الأصل الأوامر والنواهي يقول: الناظم: الأصل في الأمر أنه حتم أي أنه واجب الأصل في النهي أنه حتم، أي أنه محرم يجب اجتنابه، وهذه المسألة من أصول الفقه أي المسألة أو القاعدة من أصول الفقه، وقد اختلف الأصوليون في الأمر أن يقتضي الوجوب أو النهي، وفي النهي أن يقتضي التحريم أو الكراهة، فهذا إذا لم يوجد قرينة تحجب الأمر عن الوصول إلى النفي أو عن النفي أيضا إلى الإباحة، وكذلك النهي إذا لم يوجد قرينة تصرفه عن التحريم إلى الكراهة، أو أن الكراهة إلى الإباحة أيضا.
وكلامنا في الأمر المجرد والنهي المجرد فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- هل الأصل أن الأمر للوجوب أو للنفي ؟ من العلماء من قال : إن الأصل الوجوب، إن الأصل في الأمر الوجوب لقول الله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } فحذر الله -تعالى- المخالفين عن أمر الرسول r من هاتين العقوبتين، بل من إحدى هاتين العقوبتين أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
أما العذاب الأليم فواضح أي العقوبة المؤلمة في بدنه في أهله في ماله، وأما الفتنة فقال الإمام أحمد -رحمه الله-: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك. لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وهذه العقوبة شديدة أعني عقوبة الشرك والمعاصي هي في حقيقة النظر لمن كان عاقلا أشد من العقوبة المادية؛ وذلك لأن هذه العقوبة تؤدي إلى خسارة الدنيا والآخرة يقول: الله U { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) }(5/417)
وقال آخرون : بل الأمر للنفي، أي أنك إن فعلت مأمورا به كان ذلك خيرا وفيه الثواب، وإن لم تفعل فلا إثم عليك. تعين ذلك بأمرين : الأمر الأول اشتمال الحكم المراد بالأوامر فإن كثيرا من أوامر الله لا تقتضي الوجوب: إما بالاتفاق أو بقول: الجمهور، وثانيا : أنه لما أمر بها ترجح فعلها لما أنه لما أمر بالشيء ترجح فعله، والأصل عدم التحكيم بالطبع وبراءة الذمة.
وكذلك يقال في النهي، فإن النهي قد أمر النبي r باجتناب المنهي عنه، والأمر بالوجوب فإذا وجب الاجتناب صار الفعل محرما، فهذان قولان للعلماء منهم من يقول: الأمر للوجوب والنهي للتحريم ما لم يوجد دليل، ومنهم من يقول: الأمر للاستحباب والنهي للاستحباب ما لم يوجد دليل على الوجوب أو على عدم الاستحباب أيضا، ومنهم من يقول: الأمر للوجوب والنهي للتحريم ما لم يوجد دليل على أن الأمر للاستحباب والنهي للكراهة أو ما إلى ما دون ذلك أيضا.
ومن العلماء من فصل فقال: أما الأمر حين يتعلق بالآداب والأخلاق فإنه للاستحباب؛ لأنه كمال، والكمال ليس بواجب، وكذلك يقال النهي حين يتعلق بالآداب والأخلاق إنه للكراهة، أما ما يتعلق بالعبادات فإن الأمر فيه للوجوب والنهي للتحريم.
فهذا التفصيل أضبط من القولين المطلقين السابقين؛ وذلك لأنك إذا استتبعت كثيرا من الأوامر فيما يتعلق بالآداب والأخلاق وجدتها للاستحباب والندب لا للوجوب، وكذلك إذا تأملت كثيرا من النواهي في الأخلاق والآداب وجدتها للكراهة لا للتحريم.
وهذا الحكم في ما لم يجمع العلماء على خلافه، فإن أجمع العلماء على خلافه فإن إجماعهم حجة معصومة.
فلنقف على هذا لأن وقت الإلقاء انتهى حتى نتفرغ للأسئلة، نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا للصواب إنه على كل شيء قدير . نعم.
س: يا شيخ أحسن الله إليك سائل يقول: أنا رجل أعاني من مشكلة، وطَال ذِكْره لها.(5/418)
خلاصتها: أنه رجل تزوج والِده بزواج شغار، وأن هذا الرجل الذي تزوج بأخته قد توفي، فماذا يعمل مع والده؟ خصوصا، وأن له أبناء من هذه المرأة التي تزوجها بهذا الشكل فيقول: أفتونا مأجورين ؟ جزاكم الله خيرا .
ج: يقول: إن أباه تزوج نكاح الشغار؟ نعم يا شيخ وأخته ماذا يقصد بها؟ فلتعد السؤال .
س: يقول: تزوج بزواج شغار: وذلك أنه اتفق وشخص آخر أن كلا منهما يزوج الآخر بابنته، وقد حصل هذا الزواج، وكل منهما له من زوجته عدة أولاد، ولكن قدر الله أن الشخص الآخر الذي تزوج والدي بابنته قدر الله أن توفي تاركا وراءه أولادا من هذا الزواج، وما زال والدي متمسكا بزوجته.
والسؤال ماذا يجب على والدي الآن ؟ وهل يمكن تصحيح زواجه وكيف ذلك ؟ وهل يجب علي أن أبدأ به ؟ يعني والدي هل أنصحه من هذا الزواج، مع أني أعرف أنه قد لا يقبل مني، أو أبدأ بتعليمه أمور الدين، حيث إنه رجل جاهل يجهل كثيرا من الدين، بل حتى من أصول الدين ؟.
ج: الحمد لله رب العالمين، نكاح الشغار لا شك أنه منهي عنه، وبناء على القاعدة التي ذكرناها آنفا يكون باطلا غير صحيح ؛ لكن ما هو الشغار أو ما هو نكاح الشغار ؟.
أن يزوج الإنسان موليته على أن يزوجه الآخر موليته بدون مهر أو بمهر ينقص عن مهر المرأة عادة هذا نكاح الشغار.
أما لو زوج أحدهما الآخر بمهر، ورضيت كل من المرأتين، وكان كل من الرجلين كفئا للمرأة، فهذا ليس بشغار إلا على رأي بعض أهل العلم، فلينظر في النكاح الذي وقع بين أبيه وبين الرجل الآخر، إن كان هناك مهر كان ومهر الادعاء، وقد رضيت كل من المرأتين بزوجها فلا شغار، وإن كان الأمر بخلاف ذلك: بأن كان مهر كل واحدة هو العقد على الأخرى فالنكاح فاسد، ولا يصح، ولكن الأولاد الذين جاءوا هم أولاد شرعيون؛ وذلك لأن الذين تزوجوا على هذا الوجه يعتقدون صحته، لأن أكثر الناس عندهم جهل عظيم بهذه الأمور لا سيما في ما سبق من الزمان .(5/419)
أما بالنسبة لمن زوجته باقية معه الآن، فالطريق سهل جدا، فهو أن يعقد له عليها عقدا جديدا وبمهر ترتضيه المرأة، وينتهي الأمر، لكن احرص على معرفة ما ذكرناه أولا : هل بين الرجلين مهر لا ينقص عن العادة، وهل رضيت كل أنثى بمن تزوجها، وهل كان كل واحد منهما كفئا للمرأة التي تزوجها . نعم.
س: أحسن الله إليكم يا شيخ يقول: ما حكم وضع بعض الإعلانات في المسجد؟ كالإعلان عن حملة للحج أو للعمرة أو الإعلان عن وجود محاضرات أو دروس علم أو الإعلان مثلا عن وفاة أحد أقارب شخص من أهل المسجد أو أنه مريض، وأنه بالمستشفى حتى نزوره ؟.
ج: أما ما كان إعلانا عن طاعة فلا بأس به؛ لأن الطاعة مما يقرب إلى الله U والمساجد بنيت لطاعة الله سبحانه وتعالى، وأما ما كان لأمور الدنيا، فإنه لا يجوز، ولكن يعلن عنه على جدار المسجد من الخارج.
فالحملات حملات الحج مثلا ليس فيها شائبة أمر دنيوي، فلا نرى أن نعلن عنها في داخل، وحلق الذكر كدورات العلم خير محض، فلا بأس أن يعلن عنها في داخل المسجد؛ لأنها خير.
والإعلان عن الميت، فإن فلانا مات، أو إنه مريض من أجل أن يعاد ويصلى عليه، هو أيضا خير، فلا بأس به، لكن هذا مرفوض، وقوله فيه نعرة؛ لأن لا ينفتح الباب، ويصير كل إنسان عنده مريض يكتب إعلانا في المسجد فتبقى المساجد ملعبة للناس، فترك هذا أولى أما حلقات الذكر ودورات العلم فلا شك أن الإعلان عنها في مسجد لا بأس به ولا حرج فيه . نعم.
س: أحسن الله إليكم يا شيخ يقول: عندنا شخص وجد معلقا على مروحة، وقيل: إنه شنق نفسه، أي أنه منتحر، مع العلم أنه كان صاحب معاص وخمر، وقيل مات سكرانا، فهل يغسل، وهل يصلى عليه، وهل يدفن في مقابر المسلمين، وهل يعزى أهله، ويقام له عزاء وما مصيره ؟ إلى الجنة أو إلى النار ؟ .(5/420)
ج: هذا هو الآن لم يفعل به شيء أو قد انتهى ؟. انتهى يا شيخ انتهى. لأن هذه الأفعال وهو قتل نفسه، وشرب الخمر والزنا مثلا، وأكل الربا كل هذا لا نخرجه من الإسلام، لكنه صاحب معصية بلا شك، وإذا كانت هذه الأفعال لا تخرجه من الإسلام، فإنه يجب أن يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين، إلا أنه يجب أن نعلم أن من قتل نفسه بشيء، فإنه يعذب به في نار جهنم خالدا مخلدا فيها، والعياذ بالله كما قال كما قال الله تعالى فيمن قتل مؤمنا متعمدا : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } نعم شيخ. وهذا الرجل العاصي عندما مات بهذه المعاصي العظيمة، ولكن لم تصل إلى الكفر يدعى له بالمغفرة والرحمة؛ لأنه مؤمن، بل لأنه مسلم . نعم .
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ : ماذا يبنى على البيع الباطل بالنسبة للبائع والمشتري ؟.
ج: نعم البيع الباطل بالنسبة للبائع والمشتري ينبني عليه أنه يجب على المشتري أن يرد السلعة إلى البائع، ويجب على البائع أن يرد الثمن إلى المشتري إن كان قد قبض، ودليل ذلك " أن النبي r أتي إليه بتمر جيد، فسأل عنه فقالوا: كنا نأكل الصاع من هذا بالصاعين يعني من التمر الرديء والصاعين بالثلاثة ، فقال r ردوه " فأمر برده . وهذا نتيجة القول بالبطلان؛ لأن لو قلنا يثبت وبقيت السلعة في يد المشتري والثمن في يد البائع لم يكن في قولنا: إنه باطل معنى ولا ثمنا، بل لا بد من إعادته نعم. لم فرض أنه تعذرت الإعادة لطول المدة وتصرف كل منهما في ما آل إليه، فحينئذ قد يقال: إنه يعفى عنه أو يقال: إنه يرد مثله بالنسبة للمشتري يرد مثله للبائع، والبائع يرد القيمة للمشتري، وهو القيمة التي وقع العقد عليها في ما سبق نعم.
س: يقول فضيلة الشيخ : امرأة متزوجة من رجل يعمل ببنك ربوي، وليس لها نفقة إلا من مال زوجها، فهل يجوز الأكل والشرب من طعامها؟.(5/421)
من طعام من؟ من طعام هذه المرأة ؟ صيغة السؤال:
ج: هو يقول: امرأة امرأة تحث زوجها في عمل ربوي؟.
تعمل في بنك ربوي يا شيخ.
إي نعم لا بأس؛ هذه القاعدة أو هذا السؤال ينبني على قاعدة مهمة أن ما حرم لكسبه فهو حرام على الكاسب وحده، فإذا انتقل إلى غيره بوجه شرعي فلا إثم عليه، فعلى هذا إذا كان الزوج ممن يتعامل بالربا أو كان في بنك ربوي، وأنفق على زوجته فلا حرج عليها أن تأكل بقدر حاجتها؛ وذلك لأنها تأكل من مال الزوج بحق، والمال التي تأخذه ليس محرما بعينه كالخمر مثلا، فلا حرج، فلا حرج عليها، ودليل ذلك أن النبي r أكل من طعام اليهود، واليهود ممن عرفوا بأكل السحت وأكل الربا، ولم يسألهم هل كان دخلكم الحرام أكثر أو أقل أو أنه لم يغلب عليه الحرام، فدل ذلك على أن الأمر واضح، والقاعدة التي ذكرناها أن ما حرم لكسبه فهو حرام على الكاسب لا على من انتقل إليه بحق، فمن انتقل إليه بحق كمعاورة بنفقة أو بيع أو ما أشبه ذلك فلا بأس . نعم.
س: يا شيخ أحسن الله إليك، يظهر من سؤاله أنه يقصد هل يجوز له هو أن يأكل من طعامها هي؟.
يأكل من طعام من؟.
يعني هو هل يجوز له أن يأكل من طعام هذه المرأة؟.
يعني رجل ثالث يعني شخص ثالث؟.
السائل يا شيخ.
شخص ثالث يريد أن يأخذ من هذه المرأة
يأكل من طعامها نعم، هذا يظهر من السؤال كدا يا شيخ .
طعام المرأة ما لها دخل في الموضوع
أنا أعيد لك السؤال : يا شيخ يقول: امرأة متزوجة من رجل يعمل ببنك ربوي، وليس لها نفقة إلا من مال زوجها فهل يجوز الأكل والشرب من طعامها ؟.
أعد السؤال مرة ثانية. يقول: امرأة متزوجة من رجل يعمل ببنك ربوي، وليس لها نفقة إلا من مال زوجها فهل يجوز الأكل والشرب من طعامها؟.
ج: إي نعم لا بأس لا بأس أن يأكل من طعامها؛ لأنها كما قلت آنفا تأكل من مال زوجها بحق، وما أخذ بحق فلا بأس أن يؤكل منه. نعم.(5/422)
س: أحسن الله إليك يا شيخ يقول: تزوجت بزوجة ثانية، فاشترطت الأولى أن أعطيها من الذهب مثل الجديدة، فهل يجب علي إعطاء الأولى من الذهب مثل الزوجة الجديدة ؟.
ج: لا يجب عليه إذا تزوج الإنسان امرأة جديدة، وأعطاها ذهبا من أجل النكاح، فإنه لا يجب عليه أن يعطي الأولى؛ لأن الواجب هو العدل في الإنفاق، ومعلوم أن الجديدة تختلف عن القديمة في إعطائها الذهب. نعم. لو فرض أنه بعد أن استقر المهر، ورضيت به الجديدة أعطاها شيئا زائدا عن المهر، فهنا يجب عليه أن يستأذن من الأولى، أو يعطيها مثل ما أعطى الثانية. نعم.
س: وهذا يقول: يا شيخ : ذهبت إلى صراف لصرف عشرة ريالات ورقية فأخذت من الصراف تسع ريالات حديد فهل هذا العمل جائز ؟ .
ج: هذا العمل جائز؛ ولذلك لاختلاف الصنفين، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- " إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " فما دام قد اختلف الصنفان فما دام الصنفان قد اختلفا فلا حرج . نعم. ولكن يشترط التقابض قبل التفرق. نعم.
س: يقول: يا شيخ هل يجوز دفع زكاة ؟ هل يجوز هل يجوز دفع كفارة الإيمان للمنظمات الخيرية مالا .
ج: المنظمات الخيرية إذا كانت وكيلة عن الفقراء فلا بأس أن يصرف إليها الشيء مالا؛ فهي تتصرف فيه على ما تراه، ولكن خير من ذلك أن يدفع إليها مالا فيوكلها بشراء الطعام، ثم توزيع ثم توزيعه على المستحق.
مثال ذلك: إنسان عليه كفارة يمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، لكنه لا يستطيع تحرير رقبة، فأراد أن يطعم أو يكسو، فأعطى الجمعية دراهم فأخبر وأخبرها بأن عليه كفارة يمين، وأنها وكيلته في شرائها ودفعها للمستحق فلا بأس في ذلك. نعم.
س: وهذا يقول: يا شيخ إذا نهى ولي الأمر عن الصيد بنوع من أنواع الطيور المطلق، فهل لي أن أصطاد، وأخالف ولي الأمر في هذا الأمر .(5/423)
ج: يقول: الله U { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } فإذا أمر ولي الأمر بشيء وليس معصية وجبت طاعته، وإذا نهى عن شيء وليس فيه معصية، فإنه يجب، فإذا نهى عن شيء، وليس فيه ذلك معصية وجب الكف عنه، وهذه هي الفائدة من ذلك إذ لو لم نقل بذلك لأصبح الناس فوضى، ولكن لو أن الإنسان صاد في هذه الحالة، فهل نقول: إن الصيد حرام كما لو صاد المسلم صيدا فإن صيده حرام؛ لأنه منهي عنه أو نقول: إن الصيد أي صيد من خالف ولي الأمر حلال.
· الجواب على الثاني يعني أن صيده حلال، لكنه مسيء لمخالفة ولي الأمر، فأظن أن هذا آخر سؤال .
كيفية توجيه الدليل الشرعي
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال الناظم-حفظه الله تعالى، ورفع درجته في المهديين-:
وكل ما رُتب فيه فضلُ
وكل فعل للنبي جُردا
وإن يكن مبينا لأمر
وقدم الأعلى لدى التزاحم
وادفع خفيف الضررين بالأخف
وإن يجتمع معْ مبيحٍ ما منع
وكل حكم فلعلةٍ تَبِع
وألغ كل سابق لسببه
من غير أمرٍ فهو ندبٌ يجلو
عن أمره فغير واجب بدا
فالحكم فيه حكم ذاك الأمر
في صالحٍ والعكس في المظالم
وخذ بعالي الفاضِلَينِ لا تخف
فقدمَن تغليبا الذي منع
إن وجدت يوجد وإلا يمتنع
لا شرطه فادرِ الفروق وانتبه
ابدأ يا شيخ. ابدأ الله يحفظك.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو الدرس الرابع في الدورة العلمية التي تقام بمسجد شيخ الإسلام ابن تيمية بمدينة الرياض، في إجازة عام ستة عشر - سبعة عشر وأربعمائة وألف، وهذا هو يوم السبت الخامس من شهر ربيع الأول، عام سبعة عشر وأربعمائة وألف.(5/424)
قبل الدرس نأخذ مناقشة في الدرس الماضي، أظن مبتدأنا قوله: ما نهي عنه من التعبد، نعم يا شيخ أي نعم. يقول الناظم:
وما نهي عنه من التعبد
أو غيره أفسده لا تردد
س: فما هو تعليل هذه القاعدة، بل ما هو دليلها، ثم ما هو تعريفها؟ يعني أن كل ما نهى عنه الشرع كله فإنه فاسد غير صحيح فما هو الدليل؟ أحد الطلبة يجيب على ذلك.
ج: الدليل قول النبي r ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط.
س: أحسنت. هذا باعتبار المعاملات، باعتبار العبادات، فيه دليل خاص بالعبادات؟.
ج: حديث الرسول r " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
س: هذا الدليل، ونسمي هذا الدليل، الدليل العقلي، ما هو الدليل النظري الذي هو التعليل على أن كل ما نهى عنه الشرع فإنه يجب أن يبطل، وأن يوصف بأنه فاسد باطل؟.
ج: لأنه لو فعله يكون قد ضاد حكم الله سبحانه وتعالى؛ لأننا لو صححناه وأمضيناه لكان في ذلك مضادة لحكم الله سبحانه وتعالى، وهذا ينافي كمال التعبد، بارك الله فيك.
س: قسم العلماء رحمهم الله النهيَ إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما يعود إلى العبادة نفسها، أو المعاملة نفسها.
والثاني: ما يعود إلى شرطها.
والثالث: ما يعود إلى أمر خارج.
فنريد أمثلة لهذا كله وهو ستة أمثلة؟
ج: المثال الأول: ما نهيَ فيه عن العبادة نفسها. ما نهي عنه ذاته مثل الصلاة في الحمامات، والصوم يوم العيد، و كذلك الصلاة بعد صلاة الفجر وصلاة العصر. أحسنت. نريد مثالا آخر ما عاد النهي إلى شرطه، لشرطه من شروط الصلاة ستر العورة، فإذا لبس الإنسان الحرير أو ما حرمه الشارع فإنه غير مستتر يعتبر فألغى الشرط ، فإنه يفسد العبادة. نعم. نعم. ما عاد إلى أمر خارج كالعمة وهي العمامة إذا كانت محرمة كالحرير كذلك، فإنه لا يبطل الصلاة؛ لأنها ليست من شروط الصلاة؛ لأنها ليست للوجوب هذا في العبادات.(5/425)
في المعاملات: ما عاد النهي فيه على نفس العقد، كبيع الحمل في البطن، للذات نفسها؟ أي على نفس العقد، { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } الربا يعني، يعني آثم؟ نعم. كذلك النهي عن البيع يوم الجمعة بعد النداء الثاني ممن تلزمه. ما عاد إلى شرط مثل: بيع الحمل في البطن .أحسنت، وكحديث أبي هريرة " أن النبي r نهى عن بيع الغرر " وما نهي عنه لأمر خارج. تلقي الجلب. أحسنت، كتلقي الجلب للشراء منهم، فإنه إذا اشترى، كان آثما ولكنْ البيع لا يفسد. بارك الله فيك.
هل الأصل في الأشياء العبادات والمعاملات والأعيان والمنافع، الأصل فيها الحِل أو التحريم؟.
س: الأصل فيها الحل. كلها؟ عدا العبادات، ما عدا العبادات تمام. لو تعامل رجلان معاملة، فادعى أحدهما أنها هذه من المعاملات المحرمة، والثاني قال: من المعاملات الحلال. فمن نقبل قوله؟
ج: نقبل القائل بالحل.القائل بالحل حتى يقوم دليل على التحريم. طيب، لو تعبد إنسان بعبادة لله U لو تعبد بعبادة لله فأنكر عليه بعض الناس فقال: إنها عبادة لله أنا أتعبد لله بها، فبمن نأخذ؟ عليه إثبات أنها عبادة. يعني نأخذ بقول من قال: إنها ممنوعة حتى يقوم دليل على أنها مشروعة. هل لديك دليل على القاعدة الثانية: أن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل على الشرع.
س: العبادات توقيفية. ما هو الدليل؟
ج: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
أحسنت. في رواية: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "
س: طيب. تنازع رجلان في طائر وجداه فاصطاداه، فقال أحدهما: هو حلال، وقال الثاني: هو حرام، فمن الذي يطالب بالدليل؟
ج: الذي يقول: إنها حرام.
الدليل ما هو الدليل على هذا؟
لأن الأصل التحليل. أي. صدقت، قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } فهذا دليل على أن الأصل في كل ما في الأرض أنه لنا حلال.(5/426)
س: طيب اختلف العلماء في الأمر والنهي هل الأصل في الأمر الوجوب، أو الأصل في النهي التحريم؟ أو الأصل في الأمر الاستحباب وفي النهي الكراهة. ما دليل القائلين بأن الأصل في الأمر الوجوب؟
ج: الأصل في الأمر الوجوب.
س: ما هو الدليل؟
ج: حديث الرسول r " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " .
س: ما يصلح؟ ما يصلح فقد يقول: فأتوا منه ما استطعتم على سبيل الاستحباب. { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } حذر الله على المخالفين عن أمر الرسول r وهذا يدل على أن الأصل في الأمر الوجوب.
س: بعضهم يقول: الأصل في الأمر الاستحباب حتى يقوم دليل على الوجوب. فما وجهة نظره؟
ج: أن الأصل عدم التكليف، الأصل عدم التأثيم بالترك، فالأمر فيه يقتضي رجحانه وعدم التأثيم بالترك يقتضي أنه ليس بواجب. وبعض العلماء فصل قال: أما ما كان من الآداب فالأمر فيه للاستحباب، وما كان من العبادات فالأمر فيه للوجوب، وكذلك يقال في المفروض والمحرم، ما كان من الآداب فالنهي فيه للكراهة، وما كان من الأعمال التعبدية فالأصل فيه التحريم.
هذا ما لم يدل دليل على خلاف ذلك.
طيب إذا شككنا في الشيء هل هو حلال أو حرام نرجع إلى الأصل. يقول في النظم: فنرجع إلى الأصل في غير العبادات، ونقول: الأصل فيه الحل، ونرجع إلى الأصل في العبادات، ونقول: الأصل فيه التحريم، حتى يقوم دليل على أنه مشروع.
نبدأ الدرس الجديد: قال الناظم:
وكل ما رتب فيه الفضل
من غير أمرٍ فهو ندب يجلو(5/427)
يجلو يعني: يظهر، كل أمر رتب فيه النبي r أو رتب عليه النبي r الفضل ولم يأمر به فهو مندوب، وليس بواجب؛ لأنه ليس فيه أمر بفعل ولا نهي عن تركه، فيكون للاستحباب لرجحانه بأمر النبي r فيه، نعم لرجحانه بترتيب الفضل عليه، مثال ذلك السواك، السواك قال فيه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " هذا الحديث بمجرده يدل على أن السواك سُنة، وليس بواجب، لأن ترتيب الفضل عليه يدل على اختياره وعدم العقوبة على تركه، يدل على أنه ليس بواجب، ثم نقول: هذا الحديث يدل على استحباب السواك دائما، خصوصا مع حاجة الفم إليه للتطهير والتنظيف، وهو كذلك فالسواك مسنون كل وقت إلا في بعض الحالات التي قد يشغل الإنسان عما هو أهم. كما لو أراد أن يستاك حال خطبة الجمعة، فإن الأفضل عدم السواك؛ لأنه يشغله عن سماع الخطبة إلا إذا كان أخذته سِنة أي: نعاس، وأراد أن يتسوك من أجل أن يطرد السِنة عنه، هذا لا بأس به.
ومن ذلك أيضا مما ورد فيه الفضل دون الأمر: صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان فقد ثبت عن النبي r " أن من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر " ولم يأمر النبي r بذلك فيكون هذا دليلا على أن صيام ستة أيام من شوال بعد إكمال رمضان مستحب وليس بواجب، ومن ذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر. المهم أن ما رتب فيه الشرع الفضل، دون أن يأمر به فهو مندوب، وليس بواجب، هذه القاعدة، ثم قال الناظم :
وكل فعل للنبي جُردا
عن أمره فغير واجب بدا
أي ظهر، كل فعل: مبتدأ. وجرد: صفة جملة فعلية صفة لكلمة فعل. فغير واجب بدا: جملة فعلية، خبر المبتدأ، واقترن بالفاء؛ لأن المبتدأَ يشبه الشرط في العموم. وهذه قاعدة مهمة جدا: أن ما فعله النبي r ولم يأمر به، فليس بواجب، وقد عبر العلماء عن هذه القاعدة بقولهم: الفعل المجرد لا يدل على الوجوب.(5/428)
وهذه قاعدة نافعة. لو استدل إنسان على وجوب شيء بفعل النبي r قلنا: لا دلالة في الفعل المجرد على الوجوب. ولذلك أمثلة منها: أن النبي r " كان إذا دخل بيتَه فأولُ شيءٍ يبدأ به السواك " فهذا فعل لم يأمر به النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فلا يكون واجبا، يعني لا نقول لكل من دخل بيته: يجب عليك أن تبدأ بالسواك؛ لأنه فعل مجرد، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، ومن ذلك أيضا إجازة النبي r عبدَ الله بنَ عباس حين وقف عن يساره في صلاة الليل مؤتما به فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم-برأسه من ورائه فأداره عن يمينه، فإن هذا فعل مجرد، ولم يرد عن النبي r أنه أمر من صلى على يسار الإمام أن يعود إلى يمين، فيكون الوقوف على يمين الإمام إذا كان المأموم واحدا سنة، وليس بواجب؛ لأنه لم يكن فيه إلا مجرد فعل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والفعل المجرد لا يدل على الوجوب.
لكنَّ بعض العلماء اختار أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام واجب، ليس اعتمادا على مجرد إدارة النبي r عبد الله بن عباس، إلى يمينه، ولكن لأنه فعل حصل به حركة في الصلاة، والأصل في الحركة في الصلاة، الأصل أنها مكروهة، وأنه ينبغي الخشوع في الصلاة. وهذا الفعل الذي فعله الرسول -عليه الصلاة والسلام- حصل به حركة من النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وحركة من عبد الله بن عباس، وهذا يدل على الوجوب، أي وجوب قيام المأموم الواحد عن يمين الإمام، وأنه لا يقف عن يساره.(5/429)
والمسألة فيها خلاف معروف، ولا شك أن الاحتياط ألا يقف المأموم الواحد عن يسار الإمام، بل يكون عن يمينه، ولكن إذا كانوا اثنين فأكثر مع الإمام، ولم يكن المكان واسعا لتقدم الإمام عليهما ففي هذه الحال يكون الإمام بينهما أحد المأمومين عن يمينه، والثاني عن يساره لا أنهما كلاهما عن يمينه؛ لأن هذا كان هو المشروع في الثلاثة أن يكون الإمام بينهم، ثم نُسخ هذا إلى أن يكون الإمام أمامهم، فإذا تعذر هذا الذي آل الحكم إليه بالنفي رُجع إلى الأصل الذي يكون فيه الإمام بين المأمومَين، لكن هذا عند الحاجة كما أسلفت.
قال الناظم:
وإن يكن مبينا لأمر
فالحكم فيه حكم ذاك الأمر
يعني إن كان فعل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مبينا لأمرٍ صدر من عند الله أو من عند النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان ذلك الفعل حكمه حكم ذاك الأمر: إن كان الأمر واجبا فالفعل واجب، وإن كان الأمر سُنةً فالفعل سنة، لأنه بيان للأمر.
ثم قال الناظم:
وقدم الأعلى لدى التزاحم
في صالحٍ والعكس في المظالم
هذه أيضا من القواعد الهامة أنه إذا تزاحمت العبادات أو غيرها فإنه يقدم الأعلى في المصالح، والأدنى في المظالم، وفي هذا قال العلماء رحمهم الله: إذا تزاحمت مصلحتان قُدمَ أعلاهما؛ لأنها أولى بالعناية. ومن ذلك، يعني ولهذا أمثلة:
تعارض الأحكام الشرعية:(5/430)
المثال الأول: في المصالح إذا تعارض واجب ومندوب، فإننا نقدم الواجب؛ لأنه أولى بالعناية، وإذا تزاحم مندوب أعلى من مندوب، فإننا نقدم الأعلى. مثال ذلك في الواجب: إنسان ضاق عليه وقت الفريضة، فأراد أن يصلي قبلها نافلة مع ضيق وقت الفريضة، فإننا نقول: قدم الفريضة؛ لأنها أعلى. ومثال آخر: رجل علية صلاة فائتة، ولم يذكرها إلا وقد ضاق وقت الحاضرة عن فعلهما، يعني لا يستطيع أن يأتي بهما جميعا، فإنه يقدم الحاضرة. مثال ذلك: رجل ذكر قبل طلوع الشمس بمقدار صلاة الفجر فقط، ذكر أنه صلى العشاء على غير طهارة. فهنا صارت عليه فريضتان، العشاء والفجر لكن صلاة العشاء قضاءً، لأنه كان خارج وقتها، وصلاة الفجر أداءً لأنه بوقتها فهنا نقول: قدم صلاة الفجر؛ لأنها تقع أداءً، وأما صلاة العشاء فهي قضاء على كل حال، سواء أديتها قبل طلوع الشمس أو بعد طلوع الشمس.
يقول: والعكس في المظالم. يعني إذا تزاحمت المظالم، يعني المفاسد، فإنه يقدم أدناها وأخفها، مثال ذلك: قول الله تبارك وتعالى: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) }
هنا تعارضت مفسدتان: المفسدة الأولى ترك سب آلهة المشركين، والمفسدة الثانية سب الإله U . ومعلوم أن سب الإله U أعظم من ترك سب آلهة المشركين وأشد مفسدة، ولذلك نهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين إذا كان سبها يستلزم سب المشركين للإله رب العالمين. إذا كان سبها يستلزم سب المشركين لرب العالمين { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي: أصنامهم { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } يعني أنكم إذا سببتم آلهتهم فسوف يسبون إلهكم.(5/431)
فهاتان قاعدتان: القاعدة الأولى؛ إذا تزاحمت العبادات قدم أعلاها. الثانية إذا تزاحمت المحرمات قدم أدناها. ويمكن أن نمثل لهذه القاعدة بمثال آخر، وهو ما ذُكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه مر بقوم من التتار كانوا يشربون الخمر، ولم ينههم عن شرب الخمر، وكان معه صاحب له فقال له أي: لشيخ الإسلام ابن تيمية: لماذا لم تنههم؟!.
قال: لأنهم لو تركوا شرب الخمر، لذهبوا يهتكون أعراض المسلمين، ويغصبون أموالهم، وهذا ظلم متعدٍ، وهو أعظم من الظلم القاصر الحاصل بشرب الخمر. وهذا لا شك أنه من فقه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قدم أخف المفسدتين على أعلاهما.
العمل بأخف الضررين:
ثم قال الناظم:
وادفع خفيف الضررين بالأخف
وخذ بعالي الفاضِلَينِ لا تخف
هذه القاعدة، تشبه أن تكون تكميلا للقاعدة الأولى. يعني أنه إذا اجتمع ضرران، فإنه يدفع أشد الضررين بأخفهما. ولذلك أمثلة: منها ما حصل من الخضر حين ركب هو وموسى - عليه الصلاة والسلام - السفينة، فخرقها الخضر، ولا شك أن خرق السفينة ضرر، لكن الخضِر أراد أن تسلم السفينة من ملك يأخذ السفن الصالحة التي ليس بها عيب؛ فخرقها ضررٌ، ولكنَّ أخذها أشد ضررا منه. والسفينة إذا بقيت وفيها ضرر فهو أهون { فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } وهذه قاعدة مهمة ينبغي للإنسان أن يعتني بها.
ومثال آخر: لو أن أحدا صال على نفسك فإنك تدافع عنها لا شك، لكن هل تلجأ إلى القتل مباشرة، أو تدافعه بالأسهل فالأسهل، معلوم أنك تدافعه بالأسهل فالأسهل، فإذا لم يندفع إلا بالقتل فلك أن تقتله؛ لأنه صائل ليس له حرمة، لكن دافعه بالأسهل فالأسهل، قال أهل العلم: إلا إذا خفت أن يبادرك بالقتل لو دافعته بالأسهل فالأسهل فهنا لك أن تقتله لكن لا تستعجل حتى ترى منه قرائن قوية، تدل على أنه سيبادرك بالقتل إن لم تقتله.(5/432)
ومن ذلك أيضا ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله- فيما لو تعطلت مصالح الوقف فباع بعضه، لإصلاح باقيه على وجهٍ يمكن الانتفاع به، فإن هذا جائز أيضا؛ لأن المحافظة على باقيه خيرٌ من تعرضه كله للتلف وعدم الفائدة منه.
قال: "وخذ بعالي الفاضِلَينِ لا تخف"، يعني إذا اجتمع شيئان أحدهما أفضل من الآخر فخذ بالعالي في الفضل ولا تخف؛ لأن العالي في الفضل فيه زيادة على ما دونه وزيادة الفضل أمر مطلوب.
ويمكن أن نمثل لذلك برجلٍ خاف خروج وقت الظهر، وكان لم يصلِّ الراتبة، راتبة الظهر التي بعدها، فأراد أن يتطوع بنفلٍ مطلق، لكنه يقول: إن تطوعتُ بالنفل المطلق خرج الوقت عن صلاة الراتبة، فهل أقدم صلاة الراتبة، أو النفل المطلق؟ نقول: قدم صلاة الراتبة؛ لأن صلاة الراتبة نفلٌ مقيد تابع للمكتوبات فهو أفضل من النفل المطلق.
وكذلك لو تعارض و(3) عيني وواجب كفائي، فإنك تقدم الواجب العيني على فرض الكفاية؛ لأنه أعلى منه، والناظم يقول: "وخذ بعالي الفاضِلَينِ لا تخف".
ثم قال الناظم:
وإن يجتمع معْ مبيحٍ ما منع
فقدمَن تغليبا الذي منع(5/433)
يعني إذا اجتمع موجب المنع مع موجب الإباحة، فأيهما نقدم؟ نقول: قدم موجب المنع؛ لأنه لا يتأتى اجتناب الممنوع إلا بترك المباح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهذه قاعدة دل عليها القرآن قال الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) } فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأربعة : الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. وعلل اجتناب الخمر والميسر في آية أخرى بأن فيهما إثما كبيرا ومنافع للناس، فقال U { * يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فلما غلب جانب التحريم صار الحكم هو التحريم.
ومثل ذلك لو اشتبه شاة مذكاة بشاة غير مذكاة، فإنه يجب اجتناب الجميع؛ لأنه لا يمكن اجتناب الشاة غير المذكاة إلا باجتناب الشاة المذكاة، فيغلب جانب المنع. يقول:
إن يجتمع معْ مبيحٍ ما منع
فقدمَن تغليبا الذي منع
ومن ذلك ما ذكره بعض الفقهاء -رحمهم الله- أن الإنسان لو لبس خفيه وهو مقيم، ومسح عليهما، ثم سافر، فإنه يتم مسح مقيم، لا مسح مسافر؛ لأنه حين سافر اجتمع في حقه مبيح وحاظر، يعني بعد تمام مدة مسح المقيم سوف يجتمع في حقه مبيح وحاظر، مبيح يبيح له الاستمرار حتى يتم له ثلاثة أيام بلياليها، وهو السفر، وحاظر وهو الإقامة التي لا يباح له فيها إلا مسح يوم وليلة، قالوا فيغلب جانب الحظر. وهو أن يتم مسح مقيم، وهذه المسألة فيها خلاف: فمنهم من يرى ذلك أي أنه إذا مسح على خفيه في الحضر، ثم سافر قبل تمام المدة، فإنه يتم مسح مقيم.
ومن العلماء من يقول: يتم مسح مسافر اعتبارا بالنهاية. والمسألة فيها خلاف في مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
يقول:
إن يجتمع مع مبيح ما منع
فقدمن تغليبا الذي منع(5/434)
وفي قول الناظم: "تغليبا" إشارة إلى أن هذا الحكم من باب التغليب. والتغليب: طريق شرعي دلت عليه الأدلة الشرعية.
إن يجتمع مع مبيح ما منع
فقدمن تغليبا الذي منع
الحكم يدور مع علته:
قال الناظم:
وكل حكم فلعلة تبِع
إنْ وجدت يوجد وإلا يمتنع
هذه أيضا من القواعد المهمة المفيدة، أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. وهذه قاعدة دلَّ عليها الدليل السمعي، دليلها قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث؛ من أجل أن ذلك يُحزنه " .
فهنا حكم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بتحريم التناجي بين اثنين ومعهما ثالث لا يشاركهما في التناجي، علل ذلك بأنه يحزنه. فنستفيد من هذه العلة أنه لو كان لا يحزنه، بل عذرهما بالتناجي بينهما، فإن ذلك لا نهي فيه، وكذلك يفهم منه أنه لو كان يحزن بغير المناجاة إذا كان الاثنان يتكلمان بلغة لا يفهمها ويحزنه ذلك، فإنهما منهيان عن التخاطب بهذه اللغة. كما لو كان ثلاثة اثنان منهما يجيدان اللغة الإنجليزية والثالث لا يجيدها، فجعل الاثنان يتناجيان باللغة الإنجليزية فهذا لا شك أنه يحزنه في الغالب، فنقول: لا يحل لهما أن يتناجيا باللغة الإنجليزية مع ثالث لا يعرفها لما في ذلك من إحزانه وكسر قلبه.
ومن ذلك أيضا أن النبي r حرم الخمر فقال: " كل مسكر خمر " فعلل التحريم، أو علل ثبوت الخمر بكونه مسكرا، فدل هذا على أن كل ما أسكر فهو خمر؛ سواء كان من عصير العنب أو من الشعير أو من التمر أو من الزبيب أو من غيرها، فإنه إذا وجد فيه الإسكار صار خمرا حراما. لماذا؟ لأن الحكم يتبع العلة؛ إن وجدت يوجد وإلا يمتنع.
قال الناظم:
وألغ كل سابق لسببه
مع شرطه فادر الفروق وانتبه
الأسباب والشروط في الأحكام الشرعية:(5/435)
الأشياء لها أسباب ولها شروط، فتقديمها على أسبابها لائق، وتقديمها على شروطها ليس بلائق. ولذلك أمثلة كثيرة منها اليمين، إذا حلف الإنسان ألا يدخل بيت فلان فرأى من المصلحة دخوله، وأراد أن يدخله، فلا حرج. لكن لو قدم الكفارة على دخول البيت لكان ذلك جائزا؛ لأن سبب الكفارة موجود وهو اليمين، لكنَّ شرط وجود الكفارة وهو الحنث لم يوجد، فإن أخر الكفارة حتى دخل البيت فهذا يكون قد أدى العبادة بعد وجود سببها وشرطها ولا إشكال.
ولو أراد أن يكفر قبل أن يحلف فإن ذلك لا يجزئه؛ لأنه تقديم للشيء قبل وجود سببه. ومن ذلك أيضا لو أن الإنسان أحرم بحج أو عمرة، فخاف أن يحتاج إلى حلق رأسه لأذىً فيه، ثم قدم الفدية قبل وجود الأذى، فإن ذلك لا يجزئه؛ لأنه لم يوجد سبب الوجوب. ولو أنه وجد الأذى، وقدم الفدية قبل حلق الرأس، جاز لوجود السبب، وإن كان لم يوجد الشرط، وإن فدى بعد أن حلق رأسه، فهذا قد حصل أو قد أدى العبادة، بعد وجود السبب والشرط.
ولها أمثلة كثيرة في العبادات والمعاملات، ونظرا لانتهاء وقت الإلقاء نقتصر على هذه القاعدة، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في العمل، والثبات على الصلاح، وإلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى في يوم الاثنين.
أما الآن فإلى الأسئلة، ونرجح أن تكون الأسئلة في صميم الموضوع.
س: نعم: أحسن الله إليك يا شيخ، هذا يقول: حفظك الله أشكل عليَّ في فهم قولك:
وإن يقع في الحكم شك فارجعِ
للأصل في النوعين ثم اتبع
مع قول النبي r " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه؟ "(5/436)
ج: يعني معناه إذا أي معنى قولنا: إن يقع في الأصل شك، أننا إذا شككنا في هذا الشيء هل هو حلال أو حرام، فإن كان من العبادات وجب استثناؤه، يعني شككنا هل هذه عبادة مشروعة أو لا، فيجب علينا أن نتجنبها، وإن طابت نفوسنا بها، وركنت إليها نفوسنا؛ لأن الأصل في العبادات الحظر، أما الثاني وهو أنه إذا اشتبه الأمر هل هذا حلال، أو هذا حرام فإننا نأخذ بالأصل. في المعاملات مثلا: شككنا هل هذا حلال أو حرام فإننا نأخذ بالحل، شككنا في هذا الحيوان هل هو من الحلال أو الحرام، نأخذ بالحل، لكن إذا وجد الشبهات، الشبهات بمعنى أن نشتبه بالحكم.
أما قضيتنا فالحكم معلوم، أنه يرجع للأصل في الأمور؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، كقوله تبارك وتعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أصل عظيم يقتضي أن جميع ما في الأرض حل لنا. فإذا اشتبهنا هل هذا مما حرمه الله أو لا؟ رجعنا للأصل وهو الحل، إلا أن يوجد راء يرجح أنه من المحرمات فحينئذ يكون من المشتبهات ونقول:إن من التقوى ترك المشتبهات.
س: نعم، وهذا يقول: حفظك الله يا شيخ، يقول: نريد مثالا على إذا ما تعارض مندوب مع مندوب؟.
ج: ذكرنا هذا فيما إذا تعارض نفل مطلق مع الراتبة، إنسان مثلا بقي على دخول وقت العصر مقدار ركعتين فقط، وهو لم يصلِّ راتبة الظهر، فهنا لو قال: هل أقوم وأتنفل نفلا مطلقا أو أصلي الراتبة؟ قلنا: صلِّ الراتبة؛ لأن الرواتب أفضل من النفل المطلق، وكذلك أيضا لو تعارض طلب علم مع قيام ليل فإن طلب العلم أفضل، إذا لم يمكن طلب العلم في وقت آخر.
س: نعم، وهذا يقول: فضيلة الشيخ، إذا كان الفعل المجرد لا يدل على الوجوب فعلى ماذا يدل؟.(5/437)
ج: الفعل المجرد لا يدل على الوجوب، لكنْ أفعال الرسول -عليه الصلاة والسلام- أقسام: الأول؛ ما كان بمقتضى الجِبلة والطبيعة، فهذا لا حكم له مثل الأكل والشرب والنوم، فكون الإنسان ينام هذا أمر طبيعي، كون الإنسان يأكل هذا أمر طبيعي؛ ولهذا نقول: إن هذا لا حكم له، لكن قد يكون هذا الشيء على صفةٍ معينة، مندوبا كالنوم على الجنب الأيمن مثلا، فإن هذا مندوب، وكالأكل في السحر من أجل الصوم، فهذا مندوب، وكالأكل عند الحاجة إليه، فهذا مندوب، فإن خاف الضرر بعدم الأكل فهو واجب، وإن خاف الضرر بالأكل فهو محرم، ولو كان الأصل فيه الإباحة، ولهذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: إن الأطعمة المباحة، إذا خاف الإنسان منها الضرر صارت حراما.
ويمكن أن نضرب مثلا بذلك برجلٍ مصاب بمرض السكري فقال له الأطباء: إن أكلك الحلو يضر بك، فهنا نقول لهذا الرجل: إن أكلك الحلو حرام عليك، لأنه يؤدي إلى الضرر، والله تعالى إنما حرم الأشياء على عباده من أجل الضرر بها، إما في الأصل أو في الدين، أو في الجسم أو في العرض أو في المال. نعم، هذا واحد.(5/438)
الثاني: ما فعله النبي r على سبيل العادة؛ فهذا يكون الأصل فيه العادة، أي أن يفعل الإنسان ما اعتاده الناس، من ذلك لبس العمامة، لبس الإزار والرداء؛ كان النبي r يعتم، وكان يلبس الإزار والرداء، لكنه يفعل ذلك على سبيل العادة، يعني الناس يعتادون ذلك في عهده. فهذا حكمه أن يتبع الإنسان فيه عادة بلده، ما لم تكن محرمة؛ وذلك لأن الإنسان لو لبس خلاف العادة لكان لباسه ذلك شهرة، ولباس الشهرة منهي عنه، إلا إذا كانت العادة من المحرم فهو حرام، فلو اعتاد الناس مثلا أن يلبسوا ثيابا يجرونها، أو ينزلونها إلى أسفل من الكعبين فإن هذه العادة محرمة، ولا يجوز للإنسان أن يتابع الناس فيها، وكذلك لو اعتاد الناس أن يلبس الرجال ثياب الحرير، فإن هذه العادة محرمة، ولا يجوز للإنسان أن يتابع الناس فيها، أما ما اعتاده الناس، وهو من الأمور المباحة، فإن السنة أن يتبع الإنسان فيه العادة، فمثلا لباس الرسول -عليه الصلاة والسلام- العمامة والإزار والرداء مكفول على سبيل العادة، فلا يكون مطلوبا بعينه، وإنما يكون مطلوبا بجنسه، والمطلوب هو موافقة ما اعتاده الناس.
الثالث: ما فعله بيانا لمجمل، كالصلاة مثلا فإن الله تعالى قال: { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وهذا أمر مجمل لا يتبين كيف الإقامة إلا بقول النبي r أو فعله، أو بالقرآن الكريم إن كان. فصلاة النبي r أو فجميع ما فعله الرسول - عليه الصلاة والسلام - في صلاته فإنه من إقامة الصلاة المأمور بها.
فما فعله النبي r بيانا لمجمل، فله حكم ذلك المجمل، إن كان واجبا فواجب، وإن كان سُنةً فسنة ما لم يدل دليل على أن ذلك للسنة وليس للوجوب.
س: نعم، وهذا يقول: فضيلة الشيخ، هناك قاعدة فقهية تقول: إن الصلاة الحاضرة تبطل بذكر الفائتة " فهل هذه القاعدة صحيحة؟.(5/439)
ج: لا ليست هذه القاعدة صحيحة. بل في ذلك تفصيل الصلاة الحاضرة إذا ضاق وقتها فهي مقدمة على الصلاة المقضية، كما ذكرنا في المثال عند شرح النظم. وأما إذا كانت الحاضرة قد اتسع وقتها، ثم ذكر الفائتة بعد أن شرع في الحاضرة، فهذا موضع نظر. فمن الناس من يقول أي من العلماء من يقول: إنه يقطع الحاضرة، ويقضي الفائتة، ومنهم من يقول: إنه لا يقطعها؛ لأنه شرع فيها على وجهٍ مأذونٍ فيه، فلا يخرج منها حتى يؤديها. فتبين بهذا أن هذه القاعدة ليست على وجه الإطلاق. وعلى وجه التفصيل فيها خلاف.
س: نعم، وهذا يقول فضيلة الشيخ، وقف تعطلت منفعته، فهل يجوز إدخاله في مسجد مجاور له؟.
ج: نعم، إذا تعطلت منافع الوقف، كبيت انهدم، وأراد الناظر أن يدخله في مسجد فلا بأس؛ لأن المسجد من أفضل الأعمال المقربة إلى الله U لكن إن كان الوقف على أناسٍ مخصوصين كالوقف على الذرية، فإنه لا يدخله في المسجد إلا بأخذ عوضٍ عنه يُشترى به بدله، أي يشترى به وقف بدل الوقف الأول؛ لأن الوقف على الخاص من حق الخاص، وليس من حق الخاص الحاضر أيضا، بل هو حق له ولمن يأتي بعده، فالوقف على الذرية لو تعطل المنافع وقال الذرية: موافقون نحن نأذن بإدخاله في المسجد قلنا: لا إذن لكم؛ لأنكم لم تملكوه، الوقف لكم ولمن بعدكم، فلا يدخل المسجد إلا بعوض، للموقوف عليهم؛ لأنهم معذورون.(5/440)
أما إذا كان وقفا على الفقراء أو كان وقفا فيه أضحية أو ما أشبه ذلك، وليس وقفا على أناس معينين، فإنه لا بأس أن يدخل المسجد؛ لأن المسجد من أفضل الأعمال. وبهذه المناسبة أنصح إخواننا الذين لديهم أملاك يريدون أن يوقفوها أن يوقفوها على جهات عامة. مثلا يوقفوها على جماعة تحفيظ القرآن أي على الحلق التي توجد في المساجد أو على المساجد المهم على جهة عامة؛ لأن ذلك أقرب إلى حصول المقصود وأبعد عن التنازع الذي يقع بين مستحق الوقف، كما هو مشاهد فإن من الأقارب من جرى بينهم التقاطع من أجل أوقاف كانت بينهم، وكان موقفوها لم يريدوا إلا الخير، لكن نظرا لغلبة الشُح وقلة الوازع الديني صار الأقارب يتنازعون، ويتعادون ويتباغضون من أجل لعاعة من العيش يأخذونها من وراء هذا الوقف.
س: نعم، وهذا يقول: فضيلة الشيخ، كتب وضعت وقفا في مكتبة مسجد من المساجد، ثم جاء أمر من المسئولين بإخراج هذه الكتب فما هو العمل؟.
ج: العمل، أن تجعل في مساجد أخرى ليس فيها مانع. فإن كان المنع عاما في جميع المساجد، فتجعل في المكاتب الخيرية التي يرتادها طلبة العلم، ويحصل بذلك المقصود، فإن تعذر ذلك أيضا، فإنها تباع وتجعل في كتب مأذونٍ فيها.
س: نعم، وهذا يقول: ما الحكم في من استمنى بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني؟.(5/441)
ج: الجواب على وجهين: الوجه الأول؛ حكم الاستمناء، فالاستمناء محرم لقول الله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) } ولقول النبي r " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " فأرشد النبي r الشاب الذي له شهوة ولم يجد الباءة أن يصوم، ولم يذكر له الاستمناء، ومن المعلوم أن الصوم أشق من الاستمناء، وأن الاستمناء يحصل به من التمتع والتلذذ ما لا يحصل بالصوم، ولم يرشد النبي r إليه، مع سهولته والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا يعدل عن شيءٍ مباح فيه اليسر على المُكلف، إلى شيءٍ أشق منه أبدا، فلولا أن الاستمناء حرام ما عدل النبي r عنه إلى الصوم.
أما الوجه الثاني: فنقول: إن الإنسان إذا تحلل التحلل الأول، حلَّ له كل شيءٍ إلا النساء. وعلى هذا قال العلماء -رحمهم الله- بل قال بعض العلماء -رحمهم الله-: إن كل ما يتعلق بالنساء من عقد نكاحٍ أو تلذذٍ أو قبلةٍ أو ما أشبه ذلك فهو داخل في التحريم، ثم إن العلماء يقولون -رحمهم الله-: كل ما كان حراما من مباشرة دون الفرج فإن فيه فدية وهي: إما صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو نصف شاة يفرقها على الفقراء في مكة، أو في المكان الذي فعل فيه المحظور.
س: نعم، وهذه تقول ما حكم استقدام خادمة بدون محرمٍ لامرأةٍ ناشطةٍ في الدعوة إلى الله، وحصل هذا من كثير من بنات جنسها، ولها دروس وتدريس للقرآن، علما بأنها في منطقةٍ يقل فيها الداعيات للخير، ولا تستطيع استقدام هذه الخادمة مع محرمها فما هو العمل، وفقكم الله؟.(5/442)
ج: الذي أرى أنه لا يجوز استقدام خادمة بلا محرم، لعموم النهي " لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " ولحصول المفاسد التي نسمعها إذا لم يكن مع المرأة محرم، ولا سيما في من عنده شباب غير متزوجين، فإن الأمر خطير جدا، ولكن من الممكن أن تحضر محرمها، وأن تجعله يعمل بنفسه مدة إقامته هنا ويحصل المقصود.
س: نعم، هذا آخر سؤال؛ لأنه انتهى الوقت، هذا الآتي يا شيخ، هذا يقول: لي أخت تضع العباءة على الكتف، وتلبس البنطلون، وقد نصحتها، ولكنها لم تنتصح، وأنا أوصلها بعض الأسواق وبيوت الأقارب؛ وذلك لأن أمي تطلب مني ذلك، فهل لي أن أعصي أمي؟.
ج: نعم، الواجب أن تديم النصيحة، وأن تحذرها من ذلك، أي من لبس البنطلون، لأن البنطلون من خصائص الرجال، وإذا فتح الباب للنساء فإنهن سوف يتوسعن في ذلك، ويحصل بذلك من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله.
وإذا دعتك أن تذهب بها إلى السوق، فقل لها: ليس عندي بأس إذا كان هناك حاجة، ولكن اخرجي على وجه ليس فيه فتنة، اخرجي بالثياب العادية دون أن تلبسي ما لا يليق بالمرأة.
نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق، نعم، أحسن الله إليك يا شيخ.
الأمور الشرعية لا تتم إلا بتوافر أسبابها وشرطها
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد قال الناظم، حفظه الله تعالى ورفع درجته في المهديين:
والشيء لا يتم إلا أن تتم
والظن في العبادة المعتبر
لكن إذا تبين الظن خطأ
كرجلٍ صلى قبيل الوقت
والشك بعد الفعل لا يؤثر
أو تكُ وهما مثل وسواس فدع
ثم حديث النفس معفو فلا
شروطه ومانع منه عُدم
ونفس الأمر في العقود اعتبروا
فأبرئ الذمة صحح الخطأ
فليعد الصلاة بعد الوقت
وهكذا إذا الشكوك تكثر
لكل وسواس يجي به لكع
حكم له ما لم يؤثر عملا
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(5/443)
أما بعد: فهذا هو الدرس الخامس الذي يتم بالدورة العلمية التي أقيمت بمسجد ابن تيمية -رحمه الله-، في مدينة الرياض، في حي سلطانة، والذي يتم في يوم السبت والاثنين والأربعاء، وهذا هو يوم الاثنين السابع من شهر ربيع الأول عام سبعة عشر وأربعمائة وألف، ولكننا نبدأ بمناقشة الطلبة قبل أن نشرع في الشرح:
س: سبق لنا قاعدة: وهي أن الأصل في الأمر والنهي الحتمية، أي أن الأصل في الأمر الوجوب، والأصل في النهي التحريم، إلا إذا دل دليل على أن الأمر للندب، أو أن النهي للكراهة أو لغير ذلك من القرائن، وبينا خلاف العلماء في ذلك، وهذا لا مناقشة فيه؛ لأنه في الدرس قبل الماضي، لكن ذكرنا في الدرس الماضي أن ما ورد فيه الفضل بدون أمر فهو مندوب، وليس بواجب إذا لم يكن فيه إلا مجرد ترتيب الفضل، فنطلب من أحد التلاميذ أن يضرب لنا مثلا، أو مثلين: نعم، من يجيب؟ مثل السواك، وصيام ستة أيام من شوال. ما هو الفضل الذي رُتب في السواك؟
ج: قول الرسول r " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " نعم.
وصيام، ثلاثة أيام من كل شهر،الصيام من كل شهر أخبر الرسول r " من صام رمضان وأتبعه بست من… " لا ،ثلاثة أيام من كل شهر الوصية لأبي هريرة، حينما قال له: ثلاث أوصاني خليلي بها، ذكر منها صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
المثال المحرر، هو أن الرسول r قال: " صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر كله " .
س: طيب إذا ورد عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - فعل مجرد عن الأمر، فهل يكون للوجوب أو يكون للاستحباب، وقد فعله على سبيل التعبد؟.
ج: يكون على وجه الاستحباب.على وجه الاستحباب. أتستطيع أن تضرب لنا مثلا بذلك، كان r إذا دخل بيته أول ما يبدأ به السواك. نعم. وعلى هذا فيسن للإنسان إذا دخل بيته، أن يبدأ بالسواك ولا يجب.بارك الله فيك. نريد مثالا آخر؟ أوصى النبي r بصوم ستة أيام من شهر شوال.(5/444)
س: نريد مثالا آخر وقع فيه الفعل المجرد من رسول الله r دون النهي أو الأمر؟
ج: عندما قام من الليل وحول ابن عباس عن يساره إلى يمينه. نعم، بدون نهي عن الوقوف عن يساره،يكون هذا الفعل؟ يكون سنة. هذا الفعل أيش؟ للندب. نعم.
س: يقول الناظم:
كل حكم فلعلةٍ تَبِع
إن وجدت يوجد وإلا يمتنع
نريد دليلا على ذلك يعني أمثلة على ذلك؟.
ج: يا شيخ مثلا إذا كانوا ثلاثة يتناجون يعني إذا كان اثنان يتناجيان دون الآخر، الثالث، فإذا لم يوجد هذا الشخص الثالث زال الحكم.
المثال صحيح وتوجيه المثال غير صحيح، إذا كان يوجد يعني ثلاثة فقط نهى الرسول نعم نهى الرسول r أن يتناجى اثنان دون الثالث، من أجل أن ذلك يحزنه. يحزن الثالث بناءً على ذلك إذا كان لا يحزنه سقط الحكم، فلا نهي.
ومثله أيضا الإسكار هو علة التحريم للخمر، فمتى وجد الإسكار حرم، ومتى لم يوجد لم يحرم.
س: نعم، طيب نريد مثالا للقاعدة في دفع أشد الضررين بأخفهما؟.
ج: مثل، يا شيخ مدافعة الصائل. أي نعم، بالأسهل فالأسهل، يعني إذا اندفع بالضرب الخفيف، لا يُضرب ثقيلا وإذا اندفع بالوعيد لا يضرب. كذا؟ أي نعم.
س: مثال آخر؟
ج: القرآن، في قصة الخضر مع موسى عليه السلام. نعم.
س: كيف هي؟
ج: أنه خرق السفينة، فلو بقيت صالحة لأخذها الملك الظالم. بارك الله فيك، لأن خرق السفينة ضرر. لكنه فعله لدرء ضرر أشد منه.
س: واضح؟ طيب، هل يجوز تقديم الشيء على سببه؟
ج: لا يجوز. لا يجوز، طيب.
س: هل يجوز تقديمه على شرطه؟ نعم.
ج: مثال الأول: حلف لا يدخل بيت صديق له، ثم كفر قبل أن يحلف، فلا يجزئه. نعم.
أما قبل شرطه حلف، ثم قبل أن يدخل، كفر. الكفارة هذه يعني بعد وجود السبب وقبل وجود الشرط.
س: طيب، مثال آخر؟(5/445)
ج: مثل يا شيخ، الذي يوجد في رأسه أذى في الحج، نعم فإنه لا يفعل الفدية إلا إذا وجد الأذى. نعم، أحسنت. يعني لو كان متوقعا أنه يكون فيه أذى ففدى، فلا يجزئ حتى يتيقن من الأذى. فإذا تيقن الأذى جاز أن يفدي وإن لم يحدث. ومثل ذلك لو أن إنسانا يعرف أن فيه أذى، ولكنه قدم الفدية على الإحرام، يعني قبل أن يحرم فدى، فإنه لا يجوز تقديمها هنا لعدم وجود السبب المانع من حلق الرأس، وهو الإحرام، واضح.
هذا المثال الأخير لم نذكره فيما سبق، لكنه ينطبق على القاعدة.
إذا تعارض فعل وتر ونفل مطلق، كأن لم يبقَ على الفجر سوى جزءٍ يسير لا يمكن أن يصلي فيه نافلة ووترا، فأيهما يقدم، الوتر أو النفل المطلق؟
ج: يقدم الوتر يا شيخ.
س: لماذا؟
ج: لأنها أوجب يا شيخ.
أعلى، أعلى مرتبة من النفل المطلق، القاعدة التي تشير إلى هذا؟
ج: أنه إذا وجد فاضلان يُقدم الأفضل منهما الأعلى، لفظ القاعدة:
وقدم الأعلى لدى التزاحم
في صالحٍ والعكس في المظالمِ
ولهذا فإني أختار: أننا نطالب الإخوة بحفظ المنظومة.
س: شيخ والجوائز عليك، الجوائز علينا؟
ج: إي جوائز المسابقة عليكم، على كل حال، حفظها مهم. إن وضعنا جوائز فهي علينا، يا شيخ إن شاء الله تعمل جوائز وتسلمها أنت إذا حضرت إن شاء الله .
طيب نبدأ الآن الدرس الجديد: القاعدة يقول:
والشيء لا يتم إلا أن تتم
شروطه ومانع منه عُدم
كلمة الشيء تعني: كل شيء في العبادات وفي المعاملات، في الأحكام الشرعية في الأحكام الجزائية، لا تتم الأمور حتى توجد أسبابها وشروطها، وتنتفي موانعها، وهذه القاعدة قاعدة مهمة مفيدة تنحل فيها إشكالات كثيرة، كما سيتبين إن شاء الله في التمثيل، وهذه القاعدة معلومة من التتبع، بل من النصوص أيضا. قال الله تبارك وتعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) }(5/446)
هذا وجود الشرط { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) } وهذا انتفاء المانع. مثال ذلك في العبادات: أنه لو فعل عبادة مع فقد أحد شروطها فإن هذا... كرجلٍ صلى بغير وضوء ناسيا، ثم تبين له بعد ذلك أنه صلى بغير وضوء، فصلاته لا تصح، لماذا؟ لفوات شرط وهو الوضوء لقول النبي r " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث، حتى يتوضأ " .
ومثال وجود المانع، مع تمام الشروط أن يصلي الإنسان في وقت النهي صلاة لا تباح فيه، كالنفل المطلق؛ رجل جالس في المسجد يقرأ بعد صلاة العصر، ثم طرأ عليه أن يتطوع بالصلاة، فقام يصلي فهذه الصلاة لا تصح، لوجود مانع من قبولها، وهو أنها كانت في وقت النهي.
مثال ذلك في المعاملات: رجل باع بيعا بثمن مجهول فالبيع غير صحيح، لانتفاء شرط من شروطه، وهو أن يكون الثمن معلوما، وقد دلَّ على هذا الشرط قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بل قول أبي هريرة t نهى النبي r عن بيع الغرر.
ومثال البيع الذي تمت شروطه مع وجود المانع، لو باع إنسان شيئا بعد نداء الجمعة الثاني، وهو ممن تجب عليه الجمعة، وباعه بيعا تام الشروط، فإنه ذاك البيع؛ وذلك لوجود المانع من صحته، وهو وقوعه بعد نداء الجمعة الثاني، ممن تجب عليه الجمعة لقول الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) }(5/447)
هذه أربعة أمثلة اثنان في العبادات، واثنان في المعاملات، أما في الأحكام الجزائية، فهناك نصوص في الوعيد عامة، تدل على وعيدٍ لا يحصل إلا للكافر: مثل قول الله -تبارك وتعالى- في قتل العمد: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } فالقتل عمدا سبب لثبوت الخلود في النار، لكنْ هذا السبب، له مانع من نفوذه وهو الإيمان، فإن الإيمان -وإن قلَّ- يمنع من الخلود في النار، وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- " لا يدخل الجنة نمام " فنفي دخول الجنة هنا عام أن النمام لا يدخل الجنة فإذا لم يدخل الجنة فليس له مآل إلا النار، ولكن نقول: هذا الحكم، أو هذا السبب من دخول النار وانتفاء دخول الحنة له مانع وهو الإيمان.
وقِسْ على هذا، يعني الأشياء لا تتم، إلا بموجب شروطها، وانتفاء موانعها، ولك أن تمثل أيضا بالولد يرث أباه؛ فإنه إذا مات إنسان عن ولد، ذكرٍ أو أنثى كان هذا الولد وارثا له. لقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } لكن لو كان الولد مخالفا لأبيه في الدين، فإنه لا يرثه، لوجود المانع وهو المخالفة في الدين، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: " لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر " .
هذه القاعدة قاعدة مهمة، أن الشيءَ لا يتم إلا إذا تمت شروطه، وانتفت موانعه.
مثال آخر: امرأة تزوجت بدون وليّ، النكاح غير صحيح؛ لأن من شرط صحة النكاح أن يكون بوليّ، ولو تزوجت زواجا بولي، قد تمت فيه الشروط لكنها في العدة، فإن النكاح لا يصح لوجود المانع.
اعتبار الظن في العبادة:
ثم قال الناظم:
والظن في العبادة المعتبر
ونفس الأمر في العقود اعتبروا(5/448)
هذه القاعدة بل هاتان القاعدتان عبر عنهما العلماء بقولهم: العبرة في العبادات بما في ظن المكلف، والعبرة في المعاملات بما في نفس الأمر.
وجه ذلك أن العبادات حق لله تعالى، فاكتفي فيها بالظن، لأنه هو المستطاع. وأما المعاملات فهي حق للآدمي فلا بد من موافقة التصرف لما في نفس الأمر.
مثال ذلك في العبادات: رجل صلى فلما كان في التشهد الأخير، شك هل صلى ثلاثا أم أربعا ، وغلب على ظنه أنه أربعا. فنقول: اكتفِ بهذا الظن واجعلها أربعا، واسجد سجدتين بعد السلام.
مثال ثان: رجل يطوف بالبيت، فشك هل طاف ستا أم سبعا، وغلب على ظنه أنها سبعة أشواط، فليجعلها سبعة؛ لأن هذا هو الظن والعبادات مبناها على الظن، ويدل لهذا، الحديث الذي رواه عبدُ الله بن مسعود أن النبي r قال: " إذا شك أحدكم فليتحرَّ الصواب ثم ليبنِ عليه " .
مثال آخر: صائم ظن غروب الشمس فأفطر، ثم تبين بعد ذلك أن الشمس لم تغرب فصومه صحيح، لكن عليه إمساك حين أن يعلم أن النهار باق حتى تغرب الشمس حقيقة، ودليل صحة ذلك ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنهما- قالت: " أفطرنا يعني في عهد النبي r في يوم غيم ثم طلعت الشمس.. " .
ودليل صحة ذلك ما رواه البخاري، عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: " أفطرنا في عهد النبي r في يوم غيم، ثم طلعت الشمس " ولم يأمرهم النبي r بالقضاء، ولو كان القضاء واجبا لأمرهم به، ولو أمرهم به لنقل إلينا؛ لأنه إذا أمرهم به صار من شريعة الله، وشريعة الله محفوظة.
ومثال ذلك: رجل أعطى زكاته لشخص يظن أنه من أهل الزكاة، تبين أنه ليس من أهل الزكاة، فزكاته مقبولة، ومبرئة للذمة؛ لأنه بنى على غالب ظنه.(5/449)
ويدل لهذا قصة الرجل الذي تحدث عنه الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: " لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على سارق، فقال: الحمد لله على سارق. لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته فوضعها في يد بغي -أي زانية-، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: الحمد لله على زانية. لأتصدقن الليلة، فتصدق فوقعت صدقته في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على غني، فقال: الحمد لله على سارق وزانية وغني. فقيل له: إن صدقتك قد قبلت، أما السارق فلعله يستعف ويستغني بما أعطيته عن السرقة، وأما الزانية فلعلها تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فيتصدق " .
فهذا الرجل وقعت الصدقة في غير ما يريد، لكنه ظن أنه الذي يريده، وهو أنه فقير عفيف ورِع، فوقعت الصدقة في غير هؤلاء، لكنه قيل له: إنها قد قبلت؛ لأن هذا كان الذي أداه إليه اجتهاده.
أما في المعاملات فالعبرة بما في نفس الأمر + للمكلف، وإن كان يحرم على المكلف أن يتصرف فيما لا يظن أن له حق التصرف فيه.
مثَّل العلماء لذلك: برجل باع سيارة لزيد، وهذا البائع هو وارث لزيد، لكنه لم يعلم بموته إلا بعد أن باع السيارة، وكان قد مات قبل بيعها، قال العلماء -رحمهم الله-: البيع هنا صحيح؛ لأن العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر.
ومثل ذلك: رجل باع مالا لشخص، وكان صاحب المال قد وكله في البيع، لكنه لم يعلم بالوكالة حتى باع، فهنا نقول: إن البيع صحيح؛ لأنه وقع ممن يقوم مقام المالك وهو الوكيل، وإن كان حين البيع لم يعلم بالوكالة، ثم قال الناظم مستدركا على ما مضى:
لكن إذا تبين الظـ ن خطا
فابرئ الذمة صحح الخطا
إذا تبينت المعاملات التي أتى فيها بما غلب على ظنه أنه أخطأ فإنه يجب عليه إبراء الذمة لتصحيح الخطأ، وهذا في العبادات، لكن لا يلزم منه أن يأتي إلا بما يمكن تلافيه وتداركه.(5/450)
مثال ذلك: رجل صلى يظن أنه على وضوء، ثم تبين بعد سلامه أنه ليس على وضوء، فهنا نقول: يجب عليك أن تتوضأ وتعيد الصلاة.
ومثال آخر: رجل صلى أربعا، غلب على ظنه أنه صلى أربعا، وبعد السلام تبين له أنه صلى ثلاثا، فيجب عليه في هذه الحال أن يتمم الأربع، فيأتي بركعة إن كان الوقت قصيرا، يأتي بركعة لتكون صلاته أربعا؛ لأنه علم أن صلاته وقعت خطأ.
مثال ثالث: رجل ظن أنه أخرج زكاة ماله، فلم يخرجها ظنا منه أنه قد أخرجها، فبنى على هذا الظن، ولم يحص ماله، ولم يؤد الزكاة، ثم تبين له بعد ذلك أنه لم يزكِ، فهنا يجب عليه أن يحصي ماله الزكوي، وأن يزكي؛ لأنه تبين أن ظنه الأول ليس بصحيح، فوجب أن يأتي بالفعل الصحيح.
إذن إذا تبين الخطأ في العبادات التي عمل فيها بغالب ظنه، فإنه يجب عليه أن يتلافى الخطأ، وأن يتداركه إذا كان مما يمكن تداركه، ثم ضرب الناظم مثالا نعتبره المثال الرابع قال:
كرجل صلى قُبيل الوقت
فليُعد الصلاة بعد الوقت
عبادة كل وقت لا بعد خروجه، رجل ظن أن الشمس قد زالت فصلى الظهر، ثم تبين أنها لم تزل، فيجب عليه أن يصلي، أي أن يعيد الصلاة بعد دخول وقت الظهر؛ لأنه -وإن كان بنى على ظنه أولا- فإنه قد تبين الخطأ، فيجب عليه أن يصحح الخطأ.
