفقه، يمر بك في بعض الكتب مسألة وحكمها ويحصل عندك توقف وإشكال ، فإذا رجعت للكتب - التي أوسع من الكتب الذي بين يديك ووجدت قولا يوضح المسألة ؛ فإنك تعلق القول من أجل أن ترجع إليه مرة أخرى إذا احتجت إليه دون الرجوع إلى أصل الكتاب الذي نقلت منه، فهذا مما يوفر عليك الوقت.(7/151)
الأمر الثاني: مطالعة الكتب على نوعين:
أولا: مطالعة تدبر وتفهم، فهذه لا بد أن يتأمل الإنسان ويتأنى.
ثانيا: مطالعة استطلاع فقط ينظر من خلالها على موضوع الكتاب، وما فيه من مباحث، ويتعرف على مضمون الكتاب، وذلك من خلال تصفح وقراءة سريعة للكتاب، فهذه لا يحصل فيها من التأمل والتدبر ما يحصل في النوع الأول . والطريقة المثلى في قراءة الكتب التدبر والتفكر في المعاني والاستعانة بذوي الفهم من أهل العلم الصحيح، ولا يخفى أن أولى الكتب بذلك ؛ كتاب الله عز وجل . وعليك بالصبر والمثابرة، فما أعطي الإنسان عطاء خيرًا وأوسع من الصبر.(7/152)
الأمر الثالث: جمع الكتب :
ينبغي لطالب العلم أن يحرص على جمع الكتب ، ولكن يبدأ بالأهم فالأهم، فإذا كان الإنسان قليل ذات اليد ، فليس من الخير وليس من الحكمة أن يشتري كتبًا كثيرة يلزم نفسه بغرامة قيمتها، فإن هذا من سوء التصرف، وإذا لم يمكنك أن تشتري من مالك فيمكنك أن تستعير من أي مكتبة .(7/153)
الأمر الرابع : الحرص على الكتب المهمة:
يجب على طالب العلم أن يحرص على الكتب الأمهات الأصول دون المؤلفات حديثًا؛ لأن بعض المؤلفين حديثًا ليس عنده العلم الراسخ، ولهذا إذا قرأت ما كتبوا تجد أنه سطحيّ، قد ينقل الشيء بلفظه، وقد يحرفه إلى عبارة طويلة لكنها غثاء، فعليك بالأمهات كتب السلف فإنها خير وأبرك بكثير من كتب الخلف.
لأن غالب كتب المتأخرين قليلة المعاني، كثيرة المباني، تقرأ صفحة كاملة يمكن أن تلخصها بسطر أو سطرين، لكن كتب السلف تجدها هينة، لينة، سهلة رصينة، لا تجد كلمة واحدة ليس لها معنى.(7/154)
ومن أجلّ الكتب التي يجب على طالب العلم أن يحرص عليها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله - ومن المعلوم أن كتب ابن القيم أسهل وأسلس؛ لأن شيخ الإسلام ابن تيمية كانت عباراته قوية لغزارة علمه، وتوقد ذهنه، وابن القيم رأى بيتًا معمورًا فكان من التحسين والترتيب، ولسنا نريد بذلك أن نقول إن ابن القيم نسخة من ابن تيمية، بل ابن القيم حرّ إذا رأى أن شيخه خالف ما يراه صوابًا تكلم، لما رأى وجوب فسخ الحج إلى العمرة، وأن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرى أنه يجب على من لم يسق الهدي إذا أحرم بحج أو قران أن يفسخه إلى عمرة، وكان شيخ الإسلام يرى أن الوجوب خاص بالصحابة، قال وأنا إلى قوله أميل مني إلى قول شيخنا، فصرح بمخالفته، فهو رحمه الله مستقل ، حر الفكر، لكن لا غرو أن يتابع شيخه رحمه الله فيما يراه حقًّا وصوابًا، ولا شك أنك إذا تأملت غالب اختيارات شيخ الإسلام وجدت أنها هي الصواب وهذا أمر يعرفه من تدبر كتبهما.(7/155)
الأمر الخامس: تقويم الكتب:
الكتب تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول : كتب خير.
القسم الثاني: كتب شر.
القسم الثالث: كتب لا خير ولا شر.
فاحرص أن تكون مكتبتك خالية من الكتب التي ليس فيها خير أو التي فيها شر وهناك كتب يقال : إنها كتب أدب، لكنها تقطع الوقت وتقتله في غير فائدة، وهناك كتب ضارة ذات أفكار معينة وذات منهج معين، فهذه أيضًا لا تدخل المكتبة سواء كان ذلك في المنهج أو كان ذلك في العقيدة، مثل كتب المبتدعة التي تضر في العقيدة، والكتب الثورية التي تضر في المنهج.
وعمومًا كل كتب تضر فلا تدخل مكتبتك؛ لأن الكتب غذاء للروح كالطعام والشراب للبدن، فإذا تغذيت بمثل هذه الكتب صار عليك ضرر عظيم واتجهت اتجاهًا مخالفًا لمنهج طالب العلم الصحيح.(7/156)
كتب مختارة لطالب العلم (1)
أولا: العقيدة:
1- كتاب (( ثلاثة الأصول )).
2- كتاب (( القواعد الأربع)).
3- كتاب (( كشف الشبهات )).
4- كتاب (( التوحيد )).
وهذه الكتب الأربعة لشيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى-:
5- كتاب (( العقيدة الواسطية )) وتتضمن توحيد الأسماء والصفات، وهي من أحسن ما ألف في هذا الباب وهي جديرة بالقراءة والمراجعة.
6- كتاب (( الحموية)).
7- كتاب (( التدمورية)) وهما رسالتان أوسع من (( الواسطية)). وهذه الكتب الثلاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -.
8- كتاب (( العقيدة الطحاوية )) للشيخ أبي جعفر بن محمد الطحاوي .
9- كتاب (( شرح العقيدة الحاوية )) لأبي الحسن علي بن أبي العز .
10- كتاب (( الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم - رحمه الله تعالى:-
11- كتاب (( الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية )) لمحمد بن أحمد السفاريني الحنبلي، وفيها بعض الإطلاقات التي تخالف مذهب السلف، كقوله:
وليس ربنا بجوهر ولا عرض ... ولا جسم تعالى في العلى
_________
(1) هذه الكتب سئل عنها فضيلة شيخنا - جزاه الله خيرًا - فجمعت هاهنا على وجه الاختصار.(7/157)
لذلك لا بد لطالب العلم أن يدرسها على شيخ ملم بالعقيدة السلفية لكي يبين ما فيها من الإطلاقات المخالفة لعقيدة السلف الصالح.(7/158)
ثانيا: الحديث:
1- كتاب (( فتح الباري شرح صحيح البخاري )) لابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى -:
2- كتاب (( سبل السلام شرح بلوغ المرام )) للصنعاني، وكتابه جامع بين الحديث والفقه.
3-كتاب (( نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار )) للشوكاني .
4- كتاب (( عمدة الأحكام )) للمقدسي، وهو كتاب مختصر ، وعامة أحاديثه في الصحيحين فلا يحتاج إلى البحث عن صحتها.
5- كتاب (( الأربعين النووية)) لأبي زكريا النووي - رحمه الله تعالى - وهذا كتاب طيب؛ لأن فيه آدابًا، ومنهجًا جيدًا، وقواعد مفيدة جدًّا مثل حديث « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » (1) فهذه قاعدة لو جعلتها هي الطريق الذي تمشي عليه لكانت كافية .
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1-201) ، والترمذي (2318)، وحسنه النووي في ( رياض الصالحين) ص 73، وصححه أحمد شاكر ( المسند) 1737).(7/159)
الفصل الثاني
فتاوى حول العلم
1- سئل فضيلته - حفظه الله -: هل يعذر طلبة العلم الذين درسوا العقيدة على غير مذهب السلف الصالح محتجين بأن العالم الفلاني أو الإمام الفلاني يعتقد هذه العقيدة ؟
فأجاب فضيلته بقوله : هذا لا يُعذر به صاحبه حيث بلغه الحق؛ لأن الواجب عليه أن يتبع الحق أينما كان، وأن يبحث حتى يتبين له.
والحق - ولله الحمد - ناصع، بيِّن لمن صلحت نيته، وحسن منهاجه، فإن الله - عز وجل يقول في كتابه: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (القمر الآية :17) . ولكن بعض الناس - كما ذكر الأخ السائل- يكون لهم متبوعون معظمون لا يتزحزحون عن آرائهم، مع أنه قد ينقدح في أذهانهم أن آراءهم ضعيفة أو باطلة، لكن التعصب والهوى يحملهم على موافقة متبوعيهم، وإن كان قد تبين لهم الهدى.
2- وسئل فضيلة الشيخ: عمن لا يحب دراسة العقيدة خصوصًا مسألة القدر خوفًا من الزلل؟(7/160)
فأجاب بقوله: هذه المسألة كغيرها من المسائل المهمة التي لا بد للإنسان منها في دينه ودنياه، لا بد أن يخوض غمارها وأن يستعين بالله - تبارك وتعالى على تحقيقها ومعرفتها حتى يتبين له الأمر؛ لأنه لا ينبغي أن يكون على شك في هذه الأمور المهمة. أما المسائل التي لا تخل بدينه لو أجلها ولا يخشى أن تكون سببا لانحرافه، فإنه لا بأس أن يؤجلها ما دام غيرها أهم منها، ومسائل القدر من الأمور المهمة التي يجب على العبد أن يحققها تماما حتى يصل فيها إلى اليقين.(7/161)
وهي في الحقيقة ليس فيها إشكال - ولله الحمد - والذي يثقل دروس العقيدة على بعض الناس هم أنهم مع الأسف الشديد يرجحون جانب ((كيف)) على جانب ((لِمَ)) والإنسان مسؤول عن عمله بأداتين من أدوات الاستفهام ((لِمَ)) و ((كيف)) فلِم عملت كذا ؟ هذا الإخلاص. كيف عملت كذا؟ هذا المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأكثر الناس الآن مشغولون بتحقيق جواب ((كيف)) غافلون عن تحقيق جواب ((لِم)) ولذلك تجدهم في جانب الإخلاص لا يتحرون كثيرًا ، وفي جانب المتابعة يحرصون على أدق الأمور، فالناس الآن مهتمون كثيرًا بهذا الجانب، غافلون عن الجانب الأهم وهو جانب العقيدة وجانب الإخلاص وجانب التوحيد .
لهذا تجد بعض الناس في مسائل الدين يسأل عن مسألة يسيرة جدًّا جدًّا وقلبه منكبّ على الدنيا غافل عن الله مطلقًا في بيعه وشرائه، ومركوبه، ومسكنه، وملبسه ، فقد يكون بعض الناس الآن عابدًا للدنيا وهو لا يشعر، وقد يكون مشركًا بالله في الدنيا وهو لا يشعر، لأنه مع الأسف الشديد لا يهتم بجانب التوحيد وجانب العقيدة، وهذا ليس من العامة فقط ولكن من بعض طلاب العلم وهذا أمر له خطورته.(7/162)
كما أن التركيز على العقدية فقط بدون العمل الذي جعله الشارع كالحامي والسور لها خطأ أيضًا ؛ لأننا نسمع في الإذاعات ونقرأ في الصحف التركيز على أن الدين هو العقيدة السمحاء وما أشبه ذلك من العبارات، وفي الحقيقة أن هذا يُخشى أن يكون بابًا يلج منه مَن يلج في استحلال بعض المحرمات بحجة أن العقيدة سليمة، ولكن لا بد من ملاحظة الأمرين جميعًا ليستقيم الجواب على ((لم)) وعلى ((كيف)).
وخلاصة الجواب : أنه يجب على المرء دراسة علم التوحيد والعقيدة؛ ليكون على بصيرة في إلهه ومعبوده - جل وعلا - على بصيرة بأسماء الله، وصفاته، وأفعاله، على بصيرة في أحكامه الكونية، والشرعية، على بصيرة في حكمته، وأسرار شرعه وخلقه، حتى لا يضلّ بنفسه أو يضل غيره.(7/163)
وعلم التوحيد هو أشرف العلوم لشرف متعلقه ؛ ولهذا سماه أهل العلم ( الفقه الأكبر) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين » (1) . وأول ما يدخل في ذلك وأولاه علم التوحيد والعقيدة، لكن يجب على المرء أيضًا أن يتحرى كيف يأخذ هذا العلم ومن أيّ مصدر يتلقاه، فليأخذ من هذا العلم أولا ما صفا منه وسلم من الشبهات، ثم ينتقل ثانيا إلى النظر فيما أورد عليه من البدع والشبهات؛ ليقوم بردها وبيانها مما أخذ من قبل العقيدة الصافية، وليكن المصدر الذي يتلقاه منه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم كلام الصحابة - رضي الله عنهم - ثم ما قاله الأئمة بعدهم من التابعين وأتباعهم، ثم ما قاله العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم، وخصوصا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم عليهما وعلى سائر المسلمين وأئمتهم سابغ الرحمة والرضوان.
* * * 3- سئل فضيلة الشيخ : يتحرج بعض طلبة العلم الشرعي عند قصدهم العلم والشهادة فكيف يتخلص طالب العلم من هذا الحرج؟
فأجاب بقوله : يجاب على ذلك بأمور:
_________
(1) تقدم تخريجه ص 13(7/164)
أحدها: أن لا يقصدوا بذلك الشهادة لذاتها، بل يتخذون هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق؛ لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات، والناس غالبًا لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة وبذلك تكون النية سليمة.
الثاني: أن من أراد العلم قد لا يجده إلا في هذه الكليات فيدخل فيها بنية طلب العلم ولا يؤثر عليه ما يحصل له من الشهادة فيما بعد.
الثالث: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين حُسنى الدنيا، وحُسنى الآخرة فلا شيء عليه في ذلك؛ لأن الله يقول { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } (الطلاق الآيتان: 2 ، 3 ) وهذا ترغيب في التقوى بأمر دنيوي.
فإن قيل: من أراد بعمله الدنيا كيف يُقال بأنه مخلص ؟(7/165)
فالجواب: أنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقا فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم على عبادته بل قصد أمرًا ماديًّا من ثمرات العبادة، فليس كالمرائي الذي يتقرب إلى الناس بما يتقرب به إلى الله ويريد أن يمدحوه به، لكنه بإرادة هذا الأمر المادي نقص إخلاصه فصار معه نوع من الشرك وصارت منزلته دون منزلة من أراد الآخرة إرادة محضة.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه على أن بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية؛ فمثلا يقولون في الصلاة رياضة وإفادة للأعصاب، وفي الصيام فائدة لإزالة الفضلات وترتيب الوجبات، والمفروض ألا تجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل؛ لأن ذلك يؤدي إلى إضعاف الإخلاص والغفلة عن إرادة الآخرة، ولذلك بيَّن الله تعالى في كتابه حكمة الصوم - مثلا أنه سبب للتقوى، فالفوائد الدينية هي الأصل، والدنيوية ثانوية، وعندما نتكلم عند عامة الناس فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية، وعندما نتكلم عند ممن لا يقتنع إلا بشيء مادي فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ولكل مقام مقال.(7/166)
* * * 4- وسئل فضيلته - حفظه الله تعالى -: يختلف الكثير من طلبة العلم في معاملة أهل المعاصي، فما التوجيه الصحيح جزاكم الله خيرًا ؟
فأجاب - رعاه الله تعالى -: نقول: هذه المسألة وهي أن بعض طلبة العلم إذا رأوا المنحرف خُلقيًّا أو فكريًّا أو عمليًّا . يكرهونه ويتخذون من هذه الكراهة نُفورًا منه وبُعدًا عنه، ولا يحاولون أبدًا أن يصلحوا إلا من شاء الله من طلبة العلم الذين أنار الله قلوبهم ويرون أن هجره وكراهته والبعد عنه والتنفير منه يرون ذلك قربة. وهذا لا شك أنه خطأ وأن الواجب على طلبة العلم أن ينصحوا وينظروا كم من إنسان في غفلة فإذا نُصح استجاب.(7/167)
وما أشد تأثير جماعة أهل الدعوة الذين يسمون أنفسهم أهل الدعوة والتبليغ. ما أشد تأثيرهم على الناس . وكم من فاسق اهتدى فأطاع، وكم من كافر اهتدى فأسلم على أيديهم؛ لأنهم وسعوا الناس بحسن الأخلاق، فلذلك نحن نسأل الله أن يجعل إخواننا الذين أعطاهم العلم أن يطعمهم من أخلاق هؤلاء حتى ينفعوا الناس أكثر وإن كان يؤخذ على جماعة الدعوة والتبليغ ما يؤخذ لكنهم في حسن الخلق والتأثير يسبب أخلاقهم لا أحد ينكر فضلهم، وقد رأيت كتابًا للشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - وجهه إلى شخص كتب إليه ينتقد هؤلاء الجماعة، فقال في جملة رده:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ ... من اللوم أو سدّوا المكان الذي سّدوا
وحسن الخلق لا شك أنه له تأثيرًا عظيما في استجابة الناس للداعي.(7/168)
أما إذا رأوا الإنسان خشنًا فإنهم يسبونه ويذمونه على ما فيه من الأخلاق الشرعية، تجدهم مثلا يسبونه على لحيته، واللحية أخلاق شرعية، ويسبونه على تقصير الثوب، يسبونه على المشي حافيًا . لماذا؟ لأنه ليس حَسَن الأخلاق مع الناس. لا يدعو بالأخلاق إنما يدعو بالجفاء والغلظة، ويريد أن يصلح الناس كلهم في ساعة واحدة، هذا خطأ لا يمكن أن يصلح الناس في ساعة واحدة أبدًا . أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد بقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس؟ وفي النهاية أُخرِجَ من مكة حين تآمروا عليه { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } (الأنفال الآية : 30) يثبتوك يعني يحبسوك أو يقتلوك أو يخرجوك { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } . فلا يمكن أن تصلح الخلق بمجرد دعوة أو دعوتين لا سيما إذا لم تكن ذا قيمة بينهم لكن اصبر وأطل النَّفَس وادع بالحكمة وأحسن الخلق وسيتبين لك الأمر فيما بعد . ولا شك أن حسن المنطق له تأثير عظيم بالغ. ويُحكى أن رجلا من أهل الحسبة مر على فلاح يسني إبله وكان في أذان المغرب. وكان هذا الفلاح يغني ؛ لأن الإبل إذا سمعت(7/169)
الغناء تمشي كأنها مجنونة؛ لأنها تطرب فكان يغني غافلا ولا يسمع الأذان فتكلم عليه رجل الحسبة بكلام شديد. قال له - أي صاحب الإبل -: سوف أغني وأستمر في الغناء وإذا ما ذهبت فالعصا لمن عصا، - يقول هذا الكلام بسبب أنه جاءه بعنف - فذهب صاحب الحسبة إلى الشيخ القاضي وقال له: أنا ذهبت لفلان وسمعته يغني على إبله والمؤذن يؤذن المغرب ونصحته فلم يستجب. فلما كان من الغد ذهب الشيخ القاضي إلى مكان صاحب الإبل في الوقت نفسه فلما أذن جاء الفلاح وقال له: يا أخي أذن المؤذن فعليك أن تذهب وتصلي فإن الله يقول: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } (طه الآية :132) . فقال صاحب الإبل: جزاك الله خير، ووضع العصا التي يسوق بها الإبل وتوضأ ومشى معه، وماذا حصل؟ حصل المقصود، أما الأول لو تمادى معه لحصل الشر وترك الخير، ولكن الثاني أتاه بالتي هي أحسن فانقاد تمامًا، فلذلك أقول: إن بعض طلبة العلم يكون عندهم غيرة لكن لا يحسنون التصرف، والواجب أن الإنسان يكون في تصرفاته على علم وبصيرة وعلى قدر كبير من الحكمة نسأل الله للجميع التوفيق،(7/170)
والحمد الله رب العالمين.
* * *
5- وسئل فضيلته: هناك بعض طلبة العلم يحرص على حضور دروس طلبة العلم دون أن يلقي اهتمامًا بدروس العلماء الذين جمعوا ما لم يجمعه طلبة العلم . فما توجيه فضيلتكم - حفظكم الله تعالى -؟
فأجاب فضيلته بقوله : الذي أراه أن الإنسان ينبغي أن يطلب العلم على عالم ناضج؛ لأن بعض طلبة العلم يتصدر للتدريس فيحقق المسألة من المسائل سواء حديثية أو فقهية أو عقائدية يحققها تمامًا ويراجع عليها، فإذا سمعه الناشيء من طلبة العلم ظن أنه من أكابر العلماء، لكن لو خرج قيد أنملة عن هذا الموضوع الذي حققه ونقحه وراجع عليه وجدت أنه ليس عنده علم، لذلك يجب على طالب العلم المبتدئ أن يتلقى العلم على يد العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم ودينهم.
6- فضيلة الشيخ: يلاحظ ضعف الهمة والفتور في طلب العلم، فما الوسائل والطرق التي تدفع إلى علو الهمة والحرص على العلم؟
فأجاب - حفظه الله ورعاه - بقوله : ضعف الهمم في طلب العلم الشرعي من المصائب الكبيرة وهناك أمور لا بد منها:(7/171)
الأمر الأول: الإخلاص لله - عز وجل - في الطلب والإنسان إذا أخلص لله في الطلب وعرف أنه يُثاب على طلبه وسيكون في الدرجة الثالثة من درجات الأمة فإن همته تنشط { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (النساء الآية :69).
ثانيا: أن يُلازم زملاء يحثونه على العلم ويساعدونه على المناقشة والبحث ولا يمل من صحبتهم ما داموا يعينونه على العلم .
ثالثا: أن يصبر نفسه بمعنى يحبسها لو أرادت أن تتفلت، قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (الكهف الآية : 28) فليصبر؛ وإذا صبر وتعود الطلبة صار الطلب سجية له وصار اليوم الذي يفقد فيه الطلب يومًا طويلا عليه، أما إذا أعطى نفسه العنان فلا، فالنفس أمارة بالسوء والشيطان يحثه على الكسل وعدم التعلم.(7/172)
7- سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: ما نصيحة فضيلتكم لمن يجعل الولاء والبراء لإخوانه في موافقتهم له في مسألة أو عدم موافقتهم له، وكذلك ما يحصل من الحسد والبغض من طلاب العلم ؟(7/173)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا صحيح، فإن بعض الناس يجعلون الولاء والبراء مقيد بالموافقة له أو عدم الموافقة، فتجد الشخص يتولى الشخص؛ لأنه وافقه فيها، يتبرأ منه لأنه خالفه فيها، وأذكر لكم قصة مرت علينا في منى بين طائفتين من الإفريقيين كل واحد يلعن الثاني ويكفره، فجيء بهم إلينا، وهم يتنازعون قلنا: ما الذي حدث؟ قال الأول: هذا الرجل إذا قام إلى الصلاة يضع يده اليمنى على اليسرى فوق الصدر وهذا كفر بالسنة ، وقال الثاني: هذا إذا قام للصلاة يرسل يديه على الفخذين دون أن يجعل اليمنى على اليسرى وهذا كفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من رغب عن سنتي فليس مني » (1) وعلى هذا يكفر بعضهم بعضًا !! مع العلم أن هذه المسألة مسألة سنة، وليست واجبة ولا ركن ولا شرط للصحة وبعد جهد وعناء كبير اقتنعوا أمامنا والله أعلم بما وراءنا ، والآن تجد بعض الإخوان مع الأسف يرد على إخوانه أكثر مما يرد على الملحدين الذين كفرهم صريح، يعاديهم أكثر مما يعادي هؤلاء ويشهر بهم في كلام لا أصل له، ولا حقيقة له، لكن حسد وبغي ، ولا شك أن الحسد من أخلاق اليهود أخبث عباد الله.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب : الترغيب في النكاح، ومسلم، كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه.(7/174)
ثم إن الحسد لا يستفيد منه الحاسد إطلاقا، بل لا يزيده إلا غمًّا وحسرة، ابغ الخير للغير يحصل لك الخير، واعلم أن فضل الله يؤتيه من يشاء، لو حسدت فإنك لن تمنع فضل الله، ربما تمنع فضل الله عليك بمحبتك زوال فضل الله على غيرك وكراهتك نعمة الله على غيرك، لذلك الحاسد في ظروف طالب العلم مشكوك في نيته وإخلاصه في طلب العلم؛ لأنه إنما حسد لكون الثاني صار له جاه عند الناس وله كلمة والتف الناس حوله فحسده، لكونه يريد الدنيا، أما لو كان يريد الآخرة حقًّا، ويريد العلم حقًّا، لسأل عن هذا الرجل الذي التف الناس حوله وأخذوا بقوله. تسأل عن علمه لتكون مثله أيضًا ؛ تجيء أنت لتستفيد منه؛ أما أن تحسده وتشوه سمعته، وتذكر فيه من العيوب ما ليس فيه فهذا لا شك أنه بغي وعدوان وخصلة ذميمة.
* * * 8- سئل فضيلة الشيخ : ذكر الخطيب البغدادي جانبًا من جوانب تعلم العلم وهو لزوم أحد العلماء أو أحد المشائخ فما رأي فضيلتكم ؟(7/175)
فأجاب فضيلته : بقوله : هذا جيد كون الإنسان يركز على شيخ من المشايخ يجعله هو الأصل لا سيما المبتدئ الصغير، المبتدئ الصغير إذا طلب العلم على عدة أناس تذبذب؛ لأن الناس ليسوا على رأي واحد خصوصًا في عصرنا الآن، كان فيما سبق أي قبل مدة كان الناس هنا في المملكة لا يخرجون أبدًا عن الإقناع والمنتهى ؛ فتجد فتاواهم واحدة، وشروحهم واحدة، لا يختلف واحد عن الآخر إلا في الإلقاء وحسن الأسلوب، لكن الآن لما كان كل واحد حافظًا حديثًا أو حديثين قال: أنا الإمام المقتدى به والإمام أحمد رجل ونحن رجال، فصارت المسألة فوضى، صار كل إنسان يفتي أحيانًا تأتي الفتاوى تُبكي وتُضحك ، وكنت أهم أن أدون مثل هذه الفتاوى لكن كنت أخشى أن أكون ممن تتبع عورات إخوانه فتركته تحاشيًا مني وإلا نقلنا أشياء بعيدة عن الصواب بُعد الثريا عن الثرى.(7/176)
فأقول: ملازمة عالم واحد مهمة جدًّا ما دام الطالب في أول الطريق لكي لا يتذبذب، ولهذا كان مشايخنا ينهوننا عن مطالعة المغني وشرح المهذب والكتب التي فيها أقوال متعددة عندما كنا في زمن الطلبة، وذكر لنا بعض مشايخنا أن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بابطين رحمه الله - وهو من أكبر مشايخ نجد مفتي الديار النجدية ذكروا أنه كان مُكبًا على الروض المربع لا يطالع إلا إياه ويكرره، كل ما خلص منه كرره لكن يأخذه بالمفهوم والمنطوق والإشارة والعبارة فحصل خير كثير.
أما إذا توسعت مدارك الإنسان فهذا ينبغي له أن ينظر أقوال العلماء يستفيد منها فائدة علمية وفائدة تطبيقية، لكن في أول الطلب أنا أنصح الطالب أن يركز على شيخ مُعين لا يتعداه.
9- وسئل فضيلة الشيخ : إذا أراد طالب العلم أن ينقل الأحاديث التي زادت من بلوغ المرام على المحرر لابن عبد الهادي فهل هذه الطريقة مفيدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شيء في ذلك، هذه طريقة خاصة لكنه على سبيل العموم كونه يدرس الكتب المشهورة المتداولة بين الناس أحسن.
* * * 10- سئل فضيلة الشيخ : عن كتاب المحرر لابن عبد الهادي أليس خيرًا من بلوغ المرام؟(7/177)
فأجاب فضيلته بقوله: بلوغ المرام بين الناس، وصاحبه محقق - رحمه الله - والشيء المتداول ينبغي للإنسان أن يعتني به أكثر من غيره؛ لأن الشيء المهجور لا ينتفع به الناس كثيرًا، والبلوغ كما هو معلوم خُدِمَ وقرأ به علماؤنا ومشايخنا.
* * * 11- وسئل -حفظه الله تعالى - ذُكر عن ابن الوزير - رحمه الله - أن الصحابة أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم - لم يحفظوا القرآن الكريم ، وكذلك ما ورد عن الأئمة كعثمان بن أبي شيبة على قدره أنه لم يحفظ القرآن ، الأشياء التي تدعو بعض طلبة العلم لترك حفظ كتاب الله ، هل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته : بقوله : أنا أستبعد أن أبا بكر، وعمر وعثمان ، وعليًّا وهؤلاء الأجلة من الصحابة لم يحفظوا كتاب الله - هذا بعيد - وتعلم أن القرآن جمع على عهد أبي بكر، وعلى عهد عثمان كيف يجمعون ولا يحفظون؟! بعيد جدًّا ولكن حتى لو رُوي عنه فيجب أن ننظر في الإسناد أولا ثم إذا صح الإسناد فنقول: إن الذي تحدث عنهم وقال إنهم لم يحفظوا القرآن كله تحدث عما علمَ ، ويبعده جدًّا أن مثل هؤلاء لا يحفظون القرآن، ولا ينبغي أن يثني الرجل عن حفظ القرآن مثل هذه الروايات.
* * *(7/178)
12 - وسئل فضيلة الشيخ: أرجو من فضيلتكم - حفظكم الله تعالى - توضيح المنهج الصحيح في طلب العلم في مختلف العلوم الشرعية جزاكم الله خيرًا وغفر لكم؟
فأجاب بقوله: العلوم الشرعية على أصناف منها:
1- علم التفسير: فينبغي لطالب العلم أن يقرن التفسير بحفظ كتاب الله- عز وجل - اقتداء بالصحابة - رضي الله عنهم- حيث لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، ولأجل أن يرتبط معنى القرآن الكريم بحفظ ألفاظه فيكون الإنسان ممن تلاه حق تلاوته لا سيما إذا طبقه.
2- علم السنة: فيبدأ بما هو أصح، وأصح ما في السنة ما اتفق عليه البخاري ومسلم .
لكن طلب السنة ينقسم إلى قسمين:
قسم يريد الإنسان معرفة الأحكام الشرعية سواء في علم العقائد والتوحيد أو في علم الأحكام العملية، وهذا ينبغي أن يُركز على الكتب المؤلفة في هذا فيحفظها كبلوغ المرام، وعمدة الأحكام ، وكتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب كتاب التوحيد ، وما أشبه ذلك.
وتبقى الأمهات للمراجعة والقراءة، فهناك حفظ وهناك قراءة يقرأ الأمهات ويكثر من النظر فيها ؛ لأن في ذلك فائدتين:
الأولى: الرجوع إلى الأصول.(7/179)
الثانية: تكرار أسماء الرجال على ذهنه، فإنه إذا تكررت أسماء الرجاء لا يكاد يمر به رجل مثلا من رجال البخاري في أي سند كان إلا عرف أنه من رجال البخاري فيستفيد هذه الفائدة الحديثية.
3- علم العقائد: كتبه كثيرة وأرى أن قراءتها في هذا الوقت تستغرق وقتًا كثيرًا والفائدة موجودة في الزبد التي كتبها مثل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله والعلامة ابن القيم، وعلماء نجد مثل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ومن بعده من العلماء.
4- علم الفقه: ولا شك أن الإنسان ينبغي له أن يُركز على مذهب معين يحفظه ويحفظ أصوله وقواعده، لكن لا يعني ذلك أن نلتزم التزامًا بما قاله الإمام في هذا المذهب كما يلتزم بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، لكنه يبني الفقه على هذا ويأخذ من المذاهب الأخرى ما قام الدليل على صحته، كما هي طريقة الأئمة من أتباع المذاهب كشيخ الإسلام ابن تيمية ، والنووي وغيرهما حتى يكون قد بنى على أصل؛ لأني أرى أن الذين أخذوا بالحديث دون أن يرجعوا إلى ما كتبه العلماء في الأحكام الشرعية، أرى عندهم شطحات كثيرة ، وإن كانوا أقوياء في الحديث وفي فهمه لكن يكون عندهم شطحات كثيرة؛ لأنهم بعيدون عما يتكلم به الفقهاء.(7/180)
فتجد عندهم من المسائل الغريبة ما تكاد تجزم بأنها مخالفة للإجماع أو يغلب على ظنك أنها مخالفة للإجماع، لهذا ينبغي للإنسان أن يربط فقهه بما كتبه الفقهاء- رحمهم الله - ولا يعني ذلك أن يجعل الإمام، إمام هذا المذهب كالرسول - عليه الصلاة والسلام - يأخذ بأقواله وأفعاله على وجه الالتزام، بل يستدل بها ويجعل هذا قاعدة ولا حرج بل يجب إذا رأى القول الصحيح في مذهب آخر أن يرجع إليه ، والغالب في مذهب الإمام أحمد أنه لا تكاد ترى مذهبًا من المذاهب إلا وهو قول للإمام أحمد، راجع كتب الروايتين في المذهب تجد أن الإمام أحمد - رحمه الله - لا يكاد يكون مذهب من المذاهب إلا وله قول يوافقه؛ وذلك لأنه - رحمه الله - واسع الاطلاع ورجّاع للحق أينما كان، فلذلك أرى أن الإنسان يركز على مذهب من المذاهب التي يختارها، وأحسن المذاهب فيما نعلم من حيث اتباع السنة مذهب الإمام أحمد رحمه الله - وإن كان غيره قد يكون أقرب إلى السنة من غيره، على إنه كما أشرت قبل قليل؛ لا تكاد تجد مذهبًا من المذاهب إلا والإمام أحمد يوافقه - رحمه الله.(7/181)
وأهم شيء أيضًا في منهج طالب العلم بعد النظر والقراءة، أن يكون فقيهًا، بمعنى أنه يعرف حكم الشريعة وآثارها ومغزاها وأن يطبق ما علمه منها تطبيقًا حقيقيًّا بقدر ما يستطيع { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (البقرة الآية : 286) لكن يحرص على التطبيق بقدر ما يستطيع، وأنا أكرر عليكم دائمًا هذه النقطة ((التطبيق)) سواء في العبادات أو الأخلاق أو في المعاملات. طبِّق حتى يُعرف أنك طالب علم عامل بما علمت.
ونضرب مثلا إذا مَرّ أحدكم بأخيه هل يشرع له أن يسلم عليه؟
الجواب : نعم يشرع ولكن أرى الكثير يمر بإخوانه وكأنما مر بعمود لا يسلم عليه، وهذا خطأ عظيم حيث يمكن أن ننقد العامة إذا فعلوا مثل هذا الفعل، فكيف لا يُنتقد الطالب ؟ وما الذي يضرك إذا قلت السلام عليكم ؟ وكم يأتيك ؟ عشر حسنات - تساوي الدنيا كلها عشر حسنات لو قيل للناس: كل من مر بأخيه وسلم عليه سيدفع له ريال، لوجدت الناس في الأسواق يدورون لكي يسلموا عليه؛ لأن سيحصل على ريال لكن عشر حسنات نفرط فيها. والله المستعان.(7/182)
وفائدة أخرى: المحبة والألفة بين الناس، فالمحبة والألفة جاءت نصوص كثيرة بإثباتها وتمكينها وترسيخها، والنهي عما يضادها والمسائل التي تضادها كثيرة، كبيع المسلم على بيع أخيه، والخِطبة على خِطبة المسلم، وما أشبه ذلك، كل هذا دفع للعداوة والبغضاء وجلب للألفة والمحبة، وفيها أيضًا تحقيق الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا » (1) ومعلوم أن كل واحد منا يحب أن يصل إلى درجة يتحقق فيها الإيمان له؛ لأن أعمالنا البدنية قليلة وضعيفة.
_________
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.(7/183)
الصلاة يمضي أكثرها ونحن ندبر شئونًا أخرى، الصيام كذلك، الصدقة الله أعلم بها، فأعمالنا وإن فعلناها فهي هزيلة نحتاج إلى تقوية الإيمان، السلام مما يقوي الإيمان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: « لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أخبركم بشيء إذ فعلتموه تحاببتم - يعني حصل لكم الإيمان - أفشوا السلام بينكم » (1) هذه نقطة واحدة مما علمناه ولكننا أخللنا به كثيرًا ؛ لذلك أقول: أسأل الله أن يعينني وإياكم على تطبيق ما علمنا ؛ لأننا نعلم كثيرا ولكن لا نعمل إلا قليلا، فعليكم يا إخواني بالعلم وعليكم بالعمل وعليكم بالتطبيق، فالعلم حجة عليكم، العلم إذا غذيتموه بالعمل ازداد { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (محمد الآية :17) . إذا غذيتموه بالعمل ازددتم نورًا وبرهانًا { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } (الأنفال: الآية 29) { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا
_________
(1) تقدم تخريجه ص 113(7/184)
تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (الحديد الآية :28) والآيات في هذا المعنى كثيرة، فعليكم بالتطبيق في العبادات وفي الأخلاق وفي المعاملات حتى تكونوا طلاب علم حقيقة، أسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
* * * 13- سئل فضيلة الشيخ : متى يكون طالب العلم متبعًا لمذهب الإمام أحمد ؟
فأجاب فضيلته: بقوله : مذهب الإمام أحمد وغيره من الأئمة قسمان :
* مذهب شخصي.
* ومذهب اصطلاحي.
فأنت تكون متبعًا له شخصيًّا إذا أخذت برواية من الروايات عنه، ولكنك لست عليه إذا كان يخالف المصطلح عليه آخذًا بالمذهب المصطلح ، والمذهب المصطلح عليه، أحيانًا ينص الإمام أحمد على أنه رجع عنه وعلى أنه لا يقول به ، لكن لكل أناس من أصحاب المذاهب طريقة يمشون عليها.
* * * 14- وسئل الشيخ : ما توجيه فضيلتكم - حفظكم الله تعالى - لطالب العلم المبتدئ هل يقلد إمامًا من أئمة المذاهب أم يخرج عنه ؟
فأجاب قائلا: قال الله -عز وجل-: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ( الأنبياء الآية : 7)(7/185)
فإذا كان هذا طالبًا ناشئًا لا يعرف كيف يُخرج الأدلة فليس له إلا التقليد سواء قلد إمامًا سابقًا ميتًا أو إمامًا حاضرًا - عالم من العلماء - وسأله، هذا هو الأحسن، لكن إذا تبين له أن هذا القول مُخالف للحديث الصحيح وجب عليه أن يأخذ بالحديث الصحيح.
15- سئل فضيلة الشيخ - رعاه الله -: ما رأي فضيلتكم في بعض طلبة العلم الذين قد جمعوا أسس العلم في العقيدة ومعرفة الأحكام الفقهية أخذًا من العلماء، فهل يقومون بالدعوة في المساجد أم ينتظرون حتى يكون عندهم إذن رسمي من الجهات المختصة، وجزاكم الله خيرًا؟
فأجاب فضيلته: بقوله : الذي أرى ألا يتكلموا فيما يُمنع فيه الكلام إلا بإذن لأن طاعة ولي الأمر في تنظيم الأمور واجبة، وتعلم أنه لو أذن للصغار الذين ابتدأوا طلب العلم بالكلام لتكلموا بما لا يعلمون، وحصل بذلك مفسدة واضطراب للناس، ربما في العقائد فضلا عن الأعمال البدنية.(7/186)
فمنع الناس من الكلام إلا بإذن وبطاقة ليس منعًا تامًّا حتى نقول لا طاعة لولاة الأمر في ذلك ؛ لأن فيه منعًا لتبليغ الشريعة لكنه منعٌ مقيد بما يضبطه بحيث يُعرف من هو أهل لذلك أو لا، وكما تعلمون الآن كل من تقدم إلى المسئولين لهذا الأمر وعلموا أنه أهل لذلك أعطوه إذنًا ، لم نعلم بأنهم قالوا لأحد تقدم - وهو أهل لنشر العلم- لا تفعل، والأمر - والحمد لله - أمر يطمئن إليه الإنسان، ولا يجوز لأحد أن يتكلم في موضع يُمنع فيه من الكلام من جهة ولي الأمر، إلا بإذن يعني مثلا في المساجد أو في الأماكن العامة، لكن بينه وبين إخوانه، في غرفته، في حجرته فهذا لا بأس به ولا يمنع أحد منه.
* * *
16 - سئل فضيلة الشيخ : - غفر الله له -: كثرت الأسئلة عن كيفية الطلب وبأي شيء يبدأ من أراد أن يطلب العلم وبأي المتون يبدأ حفظًا ، فما توجيهكم لهؤلاء الطلبة، وجزاكم الله خيرًا؟
فأجاب فضيلته بقوله : أولا وقبل أن أذكر التوجيه لهؤلاء الطلبة أوجه الطلبة أن يتلقوا العلم عن عالم؛ لأن تلقي العلم عن العالم فيه فائدتان عظيمتان:
الأولى: أنه أقرب تناولا؛ لأن العالم عنده اطلاع وعنده معرفة ويعطيك العلم ناضجًا سهلا .(7/187)
الثانية: أن الطلب على عالم يكون أقرب إلى الصواب بمعنى أن الذي يطلب العلم على غير عالم يكون له شطحات وآراء شاذة بعيدة عن الصواب؛ وذلك لأنه لم يقرأ على عالم راسخ في علمه حتى يربيه على طريقته التي يختارها.
فالذي أرى أن يحرص الإنسان على أن يكون له شيخ يلازمه لطلب العلم؛ لأنه إذا كان له شيخ فإنه سوف يوجهه التوجيه الذي يرى أنه مناسب له.
أما بالنسبة للجواب على سبيل العموم فإننا نقول:
أولا: الأولى أن يحفظ الإنسان كتاب الله تعالى قبل كل شيء ؛ لأن هذا هو دأب الصحابة - رضي الله عنه - كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى تعلموها وما فيها من العلم والعمل، وكلام الله أشرف الكلام على الإطلاق.
ثانيا: يأخذ من متون الأحاديث المختصرة ما يكون ذخرًا له في الاستدلال بالنسبة مثل: عمدة الأحكام، بلوغ المرام، الأربعين النووية وما أشبه ذلك.
ثالثا: يحفظ من متون الفقه ما يناسبه ومن أحسن المتون التي نعلمها (( زاد المستقنع في اختصار المقنع )) لأن هذا الكتاب قد خدم من قبل شارحه منصور بن يونس البهوتي ومن قبل من بعده من خدموا هذا الشرح والمتن بالحواشي الكثيرة.(7/188)
رابعًا: النحو وما أدراك ما النحو الذي لا يعرفه من الطلبة إلا القليل حتى إنك لترى الرجل قد تخرج من الكلية وهو لا يعرف عن النحو شيئًا يتمثل بقول الشاعر:
لا بارك الله في النحو ولا أهله ... إذا كان منسوبا إلى نفطويه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وجعل الباقي صراخًا عليه
لماذا قال الشاعر هذا الكلام ؟ الجواب: لأنه عجز عن النحو، ولكن أقول : إن النحو بابه من حديد ودهاليزه قصب يعني أنه شديد وصعب عند أول الدخول فيه، ولكنه إذا انفتح الباب لطالبه سهل عليه الباقي بكل يسر وصار سهلا عليه، حتى إن بعض طلبة العلم الذين بدءوا في النحو صاروا يعشقونه فإذا خاطبتهم بخطاب عادي جعل يعربه ليتمرن على الإعراب، ومن أحسن متون النحو الآجرومية، كتاب مختصر مركز غاية التركيز ولهذا أنصح من يبدأ أن يبدأ به فهذه الأصول التي ينبغي أن يبني عليها طالب العلم.
خامسًا: أما ما يتعلق بعلم التوحيد فالكتب في هذا كثيرة منها: (( كتاب التوحيد)) لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ومنها: (( العقيدة الواسطية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهي كثيرة معروفة ولله الحمد.(7/189)
والنصيحة العامة لطالب العلم أن يكون عليه آثار علمه من تقوى الله - عز وجل والقيام بطاعته ، وحسن الخلق، والإحسان إلى الخلق بالتعليم والتوجيه والحرص على نشر العلم بجميع الوسائل سواء كان ذلك عن طريق الصحف أو المجلات أو الكتب أو الرسائل أو النشرات وغير ذلك من الوسائل.
وأنصح طالب العلم أيضًا ألا يتسرع في الحكم على الشيء ؛ لأن بعض طلبة العلم المبتدئين تجده يتسرع في الإفتاء وفي الأحكام وربما يخطِّىء العلماء الكبار وهو دونهم بكثير، حتى إن بعض الناس يقول : ناظرت شخصًا من طلبة العلم المبتدئين فقلت له: إن هذا قول الإمام أحمد بن حنبل . فقال: وما الإمام أحمد بن حنبل؛ الإمام أحمد بن حنبل رجل ونحن رجال، سبحان الله !! صحيح أن الإمام أحمد رجل وأنت رجل، فأنتما مستويان في الذكورة، أما في العلم فبينكما فرق عظيم ، وليس كل رجل رجلا بالنسبة للعلم.
وأقول : إن على طالب العلم أن يكون متأدبًا بالتواضع وعدم الإعجاب بالنفس وأن يعرف قدر نفسه.(7/190)
ومن المهم لطالب العلم المبتدىء : ألا يكون كثير المراجعة لأقوال العلماء؛ لأنك إذا أكثرت مراجعتك لأقوال العلماء وجعلت تطالع المغني في الفقه لابن قدامة، والمجموع للنووي والكتب الكبيرة التي تذكر الخلاف وتناقشه فإنك تضيع.
ابدأ أولا كما قلنا بالمتون المختصرة شيئًا حتى تصل إلى الغاية، وأما أن تريد أن تصعد الشجرة من فروعها فهذا خطأ.
* * * 17- سئل فضيلة الشيخ: - حفظه الله تعالى-: ما طريقة طلب العلم باختصار جزاكم الله خيرًا ؟
فأجاب فضيلته: بقوله : طريقة طلب العلم باختصار في نقاط :
1- احرص على حفظ كتاب الله تعالى واجعل لك كل يوم شيئا معينًا تحافظ على قراءته بتدبر وتفهم، وإذا عنت لك فائدة أثناء القراءة فقيدها.
2- احرص على حفظ ما تيسر من صحيح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك حفظ عمدة الأحكام.
3- احرص على التركيز والثبات بحيث لا تأخذ العلم نتفًا من هذا شيئًا ومن هذا شيئًا؛ لأن هذا يضيع وقتك ويشتت ذهنك.
4- ابدأ بصغار الكتب وتأملها جيدًا ثم انتقل إلى ما فوقها، حتى تحصل على العلم شيئًا فشيئًا على وجه يرسخ في قلبك وتطمئن إليه نفسك.(7/191)
5- احرص على معرفة أصول المسائل وقواعدها وقيِّد كل شيء يمر بك من هذا القبيل فقد قيل: من حُرم الأصول حُرم الوصول.
6- ناقش المسائل مع شيخك، أو مع من تثق به علمًا ودينًا من أقرانك، ولو بأن تقدر في ذهنك أن أحدًا يناقشك فيها إذا لم تمكن المناقشة مع من سمينا.
* * * 18- وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى - : عن حكم تعلم اللغة الإنجليزية في الوقت الحاضر؟
فأجاب فضيلته: بقوله : تعلمها وسيلة، فإذا كنت محتاجًا إليها كوسيلة في الدعوة إلى الله فقد يكون تعلمها واجبًا ، وإن لم تكن محتاجًا إليها فلا تشغل وقتك بها واشتغل بما هو أهم وأنفع، والناس يختلفون في حاجتهم إلى تعلم اللغة الإنجليزية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود (1) فتعلم اللغة الإنجليزية وسيلة من الوسائل إن احتجت إليها تعلمتها وإن لم تحتج إليها فلا تضع وقتك فيها .
* * * 19- سئل -رعاه الله بمنه وكرمه - عن حكم مشاهدة الأفلام التعليمية التي قد تكون فيها نساء وخصوصًا أفلام تعلم اللغة الإنجليزية ؟
_________
(1) ونصه : عن خارجة - يعني ابن زيد بن ثابت :- قال : قال زيد بن ثابت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلمت له كتاب يهود، وقال: (( إني والله ما آمن يهود على كتابي)) فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذفته، فكنت أكتب له إذا كتب وأقرأ له إذا كُتب إليه)) أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب: رواية حديث أهل الكتاب، والإمام أحمد جـ 5 ص 186، والحاكم في (( المستدرك)) جـ 1 ص 75، وقال: (( حديث صحيح)) ووافقه الذهبي. والحديث علقه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب: ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد بقوله: (( وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه)). وانظر: الإصابة جـ 1 ص 543.(7/192)
فأجاب قائلا : أنا أرى أن مشاهدة الأفلام التعليمية جائزة ولا بأس بها؛ لأنها مشاهدة لأمر يكون خيرًا ، وإذا كان الذي يظهر من النساء والمشاهدون رجال فإن حصل تمتع بالنظر إليها ، فهذا محرم، وأما إذا لم يكن ذلك فهذا محل توقف عندي، وعلى كل حال فإنني أكره ذلك؛ لأنه يُخشى على الإنسان من الفتنة إذا شاهد ذلك، وبالإمكان إذا كان الذي يتكلم في هذه الحلقة امرأة أن تضع على الشاشة غطاء حتى لا تظهر أمام الطلبة، هذا إذا اضطررنا إلى الاستماع للمرأة بحيث لا يوجد لهذا الموضوع رجل، فإن كان يوجد رجل فلا يعدل عنه إلى النساء إذا كان المتعلمون رجالا والعكس بالعكس.
20- وسئل فضيلته : كثر عند بعض الشباب الصالح القول بعدم التقليد مستندين إلى بعض أقوال ابن القيم عليه رحمة الله، فما قولكم ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الحقيقة إنني أؤيد هذا، أن الإنسان لا يركن إلى التقليد؛ لأن المقلد قد يخطىء، ولكني مع ذلك لا أرى أن نبتعد عن أقوال أهل العلم السابقين حتى لا نتشتت ونأخذ من كل مذهب ؛ لأننا وجدنا أن الإخوة الذين يُنكرون التقليد وجدناهم أحيانًا يضيعون حتى يقولوا بما لم يسبقهم إليه أحد.(7/193)
ولكن إذا دعت الضرورة إلى التقليد فإنه لا بد منه ؛ لقول الله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (الأنبياء الآية : 7) فأوجب - سبحانه سؤال أهل الذكر إذا كنا لا نعلم، وسؤالهم يتضمن اعتماد قولهم وإلا لم يكن لسؤالهم فائدة.
فالتقليد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- بمنزلة الميتة إن اضطررت إليها فكلها ، وإن استغنيت عنها فهي حرام عليك، فمتى نزل بالإنسان نازلة ولا يتمكن من مطالعتها في الكتب التي تسوق الأدلة فلا حرج عليه حينئذ أن يقلد، ولكنه يقلد من يراه أقرب إلى الحق في علمه وأمانته، وأما ما دام عنده قدرة على استنباط الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقلد.
* * * 21- سئل فضيلة الشيخ: إذا كانت الأمة أحوج إلى العلوم المادية كالطب والهندسة وغيرها، فهل الأفضل للإنسان أن يتخصص في العلوم المادية أم العلوم الشرعية ؟(7/194)
فأجاب بقوله: لا شك أن الأصل هو العلوم الشرعية ولا يمكن لإنسان أن يعبد الله حق عبادته إلا بالعلم الشرعي كما قال الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } (يوسف الآية : 108) فلا بد من العلم الشرعي الذي تقوم به حياة المرء في الدنيا والآخرة، ولا يمكن لأي دعوة أن تقوم إلا وهي مبنية على العلم، وبهذه المناسبة أود أن أحث إخواني الدعاة إلى الله أن يتعلموا قبل أن يدعوا وليس معنى ذلك أن يتبحروا في العلم لكن ألا يتكلموا بشيء إلا وقد بنوه على العلم؛ لأنهم إذا تكلموا بما لا يعلمون كانوا داخلين تحت قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (الأعراف الآية : 33)
والعلوم الشرعية تنقسم إلى قسمين:
قسم لا بد للإنسان من تعلُّمه وهو ما يحتاجه في أمور دينه ودنياه.(7/195)
وقسم آخر وهو فرض كفاية، فإنه هنا يمكن الموازنة بينه وبين ما تحتاجه الأمة من العلوم الأخرى التي ليست من العلوم الشرعية.
وكذلك العلوم الأخرى التي ليست من العلوم الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم علوم ضارة، فيحرم تعلمها ولا يجوز للإنسان أن يشتغل بهذه العلوم مهما تكن نتيجتها.
2- قسم علوم نافعة، فإنه يتعلم منها ما فيه النفع.
3- وقسم العلوم التي جهلها لا يضر والعلم بها لا ينفع وهذه لا ينبغي للطالب أن يقضي وقته في طلبها.
* * * 22- سئل فضيلة الشيخ: نلاحظ أن أكثر الشباب يهتم بقراءة الكتب الثقافية العامة متأثرًا بها وغير مهتم بكتب الأصول فما نصيحتكم وفقكم الله ؟
فأجاب قائلا : نصيحتي لنفسي أولا لإخواننا طلبة العلم أن يعتنوا بكتب أهل العلم من السلف؛ لأن كتب السلف فيها من الخير الكثير والعلم الكثير وفيها من البركة ما هو معلوم.
* * * 23- وسئل فضيلته : نرى كثيرًا من الناس يعلم بعض الأحكام الشرعية كتحريم حلق اللحية وشرب الدخان ومع ذلك لا يعمل بعلمه، فما أسباب ذلك ؟ وكيف تُعالج هذه الظاهرة الخطيرة ؟(7/196)
فأجاب بقوله: أسباب ذلك هو: اتباع الهوى، وكون الإنسان ليس عنده من الوازع الديني ما يحمله على تقوى الله - عز وجل - في تجنب ما يراه حرامًا ، والإنسان إذا حاسب نفسه ورأى أنه راجع إلى ربه مهما طال فإنه قد يغلب هواه وقد يسيطر على نفسه.
ومن أسباب ذلك أيضًا: أن الشيطان يصغر مثل هذه المعاصي في قلب العبد، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك فقال: « إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مَثَل ذلك كمثل قوم نزلوا أرضًا فأتى هذا بعود وهذا بعود وهذا بعود ثم إذا جمعوا حطبًا كثيرًا وأضرموا نارًا كثيرًا » (1) فهكذا المعاصي المحقرات التي يراها الإنسان حقيرة لا تزال به حتى تكون من كبائر الذنوب.
ولهذا قال أهل العلم: إن الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر ، وإن الاستغفار من الكبائر يكفرها ، لهذا نقول لهؤلاء: عليكم أن تحاسبوا أنفسكم.
ومن أسباب ذلك أيضا: قلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان كل واحد منا إذا رأى أحدًا على معصية أرشده وبين له أن ذلك مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العاقل سوف يعتبر ويتغير.
24- وسئل - غفر الله له -: ما الواجب على طالب العلم والعالم تجاه الدعوة إلى الله ؟
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ ص 402، والدارمي، كتاب الرقاق ، باب: في المحقرات، والهيثمي في (( مجمع الزوائد)) جـ 10 ص 190 ، وقال: (( رجاله رجال الصحيح )).(7/197)
فأجاب فضيلته بقوله: الدعوة إلى الله واجبة كما قال الله تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل، الآية :125 ) . وقد جعل الله الدعوة على ثلاث مراتب: الدعوة بالحكمة، وبالموعظة وبالمجادلة؛ لأن من تدعوه إما أن يكون لا علم عنده ولا منازعة عنده ولا مخالفة فهذا الذي يدعوه إما أن يكون لا علم عنده ولا منازعة عنده ولا مخالفة فهذا يُدعى بالحكمة، والحكمة هي بيان الحق، وحكمة الحق إن تيسر ذلك ؛ والموعظة تكون مع من عنده شيء من الإعراض وتوقف عن قبول الحق فإنك تعظه بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى وبهما جميعًا إن اقتضت الحال ذلك، والمجادلة تكون مع من عنده إعراض ومنازعة في الحق فإنك تجادله بالتي هي أحسن من القول أو بالتي هي أحسن بالإقناع.(7/198)
وانظر إلى مجادلة إبراهيم - عليه السلام- مع الذي حاجه في ربه، قال الله عن ذلك: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (البقرة الآية : 258) وكيف هذا ؟ يؤتى بالرجل مستحقًّا للقتل فلا يقتله وهذا بزعمه إحياؤه، ويؤتى بالرجل لا يستحق القتل فيقتله وهذا بزعمه إماتته، يمكن أن يُجَادل هذا بأن يقال: إنك إذا أوتيت بالرجل المستحق القتل فلم تقتله، إنك ما أحييته؛ لأن الحياة موجودة فيه من قبل، ولكنك أبقيت الحياة بعدم قتله، ويمكن تقول: إنه إذا قتل من لا يستحق القتل إنه لم يمته، وإنما فعل سببًا يكون به الموت ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الدجال أنه يؤتى إليه بشاب فيشهد هذا الشاب أنه الدجال الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيقتله الدجال، ويجعله قطعتين ويمشي بينهما تحقيقًا للتباين(7/199)
بينهما، ثم يناديه الدجال فيقوم متهلهلا يضحك يقول: أشهد إنك الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يأتي ليقتله فلا يقدر (1) فهذا دليل على أن الأمر كله بيد الله.
فيمكن أن يحاج هذا الرجل بمثل ذلك، ولكن إبراهيم عليه السلام، أراد أن يأتي بدليل آخر لا يحتاج إلى محاجة ولا مجادلة، قال إبراهيم : { فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } (البقرة الآية : 258) فنكص عن الجواب: { فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } (البقرة الآية : 258) .
فقوله تعالى: { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل الآية :125) أي الأحسن في الأسلوب والإقناع ، وبالتالي يجب علينا أن ندعو إلى الله ما دام الإنسان قادرًا على ذلك، ولكن الدعوة إلى الله فرض كفاية ، أي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإذا رأيت شخصًا منحرفًا وليس حولك من يدعوه صار الآن فرض عين عليك؛ لأن العلماء يقولون فرض الكفاية: إنه إذا لم يوجد سوى هذا الرجل تعين عليه.
* * *
25- سئل فضيلة الشيخ: ما فائدة تعلم طلاب العلم فرق المعتزلة والجهمية والخوارج مع عدم وجودها في هذا العصر؟
_________
(1) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب: ذكر الدجال وصفة ما معه.(7/200)
فأجاب فضيلته بقوله: تعلُّم فِرَق المبتدعة في هذا الزمان فيه فائدة وهي: أن نعرف مآخذ هذه الفرق لنرد عليهم إذا وُجدوا، وهم موجودون فعلا، وقول السائل: إنه لا وجود لهم الآن مبني على علمه هو، ولكن المعلوم عندنا وعند غيرنا ممن يطلعون على أحوال الناس أن هذه الفِرَق موجودة وأن لها نشاطًا أيضًا في نشر بدعهم؛ ولذلك لا بد من أن نتعلم هذه الآراء حتى نعرف زيفها ونعرف الحق ونرد على من يجادلون فيها.
* * * 26 - سئل فضيلة الشيخ: نحن طلاب العلم نحفظ الكثير من الآيات على سبيل الاستشهاد، وفي نهاية العام نكون قد نسينا الكثير منها، فهل ندخل في حكم من يعذبون بسبب نسيان ما حفظوه ؟
فأجاب قائلًا : نسيان القرآن له سببان:
الأول: ما تقتضيه الطبيعة.
والثاني: الإعراض عن القرآن وعدم المبالاة به.
فالأول لا يأثم به الإنسان ولا يعاقب عليه، فقد « وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى بالناس ونسي آية، فلما انصرف ذَكَّرَه بها أبي بن كعب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (( هلا كنت ذكرتنيها )) » (1) « وسمع رسول الله قارئًا يقرأ، فقال: (( يرحم الله فلانًا فقد ذكرني آية كنت أنسيتها )) »
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: نسيان القرآن.(7/201)
وهذا يدل على أن النسيان الذي يكون بمقتضى الطبيعة ليس فيه لوم على الإنسان.
أما ما سببه الإعراض وعدم المبالاة فهذا قد يأثم به . وبعض الناس يكيد له الشيطان ويوسوس له ألا يحفظ القرآن لئلا ينساه ويقع في الإثم، والله سبحانه وتعالى يقول: { فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } (النساء الآية : 76) فليحفظ الإنسان القرآن لأنه خير، وليؤمل عدم النسيان، والله سبحانه عند ظن عبده به.
ونظير هذا ما يستدل به بعض الناس بقول الله تعالى : { لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } (المائدة الآية : 101) فيترك السؤال والعلم والتعلم. ولكن كان هذا حين نزول الوحي والتشريع، فقد يسأل البعض عن أشياء سكت الله عنها فُتبين لهم فيكون فيها تشديد على المسلمين بالإيجاب أو التحريم. أما الآن فلا تغيير في الأحكام ولا نقص فيها فيجب السؤال عن الدين .(7/202)
* * * 27- سئل فضيلة الشيخ - غفر الله له -: قد يعلم الإنسان شيئًا ويأمر به غيره وهو نفسه لا يعمله سواء كان فرضًا أو نفلا فهل يحل له أن يأمر غيره بما لا يعمل؟ وهل يجب على المأمور امتثال أمره أم يحل له الاحتجاج عليه بعدم عمله ثم لا يعمل ما أمر به تبعًا لذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هنا أمران، الأمر الأول: هذا الذي يدعو إلى الخير وهو لا يفعله نقول له: قال الله - عز وجل: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ }{ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } (الصف الآيتان: 2 ، 3) وأنا أعجب كيف رجل يؤمن بأن هذا هو الحق، ويؤمن بأن التعبد لله به يقربه إليه ويؤمن بأنه عبد لله ثم لا يفعله فهذا شيء يعجب له ويدل على السفه وأنه محط التوبيخ واللوم ؛ لقوله تعالى: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } . فنقول لهذا الرجل: أنت آثم بتركك العمل بما علمت وبما تدعو إليه، ولو بدأت بنفسك لكان ذلك من العقل والحكمة.(7/203)
أما الأمر الثاني: بالنسبة للمأمور فإنه لا يصح له أن يحتج على هذا الرجل بفعله فإذا أمره بخير وجب عليه القبول ، يجب أن يقبل الحق من كل من قال به ولا يأنف من العلم.
* * * 28- وسئل فضيلته : كيف نرد على من قال: إن العلماء السابقين لم تكن لديهم المشاغل التي تؤثر على حفظهم كما هو حاصل لعلماء هذا الزمان، ومنهم من يكون ليس لديهم إلا التفرغ لطلب العلم وحفظه والجلوس بلا مشاغل، أما الآن فكثرت المشاغل الدنيوية التي تأخذ كل الوقت، والإنسان قد لا يستطيع الاستغناء عن هذه المشاغل؟
فأجاب - حفظه الله - : أقول لطالب العلم ما دمت أنك قد فرغت نفسك للعلم فكن طالب علم حقًّا ، وأعتقد أن البَنَّاء الذي فرغ نفسه للبناء لا يلتفت إلى عمل آخر، بل يلتفت إلى مهمته التي كرَّس نفسه لها ورأى أنها هي الخير له، فما دمت تعلم أن طلب العلم هو الخير وتريد أن تتخذه طريقًا فلا تلتفت إلى غيره.(7/204)
وفي ظني أن الرجل إذا ثابر مع الإيمان والإخلاص وصدق النية فإن الله - سبحانه وتعالى - يعينه ولا يعبأ بهذه المشكلات، والله - عز وجل - يقول: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } (الطلاق الآية : 4) { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } (الطلاق الآيتان: 2 ، 3) فعليك بصدق النية في الطلب تجد أن الأمر سهل وميسر.
* * * 29- وسئل الشيخ: بماذا تنصح من يريد طلب العلم الشرعي ولكنه بعيد عن العلماء مع العلم بأن لديه مجموعة كتب منها الأصول والمختصرات ؟
فأجاب بقوله: أنصحه بأن يثابر على طلب العلم ويستعين بالله - عز وجل - ثم بأهل العلم؛ لأن تلقي الإنسان العلم على يدي العالم يختصر له الزمن بدلا من أن يذهب ليراجع عدة كتب وتختلف عليه الآراء، ولست أقول كمن يقول : إنه لا يمكن إدراك العلم إلا على عالم أو على شيخ فهذا ليس بصحيح؛ لأن الواقع يكذبه لكن دراستك على الشيخ تُنَوِّر لك الطريق وتختصره.(7/205)
* * * 30- سئل الشيخ: أنا طالب علم وأهلي عندهم ظروف مادية، فقال لي والدي : اعمل علينا أفضل لك من طلب العلم فهل أترك دراستي للعلم؟ وهل العمل على الأهل أفضل أم لا ؟
فأجاب فضيلته: بقوله: لا شك أن طلب العلم أفضل، اللهم إلا في حالة الضرورة إلا أنه يمكنه أن يجمع بينهما ولا سيما أن الحالة الاقتصادية - والحمد لله - أن أكثر الناس قد أوسع الله عليهم فيمكن أن تقوم بحاجة أهلك فتتزوج امرأة يكون عندها بعض المؤنة وتكون مستمرًا في طلب العلم .
* * * 31- وسئل فضيلة الشيخ: أنا طالب في الجامعة وكل دراستي نظريات غربية تنافي الشرع ، فيما رأيكم إذا علمت أنني أنوي نقد مثل هذه النظريات ونفع الأمة الإسلامية في دراستي الحالية وبعد تخرجي ؟
فأجاب بقوله: أقول هذا لا شك أنه من الجهاد في سبيل الله، أن يدرس الإنسان هذه النظريات المخالفة للإسلام حتى يرد عليها عن علم.(7/206)
ولهذا « قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وقد أرسله إلى اليمن: (( إنك ستأتي قومًا من أهل الكتاب )) » (1) فأخبره بحالهم كي يستعد لهم، وكذلك العلماء الذين درسوا هذه الأمور كشيخ الإسلام ابن تيمية درس من العلوم والنظريات الفلسفية وغيرها ما يستطيع أن يرد به على أصحابها.
فإذا كنت تتعلم هذه الأمور للرد، وأنت واثق أن لديك المقدرة والحصانة على الرد بحيث لا تتأثر بها، بأن يكون لديك علم شرعي راسخ، ويكون لديك عبادة وتقوى فأرجو إن شاء الله تعالى أن يكون هذا خيرًا لك ونفعًا للمسلمين، وأما إذا كنت ترد عليها بشيء غير مقبول أو ليس لديك دليل، فلا تنتهج هذا الطريق وكذلك إذا كنت تعرف نفسك أنك لست على يقين كامل وثبات راسخ فأنا أشير عليك أن تدع هذه الأمور ؛ لأنها خطيرة، ولا ينبغي للإنسان أن يتعرض للبلاء مع الخوف منه .
* * *
32- وسئل فضيلته: أنا طالب أحب أن آخذ درجات عالية ومعدلا ممتازًا وأنا مع ذلك نيتي طيبة فما رأيك في الفرح بالدرجات العالية والغضب من الدرجات الضعيفة، هل في هذا خدش للإخلاص ؟
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة (1395) ، ومسلم، كتاب الإيمان (29).(7/207)
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر إن شاء الله أنه ليس في هذا خدش للإخلاص؛لأن هذا أمر طبيعي أن الإنسان يُسر بالحسنة ويُساء بالسيئة ، والله تعالى بين أن الأشياء التي لا تلائم المرء سماها سيئة فلا بد أن تسؤه وكذلك الحسنة لا بد أن تسره.
فهذا لا يؤثر على إخلاصك إذا كان الأمر كما قلت عندك نية طيبة، أما إذا كان همك هو الدرجات أو الشهادة فهذا شيء آخر، فها هو عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - « لما ألقى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه مسألة قال: (( أن في الشجر شجرة تشبه المؤمن فجعل الصحابة - رضي الله عنهم - يخوضون في أشجار البوادي قال ابن عمر : فوقع في قلبي أنها النخلة ولكني كنت صغيرًا فما أحبب أن أتكلم )) » (1) ، وعمر رضي الله عنه - قال لابنه: (( وددت أنك قلتها)) ، وهذا يدل على أن فرح الإنسان بنجاح وما أشبه ذلك لا يضر.
* * * 33- وسئل الشيخ - غفر الله له -: ما رأي فضيلتكم في تعلم طالب العلم اللغة الإنجليزية لا سيما في سبيل استخدامها في الدعوة إلى الله ؟
_________
(1) أخرجه البخاري، كتب العلم، باب: قول المحدث حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا ، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب: مثل المؤمن مثل النخلة. ولفظه (( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي ؟ )) فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ قال: (( هي النخلة)).(7/208)
فأجاب فضيلته: بقوله : رأينا في تعلم اللغة الإنجليزية أنها وسيلة لا شك، وتكون وسيلة طيبة إذا كانت الأهداف طيبة، وتكون رديئة إذا كانت الأهداف رديئة، لكن الشيء الذي يجب اجتنابه أن تتخذ بديلا عن اللغة العربية، فإن هذا لا يجوز، وقد سمعنا بعض السفهاء يتكلم بها بدلا من اللغة العربية، حتى إن بعض السفهاء المغرمين الذين أعتبرهم أذنابًا لغيرهم كانوا يعلمون أولادهم تحية غير المسلمين يعلمونهم أن يقولوا باي باي عند الوداع وما أشبه ذلك.
لأن إبدال اللغة العربية التي هي لغة القرآن وأشرف اللغات بهذه اللغة محرم وقد صح عن السلف النهي عن رطانة الأعاجم وهم من سوى العرب.
أما استعمالها وسيلة للدعوة فإنه لا شك أن يكون واجبًا أحيانًا، وأنا لم أتعلمها وأتمنى أنني كنت تعلمتها ووجدت في بعض الأحيان أني أضطر إليها حتى المترجم لا يمكن أن يعبر عما في قلبي تماما.(7/209)
وأذكر لكم قصة حديث في مسجد المطار بجدة مع رجال التوعية الإسلامية نتحدث بعد صلاة الفجر عن مذهب التيجاني وأنه مذهب باطل وكفر بالإسلام وجعلت أتكلم بما أعلم عنه فجاءني رجل فقال: أريد أن تأذن لي أن أترجم بلغة الهوسا. فقلت: لا مانع فترجم فدخل رجل مسرع فقال: هذا الرجل الذي يترجم عنك يمدح التيجانية فدهشت وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلو كنت أعلم مثل هذه اللغة ما كنت أحتاج إلى مثل هؤلاء الذين يخدعون، فالحاصل أن معرفة لغة من تخاطب لا شك أنا مهمة في إيصال المعلومات قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (إبراهيم: الآية : 4)
34- وسئل - حفظه الله تعالى -: أنا متخصص في علم الكيمياء وأتابع البحوث والدراسات التي تصدر في هذا المجال لكي أستفيد وأفيد من ذلك في أي مجال أعمل به سواء مدرسة أو مصنعًا مع العلم بأن ذلك يشغلني عن طلب العلم الشرعي فكيف أوفق بينهما ؟(7/210)
فأجاب بقوله : أرى أن التوفيق بين العلمين يمكن بحيث تركز على العلم الشرعي ويكون هو الأصل لديك، ويكون طلب العلم الآخر على سبيل الفضول ، ثم مع ذلك تمارس هذا العلم الثاني من أجل مصلحة تعود عليك وعلى أمتك بالخير مثل أن تستدل بدراسة هذا العلم على كمال حكمة الله - عز وجل - وربط الأسباب بمسبباتها وما إلى ذلك مما يعرفه غيرنا ولا نعرفه في هذه العلوم، فأنا أقول : استمر في طلب العلم الشرعي واطلب الآخر لكن اجعل الأهم والمركز عليه هو العلم الشرعي.
35- سئل فضيلة الشيخ: أي كتب تفسير القرآن تنصح بقراءتها؟ وحفظ القرآن، إذا حفظ الإنسان ونسي فهل هناك وعيد فيه ؟ وكيف يحفظ الإنسان ويحافظ على ما حفظ؟
فأجاب بقوله: القرآن وعلومه متنوعة، وكل مفسر يفُسر القرآن يتناول طرفًا من هذه العلوم ولا يمكن أن يكون تفسيرًا واحدًا يتناول القرآن من جميع الجوانب.
فمن العلماء من ركز في تفسيره على التفسير الأثري - أي على ما يؤثر عن الصحابة والتابعين - كابن جرير وابن كثير .(7/211)
ومنهم من ركَّز على التفسير النظري كالزمخشري وغيره ولكن أنا أرى أن يفسر الآية هو بنفسه أولا - أي يكرر في نفسه أن هذا هو معنى الآية - ثم بعد ذلك يراجع ما كتبه العلماء فيها؛ لأن هذا يفيده أن يكون قويًّا في التفسير غير عالة على غيره، وكلام الله -عز وجل - منذ بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ }
وإن كان يجب الرجوع إلى تفسير الصحابة؛ لأنهم أدرى الناس بمعانيه، ثم إلى كتب المفسرين التابعين، لكن مع ذلك لا أحد يستوعب كلام الله - عز وجل .
فالذي أرى أن الطريقة المثلى أن يكرر الإنسان تفسير الآية في نفسه، ثم بعد ذلك يراجع كلام المفسرين فإذا وجده مطابقًا فهذا مما يُمكنه من تفسير القرآن وييسره له وإن وجده مخالفًا رجع إلى الصواب.(7/212)
وأما حفظ القرآن فطريقة حفظه تختلف من شخص لآخر، بعض الناس يحفظ القرآن آية آية بمعنى أنه يحفظ آية يقرأها أولا ثم يرددها ثانيًا وثالثًا حتى يحفظها ثم يحفظ التي بعدها ثم يكمل ثمن أو ربع الجزء أو ما أشبه ذلك، وبعض الناس يقرأ إلى الثمن جميعًا ويردده حتى يحفظه ومثل هذا لا يمكن أن نحكم عليه بقاعدة عامة فنقول للإنسان : استعمل ما تراه مناسبًا لك في حفظ القرآن.
لكن المهم أن يكون عندك علم لما حفظت متى أردت الرجوع إليه، وأحسن ما رأيت في العلم أن الإنسان إذا حفظ شيئًا اليوم يقرأه مبكرًا الصباح التالي ، فإن هذا يعين كثيرًا على حفظ ما حفظه في اليوم الأول ، هذا شيء فعلته أنا فإن هذا يعين على الحفظ الجيد.
أما الوعيد على من ينسى ، قال الإمام أحمد : (( ما أشد ما ورد فيه)) أي من حفظ آية ونسيها ، والمراد بذلك من أعرض عنها حتى تركها، وأما من نسيها لسبب طبيعي أو لأسباب كانت واجبة أشغلته فإن هذا لا يلحق به إثم { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (البقرة الآية : 286) .(7/213)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه « صلى بأصحابه فنسي آية فذكره أحد الصحابة بها بعد الصلاة فقال: (( هلا كنت ذكرتني بها )) » فالإنسان الذي ينساه تهاونًا به وإعراضًا عنه لا شك أنه خاسر وأنه مستحق الإثم، وأما الذي ينساه لشيء واجب عليه أوجبه الله - سبحانه وتعالى - عليه أو نسيانًا طبيعيًّا فهذا لا يلحقه شيء .