ومثال آخر: رجل ظن أن الشمس قد غربت فصلى المغرب، ثم تبين بعد ذلك أن الشمس لم تغرب، فهنا يجب عليه أن يعيد الصلاة إذا دخل وقت المغرب، أي إذا غابت الشمس.
فإن قال قائل: ما الفرق بين هذه الصورة وبين صورة الصائم إذا أفطر قبل أن تغيب الشمس، ثم تبين أن الشمس لم تغب، فإنه يجبر الصوم؟(5/451)
قلنا: الفرق أن الأكل في الصوم وجود مفطر+ فيعذر الإنسان فيه بالجهل، وأما الصلاة التي لم يتوضأ فيها فهو فقد واجب، وفقد الواجب لا بد فيه من أن يأتي بالواجب، وهذه يعبر عنها بعض العلماء أن المأمور لا يعذر فيه بالجهل، وأما المحظور فيعذر فيه بالجهل؛ لقول الله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فقال الله تعالى: " قد فعلت "
أثر الشك على العبادة:
ثم قال الناظم :
والشك بعد الفعل لا يؤثر
وهكذا إذا الشكوك تكثر
هذه قاعدة الشك التي ابتلي بها كثير من الناس اليوم، فهل الإنسان يعمل بالشك أو لا يعمل؟ في هذا تفصيل على ما ذكره الناظم.
الأول: إذا كان الشك بعد فراغ العبادة فلا يلتفت إليه، مثاله: رجل صلى، ثم بعد الفراغ من صلاته شك هل صلى ثلاثا أم أربعا؟ فنقول: لا تلتفت إلى هذا الشك؛ لأنه بعد الفراغ من العبادة، والشك بعد الفراغ من العبادة لا يؤثر إطلاقا؛ لأننا لو قلنا بتأثيره لانفتح على الناس من الوسواس ما لا يمكنهم دفعه.
هذه واحدة، ولأن الأصل وقوع العبادة وتمامها على الوجه المطلوب، ولذلك شكوا -الصحابة رضي الله عنهم- عن النبي r الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة -أي في نفس العبادة- دون أن ينصرف منها، ومع ذلك أمر الرسول أن لا يلتفت إليه؛ لأنه شك، والشك لا يرفع اليقين.
الموضع الثاني: مما لا يعتبر فيه الشك: إذا كانت الشكوك كثيرة، بمعنى أن الإنسان لا يعمل عملا إلا شك فيه، فإنه لا يؤثر ذلك الشك؛ لأن مثل هذا مرض، كونه لا يفعل وضوءا ولا صلاة ولا غيرهما إلا شك، هذا مرض في الواقع، رجل ليس عنده حزم ولا عزيمة؛ فلا يلتفت إليه.
الموضع الثالث: مما لا يعتبر فيه الشك: ما أشار إليه الناظم في قوله:
أو يك -يعني الشك- وهما مثل وسواس فدع
لكل وسواس يجي به لكع(5/452)
إذا كان الشك مجرد وهم لا حقيقة له فإنه لا يُرجع إليه؛ لأنه وسواس، والوسواس لا دواء له إلا الإعراض عنه والتلهي عنه؛ ولهذا قال الناظم:
.......... فدع
لكل وسواس يجي به لكع
يعني الشيطان، يعني دع الوساوس، فإن الذي يأتي بالوساوس هو الشيطان؛ من أجل أن يلبس على الإنسان دينه، ويقلق راحته، حتى يكون لا يفعل فعلا إلا توهم أنه ناقص.
ودواء هذا الأخير -بل والذي قبله- أن يستعيذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم، وأن يستمر في عبادته، ولا يلتفت إلى هذا الوسواس وهذه الشكوك.
فصار الشك لا يعتبر في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: إذا وقع بعد انتهاء العبادة.
والموضع الثاني: إذا كثرت الشكوك، والموضع الثالث: أن يكون وهما -وهو الطرف المرجوح من الاحتمالين- فإنه لا يرجع إليه؛ لأن هذا وسواس.
فإن كان الشك على غير هذه الثلاثة فإنه معتبر، وسبق قبله البيت أنه يكفي الظن في العبادات، ولا يكفي في المعاملات قال:
ثم حديث النفس معفو فلا
حكم له ما لم يؤثر عملا
هذا أيضا مما يتعلق بهذه القاعدة، حديث النفس معفو عنه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " .
ولا فرق في هذا بين العبادات والمعاملات، فلو حدَّث الإنسان نفسه بأمر خطير فيما يتعلق بالعبادة، فنقول: إن هذا الحديث معفو عنه، ولكن أعرِض عنه، استعذ بالله وأعرض عنه، ولا يهمنَّك.
كذلك أيضا لو أن الإنسان حدث نفسه أن يطلق زوجته ولم يطلقها، فإننا نقول: إن الله تجاوز عنك، فلا طلاق، فلا طلاق عليك، وهكذا جميع ما تحدث به النفس ليس له أثر ولا اعتبار، والدليل ما ذكرناه من قبل: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " .
ولنقف على هذا القدر؛ لأنه جاء دور الأسئلة، أسأل الله تعالى أن يجعله علما نافعا خالصا لوجهه، إنه على كل شيء قدير.
الآن نتلقى الأسئلة.(5/453)
س: طيب فضيلة الشيخ: هذا سائل يقول: حديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " يقول: قال بعض أهل العلم: إن فيه دليلا على أن الأصل في الأمر والنهي الإلزام بالوجوب والحظر، وأن غيرهما لا يدل إلا على الندب والكراهة. نرجو توجيهكم في ذلك؟
ج: قوله -عليه الصلاة والسلام-: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " قوله: "فأتوا" هل هو على الندب أو على الوجوب؟ هذا محل الخلاف، يعني هل يجب علينا أن نأتي ما استطعنا أو يندب؛ لأن نفس الحديث يصح أن يكون مثالا لأمر، وأن الأمر هل يقتضي الوجوب أم لا؟ فليس فيه دلالة واضحة على أن الأصل في الأمر للوجوب، اللهم إلا أن يقال: إن قوله: "ما استطعتم" يدل على ذلك، فيجاب عن هذا بأنه حتى في النافلة نقول: صلِّ الرواتب ما استطعت كما ينبغي.
والحقيقة -كما سبق- أن هذا لا ينضبط انضباطا تطمئن إليه النفس، وأن أقرب ما يقال فيه: إن ما كان من العبادات فالأمر فيه للوجوب والنهي فيه للتحريم، وما كان من الآداب فالأمر فيه للاستحباب والنهي للكراهة، إلا إذا دل الدليل على أن الأمر للوجوب كالأمر بالتسمية عند الأكل، وكالأمر بالأكل باليمين، فإن هذا دل الدليل على الوجوب. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، كيف نجمع بين حديث: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين " وبين حديث: " يأتي أناس يوم القيامة وأعمالهم مثل جبال تهامة.. " إلى آخر الحديث، وفي قوله إلى أن قال: " لأنهم خلوا بمحارم الله فانتهكوها " فكيف نجمع بين هذين الحديثين -أثابكم الله-؟(5/454)
ج: الحديث الأول: " كل أمتي معافى " يعني: معافى من ألسنة الناس والكلام فيه، لأنه استتر بستر الله U فستره الله، وإن كان الله تعالى قد يبدي معايبه -وإن كان متسترا- لما علم الله تعالى في قلبه من نوع من الاستخفاف بمعصية الله U أما الثاني: ففي الجزاء، والجزاء ثابت على المعاصي وإن كانت خفية، فالمعافاة في الحديث: " كل أمتي معافى " أي: من ألسن الناس والتعرض للفعل.
س: فضيلة الشيخ، هذا يقول: صاحب محل ساعات يقوم بمعاملة تجارية صورتها: يتقدم إليه من هو محتاج للمال بساعته التي تقدر قيمتها مثلا بخمسة عشر ألف ريال، فيقوم المحل برهنها وشرائها من صاحبها بأقل من سعرها بعقد بين المحل وصاحب الساعة، ويحق لصاحب الساعة أن يشتريها مرة أخرى بعد شهر بزيادة ألف ومائتين ريال عن سعر الشراء، وبعد شهرين بزيادة ألفين وأربعمائة ريال، وبعد ثلاثة أشهر بثلاثة آلاف وستمائة ريال، ومدة العقد ثلاثة أشهر، ثم تعرض الساعة بعدها في المحل للبيع، فما حكم هذه المعاملة؟
ج: هذه المعاملة -أولا- مخالفة لمقتضى العقد في الرهن؛ لأن مقتضى العقد في الرهن أن تبقى السلعة المرهونة رهنا عند صاحب الدين الذي له الدين، لا أن يشتريها، فإذا اشتراها فلا رهن.
ثانيا: إنه لو باعها ابتداء على صاحبها بالسلعة التي أخذها، وهي -أي السلعة- تساوي نصف ثمن الساعة، ثم لما قضى المشتري حاجته رجع واشترى الساعة من البائع بأكثر من الثمن، مؤجلة بأكثر من الثمن، بثمن مؤجل، فإن هذا عكس مسألة العِينة -الصورة-، لكنه في معنى العِينة حقيقة، إذ إن هذا كأنه أخذ قليلا بكثير مؤجل، وهذا هو حقيقة مسألة العينة.
فالعمل بهذا غير جائز، ولكن إذا كان الإنسان محتاجا، وعنده هذه الساعة التي تبلغ هذه القيمة، فليبعها بقيمتها على أي واحد، ويأخذ القيمة ويشتري حاجته، ثم إن بقي شيء اشترى ساعة تصلح لمثله؛ لأن مثله مادام في هذا العدم لا يصلح أن يحمل ساعة بألف وخمسمائة ريال. نعم.(5/455)
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، هل كل حديث يدور في النفس معفو عنه، وهل الظن من حديث النفس، وكيف نجمع -حفظكم الله- بين حديث النبي r " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " وبين قوله تعالى: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } ؟
ج: أولا: إن حديث النفس لا يشتمل على هم ولا على عزيمة، وإنما يحدث نفسه هل يفعل أو لا يفعل؟ لكن لم يهم، فهذا معفو عنه؛ لأن الشيطان دائما يلقي في قلب الإنسان ما يحدث به نفسه مما يعد طامة كبرى وردة عن الإسلام، ولو أنه أُخذ به الإنسان لكان في ذلك تكليف ما لا يطاق.
وأما الهم فإنه مرتبة فوق التحديث، يعني يحدث النفس ثم يهم ويعزم، هذا هو الذي يعاقب عليه ما لم يدع المحرم الذي هم به لله، فإن ترك المحرم الذي هم به لله فإن الله تعالى يكتبه حسنة كاملة؛ لأنه تركها -أي المعصية التي هم بها- خوفا من الله U وإخلاصا لله؛ فكتبت حسنة كاملة، فيجب الفرق بين الحديث وبين الهم.
وأما قوله تعالى في المسجد الحرام: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } فالمعنى من يهم به هما جازما مقرونا بالإلحاد، أي: همٌّ بمعصية واضحة بينة، فإن الله تعالى يذقه من عذاب أليم.
فيجب أن نعرف الفروق؛ لأن الله تعالى يقول، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وسمى الله القرآن فرقانا؛ لأنه يفرق بين الأمور، بين الحق والباطل، وبين النافع والضار، وبين المؤمن والكافر، وبين حق الله وحق العباد، إلى غير ذلك مما تكون به الفروق. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، أورد ابن عبد البر في التمهيد قولا عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "لك أن تأكل من مال رجل اكتسبه من حرام ثم أهداه إليك، فهو حرام عليه وجائز لك". فهل هذا يكون مع علم الشخص المُهدى إليه هذا المال؟ نرجو الإجابة وجزاكم الله خيرا.(5/456)
ج: نعم، يكون مع علم الشخص المهدى إليه؛ لأن المال مكتسب من حرام، أما لو علم المهدى إليه أن هذا المال مال زيد المغصوب فهنا لا يحل له أن يقبله؛ لأن التحريم في أمر المال.
أما ما كان محرما بالكسب -مثل هدية آكل الربا وآكل القمار وما أشبه ذلك- فإنه لا بأس أن تقبلها، إلا إذا كان في ردها ردع له عن أكل الحرام، فلا بأس أن تردها، بل قد يجب أن تردها؛ لأن النبي r أكل من طعام اليهود مع أنهم آخذون للربا أكالون للسحت.
ثم إن هذا الآكل أكله بطريق مباح، يعني أنه وصل إليه عن طريق مباح وهو الدعوة، فالقاعدة -إذن- أن ما حرم لكسبه فإنه حرام على الكاسب دون غيره، وما حرم لعينه فهو حرام على كل أحد. نعم.
س: وهذا يقول: هناك قطاع عسكري في بلادي يخلو من المصلحين الذين يعلمون الناس أحكام دينهم، ولا يُسمح لأحد بالوظيفة في هذا المكان إلا أن يحلق لحيته، فهل أحلق لحيتي وأدعو إلى الله في هذا المكان، أم أتركهم بالكلية؟
ج: اتركهم بالكلية؛ لأن الله تعالى يقول: { * لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } ويقول U { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } ولا يمكن الدعوة إلى الله بالمعصية إطلاقا، وأنت إذا حلقت لحيتك وقعت في المعصية، وليس عليك هداهم، ثم إنه ربما تحلق اللحية بناء على ما تظنه من المصالح ولا تتحقق لك، فتأتي مفسدة محققة لمصلحة غير محققة. نعم.
س: وهذا يقول: أكلت لحم الإبل، وصليت العصر والمغرب على وضوئي قبل الأكل، ولم أعلم أنه لحم جزور إلا بعد صلاة المغرب، فماذا عليَّ؟
ج: عليك أن تقضي الصلوات التي صليتها بعد أكلك لحم الإبل ولم تتوضأ منه؛ لأنك صليت بغير طهارة، ومن صلى بغير طهارة وجب عليه أن يعيد صلاته، وهذا بخلاف من صلى وعليه نجاسة وهو لا يدري عنها، أو كان قد دري عنها ونسي أن يغسلها، فإن هذا لا تبطل صلاته.(5/457)
والدليل على ذلك أن النبي r أمر المسيء في صلاته أن يعيد الصلاة وقال: " ارجع فصل فإنك لم تصل " ؛ لأنه ترك فيها مأمورا -وهو الطمأنينة-، واستأنف النبي r الصلاة حين أتاه جبريل وأخبره أن في نعليه قذرا، بل استمر r في صلاته.
وهذا أصل في التفريق بين المأمور وبين المحظور، المحظور يعفى عنه بالجهل والنسيان، ولا يترتب عليه شيء من آثاره، وأما المأمور فيعفى عنه بالجهل والنسيان من حيث الإثم، ولكن يجب عليه تداركه في قضائه، أو قضاء بدله إذا لم يمكن قضاؤه، وإلى هنا ينتهي الوقت، ونسأل الله تعالى لنا التوفيق وللجميع.
الأمر المطلق يدل على الفور
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
قال الناظم -حفظه الله تعالى ورفع درجته-:
والأمر للفور فبادر الزمن
والأمر إن روعي فيه الفاعل
وإن يراع الفعل مع قطع النظر
والأمر بعد النهي للحل وفي
وافعل عبادة إذا تنوعت
لتفعل السنة في الوجهين
إلا إذا دل دليل فاسمعن
فذاك ذو عين وذاك الفاضل
عن فاعل فذو كفاية أثر
قول لرفع النهي خذ به تفي
وجوهها بكل ما قد وردت
وتحفظ الشرع بذي النوعين
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد..
فهذا هو الدرس السادس من الدروس التي تقام بالدورة العلمية في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في حي سلطانه في الرياض، وهذا هو يوم الأربعاء التاسع لشهر ربيع الأول سنة سبعة عشر وأربعمائة وألف، وقبل أن نبدأ هذا الدرس نحب أن نستذكر ما سبق بالدرس الماضي؛ حتى يتم البناء عليه.
س: ذكرنا في النظم إن الشيء لا يتم إلا أن تتم شروطه وتنتفي موانعه. نريد مثالا لذلك في العبادات، فيما لم تتم شروطه. أحد الطلبة يجيب على ذلك؟
ج: المثال: من صلى وهو محدث.
س: من صلى وهو محدث؟
ج: فهو فاقد لشرط من الشروط.(5/458)
س: فإن صلاته لا تتم -يعني لا تصح- لفقد شرط من الشروط، وهو..؟
ج: الطهارة.
س: أرأيت لو كان ناسيا؟
ج: عليه الإعادة.
س: يعني ولو كان ناسيا؟
ج: نعم، ولو كان ناسيا.
س: طيب، ألا يرد على هذا ما ذكره العلماء -رحمهم الله- في من صلى في نجاسة ناسيا، فإن القول الراجح من أقوال العلماء ألا إعادة عليه؟
ج: لا يرد هذا.
س: لماذا؟
ج: لأن ذاك من أفعال التروك.
س: أي؟
ج: لا يشترط له هذا.
س: يعني ما الفرق بينه وبين من صلى محدثا ناسيا؟
ج: الفرق أن هذا أمر -يعني- أن من نسي ما أمر به فلا يعذر بالجهل.
س: يعني من نسي المأمور فإنه لا يعذر بالجهل بالنسيان طبعا. نعم، وعليه الإعادة؟
ج: نعم.
س: وهذا كالمثال الأول الذي صلى بغير وضوء، طيب الثاني لماذا لا تلزمه الإعادة إذا صلى وفي ثوبه نجاسة؟
ج: فإن هذا من المنهي عنه.
س: والمنهي عنه إذا فعل ناسيا؟
ج: يعذر بالجهل؟
س: فلا شيء عليه؟
ج: نعم؟
س: طيب نريد مثالا لما لا يصح لوجود المانع؟
ج: مثاله: من صلى في وقت النهي نفلا في وقت النهي.
س: نعم، من صلى نفلا لا سبب له في وقت النهي.
ج: نعم.
س: فالصلاة صحيحة من حيث الشروط تامة، لكن لا تصح لوجود مانع، وهو وقوعها في وقت النهي، نريد أن نمثل مثالا ثبت فيه السبب والشرط، ولكن وجد فيه المانع من غير العبادات؟
ج: مثاله: من باع بعد النداء الثاني في صلاة الجمعة وهو ممن تجب عليه.
س: أحسنت، من باع أو اشترى بعد نداء الجمعة الثاني، وهو ممن تجب عليه الجمعة، فالبيع غير صحيح لوجود المانع، وكذلك لو كان أحد الورثة قاتلا لمورثه، فإنه لا يرثه لوجود المانع -وهو القتل-، أو كان مخالفا له في الدين فإنه لا يرثه لوجود المخالفة في الدين، والقتل والمخالفة في الدين من موانع الإرث. هل المعتبر في فعل المكلف الظن أو ما في نفس الأمر، يعني هل المعتبر ما في ظن المكلف أو ما في نفس الأمر؟(5/459)
ج: فيه تفصيل: إذا كان في العبادة فالمعتبر هو الظن، وإذا كان في المعاملات -العقود- فالمعتبر نفس الأمر.
س: تمام، طيب، نريد مثالا على الأول؟
ج: مثال العبادة: الاجتهاد في القبلة للمسافر، إذا اجتهد وغلب على ظنه اتجاه القبلة فيصلي.
س: طيب، فإن تبين خطأ؟
ج: ليس عليه الإعادة.
س: لأن العبرة بما في ظن المكلف؟
ج: نعم.
س: في العقود؟
ج: لو تصرف في مال غيره مجتهدا فلا يصح تصرفه -ولو اجتهد-؛ لأن العبرة فيه بما في نفس الأمر.
س: طيب، لكن لو تبين أنه مالك لهذا الشيء، أو أنه وكيل فيه بعد التصرف، هل ينفذ أو لا؟
ج: ينفذ.
س: يعني مثلا: لو باع شيئا لمورثه وهو لا يدري أنه مات، ثم تبين أنه قد مات، فالتصرف صحيح؛ لأن العبرة بما في نفس الأمر؟
ج: نعم.
س: طيب، إذا صلى قبل الوقت ظانا دخول الوقت، ثم تبين أنه قبل الوقت، فما الحكم؟
ج: عليه إعادة الصلاة.
س: عليه الإعادة؟
ج: نعم.
س: لماذا؟
ج: لأنه لم يدخل وقت الصلاة.
س: لأنه؟
ج: لم يدخل وقتها.
س: أي نعم، لكن ما هو العبرة بالاعتداد+ بما في ظن المكلف؟
ج: لكنها تأتي+ على غير صحيح هنا.
س: يعني تبين خطأه فيجب عليه؟
ج: نعم.
س: ليصحح خطأه؟
ج: أي نعم.
س: وتكون الصلاة الأولى نفلا؟
ج: أي نعم.
س: طيب، والفرق بينها وبين مسألة القبلة التي جاءت في المثال الأول أن مسألة القبلة صلاها في الوقت، فقد صلاها في الوقت الذي أُمر به، أُمر أن يصلي فيه، وقد حصل واجتهد بخلاف هذا، فإنه صلاها قبل أن يطالب بها، واضح الفرق. ما هي المواضع التي لا يعتبر فيها الشك؟
ج: هناك ثلاثة مواضع: الأول: إذا حصل الشك بعد الفعل، والثاني: إذا كثرت الشكوك، والثالث: هو الوهم.
س: إذا كان الشك وهما كالوسواس كذا؟
ج: نعم.
س: طيب، مَثِّل الأول.
ج: الشك بعد الفراغ مثل أن بعد انتهاء الصلاة يشك هل صلاها -يعني- تامة بشروطها، وهكذا.
س: يعني: هل صلى ثلاثا أم أربع؟
ج: نعم.(5/460)
س: فماذا يفعل -يعني- إذا سلم الآن هنا شك بعد الصلاة، لا يعتبره، الشك يعني لا يعتبره شيئا، طيب المثال الثاني: إذا كثرت الشكوك؟
ج: متى تكثر شكوكه فيكون كالموسوس، فإنه لا يعتبر في شكه، يكون مريضا، لا يعتبر به.
س: كثير الشكوك ما هو موسوس، لكنه كلما صلى شك، كلما توضأ شك؟
ج: نعم.
س: هذا نقول لا عبرة بشكه؛ لأنه كثير الشكوك، أما الموسوس فهو الذي يكون عنده وهم ليس مبنيا على شك، مثلا في التشهد الأخير توهم أنه ناقص دون أن يكون هناك شك حكمي في القلب، هذا لا عبرة به. إذا رجل صار يحدث نفسه هل يطلق زوجته أو لا هل تطلق؟
ج: لا تطلق؛ لأن هذا وهم.
س: إنه يحدث نفسه ما بعد استقر على شيء؟
ج: حديث نفس هذا.
س: لا عبرة به؟
ج: لا عبرة به.
س: ما هو الدليل؟
ج: إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم.
س: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم " طيب، لو أن هذا الرجل قارن مع تحديث النفس بوسواس، فقال: إذن أستريح، أطلِّق زوجتي وأستريح، هل يقع طلاقه؟
ج: السؤال يا شيخ، أعد.
س: السؤال: إنسان صار يحدث نفسه أطلِّق أو ما أطلِّق أو ما أطلق، فقال: إذن أستريح، أطلقها وأستريح، فطلقها، فهل يقع طلاقه؟
ج: إذا طلقها فقد تكلم، فقد طلق.
ما يفصل في هذا بين أن يقال: إن كان مريدا للطلاق طلقت، وإن كان من ضغط الوسواس عليه فإنها لا تطلق. نعم، وهل يفصل إذا كان هذا من الضغط -ضغط الوسواس عليه- وهو لا يريد الطلاق؟ لكن -كما قلنا- يريد أن يستريح، فهذا لا تطلق؛ لقول النبي r " لا طلاق في إغلاق " ؛ ولهذا ذكر كثير من العلماء أن طلاق الموسوس لا يقع بناء على هذا، وإلى هذه يشير الناظم في قوله:
ثم حديث النفس معفو فلا
حكم له ما لم يؤثر عملا
والآن نبدأ بدرس هذا اليوم، يقول الناظم:(5/461)
"والأمر للفور": الأمر للفور، والفور هو المبادرة بالشيء، يعني أن أمر الله ورسوله يجب أن يُفعل على الفور إن كان واجبا، ويستحب أن يفعل على الفور إذا كان مستحبا؛ وذلك لأن الواجب لا بد من فعله، والمستحب للإنسان أن يدعه.
وهذه المسألة -أعني: هل الأمر للفور أو للتراخي؟- أقول فيها: إنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما دل الدليل على أنه للفور، هذا لا إشكال فيه، يجب على الفور.
والثاني: ما دل الدليل على أنه ليس للفور، فهذا أيضا ليس للفور.
الثالث: الأمر المطلق يكون للفور أو لا يكون للفور؟ وهو موضع خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إنه يجب على الفور، واستدل لذلك، ومنهم من قال: إنه ليس على الفور؛ لأن المقصود هو الفعل، ولو كان للفور لبينه الله ورسوله.
والصحيح أن الأمر للفور ما لم يدل دليل على أنه لغير الفور، والدليل على أنه للفور من الأثر والنظر، أما من الأثر: فهي قوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } الأصل أنه إذا وجه الأمر للمكلف أن يقوم به فيبادر، فإن أخر فقد خالف عن الأمر، وهذا دليل قرآني.
أما الدليل من السنة: فهو أن النبي r حين أمر أصحابه بالتحلل يوم الحديبية -وأمرهم أن يحلقوا ويحلوا- تأخروا بعض الشيء رجاء أن يحدث نسخ، فغضب النبي r لذلك؛ ففي هذا دليل على أن الأمر للفور، وإلا لَما غضب -عليه الصلاة والسلام-.
أما الدليل النظري من كون الأمر للفور: فهو ما أشار إليه الناظم في قوله "فبادر الزمن"، الدليل النظري أن الإنسان لا يأمن أن يفجأه الموت، وكم من إنسان فجأه الموت وهو في أنعم ما يكون بالا، وأقوى ما يكون صحة، وأشد ما يكون سنا وعمرا، فهو لا يأمن أن يأتيه الموت، ولا يدري ماذا يعرض له مما دون الموت من العجز عن القيام بالأمر.(5/462)
ثانيا: إننا لو قلنا بأن الأمر للتراخي النفوس تميل إلى الكسل والتفريط -إلا من عصم الله-، فربما يكسل ويفرط، ويمضي عليه الوقت، وتتراكم عليه الأوامر؛ فيعجز عن القيام بها.
فعلى كل حال القول الصحيح في هذه المسألة: إن الأمر للفور، أي أنه نبادر بفعل ما أمر الله به ورسوله، إلا أن الناظم استثنى فقال:
...............
إلا إذا دل دليل معه فاسمعن
يعني إذا دل دليل على أن الأمر ليس للفور فليعمل بالدليل، مثاله: قضاء رمضان، إذا فات الصيام لسفر أو مرض، فقد قال الله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } هذه العدة لا يجب على الإنسان أن يبادر بقضائها، بل له أن يؤخرها حتى يبقى على رمضان الثاني مثلُ ما عليه من الأيام، فإذا قُدِّر أن عليه عشرة أيام فله أن يؤخرها إلى يوم العشرين من شعبان من السنة الثانية، أي: إذا بقي عليه بمقدار ما أفطر فإنه يجب عليه أن يقضيه لضيق الزمن.
والمثال: أن رجلا أفطر عشرة أيام بعذر، فله أن يؤخر قضائها إلى أن يبقى عشرة أيام من شعبان من السنة الثانية، دليل ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: " كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان " وكان ذلك في عهد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولم ينكر عليها.
مثال آخر: الواجب الموقت، يعني الواجب الذي له وقت محدود من أوله إلى آخره كالصلوات الخمس مثلا، فإنه لا يجب على الإنسان أن يصلي الصلاة فور دخول وقتها؛ لأن وقتها موسع، فله أن يصليها في أول الوقت، وله أن يؤخرها إلى آخر الوقت.
فرض الكفاية :
ثم قال الناظم:
والأمر إن روعي فيه الفاعل
فذاك ذو عين وذاك الفاضل
هذه القاعدة في الأوامر الشرعية التي تكون على عين كل شخص، والتي تكون على الكفاية، فذكر الناظم القاعدة في ذلك، وهي أنه إذا روعي في الأمر الفاعل صار أمر عين، إما وجوبا وإما استحبابا.(5/463)
قال الناظم: "فذاك ذو عين" أي: سمه فرض عين في الواجب، وسنة عين في السنة، "وذاك الفاضل": "ذاك" يعني: ما روعي فيه الفاعل فهو فرض العين الفاضل -يعني- على فرض الكفاية، يعني أن فرض العين أفضل من فرض الكفاية.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء -رحمهم الله-، فمنهم من قال: إن فرض الكفاية أفضل؛ لأن الإنسان يقوم به عن نفسه وعن غيره، فيكون أفضل، ومنهم من قال: إن فرض العين أفضل؛ لأنه مطلوب من عين كل إنسان، أي: من كل إنسان بعينه، وهذا يدل على عناية الله تعالى به ومحبته له.
مثال ذلك: الصلوات الخمس، هذه فرض عين، فهي أفضل من صلاة العيد التي قيل إنها فرض كفاية؛ لأن الصلوات الخمس مطلوبة من كل واحد، وصلاة العيد ليست مطلوبة من كل واحد -على القول بأنها فرض كفاية-، بل إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين، وهذا مثال الواجب العين.
ومثال السنة العينية: السواك، وقراءة القرآن، والذكر، وصلاة النفل وما أشبهها، فهذه سنة عين مطلوبة من كل إنسان.
أما القاعدة في فرض الكفاية فقد أشار إليها الناظم بقوله:
وإن يراع الفعل مع قطع النظر
عن فاعل فذو كفاية أثر
يعني إذا كان المقصود من العمل إيجاب العمل بقطع النظر عن العامل، فهذا فرض كفاية، أُثر أي: عُلِم، وهذا هو الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، وسنة الكفاية وسنة العين.
مثال فرض الكفاية: الصلاة على الجنازة، ودفن الميت وما أشبهه، والأذان والإقامة وما أشبهه؛ وذلك لأن المقصود هو نفس الفعل، فإذا وُجِد ممن تقوم به الكفاية، إذا وجد ممن تكون به الكفاية سقط عن الآخر، فلا نقول لكل أحد من الناس. اذهب وصل على الجنازة، اذهب فادفن الميت، ولا نقول لكل واحد من الناس. أذِّن، أقم الصلاة، بل المقصود حصول الفعل، سواء من واحد أو من متعدد.(5/464)
ومن سنن الكفاية: إلقاء السلام، وتعليم العلم -إن لم يكن التعليم واجبا- ونحو ذلك، وبمناسبة ذكر إلقاء السلام فإنه ينبغي أن نذكر شيئا من آدابه -أي آداب السلام-.
فالسنة إذا تلاقى المؤمنان أن يسلم أحدهما على الآخر، ومن الأدب أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والماشي على القاعد، والراكب على الماشي.
ولكن إذا لم يحصل ذلك، وتناسى أو تعالى من هو أولى بالسلام عن السلام فليسلم الآخر، يعني لو تلاقى صغير وكبير، فالمطلوب أن يسلم الصغير على الكبير، لكن لو تناسى أو تغافل أو غفل أو استكبر فليسلم الكبير، فلا يدع السلام، لا يدع السلام، ويقول: السلام عليك، على الذي أصغر منه؛ لأن النبي r قال: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " .
ومن آداب السلام: أن يكون بصوت واضح، لا أن يكون بصوت منخفض لا يسمعه المسلَّم عليه، أو كما يقول العامة: "يتكلم بأنفه"، لا يفصح بلسانه، فليسلم تسليما مسموعا واضحا، هذا هو السنة، وليقل: "السلام عليك" إن كان واحدا، و"عليكما" إن كانا اثنين، و"عليكم" إن كانوا جماعة، وإن قال: "السلام عليكم" بالجمع فلا بأس.
ومن آداب السلام: أن لا يقتصر على ما يفعله بعض الناس إذا لاقى أخاه قال: "أهلا وسهلا"، "مرحبا"، وما أشبه ذلك، فإن هذا ليس السنة التي أُمر بها، بل السنة أن يسلم أولًا "سلام عليكم" أو "السلام عليكم"، ثم يقول ما شاء من التحية: "أهلا وسهلا"، "مرحبا"، "حياك الله"، "صبحك الله بالخير"، وما أشبه ذلك.
ومن الآداب: أن لا يقتصر على الإشارة باليد؛ لأن ذلك ليس بسلام حقيقة، وقد ورد النهي عن الاقتصار عليها، أما إذا جمع بين الإشارة والنطق فهذا خير إن احتيج إلى الإشارة باليد لبعد المسلَّم عليه، أو لكونه أصم، وما أشبه ذلك.
الأمر بعد النهي:
ثم قال الناظم:
والأمر بعد النهي للحل وفي
قول لرفع النهي خذ به تفي(5/465)
الأمر سبق لنا ذكر الخلاف فيه: هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ ولكن إذا ورد بعد النهي فهل يكون للإباحة أو يكون لرفع النهي؟ في هذا للعلماء قولان:
القول الأول: إنه للإباحة، واحتج أرباب هذا القول بأنه لما ورد النهي عنه بعد الإذن فيه صار النهي ناسخا للإذن، وناسخا لما سبقه من الأحكام، فإذا جاء الأمر به بعد ذلك فهذا شرع مبتدأ، أي: فهذا الابتداء شرع، لكنه للإباحة؛ لوروده بعد النهي، وقيل: بل الأمر بعد النهي رفع للنهي، فيُنظر فيما نهي عنه، ويُرجع إلى أصله، فإن كان أصله الاستحباب كان مستحبا، وإن كان أصله الإباحة كان مباحا.
مثاله في المباح: قوله -تبارك وتعالى-: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } هذا ورد بعد المنع من قتل الصيد في حال الإحرام، قال الله -تبارك وتعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } إلى قوله: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا }
فهل نقول: إنه يسن لكل من تحلل من إحرامه أن يأخذ بندقيته ويذهب ليصيد؟ الجواب: لا، لكن المعروف النهي عن الاصطياد في حال إحرام، وذلك بالإحلال عاد الأمر إلى ما كان عليه من قبل، والاصطياد في الأصل مباح، فيكون الأمر هنا للإباحة.
ومثال ما رفع فيه النهي وبقي مستحبا: قول الله -تبارك وتعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) }(5/466)
فهنا قد نقول: إن الأمر هنا رفع النهي، وعاد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، ومن المعلوم أن الإنسان مأمور بطلب الرزق له وعائلته؛ يستغني به عن الناس، ويستعين به على طاعة الله -عز وجل-؛ ولهذا قال الناظم :
والأمر بعد النهي للحل وفي
قول لرفع النهي خذ به تفي
تعدد الوجوه في العبادة:
ثم قال الناظم:
وافعل عبادة إذا تنوعت
لتفعل السنة في الوجهين
وجوهها بكل ما قد وردت
وتحفظ الشرع بذي النوعين
وهذه من القواعد المهمة النافعة، وهي أنه أحيانا ترد العبادة على وجوه متنوعة، يعني: يرد عن النبي r فيها وجوه متنوعة، أنه قال كذا، ثم يأتي حديث آخر أنه قال كذا، فماذا نصنع؟ هل نختار أوفى هذه المتون وأكملها؟ أو نجمع بين المتون ونداخل بعضها ببعض حتى يتكامل السياق مؤلفا من الوجهين؟ أو نفعل هذا تارة وهذا تارة؟
قال بعض العلماء: نجمع بين ما أمكن جمعه. وقال بعض العلماء: نؤلف فنأخذ من كل سنة ما انفردت به نضيفه إلى الأخرى،؛ فيكون الذكر ملفقا. قال بعض العلماء: نختار واحدا منها -وهو أكملها وأوفاها-، وندع الباقي.
ولكن الصواب أننا نعمل بهذا تارة وبهذا تارة، ولنضرب لذلك مثلا: دعاء الاستفتاح ورد عن النبي r أنه كان يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t يجهر بهذا ليعلمه الناس.
وثبت عنه -صلى الله عليه وآله وسلم أنه- " كان إذا كبر للصلاة سكت هنيهة، فسأله أبو هريرة t قال: يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد " .(5/467)
ومعلوم أن هذا الاستفتاح غير الأول، فهل نقول: اجمع بينهما واستشهد بهذا وبهذا؟ أو نقول: خذ بأوفاهما وأتمهما؟ وحينئذ اختلف العلماء: هل حديث أبي هريرة أولى لأنه أصح، أو حديث: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك " لأنه يشتمل على الثناء على الله U وفيه من الثناء عليه ما ليس في الأول، ولا أدري أقال أحد من الناس إنه يستفتح بهما جميعا، أو نقول: نستفتح بهذا مرة وبهذا مرة، هذا هو القول الراجح، أننا نستفتح بهذا مرة وبهذا مرة؛ لأن السنة هكذا وردت؛ ولهذا قال الناظم:
لتفعل السنة في الوجهين
.....................
يعني تفعل السنة على الوجهين، تارة بهذا وتارة بهذا، فنقول: الأفضل في الاستفتاح أن يستفتح مرة بقول: " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد " وتارة بقول: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك " ؛ لأنك إذا فعلت ذلك أمنت بالسنة على الوجهين، وأيضا الفائدة الثانية:
..............
وتحفظ الشرع بذي النوعين
إنك إذا عملت بالوجهين جميعا حفظت الشرع، وإذا عملت بواحد نسيت الآخر، لكن إذا عملت بهذا تارة وبهذا تارة فإنك تحفظ الشرع بالوجهين الواردين، أو بالوجوه المتنوعة، هذا مثال.
مثال آخر: الذكر بعد الصلاة وردت فيه أنواع متعددة، وأعني بذلك التسبيح، ورد " سبحان الله والحمد لله والله أكبر " ثلاثا وثلاثين، وتمام المائة: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " .
وورد "سبحان الله" ثلاثا وثلاثين، "الحمد لله" ثلاثا وثلاثين، "الله أكبر" أربعا وثلاثين، فهذه مائة، فتفعل هذا مرة وهذا مرة.
وورد أيضا: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " خمسا وعشرين، فهذه مائة أذكر بها أحيانا.(5/468)
وورد "سبحان الله" عشرا، و"الحمد لله" عشرا، و"الله أكبر" عشرا، هذه ثلاثون تعمل بها أحيانا؛ لأجل الفائدتين اللتين أشار إليهما الناظم، وهو أن تفعل السنة على الوجهين؛ لأن سنة الرسول -عليه الصلاة والسلام- مرة كذا ومرة كذا؛ ولتحفظ الشرع بذي النوعين؛ لأنك لو لزمت وجها واحدا نسيت الثاني، فلا يكون لديك حفظ للشرع في الوجهين، وهذا الذي ذكره الناظم، والذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
ومن ذلك أيضا: التكبير على الجنازة، قد كبر النبي r على الجنازة أربعا، وكبر عليها خمسا، وكبر عليها أكثر من ذلك، فهل السنة أن نأخذ بالأوفى ونقول: نكبر عليها بأكثر شيء وارد، أو نقول: نكبر عليها تارة بهذا وتارة بهذا؟
والصواب أننا نكبر عليها مرة أربعا، ومرة خمسا؛ لأنه ثبت عن النبي r أنه كبر خمسا على الجنازة، وربما زاد على ذلك، ولكن نحافظ في الأكثر على ما كان أكثر عن النبي r وهو الأربع.
ثم قال الناظم:
والزم طريقة النبي المصطفى
وخذ بقول الراشدين الخلفا
وليكن هذا مبدأ الدرس القادم -إن شاء الله تعالى-؛ لأنه حان وقت الأسئلة.
س: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هذا يقول: ما صحة ما ورد عن فتواكم بمقاطعة مشروب كاكولا عقب ظهور الدعاية المشهورة؟
ج: لا صحة لذلك، ولم نقل به، وليُعلم أن الأصل في المأكولات والمشروبات الحل، إلا ما قام الدليل على أنه حرام، وهذا من القواعد المقررة التي ذُكرت في هذا النظم. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، بلغنا أنك تقول: إنه لا يستحب لمن دخل مجلس أن يصافح الجميع، بل يسلم ويجلس، هل هذا صحيح؟ آمل منكم التفصيل، وجزاكم الله خيرا، وكيف أطبق فضل المصافحة؟(5/469)
ج: هذا هو الذي أقول؛ لأن المعروف عن النبي r أنه إذا دخل المجلس جلس حيث ينتهي به المجلس، ولم يرد عنه -فيما أعلم- أنه كان يمر على الجالسين فيصافح كل واحد منهم، وأنا أطلب من أي إنسان عثر على شيء من ذلك أن يبينه لي؛ لأننا -إن شاء الله تعالى- راغبون في الوصول للحق، وأما المصافحة فهي عند التلاقي.
هنا يجب على طالب العلم أن يفهم قاعدة مهمة، وهي أن ما ورد مطلقا ثم جاءت السنة الفعلية بعدم تطبيقه في بعض المواضع فإننا لا نستحبه، فمثلا ورد فضل ذكر الله تعالى، والصلاة على النبي r على وجه الإطلاق، فلا يمكن أن نطبقها على كل فعل فعلناه، يعني: لا يمكن -مثلا- أن نقول: كلما فعلت فاذكر الله، كلما فعلت فعلا فاذكر الله، كلما فعلت فعلا فصل على النبي؛ لأن التطبيق العملي أمر مهم.
فإذا كانت المصافحة قد شرعت للمتلاقيَين، فلا يعني ذلك أنها مشروعة لمن قدم على قوم جالسين؛ لأن ظاهر فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- خلاف ذلك، وعلى كل حال فأنا لا أرى أنها سنة حتى يتبين لي أن رسول الله r كان يفعلها، والظاهر من هديه أنه لا يفعلها، بل كان إذا أتى إلى المجلس جلس حيث ينتهي به، فإنه لا ينبغي أن نقول باستحبابها، ومع ذلك فإني على مطالبة أن من عثر على شيء من السنة في ذلك فليتحفنا به، فإنا له شاكرون. نعم.
س: أحسن الله إليكم يا شيخ، يقول: ما الحكم إذا غلب على ظنه دخول الوقت فصلى، ثم تبين له أن الوقت لم يدخل، وما الفرق بين غلبة الظن في دخول الوقت وبين غلبة الظن في اتجاه القبلة؟
ج: سبحان الله! هذا السؤال في نفس المرة، وفي درس اليوم، ذكرنا أنه إذا صلى قُبيل الوقت ثم تبين أنه صلى قبل دخوله فإنه يعيد الصلاة، ووجه ذلك أنه صلى في وقت لم يؤمر به، أي: لم يؤمر أن يصلي فيه، فتكون الصلاة حينئذ غير مأمور بها، وقد قال النبي r " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " فلما دخل الوقت طولب به بعد دخول الوقت.(5/470)
وأما الخطأ في استقبال القبلة إذا كان في موضع محل اجتهاد؛ فلأنه صلى صلاة مأمورا بها، واتقى الله ما استطاع، وتوجه إلى حيث يرى أنه القبلة، فلم يقصر في شيء، وقد طولب بأن يصلي لأن الوقت قد دخل، فصلى على الوجه الذي أُمر به، اجتهد، واتقى الله ما استطاع، فلا تلزمه الإعادة. نعم.
س: يقول: ذكرتم -حفظكم الله- تقسيم الأمر إلى ما دل دليل على أنه ليس على الفور، والثاني ما دل دليل على أنه على الفور، فالثالث -وهو المطلق- أن يكون فيه الأصل أنه مطلق، وإلا لدل الدليل على فوريته.
ج: نعم، هذا الثالث محل خلاف، هو محل خلاف -المطلق-، وقد رجحنا أنه للفور؛ لما ذكرنا من الأدلة الأثرية والنظرية، الأثرية ذكرنا قوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } وغضب النبي r حين لم يبادر الصحابة بالحلق في غزوة الحديبية، ولا يغضب على ترك مستحب.
وذكرنا أيضا الدليل النظري بأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، فقد يموت قبل أن يفعل، وقد يمرض فلا يستطيع الفعل، وقد تتراكم عليه الأوامر فلا يستطيع القيام بها. نعم.
س: وهذا يقول فضيلة الشيخ ما صحة القاعدة التي تنص على أن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة وهل من تطبيقات هذه القاعدة الصلاة في مسجد فيه قبر لإدراك الجماعة حيث لم يجد إلا هذا المسجد في طريقه؟
ج: الدليل أن ما أمر للذريعة وفي حال الحاجة ما ذكرناه في النظم في مسألة العريَّة، العرية هي أن يشتري الإنسان الرطب على رؤوس النخل بالتمر، ومن المعلوم أن بيع الرطب بالتمر حرام؛ لأن النبي r " سئل عن بيع التمر بالرطب فقال: أينقص إذا جف؟ قالوا: نعم. قال: فلا " .(5/471)
أي: فلا تبيع؛ وذلك لأن بيع الرطب بالتمر تُجهل فيه المماثلة، والواجب في بيع التمر بالتمر أن يكون متماثلا في الكيل، وهذا -أعني بيع الرطب بالتمر- لم يتحقق فيه هذا الشرط، لكن لماذا مُنع بيع الرطب بالتمر؟ لأنه ذريعة إلى أن يباع التمر بمثله متماثلا.. نعم لأنه ذريعة إلى أن يباع التمر بمثله متفاضلا، إذا دعت الحاجة إليه في مثل العرية جاز.
والعرية هي أن يكون عند الإنسان تمر سادة، ويحتاج إلى التفكه بالرطب على رؤوس النخل، وليس عنده مال، فيذهب إلى صاحب البستان ويقول: بعني ثمرة هذه النخلة بتمر، فيبيعه إياه، فهذا جائز، لكن يجب أن يُخرص الرطب لمثل ما يؤول إليه تمرا، ويعطى من التمر ما يماثله كيلًا؛ حتى يحصل التساوي، ولو بالخرص والتخريص، وقد مضى بيان ذلك ووجه جوازه. نعم.
بقي علينا مثال أنه ذكر إذا مر الإنسان بمسجد فيه قبر فهل يصلي عليه عند الحاجة؟ نقول: إنه -في الواقع- لا حاجة إلى هذا المسجد، والمسجد المبني على قبر لا تصح الصلاة فيه؛ لأنه محرم، وليس هناك حاجة إلى الصلاة فيه، إذ إن الإنسان يمكن أن يصلي في أي مكان من الأرض؛ لقول النبي r " جعلت لي الأرض مسجدا " ولم يفصل. نعم.
س: هذا يقول: هل يجوز تصوير القبور واللحد بحجة أنها تسبب الموعظة والاتعاظ للناس وتذكيرهم بالموت؟
ج: هل هذه الطريق عُرفت عن الصحابة؟ أكثر المواعظ الواردة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وكذلك في القرآن إنما هي بذكر الثواب للمطيع والعقاب للعاصي، بل قد قال الله -تبارك وتعالى-: { * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) } ولم يقل: أفلا يعلم إذا دفن أصحاب القبور، فكوننا نعظ الناس بذكر الموت فقط، ونغفل عما هو أهم من ذلك، وهو الثواب على فعل الطاعات، والعقاب على فعل المحرمات، يعتبر قصورا في الموعظة، أما إذا ذكرنا هذا وهذا فهو طيب وحسن.(5/472)
ثم إن تصوير ذلك قد يكون فيه إزعاج للنشء الصغار، إذا رأوا هذا انطبع في أذهانهم، وصاروا يتخيلونه في كل وقت، وهذا نظير ما فعله بعض السفهاء؛ حيث صوروا نار جهنم بصور فوتوغرافية، صوروا فيها لهبا صفراء مشوهة المنظر؛ ليفزعوا الناس، فإن هذا لا شك أنه كذب، إذ إن النار أشد وأبلغ وأعظم مما يتخيله الإنسان.
ج: إن هذا لا شك أنه كذب إذ إن النار أشد وأبلغ وأعظم مما يتخيله الإنسان، وما يدرينا لعل رجلا يأتي يوما من الأيام فيصور ما في الجنة من فاكهة وحور عين وولدان مخلدين!.
وهذا تلاعب بأمور الآخرة، أمور الآخرة أعظم مما تتصور ذكرتها بهيجة معظمة لها شأنها في النفوس أولى من تفسيرها في هذه الصور المادية التي يزعم فاعلها أنه أحسن صنعا نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، ما حكم صلاة الوتر جماعة في غير رمضان؟
ج: لا بأس بذلك إذا فعله الإنسان أحيانا؛ لأنه ثبت عن النبي r أنه كان يصلي صلاة الليل جماعة أحيانا، وصلى معه عبد الله بن عباس مرة، وصلى معه عبد الله بن مسعود مرة، وصلى معه حذيفة بن اليمان مرة.
وكان هؤلاء الشباب يصلون مع النبي r صلاة الليل، ويذكرون طول صلاته -عليه الصلاة والسلام- قال حذيفة، قال: " إني صليت مع النبي r ذات ليلة فافتتح الصلاة بقراءة الفاتحة، فقلت يركع عند المائة -أي: إذا أتم مائة آية- ثم مضى حتى أكمل سورة البقرة وسورة النساء وسورة آل عمران، يقف عند كل آية وعيد يتعوذ، وعند كل آية رحمة يسأل، وعند كل آية تسبيح يسبح " .
فقرأ هذه السور الثلاث التي تبلغ خمسة أجزاء وربع جزء في ركعة واحدة -عليه الصلاة والسلام-.
" وصلى معه عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- فأطال النبي r القراءة، قال عبد الله: ... حتى هممت بأمر سوء، قالوا: بما هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هممت أن أقعد أو قال: أجلس وأدعه " .(5/473)
صلاة الليل ثنائية والوتر جماعة أحيانا لا بأس به، لا بأس به ولكن اتخاذ ذلك سُنة راتبة كل ليلة، يصلى في جماعة هذا من البدع.
نعم ..
س: فضيلة الشيخ يقول: يطلب مني بعض الزملاء أن أشتري له سيارة محددا نوعها -موديلها- ويشتريها مني بالتقسيط دون أن ألزمه بشيكات أو رهن مقابل ذلك، فأشتري السيارة وأحوزها إلى ملكي ثم أقسطها عليه، هل هذا جائز ؟ أفتونا مأجورين.
ج: نرى هذا جائزا، بل أرى هذا حيلة على الربا قريبة وصريحة؛ لأنه بدل أن يستقرض مني ثمن السيارة ويذهب ويشتريها بنفسه يطلب مني أن أشتريها له بثمن النقد وليكن خمسين ألفا، ثم أبيعها، ثم إني أبيعها عليه بستين ألفا مؤجلة.
حقيقة الأمر أني اشتريت السيارة التي يريدها والتي يطلبها فأقرضته ثمنها بزائد، وهذا هو عين الربا، وهذا أقرب إلى الربا من العينة التي حذر منها النبي r وهو أن يبيع شيئا بثمن مؤجل ثم يشتريه نقدا من مشتريه بأقل، مع أنه لا تواطؤ بينهما في مسألة العينة ومع ذلك فهي حرام.
فهذه الصورة التي سأل عنها السائل هي أوضح في كونها ربا من مسألة العينة وأقرب، ولا يغرنَّك قول بعضهم: إن البائع لا يُلزم المشتري في هذه السلعة فله أن يدعها، فإن هذا قول لا طائل تحته؛ لأنه من المعلوم أن هذا المحتاج الذي عيَّن ما يريده من السيارة من النوع لا يمكن أن يتراجع، اللهم إلا نادرا .
ثم إن البائع لو تراجع هذا المشتري لاحتفظ لنفسه بالحذر من البيع عليه مرة أخرى. ولا يغرنك إفتاء بعض الناس في هذه المسألة بل عليك أن تراجع نفسك وتسائلها، هل هذا شراء صحيح بالنسبة للذي اشترى السيارة وباعها بالتقسيط؟ هو في الواقع غير صحيح ولولا أن هذا جاء يطلب منه السيارة ما اشترها أبدا.(5/474)
فهو قد علم الربح مقدما وهو قد واطأه على أن حقيقة أمره أن يقرضه الثمن بفائدة، وهذا هو عين الربا؛ ولذلك أحذر إخواني المسلمين من مثل هذه المعاملة وأقول: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } وليكن هذا آخر سؤال ، لأن الوقت انتهى .
وجوب اتباع النبي
O الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، قال الناظم حفظه الله تعالى ورفع درجته
والزم طريقة النبي المصطفى
قول الصحابي حُجَّة على الأصح
وحُجة التكليف خُذها أربعه
مِن بعدها إجماع هذي الأمه
وخُذ بقول الراشدين الخلفا
ما لم يخالف مثله فما رجَحْ
قرآننا وسُنَّة مُثبته
والرابع القياس فافهمَنَّه
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد. .
فهذا هو الدرس السابع الذي نلقيه في كل يوم سبت واثنين وأربعاء من كل أسبوع في الدورة العلمية التي افتتحت في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في حي سلطانة بالرياض في إجازة عام سبعة عشر وأربعمائة وألف نسأل الله تعالى أن يجعلها دورة مباركة
وقبل البدء في الدرس الجديد نحب أن نسأل ونناقش فيما سبق
س: سبق لنا أن الأمر المطلق يقتضي الفورية، فنريد بيان الأدلة السمعية والنظرية على أن الأمر المطلق يكون للفور سواء كان أمر وجوب أو أمر استحباب، ما هو الدليل على أن الأمر المطلق يكون للفور؟ .
ج: الدليل من كتاب الله U قوله سبحانه: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) }
نعم ، ما وجه الدلالة؟.
ج: أن من لم يفعل الأمر على الفور فإنه يكون قد خالف أمر النبي r يكون قد خالف أمر الله -سبحانه وتعالى-، ومن خالف أمر الله؟ متوعد أن تصيبه الفتنة أو يصيبه العذاب الأليم .
س: الفتنة ما ؟ ما هي الفتنة ؟(5/475)
ج: ذكرنا ما أُثر عن الإمام أحمد -رضي الله- عنه في ذلك حيث قال: فتنة الشرك، نعم ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء فيأثم.
س: وما هو الدليل النظري على أن الأمر للفور؟ .
أن النبي r ...
س: النظري؟ النظري ، النظري ؟
ج: الدليل النظري من وجهين: أولا- ما ورد في قول الناظم: "فبادر الزمان ... "نعم ، إن الإنسان لا يأمن أن يباغته الموت قبل أداء الواجب، نعم، والثاني: أن التراخي قد يسبب تراكم الواجبات، ومن ثَمَّ يصعب على ... أو يعجز الإنسان عن فعل واجباته ، نعم ، تماما .
س: ذكرنا أن الأمر يكون كفائيا ويكون عينيا، فما هو الضابط لكل واحد منهما؟ ما هو الضابط، ما هو الضابط للأمر العيني ؟
ج: الضابط للفرض العيني أن يكون المتعلق أو المراعى فيه الفاعل ، الفاعل ، المراعى فيه الفاعل ، الفاعل ،
س: إذا الأمر العيني سواء كان فرضا أو نفلا هو الذي يراعى فيه الفاعل؟ نعم، وضابط الأمر الكفائي أن يُراعى فيه الفعل مع قطع النظر عن الفاعل، نعم، نريد مثالا للأول وهو الأمر العيني؟
ج: نعم، كالصلوات الخمس، هذا في الفرائض كالصلوات الخمس وكالوتر في النفل، بارك الله فيك!
الثاني: ما روعي فيه الفعل مع قطع النظر عن الفاعل: كالأذان والإقامة هذا في الواجبات، في النفل: الجهاد والسلام، وصلاة العيدين.
الجهاد: ماشي، الجهاد فرض كفاية، السلام: السلام دعوة، نعم
س: ما هي القاعدة فيما إذا ورد الأمر بعد النهي ؟
ج: في المسألة قولان: بعض العلماء يرى أنه للحِل، والقول الآخر أنه لرفع النهي فيعود إلى الأصل، نعم .
س: بعض العلماء يقول: إنه ... إن الأمر بعد النهي للحِل، وبعضهم يقول: إن الأمر بعد النهي رفع للنهي، ما الفرق بين القولين؟(5/476)
ج: إن القول الأول لا يكون الحكم إلا للحل فقط، وأما القول الثاني فقد يكون للإباحة وقد يكون للاستحباب، نعم، لأن الأمر بعد النهي يرفع النهي فقط فيبقى الحكم على ما كان قبل النهي، وهذا يقول: إنه يرفع النهي ويكون للحل.
س: ما هو التعليل؟ تعليل قول ما نقول إنه يكون للحل؟ نعم .
ج: لأنه رجع إلى ما كان عليه قبل النهي.
س: ما هذا؟
ج: أنا أقصد الذين قالوا: إن النهي ... إن الأمر بعد النهي يكون للحل، يقولون يا شيخ: إنه يعود إلى حكمه الأول الذي قبل النهي.
س: ما هو الحكم الأول ؟
ج: لأن النهي في الحكم الأول ورد ثم نُسخ بالأمر الثاني، يعني: أن الحكم الأول نُسخ نهائيا بالنهي، فلما ارتفع ارتفع النهي، أدى إلى الحِل فقط، ولأن الحكم الأول لم يبق بعدُ حين ورد عليه النهي واضح - نعم يا شيخ
س: طيب المثال؟
ج: قوله تعالى: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } هذا بعد النهي: بعد تحريم الصيد للمُحْرِم.
مثال آخر قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) } إلى قوله: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا } " فانتشروا في الأرض " نعم ، نعم.
{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ }
الأمر للانتشار في الأرض هنا للإباحة، على قول أو للاثنين على قول آخر: إذا قلنا: إن الأمر بعد النهي رفع للنهي فقط .
س: إذا وردت عبادة على وجهين، فهل يجمع بينهما أو يُؤخذ بالأوفى منهما؟ أو نفعل مرة كذا ومرة كذا ؟
ج: الأفضل أن يُفعل مرة كذا ومرة كذا، نعم، مرة بهذه ومرة بالثانية.
س: طيب علل؟(5/477)
ج: التعليل في ذلك إحياء لسنة النبي r هذه واحدة، لإحياء السنتين، نعم ... نعم، أيضا لتنوع العبادة لما ورد فيها من فضل يعني: لإحياء السنة وحفظها أيضا، يعني: إذا لم تفعل الصفة الأخرى ضاعت، ففيها العمل بالسنتين، وفيها حفظ السنتين.
س: ممكن تمثل؟
ج: نعم، مثل دعاء الاستفتاح، نعم، ورد: " سبحانك اللهم وبحمدك " وأيضا ورد: " اللهم باعد بين خطاياي " فيُعمل بهذا تارة ، ويُعمل بهذا تارة . نعم.
س: ومثل ذلك -أيضا- التسبيح بعد الصلاة … أريد من أحد الطلاب أن يذكر هذا؟ .
ج: هناك صفات متعددة الأولى: أن يقول سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر ثلاثا وثلاثين ويكمل المائة ويكمل المائة " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " أحسنت .
س: هذه صفة ، الصفة الثانية ؟
ج: الصفة الثانية: أن يقول: " سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين، ويكمل تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " .
س: ما هي الصفة الأولى ؟ نعم
ج: هناك صفتان.
لرفع النهي فيعود إلى الأصل، س: الصفة الثانية ماذا ؟
ج: هو أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمسا وعشرين مرة .
والصفة الأخرى أن يقول: سبحان الله عشرا والحمد لله عشرا والله أكبر عشرا
س: والصفة الأولى ماذا تقول فيها ؟
ج: الأولى أن يقول: سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر كذلك.
سبحان الله ثلاثا وثلاثين وحدها، والحمد ثلاثا وثلاثين وحدها، والله أكبر أربعا وثلاثين .
إذا ينبغي أن يقول هذا مرة وهذا مرة ، بارك الله فيكم ، نبدأ.
الآن الدرس الجديد ، يقول الناظم :(5/478)
"والزم طريقة النبي المصطفى" : الزم أيها العبد طريقة النبي المصطفى ويريد به محمدا، ويريد به محمدا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فإنه r مصطفى اصطفاه الله -تعالى- كما اصطفى إخوانه من المرسلين، لكنه r كان أفضلهم.
اصطفاه الله -تعالى- عليهم من عدة وجوه، وهذا داخل في عموم قوله -تبارك وتعالى-: { * تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ }
وأما قول النبي r " لا تفضلوني على يونس بن متى " فإنما قاله r حيث حصل النزاع بين رجل من بني إسرائيل يهودي وبين أحد المسلمين، فمتى أدَّت المفاضلة بين النبي r وغيره من الرسل إلى نزاع يؤدي إلى تهوين شأن الرسل الآخرين أو تهوين محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فإن الواجب الكف عنه.
وقول الناظم: "الزم طريقة النبي المصطفى" فيها أدلة كثيرة منها قوله تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } ومنها قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ومنها قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ومنها قوله تعالى: { فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) }
ومنها قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار " والأدلة على ذلك أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصى .(5/479)
وقول الناظم: "طريقة النبي" يشمل: طريقته العَقَدية، وطريقته القولية، وطريقته الفعلية، وكل ما تعبد به النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ربه فإنه مشروع لنا أن نتبعه فيه، إما على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب حسب الأدلة الواردة في ذلك .
والنبي: هو مَنْ أُوحيَ إليه بالشرع، وسمي النبي نبيا لأنه مُنَبَّأٌ ومُنْبِئٌ. فهو منبَّأٌ من قِبَل الله ومُنْبِئٌ عن الله -تعالى- مبلغ عنه، وهذا أحد الأدلة التي يحصل بها التكليف، يعني: سنة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- نعم، كما سيأتي -إن شاء الله- بعد بيت من هذه المنظومة .
"وخذ بقول الراشدين الخُلَفَا" يعني: ذلك اتباع الخلفاء الراشدين المهديين، لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " .
وأول من يدخل في هؤلاء الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فهؤلاء إذا اجتمعوا على شيء فقولهم حجة بلا شك، وإذا انفرد أحدهم من غير مخالف فقوله حجة، ولا سيما قول أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فإن رسول الله r نص عليه حيث قال: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر " .
وقال r " إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا " لكن قولهم حجة بشرط ألا يعارضه النص، فإن عارضه نص وجب الأخذ بالنص؛ لأن سنة النبي r مقدمة؛ ولهذا قال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء " .(5/480)
ولا يمكن أن يُحتج بقول أحد على قول رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مهما كان الأمر، ولا يُحتج بفعل أحد على قول رسول الله -عليه وعلى آله وسلم-، وبهذا تعرف ضعف قول من يقول من العلماء: إنه يجوز أن يأخذ الإنسان باللحية لما زاد عن القبضة لفعل ابن عمر -رضي الله عنهما- ، فإنه كان إذا حج أخذ من لحيته ما زاد عن القبضة؛ لأن هذا الفعل مخالف لأخلاق النبي -صلى الله عيه وعلى آله وسلم- في قوله: " أَعفوا اللِّحى " فإنه مطلق غير مقيد حتى وإن كان ابن عمر -رضي الله عنهما- أحد رواة هذا الحديث؛ لأن العبرة بما روى الصحابي لا بما رأى إذا كان مخالفا لما روى.
حجية قول الصحابي:
ثم قال الناظم :
قول الصحابي حجة على الأصح
ما لم يخالف مثله فما رجح
"قول الصحابي حجة" والصحابي عند علماء الحديث: كل من اجتمع بالنبي r مؤمنا به ومات على ذلك، سواء رآه أم لم يرَه، إذ العبرة بالاجتماع.
وقولنا: (بالنبي) يفيد أنه لا بد أن يكون اجتماعه به بعد أن أوحي إليه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فمن اجتمع به قبل أن يُنَبّأ فليس بصحابي وإن آمن بنبوته أو آمن به بعد نبوته فإنه لا يكون صحابيا، لكن إن آمن به بعد نبوته واجتمع به صار صحابيا، إن آمن بالنبي r قبل نبوته واجتمع به بعد نبوته صار صحابيا.
وقوله: "حجة" أي: دليل يحتج به، وقوله: "على الأصح" أفاد بأن في هذا خلاف بين العلماء، فإن من العلماء مَن قال: إن قول الصحابي ليس بحجة؛ لأنه ليس بمعصوم، والحجة إنما هي في قول المعصوم، أما غيره فإن قوله ليس بحجة.
وتوسط بعض أهل العلم في هذه المسألة فقال: أما الصحابي المعروف بالعلم والفقه وملازمة النبي r فقوله حجة، وأما من ليس كذلك فقوله ليس بحجة، وهذا ما عدا أبا بكر وعمر فإن قولهما حجة كما سبقت الإشارة إليه، وكذلك قول عثمان وعلي -رضي الله عنهما- .(5/481)
وعلى هذا فنخلص قول الصحابي إذا كان من فقهاء الصحابة المعروفين بملازمة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حجة، وأما الصحابي الذي لم يعرف بملازمة النبي r ولا كان معروفا بالفقه ، فإن قوله ليس بحجة ، بل لا بد أن يُعرض على الكتاب والسنة.
الأقوال إذا ثلاثة: الأول: بأنه حجة مطلقة، والثاني: أنه ليس بحجة مطلقة، والثالث: التفصيل، والتفصيل هو الذي قام عليه الدليل لكن المؤلف اشترط، نعم، لكن الناظم اشترط وقال:
"ما لم يخالف مثله"يعني: ما لم يخالف صحابيا مثله في الصحبة والعلم والفقه وملازمة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فإن خالفه مثله قال: "فما رجح" يعني: فالحجة ما رجح أي: ما رجح من قول الصحابة المختلَفِين، وقوله: "ما لم يخالف مثله" يفيد أنه لو خالفه مَن هو أفقه منه وأعلم منه، فإنه ليس بحجة وكذلك -أيضا- ما لو خالفه النص فإن قول الصحابي ليس بحجة.
حجية الإجماع:
ثم قال الناظم: "وحجة التكليف خذها أربعة": حجة التكليف يعني: الأدلة التي يحصل بها التكليف، أي: تكليف العباد، "خذها أربعة" -حجة مبتدأ وأربعة خبرها-: "قرآننا وسنة مثبتة"
من بعدها إجماع هذي الأمة
والرابع القياس فافهمنَّه
هذه أربعة، هذه أربعة أدلة: الأول: القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم حجة بإجماع المسلمين، ولكنه حجة على من بلغه وفهمه، أما من بلغه ولم يفهمه فإنه قد لا يكون قامت عليه الحجة؛ لقول الله تعالى: { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) } لأنهم لا يفهمونه ولا يعرفونه، ولهذا قال U { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ }
فالقرآن حجة ملزِمة لمن بلغه القرآن كما قال تعالى: { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } ولكن لا بد أن يكون عارفا بمعناه.(5/482)
أما الثاني: فقال: "سُنَّة مُثبتة" (سنة) يعني: عن النبي r (مثبتة) يعني: مثبتها على ذمة النقد فخرج بذلك ما لم يكن مثبتا كالأحاديث الضعيفة والموضوعة فإنها ليست بحجة.
أما الموضوعة وهي المكذوبة على رسول الله r فإنها ليست بحجة، ولا يجوز نقلها وتداولها إلا لمن أراد أن يبين أنها موضوعة حتى لا يُقِرَّ الناس بها.
وأما الضعيفة فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في نقل الضعيف وروايته، فمنهم من أجازه مطلقا، ولكن هذا لا أظن أحدا يَثْبُت قدمُه على القول به.
ومنهم من منعه مطلقا وقال: إن الضعيف لا تجوز نسبته إلى الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛ لأنه ضعيف. وإذا كنا نتحرى في النقل عن واحد من البشر فالتحري في النقل عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من بابٍ أولى.
رواية الضعيف:
ومنهم من أجاز رواية الضعيف بشروط ثلاثة :
الشرط الأول: ألا يكون الضعف شديدا.
والشرط الثاني: ألا يعتقد صحة نسبه إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
الشرط الثالث: أن يكون في أصل ثابت، بمعنى: أنه لا يثبت به أصل حكم من الأحكام، ولكنه يذكر على سبيل الترغيب فيما هو مطلوب، أو الترهيب مما هو منهي عنه، بمعنى: أنه إذا ورد الحديث الضعيف في فضيلة أمر ثابت، ومأمور به فلا بأس من ذكره؛ لأنه إن صح عن النبي r فقد حصل ما رتب على الفعل من الثواب، وإن لم يصح كان فيه تنشيط للنفس على العمل المطلوب.
وكذلك يقال الترهيب فإنه لا بأس بذكر الأحاديث الضعيفة بشرط أن يكون أصلها بالحديث ، أصل هذا المعنى الذي ورد بالحديث ثابتة مثل أن يرد حديث ضعيف في آثام الزنا والربا وما أشبه ذلك ، فإن هذا لا بأس من ذكره عند بعض العلماء ولكن لا بد من ملاحظة الشرطين الآخرين وهما ألا يكون الضعف شديدا ، فإن كان الضعف شديدا فإنه لا تجوز روايته ولا نقله إلا مقرونا ببيان ضعفه.(5/483)
والشرط الثالث: ألا يعتقد صحة ثبوته عن رسول الله r وبناء على هذا الشرط أرى أنه لا ينبغي إطلاقا أن يذكر الحديث الضعيف عند العامة سواء كان في فضائل الأعمال أو غيره؛ لأن العامي لا يميز بين كونه يعتقد أنه صحيح إلى رسول الله r أو لا، إذ أن ما قيل في المحراب فهو ثوابت عند العامة. فلَيْتَ إخواننا الوعاظ عدلوا عن ذكر الأحاديث الضعيفة في الوعظ إلى ذكر الأحاديث الصحيحة وكفى بها واعظا.
ولم يَذكر في القرآن أن يكون مثبَّتا لأن القرآن ثابت بالنقل المتواتر الذي كان يتلقاه الصغار عن الكبار منذ عهد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى يومنا هذا -ولله الحمد-؛ ولهذا قال العلماء -رحمهم الله- من أنكر حرفا من القرآن مما لم تختلف فيه القراءات فإنه كافر، ومن زعم أن القرآن قد حُذف منه شيء فإنه كافر؛ لأنه مكذب لقول الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } ومكذب لإجماع الأمة المعصومة، فإن الأمة المعصومة اتفقت بأجمعها على أن ما بين دفتي المصحف هو القرآن الذي نزل على محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ليس فيه زيادة ولا نقص إلا ما اختلف القراء فيه من حرف أو حركة .
الثالث من حجة التكليف أي: من الأدلة التي يثبت بها التكليف ما أشار إليه الناظم بقوله : "من بعدها - أي: من بعد السنة - إجماع هذه الأمة"، والإجماع في اللغة الاتفاق والعزم، أما كونه بمعنى الاتفاق هذا أمر معروف. تقول: أجمع الناس على كذا، أي: اتفقوا عليه.
وأما كونه بمعنى العزم فذكروا له مثل قوله -تبارك وتعالى-: { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ } قالوا: معنى { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ } أي: اعزموه ولا تفترقوا فيه.
أما الإجماع المصطلح عليه: فهو اتفاق مجتهدي الأمة على حكم شرعي بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- .(5/484)
فقولنا: إجماع مجتهدي الأمة خرج بها المقلدون، فإن المقلد ليس من المجتهدين، فلا يعتبر قوله في الخلاف والإجماع؛ لأن المقلد حقيقته أنه نسخة من كتاب أو قول، مقرر للمقلدين وليس مستقلا بنفسه ، وبهذا يتبين أنه ينبغي لنا أن نحرر أنفسنا من التقليد الأعمى والتعصب الأهوج الذي يسلكه بعض الناس، وأن نحاول الوصول إلى معرفة الحق من أصوله: الكتاب والسنة.
وقوله: "مجتهدي هذه الأمة" احترازا ، مما فيه الاحتراز من مجتهدي غير هذه الأمة؛ فإن قولهم: "ليس بحجة" ولا يعتبر قولهم إطلاقا في مسائل الشرع.
وقوله: على حكم من بعد موت النبي r خرج به ما لا يتفق على حكم في حياة الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فإن ما كان في حياته -عليه الصلاة والسلام- يعتبر من سنته سواء علم به أم لم يعلمه، أم لم يعلم به؛ لأننا على تقدير أن الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يعلم به فإن الله تعالى قد علمه، فإذا أقره الله تعالى ولم ينكر دل ذلك على أنه حق.