* * * 36- سئل فضيلة الشيخ - رعاه الله تعالى - : عن كتاب فقه السنة ؟
فأجاب فضيلته: بقوله : لا شك أنه من خير الكتب ؛ لأن فيه مسائل كثيرة مقرونة بالأدلة، لكنه لا يسلم من الأخطاء، وكما قال ابن رجب - رحمه الله - في مقدمة القواعد الفقهية، قال (( يأبي الله العصمة لكتاب غير كتابه ولكن المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه))، الكتاب لا شك أنه نافع لكن لا أرى أن يقتنيه إلا طالب علم يميز بين الصحيح والضعيف ؛ لأن به مسائل ضعيفة كثيرة.
ومن ذلك القول باستحباب صلاة التسبيح (1) فإن صلاة التسبيح هذه قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إن حديثها كذب، وقال: إنها لا يستحبها أحد من الأئمة، ولما سئل عنها الإمام أحمد نفض يده كالمُنكِر لها .
_________
(1) حديث صلاة التسبيح أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة ، باب: صلاة التسبيح، والترمذي ، كتاب الصلاة، باب : التسبيح. وابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة، باب : ما جاء في صلاة التسبيح، وابن خزيمة، كتاب التطوع ، باب: صلاة التسبيح، والبيهقي في (( السنن)) جـ 3 ص 51، والبغوي في (( شرح السنة )) جـ 4 ص 156، والطبراني في (( الكبير)) جـ 12 ص 243، قال الترمذي: (( حديث غريب من حديث أبي رافع)) قال ابن خزيمة : (( في القلب من إسناده شيء)) وقال الإمام أحمد : (( لم تثبت عندي صلاة التسبيح)) مسائل الإمام أحمد - روياه ابنه عبد الله جـ 2 ص 295، وقال أيضًا: ((إسناده ضعيف)) مسائل الإمام أحمد - رواية النيسابوري - جـ 1 ص 105. وقد فصل القول فيها شيخنا العلامة محمد بن عثيمين - حفظه الله ورعاه - فقال: (( والذي يترجح عندي أن صلاة التسبيح ليست بسنة وأن خبرها ضعيف وذلك من وجوه: أولا: أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل تثبت به مشروعيتها. الثاني: أن حديثها مضطرب فقد اختلف فيه على عدة أوجه. الثالث: أنها لم يستحبها أحد من العلماء وأئمة السلف - رحمهم الله تعالى - قال شيخ الإسلام: (( نص الإمام أحمد على كراهيتها ولم يستحبها إمام. قال: أما أبو حنيفة ومالك والشافعي فلم يسمعوا عنها بالكلية)). الرابع : أنها لو كانت هذه الصلاة مشروعة لنقلت للأمة نقلا لا ريب فيه واشتهرت بينهم؛ لعظم فائدتها ولخروجها عن جنس الصلوات بل وعن جنس العبادات ، فإننا لا نعلم عبادة يخير فيها هذا التخيير بحيث تفعل في كل يوم أو أسبوع مرة أو في الشهر مرة أو في السنة مرة أو في العمر مرة فلما كانت عظيمة الفائدة خارجة عن جنس الصلوات ولم تشتهر ولم تنقل على أنه لا أصل لها وذلك إن ما خرج عن نظائره وعظمت فائدته فإن الناس سيهتمون به وينقلونه ويشيع بينهم شيوعًا ظاهرًا ؛ فلما لم يكن هذا في هذه الصلاة علم أنها ليست مشروعة ولذلك لم يستحبها أحد من الأئمة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - وأن فيما يثبت مشروعيته من النوافل الخير والبركة لمن أراد المزيد وهو في غنى بما ثبت عما لم يثبت مما فيه خلاف وشبهة والله المستعان )) انتهى كلامه - حفظه الله ورعاه - نقلا من مجموع الفتاوى لفضيلته، في فتاوى الفقه، كتاب الصلاة، باب: صلاة التطوع، يسّر الله تعالى نشره.(7/214)
37- وسئل -حفظه الله تعالى -: في هذا الزمن يجرى تسمية بعض العلوم التجريبية بالعلم حتى إن المدارس الثانوية سمت بعلمي وأدبي، فهل هذا صحيح؟ إضافة لذلك إن هذا التقسيم في المدارس يعلق بأذان الطلاب مما يؤثر عليهم مستقبلا؟
فأجاب فضيلته: بقوله : هذا التقسيم إلى علمي وأدبي هو اصطلاح ولا مشاحّة في الاصطلاح؛ لأنهم يرون أن المواد العلمية هي ما يتعلق بعلم الكون والأحياء والنباتات وما أشبه ذلك ، ولكن الذي يجب أن نفهمه أن هذا ليس هو العلم الذي حثّ عليه وأثني على طالبيه، فإن العلم الذي أثنى الله على أصحابه، والذي أصحابه هم أهل خشية الله، إنما هو علم الشريعة فقط، وأما العلوم الأخرى فإنها إن كانت نافعة فإنها تكون مطلوبة لا لذاتها ولكن لما يُرجى فيها من نفع ، وأما إذا كانت ضارة وجب اجتنابها، وأما إذا كانت غير نافعة ولا ضارة فإن الإنسان لا ينبغي أن يضيع وقته فيها.
38- وسئل أعلى الله درجته في المهديين - : هل يعذر الشخص بعدم طلبه للعلم بسبب انشغاله بدراسته التي ليس بها طلب للعلم الشرعي أو بسبب عمله أو غير ذلك؟(7/215)
فأجاب فضيلته: بقوله : طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون واجبًا على الإنسان عينًا أي فرض عين كما لو أراد الإنسان أن يتعبد الله بعبادة فإنه يجب عليه أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة.
وعلى هذا ، فهذا الذي يشغله عن طلب العلم الشرعي حاجة أهله أو غير ذلك من الصوارف مع محافظة على ما يجب الحفاظ عليه من العبادة نقول: إن هذا معذور ولا حرج عليه ولكن ينبغي أن يتعلم من العلم الشرعي بقدر ما يستطيع.
* * * 39- سئل فضيلة الشيخ: ما المقصود بالعلماء في قوله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ؟(7/216)
فأجاب بقوله: المقصود بهم العلماء الذين يوصلهم علمهم إلى خشية الله، وليس المراد بالعلماء من علموا شيئًا من أسرار الكون كأن يعلموا شيئًا من أسرار الفلك وما أشبه ذلك أو ما يسمى بالإعجاز العلمي، فالإعجاز العلمي في الحقيقة لا ننكره، لا ننكر أن في القران أشياء ظهر بيانها في الأزمنة المتأخرة لكن غالى بعض الناس في الإعجاز العلمي حتى رأينا من جعل القرآن كأنه كتاب رياضة وهذا خطأ، فنقول: إن المغالاة في إثبات الإعجاز العلمي لا ينبغي لأن هذه قد تكون مبنية على نظريات والنظريات تختلف، فإذا جعلنا القرآن دالا على هذه النظرية ثم تبين بعد أن هذه النظرية خطأ ، معنى ذلك أن دلالة القرآن صارت خاطئة، وهذه مسألة خطيرة جدًّا.(7/217)
والآن يا إخواني : اعتنى في الكتاب والسنة ببيان ما ينفع الناس من العبادات والمعاملات ولهذا بيَّن دقيقها وجليلها حتى آداب الأكل والجلوس والدخول وغيرها. لكن علم الكون هل جاء على سبيل التفصيل ؟ ولذلك فأنا أخشى من انهماك الناس في الإعجاز العلمي أن يشتغلوا به عما هو أهم، إن الشيء الأهم هو تحقيق العبادة ؛ لأن القرآن نزل بهذا، قال الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات، الآية : 56)(7/218)
أما علماء الكون الذين وصلوا إلى ما وصلوا إليه فننظر إن اهتدوا بما وصلوا إليه من العلم واتقوا الله - عز وجل - وأخذوا بالإسلام صاروا من علماء المسلمين الذين يخشون الله، وإن بقوا على كفرهم وقالوا : إن هذا الكون له محدث ، فإن هذا لا يعدو أن يكونوا قد خرجوا من كلامهم الأول إلى كلام لا يستفيدون منه، فكل يعلم أن لهذا الكون محدثًا؛ لأن هذا الكون إما أن يحدث نفسه، وإما أن يحدث صدفة، وإما أن يحدثه خالق وهو الله - عز وجل فكونه يحدث نفسه مستحيل ؛ لأن الشيء لا يخلق نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقًا ؟! ولا يمكن أن تُوجد صدفة؛ لأن كل حادث لا بد له من محدث، ولأن وجوده على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعًا باتًّا أن يكون وجوده صدفة؛ إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظمًا حال بقائه وتطوره ؟ !
وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها ، ولا أن تُوجد صدفة تعين أن يكون لها مُوجد وهو الله رب العالمين.(7/219)
* * * 40- سئل الشيخ - غفر الله له -: هل تعليم الطالب الرياضيات إذا كان الشخص ينوي بها وجه الله له أجر أم لا ؟
فأجاب فضيلته: بقوله : إذا كانت هذه الرياضيات مما تنفع المسلمين في معاشهم ونوى الشخص بذلك نفع الناس بها فإنه يؤجر على نيته، ولكنها ليست كالعلوم الشرعية ؛ فإنها إذا كانت من المباحات تكون وسيلة؛ لأن القاعدة الشرعية أن المباح قسم واسع فقد يكون حرامًا وقد يكون مكروهًا وقد يكون مستحبًا وقد يكون واجبًا.
ونقول مثلا : إن الأصل في البيع الحلال، ولكن قد يكون مكروهًا، فإذا أراد شخص أن يشتري منك شيئًا ينقذ به حياته مثل الطعام والشراب فما حكم البيع ؟ الحكم واجب، وشخص آخر أراد أن يشتري منك عنبًا ليجعله خمرًا فهذا البيع حرام، وشخص آخر أراد أن يشتري ماء ليتوضأ به وليس عنده ماء فالشراء واجب ؛ فعلى هذا نقول: إن المباح إذا كان وسيلة لأمر مشروع كان مشروعًا وإذا كان ذريعة لأمر محرّم كان حرامًا.
* * * 41- وسئل فضيلة الشيخ : بعض الشباب يريدون أن يتعلموا الطب وبعض العلوم الأخرى ولكن هناك عوائق مثل الاختلاط والسفر إلى بلاد الخارج فما الحل؟ وما نصيحتكم لهؤلاء الشباب ؟(7/220)
فأجاب فضيلته: بقوله: نصيحتي لهؤلاء أن يتعلموا الطب ؛ لأننا في بلادنا في حاجة شديدة إليه، وأما مسألة الاختلاط فإنه هنا في بلادنا والحمد لله يمكن أن يتقي الإنسان ذلك بقدر الاستطاعة.
وأما السفر إلى بلاد الكفار فلا أرى جواز السفر إلا بشروط :
الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات ؛ لأن هناك في بلاد الكفار يُوردون على أبناء المسلمين الشبهات حتى يردوهم عن دينهم.
الثاني: أن يكون عند الإنسان دين يدفع به الشهوات، فلا يذهب إلى هناك وهو ضعيف الدين ، فتغلبه الشهوات فتدفع به إلى الهلاك.
الثالث: أن يكون محتاجًا إلى السفر بحيث لا يوجد هذا التخصص في بلاد الإسلام.
فهذه الشروط الثلاثة إذا تحققت فليذهب، فإن تخلف واحد منها فلا يسافر؛ لأن المحافظة على الدين أهم من المحافظة على غيره (1)
42- سئل فضيلته الشيخ - حفظه الله تعالى - : من الملاحظ انصرف كثير من طلاب العلم عن إتقان قواعد اللغة العربية مع أهميتها فما تعليقكم ؟
_________
(1) انظر تفصيل هذه المسألة في « مجموع الفتاوى» لفضيلة شيخنا 3 / 28.(7/221)
فأجاب فضيلته بقوله : نعم، فهم اللغة العربية مهم سواء في قواعد الإعراب أو قواعد البلاغة، كلها مهمة ولكن بناء على أننا -والحمد الله - عرب فإنه يمكننا أن نتعلم دون أن نعرف قواعد اللغة العربية، لكن من الكمال أن يتعلم الإنسان قواعد اللغة العربية، فأنا أحث على تعلُّم اللغة العربية في جميع قواعدها .
* * *
43- سئل فضيلة الشيخ: أيهما أفضل: التفرغ للدعوة إلى الله - عز وجل - أم التفرغ لطلب العلم؟
فأجاب قائلا: طلب العلم أفضل وأولى، وبإمكان طالب العلم أن يدعو وهو يطلب العلم، ولا يمكن أن يقوم بالدعوة إلى الله وهو على غير علم، قال الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } (يوسف: الآية 108) فكيف يكون هناك دعوة بلا علم؟ ولا أحد دعا بدون علم أبدًا ، ومن يدعو بدون علم لا يوفق.
* * * 44- سئل فضيلة الشيخ : إذا كان آفة العلم النسيان فما الأمور أو الطرق التي تعين على ضبط العلم
: أن يهتدي الإنسان بعلمه قال تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (محمد، الآية : 17)
فإذا عمل العالم بعلمه، ازداد علمًا وأُتي تقوى، أي : عبادة وخشية.(7/222)
ومنها: أن يفرغ قلبه للعلم بحيث لا يتشاغل بغيره عنه بل يكون هو همه وهاجسه.
ومنها: أن يتعاهده بالحفظ والمذاكرة.
ومنها: أن يستحضر الحكم ودليله عند كل عمل يقوم به.
ومنها: أن يكب على طلب العلم فلا يجعل طلب العلم عند التفرغ فقط، ولهذا يقولون: أعط العلم كلك يعطيك بعضه، وأعط العلم بعضك لا يعطيك شيئًا ، فلا بد من الإكباب على طلب العلم ليلا ونهارًا، والمناقشة وتطبيق ما علمت على ما عملت حتى يبقى العلم.
* * * 45- سئل فضيلة الشيخ: ما توجيهكم - حفظكم الله تعالى - لطلاب العلم حيث يلاحظ الإهمال وعدم الجد مما له آثار سيئة في التحصيل العلمي؟
فأجاب بقوله: يجب على طلاب العلم أن يبذلوا غاية الجهد في تحصيل العلم، حتى يدركوا المعلومات إدراكًا قويًّا، راسخًا في نفوسهم؛ لأنهم إذا اجتهدوا أخذوا العلوم شيئًا فشيئًا سهلت عليهم ورسخت في نفوسهم وسيطروا عليها سيطرة تامة، وإن أنتم يا طلاب العلم أهملتم وتهاونتم انطوى عنكم الزمن، وتراكمت عليكم الدروس، فأصبحتم عاجزين عن تصورها فضلا عن تحقيقها فندمتم حين لا تنفع الندامة.(7/223)
46- وسئل فضيلته: نرجو من سماحتكم - حفظكم الله تعالى - توجيه نصيحة لمن عمل في مجال التدريس ، عسى الله أن ينفع بها وجزاكم الله خيرًا ؟
فأجاب فضيلته: بقوله : نقول أهم ما يتعلق بالمعلمين أن يدركوا العلوم التي يعطونها للطلبة إدراكًا جيدًا مستقرًّا في نفوسهم، قبل أن يقفوا أمام الطلبة حتى لا يقع الواحد منهم في حيرة عند سؤال التلاميذ له ومناقشتهم إياه فإن من أعظم المقومات الشخصية لدى الطلبة أن يكون المعلم قويًّا في علمه وملاحظته، إن قوة المعلم العلمية في تقويم شخصيته لا تقل عن قوة ملاحظته، إن المعلم إذا لم يكن عنده علم ارتبك عند السؤال فينحط قدره أمام تلاميذه، وإن أجاب بالخطأ فلن يثقوا فيه بعد ذلك، إن انتهرهم عند السؤال والمناقشة فلن ينسجموا معه.(7/224)
إذن فلا بد للمعلم من إعداد واستعداد وتحمل وصبر، المعلم عند توجيه السؤال له إن كان عنده علم راسخ في ذهنه مستقر في نفسه أجاب بكل سهولة وانطلاق وإلا فإنه لا يخلو بعد ذلك من هذه الأمور الثلاثة السابقة وكل ذلك ينافي الآداب التي ينبغي أن يكون المعلم عليها، وإذا كان على المعلم أن يدرك العلم الذي سيلقيه أمام الطلبة فإن عليه أن يحرص على حُسن إلقائه إليهم بأن يسلك أسهل الطرق في إيضاح المعاني وضرب الأمثال ومناقشة الطلبة فيما ألقاه عليهم سابقًا، أما أن يأتي يقرأ الشيء عليهم قراءة ولا يدري من فهم ممن لم يفهم ولا يناقشهم فيما مضى فإن هذه الطريقة عقيمة جدًّا لا تثمر ثمرًا ولا تكون نتيجتها طيبة وإذا كان المعلم يجتهد في الأمور العلمية تحصيلا وعرضًا فعليه أن يجتهد في الأمور التعبدية، عليه أن يكون حسن النية والتوجيه فينوي بتعليمه الإحسان إلى طلبته وإرشادهم إلى ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وليجعل نفسه لهم بمنزلة الأب الرفيق الشفيق ليكون لتعليمه أثر بالغ في نفوسهم ، وعلى المعلم أن يظهر أما طلبته بالمظهر اللائق من الأخلاق الفاضلة والآداب العالية التي أساسها التمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله(7/225)
عليه وسلم ليكون قدوة لتلاميذه في العلم والعمل ، فإن التلميذ ربما يتلقى من معلمه من الأخلاق والآداب أكثر مما يتلقى منه من العلم من حيث التأثر ؛ لأن أخلاق المعلم وآدابه صورة مشهودة معبرة عما في نفسه ظاهرة في سلوكه فتنعكس هذه الصورة تمامًا على إدارة التلاميذ.
إن على المعلم أن يتقي الله تعالى في نفسه، وفيمن ولاه الله عليهم من التلاميذ وأن يحرص غاية الحرص أن يمثل أمامهم بالأخلاق حتى يكون قدوة صالحة « ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة » (1) .
وإنني أقول للمعلمين: إن عند التلاميذ ملاحظة دقيقة عجيبة على صغر سنهم، إن المعلم إذا أمرهم بشيء ثم رأوه يخالفهم فيما أمرهم به فإنهم سوف يضعون علامات الاستفهام أمام هذا المعلم، كيف يعلمنا شيئا ويأمرنا به وهو يخالف ما كان يعلمنا ويأمرنا به، لا تستهن يا معلمًا بالتلاميذ حتى ولو كانوا صغارًا فعندهم أمر الملاحظة من الأمور العجيبة.
* * * 47- وسئل فضيلة الشيخ: عن طالب علم يريد أن يذهب مع إخوانه في الله لطلب العلم وكان الحائل بينه وبين الذهاب معهم هو أهله، والده وأمه، فما الحكم في خروج هذا الطالب ؟
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة.(7/226)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الطالب إن كان هناك ضرورة لبقائه عندهم فهذا أفضل مع أنه يمكنه أن يبقى عندهم مع طلب العلم؛ لأن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله ، والعلم من الجهاد وبالتالي فيكون بر الوالدين مقدمًا عليه إذا كانا في حاجة إليه.
أما إذا لم يكونا في حاجة إليه ويتمكن من طلب العلم أكثر إذا خرج فلا حرج عليه أن يخرج في طلب العلم في هذه الحال، ولكنه مع هذا لا ينسى حق الوالدين في الرجوع إليهما وإقناعهما إذا رجع، وأما إذا علم كراهة الوالدين للعلم الشرعي فهؤلاء لا طاعة لهما، ولا ينبغي له أن يستأذن منهما إذا خرج؛ لأن الحامل لهما كراهة العلم الشرعي.
* * * 48ـ سئل فضيلة الشيخ ـ غفر الله له ـ : هل يجوز تعلم العلم من الكتب فقط دون العلماء وخاصة إذا كان يصعب تعلم العلم من العلماء لندرتهم؟ وما رأيك في القول القائل: من كان شيخه الكتاب كان خطؤه أكثر إلى الصواب؟(7/227)
فأجاب قائلا: لا شك أن العلم يحصل بطلبه عند العلماء وبطلبه في الكتب؛ لأن كتاب العالم هو العالم نفسه، فهو يحدثك من خلال كتابه، فإذا تعذر الطلب على أهل العلم، فإنه يطلب العلم من الكتب، ولكن تحصيل العلم عن طريق العلماء أقرب من تحصيله عن طريق الكتب؛ لأن الذي يحصل عن طريق الكتب يتعب أكثر ويحتاج إلى جهد كبير جدًّا، ومع ذلك فإنه قد تخفى عليه بعض الأمور كما في القواعد الشرعية التي قعَّدها أهل العلم والضوابط، فلا بد أن يكون له مرجع من أهل العلم بقدر الإمكان.
وأما قوله: "من كان دليله كتابه فخطؤه أكثر من صوابه" ، فهذا ليس صحيحًا على إطلاقه ولا فاسدًا على إطلاقه، أما الإنسان الذي يأخذ العلم من أيّ كتاب يراه فلا شك أنه يخطئ كثيرًا، وأما الذي يعتمد في تعلُّمه على كتب رجال معروفين بالثقة والأمانة والعلم فإن هذا لا يكثر خطؤه بل قد يكون مصيبًا في أكثر ما يقول.
* * *
49ـ سئل فضيلة الشيخ : هل يجوز تفسير القرآن الكريم بالنظريات العلمية الحديثة؟(7/228)
فأجاب بقوله: تفسير القرآن بالنظريات العلمية له خطورته، وذلك إننا إذا فسرنا القرآن بتلك النظريات ثم جاءت نظريات أخرى بخلافها فمقتضى ذلك أن القرآن صار غير صحيح في نظر أعداء الإسلام؛ أما في نظر المسلمين فإنهم يقولون: إن الخطأ من تصور هذا الذي فسر القرآن بذلك، لكن أعداء الإسلام يتربصون به الدوائر، ولهذا أنا أحذر غاية التحذير من التسرع في تفسير القرآن بهذه الأمور العلمية ولندع هذا الأمر للواقع، إذا ثبت في الواقع فلا حاجة إلى أن نقول القرآن قد أثبته، فالقرآن نزل للعبادة والأخلاق، والتدبر، يقول الله ـ عز وجل { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } (صّ:29) وليس لمثل هذه الأمور التي تدرك بالتجارب ويدركها الناس بعلومهم، ثم إنه قد يكون خطرًا عظيمًا فادحًا في تنزل القرآن عليها، أضرب لهذا مثلا قوله تعالى: { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } (الرحمن:33) لما حصل صعود الناس إلى القمر ذهب بعض الناس ليفسر هذه الآية(7/229)
ونزلها على ما حدث وقال: إن المراد بالسلطان العلم، وأنهم بعلمهم نفذوا من أقطار الأرض وتعدوا الجاذبية وهذا خطأ ، ولا يجوز أن يفسر القرآن به وذلك لأنك إذا فسرت القرآن بمعنى فمقتضى ذلك أنك شهدت بأن الله أراده وهذه شهادة عظيمة ستسأل عنها.
ومن تدبر الآية وجد أن هذا التفسير باطل ؛ لأن الآية سيقت في بيان أحوال الناس وما يؤول إليه أمرهم، اقرأ سورة الرحمن تجد أن هذه الآية ذُكرت بعد قوله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ }{ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ( الرحمن الآيات 26 - 28 )
فلنسأل هل هؤلاء القوم نفذوا من أقطار السماوات؟
الجواب: لا، والله يقول: { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
ثانيًا: هل أرسل عليهم شواظ من نار ونحاس؟
والجواب: لا. إذن فالآية لا يصح أن تفسر بما فسر به هؤلاء، ونقول: إن وصول هؤلاء إلى ما وصولوا إليه هو من العلوم التجريبية التي أدركوها بتجاربهم، أما أن نُحرِّف القرآن لنُخضعه للدلالة على هذا ؛ فهذا ليس بصحيح ولا يجوز.(7/230)
* * * 50ـ سئل الشيخ : ذكرتم ـ جزاكم الله خيرًا ـ أن الاعتماد على أقوال الرجال خطأ يضر طالب العلم فهل يفهم من هذا عدم التمذهب أو الرجوع إلى مذهب معيَّن فيما يشكل من أحكام ؟
فأجاب فضيلته بقوله : التمذهب بمذهب معين إذا كان المقصود منه أن الإنسان يلتزم بهذا المذهب مُعرضًا عما سواه سواء كان الصواب في مذهبه أو مذهب غيره فهذا لا يجوز ولا أقول به .
أما إذا كان الإنسان يريد أن ينتسب إلى مذهب معين لينتفع بما فيه من القواعد والضوابط ولكنه يرد ذلك إلى الكتاب والسنة، وإذا تبين له الرجحان في مذهب آخر ذهب إليه ؛ فهذا لا بأس به ، والعلماء المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره هم من هذا النوع هم محققون ولهم مذهب معين ولكنهم لا يخالفون الدليل إذا تبين لهم .
* * 51ـ سئل الشيخ : هل حديث « كل أمر ذي بال لم يبدأ ببسم الله » ... إلى آخر الحديث " حديث صحيح لأنه يكثر في مؤلفات العلماء؟(7/231)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الحديث اختلف العلماء في صحته، فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي، ومنهم من ضعفه، ولكن تلقي العلماء له بالقبول ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن له أصلا، فالذي ينبغي للإنسان التسمية على كل الأمور المهمة، أو البداية بحمده الله -عز وجل- .
* * * 52ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ : أيهما أفضل: مخالطة الناس بعد العشاء لتعليمهم وإرشادهم ونصحهم بحيث لا يمكن قيام الليل أو اعتزالهم حتى يتم قيام الليل؟
فأجاب قائلا : طلب العلم أفضل من قيام الليل؛ لأن طلب العلم كما قال الإمام أحمد :"لا يَعدلُهُ شيء لمن صحت نيته" قالوا: كيف ذلك؟ قال: "ينوي به رفع الجهل عن نفسه وعن غيره"، فإذا كان الإنسان يسهر في أول الليل في طلب العلم ابتغاء لوجه الله سواء كان يدرُسه أو يدرِّسه أو يعلِّمه ثم يقول الليل فهو أفضل لكن إذا تزاحم الأمران فطلب العلم الشرعي أفضل وأولى، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة أن يوتر قبل أن ينام، قال العلماء: وسبب ذلك أن أبا هريرة كان يحفظ أحاديث الرسول أول الليل وينام آخر الليل، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى « أن يوتر قبل أن ينام » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الصيام، باب: صيام البيض، ومسلم ، كتاب صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، ولفظه: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام» .(7/232)
* * * 53 ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ : ماذا يجب عليَّ تجاه أحد الأساتذة عندما يخطئ وخصوصًا في المواد الدينية وأنا متأكد من الجواب الصحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا سؤال مهم حيث نجد أن بعض الأساتذة لا يريد لأحد أن يخطئه مهما ارتكب من الخطأ، وهذا ليس بصحيح، فكل إنسان معرض للخطأ، والإنسان إذا أخطأ ونُبّه فهذا من نعمة الله عليه، حتى لا يغتر الناس بخطئه، ولكن ينبغي للطالب أن يكون عنده شيء من اللباقة، فلا يقوم أمام الطلبة يرد على هذا المدرس، فهذا خلاف الأدب، ولكن يكون ذلك بعد انتهاء الدرس، فإن اقتنع المدرس فعليه أن يعيد ذلك أمام الطلبة في الدرس المقبل وإن لم يقتنع فعلى الطالب أن يقوم أمام الطلبة في الدرس المقبل، ليقول يا أستاذ إنك قلت كذا وكذا وهذا ليس بصحيح.
* * * 54ـ وسئل ـ جزاه الله خيرًا ـ : هل يجوز إلقاء التحية على مدرس غير مسلم في الفصل أو خارجه؟(7/233)
فأجاب فضيلته بقوله: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام » (1) ، « وكان اليهود يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: السام عليكم ، والسام معناه الموت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول : وعليكم » (2) فأنت لا تبدأه بالسلام، فإذا سلم وبدأ فردّ عليه وعليكم، إلا أن ابن القيم رحمه الله ـ ذكر في أحكام أهل الذمة أن الكافر إذا علمنا أنه قال السلام عليكم فلنا أن نقول: وعليكم السلام.
* * * 55ـ وسُئل فضيلة الشيخ : أمامي مجال لدخول كلية علمية فهل أدخلها لنفع المسلمين أم أسلك المجال في كلية الشريعة؟ أفيدوني جزاكم الله خيرًا.
فأجاب بقوله: الذي أرى أن أفضل الكليات في الجامعات هي الكليات الدينية، وأما المواد الأخرى فربما يقوم بها رجل آخر، لا سيما من كانت له رغبة في دراسة العلوم الدينية، ومادام عندك رغبة في دخول كلية الشريعة فإن ذلك أفضل.
* * *
56ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : ما سبب توقف العالم عن الفتوى؟
_________
(1) رواه مسلم ، كتاب السلام، باب : النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: الرفق في الأمر كله، مسلم، كتاب السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم.(7/234)
فأجاب فضيلته بقوله : توقف العالم عن الفتوى إذا كان أهلا للفتوى وعنده علم قد يكون لتعارض الأدلة عنده، وقد يكون لظنه أن هذا المستفتي متلاعب؛ لأن بعض المستفتين لا يستفتي للحق إنما يريد التلاعب والنظر فيما عند هذا العالم، والعالم الثاني، والعالم الثالث وهكذا، فيتوقف العالم أو يعرض عن إجابة هذا السائل الذي يعلم أو يغلب على ظنه أنه متلاعب ؛ لينظر ماذا عند الناس ، أو يريد أن يضرب أقوال الناس بعضها ببعض، وهذا أشد فيذهب ويقول: قال العالم الفلاني كذا، وقال العالم الفلاني كذا، فهذا من أسباب توقف المفتي.
* * * 57ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : هناك من الناس من يفتي بغير علم، ما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل من أخطر الأمور وأعظمها إثمًا، وقد قرن الله سبحانه وتعالى ـ القول عليه بلا علم ، بالشرك به ، فقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (الأعراف:33).(7/235)
وهذا يشمل القول على الله في ذاته أو صفاته أو أفعاله أو شرائعه، فلا يحل لأحد أن يفتي بشيء حتى يعلم أن هذا هو شرع الله -عز وجل- وحتى تكون عنده أداة وملكة يعرف بها ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ يفتي.
والمفتي معبِّر عن الله -عز وجل- ومبلِّغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال قولا وهو لا يعلم أو لا يغلب على ظنه ـ بعد النظر والاجتهاد والتأمل في الأدلة ـ فإنه يكون قد قال على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم قولا بلا علم ، فيتأهب للعقوبة، فإن الله ـ عز وجل يقول : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } (العنكبوت:68)
* * * 58ـ سئل الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : هل هناك دعاء لحفظ القرآن؟ وما طريقة حفظه ؟
فأجاب قائلا : لا أعرف في ذلك دعاء يحفظ به القرآن إلا حديثًا، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم علمه علي بن أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ (1) ، وفي صحته نظر ، قال عنه ابن كثير ـ رحمه الله تعالى:ـ إنه من البيّن غرابته بل نكارته .
_________
(1) أخرجه الترمذي (3570) ، والحاكم (1-316).(7/236)
وقال السيد محمد رشيد رضا ـ في التعليق عليه ـ: بل أسلوبه أسلوب الموضوعات لا أسلوب أفصح البشر محمد صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنه- ولا أسلوب عصرهما . ا . هـ .
وقال الذهبي : هذا الحديث منكر شاذ ، ولكن الطريق إلى حفظه هو: أن يواظب الإنسان على حفظه وللناس في حفظه طريقان:
أحدهما : أن يحفظه آية آية أو آيتين آيتين أو ثلاثًا ثلاثًا حسب طول الآيات وقصرها .
الثاني : أن يحفظه صفحة صفحة.
والناس يختلفون منهم من يفضل أن يحفظه صفحة صفحة يرددها حتى يحفظها ، ومنهم من يفضل أن يحفظ الآية ثم يرددها حتى يحفظها ثم يحفظ آية أخرى كذلك وهكذا حتى يتم .
ثم إنه أيضًا ينبغي سواء حَفِظَ بالطريقة الأولى أو الثانية ألا يتجاوز شيئًا حتى يكون قد أتقنه ؛ لئلا يبني على غير أساس، وينبغي أن يستعيد ما حفظه كل يوم خصوصًا في الصباح، فإذا عرف أنه قد أجاد ما حفظه أخذ درسًا جديدًا.
* * * 59ـ سئل الشيخ : أريد أن أتعلم العلم الشرعي وأبدأ في التعلم ولا أعرف كيف أبدأ، فبماذا تنصحوني في ذلك؟(7/237)
فأجاب فضيلته بقوله: خير منهج لطالب العلم أن يبدأ الطالب بفهم كلام الله عز وجل ـ من كتب التفسير الموثوق بها كتفسير ابن كثير والبغوي ، ثم بفهم ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة من الكتب الحديثة الموثوقة كبلوغ المرام والمنتقى وأصول كتب الحديث الملتزمة بالصحيح كصحيحي البخاري ومسلم ثم بكتب العقيدة السليمة مثل العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم بكتب الفقه المختصرة ليتفقه بها على المذهب الذي يراه أقرب إلى الكتاب والسنة ، وحين يترقى في العلم يقرأ الكتب المطولة ليزداد بها علمًا .
* * * 60ـ سئل الشيخ حفظه الله تعالى ـ : هل يجوز للمرء أن يترك عمله ويتفرغ لطلب العلم ، فيكون عالة على أبيه وأخيه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال بل هو من الجهاد في سبيل الله ، ولا سيما في وقتنا هذا حين بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر ، وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم ، وبدأ الجدل من كثير من الناس ، فهذه ثلاثة أمور كلها تحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم:
أولا: بدع بدأت تُظهر شرورها.
ثانيًا: أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم .(7/238)
ثالثًا: جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها بغير علم
فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع وعندهم أيضًا فقه في دين الله ، وعندهم حكمة في توجيه عباد الله؛ لأن كثيرًا من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ولا يهمهم النظر إلى إصلاح الخلق وإلى تربيتهم، وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا صار وسيلة إلى شرٍّ أكبر لا يعلم مداه إلا الله.
وهاهم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أحيانًا يُلْزَمون بأشياء قد تكون النصوص دالة على عدم الإلزام بها من أجل تربية الخلق .
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ألزم الناس بإمضاء الطلاق الثلاث، كان الطلاق الثلاث في عهد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر ، كان الطلاق الثلاث - أي في مجلس واحد ـ واحدًا ، لكن هو محرم أي طلاق المرأة ثلاثًا في مجلس واحد حرام ؛ لأنه تعدى حدود الله -عز وجل- .(7/239)
قال عمر -رضي الله عنه-: "أرى الناس قد تتايعوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم" (1) ، فأمضاه عليهم ، وجعل الطلاق الثلاث ثلاثًا لا واحدًا بعد أن مضى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبي بكر وسنتان من خلافته -رضي الله عنه- ألزم الناس بالطلاق الثلاث ، مع أن الإنسان لو راجع زوجته بعد هذا الطلاق لكان رجوعه صحيحًا في العهدين السابقين لعهد عمر وسنتين من خلافته ، لكن رأى أن المصلحة تقتضي إمضاء الطلاق الثلاث ومنع الإنسان من الرجوع إلى زوجته .
أيضًا عقوبة الخمر في عهد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يؤتى بالرجل الشارب فيضرب بطرف الثوب أو بالجريد أو النعال نحوًا من أربعين جلدة ، وفي عهد أبي بكر يجلد أربعين، « وفي عهد عمر يجلد أربعين، لكنه لما كثر الشرب جَمَع الصحابة واستشارهم فقال عبد الرحمن بن عوف : أخفّ الحدود ثمانون، فجعل عمر عقوبة شارب الخمر ثمانين جلدة » (2) كل هذا من أجل إصلاح الخلق ، فينبغي للمسلم أو المفتي والعالم في مثل هذه الأمور أن يراعي أحوال الناس وما يصلحهم .
* * *
_________
(1) أخرجه مسلم ، كتاب الطلاق ، باب : طلاق الثلاث.
(2) أخرجه مسلم ، كتاب الحدود ، باب : حد الخمر .(7/240)
61ـ وسئل الشيخ : طالب العلم المبتدئ هل يبدأ في طلب العلم بالبحث عن الأدلة أم يقلد في ذلك أئمة أحد المذاهب ؟ ما توجيه سماحتكم ـ حفظكم الله تعالى ـ ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الطالب المبتدئ في العلم يجب عليه البحث عن الدليل بقدر إمكانه؛ لأن المطلوب الوصول إلى الدليل، ولأجل أن يحصل له التمرن على طلب الأدلة وكيفية الاستدلال فيكون سائرًا إلى الله على بصيرة وبرهان، ولا يجوز له التقليد إلا لضرورة كما لو بحث فلم يستطع الوصول إلى نتيجة أو حدثت له حادثة تتطلب الفورية ، فلم يتمكن من معرفة الحكم بالدليل قبل فوات الحاجة إليها فله حينئذ أن يقلد بنيه أنه متى تبين له الدليل رجع إليه، وإذا اختلف عليه المفتون، فقيل يخيَّر، وقيل يأخذ بالأيسر ؛ لأنه الموافق لقوله تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (البقرة: من الآية 185) .
وقيل: يأخذ بالأشد ؛ لأنه أحوط وغيره مشتبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه » (1) والأرجح أن يأخذ بما يغلب على ظنه أنه أقرب إلى الصواب لكون قائله أعلم وأورع، والله أعلم.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان ، باب : فضل من استبرأ لدينه، ومسلم، كتاب المساقاة ، باب : أخذ الحلال وترك الشبهات .(7/241)
* * * 62ـ وسئل فضيلته : ما هي الكتب التي تنصح بها؟ ونرجو توجيه نصيحة للطلاب جزاكم الله خيرًا.
فأجاب فضيلته بقوله: من أحسن ما يطالعه الطلاب من الكتب ، كتب التفسير الموثوقة كتفسير ابن كثير، والشيخ عبد الرحمن السعدي، وكتب الحديث كفتح الباري شرح صحيح البخاري، وسبل السلام بلوغ المرام، ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ، ورياض الصالحين.
ننصح أبناءنا الطلبة بالحرص على العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق الحسنة، وكسب الوقت فيما فيه خيرهم وصلاحهم في دينهم ودنياهم ، وأن يمرِّنوا أنفسهم على فعل الجميل والصبر على الأمور التي فيها مصلحتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
* * * 63ـ وسئل ـ حفظه الله تعالى ـ : بماذا تنصح من بدأ في طلب العلم على كبر سنه؟ وإن لم يتيسر له شيخ يأخذ منه ويلازمه فهل ينفعه طلب العلم بلا شيخ؟(7/242)
فأجاب فضيلته بقوله: نسأل الله تعالى أن يعين من أكرمه الله بالاتجاه إلى طلب العلم، ولكن العلم في ذاته صعب يحتاج إلى جهد كبير؛ لأننا نعلم أنه كلما تقدمت السن من الإنسان زاد حجمه وقل فهمه ، فهذا الرجل الذي بدأ الآن في طلب العلم ينبغي له أن يختار عالمًا يثق بعلمه ليطلب العلم عليه؛ لأن طلب العلم عن طريق المشايخ أوفر وأقرب وأيسر، فهو أوفر ؛ لأن الشيخ عبارة عن موسوعة علمية، لا سيما الذي عنده علم نافع في النحو والتفسير والحديث والفقه وغيره.
فبدلا من أن يحتاج إلى قراءة عشرين كتابًا يتيسر تحصيله من الشيخ ، وهو لذلك يكون أقصر زمنًا، وهو أقرب للسلامة كذلك؛ لأنه ربما يعتمد على كتاب ويكون نهج مؤلفه مخالفًا لنهج السلف سواء في الاستدلال أو في الأحكام .
فننصح هذا الرجل الذي يريد طلب العلم على الكبر أن يلزم شيخًا موثوقًا، ويأخذ منه؛ لأن ذلك أوفر له، ولا ييأس، ولا يقول بلغت من الكبر عتيًّا؛ لأنه بذلك يَحرم نفسه من العلم.(7/243)
وقد ذُكر أن بعض أهل العلم دخل المسجد يومًا بعد صلاة الظهر فجلس، فقال له أحد الناس: قم فصل ركعتين، فقام فصلى ركعتين ، وذات يوم دخل المسجد بعد صلاة العصر فكبر ليصلي ركعتين فقال له الرجل: لا تصلِّ فهذا وقت نهي، فقال : لا بد أن أطلب العلم، وبدأ في طلب العلم حتى صار إمامًا ، فكان هذا الجهل سببًا لعلمه ، وإذا علم الله منك حسن النية ومنَّ عليك بالتوفيق فقد تجمع من العلم الشيء الكثير .
* * * 64ـ وسئل فضيلة الشيخ : ما هي نصيحتك لمن ينسى ما يقرأ ويتعلم ؟
فأجاب بقوله : أهم شيء في حفظ العلم أن يعمل الإنسان بحفظه ؛ لقوله الله تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (محمد:17)
وقال { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } (مريم: من الآية 76) . فكلما عمل الإنسان بعلمه زاده الله حفظًا وفهمًا ، لعموم قوله : { زَادَهُمْ هُدًى }
وقد روي عن الشافعي -رحمه الله- قوله :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي(7/244)
ومن أسباب ذلك الإعراض عن الشواغل التي تأخذ بالفكر عن العلم؛ لأن الإنسان بشر إذا تشتت همته ضعفت قدرته على تحصيل العلم .
وكذلك كثرة البحث مع الزملاء بغرض الوصول للحق وليس للغلبة ولا شك الإخلاص من جملة ما يحفظ به العلم.
* * * 65ـ سئل فضيلة الشيخ : انتشرت الفتوى حتى صار الصغير يفتي، فما تعليقكم ـ غفر الله لكم ـ ؟(7/245)
فأجاب قائلا : كان السلف ـ رحمهم الله ـ يتدافعون الفتوى لعظم أمرها ومسئوليتها وخوفًا من القول على الله بلا علم؛ لأن المفتي مخبر عن الله مبين لشرعه، فإن قال على الله بلا علم؛ لأن المفتي مخبر عن الله مبين لشرعه، فإن قال على الله بلا علم فقد وقع فيما هو صنو للشرك، واستمع إلى قول الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (الأعراف:33) فقرن الله ـ سبحانه ـ القول عليه بلا علم بالشرك، وقال سبحانه : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } (الإسراء:36) فلا ينبغي أن يتسرع الإنسان في الفتوى ، بل ينتظر ويتدبر ويراجع ، فإن ضاق الوقت فيحول المسألة إلى من هو أعلم منه ليسلم من القول على الله بلا علم .(7/246)
وإذا علم الله من نيته الإخلاص وإرادة الصلاح فسوف يصل إلى المرتبة التي يريدها بفتواه ، فمن اتقى الله فسيوفقه الله ويرفعه .
والذي يفتي بلا علم أضل من الجاهل ، فالجاهل يقول : لا أدري ويعرف قدر نفسه ، ويلتزم الصدق ، أما الذي يقارن نفسه بأعلام العلماء بل ربما فضَّل نفسه عليهم فيَضل ويُضل ويخطئ في مسائل يعرفها أصغر طالب علم فهذا شره عظيم وخطره كبير .
* * * 66ـ سئل فضيلة الشيخ : هل يجوز لطالب العلم أن يرجح بعض الآراء الفقهية على بعض ثم يلزم بها غيره؟ وهل له أن يأخذ بالرأي المرجوح في بعض الأحوال وهو يعلم الراجح؟
فأجاب بقوله : إذا لم يتبين الحكم بيانًا تامًّا لطالب العلم ويظل عنده شك منه، فله أن يلزم نفسه به احتياطًا، ولا يلزم غيره بذلك؛ لأنه ليس عنده دليل بيّن يكون حجة له أمام الله عز وجل ـ حين يحرِّم أو يُوجب على عباد الله ما لم يثبت شرعًا ـ وكثيرًا ما يتردد المجتهد في بعض الأشياء فيحب أن يطبقها على نفسه ويحتمل ما يكون فيها من المشقة، ولكنه يخشى من إلزام عباد الله بها .(7/247)
ولذلك نقول : لا مانع أن يسلك الإنسان هذا المسلك، ولكنه لا يترك إعادة النظر مرة بعد أخرى حتى يتبين الأمر ويلزم الناس بمقتضى الدليل ولا يكون مقصرًا في طلب الدليل فيكون مقصرًا في بيان الشرع.
ولا يجوز له العمل بالمرجوح، بل يتعين عليه أن يعمل بالراجح إذا تبين له أنه راجح.
* * * 67ـ سئل فضيلة الشيخ : يلاحظ التقصير في العمل بالعلم، فما نصيحة فضيلتكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على من علم شيئًا صحيحًا من الشريعة أن يبلغه للناس ؛ لأن العمل بما علم الإنسان يستوجب حفظه بالعمل ويزيده الله تعالى بالقرآن نورًا فيكتسب من حفظ العلم بطريقة العمل به أن الله ـ عز وجل نورًا زائدًا على ما عنده قال الله تعالى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } (التوبة:124) { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } (التوبة:125) . ولهذا قيل : العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل .(7/248)
السلف الصالح في طلب العلم إذا علموا مسألة عملوا بها ، وكثير منهم لا يخفى عليه ما يقع من سرعة الامتثال والمبادرة للصحابة فيما عملوا حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ النساء على الصدقة في يوم العيد فجعل النساء يلقين ما على آذانهن من الحلي يلقينه في ثوب بلال رضي الله عنه ـ ولم يقلن إذا وصلنا إلى البيت تصدقنا ولكن بادرن بذلك .
وكذلك « الرجل الذي طرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه الذي كان من ذهب وألقاه في الأرض ما رجع إليه بعد أن علم التحريم حتى قيل له : خذ خاتمك لتنتفع به فقال : والله لا آخذ خاتمًا طرحه النبي صلى الله عليه وسلم » ، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: اخرجوا إلى بني قريظة : « لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة » (1) فخرجوا بعد أن كانوا مرهقين حتى إن الصلاة أدركتهم في الطريق فمنهم من صلى خوفًا من فوات الوقت ومنهم من أخر لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة » .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب صلاة الخوف ، باب : صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً ، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب : المبادرة بالغزو.(7/249)
فانظر يا أخي طالب العلم إلى سرعة امتثال الصحابة لما علموا من تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهل إذا طبَّقنا هذا الأمر على ما هو الواقع الآن ، فهل نحن على هذا الأمر في هذا الوقت؟ أعتقد أن هذا يفوت كثيرًا وما أكثر ما علمنا أن الصلاة ركن من أركان الإسلام يكفر المرء بتركها وما أكثر ما علمنا أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان ولا بد منه، وما أكثر ما علمنا أشياء كثيرة هي من المحظورات ، ومع ذلك نجد في طلبة العلم من ينتهك هذا المحظور، وكذلك من يترك هذا الواجب ولا يبالي به ، فهذا فرق عظيم بين طلب العلم في الماضي وطلبه في الحاضر.
68ـ وسئل فضيلة الشيخ : ما هي الطريقة الصحيحة في طلب العلم؟ هل يكون بحفظ المتون في علوم الشريعة أم فهمها؟ نرجو التوضيح حفظكم الله تعالى
.
فأجاب فضيلته بقوله: على طالب العلم أن يبدأ العلم شيئًا فشيئًا ، فعليك أن تبدأ في الأصول والقواعد والضوابط وما أشبه ذلك من المختصرات مع المتون؛ لأن المختصرات سُلّم إلى المطولات، لكن لا بد من معرفة الأصول والقواعد ومن لم يعرف الأصول حُرم الوصول.(7/250)
وكثير من طلبة العلم تجده يحفظ مسائل كثيرة لكن ما عنده أصل لو تأتيه مسألة واحدة شاذة عما كان يحفظه ما استطاع أن يعرف لها حلا ، لكن إذا عرف الضوابط والأصول استطاع أن يحكم على كل مسألة جزئية من مسائله، ولهذا فأنا أحث إخواني على معرفة الأصول والضوابط والقواعد لما فيها من الفائدة العظيمة ، وهذا شيء جرَّبناه وشاهدناه مع غيرنا على أن الأصول هي المهم، ومنها حفظ المختصرات ، وقد أراد بعض الناس أن يمكروا بنا قالوا لنا: إن الحفظ لا فائدة فيه، وإن المعنى هو الأصل، ولكن الحمد لله أنه أنقذنا من هذه الفكرة وحفظنا ما شاء الله أن نحفظ من متون النحو وأصول الفقه والتوحيد.
وعلى هذا فلا يُستهان بالحفظ ؛ فالحفظ هو الأصل، ولعل أحدًا منكم الآن يذكر عبارات قرأها من قبل مدة طويلة، فالحفظ مهم لطالب العلم حتى وإن كان فيه من الصعوبة، ونسأل الله سبحانه وتعالى ـ أن تكونوا ممن اهتدوا بطريقة سلفنا الصالح وأن يجعلنا من الهداة المهتدين، إنه جواد كريم .(7/251)
* * * 69ـ سئل فضيلة الشيخ : ما رأيكم بمن يترك الدعوة بحجة التفرغ لطلب العلم، وأنه لا يتمكن من الجمع بين الدعوة والعلم في بداية الطريق؛ لأنه يغلب على ظنه ترك العلم إذا اشتغل بالدعوة، ويرى أن يطلب العلم حتى إذا أخذ منه نصيبًا اتجه لدعوة الناس وتعليمهم وإرشادهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن الدعوة إلى الله تعالى مرتبة عالية ومقام عظيم؛ لأنه مقام الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وقد قال الله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (فصلت:33) وأمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (يوسف:108) ومن المعلوم أنه لا يمكن الدعوة بغير علم كما في قوله هنا : { عَلَى بَصِيرَةٍ } وكيف يدعو الشخص إلى شيء لا يعلمه؟ ومن دعا إلى الله تعالى بغير علم كان قائلا على الله ما لا يعلم، فالعلم هو المرتبة الأولى للدعوة.(7/252)
ويمكن الجمع بين العلم والدعوة في بداية الطريق ونهايته، فإن تعذر الجمع كان البدءُ بالعلم؛ لأنه الأصل الذي ترتكز عليه الدعوة، قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه في الباب العاشر من كتاب العلم : باب العلم قبل القول والعمل واستدل بقوله تعالى { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } (محمد:19) قال فبدأ بالعلم.
ومن ظن أنه لا يمكن الجمع بين العلم والدعوة فقد أخطأ، فإن الإنسان يمكنه أن يتعلم ويدعو أهله وجيرانه وأهل حارته وأهل بلدته وهو في طلب العلم .
والناس اليوم في حاجة بل في ضرورة إلى طلب العلم الراسخ المتمكن في النفوس المبني على الأصول الشرعية، وأما العلم السطحي الذي يعرف الإنسان به شيئًا من المسائل التي يتلقاها كما يتلقاها العامة دون معرفة لأصولها وما بنيت عليه فإنه علم قاصر جدًّا لا يتمكن الإنسان به من الدفاع عن الحق وقت الضرورة وجدال المبطلين.(7/253)
فالذي أنصح به شباب المسلمين أن يكرسوا جهودهم لطلب العلم مع القيام بالدعوة إلى الله بقدر استطاعتهم وعلى وجه لا يصدهم عن طلب العلم ؛ لأن طلب العلم جهاد في سبيل الله تعالى، ولهذا قال أهل العلم: إذا تفرغ شخص قادر على التكسب من أجل طلب العلم فإنه يعطى من الزكاة؛ لأن ذلك من الجهاد في سبيل الله بخلاف ما إذا تفرغ للعبادة، فإنه لا يعطى من الزكاة؛ لأنه قادر على التكسب.
* * * 70ـ سئل الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ : ما رأي فضيلتكم في تعلم التجويد والالتزام به؟
وهل صحيح ما يذكر عن فضيلتكم ـ حفظكم الله تعالى ـ من الوقوف بالتاء في نحو(الصلاة، الزكاة)؟
فأجاب قائلا: لا أرى وجوب الالتزام بأحكام التجويد التي فصلت بكتب التجويد، وإنما أرى أنها من باب تحسين القراءة، وباب التحسين غير الإلزام، وقد ثبت في صحيح البخاري (1) عن أنس بن مالك -رضي الله عنهما- « أنه سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: كانت مدًّا، ثم قرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" يمدّ ببسم الله، ويمد بالرحمن ، ويمد بالرحيم » .
والمد هنا طبيعي لا يحتاج إلى تعمده ، والنص عليه هنا يدل على أنه فوق الطبيعي .
_________
(1) في فضائل القرآن، باب: مدّ القراءة (4759).(7/254)
ولو قيل بأن العلم بأحكام التجويد المفصلة في كتب التجويد واجب للزم تأثيم أكثر المسلمين اليوم، ولقلنا لمن أراد التحدث باللغة الفصحى: طبق أحكام التجويد في نطقك بالحديث وكتب أهل العلم وتعليمك ومواعظك.
وليعلم أن القول بالوجوب يحتاج إلى دليل تبرأ به الذمة أمام الله -عز وجل- في إلزام عباده بما لا دليل على إلزامهم به من كتاب عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في جواب له أن التجويد حسب القواعد المفصلة في كتب التجويد غير واجب.
وقد اطلعت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه اله ـ حول حكم التجويد قال فيه ص50 مجلد 16 من مجموع ابن قاسم -رحمه الله- للفتاوى : "ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك ، فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق ب ( أأنذرتهم ) وضم الميم من (عليهم) ووصلها بالواو وكسر الهاء أو ضمها ونحو ذلك وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت" . ا.هـ .(7/255)
وأما ما سمعتم من أني أقف بالتاء في نحو " الصلاة، الزكاة" فغير صحيح بل أقف في هذا وأمثالها على الهاء.
* * *
71ـ سئل فضيلة الشيخ : بعض الناس يكتبون حرف (ص) بين قوسين ويقصدون به الرمز لجملة صلى الله عليه وسلم ، فهل يصح استعمال حرف (ص) رمزًا لكلمة (صلى الله عليه وسلم )؟
فأجاب فضيلته بقوله : من آداب كتابة الحديث كما نص عليه علماء المصطلح ألا يرمز إلى هذه الجملة بحرف(ص)، وكذلك لا يعبر عنها بالنعت مثل(صلعم)، ولا ريب أن الرمز أو النعت يفوت الإنسان أجر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذا كتبها ثم قرأ الكتاب من بعده وتلا القارئ هذه الجملة صار للكاتب الأول نيل ثواب من قرأها، ولا يخفى علينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما ثبت عنه : « أن من صلى عليه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا » (1) .
فلا ينبغي للمؤمن أن يحرم نفسه الثواب والأجر ؛ لمجرد أن يسرع في إنهاء ما كتبه.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد 2 / 168.(7/256)
* * * 72ـ سئل فضيلة الشيخ : عندما يطرح سؤال شرعي يتسابق عامة الناس إذا كانوا في مجلس مثلا بالفتيا في تلك المسألة وبغير علم غالبًا، فما تعليقكم على هذه الظاهرة؟ وهل يعتبر هذا الأمر من التقديم بين يدي الله ورسوله؟
فأجاب بقوله: من المعلوم أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في دين الله بغير علم؛ لأن الله تعالى يقول: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (الأعراف: 33)(7/257)
والواجب على الإنسان أن يكون وَرِعًا خائفًا من أن يقول على الله بغير علم، وليس هذا من الأمور الدنيوية التي للعقل فيها مجال، على أنها وإن كانت من الأمور الدنيوية التي للعقل فيها مجال، فإن الإنسان ينبغي له أن يتأنى وأن يتروى، وربما يكون الجواب الذي في نفسه يجيب به غيره ، فيكون هو كالحكم بين المجيبين وتكون كلمته هي الأخيرة الفاصلة، وما أكثر ما يتكلم الناس بآرائهم ، أعني غير المسائل الشرعية، فإذا تأنى الإنسان وتأخر ظهر له من الصواب من أجل تعدد الآراء ما لم يكن على باله.
ولهذا فإني أنصح كل إنسان أن يتأنى وأن يكون هو الأخير في التكلم ؛ ليكون كالحاكم بين هذه الآراء، ومن أجل أن تظهر له في الآراء المختلفة ما لم يظهر له قبل سماعها، هذا بالنسبة للأمور الدنيوية، أما الأمور الدينية فلا يجوز أبدًا أن يتكلم الإنسان إلا بعلم يعلمه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو أقوال أهل العلم.
* * * 73ـ وسئل ـ أعلى الله درجته ـ : عن كتاب بدائع الزهور؟
فأجاب قائلا: هذا الكتاب رأيت فيه أشياء كثيرة غير صحيحة، ولا أرى أن يقتنيه الإنسان ولا أن يجعله بين أيدي أهله لما فيه يمن الأشياء المنكرة.(7/258)
* * * 74ـ وسئل أيضًا : عن كتاب تنبيه الغافلين؟
فأجاب فضيلته بقوله: تنبيه الغافلين كتاب وعظ وغالب كتب المواعظ يكون فيها الضعيف، وربما الموضوع ويكون فيها حكايات غير صحيحة، يريد المؤلفون بها أن يرققوا القلوب وأن يبكوا العيون، ولكن هذا ليس بطريق سديد؛ لأن فيما جاء في كتاب الله وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواعظ كفاية.
ولا ينبغي أن يوعظ الناس بأشياء غير صحيحة سواء نُسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو نُسبت إلى قوم صالحين قد يكونوا أخطأوا فيما ذهبوا إليه من الأقوال والأعمال، والكتاب فيه أشياء لا بأس بها ومع ذلك فإنني لا أنصح أن يقرأه إلا الشخص الذي عنده علم وفهم وتمييز بين الصحيح والضعيف والموضوع .
* * * 75ـ وسئل فضيلته : ما هي مكانة وفضل أهل العلم في الإسلام؟
فأجاب فضيلته بقوله: مكانة أهل العلم أعظم مكانة؛ لأنهم ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولهذا يجب عليهم من بيان العلم والدعوة إلى الله ما لا يجب على غيرهم، وهم في الأرض كالنجوم في السماء يهدون الخلق الضالين التائهين، ويبينون لهم الحق ويحذرونهم من الشر ولذلك كانوا في الأرض كالغيث يصيب الأرض القاحلة فتنبت بإذن الله .(7/259)
ويجب على أهل العلم من العمل والأخلاق والآداب ما لا يجب على غيرهم؛ لأنهم أسوة وقدوة فكانوا أحق الناس وأولى الناس بالتزام الشرع في آدابه وأخلاقه .
* * * 76ـ سئل فضيلة الشيخ : بعض الناس يعتقد أن دور علماء المسلمين مقصور على الأحكام الشرعية وأنه لا دخل لهم في العلوم الأخرى كالسياسة والاقتصاد ونحوهما، فما رأيكم في هذا الاعتقاد؟
فأجاب فضيلته بقوله: رأينا في هذا الاعتقاد أنه مبني على الجهل في حال العلماء، ولا ريب أن العلماء علماء الشريعة عندهم علم في الاقتصاد وفي السياسة، وفي كل ما يحتاجون إليه في العلوم الشرعية، وإذا شئت أن تعرف ما قلته فانظر إلى محمد رشيد رضا ـ رحمه الله صاحب مجلة المنار في تفسيره وفي غيرها من كتبه .
وانظر أيضًا إلى من قبله من أهل العلم بالشرع من يكون مقدمًا للأهم على المهم، فتجده في العلم الشرعي بلغ إلى نصيب كبير وفي العلوم الأخرى يكون أقل من ذلك بناء على قاعدة أن تبدأ بالأهم قبل المهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين » (1) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص13 .(7/260)
* * * 77ـ سئل فضيلة الشيخ : متى يكون الخلاف في الدين معتبرًا؟ وهل يكون الخلاف في كل مسألة أم له مواضع معينة؟ نرجو بيان ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: اعلم أولا أن خلاف علماء الأمة الإسلامية إذا كان صادرًا عن اجتهاد فإنه لا يضر من لم يوفق للصواب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد » (1) . ولكن من تبين له الحق وجب عليه اتباعه بكل حال، والاختلاف الذي يقع بين علماء الأمة الإسلامية لا يجوز أن يكون سببًا لاختلاف القلوب؛ لأن اختلاف القلوب يحصل فيه مفاسد عظيمة كبيرة كما قال تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (الأنفال: 46)
والخلاف المعتبر بين العلماء والذي ينقل ويذكر هو الخلاف الذي له حظ من النظر، أما خلاف العامة الذين لا يفهمون ولا يفقهون فلا عبرة به ولهذا يجب على العامي أن يرجع إلى أهل العلم كما قال الله تعالى:( { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل ، الآية : 43]
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب : أجر الحاكم إذا اجتهد، ومسلم، كتاب الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد .(7/261)
وأما قول السائل: هل يكون الخلاف في كل مسألة؟
فالجواب أن الخلاف قد يكون في بعض المسائل التي يختلف فيها الاجتهاد أو يكون بعض الناس أعلم من بعض في الاطلاع على نصوص الكتاب والسنة، أما المسائل الأصلية فإنها يقل فيها الخلاف.
* * *
78ـ وسئل فضيلة الشيخ : ما حكم الاجتهاد في الإسلام؟
فأجاب قائلا: الاجتهاد في الإسلام هو: بذل الجهد لإدراك حكم شرعي من أدلته الشرعية.
وهو واجب على من كان قادرًا عليه؛ لأن الله -عز وجل- يقول: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (النحل: من الآية 43). والقادر على الاجتهاد يمكنه معرفة الحق بنفسه ولكن لا بد أن يكون ذا سعة في العلم واطلاع على النصوص الشرعية وعلى الأصول المرعية، وعلى أقوال أهل العلم ؛ لئلا يقع فيما يخالف ذلك، فإن من طلبة العلم من لم يدركوا من العلوم إلا الشيء اليسير، ثم ينصب نفسه مجتهدًا فتجده يعمل بأحاديث عامة، لها ما يخصها أو يعمل بأحاديث منسوخة لا يعلم ناسخها أو يعمل بأحاديث أجمع العلماء على أنها على خلاف ظاهرها ولا يدري عن إجماع العلماء ومثل هذا على خطر عظيم.(7/262)
فالمجتهد لا بد أن يكون عنده علم بالأدلة الشرعية وعنده علم بالأصول التي إذا عرفها استطاع أن يستنبط الأحكام من أدلتها وعلم بما عليه العلماء ؛ لئلا يخالف الإجماع وهو لا يدري ، فإذا كانت هذه الشروط في حقه موجودة متوافرة فإنه يجتهد ويمكن أن يتجزأ الاجتهاد بأن يجتهد الإنسان في مسألة من مسائل العلم فيبحثها ويحققها ويكون مجتهدًا فيها أو في باب من أبواب العلم كأبواب الطهارة مثلا يبحثه ويحققه ويكون مجتهدًا فيه .
* * * 79ـ سئل فضيلة الشيخ : هل يجب التقليد لمذهب معين أم لا ؟
فأجاب قائلا: نعم، يجب التقليد لمذهب معين وجوبًا لازمًا؛ لكن هذا المذهب المعين الذي يجب تقليده مذهب الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الذي ذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع، وهو الذي به سعادة الدنيا والآخرة، قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (آل عمران:31).(7/263)
وقال تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (آل عمران:132) فهذا هو المذهب الواجب الاتباع بإجماع أهل العلم وأما غير هذا المذهب فإن اتباعه ضائع إذا لم يتبين الدليل من خلافه ، فإن تبين الدليل بخلافه فاتباعه محرم .
حتى قال شيخ الإسلام -رحمه الله- من قال : إن أحدًا من الناس يجب طاعته في كل ما قال ، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأن في ذلك طاعة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق -رحمه الله- لا أحد من الناس يجب أن يؤخذ بقوله مطلقًا إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجب الأخذ بقوله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » . (1) وقال : « إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا » (2)
80ـ سئل فضيلة الشيخ : من الملاحظ في الصحوة الإسلامية الاتجاه إلى العلم ولله الحمد والمنة، وخصوصًا علم السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم ومن الملاحظات:
أ ـ العرض للصحيحين ( البخاري ومسلم ) نقدًا، تضعيفًا وتصحيحًا من قبل بعض طلبة العلم الذين لم ترسخ أقدامهم في هذا العلم، علمًا بأن هذين الكتابين من أصول السنة والجماعة وقد تلقتهما الأمة بالقبول.
_________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب المناقب، وابن ماجه في المقدمة .
(2) مسلم، كتاب المساجد ، باب: قضاء الصلاة الفائتة .(7/264)
ب ـ رواج مذهب الظاهرية عند غالبية الشباب والإعراض عن كتب فقهاء الأمة .
جـ ـ انشغال بعض طلبة هذا العلم الشريف به عن العلوم الضرورية لطلبة العلم الشرعي مثل القرآن الكريم، واللغة العربية ، والفقه ، والفرائض ... إلخ .
د ـ شيوع ظاهرة التعالم والتصدر للتدريس والفتيا من قبل بعض طلبة العلم الذين لا يُعرف لهم شيوخ ولا قدم ثابتة في العلم وإنما هي القراءة ومطالعة الكتب .
فما توجيهكم حفظكم الله ورعاكم؟
فأجاب حفظه الله ورعاه قائلا :(7/265)
الجواب على الملاحظة الأولى : لا شك أن هذه الصحوة صاحَبَها ولله الحمد حب اتباع السنة والحرص عليها، ولكن كما ذكرت صار ينتهج هذا المنهج قوم لم يبلغوا ما بلغ أهل العلم من قبلهم في التحري والدقة، وربط الشريعة بعضها بعض، وتقييد مطلقها وتخصيص عامّها والرجوع إلى القواعد العامة المعروفة بالشريعة، فصاروا يلتقطون من كل وجه حتى في الأحاديث الضعيفة التي لا يعمل بها عند أهل العلم لشذوذها ومخالفتها لما في الكتب المعتمدة بين الأمة ، تجدهم يتلقفونها ويحتدون فيها وفي العلم بها وفي الإنكار على من خالفها، وكذلك أيضًا تجدهم قد بلغ ببعضهم العجب إلى أن صاروا يعترضون على الصحيحين أو أحدهما من الناحية الحديثية، ويعترضون على الأئمة من الناحية الفقهية، الأئمة الذين أجمعت الأمة على إمامتهم وحسن نيتهم وعلمهم، فتجد هؤلاء الذين لم يبلغوا ما بلغه من سبقهم يتعرضون لهؤلاء الأئمة ويحطون من قدرهم وهذه وصمة عظيمة لهذه الصحوة، والواجب على الإنسان أن يتريث، وأن يتعقل وأن يعرف لذوي الحق حقهم ولذوي الفضل فضلهم، وإنما يعرف الفضل من الناس أهله، نسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق.(7/266)
وأما الجواب على الملاحظة الثانية فنقول : هذا أيضًا من البلاء، ولعل في جوابي السابق ما يدل عليه؛ لأن مذهب الظاهرية -كما هو معروف- مذهب يأخذ بالظاهر ولا يرجع إلى القواعد العامة النافعة، ولو أننا ذهبنا نتتبع من أقوالهم ما يتبين به فساد منهجهم أو بعض منهجهم لوجدنا الكثير، ولكننا لا نحب أن نتتبع عورة الناس .
والجواب على الملاحظة الثالثة : فلا شك أن الأولى بطالب العلم أن يبدأ أولا بكتاب الله -عز وجل- فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا لا يتعلمون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل ، ثم بالسنة النبوية، ولا يقتصرون على معرفة الأسانيد والرجال والعلل إنما يحرصون على مسألة فقه هذه السنة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: « رب مُبلغ أوعى من سامع » (1) ويقول : « رُبَّ حامل فقهٍ ليس بفقيه » (2) .
والناس الآن في ضرورة إلى معرفة الأسانيد وصحتها وفي ضرورة أيضًا إلى الفقه في هذه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقها على القواعد والأصول الشرعية حتى لا يضل الإنسان ويضل غيره .
_________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى.
(2) أخرجه الإمام أحمد 5/183.(7/267)
الجواب على الملاحظة الرابعة : يجب أن يعلم الإنسان المفتي، أنه سفير بين الله وبين خلقه، ووارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يكون عنده علم راسخ يستطيع به أن يفتي عباد الله، ولا يجوز للإنسان أن يتصدر للفتوى والتدريس وليس معه علم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر « أن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا » (1) والحمد لله، الإنسان الذي يريد الخير ولكنه يأتي حتى يدركه وينشره فإنه إن فسح له الأجل حتى أدرك ما أراد فهذا هو مطلوبه، وإن لم يفسح له في الأجل وقضى الله عليه الموت، فإنه كالذي يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله .
وكم من إنسان تعجل في التدريس والفتيا فندم؛ لأنه تبين له أن ما كان يقرره في تدريسه أو يفتي به في فتواه كان خطأ، والكلمة إذا خرجت من فم صاحبها ملكته، وإذا كانت عنده ملكها.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب: كيف يُقبض العلم، ومسلم، كتاب العلم، باب: رفع العلم وقبضه .(7/268)
فليحذر الإخوة الذين هم في ريعان طلب العلم من التعجل وليتأنوا حتى تكون فتواهم مبينة على أسس سليمة، وليس العلم كالمال يتطلب الإنسان فيه الزبائن ليدرك من يبيع بل يدرك من يشتري منه، بل العلم إرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيجب على الإنسان أن يكون مستشعرًا حين الفتوى شيئين:
الأول : أنه يقول عن الله -عز وجل- وعن شريعة الله .
الثاني : أنه يقول عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء.
* * * 81ـ وسئل ـ غفر الله له ـ عن أقسام الناس في طلب علم الكتاب والسنة الصحيحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: انقسم الناس في طلب علم الكتاب والسنة إلى أربعة أقسام:
القسم الأولى : من تجده مُعرضًا عن الكتاب والسنة، مكبًّا على الكتب الفقهية المذهبية يعمل بما فيها مطلقًا، ولا يرجع إلا إلى ما قاله فلان وفلان من أصحاب الكتب المذهبية.
القسم الثاني : من أكب على علوم القرآن، مثل علم التجويد أو ما يتصل بمعناه أو إعرابه وبلاغته، وأما بالنسبة للسنة وعلم الحديث فهو قليل البضاعة فيها وهذا قصور بين بلا شك.(7/269)
القسم الثالث : من تجده مكبًّا على علم الحديث وعلم تحقيق الأسانيد وما فيها من علل وما يتعلق بالحديث من حيث القبول أو الرد؛ ولكنه في علوم القرآن ضعيف جدًّا، فلو سألته عن تفسير أوضح آية في كتاب الله فلا يعرف تفسيرها، وكذلك في علم التوحيد والعقيدة ولو سُئِلَ لم يعرف، وهذا قصور كبير بلا شك .
القسم الرابع : من كان حريصًا على الجمع بين الكتاب والسنة الصحيحة، وما كان عليه سلف الأمة مما يتعلق بعلم الكتاب والسنة، ومع ذلك ليس معرضًا عما قاله أهل العلم في كتبهم بل هو يقيم له وزنًا ويستعين به على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن العلماء ـ رحمهم الله ـ وضعوا قواعد وضوابط وأصولا ينتفع بها طالب العلم، حتى المفسر في تفسير القرآن وحتى طالب السنة في معرفة السنة أو في شرح معانيها فيكون مركزًا على الكتاب والسنة ومستعينًا بما قاله أهل العلم في كتبهم وهذا هو خير الأقسام .
ولننظر هل نحن طبقنا سير العلم على هذه الطريقة الأخيرة أو أننا من القسم الأول أو الثاني أو الثالث .(7/270)
فإذا كان غير القسم الأخير فإنه يجب أن نُصحح طريقنا؛ لأن الله يقول في كتابه: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء ، الآية : 59] وأولي الأمر يشمل العلماء ويشمل الأمراء : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } ... الآية ) [النساء ، الآية : 59]. ونحن دائمًا لا سيما إذا رجعنا إلى المأخوذ عن الصحابة والتابعين نجدهم دائمًا يتحاكمون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ومع ذلك فإني لا أقول : إنه يجب أن تهدر أقوال العلماء، بل أقوال العلماء لها قيمتها ووزنها واعتبارها ويستعان بها على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
* * * 82ـ سئل ـ غفر الله له ـ : ما قول فضيلتكم في بعض الطلاب الذين يدرسون من أجل الوظيفة والراتب، وكذلك ما يفعله البعض من استئجار من يكتب لهم البحوث، أو يعد لهم الرسائل، أو يحقق بعض الكتب فيحصلون به على شهادات علمية؟(7/271)
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على طلبة العلم إخلاص النية لله -عز وجل- وأن يعتقد أنه ما قرأ حرفًا ولا كلمة، ولا أتم صفحة في العلم الشرعي إلا وهو يقربه إلى الله -عز وجل- ولكن كيف يمكن أن ينوي التقرب إلى الله بطلب العلم؟
الجواب: يمكن ذلك؛ لأن الله أمر به، والله إذا أمر بشيء ففعله الإنسان امتثالا لأمر الله، فتلك عبادة الله؛ لأن عبادة الله هي امتثال أمره، واجتناب نهيه، وطلب مرضاته، واتقاء عقوبته.(7/272)
ومن إخلاص النية في طلب العلم أن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره من الأمة، وعلامة ذلك أن الرجل تجده بعد طلب العلم متأثرًا بما طلب، متغيرًا في سلوكه ومنهاجه، وتجده حريصًا على نفع غيره، وهذا يدل على أن نيته في طلب العلم رفع الجهل عنه وعن غيره فيكون قدوة، صالحًا مصلحًا، وهذا ما كان عليه السلف الصالح، أما ما عليه الخلف اليوم فيختلف كثيرًا عن ذلك، فتجد الأعداد الكبيرة من الطلاب في الجامعات والمعاهد، منهم من نيته لا تنفعه في الدنيا والآخرة، بل تضره، فهو ينوي أن يصل إلى الشهادة لكي يتوصل بها إلى الدنيا فقط، وقد جاء التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: « من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة » أي ريحها ـ .