وقوله: "إجماع هذه الأمة" يفيد أن إجماع غيرها ليس بحجة، وقد ذكرناه، فإن قال قائل: ما الدليل على أنه ليس بحجة ؟ قلنا: لذلك إشارات في القرآن، منها قوله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ }
فإن قوله: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } يدل على أن محل الافتقار إلى الكتاب والسنة إنما هو عند النزاع، أما عند الإجماع فالإجماع حجة بنفسه فلا يحتاج إلى استدلال.(5/485)
ومنها قوله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } فإن قوله: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } يدل على أن إجماع المسلمين ... إجماع المؤمنين حجة، وأن من خرج عن هذا الإجماع فقد خرج عن سبيل المؤمنين، فيكون بذلك آثما عاصيا .
ومنها ما يروى عن النبي r أنه قال: " إن أمتي لا تجتمع على ضلال " ولكن يبقى النظر، هل يمكن الاطلاع على الإجماع وهذا في كل عصر ؟ أو نكتفي بعدم وجود مخالف ؟
من المعلوم أن عدم العلم بالمخالف ليس علما بالإجماع، يعني: إن الإنسان قد يقصر علمه عن الإحاطة بأقوال العلماء، ولا سيما في الأزمنة السابقة أيام كانت المواصلات على الإبل والبغال والحمير والأقدام، ولا يمكن الإحاطة بمشارق الأرض ومغاربها في بيان حكم من الأحكام.
فلذلك أنكر قوم الإجماع وقالوا: إن هذا الخلاف في كون الإجماع حجة أو لا ، خلاف فيما لا يمكن الوصول إليه؛ لأن الإجماع يتعذر علمه ولا سيما فيما سبق من الأزمنة وكون الإنسان لا يعلم مخالفا لا يعني أن الناس أجمعوا على ذلك، وقد توسط قوم من أهل العلم في هذه المسألة وقالوا: الإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، يعني بذلك: القرون المفضلة الصحابة والتابعون وتابعوهم، يعني: ثلاث طبقات وذلك لأنه بعد هذه الطبقات انتشرت الأمة، واتسعت في أقطاب الأرض، وكثرت الأهواء والفتن والخلاف.
فالإجماع المعتبر عند هؤلاء هو ما كان من القرون المفضلة الثلاثة: الصحابة والتابعين وتابعيهم، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام -رحمه الله- حيث قال في كتابه (العقيدة الوسطية) ، والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الخلاف وانتشر الأمة.(5/486)
ثم اعلم أن الغالب أن الإجماع على حكم لا يكون إلا عن دليل ، إما من القرآن أو السنة ، وإذا كان كذلك فيكون إجماعا مقررا في الواقع وليس دليلا مستقلا، لكن الدليل قد يعلم به الإنسان وقد لا يعلم ، قد يكون إنسان محيط بالأدلة غالبا ولكنه لم يعلم مخالفا يظن أن الإجماع ... أن الحكم ثبت بالإجماع، وقد يكون الإنسان غير ملم تماما بالأدلة لكن عنده إحاطة كاملة بالخلاف والوفاء بين العلماء فينقل الإجماع.
ولا يرد على هذا أن المسلمين أجمعوا على وجوب الصلوات الخمس ، أجمعوا على وجوب الزكاة، أجمعوا على وجوب الصوم، أجمعوا على وجوب الحج؛ لأن هذه الأحكام ثبتت بالنص.
حجية القياس:
قال: "والرابع القياس فافهمنَّه"، الرابع: القياس وهو إلحاق فرع بأصل لعلة جاءت في حُكم. لعلة جاءت، يعني: أن تُلحِق فرعا وهو المَقِيس بأصل وهو المَقِيس عليه في حكم من الأحكام، كالتحريم والإيجاب وما أشبه ذلك لعلة جامعة، أي: لمعنى يجمع بين الأصل والفرع ثبت به الحكم .
وقوله: "فافهمنه" أي: افهم القياس تماما، افهم المقيس قياسا آكدا لا يختلف فيه الأصل والفرع وما أشبه ذلك من الأقيسة الثابتة، ومنه أن يكون قياسا مخالفا للنص، فالقياس الفاسد لا يعول عليه؛ ولهذا نص الناظم على فهم القياس، قال : "فافهمنه"، أي: افهم القياس وليكن قياسك صحيحا.
فإن قال قائل: ما هو الدليل على أن القياس حُجة؟ قلنا: الأدلة من القرآن والسنة، فمن القرآن يمكنك أن تقول كل مثل ضربه الله في القرآن فإنه بين على القياس؛ لأن المقصود بذلك أن يعتبر الناس بالمثل فيقيسوا عليه ما شابهه، وهذا هو عين القياس.(5/487)
ومن ذلك ما جاء في القرآن قول الله تبارك وتعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } فإنه لا يمكن أن يكون في قصصهم عبرة إلا أن المقيس ما ماثل أحوالهم على أحواله، وقال الله تبارك وتعالى: { * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) }
وأما من السُّنة فالأدلة على القياس متعددة ومتنوعة فمن ذلك أن النبي r أذن للمرأة التي سألته أن أمها نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أذِن لها أن تحج عن أمها وقال: " أرأيتِ إن كان على أمك دَيْنٌ أكنت قاضيته ؟ قالت: نعم، قال: فاقضوا الله فالله أحق بالوفاء " .
ومنها -أي: من أدلة السنة- أن النبي r أتاه رجل أعرابي أظنه قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود أي بلون مخالف للون أبيه وأمه، فكأنه يسأل ما وجه ذلك، كيف يخالف لونه لون أبيه وأمه؟ .
وقال بعض العلماء: إنه متعذر في أمه أي بزوجته وكأنها جاءت بولد من غيره، ولكن الأول أقرب لما فيه من إحسان الظن بالصحابة أي أنه أراد أن يعرف وجه كون لون الابن مخالف للونهما، فقال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " هل لك من الإبل ؟ قال : نعم ، قال : ما ألوانها ؟ قال : حمر قال : هل فيها من أوْرَق؟ قال : نعم، قال: فمن أين أتاها؟ قال : لعله نازعه عرق يا رسول الله، قال النبي r فابنك هذا لعله نازعه عرق " .
فدل ذلك على ثبوت القياس، قاس النبي r ... قاس النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وجود الجمل الأوْرق بين إبلٍ حمر على وجود ولد أسود بين أبوين لونهما يخالف لونه؛ لأن القادر على هذا قادر على هذا.
والأمثلة على هذا كثيرة -أي: على كون القياس حجة- كثيرة، وهو أيضا مقتضى حكمة الله U فإن الحكمة تقتضي أن يساوى النظير بنظيره، وأن يفرق بين المختلفين.(5/488)
واعلم أنه لا قياس في مقابلة النص. فمن قاس قياسا مخالفا للنص فقياسه باطل من وجهين: الوجه الأول: مخالفة النص والوجه الثاني: أنه لا بد أن يكون بين المَقيس والمَقيس عليه فرق من أجله ثبت الفرق بينهما بالكتاب والسنة.
ومن ذلك مثلا أن بعض أهل العلم -رحمهم الله- قاسوا تزويج المرأة نفسها إذا كانت ثيِّبا على بيعها مالها لنفسها، وقال: إذا كانت تملك أن تبيع مالها -ولو كان جميع مالها- بدون إذن وليِّها، فكذلك تملك أن تزوج نفسها بدون إذن وليِّها إذا كانت عاقلة.
وهذا القياس قياس باطل؛ لأنه في مقابلة النص، فقد ثبت عن النبي r أنه قال: " لا تنكح الأَيِّم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البِكر حتى تُستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: إذنها أن تَسكت " .
فنهى النبي r أن تُزوج المرأة بغير إذن، بغير ولي؛ لأنه لو كانت تملك أن تزوج نفسها ما احتاج أن يقول لا تنكح البكر، ولا تنكح الأيم ، فلا بد من أن يكون لها ولي، وقال النبي r مصرحا بذلك : " لا نكاح إلا بوَلي " فالقياس إذا غير صحيح؛ لأنه مصادم للنص.
هذا وإلى هنا ينتهي الدرس لهذا اليوم أسأل الله أن يجعل علمنا نافعا لنا ، مقربا مثلنا إليه ، إنه على كل شيء قدير .
نعم ..
س: فضيلة الشيخ هذا سائل يقول : هل يشرع للمسافر أن يأتي بالأذكار الواردة بعد الصلوات المفروضة أم لا ؟
ج: نعم يُشرع للمسافر أن يأتي بالأذكار الواردة بعد الصلوات؛ وذلك لأن النصوص وردت عامة، وإذا ورد النص عاما فإنه يبقى على عمومه. هذا هو الأصل.(5/489)
وعلى هذا فنقول: يشرع للمسافر أن يأتي بالأذكار الواردة دُبر الصلوات، ولكن يسأل إذا كان يريد أن يجمع، فهل يفصل بين المجموعتين بالذكر الوارد ؟ أو يكتفي بالذكر بعد الثانية، ويكون ذلك من باب اجتماع العبادات والاكتفاء ببعضها، كما لو دخل المسجد وصلى راتبة الصلاة فإنها تكفيه عن تحية المسجد، هذا يحتمل وجهين، ولكن لا شك أنه لا يأتي بالذكر بعد الأولى ، إلا أنه إذا فرغ من الثانية أتى بالذكر، ثم هل يكتفي بذكر واحد كما قلنا في تحية المسجد مع الراتبة أم لا بد من الذكرين جميعا؟
الأحوط والأكمل أن يأتي بالذكرين جميعا وإن اقتصر على ذكر واحد للصلاتين جميعا فأرجو أن يكون كافيا.
نعم ...
س: هذا يقول: يا شيخ، نحن مجموعة من الشباب ندرس في منطقة بعيدة عن بلدنا يغلب على أهلها الجهل بأحكام الدين، وينتشر في هذه البلدة ما يسمى بالزار، ويذهب إليه كثير من الناس فكيف يمكن دعوة هؤلاء الناس؟ وجزاكم الله خيرا ؟
ج: يمكن دعوة هؤلاء الناس بالتي هي أحسن بأن يتكلم الرجل عن حكم هذه الاجتماعات مدلِّلا عليها بأدلة الكتاب والسنة وأقوال العلماء الموثوقين دون أن يجابه العوام بالإنكار بالقول أو بالفعل؛ لأن الشيء الذي اعتاده الناس يصعب جدا أن ينزلوا عنه إلا بسلطان بيِّن، وأعني بالسلطان: الكلام المقنع بأدلته من الكتاب والسنة.
ثم إنه ليس بلازم أن يقول الإنسان بالمجتمعات: المساجد ومحلات الاجتماع، ويتكلم ليس بلازم، ربما يتكلم مع أهله وأقاربه، فإذا تكلم هذا مع أهله وأقاربه وهذا مع أهله وأقاربه واقتنعوا حصل رفع ذلك الأمر المنكر .
نعم ..
س: وهذا يقول: شيخنا الفاضل، لا قياس في العبادات. هل هذه القاعدة على إطلاقها أم لها شروط ؟(5/490)
ج: بتثبتنا لأقوال العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة أنه لا قياس في إثبات أصل العبادة، أما في إثبات بعض شروطها وواجباتها فهم يقيسون كثيرا، من ذلك مثلا أنه ورد في التسمية عند الوضوء حتى جعلها بعض العلماء من شرط صحة الوضوء لما يروى عن النبي r " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " على أن العلماء اختلفوا في ثبوت هذا الحديث .
والإمام أحمد -رحمه الله- قال: لم يثبت في هذا الباب شيء ، لكن على قول من يقول: إن الحديث حجة، وإنه لا بد من التسمية على الوضوء، من العلماء من قال: يقاس على الوضوء الغسل؛ ، لأنه إذا ثبت وجود التسمية على الوضوء وهو حدث أصغر لثبت وجوبها في الأكبر من باب أولى.
ثم منهم من تعدى وقال: وتجب أيضا في التيمم كما تجب في الوضوء، أنت ترى أن هؤلاء قاسوا شيئا من واجبات العبادة على شيء لم يثبت، مع أن المتتبع للأحاديث في صفة الوضوء وفي صفة التيمم يتبين له أن ذلك ليس بواجب، يعني: التسمية لا على الوضوء ولا على الغسل ولا على التيمم، والأمثلة على هذا كثيرة، فالذي يتبين أن الضابط على وجه التقريب أن إثبات عبادة مستقلة قياسا على عبادة أخرى لا يثبت.
وأما قياس وصف في عبادة على عبادة تماثلها أو على عبادة من جنسها هذا قد يثبت، لو أن أحدا قال : الاجتماع في الصلوات الخمس لا شك أنه مشروع ، وأن الإنسان إذا دخل المسجد استحب له أن يذكر اسم الله بالذكر الوارد، فهل الاجتماع للقرآن أو لتعلم العلم بقياس على هذا ؟ ونقول: إنه اجتماع على عبادة، فيشرع له الذكر عند دخول المحل كما شرع بالمسجد أو ما أشبه ذلك ، نقول: لا، هذا لا يثبت لأن الاجتماع على العلم ودراسة القرآن ليس كالاجتماع على الصلوات الخمس مثلا، والضابط -أو أقرب ما يكون من الضوابط- هو ما ذكرت، وأما أن تثبت سنة مستقلة قياسا على سنة مستقلة فهذا ليس بوارد .
نعم ..(5/491)
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، ينتشر في بلادنا الذهاب إلى الكهنة والعرافين -لا كثَّرهم الله- وعندما نُحذر من الذهاب إليهم يحتجّ علينا البعض بأنه لا يوجد بديل وأنا أريد العافية لهذا المريض المسكين وغير ذلك، فهل تنصحني فضيلة الشيخ بالتصدي للعلاج بالكتاب والسنة، وما هي الضوابط والوصايا حول هذا ؟ وجزاكم الله خيرا .
نعم ..
ج: نحن ننصح كل إخواننا المصابين بمرض طارئ أو مرض دائم، بمرض يتعلق بالعقل أو بالجسد أن يلجئوا إلى الله U وأن يستعملوا الرُّقى الجائزة؛ لأنها كلها خير، فمن ذلك مثلا أن يقرأ على المريض أو المصاب بفاتحة الكتاب فإن قراءة فاتحة الكتاب لها أثر بالغ في شفاء المريض.
دليل ذلك " أن النبي r بعث سَرية فنزلوا على قوم فلم يضيفوهم القوم، فتنحوا ناحية ونزلوا، ثم يسّر الله تعالى لرئيسهم أن لدغته عقرب، فبحثوا عن راقٍ يرقي عليه فقال البعض: لعل في القوم الذين نزلوا بكم عندهم راق.
فجاءوا إلى الصحابة وقالوا لهم: هل فيكم من راق؟ قالوا: نعم، لكننا لا نرقي إلا بكذا وكذا من الغنم، فقالوا: ولكم ذلك إن شفاه الله، فذهب أحد القوم من الصحابة يقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فقام كأنما نشِط من عقال أبرأه الله وأخذوا ما أخذوا من الغنم التي اشترطوها عليهم حتى قدموا المدينة وأخبروا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- واستفتوه في حِل هذه الغنم فقال -عليه الصلاة والسلام-: خذوا واضربوا لي معكم بسهم. ثم قال للقارئ الذي قرأ بأم الكتاب: وما يدريك، وما يدريك أنها رقية؟ " .
وقد جرب هذا ووجد أن لها تأثيرا بالغا في الشفاء من المرض، وكذلك قراءة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) } { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) } لهم تأثير بالغ في الشفاء من السِّحر؛ لأن النبي r رقى بهما.(5/492)
" فإن النبي r سحره لبيد بن الأعصم اليهودي حتى صار -النبي عليه الصلاة والسلام- يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله " لكن ذلك لم يؤثر على ما عنده r من الوحي والشريعة، ثم رقي r بهاتين السورتين فشفاه الله تعالى.
فدل ذلك على تأثير القراءة في الشفاء من المرض، ولكن لا بد من شرطين مهمين في تأثير القراءة على المرضى، الشرط الأول: أن يكون عند القارئ إيمان ويقين بأنها نافعة، أي: بأن القراءة نافعة وأن يكون عنده قوة وعزيمة فتؤثر عند القراءة .
والشرط الثاني : أن يكون المقروء عليه -أي: المريض- قابلا لهذا العلاج مطمئنا إليه واثقا به، فإن لم يكن الشرطان فإنه لا أثر لها، كما نجد الآن أن بعض الناس يقرءون نفس الفاتحة على المريض فيكررها ولكن لا جدوى؛ لأن هناك خللا إما في نفس القارئ أو في نفس المقروء عليه، لما في نفس القارئ بأن تكون قراءته على سبيل التجربة، يقول: أجرب ... أشوف، هل تفيد أو لا ؟ هذا لا شك أنه لا يستفيد؛ لأن هذا لم يؤمن بقول الرسول r وما يدريك أنها رقية ؟
وكذلك أيضا نفس المريض بأن لا ينفعل ولا يتأثر بالقراءة عليه ويقول: ما أدري لعلها تنفع أو لا تنفع. فلا بد من يقين وإيمان بأن هذه القراءة نافعة، من القارئ ومن المقروء عليه، ويشفى بإذن الله .
وأما المشعبذين، أو المشعوذين فإن كثيرا منهم كذاب يريد أن يبتز أموال الناس؛ ولهذا تجده يقول: فيك كذا أو كذا أحيانا، وأحيانا يكون عنده ذكاء وفطنة، فيكذب يقول: عندك كذا، وإذا تأمل المريض أو أقارب المريض تبين لهم أنه كاذب.(5/493)
لذلك نحذر إخواننا من الأوهام التي ترد على أنفسهم، فإن الوهم أصبح العامل الرئيسي في اعتقاد أن ما أصيب به الإنسان إما من الجن وإما من السحر، وهذا من الغلط العظيم، ما كل مرض يكون من السحر، ما كل مرض يكون من الجن أبدا ، الأمراض متنوعة لكن النفوس إذا توهمت وخيل إليها الشيء ربما يكون حقيقة عندها، أو ربما تنفعل النفس حتى يكون عندها كالحقيقة وليس بحقيقة.
فنحن نحذر إخواننا الذين يبتلون بمثل هذه الوساوس أن يستعينوا بالله U من الشيطان الرجيم، وأن يقبلوا على آمالهم وألا يكترثوا بذلك ولا يهتموا به، وإذا تناسوه شفاهم الله منه .
أما إن تعلقت قلوبهم بذلك وصار كل واحد منهم يقول، لعله أصابه مس، لعله أصابه سحر، لعله أصابته عَين لعله كذا فسوف يكون فريسة للأوهام، ويعجز عن انتشال نفسه.
وكذلك أيضا كون بعض الناس يذهب إلى هؤلاء المشعوذين يتأثر بنشاط فيعتقد أنه زال مرضه، كل هذا مبني على الوهم؛ لأنه يعتقد أن لهؤلاء تأثيرا، فيتأثر ولو كان يعرف حقيقتهم، وأنهم لن يجدوا شيئا ما تأثر بهم نسأل الله لنا ولإخواننا السلامة والعافية، وأن يجعل ما رزقنا من نعمة وقوة وصحة عونا لنا على طاعته إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
إنما الأعمال بالنيات
قال الناظم -حفظه الله تعالى ورفع درجته في المهديين:
واحكم لكل عامل بنيته
فإنما الأعمال بالنيات
ويحرم المضي فيما فسدا
والنفل جوز قطعه ما لم يقع
واسدد على المحتال باب حِيلته
كما أتى في خبر الثقاتِ
إلا بحج واعتمار أبدا
حجا وعمرة فقطعه امتنع
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد..(5/494)
فهذا هو الدرس الثامن من دروس الدورة التي تقام في درس علم سبعة عشر وأربعمائة وألف بمسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في حي سلطانة بالرياض وهذا هو يوم الاثنين الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة سبعة عشر وأربعمائة وألف
س: وقبل أن نتكلم على ما سمعنا من الأبيات نناقش في آخر درس سبق، نقول: هل قول الخلفاء الراشدين حجة؟ وما هو الدليل ؟
ج: قول الخلفاء الراشدين حجة، والدليل قول المصطفى r " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " .
س: ما هو النص الخاص بأبي بكر وعمر في هذا الموضوع ؟
ج: قول الرسول r " اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر " .
نعم ..
وقوله: " إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا " قال ذلك ثلاثا أليس كذلك ؟ بلى يا شيخ .
س: قول الصحابي مختلف فيه، هل هو حجة أو لا، فما هو القول الراجح في هذا ؟
ج: الصحابي الذي عُرف بفقهه وصحبته للرسول r وانتشر، يعني: انتشر فقهه، فهذا قوله حجة، الصحابي الذي عرف بالصحبة ولم يعرف بالفقه، فقوله ليس حجة.
س: ما شرط كون قول الصحابي حجة ؟
ج: ألا يخالف مثله أو من يفوقه أو لا يخالف نصا من كتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم .
س: نعم .. لا يخالف نصا أو صحابيا مثله أو فوقه، طيب، إذا خالف صحابيا مثله، فما الواجب؟
ج: أن نعرضه على كتاب الله وسنة رسوله، يعني: ما توجه نأخذ به .
نعم ..
س: يقول العلماء غالبا: إن الأدلة التي يحصل بها التكليف أربعة، فما هي ؟
ج: أولا القرآن الكريم، الثاني: سنة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- الثالث: الإجماع، الرابع: القياس الصحيح.
س: الناظم يقول : "وسنة مُثَبَّتة" فما وجه هذا القيد ؟
ج: أن تكون السنة ثابتة ليست بضعيفة ولا موضوعة، يعني: احترازا من الضعيف والموضوع ؟
نعم .
س: أطلق بعض العلماء أن الحديث الضعيف يحتج به في فضائل الأعمال ، فما رأيك في هذا الإطلاق ؟(5/495)
قال العلماء: أنه يحتج بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ولكن لهذا الاحتجاج شروط، نعم … الأول : ألا يكون الضعف شديدا، نعم، الثاني: ألا يعتقد صحة سنده إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام-، الثالث: أن يكون على أصل ثابت .
س: أن يكون له أصل ثابت -أي نعم- مثِّل للأخير ، الأصل الثابت مثِّل - نعم يا شيخ - أن يكون له أصل ثابت ، يعني ، مثل لهذا ..
مثل الذكر الذي يذكر عند دخول السوق فإنه ضعيف ولكن يقال لأن هناك بعض الأقوال تقال في دخول بعض الأشياء والخروج منها .
هذا مثال غير صحيح ، ليس له أصل .
مثل الأحاديث التي فيها ترهيب أو الإثم لفاعل الزنا أو آكل الربا ونحوها .
إن كانت ترد أحاديث في شدة عقاب المرابي ضعيفة فيها من حيث السند لكن لها أصل، وهو الوعيد على الربا، فهنا نقول إن ثبتت هذه الأحاديث فهي حجة بنفسها، وإن لم تثبت ففيها زيادة ترهيب مما ثبت الترهيب عنه في الترغيب فيما ثبت أصله .
مثل فضل الصلوات الخمس- نعم، مثل صلاة الجماعة -نعم- ترد فيها أحاديث مثلا في كثرة ثواب المصلي مع الجماعة، ضعيفة هي من حيث السند، لكن نقول: لها أصل ثابت فلا بأس من ذكرها .
س: طيب .. هل الإجماع حجة من أي عالم كان ؟ أو لا بد من قيد ؟
ج: لا بد من قيد أو اجتهاد - لا بد من قيد أو اجتهاد .
س: لماذا لا بد من قيد أو اجتهاد ؟
ج: لإخراج المقلد، لأن المقلد لا يعدو أن يكون نسخة من كتاب أو قولا مكررا من متبوعه؛ ولهذا ذكر ابن عبد البر -رحمه الله- إجماع العلماء على أن المقلد ليس بعالم، فيها أيضا زيادة هل الإجماع معتبر في عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- أو لا ؟
س: لا بد أن يكون بعد وفاة النبي r لماذا؟
ج: لأن في حياة النبي r المرجع إليه وليس لإجماع الناس.
يعني: يكون ثابتا بالنص لا بالإجماع -نعم- طيب أيضا فيه شرط باقي أن يكون الإجماع من هذه الأمة، ولهذا قال الناظم : "إجماع هذي الأمة " وأما إجماع غيرها فليس بمعصوم فلا يحتج به .(5/496)
س: الناظم قال : "الرابع القياس" فما هو القياس ؟
ج: القياس إلحاق فرع بأصل حكم ... بحكم بعلة جامعة .
س: بماذا نسمي الأصل ؟
ج: الأصل الكتاب والسنة .
س: لا، ماذا نسميه -نعم يا شيخ- ماذا نسميه ؟
ج: الأصل نقيس عليه -هو المقيس عليه، والفرع؟ هو المقاس عليه … المقيس ... المقيس .
والحكم هو التحريم أو الإيجاب وما أشبه ذلك، والعلة هي المعنى الذي من أجله شرع الحكم.
س: طيب .. الناظم قال : "فافهمنه" ما الفائدة من هذا التذييل ؟
ج: لأن القياس الفاسد لا يعول عليه .
يعني: المعنى كأنه يقول : احذر من أن تقيس قياسا فاسدا، وافهم القياس وأنه هل هو مطابق تماما، وهو أن الأصل مطابق ، نعم ، وهو أن الفرع مطابق للأصل تماما أو لا .
س: طيب .. شرط القياس ألا يخالف النص ، فإن خالف النص ؟
ج: فلا قياس، فهو مردود ماذا يسميه العلماء ، القياس المخالف للنص.
يسمى القياس الفاسد، فاسد اعتبار ، يسمونه فاسد اعتبار ، مثال ؟
عندما قاس البعض على أن المرأة تجوز أن تزوج نفسها ، استدلوا ذلك من أنها تبيع وتشتري دون إذن وليها، فهذا قياس مع النص وهو فاسد .
يعني: كقياس تزويج المرأة نفسها بدون إذن وليها على بيع مالها دون إذن وليها ، فهو قياس فاسد . لماذا كان فاسدا ؟
وذلك لوجود النص قول الرسول r " لا نكاح إلا بولي " .
س: طيب ، رجل قاس لحم الخنزير على لحم الإبل في نقض الوضوء ، يعني: قال: إنه إذا أكل لحم خنزير انتقض وضوءه كما ينقض وضوءه بلحم، بأكل لحم الإبل ، ما تقول في هذا القياس ؟
ج: قياس غير صحيح ، فاسد -ليش- لأن النص أتى في الإبل فقط .
يمكنه أن يقول سأقيس لأن اللحم المحرم أخبث منه، من اللحم الحلال ، - لا توجد علة بينهم .
نعم ، نعم ، لأن العلة في نقض الوضوء بلحم الإبل ليست النجاسة حتى نقول إن لحم الخنزير مثله تماما ؟
س: ما هي العلة في نقض الوضوء بأكل لحم الإبل ؟(5/497)
ج: العلة ، بعض العلماء يقول: إنها تعبدية ، لأن نقض الوضوء بلحم الإبل تعبدي لا تعرف علته، ومنهم من قال: إن العلة هو أن الإبل خلقت من الشياطين وأن لحمها مؤثر على البدن، يثير البدن، ويثير الأعصاب والماء يسكن ذلك، الله أعلم.
وحقيقة أنا نقول فيما لم نعلم حكمته إن مجرد أمر النبي r به هو الحكمة، مجرد أمر الله به هو الحكمة، مجرد نهي الله عنه هو الحكمة، مجرد نهي الله عنه هو الحكمة بأن نعلم أن الشرع من لدن حكيم عليم، فإذا ورد بشيء فهو موافق للحكمة تماما سواء علمناها أم لم نعلمها .
يقول الناظم :
"واحكم لكل عامل بنيته" هذه قاعدة ، أنه يحكم لكل عامل بنيته، ودليل ذلك قول النبي r " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " وهذا الحديث من أجمع الأحاديث وأعظمها، وعليه مدار أعمال القلوب كلها.
وما من شك أنه ما من إنسان عاقل مختار يفعل فعلا إلا بنية، ولا يمكن أن يقع فعل من عاقل مختار بدون نية إطلاقا، هذه النية عليها مدار الجزاء من ثواب أو عقاب؛ لقول النبي r " وإنما لكل امرئ ما نوى " .
وهذا الحديث حديث عظيم ، عليه يدور ميزان الأعمال الباطنة ، وحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي r قال : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " هذا ميزان الأعمال الظاهرة، وهما بمعنى قولنا: إن شرط العبادة الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
الإخلاص يكون بالنية، والمتابعة تكون بالعمل الظاهر، والناس يختلفون في النية اختلافا عظيما، تجد اثنين يصليان، أحدهما يقف بجنب الآخر وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض في الثواب ورِفعة الدرجات.
كل ذلك بناء على النية، مع أن الأفعال الظاهرة سواء لكن أعمال القلوب؛ ولهذا " سئل النبي r عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .(5/498)
فبيَّن -عليه الصلاة والسلام- أن الرجلين قد يقاتلان جميعا أحدهما في سبيل الله والثاني في سبيل الطاغوت؛ لأنه لا بد أن يكون له نية لأن كل فاعل يفعل الشيء وهو عاقل مختار فلا بد أن يكون له نية .
وإنني بهذه المناسبة أود أن أبين ما ابتلي به كثير من الناس اليوم من الوساوس؛ وذلك لكثرة الفراغ وعدم الانشغال وعدم الجد في العمل. كثرت الوساوس جدا فتجد الرجل يتوضأ ويقول: ما نويت، يتوضأ ويقول: ما أكملت المضمضة، ما أكملت الاستنشاق ، يغتسل ويقول: ما نويت رفع الحدث … وما أشبه ذلك، يصلي فيقول: ما كبَّرت ما قرأت الفاتحة وما أشبه ذلك من الوساوس العظيمة؛ لهذا نقول: إنه لا أثر لهذه الوساوس لأنها صادرة عن غير نية.
ويُذكر أن رجلا أتى إلى الشيخ علي بن عقيل أحد فقهاء مذهب الإمام أحمد المعتبرين، فقال له: إني حين انغمست في نهر دجلة لرفع الجنابة ثم خرجت وأنا في شك من ذلك، أو كما قال، فقال له الشيخ ابن عقيل : أرى أن لا تصلي، قال: ولم ؟ قال : لأن النبي r قال: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق " وما أضمن رجلا عليه جنابة حين انغمس في نهر دجلة ثم يقول: ما نويت رفع الحدث أو أنا شككت فيه .
وهذا من أقوى ... وهذا من أبلغ السخرية بهذا الرجل، ولهذا قال بعض العلماء: لو كلفنا الله عملا بلا نية لكان من التكليف ما لا يطاق.
ومن ذلك أن بعض الناس يبتلى بالوساوس في طلاق زوجته، فتجده لو فتح كتابا يقرؤه خُيِّل له أنه قال: امرأتي طالق مني لو فتحت هذا الكتاب، ولو خرج من البيت خيل له أنه قال: إن خرجتُ فامرأتي طالق وما أشبه ذلك، حتى يلجئه الوسواس إلى أن يقول: تخرج من هذه الوساوس ونطلق ثم يصدر الطلاق!!(5/499)
ومن كانت هذه حاله فإنه لا يعتبر له طلاق حتى لو طلق باللفظ الصريح، والحامل له على ذلك الوسواس فإنه لا طلاق عليه؛ لأن النبي r قال : " لا طلاق في إغلاق " وأي إغلاق أشد من الوسواس الذي يقذف الإنسان ويسيطر على عقله.
ثم قال : "واسدد على المحتال باب حيلته" هذه قاعدة أخرى، وهو أنه يجب أن يسد على المحتال باب الحيلة، وتلغى حيلته سواء كان ذلك في حق الله أو في حق العباد، وسواء كان ذلك في التحيُّل على إسقاط الواجبأو التحيل على فعل محرم .
مثال ذلك : أن يحتال على إسقاط الواجب، فمن المعلوم أن الإنسان إذا سافر في رمضان فإن له أن يفطر، وهذا رجل يريد أن يفطر في رمضان ويعلم أنه لا يمكن أن يفطر وهو مقيم فيسافر من أجل الفطر، فنقول له: إن سفرك حرام وإن فطرك حرام، يلزمك الصوم حتى
في السفر ؛ لأن سفرك هذا حيلة لإسقاط واجب فلا ينفعك هذا ، فلا تنفعك، فنسد عليه باب الحيلة .
نقول: إذا باع الرجل نصيبه من أرض مشتركة بينه وبين آخر، فإن لشريكه أن يأخذ الأرض من المشتري بالثمن الذي اشتراها به.
فيعمد بعض الناس -إذا اشترى الأرض- إلى إيقافها فورا؛ لأنه إذا أوقفها لم يتمكن الشريك من الشفعة؛ لأنها انتقلت عن ملك المشتري إلى غيره، فيذهب المشتري، ويوقفها فور شرائها من أجل ألا يأخذ الشريك بالشفعة.
فنقول: هذا عمل باطل، وللشريك أن يأخذ بالشفعة.
لكن إذا علمنا أن الرجل أوقفها تَحَيُّلا لإسقاط الشفعة.
ومن ذلك أيضا: إذا اشترى شيئا، فإن البائع بالخيار ما دام في مجلسه، فيقوم المشتري فور الشراء، ويفارق المجلس لإسقاط حق البائع بالخيار.
هذا أيضا حرام، لا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله؛ لأن هذا حيلة على إسقاط حق البائع من الخيار.
وكذلك لو قام البائع بإسقاط حق المشتري من الخيار، فإنه لا يحل.(5/500)
ومن الحيل على فعل المحرم في حق الله U ما جرى لأصحاب السبت، فإنه حُرِّمَ عليهم أن يصطادوا الحيتان يوم السبت، فطال عليهم الأمد، فعمدوا إلى شباك يضعونها يوم الجمعة، فيأتي الحيتان يوم السبت، فيقع في هذه الشباك، فإذا كان يوم الأحد أخذوها، أي: أخذوا الحيتان، وقالوا بزعمهم: إننا لم نَصِدْ يوم السبت.
فتحيلوا على محارم الله مثل ذلك، وهذا لا يحيل من الإثم، ولهذا قال الله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) }
ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من التحيل على تحليل المرأة المطلقة ثلاثا لزوجها الأول، فإنه من المعلوم أنه من طلق زوجته ثلاث مرات لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويطأها.
فيعمد بعض الناس بهذه المطلقة أن يتزوجها، ثم يجامعها، ثم يطلقها لتحل للأول، وهذا نكاح حيلة، وليس نكاح رغبة، فيبطل النكاح الثاني، ثم لا تحل للأول؛ لأنها لا تحل الأول إلا إذا كان بنكاح صحيح، كما أشار إليه قوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي: الثالثة، { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }
وتأمل قوله: { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا } ليتبين لك أنه لا بد أن يكون النكاح صحيحا تكون فيه المعقود عليها زوجة، ويكون العاقد زوجا، وهذا لا يصح مع نية التحليل؛ لأنها تحيل على تحليل ما حرم الله U .
والأمثلة على هذا كثيرة، لكن المهم القاعدة، ولهذا قال: واسدد على المثال هذا بحيلتك، فإنما الأعمال بالنيات كما أتى في خبر الثقات، وقد أشرنا إلى هذا الحديث، وهو قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى "
حرمة المضي في الفاسد:
ثم قال الناظم:
ويحرم المُضِي فيما فسدا
والنفل جوّز قطعه ما لم يقع
إلا بحج واعتمار أبدا
حجّا وعمرة فقطعه ممتنع(6/1)
الفاسد من العقود، والفاسد من العبادات يحرم المضي فيه؛ وذلك لأن المضي فيما فسد محادة لله U ومضادة لحكمه؛ فإن الله -تعالى- لم يحرمه إلا لئلا يقع من الناس، فإذا صححناه فهذه هي المحادة لله -تعالى- ورسوله.
وكذلك -أيضا- إذا مضى فيه، إذا مضى فيه فإنه يكون محادّا لله ورسوله، بل يجب إفساده والتخلي عنه.
مثال ذلك: رجل يصلي، فأحدث في أثناء الصلاة، فاستحيا أن ينصرف من الصف أمام الناس، ومضى في صلاته، فنقول له: إن مضيك فيها حرام، وأنت آثمٌ بذلك، مضاد لله ورسوله، ساخر بأحكام الله ورسوله.
ونقول له: لماذا تستحي من الناس ولا تستحي من الله؟!
ثم إنه بالصورة التي ذكرناها ربما يعمل عملا ينتفي به ما يُستحيا منه، وذلك بأن يضع يده على أنفه كأنما أرعف أنفه، ثم يخرج، والناس إذا رأوا يده على أنفه قالوا: هذا قد أرعف، ومعروف أن الإرعاف أمر بغير اختيار الإنسان.
كذلك أيضا في المعاملات، لو أن الإنسان عقد عقدا ربويا، بأن باع درهما درهمين، أو صاعا من البُر بصاعين من البُر، فإن هذا عقد فاسد، يجب رده، ويحرم أن يمضي فيه، فتُرَدّ السلعة إلى البائع، ويُرَد الثمن إلى المشتري، ودليل ذلك -أي: دليل وجوب رد الفاسد وتحريم المضي فيه- " أن النبي r أُتي بتمر، فوجده جيدا، فقال: ما هذا؟ قالوا: كنا نشتري الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال r ردوه " .
فأمر برده؛ لأن هذا ربا، والربا يجب رده.
وهكذا كل ما مُلِك بعقد فاسد، فإن الواجب رده على صاحبه، وعدم تملكه.
لكن لو قال قائل: رجلان عَقَدَا عقد ربا، فأعطى أحدهما الآخر مائة ألف، على أن يرد إليه مائة وعشرين ألفا بعد سنة.(6/2)
أخذها، وتصرف فيها، وبعد مُضي سنة قال -أي الذي أخذ الدراهم- للذي أعطاه إياها: هذا عقد ربا، والربا حرام، وقد لعن النبي r آكله وموكله، ولا يمكن أن أوكلك ربا، فأدخل في اللعن. فيُقال له: سبحان الله! اليوم تخشى الله، وبالأمس لا تخشى الله؟! ما الذي جعله اليوم ربا لا يجوز المضي فيه، وكان بالأمس عقدا جائزا؟!
وهنا يقع الإشكال، هل نقول: إن الذي أعطى الدراهم لا يستحق الزيادة؟ والذي أخذ الدراهم يكون قد تكسب بها وانتفع بها مدة عام كامل، ولا نأخذ منه شيئا؟!
الجواب: لا، إن هذا لا تأتي بمثله الشريعة، ولكن نقول: أنت يا تاجر الدراهم لتُرْبِيَ فيها، ليس لك إلا رأسك، وأنت -أيها الآخذ- نأخذ منك ما اتفقت معه عليه من الربا، ونضعه في بيت المال، أو نتصدق به على الفقراء، أو يصرف فيما يهم المسلمين. فنسد على كل واحد منهم باب التحليل، ونعامل كل واحد بنقيض قصده.
كذلك -أيضا- لو أن شخصا صام، صيام رمضان، ثم أفطر في أثناء النهار، فإنه يحرم عليه أن يمضي في الصوم تعبدا، لكنه إذا كان في نهار رمضان ألزمناه بالإمساك احتراما للزمن، ما لم يكن فطره مباحا، فإن كان فطره مباحا فله أن يأكل ويشرب في بقية يومه، كرجل احتاج إلى الفطر لإنقاذ معصوم، فأنقذه، ولكنه لم يتمكن من إنقاذه إلا بعد أن شرب، فنقول له: الآن أفطرت، وفسد صومك، ولا تمضِ فيه بناء على أنه صوم، ولكن لك أن تأكل بقية يومك؛ لأنك لم تنتهك حرمة الزمن إلا على وجه مأذون لك، فيه ففطرك حلال، وإمساكك بقية النهار غير لك.
قال الناظم:
.. .. .. ..
إلا بحج واعتمار أبدا
يعني: أنه لا يحرم المُضي في فاسد الحج والعمرة، بل يجب المضي فيه.(6/3)
والفاسد من الحج هو الذي جامَع فيه قبل التحلل الأول، مثال ذلك: رجل جامَع زوجته ليلة مزدلفة، ومعلوم أنه بليلة المزدلفة لم يكن حل التحلل الأول، فيكون حجه فاسدا، ولكن يلزمه أن يكمله، ويمضي فيه، فإذا كان العام القادم قضاه؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- قضوا بذلك، قضوا بأن الإنسان إذا جامع زوجته قبل التحلل الأول لزمه أن يتمم النسك، ثم يقضيه من العام القادم.
والجماع في العمرة يفسدها إذا وقع قبل التحلل منها، فلو أن معتمرا طاف، ثم ذهب إلى بيته مع أهله، وجامع أهله قبل أن يسعى، فعمرته الآن فاسدة، يلزمه أن يكملها بالسعي والحلق أو التقصير، ثم يأتي بعمرة جديدة من الميقات الذي أحرم منه في عمرته الأولى؛ لأنه أفسد العمرة.
ولهذا قال:
ويحرم المُضي فيما فسدا
إلا بحج واعتمار أبدا
ثم قال:
والنفل جوّز قطعه ما لم يقع
حجّا وعمرة فقطعه ممتنع
أفاد الناظم في هذا البيت أنه يجوز قطع النفل؛ لأنه نفل تطوع، إن شاء الإنسان أمضاه، وإن شاء قطعه، كما أنه لو شاء لشرع فيه، ولو شاء لم يشرع فيه.
مثال ذلك: رجل شرع في صوم النفل، وفي أثناء النهار قطعه، قطع الصوم، نقول: لا بأس، يجوز له أن يقطع صومه. واستدل العلماء في ذلك بأن " النبي r دخل ذات يوم على أهله، فقالوا: إنه أُهْدِيَ إلينا حيس -والحيس: هو التمر المخلوط بالسمن والدقيق، أو السمن والأقط- فقال: أرينيه، فلقد أصبحت صائما، فأتوا به، فأكل منه " .(6/4)
أكل منه مع أنه قال إنه أصبح صائما، هكذا استدل الفقهاء -رحمهم الله- بهذا الحديث، ونوقش هذا الاستدلال بأنه يحتمل أن قوله: " فلقد أصبحت صائما " أنه كان صائما عن الطعام، أي: أن صومه صوم لغوي، وليس صوما شرعيا، ولكن أُجيب عن ذلك بأن الصوم إذا أطلق في الشرع فالمراد به الصيام الشرعي؛ لأن حقيقة الشيء أو حقيقة الكلام تكون بحسب حال الناطق به، فإذا جاء في الشرع فإنه يُحْمَل على المعنى الشرعي، فإذا جاء في كلام أهل اللغة فإنه يحمل على المعنى اللغوي.
ولكن يُعلَم أنه لا ينبغي للإنسان أن يقطع النفل إلا إذا كان هناك مصلحة أو حاجة، مثل أن يقطعه لشيء أفضل منه.
ثم قال الناظم:
.. .. ما لم يقع
حجّا وعمرة فقطعه ممتنع
يعني: أنه إذا كان النفل حجا أو عمرة فإنه لا يجوز قطعه، بل قال العلماء: لو قطعه ورفض الإحرام فإنه لا ينقطع، ويلزمه المضي فيه. واستدلوا بقول الله -تبارك وتعالى-: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }
فلم يجوز الله -تعالى- قطعه إلا في حال الإحصار، وعلى هذا فإذا قطعه الإنسان في غير الإحصار صار قد عمل عملا ليس عليه أمر الله ورسوله، ومن عمل عملا ليس عليه أمر الله ورسوله فإنه رد، أي: مردود على صاحبه.
فيمتنع عليه قطع الحج والعمرة، إلا إذا كان محصرا، يعني: إذا عجز عن الإتمام، إما بعدو منعه الوصول إلى البيت، وإما بكسر أو مرض لا يُرْجَى زواله قريبا، فإنه يتحلل بذلك.
وكذلك إذا وجد مانع يمنعه من إتمامه، ولو كان مُوَقتا، فإنه لا يجوز له التحلل بشرط أن يكون قد اشترط عند الإحرام أنه إن حبسه حابس فمحله حيث حُبِس.
فإن قال قائل: إذا قطع الرجل، الحج ثم قيل له: إن الحج لا ينقطع بنية القطع. فهل عليه شيء، يعني: هل عليه دم؟
فالجواب: لا، لزم عليه على القول الراجح، وقال بعض العلماء: إن عليه دما؛ لأنه انتهك حرمته بكونه نوى قطعه.(6/5)
ولكن القول الراجح إنه ليس عليه دم؛ لأن هذه النية -وهي نية القطع- لم تؤثر فيه شيئا؛ إذ أنه لا ينقطع بنية القطع.
فإن قال قائل: ماذا تقولون في رجل دخل في العمرة في أيام رمضان -مثلا- ثم وجد الزحام شديدا، ثم تحلل ورجع إلى أهله متحللا؟
نقول له: إن هذا التحلل لا تنحل به العمرة، وإن عليه -ولو كان قد سافر إلى بلده- عليه أن يخلع ثيابه -ثياب الحل- ويلبس ثياب الإحرام، ويذهب ويكمل عمرته على الإحرام الأول، لا بإحرام جديد؛ وذلك لأنه لم يتحلل من عمرته، وكونه نوى التحلل لا يؤثر؛ لأن الحج والعمرة لا ينقطعان بقطعهما، ودليل ذلك ما أشرنا إليه قوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم إتمام ما أمرنا به على الوجه الذي يرضى به عنا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والآن إلى الأسئلة، نسأل الله أن نوفق فيها للصواب. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
س: هذا يقول: فضيلة الشيخ، هل من الممكن أن يكون هناك إجماع في هذا الزمان؟ وكيف يكون ذلك؟
ج: الإجماع لا يكون في هذا الزمان إذا كان هناك خلاف سابق؛ لأنه لا إجماع مع خلاف سابق، فإذا اختلفت الأمة على قولين، ثم أجمع المتأخرون على أحد القولين، فإن ذلك لا يعد إجماعا؛ لأن الأقوال لا تموت بموت قائليها، وعلى هذا فلا يُتصور ورود هذا السؤال لعدم إمكانه. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، أصيب ابني بوسوسة عظيمة في الوضوء، فأفتيته بترك الصلاة لمدة شهر، وبعد نهاية الشهر شفي ابني من هذا الوسواس، فهل عليَّ شيء، وهل على ابني قضاء؟(6/6)
ج: حقيقة أن هذه الفتوى غير صحيحة؛ لأنه أفتاه بما هو و(3) عليه وفرض من فروض الإسلام، لكن من رحمة الله به، والظاهر -والله أعلم- أنه على حسن نيته شفى الله ابنه من الوسواس. والواجب أن ينصح هذا الابن، ويقال: دع الوسواس. ويقف الإنسان عنده عند الوضوء، حتى إذا أتم الثلاث قال له: قف. وهذا -وإن كان فيه مشقة، لكن للعلاج، والإنسان قد يثاب بعمل لا يختاره. وعلى هذا الوالد أن يتوب إلى الله -تعالى- مما أفتاه به، وأن لا يعود لمثله، وألا يقدم على الفتوى إلا بعلم؛ لأن الإقدام على الفتوى بلا علم أمره خطير، فإنه يكون المفتي ممن افترى على الله الكذب، وقال على الله ما لا يعلم، وقد قال الله U { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } وقال تعالى: { إِن الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) } وقال: { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ } فعلى هذا الأب أن يتوب إلى الله، أما بالنسبة لقضاء ما فات ابنه من الصلوات في الشهر فالاحتياط أن يعيد. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، من فسد حجه ثم مضى فيه، فهل عليه القضاء في العام القادم؟ وما الحكمة في مضيه في حجه مع فساده؟(6/7)
ج: إذا أفسد حجه فعليه أن يمضي فيه اتفاقا، ويكمله استنادا إلى ما روي عن الصحابة -رضي الله عنهم-، وتعزيرا له وعقوبة؛ لأن الحج أمره عظيم، فلو تساهل الناس فيه -مع كونه لا يأتي إلا بمشقة في الغالب؛ لأنه يحتاج إلى سفر، وإلى تعب وعناء- لتلاعب الناس في ذلك. الحكمة في وجوب المضي أنه من باب التعزير، أما من جهة وجوب القضاء فلأنه حين أحرم فرض على نفسه هذا النسك، لقوله تعالى: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } ولقوله تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) } فلهذا ألزمناه بأن يقضي الحج والعمرة، حتى وإن كانا نفلا. نعم. لكن الشيخ قال: يلزمه أن يعيده في العام القادم، إي نعم، يلزمه أن يعيده في العالم القادم؛ لأن هذا الذي فسد لا يقطع الفريضة، وكما ذكرنا إنه إنما ألزمناه بالمضي فيه تعزيزا له، وألزمناه بالقضاء؛ لأنه هو الذي أفسده. ولذلك لو أن الإنسان أحرم بالحج، ثم حصر عن إتمامه، عجزه -بعدو أو غير عدو على القول الراجح- فإنه يتحلل، ولا يلزمه الحج في العام القادم، إلا إذا كان الحج الذي حصر فيه هو الفريضة، فإنه يلزمه أن يقضي الفريضة. ولهذا لما حُصر النبي r في الحديبية لم يلزم كل من أحرم وحُصِر أن يعيد العمرة، وتسميتها عمرة القضاء، يعني العمرة الثانية التي جاءت في العالم الثاني من باب المقاضاة، وليست من باب القضاء الذي هو قضاء العبادة.
س: وهذا يقول: أنا شاب أستطيع الزواج، لكن والدتي تمنعني بحجة إنهاء الدراسة، والدراسة تستغرق عدة سنوات، فهل يجوز لي أن أتزوج من غير إذنها؟(6/8)
ج: نعم، إذا كنت مستطيعا فتزوج، ولو منعك الأم أو الأب؛ لأنك إذا تزوجت فقد امتثلت لأمر النبي r حيث قال: " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج " ومعلوم أن طاعة رسول الله r أولى من طاعة الأم والأب، فإذا كنت قادرا فتوكل على الله وتزوج، إن رضيت أمك فهذا المطلوب، وإن لم ترضَ فسترضى -إن شاء الله-؛ لأنك إذا التمست رضا الله لسخط الناس رَضِيَ الله عنك، وأرضى عنك الناس، وكفاك المئونة. نعم
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، أحسن الله إليكم، فإني شاب أطلب العلم ولله الحمد، وأحرص على إخلاص النية لله بقدر المستطاع، ولكن ينتابني شعور بأني لا أخلص لله U مع أني أستغفر الله ليلا ونهارا، وأدعوه أن يوفقني للإخلاص، والآن ينتابني خوف من هذا الأمر، وجهوني -جزاكم الله خيرا ؟
ج: أقول: لا تخف، لا تخف يا أخي؛ فإن هذا من وساوس الشيطان، والشيطان -كما قال ربنا عز وجل-: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } الشيطان يأتي الحريص على الطاعة من هذا الباب، يقول: أنت إنما صليت رياء، إنما طلبت العلم رياء، إنما طلبت العلم للراتب، إنما طلبت العلم للمرتبة. ويفسد عليه عبادته بمثل هذه التقديرات، فليستعذ بالله، ولينتهِ، ولا يضره ذلك شيئا. ويأتي الشيطان للشخص المتهاون فيثبطه عن الطاعة، ويقول: لا تفعل هذه الطاعة، هذه سهلة، هذه نفل، افعل الطاعة في وقت آخر، أو يهون عليه الذنب ويقول: إن الله غفور رحيم، ورحمته سبقت غضبه، وما أشبه ذلك. فهذه من الوساوس الشيطانية التي يجب على الإنسان أن يكف عنها، وأن يستعذ بالله من الشيطان الرجيم. وقد شكا الصحابة -رضي الله عنهم- إلى رسول الله r مثل ذلك، فقال -عليه الصلاة والسلام-: " ذاك صريح الإيمان " وأمر بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والانتهاء عن ذلك. فامض في عبادتك، ولو قال لك الشيطان: إنك مُراءٍ، أو إنك تريد الدنيا، فلا يهمك. نعم.(6/9)
س: وهذا يقول: ما حكم أخذ المال من البنوك الربوية؟ وهل أتركه لهم، أم آخذه وأتلفه، أم أتصدق به؟ وهذه المسألة -قال- يعملها كثير من الناس؟
ج: يقول الله U { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) } فلا يحل للإنسان أن يأخذ الربا؛ لأن الله قال: { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } وقال: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } وأعلن النبي r في خطبته عام حجة الوداع، وهو واقف بعرفة، أعلن أن ربا الجاهلية موضوع، قال: " وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله " وعلى هذا فلا يحل للإنسان أن يأخذ الربا، لا من البنوك، ولا من غيرها، وما أفتى به بعض الناس استحسانا بأنك تأخذ الربا وتتصدق به تخلصا منه، فهذا استحسان في مقابلة النص، فهو مردود على صاحبه. لو كانت هذه الطريق أو هذه الطريقة حسنة محبوبة إلى الله لأرشد الله عباده إليها، ولقال اتقوا الله وخذوا ما بقي من الربا وتصدقوا به، لكنه قال: { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } ليقطع طمع الإنسان وتعلق نفسه به نهائيا. وأي فائدة من أن يلطخ الإنسان صحيفة عمله بقاذورة الربا، ثم يذهب يغسلها ويتخلص منها؟ أي فائدة من هذا ؟! وهل هذا إلا لغو محض، وعبث محض؟ فإن قال قائل: هذا الربا إذا تركته للبنك فقد يستعين به على محرم؟ قلنا: أصل هذا الربا ليس قسط مالك، مالك ربما كان قد خسر حين تعامل به البنك، هذا الربا من مال البنك، وليس من مالك، وربما يكون مالك كسب أضعاف أضعاف ما أعطاك من الربا، وربما خسر مالك كل الخسارة، فليس هذا قسط مالك حتى تقول: والله أنا لا أريد أن أمكنهم من مالي فيعبثوا به. بعض الناس(6/10)
يدعي أنه لو تركت هذه الزيادة في البنك لذهب يعطيها الكنائس، أو يسلح بها أعداء المسلمين؟ ونقول: أولا: هذا غير مؤكد، قد يكون هذا، وقد ينتفع بها البنك لمصالحه الخاصة. ثانيا: لو تأكدنا ذلك، فهل أنا أعطيته شيئا من مالي يعين به الأعداء على المسلمين، أو يعين به الكنائس؟ أبدا، ما أعطيته؛ لأن هذه الزيادة لم تدخل في مالي أصلا، وليست هي ربح مالي. وعلى كل حال، فالاستحسان في مقابلة النص ليس مقبولا، والواجب اتباع النص { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) } نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، هل يثاب المرء على ما يقتدي به من أفعال الرسول r التي فعلها على وجه العادة، كلبس الخاتم، وتطويل الشعر، وغيرها؟(6/11)
ج: يجب أن تعلم أن ما فعله النبي r بمقتضى العادة فإن السنة أن تتبع عادة بلدك إذا لم تكن محرمة، وليست السنة في عين ما فعله الرسول، بل السنة في جنس ما فعله، فإذا كان الرسول r فعل ذلك بمقتضى العادة، فإن السنة أن تفعل ما تقتضيه العادة في زمنك، ما لم تخالف النص. وعلى هذا فلباسنا نحن هنا في نجد والجزيرة عامة هو القميص والسروال، والطاقية والغطرة، والمشلة عند بعض الناس، فإذا لبس الإنسان هذا كانت السنية مثل لباس الرسول -عليه الصلاة والسلام- العمامة والإزار والرداء؛ لأن الرسول فعل ذلك بمقتضى العادة، ونحن فعلنا ذلك -أيضا- بمقتضى العادة، ولأننا لو خالفنا عادتنا إلى ما كان الناس يعتادونه في عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- لكان ذلك شهرة، وقد نُهي عن لباس الشهرة. أما مسألة الخاتم، فالخاتم إنما فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- للحاجة، وهو أنه ختم به، أو نقش عليه: "محمد رسول الله"، وكان يختم على الرسائل التي يبعثها إلى الملوك؛ ليكون ذلك كالتحقيق لكون هذه الرسالة من النبي r . وعلى هذا فنقول: القاضي والأمير والعريف ومن يحتاج إليهم، هؤلاء يلبسون الخاتم؛ لأنهم محتاجون إليه، على أن بعض أهل العلم يقول: إن التختم سنة مطلقا. والذي يظهر لي أن التختم تبع للعادة، فلا يتختم إنسان إلا إذا اعتاد الناس ذلك، إلا ما احتيج إليه؛ فإن السنة أن يتختم من أجل هذه الحاجة. نعم. ليكن هذا آخر سؤال، الآخر يا شيخ ، نعم ، جزاك الله خيرا .
س: هذا يقول: فضيلة الشيخ، جدتي أم والدتي أرضعتني ليلة ولادتي من بعد المغرب إلى الصباح، ولكنها لا تعلم كم عدد الرضعات؛ إذ مضى على ذلك الوقت ما يقارب العشرين عاما، وأريد الزواج من بنت عمي، التي والدتي ووالدتها أختان من الأب، فهل يحل لي أن أتزوجها، أفتوني مأجورين؟(6/12)
ج: لك أن تتزوجها؛ وذلك لأن الرضاع المحرم ما كان خمس رضعات فأكثر، ولا بد من العلم بذلك، لحديث عائشة: " خمس رضعات معلومات " فمع الجهل لا أثر لمثل هذا الرضاع، لكن إذا غلب على الظن أنها قد أرضعتك خمس رضعات، فلا تتزوج بنت عمك أو بنت عمتك؛ لأنك تكون أخا لأمها أو لأبيها.. نعم.
حكم المكره والناسي
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد،
قال الناظم -حفظه الله تعالى ورفع درجته-:
والإثم والضمان يسقطان
إن كان ذا في حق مولانا
وكل متلف فمضمون إذا
ويضمن المثلي بالمثل وما
وكل ما يحصل مما قد أُذِن
وما على المحسن من سبيل
بالجهل والإكراه والنسيان
ولا تسقط ضمانا في حقوق للملا
لم يكن الإتلاف من دفع الأذى
ليس بمثلي بما قد قُوِّمَا
فليس مضمونا وعكسه ضُمِن
وعكسه الظالم فاسمع قيلي
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فهذا هو الدرس التاسع من دروس حلقات العلم، التي أقيمت في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية بحي سلطانة بالرياض، في دورة إجازة عام سبعة عشر وأربعمائة وألف.
وهذا هو اليوم، الأربعاء الثالث عشر من شهر ربيع الأول، سنة سبع عشر وأربعمائة وألف، وهو الدرس الأخير في هذا العام.
س: وقبل البدء في الدرس الجديد نود أن نناقش فيما مضى من الدرس الذي قبله، حيث ذكرنا فائدة مهمة ينبني عليها، أو هي ميزان الأعمال الباطنة، فما هي هذه القاعدة التي ذكرناها؟
ج: نعم، القاعدة هي: " إنما الأعمال بالنيات " القاعدة أن يقدم على كل عمل بنيته.
طيب، دليل هذه القاعدة ؟ قول النبي r " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " .
إن العلماء ذكروا -رحمهم الله- أن هناك ميزانين: أحدهما ميزان للأعمال الباطنة، والثاني للأعمال الظاهرة، فما هما؟(6/13)
حديث ميزان الأعمال الباطنة هو حديث: " إنما الأعمال بالنيات " .
وحديث ميزان الأعمال الظاهرة حديث: " من أحدث في أمرنا هذا، أو من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
واللفظ الثاني " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " .
س: طيب، ماذا نقول في رجل قال: زوجاتي طوالق. ونوى اثنتين من أربع، هل نعتبر لفظه، ونقول: كل الأربع طلقن، أم نعتبر بنيته؟
ج: يعتبر بنيته.
س: بنية من؟
ج: بنية الزوج المطلق، ما يطلق من نسائه الأربع؟ ما نوى إلا اثنتين فقط. أحسنت.
س: طيب، ما مناسبة الشطر الثاني للشطر الأول بقوله:
.. .. .. ..
واسدد على المحتال باب حيلته؟
؟
ج: المناسبة أنه يعتبر عمل بنيته؛ لأنه نوى الحيلة، ولم ينوِ العمل الشرعي. يعني: معنى ذلك المحتال ينوي المحرم، لكن يتحيل عليه بصورة شيء مباح، فنقول: العبرة بنيته لا بصورة الفعل.
س: طيب، نريد مثالا يبين ذلك؟
ج: مثل أن يوقف الشريك الشق المباع حتى يمنع الشفعة عن شريكه، أن يوقف المشتري الشق الذي اشتراه ليمنع الشريك من الشفعة.
س: طيب، في النكاح؟
ج: مثال ذلك: التحايل على تحليل المرأة التي طلقت ثلاثا. المعروف بنكاح التحليل ؟ أي نعم.
س: طيب، لو وقع نكاح التحليل، لو أن رجلا تزوج امرأة مطلقة ثلاثا ليحلها للزوج الأول، فهل تحل للزوج الأول؟
ج: إذا كان قصده التحايل فيسد عليه باب حيلته. نعم يا شيخ، ليحلها للزوج الأول، هل تحل له ؟ لا تحل له يا شيخ. لا تحل، أي نعم؛ لأن النكاح الثاني وقع حيلة، لا قصدا.
أحسنت.
س: حكم المضي في العبادة الفاسدة، هل هو جائز أم لا؟
ج: يحرم المضي فيه.
أحسنت.
س: التعليل؟
ج: لأن المضي فيها مع أنها فاسدة فيها محادة الله U ورسوله؛ لأن المضي فيها مع فسادها محادة لله ورسوله. نعم.
س: وهل أبطل النبي -عليه الصلاة والسلام- شيئا فاسدا بعد أن عُقد؟(6/14)
ج: المثال على ذلك: عندما أتى الصحابي t بتمر جيد، فأخبر هذا الصحابي أنه يأخذ الصاع بالصاعين، فأمر الرسول r وقال: ردوه.
س: هذا في العقود؟
ج: أي نعم يا شيخ ، في الشروط، نعم يا شيخ، في الشروط، في العبادات رجل يصلي.. الرسول أبطل -عليه الصلاة والسلام- شرطا فاسدا، ليس عقدا، شرطا فاسدا. أي نعم يا شيخ.
س: ما هو؟
ج: نعم يا شيخ.
س: ما هو الحديث الذي فيه أن النبي r أبطل شرطا فاسدا؟
ج: قال الرسول r " المسلمون على شروطهم " .
" إنما الولاء لمن أعتق " .
حديث: " إنما الولاء لمن أعتق " .
س: وأيش قصته؟
ج: أن أناسا قالوا لعائشة -رضي الله عنها-: لنا الولاء إذا اشتروا بريرة -رضي الله عنها- فقال الرسول -عليه الصلاة والسلام- فأخبر أن الشروط باطلة.. الولاء لمن أعتق نعم.
أي نعم يا شيخ.
يقول: بريرة كاتبت أهلها على تسع أواق من الفضة، فقالت عائشة: إن أحبوا أن أعدها لهم ولي الولاء. فقالوا: لا، الولاء لنا. فأبطل النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الشرط بعد أن شُرط، وقال: قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق.
س: طيب، رجل باع ثمرة نخلة قبل بُدُو صلاحها، وقبض الثمن، وسلم النخلة للمشتري، فما الحكم؟
ج: أعد السؤال يا شيخ.
س: رجل اشترى ثمرة نخلة قبل بدو صلاحها، يعني: نخلة ما بعد صار فيها لون، اشتراها وقبض النخلة، وسلم الثمن للبائع، ما حكم هذا البيع؟
ج: هذا البيع باطل؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- نهى عن بيع الثمرة حتى تحمر أو تصفر.
س: طيب، الآن ماذا يجب؟
ج: يجب أن ترد السلعة، ويرد الثمن، يجب أن ترد النخلة لصاحبها، أي نعم. ويسترد منه الثمن، أي نعم. تمام، أي نعم. يا شيخ من الذي يُستثنى من هذه القاعدة، وهي: "أن المضي في الفاسد حرام".
السؤال يا شيخ ما هو؟
س: الذي يستثنى من هذه القاعدة وهي: "أن كل فاسد يحرم المضي فيه"؟
ج: يُستثنى من ذلك الحج والعمرة، يعني: الحج والعمرة يمضي في فسادها؟
ج: نعم.(6/15)
س: الدليل؟
ج: قول الله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } حتى الصلاة أمرنا بقضائها وإتمامها، " وما فاتكم فأتموا " ومع ذلك لو فسدت حرم المضي.
الدليل في الحقيقة آثار وردت عن الصحابة، فأخذ بها الفقهاء، عرفت.
س: طيب، هل يجوز قطع النفل بعد الشروع فيه؟
ج: يجوز قطعه، يجوز قطع النفل بعد الشروع فيه؟ أي نعم يا شيخ.
س: الدليل؟
ج: " أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- دخل على أهله ذات يوم، فقالوا: أُهدي إلينا حيس. فقال: إني صائم. فأكل منه -عليه الصلاة والسلام- " .
س: نعم صحيح، فلأن النفل لا يجب التزامه فلا يجب إتمامه، هل يُستثنى من هذا شيء؟ يعني: هل يُستثنى من قولنا: النفل لا يلزم المضي فيه؟
ج: أي نعم يا شيخ.
س: ما هو؟
ج: الحج والعمرة، إذا الإنسان حج واعتمر تطوعا فإنه يلزمه الإتمام. يلزمه الإتمام.
ج: نعم.
س: الدليل؟
ج: الدليل قول الله -سبحانه وتعالى-: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } والآثار التي وردت عن الصحابة.
لأن هذه الآية نزلت قبل أن يفرض الحج والعمرة، واضح؟ أقول: هذه الآية نزلت قبل أن يفرض الحج والعمرة؟
أي نعم يا شيخ.
الآن نبدأ الدرس الجديد، يقول الناظم:
والإثم والضمان يسقطان
بالجهل والإكراه والنسيان
"الإثم": يعني العقوبة، و"الضمان": يعني رد الشيء التالف. "يسقطان" أي: عن الفاعل. "بالجهل والإكراه والنسيان": هذه ثلاثة أشياء تسقط عن المكلف الإثم والضمان إذا كان حين الفعل متصفا بها.
أما الجهل فإنه عدم العلم، وأما الإكراه فهو الإلجاء إلى الشيء، بحيث يفعله الإنسان غير مختار له، وأما النسيان فهو ذهول القلب عن شيء كان معلوما، يعني: أن يعلم الشيء، ثم يذهل عنه.
هذه أمور ثلاثة، متى اتصف بها الفاعل سقط عنه إثم الفعل وضمان المتلف.
دليل ذلك قوله الله -تبارك وتعالى-: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال الله: قد فعلت.(6/16)
وقول الله تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }
وقوله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ َOكgs9r عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) }
فقوله: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ } أسقط حكم الكفر على الإكراه، والكفر أعظم الذنب، فالكفر أعظم الذنوب، فإذا سقط حكم الكفر بالإكراه فما دونه من الذنوب من باب أولى.
وقد روي عن النبي r أنه قال: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكْرِهُوا عليه " .
مثال ذلك: الجهل، صائم أكل سحوره، يظن أن الفجر لم يطلع، فإذا بالفجر قد طلع، فأمسك، فصيامه صحيح؛ لأنه جاهل، لم يعلم أن الفجر قد طلع.
ومثال آخر: صائم ظن أن الشمس قد غربت؛ لأن السماء مغيمة، فأفطر، فإذا بالشمس تبين من وراء الغمائم، فأمسك، فصومه صحيح؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
وفي قوله: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }
وقد ثبت في صحيح البخاري " عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي r ثم طلعت الشمس " ولم تذكر أنهم أُمروا بالقضاء، ولو كان القضاء واجبا لأمرهم بذلك النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولو أمرهم لنُقِلَ إلينا؛ لأنه إذا أمرهم به كان من الشريعة، وحفظ الشريعة من حفظ القرآن، وقد قال الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }(6/17)
ولا فرق في الجهل بين الجاهل بالحكم والجاهل بالوصف، فلو أن إنسانا احتجم وهو صائم، ولم يعلم أن الحجامة تفسد الصوم، فإن صومه صحيح لعموم قوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
ولحديث عدي بن حاتم t أنه صام، فجعل يتسحر، وقد وضع عقالين أسود وأبيض تحت وسادته، فجعل ينظر إليهما، ولم يزل يأكل حتى تبين العقال الأبيض من الأسود، فلما أخبر النبي r قال: " إن ذلك بياض النهار وسواد الليل " ولم يأمره r بالإعادة؛ لأنه كان جاهلا بالحكم . إذا نزل الآية على غير مرادها.
كذلك في النسيان: لو أن إنسانا كان صائما، فأكل أو شرب ناسيا أنه صائم، فإن صومه صحيح، لعموم قوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
ولقوله r في خصوص الصيام: " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه " .
وكذلك في الإكراه، لو أُكْرِه الصائم على أن يأكل أو يشرب، فأكل أو شرب دفعا للإكراه، فإن صومه صحيح لما ذكرنا من العذر بالإكراه على الكفر، فإن ما دونه من باب أولى.
ومن ذلك: أن يكره الرجل زوجته على الجماع وهي صائمة، فإنها لا تفطر بذلك، ولا يبطل صومها؛ لأنها مكرهة.
ومن ذلك: لو أن الإنسان أُغْمِي عليه وهو صائم، فصبوا في حلقه ماء ليصحو، فإنه لا يفطر بذلك؛ لأنه غير مدرك. ومن العلماء من قال: إن كان يأذن بذلك عادة فإنه يفطر وإلا فلا.
ومما يدخل في ذلك أيضا: لو أن المحرم قتل أرنبا، وهو يجهل أن قتل الأرنب حرام في الإحرام، فإنه لا إثم عليه ولا ضمان.
ومن ذلك أيضا: لو أن المحرم دهس بسيارته أرنبا، أو ضبا، أو حمامة، من غير أن يشعر بها، فليس عليه ضمان، كما أنه ليس عليه إثم لقوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } ولقوله -تعالى- في خصوص الصيد: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ }(6/18)
ولقوله -تعالى- في خصوص الصيد: { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ }
فقيَّد ذلك -أي: قيد وجوب الجزاء- بما إذا كان متعمدا، فدل هذا على أنه إذا لم يكن متعمدا فليس عليه جزاء.
ثم قال الناظم:
إن كان ذا في حق مولانا
.. .. .. ..
"كان ذا": يعني فعل الشيء جهلا، أو إكراها، أو نسيانا.
"في حق مولانا": يعني فإنه يسقط الإثم والضمان.
وأما إن كان في حق المخلوق فقال:
.. .. .. .. .. .. .. ..
ولا تسقط ضمانا في حقوق للملا
يعني: إذا كان الإتلاف في حق من حقوق الملا، أو الاعتداء في حق شخص، فلا تسقط الضمان، لا تسقط الضمان في حقه، ولكن الإثم ساقط، مثاله: رجل أكل طعام غيره، يظن أنه طعامه، فليس عليه إثم؛ لأنه جاهل، ولكن عليه ضمان الطعام لصاحبه.
فالفرق بين ما إذا كان المتلف حقا لله U أو كان حقا للمخلوق، أن حق الله -تعالى- قد أعلمنا بأنه عفا عنه { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فقال الله تعالى: قد فعلت.
ولأن حق الله مبني على المسامحة والفضل، فكان الفاعل معذورا بالجهل والنسيان والإكراه، وغير ضامن.
أما حق المخلوق فإنه مبني على المشاحة، فلذلك نوفيه حقه كاملا، حتى وإن كان الفاعل معذورا.
ولو أُكْرِه الإنسان على إفساد مال غيره، فأفسده، فإنه لا إثم عليه، ولكن عليه الضمان لصاحبه؛ لأن حق المخلوق لا يسقط، فعليه الضمان.
ولهذا قال العلماء: لو أن إنسانا أُكْرِه على قتل إنسان فإنه لا يقتله، حتى لو هدد بالقتل، وقال له المكره: إما أن تقتل فلانا وإلا قتلتك. فإنه لا يجوز أن يقدم على قتل فلان؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يهلك حيا من أجل استبقاء نفسه، فليصبر على القتل، ولا يقتل مؤمنا.
على أن المهدد له بالقتل قد لا يقصد إذا لم يقتل من أكره على قتله، ولكنه قال ذلك تهديدا، وليس لديه القدرة على تنفيذه.(6/19)
والخلاصة: أنه إذا وقع الفعل جهلا أو نسيانا أو إكراها، فإنه لا إثم فيه ولا ضمان فيما يتعلق بحق الله U أما في حق المخلوق فإنه لا إثم فه أيضا، إذا وقع عن جهل أو إكراه، ولكن فيه الضمان، يضمنه لصاحبه، ما لم يبرئه منه، فإن أبرأه منه -وهو ممن يصح تبرؤه- سقط عنه أيضا.
ضمان المتلف:
ثم قال الناظم:
وكل متلف فمضمون إذا
أو يك مأذونا به من مالك
لم يكن الإتلاف من دفع الأذى
أو ربط ما بالملك خير مالك
هذا البيت الأخير لم أسمعه في قراءة القارئ؛ لأنه عندي ملحق.
يريد الناظم أن كل متلف فمضمون على متلفه، أيا كان هذا المتلف، إن كان آدميا فمضمون، وإن كان مالا فمضمون، كل متلف فإنه مضمون، إلا إذا كان الإتلاف من دفع الأذى، يعني: من دفع هذا المتلف، فإنه لا ضمان فيه.
مثال ذلك: رجل محرم بحج أو عمرة، فصال عليه ضبع، والضبع من الصيد، لا يحل للمحرم قتله، فحاول دفعه، ولكنه لم يندفع، فله قتله حينئذ؛ لأن ذلك لدفع الأذى، ولا ضمان عليه في هذه الحال؛ لأنه فعل فعلا مأذونا فيه من قبل الله -عز وجل.
ومثال آخر: لو صال إنسان على شخص يريد أخذ ماله، ولم يندفع إلا بالقتل، فله قتله؛ لأنه ثبت عن النبي r " أن رجلا سأله فيمن طلع عليه يريد أخذ ماله، فقال النبي r لا تعطه. قال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلني. قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار " .
فأباح النبي r قتل من صال على الشخص ليأخذ ماله، ولكن يجب أن تدافعه بالأسهل فالأسهل، فإذا لم يندفع إلا بالقتل فاقتله، وإن خفت أن يبادرك بالقتل، وأنك لو حاولت أن تدفعه بما دون القتل قتلك، فلك أن تبادره بالقتل إذا علمت أن الرجل سوف يقتلك حينما تحاول أن تدافعه بالتي هي أحسن.(6/20)
فإن قال قائل: ألا يعارض هذه القاعدة ما ذكره الله -تعالى- في فدية الأذى حيث قال: { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }
فقد أوجب الله على من حلق رأسه لدفع الأذى أن يفدي بصيام أو صدقة، قلنا: هذا لا يعارض القاعدة؛ لأنه هنا أتلف الشعر، لا لأذى الشعر، ولكن لدفع الأذى من غيره به.
فالأذى كان من القمل كما جاء ذلك في حديث كعب بن عجرة t والقمل مع الشعر ينمو ويزداد، فإذا حُلِقَ الشعر زال.
فحلق الشعر هنا إنما هو من أجل دفع الأذى بحلقه، وقد أشار ابن رجب -رحمه الله- إلى هذه القاعدة بقوله: "من أتلف شيئا لدفع أذاه لم يضمن، ومن أتلفه لدفع أذاه به ضمنه".
يقول الناظم فيما استثنى من هذه القاعدة، وهو ما إذا كان الإتلاف لدفع الأذى، يقول:
أو يك مأذونا به من مالك
.. .. .. ..
يعني: أو يكون الشيء المتلف مأذونا به من المالك فإنه لا ضمان فيه، فلو أذن لك شخص في أن تذبح شاته فذبحتها، فإنه لا ضمان عليك؛ لأنه هو الذي أذن لك في هذا الذبح، وعلى هذا فلا ضمان عليك.
كذلك لو كان الأمر مأذونا به من قبل الله U لو كان الإتلاف مأذونا به من جهة الله U فإنه لا ضمان له.
مثاله: رجل وجد آلة لهو يستعملها صاحبها، فكسرها، فإنه لا ضمان عليه؛ لأن تكسيرها مأذون به شرعا، ولكن نحن نقول: هذا من جهة الضمان، أما هل يكسرها إذا رآها مع صاحبها؟
هذا فيه تفصيل؛ إن كان للإنسان سلطة وقدرة على تكسيرها بدون مضرة أكبر وجب عليه أن يكسرها، وإن لم يكن له سلطة في ذلك، أو كان يترتب على تكسيرها مفسدة ومضرة أعظم، فإنه لا يكسرها؛ لقول النبي r " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه " .
والخلاصة: أن كل متلف مضمون إلا في حالين، بل في ثلاث حالات:(6/21)
الحال الأولى: إذا أُتْلِف لدفع أذاه، فإنه لا ضمان عليه.
والثانية: إذا أتلف بإذن من مالك، فإنه لا ضمان له عليه.
والثالثة: إذا أتلف بإذن من الله U فإنه لا ضمان عليه.
ثم بين الناظم قاعدة حول ما يكون فيه الضمان، فقال:
وكل ما يحصل مما قد أذن
فليس مضمونا وعكسه ضمن
يعني: أن كل ما أذن به شرعا فإنه لا ضمان فيه، وكذلك ما أدري من المالك، فإنه لا ضمان فيه، ولهذا قال العلماء في هذه القاعدة: ما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
وعكسه ما ترتب على ما غير المأذون فيه فإنه مضمون، ولهذا قال: "وعكسه ضمن"، ثم علل ذلك بعلة هي كالدليل، فقال:
وما على المحسن من سبيل
وعكسه الظالم فاسمع قيلي
هذا مأخوذ من قول الله -تبارك وتعالى-: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }
فكل محسن فإنه لا سبيل عليه، والظالم هو الذي عليه السبيل، لقوله تعالى: { فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) }
ومثل العلماء -رحمهم الله- لهذه القاعدة برجل جنى على شخص، فقطع إصبعه، ثم إن الجرح سرى إلى اليد، ثم إلى البدن، ثم مات من الجروح، فإن الجارح يضمن نفسا كاملة، ولا يقف ضمانه على الإصبع الذي قطعه؛ لأن قطعه للإصبع غير مأذون فيه، وما ترتب على غير مأذون فهو مضمون.
والمثال الثاني فيما ترتب على مأذون: لو أن المُعْتَدَى عليه -الذي قُطع إصبعه وبرئ- قطع إصبع المعتدي الظالم بالقصاص، ثم تآكل جرح الجاني، فسرى إلى اليد، ثم إلى البدن، ومات الجاني، فإنه لا ضمان على المجني عليه؛ وذلك لأنه قطع إصبع الجاني بحق، وبإذن من الشارع، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
وهذه قاعدة مفيدة، تفيدك في الجنايات، وفي غيرها.
كيفية الضمان:
ثم بين كيفية الضمان، فقال:
ويضمن المثلي بالمثل وما
ليس بمثلي بما قد قُوِّمَ(6/22)
يعني: إذا أردت أن تضمن شخصا، فضمنه المثلي بمثله، والمتقوم بقيمته، فما هو المثلي؟ القول الراجح في المثلي أنه ما كان له مثيل ونظير، هذا المثلي -سواء كان فيه اصطناع أم لم يكن فيه اصطناع، وسواء كان مطبوخا فيما يطبخ أو لا- المهم أن المثلي ما كان له مثيل أو نظير.
فمثلا: إذا أكل إنسان خبزة شخص، فعلى الآكل أن يضمن لصاحبها خبزة مثلها؛ لأن الخبز متماثل، وإذا كسر فنجان إنسان فإن عليه أن يضمنه بفنجان مثله، وإذا أتلف له صاع بر وجب عليه صاع بر، وهلم جرا.
وإذا أتلف له شاة وجب عليه أن يشتري له شاة مثلها، فيضمنها بمثلها.
فالمثلي -على القول الراجح- كل ما له مثيل ونظير، وأما على المشهور عند فقهائنا -رحمهم الله- فيقولون: المثلي كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه، وليس فيه صناعة مباحة، وهذا تضييق كبير في تفسير المثلي.
أما التقوم فما لا يمكن أن يوجد له مثيل، كشاة حامل، رجل أتلف لإنسان شاة حامل، فهنا تتعذر المماثلة؛ لأن ما في بطنها مجهول، لا يُعلم أواحد أم متعدد؟ أذكر أم أنثى؟ أيخرج حيا أم يخرج ميتا؟ فيه جهالة.
وعلى هذا فإذا أتلف شاة إنسان حاملا قُوِّمَتْ بما تساوي القيمة، ودفع لصاحبها نفس القيمة التي قومت بها؛ لأنها غير مثلية .
وإلى هنا ينتهي هذا الدرس، وهو آخر درس في هذه الإجازة والدورة المباركة .
نسأل الله -تعالى- أن يعيدنا جميعا إعادة خير، وأن يرزقنا علما نافعا، وعملا صالحا متقبلا، ورزقا طيبا واسعا يغنينا به عن غيره، ولا يغنينا به عنه.
وإنني بهذه المناسبة أود أن أوجه نصيحة إلى إخواننا بالإخلاص لله U في جميع أعمالهم، والحرص الشديد على تطبيق السنة مهما أمكن، وإرشاد الناس إليها بالقول والعمل، والحرص على ائتلاف القلوب، وإصلاح ذات البين، والتعاون على البر والتقوى، وألا يحمل أحد على أخيه حقدا ولا عداوة ولا بغضاء.(6/23)
وأن يحمل ما صدر منه من قول أو فعل على أحسن منه، وأن يحاول بقدر ما يمكن ألا يحمل في قلبه غلا لأحد من المؤمنين حتى يكون ممن قال الله فيهم: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) }
أسأل الله -تعالى- أن يجعل مستقبل أمرنا خيرا من ماضيه، وأن يختم لنا جميعا بما يرضيه، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والآن إلى الأسئلة فيما تبقى من المدة…..
أحسن الله إليكم.
س: فضيلة الشيخ، هذا يقول: رزقت بأولاد، الأول مريض عقليا، وعندما ذهبت به إلى الكهنة أخبروني بأن فيه جن..
أعد، أعد.
يقول: رزقت بأولاد، الأول مريض عقليا، وعندما ذهبت به إلى الكهنة أخبروني بأن فيه جن، وأعطوني حرزا تلبسه المرأة، وعندما تلبسه يأتيني أولاد أصحاء، وعندما يضيع الحرز تأتي المرأة بأولاد مريضين، وهكذا تكررت العملية، حتى أن معي الآن ثلاثة أولاد أصحاء، وثلاثة غير أصحاء، فما الحكم في ذلك ؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: أقول: إنه لا ينبغي أن نلجأ إلى هؤلاء المشعوذين الذين يبتزون أموال الناس بغير حق، وكثير من هؤلاء المشعوذين يدعون ما ليس في الواقع، فيوقعون الأوهام في الناس، ولهذا أصبح الآن كثير من الناس إذا أصيبوا بالمرض -ولو كان مرضا معتادا، أصابهم أو أصاب غيرهم- ذهبوا إلى هؤلاء المشعوذين، فأملوا عليهم أن فيهم سحرا، أو أنهم مصابون بالعين، أو أن فيهم مسا من الجن.
والذي ينبغي للإنسان أن يدع هذه الأوهام، وأن يكرر اللجوء إلى الله U ودعاءه بالعافية، وأن يعتمد على ربه -سبحانه وتعالى-، ومن تعلق بالله كفاه الله U .(6/24)
فأقول: لا تستعمل المرأة شيئا من هذا، ولتعتمد على ربها U وسوف يكون الله -تعالى- عند ظنها به -تبارك وتعالى-.
س: وهذا يقول: لي أخ لا يصلي في المسجد، وعنده في بيته دش، فهل لي أن أهجره ؟
ج: المسلم لا يخرج من الإيمان بالمعاصي التي دون الكفر، ولو عظمت.
وإذا كان لا يخرج من المعاصي التي دون الكفر ولو عظمت، فإنه لا يجوز هجره؛ لقول النبي r " لا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " .
ولكن إذا كان في الهجر مصلحة فليُهْجَر طلبا لهذه المصلحة، يعني: لو كان هذا العاصي إذا هُجِرَ ارتدع، وتاب إلى الله من معصيته، فإنه يهجر؛ لأن هذا مثل الدواء له، وانظر إلى حال الثلاثة الذين هجرهم النبي r وأمر الناس بهجرهم، وقد تخلفوا عن غزوة تبوك، فانظر إلى حالهم لما هُجِرُوا كيف أيقنوا بأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فتاب الله عليهم، وألف القلوب عليهم.
فالحاصل أن نقول للأخ السائل: لا تهجر أخاك من أجل تخلفه عن صلاة الجماعة أحيانا، وتركيبه للدش بمنزله إلا إذا كان في ذلك مصلحة.
والغالب أنه لا مصلحة في ذلك، أي: في هجره، فاذهب إليه وانصحه، وكرر النصح، ولا تيأس، فكم من إنسان كان بعيدا فقربه الله، وكان عاصيا فهداه الله. نعم
س: وهذا يقول: هل يجب إجابة الذي يسأل بالله، وإذا كان في سؤاله حرج عليّ، أو ليس من المصلحة أن أجيبه، فهل يجب عليّ إجابته؟
ج: أولا: نحن نخاطب الذي يسأل بالله، فنقول: لا يحل لك أن تسأل عباد الله بالله، فتلجئهم إلى ما لا يريدون؛ فإن هذا منك عدوان عليهم، والله -تعالى- لا يحب المعتدين.
ونقول للمسئول: إذا كان في إجابته في الواقع ضرر عليك أو على غيرك، فلا تجبه، وإن أجبته فتأول، تأول.(6/25)
مثاله: لو قال شخص: أسألك بالله أن تخبرني كيف معاملتك مع أهلك. هذا حرام عليه أن يسأل هذا السؤال، إلا إذا أراد المعاملة التي يُقْتَدَى بك فيها، فهذا شيء آخر، فإذا كان عليك ضرر في هذا فإنك تتأول، تنوي خلاف ما هو ظاهر له، وفي التأويل مندوحة عن الكذب.
والمهم أنه لا يلزمك أن تجيبه إذا سألك بالله في أمر يكون عليك فيه مضرة، أو كشف لسر، أو ما أشبه ذلك، وهو يحرم عليه الأسئلة هذه.
وهذا آخر سؤال؛ لأن الوقت انتهى، ونسأل الله -تعالى- أن يوفقنا جميعا إلى الخير والصلاح.
عقود المعاوضة
قال الناظم غفر الله له ورفع درجته:
ثم العقود إن تكن معاوضة
وإن تكن تبرعًا أو توثقة
لأن ذي إن حصلت فمغنم
فحررنها ودع المخاطرة
فأمرها أخف فادر التفرقة
وإن تفت فليس فيها مغرم
O .
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
في هذه الأبيات الإشارة إلى ضوابط المعاملات، التي يجب فيها تحريم، وعدم الجهالة والغرر.
وقد قسم المؤلف -رحمه الله ووفقه- العقود إلى قسمين: عقود معاوضة، هذه لها ثلاثة أقسام: عقود معاوضة، وعقود تبرؤ، وعقود توثقة.
فأما عقود المعاوضة، قال:
ثم العقود إن تكن معاوضة
فحررنها ودع المخاطرة
عقود المعاوضة: هي التي يكون فيها عوض من الطرفين. كذلك أيضا عقود البيع، عقد البيع فيه معاوضة من الطرفين، وكل عقد فيه معاوضة، فإنه مقيم مبني على المشاحة، أي أن كل واحد منهم يريد أن يأخذ حقه كاملاً، ولا يتنازل فيه لأحد، مثال ذلك: البيع.(6/26)
البيع عقد معاوضة، يبذل فيه المشتري الثمن بمقابلة سلعة، ويريد أن يكون الثمن قيمة بقدر السلعة، بحيث لا يزيد عليه، والبائع كذلك، يريد أن يبذل في سلعته ما يكون بقدر قيمتها أو أكثر؛ ولهذا قد جعل الشارع لكل من المتبايعين خيار ما داما في المجلس، زيادةً في التروي والتثبت، لأن الإنسان إذا كانت السلعة عند غيره، تكون رغبته فيها شديدة، فإذا حصلت له وجاءت له، نزلت في نفسه فربما يندم؛ لذلك جعل الشرع الحكيم للمتبايعين خيار، ما داما في المجلس.
وقد أشار النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى وجوب تحرير البيع، حيث " نهى عن بيع الغرر، ونهى عن بيع حبل الحبلة، ونهى عن بيع الحصاة " وكذلك روي عنه أنه " نهى عن بيع السمك في الماء، والطير في الهواء ... " وما أشبه ذلك.
وبناء على ذلك، لا يصح البيع إذا كان الثمن مجهولاً للطرفين؛ لما في ذلك من الغرر، ولأن المشتري قد يقدر ثمنًا، ويكون الثمن الذي يريده البائع أكثر بكثير، والبائع قد يقدر ثمنًا، ويكون الثمن الذي بذله المشتري أقل بقليل.
واختلف العلماء -رحمهم الله-، هل يجوز البيع بما ينقطع به السعر؟ يعني: أن يقول المشتري للبائع: إذا انقطع السعر فهي عليَّ بما ينقطع به السعر.
كما يقول عوعم+ أخذتها بما تقف عليه+ بالمزايدة.
ومن العلماء من قال: إن هذا لا يجوز؛ لأنه غير معلوم للبائع ولا للمشتري، ولأن المشتري قد يكون في تقديره الثمن أقل بكثير مما انقطع به السعر، وكذلك البائع ربما يكون الثمن في تقديره أكثر بكثير مما انقطع به السعر.(6/27)
ومن العلماء من أجاز ذلك، وقال: "إن النهي عن بيع الغرر، إنما كان خوف الغبن". وما ينقطع به السعر ليس به غبن؛ لأن ما ينقطع به السعر هو قيمة الشيء بين الناس، وحيئنذ لا غبن، ولكن القول بأنه لا يجوز أقرب إلى الصواب؛ لأن ما ينقطع به السعر قد يتولاه شخص ذو حاجة، فيرفع السعر في المزايدة، حتى يصل إلى حد لم يخطر ببال المشتري، وقد يكون الحضور للمزايدة قليلين، فينقص الثمن إلى حد ما كان يقدره البائع، وحينئذ يحصل الندم، عمل الناس اليوم على القول الثاني وهو القول بالجواز.
مثال آخر: لو قال: أبيعه عليك بثمنه عند الناس. يعني: كما يبيعون، وفي هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: "إنه جائز". ومنهم من قال: "إنه ليس بجائز".
وهذا القول أقرب إلى الجواز من ... وهذا القول في هذه المسألة، أقرب إلى الجواز من المسألة التي قبلها؛ لأن القيمة المعتبرة بين أوساط الناس لا يندم عليها أحد؛ حيث إن البائع لن يبيع بأزيد ما تبيع به الناس، وكذلك المشتري.
وعلى هذا فإذا قال الرجل للتاجر: أرسل لي صندوق شاي، أو كيس رز. ولم يذكر الثمن -فإن ذلك لا بأس به، ويقيده عليه، بما هو سعره عند الناس، والعمل على هذا في عرف الناس، لا سيما إذا كان البائع رجلا معتبرا في البيع يثق به الناس.
ومن المخاطرة في البيع: أن يبيعه شيئا ضائعًا، إما شاة ضالة أو بعيرا، وإما عين أخرى ضائعة، فإن بيع ذلك حرام؛ وذلك لأنه غرر قد يحصل للمشتري وقد لا يحصل، ثم إن الغالب أنه يباع بأقل من ثمنه حاضرًا، فإذا كان المشترى منه يساوي حاضرًا مائة، فإنه لن يبلغ المائة إذا كان غائبا، فيكون مثلا بثمانين أو بخمسين، حينئذ إن وجد صار المشتري غانمًا، وإن لم يوجد صار غارمًا، وعكسه البائع: متى كان المشتري غانمًا فالبائع غارمًا، ومتى كان البائع غانمًا فالمشتري غارم، وهذا غرر ونوع من الميسر.(6/28)
ومن هذا "من الغرر": بيع ما في بطون البهائم، وإن شئت فقل: "بيع ما في بطون الحوامل". يشمل الحامل من الإماء، بيعه حرام؛ لأنه مجهول لا يدرى أذكر هو أو أنثى؟ أواحد هو أم متعدد؟ فإذا قدر أنه علم ذلك بسبب تقدم الطب، فإنه يبقى الجهل: أيخرج حيًا أم ميتًا؟ فيكون داخلا في الغرر، فلا يصح العقد عليه.
ومن بيع الغرر: بيع الثمار على رؤوس الشجر قبل صلاحها، وكذلك الزروع؛ ولهذا " نهى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها " عن بيع الثمر على رؤوس النخل، وقال: " حتى يبدو صلاحها " وسئل عن الصلاح فقال: " تحمر أو تصفر " وكذلك في العنب: لا يصح بيعه حتى يتموه حلوًا؛ لأنه قبل ذلك، أي: قبل بدو الصلاح في تمر النخل والتموه حلوًا في العنب عرضة للفساد، فيكون فيه غرر ومخاطرة، ومن ذلك النهي عن بيع الحب في سنبله حتى يشتد، أي: حتى يصلب ويقوى ويكون حبًّا .
والخلاصة: أن كل بيع يتضمن الغرر فغير صحيح، وكذلك يقال في الإجارة؛ لأن الإجارة عقد معاوضة، فالمستأجر يستأجر العين، يملك منافعها، والمؤجر يؤجره إياها ويملك الأجرة، هذه معاوضة بين المؤجر والمستأجر، وعلى هذا فلا بد من تحرير الأجرة وتحرير المستأجر؛ حتى لا يقع المتعاقدان في الغرر الذي يشبه الميسر.
فإن قال قائل: ألستم تجيزون الجعالة؟ وهي عقد على شيء مجهول. مثل أن يقول: من رد لقطتي فله كذا وكذا، ومن رد ضالتي فله كذا وكذا. من المعلوم أنه قد يردها في زمن قريب، أو في زمن بعيد ، من مكان قريب، أو من مكان بعيد، وأنتم تقولون: هذا جائز.
الصواب نقول ذلك؛ لأن عقد الجعالة هو من مشروط على عمل، متى حصل فذاك العلو+ دون أن يجتمع بشيء أحدهما؛ ولهذا كانت الجعالة من العقود الجائزة، ويدل لهذا قول الله تعالى: { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) } إنه قد يأتي به من مكان قريب، وفي مدة وجيزة، وقد يأتي به من مكان بعيد، وفي مدة طويلة.(6/29)
ثم قال المؤلف -رحمه الله وعفا عنه ووفقه-:
ثم قال المؤلف -رحمه الله- في هذا البيت:
فحررنها ودع المخاطرة
-----------
وفي قوله: "ودع المخاطرة" إشارة إلى أن الأخيرة +؛ لكي تتبين واضحة، من أجل أن لا يكون هناك مخاطرة، والمخاطرة هي الميسر، وبهذا نعرف أن عقود التأمين على السلع محرمة؛ لأنها تتضمن مخاطرة، فإذا أمن الإنسان على سيارته مثلاً، وصار يدفع كل سنة خمسمائة ريال، أو أربعمائة ريال، وهنا يكمن الخطر؛ لأنه إن مرت السنة دون أن يحصل حادث يدخل في عقد التأمين -صارت الشركة غانمة، وصاحب+ التأمين غارمًا، وإن حصل في المؤمن عليه ضرر، أكثر مما دفعه صاحب التأمين -صارت الشركة غارمة، ويحصل بذلك غرر وجهالة؛ لأنه إما غانم وإما غارم.
عقود التبرع:
ثم قال:
وإن تكن تبرعا أو توثقة
فأمرها أخف...
تكون العقود تبرعًا: كالصدقة والهبة والعطية والوصية + آخر.
والهبة: هي التبرع بمال بلا عوض. فإن قصد بها ثواب الآخرة فصدقة، وإن قصد بها التودد + هبة هدية، وإن قصد بها مجرد الإعطاء فهي هبة، ثم إن كانت العطية ... ثم إن كانت الهبة أو الصدقة أو الهدية في مرض الموت المخوف تضاف إلى الثلث، بمعنى أن ما زاد على الثلث يكون أمره موكولاً إلى الورثة، إن شاءوا أجازوه وإن شاءوا منعوه؛ لأن العبرة بالمعاني هنا، والمريض مرض الموت المخوف قد تعلق حق الورثة بماله، فليس له أن يتبرع بما زاد على الثلث إلا بعد إجازتهم.
وقوله: "أو توثقة" يعني: أن تكن العقود توثقة فأمرها أخف. التوثقة كعقد الرهن، إذا عقد الرهن على بيته، والمرتهن لا يدري عنه فهو صحيح، ما دام البيت معلومًا؛ لأن المقصود بالرهن التوثقة، فإذا قال: رهنتك بيتي المعروف في مكان كذا. هذا للمرتهن صح، وإن كان المرتهن لم يذهب إلى البيت، ولم يستبرح ولم ينظر في حجره ولا ... ورضي، ووجه ذلك أن هذا الرهن، إن كان على ما في خاطر المرتهن هذا هو المطلوب، وإن كان دون المقصود توثيقه بالمال.(6/30)
وكذلك الضمان، لو ضمن الإنسان شخصًا يملك ما في ذمته، وهو لا يدري من السبب في الدين؛ ذلك لأن الدين لا يلزم الضامن وحده، وعلى المضمون أصل، والضامن فرع.
قد اختلف العلماء -رحمهم الله-، هل للمضمون له أن يطالب الضامن؟ قد يتعذر من مطالبة المضمون، أو ليس له أن يطالبه إن لم يتعذر مطالبة المضمون. هذان قولان، وعمل كثير من الناس اليوم بأن الضامن لا يطالب، إلا إذا تعذر في مطالبة المضمون، وبهذا يأتي إلى الضامن يقول: أعطني حقي. فيقول: حقك عند فلان، إذا عجزت عنه فائت إليّ.
والخلاصة: أن عقد الرهن وعقد التوثقة، لا يشترط فيه أن يكتب فيه الشروط المقصودة أو بعضها.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: "فدع التفرقة". أي: اعلمها وافهمها، التفرقة أي: بين عقود المعاوضات وعقود التبرعات والتوثيقات، والتفرقة هي أن عقود المعاوضات هي على المشاحة، ومطالبته بالحق كاملاً.
"ودعاة التوثقة" أيش المقصود بها؟ المشاحة + هذا الأمر فيها أسهل، حتى بين المتعاقدين.
قال المؤلف -رحمه الله-: "لأن ذي إن حصلت فمغنم".
"لأن ذي" المشار إليه والقريب، من القواعد المقررة: أن الضمير أو الإشارة يعودان إلى أقرب مذكور. ويكون مراده بقوله: "ذي". أي: عقود التبرعات والتوثقة، إن حصلت فمغنم أسرتي +، وذلك مغنم+... لهذا قال: "فإن تفت ليس فيها مغرم"
لأن ذي إن حصلت فمغنم
وإن تفت فليس فيها مغرم
ثم قال المؤلف -رحمه الله وعفى عنه ووفقه-:
وكل ما أتى ولم يحدد
بالشرع كالحرز فبالعرف احدد
كل شيء أتى مطلقًا ولم يحدد، فإنه حدد بالعرف، ومثاله قوله: "الحرز".
الحرز يعني: حرز الأموال ولا بد من معرفة الحرز؛ لأنه يترتب عليه ضمانات وحدود، فمن ذلك الوديعة، يعني: أن تعطي شخصًا مالاً يحفظه لك، لا بد أن يحفظه في حرز، وهذا يختلف اختلافا كثيرا بين الأموال وبين أفرادها، وبين الأزمنة وبين الأمكنة.(6/31)
في بعض الأزمنة يكون هذا الشيء حرزًا، وفي بعضها لا يكون حرزًا، وفي بعض الأمكنة أو البلدان يكون هذا حرزًا، وفي بعضها لا يكون، والأموال كذلك، بعضها ثمين يجب أن يحرز في مكان أمين، وبعضها ليس كذلك.
لما ذكر الفقهاء -رحمهم الله- الحرز في باب السرقة، قالوا: "إنه يختلف باختلاف السلطان والمكان، وأنواع المال، وأهل السلطان، وغير ذلك". إذا أودع رجل شخصًا وديعة من المال: دنانير أو الدراهم، ووضعها على طاولة المكتب -فإن ذلك لا يعد حرزًا للدراهم والدنانير؛ لأن الدراهم والدنانير تحفظ في الصناديق، في الأبواب والأغلاق الوثيقة، ولو أودعهم جرة حبر ووضعها على المعصرة، لأنها لم تجر العادة، بأن مثل هذه تحفظ في الأغلاق الوثيقة.
كذلك أيضًا بالنسبة للسرقة، إذا سرق السارق دراهم أو دنانير على الطاولة، ليس بحرز، وإذا سرق قلمًا أو جرة حبر كان ذلك سرقة من حرز.
ذكر العلماء -رحمهم الله-: أن يد السارق لا تقطع إلا إذا سرق من حرز. كذلك لو استأجر عينًا ووضعها في مكان، نظرنا إن كان هذا المكان مما جرت العادة، أن توضع فيه هذا العين حرزًا -إذن لا ضمان عليه فيما لو سرق، ولو في الحرز أن تقطع يده؛ وذلك لأن التفريط من صاحب المال، فإذا كان التفريط من صاحب المال تقطع يده.
ثم قال المؤلف ممثلا في مثل أخرى: "من ذاك صيغات العقود مطلقا".
يعني: مما يرجع فيه للعرف صيغ العقود، إجارة رهن الوطء النكاح؛ ولهذا قال: "مطلقًا". إذا الإنسان "شخص" قال: "أنكحتك بنتي" -هم يعرفون أن "نكحتك" يعني: زوجتك- انعقد النكاح، أو قال: "جوزتك بنتي" فقال: "قبلت" -انعقد النكاح، ولو قال: "أعطيتك بنتي" فقال: "قبلت" -انعقد النكاح. هذه تدل على عقد النكاح كعرف، وإلا هي وعد ليس عقدا.(6/32)
وقول المؤلف -رحمه الله وعفا عنه ووفقه-: "مطلقًا". شارك، أو لمن فصل على أن عقد النكاح لا بد فيه من لفظ الإنكاح أو التزويج، أو يقول مالك الأمة: أعتقتك، وجعلت عتقك صداقك. لكن الصحيح أنه لا فرق، إن جميع العقود تنعقد بما دل عليه؛ لهذا قال المؤلف -رحمه الله-:"ونحوها" أي: نحو صيغات العقود، "في قول من قد حققا".
يشير إلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فإنه -رحمه الله- عالم خاشع العلم، قوي الفهم، قوي الدين محقق؛ لهذا تجد غالب اختياراته موافقة للدليل الصحيح، وإني أوصي طالب العلم بالحرص به، وكتب تلميذه ابن القيم-رحمهما الله- فإن فيهما خيرًا كبيرا، يعطيان الإنسان ملكة قوية للترجيح بين الأقوال، ويمرنه على المناظرة والمناقشة مع الآخرين.
نسأل الله لنا جميعًا التوفيق إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا الفهم في كتابه والعمل به، إنه على كل شيء قدير. نعم .. لدينا أسئلة؟ نعم.
فضيلة الشيخ، هذا السائل يقول:
س: كثير من العمال إذا أردت الاتفاق معه يقول: الذي تدفعه مقبول عندي. فما حكم ذلك؟
ج: هذا لا يصح؛ لأن الأجرة مجهولة، العامل إنما عمل عند صاحب العمل بالأجرة بلا شك، ولهذا لو أنه انتهى من العمل، وأعطاه صاحب العمل شيئًا، فقال: "زدني" -دخل بينهما الخلاف. وكم من مرة يكون فيها الخلاف، ثم يأبى العامل أن يقدر ما قدره صاحب العمل ويجحد؛ فيندم صاحب العمل، فيطلب الحصول على هذا العامل ويسأل عنه، لعله يجده فيعطيه حقه؛ فلذلك نقول: "لا يجوز للعامل عنده، إلا أن يحدد الأجرة، إلا إذا كان العمل مما عرفت أجرته بين الناس، هذا شيء يعمل فيه بالعرف". نعم.
وهذا يقول -فضيلة الشيخ-:
س: باب القياس ما دليلها، لأن الصنعاني يبطلها؛ وقد أشكل علينا هذا؟(6/33)
ج: الإشكال في إبطالها، أعني دلالة القياس، ليس الإشكال في إثباته؛ لأن القياس ثابت من القرآن والسنة، وكل مثل ضربه الله هو قياس: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) } وقال الله تعالى: { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) }
قال الله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } تجد هذا كثيرًا، كما أن الله قال في قصص الأنبياء: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } وهذه العبرة أن يكون أن يقيسوا حاضرًا بالماضي.
وأما السنة ثبتت دلالتها على القياس، ثبتت دلالتها على القياس، لقد ثبتت دلالتها على القياس بنص النبي r " إن رجلا أتى إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. قال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ " يعني: أبيض خليطا من السواد. نعم. من أين أتى؟ " لعله نزعه عرق. قال: فولدك هذا، لعله نزعه عرق " .(6/34)
" أتته امرأة لقضاء حج عن أمها نذرته، فلم تحج حتى ماتت، فقال: أرأيتِ لو أن كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فالله أحق بالوفاء " .
وهذا قياس لا شك فيه، وهو قياس دَيْن الله على دين الآدمي في أنه يقضى.
ولما قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: نعم، أرأيتم لو وضعها في الحرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " هذا واضح، أدلة كون القياس حجة ودليلا واضحة، ولا وجه للمخالفة. نعم.
وهذا يقول -فضيلة الشيخ-:
س: إذا اتفق الرجل والعامل على سعر في مدة، وقبل انقضاء المدة رفض العامل العمل، وطلب حقه فهل يعطاه؟
ج: لا يعطاه، إذا استؤجر على عمل لزمه إكماله، فإن لم يكمله فلا أجرة له، إلا إذا كان هناك عذر قاهر لا طاقة للعامل به، فحينئذ يعطى من الأجرة بقدر ما عمل. نعم.
وهذا يقول -أحسن الله إليكم-: ما حكم من تراجع في هبته، بعدما ندم على فوات مصلحته بالهبة؟
ج: هذا يحصل لما لو وهبت المرأة شيئا لزوجها؛ حتى لا يتزوج عليها، وذلك مثل… تحب... لأنه يريد الزواج عليها، تبذل له مالاً في نية ألا يتزوج، فإذا تزوج فإنه يجب عليه أن يرد عليها ما أخذ. إننا نعلم أنها إنما وهبته لغرض لم يتحقق، وكذلك لو قيل له: إن فلانا أصابته فاقة. فأعطاه من أجل هذه الفاقة، ثم تبين أنها لم تكن -فإنه يرد + نعم.
وهذا يقول -أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ-:
س: إذا شك الإمام في صلاته، فبنى على غالب ظنه، ووافق ظنه الواقع، وذلك بموافقة المأمومين له، فهل يسجد أم لا؟ وما هو اختياركم، حيث إني قرأت لكم قولين في كتابين، فما المختار عندكم؟(6/35)
ج: المسألة فيها خلاف، المذهب أنه لا يسجد، إذا تبين أنه مصيب فيما فعل فإنه لا يسجد؛ لأن السجود إنما لسبب تبين عدمه، وقيل: إنه يسجد؛ لأنه أدى جزءًا من صلاته شاكا فيه، شاكا فيه أي: في هذا الجزء، لا يدري أزائد هو أم لا؟ وأنا أحيانًا يقع في ذهني أن... هو لا يسجد أحيانا كثيرة + أنه يسجد، فهو لم يتبين لي كثيرًا رجحان أحد القولين. نعم .
أحسن الله إليك -فضيلة الشيخ-هذا يقول:
س: الأوامر في الآداب، ما حكم الأوامر في الآداب؟ وما هو الدليل عليه؟ وهل الأمر مطلق ظاهر، أم نص في الوجوب؟
ج: هذا أمر مطلق، فلهم فيه بين علماء الأصول… فمنهم من قال: إنه للوجوب؛ لأن ذلك هو الأصل في أوامر الله ورسوله، ومنهم من قال: إنه للاستحباب. أن الأمر به يعلم مشروعًا، والتأذين بتركه لا في الأصل، الأصل عدم التأذين بالترك، أنت إذا تأملت كثيرًا من الأوامر وجدت أنها ليست للوجوب، إما في الإجماع وإما في قول أكثر العلماء؛ ولهذا فصل بعضهم فقال: ما كان من الآداب فهو للإرشاد وليس للوجوب، إلا أن يتضمن مفسدة أخرى، وما كان لمطلق التعبد فهو للوجوب؛ لأن الله -تعالى- قال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) } وهذا أقرب الأقوال الثلاثة.
فمثلا: الأمر بالأكل باليمين، أكد العلماء على أنه للاستحباب وليس للوجوب، وذهب علماء آخرون إلى أنه للوجوب، فإذا طبقنا هذا الحديث على ما هنا، وجدنا أنه من الآداب، لكن اقترن به ما يدل على الوجوب، اقترن به ما يدل على الوجوب، وهو قوله r " فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله " .(6/36)
" وأكل مرة رجل عنده باليسرى، فأمره أن يأكل باليمين، فقال: لا أستطيع. فقال: لا استطعت. فما ردها إلى فيه بعد ذلك " وكذلك أيضًا انظر كل... وهو لم يسم الله، قال لعمر بن أبي سلمة وهو لم يسم الله، " وكل بيمينك وكل مما يليك " هنا ثلاثة أوامر: "التسمية" الأمر بالتسمية، والأمر بالأكل باليمين، والأمر بالأكل مما يليه.
فأما الأول: وهو التسمية، فقد اختلف العلماء فيه: هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ الصحيح أنه للوجوب، على أنه من الآداب، لكن هناك دليل آخر يدل على الوجوب، وهو أن الإنسان إذا لم يسم فإن الشيطان يأكل معه، وهو أنه لا يليق بعاقل أن يمكِّن عدوه من الأكل معه.
" كل بيمينك " سبق الكلام عليه. " كل مما يليك " على سبيل الاستحباب، فلو أكل مما يلي جليسه لم نقل إنه آثم، فإن الأمر بالأكل مما يليه على سبيل الاستحباب، اللهم إلا أن يكون جليسه ممن يتأذى من ذلك، فإذا كان جليسه ممن يتأذى بذلك، هنا قول يجب عليك أن تكف عن الأكل مما يلي جليسك؛ لما فيه من أذية الجليس، وأذية المسلم حرام، لا يجب للمسلم أن يؤذي أخاه. نعم.
هذا يقول -أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ-:
س: اتفقت مع عامل على تصليح جهاز من الأجهزة، ولم نتفق على السعر، ثم عندما أردت إعطاءه المبلغ، ثمانية دنانير كويتية وهو العرف، فطلب ضعف هذا المبلغ، وهو مبلغ كبير بالنسبة لعمله، وقد رفض أخذ مبلغ ثمانية دنانير وذهب، فماذا عليَّ؟
ج: ليس عليك شيء، ما دام هذا أجرة العادة، ولم يكن بينكما عقد تقدير الأجرة، ولكن إن أيست منه، تصدق بها بالنية عنه، وإن لم تيأس من رجوعه انتظر حتى يصل. نعم.
هذا يقول -أحسن الله إليك فضيلة الشيخ-:
س: س: إذا رأيت شخصًا على المائدة يشرب بيساره، فهل يجب عليّ تنبيهه أمام الناس؟(6/37)
ج: نعم، يجب عليك إذا رأيت شخصا يأكل بشماله، أو يشرب بشماله في حوط من الناس، يجب عليك أن تنبهه، ولكن ليس من شرط ذلك:خذ يا فلان، كل باليمين. بل يمكن أن يحدث المقصود بأن تقول: إن النبي r علَّم أمته آداب كل شيء، حتى آداب الأكل، ثم تسوق الحديث: أنه نهى عن الأكل بالشمال والشرب بالشمال، وتأتي بحديث آخر للنبي -عليه الصلاة والسلام- قال للرجل: " كُل بيمينك. قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت. فما ردها إلى فيه بعد ذلك " نعم.
وهذا يقول:
س: سمعت -فضيلة الشيخ-: الملح من الأمور التي يدخل فيها الربا، فما حكم من أخذ من الدكان ملحًا ثم قال: اجعله دينا عليّ؟
ج: لا بأس بذلك، النقدان ليس بينهما ربا في بقية الأصناف، لهذا كان من عبارات الفقهاء: يجري ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل، ليس أحدهما نقدًا.
يعني أن النقد أنج+ الربا بينه وبين بقية الأصناف، ودليل ذلك أن النبي-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قدم المدينة، ووجدهم يصرفون في الثمار السنة والسنتين فلم يمنعهم، مع أن الدراهم نقد أهل البستان، وقبض المشتري يتأخر. نعم.
وهذا يقول -فضيلة الشيخ-:
س: بعض الناس يسمعون الدف في الزواجات... -نعم؟- بعض الناس يسمعون الدف في الزواجات، ويستدلون بما رواه الترمذي: " أن جارية ضربت الدف بين يدي الرسول r بعدما نذرت، إن رده الله سالمًا من الغزو لتضربن الدف، فضربت الدف، وأبو بكر وعثمان يسمعان " فكيف نوجه هذا الحديث مع أحاديث النهي؟ والله يرعاك.
ج: النهي عن الدف ليس عامًا، هذا الضرب بالدف جائز عند المناسبات: الأفراح، العرس، قدوم الغائب، إذا هو جاء من عند الناس+ ، بعلمه أو ماله أو سلطانه.
المالك شرط في صحة العقود
O . الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى ورفع درجته-:
واجعل كلفظ كل عرف مطرد
وشرط عقد كونه من مالك
وكل من رضاه غيرُ معتبر(6/38)
وكل دعوى لفساد العقد
وكل ما ينكره الحس امنعا
فشرطنا العرفي كاللفظي يرد
وكل ذي ولاية كالمالك
كمبرأ فعلمه لا يعتبر
مع ادعاء صحة لا تجدي
سماع دعواه وضده اسمعا
O . الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سبق لنا أن عقود المعاوضات، لا بد فيها من العلم المزيل للاشتباه؛ لأنها عقد معاوضة ومشاحة، كل يريد أن يكون حقه تامًا، وأما عقود التبرعات والتوثيقات فأمرها أخف ويغتفر فيها الجهل؛ وذلك لأن عقود التبرعات والتوثيقات إن حصلت فمغنم، وإن لم تحصل فليس فيها مغرم، فلا تدخل في الميسر.
وسبق لنا أيضًا أن كل ما أتى مطلقًا، يعنى: في النص، في القرآن أو السنة، ولم يحدد، فالرجوع فيه إلى العرف، وهذا لم نبينه.
يقول الناظم:"كل ما أتى". يعني: في النص من الكتاب والسنة، "ولم يحدد" بزمن أو مكان أو عدد أو صفة -فإنه يرجع فيه إلى العرف، مثال ذلك: الحرز، وهو ما تحفظ به الأشياء، فإن الحرز معتبر في الأموال المسروقة؛ إذ أن من شرط قطع يد السارق أن يسرق من حرز، فلو سرق من غير حرز لم تقطع يده، والحرز يختلف باختلاف الأموال، واختلاف البلدان، واختلاف السلطان.
فمن المعلوم أن حرز الماشية ليس كحرز الذهب، الماشية تحرز بالأحواش والحظائر وما أشبهه، والذهب لا بد أن يكون في الصناديق الوثيقة المغلقة، كذلك أيضًا ليس الحرز في المال التي يكثر فيها السراق، كالحرز في البلد الآمنة، فالبلد التي يكثر فيها السراق يجب أن يحترز، يحرز المال أكثر ممن احترز في البلد التي يقل فيها السراق، كذلك السلطان، هو إذن مراتب، إذا كان السلطان قويا فليس الحرز مع السلطان الضعيف، كالحرز مع السلطان القوي؛ إذ أن بعض البلاد التي سلطانها قوي، ربما تبقى الأموال على عتبة الدكاكين ولا يخشى عليها، وإذا كان السلطان ضعيفًا فيجب أن يكون الحرز أقوى.(6/39)
والحرز معتبر في المال المسروق، معتبر كذلك في الوديعة، إذا أودعك الإنسان مالاً فيجب أن تحفظه في حرز مثله، فالذهب فيما يحرز به الذهب، والأواني فيما تحرز به الأواني، فالأواني مثلاً حرزها المطبخ؛ إذ لا يغلق عليها وراء الأبواب في الصناديق مثلاً، والذهب حرزه في الصناديق المغلقة وهكذا.
الحرز أيضًا يعتبر في الأعيان المستأجرة، فلو استأجر الإنسان سيارة، وجب أن يحفظها في حرز مثلها، وألا يدعها في مكان يخشى عليها من السراق أو المفسدين.
والحرز لم يحدد في الشرع، فيرجع فيه إلى العرف، كذلك السفر، السفر جاء مطلقًا في القرآن والسنة ولم يحدد، قال الله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ }
فأطلق الظرف ولم يحدده، لا بزمان ولا بمسافة، وعلى هذا فيرجع فيه إلى العرف، وما ورد عن بعض السلف، من أنه من مكان كذا وكذا سفر قصر، يعني وما دونه فليس سفر قصر، فإنما هو من باب المثال لما كان سفرًا في عرفهم؛ ولهذا لم يحدد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- زمنًا ولا مسافة في سفر القصر، بل قال أنس بن مالك-رضي الله عنه-: " كان النبي r إذا خرج ثلاثة أميال… " فيرجع في ذلك إلى العرف، فما سموه الناس سفرًا فهو سفر، وما ليس سفرًا في عرف الناس فليس بسفر.
وكذلك الإقامة أثناء السفر في بلد أو مكان بري، لم يحددها الشرع بأيام معلومة، أو أشهر معلومة، أو سنوات معلومة؛ ولهذا كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يقيم إقامات متعددة مختلفة، ويقصر فيها الصلاة، فقد أقام في تبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، وأقام في مكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وذلك في غزوة الفتح، وأقام في مكة في آخر سفر سافره -في حجة الوداع- عشرة أيام، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري -رحمه الله:- " أن أنس بن مالك t سئل: كم أقام… " .(6/40)
- " صلى الله عليه وسلم- قدم في يوم الأحد، الرابع من شهر ذي الحجة، وسافر من مكة في صبيحة اليوم الرابع عشر " فهذه عشرة أيام، ولم يقل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا حرفًا واحدًا، في أن من أقام كذا لزمه القصر ومن أقام دون ذلك لم يقصر، إذن الإقامة ما دام الإنسان مسافرًا لم يعد إلى بلده، فهي ظن السفر.
ومن ذلك أيضًا الخفان، السنة وردت: " أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مسح على الخفين " ولم يشترط النبي r في الخفين شرطًا معينًا، إلا أنه لبسهما طاهرتين، وأن مسحهما في مدة معينة: ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم.
فإذن نقول: الخف جاء مطلقًا، مسح على الخفين. فإذا كان مطلقًا الخفين قلنا: يمسح على كل ما يسمى خفًا عرفًا. وهذا هو القول الراجح، وأننا لا نشترط شروطًا في جواز الخفين لم تثبت في الكتاب ولا في السنة؛ لأننا إذا شرطنا شروطًا، ضيقنا نطاق المسح، وتضييق ما وسعه الله مشكل.
كذلك أيضًا النفقة. النفقة يقول الله U { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ } وأطلق الإنفاق، ويرجع في ذلك للعرف، فما تعارف عليه الناس من نفقة الغني وجب على الزوج، وما تعارف عليه من نفقة الفقير وجب عليه، كذلك المعاشرة: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } ولم يحدد شيئًا معينًا، بل جعل ذلك إلى العرف، وهذه قاعدة نافعة تنفعك في أبواب كثيرة في الفقه: أن كل شيء أتى في النص، من كتاب الله وسنة رسوله r ولم يحدد -فإنه يرجع فيه إلى العرف.
ثم قال الناظم:
وشرط عقد كونه من مالك
وكل ذي ولاية كالمالك
العقود سواء كانت عقود تبرعات، أو معاوضات، أو توثيقات، أو أنكحة أو غيرها، لا بد أن تكون من مالك، أي: ممن يملك العقد على هذا الشيء. العقود لا بد أن تكون من مالك، فمن عقد عقدًا لا يملكه فعقده باطل لا يصح.(6/41)
مثال ذلك في البيع: لو باع الإنسان ما لا يملك: أتى على سيارة فلان فباعها إلى فلان، البيع غير صحيح، حتى لو تم الإيجاب والقبول، وعلم الثمن والمبيع والتقابض، فغير صحيح؛ لأنه ليس مالكًا لها "للسيارة".
وكذلك لو رهن لدين عليه، وهو غير مالك -لم يصح الرهن، وكذلك لو تبرع بها صدقة على الفقير، أو هدية لمن يطلب مودته، أو غير ذلك فإن هذا التبرع غير صحيح؛ لأنه ليس من مالك، وكذلك لو باع حرا فإن البيع لا يصح، حتى لو كان ابنه أو أباه أو أخاه، فإنه لا يصح؛ لأنه ليس مالكا، إذ أن الحر حر ليس يُملك، كذلك لو زوج ابنة فلان لم يصح العقد؛ لأنه لا يملك ذلك، وقس على هذا بقية العقود بجميع أنواعها.
قال: "وكل ذي ولاية كالمالك". يعني: الذي له ولاية من قبل الشرع، أومن قبل المالك، كالمالك في التصرف، فشمل ذلك الوكيل والناظر والوصي والوريث.
الوكيل: هو من أذن له المالك بالتصرف حال الحياة، مثاله أن يقول لشخص: يا فلان، وكلتك في بيع هذه السيارة. فإذا باعها الوكيل، فهو كما لو باعها موكله في جميع الأحكام؛ لأن له ولاية من قبل المالك، وكان تصرفه كتصرف الموكِّل.
الثاني: الناظر. والناظر: هو الذي يوليه الواقف على الوقف، يسمى ناظرًا، هكذا اصطلح الفقهاء -رحمهم الله- وإن كان حكمه حكم الوكيل، لكنه يسمى عندهم ناظرًا، فإذا تصرف الناظر تصرفًا مأذونًا فيه من قبل المالك، أو من قبل الشارع، يعني… وأقول من قبل المالك، يعني: الذي وقع، أو من قبل الشارع -فهو كالمالك، مثاله: رجل أوقف نخلة على الفقراء والمساكين، وجعل النظر فيه لفلان، فلفلان أن يتصرف في توزيع هذا الوقف، حسب ما يراه من مصلحة، ولا حاجة أن يستأذن الواقف، لأن تصرفه كالواقف، حيث إنه ناظر على الوقف، فإذا صرفه في المساكين فقد امتلك موقعه، كذلك أيضًا لو كان يلتزم من قبل الشرع، فتصرف الناظر صحيح وإن لم يأذن له الواقف.(6/42)
مثاله: رجل أوقف بيته على المساكين، ثم إن البيت انهدم أو خرب حتى لا يمكن الانتفاع به، فحينئذ يجب على الناظر أن يبيعه ويصرف ثمنه فيما ينفع، إن أمكن أن يشتري بيتًا يقوم مقام الأول فهذا مطلوب، وإن لم يمكن صرفه في جهة أخرى، مثل أن يصرفه في بناء المساجد استقلالاً أو مساهمة.
وليعلم أن قولنا: "إن المتصرف في الوقف يسمى ناظرًا". قول يجب أو ينبغي التفطن له؛ لأننا نرى كثيرًا من إخوتنا الذين يكتبون الأوقاف، يقول: هذا وقف على كذا وكذا وكذا، والوكيل عليه فلان. وهذا وإن كان صحيحًا من حيث الجملة، لكن الأولى والأحسن، أن يعبر بما عبر به الفقهاء والسلف الصالح، فيقول -بدل والوكيل فلان بن فلان-: "والناظر عليه: فلان بن فلان".
أما الثالث فهو الوصي: والوصي هو الذي أذن له بالتصرف في المال بعد الوفاة، مثال ذلك أن يقول: هذه ألف ريال توزع على الفقراء، والوصي فلان بن فلان. فإذا مات الموصي ... لأنه قال: هذه ألف ريال توزع على الفقراء. يعني بعد موتي، فإذا مات قام الوصي بتفريقها حسبما نص الموصي.
أما الرابع الذي يقوم مقام المالك: فهو الولي، وهو المتصرف بإذن من الشرع، وهو ولي اليتيم، واليتيم: هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ، سواء أن كان ذكرًا أو أنثى.
الابن الذي له سبع سنوات، وقد مات أبوه يتيم، والبنت التي لها سبع سنوات وقد مات أبوها يتيمة، وأما من ماتت أمه فليس بيتيم، إذا كان أبوه موجودًا.
الولي على اليتيم كالمالك، يتصرف في مال اليتيم كتصرف مالكه فيه، ولكن يجب على الولي أن يتصرف بما هو الأصلح، يقول الله -تبارك وتعالى-: { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }
إذن قول الناظم: "وكل ذي ولاية كالمالك". يشمل أربعة أصناف: وكيل، وناظر الوقف، والوصي، وولي اليتيم.
من يعتبر رضاه في العقود:
ثم قال الناظم:
وكل من رضاه غيرُ معتبر
كمبرأ فعلمه لا يعتبر(6/43)
هذه أيضًا قاعدة مفيدة جدا، وهي أن لا يعتبر رضاه لا يعتبر علمه؛ لأنه إذا كان لو علم وعارض لم يقبل، لم يقبل معارضته، فعلمه وجهله سواء، مثال ذلك: المبرأ.
المبرأ يعني: إذا كان للإنسان دين على شخص فأبرأه منه، أي: أبرأ صاحب الدين المدين من دينه -فإنه لا يعتبر إرضاء؛ لأن هذا إسقاط، إسقاط واجب في ذمة المضمون، لا يجب عليه، حتى لو قال المبرأ: "أنا لا أرضى ولا أقبل أن تبرئني، أنا لا بد أن أوفيك" -برأت ذمته؛ لأن رضاك غير معتبر، لأن الحق وصف في ذمتك، أسقطه صاحبه سقط.
هذا هو المعروف عند أصحابنا -رحمهم الله-، ولكن القول الراجح الذي تطمئن له النفس أنه: إذا لم يعلم المبرأ ... ولكنه القول الراجح الذي تطمئن له النفس: أنه إذا لم يرض المبرأ فلا براءة؛ لأن المبرأ قد يرد الإبراء، بحجة أنه لو قبل، فأوشك أن يكون المبرئ -بكسر الراء- يمن عليه بذلك بعد ذلك، يمن عليه بذلك الإبراء بعد ذلك، إذ من الجائز أنه لو كان بينهما شيء، أي: بين المبرئ (بكسر الراء)، والمبرأ (بفتحها) شيء، إذا حضر قال المبرئ - بكسر الراء-: هذا جزائي حين أبرأتك من دينك.
يمن عليه بذلك، هذا لا شك أنه أثر على نفسية المبرأ، القول الراجح أنه إذا لم يرض المبرأ بالإبراء، فإنه لا يثبت الإبراء، لكننا مشينا على تمثيل المشهور من المذهب.
من ذلك أيضًا، من هذه القاعدة: المرأة. رجل زوج أياها، لا يشترط أن تكون راضية به، أن يطلقها ولو لم ترض، وإذا لم يعتبر رضاها بالطلاق، لم يعتبر علما، وعليه فلو طلقها ولم تعلم بالطلاق، حتى مضى عليها ما تنقضي به العدة من أقراء أو شهور -انقضت عدتها، وإن لم تعلم بالطلاق.(6/44)
إذا قالت: لم تعلم. قلنا: لا فرق بين علمها وعدمه؛ وذلك لأن رضاها ليس بالمعتبر. واستطرادا لهذا نقول: لو أن رجلاً توفي، ولم تعلم زوجته بوفاته إلا بعد أن مضى عليها أربعة أشهر وعشرًا -فإن عدتها تنقضي ولا يلزمها الإحداد؛ لأن الإحداد + العدة، ولها أن تتزوج بعد علمها؛ لأن عدتها قد انقضت.
ومن ذلك: لو أن الرجل زوج ابنته بدون علم، زوجها كفئًا بدين وخلق دون علمها -فأن تزويجه صحيح؛ لأن رضاها غير معتبر، وهذا على المشهور من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- عند أصحابه، الصواب أنه ليس له الحق أن يزوجها بدون علمها، ولا بدون رضاها؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " لا تنكح البكر حتى تستأذن " وهذا عام للأب وغيره، بل قد جاء قول رسول الله r " والبكر يستأمرها أبوها " أو قال: " يستأذنها " فنص على البكر، ونص على الإذن.
الأصل في العقود الصحة:
ثم قال الناظم:
وكل دعوى لفساد العقد
مع ادعاء صحة لا تجدي
أي: لا تنفع، يعني: كل إنسان يدعي فساد العقد، والعاقد معه يدعي صحة العقد -فإن القول قول مدعي الصحة؛ لأن ذلك هو الأصح، فإذا تبايع رجل وتم العقد وانتهى، فقال أحدهما: وقع العقد بعد أذان الجمعة الثاني. يريد بذلك أن يفسد العقد؛ لأن البيع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة غير صحيح؛ لأنه منهي عنه، فقال أحدهما: البيع غير صحيح؛ لأنه بعد أذان الجمعة الثاني. وقال الآخر: بل هو صحيح لأنه قبله. القول قول مدعي الصحة.(6/45)
هو منهي عنه ، وقال أحدهم: البيع غير الصحيح ؛ لأنه بعد أذان الجمعة الثاني وقال الآخر ، بل هو صحيح ؛ لأنه قبله القول قول مدعي الصحة ؛ لأن ذلك هو الأصل في عقود المسلمين ، ولو فتح الباب وقلنا: إن القول قول مدعي الفساد ، فسدت كثير من بيوت+ المسلمين ، ولكان ذلك فتحا للحيل والتحايل ، ويذكر عن أحد مشايخ نَجْد المشغولين بالفتيا أنه قال: إن بعض الناس تحيل على إبطال البينونة في الطلاق الثلاث ، ويدعي أن العقد الذي وقع به الطلاق لم يكن تام الشروط ، بل أحد الشهود ممن لا تقبل شهادته ، من أجل أن يبطل العقد ، إذا بطل العقد بطل الطلاق المبني عليه ، الذي حصلت به البينونة.
مثل هذا لا يقبل قوله ؛ لأن الأصل الصحة واختلف العلماء -رحمهم الله- فيمن ادعى أن العاقد غير بالغ ، مثل أن يتم العقد ، عقد البيع بين رجلين ، يدعي أحدهما أن العقد كان قبل بلوغه ، ويقول الآخر: العقد كان بعد البلوغ ، فهنا نازع… المسألة فيها أصلان: الأصل الأول هو أن الأصل في العقود الصحة ، مدعي البطلان عليه الدليل ، والأصل الثاني أن الأصل الصغر وعدم البلوغ ، إن كان تيقن أن العقد كان بعد البلوغ ، اختلف العلماء في هذه الصورة قال بعضهم: يقدم من ادعى عدم البلوغ ؛ لأنه الأصل ، وقال بعضهم: يقدم من ادعى الصحة ؛ لأن الأصل هو الصحة ، وينبغي في هذه الصورة أن يرجع إلى اجتهاد القاضي ، إن رأى أن قوله أقرب إلى الصواب أخذ به.
ما يرفض حسا لا يقبل دعوى:
يقول الناظم -رحمه الله-:
وكل ما ينكره الحس امنعا
..................(6/46)
وكل ما ينكره الحس امنعا ، كل هنا بالنصب ، مفعول لقوله: "امنعا" ، والألف في قوله: "امنعا" للإطلاق ، وليس للتثنية يعني: كل شيء ينكره الحس امنعه ، "امنعا ، امنعا ، امنعا + لا تسمع الباطل ، فإذا ادعى المدعي شيئا ينكره الحس ، فإنه لا يلزم القاضي أن يستمع للدعوى ، بل يردها رأسا ؛ لأن ذلك غير ممكن ، مثال: يدعي شخص أن هذا الشاب ابن له ، وليس بينهما إلا خمس سنوات ، لا يمكن أن تقبل وأن تسمع دعواه ؛ لأنه ادعى ما ينكره الحس ، إذ لا يمكن أن يكون للإنسان ابن ، وكذلك لو كان بينهما ست سنين ، أو سبع سنين ، أو ثمان سنين ، أو تسع سنين بناء على أنه لا تمكن الولادة إلا لمن تم له عشر سنوات.
وكذلك لو كان … +التباعد ما بين … وغير ذلك مما ينكر بالحس هذه الدعوى لا تسمع إطلاقا ؛ لأنا لو سمعنا هذه الدعوى .. ، ويجب أن نعرف الفرق بين سماع الدعوى وقبول الدعوى ، نفي سماع الدعوى أن تلفظ نهائيا ، ولا ينظر القاضي فيها إطلاقا أعني: نفي السماع ، والقبول نفي القبول أن يسمعها ، وينظر فيها ، ولكن لا يقبل فيها دعوى المدعي ، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ما يبين الفرق بينهما بالصورة ، نتفرغ الآن إلى الأسئلة حيث لم يبق على الزمن المحدد إلا تسع عشرة دقيقة.
س: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ ، هذا سائل يقول: امرأة وجدت قطعة من الألماس ، تقدر بحوالي أربعمائة ريال ، فأخذتها ، وهي كانت ملقاة ، أو ساقطة في مجمع عام في سوق ، فباعتها وانتفعت بثمنها ، فماذا عليها الآن؟
ج: عليها أن تتوب إلى الله U لأنها لم تُعَرّف هذه اللقطة ، الواجب عليه أن تعرفها ، بأن تبحث عنها بهذا السوق ، أو فيما هو أعم منه مدة سنة كاملة ، وبعد السنة تكون ملكا لها ، أما الآن فقد فات الأوان ، إن عليها أن تتصدق بثمنها ، قربة إلى الله U لصاحبها سواء كان رجلا ، أو امرأة.
نعم. أحسن الله إليكم.(6/47)
س: هذا يقول: أخذ أخي من تاجر عسل وقال له قيمة الواحدة منه ثلاثمائة ريال ، وإذا بعته بزيادة عن ذلك فلك الزيادة ، فأصبح يبيع الواحدة منه بثلاثمائة وخمسين ريالا ، ما حكم هذا البيع وماذا عليه وجزاكم الله خيرا؟
ج: إذا وكله في بيع شيء عسل ، أو طعام ، أو غير ذلك وقال له بعه بكذا وما زاد ، فلك فلا بأس به لكن بشرط أن يكون البائع الذي وكله عالما بسعر السوق ، فإن لم يكن عالما فله دعوى الربح+ ؛ لأن الإنسان قد تكون عنده السلعة قد مل منها ، وتعب منها ، فيوكل شخصا في بيعها ، هذا بكذا وكذا وما زاد ، فهو له هو لم يسأل عن سعرها ، ولعلها قد زادت قيمتها زيادة كبيرة ، فإذا قال له: خذ هذه السلعة بعها بمائة ، وما زاد فهو لك وعرف الوكيل أن هذا الرجل ليس عنده علم بالأسعار عليه أن يبين ، فيقول: يا فلان السلعة تساوي مائتين ، فإذا قال: وإن يكن الأمر كذلك ، بعها بمائة فما زاد ، فلك فحينئذ أقول: يبيعها بما تساوي في السوق ، ولو بلغت ثلاثمائة وأربعمائة ، ويرد إلى مالكها المائة التي اشترطها لنفسه.
نعم.
س: أحسن الله إليكم ، هذا يقول: فضيلة الشيخ ، كان معنا نساء في حج هذا العام ، وأردنا أن نأخذهن معنا لرجم جمرة العقبة ، أو لرمي جمرة العقبة فقال لنا أخ: بأن الشيخ محمد بن العثيمين ، قال: النساء لا ترجم لشدة الزحام حتى لو كان فيها صحة ، مع العلم بأن النساء كانت بصحة جيدة ، وأرسلت من يرجم عنها هل هذا صحيح عنكم؟ وإن كان لا فماذا يجب علينا الآن وجزاكم الله خيرا؟(6/48)
ج: أما أنا فصحيح عني أني وكلت في العام الماضي ، وقبله + من أراد أن يتعجل أن توكل نساؤه الرجال ؛ لشدة الضيق العظيم الذي يخشى على الرجل الشديد القوي ، فكيف بالمرأة الضعيفة؟ حتى أني رددت بعض الناس ، أثناء الطريق وقلت: أرجع النساء إلى الخيمة ، واذهب ، وارم عنك وعنهن ، لا يمكن أن يرمين إلا بشدة وتعب ومشقة + العبادة إذا + مخاطرة ، العبادة إذا لم يكن فيها تأن بقدر الإمكان ، فإنها تكون ناقصة ، وإن كان الإنسان يؤجر على المشقة ، على هذه المشقة لكن لكل مقام مقال.
أما مع السعة المرأة لا بد ، وأن ترمي بنفسها إلا أن تكون عاجزة ، لكن هؤلاء النساء اللاتي وكلن بناء على ما سمعن من الفتوى ، ليس عليهن شيء حتى ، ولو فرض أن الرجال ذهبوا إلى المرمى ووجدوه خفيفا ، ليس عليهن شيء إذا كان المخبر ممن يوثق بقوله. انتهى الجواب.
نعم.
س: أحسن الله إليكم ، هذا يا شيخ يقول: هذا سائل من اليمن يقول: رأيت بعض الإخوة يصومون يوم العيدين من أذان الفجر ، إلى بعد صلاة العيد ، ما حكم عملهم هذا ، وأحسن الله إليكم؟
ج: عملهم بدعة ، حرام عليهم من وجهين: الأول: أن هذا صوم ليس بشرعي ؛ لأن الصيام الشرعي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
الثاني: أنه ليس بمشروع ، لم يشرع النبي -عليه وعلى آله وسلم- أن يصوم الإنسان من طلوع الفجر إلى صلاة العيد لا في عيد الأضحى ، ولا في عيد الفطر ، بل إن النبي r كان من هديه في عيد الفطر أن لا يخرج إلى المصلى ، حتى يأكل تمرات يأكلهن ، وترا ثلاثا ، أو خمسا ، أو سبعا ، أو تسعا ، أو إحدى عشرة ، أما الأضحى فكان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يبادر بصلاة عيد الأضحى ؛ حتى يأكل الناس من ضحاياهم.(6/49)
والأكل من الضحايا سنة ؛ لقوله -تبارك وتعالى-: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا }ح!$t6ّ9$# الْفَقِيرَ (28) } على هذا الأخ السائل أن ينصح إخوانه الذين يصومون كما ذكر عنهم ، وليبين لهم أن الشرع ما شرعه الله U لأن الشرع هو الطريق الموصل إلى الله ، ولا طريق موصل إلى الله إلا شريعته تبارك ، وتعالى.
نعم.
س: أحسن الله إليكم ، هذا أحد الإخوة من الكويت يقول: هل يجوز للإنسان أن يأكل من نذره؟
ج: لا يجوز ، للإنسان أن يأكل من نذره إلا نذرَ مباحٍ ، كأن ينذر إن نجح في الاختبار ، أن يذبح ذبيحة يدعو إليها أصحابه ، وإخوانه ، إن هذا نذر مباح ، فله أن يأكل منه.
أما نذر التبرك+ فإنه لا يأكل منه إنه لله --عز وجل-- يخصصه للفقراء والمساكين.
نعم.
س: و يقول: أيضا حفظكم الله ، اختلف بعض طلاب العلم في مسألة: من جاء عند قبر ، وقال: يا فلان لصاحب القبر ادع الله لي ، فقال بعضهم: هو شرك أكبر ، وقال آخرون: بل هو شرك أصغر ، فما هو الجواب سددكم الله؟
ج: الظاهر لي أن هذا من باب الشرك الأصغر ؛ لأنه لم يطلب من هذا الميت أن يحصل مقصوده ، أو أن يدفع مكروهه ، وإنما سأله أن يسأل الله U ومعلوم أن الميت لا يمكن أن يسأل الله U لأن النبي r قال: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " وإن من السفه أن يتصور الإنسان أن الميت يمكنه الدعاء لمن طلبه منه الميت ، لا يملك الدعاء ، ولا يملك أن يكشف الضر ، أما من دعا الميت بنفسه قال: يا فلان اكشف ما بي من ضر ، وأعطني كذا وكذا ، فهذا شرك أكبر لا شك فيه. نعم
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ ، لو حدد السلف ما أطلقه الشرع ، فهل يعتبر محددا لعرفنا ، وما الحكم لو اضطربت الأعراف في بلد واحد فكيف الخلاص؟(6/50)
ج: لو أن السلف -رحمهم الله- عينوا ما أطلقه الشرع ، إن ذلك لا يتعين ما دام يختلف في الأعراف والأزمان والأماكن ؛ لأن المتبع النص ، نعني: إذا كان تفسير السلف تفسيرا لمبهم هذا يرجع إليه ، لا سيما تفسير الصحابة -رضي الله عنهم- وأهل الفقه منهم ، وإذا اختلفت الأعراف اتبع في كل مكان ما كان عرفا فيه ، واتبع في كل زمان ما كان عرفا فيه. نعم.
س: يقول: أحسن الله إليكم ، أشكل علي قول شيخ الإسلام بتحريم النذر ، وترخيص النبي r للرجل الذي نذر أن يذبح إبلا ببوانة ، ولم يزجره r .
ج: أولا: أن شيخ الإسلام -رحمه الله- لم أعلم أنه أفصح بالتحريم ، لكن قوة كلامه ظاهره بأنه حرام.
ثانيا: أنه لا يبدو على هذا أمر النبي r بوفاء النذر ، ما أمر عمر بن الخطاب t وأمر صاحب الإبل+ ؛ لأن الكلام إنما هو في ابتداء النذر لا في وفاء النذر ؛ لأن وفاء النذر أمر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- به فكان طاعة لله ، قال -عليه الصلاة والسلام-: " من نذر أن يطيع الله ، فليطعه " والكلام إنما هو في ابتداء النذر ، لا في وفائه ، أما وفاؤه ، فإنه يختلف.
نعم.أحسن الله إليكم.
س: هذا يقول: حصل حادث بين سيارتين فقدمت شركة التأمين للرجل الذي وقع عليه الحادث اختيارين ، إما أن تصلح السيارة ، وإما أن تعطيه مبلغا ، فاختار المبلغ علما بأن تصليح السيارة أقل من المبلغ المعطى له من شركة التأمين ، فماذا يفعل بالمبلغ المتبقى ، هل يصرفه على نفسه ، أو في صالح العامة ، وجزاكم الله خيرا؟
ج: أولا: نحن لا نقر التأمين على السيارات والأملاك وما أشبه ذلك ، بل نرى أنه من الميسر المحرم ؛ لأنه عقد يجعل المتعاقدين بين غانم وغارم ، وهذا هو حقيقة الميسر ، لكن إذا وقع من غير شركة التأمين ، مثل أن يصطلح المعتدي والمعتدى عليه على عوض لإصلاح السيارة مثلا ، فتصلح السيارة بأقل ، فهل يلزم صاحب السيارة أن يرد ما زاد على المعتدي؟.(6/51)
هذا فيه تفصيل: المعتدي قال: خذ هذا أصلح به السيارة ، فإنه يلزمه إذا زاد على ما أعطاه على ما أصلح به السيارة أن يرد الزائد ، الزيادة ، وإن كان المسألة مصالحة أن هذا + الذي حصل بعدوانه ، فإنه لا يلزم الذي أخذه أن يرده ، ونظير ذلك قول الفقهاء -رحمهم الله- لو أعطى شخصا مالا ؛ ليحج به فزاد ، فإن كان قد قال له: خذ هذا المال حج به فالزيادة للحاج ، وإن قال: خذ هذا المال حج منه الزيادة ترجع إلى المحجوج عنه.
آخر سؤالين.
س: هذا يقول: أحسن الله إليكم ، رجل في رحلة برية مع زملائه ، وعندما قام لصلاة الفجر وجد نفسه محتلما والجو بارد جدا ، ولا يستطيع استعمال الماء ، فتوضأ وصلى على تلك الحالة ، ثم أعاد الصلاة قبيل الظهر ، بعد تمكنه من الاغتسال ، فهل تصح صلاته؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج: الرجل الآن أعاد الصلاة ، قد برئت ذمته على كل حال ، لكنه حسب السؤال لم يتيمم لصلاة الفجر ، وإنما توضأ وضوءا ، والوضوء يخفف الجنابة لا شك ، لكن لا يرفع الجنابة وعليه ستكون إعادته الصلاة بعد اغتساله إعادة شرعية ، أما لو تيمم لصلاة الصبح بناء على أنه يخاف على نفسه البرد وصلى ، فإنه لا تلزمه الإعادة.
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وإلى يوم الأربعاء إن شاء الله.