وهذا خطر عظيم، فعلم شرعي تجعله وسيلة إلى عرض الدنيا، هذا قلب للحقائق، والطالب إذا أخلص النية جاءته الدنيا تبعًا ولن يفوته شيء وسيخرج هو ومن يريد الشهادة للدنيا على حد سواء، بل المخلص أكثر تحصيلا للعلم وأبلغ رسوخًا فيه.(7/273)
وإن مما يؤسف له ـ كما ذكر السائل ـ أن بعض الطلاب يستأجرون من يعد لهم بحوثًا أو رسائل يحصلون على شهادات علمية، أو من يحقق بعض الكتب فيقول لشخص حضِّر لي تراجم هؤلاء وراجع البحث الفلاني، ثم يقدمه رسالة ينال بها درجة يستوجب بها أن يكون في عداد المعلمين أو ما أشبه ذلك، فهذا في الحقيقة مخالف لمقصود الجامعة ومخالف للواقع، وأرى أنه نوع من الخيانة؛ لأنه لا بد أن يكون المقصود من ذلك الشهادة فقط فإنه لو سئل بعد أيام عن الموضوع الذي حصل على الشهادة فيه لم يجب.
لهذا أحذر إخواني الذين يحققون الكتب أو الذين يحضّرون رسائل على هذا النحو من العاقبة الوخيمة، وأقول: إنه لا بأس من الاستعانة بالغير ولكن ليس على وجه أن تكون الرسالة كلها من صنع غيره، وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح ، إنه سميع مجيب .
* * * 83ـ سئل فضيلة الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ : هل العلوم كالطب والهندسة من التفقه في دين الله؟(7/274)
فأجاب فضيلته بقوله: ليست هذه العلوم من التفقه في دين الله؛ لأن الإنسان لا يدرس فيها الكتاب ولا السنة، لكنها من الأمور التي يحتاجها المسلمون، ولهذا قال بعض أهل العلم: عن تعلم الصناعات والطب والهندسة والجيولوجيا وما أشبه ذلك من فروض الكفايات، لا لأنها من العلوم الشرعية، ولكن لأنها لا تتم مصالح الأمة إلا بها، ولهذا أنبه الإخوان الذين يدرسون مثل هذه العلوم أن يكون قصدهم بتعلم هذه العلوم نفع إخوانهم المسلمين ورفع أمتهم الإسلامية. الأمة الإسلامية الآن ملايين لو أنها استغلت مثل هذه العلوم فيما ينفع المسلمين لكان في ذلك خير كثير، ولا ما احتجنا إلى الكفار في تحصيل كمالياتنا بل وفي تحصيل ضرورياتنا أحيانًا، فهذه العلوم إذا قصد بها الإنسان القيام بمصالح العباد صارت مما يقرب إلى الله لا لذاتها ولكن لما قُصد بها، أما أنها فقه في الدين فليست فقهًا في الدين؛ لأن الفقه في الدين هو الفقه في أحكام الله تعالى الشرعية والقدرية، والفقه في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته.
* * *
84ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : بِمَ يكون الإخلاص في طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإخلاص في طلب العلم يكون بأمور:(7/275)
الأمر الأول: أن تنوي بذلك امتثال أمر الله؛ لأن الله أمر بذلك فقال : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } (محمد: من الآية 19). وحث سبحانه وتعالى على العلم، والحث على الشيء يستلزم محبته والرضا به والأمر به.
الأمر الثاني: أن تنوي بذلك حفظ شريعة الله؛ لأن حفظ شريعة الله يكون بالتعلم والحفظ في الصدر ويكون كذلك بالكتابة.
الأمر الثالث: أن تنوي حماية الشريعة والدفاع عنها؛ لأنه لولا العلماء ما حُميت الشريعة ولا دافع عنها أحد، ولهذا نجد مثلا شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم تصدوا لأهل البدع وبيَّنوا بطلان بدعهم، نرى أنهم حصلوا على خير كثير.
الأمر الرابع: أن تنوي بذلك اتباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنك لا يمكن أن تتبع شريعته حتى تعلم هذه الشريعة.
الأمر الخامس: أن تنوي بذلك رفع الجهل عن نفسك وعن غيرك.
* * * 85ـ سئل فضيلة الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ : يقول بعض الناس : إن إخلاص النية في عصرنا الحاضر صعب أو قد يكون مستحيلا؛ لأن الذين يطلبون العلم ولا سيما الطلب النظامي يطلبون العلم لنيل الشهادة فحسب؟(7/276)
فأجاب فضيلته بقوله: نقول: إذا كنت تطلب العلم لنيل الشهادة، فإن كنت تريد من هذه الشهادة أن ترتقي مرتقى دنيويًّا فالنية فاسدة، أما إذا كنت تريد أن ترتقي إلى مرتقى تنفع الناس به لأنك تعرف اليوم أنه لا يمكَّن الإنسان من ارتقاء المناصب العالية النافعة للأمة إلا إذا كان معه شهادة، فإذا قصدت بهذه الشهادة أن تنال ما تنفع الناس به فهذه نية طيبة لا تنافي الإخلاص.
* * * 86ـ وسئل فضيلة الشيخ : ما نصيحة فضيلتكم حول العمل بالعلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بد من العمل بالعلم، لأن ثمرة العلم العمل؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه صار من أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة كما قيل:
وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عبّاد الوثن(7/277)
فإذا لم يعمل بعلمه أورث الفشل في العلم وعدم البركة ونسيان العلم، لقول الله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } (المائدة: من الآية 13) وهذا النسيان يشمل النسيان الذهني والنسيان العملي، فيكون بمعنى ينسونه ذهنيًّا أو ينسونه يتركونه؛ لأن النسيان في اللغة العربية يطلق بمعنى الترك، أما إذا عمل الإنسان بعلمه فإن الله تعالى يزيده هدى، قال تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } . [محمد ، الآية : 17]. ويزيده تقوى ولهذا قال : { وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد، الآية :17]. فإذا عمل بعلمه ورَّثه الله علم ما لم يعلم ولهذا قال بعض السلف : العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
* * * 87ـ سئل الشيخ ـ وفقه الله تعالى : ما الأمور التي جب توافرها فيمن يتلقى عنه العلم؟(7/278)
فأجاب فضيلته بقوله: لا بد أن يُطلب العلم على شيخ متقن ذي أمانة؛ لأن الإتقان قوة، والقوة لا بد معها من أمانة، قال الله تعالى: { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } (القصص: من الآية 26). ربما يكون العالم عنده إتقان وسعة علم وقدرة على التفريع والتقسيم، ولكن ليس عنده أمانة فربما أضلك من حيث لا تشعر، وليعلم أن أخذ العلم عن الشيخ أفيد من الكتب من وجوه:
الأول:قصر المدة.
الثاني: قلة التكلفة.
الثالث: أن ذلك أحرى بالصواب.(7/279)
لأن هذا الشيخ قد علم وتعلم ورجح وفهم فيعطيك الشيء ناضجًا، لكنه يمرنك على المطالعة والمراجعة إذا كان عنده شيء من الأمانة، أما من اعتمد على الكتب فلا بد أن يكرس جهوده ليلا ونهارًا، ثم إذا طالع الكتب التي يقارن فيها بين أقوال العلماء فسيقت أدلة هؤلاء وسيقت أدلة هؤلاء من يدله على أن هذا أصوب؟ يبقى متحيِّرًا، ولهذا نرى أن ابن القيم حينما يناقش قولين لأهل العلم سواء في زاد المعاد أو إعلام الموقعين إذا ساق أدلة القول الأول وعلله نقول هذا هو القول الصواب ولا يجوز العدول عنه بأي حال من الأحوال ثم ينقضه ويأتي بالقول المقابل ويذكر أدلته وعلله فتقول هذا هو القول الصواب، فيحصل عندك من الإشكال والتردد، فلا بد أن تكون قراءتك على شيخ متقن أمين .
* * * 88ـ وسئل فضيلة الشيخ : بعض المبتدئين يبدءون في القراءة من كتاب المحلى لابن حزم بحجة التمرن على المناظرة وحينما تنصحهم بأن هذا سابق لأوانه فيقولون نريد التمرن فهل هذا صحيح؟(7/280)
فأجاب فضيلته بقوله: مناظرة ابن حزم -رحمه الله- مناظرة صعبة، يشدد على خصمه، ويحصل منه أحيانًا سبّ لمخالفه، فهو -رحمه الله- كان شديدًا جدًّا، وأخشى أن يكون طالب العلم الصغير إذا تعود على مثل ما كان عليه ابن حزم أخشى عليه من المماراة، فلو أنه سلاك مسلكًا سهلا لكان أحسن، وإذا حصل على قدر كبير من العلم ـ إن شاء الله ـ وعرف كيف يستفيد من ابن حزم فليطالع في كتابه، لذلك لا أنصح بمطالعته للطالب المبتدئ، لكن التمرن على المجادلة لإثبات الحق أمر لا بد منه، فكثير من الناس عنده علم واسع لكنه عند المجادلة لا يستطيع إثبات الحق.
* * * 89ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : إذا أراد طالب العلم الفقه فهل له الاستغناء عن أصول الفقه؟(7/281)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أراد طالب العلم أن يكون عالمًا في الفقه فلا بد أن يجمع بين الفقه وأصول الفقه ليكون متبحرًا متخصصًا فيه، وإلا فيمكن أن تعرف الفقه بدون علم الأصول، ولكن لا يمكن أن تعرف أصول الفقه، وتكون فقيهًا بدون علم الفقه، أي أنه يمكن أن يستغني الفقيه عن أصول الفقه ولا يمكن أن يستغني الأصولي عن الفقه إذا كان يريد الفقه، ولهذا اختلف علماء الأصول هل الأولى لطالب العلم أن يبدأ بأصول الفقه حتى يبني الفقه عليها، أو بالفقه لدعاء الحاجة إليه، حيث إن الإنسان يحتاج إليه في عمله، في عبادته ومعاملاته قبل أن يتقن أصول الفقه، والثاني هو الأولى وهو المتبع غالبًا.
* * * 90ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين : بعض طلبة العلم يأتي إلى مسألة من مسائل العلم فيبحثها ويحققها بأدلتها ومناقشتها مع العلماء، فإذا حضر مجلس عالم يشار إليه بالبنان، قال: ما تقول أحسن الله إليك في كذا وكذا، قال: هذا حرام مثلا، قال: كيف؟ بم تجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم كذا ؟ عن قول فلان كذا؟ ثم أتى بأدلة لا يعرفها العالم؛ لأن العلام ليس محيطًا بكل شيء حتى يُظهر نفسه أنه أعلم من هذا العالم فما رأي فضيلتكم؟(7/282)
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة تقع كثيرًا يأتي الإنسان يكون باحثًا المسألة بحثًا دقيقًا جيدًا ثم يباغت العلماء بمثل هذا، وعلى الإنسان أن يكون سؤاله لطلب العلم ومعرفة الحق لا ليظهر علمه وضعف علم غيره .
والحاصل أن الإنسان يجب أن يكون متأدبًا مع من هو أكبر منه، وإذا حصل خطأ ممن هو أكبر، فالخطأ يجب أن يُبين بحال لبقة أو ينتظر حتى يخرج مع هذا العالم ويكلمه بأدب، والعالم الذي يتقي الله إذا بان له الحق فإنه سوف يرجع إليه، وسوف يبين للناس أنه رجع عن قوله.
* * *
91ـ وسئل فضيلة الشيخ : ما توجيهكم حول استغلال الوقت وحفظه من الضياع؟
فأجاب فضيلته قائلا: ينبغي لطالب العلم أن يحفظ وقته عن الضياع، وضياع الوقت يكون على وجوه:
الوجه الأول: أن يدع المذاكرة ومراجعة ما قرأ.
الوجه الثاني:أن يجلس إلى أصدقائه ويتحدث بحديث لغو ليس فيه فائدة.(7/283)
الوجه الثالث: وهو أضرها على طالب العلم ألا يكون له هم إلا تتبع أقوال الناس وما قيل وما قال، وما حصل وما يحصل في أمر ليس معنيًّا به، وهذا لا شك أنه من ضعف الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » (1) ، والاشتغال بالقيل والقال وكثرة السؤال مضيعة للوقت، وهو في الحقيقة مرض إذا دبَّ في الإنسان ـ نسأل الله العافية ـ صار أكبر همه، وربما يعادي من لا يستحق العداء، أو يوالي من لا يستحق الولاء، من أجل اهتمامه بهذه الأمور التي تشغله عن طلب العلم بحجة أن هذا من باب الانتصار للحق، وليس كذلك، بل هذا من إشغال النفس بما لا يعني الإنسان، أما إذا جاءك الخبر بدون أن تلقفه وبدون أن تطلبه، فكل إنسان يتلقى الأخبار، لكن لا ينشغل بها، ولا تكون أكبر همه؛ لأن هذا يشغل طالب العلم، ويفسد عليه أمره ويفتح في الأمة باب الحزبية فتتفرق الأمة.
* * * 92ـ وسئل فضيلة الشيخ : هل يجوز لطالب العلم إذا كان في مجلس عامة أن يقول لهم من عنده مسألة أو مشكلة فليطرحها حتى أجيب عليها وتحصل الفائدة؟
_________
(1) تقدم تخريجه 93.(7/284)
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز عرض العالم على المتعلم وعامة الناس أن يسألوا عما بدا لهم ولا يعد ذلك إعجابًا من العالم بنفسه؛ لأنه قد يقول قائل: لماذا يقول اسأل عما بدالك، هذا تعظيم لنفسه، وكبر منه؟ نقول: ليس هذا المراد بل المراد نشر العلم، والإنسان لا يعلم عما في قلب أخيه حتى يحدثه به، لذلك لا يقال هذا الفعل خطأ ما دام الإنسان ليس قصده الإعجاب بالنفس وإنما قصده بث العلم فلا حرج في ذلك.
* * * 93ـ وسئل فضيلة الشيخ : هل تعتبر أشرطة التسجيل طريقة من طرق العلم؟ وما هي الطريقة المثلى للاستفادة منها؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما كون هذه الأشرطة وسيلة من وسائل تحصيل العلم فهذا لا يَشُكُّ فيه أحد ، ولا نجحد نعمة الله علينا في هذه الأشرطة التي استفدنا كثيرًا من العلم بها؛ لأنها توصّل إلينا أقوال العلماء في أي مكان كنا.
ونحن في بيوتنا قد يكون بيننا وبين هذا العالم مفاوز ويسهل علينا أن نسمع كلامه من خلال هذا الشريط. وهذه من نعم الله -عز وجل- علينا، وهي في الحقيقة حجة لنا وعلينا، فإن العلم انتشر انتشارًا واسعًا بواسطة هذه الأشرطة.
وأما كيف يستفاد منها؟(7/285)
فهذا يرجع إلى حال الإنسان نفسه، فمن الناس من يستطيع أن يستفيد منها ، وهو يقود السيارة، ومنهم من يستمع إليه أثناء تناوله لطعام الغداء أو العشاء أو القهوة.
المهم أن كيفية الاستفادة منها ترجع إلى كل شخص بنفسه، ولا يمكن أن نقول فيها ضابطًا عامًّا.
* * * 94ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : أيهما أفضل: قيام الليل، أم طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: طلب العلم أفضل من قيام الليل؛ لأن طلب العلم كما قال الإمام أحمد :" لا يعدله شيء لمن صحت نيته ينوي به رفع الجهل عن نفسه وعن غيره". فإذا كان الإنسان يسهر في أول الليل لطلب العلم ابتغاء وجه الله سواء كان يُدرسه ويعلمه الناس فإنه خير من قيام الليل، وإن أمكنه أن يجمع بين الأمرين فهو أولى ، لكن إذا تزاحم الأمران فطلب العلم الشرعي أفضل وأولى، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة : « أن يوتر قبل أن ينام » (1) قال العلماء: وسبب ذلك أن أبا هريرة كان يحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أول الليل وينام آخر الليل فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يوتر قبل أن ينام .
_________
(1) تقدم تخريجه ص154 .(7/286)
* * * 95ـ سئل فضيلة الشيخ : هل من توجيه إلى طلبة العلم حتى يكونوا دعاة ؟ حيث إنهم يحتجون بطلب العلم وأنه يشغلهم عن الدعوة ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدعوة التي تكون دون طلب العلم لا خير فيها، بمعنى أنها تفوِّت خيرًا كثيرًا، والواجب على طالب العلم أن يطلب العلم مع الدعوة إلى الله. ما المانع لطالب العلم إذا رأى شخصًا معرضًا بالمسجد الذي يطلب فيه العلم أن يدعوه إلى الله -عز وجل-؟ ما المانع إذا خرج إلى السوق ليقضي حوائجه أن يدعو إلى الله ـ عز وجل في السوق إذا رأى معرضًا عن دين الله؟ ما المانع إذا كان بالمدرسة ورأى من الطلبة من هو معرض أن يدعوه إلى الله عز وجل ـ ويأخذ بيده . لكن المشكلة أن الإنسان إذا رأى مخالفًا له بمعصية أو ترك أمر كرهه واشمأز منه، وأبعد عنه، ويئس من إصلاحه والله ـ سبحانه وتعالى ـ بيَّن لنا أن نصبر، وأن نحتسب.(7/287)
قال الله لنبيه : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } (الأحقاف: من الآية 35) فالإنسان يجب عليه أن يصبر ويحتسب، ولو رأى في نفسه شيئًا أو على نفسه شيئًا من الغضاضة فليجعل ذلك في ذات الله -عز وجل- « إن النبي عليه الصلاة والسلام لما أدميت أصبعه في الجهاد، قال:
هل أنت إلا أصبع دَميت وفي سبيل الله ما لَقِيت » (1)
* * * 96ـ سئل فضيلة الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ : إذا اجتهد العالم في مسألة من المسائل ولم يصب الحكم الصحيح فبم يحكم عليه؟
فأجاب فضيلته قائلا: العالم إذا اجتهد في مسألة من المسائل قد يصيب وقد يخطئ لما ثبت من حديث بريدة -رضي الله عنه-: « وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا » . رواه مسلم (2) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد » . متفق عليه (3) ، وعليه فهل نقول : إن المجتهد مصيب ولو أخطأ؟
_________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد، ومسلم ، كتاب الجهاد.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الجهاد، باب: تأمير الإمام الأمراء.
(3) تقدم تخريجه ص176.(7/288)
الجواب: قيل: كل مجتهد مصيب، وقيل: ليس كل مجتهد مصيبًا. وقيل: كل مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول، حذرًا من أن نصوب أهل البدع في باب الأصول.
والصحيح: أن كل مجتهد مصيب من حيث اجتهاده، أما من حيث موافقته للحق؛ فإنه يخطئ ويصيب، ويدل قوله صلى الله عليه وسلم: « فاجتهد فأصاب، »« واجتهد فأخطأ » ؛ فهذا واضح في تقسيم المجتهدين إلى مخطئ ومصيب، وظاهر الحديث والنصوص أنه شامل للفروع والأصول، حيث دلت تلك النصوص على أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، لكن الخطأ المخالف لإجماع السلف خطأ ولو كان المجتهدين؛ لأنه لا يمكن أن يكون مصيبًا والسلف غير مصيبين سواء في علم الأصول أو الفروع.(7/289)
على أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أنكرا تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وقالا: إن هذا التقسيم محدث بعد عصر الصحابة، ولهذا نجد القائلين بهذا التقسيم يلحقون شيئًا من أكبر أصول الدين بالفروع، مثل الصلاة، وهي ركن من أركان الإسلام ويخرجون أشياء في العقيدة اختلف فيها السلف، يقولون: إنها من الفروع؛ لأنها ليست من العقيدة، ولكن فرع من فروعها، ونحن نقول: إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة؛ فكل الدين أصول؛ لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروع؛ فهذا عقيدة سابقة على العمل، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله بها.
والصحيح: أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمي بالأصول أو الفروع، لكن ما خرج عن منهج السلف فليس بمقبول مطلقًا.
* * *
97- سئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ : عمن يقول بعدم الاجتهاد وخلو هذا العصر من المجتهدين؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أن باب الاجتهاد باق بدليل السنة كما في حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد » (1) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص176.(7/290)
لذلك قول من يقول: بعدم الاجتهاد وخلو هذا العصر من المجتهدين، قول ضعيف ويترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى آراء الرجال، وهذا خطأ، بل الواجب على من تمكن من أخذ الحكم من الكتاب والسنة أن يأخذ منها، لكن لكثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشيء بمجرد أن يسمع حديثًا في هذا الحكم حتى يتثبت؛ لأن هذا الحكم قد يكون منسوخًا أو مقيدًا أو عامًّا وأنت تظنه بخلاف ذلك.(7/291)
وأما أن نقول لا تنظر في القرآن والسنة؛ لأنك لست أهلا للاجتهاد، فهذا غير صحيح، ثم إنه على قولنا: أن باب الاجتهاد مفتوح؛ لا يجوز أبدًا أن تحتقر آراء العلماء السابقين، أو أن تنزل من قدرهم؛ لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليسوا بمعصومين، فكونك تقدح فيهم، أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس ليسخروا بهم فهذا أيضًا لا يجوز، وإذا كانت غيبة الإنسان العادي محرمة، فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها، ثم يأتي في آخر الزمان من يقول: إن هؤلاء لا يعرفون، وهؤلاء يفرضون المحال، ويقولون: كذا وكذا. مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل النادرة قد لا يقصدون الوقوع، ولكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدها وأصولها.
* * * 98ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ : ما قولكم فيما يحصل من البعض من قدح في الحافظين النووي وابن حجر وأنهما من أهل البدع؟ وهل الخطأ من العلماء في العقيدة ولو كان عن اجتهاد وتأويل يلحق صاحبه بالطوائف المبتدعة؟ وهل هناك فرق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية؟
فأجاب فضيلته بقوله:(7/292)
إن الشيخين الحافظين ( النووي ابن حجر ) لهما قدم صدق ونفع كبير في الأمة الإسلامية ولئن وقع منهما خطأ في تأويل بعض نصوص الصفات إنه لمغمور بما لهما من الفضائل والمنافع الجمة ولا نظن أن ما وقع منهما إلا صادر عن اجتهاد وتأويل سائغ ـ ولو في رأيهما ، وأرجو الله تعالى أن يكون من الخطأ المغفور وأن يكون ما قدماه من الخير والنفع من السعي المشكور وأن يصدق عليهما قول الله تعالى { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (هود: من الآية 114). والذي نرى أنهما من أهل السنة والجماعة، ويشهد لذلك خدمتهما لسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم وحرصهما على تنقيتها مما ينسب إليها من الشوائب، وعلى تحقيق ما دلت عليه من أحكام ولكنهما خالفا في آيات الصفات وأحاديثها أو بعض ذلك عن جادة أهل السنة عن اجتهاد أخطئا فيه، فنرجو الله تعالى أن يعاملهما بعفوه.(7/293)
وأما الخطأ في العقيدة: فإن كان خطأ مخالفًا لطريق السلف، فهو ضلال بلا شك ولكن لا يحكم على صاحبه بالضلال حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة، وأصر على خطئه وضلاله، كان مبتدعًا فيما خالف فيه الحق، وإن كان سلفيًّا فيما سواه، فلا يوصف بأنه مبتدع على وجه الإطلاق، ولا بأنه سلفي على وجه الإطلاق، بل يوصف بأنه سلفي فيما وافق السلف، مبتدع فيما خالفهم، كا قال أهل السنة في الفاسق: إنه مؤمن بما معه من الإيمان، فاسق بما معه من العصيان، فلا يعطي الوصف المطلق ولا ينفى عنه مطلق الوصف، وهذا هو العدل الذي أمر الله به، إلا أن يصل المبتدع إلى حد يخرجه من الملة فإنه لا كرامة له في هذه الحال .(7/294)
وأما الفرق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية: فلا أعلم أصلا للتفريق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية لكن لما كان السلف مجمعين -فيما نعلم- على الإيمان في الأمور العلمية الحيوية والخلاف فيها إنما هو في فروع من أصولها لا في أصولها كان المخالف فيها أقل عددًا وأعظم لومًا. وقد اختلف السلف في شيء من فروع أصولها كاختلافهم، هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه في اليقظة واختلافهم في اسم الملكين اللذين يسألان الميت في قبره، واختلافهم في الذي يوضع في الميزان أهو الأعمال أم صحائف الأعمال أم العامل؟ واختلافهم هل يكون عذاب القبر على البدن وحده دون الروح؟ واختلافهم هل يسأل الأطفال وغير المكلفين في قبورهم؟ واختلافهم هل الأمم السابقة يسألون في قبورهم كما تسأل هذه الأمة؟ واختلافهم في صفة الصراط المنصوب على جهنم؟ واختلافهم هل النار تفنى أو مؤبدة، وأشياء أخرى وإن كان الحق مع الجمهور في هذه المسائل، والخلاف فيها ضعيف.
وكذلك يكون في الأمور العملية خلاف يكون قويًّا تارة وضعيفًا تارة.(7/295)
وبهذا تعرف أهمية الدعاء المأثور: « اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » .
* * * 99ـ سئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته ـ عما يحصل من اختلاف الفتيا من عالم لآخر في موضوع واحد. ما مرد ذلك؟ وما موقف متلقي الفتيا؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله : مرد ذلك إلى شيئين:
الأول : العلم. فقد يكون أحد المفتين ليس عنده من العلم ما عند المفتي الآخر، فيكون المفتي الآخر أوسع اطلاعًا منه، يطلع على ما لم يطلع عليه الآخر.(7/296)
والثاني : الفهم، فإن الناس يختلفون في الفهم اختلافًا كثيرًا قد يكونون في العلم سواء، ولكن يختلفون في الفهم، فيعطي الله تعالى هذا فهمًا واسعًا ثاقبًا؛ يفهم مما علم أكثر مما فهمه الآخر، وحينئذ يكون الأكثر علمًا والأقوى فهمًا أقرب إلى الصواب من الآخر. أما بالنسبة للمستفتي فإنه إذا اختلف عليه عالمان مفتيان فإنه يتبع من يرى أنه أقرب إلى الصواب، إما لعلمه، وإما لورعه ودينه، كما أنه لو كان الإنسان مريضًا واختلف عليه طبيبان فإنه سوف يأخذ بقول من يرى أنه أقرب إلى الصواب فإنه تساوى عنده الأمران ولم يرجح أحد المفتين على الآخر فإنه يخير إن شاء أخذ بهذا وإن شاء أخذ بهذا وما اطمأنت إليه نفسه أكثر فليأخذ به.
* * *
100ـ سئل فضيلة الشيخ : ما قولكم فيمن يتخذ من أخطأ العلماء طريقًا للقدح فيهم ورميهم بالبهتان؟ وما النصيحة التي توجهها لطلبة العلم في ذلك؟(7/297)
فأجاب فضيلته بقوله: العلماء ـ بلا شك ـ يخطئون ويصيبون وليس أحد منهم معصومًا، ولا ينبغي لنا بل ولا يجوز أن نتخذ خطئهم سلمًا للقدح فيهم، فإن هذه طبيعة البشر كلهم أن يخطئوا إذا لم يوفقوا للصواب، ولكن علينا إذا سمعنا عن عالم أو عن داعية من الدعاة أو عن إمام من أئمة المساجد إذا سمعنا خطأ أن نتصل به، حتى يتبين لنا ؛ لأنه قد يحصل في ذلك خطأ في النقل عنه، أو خطأ في الفهم لما يقول، أو سوء قصد في تشويه سمعة الذي نقل عنه هذا الشيء، وعلى كل حال فمن سمع منكم عن عالم أو عن داعية أو عن إمام مسجد أو أي إنسان له ولاية، من سمع منه ما لا ينبغي أن يكون، فعليه أن يتصل به وأن يسأله: هل وقع ذلك منه أم لم يقع، ثم إذا كان قد وقع فليبين له ما يرى أنه خطأ، فإما أن يكون قد أخطأ فيرجع عن خطئه، وإما أن يكون هو المصيب، فيبين وجه قوله حتى تزول الفوضى التي قد نراها أحيانًا ولا سيما بين الشباب. وإن الواجب على الشباب وعلى غيرهم إذا سمعوا مثل ذلك أن يكفوا ألسنتهم وأن يسعوا بالنصح، والاتصال بمن نُقل عنه ما نُقل حتى يتبين الأمر، أما الكلام في المجالس ولا سيما في مجالس العامة أن يقال ما تقول في فلان؟ ما تقول في فلان الآخر(7/298)
الذي يتكلم ضد الآخرين؟ فهذا أمر لا ينبغي بثه إطلاقًا؛ لأنه يثير الفتنة والفوضى فيجب حفظ اللسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-: « ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، وقال: كف عليك هذا. قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به . قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجهوهم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم » (1) .
وأنصح طلبة العلم وغيرهم أن يتقوا الله وألا يجعلوا أعراض العلماء والأمراء مطية يركبونها كيف ما شاءوا، فإنه إذا كانت الغيبة في عامة الناس من كبائر الذنوب فهي في العلماء والأمراء أشد وأشد، حمانا الله وإياكم عما يغضبه، وحمانا عما فيه العدوان على إخواننا، إنه جواد كريم.
101ـ سئل فضيلة الشيخ ـ غفر الله له ـ : ما توجيهكم حول ما يحصل من البعض من التفرق والتحزب؟
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد 3 / 413، وابن ماجه (3973).(7/299)
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن التحزب والتفرق في دين الله منهي عنه محذر منه، لقوله تعالى: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (آل عمران:105) وقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } (الأنعام:159) فلا يجوز للأمة الإسلامية أن يتفرقوا أحزابًا، لكل طائفة منهج مغاير لمنهج الأخرى، بل الواجب اجتماعهم على دين الله على منهج واحد وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين والصحابة المرضيين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة » (1) .
وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن تتفرق الأمة أحزابًا لكل حزب أمير ومنهج، وأمير الأمة الإسلامية واحد، وأمير كل ناحية واحد، من قِبَل الأمير العام.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد(4 / 126 ـ 127)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42ـ 44).(7/300)
وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ أمير السفر؛ لأن المسافرين نازحون عن المدن والقرى التي فيها أمراء من قبل الأمير العام، وربما تحصل مشاكل لا تقبل التأخير إلى وصول هذه المدن والقرى، أو مشاكل صغيرة لا تحتمل الرفع إلى أمراء المدن والقرى؛ كالنزول في مكان والنزوح عنه وتسريح الرواحل وحبسها ونحو ذلك، فكان من الحكمة أن يُؤَمِّر المسافرون أحدَهم لمثل هذه الحالات.
ونصيحتي للأمة أن يتفقوا على دين الله ولا يتفرقوا فيه، وإذا رأوا من شخص أو طائفة خروجًا عن ذلك نصحوه وبيّنوا له الحق وحذروه من المخالفة وبينوا له أن الاجتماع على الحق أقرب إلى السداد والفلاح من التفرق. وإذا كان الخلاف عن اجتهاد سائغ فإن الواجب أن لا تتفرق القلوب وتختلف من أجل ذلك، فإن الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ حصل بينهم خلاف في الاجتهاد في عهد نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعده، ولم يحصل بينهم اختلاف في القلوب أو تفرق فليكن لنا فيهم أسوة، فإن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها.
وفقنا الله إلى ما يحبه ويرضاه.(7/301)
* * * 102ـ سئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : ما الواجب على العامي ومن ليس له قدرة على طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على من لا علم عنده ولا قدرة له على الاجتهاد أن يسأل أهل العلم؛ لقوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (الأنبياء: من الآية 7). ولم يأمر الله تعالى بسؤالهم إلا من أجل الأخذ بقولهم، وهذا هو التقليد. لكن الممنوع في التقليد أن يلتزم مذهبًا معينًا يأخذ به على كل حال ويعتقد أن ذلك طريقه إلى الله -عز وجل- فيأخذ به وإن خالف الدليل.
وأما من له قدرة على الاجتهاد؛ كطالب العلم الذي أخذ بحظ وافر من العلم، فله أن يجتهد في الأدلة ويأخذ بما يرى أنه الصواب أو الأقرب للصواب.
وأما العامي وطالب العلم المبتدئ، فيجتهد في تقليد من يرى أنه أقرب إلى الحق؛ لغزارة علمه وقوة دينه وورعه.
* * * 103ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ : من الأصول التي يرجع إليها طالب العلم الشرعي أقوال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فهل هي حجة يُعمل بها؟
فأجاب بقوله: قول الصحابي أقرب إلى الصواب من غيره بلا ريب، وقوله حجة، بشرطين:(7/302)
أحدهما: أن لا يخالف نص كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
والثاني: أن لا يخالفه صحابي آخر.
فإن خالف الكتاب أو السنة فالحجة في الكتاب أو السنة، ويكون قوله من الخطأ المغفور.
وإن خالف قول صحابي آخر طلب الترجيح بينهما، فمن كان قوله أرجح فهو أحق أن يتبع، وطرق الترجيح تعرف إما من حال الصحابي أو من قرب قوله إلى القواعد العامة في الشريعة أو نحو ذلك.
ولكن هل هذا الحكم عام لجميع الصحابة أو خاص بالخلفاء الراشدين أو بأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهماـ .
أما أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- فلا ريب أن قولهما حجة بالشريطين السابقين، وقولهما أرجح من غيرهما إذا خالفهما، وقول أبي بكر أرجح من قول عمر -رضي الله عنهما-. وقد روى الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر » (1) ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- في قصة نومهم عن الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا » (2) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص178.
(2) تقدم تخريجه ص 178 .(7/303)
وفي صحيح البخاري في باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر بن الخطاب قال: " هما المرءان يُقتدى بهما" (1) ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ـ رضي الله عنه .
وأما بقية الخلفاء الراشدين، ففي السنن والمسند من حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ » (2) . وأولى الناس بالوصف هذا الخلفاء الأربعة ـ رضي الله عنهم ـ فيكون قولهم حجة .
وأما بقية الصحابة، فمن كان معروفًا بالعلم وطول الصحبة فقوله حجة، ومن لم يكن كذلك فمحل نظر، وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في أول كتابه (إعلام الموقعين): أن فتاوى الإمام مبينة على خمسة أصول، منها: فتاوى الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، والعلماء مختلفون فيها ، لكن الغالب واللازم أن يكون هناك دليل يرجح قوله أو يخالفه فيعمل بذلك الدليل.
* * *
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
حفظه الله
_________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الحج، باب: كسوة الكعبة، وفي كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) تقدم تخريجه ص 204.(7/304)
نرجو من فضيلتكم التكرم بإفادتنا عما إذا كان تحديد موعد منتظم أسبوعيًّا لإلقاء محاضرة دينية أو حلقة علم، بدعة منهيًا عنها باعتبار طلب العلم عبادة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يحدد موعدًا لهذه العبادة. وتبعًا لذلك هل إذا اتفق مجموعة من الإخوة على الالتقاء في المسجد ليلة محددة كل شهر لقيام الليل، هل يكون ذلك بدعة مع إيراد الدليل على ذلك؟ وجزاكم الله خيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
إن تحديد يوم معين منتظم لإلقاء محاضرة أو حلقة علم ليس ببدعة منهي عنها، بل هو مباح كما يقرر يوم معين في المدارس والمعاهد لحصة الفقة أو التفسير أو نحو ذلك. ولا شك أن طلب العلم الشرعي من العبادات لكن توقيته بيوم معين تابع لما تقتضيه المصلحة، ومن المصلحة أن يعين يوم لذلك حتى يا يضطرب الناس. وطلب العلم ليس عبادة موقتة بل هو بحسب ما تقتضيه المصلحة والفراغ. لكن لو خص يومًا معينًا لطب العلم باعتبار أنه مخصوص لطلب العلم وحده فهذا هو البدعة.(7/305)
وأما اتفاق مجموعة على الالتقاء في ليلة معينة لقيام الليل فهذا بدعة؛ لأن إقامة الجماعة في قيام الليل غير مشروعة إلا إذا فعلت أحيانًا وبغير قصد كما جرى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-.
كتبه محمد الصالح العثيمين
في 28 / 5 / 1415هـ.
104ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ : عما يحصل من البعض من الوقوع في أعراض العلماء الربانيين والقدح فيهم وغيبتهم وفقكم الله تعالى؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن الوقوع في أعراض أهل العلم المعروفين بالنصح، ونشر العلم والدعوة إلى الله تعالى، من أعظم أنواع الغيبة التي هي من كبائر الذنوب.(7/306)
والوقيعة في أهل العلم أمثال هؤلاء ليست كالوقيعة في غيرهم؛ لأن الوقيعة فيهم تستلزم كراهتهم، وكراهة ما يحملونه، وينشرونه من شرع الله -عز وجل- فيكون في التنفير عنهم تنفير عن شرع الله -عز وجل- وفي هذا من الصد عن سبيل الله ما يتحمل به الإنسان إثمًا عظيمًا وجرمًا كبيرًا، ثم إنه يلزم من إعراض الناس عن أمثال هؤلاء العلماء، أن يلتفتوا إلى قوم جهلاء يضلون الناس بغير علم؛ لأن الناس لا بد لهم من أئمة يأتمون بهم ويهتدون بهديهم، فإما أن يكونوا أئمة يهدون بأمر الله وإما أن يكونوا أئمة يدعون إلى النار، فإذا انصرف الناس عن أحد الجنسين مالوا إلى الجنس الآخر.
وعلى المرء الواقع في أعراض أمثال هؤلاء العلماء أن ينظر في عيوب نفسه، فإن أول عيب يخدش به نفسه، وقوعه في أعراض هؤلاء العلماء، مع ما عنده من العيوب الأخرى التي يبرأ منها أهل العلم ويبرؤن أنفسهم من الوقيعة فيه من أجلها.
* * * 105ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : عن المسجلات الصوتية التي يُسجل فيها العالم، وهل هناك حرج من استعمالها؟(7/307)
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن المسجلات الصوتية من نعم الله تعالى، إذا كان يسجل بها ما يفيد المسلم في دينه ودنياه، وأنه يحصل بها علم كثير مفيد، إذا كان من أهل العلم المعروفين بالتحقيق والأمانة، وهي بمنزلة الكتب المؤلفة، ومن المعلوم أنه لا أحد ينهى عن تأليف الكتب إذا كانت من أهل التحقيق والأمانة، وهي لا تصد عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل هي بيان وتفسير لكلام الله ورسوله ونشر لما تضمنه الكتاب والسنة من مواعظ تشتمل على أحاديث وآثار ضعيفة أو مكذوبة لقصد الترغيب أو الترهيب أو كليهما، والذين يسمعونها ممن لا معرفة لهم بالصحيح والضعيف يغترون بها ويأخذون بها مسلمة من غير بحث فيها ولا سؤال عنها ، فالله المستعان.
* * * 106ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : متى ينكر على المخالف في المسائل الخلافية التي بين أهل العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: مسائل الخلاف نوعان:
النوع الأول نوع يكون الدليل فيها واضحًا لا يمكن فيه الاجتهاد، فهذه ينكر على المخالف فيها لمخالفة النص وذلك كحلق اللحية وإسبال الثوب أسفل من الكعبين، والتفرق في دين الله، وغير ذلك.(7/308)
لكن لا يجعل ذلك وسيلة للتشاتم والتباغض، لا سيما مع العلم بحسن نية المخالف، بل تُعالج الأمور بحكمة حتى يحصل الوفاق.
والنوع الثاني: يكون فيها الدليل غير واضح، إما لخفاء ثبوت الدليل، أو الدلالة أو وجود شبهة مانعة، وغير ذلك، فهذا لا ينكر فيه على المخالف؛ لأن قول أحد المختلفين ليس حجة على الآخر، وأمثلة هذا كثيرة.
* * * 107ـ وسئل فضيلة الشيخ : إذا أراد الإنسان حفظ القرآن فبماذا تنصحونه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي ننصحه به أن يبدأ من البقرة، إلا إذا كان حفظه من المفصل أسهل له فليكن من المفصل؛ لأن بعض الناس يسهل عليه الحفظ من المفصل من أجل قصر سوره وآياته ، وكونه يسمعه من الأئمة في المساجد كثيرًا، فإذا كان هذا سهل عليه فليبدأ بما هو أسهل، وننصحه أيضًا بتعاهد حفظه كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وننصحه أيضًا أن يهتم بما كان حفظه أكثر من اهتمامه بكثرة الحفظ؛ لأن العناية بالموجود أولى من العناية بالمفقود.
* * *
رسالة
حول الاجتماع والائتلاف وترك التفرق والاختلاف
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:(7/309)
فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العظيم: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } . آل عمران، الآيتان 102، 103. فأمرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن نذكر نعمة الله علينا، إذا كنا أعداء فألف بين قلوبنا، فأصبحنا بنعمته إخوانا، فعلينا جميعًا أن نشكر الله على هذه النعمة وأن نحرص كل الحرص على أن تكون كلمتنا واحدة.
لأننا بذلك نكون أمة قوية مرموقة، وأما إذا تنازعنا وتفرقنا فإنه بلا شك سوف نفشل وتذهب ريحنا، كما قال الله تعالى { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (لأنفال:46)(7/310)
وإن الواجب على طلبة العلم خاصة، وعلى المسلمين عامة أن يدعوا الأحقاد والأضغان وأن يكون هدفهم واحد ودعواهم واحدة، وأن لا يظهروا الشماتة بأنفسهم بالتفرق والتنازع والتنابز بالألقاب والكراهية والبغضاء، فإن ذلك أعظم سلاح فتاك يبطل هيبة المسلمين، ويوجب أن يتسلط عليهم أعداؤهم فيقفون متفرجين عليهم ينظرون إليهم وهم يتنازعون ويتخاصمون ويقولون كفينا أن نفسد بين المسلمين، وأنه يجب على كل واحد منا أن يعذر أخاه فيما طريقه الاجتهاد، فإن اجتهاد كل واحد ليس حجة على الآخر، والحجة ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الخلاف سائغًا لم يظهر فيه العصيان والتعصب للنفس، فإن الواجب أن تتسع صدورنا له، ولا مانع حينئذ من المناقشة الهادئة التي يُراد بها التوصل إلى الحق، فإن هذا هو طريق الصحابة، وأما أن نتخذ من الخلاف السائغ مثارًا للكراهية والبغضاء والتحزب، فإن ذلك خلاف طريق السلف الصالح، ولينظر الإنسان وليتفكر في هذه الشريعة الإسلامية فإنها جاءت بما يوجب الألفة والمحبة، ونهت عن كل ما يوجب التفرق والبغضاء، فكثير من العبادات يشرع فيها الاجتماع كالصلوات، وكثير من الأشياء نهى الله عنها ؛ لأنها توجب(7/311)
العداوة والبغضاء كالبيع على بيع المسلم، والخطبة على خطبته وغير ذلك.
فنصيحتي لإخواني أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وفي أمتهم، وأن لا يتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم.
وأسأل الله لنا جميعًا التوفيق لما يحب ويرضى.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرر في 29 / 3 / 1416هـ.
108ـ وسئل فضيلة الشيخ : هل يجوز استفتاء أكثر من عالم؟ وفي حالة اختلاف الفتيا هل يأخذ المستفتي بالأيسر أم بالأحوط؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للإنسان إذا استفتى عالمًا واثقًا بقوله أن يستفتي غيره؛ لأن هذا يؤدي إلى التلاعب بدين الله وتتبع الرخص، بحيث يسأل فلانًا، فإن لم يناسبه سأل الثاني، وإن لم يناسبه سأل الثالث وهكذا.
وقد قال العلماء:(من تتبع الرخص فسق)، لكن أحيانًا يكون الإنسان ليس عنده من العلماء إلا فلانًا مثلا، فيسأله من باب الضرورة، وفي نيته أنه إذا التقى بعالم أوثق منه في علمه ودينه سأله، فهذا لا بأس به، أن يسأل الأول للضرورة، ثم إذا وجد من هو أفضل سأله.(7/312)
وإذا اختلف العلماء عليه في الفتيا أو فيما يسمع من مواعظهم ونصائحهم مثلا، فإنه يتبع من يراه إلى الحق أقرب في علمه ودينه، فإن تساوى عنده الرجلان في العلم والدين، فقال بعض العلماء: يتبع الأحوط وهو الأشد، وقيل يتبع الأيسر، وهذا هو الصحيح؛ أنه إذا تعادلت الفتيا عندك، فإنك تتبع الأيسر؛ لأن دين الله -عز وجل- مبني على اليسر والسهولة، لا على الشدة والحرج.
وكما قالت عائشة ـرضي الله عنهاـ: « ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا » (1) ؛ ولأن الأصل البراءة وعدم التأثيم والقول بالأشد يستلزم شغل الذمة والتأثيم.
* * * 109ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : قلتم إن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب الإمام أحمد، فكيف حكمنا على المذاهب الثلاثة الباقية؟
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسلم كتاب الفضائل، باب: مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام.(7/313)
فأجاب فضيلته بقوله: لا . . . ما أظن إننا قلنا هذا باعتبار أن المذاهب الثلاثة ليست على مذهب أهل السنة، لكن الإمام أحمد -رحمه الله- معروف بين أهل العلم أنه إمام أهل السنة وأنه قام بالدفاع عن السنة قيامًا لم يقمه أحد فيما نعلم. ومحنته مع المأمون ومن بعده مشهورة، وإلا فلا شك أن أئمة الإسلام -ولله الحمد- كلهم على خير وعلى حق، ولكن ذلك لا يعني أن نبرئ كل واحد منهم من الخطأ. بل كل واحد منهم قد يقع منه الخطأ بل الإمام أحمد نفسه قد يصرح بالرجوع عن القول وإن كان قد قاله من قبل كما في قوله في طلاق السكران حتى تبيّنته، يعني فتبين له أنه لا يقع؛ لأنه إذا أوقعه أتى خصلتين: تحريم هذه الزوجة على زوجها الذي طلقها وحلها لغيره، وإذا قال بعدم الوقوع أتى خصلة واحدة وهي حلها لهذا الزوج الذي لم يتحقق بينونتها منه.
* * * 110ـ وسئل فضيلته ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ : ما رأي فضيلتكم فيمن ينفّر من قراءة كتب الدعاة المعاصرين ويرى الاقتصار على كتب السلف الأخيار وأخذ المنهج منها؟ ثم ما هي النظرة الصحيحة أو الجامعة لكتب السلف ـ رحمهم الله ـ وكتب الدعاة المعاصرين والمفكرين؟(7/314)
فأجاب فضيلته بقوله: أرى أن أخذ الدعوة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء، وهذا رأينا جميعًا بلا شك، ثم يلي ذلك ما ورد عن الخلفاء الراشدين وعن الصحابة وعن أئمة الإسلام فيمن سلف.
أما ما يتكلم به المتأخرون والمعاصرون، فإنه يتناول أشياء حدثت هم بها أدرى، فإذا اتخذ الإنسان من كتبهم ما ينتفع به في هذه الناحية فقد أخذ بحظ وافر ، ونحن نعلم أن المعاصرين إنما أخذوا ما أخذوا من العلم ممن سبق ؛ فلنأخذ نحن مما أخذوا منه، ولكن أمورًا قد استجدت هم بها أبصر منا، ثم إنها لم تكن معلومة لدى السلف بأعيانها، ولهذا أرى أن يجمع الإنسان بين الحسنيين، فيعتمد أولا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وثانيًا على كلام السلف الصالح من الخلفاء الراشدين والصحابة وأئمة المسلمين، ثم على ما كتبه المعاصرون الذين يكتبون عن أشياء حدثت في زمانهم لم تكن معلومة بأعيانها عند السلف.
* * * 111ـ وسئل فضيلته ـ غفر الله له ـ : هناك بعض طلبة العلم يبدأ طلب العلم بكتب الحديث ويعرض عن المتون الفقهية وحجتهم بأن المتون الفقهية خالية من أدلة الكتاب والسنة فهل هذا صحيح؟(7/315)
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن يبدأ الطالب قبل كل شيء بفهم القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى قال { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } (ص:29) ولأن القرآن لا يحتاج إلى أي عناء في ثبوته؛ لأنه ثابت بالتواتر، لكن السنة فيها الصحيح وفيها الحسن وفيها الضعيف وفيها الموضوع فهي تحتاج إلى عناء، ثم هي أيضًا تحتاج إلى جمع أطرافها، فقد يبلغ الإنسان حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام يكون له مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه، أو يكون هذا الحديث منسوخًا وهو لا يعلم، ولهذا نجد كثيرًا ممن زعموا أنهم مستندون على الحديث يخطئون في فهمه أو في طريقة الاستدلال به. ولا شك أن السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام أصل من الأصول، فهي كالقرآن في وجوب العمل بها إذا صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما جوابه بأن المتون خالية مما قال الله وقال رسوله فنعم، أكثر المتون الفقهية ليس فيها الدليل، ولكن توجد الأدلة في شروحها، فليست خالية من الأدلة باعتبار شروحها التي تحلل أغراضها وتبين معانيها.
والذي أرى أن يكون الإنسان بادئًا:
أولا: بكتاب الله -عز وجل- .(7/316)
وثانيًا: بالسنة الثابتة عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم .
وثالثًا : بكتب الفقه المبنية على الكتاب والسنة ؛ لأن هذه تضبط تصرفه وتصحح فهمه.
لكن هل الأولى أن يحفظ متنًا من متون الفقه أو متنًا مختصرًا من الحديث؟
الجواب: الأولى أن يحفظ متنًا مختصرًا من الحديث كعمدة الأحكام، وبلوغ المرام، ولكن لا يدع الاستئناس بكلام أهل العلم وأهل الفقه.
* * *
112ـ وسئل الشيخ ـ غفر الله له ـ : بعض طلبة العلم يكتفون بسماع أشرطة العلماء من خلال دروسهم فهل تكفي في تلقي العلم؟ وهل يعتبرون طلاب علم؟ وهل يؤثر في معتقدهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن هذه الأشرطة تكفيهم عن الحضور إلى أهل العلم إذا كان لا يمكنهم الحضور، وإلا فإن الحضور إلى العلماء أفضل وأحسن وأقرب للفهم والمناقشة، لكن إذا لم يمكنهم الحضور فهذا يكفيهم.
ثم هل يمكن أن يكونوا طلبة علم وهم يقتصرون على هذا ؟(7/317)
نقول: نعم يمكن إذا اجتهد الإنسان اجتهادًا كثيرًا كما يمكن أن يكون الإنسان عالمًا إذا أخذ العلم من الكتب، لكن الفرق بين أخذ العلم من الكتب والأشرطة وبين التلقي من العلماء مباشرة، أن التلقي من العلماء مباشرة أقرب إلى حصول العلم؛ لأنه طريق سهل تمكن فيه المناقشة بخلاف المستمع أو القارئ فإنه يحتاج إلى عناء كبير في جمع أطراف العلم والحصول عليه.
وأما قول السائل: هل يؤثر الاكتفاء بالأشرطة في معتقدهم، فالجواب: نعم يؤثر في معتقدهم إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة بدعية ويتبعونها، أما إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة من علماء موثوق بهم، فلا يؤثر على معتقداتهم، بل يزيدهم إيمانًا ورسوخًا واتباعًا للمعتقد الصحيح.
* * * 113 - وسئل فضيلة الشيخ : ما رأي فضيلتكم فيمن صار ديدنهم تجريح العلماء وتنفير الناس عنهم والتحذير منهم، هل هذا عمل شرعي يثاب عليه أو يعاقب عليه؟(7/318)
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن هذا عمل محرَّم، فإذا كان لا يجوز للإنسان أن يغتاب أخاه المؤمن وإن لم يكن عالمًا فكيف يسوغ له أن يغتاب إخوانه العلماء من المؤمنين؟ والواجب على الإنسان المؤمن أن يكف لسانه عن الغيبة في إخوانه المؤمنين. قال الله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } (الحجرات:12) وليعلم هذا الذي ابتلي بهذه البلوى أنه إذا جرَّح العالم فسيكون سببًا في رد ما يقوله هذا العالم من الحق، فيكون وبال رد الحق وإثمه على هذا الذي جرح العالم؛ لأن جرح العالم في الواقع ليس جرحًا شخصيّا بل هو جرح لإرث محمد صلى الله عليه وسلم .(7/319)
فإن العلماء ورثة الأنبياء فإذا جرح العلماء وقدح فيهم لم يثق الناس بالعلم الذي عندهم وهو موروث عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ لا يتقون بشيء من الشريعة التي يأتي بها هذا العالم الذي جُرح. ولست أقول : إن كل عالم معصوم، بل كل إنسان معرض للخطأ، وأنت إذا رأيت من عالم خطأ فيما تعتقده، فاتصل به وتفاهم معه، فإن تبين لك أن الحق معه وجب عليك اتباعه، وإن لم يتبين لك ولكن وجدت لقوله مساغًا وجب عليك الكف عنه، وإن لم تجد لقوله مساغًا فحذر من قوله؛ لأن الإقرار على الخطأ لا يجوز، لكن لا تجرحه وهو عالم معروف مثلا بحسن النية، ولو أردنا أن نجرح العلماء المعروفين بحسن النية لخطأ وقعوا فيه من مسائل الفقه، لجرحنا علماء كبارًا، ولكن الواجب هو ما ذكرت وإذا رأيت من عالم خطأ فناقشه وتكلم معه، فإما أن يبتين لك أن الصواب معه فتتبعه أو يكون الصواب معك فيتبعك، أو لا يتبين الأمر ويكون الخلاف بينكما من الخلاف السائغ، وحينئذ يحب عليك الكف عنه وليقل هو ما يقول ولتقل أنت ما تقول.(7/320)
والحمد لله ، الخلاف ليس في هذا العصر فقط، الخلاف من عهد الصحابة إلى يومنا، وأما إذا تبين الخطأ ولكنه أصر انتصارًا لقوله وجب عليك أن تبين الخطأ وتنفر منه، لكن لا على أساس القدح في هذا الرجل وإرادة الانتقام من؛ لأن هذا الرجل قد يقول قولا حقًّا في غير ما جادلته فيه.
فالمهم أنني أحذر إخواني من هذا البلاء وهو تجريح العلماء والتنفير منهم، وأسأل الله لي ولهم الشفاء من كل ما يعيبنا أو يضرنا في ديننا ودنيانا.
* * * 114ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ورعاه ـ : ما هي نصيحتكم لمن ابتدأ في طلب العلم؟ بأي شيء يبدأ؟(7/321)
فأجاب فضيلته بقوله: عندي أن أهم شيء في طلب العلم أن يتعلم الإنسان تفسير كلام الله -عز وجل-؛ لأن كلام الله هو العلم كله، قال تعالى { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى } (النحل: من الآية 89) وكان الصحابة لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعًا، هذا أهم شيء عندي، وعلى هذا فيبدأ الشاب ولا سيما الصغار من الشباب بحفظ القرآن، والآن حفظ القرآن ـ ولله الحمد ـ متيسر، ففي المسجد حلقات يحفظون القرآن ، وعليهم أمناء من القراء يحفظونهم القرآن، ثم إنه في هذه المناسبة أود من إخواني الأغنياء أن يولوا أهمية لهذه الحلقات بتشجيعهم ماديًّا ومعنويًّا، وليعلموا أنهم إذا عانوا في تعليم القرآن فإن لهم مثل أجر المعلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « من جهز غازيًا فقد غزا » (1) ؛ ولأن الله تعالى قال { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } (المائدة: من الآية 2). ولم يأمرنا بالتعاون إلا أن لنا أجرًا، لذا أحث إخواني الأغنياء على دعم هذه الحلقات بالمال سواء كان المال نقدًا أو كان عقارات توقف لهذه الحلقات تنفعه بعد موته. وأحث
_________
(1) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب: فضل من جهّز غازيًا أو خلفه بخير، ومسلم ، كتاب الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله .(7/322)
أيضًا القائمين على الحلقات على أن يهتموا بإنشاء ما يدر على هذه الحلقات في المستقبل؛ لأن التبرع المقطوع ينتهي، لكن إذا حرصوا على أن يؤسسوا منشآت تؤجر كان هذا حماية لهذه الحلقات من التوقف في المستقبل.(7/323)
بعد ذلك على الطالب أن يهتم بالسنة؛ لأنها هي مصدر التشريع الثاني، ولا أقول الثاني بالترتيب المعنوي، لكن بالترتيب الذكري؛ لأن ما ثبت في السنة كما ثبت في القرآن سواء بسواء؛ لأن الله تعالى يقول { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } (النساء: من الآية 113). فليحفظ السنة، ومن الكتب المختصرة في السنة "عمدة الأحكام" وهي أيضًا موثوقة؛ لأن جامعها -رحمه الله- جمع فيها ما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، ولم يشذ عن هذا القيد إلا في أحاديث يسيرة، وإذا ترقى الإنسان شيئًا ما فليحفظ "بلوغ المرام" وهو من أحسن ما ألف في الحديث؛ لأنه ذكر الحديث ويذكر مرتبته فيعطي الإنسان قوة وقدرة على معرفة مرتبة الحديث؛ لأن الحديث ليس كالقرآن، فالقرآن لا يحتاج إلى البحث في سنده؛ لأنه ثابت متواتر، أما السنة فلا يتم الاستدلال بها إلا بأمرين: الأول: صحة الحديث، الثاني: دلالة الحديث على الحكم المطلوب. ولهذا إذا قال لك إنسان هذا حرام والدليل قوله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فعليك أن تطالبه بصحة النقل؛ لأن هناك أحاديث ضعيفة، وأحاديث مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم مثل:"حب الوطن من الإيمان" (1) .
_________
(1) انظر الدرر المنتثرة للسيوطي، ص110، وكشف الخفاء 1 / 325، والأسرار المرفوعة ص189.(7/324)
* * * 115ـ وسئل فضيلته ـ وفقه الله تعالى ـ: هل يجوز لإنسان أن يجتهد في إفتاء بعض الناس إذا كان لا يوجد من يفتي أو لم يتيسر سؤال العلماء؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان جاهلا فكيف يجتهد؟ وعلى أي أساس ينبي اجتهاده؟! والواجب على من لا يعلم الحكم أن يتوقف، وإذا سئل يقول : لا علم عندي، فالملائكة لما قال الله -عز وجل- لهم { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (البقرة: من الآية 31) { قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (البقرة:32) أما كونه يقول إذا لم يجد عالمًا يفتي أنا أفتي صواب أم خطأ فهذا خطأ ولا يجوز، فالجواب أن يقول للمستفتي: اسأل العلماء، والآن ولله الحمد الاتصالات سهلة يتصل عن طريق الهاتف أو البريد السريع أو البطيء.
* * * 116ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : يقع من بعض الناس ـ هداهم الله تعالى ـ التقليل من شأن العلماء بدعوى عدم فقه الواقع فما توجيه سماحتكم جزاكم الله خيرًا ووفقكم لما يحبه ويرضاه؟(7/325)
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن فقه الواقع أمر مطلوب، وأن الإنسان لا ينبغي أن يكون في عزلة عما يقع حوله وفي بلده، بل لا بد أن يفقه لكن لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يكون الاشتغال بفقه الواقع مشغلا عن فقه الشريعة والدين الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: « من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين » (1) ، لم يقل يفقهه في الواقع، فإذا كان عند الإنسان علم بما يقع حوله لكنه قد صرف جهده وجل أمره إلى الفقه في دين الله، فهذا طيب، أما أن ينشغل بالواقع والتفقه فيه ـ كما زعم ـ والاستنتاجات التي يخالفها ما يقع فيما بعد؛ لأن كثيرًا من المشتغلين بفقه الواقع يقدمون حسب ما تمليه عليهم مخيلتهم، ويقدرون أشياء يتبين أن الواقع بخلافها، فإذا كان فقه الواقع لا يشغله عن فقه الدين، فلا بأس به، لكن لا يعني ذلك أن نقلل من شأن علماء يشهد لهم بالخير وبالعلم وبالصلاح لكنهم يخفى عليهم بعض الواقع، فإن هذا غلط عظيم، فعلماء الشريعة أنفع للمجتمع من علماء فقه الواقع، ولهذا تجد بعض العلماء الذين عندهم اشتغال كثير في فقه الواقع وانشغال عن فقه الدين لو سألتهم عن أدنى مسألة في دين الله -عز وجل- لوقفوا حيارى أو تكلموا بلا علم،
_________
(1) تقدم تخريجه ص13.(7/326)
يتخبطون تخبطًا عشوائيًّا، والتقليل من شأن العلماء الراسخين في العلم المعروفين بالإيمان والعلم الراسخ جناية، ليس على هؤلاء العلماء بأشخاصهم، بل على ما يحملونه من شريعة الله تعالى، ومن المعلوم أنه إذا قلت هيبة العلماء وقلت قيمتهم في المجتمع فسوف يقل بالتبع الأخذ عنهم، وحينئذ تضيع الشريعة التي يحملونها أو بعضها، ويكون في هذا جناية عظيمة على الإسلام وعلى المسلمين أيضًا.
والذي أرى أنه ينبغي أن يكون عند الإنسان اجتهاد بالغ، ويصرف أكبر همه في الفقه في دين الله -عز وجل- حتى يكون ممن أراد الله بهم خيرًا، وألا ينسى نفسه من فقه الواقع، وأن يعرف ما حوله من الأمور التي يعملها أعداء الإسلام للإسلام.
ومع ذلك أكرر أنه لا ينبغي للإنسان أن يصرف جل همه ووقته للبحث عن الواقع بل أهم شيء أن يفقه في دين الله -عز وجل- وأن يفقه من الواقع ما يحتاج إلى معرفته فقط وكما أشرت سابقًا في أول الجواب ـ أن من فقهاء الواقع من أخطأوا في ظنهم وتقديراتهم وصار المستقبل على خلاف ما ظنوا تمامًا.(7/327)
لكن هم يقدرون ثم يبنون الأحكام على ما يقدرونه فيحصل بذلك الخطأ، وأنا أكرر أنه لا بد أن يكون الفقيه بدين الله عنده شيء من فقه أحوال الناس وواقعهم حتى يمكن أن يطبق الأحكام الشرعية على مقتضى ما فهم من أحوال الناس، ولهذا ذكر العلماء في باب القضاء: أن من صفات القاضي أن يكون عارفًا بأحوال الناس ومصطلحاتهم في كلامهم وأفعالهم.
* * *
117ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ : نحن طلبة نتلقى العلم، وندرس العقيدة على معلمين يدرسونا العقيدة الأشعرية، ويفسرون يد الله تعالى بقدرته أو نعمته واستواءه على عرشه بالاستيلاء عليه ونحو ذلك ، فما حكم الدراسة على هؤلاء المعلمين.(7/328)
فأجاب فضيلته بقوله: هؤلاء الذين يفسرون القرآن بهذا التفسير سواء سميناهم أشعرية أو غير هذا الاسم، لا شك أنهم أخطئوا طريقة السلف الصالح. فإن السلف الصالح لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه هؤلاء المتأولون، فليأتوا بحرف واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أبي بكر ، أو عمر ، أو عثمان، أو علي، أنهم أولوا اليد بالقدرة أو بالقوة أو أولوا الاستواء بالاستيلاء، أو أولوا الوجه بالثوب، أو أولوا المحبة بالثواب أو بغير الثواب، ليأتوا بحرف واحد عن هؤلاء أنهم فسروا هذه الآيات وأمثالها بما فسرَّ به هؤلاء، فإذا لم يأتوا فيقال: إما أن يكون السلف الصالح وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتقين عليه الصلاة والسلام إما أن يكونوا على جهل بمعاني هذه العقيدة العظيمة، وإما أن يكونوا على علم، ولكن كتموا الحق وكلا الأمرين لا يمكن أن يوصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه الراشدين ولا من صحابته المرضيين، فإذا كان ذلك لا يمكن في هؤلاء وجب أن نسير على هديهم.(7/329)
وإن نصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يدعوا قول فلان وفلان وأن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وأن يعلموا أن لهم مرجعًا يرجعون إلى الله تعالى فيه، ولا يمكن أن يكون لهم حجة فيما قال فلان وفلان، والله إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئًا، إن الله تعالى يقول { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } (القصص:65) ولم يقل: ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم فلان وفلان وإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العظيم : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (الأعراف: من الآية 158). فأمر بالإيمان به واتباعه وإذا كان كذلك فهل يمكن أن يكون الإنسان مؤمنًا بالله ورسوله تمام الإيمان ثم يعدل عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في عقيدته بربه ويحرف ما وصف الله به نفسه في كتاب أو وصفه به رسوله الله صلى الله عليه وسلم لمجرد وهميات يدعونها عقليات.(7/330)
إنني أنصحهم أن يرجعوا إلى الله -عز وجل- وأن يدعوا كل قول، لقول الله ورسوله فإنهم إن ماتوا على ذلك ماتوا على خير وحق وإن خالفوا ذلك فهم على خطر عظيم، ولن يغنوا عنهم من الله شيئًا، قال الله تعالى { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } (النحل:111)(7/331)
أكرر النصيحة لكل مؤمن أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيما يعتقده بربه ومعبوده ـ جل وعلا ـ وفيما يعتقده في الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وفيما كان عليه أئمة المسلمين الذين قادوا الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون التحكم إلى العقول التي هي وهميات في الحقيقة فيما يتعلق بالله تعالى وأسمائه وصفاته. ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية حق الإجادة في قوله عن أهل الكلام:{إنهم أوتوا فهومًا ولم يؤتوا علومًا، وأتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء} فعلى الإنسان أن يوسع مداركه في العلوم المبنية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يزكي نفسه باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أسأل الله تعالى أن يتوفانا جميعًا على الإيمان، وأن نلقاه وهو راضٍ عنا إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإني أدعوكم يا طلبة العلم أن تدعوا إخوانكم إلى ما سمعتم، فإنه والله هو الحق، ومن اطلع على حق سواه فإننا له قابلون وبه مستمسكون. أملاه محمد الصالح العثيمين .(7/332)
* * * 118ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ جزاه الله خيرًا ـ : كثيرًا ما يشاع بأن الفتوى تتغير بتغير الزمان أو المكان، مثل: المذياع في أول ظهوره حرمه البعض، فنرجو من سماحتكم بيان الحق في هذه المسألة؟ والله يحفظكم ويرعاكم.
فأجاب فضيلته بقوله: الفتوى في الحقيقة لا تتغير بتغير الزمان، ولا بتغير المكان، ولا بتغير الأشخاص.
ولكن الحكم الشرعي إذا عُلِّق بعلة فإنه إذا وجدت فيه العلة ثبت الحكم الشرعي، وإذا لم توجد لم يثبت الحكم الشرعي، وقد يرى المفتي أن يمنع الناس من شيء أحله الله لهم لما يترتب على فعل الناس له من المحرم كما فعل عمر -رضي الله عنه- في الطلاق الثلاث حين رأى الناس تتايعوا فيها فألزمهم بها، وكان الطلاق الثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فلما رأى عمر الناس تتايعوا في هذا ألزمهم بالثلاث ومنعهم من الرجوع إلى زوجاتهم (1) .
وكذلك ما حصل في عقوبة شارب الخمر كانت العقوبة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر لا تزيد على أربعين جلدة، ثم إن الناس كثر شربهم الخمر فاستشار عمر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فأشروا بأن يجعل العقوبة ثمانين جلدة (2) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص160.
(2) تقدم تخريجه ص160.(7/333)
فالأحكام الشرعية لا يمكن أن يتلاعب بها الناس كلما شاءوا حرّموا وكلما شاءوا أوجبوا، وإنما يرجع إلى العلل الشرعية التي تقتضي الوجوب أو عدمه وأما بالنسبة للمذياع: فلم يقل أحد بتحريمه من علماء التحقيق، وإنما قال بتحريمه أناس جهلوا حقيقة الأمر، وإلا فإن العلماء المحققين، وأخص منهم شيخانا عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- لم يروا أن هذا من المحرمات بل رأوا أن هذا من الأشياء التي علّمها الله -عز وجل- الخلق، وقد تكون نافعة، وقد تكون ضارة بحسب ما فيها، وكذلك مكبر الصوت ـ المكرفون ـ أيضًا أنكره بعض الناس أول ما ظهر لكن بدون تحقيق، وأما المحققون فلم ينكروه، بل رأوا أنه من نعمة الله عز وجل ـ أن يسر لهم ما يوصلوا به خطبهم ومواعظهم إلى البعيدين.
* * * 119ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : ما نصيحتكم لطلبة العلم حول دعوة الناس وتعليمهم العلم الشرعي؛ لأنه قد يوجد من بعضهم ـ هداهم الله تعالى ـ شيء من الغلظة والشدة في التعامل، نرجو التوجيه والإرشاد، سدد الله خطاكم ووفقكم لما يحبه ويرضاه؟(7/334)
فأجاب فضيلته بقوله: الذي تدل عليه السنة المطهرة، سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب على الإنسان أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة وباللين وبالتيسير فقد قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل: من الآية 125) وقال الله تعالى له { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } (آل عمران:159) وقال الله تعالى حين أرسل موسى وهارون إلى فرعون { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (طه:44)
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم « أن الله يعطي بالرفق ما لا يُعطي بالعنف » (1) . وكان يقول إذا بعث بعثًا: « يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين » (2)
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب البر، باب فضل الرفق.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: قوله عليه الصلاة والسلام:«يسروا. . .»، ومسلم، كتاب الجهاد، باب: الأمر بالتيسير وترك التنفير.(7/335)
وهكذا ينبغي على الداعية أن يكون لينًا طليق الوجه منشرح الصدر حتى يكون ذلك أدعى لقبول صاحبه الذي يدعوه إلى الله.
ويجب أن تكون دعوته إلى الله -عز وجل- لا إلى نفسه، لا يحب الانتصار أو الانتقام ممن خالف السبيل؛ لأنه إذا دعا إلى الله وحده صار بذلك مخلصًا ويسر الله له الأمر وهدى على يديه من شاء من عباده ، لكن إذا كان يدعو لنفسه كأنه يريد أن ينتصر لها، وكأنه يشعر بأن هذا عدو له يريد أن ينتقم منه، فإن الدعوة ستكون ناقصة وربما تنزع بركتها.
فنصيحتي لإخواني طلبة العلم أن يشعروا هذا الشعور، أي أنهم يدعون الخلق رحمة بالخلق وتعظيمًا لدين الله -عز وجل- ونصرة له.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وهدانا إلى صراطه المستقيم.
* * *
رسالة
من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم . . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جوابًا لكتابكم ذي الرقم . . . والتاريخ 24ـ 25 / 9 / 1409هـ.
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله تعالى أن يحبك كما أحببتني فيه وأن يجعلنا جميعًا من دعاة الحق وأنصاره، ويوفقنا للصواب في الاعتقاد والقول والعمل.
ثم إن كتابكم المذكور تضمن ثلاث مسائل:(7/336)
المسألة الأولى: إذا تبين لكم رجحان قول كنتم تفتون أو تحكمون بخلافه فهل يجوز لكم الرجوع فيما أفتيتم به أو حكمتم.
المسألة الثانية: إذا تبين لكم رجحان قول كنتم تفتون أو تحكمون بخلافه فهل يجوز لكم مستقبلا أن تفتوا أو تحكموا بما تبين لكم رجحانه.
المسألة الثالثة: هل يجوز للإنسان في مسائل الخلاف أن يفتي لشخص بأحد القولين ولشخص آخر بالقول الثاني.
والجواب على هذه المسائل العظيمة بعون الله وتوفيقه أن نقول مستمدين من الله تعالى الهداية والصواب.
أما المسألة الأولى:
فمتى تبين للإنسان ضعف ما كان عليه من الرأي وأن الصواب في غيره وجب عليه الرجوع عن رأيه الأول إلى ما يراه صوابًا بمقتضى الدليل الصحيح، وقد دل على وجوب الرجوع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقول الخلفاء الراشدين وإجماع المسلمين وعمل الأئمة.(7/337)
أما كتاب الله تعالى: فمن أدلته قوله تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } (الشورى:10) فمتى كان الحكم في مسائل الخلاف إلى الله وجب الرجوع فيها إلى ما دل عليه كتاب الله. وقال تعالى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (النساء: من الآية 59) وقال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (النساء:115)
ومن سبيل المؤمنين الرجوع إلى ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما السنة: فمن أدلتها قوله صلى الله عليه وسلم: « إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي » (1) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
_________
(1) تقدم تخريجه ص204.(7/338)
وأما أقوال الخلفاء الراشدين: فمن أشهرها قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في المشركة وهي زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء حيث من الإخوة الأشقاء من الميراث لكونها عصبة، وقد استغرقت الفروض التركة ثم قضى بعد ذلك بتشريكهم مع الإخوة لأم، فقال له رجل: قد قضيت في هذا عام الأول بغير هذا، فقال: وكيف قضيت؟ قال: جعلته للإخوة للأم ولم تجعل للإخوة من الأب والأم شيئًا، قال عمر : ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي. أخرجه ابن أبي شيبة 11 / 253، وقال -رضي الله عنه- في كتابه لأبي موسى في القضاء: لا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
وأما الإجماع: فقال الشافعي -رحمه الله-: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.(7/339)
وأما عمل الأئمة: فها هو الإمام أحمد يقول القول ويقول بخلافه، فتارة يصرح بالرجوع كما صرح بالرجوع عن القول بوقوع طلاق السكران، وتارة يصرح أصحابه برجوعه عنه كما صرح الخلال برجوع الإمام عن قوله فيمن ابتدأ مسح خفيه مقيمًا ثم سافر أنه يتم مسح مقيم إلى القول بأن يتم مسح مسافر، وتارة لا يصرح ولا يصرح عنه برجوع فيكون له في المسألة قولان.
والمهم أنه متى تبين للإنسان ضعف رأيه الأول وجب عليه الرجوع عنه ولكن يسوغ له نقض حكمه الأول ولا يلزمه إخبار المستفتي بالرجوع؛ لأن كلا من الرأيين الأول والثاني صادر عن اجتهاد، والاجتهاد لا ينقض بمثله وظهور خطأ اجتهاده الأول لا يمنع احتمال خطئه في الثاني، فقد يكون الاجتهاد الأول هو الصواب في الواقع، وإن ظهر له خلافه؛ لأن الإنسان غير معصوم في اجتهاده لا الثاني ولا الأول.
وأما المسألة الثانية:
فجوابها يعلم من جواب المسألة الأولى وهو أنه يجب على الإنسان الرجوع إلى ما تبين له أنه الصواب، وإن كان يفتي أو يحكم بخلافه سابقًا.
وأما المسألة الثالثة:(7/340)
فإن كان في المسألة نص، كان الناس فيها سواء، ولا يفرق فيها بين شخص وآخر، وأما المسائل الاجتهادية فإنها مبنية على الاجتهاد، وإن كان الاجتهاد فيها في الحكم كذلك في محله، ولهذا لما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه أن الناس كثر شربهم الخمر زادهم في عقوبتها ولما رآهم تتايعوا في الطلاق الثلاث أمضاه عليهم، ولهذا ما يؤيده من كلام الله تعالى وما جاءت به السنة ففي كتاب الله تعالى يقول جل ذكره: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } (الأنعام:146) فعاملهم الله بما تقتضيه حالهم وحرم عليهم هذه الطيبات ببغيهم وظلمهم: { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } (النساء:160) . وفي السنة جاء قتل شارب الخمر في الرابعة إذا تكررت عقوبته ثلاثًا ولم يقلع، مع أن عقوبة شارب الخمر في الأصل لا تبلغ(7/341)
القتل.
فإذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه تقتضي أن يعامل معاملة خاصة عومل بمقتضاه ما لم يخالف النص.
وكذلك إذا كان الأمر قد وقع وكان في إفتائه بأحد القولين مشقة وأفتى بالقول الثاني فلا حرج مثل أن يطوف في الحج أو العمرة بغير وضوء ويشق عليه إعادة الطواف لكونه نزح عن مكة أو لغير ذلك فيفتي بصحة الطواف بناء على القول بعدم اشتراط الوضوء فيه. وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- يفعل ذلك أحيانًا ويقول لي: هناك فرق بين من فعل ومن سيفعل وبين ما وقع وما لم يقع.
وفي مقدمة (المجموع) للنووي -رحمه الله- 1 / 88 ط المكتبة العالمية: قال الصيمري : إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامل بما فيه تغليظ وهو مما لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز ذلك زجرًا له كما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه سئل عن توبة القاتل فقال: لا توبة له، وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكينًا قد قتل فلم أقنطه.(7/342)
وهذا الذي ذكرناه لا يكون مطردًا في كل صورة فلو أراد قاض أو مفت أن يأخذ في ميراث الإخوة مع الجد بقول من يرى توريثهم إذا رأى أنهم فقراء وأن التركة كثيرة وبقول من لا يرى توريثهم إذا كان المال قليلا وهم أغنياء لم يكن ذلك سائغًا؛ لأن في هذا إسقاط لحق الغير لمصلحة الآخرين بلا موجب شرعي.
هذا والله أسال أن يلهمنا جميعًا الصواب في القول والعمل والاعتقاد(7/343)
الفصل الثالث
فوائد متنوعة في العلم
الفائدة الأولى
لا بد لطالب العلم من مراعاة عدة أمور عند طلبه لأي علم من العلوم:
أولا: حفظ متن مختصر فيه.
فإذا كنت تطلب النحو، فإن كنت مبتدئًا فلا أرى أحسن من متن الآجرومية؛ لأنه واضح وجامع وحاصر وفيه بركة، ثم متن ألفية ابن مالك؛ لأنها خلاصة علم النحو كما قال هو نفسه:
أحصي من الكفاية الخلاصه ... كما اقتضى غنًى بلا خصاصه
وأما في الفقه فمتن زاد المستنقع؛ لأنه كتاب مخدوم بالشروح والحواشي والتدريس، وإن كان بعض المتون الأخرى أحسن منه من وجه، لكن هو أحسن من حيث كثرة المسائل الموجودة فيه، ومن حيث إنه مخدوم.
وأما في الحديث فمتن عمدة الأحكام، وإن ترقيت فبلوغ المرام، وإن كنت تقول إما هذا أو هذا، فبلوغ المرام أحسن؛ لأنه أكثر جمعًا للأحاديث، ولأن الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ بين درجة الحديث.
وأما في التوحيد فمن أحسن ما قرأنا متن كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وأما في توحيد الأسماء والصفات فمن أحسن ما قرأت العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهو كتاب جامع مبارك مفيد، وهلم جرا، خذ من كل فن تطلبه متنًا مختصرًا فيه واحفظه.(7/344)
ثانيًا: ضبطه وشرحه على شيخ متقن وتحقيق ألفاظه وما كان زائدًا أو ناقصًا.(7/345)
ثالثًا: عدم الاشتغال بالمطولات، وهذه الفقرة مهمة لطالب العلم، فلا بد لطالب العلم أن يتقن المختصرات أولا حتى ترسخ العلوم في ذهنه ثم يُفيض إلى المطولات، لكن بعض الطلبة قد يغرب فيطالع المطولات ثم إذا جلس مجلسًا قال: قال صحاب المغني، قال صاحب المجموع، قال صاحب الإنصاف، قال صاحب الحاوي، ليظهر أنه واسع الاطلاع، وهذا خطأ نحن نقول: ابدأ بالمختصرات حتى ترسخ العلوم في ذهنك، ثم إذا منَّ الله عليك، فاشتغل بالمطولات، وقياس ذلك بالأمر المحسوس أن ينزل مَنْ لم يتعلم السباحة إلى بحر عميق فإنه لا يستطيع أن يتخلص فضلا عن أن يتقن.(7/346)
رابعًا: لا تنتقل من مختصر إلى آخر بلا موجب فهذا من باب الضجر، وهذه آفة تقطع على الطالب طلبه وتضيع عليه أوقاته، فإذا كان كل يوم له كتاب يقرأ فيه، فهذا خطأ في منهج طالب العلم، فإذا قرأت كتابًا من كتب العلم فاستمر فيه، ولا تقول : أقرأ كتابًا أو فصلا من هذا الكتاب ثم أنتقل للآخر، فإن هذا مضيعة للوقت.(7/347)
خامسًا: اقتناص الفوائد والضوابط العلمية، فهناك فوائد التي لا تكاد تطرأ على الذهن، أو يندر ذكرها والتعرض لها، أو تكون مستجدة تحتاج إلى بيان الحكم فيها، فهذه اقتنصها، وقيدها بالكتابة، ولا تقول هذه معلومة عندي، ولا حاجة أن أقيدها؛ لأنها سرعان ما تُنسى، وكم من فائدة تمر بالإنسان فيقول هذه سهلة ما تحتاج إلى قيد، ثم بعد فترة وجيزة يتذكرها ولا يجدها.
لذلك احرص على اقتناص الفوائد التي يندر وقوعها أو يتجدد وقوعها، ومن أحسن ما ألف في هذا الموضوع كتاب العلامة ابن القيم -رحمه الله-"بدائع الفوائد" فقد جمع فيه من بدائع العلوم، ما لا تكاد تجده في كتاب آخر، فهو جامع في كل فن، كلما طرأ على باله مسألة أو سمع فائدة قيدها، ولهذا تجد فيه من علم العقائد ، والفقه، والحديث، والتفسير، والنحو، والبلاغة وغيرها.
وأيضًا احرص على الاهتمام بالضوابط.(7/348)
ومن الضوابط: ما يذكره العلماء تعليلا للأحكام، فإن كل التعليلات للأحكام الفقهية تعتبر ضوابط؛ لأنها تبنى عليها الأحكام، فهذه احتفظ بها، وسمعت أن بعض الإخوان يتتبع هذا الضوابط في الروض المربع ويحررها، وقلت من الأحسن أن يقوم بهذه طائفة، تتبع الروض المربع من أوله إلى آخره كلما ذكر علة تُقيد ؛ لأن كل علة يبنى عليها مسائل كثيرة، إذ إن العلم له ضابط، فكل ضابط يدخل تحته جزئيات كثيرة.
فمثلا إذا شك في طهارة ماء أو بنجاسته فإنه يبني على اليقين، فهذه العلة تعتبر حكمًا وتعتبر ضابطًا.
أيضًا يعلل بأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا شك في نجاسة طاهر فهو طاهر، أو في طهارة نجس فهو نجس؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان.
فإذا حرص طالب العلم ودوّن كل ما مر عليه من هذه التعليلات وحررها وضبطها ثم حاول في المستقبل أن يبني عليها مسائل جزئية لكان في هذا فائدة كبيرة له ولغيره.(7/349)
سادسًا: جمع النفس للطلب، فلا يشتتها يمينًا ويسارًا، اجمع النفس على الطلب ما دمت مقتنعًا بأن هذا منهجك وسبيلك، وأيضًا اجمع نفسك على الترقي فيه لا تبقى ساكنًا. فكِّر فيما وصل إليه علمك من المسائل والدلائل حتى تترقى شيئًا فشيئًا، واستعن بمن تثق به من زملائك وإخوانك فيما إذا احتاجت المسألة إلى استعانة، ولا تستحي أن تقول يا فلان ساعدني على تحقيق هذه المسألة بمراجعة الكتب، الحياء لا ينال العلم به أحد، فلا ينال العلم مستحيي ولا مستكبر.(7/350)
الفائدة الثانية
مما ينبغي لطالب العلم مراعاته تلقي العلم عن الأشياخ؛ لأنه يستفيد بذلك فوائد عدة:
1ـ اختصار الطريق، فبدلا من أن يذهب يقلب في بطون الكتب وينظر ما هو القول الراجح وما سبب رجحانه، وما هو القول الضعيف وما سبب ضعفه، بدلا من ذلك كله، يمد إليه المعلم ذلك بطريق سهل ويعرض له خلاف أهل العلم في المسائل على قولين أو ثلاثة مع بيان الراجح، والدليل كذا، وهذا لا شك أنه نافع لطالب العلم.
2ـ السرعة في الإدراك، فطالب العلم إذا كان يقرأ على عالم فإنه يدرك بسرعة أكثر ممن ذهب يقرأ في الكتب؛ لأنه إذا قرأ في الكتب تمر عليه العبارات المشكلة والغامضة فيحتاج إلى التدبر وتكرار العبارة مما يأخذ منه الوقت والجهد، وربما فهمها على وجه خطأ وعمل بها.
3ـ الربط بين طلاب العلم والعلماء الربانيين، لذلك القراءة على العلماء أجدى وأفضل من قراءة الإنسان لنفسه.(7/351)
الفائدة الثالثة
إذا دعت الحاجة للسؤال فليحسن طالب العلم السؤال، أما إذا لم تدع الحاجة فلا يسأل؛ لأنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل إلا إذا احتاج هو أو ظن أن غيره يحتاج إلى السؤال، فقد يكون مثلا في درس، وهو فاهم الدرس ولكن فيه مسائل صعبة تحتاج إلى بيانها لبقية الطلبة فليسأل من أجل حاجة غيره، والسائل لحاجة غيره كالمعلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل وسأله عن الإيمان، والإحسان، والإسلام، والساعة وأشراطها، قال: « هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم » (1) ، فإذا كان الباعث على السؤال حاجة السائل فسؤاله وجيه، أو حاجة غيره وسأل ليعلم غيره فهذا أيضًا وجيه وطيب، أما إذا سأل ليقول الناس: ما شاء الله فلان عنده حرص على العلم، كثير السؤال، فهذا غلط، وعلى العكس من ذلك من يقول: لا أسأل حياءً، فالثاني مُفْرِط، وخير الأمور الوسط.
كذلك ينبغي أن يكون عند طالب العلم حسن الاستماع لجواب العالم، وصحة الفهم للجواب، فبعض الطلبة إذا سأل وأجيب تجده يستحي أن يقول ما فهمت.
والذي ينبغي لطالب العلم إذا لم يفهم أن يقول : ما فهمت لكن بأدب وتوقير للعالم.
_________
(1) أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان، باب: بيان أركان الإيمان والإسلام.(7/352)
الفائدة الرابعة
الحفظ ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: غريزي: يهبه الله تعالى لمن يشاء، فتجد الإنسان تمر عليه المسألة والبحث فيحفظه ولا ينساه.
والقسم الثاني: كسبي: بمعنى أن يمرن الإنسان نفسه على الحفظ، ويتذكر ما حفظ فإذا عوَّد نفسه تذكُّر ما حفظ سهل عليه حفظه.(7/353)
الفائدة الخامسة
المجادلة والمناظرة نوعان:
النوع الأول: مجادلة مماراة: يماري بذلك السفهاء ويجاري العلماء ويريد أن ينتصر قوله ؛ فهذه مذمومة.(7/354)
النوع الثاني: مجادلة لإثبات الحق وإن كان عليه ؛ فهذه محمودة مأمور بها، وعلامة ذلك ـ أي المجادلة الحقة ـ أن الإنسان إذا بان له الحق اقتنع وأعلن الرجوع، أما المجادل الذي يريد الانتصار لنفسه فتجده لو بان أن الحق مع خصمه، يورد إيرادات يقول: لو قال قائل، ثم إذا أجيب قال: لو قال قائل، ثم إذا أجيب قال: لو قال قائل، ثم تكون سلسلة لا منتهى له، ومثل هذا عليه خطر ألا يقبل قلبه الحق، لا بالنسبة للمجادلة مع الآخر ولكن في خلوته، وربما يورد الشيطان عليه هذه الإيرادات فيبقى في شك وحيرة، كما قال الله تبارك وتعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (الأنعام:110) وقال الله تعالى : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } (المائدة: من الآية 49). فعليك يا أخي بقبول الحق سواء مع مجادلة غيرك أو مع نفسك، فمتى تبين لك الحق فقل: سمعنا وأطعنا، وآمنا وصدقنا.(7/355)
ولهذا تجد الصحابة يقبلون ما حكم به الرسول عليه الصلاة والسلام أو ما أخبر به دون أن يوردوا عليه الاعتراضات.
فالحاصل أن المجادلة إذا كان المقصود بها إثبات الحق وإبطال الباطل فهي خير، وتعودها وتعلمها خير لا سيما في وقتنا هذا، فإنه كثُرَ فيه الجدال والمراء، حتى إن الشيء يكون ثابتًا وظاهرًا في القرآن والسنة فيورد عليه إشكالات.
وهنا مسألة : وهي أن بعض الناس يتحرج من المجادلة حتى وإن كانت حقًّا استدلالا بحديث: « وأنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا » (1) فيترك هذا الفعل.
فالجواب: من ترك المراء في دين الله فليس بمحقٍّ إطلاقًا؛ لأن هذا هزيمة للحق، لكن قد يكون محقًّا إذا كان تخاصُمه هو وصاحبه في شيء ليس له علاقة بالدين أصلا، قال: رأيت فلانًا في السوق، ويقول الآخر: بل رأيته في المسجد، ويحصل بينهما جدال وخصام فهذه هي المجادلة المذكورة في الحديث، أما من ترك المجادلة في نصرة الحق فليس بمحق إطلاقًا فلا يدخل في الحديث
_________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب: حسن الخلق.(7/356)
الفائدة السادسة
من الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يهتم بها المذاكرة، والمذاكرة نوعان:
النوع الأول: مذاكرة مع النفس، بأن تجلس مثلا جلسة وحدك ثم تعرض مسألة من المسائل أو مسألة قد مرت عليك، ثم تأخذ في محاولة عرض الأقوال وترجيح ما قيل في هذه المسألة بعضها على بعض، وهذه سهلة على طالب العلم، وتساعد على مسألة المناظرة السابقة.
النوع الثاني: مذاكرة مع الغير، بأن يختار من إخوانه الطلبة من يكون عونًا له على طلب العلم، مفيدًا له، فيجلس مع ويتذاكرون، يقرأ مثلا ما حفظاه، كل واحد يقرأ على الآخر قليلا، أو يتذاكران في مسألة من المسائل بالمراجعة أو بالمفاهمة إن قدرا على ذلك فإن هذا مما ينمي العلم ويزيده، لكن إياك والشغب والصلف؛ لأن هذا لا يفيد.(7/357)
الفائدة السابعة
كراهية التزكية والمدح والتكبر على الخلق:
وهذه يُبتلى بها بعض الناس فيزكي نفسه، ويرى أن ما قاله هو الصواب وأن غيره إذا خالفه فهو مخطئ وما أشبه ذلك، كذلك حب المدح تجده يسأل عما يقال عنه فإذا وجد أنهم مدحوه انتفخ وزاد انتفاخه حتى يعجز جلده عن تحمل بدنه، كذلك التكبر على الخلق، بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ إذا آتاه الله علمًا تكبر، الغني بالمال ربما يتكبر ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم: « العائل المستكبر من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم » (1) ؛ لأنه ليس عنده مال يوجب الكبرياء، لكن العالم لا ينبغي أن يكون كالغني كلما ازداد علمًا ازداد تكبرًا، بل ينبغي العكس كلما ازداد علمًا ازداد تواضعًا؛ لأن من العلوم التي يقرأها أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه كلها تواضع للحق وتواضع للخلق، لكن على كل حال إذا تعارض التواضع للحق مع التواضع للخلق أيهما يقدم؟
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، برقم (107).(7/358)
يقدم التواضع للحق، فمثلا لو كان هناك إنسان يسبّ الحق ويفرح بمعاداة من يعمل به، فإنا لا نتواضع له، تواضع للحق، وجادل هذا الرجل حتى وإن أهانك أو تكلم فيك فلا تهتم به، فلا بد من نصرة الحق.(7/359)
الفائدة الثامنة
زكاة العلم تكون بأمور:
الأمر الأول : نشر العلم: نشر العلم من زكاته، فكما يتصدق الإنسان بشيء من ماله، فهذا العالم يتصدق بشيء من علمه، وصدقة العلم أبقى دومًا وأقل كلفة ومؤنة، أبقى دومًا؛ لأنه ربما كلمة من عالم تُسمع ينتفع بها أجيال من الناس ومازلنا الآن ننتفع بأحاديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ولم ننتفع بدرهم واحد من الخلفاء الذين كانوا في عهده، وكذلك العلماء ننتفع بكتبهم ومعهم زكاة وأي زكاة، وهذه الزكاة لا تنقص العلم بل تزيده كما قيل:
يزيده بكثرة الإنفاق منه ... وينقص إن به كفًّا شددت
الأمر الثاني: العمل به: لأنه العمل به دعوة إليه بلا شك، وكثير من الناس يتأسون بالعالم، بأخلاقه وأعماله أكثر مما يتأسون بأقواله، وهذا لا شك زكاة.
الأمر الثالث: الصدع بالحق: وهذا من جملة نشر العلم ولكن النشر قد يكون في حال السلامة وحال الأمن على النفس وقد يكون في حال الخوف على النفس، فيكون صدعًا بالحق.(7/360)
الأمر الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا شك أن هذا من زكاة العلم؛ لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عارف للمعروف وعارف للمنكر ثم قائم بما يجب عليه من هذه المعرفة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(7/361)
الفائدة التاسعة
موقف طالب العلم من وَهْمِ وخطأ العلماء:
هذا الموقف له جهتان:
الأولى: تصحيح الخطأ: وهذا أمر واجب، يجب على من عثر على وهم إنسان ولو كان من أكبر العلماء أن ينبه على هذا الوهم وعلى هذا الخطأ لأن بيان الحق أمر واجب وبالسكوت يمكن أن يضيع الحق لاحترام من قال بالباطل؛ لأن احترام الحق أولى بالمراعاة.
لكن هل يصرح بقائل الوهم أو الخطأ؟ أو يقول توهم بعض الناس فقال كذا وكذا؟
الجواب: ينظر لما تقتضيه المصلحة، قد يكون من المصلحة ألا يصرح، كما لو كان يتكلم عن عالم مشهور في عصره موثوق عند الناس، محبوب إليهم، يقول: قال فلان: كذا، وكذا وهذا خطأ ؛ فإن العامة لا يقبلون كلامه بل يسخرون منه ولا يقبلون الحق، ففي هذه الحالة ينبغي أن يقول: من الخطأ أن يقول القائل كذا وكذا، ولا يذكر اسمه، وقد يكون هذا الرجل الذي توهم متبوعًا، يتبعه شرذمة من الناس وليس له قدر في المجتمع فحينئذ يصرح ؛ لئلا يغتر الناس به، فيقول: قال فلان كذا وكذا وهو خطأ.(7/362)
الثانية: أن يقصد بذلك بيان معايبه لا بيان الحق من الباطل، وهذه تقع من إنسان حاسد ـ والعياذ بالله ـ يتمنى أن يجد قولا ضعيفًا أو خطأ لشخص ما فينشره بين الناس، ولهذا نجد أهل البدع يتكلمون في شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وينظرون إلى أقرب شيء يمكن أن يقدح به فينشرونه ويعيبونه، مثلا يقولون خالفت الإجماع في أن الطلاق الثلاث واحدة فيقولون هذا شاذ، ومن شذ في النار، وأمثال هذا كثير.
المهم أن يكون قصدك من البيان إظهار الحق ومن كان قصده الحق وُفِّق لقبوله، أما من كان قصده أن يظهر عيوب الناس فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته، فإذا عثرت على وهم عالم، حاول أن تدفع اللوم عنه وأن تذُبّ عنه، لا سيما إذا كان من العلماء المشهود لهم بالعدالة والخير ونصح الأمة.(7/363)
الفائدة العاشرة
في المقصود ببركة العلم:
قبل بيان المقصود بالبركة في العلم لا بد أن نعرف البركة فهي كما يقول العلماء "الخير الكثير الثابت" ويعيدون ذلك إلى اشتقاق هذه الكلمة فإنها من البركة وهي مجمع الماء، والبركة التي هي مجمع الماء مكان واسع، ماؤه كثير ثابت، فالبركة هي الخيرات الكثيرة الثابتة، من كل شيء من المال والولد ومن العلم؟ وكل شيء أعطاه الله -عز وجل- لك تسأل الله سبحانه البركة فيه؛ لأن الله -عز وجل- إذا لم يبارك لك فيما أعطاك حرمت خيرًا كثيرًا.(7/364)
ما أكثر الناس الذين عندهم المال الكثير وهم في عداد الفقراء لماذا؟ لأنهم لا ينتفعون بمالهم، تجد عندهم من الأموال ما لا يحصى، لكن يقصر على أهله في النفقة، وعلى نفسه ولا ينتفع بماله، والغالب أن من كانت هذه حاله وبخل بما يجب عليه، أن يسلط الله على أمواله آفات تُذهبها، كثير من الناس عنده أولاد لكن أولاده لم ينفعوه، عندهم عقوق واستكبار على الأب، حتى إنه ـ أي الولد ـ يجلس إلى صديقه الساعات الطويلة يتحدث إليه ويأنس به ويفضي إليه أسراره ـ لكنه إذا جلس عند أبيه، فإذا هو كالطير المحبوس في القفص ـ والعياذ بالله ـ لا يأنس بأبيه، ولا يتحدث إليه، ولا يفضي إليه بشيء من أسراره، ويستثقل حتى رؤية والده: فهؤلاء لم يبارك لهم في أولادهم.
أما البركة في العلم فتجد بعض الناس قد أعطاه الله علمًا كثيرًا لكنه بمنزلة الأمي فلا يظهر أثر العلم عليه في عباداته، ولا في أخلاقه ولا في سلوكه، ولا في معاملاته مع الناس، بل قد يكسبه العلم استكبارًا على عباد الله وعلوًّا عليهم واحتقارًا لهم، وما علم هذا أن الذي منَّ عليه بالعلم هو الله، وإن الله لو شاء لكان مثل هؤلاء الجهال.(7/365)
تجده قد أعطاه الله علمًا، ولكن لم ينتفع الناس بعلمه. لا بتدريس ولا بتوجيه، ولا بتأليف، بل هو منحصر على نفسه، لم يبارك الله له في العلم، وهذا بلا شك حرمان عظيم، مع أن العلم من أبرك ما يعطيه الله العبد؛ لأن العلم إذا علمته غيرك، ونشرته بين الأمة، أُجرت على ذلك من عدة وجوه:
أولا: أن في نشرك العلم نشرًا لدين الله -عز وجل- فتكون من المجاهدين، فالمجاهد في سبيل الله يفتح البلاد بلدًا بلدًا حتى ينشر فيها الدين، وأنت تفتح القلوب بالعلم حتى تنشر فيها شريعة الله -عز وجل- .
ثانيًا: من بركة نشر العلم وتعليمه، أن فيه حفظًا لشريعة الله وحماية لها؛ لأنه لولا العلم لم تحفظ الشريعة، فالشريعة لا تحفظ إلا برجالها رجال العلم، ولا يمكن حماية الشريعة إلا برجال العلم، فإذا نشرت العلم، وانتفع الناس بعلمك، حصل في هذا حماية لشريعة الله، وحفظ لها.
ثالثًا: فيه أنك تُحسن إلى هذا الذي علمته؛ لأنك تبصره بدين الله -عز وجل- فإذا عبد الله على بصيرة؛ كان لك من الأجر مثل أجره؛ لأنك أنت الذي دللته على الخير، والدال على الخير كفاعل الخير، فالعلم في نشره خير وبركة لناشره ولمن نُشر إليه.(7/366)
رابعًا: أن في نشر العلم وتعليمه زيادة له، علم العالم يزيد إذا علَّم الناس؛ لأنه استذكار لما حفظ، وانفتاح لما لم يحفظ، وما أكثر ما يستفيد العالم من طلبة العلم، فطلابه الذين عنده أحيانًا يأتون له بمعان ليست له على بال، ويستفيد منهم وهو يعلمهم، وهذا شيء مشاهد.
ولهذا ينبغي للمعلم إذا استفاد من الطالب، وفتح له الطالب شيئًا من أبواب العلم ـ ينبغي له أن يشجع الطالب ، وأن يشكره على ذلك ؛ خلافًا لما يظنه بعض الناس أن الطالب إذا فتح عليه، وبيَّن له شيئًا كان خفيًّا عليه، تضايق المعلم، يقول هذا صبي يعلم شيخًا فيتضايق، ويتحاشى بعد ذلك أن يتناقش معه، خوفًا من أن يطلعه على أمر قد خفي عليه، وهذا من قصور علمه بل من قصور عقله.
لأنه إذا منَّ الله عليك بطلبة يذكرونك ما نسيت ويفتحون عليك ما جهلت، فهذا من نعمة الله عليك، فهذا من فوائد نشر العلم أنه يزيد إذا علمت العلم كما قال القائل مقارنًا بين المال والعلم يقول في العلم:
يزيد بكثرة الإنفاق منه ... وينقص إن به كفًّا شددت
إذا شددت به كفًّا، وأمسكته نقص، أي تنساه، ولكن إذا نشرته يزداد.(7/367)
وينبغي للإنسان عند نشر العلم أن يكون حكيمًا في التعليم، بحيث يلقي على الطلبة المسائل التي تحتملها عقولهم فلا يأتي إليهم بالمعضلات، بل يربيهم بالعلم شيئًا فشيئًا.
ولهذا قال بعضهم في تعريف العالم الرباني: العالم الرباني هو: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
ونحن نعْلَمُ جميعًا أن البناء ليس يؤتى به جميعًا حتى يوضع على الأرض، فيصبح قصرًا مشيدًا بل يبنى لبنة لبنة، حتى يكتمل البناء، فينبغي للمعلم أن يراعي أذهان الطلبة بحيث يلقي إليهم ما يمكن لعقولهم أن تدركه، ولهذا يؤمر العلماء أن يحدثوا الناس بما يعرفون.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: إنك لن تحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
كذلك أيضًا ينبغي للمعلم أن يعتني بالأصول والقواعد؛ لأن الأصول والقواعد هي التي يبنى عليها العلم.
وقد قال العلماء: من حُرم الأصول حُرم الوصول، أي لا يصل إلى الغاية إذا حرم الأصول، فينبغي أن يلقي على الطلبة القواعد والأصول التي تتفرع عليها المسائل الجزئية؛ لأن الذي يتعلم على المسائل الجزئية لا يستطيع أن يهتدي إذا أتته معضلة فيعرف حكمها؛ لأنه ليس عنده أصل.(7/368)
رسائل مختارة
الرسالة الأولى
حسن الخلق وأهميته لطالب العلم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله تعالى بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ووفق الله من شاء من عباده فاستجاب لدعوته، واهتدى بهديه، وخذل الله بحكمته من شاء من عباده فاستكبر عن طاعته، وكذب خبره، وعاند أمره، فباء بالخسران والضلال البعيد.
أيها الإخوة، يطيب لي أن أتحدث إليكم عن الخلق الحسن، والخلق كما يقول أهل العلم هو: صورة الإنسان الباطنة؛ لأن للإنسان صورتين:
صورة ظاهرة، وهي خِلقته التي جعل الله البدن عليه. وكما نعلم جميعًا أن هذه الصورة الظاهرة منها ما هو جميل حسن، ومنها ما هو قبيح سيئ، ومنها ما بين ذلك.
وصورة باطنة، منها صورة حسنة ومنها صورة سيئة، ومنها ما بين ذلك. وهذا ما يعبر عنه بالخلق.
فالخُلُق إذن هو:(7/369)
"الصورة الباطنة التي طُبعَ الإنسان عليها"، وكما يكون الخُلُق طبيعة فإنه يكون كسبًا. بمعنى أن الإنسان كما يكون مطبوعًا على الخُلُق الحسن الجميل قد يحصل على الخُلُق الحسن الجميل عن طريق الكسب والمرونة، ولذلك « قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :" إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة. قال يا رسول الله أهما خُلُقان تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما » (1) .
فهذا دليل على أن الأخلاق الفاضلة تكون طبعًا وتكون تطبُّعًا، ولكن الطبع بلا شك أحسن من التطبع؛ لأن الخلق إذا كان طبيعيًّا صار سجية للإنسان وطبيعة له لا يحتاج في ممارسته إلى تكلف، ولا يحتاج في ممارسته إلى تصنع، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء. ومن حُرم هذا أي: من حرم الخُلق على سبيل الطبع فإنه يمكنه أن يناله على سبيل التطبع، وذلك بالمرونة والممارسة كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وكثير من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق لا يكون إلا في معاملة الخلق، دون معاملة الخالق. ولكن هذا الفهم قاصر فإن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون في معاملة الخالق.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب : الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ـ مختصر ـ والإمام أحمد 4 / 206، وأبي داود (5525) .(7/370)
فموضوع حسن الخلق إذن معاملة الخالق ـ جل وعلا ـ، ومعاملة الخلق أيضًا.
فما هو حسن الخلق في معاملة الخالق؟
حسن الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاث أمور:
1ـ تلقِّي أخبار الله تعالى بالتصديق.
2ـ وتلقِّي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق.
3ـ وتلقِّي أقداره بالصبر والرضا.
فهذه ثلاث أشياء عليها مدار حسن الخلق مع الله ـ عز وجل
أولا: تلقي أخباره بالتصديق:
بحيث لا يقع عند الإنسان شك أو تردد في تصديق خبر الله تعالى؛ لأن خبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ صادر عن علم وهو أصدق القائلين كما قال تعالى عن نفسه: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } النساء، الآية :87.(7/371)
ولازم تصديق أخبار الله أن يكون الإنسان واثقًا بها مدافعًا عنها مجاهدًا بها، بحيث لا يدخله شك، أو تشكيك في أخبار الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا تخلق بهذا الخلق أمكنه أن يدفع كل شبهة يوردها المغرضون على أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء أكانوا من المسلمين الذين ابتدعوا في دين الله ما ليس منه أم كانوا من غير المسلمين الذين يلقون الشبهة في قلوب المسلمين، ولنضرب لذلك مثلا: ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ... إلخ .(7/372)
هذا خبر رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم في أمور الغيب لا ينطق بما أوحى الله إليه؛ لأنه بشر ، والبشر لا يعلم الغيب بل قد قال الله له: { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } [الأنعام، الآية :50]. هذا الخبر يجب علينا أن نقابله بحسن الخلق ، وحسن الخلق نحو هذا الخبر أن نتلقى هذا الخبر بالقبول، وأن نجزم بأن ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فهو حق وصدق وإن اعترض عليه من يعترض. ونعلم علم اليقين أن ما خالف ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه باطل؛ لأن الله تعالى يقول: { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } (يونس:32)
ومثال آخر:(7/373)
من أخبار يوم القيامة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم « أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بقدر ميل » (1) ، سواء كان ميل المكحلة أو ميل المسافة، هذه المسافة بين الشمس ورؤوس الخلائق قليلة، ومع ذلك فإن الناس لا يحترقون بحرّها مع أن الشمس لو تدنو الآن في الدنيا مقدار أنملة لاحترقت الدنيا، فقد يقول قائل كيف تدنو من رؤوس الخلائق يوم القيامة بهذه المسافة ثم يبقى الناس؟ فما هو حسن الخلق نحو هذا الحديث؟ حسن الخلق نحو هذا الحديث أن نقبله ونصدق به، وأن لا يكون في صدورنا حرج منه، ولا ضيق، ولا تردد، وأن نعلم أن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا فهو حق، ولا يمكن أن نقيس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا لوجود الفارق العظيم. فإذا كان كذلك فإن المؤمن يقبل مثل هذا الخبر بانشراح وطمأنينة ويتسع فهمه له.
_________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى:( إنا أرسلنا نوحًا إلى قومه . . .)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلا.(7/374)
ثانيًا: تلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق: إن حسن الخلق في معاملة الله بالنسبة للأحكام أن يتلقاها الإنسان بالقبول والتنفيذ والتطبيق فلا يرد شيئًا من أحكام الله، فإذا ردّ شيئًا من أحكام الله، فهذا سوء خلق مع الله سواء ردها منكرًا حكمها، أو ردها مستكبرًا عن العمل بها، أو ردها متهاونًا بالعمل بها، فإن ذلك مناف لحسن الخلق مع الله -عز وجل-.
ولنضرب لذلك مثلا، الصوم لا شك أنه شاقّ على الإنسان؛ لأن الإنسان يترك فيه المألوف من طعام وشراب ونكاح، وهذا أمر شاقّ، ولكن المؤمن حسن الخلق مع ربه -عز وجل- يقبل هذا التكليف بانشراح صدر وطمأنينة، وتتسع له نفسه فتجده يصوم الأيام الحارة الطويلة وهو بذلك راضٍ منشرح الصدر؛ لأنه يحسن الخلق مع ربه. أما سيئ الخُلُق مع الله فيقابل مثل هذه العبادة بالضجر والكراهية ولولا أنه يخشى من أمر لا تُحمد عقباه لكان لا يلتزم بالصيام.
ومثال آخر:(7/375)
الصلاة لا شك أنها ثقيلة على بعض الناس، وهي ثقيلة على المنافقين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: « أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر » (1) ، لكن الصلاة بالنسبة للمؤمن قرة عينه وراحة نفسه، قال الله تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } (البقرة:45) { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } (البقرة:46) على هؤلاء غير كبيرة بل إنها سهلة يسيرة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه سلم: « وجُعلت قرة عيني في الصلاة » (2) .
فحسن الخلق مع الله -عز وجل- بالنسبة للصلاة، أن تؤديها وقلبك منشرح مطمئن وعيناك قريرتان، تفرح إذا كنت متلبسًا بها وتنتظرها إذا أقبل وقتها، فإذا صليت الفجر كنت في شوق إلى صلاة الظهر، وإذا صليت الظهر كنت في شوق إلى صلاة العصر، وإذا صليت العصر كنت في شوق إلى صلاة المغرب، وإذا صليت المغرب كنت في شوق إلى صلاة العشاء، وإذا صليت العشاء كنت في شوق إلى صلاة الفجر، وهكذا دائمًا قلبك معلق بهذه الصلوات.
ونضرب مثالا ثالثًا في المعاملات:
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب: فضل العشاء في الجماعة، ومسلم، كتاب المساجد، باب: فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة.
(2) أخرجه الإمام أحمد جـ3 ص128، والنسائي، كتاب النساء، باب: عشرة النساء، والحاكم في «المستدرك» جـ2 ص175 وقال:«حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي.(7/376)
في المعاملات حرم الله علينا الربا، حرَّمه تحريمًا صريحًا في القرآن كما قال الله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (البقرة، الآية :275) وقال فيه: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (البقرة: من الآية 275) فتوعد من عاد إلى الربا بعد أن جاءته الموعظة وعلم الحكم توعده بالخلود في النار والعياذ بالله. المؤمن يقبل هذا الحكم بانشراح ورضا وتسليم. وأما غير المؤمن؛ فإنه لا يقبله ويضيق صدره به، يتحيل عليه بأنواع الحيل لأننا نعلم أن في الربا كسبًا متيقنًا وليس فيه مخاطرة، لكنه في الحقيقة كسب لشخص وظلم لآخر. ولهذا قال الله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (البقرة: من الآية 279) أما الأمر الثالث من موضوع حسن الخلق مع الله فهو تلقي أقداره بالصبر والرضا، وكلنا يعلم أن أقدار الله -عز وجل- التي ينفذها في خلقه بعضها ملائم وبعضها غير ملائم.(7/377)
هل المرض يلائم الإنسان؟ أبدًا الإنسان يحب أن يكون صحيحًا. وهل الفقر يلائم الإنسان ؟ لا. فالإنسان يحب أن يكون غنيًّا. وهل الجهل يلائم الإنسان؟ لا. فالإنسان يحب أن يكون عالمًا. لكن أقدار الله -عز وجل- بحكمته تتنوع منها ما يلائم الإنسان ويستريح له بمقتضى طبيعته، ومنها ما لا يكون كذلك. فما هو حسن الخلق مع الله -عز وجل- نحو أقدار الله؟
حسن الخلق مع الله نحو أقداره أن ترضى بما قدر الله لك، وأن تطمئن إليه، وأن تعلم أن الله سبحانه وتعالى ـ ما قدره لك إلا لحكمة وغاية محمودة يستحق عليها الشكر، وعلى هذا فإن حسن الخلق مع الله نحو أقداره هو أن الإنسان يرضى ويستسلم ويطمئن. ولهذا امتدح الله تعالى الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } . البقرة، الآية :155.
ونوجز ما سبق:
نقول : إن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون في معاملة الخالق، وإن حسن الخلق في معاملة الخالق هو تلقي أخباره بالتصديق وتلقي أحكامه بالقبول والتطبيق. وتلقي أقداره بالصبر والرضا. هذا حسن الخلق مع الله.(7/378)
أما حسن الخلق مع المخلوق فعرفه بعضهم. ويذكر عن الحسن البصري أنه "كف الأذى، وبذل الندى، وطلاقة الوجه".
ثلاثة أمور:
1ـ كف الأذى.
2ـ بذل الندى.
3ـ طلاقة الوجه.
ومعنى كف الأذى: أن الإنسان يكف أذاه عن غيره سواء كان هذا الأذى يتعلق بالمال، أو يتعلق بالنفس، أو يتعلق بالعرض. فمن لم يكف أذاه عن الخلق فليس من حسن الخُلق، بل هو سيئ الخُلق. وقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم في أعظم مجمع اجتمع به في أمته. قال: « إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ترجعوا بعدي كفارًا . . .».(7/379)
إذا كان رجل يعتدي على الناس بالخيانة، أو يعتدي على الناس بالضرب والجناية، أو يعتدي على الناس في العرض، أو بالسب والغيبة. فهذا ليس بحسن الخلق مع الناس؛ لأنه لم يكف أذاه عنهم، ويعظم إثم ذلك كلما كان موجهًا إلى من له حق عليك أكبر. فالإساءة إلى الوالدين مثلا أعظم من الإساءة إلى غيرهما، والإساءة إلى الأقارب أعظم من الإساءة إلى الأباعد، والإساءة إلى الجيران أعظم من الإساءة إلى من ليسوا من جيرانًا لك. ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: « والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه » (1) وفي رواية لمسلم : « لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه » والبوائق هي: الشرور.
_________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الأدب ، باب : إثم من لم يأمن جاره بوائقه ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب : تحريم إيذاء الجار .(7/380)
وأما بذل الندى، الندى هو الكرم والجود. يعني أن تبذل الكرم والجود، والكرم ليس كما يظنه بعض الناس هو أن تبذل المال، بل الكرم يكون في بذل النفس، وفي بذل الجاه، وفي بذل المال، إذا رأينا شخصًا يقضي حوائج الناس يساعدهم يتوجه في شئونهم إلى من لا يستطيعون الوصول إليه، ينشر علمه بين الناس، يبذل ماله بين الناس، فإنا نصفه بحسن الخلق؛ لأنه بذل الندى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن » (1) .
ومعنى ذلك أنك إذا ظُلمت أو أسيء إليك فإنك تعفو وتصفح، وقد امتدح الله العافين عن الناس فقال في الجنة { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (آل عمران:134) وقال الله تعالى: { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } . البقرة، الآية : 237. وقال تعالى: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } . النور، الآية : 22.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ5 ص153، والترمذي، كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في معاشر الناس، والدارمي، كتاب الرقاق، باب: حسن الخلق.(7/381)
وكل إنسان يتصل بالناس فلا بد أن يجد من الناس شيئًا من الإساءة، فموقفه من هذه الإساءة أن يعفو ويصفح، وليعلم علم اليقين أنه بعفوه وصفحه ومجازاته بالحسنى سوف تنقلب العداوة بينه وبين أخيه إلى ولاية وصداقة. قال الله تعالى: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } (فصلت:34) فما هو الأحسن، السيئة أم الحسنة؟ الحسنة. وتأملوا أيها العارفون باللغة العربية كيف جاءت النتيجة بـ(إذا) الفجائية تدل على الحدث الفوري في نتيجتها : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ولكن هل كل أحد يوفق إلى ذلك؟ لا { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } (فصلت:35)
وهاهنا مسألة:
هل نفهم من هذا أن العفو عن الجاني مطلقًا محمود ومأمور به؟(7/382)
قد نفهم من هذا الكلام أن العفو مطلقًا محمود ومأمور به. ولكن ليكن معلومًا لديكم أن العفو إنما يُحمد إذا كان العفو أحمد، ولهذا قال الله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } (الشورى:40) فجعل العفو مقرونًا بالإصلاح، وهل يمكن أن يكون العفو غير إصلاح؟
الجواب: نعم. قد يكون هذا الذي اجترأ عليك وجنى عليك رجلٌ شرير، معروف بالشر والفساد، فلو عفوت عنه لتمادى في شره، وفساده، فما هو الأفضل حينئذ، أن نعفو أو نأخذ بالجريمة؟
الأفضل أن نأخذ بالجريمة؛ لأن في ذلك إصلاحًا.
قال شيخ الإسلام :{ الإصلاح واجب، والعفو مندوب}. فإذا كان في العفو فوات الإصلاح فمعنى ذلك أننا قدمنا مندوبًا على واجب. وهذا لا تأتي به الشريعة. وصدق رحمه الله.
وإنني بهذه المناسبة أودّ أن أنبه على مسألة يفعلها كثير من الناس بقصد الإحسان، وهي أن تقع حادثة من شخص فيهلك بسببها شخص آخر، فيأتي أولياء المقتول فيسقطون الدية عن هذا الجاني الذي فعل الحادث، فهل إسقاطهم محمود ويعتبر من حسن الخلق أو في ذلك تفصيل؟ في ذلك تفصيل.(7/383)
لا بد أن نتأمل ونفكر في حال هذا الجاني الذي وقع منه الحادث هل هو من الناس المعروفين بالتهور وعدم المبالاة؟ هل هو من الطراز الذي يقول : أنا لا أبالي أن أصدم شخصًا لأن ديته في الدرج. والعياذ بالله؟
أم أنه رجل حصلت منه الجناية مع كمال التحفظ وكمال الاتزان ولكن الله تعالى قد جعل كل شيء بمقدار؟ فالجواب: إن كان من الطراز الثاني فالعفو بحقه أولى، ولكن قبل العفو حتى في الطراز الثاني يجب أن نلاحظ هل على الميت دين؟ إذا كان عليه دين فإنه لا يمكن أن نعفو.
ولو عفونا فإن عفونا لا يعتبر، وهذه مسألة ربما يغفل عنها كثير من الناس. لماذا نقول : إنه قبل العفو يجب أن نلاحظ هل على الميت دين أم لا؟ لماذا نقول ذلك؟(7/384)
لأن الورثة يتلقون الاستحقاق لهذه الدية من الميت الذي أصيب بالحادث ولا يرد استحقاقهم إلا بعد الدين ولهذا لما ذكر الله الميراث قال : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } (النساء: من الآية 11) هذه مسألة تخفى على كثير من الناس وعلى هذا فنقول: إذا حصلت حادث على شخص ما فمات فإنه قبل أن يقدم ورثته على العفو ننظر في حال المجني عليه فإن كان عليه دين لا وفاء له إلا من الدية فلا عفو؛ لأن الدين مقدم على الميراث، وإن لم يكن عليه دين نظرنا في حال الجاني فإن كان من المتهورين فترك العفو عنه أولى، وإن لم يكن منهم نظرنا في ورثة المجني عليه فإن كان غير مرشدين فلا يملك أحد إسقاط حقهم عن المجني عليه، وإن كانوا مرشدين فالعفو في هذه الحال أفضل.
والحاصل: أن من حسن الخلق العفو عن الناس، وهو بذل الندى؛ لأن بذل الندى: إما إعطاء، وإما إسقاط، والعفو من الإسقاط.
وأما طلاقة الوجه فهي أن يكون الإنسان طليق الوجه، وضد طليق الوجه عبوس الوجه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: « لا تحقرنّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق » (1) .
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب البر، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء.(7/385)
طلاقة الوجه تُدخل السرور على من قابلك. وعلى من اتجه لك، وتجلب المودة والمحبة، وتوجب انشراح القلب، بل توجب انشراح الصدر منك وممن يقابلك ـ وجرب تجد ـ لكن إذا كنت عبوسًا فإن الناس ينفرون منك ، ولا ينشرحون بالجلوس إليك، ولا بالتحدث معك، وربما تصاب بمرض خطير يسمى بالضغط، فإن انشراح الصدر وطلاقة الوجه من أكبر العقاقير المانعة من هذا الداء داء الضغط. ولهذا فإن الأطباء ينصحون ابتلي بهذا الداء بأن يبتعد عما يثيره ويغضبه؛ لأن ذلك يزيد في مرضه، فطلاقة الوجه تقضي على هذا المرض؛ لأن الإنسان يكون منشرح الصدر محبوبًا إلى الخلق.
هذه الأصول الثلاثة التي يدور عليها حسن الخلق في معاملة الخلق.
ومما ينبغي أن يعرف من حسن الخلق حسن المعاشرة بأن يكون الإنسان مع من يعاشره من أصدقاء، وأقارب، وأهل، يكون حَسَن العشرة معهم لا يضيق بهم ولا يُضِّيق عليهم، بل يدخل السرور عليهم بقدر ما يمكنه في حدود شريعة الله. وهذا القيد لا بد منه أعني أن يكون في حدود شريعة الله؛ لأن من الناس من لا يسير إلا بمعصية الله والعياذ بالله وهذا لا يوافق عليه.(7/386)
لكن إدخال السرور على من يتصل بك من أهل وأصدقاء وأقارب من حسن الخلق . ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : « إن خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي » (1) .
وكثير من الناس مع الأسف الشديد يحسن الخلق مع الناس، ولكنه لا يحسن الخلق مع أهله وهذا خطأ وقلب للحقائق. كيف تحسن الخلق مع الأباعد وتسيء الخلق مع الأقارب؟ فالأقارب أحق الناس بأن تحسن إليهم الصحبة والعشرة. ولهذا قال رجل: « يا رسول الله:"من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك. في الثالثة أو الرابعة » (2) .
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ2 ص250ـ472، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب: حسن معاشرة النساء، والهيثمي جـ4 ص302ـ303.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة، ومسلم ، كتاب البر والصلة، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به.(7/387)
والحاصل أن إحسان العشرة مع الأهل والأصحاب والأقارب كل ذلك من حسن الخلق، وينبغي لنا في هذه المراكز الصيفية أن نستغل وجود الشباب بحيث نمرنهم على إحسان الخلق لتكون هذه المراكز مراكز تعليم وتربية؛ لأن العلم بدون تربية يكون ضرره أكثر من نفعه. لكن مع التربية يكون العلم مؤديًا لنتيجته المقصودة. ولهذا قال الله تعالى { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } (آل عمران:79) هذه فائدة العلم أن يكون الإنسان ربانيًّا بمعنى مُرَبِّيًا لعباد الله على شريعة الله.(7/388)
فهذه المراكز التي نأمل من القائمين عليها أن يجعلوها ميدانًا للتسابق في الأخلاق الفاضلة ومنها حسن الخلق. فحسن الخلق يكون بالطبع ويكون بالتطبع ـ كما تقدم ـ وحسن الخلق بالطبع أكمل من حسن الخلق بالتطبع. وأتينا على ذلك بدليل وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام: « بل جبلك الله عليهما » (1) . وحسن الخلق بالتطبع قد يفوت الإنسان في مواطن كثيرة؛ لأن حسن الخلق بالتطبع يحتاج إلى ممارسة وإلى معاناة وإلى تذكر عند وجود كل ما يثير الإنسان، ولهذا جاء رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: « يا رسول الله أوصني، قال:" لا تغضب" فردد مرارًا قال:"لا تغضب » (2) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: « ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب » (3) .
والصرعة: هو الذي يغلب الرجال عند المصارعة.
إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، الذي يصرع نفسه ويملكها عند الغضب هو الشديد. وملك الإنسان نفسه عند الغضب يعتبر من أحسن الأخلاق، فإذا غضبت فلا تنفذ الغضب، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كنت قائمًا فاجلس وإذا كنت جالسًا فاضجع، وإذا زاد بك الغضب فتوضأ حتى يزول عنك.
_________
(1) تقدم تخريجه ص256
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: الحذر من الغضب.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: الحذر من الغضب، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب: فضل من يملك نفسه عند الغضب.(7/389)
والمقصود أننا نقول: إن حسن الخلق طبع وتطبع وأن حسن الخلق بالطبع هو الأفضل؛ لأنه يكون سجية الإنسان ويسهل عليه في كل موطن، ولكن التطبع قد يفوته في بعض المواقف.
كذلك نقول: إن حسن الخلق يكون بالاكتساب بمعنى أن الإنسان يمرن نفسه، فكيف يكون الإنسان حسن الخلق؟ يكون الإنسان حسن الخلق بالآتي:
أولًا: بأن ينظر في كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم. ينظر النصوص الدالة على مدح ذلك الخلق العظيم، والمؤمن إذا رأى النصوص تمدح شيئًا من الأخلاق أو من الأعمال فإنه سوف يقوم به.
ثانيًا: مجالسة الأخيار والصالحين الموثوق بعلمهم وأمانتهم يقول النبي عليه الصلاة والسلام: « مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد لا يَعدمُك من صاحب المسك: إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد: يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثة » (1) .
فعليكم أيها الشباب أن تصاحبوا من عُرفوا بحسن الأخلاق، والبعد عن مساوئ الأخلاق وسفاسف الأعمال، حتى تأخذوا من هذه الصحبة مدرسة تستعينون بها على حسن الخلق.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب: في العطار وبيع المسك(7/390)
ثالثًا: أن يتأمل الإنسان ماذا يترتب على سوء خلقه، فسيئ الخلق ممقوت، وسيئ الخلق مهجور، وسيئ الخلق مذكور بالوصف القبيح. فإذا علم الإنسان أن سوء الخلق يفضي به إلى هذا فإنه يبتعد عنه.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا وأن يتوفانا على ذلك، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
* * *(7/391)
السبب الأول :
أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه.
وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومن بعدهم . ونضرب مثالين وقعا للصحابة من هذا النوع:
الأول أننا علمنا بما ثبت في صحيح البخاري (1) وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الشام، وفي أثناء الطريق، ذكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابةـ رضي الله عنهم ـ فاستشار المهاجرين والأنصار واختلفوا في ذلك على رأيين . . . وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائبًا في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًا منه » فكان هذا الحكم خافيًا على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبد الرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.
_________
(1) البخاري، كتاب الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم، كتاب السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة.(7/392)
مثال آخر: كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر. . أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر لم تنقض العدة عنده وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع الحمل (1) ؛ لأن الله تعالى يقول: { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } (الطلاق: من الآية 4). ويقول { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } (البقرة: من الآية 234) وبين الآيتين عموم وخصوص وجهي، وطريق الجمع بين ما بينهما عموم وخصوص وجهي، أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس -رضي الله عنهما- ولكن السنة فوق ذلك. فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سبيعة الأسلمية أنها نفست بعد موت زوجها بليال فأذن لها رسول الله أن تتزوج، ومعنى ذلك أننا نأخذ بآية سورة الطلاق التي تسمى سورة النساء الصغرى، وهي عموم قوله تعالى: {
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الطلاق، آية: 4. ومسلم، كتاب الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل.(7/393)
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } . الطلاق، الآية :4. وأنا أعلم علم اليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًّا وابن عباس لأخذا به قطعًا، ولم يذهبا إلى رأيهما.(7/394)
السبب الثاني:
أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أقوى منه، ونحن نضرب مثلا أيضًا، ليس فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم.
« فاطمة بنت قيس ـ رضي الله عنها ـ طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا نفقة لها ولا سكنى » (1) ،
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها.(7/395)
وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملا لقوله تعالى : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } (الطلاق: من الآية 6) عمر رضي الله عنه ـ ناهيك عنه فضلا وعلمًاـ خفيت عليه هذه السنة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، ورد حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟ وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضًا لمن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة، أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل، وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة فيأخذون بها ويراها الآخرون ضعيفة، فلا يأخذون بها نظرًا لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(7/396)
السبب الثالث:
أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه، وجَل مَن لا ينسى، كم من إنسان ينسى حديثًا، بل قد ينسى آية.(7/397)
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات يوم في أصحابه فأسقط آية نسيانًا، وكان معه أبي بن كعب ـ رضي الله عنه فلما انصرف من صلاته قال: « هلا كنت ذكرتنيها » (1) وهو الذي ينزل عليه الوحي، وقد قال له ربه: { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى }{ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } [الأعلى، الآيتان:6، 7] ومن هذا ـ أي مما يكون قد بلغ الإنسان ولكنه نسيه ـ قصة عمر بن الخطاب مع عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- « حينما أرسلهما رسول الله في حاجة، فأجنبا جميعًا عمار وعمر » (2) . أما عمار فاجتهد ورأى أن طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، لأجل أن يشمل بدنه التراب، كما كان يجب أن يشمله الماء وصلى، أما عمر -رضي الله عنه- فلم يصل ... ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرشدهما إلى الصواب، وقال لعمار : « إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ـ وضرب بيديه ووجهه ـ » وكان عمار -رضي الله عنه- يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وفيما قبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات يوم وقال له: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله في حاجة، فأجنبنا فأما أنت فلم تصل،
_________
(1) تقدم تخريجه ص128.
(2) البخاري ، كتاب التيمم ، باب : التيمم ضربة ، ومسلم ، كتاب الحيض ، باب : التيمم .(7/398)
وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا » . ولكن عمر لم يذكر ذلك وقال : اتق الله يا عمار، فقال له عمار : إن شئت بما جعل الله عليَّ من طاعتك أن لا أحدث به فعلت، فقال له عمر : نوليك ما توليت ـ يعني فحدث به الناس ـ فعمر نسي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم في حال الجنابة كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وحصل بينه وبين أبي موسى ـ رضي الله عنهما مناظرة في هذا الأمر فأورد عليه قول عمار لعمر، فقال ابن مسعود : ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار ، فقال أبو موسى : دعنا من قول عمار، ما تقول في هذه الآية يعني آية المائدة، فلم يقل ابن مسعود شيئًا، ولكن لا شك في أن الصواب مع الجماعة الذين يقولون : إن الجنب يتيمم، كما أن المحدث حدثًا أصغر يتيمم، والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي فيقول قولا يكون به معذورًا، لكن من علم الدليل فليس بمعذور، هذان سببان.(7/399)
السبب الرابع:
أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد.
فنضرب لذلك مثالين، الأول من الكتاب، والثاني من السنة:
1ـ من القرآن قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } . النساء، الآية :43.
اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في معنى أو لامستم النساء . ففهم بعض منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون: أن المراد به اللمس المثير للشهوة. وفهم آخرون أن المراد به الجماع وهذا الرأي رأي ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ .(7/400)
وإذا تأملت الآية وجدت أن الصواب مع من يرى أنه الجماع؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ذكر نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر. ففي الأصغر قوله: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } (المائدة: من الآية 6) أما الأكبر فقوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } (المائدة: من الآية 6). . . الآية . وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يذكر أيضًا موجبًا الطهارتين في طهارة التيمم فقوله تعالى: { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر . . . وقوله: { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر . . ولو جعلنا الملامسة هنا بمعنى اللمس، لكان في الآية ذكر موجبين من موجبات طهارة الحدث الأصغر، وليس فيها ذكر لشيء من موجبات طهارة الحدث الأكبر، وهذا خلاف ما تقتضيه بلاغة القرآن، فاللذين فهموا من الآية أن المراد به مطلق اللمس قالوا: إذا مس إنسان ذكر بشرة الأنثى انتقض وضوؤه، أو إذا مسها لشهوة انتقض، ولغير شهوة لا ينتقض، والصواب عدم الانتقاض في الحالين، وقد روي «(7/401)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّل إحدى نسائه، ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ » (1) ، وقد جاء من طرق يقوي بعضها بعضًا.
2ـ من السنة: « لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الأحزاب، ووضع عدة الحرب جاءه جبريل فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج وقال:" لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة » (2)
الحديث ، فقد اختلف الصحابة في فهمه. فمنهم من فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلما حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها. ومنهم من فهم: أن مراد رسول الله أن لا يصلوا إلا إذا وصلوا بني قريظة فأخروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها. ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نص مشتبه. وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم. إذن من أسباب الخلاف أن يفهم من الدليل خلاف مراد الله ورسوله، وذلك هو السبب الرابع.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ6 ص210، وأبو داود، كتاب الطهارة، باب: الوضوء من القُبلة، والترمذي، كتاب الطهارة ، باب: الوضوء من القبلة، وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب: الوضوء من القبلة، والنسائي، كتاب الطهارة، باب: ترك الوضوء من القبلة، والدارقطني جـ1 ص138، والبيهقي جـ1 ص125.
(2) البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب: صلاة الطالب والمطلوب، ومسلم، كتاب الجهاد، باب: المبادرة بالغزو.(7/402)
السبب الخامس:
أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ فيكون الحديث صحيحًا والمراد منه مفهومًا ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه فحينئذ له العذر؛ لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم الناسخ.
ومن هذا رأي ابن مسعود -رضي الله عنه- ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا ركع؟ كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه ويضعهما بين ركبتيه. هذا هو المشروع في أول الإسلام ثم نسخ ذلك وصار المشروع أن يضع يديه على ركبته. وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- لم يعلم(7/403)
بالنسخ، فكان يطبق يديه، فصلى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبهما، ولكنه -رضي الله عنه- نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق . . . لماذا؟ لأنه لم يعلم بالنسخ، والإنسان لا يكلف إلا وسع نفسه، قال تعالى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (البقرة:286)(7/404)
السبب السادس:
أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، بمعنى أنه يصل الدليل إلى المستدل، ولكنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، وهذا كثير في خلاف الأئمة. وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع، ولكنه عند التأمل لا يكون إجماعًا.
ومن أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة العبد. وآخرون قالوا: أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد. هذا من غرائب النقل؛ لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظن أن لا مخالف لهم؛ لاعتقاده أن ذلك مقتضى النصوص، فيجتمع في ذهنه دليلان، النص والإجماع، وربما يراه مقتضى القياس الصحيح، والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده، والأمر قد كان بالعكس.
ويمكن أن نمثل ذلك برأي ابن عباس -رضي الله عنهما- في ربا الفضل.
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنما الربا في النسيئة » (1) .
وثبت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره: « أن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة » (2)
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب: بيع الطعام مثلا بمثل.
(2) مسلم، كتاب المساقاة، باب: صرف وبيع الذهب بالورق نقدًا.(7/405)
وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة. أما ابن عباس فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط. مثاله لو بعت صاعًا من القمح بصاعين يدًا بيد فإنه عند ابن عباس لا بأس به؛ لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط . وإذا بعت مثلا مثقالا من الذهب بمثقالين من الذهب يدًا بيد فعنده أنه ليس ربا. لكن إذا أخرت القبض، فأعطيتني المثقال ولم أعطك البدل إلا بعد التفرق فهو ربا ؛ لأن ابن عباس -رضي الله عنهما- يرى أن هذا الحصر مانع من وقوع الربا في غيره، ومعلوم أن : (إنما) تفيد الحصر فيدل على أن ما سواه ليس بربا، لكن الحقيقة أن ما دل عليه حديث عبادة يدل على أن الفضل من الربا ؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « من زاد أو استزاد فقد أربى » (1)
_________
(1) جزء من الحديث السابق.(7/406)
إذن ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدل به ابن عباس ؟ موقفنا أن نحمله على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضًا في الفضل، بأن نقول: إنما الربا الشديد الذي يعمد إليه أهل الجاهلية والذي ورد فيه قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (آل عمران:130) إنما هو ربا النسيئة، أما ربا الفضل فإنه ليس الربا الشديد العظيم، ولهذا ذهب ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين": إلى تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل، وليس من باب تحريم المقاصد.(7/407)
السبب السابع:
أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالا ضعيفًا. وهذا كثير جدًّا، فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف: ما ذهب إليه بعض العلماء من استحباب صلاة التسبيح (1) وهو أن يصلي الإنسان، يقرأ فيهما بالفاتحة، ويسبح خمس عشر تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم أضبطها؛ لأنني لا أعتقد من حيث الشرع، ويرى آخرون: أن صلاة التسبيح بدعة مكروهة، وأن حديثها لم يصح، وممن يرى ذلك الإمام أحمد -رحمه الله- وقال: إنها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وإن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة من تأملها وجد أن فيها شذوذًا حتى بالنسبة للشرع ؛ إذ إن العبادة، إما أن تكون نافعة للقلب، ولا بد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما أن لا تكون نافعة فلا تكون مشروعة وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان كل يوم أو كل أسبوع أو كل أسبوع أو كل شهر أو في العمر مرة، وهذا لا نظير له في الشرع، فدل على شذوذها سندًا ومتنًا، وأن من قال: إنها كذب، كشيخ الإسلام فإنه مصيب، ولذا قال شيخ الإسلام : أنه لم يستحبها أحد من الأئمة .
_________
(1) حديث صلاة التسبيح تقدم تخريجه ص138.(7/408)
وإنما مثلت بها ؛ لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون هذه البدعة أمرًا مشروعًا، وإنما أقول بدعة، أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس؛ لأننا نعتقد أن كل من دان لله ـ سبحانه ـ مما ليس في كتاب الله أو سنة رسوله فإنه بدعة.
كذلك أيضًا من يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال. الدليل قوي لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء من حديث أحمد « ذكاة الجنين ذكاة أمه » (1)
فالمعروف عند أهل العلم من معنى الحديث أن أم الجنين إذا ذكيت فإن ذكاتها ذكاة له ـ أي لا يحتاج إلى ذكاة إذا أخرج منها بعد الذبح؛ لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته.
ومن العلماء من فهم أن المراد به أي بالحديث . . . إن ذكاة الجنين
الجنين كذكاة أمه، تكون بقطع الودجين وإنهار الدم ـ ولكن هذا بعيد والذي يبعده أنه لا يحصل إنهار الدم بعد الموت.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل » (2) . ومن المعلوم أنه لا يمكن إنهار الدم بعد الموت، هذه الأسباب التي أحببت أن أنبه عليها مع أنها كثير، وبحر لا ساحل له . . ولكن بعد هذا كله ما موقفنا؟
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 3 ص39، والترمذي، كتاب الأطعمة، باب: ذكاة الجنين، وابن ماجه، كتاب الذبائح، باب: ذكاة الجنين ذكاة أمه. والدرامي، كتاب الأضاحي، باب: ذكاة الجنين ذكاة أمه. والبيهقي، جـ 9 ص335، والحاكم في «المستدرك» جـ4 ص127، والطبراني في الكبير، جـ 4 ص192، وابن أبي شيبة في المصنف جـ14 ص179، والهيثمي في «المجمع» جـ4 ص35، وأبو نعيم في «الحلية» جـ7 ص92، وابن حبان (1077). قال الحاكم : «صحيح على شرط مسلم»، ووافقه الذهبي. وقال الزيلعي في «نصب الراية» جـ4 ص190 :«ورجاله رجال الصحيح، وليس فيه غير ابن إسحاق وهو مدلس ولم يصرح بالسماع، فلا يحتج به، ومحمد بن الحسن الواسطي ذكره ابن حبان في »الضعفاء« وروى له هذا الحديث، وصححه الألباني في »الإرواء« جـ8 ص142.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الذبائح، باب: التسمية على الذبيحة، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر.(7/409)
وما قلته في أول الموضوع أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء أو اختلاف المتكلمين في هذه الوسائل صاروا يتشككون ويقولون من نتبع؟
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد
وحينئذ نقول: موقفنا من هذا الخلاف وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم أنهم موثوقون علمًا وديانة، لا من هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله؛ لأننا لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهل العلم.
ولكننا نعني به العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم، موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين:
1ـ كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله؟ وهذا يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره، وهو كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحرًا في العلم.(7/410)
2ـ ما موقفنا من اتباعهم؟ ومن نتبع من هؤلاء العلماء؟ أيتبع الإنسان إمامًا لا يخرج عن قوله، ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب. أم يتبع ما ترجح عنده من دليل ولو كان مخالفًا لما ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟ الجواب هو الثاني، فالواجب على من علم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف من خالف من الأئمة. إذا لم يخالف إجماع الأمة، ومن اعتقد أن أحدًا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يؤخذ بقوله فعلا وتركًا بكل حال وزمان، فقد شهد لغير الرسول بخصائص الرسالة؛ لأنه لا يمكن أحد أن يكون هذا حكم قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(7/411)
ولكن يبقى الأمر فيه نظر؛ لأننا لا نزال في دوامة من الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من الأدلة؟ هذه مشكلة؛ لأن كل واحد صار يقول: أنا صحابها، وهذا في الحقيقة ليس بجيد، نعم من حيث الهدف والأصل، هو جيد أن يكون رائد الإنسان كتاب الله وسنة رسوله، لكن كوننا نفتح الباب لكل من عرف أن ينطق بالدليل، وإن لم يعرف معناه وفحواه، فنقول: أنت مجتهد تقول ما شيء، هذا يحصل فيه فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع، والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:
1ـ عالم رزقه الله علمًا وفهمًا.
2ـ طالب علم عنده من العلم، لكن لم يبلغ درجة ذلك المتبحر.
3ـ عاميّ لا يدري شيئًا.
أما الأول:
فإنه له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان مقتضى الدليل عنده مهما خالفه من خالفه من الناس ؛ لأنه مأمور بذلك، قال تعالى: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء، الآية :83] وهذا من أهل الاستنباط الذين يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله.
أما الثاني:(7/412)
الذي رزقه الله علمًا ولكنه لم يبلغ درجة الأول فلا حرج عليه إذا أخذ بالعموميات والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزًا في ذلك وألا يقصر عن سؤال من هو أعلى منه من أهل العلم ؛ لأنه قد يخطئ وقد لا يصل علمه إلى شيء خصص ما كان عامًّا، أو قيَّد ما كان مطلقًا، أو نسخ ما يراه محكمًا. وهو لا يدري بذلك.
أما الثالث:
وهو من ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم لقوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (الأنبياء: من الآية 7) وفي آية أخرى: { إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }{ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } [النحل، الآيتان:43، 44] فوظيفة هذا أن يسأل، ولكن من يسأل؟ في البلد علماء كثيرون، وكل يقول: إنه عالم، أو كل يقال عنه: إنه عالم فمن الذي يسأل؟ هل نقول: يجب عليك أن تتحرى من هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل من شئت ممن تراه من أهل العلم.
والمفضول قد يوفق للعمل في مسألة معينة، ولا يوفق من هل أفضل منه وأعلم ـ اختلف في هذا أهل العلم؟(7/413)
فمنهم من يرى: أنه يجب على العاميّ أن يسأل من يراه أوثق في علمه من علماء بلده؛ لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه من يراه أقوى في أمور الطب فكذلك هنا؛ لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك من تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار من تراه أقوى علمًا إذًا لا فرق.
ومنهم من يرى: أن في ذلك ليس بواجب؛ لأن من هو أقوى علمًا قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها ويرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل.
والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل من يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب؛ لأن من هو أفضل قد يخطئ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية، والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه.
وأخيرًا أنصح نفسي أولا وإخواني المسلمين، ولا سيما طلبة العلم إذا نزلت بإنسان نازلة من مسائل العلم ألا يتعجل ويتسرع حتى يتثبت ويعلم فيقول؛ لئلا يقول على الله بلا علم.(7/414)
فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلغ شريعة الله كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « العلماء ورثة الأنبياء » (1) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : « أن القضاة ثلاثة: قاضٍ واحد في الجنة وهو من علم الحق فحكم به » (2) كذلك أيضًا من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلمك لا سيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس.
وقد ذكر لي بعض مشائخنا أنه ينبغي لمن سئل عن مسألة أن يكثر من الاستغفار، مستنبطًا من قوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } (النساء:105) { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء، 106] لأن الإكثار من الاستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في نسيان العلم والجهل كما قال تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } . المائدة، الآية :13.
_________
(1) تقدم تخرجه ص13.
(2) أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب: في القاضي يخطئ بلفظ :«القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» قال أبو داود:« وهذا أصح شيء فيه، يعني حديث ابن بريدة». وأخرجه الترمذي، كتاب الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، بلفظ :« القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة ، رجل قضى بغير حق فعلم ذاك فذاك في النار. وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة». وأخرجه ابن ماجه، كتاب الأحكام، باب: الحاكم يجتهد فيصيب الحق، والبغوي في «شرح السنة» جـ10 ص94، والبيهقي جـ10 ص116 ، ص117، والطبراني في «المعجم الكبير» جـ2 ص5، والحاكم في «المستدرك» جـ4 ص91، وقال:«حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم» ووافقه الذهبي. قال الهيثمي:«رجاله ثقات» .(7/415)
وقد ذكر الشافعي أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
فلا جرم حينئذ أن يكون الاستغفار سببًا لفتح الله على المرء.
وأسأل الله التوفيق والسداد وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
والحمد لله رب العالمين أولا وأخيرًا.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
* * *(7/416)
الرسالة الثالثة
حث طلبة العلم على الالتحاق بجماعات تحفيظ القرآن الكريم
الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
نعم إن خير الحديث كتاب الله تعالى؛ لأنه كلام الله -عز وجل- تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين ( جبريل ) على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.(7/417)
وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة في فضل تلاوة القرآن والعمل به، فقال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } (فاطر:29) { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } (فاطر:30) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » (1) متفق عليه ، وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران » (2) متفق عليه، وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : « مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب، وريحها طيب، ومثل الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، ولا طعم لها، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها » . . ." (3) .
_________
(1) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن.
(2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه.
(3) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: فضل القرآن على سائر الكلام، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: فضيلة حافظ القرآن.(7/418)
وعن أبي أمامة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « اقرءوا القرآن، فإنه يأتي شافعًا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما » (1) .
ولما كانت تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه بهذه المثابة هبَّ كثير من الشباب في بلادنا وغيرها إلى تلاوة الكتاب العزيز تعليمًا فأنشئت في بلادنا جماعات تحفيظ القرآن الكريم في مدن وقرى كثيرة تحت إشراف ورعاية وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد والتحق بها -ولله الحمد- جمّ غفير من الشباب ولم يقتصر نشاطها على الذكور، بل شمل النساء أيضًا وحصل بذلك خير كثير، حتى حفظ القرآن عن ظهر قلب كثير من هؤلاء الشباب، فالحمد لله رب العالمين.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: قراءة القرآن وسورة البقرة.(7/419)
وإنني لأحث إخواني الذين منَّ الله تعالى عليهم بالأولاد، أن يشجعوا أولادهم على الالتحاق بهذه الجماعات، وأن يتعاهدوهم حال التحاقهم، ويستعينوا على ذلك بالاتصال بالمسؤولين في هذه الجماعات للمتابعة. فإن تلاوة كتاب الله من أسباب الصلاح ، وصلاح الولد خير للوالد في دنياه وبعد مماته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له » (1) " .
ولا شك أن الالتحاق بهذه الجماعات -أعني جماعات تحفيظ القرآن- يحصل به مصالح وتندرئ به مفاسد.
يحصل به حفظ القرآن الكريم ومحبته والميل إليه.
ويحصل به ربط الدارس ببيوت الله -عز وجل- (المساجد) .
ويحصل به استغلال الوقت بهذا الهدف النبيل.
ويحصل به من حسن رعاية الطالب ما يثاب عليه أبوه أو غيره من ولاة أمره.
ويحصل به ثواب المجتمعين على تلاوة كتاب الله تعالى في بيت من بيوته « فما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، » وكما تحصل به هذه المصالح فإنه تندرئ به مفاسد .
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية ، باب : ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.(7/420)
يندرئ به ضياع الوقت الذي هو أشد ضررًا من ضياع المال، فإن المال له ما يخلفه والوقت لا يخلفه شيء فإن كل وقت مضى لا يرجع كما قيل: أمس الدابر لا يعود.
تندرس به مفسدة الفراغ مفسدة بل مفاسد كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسده
فمن مفاسد الفراغ أن الشباب ينشأ على حياة ضياع لا جدية فيها.
ومن مفاسد الفراغ أنه قد يكون سببًا للتخريب.
ومن مفاسد الفراغ أنه يفضي إلى التسكع في الأسواق والتجول، الذي ربما يفضي إلى فاسد الأخلاق.
ومن مفاسد الفراغ البدني أنه يفضي إلى الفراغ الذهني فيتبلد الذهن ويكون الشاب سطحيًّا ليس عنده تفكير عميق ولا ذهن حاد.
وإني لأحث إخواني الذين منَّ الله عليهم بالمال أن يجودوا بشيء مما منَّ الله به عليهم، فإن بذل المال في هذه الجماعات من أفضل الأعمال لمشاركة الباذل العامل فيها في الأجر كما جاء نحو ذلك فيمن جهَّز غازيًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب: فضل من جهَّز غازيًا أو خلفه بخير. ومسلم ، كتاب الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي.(7/421)
كما أحث سائر إخواني المسلمين على تشجيع هذه الجماعات بكافة أنواع التشجيع المعنوي والمادي، عملا بقول الله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } [المائدة، الآية :2]
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعًا ممن حقق ذلك بمقاله وفعاله، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والذين اتبعوهم بإحسان مدى الأوقات.(7/422)
رسالة: في التحذير من الحسد وبيان خطره
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خاتم النبيين، وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الحسد خُلق ذميم وهو: تمني زوال نعمة الله على الغير.
وقيل: الحسد كراهة ما أنعم الله به على غيره.
فالأول هو المشهور عند أهل العلم، والثاني هو الذي قرّره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فمجرد كراهة ما أنعم الله به على الناس يعتبر حسدًا، والحسد محرم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وحذر منه، وهو من خصال اليهود الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
والحسد مضارّهُ كثيرة: منها أنه اعتراض على قضاء الله وقدره وعدم رضا بما قدّره الله عز وجل؛ لأن الحسد يكره هذه النعمة التي أنعم الله بها على المحسود.(7/423)
ومنها : أن الحاسد يبقى دائمًا في قلق وحرقة ونكد؛ لأن نعم الله على العباد لا تحصى، فإذا كان كلما رأى نعمة على غيره حسده وكره أن تكون هذه النعمة حالّة عليه، فلا بد أن يكون في قلق دائم وهذا هو شأن الحاسد والعياذ بالله.