البينة على المدعي
O الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد قال المصنف -رحمه الله تعالى وحفظه ووفقه-:
بينة ألزم لكل مدع
كل أمين يدعي الرد قبل
وأطلق القبول في دعوى التلف
أد الأمانة للذي قد أمنك
ومنكرا ألزم يمينا تطع
ما لم يكن فيما له حظ حصل
وكل من يقبل قوله حلف
ولا تخن من خان فهو قد هلك
O الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم ، وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(6/52)
فسبق لنا في الدرس الماضي: أنه إذا ادعى أحد المتعاقدين فساد العقد والثاني ادعى الصحة ، فإنه يقدم قول مدعي الصحة ؛ لأن هذا هو الأصل في العقود ، وذكرنا اختلاف العلماء -رحمهم الله- فيما إذا ادعى أحدهما أن العقد كان قبل البلوغ ، والثاني قال: إنه كان بعد البلوغ ، وذكرنا أن في هذه المسألة قولين للعلماء ، وأن القاضي ينبغي له أن ينظر في القرائن ، ثم ذكرنا أن كل إنسان يدعي ما ينكره الحس ، فإن دعواه مرفوضة غير مقبولة.
وليس المعنى أن القاضي يستمع له ، بل إنه يرفض السماع لدعواه مطلقا يرفض السماع لدعواه مطلقا ، وضربنا لهذا مثلا أن يدعي رجل بأن شخصا له سبع سنين ولد له ، والمدعي ليس له إلا اثنتا عشرة سنة مثلا ، فإن هذا لا يقبل ؛ لأنه لا يمكن أن يولد لمن له ست سنين ، أما إذا كانت الدعوى مما لا ينكره الحس ، وأنها محتمل أن تكون ، فإنه يجب على القاضي أن يسمعه ، وحينئذ يطلب أي: القاضي ، البينة على دعواه ؛ ولهذا قال:
بينة ألزم لكل مدع
-------------
يعني كل إنسان يدعي شيئا ، فإنه مطالب بالبينة ، والبينة تختلف ، فبينة القذف بالزنا يعني: لو قذف شخصا بالزنا ، فإن البينة التي يطالب بإقامتها أربعة رجال ، قال الله -تعالى-: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وإذا ادعى شخص معروف بالغنى أنه افتقر ، وصار يطلب من الزكاة ، فإننا نطالبه أن يحضر ثلاثة شهود ، لا بد من ذلك.(6/53)
وإذا ادعى شخص سرقة من آخر ، فإنه يطالب ببينة رجلين لإثبات القطع ، ورجلين لإثبات المال ، أو رجل وامرأتان ، أو رجل ويمين ، وفي هذه الحال + البينة ، فالبينة للقطع لا بد أن تكون رجلين ، والبينة لإثبات المال المدعى ، السرقة إما رجلان ، وإما رجل وامرأتان ، وإما رجل ، ويمين المدعي ودعوى المال ، وما يتعلق به إما رجلان ، وإما رجل وامرأتان ، وإما رجل ، ويمين المدعي ، قال الله -تبارك وتعالى-: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ }
اليمين إن عدمت البينة:
وثبت عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قضى بالشاهد واليمين ، والمهم أنه لا بد من إقامة البينة لكل مدعٍ ، فإن لم يقمها ، فإنه يلزم المدعى عليه ، وهو المنكر باليمين ؛ ولهذا قال الناظم:
-------------
ومنكرا ألزم يمينا تطع
دليل هذا قول النبي r " لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ، ولكن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر "
دعاوى الأمناء:
ثم قال الناظم:
كل أمين يدعي الرد قبل
وأطلق القبول في دعوى التلف
ما لم يكن فيما له حظ حصل
وكل من يقبل قوله حلف(6/54)
هذه مسألة دعاوى الأمناء ، دعاوى الأمناء ، يجب أن نعلم أن الأمين هو كل من حصل المال بيده بإذن من المالك ، أو إذن من الشارع ، فالوكيل أمين ؛ لأنه حصل المال بيده بإذن الموكل ، وولي اليتيم أمين ؛ لأنه حصل المال بيده بإذن الشارع ، فالضابط في الأمين أنه كل من حصلت العين بيده بإذن من المالك ، أو بإذن من الشارع ، هؤلاء الأمناء إذا ادعوا الرد إلى من ائتمنهم ، فإنه إما أن يكون الحظ للمالك ، أو الحظ لمن هي بيده أي للأمين ، أو الحظ مشترك ، فإن كان الحظ للمالك قبل قول الأمين في الرد ، مثال ذلك: المودَع إذا ادعى رد الوديعة إلى المودِع بكسر الدال ، فإن القول قوله ؛ لأنه متبرع محسن ، وقد قال الله -تبارك وتعالى-: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }
ومثل ذلك من أنقذ مالا من هلكة ، ثم ادعى صاحب المال أن هذا المنقذ لم يرده ، إما أنه لم يرده مطلقا ، أو لم يرد بعضه بأن ادعى صاحب المال أن المال أكثر مما رده منقذه ، فهنا القول قول منقذ المال ؛ لأنه محسن فيدخل في عموم قوله -تعالى-: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }
القسم الثاني: أن يكون الحظ للأمين خالصا كالمستعير مثلا ، فالمستعير قد قبض العين لحظ نفسه فقط ؛ لأن المالك إنما أعطاه هذه العين ؛ لينتفع بها ، ويردها فهذا لا يقبل قوله في الرد ، وجهه: أن الأصل عدم الرد ، وليس هناك مانعا يمنع تضمينه ، فإذا كان الأصل عدم الرد ، فإنه إذا لم يرد المال ، فهو ضامن له.(6/55)
القسم الثالث: أن يكون المال حصل بيد الأمين لمصلحتهما ، أي: مصلحة صاحب المال ومصلحة الأمين ، وذلك كالعين المستأجرة ، فالعين المستأجرة بيد المستأجر لحظ نفسه ، ولحظ مالكها ، لحظ نفسه ؛ ليستوفي المنفعة التي عقدت الإجارة عليها ، ولحظ مالكها ؛ لأن المالك سوف يأخذ بدلا عن هذا النفع الذي تقاضاه المستأجر عوضا ، فكل منهما له مصلحة هذا أيضا لا يقبل فيه دعوى الرد ، يعني: لو أن المالك أتى إلى المستأجر ، وقال: أعطني العين التي أجرتك إياها ، فقال: قد رددتها عليك ، فإننا لا نقبل دعواه بالرد ؛ لأن الأصل في قابض مال غيره الضمان ، ولا يوجد ما يمنعه.
إذن الرد إذا ادعاه الأمين ، فإنه مقبول إلا إذا كان للأمين مصلحة ، فإنه لا يقبل قوله في الرد ، سواء كانت المصلحة متمحضة له ، أو له ولرب المال.
وعموم قول الناظم : "كل أمين" أن من ليس أمينا ، فإنه لا يقبل قوله في الرد كالغاصب مثلا ، فالغاصب إذا ادعى الرد إلى المالك ، فإنه لا يقبل ؛ لأن يده ليست يد أمانة ، وإذا لم تكن يد أمانة ، فإن قوله لا يقبل.
ثم قال الناظم -رحمه الله وعفا عنه ووفقه-:
وأطلق القبول في دعوى التلف
-------------
يعني: معناه أن الأمين إذا ادعى التلف ، فإنه مقبول سواء كان له حظ في قبضه العين ، أم ليس له حظ ؛ لأن التلف ليس بفعله ، ولا باختياره ، والمالك قد ائتمنه على العين ، فإذا ادعى أنها تلفت قبل قوله.
مثال ذلك: رجل أعار شخصا قلما ، ثم طلب رده أعني: صاحب القلم ، ثم ادعى المستعير أنه تلف.(6/56)
أما الرد فقد سبق في البيت السابق ، ادعى المستعير أنه تلف ، فالقول قوله ؛ لأن التلف ليس من فعله ، والمالك قد جعله نائبا عنه في الاستيلاء على هذه العين ، فيكون القول قوله في التلف ، وكذلك من قبض العين لمصلحة مالكها كالمودع ، فإذا ادعى المودع أن العين قد تلفت ، فالقول قوله ؛ لأن العين حصلت بيده بإذن مالكها ، فهو قائم مقامه ، وكذلك المستأجر إذا ادعى تلف العين المؤجرة ، فإن القول قوله.
والحاصل أن الأمناء في دعوى الرد يختلفون ، فيقبل قول الأمين في الرد إذا كان قد قبض العين لمصلحة مالكها ، ولا يقبل قوله إذا كان له مصلحة في قبض العين ، إما خالصة ، أو مشتركة مع المالك ، وأما في التلف ، فإن قول جميع الأمناء مقبول ، سواء كانت العين بأيديهم لحظ مالكها ، أو لحظهم هم ، أو مشتركة.
ثم قال الناظم:
-------------
وكل من يقبل قوله حلف
يعني: كل من قلنا القول قوله ، فإنه لا بد أن يحلف ، ولا يكفي أن يقول: رددتها ، أو يقول: تلفت عندي ، أو ما أشبه ذلك ، بل لا بد من اليمين ، واليمين لا تضر إذا كان أمره الذي ادعاه واقعا ، فإن قال قائل: إذا كان الأمين قد قبض العين لمصلحة مالكها ، ثم ادعى الرد ، فهو محسن فكيف نلزمه باليمين؟
قلنا: لأن اليمين لا تضر إن كان صادقا ، فاليمين لا تضره ، وهو بار ، وإن لم يكن صادقا ، فإنه إن كان عنده تقوى لله ، فإنه لن يحلف ، إن كان كاذبا هذا ضرر على الأمين في إلزامه اليمين ، سواء في دعوى الرد إذا قبل قوله فيه ، أو في دعوى التلف ، فإن قال قائل: إذا لم يحلف الأمين على الرد في دعوى الرد ، أو على التلف في دعوى التلف ، فما الحكم؟
فالجواب: الحكم أن يضمن ؛ لأنه لو كان صادقا لم يضره أن يحلف ، فإن قال قائل: لعله هاب اليمين ، قلنا: إذا هاب اليمين ، فالجواب: أنه إذا هاب اليمين فهذا دليل على ورعه ، ومن تمام ورعه أن يضمن الحق لصاحبه.
أداء الأمانة وعدم مجاراة الخائنين:(6/57)
ثم قال الناظم -رحمه الله-:
أد الأمانة للذي قد أمنك
وجائز أخذك ما لا يستحق
ولا تخن من خان فهو قد هلك
شرعا ولو سرا كضيف فهو حق
هذا البيت:
أد الأمانة للذي قد أمنك
--------------
مأخوذ من قول النبي r " أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " يعني: إذا أمنك الإنسان على شيء ، فأد الأمانة في ذلك الشيء ، ولا تخن من خانك ؛ لأن الخائن هالك ، وأنت إذا خانك أحد ، فأنت الرابح ؛ لأنك ستلقى عوض خيانتك ، إما في الدنيا إن هدى الله الخائن ، ورجع إلى الصواب ، وإما في الآخرة.
ولنضرب لهذا مثلا: رجل أعطاه شخص وديعة تبلغ عشرة آلاف ريال ، وكان قد أقرض الذي أودعه عشرة آلاف ريال ، فلما جاء يطلب قرضه أنكره ، وقال: لم تقرضني ، فمدعي القرض الآن عنده مال يمكنه أن يجحده ليستوفى به ، فهل له أن يفعل ذلك؟ نقول: لا ، لا يفعل هذا ، بل يؤدي الأمانة إلى من ائتمنه ، ويعطيه الوديعة ، وقرضه الذي لم يثبت على المدعى عليه سيوفى إياه ، إما في الدنيا إن هدى الله المدعى عليه ، وإما في الآخرة.
وكذلك لو أن أحدا سرق من شخص مالا ، وقدر صاحب المال على أن يأخذ شيئا من ماله ، أي: من مال السارق ، فليس له ذلك ؛ لأن الواجب أداء الأمانة إلى من ائتمنك وألا تخون من خانك ، ثم ذكر الناظم بيتا كالاستثناء مما سبق فقال:
وجائز أخذك ما لا يستحق
شرعا -------
يعني: لا بالمعاملة ، ولو سرا كضيف ، فهو حق يعني: إذا كان الحق ثابت لك شرعا لا بالمعاملة ، فإنه يجوز لك أن تأخذ حقك ممن هو عليه ، ولو سرا كضيف ، فهو حقك.(6/58)
مثال ذلك: أناس نزلوا عل صاحب غنم ضيوفا عليه ، ولكن صاحب الغنم لم يقم بواجب الضيافة ، فلهم أن يأخذوا من غنمه بقدر ضيافتهم بالمعروف ؛ لأن وجوب الضيافة على صاحب الغنم ثابت بالشرع ، وأخذهم من ماله قدر ضيافتهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن إذا كان يخاف من أخذهم من ماله بقدر ضيافتهم أن تقع فتنة بينهم وبينه بقتال حاضرا ، أو مستقبلا ، فإن درء المفاسد أولى.
لكن لو قال قائل: هل يجوز أن يشتروا من غنمه مقدار ضيافتهم ، ثم يقولون: لم نشتر منك شيئا ، فالجواب: لا يجوز هذا ؛ لأن عقد البيع معه عقد شرعي ، وثبوت الحق في ذممهم ثبت بفعلهم ، فلا يحل لهم إنكاره من أجل أخذ ضيافتهم ، ومثل ذلك لو كان الزوج بخيلا لا ينفق على زوجته ما يجب لها ، وقدرت على أن تأخذ شيئا من ماله بمقدار ما يجب لها من نفقة ، فلها ذلك.
ودليله: أن هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان أتت إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقالت: يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل شحيح ، تعني: بخيلا ، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ، ويكفي بني ، فهل لي أن آخذ من ماله بغير علمه ، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " خذي من ماله ما يكفيك ، ويكفي بنيك بالمعروف " .
قال أهل العلم -رحمهم الله-: ووجه إباحة ذلك أن سبب وجوب الحق ظاهر معلوم ، وهو الزوجية ، والنزول ضيوفا ، فلا يمكن أن يحصل بذلك اشتباه ، وهذا من محاسن الشريعة وفقهها ، ومثل ذلك أيضا من تجب نفقته على شخص بخيل لا يعطيه ما ينفقه عليه ، فإن له إذا قدر على شيء من ماله أن يأخذ منه بالمعروف قياسا على حق الزوجة.
يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا:
ثم قال الناظم -رحمه الله- :
قد يثبت الشيء لغيره تبع
كحامل إن بيع حملها امتنع
وإن يكن لو استقل لامتنع
ولو تباع حاملا لم يمتنع
هذه من القواعد التي ذكرها ابن رجب -رحمه الله- في كتابه "القواعد الفقهية" وهو أنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا.(6/59)
يقول الناظم:
قد يثبت الشيء لغيره تبع
..................
تبع أصلها تبعا ، ولكن وقف عليها بحذف الألف ، إما اتباعا للغة ربيعة ، فإنهم يقفون على المنصوب بالألف ، أو من أجل مراعاة الروي ، يعني: القافية ، والمعنى أن الشيء قد يثبت تبعا لغيره ، مع أنه لو استقل لكان محرما.
وله أمثلة ضرب منها الناظم مثلا: الحامل ، فبيع الحمل منفردا حرام ، لا يثبت ، ولو بيعت بهيمة حامل لصح البيع ؛ ولهذا قال:
كحامل إن بيع حملها امتنع
-------------
ولو تباع حاملا ، يعني: لو تباع حال كونها حاملا ، لم يمتنع أما بيع الحمل ، فإنه ممتنع ؛ لأنه غرر ، فإنه لا يدرى ما في بطون الأنعام ، أذكر أم أنثى ، واحد أو متعدد ، كبير الحجم أم صغير ، ولو قدر أن هذا علم بالوسائل الطبية الحديثة ، فإنه لا يعلم هل يخرج حيا أم يموت ، فيكون فيه غرم ؛ ولهذا لا بد أن تنزل قيمته ، لو بيع حال الحمل ، فلا يمكن أن يباع بمثل قيمته لو وضع ، وحينئذ إن خرج سليما ، فالغانم المشتري ، وإن هلك قبل أن يخرج فالغانم البائع ، فيكون هذا العقد من الميسر ، ومثل ذلك ثمر النخل ، فبيع ثمار النخل وحده لا يجوز ، حتى يبدو صلاحه كأن يحمر ، أو يصفر ، وبيع النخل وعليه الثمر جائز.
أما الأول ؛ فلأن النبي r " نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها " وهو بأن تحمر ، أو تصفر ، وأما في الثاني ؛ فلأن النبي r قال: " من باع نخلا بعد أن تؤبر ، فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع " فإذا باع نخلة قد أبرت عليها الثمرة ، ولم يبد صلاحها ، واشترط على المشتري ، فالبيع جائز ، فثبت هنا تبعا ما لا يثبت استقلالا ، ولكن هل يجوز بيع الثمرة لمالك الأصل قبل بدو صلاحها؟(6/60)
في هذا خلاف بين العلماء ، ومثال ذلك أن يبيع الفلاح نصيبه من الثمرة على صاحب الملك ، مثل أن يكون الفلاح قد عامل صاحب النخل بنصف الثمرة ، ثم بدا للفلاح ألا يستمر في العمل ، وباع نصيبه من الثمرة على صاحب الأصل ، فمن العلماء من قال: إن هذا جائز ؛ لأنه باع الثمر على صاحب الأصل ، ومنهم من قال: إنه ليس بجائز ، وهذا هو الحق ؛ لأن نصيب العامل مستقل ، ولم يملكه صاحب الأصل من جهته بخلاف ما إذا اشترطه المشتري الذي اشترى الأصل ، وهو عليه الثمر .
يفسد العقد بالشرط الفاسد ذكرا أو قصدا:
ثم قال الناظم:
وكل شرط مفسد للعقد
بذكره يفسده بالقصد
يعني: أن الشروط التي إذا ذكرت في العقد أفسدت العقد ، فإنها تفسد العقد ، إذا نويت فالمنوي كالشروط ، ودليل ذلك قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته لله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " ونضرب لهذا مثلا نكاح المحلل ، والمحلل هو الذي يتزوج امرأة فارقها زوجها بطلاق ثلاث من أجل أن يحلها لزوجها ، وهو من العقود المحرمة ، حتى إن النبي -صلى الله عليه وعلى وآله وسلم- لعن المحلل والمحلل له.
فإذا تزوج المرأة التي أبانها زوجها بالثلاث على أن يطلقها ، متى حللها للأول ، فلا شك أن العقد باطل ، وأنها لا تحل به للزوج الأول ؛ لأنه عقد باطل ، والباطل لا يترتب عليه أثر الصحيح ، لكن لو نواه بلا شرط ، أي: نوى أن يتزوج هذه المرأة ؛ ليحللها لزوجها الأول بدون أن يشترط ذلك عليه ، فإن العقد فاسد لهذه القاعدة: أن المنوي كالمشروط ، ودليله ما أسلفنا من قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " .(6/61)
وهل يدخل في ذلك أن يتزوج الرجل امرأة ، ونيته أن يكون النكاح مؤقتا بزمن ، أو عمل مثل أن يتزوج غريب بنية: أنه إذا فارق البلد طلقها ، فهذا من المعلوم أنه لو شرط ذلك باللفظ ، فقال: زوجوني إياها ما دمت مقيما في هذا البلد.
من المعلوم أن هذا نكاح متعة لا يصح ؛ لأن النبي r نهى عنه ، ولكن لو نوى ، فهل نقول: إن المنوي كالمشروط ، فلا يصح النكاح؟ أو نقول: إن النكاح صحيح ؛ لأنه لم يلتزم بالشرط أمام صاحب العقد ، وهو إما أن يرغب فيستمر ، وإما ألا يرغب ، فلا يستمر بخلاف نكاح المتعة ، فإن نكاح المتعة إذا انتهت المدة انفسخ النكاح ، رضي أم لم يرض.
أما المشهور من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- عند أصحابه كصاحب +والمنتهى والإقناع ، ونحوها فيقولون: إن النكاح لا يصح بناء على هذه القاعدة: أن كل شرط مفسد للعقد بذكره يفسده بالقصد ، قالوا: فإذا كان توقيت النكاح بالشرط مفسدا للعقد ، فكذلك بالنية ، وقال آخرون: إن العقد لا يفسد ؛ لأن الذي تزوج بهذه النية لم يلزم نفسه بالفراق عند انتهاء السبب ، فهو إن شاء بقي ، وإن شاء طلق.(6/62)
ولكن هنا مسألة صار بعض الناس يتوصل إليها بناء على هذا القول ، أعني: القول بجواز النكاح بنية الطلاق ، وهي لا تدخل تحت الخلاف قطعا ، هذه المسألة هي أن بعض الناس صار يسافر إلى بلاد أخرى من أجل أن يتزوج ، وهو خلاف المسألة التي فرضها أهل العلم ؛ لأن المسألة التي فرضها أهل العلم في الغريب يتزوج بنية الطلاق إذا فارق البلد ، والغريب لم يسافر لأجل أن يتزوج ، إنما سافر لحاجة طلب علم ، أو مال ، أو غير ذلك ، واحتاج إلى النكاح ، فتزوج أما هذا فقد قصد من الأصل أن يذهب إلى البلد ؛ ليتزوج بعقد مؤجل ، فهو في الحقيقة كأنما ذهب من أجل هذه النية المختلف فيها ، فلا يدخل تحت الخلاف ، أسأل الله تعالى لإخواني المسلمين العفة والعفاف ، وأن يوفقنا جميعا لما يحبه ، ويرضاه ، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه ، إنه ولي ذلك ، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وإلى دور الأسئلة فيما بقي من الوقت.
س: فضيلة الشيخ.. نعم. هذه سائلة تقول: أرجو أن ترد يا فضيلة الشيخ على رسالتي المهمة ؛ لأنها تتوقف على سعادة أسرتي ، ضحيتها زوج وأمهم وثمانية أطفال ، زوجي كان قد طلقني طلقة واحدة بالكلام دون ورق ، ومن مدة خمسة أيام حصل شجار بيني وبينه ، فقال لي في عصبية جنونية: أنت طالق طالق طالق ، هل وقع الطلاق نهائيا أم تعتبر طلقة واحدة؟ وجزاك الله خيرا ، نرجو الرد سريعا ؛ لأني بعيدة عن بيتي وأطفالي منذ خمسة أيام+.
ج: إذا كان غضبه شديدا ، فإن الطلاق لا يقع ؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " لا طلاق في إغلاق " والغضب الشديد هو الذي لا يملك الإنسان نفسه عنده بحيث يطلق ، وكأن أحدا أكرهه على ذلك ، أما إذا كان الغضب عاديا ، وطلقها ، فإن الطلاق يقع ، إذا كانت في طهر لم يجامعها فيه ، ولكن كم طلقة تقع نقول: إذا كان لم ينو الثلاث ، فإنه لا يقع إلا واحدة قولا واحدا.(6/63)
وأما إذا كان نوى الثلاث بقوله: أنت طالق طالق طالق ، فمن العلماء من يقول: إن الثلاث تقع ، ولا تحل له إلا بعد زوج في نكاح صحيح فيجامعها ، ثم يفارقها ، ومن العلماء من قال: إن الثلاثة واحدة ، والخلاف في هذا معروف.
نعم.
- فضيلة شيخ تقول: إنه طلقها ، وهي حائض ، طلقها عندما كانت حائضا.
-إذا كان كذلك ، فإنه لا طلاق ، الطلاق لاغ ؛ لأنه على غير أمر الله ورسوله ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
س: يعني: ما يقع الطلاق أحسن الله إليك فضيلة الشيخ؟
ج: إي ، ما يقع الطلاق.
س: هذا يقول: امرأة لها طفل معوق ، وكان مولودا على هذا الوضع وكانت ترعاه ، هي وأبناؤها الكبار ، وفي يوم وجدت أن الطفل قد مات ، وهي لا تعرف في هذا اليوم ، قد وضعت له الحليب لهذا الطفل ، أو لا ، ولا تعرف هل إخوته أرضعوه أم لم يرضعوه ، وقد رأته ميتا ، فماذا عليها ، وجزاكم الله خيرا ، علما بأنها قد وجدت الحليب الذي وضعته في الثلاجة؟
ج: ج: هذه المرأة ليس عليها شيء ، ومثل هذه الحال يقع كثيرا ، فيشتبه على بعض الناس ، تجد المرأة طفلها ميتا على الفراش ، ولا تدري هل انقلبت عليه أم لا ، ونحن نقول للإخوة قاعدة مفيدة: إذا حصل الشك هل كان القتل بسبب من الأم ، أو غيرها من الناس ، أو كان ذلك بفعل الله U فإن الأصل براءة الذمة ، ولا شيء على الأم ، ولا على غيرها مع الشك ؛ لأننا لا يمكن أن نوجب على أحد شيئا لا كفارة ، ولا دية إلا إذا علمنا يقينا أنه حصل القتل بسبب تعد ، أو تفريط ، وعلى هذا فنقول لهذه المرأة التي عندها هذا المعوق: لا شيء عليك ، لا إثم ، ولا كفارة ، ولا دية. نعم.
س: وهذا يقول في قول الناظم -رحمه الله تعالى-:
أد الأمانة للذي قد أمنك
ولا تخن من خان فهو قد هلك(6/64)
فهل هذا على سبيل الوجوب أم من باب الورع؟ وعليه من استأمنني على مال ، وأنا أطلبه بدين عليه ، فهل لو تحايلت وأخذت حقي منه بهذه الحيلة ، فهل هذا من الحرام ، وما رأيكم في الحيلة لمن له حق عند غني مماطل؟
ج: نعم. الحديث عام فيجب أداء الأمانة ، ولا تجوز الخيانة ، وكما قلنا في الشر ج: إن أدركت حقك في الدنيا فهذا ، وإن لم تدركه ففي الآخرة ، وعلى هذا فنقول: إن التحيل على أخذ المال على غير وجه شرعي محرم ، ولكني أرشد إخواني إلى ألا يفرطوا في الأموال ، وأن يحفظوا عليهم أموالهم ، وألا يؤدوا إلى أحد شيئا إلا بشروط.
وقد أرشد الله إلى هذا بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } وكون بعض الناس يستحيي ، أن يشهد يقال له: أنت الذي فرطت ، وأنت الذي أهملت ، والإشهاد ليس فيه حياء ؛ لأنه حق. نعم. وكذلك المماطل إذا قدرت على شيء من ماله ، لا يجوز لك أن تخونه ، بل " أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " .
نعم.
س: س: أقول: هذه رسالة يا شيخ ملخصها أنه شاب بار بأمه ، ويقول: تطلب مني الوالدة أحيانا أن أذهب بها إلى بعض الأماكن ، التي يوجد فيها بعض المنكرات كالأسواق ، أو حضور بعض المناسبات التي يكثر فيها القيل والقال ، وإضاعة الأوقات ، ويقول: أعتذر أحيانا عن الذهاب بها لحضور بعض الدروس ، وطلب العلم ، فهل علي شيء في ذلك؟(6/65)
ج: ليس عليه شيء ، بل هو إذا امتنع من الذهاب معها ، فهو بار بها ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جعل منع الظالم من ظلمه نصرا له ، فقال: " انصر أخاك ظالما ، أو مظلوما ، قال يا رسول الله: كيف أنصره ، وهو ظالم قال: أن تمنعه من الظلم " فكونه يأبى على أمه أن يذهب بها إلى أشياء توجد فيها المنكرات ، هو من برها في الحقيقة ، وهو مثاب على ذلك ، أما إذا كانت تريد أن يذهب بها إلى شيء مباح ، فعليه أن يطيعها إلا إذا كان ذلك يصده عن مصلحة دينه ودنياه.
نعم.
س: أحسن الله إليك ، هذا يقول: نحن مجموعة من المدرسين ، والمدرسة تبعد عنا مسافة القصر ، فأحيانا تدركنا صلاة الظهر ، ونحن في المدرسة فنصلي الظهر ركعتين ، وأحيانا نجمع العصر معها تخفيفا علينا ، مع العلم أننا نستطيع إدراكها في بلدنا عند العودة ، فهل لنا أن نقصر الصلاة مع العلم ، أننا طوال السنة ندرس فيها ، وجزاكم الله خيرا.
ج: الذي أراه ألا يقصروا الصلاة ؛ لأن هذا ليس بسفر ، ما داموا يذهبون في أول النهار ، ويرجعون في آخره ، فإن ذلك لا يعد عند الناس سفرا ، لكن هل يجمعون بين الظهر والعصر؟ فالجواب إن كان يشق عليهم انتظار صلاة العصر إذا وصلوا بحيث يكونون ، قد تعبوا تعبا عظيما يشق عليهم انتظار الصلاة ، وربما لو انتظروا لأخذهم النوم ، ولم يستيقظوا إلا بعد الغروب ، فلهم أن يجمعوا صلاة العصر إلى الظهر ، لكن أربعا أربعا. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ ، قلتم -حفظكم الله-: إذا لم يضيفك المضيف تأخذ قدر ضيافتك ، فهل لي أن آخذ مثلا رأسا من الغنم ، أو مقدار دجاجة ، أو دجاجتين ، أو غير ذلك ، وضحوا لنا وجزاكم الله خيرا؟
ج: نعم. تأخذ بقدر ضيافتك ، ومعلوم أن الإنسان إذا كانوا جماعة كثيرين يحتاجون إلى شيء كثير ، وإذا كانوا قليلا ، أو واحدا ، فإنهم لا يحتاجون إلى شيء كثير.
نعم.(6/66)
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ ، ألا يكون أخذ الضيف حقه من مال المضيف ذريعة ، بينوا لنا ذلك ، والله يرعاكم؟
ج: ذكرنا في أثناء الشرح أنه إذا كان يخشى من ذلك فتنة في الحاضر ، أو المستقبل ، فإنه لا ينبغي للضيف أن يأخذ شيئا ؛ لأن ذلك يؤدي إلى المفاسد ، ودرء المفاسد أولى ، وأما أن يكون الإنسان يبحث ؛ لينزل ضيفا من أجل أن يأخذ الضيافة ، فهذا لا يجوز ؛ لأن هذا إنما سافر ليأكل أموال الناس ، لكن إنسان سافر إلى غرض مقصود ، ونزل ضيفا على آخر ، فهذا هو ما نريد الكلام فيه.
نعم.
س: أحسن الله إليكم ، هذا يقول: فضيلة الشيخ ، نسب إليكم أنكم تقولون بسنية الجهر في صلاة الجنازة في شرحكم لكتاب "بلوغ المرام" فما صحة ذلك ، وجزاكم الله خيرا؟
ج: نعم. نقول بهذا إذا كان من أجل التعليم ، كما فعل ابن عباس: رضي الله عنهما- حين جهر بقراءة الفاتحة ، وقال: ليعلموا أنها سنة ، وكما كان عمر بن الخطاب t يجهر بدعاء الاستفتاح حتى يعلم الناس أنه سنة ؛ لأنه من المعلوم أن أصحاب الجنازة لا يبقون حتى يقال: ينتظر حتى يسلم ، ثم يرشدهم ، والناس لا يبقون في العادة ، بل يذهبون مشيعين للجنازة ، أو منصرفين إلى دورهم.
نعم.
س: يقول: فضيلة الشيخ ، أحسن الله إليكم ، ورفع درجاتكم ، إذا ادعى المالك أن أصل العيب حصل عند المستأجر ، فهل يقبل قوله؟(6/67)
ج: حتى لو حصل عند المستأجر ، فهو لم يتعد ، ولم يفرط ، فلا ضمان عليه ، لكن لعل السائل يريد إذا اختلف البائع والمشتري عند من حدث العيب ، وهذا فيه تفصيل ، فإذا اختلف البائع والمشتري عند من حدث العيب ، فقال البائع: إنه عند المشتري ، وقال المشتري: إنه عند البائع ، فإن كان لا يحتمل قول الثاني ، أخذ بقول الأول ، مثلا إذا كان العيب إصبعا زائدة ، وقال المشتري: إنه معيب عند البائع ، وقال البائع: بل عندك ، فهنا القول قول المشتري ؛ لأنه لا يمكن أن تنبت الإصبع ، وإذا كان جرحا طريا نعلم أنه حدث عن قرب ، فادعى المشتري أنه حدث عند البائع ، وادعى البائع أنه عند المشتري ، فالقول قول البائع هنا ، وإذا كان يحتمل هذا ، وهذا ، فمن العلماء من قال: إن القول قول البائع ، ومنهم من قال: إن القول قول المشتري.
نعم.
س: يقول: فضيلة الشيخ ، أحسن الله إليك ، رجل ذهب بأولاده إلى العمرة ، وهم صغار ، منهم عمره سنة وسنتان وأربع سنوات وست ، فأحرم بهم من الميقات ، ولكن أثناء تأدية مناسك العمرة أتعبوه ، ولم يكمل بهم سوى الطواف ، وبعضهم لم يطف ؛ لأنهم صاروا يصيحون ، ولا يستطيعون المشي ، فلم يكمل بهم العمرة ، وبعد ذلك ذهب إلى بلاده ، فماذا عليه مع أن بلاده بعيدة ، حوالي ستة آلاف كيلو متر ذهابا وعودة ، أفتونا مأجورين؟
ج: القول الصحيح أنه لا شيء عليه ، وأن الصغار الذين لم يبلغوا إذا أحرموا بعمرة ، أو حج ، فإن أتموها ، فهذا المطلوب ، وإن لم يتموها فلا شيء عليهم ؛ لأنهم غير مكلفين ، قد رفع عنهم القلم كما في الحديث: " رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق " .
انتهى الوقت.
الله يحسن إليك ، نختم بهذا السؤال يا شيخ.
طيب.
س: يقول: فضيلة الشيخ أحسن الله إليك ، ورفع درجتك ، إذا أتى المُودِع ببينة ، ثم أنكر المودَع باليمين فما الحكم.؟(6/68)
ج: إذا أتى المودِع ببينة ، أنه أودعه ، معلوم أن القول قوله.
س: يقول: ثم أنكر المودع باليمين.
ج: أنكر أيش؟
المودَع الذي استودع أنكر باليمين.
أنكر أيش ؟
س: أنكر الوديعة.
ج: لا يمكن ، لو أنكرها حكم عليه ، ما دام ثبتت عنده بشهود ، فإنه لا يقبل إنكاره.
س: أحسن الله إليك نواصل الأسئلة يا شيخ؟
ج: لا.
والحمد لله رب العالمين ، وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الأعمال بظواهراها
O
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى وغفر له ورفع درجته إنه ولي ذلك والقادر عليه-:
لكن من يجهل قصد صاحبه
لأنه لا يعلم الذي أسر
والشرط والصلح إذا ما حللا
وكل مشغول فليس يشغل
كمُبَدَل في حكمه اجعل بدلا
فالعقد غير فاسد من جانبه
فأجرى العقد على ما قد ظهر
محرما أو عكسه لن يقبلا
بمسقط لما به ينشغل
ورب مفضول يكون أفضلا
O
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو المجلس الرابع من المجالس ، التي نلقيها عبر التلفون في الدورة التي أقيمت في مسجد ابن تيمية -رحمه الله- في الرياض ، في إجازة عام ثمانية عشر وأربعمائة وألف.
ولا بد أن نأخذ أسئلة على ما سبق.
-يا شيخ.
- نعم.
- الإخوان في مكان آخر يسمعونك ، لكنهم بعيد عنك ، يعني: ما يستطيعون أن يجيبوا ، فلعلك تعذرنا اليوم ، الله يحفظك.
- طيب.
- الله يعظم أجرك.
- أعذرك اليوم على أن تكون -إن شاء الله- في الجلسة الثانية؟
-إن شاء الله.
يقول الناظم:
وكل شرط مفسد للعقد
بذكره يفسده بالقصد(6/69)
يعني: أن الشروط الفاسدة التي تفسد العقد إذا ذكرت ، فإنها تفسده إذا قصدت ، وإن لم تذكر باللفظ ، وسبق التمثيل لهذا في نكاح من قصد تحليل الزوجة لمطلقها ثلاثا ، ومثلنا أيضا بمثال آخر بمن نوى الطلاق للرحيل ، أي: عند رحيله ، واللام تأتي بمعنى عند ، كما في قوله -تعالى-: { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } أي: عند دلوك الشمس على أحد الاحتمالات ، فهذان المثالان ، يجري فيهما القصد مجرى النص ، ودليلهما ما سبق من قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى "
ولكن هذا مع اتفاق المتعاقدين على النية ظاهر ، لكن إذا كان أمرهما لا يدرى كأن كانت الزوجة التي تزوجها رجل للتحليل لزوجها ، لا تدري عن نيته ، فهل يلحقها حكم زوجها؟ لنستمع إلى قول الناظم ، قال الناظم:
لكن من يجهل قصد صاحبه
فالعقد غير فاسد من جانبه
يعني: مثلا إذا كانت الزوجة ، المطلقة ثلاثا تزوجها رجل بنية التحليل ، وهي لا تدري ، فإن ذلك لا يؤثر عليها ، فلو طلقها هذا المحلل وبقيت على عدم علمها بالتحليل ، حلت للزوج الأول ، وكذلك لو أن شخصا باع على رجل آخر سلاحا ، وكان المشتري يريد أن يقتل به نفسا محرمة ، فالعقد في حق المشتري محرم وباطل ، لكنه في حق البائع الذي لا يدري حلال وصحيح ، وعلى هذا فقس.
وقد عين الناظم هذا بقوله:
لأنه لا يعلم الذي أسر
فأجري العقد على ما قد ظهر
يعني: لأن صاحبه الذي لا يدري بنيته لا يعلم عما أسره من النية المبطلة للعقد ، فأجري العقد على ما قد ظهر ، يعني: أجري العقد على الظاهر ، وهكذا الأمور تجرى على ظواهرها ، ما لم يتبين خلاف ذلك ، فإن تبين خلاف ذلك عمل بما يقتضيه ذلك التبين.
لا يجوز الاشتراط أو الاتفاق على خلاف الشرع:
ثم قال الناظم:
والشرط والصلح إذا ما حللا
محرما أو عكسه لن يقبلها
قوله:
الشرط والصلح إذا ما حللا
-------------
ما زائدة ، كما قال الراجز:(6/70)
يا طالبا خذ فائدة
ما بعد إذا زائدة
ومن ذلك قوله - تعالى-: { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) } أي: إذا غضبوا ، وقوله -تعالى-: { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) } أي: حتى إذا جاءوها ، وقوله:
"لن يقبل خبرا مبطلا" الشرط والصلح ، وجواب إذا محذوف ، دل عليه ما ذكر في قوله: "لن يقبلا" وقيل: إن الشرط في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب ، المهم المعنى الشرط الأصل فيه "أن ينقلا" ولازم ، فكل ما شرطت بعقود من أحد الطرفين ، أو منهما ، فهو حلال لازم هذا الأصل. أما الأول أي كون الشرط حلالا ، فلأن الأصل في العقود الحل إلا ما دل الدليل على تحريمه ؛ لقول الله -تعالى-: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } والشروط تابعة لأصولها ، يعني: أن الأمر بوفاء العقود ، يشمل الوفاء بها أصلا والوفاء بها وقفا ، وهي الشروط التي اشترطت في العقد.
مثال ذلك: لو اشترى بيتا واشترط البائع سكنى البيت سنة ، فإن هذا جائز ، وهو يقع كثيرا ، كثيرا ما يحتاج البائع إلى بيع البيت ؛ ليشتري بيتا دونه ، لكنه يحتاط لنفسه ، فيشترط على المشتري أن يسكنه سنة.
مثال ذلك لو اشترى بيتا، واشترط البائع سكنى البيت سنة، فإن هذا جائز، وهو يقع كثيرا، كثيرا ما يحتاج البائع إلى بيع البيت ليشتري بيتا دونه، لكنه يحتاط لنفسه، فيشترط على المشتري أن يسكنه سنة، فهذا الشرط حلال، صحيح، لازم.
وقد جاءت السنة بمثله، فإن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- باع على النبي r جملا له في أثناء السفر، واشترط على النبي r الذي اشتراه اشترط عليه أن يحمله أن يحمل جابرا إلى المدينة، فقبل النبي r ذلك الشرط، والتزم به، وهذا شرط استبقاء منفعة في المبيع للبائع إلى أمد معلوم.(6/71)
كذلك لو اشترط البائع على المشتري الذي لم ينقد الثمن، أن يرهنه بيته، قال: أنا أبيع عليك هذه السيارة بثلاثين ألفا، بشرط أن ترهنني بيتك، فلا حرج؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، ويجب الوفاء بهذا الشرط؛ لقوله -تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وقد ثبت عن النبي r " أنه اشترى من يهودي طعاما لأهله، وهو في المدينة، ورهنه درعه " ومثل ذلك أن يبيع شيئا على شخص بثمن، اشترط المشتري أن يكون مؤجلا إلى سنة، سواء كان يحل دفعة واحدة ، أو على دفعات، وهذا جائز، ولازم، وهو داخل في قول الله -تعالى- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ }
المصالحة كذلك إذا جرى الصلح على شيء لا يحلل حراما، ولا يحرم حلالا، فلا بأس.
مثل أن يكون بين شخصين معاملة طويلة كثيرة، كل واحد منهما +داخل ومسئول عليه، فاتفقا على أن يصطلحا على شيء معلوم يتراضيان عليه، ويتحالان عليه، فإن هذا لا بأس به؛ لأن في ذلك مصلحة للطرفين وإبراء للذمة، فهو جائز.
ومن ذلك على القول الراجح لو كان لإنسان دين على آخر، مقداره عشرة آلاف يحل بعد سنة، فقال المطلوب لصاحب الدين: أصالحك على نصف المبلغ، وأنقده لك الآن، فوافق على ذلك، فلا حرج؛ لدخوله في عموم قول النبي r " الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا " وهذا وإن كان الحديث قد تكلم فيه، فإنه ربما يؤخذ من عموم قول الله -تبارك وتعالى- في الزوجين:
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وليس فيه محذور ربا؛ لأن غاية ما فيه إسقاط وإبراء باختيار. فمحذور الربا فيه بعيد، بل ليس فيه محذور أصلا، وأما من منعه بحجة أنه ربا، أو وسيلة إلى الربا، أو شبيه بالربا صورة، فقوله ضعيف.(6/72)
لكن المؤلف الناظم اشترط أن لا يحل الصلح حراما، أو يحرم حلالا، فإن أحل حراما، فإنه لا يصح سواء كان شرطا، أو مصالحة.
مثال ذلك: إنسان عنده أمة مملوكة، فباعها على شخص، واشترط على الشخص أن يستمتع بها أعني: البائع لمدة شهر، فإن هذا الشرط فاسد؛ لأنه يحل حراما، إذ أن الإنسان لا يحل له أن يستمتع بامرأة إلا أن يكون سيدا، أو زوجا؛ قال الله -تعالى- : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) }
فإن قال قائل: الأمة ملك، قلنا: انتقل الملك الآن، واستبقاء هذه المنفعة لا يحل؛ لأنه يحل الحرام، المهم أن هذه قاعدة مهمة، تشتمل على ما يأتي:
أولا : كل شرط، أو صلح ، فالأصل فيه الحل واللزوم إلا ما دل عليه الدليل.
ثانيا: أن كل شرط، أو صلح أحل حراما، أو حرم حلالا، فهو باطل،
كل مشغول فإنه لا يشغل:
ثم قال الناظم:
وكل مشغول فليس يشغل
بمسقط لما به ينشغل
كل مشغول، فإنه لا يشغل، لكن بالشيء الذي يسقط به ما انشغل به.
مثال ذلك: المرهون، المرهون، لو أراد الراهن أن يرهنه لشخص آخر لن يصح؛ لأنه مشغول بشيء لو صححنا إشغاله به لبطل ما انشغل به، ما انشغل من أجله يعني: مثلا هذا إنسان رهن بيته عند شخص في دين عليه، ثم إن صاحب البيت رهنه أيضا بدين آخر لشخص آخر، فإنه لا يصح؛ لأننا إذا صححنا الثاني، أبطلنا الأول وإن صححنا الأول أبطلنا الثاني، والأول سابق على الثاني، فكان الحكم له.(6/73)
وكذلك لو أن الإنسان أجر شيئا لشخص لمدة شهر، ولما انتصف الشهر أجره المالك لشخص آخر مدة تبتدئ من نصف الشهر الأول، هذا لا يجوز؛ لأنهما يتعارضان إن مكن الثاني من الانتفاع به، بطل حق الأول، وإن مكن الأول، بطل حق الثاني، والأول هو السابق، فيكون الحكم له، فإن أجره إياه مدة تبتدئ بعد انتهاء مدة الأول، فلا بأس؛ لأنه لن ينشغل بالإجارة الثانية إلا بعد انتهاء انشغاله في الأجرة الأولى، واختلف العلماء في مسألة:
وهي ما إذا رهن شيئا بمائة ريال، فهل يجوز أن يضيف إلى الدين الذي رهنه به دينا آخر؟
مثال ذلك: رجل رهن بيته بمائة ألف ريال لشخص، ثم استدان من الشخص مائة ألف ريال، وقال: هي داخلة في الرهن السابق، فيكون البيت على هذا مرهونا بمائتين، أي: بمائتي ألف ريال، فهل هذا صحيح؟
من العلماء من قال : إنه صحيح، وأن كون البيت قد رهن بمائة ألف، ثم صار مرهونا بمائتي ألف، ورضي بذلك المرتهن الحق له.
ومنهم من قال: إنه لا يصح؛ لأن البيت مرهون بمائة ألف، والمرهون لا يصح أن يرهن ثانية.
لكن القول الأول هو الصواب، وعليه عمل الناس في هذه الجزيرة، وقولنا: "بمسقط لما به ينشغل" علم منه أنه إذا شغله بغير مسقط، فلا بأس.
مثاله: أن يؤجر بيته لمدة سنة لشخص، ثم يبيعه، أي: يبيع البيت بعد نصف السنة لشخص غير المستأجر، فالبيع صحيح؛ لأن البيت لن ينشغل بالبيع الثاني، إذ أن حق المستأجر سابق، ويبقى المستأجر في البيت المبيع حتى تتم مدة الإجارة، ولكن في هذه الحال يجب على البائع أن يخبر المشتري: بأن البيت مستأجر لمدة كذا وكذا، حتى يدخل على بصيرة، فإن لم يفعل، فللمشتري الفسخ إذا علم؛ لأنه سوف يفوت عليه الانتفاع بالمبيع مدة بقاء الإجارة.
البدل له حكم المبدل :
ثم قال المؤلف -رحمه الله-:
كمبدل في حكمه اجعل بدلا
ورب مفضول يكون أفضلا
يعني: أن البدل له حكم المبدل في كل شيء، وهذا له أمثلة منها:(6/74)
الطهارة بالتراب، وهو التيمم، فإن الله -تعالى- جعله بدلا عن طهارة الماء عند تعذر استعماله؛ لعدمه أو للتضرر باستعماله، فيجعل لهذا البدل حكم المبدل في كل شيء على القول الراجح، فإذا تيمم؛ ليقرأ القرآن؛ لأن الأصل للإنسان أن يقرأ القرآن على وضوء، وهو ليس عنده ماء، وهو قد تعذر عليه استعمال الماء، فتيمم لقراءة القرآن، فله أن يصلي بهذا التيمم الفريضة والنافلة، مع أنه لم يتيمم لصلاة، لكنه تيمم يقصد بذلك رفع الحدث.
وكذلك لو تيمم لصلاة الظهر، وبقى على طهارته، حتى دخل وقت العصر، فإنه يصلي بالتيمم الأول، ولا يبطل تيممه بخروج الوقت، وكذلك لو تيمم لجنابة، فإنه لا يلزم إعادة التيمم عنها، حتى يجنب مرة أخرى.
مثال ذلك: رجل استيقظ من نومه ليلا، فوجد عليه جنابة، فتيمم لها لصلاة الفجر، ثم دخل وقت الظهر، فلا يلزم التيمم عن الجنابة، لكن يلزمه التيمم عن الحدث الأصغر، إن كان قد انتقض وضوءه في هذه المدة ما بين الفجر والظهر.
مثال ثان: رجل تيمم لصلاة الضحى، وصلى وبقي لم يحدث حتى دخل وقت صلاة الظهر، فإنه يصلي الظهر بتيممه لصلاة الضحى؛ لأن البدل له حكم المبدل، وهو لو توضأ لصلاة الضحى، وبقي على طهارته حتى دخل وقت صلاة الظهر، صلى الظهر بلا إعادة وضوء، ويدل لهذا في مسألة التيمم قول الله -تبارك وتعالى- : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ إفح!$tَّ9$# أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } فبين الله U في هذه الآية أن التيمم مطهر، أن التيمم مطهر، فيفعل من تيمم لحدث ما يفعله المتوضئ والمغتسل، ولا فرق.
لكن لو تيمم عن جنابة، ثم وجد الماء، وجب عليه أن يغتسل، ولذلك دليلان:(6/75)
الدليل الأول : قول النبي r " الصعيد الطيب وَضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء، فليتق الله، وليمسه بشرته "
الدليل الثاني : ما رواه البخاري عن عمران بن حصين t في حديث طويل في قصة الرجل الذي رآه النبي r قد اعتزل القوم، فلم يصل، فسأله فقال: الرجل يا رسول الله، أصابتني جنابة، ولا ماء، فقال: " عليك بالصعيد، فإنه يكفيك، ثم بعد ذلك جاء الماء، واستقى الناس، وبقي منه فضلة، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- للرجل خذ هذه، يعني: الفضلة، فأرقه على نفسك "
وهذا دليل واضح على أن التيمم يبطل، إذا وجد الماء، وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الإجماع على ذلك، وإن كان بعض المتأخرين ذكر فيه خلافا، ومن ذلك: لو أن رجلا نذر أن يذبح بعيرا تقربا إلى الله U ولكنه لم يجد البعير، فذبح بدله سبع شياه، كان ذلك كافيا ومجزيا، ويكون حكم هذه الشياه حكم البعير.
وكذلك في الأكل، لو نذر أن يذبح سبع شياه، فذبح بعيرا أجزأه على خلاف في هذا، ولكن لو قال قائل: هل يجزئ البعير عن سبع عقائق؟ فالجواب: لا، يعني: لو كان عند الإنسان، يعني: لو ولد للإنسان ثلاثة أبناء وبنت، فلهم سبع شياه، ست للأبناء الثلاثة، وواحدة للأنثى، فذبح بعيرا عنهم لم يجزئ؛ لأن العقيقة فداء نفس بنفس؛ وأيضا لم يرد عن النبي r أنه عق بالبعير؛ ولهذا قال العلماء -رحمهم الله-: إن العقيقة بالشاة أفضل من العقيقة بالبعير.
تفاضل الأعمال:
قال الناظم :
-------------
ورب مفضول يكون أفضلا
العبادات -لا شك- أنها تتفاضل، فجنس الفرض أفضل من جنس النفل، وجنس الصلاة أفضل من غيرها من العبادات، لكن ربما يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل.(6/76)
وله أمثلة، منها: لو دعا شخص رجلا إلى وليمة عرس، والمدعو صائم وحضر، فهنا أمامه شيئان، إما أن يفطر، ويأكل، فيحصل به جبر قلب صاحبه، وإما أن يمتنع عن الأكل، فلا يكون صاحبه ممنونا بذلك، وإما أن يمتنع عن إجابة الدعوى، وهذا أشد، فهنا نقول: احضر وكل، ولو بطل صيامك، فالفطر هنا أفضل مع أنه في الأصل مفضول.
ومثل ذلك لو دار الأمر بين أن يصلي الإنسان، وهو يدافع الأخبثين في أول الوقت، أو يقضي حاجته، ويصلي في آخر الوقت، فهنا الصلاة في آخر الوقت أفضل من الصلاة في أول الوقت، مع أن الأصل أن الصلاة في أول الوقت أفضل، والأمثلة على ذلك كثيرة: أنه قد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل.
وربما نقول: إن مثل ذلك لو دخل المسجد رجلان، وليس في الصف إلا محل رجل واحد، فهل الأفضل أن يتقدم أحدهما لهذا المكان، ويصلي الآخر منفردا خلف الصف، مع اختلاف العلماء في صحة صلاته في هذه الحال، أو الأفضل أن يصلي مع صاحبه؟ نقول: الأفضل أن يصلي مع صاحبه؛ لئلا يوقع صاحبه في حرج، أو في فساد صلاته على القول المرجوح.
وإنما قلنا: هذا القول المرجوح؛ لأن القول الراجح أنه إذ لم يجد الإنسان مكانا في الصف صلى وحده مع الإمام، ولا حرج عليه، ولا ينبغي أن يجذب شخصا من الصف؛ ليصلي معه، بل لو قيل: لا يجوز، لكان له وجه، ولا ينبغي أن يتقدم، ويصلي مع الإمام، يعني: إلى جنب الإمام، بل قد نقول: إنه مكروه؛ لأنه يستلزم مخالفة السنة في انفراد الإمام بمكانه، وربما يحصل فيها أذية في تخطي الرقاب إلى أن يصل إلى الإمام، وحينئذ يصلي وحده خلف الصف، ولا حرج عليه.
وهذا لا شك أن له حظا كبيرا من النظر؛ لأن هذا الرجل الذي وجد الصف تاما تعذر عليه القيام في الصف حسا، فيجوز له أن يصلي وحده، كما يجوز للمرأة أن تصلي وحدها خلف الصف؛ لتعذر مقامها مع الرجال شرعا.
قال الناظم:
-------------
ورب مفضول يكون أفضلا(6/77)
ولنقتصر على هذا؛ لأنه لم يبق في الوقت إلا ربع ساعة؛ ليكون ذلك للإجابة عن الأسئلة، نسأل الله -تعالى- التوفيق للصواب.
استدامة الشيء أقوى من ابتدائه
O الحمد لله رب العلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف -رحمه الله تعالى، ووفقه في الدارين- :
كل استدامة فأقوى من بدا
وكل معلوم وجودا أو عدم
والنفي للوجود ثم صحة
والأصل في القيد احتراز ويقل
وإن تعذر اليقين فارجعا
وكل ما الأمر به يشتبه
في مثل طيب محرم ذا قد بدا
فالأصل أن يبقى على ما قد علم
ثم الكمال فارعين الرتبة
لغيره ككشف تعليل جهل
لغالب الظن تكن متبعا
من غير ميز قرعة توضحه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
س: فقد سبق لنا أن كل شرط مفسد للعقد إذا ذكر، فإنه يفسده إذا قصد، وذكرنا لذلك مثالين فما هو المثال الأول؟ السؤال على الطلب؟
ج: نعم.
س: ذكرنا مثالين؛ لأننا نريد أن نعرف ارتباط الطلاب بالمنظومة
ج: نعم.
من نوى الزواج للتحليل.
أي، نعم.
س: يشرحه الطالب، وأيش ما هو نكاح التحليل؟
ج: أن تطلق امرأة ثلاث طلقات، فيقوم رجل آخر فيتزوجها، ويجامعها بقصد تحليلها لزوجها الأول.
إي، نعم.
هذا شرط عليه؟
فالعقد باطل.
س: إذا لم يشرط لكنه نوى؟
ج: يفسد العقد.
س: طيب المثال الثاني؟
ج: الغريب الذي حل في بلدة، فتزوج بنية الطلاق.
العقد في هذا فاسد.
إي نعم، أفادك الله.
س: هل في هذه المسألة الثانية خلاف؟
ج: إي نعم، فيه خلاف.
بعض العلماء، قال: لا يفسد، وبعضهم قال يفسد.
- إي، طيب.
س: أيهما المذهب عند الحنابلة؟
ج: المذهب أنه يفسد.
س: نعم، طيب هل يفسد العقد من الطرفين فيما إذا نوى الإنسان نوى أحدهما الشرط الفاسد؟
ج: يفسد العقد من القاصد من يقصد بشرطه.
نعم، يعني: يفسد العقد في حق من نواه.
إي نعم، أفادك الله.
س: والثاني؟(6/78)
ج: الثاني لا يفسد بحقه؛ لأنه لا يعلم؛ لأن الأمور تجري على ظاهرها.
أحسنت!
س: ذكرنا أيضا من القواعد المهمة: أن الشرط إذا كان يستلزم تحليل الحرام، فإنه فاسد، ما هو المثال؟ أولا ما هو الدليل على أن الشرط الذي يحل الحرام يكون فاسدا؟
ج: قوله r " المسلمون على شروطهم "
نعم. " إلا شرطا حرم حلالا، أو حلل حراما "
س: نعم، أحسنت، هذا دليل، وهذا مختلف في صحته، لكن نريد دليلا لا إشكال في صحته.
ج: قوله -تعالى-: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ }
- لا.
- قصة بريرة حين قال الرسول r " كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط "
س: هذا الدليل ما أحد معارض فيه الصلح أيضا جائز إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا ، ما هو الدليل على أن الأصل في الصلح الحل؟
ج: نعم يا شيخ.
س: ما هو الدليل على أن الأصل في المصالحة الحل، إلا ما أحل حراما، أو حرم حلالا؟
ج: لقول النبي r " المسلمون على شروطهم " وإن الأصل في الصلح والشرط اللزوم والصحة.
س: لكن ما فيه دليل؟
ج: الأدلة مأخوذة من الأحاديث والآيات على أن الأصل: إذا تمت الشروط وانتفت الموانع، يقع العقد والصلح صحيحا؟
فيه نقص، وهو قول الله -تبارك وتعالى- : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وكذلك أيضا حديث: " الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا " .
س: -طيب نريد مثالا للصلح الذي يحل حراما، أو يحرم حلالا .
ج: - المثال هو لو أن رجلا استدان من شخص مائة ألف، فاصطلح الذي استدان منه، اصطلح عليه أن يؤخر له المبلغ أي: الدفع إلى شهر، أو إلى شهرين، وسيدفع له مقابل هذا مثلا مالا سيدفع له ألفا، أو ألفين على تأخير هذا، فيقع هنا صلح على الربا، فيكون هذا الصلح لا يجوز.
أحسنت!(6/79)
س: بارك الله فيك؛ لأنه أحل حراما، "المشغول لا يشغل" هل هذا على إطلاقه، قلنا: فيه تفصيل؟
ج: المسألة فيها تفصيل.
س: فيها تفصيل، ما هو؟
ج: لو أن لم يسقط حق المشغول، فنقول: لو أن المشغول لم يسقط حق أحد فيصح، مثاله لو أن رجلا أجر على شخص بيتا لمدة شهر، حتى إذا ما مضى نصفه باع هذا البيت على رجل آخر، فهنا نقول: البيع هذا صحيح لأن المستأجر لا يسقط حقه، سيبقى في البيت نصف الشهر ما تبقى من الزمن - أحسنت - ولكن لا بد أن يعلم البائع، المبيع أن البيت مستأجر لرجل لمدة نصف شهر وإن لم يخبره، فله الفسخ.
- بارك الله فيك، جيد أحسنت، يعني صار شغله إن كان يؤدي إلى سقوط حق الشاغل الأول، فهو غير جائز، وإن كان لا يؤدي إلى السقوط فلا بأس، ذكرنا أن المفضول قد يكون أفضل من الفاضل، المفضول قد يكون أفضل من الفاضل.
س: مثال ذلك؟
ج: مثاله قراءة القرآن هي أفضل من الذكر، لكن إذا أذن المؤذن، فإن إجابة المؤذن أفضل من قراءة القرآن؛ لأن الأذان له وقت خاص ضيق يذهب بسببه، أما قراءة القرآن، فوقتها موسع، فتكون إجابة المؤذن أفضل من قراءة القرآن، وهي أفضل من الأذان.
ـ بارك الله فيك، أحسنت الآن نبدأ درسا جديدا.
قال :
كل استدامة فأقوى من بدا
---------------
يعني: استدامة الشيء أقوى من ابتدائه، وذلك
------------
في مثل طيب محرم ذا قد بدا
المحرم يمتنع عليه أن يتطيب بعد إحرامه، وإذا كان قد تطيب قبل الإحرام، فإنه لا بأس أن يستمر في هذا الطيب، ولا يلزمه غسله، لكن لو أنه وقع عليه الطيب بغير قصد منه، بعد الإحرام وجب عليه أن يبادر بالغسل هذا مثال.(6/80)
مثال آخر: المحرم لا يجوز له أن يعقد النكاح؛ لقول النبي r " لا ينكح المحرم، ولا ينكح " لكن لو كان قد طلق زوجته طلاقا رجعيا قبل الإحرام، ثم راجعها بعد الإحرام، فلا حرج؛ لأن الرجعة ليست ابتداء، ولكنها استدامة عقد؛ ولهذا قال العلماء -رحمهم الله- إن الرجعية في حكم الزوجة، إلا في مسائل قليلة استثنوها.
مثال ثالث: المسلم لا يمكن أن يشتري صيدا حال إحرامه؛ لأنه ممنوع من تملك الصيد، لكن لو كان عنده صيد +دافق قد اشتراه قبل الإحرام، فملكه باق، ولو أحرم؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء.
كل شيء معلوم وجوده الأصل بقاء وجوده:
ثم قال الناظم:
وكل معلوم وجودا أو عدم
فالأصل أن يبقى على ما قد علم
يعني كل شيء معلوم وجوده، الأصل بقاء وجوده، كل شيء معلوم عدمه، فالأصل بقاء عدمه، وهذه قاعدة مأخوذة من قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : حين شكي إليه الرجل يحس بحركة في بطنه، فيشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فقال: " لا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا "
فهنا نقول: هذا الرجل قد علم أنه متوضئ، فوضوءه يقيني، فإذا أشكل عليه هل أحدث، أو لا؟ قلنا: الأصل بقاء الوضوء، فلا يلزمه أن يتوضأ؛ لأن الأصل بقاء الوضوء، ومثال العدم رجل كان محدثا، ثم حضرت الصلاة، فأشكل عليه هل توضأ أم لا؟ فنقول: الأصل عدم الوضوء؛ لأنه كان محدثا، وأشكل هل توضأ أم لا؟ فحصل الشك في وجود الوضوء، فنقول: الأصل العدم، فيلزمه أن يتوضأ، وكذلك في المبايعات إذا ادعى المشتري أن في المبيع عيبا، فإن كان لا يمكن حدوثه كالإصبع الزائدة، فالقول قوله، وإن كان لا يمكن أن يكون سابقا كالجرح الطري الذي ينزف دما، فالقول قول البائع، وإن كان يحتمل هذا، وهذا، فالأصل السلامة.(6/81)
الأصل السلامة، فيكون القول قول البائع، ويقال للمشتري: أثبت أن هذا العيب كان قبل العقد؛ لأن ما كان الأصل عدمه، فبقاء الأصل فيه باق على حاله حتى يثبت ما يزيل ذلك الأصل، وهذه القاعدة التي ذكرها الناظم، تفيدك في مواضع كثيرة في العبادات والمعاملات، وقول الناظم:
وكل معلوم وجودا أو عدم
-------------
كان الأصل أن يقول: أو عدما أي معلوم وجوده وعدمه، لكنه قال: أو عدم بدون ألف من أجل الروي، على أن بعض العرب يقف على المنصوب بالسكون.
الأصل نفي الوجود:
ثم قال الناظم:
والنفي للوجود ثم الصحة
ثم الكمال فارعين الرتبة
يعني إذا جاءت جملة فيها نفي، فالأصل نفي الوجود، فإن تعذر الحمل على نفي الوجود لكون الشيء موجودا، حمل على نفي الصحة، ونفي الصحة نفي للوجود الشرعي، فإن لم يمكن، بأن تكون العبادة صحيحة مع وجوده فهو لنفي الكمال، فإذا قلت: لا خالق إلا الله، فهذا نفي للوجود، أي: وجود خالق سوى الله، وهذا هو الأصل، وإذا قلت: لا بيع بعد الساعة الرابعة مثلا، فهذا نفي للوجود، يعني: أنك تقول: لم يحصل بيع بعد الساعة الرابعة، وإذا لم يمكن حمله على نفي الوجود بأن كان موجودا حمل على نفي الصحة، ونفي الصحة يعني: نفي الوجود الشرعي.
مثال ذلك: " لا صلاة بغير وضوء " فهنا ليس النفي للوجود؛ لأنه قد يصلي إنسان بلا وضوء، فيحمل على أن المراد نفي الصحة، أي: لا تصح صلاة بغير وضوء، والحقيقة أن نفي الصحة نفي للوجود، لكنه نفي للوجود الشرعي، والأول نفي للوجود الحسي، فإن لم يمكن حمله على نفي الصحة، بأن دلت الأدلة على صحة المنفي صار ذلك نفي… أو صار ذلك نفيا للكمال.(6/82)
مثاله: " لا صلاة بحضرة طعام " فهنا قد يصلي الإنسان بحضرة طعام، قد يصلي الإنسان بحضرة الطعام، وتصح صلاته، وعليه فيكون هذا النفي نفيا للكمال، إذن إذا نُفي الشيء، فالأصل أن المراد بنفيه نفي وجوده حسا، فإن لم يمكن حمله على ذلك لكونه يوجد، حمل على نفي وجوده شرعا، أي: نفي الصحة، فإن وجد شرعا، وصح حمل على نفي الكمال، وقد ضربنا لهذا أمثلة، فإذا جاء النص محتملا لهذا، وهذا مثل: لا صلاة بعد صلاة العصر، حتى تغرب الشمس، هل المعنى لا صلاة كاملة، أو لا صلاة صحيحة؟
نقول: الأصل أن المعنى أن المراد لا صلاة صحيحة، فلا تصح الصلاة في أوقات النهي إلا صلاة الفريضة كالمقضية مثلا، وإلا الصلاة التي لها سبب من النوافل على القول الراجح.
وبناء على هذا القول الراجح لو دخل الإنسان المسجد بعد صلاة العصر، فإنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : " إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " فلو ادعى شخص أن المراد لا صلاة كاملة، قلنا: هذا خلاف الأصل، وكل من يدعي خلاف الأصل فعليه الدليل.
الأصل في القيد:
ثم قال الناظم :
والأصل في القيتد احتراز ويقل
لغيره ككشف تعليل جهل
هذا أيضا الأصل في القيد بصفة، أو شرط.
الأصل فيه أنه اشتراط، وأن تخلف هذا القيد يتخلف فيه الحكم، هذا هو الأصل، لكنه قد يأتي بغير ذلك كمثل كشف التعليل إذا كان مجهولا، فإذا قيل كفارة الظهار تحرير رقبة مؤمنة، فكلمة "مؤمنة" قيد احترازا من غير المؤمنة.(6/83)
وبناء على هذا نقول: لو أعتق رقبة غير مؤمنة لم يقبل ذلك، لم يقبل ذلك منه؛ لأن الله -تعالى- اشترط أن تكون الرقبة مؤمنة، والأصل في القيد أنه احتراز يخرج به مفهومه، وإذا لم يمكن أن يكون احترازا، وهو قليل، فإنه لا يكون له مفهوم، مثل قول الله -تبارك وتعالى- في المحرمات في النكا ج: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح!$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فإن قوله: " في حجوركم" ليس للاشتراط؛ ولهذا تحرم الربيبة، وإن لم تكن في بيت زوج أمها، تحرم الربيبة وإن لم تكن في بيت زوج أمها.
فإن قال قائل: ما دليلك على أن هذا القيد قيد كاشف للتعليل؟ قلنا: دليلنا على هذا أن الله -تعالى- قال: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح!$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } وسكت عن مفهوم قوله: { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } فلما صرح بمفهوم القيد الثاني، وهو قوله: { مِنْ مNن3ح!$|،خpS سةL"©9# دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وسكت عن مفهوم القيد الأول، وهو قوله: { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } علم أن مفهوم القيد الأول غير مشترط، وإنما ذكر القيد لبيان العلة، وهي أنها إذا كانت بنت زوجتك من غيرك في حجرك، فهذا هو السبب في كونها محرما لك؛ لأنها في حجرك فهي كبنتك، واشتراط الوطء للأم حكمته ظاهرة؛ لأنه لا تستقر الزوجية استقرارا تاما إلا بالوطء.
ولهذا اشترط العلماء -رحمهم الله للإحصان- في الزنا أن يكون المحصن قد جامع زوجته، وأنه لو عقد على امرأة وخلا بها، وباشرها بغير جماع لم يكن محصنا، فلو زنا بعد ذلك لم يرجم؛ لأن الاستقرار التام بين الزوجين إنما يكون في الجماع.
فإذا قال قائل: لو اختلف اثنان في كون القيد احترازيا، أو تعليليا، فمن الأصل معه؟ فالجواب: أن الأصل مع من قال إنه احترازي، فمن ادعى أنه لغير احتراز، فعليه الدليل.(6/84)
القرعة للتمييز بين الأشياء:
ثم قال الناظم :
وكل ما الأمر به يشتبه
من غير ميز قرعة توضحه
يعني: إذا اشتبه الأمر علينا دون تمييز لأحد المشتبهين على الآخر، فإن طريق التمييز القرعة، والقرعة ثابتة في القرآن والسنة والنظر الصحيح، أما القرآن، فقد قال الله -تبارك وتعالى- : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا } { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) } وفي قوله عن يونس: { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) }
أما السنة، فقد ثبت " أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها "
وأما النظر الصحيح، فلأنه إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن؛ لأنه مستطاع، فالقرعة تميز الشيء، تميز المستحق، وهي من محاسن الشريعة، لكن يشترط ألا تخرج مخرج الميسر، فإن خرجت مخرج الميسر كانت حراما.
مثال ذلك: رجلان اشتركا في كيس من البر نصفين، ثم اقتسماه، فجعلا قسما منه ثلثين، وقسما ثلثا، وقالوا نجري القرعة، فهنا لا يجوز أن يجريا القرعة؛ وذلك لأنه يكون أحدهما إما غانما وإما غارما، فالقرعة إذا وقعت لصاحب الثلثين، فقد غنم وازداد نصيبه سدسا، والثاني شريكه قد غرم، فكان قد غرم سدسا، فذا يحرم، لكن يقسم هذا المشترك نصفين، ثم إن اختار أحدهما النصف الذي يليه، فهو له، أو النصف الذي يلي صاحبه، فهو له، إذا وافق صاحبه على ذلك.
وإن تشاحا أقرع بينهما، وقد ذكر ابن رجب -رحمه الله- في القواعد الفقهية مسائل القرعة في آخر القواعد، فمن أحب أن يرجع إليها، فإنها مفيدة جدا.
غلبة الظن عند تعذر اليقين:
ثم قال الناظم -وهو بيت أخرناه نسيانا وذهولا-:
وإن تعذر اليقين فارجعا
لغالب الظن تكن متبعا(6/85)
هذه يعبر عنها الفقهاء بقولهم: إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن، وهو مأخوذ من قول الله -تعالى- : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فإذا تعذر اليقين، فإننا نرجع إلى غلبة الظن، وإن لم يكن غلبة ظن رجعنا إلى الأصل، وهو البناء على اليقين وعدم المشكوك فيه.
مثال ذلك: رجل طاف بالبيت، وفي آخر الطواف أشكل عليه أهو السادس، أو السابع، فليس عنده يقين، لكن عنده غلبة ظن؟
فهنا نقول : اعمل بغلبة الظن؛ لأنه تعذر اليقين، فيرجع إلى غلبة الظن، وهذا لب ما نقول: إن دليله قول الله -تبارك وتعالى-: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وقوله -تعالى-: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } لكن هنا يجب أن نرجع إلى القاعدة السابقة، وهي قول الناظم:
وكل معلوم وجودا أو عدم
فالأصل أن يبقى على ما قد علم
فمثلا لو شك الإنسان هل أدى الزكاة أو لا، ولم يتيقن أنه لم يؤدها، ولا أنه أداها، لكن غلب على ظنه أنه أداها، فهنا نقول: لا عبرة بغلبة الظن؛ لأن الرجوع إلى غلبة الظن هنا ينافي قاعدة: أن الأصل في المعدوم العدم، ونقول: يلزمك أن تزكي مالك، لكن له أن يتأنى حتى يتذكر، ويفكر وإذا فعل ذلك مع اللجوء إلى الله -تعالى- في طلب الحق، فإن الله -تعالى- ييسر له ذلك، ونقتصر على هذا؛ لأنه لم يبق إلا ربع ساعة لتكون الأسئلة.
س: نبدأ الأسئلة يا شيخ؟
ج: نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا السائل يقول: وقع لعمي حادث، وكان معه ابنه وصاحبهما رجل آخر، وفي الطريق فضل عمي المبيت، وكان الوقت ليلا، ولعلمهما بأن الطريق القادمين إليها بها منحدرات شديدة وضباب كثيف، لكن الرجل أصر على المواصلة…
- الرجل الابن، ولا الأب؟
- لا الذي +…
- السائق؟
- لا ليس السائق الرجل اللي بيقول عليه السائق معه ابنه، هو رجل آخر غير ابنه …
ـ أعيد السؤال يا شيخ؟
ـ إي
ـ يقول وقع حادث لعمي، وكان معه ابنه وصاحبهما…
- كأن العم هو السائق؟(6/86)
- عمه هو السائق …
- نعم.