ومنها: أن الغالب أن الحاسد يبغي على المحسود فيحاول أن يكتم نعمة الله على المحسود أو يزيل نعمة الله على هذا المحسود فيجمع بين الحسد وبين العدوان.
ومنها: أن الحاسد فيه شبه من اليهود الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
ومنها: أن الحاسد يحتقر نعمة الله عليه؛ لأنه يرى أن المحسود أكمل منه وأفضل فيزدري نعمة الله عليه، ولا يشكره سبحانه تعالى عليها.
ومنها: أن الحسد يدل على دناءة الحاسد، وأنه شخص لا يحب الخير للغير؛ بل هو سافل ينظر إلى الدنيا، ولو نظر إلى الآخرة لأعرض عن هذا.
ولكن إذا قال قائل: إذا وقع الحسد في قلبي بغير اختياري فما هو الدواء؟
فالجواب: أن الدواء يكون بأمرين:
الأول: الإعراض عن هذا بالكلية، وأن يتناسى هذا الشيء، وأن يشتغل بما يهمه في نفسه.(7/424)
الثاني: أن يتأمل ويتفكر في مضارّ الحسد، فإن التفكر في مضارّ العمل يوجب النفور منه، ثم يجرب إذا أحب الخير لغيره واطمأن بما أعطاه الله، هل يكون هذا خيرًا، أم الخير أن يتتبع نعمة الله على الغير ثم تبقى حرقة في نفسه وتسخطًا لقضاء الله وقدره، وليختر أي الطريقين شاء، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين.(7/425)
رسالة في بيان خطر التقول على العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
ليس بغريب أن ينسب إلى أحد العلماء المعتبرين ما لم يقله بل ما يصرح بخلافه، وهذا معلوم من عهد السلف الصالح، ففي صحيح مسلم -في كتاب اللباس في باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة 3 / 1641- أن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- أرسلت مولاها إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقالت:" بلغني عنك أنك تُحرم أشياء ثلاث: العلم في الثّوب، ومَيثرةَ الأُرجُوانِ وصوْمَ رجَبٍ كُلّه" . فقال عبد الله : أمّا ما ذَكرت من رجبٍ، فكيف بمن يصومُ الأبد.
وأما ما ذكرتَ من العَلمِ في الثّوبِ فإني سمعتُ عمر بن الخطّاب يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنما يلبسُ الحرير من لا خَلاقَ له"، فخفتُ أن يكون العَلمُ منه.
وأما ميثرةُ الأرجُوان، فهذه ميثرةُ عبد الله ، فإذا هي أُرجُوانُ.(7/426)
فرجع مولى أسماء إليها فأخبرها بما قال عبد الله فقالت: هذه جُبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجتْ جُبَّةً طَيَالِسَةً كَسْرَِوَانِيَّةً لها لِبنةُ ديباجٍ وفرجيها مكفُوفين بالدّيباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتّى قُبضتْ. فلمّا قُبضت قبضتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَلبُسها فنحنُ نغسلُها للمرضى ليُستشفى بها.
الميثرةُ: وطاء يجعل على الرحل ليلين للراكب من الوثارة.
والأُرجُوان: بضم الهمزة والجيم هو الأحمر الشديد الحمرة.
ومعنى قول ابن عمر :" فكيف بمن يصوم الأبد" لإنكاره على من نسب إليه تحريم صوم رجب كله؛ لأنه -رضي الله عنه- كان يصوم الأبد.
وقد أنكر -رضي الله عنه- كل ما نسب إليه من تحريم الثلاثة، فأنكر صوم رجب بأنه كان يصوم الأبد، وتحريم علم الثوب بأنه كان تركه خوفًا من أن يكون من لبس الحرير فهو حكم احتياطي، وأنكر تحريم ميثرة الأرجوان بأنه كان له ميثرة أرجوان.
والمهم أن التقول على العلماء كان من قديم الزمان وله أسباب:
1ـ منها أن يسأل الشخص عالمًا سؤالا يقصد به معنى، فيفهمُ العالمُ المجيبُ خلاف ما قصد السائل، فيجيبُ بحسب ما فهم من السؤال ويفهم السائل الجواب على ما قصد من السؤال.(7/427)
2ـ ومنها أن يفهم العالم السؤال على ما قصده به السائل فيجيبه بحسبه لكن يفهم السائل منه خلاف ما قصده المجيب.
3ـ ومنها أن يكون له هوى في حكم مسألة ما، فيُشيع نسبته إلى عالمٍ معروفٍ ليكون أدعى لقبوله.
4ـ ومنها أن يكون الحكم غريبًا منكرًا، فينسبه إلى عالم ليشوه به سُمعته ويتخذ من ذلك وسيلةً إلى غيبته، والإيقاع به، مع أن العالم لم يكن منه فتوى في ذلك.
إلى غير ذلك من الأسباب وشر الأسباب التي ذكرناها هذا الأخير والذي قبله.
ولكن الواجب على من سمع من ذلك أن يتثبت أولا من صحة نسبة القول إلى العالم، ثم يتأمل في القول المنقول هل له حظ من النظر، فإن كان له حظ من النظر قبله ودافع عنه؛ لأنه حقٌّ والحقُّ يجبُ قبوله والدفاع عن القائل به.
وإن لم يكن حظٌّ من النظر، اتصل بقائله وناقشه بأدبٍ فيقول: بلغني كذا وكذا فما وجه ذلك في شريف علمكم، أو نحو هذه العبارة.(7/428)
ثم يأخذ في النقاش معه بأدب واحترام لقوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل: من الآية 125) إلا أن يكون معاندًا ظالمًا فيجادل بما يستحق، كما قال تعالى في مجادلة أهل الكتاب : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (العنكبوت: من الآية 46) وإذا تبين الحق بعد النقاش وجب على من تبين له اتباعه والدفاع عمن قال به, فإن لم يتبين لكل واحد أن الحق مع صاحبه، فالله تعالى حسيب الجميع وهو تعالى عند قلب كل قائل وقوله، وليس قول كل واحد حجة على الآخر، فليذهب كل واحد إلى ما تبين له أنه الحق ولا يُشّنعُ على صاحبه أو يُبدّعهُ أو يُفسّقُه ما دامت المسألة تحت مجهر الاجتهاد.
نسأل الله التوفيق للصواب والعمل بما يرضيه، وأن يهب لنا من لدنه رحمة وحكمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
كتبه محمد الصالح العثيمين في 22 / 6 / 1417هـ.
* * *(7/429)
رسالة
في بيان الموقف الصحيح نحو العلماء
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
نسأل الله لكم التوفيق والسداد والعناية وأن يجزيكم على ما قدمتموه لهذا الدين خير الجزاء.(7/430)
سماحة الشيخ، نحن إخوانكم في إندونيسيا نحبكم في الله ونتابع أخباركم وفتاواكم ونستفيد كثيرًا من علومكم عن طريق كتبكم وأشرطتكم، وفي هذه المناسبة نستفتيكم فيما كتبه أحد الدعاة في إحدى مجلات إندونيسيا المسماة بـ"سلفي" قال:" أهل الرأي هم أهل الفكر الذي يستدلون بالقياس أكثر من استدلالهم بالقرآن والحديث وإمامهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت ". وقال:" وأهم شيء في هذا المبحث هو في أي مسألة نهينا أخذ مفاهيم دينية منه ( أبو حنيفة )، حتى لا نغتر بعده. روايات منقولة عنه ضل فيها هو" وقال:" بل أهل السنة يحترمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل احترام لكن لا يمنعهم ذلك من انتقادهم بأسلوب علمي مؤدب فيما أخطأوا فيه من أجل أن لا يتبعوا ما أخطأوا" ثم قال:" في المسائل العقدية والفقهية كثيرًا ما اعتمد أبو حنيفة على قياس وينقصه الاهتمام بالأدلة من السنة النبوية" ثم قال: "هناك روايات تؤكد على أن أبا حنيفة مرجئ والإرجاء مذهب بدعي مبني على أن الإيمان قول واعتقاد في القلب دون جعل العمل من ضمنه" ثم نقل أقوال العلماء الذين تكلموا على أبي حنيفة بكلام شديد التي رواها الإمام اللالكائي مثل قول الثوري وابن أبي ليلى(7/431)
والحسن بن صالح وشريك بن عبد الله وأقوال الأئمة الأخرى مثل ابن قتيبة وابن أبي شيبة ثم قال :"لكن موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من مخالفة أبي حنيفة لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يختلف عن موقف الأوزاعي منها، حيث قال: ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يعتمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى .(مجموع الفتاوى 20 / 304) ثم علق عليه وقال :"موقف شيخ الإسلام المذكور أعلاه لولا أنه خالف آراء الأئمة السابقين مثل الأوزاعي وابن قتيبة وابن أبي شيبة وغيرهم لقبلناه واعتمدنا عليه في موقفنا نحو أخطاء أبي حنيفة في المسائل الفقهية، لكن عصر شيخ الإسلام بعيد عن أبي حنيفة، والأئمة الذين خالفهم أبو حنيفة عاصروه أو جاءوا بعده بفترة قصيرة فيكون موقفهم نحو أبي حنيفة أرجح من موقف ابن تيمية نحوه.
السؤال: ما الموقف الصحيح نحو الإمام أبي حنيفة ؟ نرجو توجيهاتكم.
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.(7/432)
الموقف الصحيح نحو الأئمة الذين لهم أتباع، يشهدون بعدالتهم، واستقامتهم، أن لا نتهجم عليهم، وأن نعتقد أن ما خالفوا فيه الصواب، صادر عن اجتهاد، والمجتهد من هذه الأمة لا يخلو من أجر، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور.
وأبو حنيفة -رحمه الله- كغيره من الأئمة له أخطاء وله إصابات، ولا أحد معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال الإمام مالك : كان يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
والواجب الكف عن أئمة المسلمين، لكن القول إذا كان خطأ، فيذكر القول دون أن يتعرض أحد لقائله بسبب، يذكر القول إذا كان خطأ ويرد عليه، هذا هو الطريق السليم . حرر في 12 / 2 / 1420هـ.(7/433)
رسالة
في التحزّب خطره وضرره
سماحة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
لا يخفى على فضيلتكم كثرة الأحزاب في الساحة، فما توجيهكم حفظكم الله تعالى؟
فأجاب بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا شك أن تحزب المسلمين إلى أحزاب متفرقة متناحرة، مخالف لما تقتضيه الشريعة الإسلامية من الائتلاف والاتفاق، موافق لما يريده الشيطان من التحريش بين المسلمين، وإيقاع العداوة والبغضاء، وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، قال الله تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } . الأنبياء، الآية :92.
وفي الآية الأخرى : { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } . المؤمنون، الآية :52. وقال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } . آل عمران، الآية :103. وقال تعالى: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (آل عمران:105).(7/434)
فاجتهدوا في جمع الكلمة، وترك التنابذ، والتفرق فإن التنازع والتفرق، سبب للخذلان والفشل.
أسأل الله تعالى أن يصلح أمور المسلمين ويجمع كلمتهم على الحق إنه على كل شيء قدير. كتبه محمد الصالح العثيمين في 13 صفر سنة 1419هـ .(7/435)
رسالة
فضل تلاوة كتاب الله والحث على تعليمه
قال فضيلة الشيخ -أعلى الله درجته في المهديين-:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(7/436)
وبعد: فإن من المعلوم ما في فضل تلاوة كتاب الله العزيز، من الأجر العظيم، وحفظ شريعة الله -عز وجل- وصلة العبد بربه، حيث يتلو كتابه الذي هو كلامه، الموصوف بصفات العظمة، والمجد، والكرم، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } (الحجر:87), وقال تعالى: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ }{ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } , وقال تعالى: { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ }{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ }{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ }{ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ }{ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ }{ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . (الواقعة، الآيات:75ـ80). ولهذا أقسم الله به كما في قوله تعالى: { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } . (ق، الآية :1). وأثنى على من يقوم بتلاوته، وبيَّن ما لهم من الثواب في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ }{ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(7/437)
} (فاطر، الآيتان:29، 30). وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } . البقرة، الآية :121.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » (1) . وأنه قال: « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده » (2) .
ولقد ظهر في زماننا هذا جماعات كُثُر لتحفيظ القرآن في جميع أنحاء البلاد، ومقر هذه الجماعات بيوت الله عز وجل، وهي المساجد، والتحق بها ولله الحمد شباب كثير من ذكور وإناث.
وإني أدعو إخواني المسلمين أن يحرصوا على مساعدة هذه الجماعات، لينالوا مثل أجر التالين لكتاب الله عز وجل ، فإن من أعان على خير أصابه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا » (3) . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا » (4) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص294.
(2) رواه مسلم ( 2700 ) في الذكر والدعاء .
(3) رواه مسلم (2674) .
(4) تقدم تخريجه ص296.(7/438)
وفق الله الجميع لما فيه الخير والهدى والصلاح والإصلاح إنه جواد كريم. كتبه محمد الصالح العثيمين في 7 / 8 / 1408هـ.
تم
بحمد الله تعالى
كتاب العلم(7/439)
الأسرة والمجتمع(7/440)
مجموعة أسئلة تهم الأسرة المسلمة
المقدمة
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ، ونشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين.
أما بعد :
فأنه يسر مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية أن تقدم الفتاوى القيمة لفضيلة العلامة الوالد محمد بن صالح العثيمين رحمة الله تعالى .
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم ، موافقا لمرضاته ، نافعا لعباده ، وأن يكتب لفضيلة شيخنا المؤلف المثوبة والأجر بمنه وكرمه ويعلي درجته في المهديين ، ويسكنه فسيح جناته ، إنه سميع مجيب .
وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان .
اللجنة العلمية
في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
مجموعة أسئلة تهم الأسرة المسلمة
أسئلة الأسرة المسلمة
محمد بن صالح العثيمين
استخدام الباروكة
من بين الأدوات التي تستخدمها المرأة لغرض التجميل ما يسمي ( بالباروكة ) وهى الشعر المستعار الذي يوضع علي الرأس ، فهل يجوز للمرأة أن تستخدمها ؟
الباروكة محرمة وهي داخلة في الوصل وإن لم يكن وصلا ، فهي تظهر رأس المرأة علي وجه أطول من حقيقته فتشبه الوصل ، فلقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة (1). لكن إن لم يكن علي راس المرأة شعر أصلا كأن تكون قرعاء فلا حرج من استعمال الباروكة ليست العيب ، لأن إزالة العيوب جائزة، ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن قطعت أنفه في إحدى الغزوات أن يتخذ أنفا من ذهب ، ومثل أن يكون في أنفه اعوجاج فيعدله ، أو إزالة بقعة سوداء مثلا ، فهذا لا بأس به .(7/441)
أما إن كان لغير إزالة عيب كالوشم والنمص مثلا فهذا هو الممنوع ، واستعمال الباروكة حتى لو كان بإذن الزوج ورضاه حرام ، لأنه إذن ولا رضا فيما حرمه الله .
نتف الشعر
* يلاحظ على بعض النساء أنهن يعمدن إلي إزالة أو ترقيق شعر الحاجبين وذلك لغرض الجمال والزينة فما حكم ذلك ؟
هذه المسألة تقع على وجهين :
الوجه الأول : أن يكون ذلك بالنتف فهذا محرم وهو من الكبائر ، لأنه من النمص الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعله .
الثاني : أن يكون على سبيل القصّ والحفّ ، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم هل يكون من النمص أم لا ؟ والأولي تجنب ذلك .
أما ما كان من الشعر غير المعتاد بحيث ينبت في أماكن لم تجر العادة بها ، كأن يكون للمرأة شارب ، أو ينبت على حدها شعر ، فهذا لا بأس بإزالته ، لأنه خلاف المعتاد وهو مشوّه للمرأة .
أما الحاجب فإن من المعتاد أن تكون رقيقة دقيقة ، وأن تكون كثيفة واسعة ، وما كان معتادا فلا يتعرض له ، لأن الناس لا يعدونه عيبا بل يعدون فواته جمالا أو وجوده جمالا ، وليس من الأمور آلتي تكون عيبا حتى يحتاج الإنسان إلي إزالته .
بروز شعر الرأس
أيضا من الطرق التي تعملها المرأة للجمال والزينة قيامها بوضع الحشوى داخل الرأس بحيث يكون الشعر متجمعا فوق الرأس ـ فما حكم هذا العمل ؟
الشعر إذا كان على الرأس على فوق فإن هذا داخل في التحذير الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد )) وذكر الحديث : وفيه (( نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة) (2) فإذا كان الشعر فوق الرأس ففيه نهى ، أما إذا كان علي الرقبة مثلا فإن هذا لا بأس به إلا إذا كانت المرأة ستخرج إلي السوق ، فإن في هذه الحال يكون من التبرج ، لأنه سيكون له علامة من وراء العباءة تظهر ، ويكون هذا من باب التبرج ومن أسباب الفتنة فلا يجوز .(7/442)
لقد انتشرت ظاهرة قص شعر الفتاة إلي كتفيها للتجميل ، ولبس النعال المرتفعة كثيرا ، واستعمال أدوات التجميل المعروفة . فما حكم هذه الأعمال ؟
قصّ المرأة لشعرها إما أن يكون على وجه يشبه شعر الرجال فهذا محرم ومن كبائر الذنوب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات بالرجال (1)، وإما أن يكون على وجه لا يصل به إلي التشبه بالرجال ، فقد اختلف أهل العلم في ذلك إلي ثلاثة أقوال منهم من قال إنه جائز لا بأس به ، ومنهم من قال إنه محرم ، ومنهم من قال إنه مكروه ، والمشهور من مذهب الإمام أحمد أنه مكروه .
وفى الحقيقة أنه لا ينبغي لنا أن نتلقى كل ما ورد علينا من عادات غيرنا ، فنحن قبل زمن غير بعيد نرى النساء يتباهين بكثرة شعور رؤوسهن وطول شعورهن ، فما بالهن اليوم يرغبن تقصير شعر رؤوسهن يذهبن إلي الذي أتانا من غير بلادنا ، وأنا لست أنكر كل شي جديد ولكن أنكر كل شي يؤدى إلي أن ينتقل المجتمع إلي عادات متلقاة من غير المسلمين .
وأما النعال المرتفعة فلا تجوز إذا خرجت عن العادة وأدت إلي التبرج وظهور المرأة ولفت النظر إليها ، لأن الله تعالى يقول ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي) ( الأحزاب: 33) . فكل شي يكون به تبرج المرأة وظهورها وتميزها من بين النساء على وجه فيه التجميل فإنه محرم ولا يجوز لها .
وأما استعمال أدوات التجميل فلا بأس به إذا لم يكن فيه ضرر أو فتنه .
ما حكم استعمال الكحل للمرأة ؟
الاكتحال نوعان :
أحدهما : اكتحال لتقوية البصر وجلاء الغشاوة من العين وتنظيفها وتطهيرها بدون أن يكون له جمال ، فهذا لا بأس به ، بل إنه مما ينبغي فعله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل في عينيه ، ولاسيما إذا كان بالإثمد .
النوع الثاني : ما يقصد به الجمال والزينة ، فهذا للنساء مطلوب ، لأن المرأة مطلوب منها أن تتجمل لزوجها .(7/443)
وأما الرجال فمحل نظر ، وأنا أتوقف فيه ، وقد يفرق فيه بين الشاب الذي يخشى من اكتحاله فتنه فيمنع ، وبين الكبير الذي لا يخشى ذلك من اكتحال فلا يمنع .
تتجمل المرأة بحدود
هل يجوز للمرأة استعمال المكياج الصناعي لزوجها ؟ وهل تجوز أن تظهر به أمام أهلها وأمام نساء مسلمات ؟
* تتجمل المرأة لزوجها في الحدود المشروعة من الأمور التي ينبغي لها أن تقوم بها ، فلأن المرأة كلما تجملت لزوجها كان ذلك أدعي إلي محبته لها وإلي الائتلاف بينهما ، وهذا من مقاصد الشريعة ، فالمكياج إذا كان يجملها ولا يضرها فإنه لا بأس به ولا حرج .
ولكني سمعت أن المكياج يضر بشرة الوجه وأنه والبتالى تتغير به بشرة الوجه تغيرا قبيحا قبل زمن تغيرها في الكبر ، وأرجو من النساء أن يسألن الأطباء عن ذلك . فإذا ثبت ذلك كان استعمال المكياج إما محرما أو مكروها علي الأقل ، لأن كل شي يؤدى بالإنسان إلي التشويه والتقبيح فإنه إما محرم وإما مكروه .
وبهذه المناسبة أود أن أذكر ما يسمي ب ( المناكير ) وهو شي يوضع علي الأظافر تستعمله المرأة وله قشرة ، وهذا لا يجوز استعماله للمرأة إذا كانت تصلي ، لأنه يمنع وصول الماء في الطهارة ، وكل شي يمنع وصول الماء فإنه لا يجوز استعماله للمتوضي أو المغتسل ، لأن الله يقول : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)(المائدة: من الآية6) ومن كان على أظفارها مناكير فإنها تمنع وصول الماء ، فلا يصدق عليها أنها غسلت يدها فتكون قد تركت فريضة من فرائض الوضوء أو الغسل ، وأما من كانت لا تصلى فلا حرج عليها إذا استعملته إلا أن يكون هذا الفعل من خصائص نساء الكفار ، فإنه لا يجوز لما فيه التشبه بهم .(7/444)
ولقد سمعت أن بعض الناس أفتى بأن هذا من جنس لبس الخفين ، وأنه يجوز أن تستعمله المرأة لمدة يوم وليلة إن كانت مقيمة ، ومدة ثلاثة أيام إن كانت مسافرة ، ولكن هذه فتوى غلط وليس كل ما ستر الناس به أبدانهم يلحق بالخفين ، فإن جاءت الشريعة بالمسح عليهما للحاجة إلي ذلك غالبا فإن القدم محتاجة للستر ، لأنها تباشر الأرض والحصى والبرودة وغير ذلك ، فخصص الشارع المسح بهما . وقد يدعى قياسها على العمامة وليس بصحيح ، لأن العمامة محلها الرأس ، والرأس فرضه مخفف من أصله ، فإن فريضة الرأس هي المسح بخلاف الوجه فإن فريضته الغسل ، ولهذا لم يبح النبي صلى الله عليه وسلم أن تمسح القفازين مع أنهما يستران اليد .
وفي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وعليه جبة ضيقة الكمين فلم يستطع إخراج يديه ، فأخرج يديه من تحتها فغسلها)(1) فدلّ هذا على أنه لا يجوز للإنسان أن يقيس أي حائل يمنع وصول الماء علي العمامة وعلى الخفين ، والواجب على المسلم أن يبذل غاية جهده في معرفة الحق ، وأن لا يقدم على فتوى إلا وهو يشعر أن الله تعالى سائله عنها ، لأنه يعبر عن شريعة الله عز وجل .
ما حكم لبس الملابس الضيقة والبنطلون للمرأة ؟
* الملابس الضيقة للمرأة ولبس البنطلون غير لائق فإن كان يراها غير محارمها فلا شك في تحريمه،لأن في ذلك فتنه عظيمة . وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (صنفان من أهل النار لم أرهما بعد ، نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات ) إلي آخر الحديث (2) ، وقد فسر بعض أهل العلم معني الكاسيات العاريات بأنها المرأة تلبس ثيابا لكنها لا تسترها سترا كاملا إما لضيقها وإما لخفتها وإما لقصرها ، وعلى هذا فعلى المرأة أن تحترز من ذلك .
لبس الجينز ليس من التشبه(7/445)
يوجد نوع من القماش يسمي الجينز يفصل بطرق مختلفة لملابس الأطفال بنين وبنات يمتاز بالمتانة ، والإشكال أن هذه الخامة يلبسها الكفار وغيرهم بطريقة البنطلون الضيق وهو مشهور ومعروف ، والسؤال هو استعمال هذا القماش بأشكاله المختلفة غير البنطلون الضيق بمعنى استعماله لمتانته وجودته هل يدخل في التشبه ؟
التشبه معناه هو أن يقوم الإنسان بشي يختص بالمتشبه بهم ، فإذا هذه القماشة أو غيرها علي وجه يشبه لباس الكفار فقد دخل في التشبه ، أما مجرد أن يكون لباس الكفار من هذا القماش ولكن يفصل علي وجه آخر مغاير لملابس الكفار ، فإن ذلك لا بأس به ما دام مخالفا لطريقة الكفار حتى لو اشتهروا بها ما دام أن الهيئة ليست ما يلبسه الكفار .
نعلم أن عمّ المرأة من محارمها الذين يجوز لها أن تكشف لهم . ولكن ماذا إذا كان عم المرأة يمزح معها مزاحا فاحشا فهل يجوز لها ألا تقابله بسبب مزاحه الفاحش ؟
إذا كان العم يمازح بنات أخيه ممازحة مريبة فأنه لا يحل أن يأتين إليه ولا يكشفن وجوههن عنده لأن العلماء الذين أباحوا للمحرم أن تكشف المرأة وجهها عنده ، اشترطوا أن لا يكون هناك فتنة ، وهذا الرجل الذي يمازح بنات أخيه مزاحا قبيحا معناه أنه يخشى عليهن منه الفتنة، والواجب البعد عن أسباب الفتنة .
ولا تستغرب أن أحد من الناس يمكن أن تتعلق رغبته بمحارمه ـ والعياذ بالله ـ وانظر إلي التعبير القرآني ، قال تعالى ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) ( النساء :22) وقال في الزنا : ( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) ( الإسراء : 32) وهذا يدل على أن نكاح ذوات المحارم أعظم قبحا من الزنا .
وخلاصة الجواب : أنه يجب عليهن البعد عن عمهن وعدم كشف الوجه له ، مادمن يرين منه هذا المزاح القبيح الموجب للريبة .
تصفيف الشعر(7/446)
هل يجوز للمرأة أن تصفف شعرها بالطريقة العصرية وليس الغرض التشبه بالكافرات ولكن للزوج ؟
الذي بلغني عن تصفيف الشعر أنه يكون بأجرة باهظة كثيرة قد تصفها بأنها إضاعة مال ، والذي أنصح به نساءنا أن يتجنبن هذا الترف ، وللمرأة أن تتجمل لزوجها على وجه لا يضيع به المال هذا الضياع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال .
ما حكم قيام بعض النساء بأخذ الموديلات من مجلات الأزياء إذا كان ذلك بدون قصد اتباع الموضة ومسايرة الغرب ، هل يعد هذا تشبها بالكافرات مع أن النساء يلبسن ما ينتجه الغرب من الملابس وغير ذلك ؟
اطلعت على كثير من هذه المجلات فألفيتها مجلات خليعة فظيعة خبيثة ، حقيق بنا في المملكة العربية السعودية ، الدولة التي لا نعلم ـ ولله الحمد دوله مماثلة لها في الحفاظ على شرع الله وعلى الأخلاق الفاضلة . إننا نريد أن نربأ ونحن في هذه الدولة أن توجد مثل هذه المجلات في أسواقنا وفي محلات الخياطة ، لأن منظرها أفظع من مخبرها ، ولا يجوز لأي امرأة أو أي رجل أن يشترى هذه المجلات أو ينظر إليها أو يراجعها لأنها فتنة . قد يشتريها الإنسان وهو يظن أنه سالم منها،ولكن لا تزال به نفسه والشيطان حتى يقع في فخها وشركها ، ويحتار مما فيها من أزياء لا تتناسب مع البيئة الإسلامية . وأحذر جميع النساء والقائمين عليهن من وجودها في بيوتهم لما فيها من الفتنة العظيمة والخطر على أخلاقنا وديننا .
طبقات غطاء الوجه
من المعلوم أن الغطاء الذي تستخدمه المرأة على وجهها ينقسم إلي عدة طبقات ، فكم طبقة من غطاء الوجه ينبغي أن تضع المرأة على وجهها ؟(7/447)
الواجب على المرأة أن تستر وجهها عن الرجال غير المحارم لها ، بأن تستره بستر لا يصف لون البشرة ، سواء كان طبقة أم طبقتين أم اكثر ، فإن كان الخمار صفيقا لا ترى البشرة من خلاله كفى طبقة واحدة ، وإن كانت لا تكفي زادت اثنتين أو ثلاثة أو أربعا ، والمهم أن تستره بما لا يصف اللون فإنه لا يكفي كما تفعله بعض النساء ، وليس المقصود أن تضع المرأة شيئا على وجهها ، بل المقصود ستر وجهها فلا يبين لغير محارمها .
وعلى النساء أن يتقين الله في أنفسهن ، وفي بنات مجتمعهن ، فإن المرأة إذا خرجت كاشفة، أو شبه كاشفة اقتدت بها امرأة أخرى ، وثالثة وهكذا حتى ينتشر ذلك بين النساء ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلي يوم القيامة ) (1) وبلادنا ـ والحمد لله ـ بلاد محافظة على دينها في عباداتها وأخلاقها ، ومعاملاتها ، وهكذا يجب أن تكون فإنها ـ والحمد لله ـ هي البلاد التي خرج منها نور الإسلام وإليها يرجع ، فالواجب علينا المحافظة على ديننا وسلوكنا وأخلاقنا المتلقاة من شريعتنا حتى نكون خير أمة أخرجت للناس .
وعلينا لا نأخذ بكل جديد يرد إلينا من خارج بلادنا ،بل ينظر في هذا الجديد إن كان فيه مصلحة وليس فيه محذور شرعي فإننا نأخذ به ، وإن كان محذور شرعي فإننا نرفضه ونبعده عن مجتمعنا حتى نبقى محافظين على ديننا وأخلاقنا ومعاملاتنا .
استخدام السحاب للمرأة
اعتادت بعض النساء أن يضعن فتحة في الظهر وهي ما يسمى (بالسحاب ) تفتحه إذا أرادت لبس الثوب ـ فما حكم هذا العلم ؟
*لا أعلم بأسا أن يكون السحاب أي الجيب ـ من الخلف إلا أن يكون ذلك من باب التشبه ، ولكنه أصبح اليوم شائعا وكثيرا من المسلمين حتى إنه كثر بالنسبة للصغار .(7/448)
والأصل في غير العبادات الحلّ ، فالعادات والمعاملات والمآكل وغيرها في الأصل فيها الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه بخلاف العبادات فأن الأصل فيها المنع والحظر إلا ما قام الدليل على مشروعيته .
لا تكشف المرأة في الحرم
تتساءل كثير من النساء عن كشف الوجه في الحرم ، وذلك أنهن قد سمعن عن بعض قوله بجواز كشف المرأة لوجهها وحال العمرة،فما هو القول الفصل في هذه المسألة ؟
* القول الفصل أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها لا في المسجد الحرام ولا في الأسواق ، ولا في المساجد الأخرى،بل الواجب عليها إذا كان عندها رجال غير محارم أن تستر وجهها ، لأن الوجه عورة في النظر ، فإن النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والنظر الصحيح كلها تدل على أن المرأة يجب أن تستر وجهها عن الرجال غير المحارم لما في كشفه من الفتنة وإثارة الشهوة .
ولا يليق بها أن تغتر بما تفعله بعض النساء من التهتك وترك الحجاب ، فتكشف عن وجهها وشعرها وذراعيها ونحرها وتمشي في الأسواق كما تمشي في بيتها .
فعليها أن تتقي الله في نفسها وفي عباد الله عز وجل ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) (1)
وأما المحرمة بحج أو عمرة فالمشروع لها كشف الوجه في البيت والخيمة ، ويجب عليها أن تستره إذا كان حولها رجال ليسوا من محارمها سواء كانت في المسجد أو غيره .
الملابس القصيرة
في بعض البلاد الإسلامية تنتشر ظاهرة لبس الفستان إلي الركبة ، حتى أن بعضهن يرتفع فستانها عن الركبة قليلا تساهلا منهن ـ فما حكم ذلك ؟ وما هي نصيحتكم لمن لا تبالي بالحجاب ؟
* إخراج المرأة ساقها لغير محارمها محرم ، وإخراج وجهها لغير محارمها محرم أشد ، لأن افتتان الناس بالوجوه أعظم من افتتانهم بالسيقان .(7/449)
وقد دلّ الكتاب والسنة على وجوب الحجاب وقد بيناه في رسالة لنا سميناها ( رسالة الحجاب) وهي رسالة مختصرة وما ورد من الأحاديث التي ظاهرها الجواز فإننا قد أجبنا عنها بجوابين أحدهما مجمل والثاني مفصل عن كل دليل قيل أنه دال على جواز كشف الوجه .
ونصيحتي للنساء اللاتي يلبسن فساتين قصيرة إلي الركبة أو فوقها أن يتقين الله في أنفسهن وفي مجتمعهن ، وأن لا يكن سببا في انتشار هذه الظاهرة السيئة ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من سنّ في الإسلام سنة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلي يوم القيامة ) (1)
المقصود بالمشطة المائلة
قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( صنفان من أهل النار لم أرهما ، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها ، وإن ريحها يوجد في مسيرة كذا وكذا )(2) والمطلوب ما معنى (مميلات ) ؟ وهل من ذلك النساء اللاتي يتمشطن المشطة المائلة أم المقصود منها النساء اللاتي يملن الرجال ؟
* هذا الحديث قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ( صنفان من أهل النار لم أرهما ) فذكر صنفا ، وقال عن الصنف الثاني : ( نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائل ، لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها ، وإن ريحها يوجد في مسيرة كذا وكذا ) والمائلة بالمعنى العام كل مائلة عن السراط المستقيم ، بلباسها أو هيئتها أو كلامها أو غير ذلك ، والمميلات : اللاتي يملن غيرهن وذلك باستعمالهن لما فيه الفتنة ، حتى يميل إليهن من يميل من عباد الله .(7/450)
وأما المشطة المائلة فقد ذكر بعض أهل العلم أنها تدخل في ذلك ، لأن المرأة تميلها ، والسنة خلاف ذلك، ولهذا ينبغي للنساء أن يتجنبن هذه المشطة لاحتمال أن يكن داخلات في الحديث والأمر ليس بالهين حتى تتهاون به المرأة ، فالأحسن والأولى أن يدع الإنسان ما يريبه وما لا يريبه ، والمشطات كثيرة ،وفيها غني عن المشط المحرم .
خلوة المرأة بالسائق
بعض الناس يرسلون بناتهم للمدارس ولغيرها مع سائقين أجانب ، ولا ينظرون إلي نتائج هذه الأعمال فأرجو نصحهم ؟
هذا العمل لا يخلو من حالين :
الأولى : أن يكون الراكب مع السائق عدة نساء بحيث لا ينفرد بواحدة منهن ، فلا بأس إذا كان داخل البلد ، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يخلون رجل بامرأة ) (3) وهذا ليست بخلوة ، بشرط الأمانة في السائق ، فإذا كان غير مأمون فلا يجوز أن ينفرد مع النساء إلا بمحرم بالغ عاقل .
الثانية : أن يذهب بامرأة واحدة منفردا فلا يجوز ولو دقيقة واحدة ، لأن الانفراد خلوة . والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك بقوله : ( لا يخلون رجل بامرأة ) وأخبر أن الشيطان ثالثهما .وعلى ذلك لا يحل لأولياء أمور النساء تركهن مع السائقين على هذه الحال ، كما لا يحل أن تركب بنفسها معه بدون محرم لها ، لأنه معصية للرسول صلى الله عليه وسلم وبالتالي معصية لله تعالى لأن من أطاع الله فقد أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى :( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) ( النساء : 80 ) وقال تعالى : ( ومن يعصي الله ورسوله فقد ضلّ ضللا مبينا ) ( الأحزاب : 36 ) فعلينا أخوة الإسلام أن نكون طائعين لله ممتثلين لأمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من المنفعة العظيمة والعاقبة الحميدة ، وعلينا معشر المسلمين أن نكون غيورين على محارمنا،فلا نسلمهن إلي الشيطان يلعب بهن ، فالشيطان يجر إلي الفتنة والغواية .(7/451)
وإني أحذر إخواني من الغفلة وعدم المبالاة ،لما فتح الله علينا من زهرة الدنيا ، ولننتبه إلي هذه الآية التي يقول الله فيها: ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم * إنهم كانوا قبل ذلك مترفين * وكانوا يصرون على الحنث العظيم ) ( الواقعة : 41 ـ 46 ) ولنتذكر قوله تعالى: ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعوا ثبورا * ويصلى سعيرا * إنه كان في أهله مسرورا ) ( الانشقاق : 10 ـ 13 ) .
هل قص المرأة لأطراف شعرها حرام أم حلال ؟
* قص المرأة من شعرها إن كان في حج أو عمرة فهو نسك يقربها إلي الله ، وتؤجر عليه لأن المرأة إذا حجت أو اعتمرت تقصر من شعرها قيد أنملة لكل جديلة .
أما إن كانت في غير حج أو عمرة ، وقصت من شعرها حتى اصبح كهيئة شعر الرجل فإنه محرم ، بل هو من الكبائر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( لعن المتشبهات من النساء بالرجال ، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء )(1).
وإن كان القص من أطرافه ، وبقي على هيئته راس امرأة فأنه مكروه على ما صرح به فقهاء الحنابلة رحمهم الله . وعلى هذا لا ينبغي للمرأة أن تفعل ذلك .
ما حكم تقصير الشعر من الخلف إلي الكتفين للمرأة ؟
تقصير الشعر للمرأة كرهه أهل العلم ، وقالوا إنه يكره للمرأة قص شعرها إلا في حج أو عمرة ، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة رحمهم الله .
وبعض أهل العلم حرّمه ، وقال :إنه لا يجوز . والبعض الآخر أباحه بشرط أن لا يكون فيه تشبه بغير المسلمات ، أو تشبه بالرجال . فإن تشبه المرأة بالرجل محرم ، بل من كبائر الذنوب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن المتشبهات من النساء بالرجال ، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء ) .(7/452)
فتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال من كبائر الذنوب . فإذا جعلت المرأة رأسها مشابها لرأس الرجل فإنها داخلة في اللعن والعياذ بالله ، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.وأما التشبه بغير المسلمات فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم(من تشبه بقوم فهو منهم)(2)
والأولى أن لا تقصه لا من الأمام ولا من الخلف لأنني لا أحب نساؤنا تتلقى كل ما وارد جديد من العادات والتقاليد التي لا تفيد ، لأن انفتاح صدورنا لتلقي مثل هذه الأمور قد يؤدي إلي ما لا تحمد عقباه ، من التوسع في أمور لا يبيحها الشرع ، قد يؤدي إلي تبرج بالزينة كما تبرجت النساء في أماكن أخرى ، وقد يؤدي أن تكشف المرأة وجهها ، وكشف وجهها للأجانب حرام .
هل يجوز صبغ الشعر البيض بالصبغ الأسود ؟
تغيير الشيب بالأسود حرام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باجتنابه قال:(غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد ) (3)
ولقد ورد الوعيد الشديد على من يصبغ بالسواد ، وهذا يقتضي أن يكون من كبائر الذنوب . فالواجب على المسلم والمسلمة تجنب ذلك لما فيه من النهي والوعيد ، ولأن فيه مضادة لخلق الله ، فإن هذا الشيب جعله الله علامة على الكبر في الغالب ، فإذا عكست ذلك بصبغه بالسواد كان فيه المضادة لحكمة الله في خلقه ، ولكن ينبغي تغييره بغير السواد كالحمرة والصفرة ، وكذلك باللون الذي يكون بين الحمرة والسواد ، مثل أن يكون الشعر أدهم فإن هذا لا بأس به وبه يحصل الخير باتباع السنة ، وتجنب نهي الرسول صلى الله عليه وسلم .
أساليب متنوعة للتجميل
ما حكم الوشم ؟ وإذا وشمت البنت وهي صغيرة فهل عليها إثم ؟(7/453)
الوشم محرم بل إنه من كبائر الذنوب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواشمة والمستوشمه (1)، وإذا وشمت البنت وهي صغيرة ، ولا تستطيع منع نفسها عن الوشم فلا حرج عليها ، وإنما الإثم على من فعل ذلك بها ، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وهذه البنت لا تستطيع التصرف ، ولكن تزيله إن تمكنت من إزالته بلا ضرر عليها .
ما حكم حمرة الشفاه والمكياج للمرأة ؟
تحمير الشفاه لا بأس به ، لأن الأصل الحل حتى يتبين التحريم ، وهذا التحمير ليس بشي ثابت حتى نقول إنه من جنس الوشم ، والوسم غرز شي من الألوان تحت الجلد ، وهو محرم بل من كبائر الذنوب .
ولكن التحمير إن تبين أنه مضر للشفة ، ينشفها ويزيل عنها الرطوبة والدهنية فإنه في مثل هذه الحال ينهى عنه ، وقد أخبرت أنه ربما تنفطر الشفاه منه ، فإذا ثبت هذا فإن الإنسان منهي عن فعل ما يضره .
وأما المكياج فإننا ننهي عنه وإن كان يزين الوجه ساعة من الزمان ، لكنه يضره ضررا عظيما ، كما ثبت ذلك طبيا ، فإن المرأة إذا كبرت في السن تغير وجهها تغيرا لا ينفع معه المكياج ولا غيره ، وعليه فإننا ننصح النساء بعدم استعماله لما ثبت فيه من الضرر .
ما حكم تخضيب اليدين بالنسبة للمرأة بالحناء . وهل ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وما حكم لو شمل ذلك باطن اليد دون الأظافر ؟
الخضاب بالحناء في اليدين مما تعارفت عليه النساء ، وهو عادة اتخذت للزينة ، وما دام فيها جمال للمرأة فالمرأة مطلوب منها التزين لزوجها سواء شمل ذلك الأظافر أو لم يشملها .
أما المناكير للمرأة التي ليست حائضا فهي حرام ، لأنها تمنع وصول الماء إلي البشرة في الوضوء إلا إذا كانت تزيله عند الوضوء .
حديث المرأة مع الرجال
هل صوت المرأة حرام للدرجة التي لا تكلم فيها أصحاب الدكاكين بالسوق ، لشراء حاجتها بدون تنعيم أو تمييع للصوت ، وكذلك تخيط ثيابها عند الخياط في احتشام ؟(7/454)
* كلام المرأة ليس بحرام وليس بعورة ، ولكن إذا ألانت القول ، وخضعت به ، وحكت على شكل يحصل به الفتنة فذلك هو المحرم ، لقوله تعالى ( فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا ) ( الأحزاب : 32) . فلم يقل الله تعالى فلا تكلمن الرجال بل قال فلا تخضعن بالقول ، والخضوع بالقول أخص من مطلق الكلام .
إذن فكلام المرأة للرجل إذا لم يحصل به فتنة فلا بأس به ، فقد كانت المرأة تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلمه فيسمع الناس كلامها ، وهي تكلمه وهو يرد عليها ، وليس ذلك بمنكر. ولكن لابد أن لا يكون في هذه الحال خلوة بها إلا بمحرم ، وعدم فتنة ، ولهذا لا يجوز للرجل أن يستمتع بكلامها سواء كان ذلك استمتاعا نفسيا ، أم استمتاعا جنسيا إلا أن تكون زوجته .
هل إظهار المرأة يدها حرام ؟
المشهور من مذاهب الحنابلة أن كفي المرأة كوجهها لا يجوز إخراجها أمام الرجال غير المحارم ، وهذا هو ظاهر فعل النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعني ستر الكفين .
ووجه ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المحرمة : ( لا تنتقب ولا تلبس القفازين ) (1)، فإن نهيه للمحرمة أن تلبس القفازين يشعر بأن من عادة النساء . وإلا لما كان لنهى المحرمة عن ذلك محل ، ولم تكن عادة النساء في عهده صلى الله عليه وسلم لبس القفازين لم ينه عن ذلك حال الإحرام .
فعلى المرأة أن تتقي الله عز وجل ، ولا تظهر بمظهر تحصل به الفتنة منها وفيها . قال سبحانه وتعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم أطهر النساء ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) (الأحزاب : 33) وقال تعالى ( وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء الحجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) ( الأحزاب : 53) .
فإذا قال قائل : هذا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم .(7/455)
قلنا : إن طهارة القلب مطلوبة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن ، فكون الحجاب يحصل به طهارة القلب للرجال والنساء ، يدل أنه لا فرق بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن .
وأعلم أن الحجاب عند بعض الناس هو أن تغطي المرأة جميع بدنها إلا وجهها ، والحق الذي تدل عليه الأدلة ويقتضيه النظر كما يقتضيه الأثر ، أنه لا بد أن تغطي المرأة وجهها ، لأن الوجه هو محل الفتنة ومحل الرغبة ، ولا أحد يشك أن مطلب الرجال أولا هو جمال الوجه للمرأة دون بقية الأعضاء .
فلتتق الله ، ولتحتشم ، ولتبتعد عن الفتنة ، ولتستر وجهها حتى لا يحصل الشر والفساد .
بعض الناس اعتادوا على إلباس بناتهم ألبسة قصيرة وألبسة ضيقة تبين مفاصل الجسم سواء كانت للبنات الكبيرات أو الصغيرات . أرجو توجيه نصيحة لمثل هؤلاء .
يجب على الإنسان مراعاة المسئولية ، فعليه أن يتقي الله ويمنع كافة من له ولاية عليهن من هذه الألبسة ، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد..وذكر نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ) (2) . وهؤلاء النسوة اللاتي يستعملن الثياب القصيرة كاسيات ، لأن عليهن كسوة لكنهن عاريات لظهور عوراتهن ، لأن المرأة بالنسبة للنظر كلها عورة ، وجهها ويداها ورجلاها ، وجميع أجزاء جسمها لغير المحارم .
وكذلك الألبسة الضيقة ، وإن كانت كسوة في الظاهر لكنها عرى في الواقع . فإن إبانة مقاطع الجسم بالألبسة الضيقة هو تعر . فعلى المرأة أن تتقي ربها ولا تبين مفاتنها ، وعليها آلا تخرج للسوق وهي متبذلة لابسة ما لا يلفت النظر ، ولا تكون متطيبة لئلا تجر الناس إلي نفسها .(7/456)
وعلى المرأة المسلمة أن لا تخرج من بيتها إلا لحاجة لا بد منها ولكن غير متطيبة ولا متبرجة وبدون مشية خيلاء ، وليعلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) (3) ففتنة النساء عظيمة لا يكاد يسلم منها أحد ، وعلينا نحن معشر المسلمين أن لا نتخذ طرق أعداء الله من يهود ونصارى وغيرهم فإن الأمر عظيم .
وكما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) وتلا قوله تعالى : ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) (1) (هود : 102) وإن أخذه تبارك وتعالى إذا أخذ فإنه أخذ عزيز مقتدر ، ويقول الله تبارك وتعالى:( وأملي لهم إن كيدي متين ) ( الأعراف : 183)
وإن أولئك الدعاة الذين يدعون إلي السفور والاختلاط لفي ضلال مبين ، وجهل عظيم، لمخالفتهم إرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يجهلون أو يتجاهلون ما حل بالأمم التي ابتليت بهذا الأمر وهم الآن يريدون التخلص من هذه المصيبة ، وأنى لهم ذلك ؟ فقد اصبح عادة لا تغير إلا بعد جهد عظيم .
من المشاهد أن بعض الناس يتشدد على بناته الصغار حتى إن بعضهم يلزم ابنته بلبس الخمار وعمرها أربع سنوات ويقول من شب على شي شاب عليه ، ويحاول فرض ذلك على جميع أسرته . فما رأيكم في هذا التشدد الذي يقيد طفلة صغيرة لا تفقه شيئا ؟
* لا شك أن من شبّ على شي شاب عليه ، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من بلغ سبع سنين بالصلاة ، وإن لم يكن مكلفا من أجل أن يعتاد عليها .
لكن الطفلة الصغيرة ليس لعورتها حكم ، ولا يجب عليها ستر وجهها ورقبتها ، ويديها ورجليها ، ولا ينبغي إلزام الطفلة بذلك ، لكن إذا بلغت البنت حدا تتعلق بها نفوس الرجال وشهواتهم فإنها تحتجب دفعا للفتنة والشر ، ويختلف هذا باختلاف النساء ، فإن منهن من تكون سريعة النمو جيدة الشباب ، ومنهن من تكون بالعكس .(7/457)
ما حكم لبس جوارب لليدين بقصد إخفاء اليد وعدم خروجها أثناء مخاطبة الرجال في الأسواق ؟
لبس ما يستر اليدين أمام الرجال الأجانب هو ما يعرف بالقفازين أمر طيب ، وينبغي للمرأة أن تلبسه حتى لا تتبين كفاها ، وربما يدل قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تتنقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)(2) . ربما يدل على أن النساء كان من عادتهن لبس القفازين ، وأنه أستر للمرأة ، وأبعد عن الفتنة ، ولكن يجب أن يكون القفازان غير جميلين بحيث لا يلفتان النظر من الرجال .
الوجه محل الفتنة
لقد اختلف فقهاء الإسلام في كثير من الفقه الإسلامي ، ومن الأحكام التي اختلفوا فيها مسألة الحجاب للمرأة ، وهذا الاختلاف في الآراء جاء تبعا لاختلاف النصوص المروية في هذه المسألة . فما هو الحجاب الشرعي بالنسبة للمرأة ؟
الحجاب الشرعي هو حجب المرأة ما يحرم عليها إظهاره ، أي سترها ما يجب عليها ستره ، وأولى ذلك ستر الوجه ، لأنه محل الفتنة ومحل الرغبة ، فالواجب على المرأة أن تستر وجهها عمن ليسوا من محارمها ، وأما من زعم أن الحجاب الشرعي هو ستر الرأس والعنق والنحر والقدم والساق والذراع ، وأباح أن تخرج المرأة وجهها وكفيها فإن هذا من أعجب ما يكون من الأقوال ، لأنه من المعلوم أن الرغبة ومحل الفتنة هو الوجه ، وكيف يمكن أن يقال أن الشريعة تمنع كشف القدم من المرأة وتبيح لها أن تخرج الوجه؟ هذا لا يمكن أن يكون واقعا في الشريعة العظيمة الحكيمة المطهرة من التناقض ، وكل إنسان يعرف أن الفتنة في كشف الوجه أعظم بكثير من الفتنة بكشف القدم ، وكل إنسان يعرف أن محل رغبة الرجال في النساء إنما هي الوجوه ، ولهذا لو قيل للخاطب أن مخطوبتك قبيحة الوجه لكنها جميلة القدم ما أقدم على خطبتها ، ولو قيل له أنها جميلة الوجه ولكن في يديها أو كفيها أو ساقيها نزول عن الجمال لأقدم عليها فعلم بهذا أن الوجه أولى ما يجب حجابه .(7/458)
وهنالك أدلة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة وأقوال أئمة الإسلام وعلما الإسلام تدل على وجوب احتجاب المرأة في جميع بدنها عمن ليسوا بمحارمها وتدل على أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عمن ليسوا بمحارمها . وليس هذا موضع ذكر ذلك .
ولكن لنا فيه رسالة مختصرة قليلة اللفظ كثيرة الفائدة .
بماذا تنصحون من يمنع أهله من الحجاب الشرعي ؟
* إننا ننصحه أن يتق الله عز وجلاله في أهله ، وأن يحمد الله عز وجل الذي يسر له مثل هذه الزوجة التي تريد أن تنفذ ما أمر الله به من اللباس الشرعي الكفيل بسلامتها من الفتن ، و إذا كان الله عز وجل قد أمر عباده المؤمنين أن يقوا أنفسهم وأهليهم النار في قوله: ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) (التحريم :6) .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حمل الرجل المسئولية في أهله فقال ( الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته )(1) . فكيف يليق بهذا الرجل أن يحاول إجبار زوجته على أن تدع الزي الشرعي في اللباس إلي زي محرم يكون سببا للفتنة بها ومنها ، فليتق الله تعالى في نفسه ، وليتق الله في أهله ، وليحمد الله على نعمته أن يسر له مثل هذه المرأة الصالحة .
وأما بالنسبة لزوجته فإنه لا يحل لها أن تطيعه في معصية الله أبدا ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
لا يجوز إخراج الذراع
بعض النساء تردد مقولة يحكون بأنهم سمعوا من بعض العلماء ، وهي أن من تظهر ساعديها من النساء وهي في البيت يوم القيامة تحترق ساعداها ، مع العلم أن بعض النساء يفصلن ملابسهن إلي الأكمام أو بعض الأكمام إلي المرفقين . فما حكم ذلك ؟(7/459)
أما هذا الجزاء وهو أن الساعدين تحترقان يوم القيامة فلا أصل له . وأما الحكم في إظهار الساعدين لغير ذوي المحارم والأزوج فإن هذا محرم ، لا يجوز أن تخرج المرأة ذراعيها لغير زوجها ومحارمها ، فعلى المرأة أن تحتشم و تحتجب ما استطاعت ، وأن تستر ذراعيها إلا إذا كان البيت ليس فيه إلا زوجها ومحارمها ، فهذا لا بأس بإخراج الذراعين ، أما من فصلت ملابسها إلي المرفقين فأقول لها : لا بأس تبقي الثياب المخيطة على هذا الوضع ، وتلبس للزوج والمحارم ، ويفصل ثياب جديدة إذا كان في البيت من ليس محرما لها كأخ زوجها وما أشبه ، ولا يجوز للمرأة أن تخرج بهذه الملابس إلي الشارع إلا أن تسترها بثياب ذات أكمام طويلة تسترها أمام الناس في السوق مع العباءة .
تطيب المرأة خارج البيت
ما حكم تعطر المرأة وتزيينها وخروجها من بيتها إلي مدرستها مباشرة . هل لها أن تفعل هذا الفعل ؟ وما هي الزينة التي تحرم على المرأة المسلمة عند النساء ؟ يعني ما هي الزينة التي لا يجوز إبداؤها للنساء ؟
* خروج المرأة متطيبة إلي السوق محرم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية )(2) ولما في ذلك من الفتنة .
أما إذا كانت المرأة ستركب في السيارة ولا يظهر ريحها إلا لمن يحل له أن تظهر الريح عنده، وستنزل فورا إلي محل عملها بدون أن يكون هناك رجال حولها ، فهذا لا بأس به ، لأنه ليس في هذا محذور ، فهي في سيارتها كأنها في بيتها ،ولهذا لا يحل لإنسان أن يمكن امرأته أو من له ولاية عليها أن تركب وحدها مع السائق ، لأن هذه خلوة . أما إذا كانت ستمر إلي جانب الرجال فأنه لا يحل لها أن تتطيب .(7/460)
أما بالنسبة للزينة التي تظهرها للنساء فإن كان ما أعتيد بين النساء من الزينة المباحة فهي حلال . وأما التي لا تحل كما لو كان الثوب خفيفا جدا يصف البشرة أو كان ضيقا جدا يبين مفاتن المرأة ، فأن ذلك لا يجوز لدخوله في قول النبي صلى الله عليه وسلم (صنفان من أهل النار لم أرهما بعد ...وذكر نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ) (1) .
الضوابط في سكن العوائل
من العادات المنتشرة في بعض المجتمعات أن بعض العوائل عندما تسكن في بيت واحد ، فإن النساء يكشفن وجوههن أمام أقارب أزواجهن ، وذلك بسبب أنهم في بيت واحد، فما رأي فضيلتكم في ذلك ؟
* العائلة إذا سكنت جميعا فالواجب أن تحتجب المرأة على من ليس بمحرم لها . فزوجة الأخ لا يجوز أن تكشف لأخيه ، لأن أخاه بمنزلة رجل الشارع بالنسبة للنظر والمحرمية ولا يجوز أيضا أن يخلو أخوه بها إذا خرج أخوه من البيت ، وهذه مشكلة يعاني منها كثير من الناس مثل أن يكون هناك أخوان في بيت واحد أحدهما متزوج . فلا يجوز لهذا المتزوج أن يبقى زوجته عند أخيه إذا خرج للعمل أو للدراسة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يخلون رجل بامرأة ) (2)وقال : ( إياكم والدخول على النساء ) قالوا : يا رسول الله أرأيت الحمو ؟ والحمو أقارب الزوج ـ قال ( الحمو الموت ) (3).
ودائما يقع السؤال عن جريمة فاحشة الزنا في مثل هذه الحال ، يخرج الرجل وتبقى زوجته وأخوه في البيت فيغويهما الشيطان ويزني بها والعياذ بالله ـ يزني بحليلة أخيه ، وهذا أعظم من الزنا بحليلة جاره ، بل إن الأمر أفظع من هذا .(7/461)
على كل حال أريد أن أقول أبرأ منه عند الله من مسئوليتكم : إنه لا يجوز للإنسان أن يبقي زوجته عند أخيه في بيت واحد مهما كانت الظروف حتى لو كان الأخ من أوثق الناس وأصدق الناس وأبر الناس ، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، والشهوة الجنسية لا حدود لها لا سيما مع الشباب .
ولكن كيف نصنع إذا كان أخوان في بيت وأحدهما متزوج ؟ هل نقول إذا أراد أن يخرج ومعه زوجته إلي العمل ؟
لا ، ولكن يمكن أن يقسم البيت إلي نصفين ، نصف يكون للأخ عند انفراده ويكون فيه باب يغلق بمفتاح يكون مع الزوج يخرج به معه ، وتكون المرأة في جانب مستقل في البيت والأخ في جانب مستقل .
لكن قد يحتج الأخ على أخيه ويقول لماذا تفعل هذا ؟ ألا تثق بي ؟
يقول له : أنا فعلت ذلك لمصلحتك ، لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم . فربما يغويك وتدعوك نفسك قهرا عليك فتغلب الشهوة العقل ، وحينئذ تقع في المحظور ، فكوني أضع هذا الشي حماية لك ، هو من مصلحتك كما أنه من مصلحتي أنا . وإذا غضب من أجل هذا ليغضب و لا يهمك . هذه المسألة أبلغكم إياها تبرؤا من مسئولية كتمها وحسابكم على الله عز وجل .
أما بالنسبة لكشف الوجه فإنه حرام و لا يجوز للمرأة أن تكشف لأخي زوجها ، لأنه أجنبي منها ، فهو منها كرجل الشارع تماما .
المنع من النقاب
في الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة بين أوساط النساء بشكل ملفت للنظر وهي ما يسمى بالنقاب ، والغريب في الظاهرة ليس لبس النقاب بل طريقة لبسه لدى النساء ، ففي بداية الأمر كان لا يظهر من الوجه ألا العينان فقط ، ثم بدأ النقاب بالاتساع شيئا فشيئا ، فأصبح يظهر مع العينين جزء من الوجه مما يجلب الفتنة و لا سيما أن كثيرا من النساء يكتحلن عند لبسه . وإذا نوقشن في الأمر احتججن بأن فضيلتكم أفتى بأن الأصل في الجواز . فنرجو توضيح هذه المسألة بشكل مفصل ؟(7/462)
لا شك أن النقاب كان معروفا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، و أن النساء كن يفعلنه كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم في المرأة إذا أحرمت ( لا تنتقب ) (1) فإن هذا يدل على أن من عادتهن لبس النقاب ، ولكن في وقتنا هذا لا نفتي بجوازه بل نرى منعه ، لأنه ذريعة إلي التوسع فيما لا يجوز ، وهذا أمر مشاهد . ولهذا لم نفت امرأة من النساء لا قريبة ولا بعيدة بجواز النقاب في أوقاتنا هذه ، بل نرى أنه يمنع منعا باتا ، وأن على المرأة أن تتقي ربها في هذا الأمر وألا تنتقب ، لأن ذلك يفتح باب الشر لا يمكن إغلاقه فيما بعد .
ليس بين الزوج وزوجته عورة
ما حكم لبس الملابس الضيقة عند النساء وعند المحارم ؟
لبس الملابس الضيقة التي تبين مفاتن المرأة وتبرز ما فيه من الفتنة محرم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صنفان من أهل النار لم أرهما : رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ـ يعني ظلما وعدوانا ـ ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات )(2) . فقد فسر قوله : ( كاسيات عاريات ) بأنهن يلبسنّ ألبسة قصيرة لا تستر ما يجب ستره من العورة . وفسر بأنهن يلبسن ألبسة خفيفة لا تمنع من رؤية ما وراءها من بشرة المرأة ، وفسرت بأن يلبسن ملابس ضيقة فهي ساترة عن الرؤيا لكنها مبدية لمفاتن المرأة ، وعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تلبس هذه الملابس الضيقة إلا لمن يجوز لها إبداء عورتها عنده وهو الزوج، فإنه ليس للزوج وزوجته عورة ، لقوله تعالى ( والذين هم لفروجهم حافظين*إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)(المؤمنون5- 6)
وقالت عائشة كنا نغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم ـ يعني من الجنابة ـ من إناء واحد تختلف أيدينا فيه ) (3) فالإنسان لا عورة بينه وبين زوجته .
وأما بين المرأة والمحارم فأنه يجب عليها أن تستر عورتها ، والضيق لا يجوز لا عند المحارم و لا عند النساء إذا كان ضيقا شديدا يبين مفاتن المرأة .(7/463)
عندما تجبر على خلع الحجاب
في بعض البلدان قد تجبر المسلمة على خلع الحجاب بالأخص غطاء الرأس ، هل يجوز لها تنفيذ ذلك علما بأن من يرفض ذلك ترصد له العقوبات كالفصل من العمل أو المدرسة ؟
* هذا البلاء الذي يحدث في بعض البلدان هو من الأمور التي يمتحن بها العبد ، والله سبحانه وتعالى يقول ( آلم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) ( العنكبوت : 1ـ3)
فالذي أرى أنه يجب على المسلمات في هذه البلدة أن يأبين طاعة أولي الأمر في هذا الأمر المنكر ، لأن طاعة أولي الأمر المنكر مرفوضة ، قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( النساء : 59) . لو تأملت هذه الآية لوجدت أن الله قال ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ولم يكرر الفعل ثالثة مع أولى الأمر ، فدل على أن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله وطاعة رسوله ، فإذا كان أمرهم مخالفا لطاعة الله ورسوله فأنه لا سمع لهم ولا طاعة فيما أمروا به فيما يخالف طاعة الله ورسوله ، ( ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) .
وما يصيب النساء من الأذى في هذه الناحية من الأمور التي يجب الصبر عليها والاستعانة بالله تعالى على الصبر ، ونسأل الله لولاة أمورهم أن يهديهم إلي الحق ، ولا أظن هذا الإجبار إلا إذا خرجت المرأة من بيتها ، وأما في بيتها فلن يكون هذا الإجبار، وبإمكانها أن تبقى في بيتها حتى تسلم من هذا الأمر ، أما الدراسة التي تترتب عليها معصية فأنها لا تجوز ، بل عليها دراسة ما تحتاج إليه في دينها ودنياها ، وهذا يكفي ويمكنها ذلك في البيت غالبا .
اللباس الشرعي
تعلمون بلا شك أن مكمن الفتنة في المرأة متركز في جسدها الداخلي ، فإن ظهر ثارت الفتنة وعمّ الشر ، فما الذي يجوز للمرأة كشفه من جسدها وما حكم نظر المرأة إلي عورة المرأة ؟(7/464)
* يجب على المرأة أن تلبس اللباس الشرعي الذي يكون ساترا ، وكان لباس نساء الصحابة كما قال شيخ الإسلام ابن تميمة وغيره من الكف إلي الكعب في بيوتهن ، أي كف من كف اليد إلي كعب الرجل ، فإذا خرجن لبسن ثيابا طويلة تزيد على أقدامهن بشبر ، ورخص لهن النبي صلى الله عليه وسلم إلي ذراع من أجل ستر أقدامهن ، هذا بالنسبة للمرأة المكتسية ، فإن رفعت اللباس فهي من الكاسيات العاريات .
أما بالنسبة للمرأة الناظرة فإنه لا يجوز لها أن تنظر عورة المرأة ، يعني ما بين السرة إلي الركبة مثل أن تكون المرأة تقضي حاجتها مثلا فلا يجوز للمرأة أن تنظر إليها ، لأنها تنظر إلي العورة ، أما فوق السرة أو دون الركبة ، فإذا كانت المرأة قد كشفت عنه لحاجة مثل أنها رفعت ثوبها عن ساقها لأنها تمر بطين مثلا ، أو تريد أن تغسل الساق وعندها امرأة أخرى فهذا لا بأس به ، أو أخرجت ثديها لترضع ولدها أمام النساء فإنه لا بأس ، لكن لا يفهم من هذا كما تفهم بعض النساء الجاهلات أن المعنى أن تلبس من الثياب ما يستر ما بين السرة والركبة فقط ، هذا غلط ، غلط عظيم على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى شريعة الله وعلى سلف هذه الأمة ، من قال : إن المرأة لا تلبس إلا سروال يستر من السرة إلي الركبة وهذا لباس المسلمات ؟ ! لا يمكن !
فالمرأة يجب أن تلبس اللباس الظاهر من الكف إلي الكعب ، أما المرأة الأخرى التي تنظر فلها أن تنظر إلي الصدر والساق لكن ليس لها أن تنظر ما بين السرة والركبة فيما لو كشفت المرأة ثوبها ، فإن الأخرى تنظر ما بين السرة والركبة .
الملابس القصيرة
قرأت بخطكم جوابا يقول : للمرأة أن تكشف لمحارمها عن الوجه والرأس والرقبة والكفين والذراعين والقدمين والساقين ، وتستر ما سوى ذلك ، فهل هذا الكلام على إطلاقه خصوصا أن موقفكم حفظكم الله ـ من الملابس القصيرة للأطفال والنساء عموما فأنه لا يجوز ؟(7/465)
* نحن إذا قلنا يجوز أن تكشف عن كذا وكذا ليس معناه أن تكون الثياب إلي هذا الحد، لنفرض أن المرأة عليها ثوب إلي الكعب ثم انكشف ساقها لشغل أو غير شغل فأنها لا تأثم بهذا إن لم يكن عندها إلا المحارم ، أو لم يكن غير النساء .
أما اتخاذ الثياب القصيرة فإننا ننهي ونحذر منه لأننا نعلم ـ وإن كان جائزا ـ أنه سوف يتدهور الوضع إلي أكثر من ذلك كما هو العادة في غير هذا ، أن الناس يفعلون الشي في أول الأمر على وجه مباح ، ثم يتدهور الوضع حتى ينحدروا به إلي أمر محرم لا إشكال في تحريمه،كما أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تنظر المرأة إلي عورة المرأة ) (1)ليس معناه أن المرأة يجوز أن تلبس ما يستر ما بين سرتها وركبتها فقط ولا أحد يقول بهذا ، لكن المعنى أنه لو انكشف من المرأة الصدر وكذلك الساق مع كون الثوب وافيا فإن ذلك لا يحرم نظره بالنسبة للمرأة مع المرأة ، ولنضرب مثلا امرأة ترضع ولدها فأنكشف ثديها من أجل إرضاع الولد ، لا نقول للمرأة الأخرى أن نظرك لهذا الثدي حرام،لأن هذا ليس من العورة ، أما أن تأتي امرأة تقول : أنا ما ألبس إلا سروالا يستر ما بين السرة والركبة فلا أحد يقول بهذا ، و لا يجوز ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تميمة ـ رحمه الله ـ أن لباس الصحابيات كان من كف اليد إلي كعب الرجل ، هذا إذا كن في بيوتهن ، أما إذا خرجن إلي السوق فمعروف حديث أم سلمة أن المرأة ترخي ثوبها ، فقد رخص لها النبي صلى الله عليه وسلم أن ترخيه إلي ذراع من أجل ألا تنكشف قدماها إذا مشت .
الكشف داخل السيارة
بالنسبة لبعض المعلمات أو الطالبات عندما يركبن في الحافلة أو السيارة لغرض توصيلهن إلي المدارس نلحظ أن بعضا منهن يقمن بكشف وجوههن داخل السيارة ، وحجتهن في ذلك أنه لا يراهن أحد ـ فما رأيكم ؟ وماذا عن السائق الذي يتعهدهن بالتوصيل مع أنهن كاشفات ؟(7/466)
* كشف المرأة والرجال ينظرون إليها حرام ، ولا يحل سواء كانت معلمة أو طالبة ، وسواء كانت في السيارة أو كانت تمشي في السوق على قدميها ، لكن لو كانت في السيارة لا يراها من كان خلف الزجاج سائرا ، وكان بين النساء والسائق ستره ، فلا حرج عليهن في هذه الحال أن يكشفن وجوههن ، لأنهن كاللاتي في حجرة منفردة عن الرجال .
أما إذا كان الزجاج شفافا يرى من وراءه ، أو كان غير شفاف لكن ليس بينهن وبين السائق حاجز فإنه لا يجوز لهن كشف وجوههن لئلا يراهن السائق أو أحد من الرجال في السوق .
وأجرة السائق ليست حراما ، لأن النساء لم يستأجرن هذه السيارة لأجل كشف وجوههن لكن على السائق أن يأمرهن بتغطية الوجه ، فإن أبين وأصررن على أن يكشفن وجوههن جعل على السيارة ستائر أو يتخذ من الزجاج المحجوب ويجعل بينه وبينهن سترا ، وبذلك يزول المحذور .
السلام على المرأة
ما هدى الإسلام بالنسبة لرد السلام على المرأة وهل تسلم المرأة ؟ وهل يفرق بين المرأة الصغيرة أو المرأة الكبيرة التي لا يخشى منها الفتنة ؟ وما حكم المصافحة وتقبيل الرأس لهن ـ أي العجائز ؟
* الرجل لا يسلم على المرأة ، والمرأة لا تسلم على الرجل ، لأن هذا فتنة ، اللهم إلا عند مكالمة هاتفية فتسلم المرأة أو الرجل بقدر الحاجة فقط ،أو إذا كانت المرأة من معارفه مثل أن يدخل بيته فيجد فيه امرأة يعرفها وتعرفه فيسلم وهذا لا بأس به ، أما أن يسلم على امرأة لقيته في السوق ، فهذا من أعظم الفتنة فلا يسلم .
وأما تقبيل المحارم فتقبيلهن على الرأس والجبهة لا بأس به وتقبيلهن على الخد لا بأس به من قبل الأب ، لأن أبا بكر رضي الله عنه دخل على ابنته عائشة وهي مريضة فقبل خدها ، فهذا لا بأس به ، أما إذا كان من غير البنت فإنه يكون التقبيل على الجبهة وعلى الرأس .(7/467)
أما مصافحة المرأة غير ذات محرم فأنها حرام ، لأن مصافحتها أبلغ في حصول الفتنة من مشاهدتها ، وأما تقبيل رأس العجائز من ذوات المحارم فلا بأس به ، ومن غير ذوات المحارم فلا تقبلها .
هل يجوز أن يقبل رأس زوجة أبيه ؟
*نعم يجوز لأنها من محارمه .
وهل يجوز أن يصافح بنت زوجته ؟
هذا فيه تفصيل فإن كان قد دخل بأمها فيصافحها إن أمن من الفتنة وإلا فلا .
كيف يكون لها بنت ولم يدخل بها ؟
تكون البنت من غيره من شخص سابق ، ويكون قد عقد عليها ولكن لم يدخل بها، لم يجامعها، وحينئذ لا تكون هذه البنت محرما له .
مسائل خاصة
هناك مسألة تقع كثيرا عند بعض النساء وهي أنهن يقمن بالاستعانة بامرأة أخرى تأتي إلي المنزل لغرض قيامها بإزالة الشعر الذي على البدن والفخذين ، فهل يجوز لهذا المرأة أن تنظر إلي فخذ المرأة التي تزيل شعرها ؟ ثم أن هذا العمل هل يعد من الضرورة ؟
هذه الحالة ليست من الضرورة ، لأن شعر الفخذين والساقين في حلها نظر ، ولأن الشعر من خلق الله وتغيير خلق الله في غير ما أذن الله به من وحي الشيطان ، قال تعالى ( ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ) ( النساء : 119 ) والشعر من خلق الله فلا يزال إلا ما فيما شرعت إزالته كالعانة والإبط ، والشارب بالنسبة للرجل ، فهذا يزال ، أما شعر الساقين والفخذين فهذا لا يزال، لكن لو كان الشعر كثيرا في المرأة بحيث يكون ساقها كساق الرجل فلا بأس أن تزيله ، أما الأفخاذ إذا كثر فيهما الشعر فلا تزيله امرأة أخرى بل تزيله صاحبة هذا الشعر ، لأنه لا حاجة إلي الاستعانة بامرأة ثانية ، فهناك الآن وسائل لإزالة الشعر من دهن أو غيره . بمجرد ما يمسح به الشعر يزول ، فيستعمل هذا لكن بشرط أن يراجع في ذلك طبيب .
وجوب ستر الوجه
بالنسبة لمن تفرط في الحجاب من النساء ما هو جزاؤها ؟ وهل تعذب بالنار يوم القيامة ؟(7/468)
* إن كل من عصى الله عز وجل بمعصية لا تكفرها الحسنات فإنه على خطر ، فإن كانت شركا وكفرا مخرجا عن الملة فإن العذاب محقق لمن أشرك وكفر بالله،قال تعالى: ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار)(المائدة 72) . وقال تعالى ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ( النساء 48 ) . وإن كان دون ذلك ـ أي دون الكفر المخرج عن الملة ـ وهو من المعاصي التي لا تكفرها الحسنات فإنه تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له .
والحجاب الذي يجب على المرأة أن تتخذه هو أن تستر جميع بدنها عن غير زوجها ومحارمها، لقوله الله تعالى ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) ( الأحزاب : 59 ) والجلباب هو الملاءة أو الرداء الواسع الذي يشمل جميع البدن ، فأمر الله تعالى نبيه أن يقول لأزواجه وبناته ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن حتى يسترن وجوههن ونحورهن ، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة والنظر الصحيح والاعتبار على أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عن الرجال الأجانب الذين ليسوا من محارمها أو زوجها ، ولا يشك عاقل أنه إذا كان على المرأة أن تستر رأسها وأن تستر رجليها وأن لا تضرب برجليها حتى يعلم ما تخفي من زينتها من الخلخال ونحوه ، وأن هذا واجب ، فأن وجوب ستر الوجه أوجب وأعظم ، وذلك أن الفتنة الحاصلة بكشف الوجه أعظم بكثير من الفتنة الحاصلة بظهور شعرة من شعر رأسها أو ظفر من ظفر رجليها . وإذا تأمل العاقل المؤمن هذه الشريعة وحكمها وأسرارها تبين أنه لا يمكن أن تلزم المرأة بستر الرأس والعنق والذراع والساق والقدم ، ثم تبيح للمرأة أن تخرج كفيها ، وأن تخرج وجهها المملوء جمالا وحسنا ، فإن ذلك خلاف الحكمة .(7/469)
ومن تأمل ما وقع فيه الناس اليوم من التهاون في ستر الوجه الذي أدى أن تتهاون المرأة فيما وراءه حيث تكشف رأسها وعنقها ونحرها وذراعها وتمشي في الأسواق بدون مبالاة في بعض البلاد الإسلامية ، علم بأن الحكمة تقتضي أن على النساء ستر وجوههن ، فعلى المرأة المسلمة أن تتقي الله عز وجل وأن تحتجب الحجاب الواجب الذي لا تكون معه فتنة بتغطية البدن عن غير الأزواج والمحارم .
ذهاب المرأة للطبيب
عندما تضطر المرأة إلي الذهاب للطبيب للفحص عليها فإن ذلك يستلزم أن تظهر شيئا من جسدها ـ فما حكم الشرع من ذلك ؟
إن ذهاب المرأة للطبيب عند عدم وجود طبيبة لا بأس به ، ويجوز أن تكشف للطبيب كل ما يحتاج إليه إلا أنه لا بد أن يكون هناك معها محرم وبدون خلوة من الطبيب بها ، لأن الخلوة محرمة وهذا من باب الحاجة ، وقد ذكر أهل العلم ـ رحمهم الله ـ أنه إنما أبيح مثل هذا لأنه محرم تحريم الوسائل ، وما كان تحريمه بتحريم الوسائل فأنه يجوز عند الحاجة إليه
جواز الخلوة عند الضرورة
من المسائل التي تقع تكشف المرأة أمام الأجانب عند الضرورة مثلا إذا كانت زوجة الجار مريضه وزوجها غائب عنها وليس عندها محارم فما العمل حينذاك ؟
لا شك أن الاختلاط بغير المحارم لا يجوز ، والخلوة أشد وأعظم لكن عند الضرورة تختلف الأحكام ، قال الله تعالى: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) (الأنعام :119 ) . فإذا كانت امرأة جاري مضطرة إلي أن أكلمها وأدخل عليها لنقلها إلي الطبيب وما أشبه ذلك فلا بأس به مع درء الفتنة وذلك إذا كان عنده زوجة يستعين بها حتى تزول الخلوة .
دخول الكفيف على النساء
ما حكم دخول الكفيف على النساء لقصد التعليم في المدارس ؟(7/470)
دخول الرجل الأعمى على النساء للتعليم لا بأس به، لأنه يجوز للمرأة أن تنظر إلي الأعمى ما لم يكن هناك فتنة ، والدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس : ( اعتدى في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده )(1) وأذن لعائشة أن تنظر إلي الحبشة وهم يلعبون في المسجد ، لكن إن حصل من هذا فتنة بكونه يتلذذ بصوت المرأة أو يدنيها إلي جنبه مثلا ، ويمسك على يدها وما أشبه ذلك ، فإنه لا يجوز ، لا من اجل أنه يحرم النظر إلي الرجل الأعمى ولكن من أجل ما اقترن به من الفتنة .
التعليم المختلط لا يجوز
*بالنسبة للتعليم المختلط في بعض الدول الإسلامية يكون الطلاب والطالبات جنبا إلي جنب في مقاعد متراصة وقاعة واحدة فما حكم ذلك ؟
الذي أراه أنه لا يجوز للإنسان رجلا كان أو امرأة أن يدرس بمدارس مختلطة ، لما فيها من الخطر العظيم على عفته ونزاهته وأخلاقه . فإن الإنسان مهما كان من النزاهة والأخلاق والبراءة إذا كان جانبه في كرسي امرأة ولا سيما جميلة ومتبرجة لا يكاد يسلم من الفتنة والشر فإنه حرام ولا يجوز . فنسأل الله سبحانه وتعالى لإخواننا المسلمين أن يعصمهم من مثل هذه الأمور التي لا تعود إلي شبابهم إلا بالشر والفتنة و الفساد .
وإن كان لا يوجد إلا مثل هذه الجامعات المختلطة في البلد فماذا يفعل الطالب ؟
حتى وإن لم يجد إلا مثل هذه الجامعات المختلطة فإنه يترك الدراسة إلي بلد آخر ليس فيه هذا الاختلاط فأنا لا أرى جواز هذا وربما غيري يرى شيئا آخر .
هناك عادة متبعة لدى بعض الناس وهي أن المرأة الأجنبية تصافحهم إذا وضعت على يديها حائل فما حكم ذلك ؟ وهل حكم المرأة التي تكبر في السن مثل حكم الصغيرة في السن ؟(7/471)
لا يجوز للإنسان أن يصافح المرأة الأجنبية التي ليست من محارمه سواء مباشرة أو بحائل ، لأن ذلك من الفتنة ، وقد قال تعالى:(ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) (الإسراء : 32 ) . وهذه الآية تدل على أنه يجب علينا أن ندع كل شي يوصل للزنا سواء كان زنا الفرج وهو الأعظم أو غيره ، و لا ريب أن مس الإنسان ليد المرأة الأجنبية قد يثير الشهوة ،على أن وردت أحاديث فيها تشديد الوعيد على من صافح امرأة ليست من محارمه ، و لا فرق في ذلك بين الشابة والعجوز لأنه كما يقال كل ساقطة لاقطة ثم حد الشابة من العجوز قد تختلف فيه الإفهام ، فيرى أحد أن هذه عجوز ويرى آخر أن هذه شابه .
عمل المرأة مع الرجل
لقد بينتم لنا حدود علاقة الرجل بالمرأة وما يجوز منها وما يحرم .. لكن ماذا عن حكم العلاقة بين الرجل والمرأة في حال العمل ، فهل يجوز أن تعمل في مكان مختلط مع الرجل ؟ لا سيما أن ذلك منتشر بشكل كبير في كثير من البلدان ؟
الذي أراه أنه لا يجوز الاختلاط بين الرجال والنساء بعمل حكومي أو بعمل في قطاع خاص أو في مدارس حكومية أو أهلية ، فإن الاختلاط يحصل فيه مفاسد كثيرة ولو لم يكن فيه إلا زوال الحياء للمرأة وزوال الهيبة من الرجال ، لأنه إذا اختلط الرجال والنساء أصبح لا هيبة عند الرجال ، وهذا أعني ـ الاختلاط بين الرجال والنساء ـ خلاف ما تقتضيه الشريعة الإسلامية ، وخلاف ما كان عليه السلف الصالح . ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للنساء مكانا خاصا إذا خرجن إلي مصلى العيد ، لا يختلطن بالرجال كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خطب في الرجال نزل وذهب للنساء فوعظهن وذكرهن ، وهذا يدل على أنهن لا يسمعن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم أو إن سمعن لم يستوعبن ما سمعن من الرسول صلى الله عليه وسلم .(7/472)
ثم ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها وخير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها) (1)وما ذلك إلا لقرب صفوف النساء من الرجال ، فكان شر الصفوف ، ولبعد آخر صفوف النساء من الرجال فكان خير الصفوف ، وإذا كان هذا في العبادة المشتركة فما بالك بغير العبادة ، ومعلوم أن الإنسان في حال العبادة أبعد ما يكون عما يتعلق بالغريزة الجنسية ، فكيف إذا كان الاختلاط بغير عبادة فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق ، فلا يبعد أن تحصل فتنة وشر كبير في هذا الاختلاط .
والذي أدعو إليه إخواننا أن يبتعدوا عن الاختلاط وأن يعلموا أنه من أضر ما يكون على الرجال كما قال صلى الله عليه وسلم:( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء )(1) فنحن والحمد لله ـ نحن المسلمين ـ لنا ميزة خاصة يجب أن نتميز بها عن غيرنا ، ويجب أن نحمد الله سبحانه وتعالى أن منّ علينا بها ، ويجب أن نعلم أننا متبعون لشرع الله الحكيم الذي يعلم ما يصلح العباد والبلاد ، ويجب أن نعلم أن من نفروا عن صراط الله ـ عز وجل ـ وعن شريعة الله فإنهم في ضلال وأمرهم صائر إلي الفساد ، ولهذا نسمع أن الأمم التي يختلط نساؤها برجالها أنهم الآن يحاولون بقدر الإمكان أن يتخلصوا من هذا ولكن أنى لهم التناوش من مكان بعيد . نسأل الله أن يحمي بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وشر وفتنة .
العمل المباح
ما هي مجالات العمل المباحة للمرأة التي تعمل بها دون أن تخالف دينها ؟(7/473)
المجال العملي للمرأة أن تعمل بما يختص به النساء مثل أن تعمل في تعليم البنات سواء كان ذلك عملا إداريا أو فنيا ، وأن تعمل في بيتها في خياطة ثياب النساء وما أشبه ذلك ، وأما العمل في مجالات تختص بالرجال فإنه لا يجوز لها أن حيث أنه يستلزم الاختلاط بالرجال وهي فتنة عظيمة يجب الحذر منها ، ويجب أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال : (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء )(2). فعلى المرء أن يجنب نفسه وأهله مواقع الفتن وأسبابها بكل حال .
يحرم النظر إلي صورة الفنانات
هناك ظاهرة متفشية بين الشباب وهي اقتناء صور النساء الأجنبيات من فنانات ومطربات وغير ذلك وينظرون إليها باستمتاع ، ويحتجون بحجة واهية وهي أن هذه الصور ليست حقيقية .
هذا تهاون خطير جدا أن الإنسان إذا نظر للمرأة سواء بواسطة وسائل الأعلام المرئية أو بواسطة الصحف أو غير ذلك ، فإنه لابد أن يكون من ذلك فتنة على قلب الرجل تجره إلي أن يتعمد النظر إلي المرأة مباشرة ، وهذا شي مشاهد ، ولقد بلغنا أن من الشباب من يقتني صور النساء الجميلات ليتلذذ بالنظر إليهن أو يتمتع بالنظر إليهن ، وهذا يدل على عظم الفتنة في مشاهدة هذه الصور ، فلا يجوز للإنسان أن يشاهد هذه الصور ، سواء كانت في مجلات أو في صحف أو غيرها ، لأن في ذلك فتنة تضره في دينه ، ويتعلق قلبه بالنظر إلي النساء فيبقى ينظر إليهن مباشرة .
ما هي حدود عورة المرأة للمرأة المسلمة والفاجرة والكافرة ؟(7/474)
عورة المرأة مع المرأة لا تختلف باختلاف الدين ، وعورتها مع المرأة المسلمة كعورتها مع المرأة الكافرة ، وعورتها مع المرأة العفيفة كعورتها مع المرأة الفاجرة ، إلا إذا كان هناك سبب آخر يقتضي وجوب التحفظ أكثر ، لكن يجب أن نعلم أن العورة ليست هي مقياس اللباس ، فإن اللباس يجب أن يكون ساترا وإن كانت العورة ـ أعني عورة المرأة ـ بالنسبة للمرأة ما بين السرة والركبة ، لكن اللباس شي والعورة شي آخر ، ولو فرض أن امرأة كانت لابسة لباس حشمة وظهر صدرها أو ثديها لعارض أمام امرأة أخرى وهي قد لبست هذا اللباس الساتر الشامل ، فإن هذا لا بأس به . أما أن تتخذ لباسا قصير من السرة إلي الركبة بحجة أن عورة المرأة للمرأة من السرة إلي الركبة فإن هذا لا يجوز ، ولا يظن أن أحدا يقول به .
هل يجوز للمرأة أن تخرج ثديها عند النساء لإرضاع طفلها ؟
تفهم الإجابة مما سبق .
ما حكم المكياج للنساء أو للتزين به لزوجها ؟
كل ما تتزين به المرأة من هذه الزينات لا بأس به إذا كان لا يضرها ، لأن الأصل الحل فلا يحرم إلا ما قام الدليل على تحريمه ، ولكني سمعت أن هذه المساحيق ( المكياج ) تؤثر على بشرة المرأة وأنها تغيره في وقت قصير ، وهذا هو الظاهر ، لأن العادة أن ردود الفعل كما يقولون تكون في الأمور الحسية كما تكون في الأمور المعنوية ، فإذا ثبت ثبوتا لا مرية فيه انه لا ضرر على المرأة في استعماله فإنه لا بأس به ، لأن ذلك مما يجلب رغبة الزوج إلي زوجته ويحببها إليه لا سيما إذا كان الزوج ممن يهتم بمثل هذه الأمور لأن الأزواج يختلفون ، فقد يكون بعضهم لا يهمه أن تتجمل المرأة بهذه المجملات ، وقد يكون بعضهم مشغوفا بهذه المجملات . أما بالنسبة لتزين النساء فيما بينهن أثناء الزيارات فليس به بأس إذا كان في الحدود الشرعية المباحة .
غير المتزوجة هل يجوز لها أن تضع المكياج وتظهر للنساء ؟(7/475)
غير المتزوجة على قاعدة أهل العلم أنه لا ينبغي عليها أن تتجمل ، لأنها غير مطالبة بهذا ، فالذي أرى أن تتجنبه غير المتزوجة . أما المتزوجة فقد سبق بيان حكمها .
ما حكم التطيب للنساء إذا أتينها في البيت ؟
إذا تطيبت النساء في البيوت فإنهن يخرجن للأسواق وتظهر رائحة الطيب عليهن ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء ) (1) وهذا يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج وهي متطيبة ، نعم لو كان هؤلاء النساء سوف يركبن السيارة عند الباب ولا يتعرضن لأحد أجنبي فهذا لا بأس به .
ما حكم الملابس النسائية من تصميم الكفار لغير قصد التشبه وهي ساترة ؟
كلمة قصد التشبه غير واردة ، لأنه إذا حصل التشبه حصل المحذور وثبت حكمه سواء بقصد أو بغير قصد ، فإذا كانت هذه الألبسة مما يختص بالكفار ولا يلبسها غيرهم فإنه لا يجوز للمسلم أن يلبسها ، أما إذا كانت الألبسة شائعة بين المسلمين وغير المسلمين لكنه غي ر موجودة في بلادنا مثلا فلا بأس بلبسها إذا لم يكن ذلك شهرة ، فإن كان شهرة فهو حرام .
ما حكم الملابس الضيق والقصيرة التي تبدي الساقين أمام المحارم والنساء ؟
كم قلت سابقا إن اللباس يجب أن يكون ساترا شاملا ، وليس أن يقتصر على العورة ، وعلى هذا يجب على النساء أن يلبسن ثيابا طويلة ساترة حتى وإن كان ساقها يجوز أن يبدو للمرأة التي مثلها ولمحارمها ، لأنه يجب علينا ولاسيما في عصرنا هذا أن نحتاط لهذه الأمور احتياطا بالغا ، وأن نمنع ما يخشى منه التدرج إلي مشابهة الكفار بألبستهم .
ما حكم قص الشعر للشابة للتزيين ؟(7/476)
* إذا كان قص الشعر إلي درجة تكون مشابهة للرجل فهذا حرام ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال ، وكذلك لو كان قصه على صفة مشابهة لنساء الكفار فإنه حرام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(من تشبه بقوم فهو منهم ) (2). أما إذا كان على غير هذين الوجهين فإن المشهور من مذهب الحنابلة أن هذا مكروه ، وهذا القول وإن كان ليس له دليل بين فإن الأخذ به جيد ، لئلا تتدرج المرأة من المباح للممتنع ومن المكروه للمحرم ، فالقول بالكراهة هنا حذرا من الوقوع في المحرم قول جيد .
يقال أنكم ذكرتم في شرح ( بلوغ المرام ) عند مسح الرجل رأسه في الوضوء بأن يمسح الرجل رأسه من الأمام إلي الخلف ، ثم من الخلف إلي الأمام حتى يصل الماء إلي باطن الرأس هل هذا صحيح ؟
وهل هذا يشمل النساء علما بأن المرأة قد يصعب عليها ذلك لكثرة وطول شعرها ؟
نعم بالنسبة لكونه يبدأ من مقدم الرأس إلي مؤخره ، ثم يرجع إلي مقدم الرأس هذا صحيح وقد ثبتت به السنة . وأما حتى يصل الماء إلي باطن الرأس فهذا كذب وليس بصحيح، ولا يمكن أن يصل الماء إلي باطن الشعر بالمسح ، لأن المسح معناه أن يبل يده بالماء ثم بها رأسه ، وهذا لا يتأتى منه ماء يصل إلي باطن الشعر ، اللهم إلا أن يكون عقب الحلق .
* وأما هل يشمل النساء هذا ؟
نعم لأن الأصل في الأحكام الشرعية أن ما يثبت في حق الرجال يثبت في حق النساء ، وأن ما يثبت في حق النساء ثبت في حق الرجال إلا بدليل ، ولا أعلم دليلا يحص المرأة في هذا . وعلى هذا أن تمسح من مقدم الرأس إلي مؤخره وإن كان شعرا طويلا فلن يتأثر بذلك ، لأنه ليس المعنى أن تضغط بقوة على الشعر حتى يتبلل أو يصعد إلي قمة الرأس إنما هو مسح بهدوء .
سجدة التلاوة للنساء هل تكون على هيئة حجابها في الصلاة ؟(7/477)
هذا ينبني على اختلاف العلماء في سجدة التلاوة هل هي حكمها حكم الصلاة ، فلا بد من ستر العورة واستقبال القبلة والطهارة ، وإن قلنا أنه سجدة مجردة ولا يشترط فيه ما يشترط في الصلاة فإنه لا يشترط فيها في هذه الحال أن تكون المرأة متحجبة حجاب الصلاة بل ولا أن يكون الإنسان على وضوء ، ولكن لا شك أن الأحوط الأخذ بالقول الأول ، وأن لا يسجد الإنسان إلا على وضوء ، وأن تكون المرأة والرجل أيضا ساترا ما يجب ستره في الصلاة .
هل تقطع المرأة صلاة المرأة إذا مرت بين يديها ؟
نعم تقطع ، لأنه لا فرق في الأحكام بين الرجال والنساء إلا بدليل ، ولكن إذا مرت من وراء سترتها إن كان لها سترة ، أو من وراء سجادتها أن كانت تصلي على سجادة ، أو من وراء موضع سجودها أن لم يكن له سترة ولا سجادة ، فإن ذلك لا يضر ولا يؤثر .
وإن كان في التحرز من ذلك مشقة لاسيما في الحرمين ؟
والحديث لم يستثن شيئا وليس في هذا مشقة ، لأن في الإمكان أن تمنع والناس سوف يمتنعون ، وإذا لم يكن يتيسر ذلك فأجل النافلة إلي وقت يكون فيه المكان غير مزدحم ، أو تقدم إلي مكان آخر خاليا ، أو إذا كانت نافلة اجعلها في البيت ، فإن النافلة في البيت أفضل من النافلة في المسجد سواء المسجد الحرام أو في النبوي أو في غيرهما من المساجد ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال وهو في المدينة ( أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) (1) وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتطوع في بيته .
ما حكم لبس المرأة اللون الأبيض ليلة زفافها إذا علم هذا تشبه بالكفار ؟(7/478)
المرأة يجوز لها أن تلبس اللون الأبيض بشرط أن لا يكون على تفصيل ثياب الرجل . وأما كونه تشبها بالكفار فقد زال هذا التشبه لكون كل المسلمين إذا أرادت النساء الزواج يلبسنه ، والحكم يدور في علته وجودا وعدما . فإذا زال التشبه وصار هذا شاملا للمسلمين والكفار زال الحكم إلا أن يكون الشي محرما لذاته لا للتشبه ، فهذا يحرم على كل حال .
امرأة يطلب منها زوجها في بعض ليالي رمضان صنع الطعام لضيوفه ، وهي عندما تقوم بذلك تحس بإرهاق شديد ولا تتمكن من القيام تلك الليلة ، فهل يجب عليها طاعته في ذلك لو استمر الحال على ذلك أكثر ليالي رمضان ؟
الواجب أن تعاشر المرأة زوجها بالمعروف ، وعلى الرجل أن يعاشر زوجته بالمعروف ، قال تعالى ( وعاشروهن بالمعروف ) ( النساء : 19 ) وليس من المعروف أن يرهق الرجل زوجته في خدمته في مثل هذا الوقت ، وعلى تلك الحال ، ولمن إن صمم فاللائق بالمرأة أن تطيعه . وإذا تعبت عن القيام وشق عليها فإن الله تعالى يكتب لها ما كانت تنويه وتريده ، لأنها إنما تركت ذلك لعذر لتقوم بما يجب عليها من طاعة الزوج فيما يلزم طاعته .
فتاوى الزواج
ليس ثمة شك في أن الزواج يعني إضافة لبنة جديدة من لبنات المجتمع المسلم ، ودعامة جديدة من دعائمه ، ومن هنا كانت الأهمية والعناية التي تحوطه . فبناء الأجيال والأمم إنما يرتكز وينطلق من هذه اللبنة ، وأن المنطلقات إذا هي سلمت من الغبش والرتوش أضحت المسيرة سليمة من كل العراقيل والقيود التي قد تحول دون إكمال مهمتها .
وبالزواج يكون المسلم قد بدأ حياة جديدة . لكن يجب أن تكون هذه الحياة مدعومة بالفهم الصحيح . والإدراك العميق لكل متطلبات الحياة الزوجية .(7/479)
ونحن نمر بفترة الإجازة الصيفية حيث تكثر حفلات الزواج نجد أنه من المناسب أن نلتقي بأحد أعلام الأمة البارزين ليحدد لنا النهج القويم والسياسة الشرعية الثابتة التي خطها ديننا الحنيف لكي نتبع خطاها ونسترشد برؤاها حتى نسلم من الوقوع في المحذور والزلل .
فلقاؤنا كان مع فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ليوضح لنا بعض المعالم النيرة حول قضايا الزواج وما يجب على الزوجين الالتزام به قبل وبعد وفي أثناء زواجهما . وبعض المحاذير التي تقع في الزواج ، وإسداء النصائح والتوجيهات القيمة التي تنفع الأمة في دينها ودنياها .
فإلي المحاورة التالية :
فضيلة الشيخ : تعلمون حفظكم الله أن الزواج تلبية مأمون لحاجة غريزية بين الرجل والمرأة التي إن توفرت حصلت العفة ، وإن لم تتوفر حصلت الخيانة التي فيها دمار الأمة ، فما هي نصيحتكم لمن أراد الزواج ؟ وماذا يفعلان الزوج والزوجة في ليلة الزواج ؟
نصيحتي لمن أراد الزواج أن يختار من النساء من أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بتزوجها حيث قال ( تزوجوا الودود الولود ) (1)وقال ( تنكح المرأة لمالها ، وحسبها ، وجمالها ، ودينها ، فأظفر بذات الدين ) (2)وأن تختار المرأة من كان ذا خلق ودين ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ) (3)وأن تتحرى غاية التحري ولا تتعجل بقبول الخطبة حتى تبحث عن حال الخاطب لئلا تندم على تسرعها .
ومما ينبغي العناية به ليلة الدخول على المرأة أن يدخل الزوج عليها مستبشرا متهللا لأجل إيناسها ، لأنها في تلك الساعة سيكون عندها رهبة ؛ وهيبة وخوف ، ويأخذ بناصيتها ويدعو بالدعاء المعروف ( اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه ، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه ) (1)يقول ذلك جهرا إلا أن يخاف أن تتروع المرأة وتشمئز ، فإذا خاف ذلك فيكفي أن يضع يده على ناصيتها ويدعو بهذا الدعاء سرا(7/480)
وعند إتيان الإنسان أهله يقول ما حث عليه الرسول عليه السلام ( لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله ، جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فأنه أن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا ) (2) .
فهذا من أسباب صلاح الأولاد وهو سهل ويسير ، كذلك مما ينبغي بل يتعين فهمه ومعرفته أنه إذا حصل الجماع وجب الغسل على الطرفين وإن لم يحصل إنزال ، وبعض الناس يظن أن الغسل لا يجب إلا بالإنزال ، وهذا ظن خاطي ، فالغسل واجب إذا جامع وإن لم ينزل ، لقول النبي(إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل وإن لم ينزل ) (3) وعلى هذا فيجب الغسل بأحد أمرين إما بالإنزال وإما بالجماع ، فالإنزال إذا حصل سواء بتقبيل أو ضم أو نظر لشهوة أو محادثة أو أي سبب وجب الغسل ، وإذا حصل جماع وجب الغسل وإن لم ينزل .
ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الأزواج هداهم الله لا يهتمون بصلاة الفجر صباح الزواج إما أنهم يصلونها في آخر الوقت وليس مع الجماعة ، وإما أنهم لا يصلونها إلا إذا طلعت الشمس ، وهذا من العادات المنكرة المنافية لشكر نعمة الله تعالى ، لأن شكر نعمة الله أن تقوم بطاعته .
*وماذا تقولون ـ حفظكم الله ـ في المقولة الشائعة التي يرددها بعض الناس أن الزوج إذا خرج لصلاة الفجر مع الجماعة في المسجد فهذا يدل على عدم رغبته في زوجته ، ولو رغب ما خرج من عندها طيلة ذلك اليوم ؟
أقول : إنها مقولة فاسدة ، بل إذا صلى الفجر فهذا دليل على رغبته فيها ، وأن شكر نعمة الله عز وجل على ما يسره له من النكاح ، فالواجب أن يصلي الزوج صلاة الفجر مع الجماعة لا أن يدع صلاة الجماعة بدون عذر شرعي .
حفظكم الله : ما رأيكم في قول بعض العلماء : ( يعذر بترك الجماعة من ينتظر زف المرأة إليه )
رأينا : أن أقوال العلماء يكون فيها الخطأ ويكون فيها الصواب ، والواجب الرجوع إلي الكتاب والسنة .(7/481)
ثانيا : أن الذين قالوا هذا من العلماء إنما يتحدثون عن أمر كانوا عليه ، وهو أن الرجل هو الذي يستقبل الزوجة وليست الزوجة هي التي تستقبل الرجل ، فيكون الرجل في بيته وتزف إليه امرأته ، وهذا يعذر بترك الجماعة ، لأنه لو ذهب وصلى الجماعة لكان قلبه مشغولا ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا صلاة بحضرة طعام ) (4)وكان بن عمر رضى الله عنهما يسمع الإمام يقرأ وهو يتعشى لا يقوم للصلاة حتى يكمل ، فإذا كان الرجل يعذر بترك الجماعة في هذه الحال فالذي ينتظر زف الزوجة إليه أشد شغلا والعذر واضح ، لكن عادة الناس اليوم على خلاف ذلك عندنا فالزوج يأتي إلي الزوجة في مكانها ، والأمر بيده فلا يعذر بترك الجماعة .
فضيلة الشيخ : أشتهر لدى كثير من الناس أن الرجل إذا دخل على زوجته يصلي أمامها ركعتين ، وهي كذلك تصلي معه ، حتى أن بعضهم فور دخوله عليها أن يشرع بصلاته حتى قبل الحديث معها .. فهل هذا من السنة ؟
في هذا آثار عن بعض الصحابة رضى الله عنهم أن الرجل إذا دخل على زوجته أول ما يدخل يصلي بها ركعتين ، أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح في ذلك شي ، والذي يفعل ذلك أرجو ألا يكون عليه حرج وإن تركه فلا حرج عليه .
تعلمون ـ حفظكم الله ـ أن النساء ناقصات عقل ودين ، وهنا تعرض مسألة وهي أن المرأة إذا اختارت رجلا غير صالح ، وكان الرجل الذي اختاره والدها رجلا صالحا ، فهل يؤخذ برأيها أم تجبر على من أن أراد والدها ؟
أما جبرها على من أراد والدها فإنه لا يجوز حتى وإن كان صالحا ، لقول النبي ( لا تنكح البكر حتى تستأذن ، ولا تنكح الأيم حتى تستأمر ) وفي لفظ المسلم : ( والبكر يستأذنها أبوها في نفسها ) (1) وأما تزوجيها بمن لا يرضى دينه ولا خلقه فلا يجوز أيضا ، وعلى وليها أن يمنعها وأن يقول لا أزوجك من هذا الرجل الذي تريدينه إذا كان غير صالح .
فإن قال قائل : لو أصرت المرأة على أن لا تتزوج إلا هذا الرجل .(7/482)
فالجواب : أنا لا نزوجها به و ليس علينا من إثمها شي ، نعم لو أن الإنسان خاف مفسدة وهو أن يحصل بينها وبين هذا الخاطب فتنة تنافي العفة ، وليس في الرجل شي يمنع من تزويجها به شرعا ، فهنا نزوجها به درءاً المفسدة .
فضيلة الشيخ : ماذا تقولون في بعض الآباء الذين يأخذون المهر كاملا ولا يعطون البنت منه شيئا إلا النزر اليسير ، مع العلم أن بعض المهور قد تصل إلي مائة وخمسون ألف ريال ثم من أدرك أن هذا المهر الذي أخذه قهرا وبدون رضا ابنته ماذا يفعل بعد مضي مدة طويلة على الزواج .
في هذا السؤال أمران مهمان :
الأول : هل يجوز لولى المرأة أن يشترط لنفسه أو لغيره شيئا من المهر سواء كان الأب أم غيره ؟
الجواب:لا يجوز ذلك ، لأن الصداق كله للمرأة لقوله تعالى(وآتوا النساء صداقهن نحلة ) (النساء : 4) ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها ، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه ) (2) ولا فرق بين الأب وغيره في ذلك على القول الراجح إلا أنها إذا قبضته وتم ملكها له فللأب وحده أن يتملك منه ما شاء ما لم يضرها . أما بقية الأولياء فليس لهم حق التملك لكن إن أعطتهم الزوجة شيئا بسخاء وطيب نفس فهو لها حلال .(7/483)
الأمر الثاني : أن بعض المهور قد يصل إلي مبالغ خيالية وهذا خلاف السنة .ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :( إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( على كم تزوجتها ؟ ) قال : على أربع أواق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ) (3) وأربع الأواق مائة وستون درهما أي أقل من نصاب الزكاة ، والمغالاة في المهور سبب لنزع البركة من النكاح ، فإن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة . ومتى حصلت المغالاة أصاب الزوج هم وغم لكثرة ما أنفق خصوصا إذا كان مدينا بذلك ، فكلما ورد على قلبه السرور بزوجته ثم تذكر ديونه التي عليه انقلب سروره حزنا وسعادته شقاء .
ثم لو قدر الله تعالى أن لا يتلاءم مع زوجته لم يسهل عليه فراقها ، وبقيت معه في عناء وشقاء ، وبقيت معلقة لا زوجة و لا مطلقة . وإذا قدر أن تطلب الزواج منه الفسخ لم يسمح غالبا إلا برد مهره عليه ، فإذا كان كثيرا صعب على المرأة وأهلها الحصول عليه ألا بمشقة شديدة .لذلك ننصح إخواننا المسلمين من المغالاة في المهور والتفاخر بها حتى يسهل الزواج للشباب ، وتقل أسباب الفتن والله المستعان .
فضيلة الشيخ : من الأمور التي نود من فضيلتكم التنبيه إليها البطاقات التي يدعى بها الناس لحضور وليمة الزواج حيث يصل بعض أسعارها إلي سبعة ريالات ، فهل من تحذير منها خصوصا مع وجود البديل النافع مثل كتابة الدعوة على ظهر رسالة علمية ، كذلك غلاف شريط إسلامي ، أيضا استعمال ورقة مصورة بالألوان مكتوبة بخط جميل بالكمبيوتر لا تكلف شيئا يذكر ، فهل من دعوة للحد من هذا الإسراف ؟(7/484)
إني أحث إخواني إلي ترك هذا الإسراف ، وأرى أن بذل المال الكثير لمجرد دعوة قد يجيب المدعو بها وقد لا يجيب ومآلها إلي رميها في الأرض فأقول : إن هذا من التبذير الواضح الذي نهى الله فقال ( و لا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) (الإسراء : 26- 27) . وأما فكرة أن تكون الدعوة في بطاقة ويكون في ظهرها كلمات مأثورة موجهة ونافعة فهذا طيب ، وليت هذا يفعل لكن تكون أوراقا عادية . والاقتراح الثاني أيضا أن يكون بصحبة البطاقة أشرطة مفيدة فهذا أيضا طيب وقد وقع هذا في بعض الدعوات رأينا كثيرا من الدعوات التي يعطى فيها أشرطة ، وهذا خير ونعين عليه أيضا بقدر ما نستطيع ، فلو أن الناس فعلوا ذلك لكانت هذه دعوة إلي الوليمة ودعوة إلي الشريعة فنجمع بين الحسنيين . وأما الثالث كون الدعوة أوراق مصورة فهذا أيضا طيب لا يكلف كثيرا وينفع .
فضيلة الشيخ : نسمع عن المبيت الواجب للزوجة فهل المقصود به الفراش أم الغرفة أم بالمنزل ؟
هذا يختلف باختلاف العادات، لأن الله تعالى قال:(عاشروهن بالمعروف)(النساء: 19) لكن قول الله تبارك وتعالى: (والتي تخافون نشوزهن فعظوهن اهجروهن في المضاجع ) ( النساء : 34 ) يدل على أن تمام العشرة أن يكون الرجل مع زوجته في فراش واحد ، وهكذا كان هدى النبي صلى الله عليه وسلم لكن لا بأس أحيانا أن ينام على سرير وحده ، وإلا فالأصل أن يكون الرجل مع زوجته في فراش واحد .
هل عدة الزوجة تثبت بالخلوة أم بالجماع ؟ وهل إذا طلقها يسترجع المهر ؟(7/485)
أما الآية الكريمة ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) (الأحزاب :49 ) فهذا يعني الجماع لكن الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم قالوا : ( إن الرجل إذا خلا بزوجته ثم طلقها قبل أن يجامعها وجبت عليها العدة . والخلفاء الراشون لهم سنة متبعة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا إذا فارقها في الحياة بطلاق أو غيره ، أما إن مات عنها فإن عليه العدة والإحداد و إن كان قبل الدخول والخلوة ، لعموم قوله تعالى : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) ( البقرة : 234) . وأما المهر فإن طلقها قبل الدخول والخلوة فله أن يسترجع نصفه فقط ، وإن طلقها بعد الدخول أو الخلوة لم يسترجع منه شي . وإن مات عنه فلها المهر كاملا ، ولا حق للورثة فيه سواء كان موته قبل الدخول والخلوة أم بعدها .
في بعض حفلات الزواج تقوم بعض النساء بتوزيع بعض الأشرطة والكتيبات التي تحمل في مادتها المواعظ فهل هذا مشروع ؟
هذا ليس مشروعا في حد ذاته لكنه محمود لغيره ، لأنه ربما لا يحصل اجتماع النساء في غير هذه المناسبة ، فتفريق الأشرطة والكتيبات عليهن في هذا الاجتماع حسن ومن وسائل الدعوة إلي الله عز وجل . لكن يجب أن تكون هذه الأشرطة والكتيبات صادرة عن علماء موثقين في العلم والدين والمنهج .
فضيلة الشيخ : ما رأي فضيلتكم في إلقاء بعض المواعظ في مناسبات الزفاف ؟
المواعظ في مثل هذه الحال لا أعلمه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن لو طلب من الإنسان العالم الذي يصغي الناس إلي حديثه ولا يستثقلونه في مثل هذا الاجتماع فالتحدث إليهم حينئذ بالموعظة والأحكام التي يحتاجونها حسن ولكن لا يطول عليهم .وإذا رأى هو منكرا بنفسه فأنه يجب عيه أن يقوم ويعظ الناس ويحذرهم من هذا المنكر ، وكذلك إذا وجه إليه سؤال عن مسألة من المسائل فتكلم فيها واستطرد فهذا حسن لا باس به إن شاء الله .(7/486)
فضيلة الشيخ : ما رأي فضيلتكم فيما تفعله النساء من القيام بنشيد الزفاف ، وهل هذا من العورة ؟
الصوت المجرد ليس بعورة ، ولكن من المعلوم أنه إذا ارتفعت أصواتهن بهذه المناسبة ولا سيما إن كانت أصواتا جميلة لذيذة على السمع والناس في نشوة العرس ، فإن هذا فيه من الفتنة العظيمة ، فكون الأصوات لا تخرج من بينهن أولى وأبعد عن الفتنة ، وأما ما يفعل بعض الناس اليوم بمكبرات الصوت على شرفات المبنى فيؤذي الناس بسماع الأصوات ويقلقهم فهذا منكر ينهى عنه . والحاصل : أن قيام النساء بالنشيد المناسب في هذه الحال لا بأس به إذا لم يكن معه عزف محرم .
فضيلة الشيخ : هل يجوز للنساء أن يرقصن في حفلات الزفاف لا سيما أنهن أمام النساء فقط ؟
الرقص مكروه ، وكنت في أول الأمر أتساهل فيه ولكن سئلت عدة أسئلة عن حوادث تقع في حال رقص المرأة ، فرأيت أن المنع منه ، لأن بعض الفتيات تكون رشيقة و جميلة ورقصها يفتن النساء بها حتى أنه بلغني أن بعض النساء إذا حصل مثل هذا تقوم تقبل المرأة التي ترقص وربما تضمها إلي صدرها ، ويحصل في هذا فتنة ظاهرة .
فضيلة الشيخ : ما رأيكم في لبس دبلة الخطوبة؟
دبلة الخطوبة عبارة عن خاتم ، والخاتم في الأصل ليس فيه شي إلا أن يصحبه اعتقاد كما يفعله بعض الناس ، يكتب اسمه في الخاتم الذي يعطيه مخطوبته ، وتكتب اسمها في الخاتم الذي تعطيه إياه ، زعما منهما أن ذلك يوجب الارتباط بين الزوجين ، ففي هذا الحال تكون هذه الدبلة محرمة ، لأنها تعلق بما لا أصل له شرعا ولا حسا ، كذلك أيضا لا يجوز في هذا الخاتم أن يتولى الخاطب إلباس مخطوبته ، لأنها لم تكن له زوجة بعد ، فهي أجنبية عنه إذ لا تكون زوجة إلا بالعقد .(7/487)
فضيلة الشيخ : نعلم أن كشف المرأة لوجهها أمام الأجانب لا يجوز ، لكن ما هو جوابكم ـ حفظكم الله ـ على حديث العروسة التي قدمت لخطيبها مشروبا كاشفة عن وجهها بحضور النبي صلى الله عليه وسلم مع العلم بأن الحديث في صحيح مسلم ؟
هذا الحديث وأمثاله مما ظاهره أن نساء الصحابة رضى الله عنهن يكشفن وجوههن ينزل على ما قبل الحجاب ، لأن الآيات الدالة على وجوب الحجاب للمرأة كانت متأخرة في السنة السادسة للهجرة ، وكان النساء قبل ذلك لا يجب عليهن ستر وجوههن وأيديهن ، فكل النصوص التي ظاهرها جواز الكشف عند الأجانب محمولة على ما قبل نزول الحجاب .
ولكن قد ترد أحاديث فيها ما يدل على أنها بعد الحجاب ، فهذه هي التي تحتاج إلي جواب مثل : حديث المرأة الخثعمية التي جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم وكان الفضل بن العباس رديفا له في حجة الوداع ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلي الشق الآخر(1) ، فقد استدل بهذا من يرى أن المرأة يجوز لها كشف الوجه ، وهذا الحديث بلا شك من الأحاديث المتشابهة التي فيها احتمال الجواز واحتمال عدم الجواز . أما احتمال الجواز فظاهر ، وأما احتمال عدم الدلالة على الجواز فإننا نقول : هذه المرأة محرمة ، والمشروع في حق المحرمة أن يكون وجهها مكشوفا ، و لا نعلم أن أحد من الناس يرى إليها سوى النبي صلى الله عليه وسلم والفضل بن العباس ، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الحافظ بن حجر رحمه الله ـ ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز له من النظر إلي المرأة أو الخلوة بها ما لا يجوز لغيره . كما جاز له أن يتزوج المرأة بدون مهر ، وبدون ولي ، وأن يتزوج أكثر من أربع ، والله عز وجل ، قد فسح له بعض الشي في هذه الأمور ، لأنه أكمل الناس عفة ، ولا يمكن أن يرد على النبي صلى الله عليه وسلم ما يرد على غيره من الناس من احتمال ما لاينبغي أن يكون في حق ذوي المروءة .(7/488)
وعلى هذا فأن القاعدة عند أهل العلم أنه إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال ، فيكون هذا الحديث من المتشابه ، والواجب علينا في النصوص المتشابهة أن نردها إلي النصوص المحكمة الدالة دلالة واضحة على أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها عند غير الزوج و المحارم ، وأن كشف المرأة وجهها من أسباب الفتنة والشر ، والأمر كما تعلمون ظاهر الآن في البلاد التي رخص لهن بكشف الوجوه ، فهل اقتصرت النساء على الوجه ؟ الجواب لا ، بل كشفن الوجه والرأس والرقبة والنحر والذراع و الساق والصدر أحيانا ، وعجز هؤلاء أن يمنعوا نساءهم مما يعترفون بأنه منكر ومحرم ، وإذا فتح باب الشر للناس فثق أنك إذا فتحت مصراعا فسوف يكون أبوابا كثيرة ، وإذا فتحت مصراعا فسوف أدنى شي فسيتسع حتى لا يستطيع الراقع أن يرقعه ، فالنصوص الشرعية والمعقولات العقلية كله تدل على وجوب ستر المرأة وجهها .
وإني لأعجب من قوم يقولون : إنه يجب على المرأة أن تستر قدمها ، ويجوز لها أن تكشف كفيها ، فأيهما أولى بالستر ؟ أليس الكفان لأن رقة الكف وحسن أصابع المرأة وأناملها في اليدين أشد جاذبية من ذلك في الرجلين .
وأعجب أيضا من قوم يقولون : إنه يجب على المرأة أن تستر قدميها ، ويجوز لها أن تكشف عن وجهها ، فأيهما أولى بالستر؟هل من المعقول أن نقول:إن الشريعة الإسلامية الكاملة التي جاءت من لدن حكيم خبير توجب على المرأة أن تستر القدم ، وتبيح لها أن تكشف الوجه ؟
الجواب : أبدا هذا خلاف الحكمة ، لأن تعلق الرجال بالوجوه أكثر بكثير من تعلقهم بالأقدام ، وما أظن أحدا يقول للخطيب الذي أوصاه أن يخطب له امرأة : يا أخي ، ابحث عن قدميها أهي جميلة أو غير جميلة ، ويترك الوجه فهذا مستحيل ، بل أول ما يوصيه به هو البحث عن الوجه فهذا مستحيل ، بل أول ما يوصيه به هو البحث عن الوجه ، كيف الشفتان ، كيف العينان؟وهكذا أما أن يبحث عن القدم ويدع الوجه، فهذا مستحيل، فإذن محل الفتنة هو الوجه .(7/489)
وكلمة ( عورة ) لا تعني أنه كالفرج يستحي من إخراجه أو من كشفه ، وإنما المعني أنه يجب أن يستر ، لأنع يعور المرأة بالفتنة بالتعلق بها .
وإني لأعجب من قوم يقولون : إنه لا يجوز للمرأة أن تخرج ثلاث شعرات أو أقل من شعر رأسها ، ثم يقولون : يجوز أن تخرج الحواجب الرقيقة الجميلة والأهداب الظليلة السوداء ولا مانع من إظهارها ؟ ثم ليس الأمر يقتصر على إخراج هذا الجمال وهذه الزينة ، بل في الوقت الحاضر يجمل بشتى أنواع المكياج من أحمر وغيره .
أنا أعتقد أن أي انسان يعرف مواضع الفتن ورغبات الرجال لا يمكنه إطلاقا أن يبيح كشف الوجه مع وجوب ستر القدمين ، وينسب ذلك إلي شريعة هي أكمل الشرائع وأحكمها .
ولهذا رأيت لبعض المتأخرين القول بأن علماء المسلمين اتفقوا على وجوب ستر الوجه لعظم الفتنة ، كما ذكره صاحب نيل الأوطار عن ابن رسلان قال : لأن الناس عندهم الآن عندهم ضعف إيمان ، والنساء عند كثير منهم عدم العفاف ، فكان الواجب أن يستر هذا الوجه حتى لو قلنا بإباحته ، فإن حال المسلمين اليوم تقتضي القول بوجوب ستره ، لأن المباح إذا كان وسيلة إلي محرم صار محرما تحريم الوسائل .
وإني لأعجب أيضا من دعاة السفور بأقلامهم وما يدعون إليه اليوم وكأنه أمر واجب تركه الناس ، فكيف نسوغ لأنفسنا أن ندعو إليه ونحن نرى عواقبه الوخيمة ؟
والإنسان يجب عليه أن يتقي الله قبل أن يتكلم بما يقتضيه النظر ، وهذه من المسائل التي تفوت كثيرا من طلبة العلم ، يكون عند الإنسان علم نظري ، ويحكم بما يقتضيه هذا العلم النظري دون أن يراعي أحوال الناس ونتائج القول .(7/490)
وكان عمر رضى الله عنه أحيانا يمنع شي أباحه الشارع جلبا للمصلحة ، وكان الطلاق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاثة واحدة ، أي أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بكلمة واحدة جعلوا ذلك واحدة ، أو بكلمات متعاقبات على ما اختار شيخ الإسلام ابن تميمة وهو الراجح ، فإن هذا الطلاق يعتبر واحدة ، ولكن لما كثر هذا في الناس ، قال أمير المؤمنين عمر : إن الناس قد تعجلوا في أمر كانت فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم ، ومنعهم من مراجعة الزوجات لأنهم تعجلوا هذا الأمر وتعجله حرام .
أقول : حتى لو قلنا بإباحة كشف الوجه ، فأن الأمانة العلمية والرعاية المبنية على الأمانة تقتضي ألا نقول بجوازه في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن ، وأن نمنعه من باب تحريم الوسائل ، مع أن الذي يتبين من الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن كشف الوجه محرم بالدليل الشرعي والدليل النظري ،وأن التحريم كشفه أولى من تحريم كشف القدم أو الساق أو نحو ذلك .
فضيلة الشيخ:ما رأي فضيلتكم فيمن تزوج من امرأة ثم أرغمه والده على تطليقها ، هل يستمسك بها فيعق أباه أم يطلقها دون أن تقترف ذنبا ؟
إذا طلب الوالد من ولده أن يطلق زوجته فلا يخلو من حالين :
الحالة الأولى : أن يبين الوالد سببا شرعيا يقتضي طلاقها وفراقها ، مثل أن يقول : طلق زوجتك ، لأنها مريبة في سلوكها ، كأن تغازل الرجال ، أو تخرج إلي مجتمعات غير نزيهة، وما أشبه ذلك ، ففي هذه الحال يجيب والده ويطلقها ، لأنه لم يقل طلقها لهوى في نفسه ، ولكن حماية لفراش ابنه من أن يكون فراشه متدنسا هذا الدنس .(7/491)
الحالة الثانية : أن يقول الوالد للولد : طلق زوجتك لأن الابن يحبها ، فيغار الأب على محبة ولده لها والأم أكثر غيرة ، فكثير من الأمهات إذا رأت الولد يحب زوجته غارت جدا ، حتى تكون زوجة ابنها كأنها ضرة لها ـ نسأل الله العافية ـ ففي هذه الحال لا يلزم الابن أن يطلق زوجته إذا أمره أبوه بطلاقها أو أمه ، ولكن يداريها ويبقي الزوجة ، ويتألفهما ويقنعهما بالكلام اللين حتى يقتنعا ببقائها عنده ، ولا سيما إذا كانت الزوجة مستقيمة في دينها وخلقها .
وقد سئل الإمام احمد ـ رحمه الله ـ عن هذه المسألة بعينها ، فجاءه رجل فقال : إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي ؟ فقال له الإمام احمد : لا تطلقها . قال : أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ابن عمر أن يطلق زوجته حين أمره عمر بذلك ؟ قال : وهل أبوك مثل عمر أو كلمة نحوها ؟
ولو احتج الأب على ابنه فقال:يا بني، إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمر أن يطلق زوجته لما أمره أبوه عمر بطلاقها، فيكون الرد مثل ذلك، ولكن ينبغي أن يتلطف في القول فيقول:عمر رأى شيئا تقتضي المصلحة أن يأمر ولده بطلاق زوجته من أجله
فضيلة الشيخ : ما الحكم إذا أراد الأب أن يزوج ابنه من امرأة غير صالحة ؟ وما الحكم إذا رفض أن يزوجه من امرأة صالحة ؟
الجواب مثل إجابة السؤال السابق أنه لا يجوز أن يجبر الوالد ابنه على أن يتزوج امرأة لا يرضاها سواء كان لعيب فيها : ديني أو خلقي ، وما أكثر الذين ندموا حين جبروا أولادهم أن يتزوجوا بنساء لا يريدونهن ، يقول : تزوجها لأنها بنت أخي ، أو لأنها من قبيلتك، وغير ذلك ، فلا يلزم الابن أن يقبل ، ولا يجوز لوالده أن يجبره عليها .(7/492)
وكذلك لو أراد أن يتزوج بامرأة صالحة ، ولكن الأب منعه ، فلا يلزم الابن طاعته ، فإذا رضى الابن زوجة صالحة ، وقال أبوه : لا تتزوج بها ، فله أن يتزوج بها ولو منعه أبوه، لأن الابن لا يلزمه طاعة أبيه في شي لا ضرر علي أبيه فيه ، وللولد فيه منفعة ، ولو قلنا : إنه يلزم الابن أن يطيع والده في كل شي حتى في ما فيه منفعة للولد ولا مضرة فيه على الأب لحصل في هذا مفاسد ، ولكن في مثل هذه الحال ينبغي للابن أن يكون لبقا مع أبيه، وأن يداريه ما استطاع وأن يقنعه ما استطاع .
فضيلة الشيخ : اسمحوا لي أن أعرض هنا بعض المخالفات التي تقع في بعض الزواجات راجيا تفضلكم ببسط الحديث حولها ، وهذه المخالفات هي كالتالي :
أولا : لبس النساء للثياب التي خرجن بها عن المألوف في مجتمعنا معللات بأن لبسها إنما يكون بين النساء فقط ، وهذه الثياب فيها ما هو ضيق تتحدد من خلاله مفاتن الجسم ، ومنها ما يكون مفتوحا من أعلى بدرجة يظهر من خلالها جزء من الصدر أو الظهر ، ومنها ما يكون مشقوقا من الأسفل إلي الركبة أو قريب منها .
ثانيا : من الأخطاء الشائعة في بعض الزواجات ( الطق ) بمكبر الصوت والغناء من النساء والتصوير بالفيديو ، والأشد من ذلك الرجل المتزوج يقبل زوجته أمام النساء ، وعند إسداء النصح من الغيورين على محارم الله يجابهون بقولهم : إن الشيخ الفلاني أفتى بجواز(الطق ) فإذا كان هذا صحيحا نرجو من فضيلتكم إيضاح الحق للمسلمين ؟(7/493)
* أما بالنسبة للمخالفة الأولى فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: ( صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات ، مميلات مائلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ، ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )(1). فقوله صلى الله عليه وسلم : ( كاسيات عاريات ) يعني أن عليهن كسوة لا تفي بالستر الواجب إما لقصرها أو خفتها أو ضيقها ، ولهذا روى الإمام احمد في مسنده بإسناد فيه لين عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما قال : كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطيه ـ نوع من الثياب ـ فكسوتها امرأتي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مرها فلتجعل تحتها غلالة ، إني أخاف أن تصف حجم عظامها ) (2)
ومن ذلك فتح أعلى الصدر فإنه خلاف أمر الله تعالى ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) (النور:31 ) قال القرطبي في تفسيره : وهيئة ذلك أن تضرب المرأة خمارها على جيبها لتستر صدرها ، ثم ذكر أثرا عن عائشة أن حفصة بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضى الله عنهما دخلت بشي يشف عن عنقها وما هنالك فشقته عليها وقالت : إنما يضرب بالكثيف الذي يستر ، ومن ذلك ما يكون مشقوقا من الأسفل إذا لم يكن تحته شي ساتر فلا بأس إلا أن يكون على شكل ما يلبسه الرجال ، فيحرم من أجل التشبه بالرجال .
وعلى ولي المرأة أن يمنعها من كل لباس محرم ، ومن الخروج متبرجة أو متطيبة ، لأنه وليها فهو مسئول عنها يوم القيامة في يوم ( لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل شفاعة منها عدل ولا هم ينصرون ) ( البقرة :48 ) .
أما المخالفة الثانية : (الطق ) في الدف أيام العرس جائز أو سنة إذا كان في ذلك إعلان النكاح ولكن بشروط :(7/494)
الشرط الأول : أن يكون الضرب بالدف وهو ما يسمى عند بعض الناس ( الطار ) وهو المختوم من وجه واحد ، لأن المختوم بالوجهين يسمى ( الطبل ) وهو غير جائز ، لأنه من آلات العزف، والمعازف كلها حرام ، إلا ما دل الدليل على حلة وهو الدف حال أيام العرس .
الشرط الثاني : أن لا يصحبه محرم كالغناء الهابط المثير للشهوة ، فإن هذا ممنوع سواء كان معه دف أم لا ، وساء كان في أيام العرس أم لا .
الشرط الثالث : أن لا يحصل بذلك فتنة كظهور الأصوات الجميلة ، فإن حصل بذلك فتنة كان ممنوعا .
الشرط الرابع : أن لا يكون فيه أذية على أحد ، فإن كان فيه أذية كان ممنوعا مثل أن تظهر الأصوات عبر مكبرات الصوت ، فإن في ذلك أذية على الجيران ومن هم غيرهم ممن ينزعج بهذه الأصوات ، ولا يخلو من الفتنة أيضا ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المصلين أن يجهر بعضهم في القراءة لما فيه من التشويش والإيذاء ، فكيف بأصوات الدفوف والغناء .
وأما تصوير المشاهد بآلة التصوير فلا يشك عاقل في قبحه ، ولا يرضى عاقل فضلا عن المؤمن أن تلتقط صور محارمه من الأمهات والبنات والأخوات والزوجات وغيرهن لتكون سلعة تعرض لكل واحد ، أو ألعوبة يتمتع بالنظر إليها كل فاسق . وأقبح من ذلك تصوير المشهد بواسطة الفيديو لأنه يصور المشهد حيا بالمرأى والمسمع ، وهو أمر ينكره كل ذي عقل سليم ودين مستقيم ، ولا يتخيل أحد أن يستبيحه أحد عنده حياء وإيمان .
وأما الرقص من النساء فهو قبيح لا نفتي بجوازه لما بلغنا من الأحداث التي بين النساء بسببه ، وأما إن كان من الرجال فهو أقبح ، وهو من تشبه الرجال بالنساء ولا يخفى ما فيه ، وأما إن كان من الرجال والنساء مختلطين كما يفعله بعض السفهاء فهو أعظم وأقبح لما فيه من الاختلاط والفتنة العظيمة لا سيما وأن المناسبة مناسبة نكاح ونشوة عرس .(7/495)
وأما ما ذكرته من أن الزوج يحضر مجمع النساء ويقبل زوجته أمامهن ، فإن تعجب فعجب أن يحدث مثل هذا من رجل أنعم عليه بنعمة الزواج فقابلها بهذا الفعل المنكر شرعا وعقلا ومروءة ، وكيف يمكنه أهل الزوجة من ذلك ، أفلا يخافون أن يشاهد هذا الرجل في مجتمع النساء من هي أجمل من زوجته وأبهى فتسقط زوجته من عينيه ويدور في رأسه من التفكير الشي الكثير ، وتكون العاقبة بينه وبين عروسه غير حميدة .
وإنني في ختام جوابي هذا أنصح إخواني المسلمين من القيام بمثل هذه الأعمال السيئة، وأدعوهم إلي القيام بشكر الله على النعمة وغيرها ، وأن يتبعوا طريق السلف الصالح فيقتصروا على ما جاءت به السنة ( ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) ( المائدة : 77) .
أسئلة خاصة بلعب الأطفال
يوجد كثير من الألعاب والبرامج التعليمية الهادفة للطفل ، وغالبا هذه البرامج تسبق بالموسيقى أو ما يشبه بالموسيقى ، ولدينا نموذج من ذلك وهو الكتاب الناطق ، ونود أن تسمع معنا هذه النغمة وتعطينا رأيك ؟
هذا الذي سمعته تتقدمه موسيقى . والموسيقى من المعازف المحرمة الثابت تحريمها بما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(ليكونا من أمتي أقوام يستحلون الحرّ والحرير و الخمر والمعازف)(1)وعلى هذا لا يجوز استعمالها إلا إذا حذفت هذه الموسيقى على أن ما سمعته من الحكايات لأصوات هذه الحيوانات غير مطابق لأصواتها في الواقع ، ولا يعطي التصور الكامل لمعرفة أصوات هذه الحيوانات ، لهذا أرى أن لا تستعمل وأن استعمالها حرام إذا بقيت الموسيقى وإن لم تبق فاستعمالها قليل الفائدة .
كثيرا من الألعاب يحوي صورا مرسومة باليد لذوات الأرواح ، والهدف منها غالبا التعليم مثل الموجودة في الكتاب الناطق ؟(7/496)
الجواب : إذا كانت لتسلية الصغار فإن من أجاز اللعب للصغار يجيز مثل هذه الصور، وأما من منع هذه الصور فإنه لا يجيز ذلك على أن هذه الصور ليست مطابقة للصورة التي خلق الله عليها هذه المخلوقات المصورة كما يتضح مما هو أمامي . والخطب في هذا سهل .
إذا يا فضيلة الشيخ إذا كانت للغار فلا مانع . إذا لماذا لا نقول للموسيقى التي في الألعاب والبرامج التعليمية الهادفة للطفل( الكتاب الناطق ) هي للصغار ونتساهل بها لأنها للصغار ؟
الجواب : لا نتساهل بها لأنها لم يرد لها نظير في السنة ، ولأن المعازف الوارد تحريمها عامة ، ولم يرد دليل على التخصيص ، ولأن الصبي إذا اعتاد اللهو والعزف كان سجية له وطبيعة .
هناك أنواع كثيرة من العرائس التي كانت تسميها عائشة رضى الله عنها البنات ، منها ما هو مصنوع من القطن ، وهو عبارة عن كيس مفصل براس ويدين ورجلين ، ومنها ما يشبه الإنسان تماما وهو ما يباع في الأسواق ، ومنها ما يتكلم أو يبكي أو يمشي أو يحبو ، فما حكم صنع أو شراء مثل هذه الأنواع للبنات الصغار للتعليم والتسلية ؟
الجواب : أما الذي لا يوجد فيه تخطيط كامل وإنما يوجد فيه شي من الأعضاء والرأس ولكن لم تتبين فيه الخلقة فهذا لا شك في جوازه وأنه من جنس البنات اللاتي كانت عائشة تلعب بهن .
وأما إذا كان كامل الخلقة وكأنما تشاهد إنسانا ولا سيما إن كان له حركة أو صوت فإن في نفسي من جواز هذا شيئا ، لأنه يضاهي خلق الله تماما ، والظاهر أن اللعب التي كانت عائشة تلعب بهن ليست على هذا الوصف ، فاجتنابها أولى . ولكني لا أقطع بالتحريم ، لأن الصغار يرخص لهم ما لا يرخص للكبار في مثل هذه الأمور . فإن الصغير مجبول على اللعب والتسلي ، وليس مكلف بشي من العبادات حتى نقول إن وقته يضيع عليه لهوا وعبثا . وإذا أراد الإنسان الاحتياط في مثل هذه فليقلع الرأس أو يحميه على النار حتى يلين ثم يضغطه حتى تزول معالمه .(7/497)
هل هناك فرق بين أن يصنعها الأطفال أنفسهم وبين أن نصنعها نحن لهم أو نشتريها نحن لهم أو تهدى الألعاب ؟
الجواب : أنا أرى صنعها على وجه يضاهي خلق الله حرام ، لأن هذا التصوير الذي لا شك في تحريمه ، لكن إذا جاءتنا من النصارى أو غيرهم من غير المسلمين فإن اقتناءها كما قلت أولا . لكن بالنسبة للشراء ينبغي أن نشتري أشياء أخرى ليست فيه صور كالدراجات أو السيارات أو الرافعات وما أشبهها .
أما مسألة القطن والذي ما تبين له صورة رغم ما هنالك من أعضاء ورأس ورقبة ولكن ليس فيه عيون وأنف فما فيه بأس ، لأن هذا لا يضاهي لخلق الله .
ما حكم صنع ما يشبه هذه العرائس بمادة الصلصال ثم عجنها في الحال ؟
الجواب : كل من صنع شيئا يضاهي خلق الله فهو داخل في الحديث : ( لعن النبي صلى الله عليه وسلم المصورين ...) (1)( أشد الناس عقابا يوم القيامة المصورون ) (2) لكن كما قلت إنه إذا لم تكن الصورة واضحة أي ليس فيها عين ولا أنف ولا فم ولا أصابع فهذه ليست صورة كاملة ولا مضاهية لخلق الله عز وجل .
عندما يلعب الأطفال مع بعضهم ، ويمثل الولد دور الأب وتمثل البنت دور الأم ، هل يقرون على ذلك أم يمنعون منه ؟ ولماذا ؟
الجواب : أنا أرى أنهم يمنعون منه ، لأنه قد يتدرج الطفل بهذا أن ينام معها وسد الباب هنا أولى .
في القصص هناك بعض القصص الهدف منها تعليم أو تسلية الأطفال وتأخذ أشكالا مختلفة ، فبعضها يحكي واقع حيوانات تتكلم ، فمثلا لكي نعلم الطفل أن عاقبة الكذب وخيمة تحكي أن ثعلبا مثل دور طبيب حتى يكذب على الدجاجة ويخدعها ، ثم وقع الثعلب في حفرة بسبب كذبه فما رأيكم بهذا النوع ؟
الجواب : هذه أتوقف فيها ، لأنها إخراج لهذه الحيوانات عما خلقت عليه من كونها تتكلم وتعالج وتعاقب،وقد يقال إن المقصود ضرب المثل ، فأنا أتوقف فيه ما أقول فيها بشي .(7/498)
هناك نوع آخر من القصص أن الأم قد تحكي قصة لطفلها ممكنة الوقوع وإن لم تكن قد وقعت فنقول مثلا : إن هناك طفل اسمه حسن آذى جيرانه وصعد على جدارهم فوقع وانكسرت يده ، فما حكم مثل هذا النوع من القصص الذي قد يتعلم الطفل من خلاله بعض الفضائل والخصال الحميدة ، هل هي كذب ؟
الجواب : الظاهر أنها إذا قيلت على سبيل التمثيل بأن يقال : إن هناك طفل أو ولد أو ما أشبه بدون أن يعين اسم ، يجعل كأنه أمر واقع أنه لا بأس به ، لأن هذا من باب التمثيل وليس أمرا واقعا ، وعلى كل حال فهذا لا بأس به ، لأن فيه فائدة وليس فيه مضرة .
في مناهج التعليم في المدارس يطلب من الطفل أن يرسم صورة لذات روح ، أو يعطى مثلا دجاجة ويقول له أكمل الباقي ، وأحيانا يطلب منه أن يقص هذه الصورة ويلزقها على الورق، أو يعطى صورة فيطلب منه تلوينها فما رأيكم في هذا ؟
الجواب : الذي أرى في هذا أنه حرام يجب منعه ، وأن المسئولين عن التعليم يلزمهم أداء الأمانة في هذا الباب ومنع هذه الأشياء . وإذا كانوا يريدون أن يتبينوا ذكاء الطالب بإمكانهم أن يقولوا اصنع صورة سيارة أو شجرة أو ما أشبه ذلك مما يحيط به علمه ، ويحصل بذلك معرفة مدى ذكائه وفطنته وتطبيقه للأمور ، وهذا مما ابتلى به الناس بواسطة الشيطان وإلا فلا فرق بلا شك في إجادة الرسم والتخطيط بين أن يخطط الإنسان صورة شجرة أو سيارة أو قصر أو إنسان ، فالذي أرى أنه يجب على المسئولين منع هذه الأشياء ، وإذا ابتلوا ولا بد فليصوروا حيوانا ليس له رأس .
هذه الصور التي في الكتب هل يلزم طمسها ؟ وهل قطع الرأس بوضع فاصل بينه وبين الجسم يزيل الحرمة ؟
الجواب : أرى أنه لا يلزم طمسها ، لأن في ذلك مشقة كبيرة ، ولأنها ـ أي هذه الكتب ـ ما قصد بها الصورة إنما قصد ما فيها من العلم ، ووضع خط ما بين الرقبة والجسم لا يغير الصورة عما هي عليه .(7/499)
قد يرسب الطفل إذا ما رسم هذا الرسم في المدرسة أي قد لا يعطى درجة الرسم ثم يرسب؟ الجواب : إذا كان هذا فقد يكون الطالب مضطرا لهذا الشي ، ويكون الإثم على من أمره وكلفه بذلك ، ولكني آمل من المسئولين أن لا يصل بهم إلي هذا الحد فيضطروا عباد الله إلي معصية الله .
هناك بعض رياض الأطفال من يقوم بتعليم الأطفال إلي سن الخامسة أو السادسة البنات مع الأولاد مختلطين ، فما هو السن المسموح به وكثيرا منها يقوم بمهنة التعليم فيها النساء للذكور والإناث ، فما رأيكم بهذا ، وإلي أي سن يسمح للمرأة أن تعلم الطفل ؟
الجواب : أرى أن هذا يرفع إلي هيئة كبار العلماء للنظر فيه ، لأن هذا قد يفتح باب الاختلاط في المستقبل وعلى المدى البعيد ، أما من حيث اجتماع الأطفال بعضهم إلي بعض فهذا في الأصل لا بأس به ، لكن أخشى أن تكون هذه مخططات يقصد منها أن تكون سلما لأمور أكبر منها فيما يظهر لي ، والعلم عند الله . ولهذا يجب أن يرفع شأن هذه المدارس إلي هيئة كبار العلماء للنظر فيها أو إلي جهات مسئولة تستطيع منعها بعد الدراسة .
هناك بعض المدارس فيها فصل بين الطلاب والطالبات لكن مدرسو الطلاب والطالبات نساء، فإلي أي سن يسمح للمرأة بتعلم الذكر ؟
الجواب : هو كما قلت أنه يجب منع كل ما يحوم حول الاختلاط مهما كان أمره .
أسئلة في ملابس الأطفال
هناك كثير من ملابس الأطفال فيها صور لذوات الأرواح ، وبعض هذه الملابس مما يمتهن مثل الحذاء والملابس الداخلية للأطفال دون الثالثة ، ومنها ما لا يمتهن بل يحافظ عليها وعلى نظافتها ، فما حكم هذه الملابس ؟(7/500)
الجواب : يقول أهل العلم : إنه يحرم إلباس الصبي ما يحرم إلباسه كبير ، وما كان فيه صور فإلباسه الكبير حرام . فيكون إلباسه الصغير حراما أيضا ، وهو كذلك . والذي ينبغي للمسلمين أن يقاطعوا مثل هذه الثياب والأحذية حتى لا يدخل علينا أهل الشر والفساد من هذه النواحي ، وهي إذا قوطعت فلن يجدوا سبيلا إلي إيصالها إلي هذه البلاد وتهوين أمرها بينهم .
هل يجوز لبس الأطفال الذكور مما يخص الإناث كالذهب والحرير أو غيره والعكس ؟
الجواب : هذه مفهومة من الجواب الأول ، قلت : إن العلماء يقولون إنه يحرم إلباس الصبي ما يحرم إلباسه البالغ ، وعلى هذا فيحرم إلباس الأطفال من الذكور ما يختص بالإناث وكذلك العكس .
هل يدخل تحت هذا إسبال الثياب للأطفال الذكور ؟
الجواب : نعم يدخل .
وما فيه تشبه للكفار وغيره كالقبعة والبنطلون ؟
الجواب : هذا باب آخر ، تشبه المسلمين بالكفار في اللباس أو غيره سواء كانوا ذكورا أو إناثا صغارا أو كبارا محرم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من تشبه بقوم فهو منهم ) (1) ، ولأنه يجب أن يكون للمسلمين شخصية قوية تمنعهم من التبعية لغيرهم ، لأنهم الأعلون ودينهم هو الأعلى كما قال الله تعالى ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران : 139 ) وقال الله تعالى ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) ( التوبة : 33)
هل يجوز للأطفال ذكورا أم إناثا لبس الملابس القصيرة التي تبدي فخذيه ؟
الجواب : من المعلوم أن مادون سبع سنين لا حكم لعورته ، لكن تعويد الصبيان والأطفال هذه الألبسة الخالعة القصيرة لا شك أن سيهون عليهم كشف العورة في المستقبل ،
بل ربما لا يستحي الإنسان إذا كشف فخذه لأنه كان يكشفه صغيرا ولا يهتم به وحينئذ يكون(8/1)
نظر الناس إلي عوراتهم كنظرهم إلي وجوههم في عدم حرمتها والخجل منها ، فالذي أرى أن يمنع الأطفال وإن كانوا صغارا من مثل هذه الألبسة ، وأن يلبسوا لباس احتشام بعيد عن المحذور .
ما حكم ثقب إذن البنت من أجل أن تتحلى بالذهب كالخرص ؟ وهل في ذلك شي من المثلة والتعذيب كما قال بعض الفقهاء ؟
الجواب : الصحيح أنه لا بأس به ، لأن هذا من المقاصد التي يتوصل بها إلي التحلي المباح ، وقد ثبت أن نساء الصحابة كان لهن أقراط يلبسنها في آذانهن ، وهذا التعذيب يسير ، وإذا ثقبت في حال الصغر صار برؤه سريعا .
وهل ينطبق على هذا ثقب الأنف ؟
الجواب : نعم عند ما يرى أنه مكان للزينة .
ما حكم حلق شعر البنت عند الولادة أو بعد ذلك رغبة في إطالة شعرها وغزارته ؟ وهل يسن حلق شعرها عند الولادة كالذكور ؟
الجواب : حلق شعرها لا يسن في اليوم السابع كما يسن في حلق راس الذكر ، وأما حلقه للمصلحة التي ذكرت إذا صحت فإن أهل العلم يقولون : إن حلق الأنثى رأسها مكروه لكن قد يقال إنه إذا ثبت أن هذا مما يسبب نشاط الشعر ووفرته فإنه لا بأس به ، لآن المعروف أن المكروه تزيل كراهته الحاجة .
ما هو سن الطفل الذي تحتجب منه المرأة هو التمييز أم البلوغ ؟
الجواب : يقول الله تعالى في سياق من يباح إبداء الزينة لهم ( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) ( النور : 31) ، والطفل إذا ظهر على عورة المرأة وصار ينظر إليها ويتحدث عنها كثيرا ، فإنه لا يجوز للمرأة أن تكشف أمامه . وهذا يختلف باختلاف الصبيان من حيث المجالسة ، لأن الصبي ربما يكون له شأن في النساء إذا كان يجلس إلي أناس يتحدثون بهن كثيرا ، ولولا هذا لكان غافلا لا يهتم بالنساء.
المهم أن الله حدد هذا الأمر بقوله( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) يعني أن هذا مما يحل للمرأة أن تبدى زينتها له إذا كان لا يظهر على العورة ولا يهتم بأمر النساء .(8/2)
* هل لمس ذكر الطفل لإزالة النجاسة ينقص الوضوء ؟
الجواب : لا ينقص الوضوء .
هل يجوز للأب أو الأم معاقبة الطفل بالضرب أو وضع شي مر أو حار في فمه كالفلفل إذا أرتكب خطأ ؟
الجواب: أما تأديبه بالضرب فإنه جائز إذا بلغ سنا يمكنه أن يتأدب منه وهو غالبا عشر سنين، وأما إعطاؤه الشي الحار فإن هذا لا يجوز ، لن هذا يؤثر عليه وقد ينشأ من ذلك حبوب تكون في فمه أو حرارة في معدته . ويحصل بهذا ضرر بخلاف الضرب فإنه على ظاهر الجسم فلا بأس به إذا كان يتأدب به ، وكان ضربا غير مبرح .
فيما دون العشر ؟
الجواب : فيما دون العشر ينظر فيه ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أباح الضرب لعشر على ترك الصلاة ، فينظر فيما دون العشر قد يكون الصبي الذي دون العشر عنده فهم وذكاء وكبر جسم يتحمل الضرب والتوبيخ والتأديب به ، وقد لا يكون .
هل هناك بأس على الأم والأب في تحفيظ طفلهم الصغير القرآن مع علمهما بأنه قد يقوم بقراءته في الحمام وقت قضاء الحاجة ، أو قراءته بطريقة لا تليق بالقرآن الكريم على الرغم من تكرار التنبيه على ذلك ؟
الجواب : نعم ينبغي للأم والأب أن يقرأ طفلهما القرآن الكريم ويحذراه من أن يقرأه في مثل هذه الأماكن التي لا ينبغي أن يقرأ فيها . وإذا حصل منهم شي من ذلك فإنهم غير مكلفين ـ أعني الأطفال ـ فليس عليهم أثم ، والوالد أو الوالدة إذا سمعه يقرأ في مكان لا يليق يتكلم عليه . ويبين أن هذا لا يجوز . وقد ثبت في صحيح البخاري أن عمرو بن سلمة الجرمى صار إماما وهو ابن ست أو سبع سنين ، وكان ذلك في عهد (النبي) صلى الله عليه وسلم .
إذا كان هناك ساحة ملحقة بالبيت يلعب بها الأطفال داخل سور البيت ، فهل ينطبق عليها حديث حبس الصبيان وقت المغرب لانتشار الشياطين أم أن ذلك ينطبق عل الشارع خارج البيت ؟
الجواب : الحديث إنما هو في الشارع خارج البيت ، وأما داخل البيت فلا بأس به .(8/3)
هل يجب على المرأة وهي تصلي أن تمنع مرور طفلها الغير بين يديها مع العلم أن ذلك يحصل منها مرارا أثناء الصلاة ، وتؤدي مدافعتها له إلي ذهاب الخشوع في الصلاة ، ولو أنها صلت بمفردها تخشى الضرر عليه ؟
الجواب : لا حرج عليها في هذه الحال أن تمكنه من أن يمر بين يديها إذا كان كثير المرور وتخشى فساد صلاتها بمدافعته كما قال بذلك أهل العلم رحمهم الله ـ ولكن ينبغي لها في هذه الحالة أن تعطيه شيئا يتلهى به ويكون حولها ، لأن الطفل إذا أعطي شيئا يتلهى به تلهى به عن غيره ، أما إذا كان تعلقه بأمه لجوع أو عطش فإن الأولى بها أن تأخر الصلاة حتى تقضي نهمته ثم تقبل على صلاتها .