…-يقول: وفي الطريق فضل عمي المبيت، وكان الوقت ليلا، ولعلمهما بأن الطريق القادمين إليها بها منحدرات شديدة وضباب كثيف، لكن الرجل أصر على المواصلة، وفي الطريق انقطعت الفرامل من السيارة، واصطدمت بالجبل تفاديا للمنحدر الشديد، وبعدما توقفت السيارة لم يجد عمي ابنه، ولا الرجل في السيارة، فبحث عنهما، فوجد الرجل قد فارق الحياة، وابنه به بعض الكسور، والاحتمال الأكبر أن الرجل قد قذف بنفسه من السيارة؛ لأنهم وجدوا الباب مفتوحا، فدفع عمي الدية لأبناء الرجل، فهل على عمي كفارة، وهل يختلف الحكم إذا كانت السيارة قد رمت بالرجل أفتونا مأجورين؟
ج: نعم ما دامت المسألة وصلت إلى القاضي، وحكم بالدية فهذا يعني أن العم يلزمه الكفارة؛ لأنها لا تلزم الدية إلا حيث كان القتل، وإذا كان القتل وجبت الكفارة، فمن لازم حكم القاضي هذا أن تلزمه الكفارة؛ لأنه لا يمكن أن يقال عليه دية، ولا كفارة.
نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا يقول: من كان عليه عدة أيمان مختلفة، فما هي الكفارة؟ هل هي كفارة واحدة أم متعددة؟
ج: نعم إذا تكررت الأيمان على محلوف واحد، فليس عليه إلا كفارة واحدة، مثل أن يحلف ألا يدخل هذا البيت، فقيل له: يا فلان ليس في دخوله بأس هذا صديقك هذا أخوك المسلم، فقال: والله لا أدخل، حلف ثانية، ثم قيل له مثل ما قيل له أولا، فحلف ألا يدخل، ثم مع كثرة النطق دخل، فهنا الأيمان مكررة، والمحلوف عليه واحد، فلا يلزمه إلا كفارة واحدة.
أما إذا تعددت الأيمان وتعدد المحلوف عليه، فإنه يلزمه بعدد المحلوف عليه كفارة مثال ذلك حلف ألا يدخل هذا البيت وحلف ثانية ألا يلبس هذا الثوب وحلف ثالثة ألا يركب هذه السيارة فدخل البيت، ولبس الثوب وركب السيارة، فعليه ثلاث كفارات، إذ أن الأيمان تعددت، والمحلوف عليه تعدد، وهذا قول جمهور العلماء.(6/87)
وقال بعض العلماء: إذا لم يكفر عن اليمين الأول الذي حنث فيه، حتى حنث في الثاني والثالث لزمته كفارة واحدة، وعللوا ذلك في أن الموجَب بفتح الجيم واحد، فهو كما لو بال وتغوط، وأكل لحم إبل، فإنه يلزمه وضوء واحد، وإن تعددت الأسباب؛ لأن الموجب واحد، وهذا هو المشهور عند الحنابلة رحمهم الله.
ولكن قول الجمهور ما ذكرناه أولا أنه يلزمه لكل يمين كفارة، وهو أحوط، وهو من الناحية التربوية أولى؛ لأننا لو قلنا بأنه لا يلزمه إلا كفارة واحدة في الأيمان المتعددة؛ لكان ذلك فتحا للحيلة حيث إن الإنسان إذا حنث في يمين أخر الكفارة لعله يحلف ثانية، ويحنث، ثم يؤخر أيضا لعله يحلف ثانية فيحنث، ويكون ذلك سببا لتأخير الكفارة عن الحنث، والأصل أن الكفارة واجبة على الفور.
وهنا يحسن بنا أن نقول: إذا تعددت الأيمان والمحلوف عليه، فعليه لكل يمين كفارة، وإذا تعددت الأيمان والمحلوف عليه واحد، فعليه كفارة واحدة، وإذا تعدد المحلوف عليه، واليمين واحدة، فعليه كفارة واحدة، مثل أن يقول: والله لا أدخل هذا البيت، ولا ألبس هذا الثوب وما أشبه ذلك، فيلزمه كفارة واحدة هذا هو خلاصة هذا الجواب.
نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا السائل يقول: رجل رهن منزله، فهل له أن يستثمره بالإيجار وغيره؟
ج: نعم له أن يستثمره بالإيجار، لكن تكون الأجرة تابعة للرهن.
نعم.
إلا إذا قال المرتهن: لا تؤجره، لكن إذا قال: لا تؤجره، فإنه لا يطاع؛ لأن ذلك إضاعة للفائدة التي تحصل لكل من الراهن والمرتهن.
نعم.(6/88)
س: أحسن الله إليك، هذه يا شيخ سائلة من إحدى الدول المجاورة تقول: إنني معلمة، وقانون البلد الذي أعيش فيه، يلزم المعلمة أن تكشف وجهها عند مسئول الوزارة الذي يحضر سنويا؛ ليكتب التقارير عن أداء المعلمات علما بأنه ليس هناك أي خلوة شرعية، فهل يجوز أن آخذ بالقول بأن الوجه والكفين هنا للضرورة في الفترة التي يحضر فيها المسئول، ولو رفضت سيكتب المسئول عني تقريرا، وربما يصل الأمر إلى الفصل من المدرسة، وجزاكم الله خيرا.
ج: هذا لا بأس به، يعني: لا بأس أن تكشف المرأة وجهها لمن ينظر إليها لحاجة كالطبيب مثلا، والشاهد وكذلك المسئول كما في سؤال المرأة هذه، حتى وإن قلنا بوجوب تغطية الوجه؛ لأن الأصل في وجوب تغطية الوجه أنه من باب سد الذرائع، والذرائع إذا احتيج إليها جازت، فإذا كان هذا المسئول يقول: لا بد أن تكشف المرأة وجهها؛ حتى نعرف من هي شخصيا، ولم يكن هناك خلوة ممنوعة، فلا بأس.
نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا يقول في بعض المساجد يكون مصلى النساء منفصلا عن مصلى الرجال، بمقدار مرور سيارة، وتكون المتابعة للإمام من خلال المكبر، فما حكم الصلاة فيها، وإن كان لا يجوز، فهل تصلي المرأة فيها منفردة وجماعة قائمة، أفتونا مأجورين؟
ج: أما إذا كان هذا الحوش تابعا للمسجد، فلا بأس، لكن بشرط ألا يكون للمصلي في هذا الحوش مكان في المسجد، وأما إذا لم يكن تابعا له، ولكنه حوش لجيران المسجد، فإن الصلاة فيه لا تصح؛ لأنه لا ينسب إلى المسجد شرعا، ولا عرفا، والجماعة لا بد فيها من حضور المأموم إلى المكان الذي يصلي فيه الناس.
نعم.(6/89)
س: أحسن الله إليك، هذا سائل يقول: رجل يعمل في مصنع، ويبدأ العمل الساعة الثامنة صباحا إلى الساعة الواحدة ظهرا، ومدير المصنع لا يتركهم يصلون الظهر في المسجد، بل في المصنع، وذلك بعد انتهاء الدوام حيث الساعة الواحدة ظهرا، وكذا صلاة العشاء لا يصلونها إلا الساعة التاسعة مساء بعد انتهاء الدوام، فهل يترك العمل أم ماذا عليه؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: أرى أن لا يترك العمل ما داموا في حاجة إليه؛ لأن غاية ما فيه أنهم تركوا الواجب من الحضور إلى المسجد، ولكنهم لم يتركوا الجماعة، وقد قال كثير من العلماء: إن الجماعة في المسجد سنة، وليست بواجب؛ لأن الواجب إقامة الجماعة في أي مكان، وهذا القول وإن كان فيه ما فيه، فإنه يعمل به عند الحاجة إليه، فإذا كان صاحب المصنع يقول: لا تصلوا إلا بعد انتهاء الدوام. والدوام ينتهي قبل خروج وقت الصلاة، فلا بأس أن يؤخروا الصلاة، ويصلوها جماعة في المكان، سواء الظهر، أو العشاء أما إذا قال: أخروها عن الوقت، فإنه لا يطاع.
نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا يقول: هل يصح نسبة هذا الحديث إلى النبي r " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة " ؟
ج: لا أدري عنه، ما أدري، والله أعلم.
نعم
س: أحسن الله إليك، هذا يقول: ما حكم ما يسمى بالتأمين الصحي، حيث إن الصحف تروج وتدعو لانتشار هذا؟
ج: لا بد أن نعرف ما كيفية التأمين الصحي أيش كيفيته؟
- السائل موجود يا إخوان؟ السائل موجود؟ تعال
- السلام عليكم.
- نعم
س: يا فضيلة الشيخ، مثلا مبلغ مقطوع خمسمائة ريال، هذا يدفع دائما، وإذا دفع المبلغ هذا هم يعالجونه مثلا بمبلغ، في حدود مبلغ مائتين وخمسين ألف ريال، وأخذوا فتوى من هذا من بعض طلبة العلم، هل هذا جائز؟(6/90)
ج: إذا كان الذي أفتاهم من العلماء المعتبرين، فيعملون بالفتوى والإثم عليه، أما إذا كان ليس من العلماء المعتبرين الذين عرفوا بسعة العلم وقوة الأمانة، فلا يأخذ بفتواهم؛ لأنه مثلا إذا دفع خمسمائة ريال في السنة ، ثم أصيب بمرض شديد، فإنه سوف يستهلك على شركة التأمين شيئا كثيرا، وإن مضت السنة، ولم يصب بمرض صارت الشركة رابحة، وهو الخسران، وكل حق يكون فيه… يكون دائرا بين الغرم والغنم، فإنه عقد باطل، وهو من الميسر الذي حرمه الله U وقرنه بالخمر في قوله -جل وعلا - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) } فلا يصح.
وإلى هنا ينتهي هذا اللقاء، وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك.
أحسن الله إليك.
متعجل الشيء بفعل حرام
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -حفظه الله تعالى ووفقه في الدارين-:
وكل من تعجل الشيء على
وضاعف الغرم على من ثبتت
لمانع كسارق من غير ما
وكل ما أبين من حي جعل
وكان تأتي للتدوام غالبا
وإن يضف جمع ومفرد يعم
منكر إن بعد إثبات يرد
من بعد نفي نهي استفهام
واعتبر العموم في نص أثر
ما لم يكن متصفا بوصف
وخصص العام بخاص وردا
ما لم يك تخصيص ذكر البعض
وجه محرم فمنعه جلا
عقوبة عليه ثم سقطت
محرز ومن لضال كتما
كميته في حكمه طهرا وحل
وليس ذا بلازم مصاحبا
والشرط والموصول ذا له انحتم
فمطلق وللعموم إن يرد
شرط وفي الإثبات للإنعام
أما خصوص سبب فما اعتبر
يفيد علة فخذ بالوصف
كقيد مطلق بما قد قيدا
من العموم فالعموم أمض
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :(6/91)
فهذا هو الدرس الأخير للقاءات التي تتم في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرياض، أرجو الله -سبحانه وتعالى- أن يكملها على علم نافع، وعمل صالح.
قال الناظم :
وكل من تعجل الشيء على
وجه محرم فمنعه جلا
س: وقبل أن نتكلم على هذا البيت، نسأل بعض الأسئلة، فيما سبق فما معنى قول الناظم:
والنفي للوجود ثم الصحة
ثم الكمال فارعين الرتبة؟
نعم.
من يجيب على هذا؟
ج: نعم. إن الأصل في النفي أن يكون للوجود.
س: أيش؟
ج: إن الأصل إذا أتى إذا ورد في الشرع نفي، فيكون المعنى نفي للوجود.
نفي الوجود ...نعم
ثم إذا وجد هذا الشيء، فيصرف إلى الصحة، أي: من حيث الشرع، ثم إذا كان صحيحا، يصرف إلى الكمال.
س: ها طيب مثِّل؟
ج: مثال النفي للوجود قول: لا خالق إلا الله، فهنا النفي نفي للوجود، أي: لا خالق يخلق إلا الله تبارك الله وتعالى، فليس هناك غير الله خالق.
س: نفي الصحة؟
ج: نفي الصحة قول النبي r " لا صلاة لمحدث ما لم يتوضأ " " لا صلاة إلا بوضوء " أو كما قال.
نعم.
فهذا النفي نفي للصحة.
أي نعم.
فالصلاة هنا لا تصح إذا كان الشخص محدثا مع أن…
س: الكمال؟
ج: مع أن الصلاة تقع يعني…
- أي مع أن الإنسان قد يصلي بغير وضوء.
نعم.
فتكون موجودة ، لكن نقول: هي غير صحيحة.
نعم.
س: مثال الكمال؟
ج: مثال الكمال: مثلتم بقول النبي r " لا صلاة بحضرة طعام " فقلتم: إن الصلاة موجودة، والنفي نفي للكمال، أي: لا صلاة كاملة في الأجر بحضرة طعام.
س: ولكنها صحيحة؟
ج: نعم. أي نعم ،ولكنها… الصلاة صحيحة.
طيب.
نعم.
س: قال الناظم:
والأصل في القيد احتراز ويقل
لغيره ككشف تعليل جهل
معنى البيت؟
والأصل في القيد احتراز ويقل
لغيره ككشف تعليل جهل
معنى البيت؟
ج: أن الأصل في القيود الاحتراز كقوله تبارك وتعالى .
س: الاحتراز يعني؟
ج: يعني: أن نُخرج الشيء الذي لا يتصف بهذا الوصف المذكور.
نعم.(6/92)
مثال قول الله تبارك وتعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } فلو أن رجلًا رمى غير محصنة فلا يحكم عليه بهذا الحكم، إنما يعزر؛ لأن الإحصان قد أتى للاحتراز .
وقد يكون الاحتراز ليس على بابه إذا أتى .
س: يعني: لا يقصد به القيد؟
ج: نعم إذا أتى كشف تعليل.
س: الاحتراز لا يقصد به القيد؟
ج: نعم لا به يقصد القيد ، ومثاله قول الله تبارك وتعالى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } فهنا لو أن لم ترد تحصنًا فلا نقول: إنها يجوز لها يعني: تبغي إذا لم ترد تتحصن، يعني: إذا هذه المرأة ما أرادت أن تتحصن فلا نقول: يجوز أن تترك تفعل البغي.
أن نكرهها.
نعم تفعل البغي إنما هذا القيد للتعليل أي للعلة هذه وليست للاحتراز .
س: هات مثالًا آخر . مثال آخر ذكرناه في الشرح؟.
ج: نعم.
س: غيرك ، غيرك يجيب؟
ج: مثل قول الله -سبحانه وتعالى- : { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح!$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فقوله " في حجوركم" هذا ليس قيد الاحتراز بدليل أن الله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك قال: { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فذكر مفهوم الوصف الثاني، وسكت عن مفهوم الوصف الأول، فدّل على أنه ليس للاحتراز .
س: أيهما القيد الذي لبيان العلة؟
ج: { اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ }
{ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } أو ...
نعم
س: غلط ما هو { اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } القيد الذي لبيان العلة لا للاحتراز.
ج: القيد هو " في جحوركم " .
{ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } نعم .
للعلّة وليست للاحتراز.
نعم، تمام .
س: قال الناظم :
وإن تعذر اليقين فارجعا
لغالب الظن تكن متبعا
معنى البيت؟
ج: معنى بيت الناظم : إذا تعذر اليقين ارجع إلى غلبة الظن.
س: هذا البيت أيش معناه؟(6/93)
ج: معناه ربما يتعذر يقين الإنسان في أي عبادة من العبادات، فإنه يرجع إلي غلبة ظنه إلى عبادة يمكن الوصول إليها.
س: أي نعم من أين أخذت القاعدة هذه؟
ج: من قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
من قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أحسنت.
س: قال الناظم:
وكل ما الأمر به يشتبه
من غير ميز قرعة توضحه
معنى البيت؟
ج: أن بعض الأشياء ربما تشتبه على الإنسان ولا تتميز إلا بإجراء القرعة.
س: أي: مثاله؟
ج: الدليل عليه يا شيخ.
س: أي مثاله، مثاله ثم الدليل .
ج: مثاله يا شيخ إذا أشكل أو تخاصم رجلان في مال ولم يترجح، ولم يتميز من هو صاحب المال، فإننا نلجأ إلى القرعة في هذه الحال.
ومثل ذلك إذن إذا تشاح رجلان في الأذان، وليست لأحدهما ميزة، فإنه يقرع بينهما كما ذكره القرآن.
س: فما هو الدليل على ثبوت القرعة؛ لأن بعض العلماء يقول: إن القرعة باطلة؛ لأنها قمار؟
ج: قول الله تعالى: { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) } ومن السنة أن الرسول r كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فمن خرج سهمها خرج بها.
أحسنت.
ثم قال الناظم في الدرس الجديد:
وكل من تعجل الشيء على
وجه محرم فمنعه جلا
هذا معناه أن الإنسان إذا تعجل حقه على وجه محرم فإنه يمنع من ذلك الحق؛ لأن نعم الله -عز وجل- ورزق الله لا ينال بمعصيته. وأبرز مثال لذلك ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله- في الموصى له يقتل الموصي يعني: إذا أوصى شخص لإنسان بألف ريال، ثم إن الموصى له استبطأ ?وت مورثه الذي يستحق ما أوصى له به فقتله، فإنه لا حق له في الوصية يمنع منها، وهذا من حكمة الشريعة؛ لأنه لو أبيح لإنسان أن يتعجل حقه على وجه محرم لانتهكت الحرمات؛ لأن النفوس مجبولة على الطمع والجشع .(6/94)
فإذا منع الإنسان من حق تعجله على وجه محرم، فإن ذلك يردعه عن فعل المحرم الذي يستحق به -على ما زعم- ما جعل له. ومن ذلك قتل الوارث لمورثه، فإن الوارث قد يستبطئ موت المورث، فيقتله؛ ليرث منه، فإذا فعل ذلك منعناه من الإرث بناء على هذه القاعدة: من تعجل ?ئيا قبل أوانه -على وجه المحرم- فإنه يمنع منه.
أما لو كان على وجه مباح، فإن هذا لا بأس به كمن تعجل دينا له على شخص قبل حلول أجله بوضع شيء منه مثل أن يكون له على شخص ألف ريال تحل بعد سنة، فقال صاحب الحق: أعطني ثمانمائة ريال بدلًا من الألف معجلة. فهنا تعجل شيئا قبل أوانه على وجه مباح؛ لأنه له أن يسقط ما شاء من دينه، فإذا أسقط من دينه شيئا في مقابل التعجيل فالأمر إليه؛ لأن هذا شيء مباح .
سقوط العقوبة سبب في مضاعفة الغرم:
ثم قال :
وضاعف الغرم على من ثبتت
لمانع كسارق من غير ما
عقوبة عليه ثم سقطت
محرز ومن لضال كتما
يعنى إذا اثبت على الإنسان عقوبة لتمام شروطها، ولكن سقطت العقوبة لمانع فإنه يضاعف عليه الغرم، ومثَّلوا لذلك بأمثلة منها السارق إذا سرق من غير حرز فإن الغرم يضاعف عليه، ولكن لا تقطع يده، والمانع من قطع يده هو أن المال لم يحرز، ولم يوضع في مكان يحفظ فيه عادة فيضاعف عليه الغرم، وقال بعض أهل العلم: إن الغرم لا يضاعف إلا في سرقة التمر والكثر، يعني: التمر على ?ءوس النخل، أو الكثر الذي هو الجمار من الفحال، لكن هذه القاعدة تقتضي العموم، أن كل من سرق من غير حرز، فإنه لا تقطع يده، لكن يضاعف عليه الغرم، فإذا سرق ما يساوى ألفا من غير حرز قلنا:... كذلك من كتم الضالة ضالة الإبل، فإن التقاط ضالة الإبل محرم؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- حين " سئل عن ضالة الإبل فقال: دعها مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر "(6/95)
فإذا التقطها إنسان وكتمها فقد استحل من المال ما يحرم عليه، ولا تقطع يده، ولكن عليه الغرم لو كرهت هذه الضالة التي كتمها، فعليه قيمتها مرتين.
ومثَّل بعض العلماء بالأعور يقلع عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة مثل أن يكون الأعور يمنى عينيه سليمة، فيقلع يمنى عين شخص آخر سليم العينين، فهنا قالوا: لا تقلع عين الأعور؛ لأن قلع عين الأعور حينئذ يؤدي إلى فقده البصر بالكلية، وهو إنما قلع عين الصحيح التي لا يفوت بقلعها البصر؛ لأنه ستبقى العين الأخرى قالوا: فهذا الأعور الذي قلع عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة لا تقلع عينه، ولكن عليه دية كاملة، هذا هو المشهور من المذهب وفي المسألة خلاف .
جزء الحي المقطوع كميتته:
قال:
وكل ما أُبينَ من حي جُعلْ
كميته في حكمه طهرًا وحل
ما قطع من الحي، فإنه كميتته في الطهارة وفي الحل، إن كان مأكولًا، ولنضرب لهذا أمثلة: لو قطع بعض سمكة، فهذا حلال طاهر؛ لأن ميتة السمكة طاهر، وتؤكل كذلك ما أُبِيِنَ منها أي من السمكة، فإنه حلال طاهر مأكول .
وما قطع من الآدمي، وهو حي فإنه طاهر، لكنه لا يؤكل لحرمة الآدمي، وما قطع من البهيمة كالشاة مثلا، فإنه نجس حرام؛ لأن ميتة البهيمة كالشاة نجسة حرام. إذن ما قطع من السمكة، فهو حلال طاهر، وما قطع من الآدمي فهو طاهر وغير حلال، وما قطع من البهيمة فهو حرام ونجس؛ لأن ما أُبينَ من الحي فهو كميته، أي: ميت ذلك الحي طهرا وحل.
وقوله: "وحل" الأصل أن يقال: وحلا، لكن وقف عليها بالسكون مراعاة للروي، وهو أيضًا لغة لربيعة من العرب.
وقد استنبط بعض العلماء من هذه القاعدة المبنية على الحديث الوارد أن النبي r قال: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت " استنبط منها أن دم الآدمي طاهر؛ لأنه إذا كانت أعضاؤه المنفصلة منه طاهرة، فالدم الذي هو دون العضو للاتصال بالجسد من باب أولى.(6/96)
وهذا قياس واضح، فإن اليد مثلًا إذا قطعت ففيها دم في عروقها، ومع ذلك نقول: هي طاهرة بدمها، وهى أعظم ارتباطا بالجسد من الدم؛ لأن الدم لو نزف يخلفه غيره بخلاف العضو، ورشحوا قياسهم هذا بأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يصلون بدمائهم التي جرحوا فنزف منها الدم في مغازيهم.
كان تأتي للدوام:
ثم قال الناظم :
وكان تأتي للدوام غالبًا
وليس ذا بلازم مصاحبا
كان فعل ماض تأتي أحيانًا لإثبات الصفة اللازمة، وتأتي أحيانا لدوام الفعل، وتأتي أحيانا للغالب لا للدوام، فمن إتيان هذه الصفة قوله تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) } فإن كان هنا مسلوبة الزمان فلا يقال: إن الله كان في الأزل غفورا رحيما ثم لم يكن، وإنما المراد بها هنا يعني: كان إثبات هذه الصفة ولزومها.
ومن إتيانها للدوام دون الغلبة ما جاء في أوصاف النبي r مثل: " كان دائم البشر كثير التبسم " " وكان لا ?سأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه " " وكان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله " وأشباه ذلك كثير.
ومن إتيانها على غير الدوام ما ثبت عن النبي r " أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بسبح والغاشية، وثبت أيضا أنه كان يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين " فكان هنا ليست للدوام قطعا؛ لأنه أحيانا يقرأ بهذا، ?أحيانا يقرأ بهذا فصار قول بعض العلماء كان تفيد الدوام ليس على الإطلاق، بل هذا على الغالب، وقد تخرج عنه إما لإثبات الصفة وتوكيدها وإما للغالب .
ألفاظ العموم:
ثم قال الناظم :
وإن يضف جمع ومفرد يعم
..................(6/97)
يعني: أن من ألفاظ العموم الجمع المضاف والمفرد المضاف أيضا، فمثال الأول ما جاء في التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فإن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بيَّن أن هذا للعموم فقال: " إنكم إذا قلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض " ومن الثاني يعني: المفرد المضاف أنه للعموم قوله -تبارك وتعالى-: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } إذ من المعلوم أنه لو كان المراد نعمة واحدة لأحصيت، لكنها نعمُ كثيرة لا تحصى، فيشمل كل ما أنعم الله به على الإنسان من نعمة جسدية أو دينية أو علمية أو جاهية أو غير ذلك.
إذن متى وجدنا جمعا مضافا، فهو للعموم، ومتى وجدنا مفردا مضافا، فهو للعموم، والمراد عموم المضاف لا المضاف إليه.
اسم الشرط والاسم الموصول للعموم:
...............
والشرط والموصول ذا لهم انحتم
يعني: أسماء الشروط والأسماء الموصولة انحتم لها ذلك، يعني: أنها للعموم فكل اسم شرط فهو للعموم كقول الله -تبارك وتعالى-: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } وكقوله تعالى: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) }
وكذلك الموصوف يفيد العموم، ولو كان مفردا مثاله: قول الله -تبارك وتعالى- : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) } فأعاد الإشارة إلى هذا المفرد بالجمع بإشارة الجمع، وهو يدل دلالة واضحة على أن اسم الموصول المفرد يكون للعموم .
النكرة بعد إثبات:
منكر إن بعد إثبات يرد
فمطلق .................(6/98)
يعني: أنه إذا أتت النكرة بعد إثبات فإنها مطلقة، وليست عامة. مثال ذلك: إذا قلت: رأيت رجلًا، فرجل نكرة جاءت في سياق الإثبات، فلا تدل على أنك رأيت كل رجل؛ لأن النكرة في الإثبات مطلقة، وليست عامة، فإذا قلت: رأيت رجلًا فإنه لا يعم كل رجل لكنه يعم رجلًا غير مقيد لكونه مجتهدا أو عالما أو كبيرا أو عابدا ?لا مطلقة.
............
من بعد نفي...
......وللعموم إن يرد
...............
نفي استفهام شرط، يعني: أن النكرة إذا وردت بعد النفي أو النهي أو الاستفهام أو الشرط فهي للعموم، فإذا جاءت بعد النفي فهي للعموم. مثل: أن تقول ما رأيت رجلًا، فهنا تعم كل الرجال؛ لأنها وردت بعد النفي ومن بعد النهي إذا قلت: لا تهن مسلما، فإنه يعم كل مسلم، يعني: يعم النهي عن إهانة عن كل مسلم، ومن ذلك قوله تعالى: { * وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } لأن شيئا نكرة في سياق النهي تعم أي شيء، ولا تشركوا بالله شيئا من الملائكة أو الرسل أو الأنبياء أو الأولياء أو الصالحين أو الشمس أو القمر أو غير ذلك.
كذلك إذا جاءت بعد الاستفهام الإنكاري مثل قوله تعالى: { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ } لأن أحدًا نكرة في سياق الاستفهام فتعم، وكذلك أيضا بعد الشرط إذا جاءت نكرة بعد الشرط فهي للعموم، مثل قوله تعالى: { أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } ومثل قوله تعالى: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ }
وإن كان هذا فيه أيضا صيغة أخرى وهي " من " لكن " من " عامة في الآمر ?"سوءا في المأمور".
وفي الإثبات للإنعام أي إذا جاءت في الإثبات للإنعام فهي أيضا للعموم كأن تقول " لله عليَّ نعمة " ولم تقيدها بواحد فهي للعموم قال :
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
واعتبر العموم في نص أثر
أما خصوص سبب فما اعتبر(6/99)
يعني: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا ورد نص عام على سبب خاص فالعبرة بالعموم مثال ذلك قول الله -تبارك وتعالى- { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } فهذا عموم لكن سببه ظهار أوس بن الصامت من امرأته في عهد النبي r .
فالسبب خاص لكن الحكم لا يختص به، بل هو عام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن الناظم استثنى قال :
ما لم يكن متصفا بوصف
يفيد علة فخذ بالوصف
فإذا كان سبب الحكم متصفا بوصف مناسب يفيد العلة، فيجب اعتباره مثال ذلك أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: " ليس من البر الصيام في السفر " فنفى أن يكون الصيام في السفر من البر، لكن هذا ليس عاما في كل صوم، بل في الصيام الذي يكون منه الأثر كالأثر الذي حصل لهذا الصائم، فإذا كان المسافر يشق عليه الصوم كما شق على هذا الرجل، فإننا نقول له: إن صومك ليس من البر.
أما إذا كان لا يؤثر عليه فإنا نقول: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر، والصوم مع عدم المشقة أفضل؛ لأن ذلك فعل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. قال :
وخصص العام بخاص ورد
ما لم يكن التخصيص ذكر البعض
كقيد محدث بما قد قيدا
من العموم فالعموم أمض
يعني: إذا ورد نص عام، وذكر بعض أفراده بحكم يوافق ذلك العام، فإنه لا يعتبر تخصيصا، فإذا قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: أكرم محمدا، ومحمد منهم، فإن هذا لا يقتضي تخصيص العموم السابق، وألا يكرم إلا محمد؛ لأن هذا ذكر لبعض أفراد العموم في حكم دليل العموم، وهذا لا يقتضي التخصيص.
أما إذا كان في حكم مخالف، فإنه يقتضي التخصيص، فإذا قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: لا تكرم زيدا، وزيد منهم، فهناك صار التخصيص فيكون قولنا: أكرم الطلبة مخصوصا بقولنا: لا تكرم زيدا .(6/100)
وإلى هنا ينتهي هذا النظم الذي أسأل الله تعالى أن يكون مباركا نافعا لحافظه وقارئه ومتدبره إنه على كل شيء قدير .
والآن أتى دور الأسئلة .
س: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ، هذا السائل يقول: استثنى بعض الفقهاء من البائن من الحي الذي يحكم بأنه ميتة استثنى منه الطريدة، فما معناها؟ وما الدليل على استثنائها؟ وجزاكم الله خيرا .
ج: أي نعم استثنوا الطريدة، وكذلك المسك وفأرته، فالطريدة أن يطرد القوم المسافرون صيدا، ولا يدركونه إلا أن يقطعوه كل واحد قطع جزءا حتى مات فهذا جائز، واستدل الإمام أحمد -رحمه الله- بذلك بأن المسلمين كانوا يفعلونه في مغازيهم يطردون الظباء أو غيرها، فلا يدركونها، ثم كل واحد ?نهم يقطع شيئا، ثم تموت، فهذه حلال.
ودليلها فعل الصحابة -رضي الله عنهم- وأن بعضهم لا ينكر على بعض أما المسك وفأرته، فهناك نوع من الظباء يجرب على وجه معين فيخرج منه دم، ثم يشد هذا الدم الخارج، وأريد بخروج الدم منه أنه يطفو على جلده من الداخل، فيحبسون هذا الدم، ويشدونه بخيط قوي حتى ييبس هذا المحبوس، ثم ينفصل من الجلد، ويقال: إن هذا الدم من أحسن أنواع المسك مع أنه كان في الأول دما، فالجلد الذي انفصل وما فيه من الدم الذي صار طيبا حلالا، وفي ذلك يقول المتنبي لممدوحه:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
س: نعم أحسن الله إليك، هذا السائل يقول: فضيلة الشيخ البنك يمنح من أودع عنده مالًا بطاقة للسحب، ويستطيع أن يسحب من أي دولة خارج دولته، ولكن الآلة تصرف له نقود الدولة التي تم السحب فيها. فهل هذا جائز مع الحاجة لذلك وجزاكم الله خيرا ?.(6/101)
ج: إذا لم يمكن إلا هذه الطريقة فلا بأس . وإن أمكن سواها بحيث يودع الإنسان في بلده نقود البلد التي يريد السفر إليها، ثم يسحبها هناك، فهذا هو الواجب إذا أمكن أو تسحب النقود التي في بلده، وهناك في البلد الثاني تقع المصارفة بين الساحب والبنك الذي هناك بسعر وقته ومكانه، فإذا لم يمكن هذا ولا هذا فأرجو -إن شاء الله- أن يكون ما ذكره السائل جائزا . نعم .
س: أحسن الله إليك هذا يقول: ما حكم التبرع بأعضاء الجسم كالكلية مثلًا وغيرها؟ وما حكم شراء هذه الأعضاء إذا كان المريض محتاجا لذلك، وهل يجوز أخذها ممن قارب على الهلاك ?.
ج: الذي أرى أنه لا يجوز التبرع بالأعضاء مطلقا لا من حي ولا من ميت، وقد ذكر صاحب الإقناع...... شيئا من أعضائه قال: ولو أوصى به فإن وصيته لا تنفذ؛ لأن الأجسام أمانة في الداخل، ولا يجوز التفريط في هذه الأمانة، وكسر عظم الميت ككسره حيا، وما استحسنه بعض المتأخرين من جواز التبرع بالعضو إذا لم يكن على المتبرع ضرر، وكان فيه مصلحة للآخر المتبرع له، فهو استحسان نرى أنه ليس بحسن؛ لأنه مخالف لظاهر النصوص.(6/102)
ثم نقول: إن تجويز هذا أدى إلى مفسدة، فقد سمعنا في غير البلاد الإسلامية يخطفون الصغار، ويذبحونهم، ويأخذون من أعضائهم ما يمكن أن يبيعوه بأغلى الأثمان، وهذه مفسدة عظيمة، ثم إن التبرع بالعضو مفسدته محققة؛ لأن المتبرع سيفقد عضوا خلقه الله -عز وجل- ولم يخلقه الله عبثا، بل لا بد له من فائدة، وربما يتبرع بإحدى الكليتين مثلًا، ثم تتعطل الباقية، فيؤدى ذلك إلى الهلاك، ثم زرعها في الجسد الآخر ليس مضمونا مائة في المائة، بل إذا نجح، فإنه يحتاج أيضا إلى تناول أدوية باستمرار أو على زمن طويل، فالذي أرى: وجوب حماية الأجساد، أجساد المسلمين أو من له ذمة واحدة، وأنه لا يجوز لأحد أن يتبرع لأحد، ولو كان أباه أو ابنه. نعم لو وجد الإنسان هذا الشيء هذا العضو مبذولًا فهنا قد يقال: إنه يجوز أخذه بعوض. نعم .
س: أحسن الله إليك، هذا السائل يقول ما حكم أكل لحم الغزال الذي دهس بالسيارة مع العلم بأنه قد فارق الحياة قبل أن يزكى نرجو التوضيح ؟.
ج: أكل هذا حرام يعني: الظبي أو الظبية الذي دهس بالسيارة، ولم يزك قبل موته حرام؛ لقول الله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } نعم .
س: وهذا يا شيخ سائل يقول: أحسن الله إليك، رجل تزوج، ثم ترك زوجته وسافر طالبا للعيش- نعم- فطوّل ولم يعد، وأخبرت زوجته أنه قد مات، فقضت العدة ، وتزوجت ثم بعد ما يقارب ثلاثة أسابيع رجع الزوج الأول، فلمن تذهب الزوجة، إلى الزوج الأول أم الثاني أفتونا مأجورين؟.(6/103)
ج: يكون الذهاب للزوج الأول، إن شاء أجاز العقد، ورجع على الزوج الثاني بمهره الذي أعطاه المرأة، أو بمهر مثلها في وقته ذلك، وإن اختار أخذها من الثاني، ولا يرجع الثانى عليه بشيء؛ لأن الثاني تزوجها وهو مخاطر في الحقيقة؛ فإن زوجها قد يحضر، والصحيح أنه لا فرق بين كون ذلك بعد جماع الثاني أو قبله؛ لأن ظاهر النصوص الواردة عن الصحابة لا تفصيل فيها . نعم .
س: هذه يا شيخ -أحسن الله إليك- سائلة تسأل عن حكم الرقص في المناسبات باستعمال الدّف؟ .
ج: أما استعمال الدّف فلا بأس به، بل هو سنة في ليالي الزفاف، أي أيام الأعراس بشرط ألا يصحبه غناء سافل أو أصوات دقيقة عالية تفتن ?ن سمعها، وأما الرقص فلا أراه، أي لا أرى للمرأة أن ترقص؛ لأننا سمعنا بعض القضايا التي تؤدي إلى أمر مكروه . نعم .
س: أحسن الله إليك، سائلة أخرى تقول: جاءتني العادة الشهرية، ومضت سبعة أيام، وبعدها أتت علامة الطهر بعد المغرب، وفي اليوم التالي أتاني على شكل شعيرات من الدم بعد العصر، فهل أصلي أم لا، والله يرعاكم ?.
ج: نعم تصلي؛ لأن هذه الشعيرات الحمراء لا تعد حيضا، فهي من جنس الصفرة والكدرة، وقد قالت أم عطية -رضي الله عنها- "كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئا" . نعم.
س: أحسن الله إليك يقول: إذا كنت في المسجد ثم خرجت -أعزكم الله- إلى دورة المياه، ورجعت فهل علي أن أصلي تحية المسجد؟ .
ج: ليس عليك أن تصلي تحية المسجد؛ لأنك خرجت بنية الرجوع في وقت قصير، وهذا الخروج لا يعتبر خروجا من المسجد حكما، بدليل أن المعتكف إذا خرج لقضاء حاجته، ورجع عن قرب لم يبطل اعتكافه، بل يبني على ما مضى من اعتكافه، ولو كان مثل هذا الخروج يعد خروجا عن المسجد حكما لبطل الاعتكاف، ومثل ذلك لو خرج من المسجد ليأتي بكتابه يدرس به، وكان ذلك في مدة قصيرة، فإنه لا يصلي تحية المسجد .
نعم. ولو صلى لا حرج، لكن لا نطلب منه تحية مسجد كتحية من دخل لأول مرة . نعم .(6/104)
س: أحسن الله إليك، يقول: حججت هذا العام مع حملة، وعند المبيت بالمزدلفة أرادوا الخروج منها قبل الفجر في منتصف الليل، وذهبت معهم مع أنه لم يكن معي نساء، فذهبت مع باقي الحملة، فهل يلزمني شيء، وهل فعلي صحيح؟ .
ج: لا يلزمه شيء، لكن ما ?دري هل خرجوا من مزدلفة بعد أن مضى أكثر الليل، فإذا كان خرجوا من مزدلفة بعد أن مضى أكثر الليل، فلا بأس في مثل هذه الأيام؛ لأن هذه الأيام الزحام شديد، وكل واحد ممكن أن يكون له عذر، وقد أذن النبي r للنساء أن يدفعن من مزدلفة في آخر الليل، وكانت أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- تأمر غلامها أن يشاهد القمر فإذا غاب دفعت . نعم .
-أحسن الله إليك، هذا يقول: ليس معه نساؤه يا شيخ .
لا يضر هو مع صحبته مع رفقته، وتخلفه عنهم ربما يشق عليه، ربما يضيع عنهم، ثم إننا أشرنا إلى أننا في هذه الأيام الزحام، وهو مشقة حاصل لكل أحد حتى للرجال الأقوياء . نعم .
-يا شيخ، يقول: إن الحملة أبقوا باصا لمن أراد المبيت.
أيش؟ .
-الحملة يقول أبقوا يعني: شاحنة لمن أراد أن يبيت يعني: يكمل الليل .
أرى أن هذا فرصة وغريب، وكان عليه لما أبقوا الباص لمن يبيت أن يبيت، لكني لا أرى أن يجب عليه الدم لما فعل، وأرجو الله تعالى أن يتقبل منه . نعم .
س: أحسن الله إليك يقول: رجل دخل مع جماعة، وهو مسافر بحيث إنهم كانوا يصلون المغرب، وهم سائرون في الطريق، ولكنّه يصلي العشاء، فجلس بعد الثانية، وقاموا هم للثالثة، فلما جلسوا للتشهد سلّم معهم، فهل فعله صحيح؟.
ج: نعم فعله صحيح، لكن خير من ذلك أنه لما قام الإمام للثالثة أن ينوي الفراق، ويصلي ركعتين، ولعلّ قائلا يقول: لماذا لا نجعله يتم مع الإمام صلاة المغرب ثم يأتي بركعة؟ لأن من ائتم بمن يتم الصلاة لزمه أن يتم معه . والجواب عن هذا أن نقول: إن صلاة المغرب ثلاث ركعات وصلاة العشاء أربع اختلفت الصلاتان، فله إذا قام أمامه أن ينفرد ويسلم . نعم .(6/105)
س: أحسن الله إليك، يا شيخ ليس سؤالًا إنما هو طلب، أحد الإخوة من مدينة الأفلاج يقول: إن مدينة الأفلاج بعيدة عن العلماء، وأهلها متعطشون لزيارة سماحتكم فما رأيكم بارك الله فيكم.
والله أرى أن يعذروني؛ لأن أشغالنا كثيرة، وعندنا طلبة كثيرون، ولا نحب أن نتأخر عنهم، فيلحقهم الكسل .
الوقت انتهى الآن.
بقي سؤال يا شيخ : نعم.
س: هذا يقول والدي رجل كبير في السن ولديه بعض الأملاك، وفي الآونة الأخيرة تسلمت إدارة الأملاك، وهو لا يؤدي زكاتها مطلقا، وهناك عدة أسئلة حول هذا الموضوع .
الأول: هل يجب علي إخراج زكاتها -دون علمه؛ لأنه إذا علم فلن يرضى مطلقا بذلك- وأوزعها على المحتاجين ?.
ج: إذا كانت الوكالة مطلقة بأن تعرف بأنك وكيل عنه في كل شيء، فله أن يخرج الزكاة، أما إذا كانت الوكالة تعني الوكالة في تدبير هذه الأملاك، فهي عنه شراء وتأجيرا، فإنه لا يملك إخراج الزكاة إلا بتوكيل من أبيه . نعم.
س: ويقول أيضا: إن هذا الوالد لا ينفق على البيت، وأنا ساكن معهم، وأقوم في أكثر الأحيان بالصرف عليهم؛ نظرا لأني موظف، ولكنّي في بعض الأحيان لا أستطيع؛ لأن عليّ دينا يقول: هل يجوز لي أن آخذ بقدر ما يكفي البيت وأنفق عليه بدون علمه .
ج: نعم يجوز له أن يأخذ من مال أبيه ما ينفقه على بيت أبيه بدون علمه . نعم .
س: هذا السائل يقول: بعض الأوقات تأتيني ضائقة مالية، ولا يكون أمامي إلا أن ألجأ إلى هذا المال مع النية الصادقة في إرجاعه في أقرب وقت، فهل يحل لي ذلك بدون علمِه؟ .
ج: لا يحق لا يحل له أن يأخذ من المال الموكل فيه إلا بعد موافقة الموكل؛ لأنه أمين، والأمين لا يتصرف لمصلحة نفسه . نعم .
س: والفقرة الأخيرة يقول: وهو لا يتم الصلاة، ويتحجج بسلس البول، ويؤديها في البيت، وإذا سألته قال: صلّيت وأنا متأكد أنه لم يصلّ، وإذا صلّى فإنه لا يؤديها بالصورة الصحيحة، بل ويشغل المصلّين بعدم حسن صلاته .
أيش، أيش ?(6/106)
بل ويشغل المصلين بعدم حسن صلاته، ولم ينفع تعليمي له ونصحي له، بماذا تنصحني جزاك الله خيرا، وأرجوك في نهاية هذا أن تدعو له.
اللهم اهدنا وإياه، الواجب عليه إذا كان يتأذى الناس به بحضوره المسجد، أو يتأذى المسجد بحضوره أن يصليها في البيت، ويجب عليه أن يصلّي على حسب حالته، وسلسل البول لا ?منع الصلاة فإنه يستطيع أن يتوضأ بعد دخول وقت الصلاة، ويتحفظ ويصلّي الصلاة، ويجمع إذا كان يشق عليه أن يصلّي كل صلاة في وقتها، فالأمر واسع ولله الحمد. نعم .(6/107)
مجموع فتاوى و رسائل - 11
رسالة الأصول من علم الأصول
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً :
الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أما بعد : فهذه رسالة مختصرة في أصول الفقه كتبناها على وفق المنهج المقرر للسَّنَة الثالثة الثانوية في المعاهد وسميناها :
( الأصول من علم الأصول )
أسأل الله أن يجعل عملنا خالصاً لله نافعاً لعباد الله إنه قريب مجيب .
أصول الفقه
تعريفه :
أصول الفقه يعرف باعتبارين :
الأول : باعتبار مفرديه أي باعتبار كلمة " أصول " وكلمة " فقه " .
فالأصول : جمع أصل وهو ما يبني عليه غيره ومن ذلك أصل الجدار وهو أساسه وأصل الشجرة الذي يتفرغ منه أغصانها قال تعالى :
? ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ? (1) .
الفقه لغة : الفهم ومنه قوله تعالى : ? واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ?(2).
واصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية .
فالمراد بقولنا " معرفة " العلم والظن لأن إدراك الأحكام الفقيه قد يكون يقينَّيا وقد يكون ظنيًّا كما في كثير من مسائل الفقه .
والمراد بقولنا:" الأحكام الشرعية " الأحكام المتلقاة من الشرع كالوجوب والتحريم ، فخرج به الأحكام العقلية كمعرفة أن الكل أكبر من الجزء والأحكام العادية كمعرفة نزول الظل في الليلية الشاتية إذا كان الجو صحواً .
والمراد بقولنا : " العملية " ما لا يتعلق بالاعتقاد كالصلاة والزكاة فخرج به ما يتعلق بالاعتقاد كتوحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته فلا يسمى ذلك فقهًا في الاصطلاح .(6/108)
والمراد بقولنا : بأدلتها التفصيلية " أدلة الفقه المقرونة بمسائل الفقه التفصيلية فخرج به أصول الفقه لأ ن البحث فيه إنما يكون في أدلة الفقه الإجمالية .
الثاني : باعتبار كونه لقباً لهذا الفن المعين ، فيعرف بأنه : " علم يبحث عن أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد ".
فالمراد بقولنا : " الإجمالية " القواعد العامة مثل قولهم : الأمر للوجوب والنهي للتحريم والصحة تقتضي النفوذ ، فخرج به الأدلة التفصيلية فلا تذكر في أصول الفقه إلا على سبيل التمثيل للقاعدة .
والمراد بقولنا : " وكيفية الاستفادة منها " معرفة كيف يستفيد الأحكام من أدلتها بدراسة أحكام الألفاظ ودلالاتها من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وناسخ ومنسوخ وغير ذلك فإنه بإدراكه يستفيد من أدلة الفقه أحكامها .
والمراد بقولنا : " وحال المستفيد " معرفة حال المستفيد وهو المجتهد سمى مستفيداً لأنه يستفيد بنفسه الأحكام من أدلتها لبلوغه مرتبة الاجتهاد فمعرفة المجتهد وشروط الاجتهاد وحكمه ونحو ذلك يبحث في أصول الفقه .
فائدة أصول الفقه :
إن أصول الفقه علم جليل القدر بالغ الأهمية غزير الفائدة فائدته : التمكن من حصول قدرة يستطيع بها استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها على أسس سليمة .
وأول من جمعه كفن مستقل الإمام الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله ثم تابعه العلماء في ذلك فألفوا في التأليف المتنوعة ما بين منثور ومنظوم ومختصر ومبسوط حتى صار فنّاً مستقلاً له كيانه ومميزاته .
الأحكام
الأحكام : جمع حكم وهو لغة القضاء .
واصطلاحاً : ما اقتضاه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب أو تخيير أو وضع .
فالمراد بقولنا : " خطاب الشرع " الكتاب والسنة .
والمراد بقولنا : " المتعلق بأفعال المكلفين " ما تعلق بأعمالهم سواء كانت قولاً أم فعلاً إيجاداً أم تركاً .
فخرج به ما تعلق بالاعتقاد فلا يسمى حكماً بهذا الاصطلاح .(6/109)
والمراد بقولنا " المكلفين" ما من شأنهم التكليف فيشمل الصغير والمجنون .
والمراد بقولنا : " من طلب " الأمر والنهي سواء على سبيل الإلزام أو الأفضلية .
والمراد بقولنا : " أو تخيير " المباح .
والمراد بقولنا : " أو وضع " الصحيح والفاسد ونحوهما مما وضعه الشارع من علامات وأوصاف للنفوذ والإلغاء .
أقسام الأحكام الشرعية :
تنقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين : تكليفية ووضعية .
فالتكليفية خمسة : الواجب ، والمندوب ، والمحرم ، والمكروه ، والمباح .
1- فالواجب لغة : الساقط واللازم .
واصطلاحاً : ما أمر به الشارع على وجه الإلزام كالصلوات الخمس .
فخرج بقولنا " ما أمر به الشارع " المحرم والمكروه والمباح .
وخرج بقولنا : " على وجه الإلزام " المندوب .
والواجب يثاب فاعله امتثالاً ويستحق العقاب تاركه .
ويسمى . فرضاً ، وفريضة ، وحتماً ، ولازماً .
2- والمندوب لغة : المدعو .
واصطلاحاً : ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام كالرواتب .
فخرج بقولنا : " ما أمر به الشارع " المحرم والمكروه والمباح .
وخرج بقولنا : " لا على وجه الإلزام " الواجب .
والمندوب : يثاب فاعله امتثالاً ولا يعاقب تاركه .
ويسمى : سنة ، ومسنوناً ، ومستحبّاً ، ونفلاً .
3- والمحرم لغة : الممنوع .
واصطلاحاً : ما نهى عنه الشارع على وجه الإلزام بالترك كعقوق الوالدين .
فخرج بقولنا : " ما نهى عنه الشارع " الواجب والمندوب والمباح .
وخرج بقولنا : " على وجه الإلزام بالترك " المكروه .
والمحرم : يثاب تاركه امتثالاً ويستحق العقاب فاعله .
ويسمى : محظوراً أو ممنوعاً .
4- والمكروه لغة : المبغض
واصطلاحاً : ما نهى عنه الشارع لا على وجه الإلزام بالترك كالأخذ بالشمال والإعطاء بها .
فخرج بقولنا : ما نهى عنه الشارع " الواجب ، والمندوب ، والمباح .
وخرج بقولنا : " لا على وجه الإلزام بالترك " المحرم .
والمكروه : يثاب تاركه امتثالاً ولا يعاقب فاعله .(6/110)
5- والمباح لغة : المعلن والمأذون به .
واصطلاحاً : ما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته كالأكل في رمضان ليلاً .
فخرج بقولنا " ما لا يتعلق به أمر " الواجب والمندوب .
وخرج بقولنا " ولا نهي " المحرم والمكروه .
وخرج بقولنا : لذاته " مالو تعلق به أمر لكونه وسيلة لمأمور به ، أو نهي لكونه وسيلة منهي عنه فإن له حكم ما كان وسيلة له من مأمور ، أو منهي ولا يخرجه ذلك عن كونه مباحاً في الأصل .
المباح مادام على وصف الإباحة فإنه لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب .
ويسمى : حلالاً ، وجائزاً .
الأحكام الوضعية :
الأحكام الوضعية : ما وضعه الشارع من أمارات لثبوت أو انتفاء أو نفوذ أو إلغاء .
ومنها الصحة والفساد .
1-1- فالصحيح لغة : السليم من المرض .
واصطلاحاً : ما ترتبت آثار فعله عليه عبادة كان أم عقداً .
فالصحيح من العبادات : ما برئت به الذمة وسقط به الطلب .
والصحيح من العقود : ما ترتب آثاره على وجود كترتب الملك على عقد البيع مثلاً .
ولا يكون الشيء صحيحاً إلا بتمام شروطه وانتفاء موانعه .
مثال ذلك في العبادات : أن يأتي بالصلاة في وقتها تامة شروطها وأركانها وواجباتها .
ومثال ذلك في العقود : أن يعقد بيعاً تامأً شروطه المعروفة مع انتفاء موانعه . فإن فقد شرط من الشروط أو وجد مانع من الموانع امتنعت الصحة .
مثال فقد الشرط في العبادة : أن يصلي بلا طهارة .
ومثال فقد الشرط في العقد : أن يبيع مالا يملك .
ومثال وجود المانع في العبادة : أن يتطوع بنفل مطلق في وقت النهي .
ومثال وجود المانع في العقد : أن يبيع من تلزمه الجمعة شيئاً بعد ندائها الثاني على وجه لا يباح .
2-والفاسد لغة : الذاهب ضياعاً وخسراً .
واصطلاحاً : مالا تترتب آثار فعله عليه عبادة كان أم عقداً .
فالفاسد من العبادات : ما لاتبرأ به الذمة ولا يسقط به الطلب كالصلاة قبل وقتها .
والفاسد من العقود : ما لا تترتب آثاره عليه كبيع المجهول .(6/111)
وكل فاسد من العبادات والعقود والشروط فإنه محرم لأن ذلك من تعدي حدود الله واتخاذ آياته هزؤاً ولأن النبي ، صلي الله عليه وسلم ، أنكر على من اشترطوا شروطاً ليست في كتاب الله .
والفاسد والباطل بمعنى واحد إلا في موضعين :
الأول : في الإحرام فرقوا بينهما بأن الفاسد ما وطئ فيه المحرم قبل التحلل الأول ، والباطل ما ارتد فيه عن الإسلام .
الثاني : في النكاح فرقوا بينهما بأن الفاسد ما اختلف العلماء في فساده كالنكاح بلا ولي ، والباطل ما أجمعوا على بطلانه كنكاح المعتدة .
العلم
تعريفه :
العلم : إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً كإدراك أن الكل أكبر من الجزء وأن النية شرط في العبادة .
فخرج بقولنا : " إدراك الشيء " عدم الإدراك بالكلية ويسمى " الجهل البسيط " مثل أن يُسأل متى كانت غزوة بدر ؟ فيقول : لا أدري .
وخرج بقولنا : " على ما هو عليه " إدراكه على وجه يخالف ما هو عليه ويسمى ( الجهل المركب ) مثل أن يُسأل متى كانت غزوة بدر ؟ فيقول : في السنة الثالثة من الهجرة .
وخرج بقولنا : " إدراكاً جازماً " إدراك الشيء إدراكاً غير جازم بحيث يحتمل عنده أن يكون على غير الوجه الذي أدركه فلا يسمى ذلك علماً ثم أن ترجح عنده أحد الاحتمالين فالراجح ظن والمرجوح وهم ، وإن تساوى الأمران فهو شك .
وبهذا تبين أن تعلق الإدراك بالأشياء كالآتي :
1- علم وهو : إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً .
2- جهل بسيط : وهو عدم الإدراك بالكلية .
3- جهل مركب وهو : إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه .
4- ظن وهو : إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح .
5- وهم وهو : إدراك الشيء مع احتمال ضد راجح .
6- شك وهو : إدراك الشيء مع احتمال ضد مساو.
أقسام العلم :
ينقسم العلم إلى قسمين ضروري ونظري :(6/112)
1- فالضروري : ما يكون إدراك المعلوم فيه ضروريّاً بحيث يضطر إليه من غير نظر ولا استدلال ، كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء وأن النار حارة ، وأن محمداً رسول الله ، صلي الله عليه وسلم .
2- والنظري : ما يحتاج إلى نظر واستدلال كالعلم بوجوب النية في الصلاة .
الكلام
تعريفه :
الكلام لغة : اللفظ الموضوع لمعنى .
واصطلاحاً : اللفظ المفيد مثل : الله ربنا ، ومحمد نبينا .
وأقل ما يتألف منه الكلام اسمان أو فعل واسم مثال الأول : محمد رسول الله . ومثال الثاني : استقام محمد .
واحد الكلام كلمة وهي : اللفظ الموضوع لمعنى مفرد وهي : إما اسم أو فعل أو حرف .
(أ ) فالاسم:ما دل على معني في نفسه من غير إشعار بزمن وهو ثلاثة أنواع :
الأول : ما يفيد العموم كالأسماء الموصولة .
الثاني : ما يفيد الإطلاق كالنكرة في سياق الإثبات .
الثالث : ما يفيد الخصوص كالأعلام .
(ب ) والفعل : ما دل على معنى في نفسه وأشعر بهيئته بأحد الأزمنة الثلاثة :
وهو إما ماض : كفَهِمَ ، أو مضارع : كَيَفَهَم ، أو أمر : كإفهم .
والفعل بأقسامه يفيد الإطلاق فلا عموم له .
(ج) والحرف : ما دل على معنى في غيره ، ومنه :
1 – الواو : وتأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم ، ولا تقتضي الترتيب ولا تقتضي الترتيب ولا تنافيه إلا بدليل .
2- الفاء : وتأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم مع الترتيب والتعقيب ، وتأتي سببية فتفيد التعليل .
3- اللام الجارَّة : ولها معان منها التعليل ، والتمليك والإباحة .
4- على الجارة ، ولها معان منها الوجوب .
أقسام الكلام :
ينقسم الكلام باعتبار إمكان وصفه بالصدق وعدمه إلى قسمين :
خبر ، وإنشاء .
1- فالخبر : ما يمكن أن يوصف بالصدق أو الكذب لذاته .
فخرج بقولنا : " ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب " الإنشاء لأنه لا يمكن فيه ذلك فإن مدلوله ليس مخبراً عنه حتى يمكن أن يقال إنه صدق أو كذب .(6/113)
وخرج بقولنا : " لذاته " الخبر الذي لا يحتمل الصدق أو لا يحتمل الكذب باعتبار المخبر به وذلك أن الخبر من حيث المخبر به ثلاثة أقسام :
الأول : ما لا يمكن وصفه بالكذب كخبر الله ورسوله الثابت عنه .
الثاني : ما لا يمكن وصفه بالصدق كالخبر عن المستحيل شرعاً أو عقلاً فالأول كخبر مدعي الرسالة بعد النبي ، صلي الله عليه وسلم ، والثاني كالخبر عن اجتماع النقيضين كالحركة والسكون في عين واحدة في زمن واحد .
الثالث : ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب إما على السواء أو مع رجحان أحدهما كإخبار شخص عن قدوم غائب ونحوه .
2- والإنشاء : ما لا يمكن أن يوصف بالصدق والكذب ومنه
الأمر والنهي كقوله تعالى : ? واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ? (1). وقد يكون الكلام خبر وإنشاء باعتبارين كصيغ العقود اللفظية مثل : بعث وقبلت فإنها باعتبار دلالها على ما في نفس العاقد خبر وباعتبار ترتب العقد عليها إنشاء .
وقد يأتي الكلام بصورة الخبر والمراد به الإنشاء وبالعكس لفائدة.
مثال الأول:قول تعالى:? والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء? (2) . فقوله : ? يتربصن ? بصورة الخبر والمراد به الأمر وفائدة ذلك تأكيد فعل المأمور به حتى كأنه أمر واقع يتحدث عنه كصفة من صفات المأمور .
ومثال العكس : قوله تعالى:? وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ? (3) .فقوله : ? ولنحمل ? بصورة الأمر والمراد بها الخبر أي ونحن نحمل وفائدة ذلك تنزيل الشيء المخبر عنه منزل المفروض الملزم به .
الحقيقة والمجاز :
وينقسم الكلام من حيث الاستعمال إلى حقيقة ومجاز .
1- فالحقيقة هي : اللفظ المستعمل فيما وضع له مثل أسد للحيوان المفترس .
فخرج بقولنا : " المستعمل " المهمل فلا يسمى حقيقة ولا مجازاً .
وخرج بقولنا : " فيما وضع له " المجاز .
وتنقسم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام : لغوية ، وشرعية ، وعرفية .
فاللغوية هي : اللفظ المستعمل فيما وضع له في اللغة .(6/114)
فخرج بقولنا : " في اللغة " الحقيقة الشرعية ، والعرفية .
مثال ذلك الصلاة في حقيقتها اللغوية الدعاء فتحمل عليه في كلام أهل اللغة .
والحقيقة الشرعية هي : اللفظ المستعمل فيما وضع له في الشرع .
فخرج بقولنا : " في الشرع " الحقيقة اللغوية ، والعرفية .
مثال ذلك : الصلاة فإن حقيقتها الشرعية الأقوال والأفعال المعلومة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم فتحمل في كلام أهل الشرع على ذلك .
والحقيقة العرفية هي : اللفظ المستعمل فيما وضع له في العرف .
فخرج بقولنا : " في العرف " الحقيقة اللغوية ، والشرعية .
مثال ذلك : الدابة فإن حقيقتها العرفية ذات الأربع من الحيوان فتحمل عليه في كلام أهل العرف .
وفائدة معرفة تقسيم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام أن نحمل كل لفظ على معناه الحقيقي في موضع استعماله فيحمل في استعمال أهل اللغة على الحقيقة اللغوية ، وفي استعمال الشرع على الحقيقة الشرعية ، وفي استعمال أهل العرف على الحقيقة العرفية .
2- والمجاز هو : اللفظ المستعمل في غير ما وضع له مثل أسد للرجل الشجاع .
فخرج بقولنا : " المستعمل " المهمل فلا يسمى حقيقة ولا مجازاً .
وخرج بقولنا : " في غير ما وضع له " الحقيقة .
ولا يجوز حمل اللفظ على مجازه إلا بدليل صحيح يمنع من إرادة الحقيقة وهو ما يسمى في علم البيان بالقرينة .
ويشترط لصحة استعمال اللفظ في مجازه وجود ارتباط بين المعنى الحقيقي والمجازي ليصح التعبير عنه وهو ما يسمى في علم البيان بالعلاقة، والعلاقة إما أن تكون المشابهة أو غيرها .
فإن كانت المشابهة سمي التجوز ( استعارة ) كالتجوز بلفظ أسد عن الرجل الشجاع .
وإن كانت غير المشابهة سمي التجوز ( مجازاً مرسلاً ) إن كان التجوز في الكلمات و(مجازاً عقلّياً ) إن كان التجوز في الإسناد .
مثال ذلك في المجاز المرسل : أن تقول رعينا المطر فكلمة المطر مجاز عن العشب فالتجوز بالكلمة .(6/115)
ومثال ذلك في المجاز العقلي : أن تقول أنبت المطر العشب فالكلمات كلها يراد بها حقيقة معناها لكن إسناد الإنبات إلى المطر مجاز لأن المنبت حقيقة هو الله تعالى فالتجوز في الإسناد .
ومن المجاز المرسل : التجوز بالزيادة والتجوز بالحذف .
مثلوا للمجاز بالزيادة بقولة تعالى : ? ليس كمثله شيء? (1) .
ومثال المجاز بالحذف : قوله تعالى : ? واسأل القرية ? أي واسأل أهل القرية فحذفت أهل مجازاً وللمجاز أنواع كثيرة مذكورة في علم البيان .
وإنما ذكر طرف من الحقيقة والمجاز في أصول الفقه لأن دلالة الألفاظ إما حقيقة وإما مجاز فاحتيج إلى معرفة كل منهما وحكمه والله أعلم .
تنبيه :
تقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز هو المشهور عند أكثر المتأخرين في القرآن وغيره ، وقال بعض أهل العلم لا مجاز في القرآن ، وقال آخرون لا مجاز في القرآن ولا في غيره وبه قال أبو إسحاق الاسفرائين ومن المتأخرين محمد الأمين الشنقيطي ، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم أنه اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة المفضلة ، ونصره بأدلة قوية كثيرة تبين لمن اطلع عليها أن هذا القول هو الصواب (1) .
الأمر
تعريفه :
الأمر : قول يتضمن طلب الفعل على وجه الاستعلاء مثل ? أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ? .
فخرج بقولنا : " قول " الإشارة فلا تسمى أمراً وإن أفادت معناه .
وخرج بقولنا : " طلب الفعل " النهي لأنه طلب ترك والمراد بالفعل الإيجاد فيشمل القول المأمور به .
وخرج بقولنا : " على وجه الاستعلاء " الالتماس والدعاء وغيرهما مما يستفاد من صيغة الأمر بالقرائن .
صيغ الأمر :
صيغ الأمر أربع :
1. 1- فعل الأمر مثل : ? اتل ما أوحي من الكتاب ? .
2. 2- اسم فعل مثل : حي على الصلاة .
3. 3- المصدر النائب عن فعل الأمر مثل : ? فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ? .
4. 4- المضارع المقرون بلام الأمر مثل : ? لتؤمنوا بالله ورسوله ?.(6/116)
وقد يستفاد طلب الفعل من غير صيغة الأمر مثل أن يوصف بأنه فرض ، أو واجب ، أو مندوب ، أو طاعة ، أو يمدح فاعله ، أو يذم تاركه أو يترتب على فعله ثواب ، أو عرى تركه عقاب .
ما تقتضيه صيغة الأمر :
صيغة الأمر عند الإطلاق تقتضي وجوب المأمور به والمبادرة بفعله فوراً .
فمن الأدلة على أنها تقتضي الوجوب قوله تعالى : ? فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ? (1).
وجه الدلالة أن الله حذر المخالفين عن أمر الرسول صلي الله عليه وسلم أن تصيبهم فتنة وهي الزيغ أو يصيبهم عذاب أليم والتحذير بمثل ذلك لا يكون إلا على ترك الواجب فدل على أن أمر الرسول صلي الله عليه وسلم المطلق يقتضي وجوب فعل المأمور .
ومن الأدلة على أنه للفور قوله تعالى:? فاستبقوا الخيرات ?(2).
والمأمورات الشرعية خير والأمر بالاستباق إليها دليل على وجب المبادرة .
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كره تأخير الناس ما أمرهم به من النحر والحلق يوم الحديبية حتى دخل على أم سلمة – رضي الله عنها – فذكر لها ما لقي من الناس (3).
ولأن المبادرة بالفعل أحوط وأبرأ ، والتأخير له آفات ويقتضي تراكم الواجبات حتى يعجز عنها.
وقد يخرج الأمر عن الوجوب والفورية لدليل يقتضي ذلك فيخرج عن الوجوب إلى معان منها:
1- الندب كقوله تعالى : ? وأشهدوا إذا تبايعتم ? (1) فالأمر بالإشهاد على التبايع للندب ، بدليل أن النبي صلي الله عليه وسلم اشترى فرساً من أعرابي ولم يشهد (2).
2- الإباحة وأكثر ما يقع ذلك إذا ورد بعد الحظر ، أو جواباً لما يتوهم أنه محظور . مثاله بعد الحظر قوله تعالى : ? وإذا حللتم فاصطادوا ? (3) . فالأمر بالاصطياد للإباحة لوقوعه بعد الحظر المستفاد من قوله تعالى : ? غير محلي الصيد وأنتم حرم ? (4).(6/117)
ومثاله جواباً لما يتوهم أنه محظور قوله صلى الله عليه وسلم : " أفعل ولا حرج " (5). في جواب من سألوه في حجة الوداع عن تقديم أفعال الحج التي تفعل يوم العيد بعضها على بعض .
3- التهديد كقوله تعالى:? اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ? (6) ? َمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً ?(7). فذكر الوعيد بعد الأمر المذكور دليل على أنه للتهديد .
ويخرج الأمر عن الفورية إلى التراخي .
مثاله : قضاء رمضان فإنه مأمور به لكن دل الدليل على أنه للتراخي فعن عائشة –رضي الله عنها – قالت : " كان يكون علىّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان وذلك لمكان رسول الله ، صلي الله عليه وسلم (1).
ولو كان التأخير محرماً ما أُقِرّت عليه عائشة رضي الله عنها .
مالا يتم المأمور إلا به :
إذا توقف فعل المأمور به على شئ كان ذلك الشيء مأموراً به فإن كان المأمور به واجباً كان ذلك الشيء واجباً ، وإن كان المأمور به مندوباً كان ذلك الشيء مندوباً .
مثال الواجب : ستر العورة فإذا توقف على شراء ثوب كان ذلك الشراء مندوباً .
وهذه القاعدة في ضمن قاعدة أعم منها وهي : " الوسائل لها أحكام المقاصد " فوسائل المأمورات مأمور بها ، ووسائل المنهيات منهي عنها .
النهي
تعريفه :
النهي : قول يتضمن طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة هي المضارع المقرون بلا الناهية مثل قوله تعالى : ? ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة ? (1).
فخرج بقولنا : " قول " الإشارة فلا تسمى نهياً وإن أفادت معناه .
وخرج بقولنا : " طلب الكف " الأمر لأنه طلب فعل .
وخرج بقولنا : " على وجه الاستعلاء " الالتماس والدعاء وغيرهما مما يستفاد من النهي بالقرائن .(6/118)
وخرج بقولنا : " بصيغة مخصوصة هي المضارع " إلخ .. ما دل على طلب الكف بصيغة الأمر مثل دع ، اترك ، كف ونحوها فإن هذه وإن تضمنت طلب الكف لكنها بصيغة الأمر فتكون أمراً لا نهياً .
وقد يستفاد طلب الكف بغير صيغة النهي مثل أن يوصف الفعل بالتحريم ، أو الحظر ، أو القبح ، أو يذم فاعله ، أو يرتب على فعله عقاب أو نحو ذلك .
ما تقتضيه صيغة النهي :
صيغة النهي عند الإطلاق تقتضي تحريم المنهي عنه وفساده.
فمن الأدلة على أنها تقتضي التحريم قوله تعالى : ? وما آتاكم الرسول فخذوه ما نهاكم عنه فانتهوا ? (1) . فالأمر بالانتهاء عما نهى عنه يقتضي وجوب الانتهاء ومن لازم ذلك تحريم الفعل .
ومن الأدلة على أنه يقتضي الفساد في قوله صلي الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (2) . أي مردود وما نهي عنه فليس عليه أمر النبي صلي الله عليه وسلم فيكون مردوداً .
هذا وقاعدة المذهب في المنهي عنه هل يكون باطلاً أو صحيحاً مع التحريم كما يلي :
1- أن يكون النهي عائداً إلى ذات المنهي عنه أو شرطه فيكون باطلاً.
2- أن يكون النهي عائداً إلى أمر خارج لا يتعلق بذات المنهي عنه ولا شرطه فلا يكون باطلاً .
مثال العائد إلى ذات المنهي عنه في العبادة : النهي عن صوم يوم العيدين .
ومثال العائد إلى ذاته في المعاملة : النهي عن البيع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة .
ومثال العائد إلى شرطه في العبادة : النهي عن لبس الرجل ثوب الحرير فستر العورة شرط لصحة الصلاة فإذا سترها بثوب منهي عنه لم تصح الصلاة لعود النهي إلى شرطها .
ومثال العائد إلى شرطه في المعاملة : النهي عن بيع الحمل فالعلم بالمبيع شرط لصحة البيع فإذا باع الحمل لم يصح البيع لعود النهي إلى شرطه .
ومثال النهي العائد إلى أمر خارج في العبادة : النهي عن لبس الرجل عمامة الحرير فلو صلى وعليه عمامة حرير لم تبطل صلاته لأن النهي لا يعود إلى ذات الصلاة ولا شرطها .(6/119)
ومثال العائد إلى أمر خارج في المعاملة : النهي عن الغش فلو باع شيئاً مع الغش لم يبطل البيع لأن النهي لا يعود إلى ذات البيع ولا شرطه .
وقد يخرج النهي عن التحريم إلى معان أخرى لدليل يقتضي ذلك فمنها :
1- الكراهة ومثلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول " (1) . فقد قال الجمهور إن النهي هنا للكراهة لأن الذكر بضعة من الإنسان والحكمة من النهي تنزيه اليمين .
2- الإرشاد مثل قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : " لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " (2) .
من يدخل في الخطاب بالأمر والنهي ؟
الذي يدخل في الخطاب بالأمر والنهي المكلف وهو:البالغ العاقل.
فخرج بقولنا : " البالغ " الصغير فلا يكلف بالأمر والنهي تكليفاً مساوياً لتكليف البالغ ، ولكنه يؤمر بالعبادات بعد التمييز تمريناً له على الطاعة ويمنع من المعاصي ليعتاد الكف عنها .
وخرج بقولنا : " العاقل " المجنون فلا يكلف بالأمر والنهي ، ولكنه يمنع مما يكون فيه تعد على غيره أو إفساد ولو فعل المأمور به لم يصح منه الفعل لعدم قصد الامتثال منه .
ولا يرد على هذا إيجاب الزكاة والحقوق المالية في مال الصغير والمجنون لأن إيجاب هذه مربوط بأسباب معينة متى وجدت ثبت الحكم فهي منظور فيها إلى السبب لا إلا الفاعل .(6/120)
والتكليف بالأمر والنهي شامل للمسلمين والكفار لكن الكافر لا يصح منه فعل المأمور به حال كفره لقوله تعالى : ? وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله ? (1) . ولا يؤمر بقضائه إذا أسلم لقوله تعالى : ? قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ? (2) . وقوله صلي الله عليه وسلم لعمرو بن العاص : " أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله " (3). وإنما يعاقب على تركه إذا مات على الكفر لقوله تعالى عن جواب المجرمين إذا سئلوا : ? مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ? (4) .
موانع التكليف :
للتكليف موانع منها : الجهل والنسيان والإكراه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (5).
رواه ابن ماجه والبيهقي وله شواهد من الكتاب والسنة تدل على صحته.
فالجهل : عدم العلم فمتى فعل المكلف محرماً جاهلاً بتحريمه فلا شيء عليه كمن تكلم في الصلاة جاهلاً بتحريم الكلام ومتى ترك واجباً جاهلاً بوجوبه لم يلزمه قضاؤه إذا كان قد فات وقته بدليل أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يأمر المسيء في صلاته وكان لا يطمئن فيها لم يأمره بقضاء ما فات من الصلوات وإنما أمره بفعل الصلاة الحاضرة على الوجه المشروع .
والنسيان : ذهول القلب عن شئ معلوم فمن فعل محرماً ناسياً فلا شيء عليه كمن أكل في الصيام ناسياً ، ومن ترك واجباً ناسياً فلا شيء عليه حال نسيانه ولكن عليه فعله إذا ذكره لقول النبي ، صلي الله عليه وسلم : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها " (1) .(6/121)
والإكراه : إلزام الشخص بما لا يريد فمن أكره على شيء محرم فلا شيء عليه كمن أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ومن أكره على ترك واجب فلا شيء عليه حال الإكراه وعليه قضاؤه إذا زال كمن أكره على ترك الصلاة حتى خرج وقتها فإنه يلزمه قضاؤها إذا زال الإكراه .
وتلك الموانع إنما هي في حق الله لأنه مبني على العفو والرحمة أما في حقوق المخلوقين فلا تمنع من ضمان ما يجب ضمانه إذا لم يرض صاحب الحق بسقوطه والله أعلم .
العام
تعريفه :
العام لغة : الشامل
واصطلاحاً : اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر مثل ? إن الأبرار لفي نعيم ? .
فخرج بقولنا : " المستغرق لجميع أفراده " مالا يتناول إلا واحداً كالعلم ، والنكرة في سياق الإثبات كقوله تعالى : ? فتحرير رقبة ? لأنها تتناول جميع الأفراد على وجه الشمول وإنما تتناول واحداً غير معين .
وخرج بقولنا : " بلا حصر " ما يتناول جميع أفراده مع الحصر كأسماء العدد مئة وألف ونحوهما .
صيغ العموم :
صيغ العموم سبع :
1- مادل على العموم بمادته مثل : كل ، وجميع ، وكافة ، وقاطبة ، وعامة كقوله تعالى : ? إنا كلَّ شيء خلقناه بقدر ? (1) .
2- أسماء الشرط كقوله تعالى : ? من عمل صالحاً فلنفسه ? (2)
? فأينما تولوا فثم وجه الله ? (3) .
3- أسماء الاستفهام كقوله تعالى:? فمن يأتيكم بماء معين ? (1).
? ماذا أجبتم المرسلين ? (2) . ? فأين تذهبون ? (3) .
4- الأسماء الموصولة كقوله تعالى : ? والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ? (4) . ? والذين جاهدوا فينا لندهينهم سبلنا? (5) . ? إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ? (6) .? ولله ما في السموات وما في الأرض ? (7) .(6/122)
5- النكرة في سياق النفي ، أو النهي ، أو الشرط ، أو الاستفهام الإنكاري كقوله تعالى : ? وما من إله إلا الله ? (8) . ? واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ? (9).? إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً ? (10).?منْ إله غير الله يأتيكم بضياء?(11)
6- المعرف بالإضافة مفرداً كان أم مجموعاً كقوله تعالى : ? واذكروا نعمة الله عليكم ? (1) . ? فاذكروا الآ الله ? (2) .
7- المعرف بأل الاستغراقية مفرداً كان أم مجموعاً كقوله تعالى: ?وخلق الإنسان ضعيفاً ? (3) . ? وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ? (4) .
وأما المعرف بأل العهدية فإنه بحسب المعهود فإن كان عامّاً فالمعرف عام وإن كان خاصّاً فالمعرف خاص ، مثال العام قوله تعالى : ? إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون ? (5) .
ومثال الخاص قوله تعالى : ? كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول ? (6) .
وأما المعرف بأل التي لبيان الجنس فلا يعم الأفراد فإذا قلت الرجل خير من المرأة أو الرجال خير من النساء ، فليس المراد أن كل فرد من الرجال خير من كل فرد من النساء وإنما المراد أن هذا الجنس خير من هذا الجنس وإن كان قد يوجد من أفراد النساء من هو خير من بعض الرجال .
العمل بالعام :
يجب العمل بعموم اللفظ العام حتى يثبت تخصيصه لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها حتى يقوم دليل على خلاف ذلك .
وإذا ورد العام على سبب خاص وجب العمل بعمومه لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن يدل دليل على تخصيص العام بما يشبه حال السبب الذي ورد من أجله فيختص بما يشبهها .
مثال ما لا دليل على تخصيصه : آيات الظهار فإن سبب نزولها ظهار أوس بن الصامت والحكم فيه عام فيه وفي غيره .(6/123)
ومثال ماد دل الدليل على تخصيصه قوله صلي الله عليه وسلم : " ليس من البر الصيام في السفر " (1) فإن سببه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال : " ما هذا ؟ قالوا صائم . فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " فهذا العموم خاص بمن يشبه حال هذا الرجل وهو من يشق عليه الصيام في السفر والدليل على تخصيصه بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر حيث كان لا يشق عليه ولا يفعل صلى الله عليه وسلم ما ليس ببر .
الخاص
تعريفه :
الخاص لغة : ضد العام
واصطلاحاً : اللفظ الدال على محصور بشخص أو عدد كأسماء الأعلام والإشارة والعدد .
فخرج بقولنا : " على محصور " العام .
والتخصيص لغة : ضد التعميم .
واصطلاحاً : إخراج بعض أفراد العام .
والمخصِّص – بكسر الصاد – فاعل التخصيص وهو الشارع ويطلق على الدليل الذي حصل به التخصيص .
ودليل التخصيص نوعان : متصل ومنفصل .
فالمتصل : ما لا يستقل بنفسه .
والمنفصل : ما يستقل بنفسه .
فمن المخصص المتصل :
أولاً : الاستثناء وهو لغة : من الثني وهو رد بعض الشيء إلى بعضه كثني الحبل .
واصطلاحاً : إخراج بعض أفراد العام بإلا أو إحدى أخواتها كقوله تعالى : ? إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ? (1) .
فخرج بقولنا : " بإلا أو إحدى أخواتها " التخصيص بالشرط وغيره .
شروط الاستثناء :
يشترط لصحة الاستثناء شروط منها :
1- اتصاله بالمستثنى منه حقيقة أو حكماً .
فالمتصل حقيقة : المباشر للمستثنى منه بحيث لا يفصل بينهما فاصل .
والمتصل حكماً :ما فصل بينه وبين المستثنى منه فاصل لا يمكن دفعه كالسعال والعطاس .
فإن فصل بينهما فاصل أو سكوت لم يصح الاستثناء مثل أن يقول : عبيدي أحرار ثم يسكت أو يتكلم بكلام آخر ثم يقول إلا سعيداً فلا يصح الاستثناء ويعتق الجميع .(6/124)
وقيل يصح الاستثناء مع السكوت أو الفاصل إذا كان الكلام واحداً ، لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه " .فقال ابن عباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوهم فقال : " إلا الإذخر " (1) . وهذا القول الراجح لدلالة هذا الحديث عليه .
2- ألا يكون المستثنى أكثر من نصف المستثنى منه فلو قال : له عليَّ عشرة دراهم إلا ستة لم يصح الاستثناء ولزمته العشرة كلها .
وقيل لا يشترط ذلك فيصح الاستثناء وإن كان المستثنى أكثر من النصف فلا يلزمه في المثال المذكور إلا أربعة .
أما إن استثنى الكل فلا يصح على القولين فلو قال : له عليّ عشرة إلا عشرة لزمته العشرة كلها .
وهذا الشرط فيما إذا كان الاستثناء من عدد ، أما إن كان من صفة فيصح وإن خرج الكل أو الأكثر ، مثاله قوله تعالى لإبليس:? إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ? (1) .
واتباع إبليس من بني آدم أكثر من النصف ولو قلت : أعط من البيت إلا الأغنياء ، فتبين أن جميع من في البيت أغنياء صح الاستثناء ولم يعطوا شيئاً .
ثانياً : من المخصص المتصل : الشرط وهو لغة : العلامة .
والمراد به هنا : تعليق شيء بشيء وجوداً أو عدماً بإن الشرطية أو إحدى أخواتها .
والشرط مخصص سواء تقدم أم تأخر .
مثال المتقدم قوله تعالى في المشركين : ? فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ? (2).
ومثال المتأخر قوله تعالى : ? والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ? (3) .ثالثاً : الصفة وهي : ما أشعر بمعنى يختص به بعض أفراد العام من نعت أو بدل أو حال .
مثال النعت : قوله تعلى : ? فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات?(1) .(6/125)
ومثال البدل : قوله تعالى : ? فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين ? (2) .
ومثال الحال : قوله تعالى : ? وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيما ? (3). الآية
المخصص المنفصل :
المخصص المنفصل : ما يستقل بنفسه وهو ثلاثة أشياء :
الحس ، والعقل ، والشرع .
مثال التخصيص بالحس : قوله تعالى عن ريح عاد : ? تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ? (4) . فإن الحس دل على أنها لم تدمر السماء والأرض .
ومثال التخصيص بالعقل : قوله تعالى : ? اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ? (5). فإن العقل دل على أن ذاته تعالى غير مخلوقة .
ومن العلماء من يرى أن ما خص بالحس والعقل ليس من العام المخصوص وإنما هو من العام الذي أريد به الخصوص إذ المخصوص لم يكن مراداً عند المتكلم ولا المخاطب من أول الأمر وهذه حقيقة العام الذي أريد به الخصوص .
وأما التخصيص بالشرع فإن الكتاب والسنة يخصص كل منهما بمثلهما وبالإجماع والقياس .
مثال تخصيص الكتاب بالكتاب : قوله تعالى : ? والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ? (1) . خص بقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ? (2) .(6/126)
ومثال تخصيص الكتاب بالسنة : آيات المواريث كقوله تعالى : ? يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ? (3). ونحوها خص بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"(4).
ومثال تخصيص الكتاب بالإجماع:قوله تعالى:? والذين وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً?(5).
خص بالإجماع على أن الرقيق القاذف يجلد هكذا مثل كثير من الأصوليين وفيه نظر لثبوت الخلاف في ذلك ولم أجد له مثالاً سليماً.
ومثال تخصيص الكتاب بالقياس : قوله تعالى : ? الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ? (6).
خص بقياس العبد الزاني على الأمة في تنصيف العذاب والاقتصار على خمسين جلدة على المشهور .
ومثال تخصيص السنة بالكتاب:قوله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"(1) . خص بقوله تعالى : ? قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ? (2).(6/127)
ومثال تخصيص السنة بالسنة : قوله صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر " (3). خص بقوله صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " (4).
ولم أجد مثالاً لتخصيص السنة بالإجماع .
ومثال تخصيص السنة بالقياس : قوله صلى الله عليه وسلم " البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام " (5). خص بقياس العبد على الأمة في تنصيف العذاب والاقتصار على خمسين جلدة على المشهور .
المطلق والمقيد
تعريف المطلق :
المطلق لغة : ضد المقيد .
واصطلاحاً : ما دل على الحقيقة بلا قيد كقوله تعالى:? فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ? (1).
فخرج بقولنا : " ما دل على الحقيقة " العام لأنه يدل على العموم لا على مطلق الحقيقة فقط .
وخرج بقولنا : " بلا قيد " المقيد.
تعريف المقيد :
المقيد لغة : ما جعل فيه قيد من بعير ونحوه .
واصطلاحاً : ما دل على الحقيقة بقيد كقوله تعالى : ? فتحرير رقبة مؤمنة ? (2).
فخرج بقولنا : " قيد " المطلق .
العمل بالمطلق :
يجب العمل بالمطلق على إطلاقه إلا بدليل يدل على تقييده لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها حتى يقوم دليل على خلاف ذلك .
وإذا ورد نص مطلق ونص مقيد وجب تقييد المطلق به إن كان الحكم واحداً وإلا عمل بكل واحد على ما ورد عليه من إطلاق أو تقييد .
مثال ما كان الحكم فيهما واحداً : قوله تعالى في كفارة الظهار :
? فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ? (1). وقوله في كفارة القتل : ? فتحرير رقبة مؤمنة ? (2). فالحكم واحد هو تحرير الرقبة فيجب تقييد المطلق في كفارة الظهار بالمقيد في كفارة القتل ويشترط الإيمان في الرقبة في كل منهما .(6/128)
ومثال ما ليس الحكم فيهما واحداً : قوله تعالى : ? والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ? (3). وقوله في آية الوضوء : ? فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ? (4). فالحكم مختلف ففي الأولى قطع في الثانية غسل فلا تقيد الأولى بالثانية بل تبقى على إطلاقها ويكون القطع من الكوع مفصل الكف ، والغسل إلى المرافق .
المجمل والمبين
تعريف المجمل :
المجمل لغة : المبهم والمجموع
واصطلاحاً : ما يتوقف فهم المراد منه على غيره إما في تعيينه أو بيان صفته أو مقداره .
مثال ما يحتاج إلى غيره في تعيينه : قوله تعالى: ? والمطلقات يتربصن ? (1) فإن القرء لفظ مشترك بين الحيض والطهر فيحتاج في تعيين أحدهما إلى دليل .
ومثال ما يحتاج إلى غيره في بيان صفته : قوله تعالى : ? وأقيموا الصلاة? (2). فإن كيفية إقامة الصلاة مجهولة تحتاج إلى بيان .
ومثال ما يحتاج إلى غيره في بيان مقداره : قوله تعالى:?وآتو الزكاة?(3). فإن مقدار الزكاة الواجبة مجهول يحتاج إلى بيان .
تعريف المبين :
المبين لغة : المظهر والموضح .
واصطلاحاً : ما يفهم المراد منه إما بأصل الوضع أو بعد التبيين .
مثال ما يفهم المراد منه بأصل الوضع : لفظ ، سماء ، أرض ،جبل ، عدل ، ظلم ، صدق ، فهذه الكلمات ونحوها مفهومة بأصل الوضع ولا تحتاج إلى غيرها في بيان معناها .
ومثال ما يفهم المراد منه بعد التبيين قوله تعالى : ? وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ? (1). فإن الإقامة والإيتاء كل منهما مجمل ولكن الشارع بينهما فصار لفظهما بينا بعد التبيين .
العمل بالمجمل :
يجب على المكلف عقد العزم على العمل بالمجمل متى حصل بيانه .
والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين لأمته جميع شريعته أصولها وفروعها حتى ترك الأمة على شريعة بيضاء نقية ليلها كنهارها ولم يترك البيان عند الحاجة إليه أبداً .
وبيانه صلى الله عليه وسلم إما بالقول،أو بالفعل، أو بالقول والفعل جميعاً .(6/129)
مثال بيانه بالقول : إخباره عن أنصبة الزكاة ومقاديرها كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر" (2). بياناً لمجمل قوله تعالى : ? وآتوا الزكاة ? (3).
ومثال بيانه بالفعل : قيامه بأفعال المناسك أمام الأمة بياناً لمجمل قوله تعالى : ? ولله على الناس حج البيت ? (4).
وكذلك صلاة الكسوف على صفتها هي في الواقع بيان لمجمل قوله صلى الله عليه وسلم : " فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا " .(1)
ومثال بيانه بالقول والفعل : بيانه كيفية الصلاة فإنه كان بالقول كما في حديث المسيء في صلاته حيث قال صلى الله عليه وسلم : " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر " الحديث (2).
وكان بالفعل أيضاً كما في حديث سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر . الحديث ، وفيه ثم أقبل على الناس وقال : " إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي " (3).
الظاهر والمؤول
تعريف الظاهر :
الظاهر لغة : الواضح والبين .
واصطلاحاً : ما دل بنفسه على معنى راجح مع احتمال غيره مثاله قوله صلى الله عليه وسلم : " توضئوا من لحوم الإبل " (1). فإن الظاهر من المراد بالوضوء غسل الأعضاء الأربعة على الصفة الشرعية دون الوضوء الذي هو النظافة .
فخرج بقولنا : " ما دل بنفسه على معنى " المجمل لأنه لا يدل على المعنى بنفسه .
وخرج بقولنا: " راجح " المؤول لأنه يدل على معنى مرجوح لولا القرينه .
وخرج بقولنا : " مع احتمال غيره " النص الصريح لأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً .
العمل بالظاهر
العمل بالظاهر واجب إلا بدليل يصرفه عن ظاهره لأن هذه طريقة السلف ولأنه أحوط وأبرأ للذمة وأقوى في التعبد والانقياد .
تعريف المؤول :
المؤول لغة : من الأول وهو الرجوع .
واصطلاحاً : ما حمل لفظه على المعنى المرجوح .
فخرج بقولنا : " على المعنى المرجوح " النص والظاهر .(6/130)
أما النص فلأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً ، وأما الظاهر فلأنه محمول على المعنى الراجح .
والتأويل قسمان: صحيح مقبول ، وفاسد مردود .
1- 1- فالصحيح:ما دل عليه دليل صحيح كتأويل قوله تعالى:?واسأل القرية?(1). إلى معنى واسأل أهل القرية لأن القرية نفسها لا يمكن توجيه السؤال إليها.
2- 2- والفاسد : ما ليس عليه دليل صحيح كتأويل المعطلة قوله تعالى :
? الرحمن على العرش استوى ? (2) إلى معنى استولى . والصواب أن معناه العلو والاستقرار من غير تكييف ولا تمثيل .
النسخ
تعريفه :
النسخ لغة : الإزالة والنقل
واصطلاحاً : رفع حكم دليل شرعي أو لفظه بدليل من الكتاب والسنة .
فالمراد بقولنا : " رفع حكم " أي تغييره من إيجاب إلى إباحة ، أو من إباحة إلى تحريم مثلاً .
فخرج بذلك تخلف الحكم لفوات شرط أو وجود مانع مثل أن يرتفع وجوب الزكاة لنقص النصاب أو وجوب الصلاة لوجود الحيض فلا يسمى ذلك نسخاً .
والمراد بقولنا : " أو لفظة " لفظ الدليل الشرعي لأن النسخ إما أن يكون للحكم دون اللفظ ، أو بالعكس ، أو لهما جميعاً كما سيأتي .
وخرج بقولنا : " بدليل من الكتاب والسنة " ما عداهما من الأدلة كالإجماع والقياس فلا ينسخ بهما .
والنسخ جائز عقلاً وواقع شرعاً .
أما جوازه عقلاً : فلأن الله بيده الأمر وله الحكم لأنه الرب المالك فله أن شرع لعباده ما تقتضيه حكمته ورحمته وهل يمنع العقل أن يأمر المالك مملوكه بما أراد ؟ ! ثم إن مقتضى حكمة الله ورحمته بعبادة أن يشرع لهم ما يعلم تعالى أن فيه قيام مصالح دينهم ودنياهم والمصالح تختلف بحسب الأحوال والأزمان فقد يكون الحكم في وقت أو حال .
أصلح للعباد ويكون غيره في وقت أو حال أخرى أصلح والله عليم حكيم .
وأما وقوعه شرعاً فلأدلة منها :
1- قوله تعالى : ? ماننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ? (1) .
2- قوله تعالى : ? الآن خفف الله عنكم ? (2) . ? فالآن باشروهن ? (3)(6/131)
فإن هذا النص في تغيير الحكم السابق .
3- قوله صلى الله عليه وسلم : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها" (4)
فهذا نص في نسخ النهي عن زيارة القبور .
ما يمتنع نسخة :
1- الأخبار لأن النسخ محله الحكم ولان نسخ أحد الخبرين يستلزم أن يكون أحدهما كذباً والكذب مستحيل في أخبار الله ورسوله اللهم إلا أن يكون الحكم أتى بصورة الخبر فلا يمتنع نسخة كقوله تعالى : ? إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ? (5) . الآية ، فإن هذا خبر معناه الأمر ولذا جاء نسخه في الآية التي بعدها وهي قوله تعالى : ? الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين ?(6). الآية .
2- الأحكام التي تكون مصلحة في كل زمان ومكان كالتوحيد وأصول الإيمان وأصول العبادات ومكارم الأخلاق من الصدق والعفاف والكرم والشجاعة ونحو ذلك فلا يمكن نسخ الأمر بها وكذلك لا يمكن نسخ النهي عما هو قبيح في كل زمان ومكان كالشرك والكفر ومساوئ الأخلاق من الكذب والفجور والبخل والجبن ونحو ذلك ، إذ الشرائع كلها لمصالح العباد ودفع المفاسد عنهم .
شروط النسخ :
يشترط للنسخ فيما يمكن نسخه شروط منها:
تعذر الجمع بين الدليلين ، فإن أمكن الجمع فلا نسخ لإمكان العمل بكل منهما .
العلم بتأخر الناسخ ويعلم ذلك إما بالنص أو بخبر الصحابي ، أو بالتاريخ .
مثال ما علم تأخره بالنص : قوله صلى الله عليه وسلم : " كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة " (1).
ومثال ماعلم بخبر الصحابي : قول عائشة رضي الله عنها – " كان فيما أنزل القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات"(2).
ومثال ما علم بالتاريخ قوله تعالى : ? الآن خفف الله عنكم ? (3). الآية ، فقوله ?الآن ? يدل على تأخر هذا الحكم وكذا لو .
ذكر أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، حكم بشيء قبل الهجرة ثم حكم بعدها بما يخالفه فالثاني ناسخ .(6/132)
1- ثبوت الناسخ واشتراط الجمهور أن يكون أقوى من المنسوخ فلا ينسخ المتواتر عندهما بالآحاد وإن كان ثابتاً ، والأرجح أنه لا يشترط أن يكون الناسخ أقوى لأن محل النسخ الحكم ولايشترط في ثبوته التواتر .
أقسام النسخ :
ينقسم النسخ باعتبار النص المنسوخ إلى ثلاثة أقسام :
الأول : ما نسخ حكمه وبقي لفظه وهذا هو الكثير من القرآن .
مثاله : آيتا المصابرة وهما قوله تعالى : ? إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين?(1).الآية ، نسخ حكمها بقوله تعالى:?الآن خفف الله عنكم ? (2).
وحكمه نسخ الحكم دون اللفظ بقاء ثواب التلاوة وتذكير الأمة بحكمة النسخ .
الثاني : ما نسخ لفظه وبقي حكمه كأية الرجم فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال : " كان فيما أنزل الله آية الرجم فقرأناهاوعقلناها ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء وقامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف " .
وحكمه نسخ اللفظ دون الحكم اختبار الأمة في العمل بمالا يجدون لفظه في القرآن وتحقيق إيمانهم بما أنزل الله تعالى عكس حال اليهود الذين حاولوا كتم نص الرجم في التوراة .
الثالث : ما نسخ حكمه ولفظه : كنسخ عشر الرضعات السابق في حديث عائشة – رضي الله عنها .
وينقسم النسخ باعتبار الناسخ أربعة أقسام :
الأول : نسخ القرآن بالقرآن : ومثاله آيتا المصابرة .
الثاني : نسخ القرآن بالسنة : ولم أجد له مثالاً سليماً .
الثالث : نسخ السنة بالقرآن : ومثاله نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة باستقبال الكعبة الثابت بقوله تعالى:?فول وجهك شطر المسجد الحرام?(1).(6/133)
الرابع : نسخ السنة بالسنة ، ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم : " كنت نهيتكم عن النبيذ في الأوعية فاشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكراً " (2).
3- التطور في التشريع حتى يبلغ الكمال .
4- اختبار المكلفين باستعدادهم لقبول التحول من حكم إلى آخر ورضاهم بذلك.
5- اختبار المكلفين بقيامهم بوظيفة الشكر إذا كان النسخ إلى أخف ووظيفة الصبر إذا كان النسخ إلى أثقل .
الاخبار
تعريف الخبر :
الخبر لغة : النبأ .
والمراد به هنا : ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو ووصف .
وقد سبق الكلام على أحكام كثيرة من القول .
وأما الفعل فإن فعله صلى الله عليه وسلم أنواع :
الأول : ما فعله بمقتضى الجبلة كالأكل والشرب والنوم فلا حكم له في ذاته ، ولكن قد يكون مأموراً به أو منهياً عنه لسبب ، وقد يكون له صفة مطلوبة كالأكل باليمين أو منهي عنها كالأكل بالشمال .
الثاني : ما فعله بحسب العادة كصفة اللباس فمباح في حد ذاته وقد يكون مأموراً به أو منهّياً عنه لسبب .
الثالث : ما فعله على وجه الخصوصية فيكون مختصاً به كالوصال في الصوم والنكاح بالهبة .
ولا يحكم بالخصوصية إلا بدليل لأن الأصل التأسي به .
الرابع : ما فعله تعبداً فواجب عليه حتى يحصل البلاغ لوجوب التبليغ عليه ثم يكون مندوباً في حقه وحقنا على أصح الأقوال وذلك لأن فعله تعبداً يدل على مشروعيته والأصل عدم العقاب على الترك فيكون مشروعاً لا عقاب في تركه وهذا حقيقة المندوب .
مثال ذلك : حديث عائشة أنها سئلت بأي شئ كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته ؟ قالت : بالسواك (1) ، فليس في السواك عند دخول البيت إلا مجرد الفعل فيكون مندوباً .
ومثال آخر : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته في الوضوء(2).
فتخليل اللحية ليس داخلاً في غسل الوجه حتى يكون بياناً لمجمل وإنما هو فعل مجرد فيكون مندوباً .(6/134)
الخامس : ما فعله بياناً لمجمل من نصوص الكتاب أو السنة فواجب عليه حتى يحصل البيان لوجوب التبليغ عليه ثم يكون له حكم ذلك النص المبين في حقه وحقنا فإن كان واجباً كان ذلك الفعل واجباً وإن كان مندوباً كان ذلك الفعل مندوباً .
مثال الواجب : أفعال الصلاة الواجبة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بياناً لمجمل قوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة )(3) .
ومثال المندوب :صلاته صلى الله عليه وسلم ، ركعتين خلف المقام بعد أن فرغ من الطواف بياناً لقوله تعالى:( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).(4) حيث تقدم صلى الله عليه وسلم إلى مقام إبراهيم وهو يتلو هذه الآية ، والركعتان خلف المقام سنة .
وأما تقريره صلى الله عليه وسلم على الشيء فهو دليل على جوازه على الوجه الذي أقره قولاً كان أم فعلاً مثال إقراره على القول : إقراره الجارية التي سألها أين الله ؟ .
قالت : في السماء (1).
ومثال إقراره على الفعل : إقراره صاحب السرية الذي كان يقرأ لأصحابه فيختم بقل هو الله أحد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " سلوه لأي شيء كان يصنع ذلك" . فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أخبروه أن الله يحبه " (2).
ومثال آخر : إقراره الحبشة يلعبون في المسجد (3)من أجل التأليف على الإسلام .
فأما ما وقع ولم يعلم به فإنه لا ينسب إليه ولكنه حجة لإقرار الله له ولذلك استدل الصحابة – رضي الله عنهم – على جواز العزل بإقرار الله لهم عليه . قال جابر – رضي الله عنه – " كنا نعزل والقرآن ينزل " متفق عليه . زاد مسلم قال سفيان : " ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن " .
ويدل على أن إقرار الله حجة أن الأفعال المنكرة التي كان المنافقون يخفونها يبينها الله تعالى وينكرها عليهم فدل على أن ما سكت الله عنه فهو جائز .
أقسام الخبر باعتبار من يضاف إليه :(6/135)
ينقسم الخبر باعتبار من يضاف إليه إلى ثلاثة أقسام : مرفوع ، وموقوف ، ومقطوع .
1- فالمرفوع : ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة أو حكماً .
فالمرفوع حقيقة : قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره .
والمرفوع حكماً : ما أضيف إلى سنته أو عهده أو نحو ذلك مما لا يدل على مباشرته إياه .
ومنه قول الصحابي أمرنا أو نهينا أو نحوهما كقول ابن عباس – رضي الله عنهما – " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض(1). وقول أم عطية " نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا (2).
2- والموقوف : ما أضيف إلى الصحابي ولم يثبت له حكم الرفع .
وهو حجة على القول الراجح إلا أن يخالف نصاً أو قول صحابي آخر فإن خالف نصَّاً أخذ بالنص وإن خالف قول صحابي آخر أخذ بالراجح منهما .
والصحابي : من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك .
3- والمقطوع : ما أضيف إلى التابعي فمن بعده .
والتابعي :من اجتمع بالصحابي مؤمناً بالرسول صلى الله عليه وسلم ومات على ذلك .
أقسام الخبر باعتبار طرقه :
ينقسم الخبر باعتبار طرقه متواترة وآحاد :
1- فالمتواتر : ما رواه جماعة كثيرون يستحيل في العادة أن يتواطئوا على الكذب وأسندوه إلى شئ محسوس .
مثاله : قوله ، صلى الله عليه وسلم : " من كذب على ّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "(1).
3- والآحاد : ما سوى المتواتر وهو من حيث الرتبة ثلاثة أقسام : صحيح ، وحسن ، وضعيف .
فالصحيح : ما نقله عدل تام الضبط بسند متصل وخلا من الشذوذ والعلة القادحة .
والحسن : ما نقله عدل خفيف الضبط بسند متصل وخلا من الشذوذ والعلة القادحة .
ويصل إلى درجة الصحيح إذا تعددت طرقه ويسمى ( صحيحاً لغيره ) .
والضعيف ما خلا من شرط الصحيح والحسن .
ويصل إلى درجة الحسن إذا تعددت طرقه على وجه يجبر بعضها بعضاً ويسمى (حسناً لغيره ) .(6/136)
وكل هذه الأقسام حجة سوى الضعيف فليس بحجة لكن لا بأس بذكره في الشواهد ونحوها .
صيغ الأداء .
للحديث تحمل وأداء
فالتحمل : أخذ الحديث عن الغير .
والأداء : إبلاغ الحديث إلى الغير .
وللأداء صيغ منها :
1- حدثني : لمن قرأ عليه الشيخ .
2- أخبرني : لمن قرأ عليه الشيخ أو قرأ هو على الشيخ .
3- أخبرني : إجازة أو أجاز لي : لمن روى بالإجازة دون القراءة .
والإجازة : إذنه للتلميذ أن يروي عنه ما رواه وإن لم يكن بطريق القراءة .
4- العنعنة وهي : رواية الحديث بلفظ عن .
وحكمها الاتصال إلا من معروف بالتدليس فلا يحكم فيها بالاتصال إلا أن يصرح بالتحديث .
هذا وللبحث في الحديث ورواته أنواع كثيرة في علم المصطلح وفيماأشرنا إليه كفاية أن شاء الله تعالى .
الإجماع
تعريفه :
الإجماع لغة : العزم والاتفاق .
واصطلاحاً : اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي .
فخرج بقولنا: " اتفاق " وجود خلاف ولو من واحد فلا ينعقد معه الإجماع .
وخرج بقولنا " مجتهدي " العوام والمقلدون فلا يعتبر وفاقهم ولا خلافهم .
وخرج بقولنا : " هذه الأمة " إجماع غيرها فلا يعتبر .
وخرج بقولنا : " بعد النبي صلى الله عليه وسلم " ، إتفاقهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يعتبر إجماعاً من حيث كونه دليلاً لأن الدليل حصل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، من قول أو فعل أو تقرير ولذلك إذا قال الصحابي كنا نفعل أو كانوا يفعلون كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، كان مرفوعاً حكماً لا نقلاً للإجماع .
وخرج بقولنا : " على حكم شرعي " إتفاقهم على حكم عقلي أو عادي فلا مدخل له هنا إذ البحث في الإجماع كدليل من أدلة الشرع .
1 – قوله تعالى:( وكذلك جعالناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس)(1).
فقوله : ( شهداء على الناس ) يشمل الشهادة على أعمالهم وعلى أحكام أعمالهم والشهيد قوله مقبول .
قوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء ) (1).(6/137)
دل على أن ما اتفقوا عليه حق .
3- قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تجتمع أمتي على ضلالة " (2).
5- أن نقول : إجماع الأمة على شيء إما أن يكون حقّاً وإما أن يكون باطلاً ، فإن كان حقّاً فهو حجة ، وإن كان باطلاً فكيف يجوز أن تجمع هذه الأمة التي هي أكرم الأمم على الله منذ عهد نبيها إلى قيام الساعة على أمر باطل لا يرضى به الله ؟ ! هذا من أكبر المحال .
أنواع الإجماع :
الإجماع نوعان : قطعي ، وظني .
1- فالقطعي : ما يعلم وقوعه من الأمة بالضرورة كالإجماع على وجوب الصلوات الخمس ، وتحريم الزنى ، وهذا النوع لا أحد ينكر ثبوته ولا كونه حجة ويكفر مخالفة إذا كان ممن لا يجهله .
2- والظني : ما لايعلم إلا بالتتبع والاستقراء وقد اختلف العلماء في إمكان ثبوته وأرجح الأقوال في ذلك رأي شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في العقيدة الواسطية : " والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة " . أهـ .
واعلم أن الأمة أن تجمع على خلاف دليل صحيح صريح غير منسوخ فإنها لا تجمع إلا على حق وإذا رأيت إجماعاً تظنه مخالفاً لذلك فانظر فإما أن يكون الدليل غير صريح ، أو غير صحيح ، أو منسوخاً ، أو في المسألة خلاف لم تعلمه .
شروط الإجماع :
للإجماع شروط منها :
1- أن يثبت بطريق صحيح بأن يكون إما مشهوراً بين العلماء أو ناقلة ثقة واسع الإطلاع .
2- ألا يسبقه خلاف مستقر فإن سبقه ذلك فلا إجماع لأن الأقوال لا تبطل بموت قائليها .
فالإجماع لا يرفع الخلاف السابق وإنما يمنع من حدوث خلاف .
هذا هو القول الراجح لقوة مأخذه وقيل لا يشترط ذلك فيصح أن ينعقد في العصر الثاني على أحد الأقوال السابقة ويكون حجة على من بعده .(6/138)
ولا يشترط على رأي الجمهور انقراض عصر المجمعين فينعقد الإجماع من أهله بمجرد اتفاقهم ولايجوز لهم ولا لغيرهم مخالفته بعد لأن الأدلة على أن الإجماع حجة ليس فيها اشتراط انقراض العصر ، ولأن الإجماع حصل ساعة اتفاقهم فما الذي يرفعه ؟
وإذا قال بعض المجتهدين قولاً أو فعل فعلاً واشتهر ذلك بين أهل الاجتهاد ولم ينكروه مع قدرتهم على الإنكار فقيل : يكون إجماعاً .
وقيل : يكون حجة لا إجماعاً . وقيل : ليس بإجماع ولا حجة . وقيل : إن انقرضوا قبل الإنكار فهو إجماع لأن استمرار سكوتهم إلى الانقراض مع قدرتهم على الإنكار دليل على موافقتهم وهذا أقرب الأقوال .
القياس
تعريفه :
القياس لغة : التقدير والمساواة .
واصطلاحاً : تسوية فرع بأصل في حكم لعله جامعه بينهما .
فالفرع : المقيس .
والأصل : المقيس عليه .
والحكم : ما اقتضاه الدليل الشرعي من وجوب أو تحريم أو صحة أو فساد أو غيرها .
والعلة : المعنى الذي ثبت بسببه حكم الأصل ، وهذه الأربعة أركان القياس ، والقياس أحد الأدلة التي ثبت بها الأحكام الشرعية .
وقد دل على اعتباره دليلاً شرعيّاً الكتاب والسنة وأقوال الصحابة .
فمن أدلة الكتاب :
1- قوله تعالى : ( الله الذي انزل الكتاب بالحق والميزان )(1).
والميزان ما توزن به الأمور ويقايس به بينها .
2- قوله تعالى : ( كما بدأنا أول خلق نعيده ) (2)( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ) (3). فشبه الله تعالى إعادة الخلق بابتدائه .
وشبه إحياء الأموات بإحياء الأرض وهذا هو القياس .
ومن أدلة السنة :
1- قوله صلى الله عليه وسلم لمن سألته عن الصيام عن أمها بعد موتها: "ارأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها " قالت : نعم . قال : " فصومي عن أمك " (1) .(6/139)
2- أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله ، ولد لي غلام أسود ، فقال هل لك من إبل ؟ قال نعم . قال : ما ألوانها ؟ قال حمر . قال : هل فيها من أورق ؟ قال : نعم . قال : فأنى ذلك ؟ قال : لعله نزعه عرق . قال : فلعل ابنك هذا نزعه عرق " (2) .
وهكذا جميع الأمثال الواردة في الكتاب والسنة دليل على القياس لما فيها من اعتبار الشيء بنظيره .
ومن أقوال الصحابي : ما جاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في كتابة إلى أبي موسى الأشعري في القضاء قال : ثم الفهم الفهم فيما أدلى عليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عندك واعرف الأمثال ثم أعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق.
قال ابن القيم : وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول .
وحكى المزني أن الفقهاء في عصر الصحابة إلى يومه أجمعوا على أن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل ، واستعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام .
شروط القياس :
للقياس شروط منها :
1- أن لا يصادم دليلاً أقوى منه فلا اعتبار بقياس يصادم النص أو الإجماع أو أقوال الصحابة إذا قلنا قول الصحابي حجة ويسمى القياس المصادم لما ذكر ( فاسد الاعتبار ) .
مثاله : أن يقال يصح أن تزوج المرأة الرشيدة لنفسها بغير ولي قياساً على صحة بيعها ما لها بغير ولي .
فهذا قياس فاسد الاعتبار لمصادمته وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلى بولي "(1).
2- أن يكون حكم الأصل ثابتاً بنص أو إجماع فإن كان ثابتاً بقياس لم يصح القياس عليه ، وإنما يقاس على الأصل الأول لأن الرجوع إليه أولى ولأن القياس على الفرع ثم الفرع على الأصل تطويل بلا فائدة .
مثال ذلك : أن يقال يجري الربا في الذرة قياساً على الرز ويجري في الرز قياساً على البر ، فالقياس هكذا غير صحيح ولكن يقال يجري الربا في الذرة قياساً على البر ليقاس على أصل ثابت بنص .(6/140)
3- أن يكون الحكم الأصل عله معلومة ليمكن الجمع بين الأصل والفرع فيها فإن كان حكم الأصل تعبديّاً محضاً لم يصح القياس عليه .
مثال ذلك : أن يقال لحم النعامة ينقض الوضوء قياساً على لحم البعير لمشابهتها له ، فيقال هذا القياس غير صحيح لأن حكم الأصل ليس له عله معلومة وإنما هو تعبدي محض على المشهور .
4- أن تكون العلة مشتملة على معنى مناسب للحكم يعلم من قواعد الشرع باعتباره كالإسكار في الخمر .
فإن كان المعنى وصفاً طردياً لا مناسبة فيه لم يصح التعليل به كالسواد والبياض مثلاً .
مثال ذلك : حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن بريرة خيرت على زوجها حين عتقت قال : وكان زوجها عبداً أسود(1). فقوله"أسود " وصف طردي لا مناسبة فيه للحكم ولذلك يثبت الخيار للأمة إذا عتقت تحت عبد وإن كان أبيض ولايثبت لها إذا عتقت تحت حر وإن كان أسود .
5- أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجودها في الأصل كالإيذاء في ضرب الوالدين المقيس على التأفيف فإن لم تكن العلة موجودة في الفرع لم يصح القياس .
مثال ذلك : أن يقال العلة في تحريم الربا في كونه مكيلاً ثم يقال يجري الربا في التفاح قياساً على البر فهذا القياس غير صحيح لأن العلة غير موجودة في الفرع إذ التفاح غير مكيل .
أقسام القياس :
ينقسم القياس إلى جلي ّ وخفي ّ .
1- فالجلي : ما ثبتت عليه بنص أو إجماع أو كان مقطوعاً فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع .
مثال ما ثبتت علته بالنص : قياس المنع من الاستجمار بالدم النجس الجاف على المنع من الاستجمار بالروثة فإن عله حكم الأصل ثابتة بالنص حيث أتى ابن مسعود – رضي الله عنه – إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة ليستنجي بهن فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال " هذا ركس " (1)، والركس النجس .(6/141)
ومثال ما ثبتت علته بالإجماع : نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي القاضي هو غضبان (2)، فقياس منع الحاقن من القضاء على منع الغضبان منه من القياس الجلي لثبوت عله الأصل بالإجماع وهي تشويش الفكر وانشغال القلب .
ومثال ما كان مقطوعاً فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع: قياس تحريم إتلاف مال اليتيم باللبس على تحريم إتلافه بالأكل للقطع بنفي الفارق بينهما .
2- والخفي : ما ثبتت علته باستنباط ولم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع .
مثاله : قياس الأشنان على البر في تحريم الربا بجامع الكيل فإن التعليل بالكيل لم يثبت بنص ولا إجماع ولم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع إذ من الجائز أن يفرق بينهما بأن البر مطعوم بخلاف الأشنان .
قياس الشبه :
ومن القياس ما يسمى:بـ ( قياس الشبه ) وهو أن يتردد فرع بين أصلين مختلفي الحكم وفيه شبه بكل منهما فيلحق بأكثرهما شبهاً به.
مثال ذلك : العبد هل يملك بالتمليك قياساً على الحر أو لا يملك قياساً على البهيمة ؟ .
إذا نظرنا إلى هذين الأصلين الحر والبهيمة وجدنا أن العبد متردد بينهما فمن حيث أنه إنسان عاقل يثاب ويعاقب وينكح ويطلق يشبه الحر ، ومن حيث أن يباع ويرهن ويوقف ويوهب ويورث ولا يودع ويضمن بالقيمة ويتصرف فيه يشبه البهيمة وقد وجدنا أنه من حيث التصرف المالي أكثر شبهاً بالبهيمة فيلحق بها .
وهذا القسم من القياس ضعيف إذ ليس بينه وبين الأصل عله مناسبة سوى أنه يشبهه في أكثر الأحكام مع انه ينازعه أصل آخر .
قياس العكس :
ومن القياس ما يسمى بـ ( قياس العكس ) وهو : إثبات نقيض حكم الأصل للفرع لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه .
ومثلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : " وفي بضع أحدكم صدقة قالوا :( يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ ! قال أرايتم لو
وضعها في حرام أكان له وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر (1).(6/142)
فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم للفرع وهو الوطء الحلال نقيض حكم الأصل وهو الوطء الحرام لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه أثبت للفرع أجراً لأنه وطء حلال كما أن في الأصل وزراً لأنه وطء حرام .
التعارض
تعريفه :
التعارض لغة : التقابل والتمانع .
واصطلاحاً : تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر .
وأقسام التعارض أربعة :
القسم الأول : أن يكون بين دليلين عامين وله أربع حالات :
1- أن يمكن الجمع بينهما بحيث يحمل كل منهما على حال لا يناقض الآخر فيها فيجب الجمع .
مثال ذلك : قول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ? وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ? (1) ، وقوله : ? إنك لا تهدي من أحببت ? (2) ، والجمع بينهما أن الآية الأولى يراد بها هداية الدلالة إلى الحق وهذه ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم .
والآية الثانية يراد بها هداية التوفيق للعمل وهذه بيد الله تعالى لا يملكها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره .
2- فإن لم يمكن الجمع فالمتأخر ناسخ إن علم التاريخ فيعمل به دون الأول .
مثال ذلك : قوله تعالى في الصيام : ( فمن تطوع خيراً فهو خير له وإن تصوموا خير لكم ) (1) . فهذه الآية تفيد التخيير بين الإطعام والصيام مع ترجيح الصيام وقوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام آخر ) (2) تفيد تعيين الصيام أداء في حق غير المريض والمسافر وقضاء في حقهما لكنها متأخرة عن الأولى فتكون ناسخة لها كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع الثابت في الصحيحين وغيرهما .
3- فإن لم يعلم التاريخ عمل بالراجح إن كان هناك مرجح .
مثال ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم : " من مس ذكره فليتوضأ " (3) وسئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء ؟ قال : " لا إنما هو بضعة منك " (4) فيرجح الأول لأنه أحوط ولأنه أكثر طرقاً ومصححوه أكثر ولأنه ناقل عن الأصل ففيه زيادة علم .(6/143)
4- فإن لم يوجد مرجح وجب التوقف ولا يوجد له مثال صحيح
القسم الثاني : أن يكون التعارض بين خاصين فله أربع حالات أيضاً .
1- أن يمكن الجمع بينهما فيجب الجمع .
مثاله : حديث جابر - رضي الله عنه - في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم .
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمكة (1) ، وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بمنى ، فيجمع بينهما بأنه صلاها بمكة ولما خرج إلى منى أعادها بمن فيها من أصحابه (2) .
2- فإن لم يمكن الجمع فالثاني ناسخ إن علم التاريخ .
مثاله : قوله تعالى : ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك ) (3) الآية . وقوله تعالى : ( لا يحل لك النساء من بعد ) (4) . فالثانية ناسخة للأولى على أحد الأقوال .
3- فإن لم يمكن عمل بالراجح إن كان هناك مرجح .
مثاله : حديث ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها هو حلال (5) وحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم (6) .
فالراجح الأول لأن ميمونة صاحبة القصة فهي أدرى بها ، ولأن حديثها مؤيد بحديث أبي رافع - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال قال : وكنت الرسول بينهما (7)
.4- فإن لم يوجد مرجح وجب التوقف ولا يوجد له مثال صحيح .
القسم الثالث:أن يكون التعارض بين عام وخاص فيخصص العام بالخاص.
مثال قوله صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر (1) " وقوله : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " . فيخصص الأول بالثاني ولا تجب الزكاة إلا فيما بلغ خمسة أوسق.
القسم الرابع : أن يكون التعارض بين نصين أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه فله ثلاث حالات :
1- أن يقوم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر فيخصص به .(6/144)
مثاله : قوله تعالى : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن ) (2) 0 وقوله : ? وأولات الأحمال ? (3) . فالأولى خاصة في المتوفي عنها عامة في الحامل وغيرها ، والثانية خاصة في الحامل عامة في المتوفي عنها وغيرها لكن دل الدليل على تخصيص عموم الأولى بالثانية وذلك أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج (4).وعلى هذا فتكون عدة الحامل إلى وضع الحمل سواء كانت متوفى عنها أم غيرها.
2- وإن لم يقم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر عمل بالراجح .
مثال ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم :" إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " (1) وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس " (2) .
فالأول خاص في تحية المسجد عام في الوقت ، والثاني خاص في الوقت عام في الصلاة يشمل تحية المسجد وغيرها لكن الراجح تخصيص عموم الثاني بالأول فتجوز تحية المسجد في الأوقات المنهي عن عموم الصلاة فيها ، وإنما رجحنا ذلك لأن تخصيص عموم الثاني قد ثبت بغير تحية المسجد كقضاء المفروضة وإعادة الجماعة فضعف عمومه .
3- وإن لم يقم دليل ولا مرجح لتخصيص عموم أحدهما بالثاني وجب العمل بكل منهما فيما لا يتعارضان فيه والتوقف في الصورة التي يتعارضان فيها .
لكن لا يمكن التعارض بين النصوص في نفس الأمر على وجه لا يمكن فيه الجمع ولا النسخ ولا الترجيح لأن النصوص لا تتناقض والرسول صلى الله عليه وسلم قد بين وبلغ لكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد لقصوره والله أعلم .
الترتيب بين الأدلة
إذا اتفقت الأدلة السابقة ( الكتاب والسنة والإجماع والقياس ) على حكم أو انفرد أحدها من غير معارض وجب إثباته ، وإن تعارضت وأمكن الجمع وجب الجمع وإن لم يكن الجمع عمل بالنسخ إن تمت شروطه .
وإن لم يمكن النسخ وجب الترجيح .
فيرجح من الكتاب والسنة :(6/145)
النص على الظاهر .
والظاهر على المؤول .
والمنطوق على المفهوم .
والمثبت على النافي .
والناقل عن الأصل على المبقي عليه لأنه مع الناقل زيادة علم والعام المحفوظ (وهو الذي لم يخصص ) على غير المحفوظ .
وما كانت صفات القبول فيه أكثر على ما دونه .
وصاحب القصة على غيره .
ويقدم من الإجماع : القطعي على الظني.
ويقدم من القياس : الجلي على الخفي .
المفتي والمستفتي
المفتي : هو المخبر عن حكم شرعي
والمستفتي : هو السائل عن حكم شرعي
شروط الفتوى :
يشترط لجواز الفتوى شروط منها :
1- أن يكون المفتي عارفاً بالحكم يقيناً أو ظنّاً أو راجحاً إلا وجب عليه التوقف .
2- أن يتصور السؤال تصوّرا ًتاماً ليتمكن من الحكم عليه فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره .
فإذا أشكل عليه معنى كلام المستفتي سأله عنه وإن كان يحتاج إلى تفصيل استفصله أو ذكر التفصيل في الجواب ، فإذا سئل عن امرئ هلك عن بنت وأخ وعم وشقيق فليسأل عن الأخ هل هو لأم أو لا ؟ أو يفصل في الجواب ، فإن كان لأم فلا شيء له ، والباقي بعد فرض البنت للعم وإن كان لغير أم فالباقي بعد فرض البنت له ولا شيء للعم .
3- أن يكون هادئ البال ليتمكن من تصور المسألة وتطبيقها على الأدلة الشرعية فلا يفتي حال انشغال فكرة بغضب أو هم أو ملل أو غيرها .
ويشترط لوجوب الفتوى شروط منها :
1- وقوع الحادثة المسؤول عنها فإن لم تكن واقعة لم تجب الفتوى لعدم الضرورة إلا أن يكون قصد السائل التعلم فإنه لا يجوز كتم العلم بل يجيب عنه متى سئل بكل حال .
2- ألا يعلم من حال السائل أن قصده التعنت أو تتبع الرخص أو ضرب آراء العلماء بعضها ببعض أو غير ذلك من المقاصد السيئة فإن علم ذلك من حال السائل لم تجب الفتوى .
3- ألا يترتب على الفتوى ما هو أكثر منها ضرراً فإن ترتب عليها ذلك وجب الإمساك عنها دفعاً لأشد المفسدتين بأخفهما .
ما يلزم المستفتي :
يلزم المستفتي أمران :(6/146)
الأول : أن يريد باستفتائه الحق والعمل به لا تتبع الرخص وإفحام المفتي وغير ذلك من المقاصد السيئة .
الثاني : ألا يستفتي إلا من يعلم أو يغلب على ظنه أنه أهل للفتوى وينبغي أن يختار أوثق المفتين علماً وورعاً وقيل يجب ذلك .
الاجتهاد
تعريفه :
الاجتهاد لغة : بذل الجهد لإدراك أمر شاق
واصطلاحاً : بذل الجهد لإدراك حكم شرعي .
والمجتهد : من بذل جهده لذلك .
شروط الاجتهاد
للاجتهاد شروط منها :
1- أن يعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده كآيات الأحكام وأحاديثها.
2- أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه كمعرفة الإسناد ورجاله وغير ذلك.
3- أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع .
4- أن يعرف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص أو تقييد أو نحوه حتى لا يحكم بما يخالف ذلك .
5- أن يعرف من اللغة وأصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ كالعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين ونحو ذلك ليحكم بما تقتضيه تلك الدلالات .
6- أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها .
والاجتهاد قد يتجزأ فيكون في باب واحد من أبواب العلم أو في مسألة من مسائله .
ما يلزم المجتهد
يلزم المجتهد أن يبذل جهده في معرفة الحق ثم يحكم بما ظهر له فإن أصاب فله أجران :
أجر على اجتهاده وأجر على إصابة الحق لأن في إصابة الحق إظهاراً له وعملاً به ، وإن أخطأ فله أجر واحد والخطأ مغفور له لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"(1) .
وإن لم يظهر له الحكم وجب عليه التوقف وجاز التقليد حينئذ لضرورة .
التقليد
تعريفه :
التقليد لغة : وضع الشيء في العنق محيطاً به كالقلادة .
واصطلاحاً : اتباع من ليس قوله حجة .(6/147)
فخرج بقولنا : " من ليس قوله حجة " اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، واتباع أهل الإجماع ، واتباع الصحابي إذا قلنا أن قوله حجة ، فلا يسمى اتباع شيء من ذلك تقليداً لأنه اتباع للحجة لكن قد يسمى تقليداً على وجه المجاز والتوسع .
مواضع التقليد :
يكون التقليد في موضعين :
الأول : أن يكون المقلد عاميّاً لا يستطيع معرفة الحكم بنفسه ففرضه التقليد لقوله تعالى : ? فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ? (1) ، ويقلد أفضل من يجده علماً وورعاً فإن تساوى عنده اثنان خير بينهما .
الثاني : أن يقع للمجتهد حادثة تقتضي الفورية ولا يتمكن من النظر فيها فيجوز له التقليد حينئذ ، واشترط بعضهم لجواز التقليد ألا تكون المسألة من أصول الدين التي يجب اعتقادها لأن العقائد يجب الجزم فيها والتقليد إنما يفيد الظن فقط .
والراجح أن ذلك ليس بشرط لعموم قوله تعالى : ? فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ? (1) . والآية في سياق إثبات الرسالة وهو من أصول الدين ولأن العامي لا يتمكن من معرفة الحق بأدلته فإذا تعذر عليه معرفة الحق بنفسه لم يبق إلا التقليد لقوله تعالى : ? فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? (2) .
أنواع التقليد :
التقليد نوعان عام ، وخاص :
1- فالعام : أن يلتزم مذهباً معيناً يأخذ برخصة وعزائمه في جميع الأمور دينه .
وقد اختلف العلماء فيه فمنهم من حكى وجوبه لتعذر الاجتهاد في المتأخرين ومنهم من حكى تحريمه لما فيه من الالتزام المطلق لاتباع غير النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه إن في القول بالوجوب طاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه وهو خلاف الإجماع وجوازه فيه ما فيه .(6/148)
وقال : من التزم مذهباً معيناً ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ولا عذر شرعي يقتضي حل ما فعله فهو متبع لهواه فاعل للمحرم بغير عذر شرعي وهذا منكر وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها وإما بأن يرى أحد الرجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا فهذا يجوز بل يجب وقد نص الإمام أحمد على ذلك .
2- والخاص : أن يأخذ بقول معين في قضية معينة فهذا جائز إذا عجز عن معرفة الحق بالاجتهاد سواء عجز عجزاً حقيقياً أو استطاع ذلك مع المشقة العظيمة .
فتوى المقلد :
قال الله تعالى : ? فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ? (1) ، وأهل الذكر هم أهل العلم والمقلد ليس من أهل العلم المتبوعين وإنما هو تابع لغيره .
قال أبو عمر بن عبد البر وغيره " أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم وأن العلم معرفة الحق بدليله " . قال ابن القيم : وهذا كما قال أبو عمر فإن الناس لا يختلفون في أن العلم هو المعرفة الحاصل على دليل وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد ثم حكى ابن القيم بعد ذلك في جواز الفتوى ثلاثة أقوال :
أحدهما : لا تجوز الفتوى بالتقليد لأن ليس بعلم والفتوى بغير علم حرام وهذا قول أكثر الأصحاب وجمهور الشافعية .
الثاني: أن ذلك جائز فيما يتعلق بنفسه ولا يجوز أن يقلد فيما يفتي به غيره .
الثالث : أن ذلك جائز عند الحاجة وعدم العالم المجتهد وهو أصح الأقوال وعليه العمل. انتهى كلامه .
وبه يتم ما أردنا كتابته في هذه المذكرة الوجيزة ، نسأل الله أن يلهمنا الرشد في القول والعمل وأن يكلل أعمالنا بالنجاح إنه جواد كريم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .
---
(1) سورة إبراهيم ، الآية : 24 .
(2) سورة طه ، الآية : 27
(1) سورة النساء ، الآية : 36.(6/149)
(2) سورة البقرة ، الآية : 228.
(3) سورة العنكبوت ، الآية : 12 .
(1) سورة الشورى ، الآية : 11
(1) راجع كتاب الإيمان ومختصر الصواعق.
(1) سورة النور ، الآية : 63.
(2) سورة البقرة ، الآية : 148 .
(3) رواه أحمد والبخاري .
(1) سورة البقرة ، الآية 282.
(2) رواه أحمد والنسائي وأبو داود وفيه قصة .
(3) سورة المائدة ، الآية : 2.
(4) سورة المائدة ، الآية : 1 .
(5) متفق عليه .
(6) سورة فصلت ، الآية : 40
(7) سورة الكهف ، الآية : 29 .
(1) رواه الجماعة .
(1) سورة الأنعام ، الآية : 150
(1) سورة الحشر ، الآية : 7
(2) رواه مسلم
(1) متفق عليه .
(2) رواه أحمد والنسائي وأبو داود
(1) سورة التوبة ، الآية : 54.
(2) سورة الأنفال ، الآية : 38 .
(3) رواه مسلم .
(4) سورة المدثر ، الآية : 42.
(5) قال النووي حديث حسن .
(1) متفق عليه .
(1) سورة القمر ، الآية : 49.
(2) سورة فصلت ، الآية : 46 .
(3) سورة البقرة ، الآية : 115 .
(1) سورة الملك ، الآية : 30.
(2) سورة القصص ، الآية : 65.
(3) سورة التكوير ، الآية : 26 .
(4) سورة الزمر ، الآية : 33 .
(5) سورة العنكبوت ، الآية : 69.
(6) سورة النازعات ، الآية 26 .
(7) سورة النجم ، الآية : 31 .
(8) سورة آل عمران ، الآية : 62 .
(9) سورة النساء ، الآية : 36.
(10) سورة القصص ، الآية :54 .
(11) سورة القصص ، الآية : 77 .
(1) سورة الأحزاب ، الآية 9 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 74
(3) سورة النساء ، الآية : 28 .
(4) سورة النور ، الآية : 59 .
(5) سورة ص ، الآية 71 .
(6) سورة المزمل ، الآية : 15 .
(1) متفق عليه .
(1) سورة العصر ، الآية : 2 .
(1) متفق عليه .
(1) سورة الحجر ، الآية : 42 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 5 .
(3) سورة النور ، الآية : 33 .
(1) سورة النساء ، الآية : 25
(2) سورة آل عمران ، الآية : 97
(3) سورة النساء ، الآية : 93 .
(4) سورة الأحقاف ، الآية : 25 .(6/150)
(5) سورة الزمر ، الآية : 62 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 228 .
(2) سورة الأحزاب ، الآية : 49 .
(3) سورة النساء ، الآية : 11 .
(4) متفق عليه .
(5) سورة النور ، الآية : 4 .
(6) سورة النور ، الآية : 2 .
(1) متفق عليه .
(2) سورة التوبة ، الآية : 29 .
(3) رواة البخاري وغيره .
(4) متفق عليه .
(5) رواه احمد ومسلم
(1) سورة المجادلة ، الآية : 3
(2) سورة النساء ، الآية : 92 .
(1) سورة المجادلة ، الآية : 3 .
(2) سورة النساء ، الآية : 92 .
(3) سورة المائدة ، الآية : 38 .
(4) سورة المائدة ، الآية : 6 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 228 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 5 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 5.
(1) سورة التوبة ، الآية : 5
(2) رواه البخاري وغيره .
(3) سورة التوبة ، الآية : 5 .
(4) سورة آل عمران ، الآية 97 .
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه .
(3) متفق عليه .
(1) رواه أحمد وأبو داود ولمسلم معناه .
(1) سورة يوسف ، الآية : 82
(2) سورة طه ، الآية : 5
(1) سورة البقرة ، الآية : 106 .
(2) سورة الأنفال ، الآية : 66 .
(3) سورة البقرة ، الآية : 187 .
(4) رواه مسلم .
(5) سورة الأنفال ، الآية : 65 .
(6) سورة الأنفال ، الآية : 66 .
(1) رواه أحمد ومسلم .
(2) رواة مسلم .
(3) سورة الأنفال ، الآية : 66 .
(1) سورة الأنفال ، الآية : 65.
(2) سورة الأنفال ، الآية : 66 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 144 .
(2) رواه أحمد .
(1) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي .
(2) رواه ابن ماجه والترمذي وصححه .
(3) سورة البقرة ، الآية : 43 .
(4) سورة البقرة ، الآية : 125 .
(1) أخرجه مالك ومسلم والنسائي .
(2) متفق عليه .
(3) متفق عليه .
(1) متفق عليه
(2) متفق عليه .
(1) رواة البخاري ومسلم وغيرهما .
(1) سورة البقرة ، الآية : 143 .
(1) سورة النساء ، الآية : 59 .
(2) رواة الترمذي وله طرق لا تخلو من مقال ولكن بعضها بقوي بعضاً .(6/151)
(1) سورة الشورى ، الآية : 17.
(2) سورة الأنبياء ، الآية : 104 .
(3) سورة فاطر ، الآية : 9 .
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه .
(1) أخرجه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن حبان والحاكم .
(1) رواه البخاري .
(1) رواة البخاري .
(2) متفق عليه .
(1) رواه مسلم .
(1) سورة الشورى ، الآية : 52 .
(2) سورة القصص ، الآية : 56 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 184 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 185 .
(3) رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان .
(4) رواه الخمسة وصححه ابن حبان .
(1) رواه مسلم
(2) متفق عليه
(3) سورة الأحزاب ، الآية : 50 .
(4) سورة الأحزاب ، الآية : 52 .
(5) رواه مسلم .
(6) رواة الجماعة .
(7) رواة أحمد والترمذي
(1) سبق تخرجهما .
(2) سورة البقرة ، الآية : 234
(3) سورة الطلاق ، الآية : 4 .
(4) متفق عليه
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه .
(1) متفق عليه .
(1) سورة النحل ، الآية : 43 .
(1) سورة النحل ، الآية : 43 .
(2) سورة التغابن ، الآية : 16 .
(1) سورة النحل ، الآية : 43.(6/152)
اللغة(6/153)
مختصر مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب
مقدمة المعتني
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المعتني
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فإن لمغني اللبيب لابن هشام الأنصاري - رحمه الله - منزلة كبرى في نفسي ، ومكانة عظمى ، وفضلاً لا أنكره ، فهو أحد المفازع التي أفزع إليها - بعد التوكل على الله - إذا سلكت إلى مسألة نحويةٍ فجاً مظلماً ، أو سبيلاً معوجاً ، أو أخطأت الصراط الأقوم ، وكنت أجده الفج الواسع النير ، والطريق القويم ، والصراط المستقيم ، ولكني لعول الصبر ، وقلة الجلد ، سرعان ما أمل ، فإن لم أمل من إمعان النظر والتدقيق بالعبارة حتى أفهمها ، مللت من طول الموضوع وسعته ، فتجدني أقلب الصفحات أعدها أنتظر النهاية !!
ولقد سررت جداً عندما علمت بمختصر المغني لفضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين ، فأملت أن يكون بغيتي ، فلست أضيق ذرعاً بإمعان الفكر الذي يحتاجه كل مختصر ، ولكني أضيق بسعة الموضوع الذي هو سمة كل مطول .
ولما رأيته مخطوطاً عَرَضَ لي الاعتناءُ به ، والسعي في نشره ، دون الإضافات والتعليقات ، فلست أهلاً لها ، ولا أرى هذا عليَّ إلا واجباً ، وهي محاولة لعلها تكون بإذن الله ناجحةً في خدمة لغة الكتاب العزيز ومن طلبها ، فتوكلت على الله وبدأت .
ونظراً لقلة الخبرة ، ولقصر النظر عن الاستقصاء ، فلن يسلم هذا الاعتناء من عيوب لامصدر لها سوى صاحبه ، فإن تجد هذا أخي القارئ فغض الطرف عنه ، والتمس لأخيك العذر ، نسأل الله لنا ولك العفو والعافية .
وأريد أن أنبهك أخي القارئ إلى أمور :(6/154)
أولها : إذا رأيت الحاشية مشاراً إليها بالرمز (· ) فهي حاشية في المتن ، أي من كلام المختصر حفظه الله .
الثاني : إذا ذكرت شرح التسهيل ، فإنما أعني به الذي ألفه ابن مالك .
الثالث : إذا أحلت إلى المغني بدون تحديد فإنما أعني به الذي حققه د. مازن المبارك وعلي حمدالله .
- عملي في هذا الكتاب :
يتلخص هذا الجهد المقل بهذه النقاط :
1- عزو الآيات القرآنية بذكر السورة ورقم الآية ، يتساوى ما إذا كانت الآية المستشهد بها كاملة ، أو كان المستشهد به بعضها ، ثقة بمعرفة القارئ السابقة بالقرآن الكريم .
2- تخريج الأحاديث النبوية من الصحيحين ، وقد أخرج من غيرهما كمسند الإمام أحمد بن حنبل .
3- تخريج الشواهد الشعرية ، ونسبتها إلى قائليها متى أمكن ذلك ، مائلاً إلى الإجمال في ذلك ، إذ ليس من المهم أن أفصل في روايات البيت ، وعزو كل نسبة إلى مصدرها ، إذ لايترتب على هذا كبير فائدة ، وليس من صميم العمل .
ويلاحظ القارئ أنني لم أعرب الأبيات ، بل اكتفيت بذكر موضع الشاهد ووجه الاستشهاد فيها ، وذلك لأنني قد سبقت بمن أعرب شواهد المغني وشرحها واعتنى بها من قبلي ، بل أفرد لها مؤلفاً خاصاً .
4- توثيق النقول ، بذكر موضع النقل فيما توفر لدي من مؤلفات المنقول عنه ، مكتفيا بموضع واحد إن تعددت المواضع .
5- وضع الفهارس التفصيلية ، فهارس الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، والشواهد الشعرية ، والأعلام والأماكن والقبائل ، خاتماً بفهرس الموضوعات الواردة في الكتاب .
والله أسأل أن ينفع به ، وأن يرزقنا إخلاص النية ، وقبول العمل ، وأن يوفقنا جميعاً إلى مايحب ويرضى ، ويهدينا صراطه المستقيم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه:
فريد بن عبد العزيز الزامل السُّليم
عنيزة في 4 / 8 / 1417هـ
---
محمد بن صالح العثيمين
الباب الأول : في تفسير المفردات وذكر أحكامها
مختصر مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب(6/155)
الحمدلله رب العالمين ، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
هذا مختصر من المغني لابن هشام رحمه الله :
[الباب الأول]
[ في تفسير المفردات وذكر أحكامها ]
[حرف الألف]
( أ )"[1]" : على وجهين :
أحدهما : أن تكون لنداء القريب ، كقوله :
1- أَفاطمَ مَهلاً بعضَ هَذا التدَلُّلِ
[وَإنْ كُنتِ قَدْ أَزمَعتِ صَرمِي فَأَجملي]"[2]"
الثاني : أن تكون للاستفهام ، كقولك : أزيدٌ قائم ؟ وهي أصل أدوات الاستفهام ، ولذلك اختصت بأمور ؛
أحدها : حذفها ، كقوله :
2- فواللهِ مَا أدري وإنْ كنتُ دارياً بسبعٍ رمينَ الجمرَ أمْ بِثَمَانِ "[3]"
الثاني : أنها تجمع بين التصور والتصديق ، وغيرها إما للتصديق كـ(هل) ، أو للتصور كبقية الأدوات.
الثالث : أنها تدخل على الإثبات والنفي ، مثل :{أَلَمْ نَشرَحْ لَكَ}"[4]" الرابع : تمام التصدير ، فلا تذكر بعد (أم) التي للإضراب ، فلايقال : أقام زيدٌ أم أقعد . ويقال : أم هل قعد . وإذا كانت في جملة معطوفة بالواو أو (ثم) أو الفاء قدمت على العاطف ، مثل : {أولم يسيروا}"[5]"، {أثم إذا ماوقع آمنتم به}"[6]"، {أفلم يسيروا}"[7]" وغيرُها يتأخر مثل : {فهل أنتم مسلمون}"[8]"، وعلى هذا فتكون الجملة التي بعد العاطف معطوفة على ماقبلها ، هذا مذهب سيبويه"[9]" والجمهور ، وخالف الزمخشري وجماعة ، فقالوا الهمزة في موضعها والمعطوف عليه جملة محذوفة بين الهمزة والعاطف تقدر بحسب المقام"[10]"، وهو ضعيف لعدم اطِّراده.
فصل"[11]"
قد تخرج الهمزة عن الاستفهام إلى معانٍ ثمانية تفهم من السياق ؛
الأول : التسوية ، وهي الداخلة على جملة يصح حلول المصدر محلها ، مثل: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم}"[12]" ، ما أبالي أقمت أم قعدت .(6/156)
الثاني : الإنكار الإبطالي ، وهي التي تقتضي أن مابعدها غير واقع ، كقوله تعالى : {أشهدوا خلقهم}"[13]" ، ولذلك إذا دخلت هذه الهمزة على منفي لزم ثبوته، لأن إبطال النفي إثبات،كقوله تعالى:{ألم نشرح لك}"[14]".
الثالث : الإنكار التوبيخي ، وهي التي تقتضي أن مابعدها واقع وفاعله مَلُوم ، مثل : {أغيرَ الله أبغي رباً}"[15]".
الرابع : التقرير ، ومعناه حمل المخاطب على الإقرار بأمر قد تقرر عنده ثبوته أو نفيه ، ويجب أن يليها الشيء المقرر به كما يجب في الاستفهامية أن يليها الشيء المستفهم عنه ، تقول في الاستفهام عن الفعل أو تقريره : أضربت زيداً ؟ وعن الفاعل : أأنت ضربته ؟ وفي المفعول : أطعاماً أكلت ؟
الخامس : التهكم ، كقوله تعالى : {أصلاتك تأمرك}"[16]".
السادس : الأمر ، كقوله تعالى : {أأسلمتم}"[17]".
السابع : التعجب ، كقوله تعالى : {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل}"[18]".
الثامن : الاستبطاء ،كقوله تعالى : {ألم يأن للذين آمنوا}"[19]".
( أجل )"[20]" : حرف جواب كـ(نعم) ، فتكون تصديقاً للمخبر ، وإعلاماً للمستخبر ، ووعداً للطالب .
( إذن )"[21]" : حرف عند الجمهور"[22]"، وهي للجواب والجزاء ، وقد تتمحض للجواب ، والأكثر أن تقع في جواب (إنْ) أو (لو) ظاهرتين أو مقدرتين ، مثال المقدر قوله تعالى : {إذاً لذهب كل إلهٍ بما خلق}"[23]" ، ويوقف عليها بالألف كما تكتب به ، وقيل بالنون ، وقيل إن عملت فبالألف وإلا فبالنون للفرق بينها وبين (إذا) .
وتنصب المضارع بشرط تصديرها واستقباله واتصالهما ، أو انفصالهما بالقسم أو بلا النافية ، وقيل أو بالظرف أو بالنداء أو الدعاء أو بمعمول الفعل .
( إنْ )"[24]" : على أربعة أوجه :
[الأول]: شرطية ، مثل : {إن ينتهوا يغفر لهم}"[25]" .(6/157)
الثاني : نافية ، وتدخل على الجملتين ، نحو قوله تعالى: {إنْ أمهاتهم إلاَّ اللائي ولدنهم}"[26]" ، {إنْ يقولون إلا كذبا}"[27]". ولا يشترط أن تقع بعدها (إلا) كقوله تعالى : {إن عندكم من سلطان بهذا}"[28]" والأكثر إهمالها وقيل بل تعمل عمل (ليس) .
الثالث : مخففة من الثقيلة ، وتدخل على الجملتين ، فإن دخلت على الاسمية جاز إعمالها خلافاً للكوفيين "[29]" ، وإن دخلت على الفعل أهملت وجوباً ، والأكثر أن يليها ماضٍ ناسخ ،ثم مضارع ناسخ ، ثم ماضٍ غير ناسخ ثم مضارع غير ناسخ ، ولايقاس على الأخيرين .