---
(1) رواه البخاري ، كتاب اللباس ، باب المستوشمة رقم (5947) ، ومسلم ، كتاب اللباس ، باب تحريم فعل الواصلة رقم (2124)
(2) رواه مسلم كتاب اللباس ، باب النساء الكاسيات العاريات رقم (2128)
(1) ) رواه البخاري ، كتاب اللباس ، باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال رقم (5885)
(1) رواه البخاري ، كتاب الصلاة ، باب في الجبة الشامية رقم (363) ، ومسلم ، كتاب الطهارة ، باب المسح على الخفين رقم (274)
(2) تقدم تخريجه ص ( 8)
(
1 رواه مسلم كتاب الزكاة ، باب الحث على الصدقة رقم ( 1017)
(1) رواه البخاري ، كتاب النكاح ، باب ما يتقي من شؤم المرأة رقم (5096) ، ومسلم ، كتاب الرقاق ، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء رقم (2740)
(2) تقدم تخريجه ص ( 21)
(2) تقدم تخريجه ص ( 8)
(3) رواه البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب من اكتتب في الجيش فخرجت امرأته حاجة رقم (3006) ومسلم ، كتاب الحج ، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره رقم (1341).
(1) تقدم تخريجه ص (9).
(2) رواه أبو داوود ، كتاب اللباس ، باب في لبس الشهرة رقم (4031) .
(3) رواه مسلم كتاب اللباس، باب في صبغ الشعر وتغيير الشيب رقم (2102) .
(1) تقدم تخريجه ص (5)(8/4)
(1) رواه البخاري ، كتاب حزاء الصيد ، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة رقم (1838).
(2) تقدم تخريجه ص (8).
(3) تقدم تخريجه ص (24).
(1) رواه البخاري ، كتاب التفسير باب قوله:( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة) رقم (4686) ومسلم كتاب البر والصلة ، باب تحريم الظلم رقم (2583).
(2) تقدم تخريجه ص (38).
(1) رواه البخاري ، كتاب الجمعة باب الجمعة في القري والمدن رقم (893) .
(2) رواه أبو داوود، كتاب الترجل ، باب ما جاء في المرأة تتطيب للخروج رقم (4173) والترمزي ، كتاب الأدب ، باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة رقم (2786) والنسائي ، كتاب الزينة ، باب ما يكره للنساء من الطيب رقم (5126).
(1) تقدم تخريجه ص (8).
(2) تقدم تخريجه ص (28).
(3) رواه البخاري ، كتاب النكاح، باب لايخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم رقم (5232) ، ومسلم ، كتاب السلام ، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها رقم (2172).
(1) تقدم تخريجه ص (38).
(2) تقدم تخريجه ص (8).
(3) رواه البخاري ، كتاب الغسل ، باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها رقم (261) ومسلم ، كتاب الحيض ، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة رقم (321) .
(1) رواه مسلم ، كتاب الحيض ، باب تحريم النظر إلى العورات رقم ( 338).
(1) رواه مسلم ، كتاب الطلاق ، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها ولا سكني رقم (1480).
(1) رواه مسلم ، كتاب الصلاة ، باب تسوية الصفوف وإقامتها رقم (440).
(1) تقددم تخريجه ص (8).
(2) تقدم تخريجه ص (8).
(1) رواه مسلم، كتاب الصلاة ، باب خروج النساء إلى المساجد رقم ( 443) .
(2) تقدم تخريجه ص (32).
(1) رواه البخاري ، كتاب الآذان ، باب صلاة الليل رقم ( 731) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين ، باب استحباب صلاة النافلة في بيته رقم (781) .(8/5)
(1) رواه ابو داوود ، كتاب النكاح ، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء رقم ( 2050) والنسلئي ، كتاب النكاح باب كراهية تزويج العقيم رقم ( 3227).
(2) رواه البخاري ، كتاب النكاح ، باب الأكفاء في الدين رقم (5090)، ومسلم كتاب النكاح ، باب استحباب نكاح ذات الدين رقم(466)
(3) رواه الترمزي ، كتاب النكاح ، باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه رقم ( 1085) وابن ماجه ، كتاب النكاح ، باب الأكفاء رقم (1967).
(1) رواه ابو داوود ، كتاب النكاح ، باب في جامع النكاح رقم ( 2160) وابن ماجه ، كتاب النكاح ، باب ما يقول الرجل إذا دخلت عليه أهله رقم ( 1918).
(2) رواه البخاري كتاب الوضوء ، باب التسمية على كل حال رقم (141) . ومسلم كتاب النكاح ، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع رقم (1434).
(3) رواه ابو داوود،كتاب الغسل ، باب إذا التقي الختانان رقم ( 291) ومسلم ، كتاب الحيض ، باب نسخ الماء من الماء رقم (348).
(4) رواه مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام رقم ( 560).
(1) رواه البخاري ، كتاب النكاح ، باب لا ينكح الأب وغيره البكر رقم (5136) ومسلم ، كتاب النكاح ، باب استئذان الثيب في النكاح رقم (1491 - 1421).
(2) رواه ابو داوود، كتاب النكاح ، باب في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينفذها شيئاً رقم (2129) والنسائي ، كتاب النكاح ، باب التزوج على نواة من ذهب رقم (3353) .
(3) رواه مسلم كتاب النكاح ، باب النظر إلى المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها رقم (1424).
(1) رواه البخاري ، كتاب الحج ، باب وجوب الحج وفضله رقم (1513) ومسلم ، كتاب الحج ، باب الحج عن العاجز رقم (1334).
(1) تقدم تخريجه ص ( 8)
(2) المسند (5/205)
(1) رواه البخاري ، كتاب الأشربة ، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر رقم (5590).
(1) رواه البخاري ، كتاب الطلاق ، باب مهر الابغي رقم (5347).(8/6)
(2) رواه البخاري ، كتاب اللباس ، باب عذاب المصورين يوم القيامة رقم (5950). ومسلم كتاب اللباس ، باب لا تدخل الملائكة بيتاًفيه كلب ولا صورة رقم (2109)
(1) تقدم تخريجه ص (32).(8/7)
حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً .
أما بعد : فإن من محاسن شريعة الله تعالى مراعاة العدل وإعطاء كل ذي حق حقه من غير غلو ولا تقصير . فقد أمر الله بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي ، وبالعدل بعثت الرسل وأنزلت الكتب وقامت أمور الدنيا والآخرة .
والعدل إعطاء كل ذي حق حقه وتنزيل كل ذي منزلة منزلته ، ولا يتم ذلك إلا بمعرفة الحقوق حتى تعطى أهلها ، ومن ثم حررنا هذه الكلمة في بيان المهم من تلك الحقوق ليقوم العبد بما علم منها بقدر المستطاع ، ويتخلص من ذلك فيما يأتي :
1 ـ حقوق الله تعالى .
2 ـ حقوق النبي صلى الله عليه وسلم .
3 ـ حقوق الوالدين .
4 ـ حقوق الأولاد .
5 ـ حقوق الأقارب .
6 ـ حقوق الزوجين .
7ـ حقوق الولاة والرعية .
8 ـ حقوق الجيران .
9ـ حقوق المسلمين عموما ً .
10ـ حقوق غير المسلمين .
هذه هي الحقوق التي نريد نتناولها بالبحث على وجه الاختصار .
الحق الأول : حق الله تعالى(8/8)
هذا الحق أحق الحقوق وأوجبها وأعظمها ؛ لأنه حق الله تعالى الخالق العظيم المالك المدبر لجميع الأمور،حق الملك الحق المبين الحي القيوم الذي قامت به السماوات والأرض، خلق كل شيء فقدره تقديرا بحكمة بالغة ، حق الله الذي أوجدك من العدم ولم تكن شيئا مذكورا ، حق الله الذي رباك بالنعم وأنت في بطن أمك في ظلمات ثلاث لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يوصل إليك غذاءك ومقومات نموك وحياتك ، أدر لك الثديين ، وهداك النجدين ، وسخر لك الأبوين ، أمدك وأعدك .. أمدك بالنعم والعقل والفهم ، وأعدك لقبول ذلك والانتفاع به : ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78)
فلو حجب عنك فضله طرفة عين لهلكت ، ولو منعك رحمته لما عشت ، فإذا كان هذا فضل الله عليك ورحمته بك فإن حقه عليك أعظم الحقوق ، لأنه حق إيجادك وإعدادك وإمدادك ، إنه لا يريد منك رزقاً ولا إطعاماً : (لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه:132)
وإنما يريد منك شيئا واحدا مصلحته عائدة إليك ، يريد منك أن تعبده وحده لا شريك له : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذريات:56-58) يريد منك أن تكون عبدا له بكل معاني العبودية ، كما أنه هو ربك بكل معاني الربوبية ، عبداً متذللاً له خاضعا له ، ممتثلا لأمره مجتنبا لنهيه مصدقا بخبره ، لأنك ترى نعمه عليك سابغة تترى ، أفلا تستحي أن تبدل هذه النعم كفراً .(8/9)
لو كان لأحد من الناس عليك فضل لاستحييت أن تبارزه بالمعصية وتجاهره بالمخالفة ، فكيف بربك الذي كل فضل عليك فهو من فضله ؟ وكل ما يندفع عنك من سوء فمن رحمته : ( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) (النحل:53)
وأن هذا الحق الذي أوجبه الله لنفسه ليسير سهل على من يسر الله له ، ذلك بأن الله لم يجعل فيه حرجا ولا ضيقا ولا مشقةً قال الله تعالى : (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78) إنه عقيدة مثلى وإيمان بالحق وعمل صالح مثمر ، عقيدة قوامها المحبة والتعظيم وثمرتها الإخلاص والمثابرة ، خمس صلوات في اليوم والليلة يكفر الله بهن الخطايا ويرفع بهن الدرجات ويصلح بهن القلوب والأحوال يأتي بهن العبد بحسب استطاعته : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(التغابن: الآية16) الآية .
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين وكان عمران مريضا : ((صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب)) (1) .
زكاة وهي جزء يسير من مالك تدفع في حاجة المسلمين للفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين وغيرهم من أهل الزكاة .
صيام شهر واحد في السنة ، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر ، ومن لم يستطع الصيام لعجز دائم يطعم مسكينا عن كل يوم .
حج البيت الحرام مرة واحدة في العمر للمستطيع .(8/10)
هذه هي أصول حق الله تعالى وما عداها فإنما يجب لعارض : كالجهاد في سبيل الله، أو لأسباب توجبه كنصر للمظلوم .
أنظر يا أخي هذا الحق اليسير عملا الكثير أجرا إذا قمت فيه كنت سعيدا في الدنيا والآخرة ونجوت من النار ودخلت الجنة : ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران: الآية185) .
الحق الثاني : حق رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا الحق هو أعظم حقوق المخلوقين ، فلا حق لمخلوق أعظم من حق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (الفتح:8-9) الآية .
ولذلك يجب تقديم محبة النبي صلى الله عليه وسلم على محبة جميع الناس حتى على النفس والولد والوالد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) (2).
ومن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم توقيره واحترامه وتعظيمه التعظيم اللائق به من غير غلو ولا تقصير فتوقيره في حياته توقير سنته وشخصه الكريم وتوقيره بعد مماته توقير سنته وشرعه القويم ومن رأى توقير الصحابة وتعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف قام هؤلاء الأجلاء الفضلاء بما يجب عليهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عروة بن مسعود لقريش حينما أرسلوه ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح في قصة الحديبية ، قال : دخلت على الملوك ، كسرى وقيصر والنجاشي فلم أرَ أحدا يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، كان إذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له .(8/11)
هكذا كانوا يعظمونه رضي الله عنهم مع ما جبله الله عليه من الأخلاق الكريمة ولين الجانب وسهولة النفس ، ولو كان فظا غليظاً لانفضوا من حوله .
وإن من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم تصديقه فيما أخبر به من الأمور الماضية والمستقبلة وامتثال ما به أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر ، والإيمان بأن هديه أكمل الهدي وشريعته أكمل الشرائع وأن لا يقدم عليها تشريعاً أو نظاما مهما كان مصدره : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31) .
ومن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم الدفاع عن شريعته وهديه بما يستطيع الإنسان من قوة بحسب ما تتطلبه الحال من السلاح ، فإذا كان العدو يهاجم بالحجج والشبه فمدافعته بالعلم ودحض حججه وشبهه وبيان فسادها ، وإن كان يهاجم بالسلاح والمدافع فمدافعته بمثل ذلك .
ولا يمكن لأي مؤمن أن يسمع من يهاجم شريعة النبي صلى الله عليه وسلم أو شخصه الكريم ويسكت على ذلك مع قدرته على الدفاع .
الحق الثالث : حقوق الوالدين
لا ينكر أحد فضل الوالدين على أولادهما ، فالوالدان سبب وجود الولد وله عليهم حق كبير فقد ربياه صغيرا وتعبا من أجل راحته وسهرا من أجل منامه ، تحملك أمك في بطنها وتعيش على حساب غذائها وصحتها لمدة تسعة شهور غالبا ، كما أشار الله إلى ذلك : ( حملته أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن) الآية . ثم بعد ذلك حضانة ورضاع لمدة سنتين مع التعب والعناء والصعوبة .(8/12)
والأب كذلك يسعى لعيشك وقوتك من حين الصغر حتى تبلغ أن تقوم بنفسك ، ويسعى بتربيتك وتوجيهك وأنت لا تملك لنفسك ضرا ولا نفعا ، ولذلك أمر الله الولد بوالديه إحساناً وشكرا ، فقال تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان:14) . وقال تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الاسراء:23-24) .(8/13)
إن حق الوالدين عليك أن تبرهما وذلك بالإحسان إليهما قولا وفعلاً بالمال والبدن . تمتثل أمرهما في غير معصية الله وفي غير ما فيه ضرر عليك ، تلين لهما القول وتبسط لهما الوجه وتقوم بخدمتهما على الوجه اللائق بهما ، ولا تتضجر منهما عند الكبر والمرض والضعف ، ولا تستثقل ذلك منهما فإنك سوف تكون بمنزلتهما ، سوف تكون أبا ً كما كانا أبوين ، وسوف تبلغ الكبر عند أولادك إن قدر لك البقاء كما بلغاه عندك ، وسوف تحتاج إلى بر أولادك كما احتاجا إلى برك ، فإن كنت قد قمت ببرهما فأبشر بالأجر الجزيل ، والمجازاة بالمثل ، فمن بر والديه بر به أولاده ، ومن عق والديه عق به أولاده ، والجزاء من جنس العمل فكما تدين تدان ، ولقد جعل الله مرتبة حق الوالدين مرتبة كبيرة عالية حيث جعل حقهما بعد حقه المتضمن لحقه وحق رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً )(النساء: الآية36) الآية . قال تعالى : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)(لقمان: الآية14) وقدم النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : (قلت يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : الصلاة على وقتها قلت : ثم أي ؟ قال : بر الوالدين قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ) (3) . وهذا يدل على أهمية حق الوالدين الذي أضاعه كثير من الناس ، صاروا إلى العقوق والقطيعة فترى الواحد منهم لا يري لأبيه ولا لأمه حقاً ، وربما احتقرهما وازدراهما وترفع عليهما وسيلقى مثل هذا جزاءه العاجل أو الآجل .
الحق الرابع : حق الأولاد(8/14)
الأولاد تشمل البنين والبنات وحقوق الأولاد كثيرة من أهمها التربية وهي : تنمية الدين والأخلاق في نفوسهم حتى يكونوا على جانب كبير من ذلك ، قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ َ) (التحريم:6) الآية . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ) (4) . فالأولاد أمانة في عنق الوالدين وهما مسؤولان عنهم يوم القيامة ، وبتربيتهم التربية الدينية والأخلاقية يخرج الوالدان من تبعة هذه الرعية ، ويصلح الأولاد فيكونوا قرة عين الأبوين في الدنيا والآخرة يقول الله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور:21) ألتناهم : أي نقصناهم .: ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعوا له ) (5) . فهذا من ثمرة تأديب الولد إذا تربى تربية صالحة أن يكون نافعا لوالديه حتى بعد الممات .
ولقد استهان كثير من الوالدين بهذا الحق فأضاعوا أولادهم ونسوهم ، كأن لا مسئولية لهم عليهم لا يسألون أين ذهبوا ؟ ولا متى جاءوا ؟ ولا من أصدقائهم وأصحابهم ؟ ولا يوجهونهم إلى الخير ولا ينهونهم عن شر . ومن العجب أن هؤلاء حريصون كل الحرص على أموالهم بحفظها وتنميتها والسهر على ما يصلحها مع أنهم ينمون هذا المال ويصلحون لغيرهم غالبا أما الأولاد فليسوا منهم في شيء مع أن المحافظة عليه أولى وأنفع في الدنيا والآخرة . وكما أن الوالد يجب عليه تغذية جسم الولد بالطعام والشراب وكسوة بدنه باللباس كذلك يجب عليه أن يغذي قلبه بالعلم والإيمان ويكسو روحه بلباس التقوى فذلك خير .(8/15)
ومن حقوق الأولاد أن ينفق عليهم بالمعروف من غير إسراف ولا تقصير ؛ لأن ذلك من واجب أولاده عليه ومن شكر نعمة الله عليه بما أعطاه ممن المال ، وكيف يمنعهم المال في حياته ويبخل عليهم به ليجمعه لهم فيأخذونه قهرا بعد مماته ؟ حتى لو بخل عليهم بما يجب فلهم أن يأخذوا من ماله ما يكفيهم بالمعروف كما أفتى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم هند بنت عتبة .
ومن حقوق الأولاد أن لا يفضل أحدا منهم على أحد في العطايا والهبات فلا يعطي بعض أولاده شيئا ويحرم الآخر ، فإن ذلك من الجور والظلم والله لا يحب الظالمين ، ولأن ذلك يؤدي إلى تنفير المحرومين وحدوث العداوة بينهم وبين الموهوبين ، بل ربما تكون العداوة بين المحرومين وبين آبائهم . وبعض الناس يمتاز أحد من أبنائه على الآخرين بالبر والعطف على والديه ، فيخصه والده بالهبة والعطية من أجل ما امتاز به من البر ولكن هذا غير مبرر للتخصيص فالمتميز بالبر لا يجوز أن يعطى عوضا عن بره ، لأن أجر بره على الله ، ولأن تمييز البار بالعطية يوجب أن يعجب ببره ويرى له فضلا وأن ينفر الآخر ويستمر في عقوقه ، ثم إننا لا ندري فقد تتغير الأحوال فينقلب البار عاقا والعاق بارا ً ، لأن القلوب بيد الله يقلّبها كيف يشاء .
وفي الصحيحين صحيح البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير أن أباه بشير بن سعد وهبه غلاما فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ قال : لا . قال فأرجعه)(6) .وفي رواية : ( اتقوا واعدلوا بين أولادكم ) (7) . وفي لفظ : (أشهد على هذا غيري ، فإني لا أشهد على جور) (8) . فسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تفضيل بعض الأولاد على بعض جورا والجور ظلم وحرام .(8/16)
لكن لو أعطي بعضهم شيئا يحتاجه والثاني لا يحتاجه مثل أن يحتاج أحد الأولاد إلى أدوات مكتبية أو علاج أو زواج فلا بأس أن يخصه بما يحتاج إليه لأن هذا التخصيص من اجل الحاجة فيكون كالنفقة .
ومتى قام الوالد بما يجب عليه للولد من التربية والنفقة فإنه حري أن يوفق الولد للقيام ببر والده ومراعاة الحقوق ، ومتى فرق الوالد بما يجب عليه من ذلك كان جديرا بالعقوبة بأن ينكر الولد حقه ويبتلى بعقوقه جزاء وفاقا وكما تدين تدان .
الحق الخامس : حقوق الأقارب
للقريب الذي يتصل بك في القرابة كالأخ والعم والخال وأولادهم وكل من ينتمي إليك بصلة فله حق هذه القرابة بحسب قربه ، قال تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ )(الإسراء: الآية26) الآية وقال : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى ) (النساء: الآية36) فيجب على كل قريب أن يصل قريبه بالمعروف ببذل الجاه والنفع البدني والنفع المالي ، بحسب ما تتطلبه قوة القرابة والحاجة وهذا ما يقتضيه الشرع والعقل والفطرة .
وقد كثرت النصوص في الحث على صلة الرحم وهو القريب ، والترغيب في ذلك ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة . فقال الله : نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى . قال : فذلك لك ) . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقرؤوا إن شئتم : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:22- 23) (9) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه )(10) .(8/17)
وكثير من الناس مضيعون لهذا الحق مفرطون فيه ، تجد الواحد منهم لا يعرف قرابته بصلة ، لا بالمال ولا بالجاه ولا بالخلق وتمضي الأيام والشهور من رآهم ولا قام بزيارتهم ولا تودد إليهم بهدية ، ولا دفع عنهم ضرورة أو حاجة ، بل ربما أساء إليهم بالقول أو بالفعل أو بالقول والفعل جميعا ، يصل البعيد ويقطع القريب .
ومن الناس من يصل أقاربه إن وصلوه ويقطعهم إذا قطعوه . وهذا ليس بواصل في الحقيقة وإنما هو مكافئ للمعروف بمثله وهو حاصل للقريب وغيره ، فإن المكافأة لا تختص بالقريب ، والواصل حقيقة هو : الذي يصل قرابته لله ولا يبالي سواء وصلوه أم لا ، كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) (11) . وسأله رجل فقال : ( يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني ، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ ، وأحلم عليهم ويجهلون عليّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ّ ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك )(12) . رواه مسلم .
ولو لم يكن في صلة الرحم إلا أن الله يصل الواصل في الدنيا والآخرة فيمده بالرحمة وييسر له الأمور ويفرج عنه الكربات . مع ما في صلة الرحم من تقارب الأسرة وتوادهم وحنو بعضهم على بعض ومعاونة بعضهم بعضا في الشدائد والسرور والبهجة الحاصلة بذلك كما هو مجرب معلوم . وكل هذه الفوائد تنعكس حينما تحل القطيعة ويحصل التباعد .
الحق السادس : حق الزوجين
للزواج آثار هامة ، ومقتضيات كبيرة فهو رابطة بين الزوج وزوجته ، يلزم كل واحد منهما بحقوق للآخر : حقوق بدنية ، وحقوق اجتماعية ، وحقوق مالية .(8/18)
فيجب على الزوجين أن يعاشر كل منهما الآخر بالمعروف ، وأن يبذل الحق الواجب له بكل سماحة وسهولة من غير تكره لبذله ولا مماطلة . قال الله تعالى : ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف)(النساء: الآية19) الآية وقال تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة)(البقرة: الآية228) الآية . كما يجب على المرأة أن تبذل لزوجها ما يجب عليها بذله ، ومتى قام كل واحد من الزوجين بما يجب عليه للآخر كانت حياتهما سعيدة ودامت العشرة بينهما ، وإن كان الأمر بالعكس حصل الشقاق والنزاع وتنكدت حياة كل منهما .
ولقد جاءت النصوص الكثيرة بالوصية بالمرأة ومراعاة حالها ، وأن كمال الحال من المحال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( استوصوا بالنساء خيرا ، فإن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء ) (13) . وفي رواية : ( إن المرأة خلقت من ضلع ولن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ) (14) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر ) (15) . ومعني لا يفرك: لا يبغض .
ففي هذه الأحاديث إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم أمته كيف يعامل الرجل المرأة وأنه ينبغي أن يأخذ منها ما تيسر لأن طبيعتها التي منها خلقت أن لا تكون على الوجه الكامل ، بل لابد فيها من عوج ، ولا يمكن أن يستمتع بها الرجل ، إلا على الطبيعة التي خلقت عليها وفي هذه الأحاديث أنه ينبغي للإنسان أن يقارن بين المحاسن والمساوئ في المرأة فإنه إذا كره منها خلقا فليقارنه بالخلق الثاني الذي يرضاه منها ولا ينظر إليها بمنظار السخط والكراهية وحده .(8/19)
وإن كثيراً من الأزواج يريدون الحالة الكاملة من زوجاتهم ، وهذا شيء غير ممكن وبذلك يقعون في النكد ، ولا يتمكنون من الاستمتاع والمتعة بزوجاتهم ، وربما أدى ذلك إلى الطلاق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ). فينبغي للزوج أن يتساهل ويتغاضى عن كل ما تفعله الزوجة إذا كان لا يخل بالدين أو الشرف .
ومن حقوق الزوجة على زوجها : أن يقوم بواجب نفقتها من الطعام والشراب والكسوة والمسكن . وتوابع ذلك لقوله تعالى : ( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(البقرة: الآية233) قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وسئل ما حق زوجة أحدنا عليه قال : ( أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت )(16) . رواه أبو داؤود .
ومن حقوق الزوجة على زوجها : أن يعدل بينها وبين جارتها إن كان له زوجة ثانية ، يعدل بينهما في الإنفاق والسكنى والمبيت وكل ما يمكنه العدل فيه ، فإن الميل إلى إحداهما كبيرة من الكبائر ، قال صلى الله عليه وسلم : ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) (17) . وأما ما لا يمكنه أن يعدل فيه كالمحبة وراحة النفس فإنه لا إثم عليه فيه ؛ لأن هذا بغير استطاعته قال الله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ )(النساء: الآية129). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) (18) .(8/20)
ولكن لو فضل إحداهما على الأخرى في المبيت برضاها فلا بأس ؛ كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سوده حين وهبته سوده لعائشة ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل وهو في مرضه الذي مات فيه ؛ أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً ؟ فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء ، فكان في بيت عائشة حتى مات . (19)
أما حقوق الزوج على زوجته فهي أعظم من حقوقها عليه لقوله تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )(البقرة: الآية228) والرجل قوام على المرأة يقوم بمصالحها وتأديبها وتوجيهها كما قال تعالى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ )(النساء: الآية34) .
فمن حقوق الزوج على زوجته : أن تطيعه في غير معصية الله وأن تحفظه في سره وماله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) (20) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) (21) .
ومن حقوقه عليها : أن لا تعمل عملا يضيع عليه كمال الاستمتاع حتى لو كان ذلك تطوعا بعبادة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه ) (22) .
ولقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الزوج عن زوجته من أسباب دخولها الجنة ؛ فروى الترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة ) (23).
الحق السابع : حقوق الولاة على الرعية(8/21)
الولاة : هم الذين يتولون أمور المسلمين ، سواء كانت الولاية عامة كالرئيس الأعلى في الدولة أو ولاية خاصة على إدارة معينة أو عمل معين ، وكل هؤلاء لهم حق يجب القيام به على رعيتهم ، ولرعيتهم حق عليهم كذلك .
فحقوق الرعية على الولاة : أن يقوموا بالأمانة التي حملها الله إياها وألزمهم القيام بها من النصح للرعية والسير بها على النهج القويم الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة وذلك بإتباع سبيل المؤمنين ، وهي الطريق التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فيها السعادة لهم ولرعيتهم ومن تحت أيديهم وهي أبلغ شيء يكون به رضا الرعية عن رعاتهم والارتباط بينهم والخضوع لأوامرهم وحفظ الأمانة فيما يولونه إياهم ؛ فإن من اتقى الله اتقاه الناس ومن أرضى الله كفاه الله مؤونة الناس وأرضاهم عنه لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء . وأما حقوق الولاة على الرعية فهي : النصح لهم فيما يتولاه الإنسان من أمورهم ، وتذكيرهم إذا غفلوا والدعاء لهم إذا مالوا عن الحق ، وامتثال أمرهم في غير معصية الله ، لأن في ذلك قوام الأمر وانتظامه ، وفي مخالفتهم وعصيانهم انتشار الفوضى وفساد الأمور ولذلك أمر الله بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59) الآية .وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )(24). متفق عليه .(8/22)
وقال عبد الله بن عمر : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فنادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إنه ما من نبي بعثه الله إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم ، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجئ فتنة يرقق بعضها بعضا تجئ الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي و تجئ الفتنة فيقول المؤمن : هذه ؛ هذه . فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاءه آخر ينازعه فأضربوا عنق الآخر )(25) رواه مسلم . وسأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : (يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه ، ثم سأله مرة ثانية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم ) (26) .
ومن حقوق الولاة على الرعية : مساعدة الرعية لولاتهم من مهماتهم بحيث يكونون عونا لهم على تنفيذ الأمر الموكول إليهم ، وأن يعرف كل واحد دوره ومسئوليته في المجتمع حتى تسير الأمور على الوجه المطلوب ، فإن الولاة إذا لم تساعدهم الرعية على مسئولياتهم لم تأت على الوجه المطلوب .
الحق الثامن : حق الجيران(8/23)
الجار هو : القريب منك في المنزل وله حق كبير عليك فإن كان قريبا منك في النسب وهو مسلم فله ثلاثة حقوق : حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام ، وإن كان مسلما وليس بقريب في النسب فله حقان ، حق الجوار وحق الإسلام ، وكذلك إن كان قريبا وليس بمسلم فله حقان : حق الجوار وحق القرابة ، وأن كان بعيدا غير مسلم فله حق واحد حق الجوار قال تعالى : ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) (النساء: الآية36) الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) متفق عليه (27). فمن حقوق الجار على جاره : إن يحسن إليه بما استطاع من المال والجاه والنفع فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير الجيران عنه الله خيرهم لجاره ) (28) .وقال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ) (29) . وقال أيضاً : ( إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك ) (30) .
ومن الإحسان إلى الجار تقديم الهدايا إليه في المناسبات فإن الهدية تجلب المودة وتزيل العداوة .
ومن حقوق الجار على جاره : أن يكف عنه الأذى القولي والفعلي ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن فقالوا من يا رسول الله ؟ قال الذي لا يأمن جاره بوائقه) (31). وفي رواية: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)(32) والبوائق الشرور فمن لا يأمن جاره شره فليس بمؤمن ولا يدخل الجنة .
وكثير من الناس الآن لا يهتمون بحق الجوار ولا يأمن جيرانهم من شرورهم ، فتراهم دائما نزاع معهم وشقاق واعتداء على الحقوق وإيذاء بالقول أو بالفعل وكل هذا مخالف لما أمر الله ورسوله ، وموجب لتفكك المسلمين وتباعد قلوبهم وإسقاط بعضهم حرمة بعض.
الحق التاسع : حقوق المسلمين عموما ً(8/24)
وهذه الحقوق كثيرة جدا : ومنها ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على ست : إذا لقيته فسلم عليه ، وإذا دعاك فاجبه ، وإذا استنصحك فأنصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه ) (33) . ففي هذا الحديث بيان عدة حقوق بين المسلمين : الحق الأول : السلام .
فالسلام سنة مؤكدة وهو من أسباب تآلف المسلمين وتوادهم ، كما هو مشاهد وكما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم )(34) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام ويسلم على الصبيان إذا مر بهم .
والسنة أن يسلم الصغير على الكبير ، والقليل على الكثير والراكب على الماشي ولكن إذا لم يقم بالسنة من هو أولى بها فليقم بها الآخر لئلا يضيع السلام ، فإذا لم يسلم الصغير فليسلم الكبير وإذا لم يسلم القليل فليسلم الكثير ليحوز الأجر .
قال عمار بن ياسر رضي الله عنه : ( ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان : الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار ) . وإذا كان بدء السلام سنة فإن رده فرض كفاية إذا قام به من يكفي أجزأ عن الباقين ، فإذا سلم على جماعة فرد واحد منهم أجزأ عن الباقين قال تعالى : (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا )(النساء:86) الآية ؟.
فلا يكفي في رد السلام أن يقول : أهلا وسهلا فقط ، لأنها ليست أحسن منه ولا مثله ؛ فإذا قال : السلام عليكم . فليقل : وعليكم السلام . وإذا قال : أهلا فليقل أهلاً مثلا بمثل . وإن زاد تحية فهو أفضل .(8/25)
الحق الثاني : إذا دعاك فأجبه ، أي إذا دعاك إلى منزله لتناول طعام أو غيره فأجبه، والإجابة إلى الدعوة سنة مؤكدة ، لما فيه من جبر قلب الداعي ، وجلب المودة والإلفة ويستثني من ذلك وليمة العرس ، فإن أجاب فإن الإجابة إلى الدعوة إليها واجبة بشروط معروفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله)(35)
ولعل قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دعاك فأجبه ) يشمل حتى الدعوة لمساعدته ومعاونته فإنك مأمور بإجابته فإذا دعاك لتعينه في حمل شيء أو القائه أو نحو ذلك فإنك مأمور بمساعدته لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) (36) .
الحق الثالث : إذا استنصحك فأنصحه : يعني إذا جاء إليك يطلب نصيحتك له في شيء فأنصحه لأن هذا من الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ، لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) (37) .
|أما إذا لم يأت إليك يطلب النصيحة فإن كان عليه ضرر أو إثم فيما سيقدم عليه وجب عليك أن تنصحه وإن لم يأت إليك ، لأن هذا من إزالة الضرر والمنكر عن المسلمين ، وإن كان لا ضرر عليه فيما سيفعل ولا إثم ولكنك ترى أن غيره أنفع له فإنه لا يجب عليك أن تقول له شيئا إلا أن يستنصحك فتلزم النصيحة .
الحق الرابع : إذا عطس فحمد الله فشمته ، أي قل له : يرحمك الله ، شكرا له على حمده لربه عند العطاس أما إذا عطس ولم يحمد الله فإنه لا حق له ، فلا يشمّت لأنه لما لم يحمد الله كان جزاؤه أن لا يشمت .
وتشميت العاطس إذا حمد فرض ، ويجب عليه الرد فيقول : يهديكم الله ويصلح بالكم ، وإذا استمر معه العطاس وشمته ثلاثا فقل له في الرابعة : عافاك الله . بدلا عن قولك : يرحمك الله .
الحق الخامس : إذا مرض فعده ، وعيادة المريض زيارته وهي حق له على إخوانه المسلمين ، فيجب عليهم القيام بها وكلما كان للمريض حق عليك من قرابة أو صحبة أو جوار كانت عيادته أوكد . .(8/26)
والعيادة بحسب حال المريض وبحسب حال المرض فقد تتطلب الحال كثرة التردد إليه ، وقد تتطلب الحال قلة التردد إليه ، فالأولي مراعاة الأحوال ، والسنة لمن عاد مريضا أن يسأل عن حاله ، ويدعو له ويفتح له باب الفرج والرجاء ، فإن ذلك من أكبر أسباب الصحة والشفاء وينبغي أن يذكره التوبة بأسلوب لا يروعه، فيقول له مثلاً : إنك في مرضك هذا تكتسب خيراً ، فإن المرض يكفر الله الخطايا ويمحو به السيئات ، ولعلك تكسب بانحباسك أجراً كثيراً بكثرة الذكر والاستغفار والدعاء .
الحق السادس : إذا مات فاتبعه : فاتباع الجنائز من حقوق المسلم على أخيه , وفيه أجر كبير ، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من تبع الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان ) قيل : ما القيراطان ؟ قال : مثل الجبلين العظيمين )(38) .
سابعا : ومن حقوق المسلم على المسلم كف الأذى عنه ، فإن في أذية المسلمين إثما عظيماً قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58) والغالب أن من تسلط على أخيه بأذية فإن الله ينتقم منه في الدنيا قبل الآخرة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، بحسب امرئ ٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) (39) .
وحقوق المسلم على المسلم كثيرة ، ولكن يمكن أن يكون المعنى الجامع لها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم ) فإنه متى قام بمقتضى هذه الإخوة اجتهد أن يتحرى له الخير كله وأن يجتنب كل ما يضره .
الحق العاشر : حق غير المسلمين(8/27)
غير المسلمين يشمل جميع الكافرين وهم أصناف أربعة : حربيون ومستأمِنون ـ بكسر الميم ـ ومعاهدون وذميون .
فأما الحربيون فليس لهم علينا حق من حماية أو رعاية وأما المستأمنون فلهم علينا حق الحماية في الوقت والمكان المحددين لتأمينهم لقول الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة:6) الآية .
وأما المعاهدون فلهم علينا الوفاء بعهدهم إلى المدة التي جرى الاتفاق عليها بيننا وبينهم ما داموا مستقيمين لنا على العهد لم ينقصونا شيئا ولم يعينوا أحدا علينا ولم يطعنوا في ديننا لقول الله تعالى : (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4) ، وقوله : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ) (التوبة:12) الآية .
وأما الذميون فهم أكثر هؤلاء الأصناف حقوقا ً فيما لهم وعليهم ، وذلك لأنهم يعيشون في بلاد المسلمين وتحت حمايتهم ورعايتهم بالجزية التي يبذلونها .
فيجب على ولي أمر المسلمين أن يحكم فيهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض ، وأن يقيم الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه ، ويجب عليه حمايتهم وكف الأذى عنهم .
ويحب أن يتميزوا عن المسلمين في اللباس ، وألا يظهروا شيئا منكرا في الإسلام أو شيئاً من شعائر دينهم كالناقوس والصليب ، وأحكام أهل الذمة موجودة في كتب أهل العلم لا نطيل بها هنا .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
محمد الصالح العثيمين
---(8/28)
(33) أخرجه مسلم كتاب السلام باب من حق المسلم للمسلم رد السلام (2162) (5) وأخرجه البخاري بلفظ قريب وفيه (خمس ) بدل ست كتاب الجنائز باب الأمر باتباع الجنائز (1240).
(34) أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة المؤمنين من الإيمان ...(54) .
(35) أخرجه مسلم كتاب النكاح باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة (1432) (110)، وأخرجه البخاري بمعناه في كتاب النكاح باب من ترك الدعوة فقد عصي الله ورسوله (5177) .
(362) أخرجه البخاري كتاب المظالم باب نصر المظلوم (2446 ) ومسلم كتاب البر والصلة والأداب باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2585) .
(37) أخرجه البخاري تعليقا كتاب الإيمان باب قوله صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة ... ( ص35) ط بيت الأفكار الدولية . ومسلم مرفوعا عن تميم الداري كتاب الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة (55).
(38) أخرجه البخاري كتاب الجنائز باب من انتظر حتى تدفن (1325) ومسلم كتاب الجنائز باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها ( 945)
(39) أخرجه البخاري مختصرا كتاب الأدب باب ما ينهي عن التحاسد والتدابر (6065) وفي باب الهجرة (6067) ومسلم كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره (2564) .
---
(27) أخرجه البخاري كتاب الأدب باب الوصاة بالجار (6014- 6015) ومسلم كتاب البر والصلة والآداب باب الوصية بالجار والإحسان إليه (2624-2625) .
(28) أخرجه الترمذى كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في حق الجوار (1944) وأحمد ( 2/167) وعبد بن عبد الحميد ( 342) والبخاري في الأدب المفرد (115) وابن خزيمة (2539) وقال الترمذي حديث حسن غريب وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 3270) .
(29) أخرجه البخاري كتاب الأدب باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (6019) ومسلم كتاب الإيمان باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت (48) .(8/29)
(30) أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب الوصية بالجار والإحسان إليه (2625) (142) .
(31) أخرجه البخاري كتاب الأدب باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه (6016).
(32) أخرجه مسلم كتاب الإيمان ، باب تحريم إيذاء الجار (46).
---
(24) أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير باب السمع والطاعة للإمام ( 2955) ومسلم كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (1839) .
(25) أخرجه مسلم كتاب الإمارة باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (1844).
(26) أخرجه مسلم كتاب الإمارة باب طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق (1846).
---
(13) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب خلق آدم وذريته (3331) ومسلم كتاب الرضاع باب الوصية بالنساء (1468/60) .
(14) عند مسلم في الموضع السابق (1468/59).
(15) أخرجه مسلم كتاب الرضاع باب الوصية بالنساء (1469).
(16) أخرجه أبو داوود كتاب النكاح باب في حق المرأة على زوجها (2142) وابن ماجه كتاب النكاح باب حق المرأة على الزوج (1850) وقال الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح ( 2/972) إسناده جسن .
(17) أخرجه أبو داوود كتاب النكاح باب في القسم بين النساء (2133) والترمذي كتاب النكاح باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (1141) وابن ماجه كتاب النكاح باب القسمة بين النساء ( 1969) وصححه الألباني في صحيح الجامع (6515).
(18) أخرجه أبو داوود كتاب النكاح باب في القسم بين النساء (2134) والترمذي كتاب النكاح باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (1140) وابن ماجه كتاب النكاح باب القسمة بين النساء ( 1971)
(19) أخرجه البخاري كتاب النكاح باب إذا استأذن الرجل نساءه (5217) ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها (2443).(8/30)
(20) أخرجه أبو داوود كتاب النكاح باب حق الزوج على المرأة (2140) والترمذي كتاب الرضاع باب ما جاء في حق الزوج على المرأة (1159) وقال الترمذي : حديث حسن غريب . وصححه الألباني في صحيح الجامع (5294).
(21) أخرجه البخاري كتاب النكاح باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها (5193) ومسلم كتاب النكاح باب تحريم امتناعها في فراش زوجها ( 1436/ 122).
(22) أخرجه البخاري كتاب النكاح باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه (5195) ومسلم كتاب الزكاة ؛ باب ما أنفق العبد من مال مولاه (1026) .
(23) أخرجه الترمذي باب الرضاع باب ما جاء في حق الزوج على المرأة (1161) وابن ماجه كتاب النكاح باب حق الزوج على المرأة (1854) وقال الترمذي حسن غريب.
---
(9) أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب من وصل وصله الله (5987) ومسلم كتاب البر والصلة والآداب باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (2554).
(10) أخرجه البخاري كتاب الأدب باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه (6138).
(11) أخرجه البخاري كتاب الأدب باب ليس الواصل بالمكافئ ( 5991) .
(12) أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (2558).
---
(4) أخرجه البخاري كتاب الجمعة باب الجمعة في القرى والمدن (893) ومسلم كتاب الإمارة باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (1827) .
(5) أخرجه مسلم كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631) .
(6) أخرجه البخاري كتاب الهبة باب الهبة للولد (2587) ومسلم كتاب الهبات باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623/9).
(7) أخرجه البخاري كتاب الهبة باب الإشهاد في الهبة (2587) ومسلم في الموضع السابق (1623/13).
(8) أخرجه البخاري كتاب الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2650) ومسلم في الموضع السابق (1623/14).
---(8/31)
(3) أخرجه البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب فضل الصلاة لوقتها (527) ومسلم كتاب الإيمان باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (85) .
---
(2) أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (15) ومسلم كتاب الإيمان باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والناس أجمعين ....(44)
---
(1) أخرجه البخاري ، كتاب أبواب تقصير الصلاة ، باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب (1117).(8/32)
رسالة الحجاب
المقدمة
محمد بن صالح العثيمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فلقد بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم، بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، بعثه الله لتحقيق عبادة الله تعالى، وذلك بتمام الذل والخضوع له تبارك وتعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتقديم ذلك على هوى النفس وشهواتها. وبعثه الله متمماً لمكارم الأخلاق داعياً إليها بكل وسيلة، وهادماً لمساوىء الأخلاق محذراً رسالة الحجاب
عنها بكل وسيلة، فجاءت شريعته، صلى الله عليه وسلّم، كاملة من جميع الوجوه. لا تحتاج إلى مخلوق في تكميلها أو تنظيمها، فإنها من لدن حكيم خبير، عليم بما يصلح عباده رحيم بهم.
وإن من مكارم الأخلاق التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلّم، ذلك الخلق الكريم، خلق الحياء الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلّم من الإيمان، وشعبة من شعبه، ولا ينكر أحد أن من الحياء المأمور به شرعاً وعُرفاً احتشام المرأة وتخلقها بالأخلاق التي تبعدها عن مواقع الفتن ومواضع الريب. وإن مما لا شك فيه أن احتجابها بتغطية وجهها ومواضع الفتنة منها لهو من أكبر احتشام تفعله وتتحلى به لما فيه من صونها وإبعادها عن الفتنة.
ولقد كان الناس في هذه البلاد المباركة بلاد الوحي والرسالة والحياء والحشمة كانوا على طريق الاستقامة في ذلك فكان النساء يخرجن متحجبات متجلببات بالعباءة أو نحوها بعيدات عن مخالطة الرجال الأجانب، ولا تزال الحال كذلك في كثير من بلدان المملكة ولله الحمد. لكن لما حصل ما حصل من الكلام حول رسالة الحجاب(8/33)
الحجاب ورؤية من لا يفعلونه ولا يرون بأساً بالسفور صار عند بعض الناس شك في الحجاب وتغطية الوجه هل هو واجب أو مستحب؟ أو شيء يتبع العادات والتقاليد ولا يحكم عليه بوجوب ولا استحباب في حد ذاته؟ ولإزالة هذا الشك وجلاء حقيقة الأمر أحببت أن أكتب ما تيسر لبيان حكمه، راجياً من الله تعالى أن يتضح به الحق، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين الذين رأوا الحق حقّاً واتبعوه ورأوا الباطل باطلاً فاجتنبوه فأقول وبالله التوفيق:
اعلم أيها المسلم أن احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها أمر واجب دل على وجوبه كتاب ربك تعالى، وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلّم، والاعتبار الصحيح، والقياس المطرد:
رسالة الحجاب
أولاً: أدلة القرآن
محمد بن صالح العثيمين
فمن أدلة القرآن:
* الدليل الأول: قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. (النور: 31).
وبيان دلالة هذه الاية على وجوب الحجاب على المرأة عن الرجال الأجانب وجوه:(8/34)
1 ـ أن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن والأمر بحفظ الفرج أمر به وبما يكون وسيلة إليه، ولا يرتاب عاقل أن من وسائله تغطية الوجه؛ لأن كشفه سبب للنظر إليها وتأمل محاسنها والتلذذ بذلك، وبالتالي إلى الوصول والاتصال. وفي الحديث: «العينان تزنيان وزناهما النظر». إلى أن قال: «والفرج يصدق ذلك أو يكذبه». فإذا كان تغطية الوجه من وسائل حفظ الفرج كان مأموراً به؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
2 ـ قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. فإن الخمار ما تخمر به المرأة رأسها وتغطيه به كالغدفة فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها، إما لأنه من لازم ذلك، أو بالقياس فإنه إذا وجب ستر النحر والصدر كان وجوب ستر الوجه من باب أولى؛ لأنه موضع الجمال والفتنة. فإن الناس الذين يتطلبون جمال الصورة لا يسألون إلا عن الوجه، فإذا كان جميلاً لم ينظروا إلى ما سواه نظراً ذا أهمية. ولذلك إذا قالوا فلانة جميلة لم يفهم من هذا الكلام إلا جمال الوجه فتبين أن الوجه هو موضع الجمال طلباً وخبراً، فإذا كان كذلك فكيف يفهم أن هذه الشريعة الحكيمة تأمر بستر الصدر والنحر ثم ترخص في كشف الوجه.(8/35)
3 ـ إن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقاً إلا ما ظهر منها، وهي التي لابد أن تظهر كظاهر الثياب ولذلك قال: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لم يقل إلا ما أظهرن منها، ثم نهى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم، فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى. فالزينة الأولى هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد ولا يمكن إخفاؤها، والزينة الثانية هي الزينة الباطنة التي يتزين بها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الأولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة.
4 ـ أن الله تعالى يرخص بإبداء الزينة الباطنة للتابعين غير أولي الإربة من الرجال وهم الخدم الذين لا شهوة لهم، وللطفل الصغير الذين لم يبلغ الشهوة ولم يطلع على عورات النساء فدل هذا على أمرين:
أحدهما: أن إبداء الزينة الباطنة لا يحل لأحد من الأجانب إلا لهذين الصنفين.
الثاني: أن علة الحكم ومداره على خوف الفتنة بالمرأة والتعلق بها، ولا ريب أن الوجه مجمع الحسن وموضع الفتنة فيكون ستره واجباً لئلا يفتتن به أولو الإربة من الرجال.(8/36)
5 ـ قوله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
يعني لا تضرب المرأة برجلها فيعلم ما تخفيه من الخلاخيل ونحوها مما تتحلى به للرجل، فإذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالأرجل خوفاً من افتتان الرجل بما يسمع من صوت خلخالها ونحوه فكيف بكشف الوجه.
فأيما أعظم فتنة أن يسمع الرجل خلخالاً بقدم امرأة لا يدري ما هي وما جمالها؟! لا يدري أشابة هي أم عجوز؟! ولا يدري أشوهاء هي أم حسناء؟! أيما أعظم فتنة هذا أو أن ينظر إلى وجه سافر جميل ممتلىء شباباً ونضارة وحسناً وجمالاً وتجميلاً بما يجلب الفتنة ويدعو إلى النظر إليها؟! إن كل إنسان له إربة في النساء ليعلم أي الفتنتين أعظم وأحق بالستر والإخفاء.
* الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلَتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ }. (النور: 60).(8/37)
وجه الدلالة من هذه الاية الكريمة أن الله تعالى نفى الجناح وهو الإثم عن القواعد وهن العواجز اللاتي لا يرجون نكاحاً لعدم رغبة الرجال بهن لكبر سنهن. نفى الله الجناح عن هذه العجائز في وضع ثيابهن بشرط أن لا يكون الغرض من ذلك التبرج بالزينة. ومن المعلوم بالبداهة أنه ليس المراد بوضع لثياب أن يبقين عاريات، وإنما المراد وضع الثياب التي تكون فوق الدرع ونحوه مما لا يستر ما يظهر غالباً كالوجه والكفين فالثياب المذكورة المرخص لهذه العجائز في وضعها هي الثياب السابقة التي تستر جميع البدن وتخصيص الحكم بهؤلاء العجائز دليل على أن الشواب اللاتي يرجون النكاح يخالفنهن في الحكم، ولو كان الحكم شاملاً للجميع في جواز وضع الثياب ولبس درع ونحوه لم يكن لتخصيص القواعد فائدة.
وفي قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ }. دليل آخر على وجوب الحجاب على الشابة التي ترجو النكاح؛ لأن الغالب عليها إذا كشفت وجهها أن تريد التبرج بالزينة وإظهار جمالها وتطلع الرجال لها ومدحهم إياها ونحو ذلك، ومن سوى هذه نادرة والنادر لا حكم له.
* الدليل الثالث: قوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِزْوَجِكَ وَبَنَتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }. (الأحزاب: 59).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة». وتفسير الصحابي حجة، بل قال بعض العلماء أنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وقوله رضي الله عنه «ويبدين عيناً واحدة» إنما رخص في ذلك لأجل الضرورة والحاجة إلى نظر الطريق فأما إذا لم يكن حاجة فلا موجب لكشف العين.(8/38)
والجلباب هو الرداء فوق الخمار بمنزلة العباءة. قالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت هذه الاية: «خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها». وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن من أجل رؤية الطريق.
* الدليل الرابع: قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً }. (الأحزاب: 55).
قال ابن كثير رحمه الله: لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بيّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب عنهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. الاية.
فهذه أربعة أدلة من القرآن الكريم تفيد وجوب احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب، والاية الأولى تضمنت الدلالة عن ذلك من خمسة أوجه.
رسالة الحجاب
ثانياً: أدلة السنة
محمد بن صالح العثيمين
وأما أدلة السنة فمنها:(8/39)
الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلّم: «إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة وإن كانت لا تعلم». رواه أحمد.
قال في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح. وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلّم، نفى الجناح وهو الإثم عن الخاطب خاصة إذا نظر من مخطوبته بشرط أن يكون نظره للخطبة، فدل هذا على أن غير الخاطب آثم بالنظر إلى الأجنبية بكل حال، وكذلك الخاطب إذا نظر لغير الخطبة مثل أن يكون غرضه بالنظر التلذذ والتمتع به نحو ذلك.
فإن قيل: ليس في الحديث بيان ما ينظر إليه. فقد يكون المراد بذلك نظر الصدر والنحر فالجواب أن كل أحد يعلم أن مقصود الخاطب المريد للجمال إنما هو جمال الوجه وما سواه تبع لا يقصد غالباً. فالخاطب إنما ينظر إلى الوجه لأنه المقصود بالذات لمريد الجمال بلا ريب.
© الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما أمر بإخراج النساء إلى مصلى العيد قلن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لتلبسها أختها من جلبابها». رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فهذا الحديث يدل على أن المعتاد عند نساء الصحابة أن لا تخرج المرأة إلا بجلباب، وأنها عند عدمه لا يمكن أن تخرج. ولذلك ذكرن رضي الله عنهن هذا المانع لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، حينما أمرهن بالخروج إلى مصلى العيد فبين النبي صلى الله عليه وسلّم، لهن حل هذا الإشكال بأن تلبسها أختها من جلبابها ولم يأذن لهن بالخروج بغير جلباب، مع أن الخروج إلى مصلى العيد مشروع مأمور به للرجال والنساء، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لم يأذن لهن بالخروج بغير جلباب فيما هو مأمور به فكيف يرخص لهن في ترك الجلباب لخروج غير مأمور به ولا محتاج إليه؟! بل هو التجول في الأسواق والاختلاط بالرجال والتفرج الذي لا فائدة منه. وفي الأمر بلبس الجلباب دليل على أنه لابد من التستر. والله أعلم.(8/40)
© الدليل الثالث: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس. وقالت: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها. وقد روى نحو هذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. والدلالة في هذا الحديث من وجهين:
أحدهما: أن الحجاب والتستر كان من عادة نساء الصحابة الذين هم خير القرون، وأكرمها على الله عز وجل، وأعلاها أخلاقاً وآداباً، وأكملها إيماناً، وأصلحها عملاً فهم القدوة الذين رضي الله عنهم وعمن اتبعوهم بإحسان، كما قال تعالى: {وَالسَّبِقُونَ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَجِرِينَ وَالأَنْصَرِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَجِرِينَ وَالأَنْصَرِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }. (التوبة: 100). فإذا كانت تلك طريقة نساء الصحابة فكيف يليق بنا أن نحيد عن تلك الطريقة التي في اتباعها بإحسان رضى الله تعالى عمن سلكها واتبعها، وقد قال الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }. (النساء: 115).(8/41)
الثاني: أن عائشة أم المؤمنين وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما وناهيك بهما علماً وفقهاً وبصيرة في دين الله ونصحاً لعباد الله أخبرا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لو رأى من النساء ما رأياه لمنعهن من المساجد، وهذا في زمان القرون المفضلة تغيرت الحال عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم، إلى حد يقتضي منعهن من المساجد. فكيف بزماننا هذا بعد نحو ثلاثة عشر قرناً وقد اتسع الأمر وقل الحياء وضعف الدين في قلوب كثير من الناس؟!
وعائشة وابن مسعود رضي الله عنهما فهما ما شهدت به نصوص الشريعة الكاملة من أن كل أمر يترتب عليه محذور فهو محظور.
© الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». فقالت أم سلمة فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: «يرخينه شبراً». قالت إذن تنكشف أقدامهن. قال: «يرخينه ذراعاً ولا يزدن عليه». ففي هذا الحديث دليل على وجوب ستر قدم المرأة وأنه أمر معلوم عند نساء الصحابة رضي الله عنهم، والقدم أقل فتنة من الوجه والكفين بلا ريب. فالتنبيه بالأدنى تنبيه على ما فوقه وما هو أولى منه بالحكم، وحكمة الشرع تأبى أن يجب ستر ما هو أقل فتنة ويرخص في كشف ما هو أعظم منه فتنة، فإن هذا من التناقض المستحيل على حكمة الله وشرعه.
© الدليل الخامس: قوله صلى الله عليه وسلّم: «إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه». رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. وجه الدلالة من هذا الحديث أنه يقتضي أن كشف السيدة وجهها لعبدها جائز مادام في ملكها فإذا خرج منه وجب عليها الاحتجاب لأنه صار أجنبياً فدل على وجوب احتجاب المرأة عن الرجل الأجنبي.(8/42)
© الدليل السادس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول صلى الله عليه وسلّم، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها. فإذا جاوزونا كشفناه»، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. ففي قولها: «فإذا جاوزونا» تعني الركبان «سدلت إحدانا جلبابها على وجهها» دليل على وجوب ستر الوجه لأن المشروع في الإحرام كشفه، فلولا وجود مانع قوي من كشفه حينئذ لوجب بقاؤه مكشوفاً. وبيان ذلك أن كشف الوجه في الإحرام واجب على النساء عند الأكثر من أهل العلم والواجب لا يعارضه إلا ما هو واجب، فلولا وجوب الاحتجاب وتغطية الوجه عن الأجانب ما ساغ ترك الواجب من كشفه حال الإحرام، وقد ثبت في الصحيحين وغيرها أن المرأة المحرمة تنهى عن النقاب والقفازين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن. فهذه ستة أدلة من السنة على وجوب احتجاب المرأة وتغطية وجهها عن الرجال الأجانب أضف إليها أدلة القرآن الأربعة تكن عشرة أدلة من الكتاب والسنة.
رسالة الحجاب
ثالثاً: أدلة القياس
محمد بن صالح العثيمين
الدليل الحادي عشر: الاعتبار الصحيح والقياس المطرد الذي جاءت به هذه الشريعة الكاملة وهو إقرار المصالح ووسائلها والحث عليها، وإنكار المفاسد ووسائلها والزجر عنها. فكل ما كانت مصلحته خالصة أو راجحة على مفسدته فهو مأمور به أمر إيجاب أو أمر استحباب. وكل ما كانت مفسدته خالصة أو راجحة على مصلحة فهو نهي تحريم أو نهي تنزيه. وإذا تأملنا السفور وكشف المرأة وجهها للرجال الأجانب وجدناه يشتمل على مفاسد كثيرة وإن قدر فيه مصلحة فهي يسيرة منغمرة في جانب المفاسد. فمن مفاسده:
1 ـ الفتنة، فإن المرأة تفتن نفسها بفعل ما يجمل وجهها ويبهيه ويظهره بالمظهر الفاتن. وهذا من أكبر دواعي الشر والفساد.(8/43)
2 ـ زوال الحياء عن المرأة الذي هو من الإيمان ومن مقتضيات فطرتها. فقد كانت المرأة مضرب المثل في الحياء. «أحي من العذراء في خدرها»، وزوال الحياء عن المرأة نقص في إيمانها، وخروج عن الفطرة التي خلقت عليها.
3 ـ افتتان الرجال بها لاسيما إذا كانت جميلة وحصل منها تملق وضحك ومداعبة في كثير من السافرات وقد قيل «نظرة فسلام، فكلام، فموعد فلقاء».
والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. فكم من كلام وضحك وفرح أوجب تعلق قلب الرجل بالمرأة، وقلب المرأة بالرجل فحصل بذلك من الشر ما لا يمكن دفعه نسأل الله السلامة.(8/44)
4 ـ اختلاط النساء بالرجال، فإن المرأة إذا رأت نفسها مساوية للرجل في كشف الوجه والتجول سافرة لم يحصل منها حياء ولا خجل من مزاحمة، وفي ذلك فتنة كبيرة وفساد عريض. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلّم، ذات يوم من المسجد وقد اختلط النساء مع الرجال في الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق. عليكن بحافات الطريق». فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق به من لصوقها. ذكره ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.(8/45)
وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على وجوب احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب، فقال في الفتاوى المطبوعة أخيراً ص 110 ج 2 من الفقه و22 من المجموع: (وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة، ويجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوات المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره. ثم لما أنزل الله آية الحجاب بقوله: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِزْوَجِكَ وَبَنَتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } (حجب النساء عن الرجال). ثم قال: (والجلباب هو الملاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء وتسميه العامة الإزار وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها، ثم يقال: فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت أن لا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلى الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين) إلى أن قال: (وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلا الثياب). وفي ص 117، 118 من الجزء المذكور (وأما وجهها ويداها وقدماها فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب لم تنه عن إبدائه للنساء ولا لذوي المحارم) وفي ص 152 من هذا الجزء قال: (وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان: أحدهما الفرق بين الرجال والنساء. الثاني: احتجاب النساء). هذا كلام شيخ الإسلام، وأما كلام غيره من فقهاء أصحاب الإمام أحمد فأذكر المذهب عند المتأخرين قال في المنتهى (ويحرم نظر خصي(8/46)
ومجبوب إلى أجنبية) وفي موضع آخر من الإقناع (ولا يجوز النظر إلى الحرة الأجنبية قصداً ويحرم نظر شعرها) وقال في متن الدليل: (والنظر ثمانية أقسام...).
الأول: نظر الرجل البالغ ولو مجبوباً للحرة البالغة الأجنبية لغير حاجة فلا يجوز له نظر شيء منها حتى شعرها المتصل أ.هـ
وأما كلام الشافعية فقالوا إن كان النظر لشهوة أو خيفت الفتنة به فحرام قطعاً بلا خلاف، وإن كان النظر بلا شهوة ولا خوف فتنة ففيه قولان حكاهما في شرح الإقناع لهم وقال: (الصحيح يحرم كما في المنهاج كأصله ووجه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه وبأن النظر مظنة للفتنة ومحرك للشهوة).
وقد قال الله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }. واللائق بمحاسن الشريعة سد الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال ا.هـ. كلامه. وفي نيل الأوطار وشرح المنتقى (ذكر اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لاسيما عند كثرة الفساق).
رسالة الحجاب
رابعاً: أدلة المبيحين لكشف الوجه
محمد بن صالح العثيمين
ولا أعلم لمن أجاز نظر الوجه والكفين من الأجنبية دليلاً من الكتاب والسنة سوى ما يأتي:(8/47)
الأول: قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هي وجهها وكفاها والخاتم». قال الأعمش عن سعيد بن جبير عنه. وتفسير الصحابي حجة كما تقدم.
الثاني: ما رواه أبو داود في «سننه» عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت سن المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا». وأشار إلى وجهه وكفيه.
الثالث: ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أخاه الفضل كان رديفاً للنبي صلى الله عليه وسلّم، في حجة الوداع فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم، يصرف وجه الفضل إلى الشق الاخر، ففي هذا دليل على أن هذه المرأة كاشفة وجهها.(8/48)
الرابع: ما أخرجه البخاري وغيره من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلّم، بالناس صلاة العيد ثم وعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن وقال: «يا معشر النساء تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم». فقامت امرأة من سطة النساء سعفاء الخدين. الحديث، ولولا أن وجهها مكشوفاً ما عرف أنها سعفاء الخدين.
هذا ما أعرفه من الأدلة التي يمكن أن يستدل بها على جواز كشف الوجه للأجانب من المرأة.
رسالة الحجاب
خامساً: الجواب عن هذه الأدلة
محمد بن صالح العثيمين
ولكن هذه الأدلة لا تعارض ما سبق من أدلة وجوب ستره وذلك لوجهين:
أحدهما: أن أدلة وجوب ستره ناقلة عن الأصل، وأدلة جواز كشفه مبقية على الأصل، والناقل عن الأصل مقدم كما هو معروف عند الأصوليين. وذلك لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه. فإذا وجد الدليل الناقل عن الأصل دل ذلك على طروء الحكم على الأصل وتغييره له. ولذلك نقول إن مع الناقل زيادة علم. وهو إثبات تغيير الحكم الأصلي والمثبت مقدم على النافي. وهذا الوجه إجمالي ثابت حتى على تقدير تكافؤ الأدلة ثبوتاً ودلالة.
الثاني: إننا إذا تأملنا أدلة جواز كشفه وجدناها لا تكافىء أدلة المنع ويتضح ذلك بالجواب عن كل واحد منها بما يلي:
1 ـ عن تفسير ابن عباس ثلاثة أوجه:
أحدهما: محتمل أن مراده أول الأمرين قبل نزول آية الحجاب كما ذكره شيخ الإسلام ونقلنا كلامه آنفاً.
الثاني: يحتمل أن مراده الزينة التي نهى عن إبدائها كما ذكره ابن كثير في تفسيره ويؤيد هذين الاحتمالين تفسيره رضي الله عنه لقوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِزْوَجِكَ وَبَنَتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }. كما سبق في الدليل الثالث من أدلة القرآن.(8/49)
الثالث: إذا لم نسلم أن مراده أحد هذين الاحتمالين فإن تفسيره لا يكون حجة يجب قبولها إلا إذا لم يعارضه صحابي آخر. فإن عارضه صحابي آخر أخذ بما ترجحه الأدلة الأخرى، وابن عباس رضي الله عنهما قد عارض تفسيره ابن مسعود رضي الله عنه حيث فسر قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. بالرداء والثياب وما لابد من ظهوره فوجب طلب الترجيح والعمل بما كان راجحاً في تفسيريهما.
2 ـ وعن حديث عائشة بأنه ضعيف من وجهين:
أحدهما: الانقطاع بين عائشة وخالد بن دريك الذي رواه عنها كما أعله بذلك أبو داود نفسه حيث قال: خالد بن دريك لم يسمع من عائشة وكذلك أعله أبو حاتم الرازي.(8/50)
الثاني: أن في إسناده سعيد بن بشير النصري نزيل دمشق تركه ابن مهدي، وضعفه أحمد وابن معين وابن المديني والنسائي وعلى هذا فالحديث ضعيف لا يقاوم ما تقدم من الأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب الحجاب. وأيضاً فإن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها كان لها حين هجرة النبي صلى الله عليه وسلّم، سبع وعشرون سنة. فهي كبيرة السن فيبعد أن تدخل على النبي صلى الله عليه وسلّم، وعليها ثياب رقاق تصف منها ما سوى الوجه والكفين والله أعلم، ثم على تقدير الصحة يحمل على ما قبل الحجاب لأن نصوص الحجاب ناقلة عن الأصل فتقدم عليه.
3 ـ وعن حديث ابن عباس بأنه لا دليل فيه على جواز النظر إلى الأجنبية لأن النبي صلى الله عليه وسلّم، لم يقر الفضل على ذلك بل حرف وجهه إلى الشق الاخر ولذلك ذكر النووي في شرح صحيح مسلم بأن من فوائد هذا الحديث تحريم نظر الأجنبية، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في فوائد هذا الحديث: وفيه منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر، قال عياض وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة قال: وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلّم، إذا غطى وجه الفضل كما في الرواية. فإن قيل: فلماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلّم، المرأة بتغطية وجهها فالجواب أن الظاهر أنها كانت محرمة والمشروع في حقها أن لا تغطي وجهها إذا لم يكن أحد ينظر إليها من الأجانب، أو يقال لعل النبي صلى الله عليه وسلّم، أمرها بعد ذلك. فإن عدم نقل أمره بذلك لا يدل على عدم الأمر. إذ عدم النقل ليس نقلاً للعدم. وروى مسلم وأبو داود عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، عن نظرة الفجاءة فقال: «اصرف بصرك» أو قال: فأمرني أن أصرف بصري.(8/51)
4 ـ وعن حديث جابر بأن لم يذكر متى كان ذلك فإما أن تكون هذه المرأة من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً فكشف وجهها مباح، ولا يمنع وجوب الحجاب على غيرها، أو يكون قبل نزول آية الحجاب فإنها كانت في سورة الأحزاب سنة خمس أو ست من الهجرة، وصلاة العيد شرعت في السنة الثانية من الهجرة.
واعلم أننا إنما بسطنا الكلام في ذلك لحاجة الناس إلى معرفة الحكم في هذه المسألة الاجتماعية الكبيرة التي تناولها كثير ممن يريدون السفور. فلم يعطوها حقها من البحث والنظر، مع أن الواجب على كل باحث يتحرى العدل والإنصاف وأن لا يتكلم قبل أن يتعلم. وأن يقف بين أدلة الخلاف موقف الحاكم من الخصمين فينظر بعين العدل، ويحكم بطريق العلم، فلا يرجح أحد الطرفين بلا مرجح، بل ينظر في الأدلة من جميع النواحي، ولا يحمله اعتقاد أحد القولين على المبالغة والغلو في إثبات حججه والتقصير والإهمال لأدلة خصمه. ولذلك قال العلماء: «ينبغي أن يستدل قبل أن يعتقد» ليكون اعتقاده تابعاً للدليل لا متبوعاً له؛ لأن من اعتقد قبل أن يستدل قد يحمله اعتقاده على رد النصوص المخالفة لاعتقاده أو تحريفها إذا لم يمكنه ردها. ولقد رأينا ورأى غيرنا ضرر استتباع الاستدلال للاعتقاد حيث حمل صاحبه على تصحيح أحاديث ضعيفة. أو تحميل نصوص صحيحة ما لا تتحمله من الدلالة تثبيتاً لقوله واحتجاجاً له. فلقد قرأت مقالاً لكاتب حول عدم وجود الحجاب احتج بحديث عائشة الذي رواه أبو داود في قصة دخول أسماء بنت أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلّم، وقوله لها: «إن المرأة إذا بلغت سن المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا». وأشار إلى وجهه وكفيه وذكر هذا الكاتب أنه حديث صحيح متفق عليه، وأن العلماء متفقون على صحته، والأمر ليس كذلك أيضاً وكيف يتفقون على صحته وأبو داود راويه أعله بالإرسال، وأحد رواته ضعفه الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث، ولكن التعصب والجهل يحمل صاحبه على البلاء والهلاك.(8/52)
قال ابن القيم:
وتعر من ثوبين من يلبسهما يلقى الردى بمذلة وهوانثوب من الجهل المركب فوقه ثوب التعصب بئست الثوبانوتحل بالانصاف أفخر حلة زينت بها الأعطاف والكتفان وليحذر الكاتب والمؤلف من التقصير في طلب الأدلة وتمحيصها والتسرع إلى القول بلا علم فيكون ممن قال الله فيهم: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ }. (الأنعام: 144).
أو يجمع بين التقصير في طلب الدليل والتكذيب بما قام عليه الدليل فيكون منه شر على شر ويدخل في قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَفِرِينَ }. (الزمر: 32).
نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقّاً ويوفقنا لاتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويوفقنا لاجتنابه ويهدينا صراطه المستقيم إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وأصحابه، وأتباعه أجمعين.(8/53)
الزواج
مقدمة
محمد بن صالح العثيمين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه و نستغفره و نتوب اليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له و اشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له و اشهد أن محمدا عبده و رسوله صلي الله على اله وأصحابه و سلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإنني مسرور بما تيسر لي من المشاركة في الموسم الثقافي للمحاضرات في كليتي الشريعة و اللغة العربية بالقصيم لما ارجوه من الفائدة التي تحصل لي و لمن سمع محاضراتي أو قرأها إن شاء الله تعالى و اسأل الله تعالى أن يجعل عملنا جميعا خالصا لوجهه موافقا لمرضاته.
و لكنني أحب أن أقدم كلمة قبل الدخول في صميم المحاضرة تكون مناسبة – إن شاء الله – و هي أنكم تعرفون أيها الاخوة.. و أيها المشايخ إن الإسلام في عصرنا هذا محارب من جهات متعددة.
1- من جهة الكفار
2-من جهة الأخلاق
3-من جهة العقائد.
و انه كلما شنت الغارات وقويت فانه يجب أن يكون لها مضاد يقابلها بل يكون اعلي منها فإذا لم يكن ذلك فان معناه القضاء على الإسلام.
وهذا أمر في أعناق أهل العلم و أهل الدين، يجب عليهم أن يبذلوا الجهد ما استطاعوا بان يمنعوا هذه التيارات التي جاءتنا من كل جانب و التي أصبح الإنسان فيها بل الحليم حيران لا يدري كيف يتصرف ؟
ولقد كنا نسمع كثيرا إن أعداء المسلمين يقولون: انه يجب التركيز على – المملكة العربية السعودية – لكونها مهد الإسلام و قبلة المسلمين و قدوتهم، ولهذا تجدهم يشنون الغارات الشرسة و المكايد المحكمة و يكرسون جهودهم لحرب هذه المملكة و إذا لم يقم أهل هذه المملكة من علماء ومن مخلصين بإيصاد الباب أما هؤلاء و سوف يجوسون خلال الديار و سوف تجدون أمورا تنكرونها غاية الإنكار.
و الذي يجب علينا أمام هذه التيارات أيها الاخوة هو:
1- توحيد الدعوة
2-توحيد الجهد
3-الا نجعل بيننا مكانا لموطئ قدم من الأعداء(8/54)
و لكني أقول بالحقيقة أننا نعمل على ذلك كل منا كأنما يعمل وحده لا نجد اثنين الا ما شاء الله على هدف واحد أو بعبارة اصح على طريق واحد و إن كان الهدف متحدا.
لذلك أرى أن من واجب علماء هذه المملكة سواء في الرياض أو في الحجاز أو في القصيم أو في غيرها من مناطق المملكة إن يجتمعوا على كلمة واحدة و أن يدرسوا الموضوع بجد لأنه خطير فيما أرى، يدرسوه دراسة وافية لا فيما يتصل بوسائل الإعلام و لا فيما يتصل بوسائل الثقافة و مناهج المدارس و مقرراتها و لا فيما يكون بين عامة الناس من الانحراف و الانصراف عن أصول دينهم و فروعه.
و نحن نجد كثيرا من طلاب العلم مشغولون بغير ما هم مكلفون به بطلب الدنيا و الإقبال عليها و الالتفاف حولها و هذا في الحقيقة يضعف دعوتهم إلي الخير، يضعف قبولها أمام العامة أيضا فان لسلوك العالم خطرا بالغا في تأثيره على من حوله فإذا كان العامة لا يجدون من أهل العلم الا التكالب على الدنيا كما يتكالب عليها السوقة من عامة الناس فإنهم لن يثقون أبدا بما عندهم من الإرشادات و العلوم.
كذلك أيها الاخوة بالنسبة لولاة الأمور يجب علينا مناصحتهم))1. النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة )) ثلاثة مرات قالوا: لمن يا رسول الله ؟ قال: (( لله و لكتابه و لرسوله و لائمة المسلمين و عامتهم ))1 .
فالواجب علينا مناصحة ولاة الأمور و الا نعتمد على رجل أو رجلين أو ثلاثة أو أربعة، يناصحون ولاة الأمور، فولاة الأمور إذا كثر ناصحوهم و عرفوا الحق من كل جانب و جاءتهم النصيحة من كل وجه فإنهم لا بد أن يلتفتوا إلي ذلك و أن يسلكوا المنهج الذي نسال الله تعالى أن يوفقهم له، وهو منهج النبي صلي الله عليه وسلم ظاهرا و باطنا.(8/55)
كذلك بالنسبة للعامة نجد أكثر المساجد – مع الأسف – غالب أئمتها جهال ولا يرشدون و لا ينصحون لا يتكلمون و كان الناس قبل وقتنا الحاضر و قبل أن تفتح عليهم الدنيا، يأخذ إمامهم و أن لم يكن من طلبة العلم بعض الكتب المعتمدة، فيقرؤها على المصلين و ينتفعون بها، أما اليوم فغالب المساجد لا يقرا فيها شئ و لا يوجه الإمام جماعته إلي ما ينفعهم و لهذا تجد عزوف العامة عن المسائل الدينية كثيرا جدا و هذا كله بتقصير من أهل العلم و بتقصير ممن يهمهم هذا الأمر، فعلينا أيها الاخوة إن نجتمع و أن نوحد جهودنا و أن نناصح ولاة أمورنا و أن نبذل الجهد في نصح عامة المسلمين في المساجد و الطرقات و غيرها ما استطعنا إلي ذلك سبيلا.
و شئ آخر مهم جدا وهو العزلة بين الشباب و الشيوخ هذه العزلة التي أصبح الشباب فيها حيران لا يهتدون سبيلا كل هذا في الحقيقة من تقصير كبار السن وعدم التفات بعضهم إلي الشباب مطلقا حتى إنهم لا يصغون لهم وان قالوا رشدا و هذا من الخطأ فالواجب علينا أن نكون مع هؤلاء الشباب وان ننظر ما هم عليه و أن نلاحظ ما حولهم مما يؤثر عليهم و ما السبب الذي أوجب لهم هذا العزوف و الانصراف عن الإقبال على دينهم ؟ حتى إذا عرفنا الداء أمكننا أن نقوم بإعطاء الدواء.
و أما كوننا إذا سمعنا ما لا ينبغي عن بعضهم اعرضنا عن الجميع ثم نبذناهم و جعلنا نسبهم في كل مكان و لا نبالي بشأنهم و ننظر إليهم بعين الاحتقار فهذا مما يوجب الشر العظيم من بعد الشباب عن الشيوخ و عن أهل العلم و الدين حتى تقودهم الشياطين إلي ما تريد.
فعلينا أيها الاخوة أن نراعي هذه المسالة الخطير وان نلقي لها بالا و نحسب لها حسابا.(8/56)
و على المدرسين خصوصا: أن يجتهدوا في تثقيف الطلبة تثقيفا دينيا و أن يرغبوهم فيما جاء به النبي صلي الله عليه وسلم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم وان يبصروهم بالدين على حقيقته و أن يكشفوا لهم الأحكام الشرعية كشفا واضحا مع بيان أسرار الشريعة وحكمتها لأني أري أن التعليم و لا سيما الجامعي فيه بعض النقص و ذلك أن بعض المدرسين يلقي الدرس جافا أي إنهم ( لا يبينون للطلبة دليل حكم المسالة و لا حكمته) و واقع المؤمن أن ينقاد إلي أمر الله و رسوله سواء علم الحكمة أم لا. قال تعالى (( و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضي الله و رسوله أمرا أم يكون لهم الخيرة من أمرهم) ( الأحزاب- 36) ولكنه إذا عرف الحكمة ازداد اطمئنانا و تطبيقا ورغبة في الشريعة و لهذا أحث إخواني المدرسين على أن يلقوا العلم إلي الطلبة دسما حيا محركا للقلوب مهذبا للنفوس ينشرح به الصدر و تطمئن اليه النفس.
ـــــــــــــ
(1)رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان انه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون – رقم ( 55)
و الآن ارجع إلي صميم المحاضرة:
لقد كان موضوع محاضرتي هذه(( عقد النكاح و آثاره و ما يترتب عليه و غير ذلك من بعض ما يتعلق به)).
و اخترت هذا الموضوع لأهميته و جهل كثير من الناس بكثير من أحكامه، ولما يتصل به من المشكلات الاجتماعية التي يتمنى كل مخلص و ناصح لدينه و أمته أن ييسر حلها، فان المشكلات كلما طرقت و ألقيت الأضواء عليها تيسر حلها و إذا تناساها الناس و أغمضوا عيونهم بقيت كما هي أو زادت غموضا و إشكالا.
وقد عقدت لهذا الموضوع عشرة فصول:
الفصل الاول: في معنى النكاح لغة وشرعا
الفصل الثاني: في حكم النكاح
الفصل الثالث: في شروط النكاح
الفصل الرابع: في أوصاف المرأة التي ينبغي نكاحها
الفصل الخامس: في المحرمات في النكاح
الفصل السادس: في العدد المباح في النكاح
الفصل السابع: في الحكمة من النكاح(8/57)
الفصل الثامن: في الآثار المترتبة على النكاح و منها:
1- المهر. 2- النفقة. 3- الصلة بين الأصهار. 4- المحرمية. 5-الميراث
الفصل التاسع: في حكم الطلاق و ما يراعى فيه.
الفصل العاشر: فيما يترتب على الطلاق
الزواج
الزواج
محمد بن صالح العثيمين
الفصل الأول
في معنى النكاح لغة و شرعا
النكاح في اللغة: يكون بمعنى عقد التزويج و يكون بمعنى وطء الزوجة قال أبو علي القالي: (فرقت العرب فرقا لطيفا يعرف به موضع العقد من الوطء، فإذا قالوا: نكح فلانة أو بنت فلان أرادوا عقد التزويج، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا إلا الجماع و الوطء)).
ومعنى النكاح في الشرع: (( تعاقد بين رجل و امرأة يقصد به استمتاع كل منهما بالآخر و تكوين أسرة صالحة و مجتمع سليم)).
ومن هنا نأخذ انه لا يقصد بعقد النكاح مجرد الاستمتاع بل يقصد به مع ذلك معنى آخر هو ( تكوين الأسرة الصالحة و المجتمعات السليمة لكن قد يغلب احد القصدين على الآخر لاعتبارات معينة بحسب أحوال الشخص.
الفصل الثاني- في حكم النكاح:
النكاح باعتبار ذاته مشروع مؤكد في حق كل ذي شهوة قادر عليه. وهو من سنن المرسلين، قال الله تعالى: (( و لقد أرسلنا رسولا من قبلك و جعلنا لهم أزواجا و ذرية)) ( الرعد-38)
وقد تزوج النبي صلي الله عليه وسلم و قال: (( أني أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني))1.
و لذلك قال العلماء:(( إن التزويج مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة)) لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة و الآثار الحميدة التي سنبين بعضها فيما بعد إن شاء الله.
و قد يكون النكاح واجبا في بعض الأحيان كما إذا كان الرجل قوي الشهوة ويخاف على
ــــــــــــ
(1)رواه البخاري كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح – رقم (5063) و مسلم في كتاب نفسه من المحرم النكاح باب من استطاع منكم الباءة فليتزوج – رقم( 1401).(8/58)
إن لم يتزوج فهنا يجب عليه أن يتزوج لاعفاف نفسه وكفها عن الحرام ويقول النبي صلي الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه أغض للبصر و أحصن للفرج و من لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء)(1)
الفصل الثالث
في شروط النكاح
من حسن التنظيم الإسلامي ودقته في شرع الأحكام إن جعل للعقود شروطا بها و تتحدد فيها صلاحيتها للنفوذ و الاستمرار فكل عقد من العقود له شروط لا يتم الا بها و هذا دليل واضح على أحكام الشريعة و إتقانها وأنها جاءت من لدن حكيم خبير يعلم ما يصلح للخلق و يشرع لهم ما يصلح به دينهم و دنياهم حتى لا تكون الأمور فوضى لا حدود لها و من بين تلك العقود عقد النكاح فعقد النكاح له شروط نذكر منها ما يأتي وهو أهمها: رضا الزوجين: فلا يصح إجبار الرجل على نكاح من لا يريد و لا إجبار المرأة على نكاح من لا تريد. قال الله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها)( النساء:19) وقال النبي صلي الله عليه وسلم: (( لا تنكح الأيم حتى تستامر و لا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله و كيف إذنها ؟ قال: إن تسكت)(2)فنهى النبي صلي الله عليه وسلم عن تزويج المرأة بدون رضاها سواء أكانت بكرا أم ثيبا الا أن الثيت لا بد من نطقها بالرضا و أما البكر فيكفي في ذلك سكوتها لأنها تستحي من التصريح بالرضا.
و إذا امتنعت عن الزواج فلا يجوز أن يجبرها عليه احد و لو كان أباها، لقول النبي صلي الله عليه وسلم: (( و البكر يستأذنها أبوها ))( 3) و لا أثم على الأب إذا لم يزوجها في
هذه الحال لأنها هي التي امتنعت و لكن عليه أن يحافظ عليها و يصونها و إذا خطبها شخصان، وقالت: أريد هذا و قال وليها: تزوجي الآخر، زوجت بمن تريد هي إذا كان كفئا لها أما إذا كان غير كفء فلوليها أن يمنعها من زواجها به و لا أثم عليه في هذه الحال .(8/59)
2. الولي فلا يصح النكاح بدون ولي،لقول النبي صلي الله عليه وسلم:"لا نكاح إلا بولي"(4) فلو زوجت المرأة نفسها فنكاحها باطل ، سواء باشرت العقد بنفسها أم وكلت فيه.
والولي :هو البالغ العاقل الرشيد من عصباتها، مثل الأب، و الجد من قبل الأب، و الابن و ابن الابن و إن نزل و الأخ الشقيق و الأخ من الأب و العم الشقيق و العم من الأب و أبنائهم الأقرب فالأقرب.ولا ولاية للأخوة من الأم و لا لأبنائهم و لا أبي الأم و الأخوال لأنهم غير عصبة و إذا كان لا بد في النكاح من الولي فانه يجب على الولي اختيار الأكفأ الأمثل إذا تعدد الخطاب فان خطبها واحد فقط وهو كفء و رضيت فانه يجب عليه أن يزوجها به وهنا نقف قليلا لنعرف مدى المسئولية الكبيرة التي يتحملها الولي بالنسبة إلي من ولاه الله عليها فهي أمانة عنده يجب عليه رعايتها ووضعها في محلها و لا يحل له احتكارها لأغراضه الشخصية أو تزويجها بغير كفئها من اجل طمع فيما يدفع اليه، فان هذا من الخيانة وقد قال الله تعالى: (( يأيها الذين امنوا لا تخونوا الله و الرسول و لا تخونوا أماناتكم و انتم تعلمون))- ( الأنفال: 27).وقال تعالى: (( إن الله لا يحب كل خوان كفور))- ( الحج:38) و قال النبي صلي الله عليه وسلم: (( كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته))-(5). و ترى بعض الناس تخطب منه ابنته يخطبها كفء ثم يرده و يرد آخر و آخر و من كان كذلك فان ولايته تسقط و يزوجها غيره من الأولياء الأقرب فالأقرب.
(1)رواه البخاري كتاب النكاح باب من لم يستطع الباءة فليصم رقم( 5066) ومسلم كتاب النكاح باب من استطاع منكم الباءة فليتزوج رقم(1400)
(2) رواه البخاري كتاب النكاح باب لا ينكح الأب و غيره البكر و الثيب الا برضاها رقم( 5136) و مسلم كتاب نكاح باب استئذان الثيب في النكاح رقم( 1419)
(3) رواه مسلم كتاب النكاح باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق و البكر بالسكوت رقم( 1421)(8/60)
(4)رواه أبو داود كتاب النكاح باب في الولي رقم( 2085) و الترمذي، كتاب النكاح باب ما جاء لا نكاح إلا بولي رقم ( 1101) و ابن ماجه كتاب النكاح باب لا نكاح إلا بولي رقم( 1881)—
(5)رواه البخاري كتاب النكاح باب (( قو أنفسكم و اهليكم نارا))رقم( 5188)و مسلم كتاب الإمارة باب فضيلة الإمام العادل رقم(1829)
الفصل الرابع
في صفة المرأة التي ينبغي نكاحها
النكاح يراد للاستمتاع و تكوين أسرة صالحة و مجتمع سليم كما قلنا فيما سبق. و على هذا فالمراة التي ينبغي نكاحها هي التي يتحقق فيها استكمال هذين الغرضين و هي التي اتصفت بالجمال الحسي و المعنوي.
فالجمال الحسي: كمال الخلقة لان المرأة كلما كانت جميلة المنظر عذبة المنطق قرت العين بالنظر إليها و أصغت الإذن إلي منطقها فينفتح إليها القلب و ينشرح إليها الصدر و تسكن إليها النفس و يتحقق فيها قوله تعالى: (( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة))-( الروم-21).
الجمال المعنوي: كمال الدين و الخلق فكلما كانت المرأة أدين و أكمل خلقا كانت أحب إلي النفس و اسلم عاقبة فالمراة ذات الدين قائمة بأمر الله حافظة لحقوق زوجها و فراشه و أولاده و ماله، معينه له على طاعة الله تعالى، إن ذكرته و أن تثاقل نشطته و أن غضب أرضته و المرأة الأدبية تتودد إلي زوجها و تحترمه و لا تتأخر عن شئ يحب أن تتقدم فيه و لا تتقدم في شئ يحب أن تتأخر فيه و لقد سئل النبي صلي الله عليه وسلم أي النساء خير؟ قال: (( التي تسره إذا نظر و تطيعه إذا أمر و لا تخالفه في نفسها و لا ماله بما يكره))-(1) وقال صلي الله عليه وسلم: (( تزوجوا الودود الولود فاني مكاثر بكم الأنبياء، أو قال: الأمم))-(2)فان أمكن تحصيل امرأة يتحقق فيها جمال المنظر و جمال الباطن فهذا هو الكمال و السعادة بتوفيق الله.
(1) رواه احمد و النسائي كتاب النكاح باب أي النساء خير رقم( 3231)(8/61)
(2)رواه أبو داود كتاب النكاح باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء رقم( 2050)و النسائي كتاب النكاح باب كراهية تزويج العقيم رقم( 3227).
الفصل الخامس
في المحرمات بالنكاح
قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تتعدوها))-(1).
و من جملة الحدود الشرعية التي حد الله تعالى حدودها النكاح حلا و حرمة، حيث حرم على الرجل نكاح نساء معينة لقرابة أو رضاعة أو مصاهرة أو غير ذلك – و المحرمات من النساء على قسمين:
قسم محرمات دائما و قسم محرمات إلي اجل.
1-محرمات دائما و هن ثلاثة أصناف:
أولا: المحرمات بالنسب: وهن سبع ذكرهن الله تعالى بقوله في سورة النساء:(حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم و أخواتكم وعماتكم وخالاتكم و بنات الأخ وبنات الأخت)(النساء- 23) فالأمهات: يدخل فيهم:الأم، و الجدات سواء كن من جهة الأب أم من جهة الأم.
2-و البنات: يدخل فيهن: بنات الصلب و بنات الأبناء و بنات البنات ( وان نزلن).
3-و الأخوات: يدخل فيهن الأخوات الشقيقات و الأخوات من الأب و الأخوات من الأم
4- و العمات: يدخل فيهن: عمات الرجل و عمات أبيه و عمات أجداده و عمات أمه و عمات جداته.
5- و الخالات: يدخل فيهن: خالات الرجل و خالات أبيه وخالات أجداده و خالات أمه و خالات جداته.
6- و بنات الأخ: يدخل فيهن بنات الأخ الشقيق و بنات الأخ من الأب و بنات الأخ من الأم و بنات أبنائهم و بنات بناتهم( وان نزلن)
7-و بنات الأخت: يدخل فيهن: بنات الأخت الشقيقة و بنات الأخت من الأب و بنات الأخت من الأم و بنات أبنائهن و بنات بناتهن( وان نزلن).
ثانيا: المحرمات بالرضا ع: ( وهن نظير المحرمات بالنسب ) قال النبي صلي الله عليه وسلم: (( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) (2) و لكن الرضاع المحرم لا بد له من شروط منها:(8/62)
1- أن يكون خمس رضعات فأكثر فلو رضع الطفل من المرأة أربع رضعات لم تكن أما له. لما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( كان فيما انزل من القران عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله صلي الله عليه وسلم و هي فيما يقرا من القران))- (3)
2- يكون الرضاع قبل الفطام أي يشترط أن تكون الرضعات الخمس كلها قبل الفطام فان كانت بعد الفطام أو بعضها قبل الفطام و بعضها بعد الفطام لم تكن المرأة أما له و إذا تمت شروط الرضاع صار الطفل ولدا للمرأة و أولادها أخوة له سواء كانوا قبله أو بعده و صار أولاد صاحب اللبن أخوة له أيضا سواء كانوا من المرأة التي أرضعت الطفل أم من غيرها. وهنا يجب أن نعرف بان أقارب الطفل المرضع سوى ذريته لا علاقة لهم بالرضا ع و لا يؤثر فيهم الرضاع شيئا فيجوز لأخيه من النسب أن يتزوج أمه من الرضاع أو أخته من الرضاع أما ذرية الطفل فإنهم يكونون أولادا للمرضعة و صاحب اللبن كما كان أبوهم من الرضاع كذلك.
(1) رواه الدارقطني في سننه ( 4/184)
(2) رواه البخاري كتاب الشهادات باب الشهادة على الأنساب و الرضاعة رقم( 2645، 2646) و مسلم كتاب الرضاع ما يحرم من الولادة رقم( 1447، 1444).
(3) رواه مسلم كتاب الرضاع باب التحريم بخمس رضعات رقم( 1452)
3- ثالثا: المحرمات بالصهر:
زوجات الآباء و الأجداد و إن علوا سواء من قبل الأب أم من قبل الأم، لقوله تعالى: (( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء)) ( النساء- 22) فمتى عقد الرجل على امرأة صارت حراما على أبنائه و أبناء أبنائه و أبناء بناته و إن نزلوا سواء دخل بها أم لم يدخل بها.
1- زوجات الأبناء وان نزلوا،لقوله تعالى:(و حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم)( النساء-23) فمتى عقد الرجل على امرأة صارت حراما على أبيه و أجداده و إن علوا سواء من قبل الأب أم من قبل الأم بمجرد العقد عليها و إن لم يدخل بها.(8/63)
2- أم الزوجة وجدتها و إن علون، لقوله تعالى:(و أمهات نسائكم)( النساء- 23) فمتى عقد الرجل على امرأة صارت أمها و جدتها حراما عليه بمجرد العقد و إن لم يدخل بها سواء كن جدتها من قبل الأب أم من قبل الأم.
3- بنات الزوجة، و بنات أبنائها و بنات بناتها وان نزلن وهن الربائب و فروعهن لكن بشرط أن يطأ الزوجة فلو حصل الفراق قبل الوطء لم تحرم الربائب و فروعهن، لقوله تعالى: (( و ربائبكم الآتي في حجوركم من نسائكم الآتي دخلتم بهن فان لم كونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم))-( النساء-23) فمتى تزوج الرجل امرأة ووطئها صارت بناتها و بنات أبنائها و بنات بناتها و إن نزلن حراما عليه سواء كن من زوج قبله أم من زوج بعده أما إن حصل الفراق بينهما قبل الوطء فان الربائب و فروعهن لا يحرمن عليه.
2- المحرمات إلي اجل
وهن أصناف منها:
1- أخت الزوجة و عمتها و خالتها حتى يفارق الزوجة فرقة موت أو فرقة حياة و تنقضي عدتها لقوله تعالى: (( و أن تجمعوا بين الأختين))-( النساء- 23) و قول النبي صلي الله عليه وسلم: (( لا يجمع بين المرأة و عمتها و لا بين المرأة و خالتها))-(1)
2-متعددة الغير: أي إذا كانت المرأة في عدة لغيره فانه لا يجوز له نكاحها حتى تنتهي عدتها و كذلك لا يجوز له أن يخطبها إذا كانت في العدة حتى تنتهي عدتها.
3-المحرمة بحج أو عمرة: لا يجوز عقد النكاح عليها حتى تحل من إحرامها. وهناك محرمات أخرى تركنا الكلام فيهن خوفا من التطويل.
و أما الحيض: فلا يوجب تحريم العقد على المرأة فيعقد عليها وان كانت حائضا لكن لا توطأ حتى تطهر و تغتسل.
(1) رواه البخاري كتاب النكاح باب لا تنكح المرأة على عمتها رقم( 5109) و مسلم كتاب النكاح باب تحريم الجمع بين المرأة و عمتها رقم(1408) – متفق عليه.
الفصل السادس
في العدد المباح في النكاح(8/64)
لما كان إطلاق العنان للشخص في تزويج ما شاء من العدد أمرا يؤدي إلي الفوضى و الظلم و عدم القدرة على القيام بحقوق الزوجات و كان حصر الرجل على زوجة واحدة قد يفضي إلي الشر و قضاء الشهوة بطريقة أخرى محرمة أباح الشارع للناس التعدد إلي أربعة فقط لأنه العدد الذي يتمكن به الرجل من تحقيق العدل و القيام بحق الزوجة و يسد حاجته إن احتاج إلي أكثر من واحدة. قال الله تعالى: (( فأنكحوا ما طاب لكم النساء مثنى و ثلاث و رباع فان خفتم الا تعدلوا فواحدة))- ( النساء- 3) و في عهد النبي صلي الله عليه وسلم اسلم غيلان الثقفي و عنده عشرة نساء فأمره النبي صلي الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا و يفارق البواقي، وقال قيس بن الحارث: أسلمت و عندي ثمانية نسوة فأتيت النبي صلي الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: (( اختر منهن أربعا))(1).
فوائد النساء إلي هذا الحد:
1- انه قد يكون ضروريا في بعض الأحيان مثل: أن تكون الزوجة كبيرة السن أو مريضة لو اقتصر عليها لم يكن له منها عفاف و تكون ذات أولاد منه فان امسكها خاف على نفسه المشقة بترك النكاح أو ربما يخاف الزنا وإن طلقها فرق بينها وبين أولادها فلا تزول هذه المشكلة الا بحل التعدد.
2- إن النكاح سبب للصلة و الارتباط بين الناس و قد جعله الله تعالى قسيما للنسب فقال تعالى:(( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا))- ( الفرقان-54) فتعدد الزوجات يربط بين اسر كثيرة و يصل بعضهم ببعض وهذا أحد الأسباب التي حملت النبي صلي الله عليه وسلم أن يتزوج بعدد من النساء
3- يترتب عليه صون عدد كبير من النساء و القيام بحاجتهن من النفقة و المسكن وكثرة الأولاد و النسل و هذا أمر مطلوب للشارع.
4- من الرجال من يكون حاد الشهوة لا تكفيه الواحدة و هي تقي نزيه و يخاف الزنا ولكن يريد أن يقضي وطرا في التمتع الحلال فكان من رحمة الله تعالى بالخلق أن أباح لهم التعدد على وجه سليم.(8/65)
(1) رواه أبو داود كتاب الطلاق باب فيمن اسلم و عنده نساء أكثر من أربع رقم( 2241)
الفصل السابع - في حكمة النكاح
قبل أن نبدأ الكلام في خصوص تلك المسالة يجب علينا أن نعلم علما يقينا بان الأحكام الشرعية كلها حكم و كلها في موضعها وليس فيها شئ من العبث و السفه ذلك لأنها من لدن حكيم خبير و لكم هل الحكم كلها للخلق؟ إن الآدمي محدود في علمه وتفكيره وعقله فلا يمكن أن يعلم كل شئ و لا أن يلهم معرفة كل شئ قال الله تعالى: ((وما أوتيتم من العلم الا قليلا)( الإسراء-85) إذن: فالأحكام الشرعية التي شرعها الله لعباده يجب علينا الرضا بها سواء علمنا حكمتها أم لم نعلم لأننا إذا لم نعلم حكمتها فليس معناه انه لا حكمة فيها في الواقع إنما معناه قصور عقولنا و إفهامنا عن إدراك الحكمة.
من الحكم في النكاح: 1-حفظ كل من الزوجين و صيانته قال النبي صلي الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه أغض للبصر وأحصن للفرج))-(1)
2-حفظ المجتمع من الشر و تحلل الأخلاق فلولا النكاح لانتشرت الرذائل بين الرجال و النساء.
3-استمتاع كل من الزوجين بالآخر بما يجب له من حقوق و عشرة فالرجل يكفل المرأة و يقوم بنفقاتها من طعام و شراب و مسكن و لباس بالمعروف قال النبي صلي الله عليه وسلم: ((و لهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف)) (2) و المرأة تكفل الرجل أيضا بالقيام بما يلزمها في البيت من رعاية و إصلاح قال النبي صلي الله عليه وسلم: (( ... و المرأة راعية في بيت زوجها و مسئولة عن رعيتها)) (3)
4- أحكام الصلة بين الأسر و القبائل فكم من أسرتين متباعدتين لا تعرف إحداهما الأخرى و بالزواج يحصل التقارب بينهما و الاتصال و لهذا جعل الله الصهر قسيما للنسب كما تقدم.(8/66)
5- بقاء النوع الإنساني على وجه سليم فان كان النكاح سبب للنسل الذي به بقاء الإنسان قال الله تعالى: (( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء)) ( النساء-1) و لو لا النكاح للزم احد أمرين أما: 1- فناء الإنسان 2- أو وجود إنسان ناشئ من سفاح لا يعرف له اصل و لا يقوم على أخلاق- و يطيب لي أن استطرد هنا قليلا لحكم تحديد النسل فأقول: تحديد النسل بعدد معين خلاف مطلوب الشارع فان النبي صلي الله عليه وسلم أمر بتزويج المرأة الولود أي كثيرة الولادة وعلل ذلك بأنه مكاثر بنا الأمم أو الأنبياء و قال أهل الفقه: ينبغي أن يتزوج المرأة المعروفة بكثرة الولادة أما بنفسها إن كانت تزوجت من قبل و عرفت بكثرة الولادة أو بأقاربها كأمها و أختها إذا كانت لم تتزوج من قبل.
ثم ما الداعي لتحديد النسل؟ هل هو الخوف من ضيق الرزق أو الخوف من تعب التربية ؟ إن كان الاول فهذا سوء ظن بالله تعالى لان الله سبحانه وتعالى إذا خلق خلقا فلا بد أن يرزقه. قال الله تعالى: (( و ما من دابة في الأرض الا على الله رزقها)) (هود-6) وقال تعالى:(وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إياكم وهو السميع البصير)( العنكبوت 60) وقال تعالى في الذين يقتلون أولادهم خشية الفقر: (( نحن نرزقهم وإياكم)) ( الإسراء 31) و إن كان الداعي لتحديد النسل هو الخوف من تعب التربية فهذا خطأ فكم من عدد قليل من الأولاد اتعبوا أتعابا كبيرا في التربية و كم من عدد سهلت تربيتهم بأكثر ممن هم دونهم بكثير. فالمدار في التربية صعوبة و سهولة على تيسير الله تعالى و كلما اتقى العبد ربه و تمشى على الطرق الشرعية سهل الله أمره قال الله تعالى: (( و من يتقى الله يجعل له من أمره يسرا)) ( الطلاق 4).
(1) سبق تخريجه ص 14(8/67)
(2) رواه احمد ( 5/73) وأبو داود كتاب المناسك باب صفة حجة النبي صلي الله عليه و سلم رقم( 1905) و ابن ماجه كتاب المناسك باب حجة رسول الله صلي الله عليه وسلم رقم(3074)
(3) سبق تخريجه ص 18
و إذا تبين أن تحديد النسل خلاف المشروع فهل تنظيم النسل على الوجه الملائم لحال الأم من ذلك؟ الجواب: لا ليس تنظيم النسل على الوجه الملائم لحال الأم من تحديد النسل في شئ و اعني بتنظيم النسل أن يستعمل الزوجان أو احدهما طريقة تمنع من الحمل في وقت دون وقت فهذا جائز إذا رضي به من الزوج و الزوجة مثل: أن تكون الزوجة ضعيفة و الحمل يزيد ها ضعفا أو مرضا وهي كثيرة الحمل فتستعمل برضا الزوج هذه الحبوب التي تمنع من الحمل مدة معينة فلا باس بذلك وقد كان الصحابة يعزلون في عهد النبي صلي الله عليه وسلم و لم ينهوا عن ذلك و العزل من أسباب امتناع الحمل من هذا الوطء.
الفصل الثامن
في الآثار المترتبة على النكاح
يترتب على النكاح آثار كثيرة منها ما يلي:(8/68)
أولا: وجوب المهر: و المهر: هو الصداق المسمى باللغة العامة – ( جهازا- فالمهر ثابت للمرأة بالنكاح سواء شرط أم سكت عنه وهو المال المدفوع للزوجة بسبب عقد النكاح فان كان معينا فهو ما عين سواء كان قليلا أم كثيرا و إن كان غير معين بان عقد عليها و لم يدفع جهازا و لم يسموا شيئا فعلى الزوج أن يدفع إليها مهر الثمن وهو ما جرت العادة أن يدفع لمثلها – وكما يكون المهر مالا أي عينا يكون كذلك منفعة فلقد زوج النبي صلي الله عليه وسلم امرأة برجل على أن يعلمها شيئا من القران (1) و المشروع في المهر أن يكون قليلا فكلما قل و تيسر فهو أفضل إقتداء بالنبي صلي الله عليه وسلم و تحصيلا للبركة فان أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة و روى مسلم في صحيحه أن رجلا قال للنبي صلي الله عليه وسلم: أني تزوجت امرأة.قال: (( كم أصدقتها ؟ قال: أربع أواق ( يعني مائة و ستين درهما ) فقال النبي صلي الله عليه وسلم: على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك و لكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه)) (1) وقال عمر رضي الله عنه: (( لا تغلوا صدق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي صلي الله عليه وسلم، ما اصدق النبي صلي الله عليه وسلم امرأة من نسائه و لا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، و الأوقية أربعون درهما)) و لقد كان تصاعد المهور في هذه السنين له أثره السيئ في منع كثير من الناس من النكاح رجالا و نساء و صار الرجل يمضي السنوات الكثيرة قبل أن يحصل المهر، فنتج عن ذلك مفاسد منها:(8/69)
1-تعطل كثير من الرجال و النساء عن النكاح 2- إن أهل المرأة صاروا ينظرون إلي المهر قلة و كثرة فالمهر عند كثير منهم هو ما يستفيدونه من الرجل لامرأته فإذا كان كثيرا زوجوا و لم ينظروا للعواقب و إن كان قليلا ردوا الزوج و إن كان مرضيا في دينه و خلقه 3- انه إذا ساءت العلاقة بين الزوج و الزوجة و كان المهر بهذا القدر الباهظ فانه لا تسمح نفسه غالبا بمفارقتها بإحسان بل يؤذيها و يتعبها لعلها ترد شيئا مما دفع إليها و لو كان المهر قليلا لهان عليه فراقها. ولو أن الناس اقتصدوا في المهر و تعاونوا في ذلك و بدا الأعيان بتنفيذ هذا الأمر لحصل للمجتمع خير كثير و راحة كبيرة و تحصين كثير من الرجال و النساء و لكن مع الأسف أن الناس صاروا يتبارون في السبق إلي تصاعد المهور و زيادتها فكل سنة يضيفون أشياء لم تكن معروفة من قبل ولا ندري إلي أي غاية ينتهون؟ و لقد كان بعض الناس و خصوصا البادية يسلكون مسلكا فيه بعض السهولة وهو تأجيل شئ من المهر مثل: أن يزوجه بمهر قدره كذا نصفه حال و نصفه مؤجل إلي سنة أو اقل أو أكثر و هذا يخفف عن الزوج بعض التخفيف.
(1) رواه البخاري كتاب النكاح باب تزويج المعسر رقم( 5087) و مسلم كتاب النكاح باب الصداق و جواز كونه تعليم قران رقم( 1425)
(1) رواه مسلم كتاب النكاح باب ندب النظر إلي المرأة رقم( 1424)
ثانيا: النفقة: فعلى الزوج أن ينفق على زوجته بالمعروف طعاما وشرابا و كسوة و سكني فان بخل بشئ من الواجب فهو آثم و لها أن تأخذ من ماله بقدر كفايتها أو تستدين عليه و يلزمه الوفاء –(8/70)
ومن النفقة: الوليمة وهي ما يصنعه الزوج من الطعام أيام الزواج و يدعو الناس اليه و هي سنة مأمور بها لان النبي صلي الله عليه وسلم فعلها و أمر بها و لكن يجب في الوليمة أن يتجنب فيها الإسراف المحرم و ينبغي أن تكون بقدر حال الزوج أما ما يفعله بعض الناس من الإسراف فيها كمية و كيفية فانه لا ينبغي و يترتب عليه صرف أموال كثيرة بلا فائدة.
ثالثا: الصلة بين الزوج زوجته و بين أهليهما: فقد جعل الله بين الزوج و زوجته مودة و رحمة و هذا الاتصال يوجب الحقوق المترتبة عليه عرفا فانه كلما حصلت الصلة وجب من الحقوق بقدرها.
رابعا: المحرمية: فان الزوج يكون محرما لأمهات زوجته و جداتها و إن علون و يكون محرما لبناتها و بنات أبنائها و بنات بناتها و إن نزلن إذا كان دخل بأمهن الزوجة و كذلك الزوجة تكون من محارم أباء الزوج و إن علوا و أبنائه و إن نزلوا.
خامسا: الإرث: فمتى عقد شخص على امرأة بنكاح صحيح فانه يجري التوارث بينهما لقوله تعالى: (( ولكم نصف ما ترك أزواجكم)) إلي قوله: (( توصون بها أو دين)) ( النساء 12) و لا فرق بين أن يدخل و يخلو بها أم لا.
الفصل التاسع
في حكم الطلاق و ما يراعى فيه
الطلاق فراق الزوجة باللفظ ا الكتابة أو الإشارة.
والأصل في الطلاق انه مكروه إذ انه يحصل به تفويت مصالح النكاح السابقة، وتشتيت الأسرة، وفي الحديث: ( ابغض الحلال عند الله الطلاق ).
ولكن لما كان الطلاق لا بد منه أحيانا أما لتأذي المرأة ببقائها مع الرجل، أو لتأذي الرجل منها، أو لغير ذلك من المقاصد، كان من رحمة الله أن أباحه لعباده، ولم يحجر عليهم بالتضييق والمشقة.
فإذا كره الرجل زوجته ولم يتحمل الصبر فلا باس أن يطلقها، ولكن يجب أن يراعي ما يأتي:
1- الا يطلقها وهي حائض:(8/71)
فان طلقها وهي حائض فقد عصي الله ورسوله، وارتكب محرما، ويجب عليه حينئذ أن يراجع ويبقيها حتى تطهر، ثم يطلقها إن شاء، والأولي أن يتركها حتى تحيض المرة الثانية، فإذا طهرت فان شاء امسكها، وان شاء طلقها.
2- الا يطلقها في طهر جامعها فيه الا أن يتبين حملها:
فإذا هم رجل بطلاق امرأته، وقد جامعها بعد حيضتها، فانه لا يطلقها حتى تحيض ثم تطهر، ولو طالت المدة، ثم إن شاء طلقها قبل أن يمسها. الا إذا تبين حملها، أو كانت حاملا، فلا باس أن يطلقها.قال الله تعالى:(يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق:1].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن يتركها إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة).
3- الا يطلقها أكثر من واحدة:
فلا يقول: أنت طالق طلقتين، أو أنت طالق ثلاثا، أو أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فطلاق الثلاث محرم لما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم انه قال في رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا: ( أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، الا اقتله؟)(1)
وان كثير من الناس يجهلون أحكام الطلاق، فأي وقت طرأ عليهم الطلاق طلقوا من غير مبالاة بوقت أو عدد.
والواجب علي العبد أن يتقيد بحدود الله، ولا يتعداها. فقد قال الله تعالى: ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه)[ الطلاق:1] وقال: (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) [ البقرة:229]
الفصل العاشر
فيما يترتب علي الطلاق
لما كان الطلاق فراق الزوجة، فانه يترتب علي هذا الفراق أحكام كثيرة منها:
1- وجوب العدة إذا كان الزوج قد دخل بزوجته أو خلا بها.
أما أن طلقها قبل أن يدخل بها ويخلو بها، فلا عدة له عليها، لقوله تعالى: ( يأيها الذين امنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها)[ الأحزاب:49].(8/72)
والعدة ثلاث حيض إن كانت من ذوات الحيض، وثلاثة اشهر إن لم تكن من ذوات الحيض، ووضع الحمل إن كانت حاملا
2- تحريم الزوجة علي الزوج إذا كان قد طلقها قبل ذلك الطلاق مرتين:
يعني: لو طلق زوجته ثم راجعها في العدة، أو تزوجها بعد العدة، ثم طلقها مرة ثانية وراجعها في العدة، أو تزوج بعدها، ثم طلقها المرة الثالثة، فإنها لا تحل له بعد ذلك حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا، ويجامعها فيه، ثم يرغب عنها ويطلقها، فإنها بعد ذلك تحل للأول، لقوله تعالى: ( الطلاق مرتان فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف)[ البقرة: 229]. إلي أن قال: ( فان طلقها) يعني المرة الثالثة( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فان طلقها) يعني الثاني ( فلا جناح عليهما) يعني الزوج الاول وزوجته التي طلقها ( إن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون)[ البقرة: 230].
وإنما حرم الله المرأة علي من طلقها ثلاث مرات حتى تنكح زوجا غيره، لان الناس كانوا في أول الإسلام يطلقون ويراجعون بأي عدد كان، فغضب رجل علي امرأته فقال لها: والله لا أؤويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، فذكرت المرأة ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم، فانزل الله تعالى( الطلاق مرتان). ووقت العدة ثلاث رحمة بالنساء من أزواجهن.
أيها الاخوة:
لعلنا أتينا بجمل كثيرة من أحكام النكاح، متحرين بذلك أن تكون بالقدر المناسب من غير تطويل ممل ولا تقصير مخل.. واسأل الله تعالى أن ينفع بها، وان يجعل العمل خالصا لله موافقا لمرضاة الله، وان يجعل من هذه الأمة جيلا عالما بأحكام الله، حافظا لحدود الله، قائما بأمر الله، هاديا لعباد الله.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب.
ربنا أتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.. وصلي الله علي نبينا محمد واله وصحبه وسلم.(8/73)
ــــــ
(1)رواه النسائي، كتاب الطلاق، باب الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ رقم(3401).(8/74)
من مشكلات الشباب
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد ان محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما ً .
وبعد : فإنه ليسرني أن أقدم إلي إخوتي مشكلة من أهم المشاكل لا في المجتمع الإسلامي فحسب ، بل في كل مجتمع ، وهي مشكلة الشباب في هذا العصر فإن الشباب يرد على قلوبهم من المشاكل الفكرية والنفسية ما يجعلهم أحياناً في قلق من الحياة ، محاولين جهدهم التخلص من ذلك القلق ، وكشف تلك الغمة ، ولن يتحقق ذلك إلا بالدين والأخلاق الذين بهما قوام المجتمع ، وصلاح الدنيا والآخرة ، وبهما تحل الخيرات والبركات ، وتزول الشرور والآفات .
إنّ البلاد لا تعمر إلا بساكنيها ، والدين لا يقوم إلا بأهله ، ومتى قاموا به نصرهم الله مهما كان أعداؤهم ، قال الله تعالى : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7) )وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:8) .
وإذا كان الدين لا يقوم إلا بأهله فإن علينا أهل الإسلام وحملة لوائه أن نقوم أنفسنا أولاً لنكون أهلاً للقيادة والهداية ، ومحلاً للتوفيق والسداد . علينا أن نتعلم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يؤهلنا للقول والعمل والتوجيه والدعوة ، لنحمل السلاح الماضي والنور المبين لكل من يريد الحق وعلى كل من يريد الباطل .
ثم علينا أن نطبق ما علمناه من ذلك تطبيقاً عملياً صادراً عن إيمان ويقين وإخلاص ومتابعة(8/75)
وأن لا يكون شأننا الكلام فقط ، فإن الكلام إذا لم يصدقه العمل فلن يتجاوز الأثير الذي يحمله ولن يكون فيه إلا النتيجة العكسية )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2-3) .
وإن الأجدر بنا أن ننطلق من البداية فنتأمل في شبابنا وما هم عليه من أفكار وأعمال كي ننمي منها ما كان صالحاً ونصلح منها ما كان فاسداً ، لأن الشباب اليوم هم رجال الغد ، وهم الأصل الذي عليه مستقبل الأمة ، ولذلك جاءت النصوص الشرعية بالحث على حسن رعايتهم وتوجيههم إلى ما فيه الخير والصلاح ، فإذا صلح الشباب وهم أصل الأمة الذي ينبني عليه مستقبلها وكان صلاحه مبنياً علي دعائم قوية من الدين والأخلاق ، فسيكون للأمة مستقبل زاهر ، ولشيوخنا خلفاء صالحون إن شاء الله .
نظرة في الشباب
إذا نظرنا نظرة فاحصة في الشباب أمكننا أن نحكم من حيث العموم بأن الشباب ثلاثة أقسام :
شباب مستقيم ، وشباب منحرف ، وشباب متحير بين بين ..
أما الشباب المستقيم فهو : شباب مؤمن بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، فهو مؤمن بدينه إيمان محب له ، ومقتنع به ، ومغتبط به ، يرى الظفر به غنيمة ، والحرمان منه خسراناً مبيناً .
شباب يعبد الله مخلصاً له الدين وحده لا شريك له . شباب يتبع رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم في قوله وعمله ، فعلا وتركاً ، لأنه يؤمن بأنه رسول الله وأنه الإمام المتبوع .
شباب يقيم الصلاة على الوجه الأكمل بقدر ما يستطيع ، لأنه يؤمن بما في الصلاة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ، الفردية والاجتماعية ، وما يترتب علي إضاعتها عواقب مخيمة للأفراد والشعوب .
شباب يؤتي الزكاة إلى مستحقيها كاملة من غير نقص ، لأنه يؤمن بما فيها من سد حاجة الإسلام والمسلمين مما اقتضى أن تكون به أحد أركان الإسلام الخمسة .(8/76)
شباب يصوم شهر رمضان فيمتنع عن شهواته ولذاته إن صيفاً وإن شتاءُ ؛ لأنه يؤمن بأن ذلك في مرضاة الله فيقدم ما يرضاه ربه على ما تهواه نفسه .
شباب يؤدي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام ؛ لأنه يحب الله فيحب بيته والوصول إلى أماكن رحمته ومغفرته ، ومشاركة إخوانه المسلمين القادمين إلى تلك الأماكن .
شباب يؤمن بالله خالقه وخالق السموات والأرض ، لأنه يرى من آيات الله سبحانه ما لا يدع مجالا للشك والتردد في وجود الله . فيرى في هذا الكون الواسع البديع في شكله ونظامه ما يدل دلالة قاطعة على وجود مبدعه وعلى كمال قدرته وبالغ حكمته ؛ لأن هذا الكون لا يمكن أن يوجد نفسه بنفسه ولا يمكن أن يوجد صدفة لأنه قبل الوجود معدوم والمعدوم لا يكون موجداً لأنه هو غير موجود .
ولا يمكن أن يوجد صدفة ، لأنه ذو نظام بديع متناسق لا يتغير ولا يختلف عن السنة التي قدر له أن يسير عليها ) فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)(فاطر: الآية43) ) مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (الملك:3-4) .
وإذا كان هذا الكون على نظام بديع متناسق امتنع أن يكون وجوده صدفة ؛ لأن الموجود صدفة سيكون انتظامه صدفة أيضاً ، فيكون قابلاً للتغير والاضطراب في أي لحظة
شباب يؤمن بملائكة الله ؛ لأن الله أخبر عنهم في كتابه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عنهم في السنة . وفي الكتاب والسنة من أوصافهم وعباداتهم وأعمالهم التي يقومون بها لمصلحة الخلق ما يدل دلالة قاطعة على وجودهم حقيقة .
شباب يؤمن بكتب الله التي أنزلها على رسله هداية إلى الصراط المستقيم ؛ لأن العقل البشري لا يمكنه إدراك التفاصيل في مصالح العبادات والمعاملات .(8/77)
شباب يؤمن بأنبياء الله ورسله الذين بعثهم الله إلى الخلق يدعونهم إلى الخير ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . وأول الرسل نوح وآخرهم محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام .
شباب يؤمن باليوم الآخر الذي يبعث الناس فيه أحياء بعد الموت ليجازوا بأعمالهم )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7-8) لأن ذلك نتيجة الدنيا كلها فما فائدة الحياة وما حكمتها إذا لم يكن للخلق يوم يجازى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .
شباب يؤمن بالقدر خيره وشره ، فيؤمن بأن كل شيء بقضاء الله وقدره مع إيمانه بالأسباب وآثارها ، وأن السعادة لها أسباب والشقاء له أسباب .
شباب يدين بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، فيعامل المسلمين بالصراحة والبيان ، كما يحب أن يعاملوه بهما ، فلا خداع ولا غش ولا التواء ولا كتمان .
شباب يدعوا إلى الله على بصيرةحسب الخطة التي بينها الله في كتابه : )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: الآية125) .
شباب يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ؛ لأنه يؤمن أن في ذلك سعادة الشعوب والأمة )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(آل عمران: الآية110) .
شباب يسعى في تغيير المنكر على النحو الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ))1 .
شباب يقول الصدق ويقبل الصدق ، لأن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحري الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً .(8/78)
شباب يحب الخير لعامة المسلمين ؛ لأنه يؤمن بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) . 2
شباب يشعر بالمسئوولية أمام الله و أمام أمته ووطنه ، فيسعى دائماً لما فيه مصلحة الدين والأمة والوطن بعيداً عن الأنانية ، ومراعاة مصلحته الخاصة على حساب مصلحة الآخرين .
شباب يجاهد لله وبالله ، يجاهد بالإخلاص له فلا رياء ولا سمعة ويجاهد بالله مستعيناً به غير معجب بنفسه ولا معتمد على حوله وقوته ، ويجاهد في الله في إطار دينه من غير غلو ولا تقصير ، يجاهد بلسانه ويده وماله حسبما تتطلبه حاجة الإسلام والمسلمين .
شباب ذو خلق ودين ، فهو مهذب الأخلاق ، مستقيم الدين ، لين الجانب رحب الصدر، كريم النفس ، طيب القلب صبور متحمل لكنه حازم لا يضيع الفرصة ولا يغلب العاطفة على جانب العقل والإصلاح .
شباب متزن منظم يعمل بحكمة وصمت مع إتقان في العمل وجودة لا يضيع فرصة من عمره إلا شغلها بما هو نافع له ولأمته .
ومع أن هذا الشباب محافظ على دينه وأخلاقه وسلوكه فهو كذلك بعيد كل البعد عما يناقض ذلك من الكفر والإلحاد والفسوق والعصيان والأخلاق السافلة والمعاملة السيئة .
فهذا القسم من الشباب مفخرة الأمة ورمز حياتها وسعادتها ودينها ، وهو الشباب الذي نرجو الله من فضله أن يصلح به ما فسد من أحوال الإسلام والمسلمين وينير به الطريق للسالكين ، وهو الشباب الذي ينال السعادة في الدنيا والآخرة .
أما القسم الثاني من الشباب :
فشباب منحرف في عقيدته متهور في سلوكه ، مغرور بنفسه ، منغمر في رذائله ، لا يقبل الحق من غيره ولا يمتنع عن باطل فى نفسه ، أناني في تصرفه ، كأنما خلق للدنيا وخلقت الدنيا له وحده . شباب عنيد لا يلين للحق ولا يقلع عن الباطل .(8/79)
شباب لا يبالي بما أضاع من حقوق الله ، ولا من حقوق الآدميين . شباب فوضوي فاقد الاتزان في تفكيره ، وفاقد الاتزان في سلوكه وفي جميع تصرفاته ، شباب معجب برأيه كأنما يجري الحق على لسانه ، فهو عند نفسه معصوم من الزلل ، أما غيره فمعرض للخطأ والزلل مادام مخالفاً لما يراه .
شباب ناكب عن الصراط المستقيم في دينه ، وناكب عن التقاليد الاجتماعية في سلوكه ، ولكنه قد زين له سوء عمله فرآه حسناً فهو من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
فهو شؤم على نفسه ، ونكبة على مجتمعه ، يجر أمته إلى أسفل السافلين ويحول بينها وبين العزة والكرامة ، جرثومة وبيئة قاتلة صعبة العلاج ، إلا أن يشاء الله ، والله على كل شيء قدير .
والقسم الثالث من الشباب :
شباب حائر متردد بين مفترق الطرق عرف الحق وأطمأن به وعاش في مجتمع محافظ ، إلا أنه أنفتحت عليه أبواب الشر من كل جانب . تشكيك في العقيدة ، وانحراف في السلوك ، وفساد في العمل وخروج عن المعروف من التقاليد ، وتيارات من الباطل متنوعة ، فهو في دوامة فكرية ونفسية ، وقف أمام هذه التيارات حيران لا يدري هل الحق فيما حدث وجد من هذه الأفكار والمبادئ والمسالك ، أو فيما كان عليه سلفه الماضي ومجتمعه المحافظ ، فصار متردداً قلقاً يرجح هذا تارة وذاك أخرى .
فهذا القسم من الشباب سلبي في حياته ، يحتاج إلى جاذب قوي يقوده إلى حظيرة الحق وطريق الخير ، وما أيسر ذلك إذا هيأ الله له داعيه خير ذا حكمة وعلم ونيه حسنة .
وهذا القسم يكثر في شباب نالوا بعضاً من الثقافة الإسلامية لكنهم درسوا كثيراً من العلوم الكونية الأخرى التي تعارض الدين في الواقع أو في ظنهم فوقفوا حيارى أمام الثقافتين
ويمكنهم التخلص من هذه الحيرة بالتركيز على الثقافة الإسلامية وتلقيها من منبعها الأصلي الكتاب والسنة على أيدي العلماء المخلصين وما ذلك عليهم بعزيز .
انحراف الشباب ومشاكله(8/80)
إن أسباب انحراف ومشاكل الشباب كثيرة متنوعة ، وذلك أن الإنسان في مرحلة الشباب يكون على جانب كبير من التطور الجسمي والفكري والعقلي ، لأنها مرحلة النمو فيحصل له تطورات سريعة في التحول والتقلب ، فمن ثم كان من الضروري في هذه المرحلة أن تهيأ له أسباب ضبط النفس وكبح جماحها والقيادة الحكيمة التي توجهه إلى الصراط المستقيم .
وأهم أسباب الإنحراف ما يأتي :
1- الفراغ .. فالفراغ داء قتال للفكر والعقل والطاقات الجسمية ، إذ النفس لا بد لها من حركة وعمل ، فإذا كانت فارغة من ذلك تبلد الفكر وثخن العقل وضعفت حركة النفس واستولت الوساوس والأفكار الرديئة على القلب ، وربما حدث له إرادات سيئة شريرة ينفس بها عن الكبت الذي أصابه من الفراغ . وعلاج هذه المشكلة : أن يسعى الشاب في تحصيل عمل يناسبه من قراءة أو تجارة أو كتابة او غيرها مما يحول بينه وبين هذا الفراغ ويستوجب ان يكون عضواً سليماً عاملاً في مجتمعه لنفسه ولغيره .
2- الجفاء والبعد بين الشباب وكبار السن من أهليهم ومن غيرهم ، فترى بعض الكبار يشاهدون الانحراف من شبابهم أوغيرهم فيقفون حيارى عاجزين عن تقويمهم آيسين من صلاحهم ، فينتج من ذلك بغض هؤلاء الشباب والنفور منهم وعدم المبالاة بأي حال من أحوالهم صلحوا أم فسدوا ، وربما حكموا بذلك على جميع الشباب وصار لديهم عقدة نفسية على كل شاب ، فيتفكك بذلك المجتمع وينظر كل من الشباب والكبار إلى صاحبه نظرة الازدراء والاحتقار وهذا من أكبر الأخطار التي تحدق بالمجتمعات .
وعلاج هذه المشكلة : أن يحاول كل من الشباب والكبار إزالة هذه الجفوة والتباعد بينهم ، وأن يعتقد الجميع بأن المجتمع بشبابه وكباره كالجسد الواحد إذا فسد منه عضو أدى ذلك إلى فساد الكل .(8/81)
كما أن على الكبار أن يشعروا بالمسئولية الملقاة على عواتقهم نحو شبابهم ، وأن يستبعدوا اليأس الجاثم على نفوسهم من صلاح الشباب فإن الله قادر على كل شئ ، فكم من ضال هداه الله فكان مشعل هداية وداعية إصلاح .
وعلى الشباب أن يضمروا لكبارهم الإكرام واحترام الآراء وقبول التوجيه أنهم أدركوا من التجارب وواقع الحياة ما لم يدركه هؤلاء فإذا التقت حكمة الكبار بقوة الشباب نال المجتمع سعادته بإذن الله .
3- الاتصال بقوم منحرفين ومصاحبتهم وهذا يؤثر كثيراً على الشباب في عقله وتفكيره وسلوكه ، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ))3 وقال صلى الله عليه وسلم : (( مثل الجليس السوء كنافخ الكير : إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه رائحة كريهة .4
وعلاج ذلك : أن يختار الشاب لصحبته من كان ذا خير وصلاح وعقل ، من أجل أن يكتسب من خيره وصلاحه وعقله ، فيزن الناس قبل مصاحبتهم بالبحث عن أحوالهم وسمعتهم، فإن كانوا ذوي خلق فاضل ودين مستقيم وسمعة طيبة فهم ضالته المنشودة وغنيمته المحرزة فليستمسك بهم وإلا فالواجب الحذر منهم والبعد عنهم وأن لا يغتر بمعسول القول وحسن المظهر ، فإن ذلك خداع وتضليل يسلكه أصحاب الشر ليجذبوا بسطاء الناس لعلهم يكثرون سوادهم ويغطون بذلك ما فسد من أحوالهم وما أحسن قول الشاعر :
أبل الرجال إذا اردت إخائهم وتوسمن أمورهم وتفقد
فإذا ظفرت بذي اللبابة والتقى فيه اليدين قرين عين فاشدد
4- قراءة بعض الكتب الهدامة من رسائل وصحف ومجلات وغيرها مما يشكك المرء في دينه وعقيدته ، ويجره إلى هاوية التفسخ من الأخلاق الفاضلة فيقع في الكفر والرذيلة إذا لم يكن عند الشباب منعة قوية من الثقافة الدينية العميقة والفكر الثاقب كي يتمكن بذلك من التفريق بين الحق والباطل وبين النافع والضار .(8/82)
فقراة مثل هذه الكتب تقلب الشباب رأساً على عقب ، لأنها تصادف أرضاً خصبة في عقلية الشاب وتفكيره بدون مانع فتقوى عروقها ويصلب عودها وتنعكس في مرآة عقله وحياته .
وعلاج هذه المشكلة : أن يبتعد عن قراءة هذه الكتب إلى قراءة كتب أخرى تغرس في قلبه محبة الله ورسوله ، وتحقيق الإيمان والعمل الصالح ، وليصبر على ذلك ؛ فإن النفس سوف تعالجه أشد المعالجة على قراءة ما كان يألفه من قبل ، وتملله وتضجره من قراءة الكتب الأخرى النافعة بمنزلة من يصارع نفسه على أن تقوم بطاعة الله فتأبى إلا أن تشتغل باللهو والزور .
وأهم الكتب النافعة كتاب الله ، وما كان عليه أهل العلم من التفسير بالمأثور الصحيح والمعقول الصريح ، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ما كتبه أهل العلم استنباطاً من هذين المصدرين أو تفقهاً .
5 – ظن بعض الشباب أن الإسلام تقييد للحريات وكبت للطاقات فينفر من الإسلام ويعتقده ديناً رجعياً يأخذ بيد أهله إلى الوراء ويحول بينهم وبين التقدم والرقي .
وعلاج هذه المشكلة : أن يكشف النقاب عن حقيقة الإسلام لهؤلاء الشباب الذين جهلوا حقيقته لسوء تصورهم أو قصور علمهم أو كليهما معاً .
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلالا
فالإسلام ليس تقييداً للحريات ، ولكنه تنظيم لها وتوجيه سليم حتى لا تصطدم حرية شخص بحرية آخرين عندما يعطى الحرية بلا حدود ، لأنه ما من شخص يريد الحرية المطلقة بلا حدود إلا كانت حريته هذه على حساب حريات الآخرين ، فيقع التصادم بين الحريات وتنتشر الفوضى ويحل الفساد .
ولذلك سمى الله الأحكام الدينية حدوداً ، فإذا كان الحكم تحريماً قال : ) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا)(البقرة: الآية187). وإن كان إيجاباً قال : ) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا)(البقرة: الآية229) .
وهناك فرق بين التقييد الذي ظنه هذا البعض وبين التوجيه والتنظيم الذي شرعه لعباده الحكيم الخبير .(8/83)
وعلى هذا فلا داعي لهذه المشكله من أصلها ، إذ التنظيم أمر واقعي في جميع المجالات في هذا الكون والإنسان بطبيعته خاضع لهذا التنظيم الواقعي .
فهو خاضع لسلطان الجوع والعطش ولنظام الأكل والشرب ، ولذلك يضطر إلى تنظيم أكله وشربه كمية وكيفية ونوعاً كي يحافظ على صحة بدنه وسلامته .
وهو خاضع كذلك لنظامه الاجتماعي ، متمسك بعادة بلده في مسكنه ولباسه وذهابه ومجيئه ، فيخضع مثلاً لشكل اللباس ونوعه ولشكل البيت ونوعه ، ولنظام السير والمرور ، وإن لم يخضع لهذا عد شاذاً يستحق ما يستحقه أهل الشذوذ والبعد عن المألوف .
إذن فالحياة كلها خضوع لحدود معينة كي تسير الأمور على الغرض المقصود ، وإذا كان الخضوع للنظم الاجتماعية مثلاً خضوعا ً لا بد منه لصلاح المجتمع ومنع الفوضوية ، ولا يتبرم منه أي مواطن فالخضوع كذلك للنظم الشرعية أمر لابد منه لصلاح الأمة ، فكيف يتبرم منه البعض ويرى أنه تقييد للحريات ؟ ! إن هذا إلا إفك مبين وظن باطل أثيم .
والإسلام كذلك ليس كبتاً للطاقات ، وإنما هو ميدان فسيح للطاقات كلها الفكرية والعقلية والجسمية .
فالإسلام يدعو إلى التفكير والنظر لكي يعتبر الإنسان وينمي عقله وفكره ، فيقول الله تعالى : )قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)(سبأ: الآية46) ويقول تعالى : ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(يونس: الآية101) .
والإسلام لا يقتصر على الدعوة إلى التفكير والنظر ، بل يعيب كذلك على الذين لا يعقلون ولا ينظرون ولا يتفكرون .(8/84)
فيقول الله تعالى : )أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْء)(الأعراف: الآية185) .ويقول تعالى: )أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَق)(الروم: الآية8) . ويقول تعالى : )وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يّس:68) .
والأمر بالنظر والتفكير ما هو إلا تفتيح للطاقات العقلية والفكرية ، فكيف يقول البعض : إنه كبت للطاقات ؟.) كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)(الكهف: الآية5) والإسلام قد أباح لأبنائه جميع التي لا ضرر فيها على المرء في بدنه أو دينه أو عقله .(8/85)
فأباح الأكل والشرب من جميع الطيبات : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّه)(البقرة: الآية172) . وقال : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(الأعراف: الآية31) .وأباح جميع الألبسه على وفق ما تقتضيه الحكمة والفطرة . فقال تعالى : (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر)(الأعراف: الآية26) . وقال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَة)(الأعراف: الآية32) .وأباح التمتع بالنساء بالنكاح الشرعي . . فقال تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) (النساء: الآية3) . وفي مجال التكسب لم يكبت الإسلام طاقات أبنائه ، بل أحل لهم جميع المكاسب العادلة الصادرة عن رضي ، يقول الله تعالى : (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(البقرة: الآية275) . ويقول : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15) . ويقول : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه)(الجمعة: الآية10) .
فهل بعد ذلك يصح ظن البعض أو قوله بأن الإسلام كبت للطاقات ؟ !
إشكالات ترد على قلب الشباب(8/86)
القلب الميت لا ترد عليه الهواجس والوساوس المنافية للدين ، لأنه قلب ميت هالك لا يريد الشيطان منه أكثر مما هوعليه ، ولذلك قيل لابن مسعود أو ابن عباس : إن اليهود يقولون : إنهم لا يوسوسون في صلاتهم أي لا تصيبهم الهواجس ، فقال : صدقوا ، وما يصنع الشيطان بقلب خراب .
أما إذا كان القلب حياً وفيه شئ من الإيمان فإن الشيطان يهاجمه مهاجمة لا هوادة فيها ولا ركود ، فيقذف عليه الوساوس المناقضة لدينه ما هو من أعظم المهلكات لو استسلم له العبد. حتى إنه يحاول أن يشككه في ربه وفي دينه وعقيدته ، فإن وجد في القلب ضعفاً وانهزاماً استولى عليه حتى يخرجه من الدين ، وإن وجد في القلب قوة ومقاومة انهزم الشيطان مدبراً خاسئاً وهو حقير .
وهذه الوساوس التي يلقيها الشيطان في القلب لا تضره إذا استعمل المرء العلاج الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال : أحدث نفسي بالشئ لأن أكون حممة ـ أي فحمة ـ أحب إليّ من أن أتكلم به . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي رد كيده ـ الشيطان ـ إلى الوسوسة (5) ( رواه أبو داود ) .
وجاء ناس من الصحابة فقالوا : يا رسول الله : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به أي يراه عظيماً فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أوجدتموه )) . قالوا : نعم . قال : (( ذاك صريح الإيمان ))(6) رواه مسلم . ومعنى كونه صريح الإيمان ، أن هذه الوسوسة الطارئة وإنكاركم إياها وتعاظمكم لها لا تضر إيمانكم شيئاً بل هي دليل على أن إيمانكم صريح لا يشوبه نقص .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغه ـ اي وصل إلى هذا الحد ـ فليستعذ بالله ولينته ))(7) رواه البخاري ومسلم ، وفي حديث آخر : (( فليقل : آمنت بالله ورسوله )) .(8/87)
وفي حديث رواه ابو داود قال : (( قولوا : الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفواً أحد . ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ))(8).
ففي هذه الأحاديث وصف الصحابة رضي الله عنهم المرض للنبي صلى الله عليه وسلم فوصف لهم العلاج في أربعة أشياء :
الأول: الانتهاء عن هذه الوساوس ، يعني الإعراض عنها بالكلية وتناسيها حتى كأنها لم تكن ، والاشتغال عنها بالأفكار السليمة .
الثاني : الاستعاذة منها ومن الشيطان الرجيم .
الثالث : أن يقول : آمن بالله ورسوله .
الرابع : أن يقول : الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . ويتفل عن يساره ثلاثاً ويقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
حيرة في القدر
من جملة الأمور التي ترد على الشباب ويقف منها حيران مسألة القدر ؛ لأن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان التي لا يتم إلا بها ، وذلك بأن يؤمن بأن الله سبحانه عالم بما يكون في السموات والأرض ومقدر له كما قال سبحانه : )أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التنازع والجدال في القدر ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمر وجهه فقال : أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم ؟ ! إنما هلك من كان قلبكم حين تنازعوا في هذا الأمر . عزمت عليكم ان لا تتنازعوا فيه ))(9). رواه الترمذي .(8/88)
والخوض في القدر والتنازع فيه يوقع المرء في متاهات لايستطيع الخروج منها ، وطريق السلامة أن تحرص على الخير وتسعي فيه كما أمرت ؛ لأن الله سبحانه أعطاك عقلاً وفهماً وأرسل إليك الرسل وأنزل معهم الكتب )َ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيما)(النساء: من الآية165) .
ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه : (( بأنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار )) قالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل . قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما من كان أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة )) . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : )فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل :5-10) الآية(10).
فأمرهم النبي بالعمل ولم يجوز لهم الاتكال على المكتوب ؛ لأن المكتوب من أهل الجنة لا يكون منهم إلا إذا عمل بعملهم . والعمل باستطاعة المرء ، لأنه يعرف من نفسه أن الله أعطاه اختياراً للعمل وقدرة عليه بهما يفعل إن شاء أو يترك .
فها هو الإنسان يهم بالسفر مثلاً فيسافر ، ويهم بالإقامة فيقيم ، وهاهو يرى الحريق فيفر منه ، ويرى الشئ المحبوب إليه فيتقدم نحوه . فالطاعات والمعاصي كذلك يفعلها المرء باختياره ويدعها باختياره .
والذي يرد على مسألة القدر عند بعض الناس إشكالان : أحدهما : أن الإنسان يرى أنه يفعل الشئ باختياره ويتركه باختياره بدون أن يحس بإجباره له على الفعل أو الترك ، فكيف يتفق ذلك مع الإيمان بأن كل شئ بقضاء الله وقدره ؟(8/89)
والجواب على ذلك : أننا إذا تأملنا فعل العبد وحركته وجدناه ناتجاً عن أمرين إرادة أي اختيار للشيء وقدرة ، ولولا هذان الأمران لم يوجد فعل . والإرادة والقدرة كلتاهما من خلق الله سبحانه ؛ لأن الإرادة من القوة العقلية والقدرة من القوة الجسمية ولو شاء الله لسلب الإنسان العقل فأصبح لا إرادة له أو سلبه القدرة ، فأصبح العمل مستحيلاً عليه .
فإذا عزم الإنسان على العمل ونفذه علمنا يقيناً أن الله قد أراده وقدره ، وإلا لصرف همته عنه أو أوجد مانعاً يحول بينه وبين القدرة على تنفيذه. وقد قيل لأعرابي: بم عرفت الله؟ فقال بنقض العزائم وصرف الهمم .
الإشكال الثاني : الذي يأتي في مسألة القدر عن بعض الناس ، أن الإنسان يعذب على فعل المعاصي ، فكيف يعذب عليها وهي مكتوبة عليه ؟ ! ولا يمكن أن يتخلص من الأمر المكتوب عليه .
والجواب على ذلك أن نقول : إذا قلت هذا فقل أيضاً : إن الإنسان يثاب على فعل الطاعات ، فكيف يثاب عليها وهي مكتوبة عليه ؟ ! ولا يمكن أن يتخلص من الأمر المكتوب عليه ، وليس من العدل أن تجعل القدر حجة في جانب المعاصي ولا تجعله حجة في جانب الطاعات .
وجواب ثان : إن الله أبطل هذه الحجة في القرآن وجعلها من القول بلا علم فقال تعالى )سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148) .
فبين الله أن هؤلاء المحتجين بالقدر على شركهم كان لهم سلف كذبوا كتكذيبهم واستمروا عليه حتى ذاقوا بأس الله ، ولو كانت حجتهم صحيحة ما أذاقهم الله بأسه ، ثم أمر الله نبيه ان يتحداهم بإقامة البرهان على صحة حجتهم ، وبين انه لا حجة لهم في ذلك .(8/90)
وجواب ثالث : أن نقول : إن القدر سر مكتوم لا يعلمه إلا الله حتى يقع ، فمن أين للعاصي العلم بأن الله كتب عليه المعصية حتى يقدم عليها ؟ أفليس من الممكن أن يكون قد كتبت له الطاعة ، فلماذا لا يجعل بدل إقدامه على المعصية أن يقدم على الطاعة ويقول : إن الله قد كتب لي أن أطيع .
وجواب رابع : إن الله قد فضل الإنسان بما أعطاه من عقل وفهم وأنزل عليه الكتب وأرسل إليه الرسل وبين له النافع من الضار وأعطاه إرادة وقدرة يستطيع بهما أن يسلك إحدي الطريقين . فلماذا يختار هذا العاصي الطريق الضارة على الطريق النافعة ؟
أليس هذا العاصي لو اراد سفراً إلى بلد وكان له طريقان أحدهما سهل وآمن ، والآخر صعب ومخوف ، فإنه بالتأكيد سوف يسلك الطريق السهل الامن ، ولن يسلك الصعب المخوف بحجة أن الله كتب عليه ذلك ، بل لو سلكه واحتج بأن الله كتب عليه لعد الناس ذلك سفهاً وجنوناً ، فهكذا أيضاً طريق الخير وطريق الشرسواء بسواء ، فليسلك الإنسان طريق الخير ولا يخدعن نفسه بسلوك طريق الشر بحجة أن الله كتبه عليه . ونحن نرى كل إنسان قادر على كسب المعيشة نراه يضرب كل طريق لتحصيلها ولا يجلس في بيته ويدع الكسب احتجاجاً بالقدر .
إذن فما الفرق بين السعي للدنيا والسعي في طاعة الله ؟ لماذا تجعل القدر حجة لك على ترك الطاعة ؛ ولا تجعله حجة لك على ترك العمل للدنيا .
إن الأمر من الوضوح بمكان ولكن الهوى يعمي ويصم .
أحاديث فيها ذكر الشباب
ولما كانت هذه الكلمات تدور حول مشاكل الشباب . . . فأني أحب ان أذكر يعض الأحاديث التي فيها ذكر الشباب فمنها :
1 – يعجب ربك من الشباب ليست له صبوة (11).. رواه أحمد .
والصبوة : الهوى والميل عن طريق الحق .(8/91)
2 - سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في طاعة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فاخفاها حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه (12) .رواه البخاري .
3 – الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة (13) . رواه الترمذي .
4 - يقال لأهل الجنة : إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً(14). رواه مسلم .
5 – ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قبض الله له من يكرمه عند سنه(15) . رواه الترمذي بسند ضعيف .
6 – قال أبو بكر وعنده عمر بن الخطاب لزيد بن ثابت رضي الله عنهم : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فأجمعه(16) . الحديث رواه البخاري .
7 – دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في سياق الموت فقال له : كيف تجدك ؟ قال: أرجو الله يارسول الله وأخاف ذنوبي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه ما يرجوه وأمنه مما يخافه ))(17) رواه بن ماجه .
8 – قال البراء بن عازب رضي الله عنه في غزوة حنين : لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسراً ليس عليهم سلاح(18) . رواه البخارى
9 – وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شباب(19) رواه أحمد .
10 – وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان شباب من الأنصار سبعين رجلاً يقال لهم القراء يكونون في المسجد فإذا أمسوا انتحوا ناحية من المدينة فيتدارسون ويصلون يحسبهم أهلوهم في المسجد ويحسبهم أهل المسجد في أهليهم حتي إذا كان في وجه الصبح استعذبوا من الماء . واحتطبوا من الحطب فجاءوا به فأسندوه إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم(20) . رواه أحمد .(8/92)
وكانوا يشترون بذلك طعاماً لأهل المدينة ، وأهل الصفة هم الفقراء المهاجرون إلى المدينة ليس لهم أهل فيها ولا عشيرة ، فيأوون إلى صفة في المسجد أو قريباً منه .
11 – وعن علقمة أحد أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع عبد الله بمنى فلقيه عثمان رضي الله عنه فقام يحدثه فقال له عثمان : يا أبا عبد الرحمن ألا نزوجك شابة لعلها تذكرك بعض ما مضي من زمانك . فقال عبد الله : لئن قلت ذلك لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء(21).رواه البخاري ومسلم .
12 – وفي حديث الدجال عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال يدعو رجلاً ممتلئا ًشبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك(22) . الحديث رواه مسلم .
13 – عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال : أتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبيبة متقاربون ، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً ، فلما ظن أنا قد اشتقنا أهلنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه فقال صلى الله عليه وسلم : أرجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر أشياء ، وصلوا كما رأيتموني أصلي ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم . رواه البخاري(23) .
وإلى هنا انتهى ما أردنا تقديمه . . نسأل الله تعالى أن ينفع به والحمد الله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
محمد الصالح العثيمين
---
(11) اخرجه الإمام أحمد ( 4/ 151 ) ، والطبراني فى الكبير ( 17 / 903 رقم 853 ) ، وابو يعلى ( 1749 ) قال الهيثمي فى مجمع الزوائد ( 10/ 237 )رواه أحمد وابو يعلى والطبرانى واسناده حسن .
(12)(8/93)
(13) اخرجه البخارى ، كتاب الاذان ، باب من جلس فى المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد ( 660 ) ، ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب فضل إخفاء الصدقة ( 1031 ) .
(14) اخرجه الترمذى ، كتاب المناقب ، باب مناقب الحسن والحسن رضى الله عنهما (3768) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(4) اخرجه مسلم ، كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب فى دوام نعيم اهل الجنة . . .( 2837) .
(15) اخرجه الترمذى، كتاب البر والصله ، باب ما جاء فى إجلال الكبير (2022) ، وقال الترمذى : هذا حديث غريب ، وضعفه الالبانى فى ضعيف الجامع ( 5012) .
(16) اخرجه البخارى ، كتاب التفسير ، باب قوله : ( قد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم ) ( 4679) .
(17) اخرجه الترمذى ، كتاب الجنائز ، باب 11 (983) ، وقال : حديث حسن .
(18) اخرجه البخارى ، كتاب الجهاد والسير ، باب الغزو على الحمير ، وباب بغلة النبى صلى الله عليه وسلم البيضاء (2874) ومسلم ، كتاب الجهاد والسير ، باب فى غزوة حنين ( 1776) .
(19) اخرجه الامام احمد ( 1/390 ، 432) قال محقق المسند : إسناده صحيح على شرط الشيخين .
(20) اخرجه الامام احمد (3/235) ، والبيهقى فى سننه الكبرى ( 2/199) وقال محققو المسند : اسناده صحيح .
(21) اخرجه البخارى ، كتاب النكاح ، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : من استطاع منكم الباءة . (5065، 5066)، ومسلم ، كتاب النكاح ، باب استحباب النكاح لمن تاقت تفسه اليه ووجد مؤنه .... (1400) .
(22) اخرجه مسلم ، كتاب الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه ( 2137) .
(23) اخرجه البخارى ، كتاب الأذان ، للمسافر اذا كانوا جماعة والاقامة .. (631) ، ومسلم ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب من احق بالاقامة ( 674) .
---
(5) اخرجه ابو داود الطيالسي ( 2704 ) والنسائى في عمل اليوم والليلة ( 669 ) ، والإمام احمد ( 1/ 340 ) .(8/94)
(6) اخرجه مسلم ، كتاب الايمان ، باب بيان الوسوسة في الايمان وما يقوله من وجدها ( 132 ) .
(7) اخرجه البخارى ، كتاب بدء الخلق ، باب صفة ابليس وجنوده ( 3276 ) ، ومسلم ، كتاب الايمان ، باب بيان الوسوسة في الايمان وما يقوله من وجدها ( 134 ) ( 214 ) .
(8) اخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب في الجهمية والمعتزلة (4722 ) .
(9) اخرجه الترمذى ، كتاب القدر ، باب ما جاء فى التشديد فى الخوض فى القدر ( 2133 ) وقال : هذا حديث غريب .
(10) اخرجه البخارى ، كتاب الجنائز ، باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله ( 1362 ) ومسلم ، كتاب القدر ، باب كيفية الخلق الآدمى فى بطن امه . . . ( 2647 ) .
---
3 - أخرجه الترمذي ، كتاب الزهد ، باب 45 ( 2378 ) وقال : حديث حسن غريب . وحسنه الألباني فى صحيح الجامع ( 3545 ) .
4 - اخرجه بنحوه البخارى ن كتاب البيوع ، باب في العطار وبيع المسك ( 2101 ) وفى كتاب الذبائح والصيد ، باب المسك 5534
ومسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ، باب استحباب .
مجالسة الصالحين . . . ( 2628 )
---
1 - أخرجه مسلم ‘ كتاب الإيمان ، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (49).
2 – أخرجه البخارى ، كتاب الايمان باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ( 13 ) ومسلم ، كتاب الايمان ، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لتفسه من الخير ( 45 ) .(8/95)