الرابع : زائدة ، وأكثر ماتقع بعد (ما) النافية ، كقوله :
3- [بني غدانةَ] مَا إنْ أنتمُ ذَهَبٌ [ولاصَرِيفٌ ولكن أنتم الخَزَفُ]"[30]"
( أنْ )"[31]" : تأتي اسماً ضميراً ، نحو : أنت ، والتاء حرف خطاب عند الجمهور ، وتأتي حرفاً على أربعة أوجه :
[ الأول ]: أن تكون حرف مصدر ناصباً للمضارع فتقع مبتدأً نحو : {وأن تصوموا خير لكم}"[32]".وفاعلاً في نحو : يعجبني أن تقوم . ومفعولاً نحو : أحب أن تقوم ، ومجروراً نحو : {من قبل أن تأتينا}"[33]"، وقد تهمل حملاً على (ما) المصدرية ، كقوله تعالى : {لمن أراد أن يتمُّ الرضاعة}"[34]" على قراءة الرفع"[35]".
الثاني : أن تكون مخففة من الثقيلة فتقع بعد فعل اليقين أو مانزل منزلته ، كقوله تعالى : {أفلا يرون أنْ لايرجع إليهم قولاً }"[36]" ، وإذا دخلت على الجملة الاسمية نصبت الاسم ورفعت الخبر ، وشرط اسمها أن يكون ضميراً محذوفاً وخبره جملة ، إلا أن يذكر اسمها فيجوز الأمران كقوله :
4- بأنْك ربيعٌ وغيثٌ مَرِيعٌ وأنْك هُنَاكَ تكونُ الثِّمالا " [37] "
الثالث : أن تكون مفسرةً بمعنى(أي) كقوله تعالى : { فأوحينا إليه أنِ اصنع الفلك}"[38]".(6/158)
وأنكرها الكوفيون ، قال المؤلف وهو عندي متجه"[39]"، ويشترط أن لا يدخل عليها جارٌّ ، وأن تقع بين جملتين السابقة فيها معنى القول دون حروفه إلا أن يكون القول مؤولاً بغيره كما في قوله تعالى : {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم }"[40]" أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني به إلخ..
الرابع : أن تكون زائدة ، مثل قوله تعالى : {فلما أن جاء البشير}"[41]"،وتفيد التوكيد كسائر الزوائد .
وزيد على هذه الأوجه أوجهٌ أخرى ، منها :
[الأول] : أن تكون شرطية ، قاله الكوفيون ورجحه المؤلف"[42]".
الثاني : النفي .
الثالث : معنى(إذ) ذكره بعضهم في قوله تعالى:{بل عجبوا أن جاءهم منذرمنهم}"[43]".
( إنَّ )"[44]" : على وجهين :
[الأول] : أن تكون حرف توكيد فتنصب الاسم وترفع الخبر ، وقد تنصبهما في لغة كقوله :
5- إذَا اسْوَدَّ جُنْحُ الليلِ فَلْتَأتِ وَلْتَكُنْ خُطَاكَ خِفَافَاً إنَّ حُرَّاسَنا أُسْداً"[45]"
وقد يرتفع بعدها المبتدأ فيكون اسمها ضمير الشأن محذوفاً .
الثاني : أن تكون حرف جواب بمعنى ( نعم ) كقول ابن الزبير رضي الله عنه : ‘‘إنَّ وراكبها’’ . لمن قال له : ‘‘لعن الله ناقةً حملتني إليك’’ .
( أنَّ )"[46]" : على وجهين :
[ الأول ]: أن تكون حرف توكيد ينصب الاسم ويرفع الخبر ، وهي موصول حرفي تؤول مع معموليها بمصدر ، فإن كان الخبر مشتقاً فالمصدر من لفظه مضافاً إلى اسمها ، مثل : بلغني أنَّك قائم ، أي قيامك ، وإن كان جامداً قدِّر بالكون ، مثل : بلغني أنَّك زيدٌ ، أي كونك زيداً .
الثاني : أن تكون لغةً في (لعلَّ) .
( أم )"[47]" : على أربعة أوجه :(6/159)
[ الأول ] : أن تكون متصلة ، وهي التي لايستغني ماقبلها عن مابعدها ، وتقع بعد همزة التسوية ، نحو : سواء علي أقمت أم قعدت ، وبعد همزةٍ يطلب بها وبـ(أم) التعيين ، نحو : أزيدٌ قائم أم عمرو ، فالواقعة بعد همزة التسوية لاتستحق جواباً والكلام معها قابل للتصديق والتكذيب ولابد أن تكون بين جملتين في تأويل مفردين كما في الآية "[48]" والتقدير : سواء عليهم استغفارك لهم وعدمه . والواقعة بعد همزة التعيين بخلافها فيما ذكر ، فتقع بين مفردين كالمثال ، أو جملتين ليستا في تأويل المفردين ، كقوله :
6- لَعَمْرُكَ مَا أَدْري وَإنْ كُنْتُ دَارياً
شُعَيثُ بنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيثُ بنُ مِنقَرِ"[49]"
الوجه الثاني : أن تكون منقطعة ، وهي التي لايفرقها الإضراب وتقع في الخبر المحض ، كقوله تعالى : {تنزيل الكتاب لاريب فيه من رب العالمين* أم يقولون افتراه }"[50]" وفي استفهام بغير الهمزة ، كقوله تعالى : {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور}"[51]" ، وفي استفهام بالهمزة إذا خرج عن معناه الأصلي ،كقوله تعالى :{ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها }"[52]" لأن الهمزة هنا للإنكار ، وقال أبو عبيدة"[53]": إنها قد تفارق الإضراب للاستفهام المجرد .
الثالث : أن تقع زائدةً ، كقوله :
7- يَالَيتَ شِعْري وَلامَنجَامِنَ الهَرَمِ
أَمْ هَلْ عَلَى العَيشِ بَعْدَ الشَّيبِ مِنْ نَدَمِ"[54]"
الرابع : أن تكون للتعريف كما نقل عن حمير وطيء مثل : أَمْقَمَر .
( أل )"[55]" : على ثلاثة أوجه :
[ الأول ]: أن تكون اسماً موصولاً مشتركاً ويوصل بها اسم الفاعل واسم المفعول دون الصفة المشبهة واسم التفضيل ، وقد توصل بظرف أو جملة اسمية أو فعلية فعلها مضارع وذلك خاص بالشعر .(6/160)
الثاني : أن تكون حرف تعريف إما للعهد أو للجنس ، والعهد إما ذكري أو ذهني أو حضوري ، والجنس إما لاستغراق الأفراد ، او استغراق خصائص الأفراد ، أو لتعريف الماهية .
الثالث : أن تكون زائدة ، إما لازمة كالتي في الأسماء الموصولة ، والمقارنة للأعلام كـ(اليسع) ، وإما للمح الأصل كالداخلة على الأسماء المنقولة من مجرد صالح لها كـ(حارث) و(عباس) ، وهذا النوع سماعي فلا يقال : المحمد ، وإما للضرورة ، كقوله :
8- رَأَيتُ الوَلِيدَ بنَ اليَزِيدِ مُبَارَكاً [شَدِيداً بِأَعْبَاءِ الخِلافَةِ كَاهِلُه]"[56]"
وإما شذوذاً كقولهم : ادخلوا الأول فالأول ، وجاؤا الجماء الغفير"[57]".
( أمَا )"[58]" : على وجهين :
[الأول] : أن تكون حرف استفتاح كـ(أَلاَ) ، وتكثر قبل القسم ، كقوله:
9- أَمَا وَاللهِ إنَّ الظُّلمَ شُومُ [وَمَا زَالَ المُسِيءُ هَوَ الظَّلُومُ]"[59]"
الثاني : أن تكون بمعنى حقاً أو أحقاً ، فالصواب أنها كلمتان ؛ الهمزة و(ما) بمعنى حق ، وموضعها نصب على الظرفية ، وأنَّ وما بعدها في تأويل مصدر مبتدأ ، مثل : أمَا أني بك مغرم ، وقال المبرد : موضعها نصب مصدراً لِ(حُقَّ) محذوفاً و(أن) ومابعدها فاعل به .
وزاد بعضهم لها معنى ثالثاً : وهو العرض ، فتختص بالأفعال ، نحو: أمَا تقوم .
( أمَّا )"[60]" : ويقال : أيما ، حرف شرط وتفصيل وتوكيد ، وقد لا تكون للتفصيل ، كما في قولك : أمَّا زيدٌ فمنطلقٌ ،وسُمع : ‘‘أما قريشاً فأنا أفضلها’’ . وهو دليلٌ على أنَّه لايلزم أن يقدر في(أمَّا) : مهما يكن من شيء ، بل يقدر ما يليق بالمحل ، فالتقدير هنا : مهما ذكرت قريشاً.. إلخ
( إمِّا )"[61]" : ويقال : إيما . وهي حرف عطف عند الأكثر في نحو : جاءني إمازيدٌ وإما عمرو ، وقيل لا ونقل الإجماع عليه .
ولها خمسة معانٍ :
أحدها : الإبهام ، كقوله تعالى : {إما يعذبهم وإما يتوب عليهم}"[62]".
الثاني : الشك ، نحو : جاءني إما زيد وإما عمرو .(6/161)
الثالث : التخيير ، نحو: {إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً}"[63]".
الرابع : الإباحة ، نحو : تعلم إما فقهاً وإما نحواً .
الخامس : التفصيل ، كقوله تعالى : {إما شاكراً وإما كفوراً}"[64]".
( أو )"[65]" : العاطفة ، لها اثنا عشر معنى ؛
الأول : الشك ، نحو : {لبثنا يوماً أو بعض يوم}"[66]".
الثاني : الإبهام ، {وإنَّا أو إياَّكم لعلى هدى}"[67]".
الثالث : التخيير ، وهي التي تقع بعد الطلب وقبل ما يمتنع فيه الجمع [مثل]: تزوج هنداً أو أختَها .
الرابع : الإباحة ، وهي التي تقع بعد الطلب وقبل مايجوز فيه الجمع [مثل]: جالس العلماء أو الزهاد ، فيباح الجميع ، فإن تقدمها (لا) الناهية امتنع الجميع ، كقوله : {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً}"[68]".
الخامس : الجمع المطلق كالواو ، كقوله :
9- [وَقَد زَعَمَتْ ليلى بِأنِّيَ فاجرٌ] لِنَفسي تُقَاهَا أَو عَلَيهَا فُجُورُهَا "[69]"
السادس : الإضراب كـ(بل) ، بشرطين : إعادة ا لعامل ، وتقدم نفي أو نهي [مثل] : ما قام زيدٌ أو ماقام عمروٌ . لايقم زيدٌ أو لايقم عمرو ، وقال الكوفيون"[70]" : تأتي للإضراب مطلقاً كقوله :
10- كَانُوا ثَمَانِينَ أَوْ زَادُوا ثَمَانِيَةً [لَوْلا رَجَاؤكَ قَدْ قَتَّلْتُ أَولادي]"[71]"
السابع : التقسيم ، [نحو]: الكلمة اسم أوفعل أو حرف .
الثامن : أن تكون بمعنى (إلا) الاستثنائية فينتصب المضارع بعدها ،مثل : لأقتلنَّه أو يسلمَ .
التاسع : أن تكون بمعنى (إلى) فينتصب المضارع بعدها أيضاً ، نحو: لألزمنَّك أو تقضيَ دَيني .
العاشر : التقريب ، نحو : لا أدري أسلَّم أو ودَّع .
الحادي عشر : الشرطية ، نحو : لأقولَنَّ الحقَّ رضي الكافر أو سخط .
الثاني عشر : التبعيض ، نقله ابن الشجري"[72]" عن بعض الكوفيين ، والتحقيق أن (أو) موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء .(6/162)
وقد تخرج إلى معنى (بل) أو الواو وبقية المعاني مستفادة من غيرها ، والمعنى العاشر الذي هو التقريب فاسد فـ(أو) فيه للشك ، وكذلك المعنى الحادي عشر، والحق أنَّ الفعل الذي قبلها دالٌّ على معنى الشرط، فيكون ماعطف عليه كذلك .
( أَلاَ )"[73]" : على خمسة أوجه :
[الأول]: أن تكون للتنبيه فتدل على تحقق مابعدها ، وتدخل على الجملتين ، كقوله تعالى :{ ألا إنَّ أولياء الله لاخوفٌ عليهم }"[74]" ، {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم}"[75]".
الثاني : التوبيخ والإنكار ،كقوله :
11- أَلاَ ارعِوَاءَ لِمَنْ وَلَّتْ شَبِيبَتُهُ [وَآذَنَتْ بِمَشِيبٍ بَعْدَهُ هَرَمُ]"[76]"
الثالث : التمني ، كقوله :
12- أَلا عُمْرَ وَلَّى مُسْتَطَاعٌ رُجُوعُهُ [فَيَرأَبَ مَا أَثأَتْ يَدُ الغَفَلاتِ]"[77]"
الرابع : الاستفهام عن النفي ، كقوله :
13- ألاَ اصْطِبَارَ لِسَلْمَى أَمْ لَهَا جَلَدٌ [إذَا أُلاقِي الذِي لاقَاهُ أَمْثَالي]"[78]"
وهذه الأقسام تختص بالجملة الاسمية وتعمل عمل (لا) الجنسية وتختص التي للتمني بأنَّه لاخبر لها لفظاً ولا تقديراً ، ولا يجوز مراعاة محلها مع اسمها ولا إلغاؤها ولو تكررت .
الخامس : العرض والتحضيض ، والفرق بينهما أنَّ العرض طلب بلين ، والتحضيض بِحثٍ ، وتختص بالفعلية نحو : {ألا تحبون أن يغفر الله لكم}"[79]" .
( إلاَّ )"[80]" : على أربعة أوجه :
[الأول]: أن تكون للاستثناء فينتصب ما بعدها بها في نحو : قام القوم إلا زيداً - على الصحيح -"[81]" ويرتفع في نحو : {مافعلوه إلا قليلٌ }"[82]" على البدلية عند البصريين ، وعلى العطف بها عند الكوفيين"[83]" .(6/163)
الثاني : أن تكون بمعنى (غير) فيوصف بها جمع منكرٌ أو شبهه ، مثال ذلك:{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}"[84]"، ثم إن كان مابعدها مطابقا لموصوفها فالوصف مختص ، كقولك : جاء رجل إلا زيدٌ ، وإن كان مخالفاً له بإفراد أو غيره فالوصف مؤكد صالح للإسقاط ، فلو قال : عندي له عشرة إلا درهماً ، لزمه تسعة ، ولو قال : إلا درهمٌ لزمه عشرة ، لأنَّ الوصف مؤكد فإن العشرة غير الدرهم ، ويصح أن تسقط إلادرهم ، ومثله الآية"[85]" ، فيصح أن يقال : لوكان فيهما آلهة لفسدتا . وإذاكانت إلا هذه بمعنى (غير) فإنها تفارقها من وجهين :
أحدهما : أنه لايجوز حذف موصوفها فلا يقال : جاءني إلا زيد .الثاني : أنه لا يوصف بها إلا حيث يجوز الاستثناء ، فلا يجوز عندي له درهم إلاَّ جيِّد .
الوجه الثالث -من أوجه(إلاَّ)-:أن تكون عاطفة كالواو ، أثبته بعضهم"[86]".
الرابع : أن تكون زائدة ، قاله بعضهم"[87]".
( ألاَّ )"[88]" : حرف تحضيضٍ مختص بالجملة الفعلية الخبريةكسائر أدوات التحضيض .
( إلى )"[89]" : حرف جر له ثمانية معانٍ :
الأول : انتهاء الغاية ، ثم إن دلت قرينة على دخول مابعدها أو خروجه عمل بها ، نحو : قرأت القرآن من أوله إلى آخره . [وقوله تعالى]:{ثم أتموا الصيام إلى الليل}"[90]"،وإلا فقيل يدخل إن كان من الجنس ، وقيل مطلقاً وقيل لا[يدخل مطلقاً] وهو الصحيح"[91]".
الثاني : المعية إذا ضممت شيئاً إلى آخر .[ مثل ] الذود إلى الذود إبل .
الثالث : التبيين لفاعلية مجرورها بعدما يفيد حباً أو بغضاً من فعل تعجب أو اسم تفضيل ، مثل :{ أحب إليَّ }"[92]" .
الرابع : مرادفة اللام ، مثل : { والأمر إليك }"[93]" وقيل هي للانتهاء .
الخامس : موافقة (في) .
السادس : موافقة (من).
السابع : موافقة (عند) .
الثامن : التوكيد وهي الزائدة. أثبته بعضهم في قوله تعالى:{تهوي إليهم}"[94]".(6/164)
( إيْ )"[95]" : حرف جواب بمعنى(نعم) ، ولاتقع إلا قبل القسم ، نحو : {قل إيْ وربي إنَّه لحق}"[96]".
( أيْ )"[97]" : على وجهين :
[الأول] :أن تكون حرف نداء .
الثاني : أن تكون حرف تفسير ، نحو : عندي عسجدٌ أي ذهب ، فما بعدها عطف بيان أو بدل لما قبلها ، ويفسر بها المفرد والجمل ، وإذا وقعت بعد (تقول) وقبل فعل مسند للضمير حكى الضمير ، تقول : استكتمته الحديث أي سألته كتمانه فإن أتيت بـ(إذا) فتحته ، فقلت إذا سألتَه.
14- إذَا كَنَيتَ بِـ(أي) فِعْلاً تُفَسِّرُهُ فَضُمَّ تَاءَك ضَمَّ مُعْتَرِفِ
وَإنْ تَكُنْ بِـ(إذَا) يَوماً تُفَسِّرُهُ فَفَتْحَةُ التَّاءِ أَمْرٌ غَيرُ مُخْتَلفِ
( أيّ )"[98]" : على خمسة أو جه ؛ شرطية واستفهامية وموصولية . قال المؤلف: ‘‘ولا أعلمهم استعملوا الموصولة مبتدأً’’.
الرابع : أن تكون دالةً على معنى الكمال فتكون صفة للنكرة وحالاً من المعرفة ، نحو : مررت برجلٍ أيِّ رجلٍ ، مررت بزيدٍ أيَّ رجل .
الخامس : أن تكون وُصْلَةً لنداء مافيه (أل) [ مثل ]: { يا أيها النبيُّ }"[99]".
( إذْ )"[100]" : على أربعة أوجهٍ :
[الأول] : أن تكون اسماً للزمان الماضي فتستعمل ظرفاً ، وهو الغالب ومفعولاً به وتكون غالباً في أوائل القصص ، مثل : {وإذ فرقنا بكم البحر}"[101]" أي اذكروا وقت ذلك ، وبدلاً من المفعول مثل : {إذ انتبذت}"[102]" ومضافاً إليها اسم زمان صالح للاستغناء عنه كـ(يومئذ) ، أو غير صالح كـ { بعدإذ هديتنا }"[103]".
الثاني: أن تكون اسم زمان للمستقبل :{فسوف يعلمون إذ الأغلال}"[104]".
الثالث : أن تكون للتعليل : {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم}"[105]" ، وهل هي إذن حرف أو اسم على قولين"[106]".
الرابع : أن تكون للمفاجأة وهي الواقعة بعد (بينا) أو (بينما) ، كقوله :
15- [اسْتَقْدِرِ اللهَ خَيراً وَارْضَيَنَّ بِهِ] فَبَينَمَا العُسْرُ إذْ دَارَتْ مَيَاسِيرُ"[107]"(6/165)
وهل هي ظرف مكان أو زمان ، أو حرف بمعنى المفاجأة ، أو زائدة ؛ على أقوال"[108]". وعلى الظرفية فعاملها الفعل بعدها ، وعامل (بين) محذوف يفسره مابعده على أحد الأقوال"·".
( إذا )"[109]" : على وجهين :
[الأول] : أن تكون للمفاجأة فتختص بالجمل الاسمية ولا تحتاج إلى جواب ولا تقع في الابتداء ، نحو : خرجت فإذا الأسد . وهل هي حرف أو ظرف مكان أو زمان ؛ أقوال"[110]". وعلى الظرفية فإما أن ينصبها الخبر مذكوراً أو محذوفاً ، أو تكون هي متعلق الخبر .
الثاني : أن تكون لغير المفاجأة فالغالب أن تكون ظرفاً للمستقبل ضُمِّن معنى الشرط وتختص بالفعلية الماضيَّة والمضارعيَّة ، وتجزم في الضرورة ، كقوله :
16- [اسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالغِنَى] وَإذَا تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ فَتَحَمَّلِ"[111]"
وقد تأتي للماضي [كقوله تعالى] :{ وإذا رأوا تجارة أو لهواً }"[112]" ، أو الحال [كقوله سبحانه] :{ والليل إذا يغشى }"[113]" وناصبها عند المحققين فعل الشرط وهي عندهم غير مضافة إلى شرطها ، والأكثرون على أن ناصبها الجواب ، وحقق بعضهم أنها إن كانت شرطاً فناصبها فعل الشرط وإلا فجوابه"[114]".
وقد تخرج عن الشرطية ، كـ(إذا) الواقعة بعد القسم مثل : { والليل إذا يغشى }"4".
( ايمن )"[115]" : للقسم اسم من اليمين ،و همزته وصل ، وليس جمعاً ، ويلزم الرفع على الابتداء ، والإضافة إلى اسم الله فقط وخبره محذوف .
حرف الباء
الباء المفردة"[116]" : حرف جر ، ولها معانٍ :
أحدها : الإلصاق حقيقة كأمسكت بزيدٍ ، أو مجازاً كمررت به أي ألصقت مروري بمكانٍ يقرب منه .
الثاني : التعدية ، وهي التي تُصير الفاعل مفعولاً كـ {ذهب الله بنورهم}"[117]" أي أذهبه .
الثالث : الاستعانة ، وهي الداخلة على آلة الفعل ، كقطعت بالسكين .
الرابع : المقابلة ، وهي الداخلة على الأعواض ، كاشتريت بدرهم .(6/166)
الخامس : التوكيد ، وهي الزائدة ، وتزاد في مواضع : 1_ الفاعل ؛ وجوباً أو غالباً أو ضرورة . فالأول في فعل التعجب ؛ كأحسن بزيدٍ ،أصله : حَسُنَ زيدٌ ، ثم غير الخبر إلى الطلب فأدخلت الباء إصلاحاً للفظ. والثاني : في كفى ، مثل :{ كفى بالله شهيداً}"[118]" ، وقال الزجاج : ضمن معنى (كفى) (اكتفِ)"[119]"، وهو من الحسن بمكان ، ولا تزاد في فاعل كفى بمعنى أغنى أو وقى . والثالث : كقوله :
17- أَلَمْ يَأْتيكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمي بِمَا لاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ "[120]"
2_ المفعول ، مثل : { فليمدد بسببٍ إلى السماء }"[121]" . 3_ المبتدأ ، مثل : بحسبِك درهمٌ . خرجت فإذا بزيد . كيف بك إذا انفردت بعملك . 4_ الخبر قياساً في غير الموجب مثل : مازيدٌ بقائمٍ ، وسماعاً في الموجب ومنه عند ابن مالك : بحسبك زيدٌ لأن زيداً معرفة فيكون هو المبتدأ مؤخراً"[122]". 5_ الحال المنفي عاملها ، كقوله :
18-[كَائنْ دُعِيتَ إلى بَأسَاءَ دَاهِمَةٍ] فَمَا انبَعَثْتَ بِمَزْءودٍ وَلا وَكِلِ"[123]"
6_ توكيد بالنفس والعين ، مثل : جاء ني زيد بنفسه أو بعينه .
( تنبيه )"[124]": مذهب البصريين أن أحرف الجر لاينوب بعضها عن بعض ، وما أو هم ذلك فمؤول تأويلاً يقبله اللفظ أو يضمن متعلقه معنى مناسباً له أو يحمل على الشذوذ وبعض المتأخرين وأكثر الكوفيين يجيزون ذلك من غير تأويل ولا تضمين ولا شذوذ ، ومذهبهم أقل تعسفاً"[125]".
( بل )"[126]" : حرف إضراب ، فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إما الإبطال ، كقوله تعالى : {بل عبادٌ مكرمون}"[127]"، أو الانتقال من غرض إلى آخر ، كقوله تعالى : {بل تؤثرون الحياة الدنيا}"[128]"، وإن تلاها مفرد فهي عاطفة .
ثم إن تقدمها أمر أو إيجاب كان ما قبلها كالمسكوت عنه ، وإن تقدمها نفي أو نهي فهي لتقرير ماقبلها وإثبات ضده لما بعدها ، مثل : ماقام زيد بل عمرو ، ولا تكرمِ السفيهَ بل العاقلَ .(6/167)
وقد تزاد قبلها (لا) لتوكيد الإضراب بعد الإيجاب ،كقوله :
19- وَجْهُكَ البَدْرُ لا بَلِ الشَّمْسُ [لَوْلَمْ
يُقْضَ للشَّمْسِ كَسْفَةٌ أَوْ أُفُولُ]"[129]"
( بَلَى )"[130]" : حرف جواب وتختص بالنفي فتبطله سواء كان مجرداً كقوله تعالى : {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثنَّ}"[131]"، أم مقروناً باستفهام حقيقي مثل : أليس زيد بقائم ، فتقول : بلى ، أو توبيخي كقوله تعالى : { أم يحسبون أنَّا لانسمع سرهم ونجواهم بلى}"[132]" أو تقريري كقوله تعالى : { ألست بربكم قالوا بلى}"·" "[133]"، وقد يجاب بها الاستفهام المجرد كقوله في الحديث : ‘‘ أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟’’ قالوا :‘‘ بلى ’’"[134]" وهو قليل .
[حرف الثاء]
( ثُمَّ )"[135]" : حرف عطف يقتضي التشريك في الحكم والترتيب والمهلة ، وفي كل من ذلك خلاف . وقد أجراها الكوفيون مُجرى الفاء والواو في جواز نصب المضارع بها بعد فعل الشرط كقراءة الحسن : {ثم يدركَه الموت فقد وقع أجره على الله}"[136]"وأجراها ابن مالك مجراهما بعد الطلب ،فجوَّز في قوله صلى الله عليه وسلم : ‘‘ ثم يغتسلُ منه ’’"[137]" أن يكون منصوباً كما هو مرفوع _ وبه جاءت الرواية _ ومجزوماً"[138]".
حرف الجيم
ذكر فيه : ( جَيْرِ )"[139]" و ( جَلَل )"[140]".
حرف الحاء المهملة
( حاشا )"[141]" : تستعمل على ثلاثة أوجه :
أحدها : فعلاً ماضياً متعدياً متصرفاً ، تقول : حاشيته بمعنى استثنيته .
الثاني : تنزيهية، نحو :حاشَ لله ، والصحيح أنها اسم بمعنى البراءة ، فمعنى حاش لله ؛ براءةً لله أو تنزيهاً لله من كذا ، وإنما بنيت تشبيهاً بـ(حاشا) الحرفية .
الثالث : أن تكون استثنائية ، فذهب سيبويه "[142]" وأكثر البصريين "[143]" إلى أنها حرف استثناء بمعنى (إلا) لكنها تجر المستثنى ، وقيل تستعمل كثيراً حرفاً جارّاً وقليلاً فعلاً متعدياً جامداً .(6/168)
( حَتَّى )"[144]" : حرف لانتهاء الغاية _ غالباً _ وللتعليل ، وبمعنى (إلا) الاستثنائية وهو أقلها ، وتستعمل على ثلاثة أو جه :
الأول : أن تكون حرف جر كـ(إلى) لكن تخالفها في ثلاثة أمور : [الأول] : في اختصاصها بالظاهر ، فأما قوله :
20- أَتَتْ حَتَّاكَ تَقْصِدُ كُلَّ فَجٍّ [تُرَجِّي مِنْكَ أَنْهَا لاتَخِيبُ]"[145]"
فضرورة . الثاني : أن معناها داخلٌ إلا بقرينة عكس (إلى) هذا هو الصحيح في البابين . الثالث : أن كلاً منهما قد ينفرد في محل لا يصلح فيه الآخر ، فلو قلت: كتبت إلى زيد ، لم يجز : كتبت حتى زيد ، ولو قلت : سرت حتى أدخل البلد ، لم يجز : إلى أدخل البلد .
الوجه الثاني : أنت كون عاطفة بمنزلة الواو ، إلا أن بينهما فروقاً ثلاثة : أحدها : أنه بشترط لمعطوفها شروط : الأول : أن يكون ظاهراً لاضميراً . الثاني : أن يكون بعضاً أو جزءأً مما قبله ؛ كقدم الحاج حتى المشاةُ ، وأكلت السمكةَ حتى رأسَها ، وضابط ذلك أنها تقع حيث يقع الاستثناء وتمتنع حيث يمتنع . الثالث : أن يكون غايةً لما قبلها زيادةً أو نقصاً ، مثل : يهابك الناس حتى الوزراء ، وزارك الناس حتى الحجامون . وقد اجتمعا في قوله :
21- قَهَرْنَاكُمو حَتَّى الكُمَاةَ فَأَنتُمو تَهَابُوَنَنا حَتَّى بَنِينَا الأَصَاغِرا "[146]"
الفرق الثاني : أنها لا تعطف الجمل - على الصحيح - ليتحقق الشرط الثاني . الفرق الثالث : أنها إذا عطفت على مجرور أُعيد حرف الجر لئلا لايتوهم أنها الجارة ، فتقول : مررت بالقوم حتى بزيدٍ ، فإن أمن اللبس جاز عدم إعادته ، فتقول : عجبت من القوم حتى بنيهم .
الوجه الثالث - من أوجه (حتى)- : أن تكون حرف ابتداء أي تستأنف الجمل بعده ، فتدخل على الجمل الاسمية كقوله :
22-[فَمَا زَالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا بِدِجْلَةَ] حَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ"[147]"(6/169)
وعلى الفعلية التي فعلها مضارع ، كقراءة نافع"[148]" : {حتى يقولُ الرسول}"[149]" أو ماضٍ كقوله تعالى : {حتى عفوا وقالوا}"[150]" وقد يكون الموضع صالحاً لكونها جارةً أو عاطفةً أو ابتدائية كقولك : أكلت السمكة حتى رأسَُِها ، فعلى الأول يكون ( رأس ) مجروراً وعلى الثاني منصوباً وعلى الثالث مرفوعاً ، والرأس في حالتي النصب والرفع مأكول وفي حالة الجر غير مأكولٍ .
(تنبيهان) : الأول"[151]": تدخل (حتى) الجارة على المضارع فيُنصب بعدها بـ(أن) مضمرة ، ولها ثلاثة معانٍ : مرادفة (إلى) نحو : { حتى يرجعَ إلينا موسى }"[152]" ، ومرادفة (كي) التعليلية ، نحو : أسلم حتى تدخلَ الجنة . ويحتملها قوله تعالى : { حتى تفيء إلى أمر الله}"[153]". ومرادفة (إلاَّ) الاستثنائية كقوله :
23- لَيْسَ العَطَاءُ مِنَ الفُضُولِ سَمَاحَةً حَتَّى تَجُودَ وَمَالَدَيْكَ قَلِيْلُ"[154]"
ولاينتصب الفعل بعد (حتى) إلا إذا كان مستقبلاً ، ثم إن كان مستقبلاً بالنسبة إلى زمن التكلم فالنصب واجب نحو : {حتى يرجعَ إلينا موسى}"1" وإن كان بالنسبة إلى ماقبلها خاصة جاز الوجهان ؛ الرفع باعتبار زمن الحكاية ، والنصب باعتبار زمن مابعدها بالنسبة لما قبلها لأنه مستقبل ،كقوله:{ حتى يقولَُ الرسول }"[155]" .
ولا يرتفع الفعل بعد( حتى ) إلا بثلاثة شروط : أحدها : أن يكون حالا أو مؤولاً به . الثاني : أن يكون مسبباً عما قبلها ، مثل : سرت حتى أدخلُ البلد ، إذا قلتها حال الدخول ، بخلاف : ما سرت حتى أدخلَها ، أو سرت حتى تطلعَ الشمس ، فيتعين النصب . الثالث : أن يكون فضلة ، فلا رفع في نحو : سَيْرِيْ حتى أدخلَ البلد لئلا يبقى المبتدأ بلا خبر .
التنبيه الثاني"[156]" : العطف بـ(حتى) قليل ، حتى أنكره الكوفيون وأوَّلوا مايمكن فيه العطف"[157]".(6/170)
( حيث )"[158]" : وطيء تقول : حوث ، وهي مثلثة الثاء بناء ، ومن العرب من يعربها ، وهي ظرف مكان ، وقد تأتي للزمان والغالب أن تقع في محل نصب على الظرفية ، أو خفض بـ(من) ، وقد تخفض بغيرها ، وقد تقع مفعولاً به ، وتلزم الإضافة إلى الجمل وإلى الفعلية أكثر ، ويندر إضافتها إلى المفرد . قال أبو الفتح"[159]" : ومن أضافها إليه أعربها ، ومن أمثلته :
24- أَمَا تَرَى حَيْثَ سُهَيلٍ طَالِعَا [نَجْماً يُضِيءُ كَالشِّهَابِ لامِعَا]"[160]"
ويروى : (حيثُ سهيلٌ) بضم (حيثُ) ورفع (سهيل) .
حرف الخاء
( خلا )"[161]" : على وجهين :
أحدهما : أن تكون حرف جر فقيل موضعها نصب عن تمام الكلام وهو الصواب ، وقيل تتعلق بماقبلها من فعل أوشبهه .
الثاني : أن تكون فعلاً ناصباً للمستثنى ، ويتعين ذلك مع (ما) ، وفاعلُها كفاعل (حاشا) ، ومحل الجملة نصب على الحال أو الظرف أو الاستثناء على خلاف .
حرف الراء
( رُبَّ )"[162]" : حرف جر خلافاً لكوفيين في اسميته"[163]"، وترِد للتكثير كثيراً وللتقليل قليلاً ، ويجب تصديرها وتنكير مجرورها ونعته إن كان ظاهراً وإفراده وتذكيره وتمييزه بمايطابق المعنى إن كان ضميراً .
وتحذف كثيراً بعد الواو وأقل منه بعد الفاء وأقل منهما بعد (بل) وأقل منهن بدونهن . وهي زائدة إعراباً"·" لامعنى .
فإذا قلت : رب رجلٍ صالح عندي ، فمحل مجرورها رفع بالابتداء . ورب رجلٍ صالحٍ لقيتُ نصب على المفعولية . وتزاد بعدها (ما) فتكفها عن العمل غالباً وتهيئها للدخول على الجملة الفعلية .
حرف السين
السين المفردة"[164]" : حرف يختص بالمضارع ويُخَلِّصه للاستقبال ، ويقول المعربون : إنها حرف تنفيس وأوضح من عبارتهم قول الزمخشري وغيره حرف استقبال ، وزعم الزمخشري أنها إذا دخلت على محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لامحالة"[165]" فهي مؤكدة للوعد والوعيد .(6/171)
( سَوْفَ )"[166]" : حرف مرادف للسين وقيل بل هي أوسع منها وتخالفها بجواز دخول اللام عليها مثل : { ولسوف يعطيك ربك }"[167]"، وفصلها بالفعل المُلغى كقوله :
25- وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي أَقَومٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ"[168]"
( سيَّ )"[169]" : من لاسيما بمعنى (مثل) ، وتثنيته سيان ، وتشديد يائه ودخول (لا) والواو قبلها واجب عند ثعلب ، وذكرغيره أنه قد يخفف وقد تحذف الواو كقوله :
26- فِهْ بِالعُقُودِ وَبِالأَيمَانِ لاسِيَمَا عَقْدٌ وَفَاءٌ بِه مِنْ أَعْظَمِ القُرَبِ "[170]"
و(سي) اسم (لا) ، ويجوز فيما بعدها ثلاثة أوجه :
أحدها : الجر بالإضافة ، وهو أرجحها فـ(ما) زائدة بين المضاف والمضاف إليه كزيادتها في [قوله تعالى]: { أيَّما الأجلينِ قضيتُ }"[171]" .
الثاني : الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، فـ(ما) موصولة أو نكرة موصوفة بالجملة ، وعلى هذين الوجهين ففتحة (سيَّ) فتحة إعراب لأنه مضاف .
الثالث : النصب إن كان نكرة على أنه تمييز ، و (ما) كافة عن الإضافة ، وعليه ففتحة (سيَّ) فتحة بناء .
( سواء )"[172]" : تأتي بمعنى (مستوٍ) فيوصف بها المكان بمعنى أنه نصف بين مكانين ، والأفصح حينئذٍ أن يقصر مع الضم ، كقوله تعالى : {مكاناً سُوى}"[173]" وقد تمد مع الفتح ،كقوله : ‘‘رأيت رجلاً سَواءٍ والعدم’’ وعلى هذ المعنى يخبر بها عن الواحد فما فوقه بلفظٍ واحدٍ كقوله تعالى : {ليسو سَواءً}"[174]".
وتأتي بمعنى الوسط والتام ، والأفصح المد مع الفتح ، كقوله تعالى : {في سَواء الجحيم}"[175]"، وقولهم : هذا درهم سواء .
وتأتي بمعنى القصد فتقصر مع الكسر وهو أغرب معانيها ، كقوله :
27- فَلأَصْرِفَنَّ سِوى حُذَيفَةَ مِدْحَتِي
[لِفَتَى العَشِيِّ وَفَارِسِ الأَحْزَابِ]"[176]"(6/172)
وتاتي بمعنى (مكان) أو(غير) فتمد مع الفتح وتقصر مع الضم ويجوز الوجهان مع الكسر وتقع هذه صفة واستثناء وهي عند الزجاج وابن مالك كـ(غير) في المعنى والإعراب"[177]"وعند سيبويه والجمهور ظرف مكان ملازم للنصب لاتخرج عنه إلا في الضرورة"[178]"وعند الكوفيين وجماعة للوجهين"[179]".
حرف العين المهملة
( عَلَى )"[180]" : على وجهين :
أحدهما : أن تكون حرفاً ، ولها معانٍ ؛ أحدها : الاستعلاء إما على المجرور وهو الأكثر كقوله : {لتستووا على ظهوره}"[181]" أو على مايقرب منه ، كقوله : {أو أجد على النار هدى}"[182]" وقد يكون الاستعلاء معنوياً كقوله : {ولهم عليَّ ذنب}"[183]". الثاني : المصاحبة ، كقوله تعالى : {وآتى المال على حبه}"[184]" الثالث : المجاوزة كـ(عن) ،كقوله :
28- إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيرٍ [لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا]"[185]"
ويحتمل أنه ضمن معنى رضي معنى عطف . الرابع : التعليل كقوله : {ولتكبروا الله على ما هداكم}"[186]" . الخامس : الظرفية ، كقوله تعالى : {على حين غفلة من أهلها}"[187]". السادس : معنى (من) ، كقوله تعالى: {إذا اكتالوا على الناس}"[188]". السابع : معنى الباء ، كقوله تعالى : {حقيق على أن لاأقول على الله إلا الحق }"[189]". الثامن : الاستدراك والإضراب ، كقولك فلان سيء الصنيع على أنه لاييأس من رحمة الله ، وقول الشاعر :
29-بِكُلٍّ تَدَاوَينَا فَلَمْ يُشْفَ مَابِنَا عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيرٌ مِنَ البُعْدِ
عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ لَيْسَ بِنَافِعٍ إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ لَيْسَ بِذي وُدِّ"[190]"
الوجه الثاني لـ(على) : أن تكون اسماً بمعنى (فوق) وذلك إذا دخلت عليها (مِنْ) ،كقوله:
30- غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَمَا تمَّ ظِمؤهَا
تَصِلُّ ، وَعَنْ قَيْضٍ بزَِيزاءَِ مَجهَلِ"[191]"
( عَنْ )"[192]" : على ثلاثة أوجه :(6/173)
أحدها : أن تكون حرف جر وله معانٍ : أحدها : المجاوزة ، كسافرت عن بلد الظلم. الثاني : البدل ، كـ‘‘ صومي عن أمك ’’"[193]". الثالث : الاستعلاء ، {فإنما يبخل عن نفسه}"[194]" . الرابع : التعليل ، {إلا عن موعدة وعدها إياه}"[195]". الخامس : معنى (بعد) ، {لتركبن طبقاً عن طبقٍ}"[196]". السادس : معنى (مِن) ، {وهو لذي يقبل التوبة عن عباده}"[197]" السابع : معنى االباء ، ومثَّل بقوله {وما ينطق عن الهوى}"[198]" وفيه نظر .
الوجه الثاني لـ (عن) أن تكون حرف مصدر بدلاً عن (أن) كما في لغة تميم ، يقولون يعجبني عن تفعل .
الثالث : أن تكون اسماً ويتعين في مواضع : أحدها : بعد (من) وهو كثير ، مثل :
31- [فَلَقَدْ أَرَانِي لِلرِّمَاحِ دَرِيئةً] مِنْ عَنْ يمِيني تَارَةً وَأَمَامِي"[199]"
الثاني : بعد (على) وهو نادر ، كقوله :
32- عَلَى عَنْ يمِيني مَرَّتِ الطَّيرُ سُنَّحاً
[وَكَيفَ سُنُوحٌ وَاليَمِينُ قَطِيعُ؟]"[200]"
( عَوْضُ )"[201]" : ظرف لاستغراق المستقبل كـ(أبداً) لكنه مختص بالنفي ، وهو معرب إن أضيف ، مبني إن لم يضف على الضم أوالفتح أوالكسر .
( عَسَى )"[202]" : فعلٌ ، وقال سيبويه حرف إن اتصل بالضمير المنصوب ،كقوله:
33- [تَقُولُ بِنْتي قَدْ أَنَى أَنَاكَا] يَا أَبَتَا عَلَّكَ أَوْ عَسَاكَا"[203]"
ومعناه الترجي في المحبوب والإشفاق في المكروه ، مثالهما قوله تعالى : {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم}"[204]"، وتستعمل على أوجه : أحدها : عسى زيدٌ أن يقوم ، وإعرابه عند الجمهور : أن زيداً اسمها و(أن) وما دخلت عليه في تأويل مصدرٍ خبرها . وحيث إنه مصدرٌ والمخبر عنه اسم عينٍ فإنه يقدر مضاف قبل الاسم أو قبل الخبر ، ، فيقال تقديره : عسى أمرُ زيدٍ القيامُ ، أو عسى زيدٌ صاحب قيامٍ .(6/174)
وذهب سيبويه"[205]"والمبرد"[206]" إلى أنَّ (عسى) فعل بمعنى قارب وزيد فاعل وتأويل المصدر إلى مفعول به .
الوجه الثاني : عسى أن يقوم زيدٌ فتكون تامة وتأويل المصدر فاعل .
الثالث : عسى زيد يقوم أو سيقوم أو قائماً ، و(عسى) فيهن فعل ناقص بلا إشكال .
الرابع : عساي وعساك وعساه ،وفيه ثلاثة مذاهب ؛ أحدها : أن عمل (لعل) تنصب الاسم وترفع الخبر . الثاني : أنها على عملها ولكن استعير ضمير النصب للرفع وهو مردود . الثالث : أنها على عملها بجعل خبرها اسمها . الخامس : عسى زيدٌ قائم ، ويتخرج على أنها ناقصة واسمها ضمير الشأن .
( عَلِ )"[207]" : بالتخفيف ، اسم بمعنى (فوق) ، ولايستعمل إلا مجروراً بـ(من) ومقطوعاً عن الإضافة ، ثم إن أريد به المعرفة كان مبنياً على الضم وإلا كان معرباً .
( عند )"[208]" : اسم لمكان الحضور ، وقد تأتي لزمانه ، ولا تستعمل إلا ظرفاً ، أو مجرورةً بـ (مِن) ، ويرادفها كلمتان :
إحداهما : (لدى) : مطلقاً لكن (عند) أمكن منها من وجهين : أحدهما: أنها تجيء ظرفاً للأعيان والمعاني ، ولاتكون (لدى) ظرفاً للمعاني ، كذا قيل . الثاني : أن (عند) تستعمل في الغائب فتقول : عندي مال ، وإن كان غائباً ، بخلاف (لدى) فتختص بالحاضر ، وهناك وجه ثالث ؛ وهو جواز جر (عند) بخلاف (لدى) .
الكلمة الثانية: (لدن) لكن تخالفها في أمور ؛ أحدها : أنها لاتقع إلا إذا كان المحل محل ابتداء غاية ، كقوله :{من لدنه}"[209]". الثاني : أنها لا تكون إلا فضلة ، و(عند) تكون عمدةً وفضلة . الثالث : أن جرها بـ(من) أكثر من نصبها . الرابع : أنها مبنية عند الأكثر . الخامس : أنها قد تضاف للجملة . السادس : أنها قد لاتضاف أصلاً .
حرف الغين المعجمة(6/175)
( غَير )"[210]" : اسم ملازم للإضافة ، إما لفظاً وإما معنى إن فهم المعنى ، وتقدمت عليها (ليس) كقولهم : قبضت عشرةً ليس غير . ويجوز في (غير) هنا الضم والفتح منونة ، فإن كانت منونةً فضمها على أنها اسم (ليس) والخبر محذوف وفتحها على أنها خبر (ليس) والاسم محذوف ، وإن كانت غير منونة فقيل هي مبنية ، فيحتمل أن تكون اسماً أو خبراً ، وقيل معربة فإن كانت مضمومةً فهي الاسم ، وإن كانت مفتوحةً فهي الخبر ، وأما المضافة لفظاً فتقع على وجهين : أحدهما : - وهو الأصل - أن تكون صفةً لنكرة ولم تتعرف بالإضافة لشدة إبهامها ، أو لمعرفة قريبة من النكرة مثل : { نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل }"[211]" ، { صراط الذين أنعمت عليهم }"[212]"[الآية] . الثاني : أن تكون استثنائية فتعرب إعراب الاسم الواقع بعد (إلا) . ويجوز بناؤها على الفتح إذا أضيفت إلى مبني ،كقوله :
34- لَمْ يَمْنَعِ الشَّرْبَ مِنْهَا غَيرَ أَنْ نَطَقَتْ
حَمَامَةٌ في غُصُونٍ ذَاتِ أَوْقَالِ"[213]"
وقوله :
35_ لُذْ بِقَيسٍ حِينَ يَأْبَى غَيرَهُ تُلْقِهِ بحراً مُفِيضاً خَيرَهُ"[214]"
( تنبيه _ من عندي _ ) : قال المؤلف _ابن هشام _: ‘‘ وقولهم : (لاغيرُ) لحنٌ ’’ قال المحشي"[215]": ‘‘ والحق أنه ليس بلحنٍ فقد حكاه ابن الحاجب وأقره محققو كلامه ، وأنشد ابن مالك "[216]":
36- جَوَاباً بِهِ تَنْجُو اعْتَمَدْ فَوَرَبِّنَا لَعَنْ عَمَلٍ أَسْلَفْتَ لاغَيرُ تُسْأَلُ"[217]"
حرف الفاء
الفاء المفردة"[218]" : ترد على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون عاطفةً فتفيد الترتيب والتعقيب والسببية ، والترتيب نوعان ؛ معنوي ،كقام زيد فعمرو ، وذكري ، وهو عطف مفصلٍ على مجمل ، نحو : {ونادى نوح ربه فقال }الآية"[219]".
والتعقيب في كل شيءٍ بحسبه ، كما يقال : تزوج فولد له، إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل ، وقيل تأتي بمعنى (ثم) وبمعنى الواو .(6/176)
والسببية تكون غالباً في العاطفة جملة أو صفة ، فالأول نحو: {فوكزه موسى فقضى عليه}"[220]"،والثاني : نحو : { لآكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون}"[1]" ، وقد تأتي في هذين الموضعين لمجرد الترتيب ، كقوله : {فراغ إلى أهله فجاء بعجل}"[221]" ، وقوله : {فالزاجرات زجرًا * فالتاليات ذكرًا}"[222]".
الوجه الثاني - من أوجه الفاء -: أن تكون رابطةً للجواب في الشرط وشبهه ، وذلك حيث لايصلح أن يكون شرطًا ، وقد تحذف للضرورة وقد يأتي بدلها (إذا الفجائية) .
الوجه الثالث : أن تكون زائدةً في الخبر ، إما مطلقًا مثل : أخوك فوجد . وإما بشرط أن يكون أمرًا أو نهيًا ، كقوله :
وقولك : زيد فلاتضربه ، وأما قوله تعالى: {بل الله فاعبد}"[1]" فقيل زائدة وفيه بعد ، وقيل جواب لـ(أما) مقدرة وفيه إجحاف ، وقيل عاطفة على محذوف والتقدير : تنبه فاعبد الله ، وأما الفاء في قولك : خرجت فإذا الأسد ، فقيل زائدة لازمة ، وقيل عاطفة ، وقيل للسببيه كفاء الجواب، ومثلها قوله : {فصل لربك وانحر}"[223]" إذ لايصح عطف الإنشاء على الخبر.
( تنبيه ) : قيل الفاء تكون للاستئناف كقوله تعالى : { كن فيكون }"[1]" ، والتحقيق أنها للعطف .
( في )"[1]" : حرف جر ، وله عشرة معانٍ :
الأول : الظرفية ، زماناً أو مكاناً ، حقيقةً أو مجازاً ، ومن المكانية ؛ أدخلت الخاتم في أصبعي لكنه على القلب .
الثاني : المصاحبة ، نحو : { ادخلوا في أمم }"[1]" .
الثالث : التعليل ، نحو : { الذي لمتنني فيه }"[1]" .
الرابع : الاستعلاء : { ولأُصَلِّبَنَّكُم في جذوع النخل }"[1]".
الخامس : مرادفة الباء .
السادس : مرادفة (إلى) ؛ {فردوا أيديهم في أفواههم}"[1]".
السابع : مرادفة (مِنْ).
الثامن : المقايسة ، وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق ؛ {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل }"[1]".
التاسع : التعويض .(6/177)
العاشر : التوكيد ، وأجازه بعضهم في قوله تعالى : {وقال اركبوا فيها}"[1]".
حرف القاف
( قَدْ )"[1]" : على قسمين ؛ حرفية واسمية . والاسمية إما اسم بمعنى : (حسب) ، وإما فعل ، إما اسم فعل ، فالتي بمعنى (حسب) تستعمل مبنية وهو الأكثر ، مثل : قدْ زيدٍ درهم . ومعربة وهو قليل ، مثل : قدُ زيدٍ درهم . والتي بمعنى اسم الفعل تكون بمعنى (يكفي) كقولك: قدزيداً درهم .
والحرفية تختص بالفعل الخبري المثبت المتصرف المجرد من جازم وناصب وحرف تنفيس ، وهي معه كالجزء فلا يفصل بينهما اللهم إلا بالقسم ، كقوله :
38- أَخَالِدُ قَدْ وَاللهِ أَوْطَأْتَ عَشْوَةً [وَمَا قَائلُ المَعْرُوفِ فِينَا يُعَنَّفُ]"[1]"
وقد يحذف الفعل بعدها لدليل كقوله :
39- [أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيرَ أَنَّ رِكَابَنَا] لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ"[1]"
وللحرفية خمسة معانٍ :
الأول : التوقع ، مثل : قد يقدم الغائب ، ولا تدخل على ماضٍ متوقع .
الثاني : تقريب الماضي من الحال ، فإذا قلت : قام زيدٌ ، احتمل أن يكون قيامه قريباً أو بعيداً ، فإذا قلت : قد قام زيدٌ ، اختص بالقريب ، ولذلك إذا أجيب القسم بماض متصرف مثبت ، فإن كان قريباً من الحال جيء باللام و(قد) وإن كان بعيداً جيء باللام وحدها ، وإذا كان الماضي حالاً وجب دخولها عليه ، مثل : {وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا}"[1]".
المعنى الثالث : التقليل ، مثل : قد يجود البخيل ، وقيل هنا للتحقيق ، والقلة مفهومة من حال البخيل .
الرابع : التكثير .
الخامس : التحقيق .
( قَط )"[1]" : على ثلاثة أوجه :
الأول : أن تكون ظرف زمانٍ لاستغراق ما مضى ، فتفتح قافها وتضم الطاء مشددة ، وقد تخفف مع ضمها أو إسكانها وتختص بالنفي مثل : مافعلته قَطُّ .
الثاني : أن تكون بمعنى (حسب) فتفتح القاف وتسكن الطاء مبنية ، تقول : قَطْ زيد درهم .(6/178)
قلت : وفي الحاشية"[1]" عن حواشي التسهيل ‘‘أنها لم تسمع إلا مقرونة بالفاء وهي زائدة لازمة عندي ، وكذا أقول في قولهم : (فحسب) إن الفاء زائدة ، وفي المطول : كثيراً ماتصدر بالفاء تزييينا ً للفظ’’ ا.هـ .
الثالث : أن تكون اسم فعلٍ بمعنى : (يكفي) .
حرف الكاف
الكاف المفردة"[1]" : تأتي جارة وغير جارة ، والجارة إما اسم وإما حرف ، فللحرفية خمسة معانٍ :
[الأول] : التشبيه .
[ الثاني] : والتعليل ، {واذكروه كما هداكم}"[1]".
الثالث : الاستعلاء ، وجُعل منه : كن كما أنت ، أي عليه ، وفيه أعاريب أخرى.
الرابع : المبادرة ، مثل : صَلِّ كما يدخل الوقت ، وهو غريب جداً .
الخامس : التوكيد ، وهي الزائدة ، كقوله : {ليس كمثله شيء}"[1]"، وقيل الزائد (مثل) ، وقيل لازيادة فيهما وإن (مثل) بمعنى (ذات) أوبمعنى صفة وقيل الكاف اسم مؤكد بـ(مثل) .
والاسمية الجارة ترادف (مثل) قيل تختص بالضرورة كقوله :
40- [بِيضٌ ثَلاثٌ كَنِعَاجٍ جُمِّ] يَضْحَكْنَ عَنْ كَالبردِ المُنْهَمِّ"[1]"
وقيل : لا ، فيجوز في زيد كالأسد ، أن تكون الكاف اسماً بمعنى (مثل).
والكاف غير الجارة نوعان ، ضمير منصوب أو مجرور ، {ما ودعك ربك}"[1]"، وحرف للدلالة على الخطاب وهي اللاحقة لاسم الإشارة كـ(ذلك) وللضمير المنفصل المنصوب كـ(إياك) ولبعض أسماء الأفعال كـ(رويدك) ولـ(أرأيت) كـ {أرأيتك هذا الذي كرمت عليَّ}"[224]".
( كي )"[1]" : على ثلاثة أوجه :
[الأول] : أن تكون اسماً مختصراً من (كيف) كقوله :
41-كَي تَجْنَحُونَ إلى سِلْمٍ وَمَا ثُئرَتْ
قَتْلاكُمُ وَلَظَى الهَيْجَاءِ تَضْطَرِمُ"[1]"
فحذفت الفاء كما حذفت في قول بعضهم : ‘‘ سَوْ أفعل’’ ، أي سوف أفعل .
الثاني : أن تكون مرادفة للام التعليل وهي الداخلة على(ما) الاستفهامية في قولهم في السؤال عن العلة : كيمة ، بمعنى (لمه) .(6/179)
الثالث : أن تكون مرادفة لـ (أن) المصدرية ، كقوله : {لكيلا تأسوا}"[1]" ، فإن لم تتقدمها اللام جاز أن تكون مصدرية وجارة والناصب (أن) ولايجمع بينهما إلا في الضرورة كقوله:
42- فَقَالَتْ : أَكُلَّ النَّاسِ أَصْبَحْتَ مَانحاً
لِسَانَكَ كَيْمَا أَنْ تَغرَّ وَتَخْدَعا"[1]"
( كَمْ )"[1]" : على وجهين ؛ استفهامية وخبرية ، ويفترقان في خمسة أمور:
الأول : أن الخبرية تحتمل الصدق والكذب ، بخلاف الاستفهامية .
الثاني : أن المتكلم في الخبرية لايستدعي من المخاطب جواباً بخلاف الاستفهامية .
الثالث : أن الاسم المبدل من الخبرية لايقترن بالهمزة فتقول : كم عبيدٍ لي خمسون بل ستون ، بخلاف الاستفهامية ، فتقول : كم مالُكَ أعشرون أم ثلاثون .
الرابع : أن تمييز الخبرية يكون مفرداً أو مجموعاً ، وتمييز الاستفهامية لايكون إلا مفرداً.
الخامس : أن تمييز الخبرية واجب الخفض ، وتمييز الاستفهامية منصوب إلا أن تكون مجرورة بحرف فيجوز النصب وهو الكثير ، والجر بـ(من) مضمرة وجوباً ، مثل : بكم درهمٍ اشتريتَ هذا الكتاب[؟].
( كأيٍّ )"[1]" _ في (كأين) لغات أشار إليها [ابن مالك] في الكافية"[225]" :
وَفي (كَأَيِّن) قِيلَ:كَائِنْ وَكَئِنْ وَهَكَذَا كَأْيِنْ كَئِيْنْ فَاسْتَبِنْ
: اسم مركب من كاف التشبيه و(أيٍّ) المنونة ، ولذا يجوز الوقوف عليها بالنون ، وتكون خبرية للتكثير وهو الغالب مثل : { وكأين من نبيٍّ قاتل معه ربِّيون كثير }"[1]" ، واستفها مية ويكون مميزها مجروراً بـ(من) غالباً ، وأوجبه بعضهم ، ومن غير المجرور بـ(من) قوله :
43- اطْرِدِ اليَأْسَ بِالرَّجَا فَكَأَيٍّ آلِماً حُمَّ يُسْرُه بَعْدَ عُسْرِ"[1]"
ولايدخل عليها حرف جر وأجاز بعضهم : بكأيٍّ تبيع هذا الثوب ؟ ، ولايكون خبرها مفرداً .
( كَذَا )"[1]" : ترد على ثلاثة أوجه :
الأول : أن تكون اسم إشارة مجروراً بالكاف ، وقد تدخل عليها ها التنبيه ، كقوله : {أهكذا عرشكِ}"[1]".(6/180)
الثاني : أن تكون كلمة واحدة مركبة ، مكنياً بها عن غير عدد ، كما في الحديث : ‘‘أتذكر يوم كذا وكذا فعلتَ فيه كذا وكذا’’"[1]".
الثالث : أن تكون كلمة واحدة مركبة ، مكنياً بها عن عدد ، وتمييزها منصوب دائماً ، فلايجوز جره بـ(من) ولا بالإضافة ، خلافاً للكوفيين حيث أجازوا الجر بالإضافة في غير تكرار"[1]"، ولا تستعمل غالباً إلا معطوفاً عليها .
( كَلاَّ )"[1]" : حرف ردع وزجر ، لامعنى لها سوى ذلك عند سيبويه وأكثر البصريين"[226]" ، فيجيزون الوقوف عليها دائماً والابتداء بما بعدها .
وزاد غيرهم معنى ثالثاً واختلف فيه ، فقيل معنى (حقاً) وقيل معنى (ألا) الاستفتاحية وقيل معنى (نعم) ، وعلى هذه الزيادة يصح الوقوف عليها وقبلها ، وإذا صلحت للردع وغيره جاز الوقوف عليها وقبلها ، والأرجح حملها على الردع لأنه الغالب .
( كَأنَّ )"[1]" : حرف عند الأكثر ، وعليه إشكالان يمكن الخلاص منها بالقول بأنها بسيطة ، ولها معانٍ :
أحدها : التشبيه ، وهو الغالب ، وقيده بعضهم"[1]"بما إذا كان خبرها اسماً جامداً ، مثل : كأنَّ زيداً أسدٌ ، وإلا فهي للظن ، مثل : كأنَّ زيداً عندك، أو قائم أو يقوم .
الثاني : التحقيق ، ذكره الكوفيون"[1]"والزجاجي ، قلت : ومنه حديث الثلاثة: ‘‘كأنِّي أعرفك’’"[227]".
[الثالث] : التقريب ، قاله الكوفيون"[1]"، نحو : كأنَّك بالفرج آتٍ ، واختلف في إعرابه ، فقيل الكاف حرف خطاب والباء حرف جر زائد ، والفرج اسم (كأن) ، وقيل الكاف اسمها والجار والمجرور خبرها ، وما بعده جملة حالية متممة لمعنى الكلام ، بدليل قولهم : كأنك بالشمس وقد طلعت.
( كُلّ )"[1]" : اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكر ؛ {كل نفسٍ ذائقة الموت}"[228]" ، والمعرف المجموع ؛ {كلهم آتيه يوم القيامة فرداً}"[229]"، وأجزاء المفرد المعرف ؛ كلُّ زيدٍ حسن .
ولها باعتبار ماقبلها ثلاثة أوجه :(6/181)
الأول : أن تكون نعتاً فتدل على كمال المنعوت ، وحينئذٍ يجب إضافتها إلى اسم ظاهر يماثله لفظاً ومعنى ، مثل : أكلْنا شاةً كلَّ شاة . إن الفخرَ كلَّ الفخر لمن قدر على كبح جماح نفسه .
الثاني : أن تكون توكيداً لمعرفة ، قال الكوفيون : أو نكرة محدودة"[1]" فتفيد العموم ، وحينئذٍ تجب إضافتها إلى ضمير يطابق المؤكد ، مثل : {فسجد الملائكة كلُّهم أجمعون}"[230]" ، وربما يخلفه الظاهر كقوله :
44- [كَمْ قَدْ ذَكَرْتُكِ لَوْ أُجْزَى بِذِكْرِكُمُ]
يَا أَشْبَهَ النَّاسِ كُلَّ النَّاسَ بِالقَمَرِ"[1]"
فيفرق بينها وبين سابقتها حينئذٍ بأن هذه لعموم الأفراد وتلك لكمال المنعوت . وأجاز الزمخشري قطع المؤكدة عن الإضافة محتجاً بقراءة بعضهم: {إنا كُلاً فيها}"[1]"، والأجود أن (كلاً) هنا بدل من اسم (إنَّ) وجاز إبداله من ضمير الحاضر لأنه مفيد للإحاطة .
الثالث : أن تكون مباشرة للعوامل لاتابعة ، وحينئذٍ يجوز إضافتها إلى الظاهر وقطعها ، نحو : {كل نفس بما كسبت رهينةٌ}"[1]" ، {وكلاً ضربنا له الأمثال}"[231]".
ولها باعتبار مابعدها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تضاف إلى الظاهر فيعمل فيها جميع العوامل ، مثل : أكرمت كلَّ بني تميم .
الثاني : أن تضاف إلى ضمير محذوف فكالتي قبلها .
الثالث : أن تضاف إلى ضمير ملفوظ به فلا يعمل فيها غالباً إلا الابتداء ،نحو : {وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً}"[1]" ، ومن غير الغالب قوله :
45-[يَمِيدُ إِذَا مَادَتْ عَلَيهِ دِلاؤهُمْ] فَيَصْدُرُ عَنْهُ كُلُّهَا وَهْوَ نَاهِلُ"[1]"
واعلم أن لفظ (كُلّ) حكمه الإفراد والتذكير ومعناها بحسب ماتضاف إليه ، فإن أضيفت إلى نكرة روعي معناها إما مذكر ،مثل : {وكل شيءٍ فعلوه في الزبر}"[1]"، وإما مؤنث مثل :{كل نفسٍ بما كسبت رهينة}"1" ، وإما مجموع مذكر مثل : {كل حزبٍ بما لديهم فرحون}"[1]" ، وإما مجموع مؤنث مثل :
46- وَكُلُّ مُصِيبَاتِ الزَّمَانِ وَجَدْتُهَا(6/182)
سِوَى فُرْقَةِ الأَحْبَابِ هَيِّنَةَ الخَطْبِ"[1]"
هذا مانص عليه ابن مالك في حكم المضافة إلى النكرة ، ورده أبو حيان"[1]" ، قال المصنف : والذي يظهر لي أن المضافة إلى المفرد أن أريد نسبة الحكم إلى كل فرد وجب الإفراد ، مثل : كل رجلٍ يشبعه رغيف ، وإن أريد نسبتة إلى المجموع وجب الجمع ، كقول عنترة"[232]" :
47- جَادَتْ عَلَيهِ كُلُّ عَينٍ ثرةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ"[1]"
لأن المراد أن كل عين جادت عليه فتركت جميع الأعين كل حديقة الخ..
وإن أضيفت إلى معرفة جاز مراعاة لفظها ومراعاة معناها ، نحو : كلهم قائم أو كلهم قائمون ، كذا قالوا ، والصواب أن الضمير لايعود إليها من خبرها إلا مفرداً مذكراً على لفظها نحو : {وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً}"[1]" .
وإن قطعت عن الإضافة لفظاً فقال أبوحيان : تجوز مراعاة اللفظ مثل : {كلٌّ يعمل على شاكلته }"[233]" ، ومراعاة المعنى مثل : { وكلُّ في فلكٍ يسبحون }"[234]" .
( كَيْفَ )"[235]" : اسم تستعمل على وجهين :
أحدهما : أن تكون شرطية فتقتضي فعلين متفقين لفظاً ومعنى غير مجزومين ، مثل : كيف تصنع أصنع ، وقيل يجزمان مطلقاً وهو رأي الكوفيين"[236]"، وقيل : إن اقترنت بها (ما) .
الثاني : أن تكون استفهامية وتقع خبراً قبل مالا يستغنى عنها معه ، مثل : كيف أنت ؟ وحالاً قبل ما يستغنى مثل : كيف جاء زيدٌ ، ومفعولاً مطلقاً ، مثل : { ألم تر كيف فعل ربك }"[237]".
حرف اللام
اللام المفردة"[238]" : ثلاثة أقسام ؛ جارة وجازمة ومهملة ، فالجارة مفتوحة مع الضمير إلا ياء المتكلم فمكسورة ، ومكسورة مع الظاهر إلا مع المستغاث المباشر للياء فمفتوحة مثل : يالله .
وللجارة معانٍ منها :
1_ الاستحقاق ، وهي الواقعة بين معنى وذات ، مثل : الحمدلله .
2_ الاختصاص ، مثل : الحصير للمسجد .
3_ الملك ، مثل : لله ما في السماوات .(6/183)
4_ التعليل ، مثل : { لإيلاف قريش }"[239]" ، ومثل اللام الثانية في : يالزيد لعمرٍو ، والتقدير : أدعوك لعمرو .
5_ بمعنى (إلى) ، مثل : { كل يجري لأجلٍ مسمى }"[240]" .
6_ بمعنى (على) ، مثل : { ويخرون للأذقان }"[241]" .
7_ بمعنى (في) ، مثل : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة }"[242]" .
8_ بمعنى (من) ، مثل : سمعت له صراحاً .
9_ التعجب ، وتستعمل في النداء ، مثل : ياللماء ، إذا تعجبوا من كثرته .
10_ التوكيد ، وهي اللام الزائدة ، ومنها المقحمة المعترضة بين المتضايفين ، مثل قولهم : ‘‘ يا بُؤْسَ لِلحربِ ’’. وهل انجرار مابعدها بها أو بالمضاف؟ قولان أرجحهما الأول ، ومنها لام المستغاث ، وقال جماعة غير زائدة ثم اختلفوا فقال الأكثرون متعلقة بفعل النداء المحذوف ، وقال ابن جني بحرف النداء لمافيه من معنى الفعل"[243]".
وإذا قيل : يا لَزيد بفتح اللام فهو مستغاث ، وبكسرها مستغاث له والمستغاث محذوف ، وإذا قيل : يالك احتمل الوجهين .
11_ التبيين ، وذكر لها أقساماً وأمثلة .
والجازمة هي اللام الموضوعة للطلب ، وهي مكسورة ، وسُليم تفتحها ، وإسكانها بعد الفاء والواو أكثر ، مثل : { فلْيستجيبوا لي ولْيؤمنوا بي}"[244]" ، وقد تسكن بعد (ثم) ، مثل : { ثم لْيقضوا تفثهم }"[245]" ، ودخولها على فعل المتكلم قليل ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ‘‘قوموا فلأصلِ لكم’’"[246]" وقوله تعالى : { ولْنحمل خطاياكم }"[247]" ، وأقل منه دخولها في فعل الفاعل المخاطب كقراءة : { فبذلك فلتفرحوا }"[248]" ، وقد تحذف في الشعر ويبقى الجزم كقوله :
48- مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ [إِذَا مَاخِفْتَ مِنْ شَيءٍ تَبَالا]"[249]"
وأجاز الكسائي حذفها في النثر بشرط تقدم (قل) ، مثل : {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة}"[250]".
والمهملة :(6/184)
1_ لام الابتداء ، وتدخل على المبتدأ ، مثل : {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله}"[251]"، وعلى معمول (إن) اسمها أو خبرها أو معموله، واختلف في دخولها على الخبر المتقدم ، مثل : لقائم زيدٌ فمقتضى كلام جماعة من النحويين الجواز ، وكذلك اختلف في اللام الداخلة على الفعل ، ونص جماعة على المنع وأن اللام الداخلة على الفعل لام القسم .
( تنبيه )"[252]" : إذا قلت : إن زيداً ليقومن ، فاللام للقسم ، فلو قلت : علمت أن زيداً ليقومن ، وجب فتح همزة (إن) .
2_ الزائدة ، كالداخلة على خبر المبتدأ ، كقوله :
49- أُمُّ الحُلَيسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ [تَرْضَى مِنَ اللحْمِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ]"[253]"
3_ لام الجواب ، إما لـ (لو) أو لـ (لولا) أو للقسم ، مثل : { لوكان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا }"[254]" ، { لولا دفع الله الناس بعضهم ببعضٍ لفسدت الأرض }"[255]" ، { تالله لقد آثرك الله علينا }"[256]" .
4_ اللام الموطئة وتسمى : المؤذنة ، وهي الداخلة على أداة شرط للإيذان بأن الجواب بعدها مبني على قسم مقدر لا على الشرط ، سميت موطئةً لأنها وطأت الجواب للقسم أي مهدته له ، مثل : { لئن أخرجوا لايخرجون معهم }"[257]" ، وأكثر ما تدخل على (إنْ) ، وقد تدخل على غيرها ، كقوله :
50_ لمَتَى صَلَحْتَ ليُقضَيَنْ لَكَ صَالحٌ وَلَتُجْزيَنَّ إِذَا جُزِيتَ جَمِيلا"[258]"
5_ لام (أل) كالرجل .
6_ اللام اللاحقة لأسماء الإشارة للدلالة على البعد .
( لا )"[259]" : على ثلاثة أوجه :
الأول : النافية وهي أقسام :
1_ العاملة عمل (إن) ، وهي النافية للجنس على سبيل التنصيص ، ومنه : {لاجرمَ أن لهم النار}"[260]" عند الفراء ، والمعنى عنده لابد من كذا أو لامحالة في كذا"[261]"، وقال قطرب : (لا) ردٌّ لما قبلها ، أي ليس الأمر كما وصفوا ، ثم ابتدأ فقال : (جَرَمَ) وهو فعلٌ ماضٍ بمعنى (وجب) وما بعده فاعل .
2_ العاملة عمل (ليس) .
3_ العاطفة .(6/185)
4_ الجوابية .
5_ ما سوى هذه الأقسام ، ومنها المعترضة بين الجر والمجرور ، نحو : جئت بلا زادٍ ، وعن الكوفيين ؛ هي اسم دخل عليه حرف الجر وما بعدها محفوض بالإضافة"[262]"، وبعضهم يسميها زائدة ، وإن كان لايصح إسقاطها من حيث المعنى ويكون المراد بالزيادة وقوعها بين شيئين متطالبين .
الوجه الثاني : (لا) الطلبية التي يطلب بها الترك ، وتختص بالمضارع ، مثل : {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}"[263]" .
الوجه الثالث : الزائدة للتقوية والتوكيد، مثل : {ما منعك أن لا تسجدَ}"[264]" ، ومنه {لا أقسم} "[265]" على أحد القولين ، ثم مثل بقوله تعالى : {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً}"[266]" وذكر أوجها كثيرة في إعرابه ، كما ذكر أوجهاً في إعراب قوله : {وما يشعركم أنها إذا جاءت لايؤمنون}"[267]"، وقوله : {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لايرجعون}"[268]" ، وقوله : {ماكان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم .. إلى قوله : ولا يأمرَكم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً}"[269]".
( لاتَ )"[270]" : الجمهور على أنها كلمتان ؛ (لا) والتاء لتأنيث اللفظ وأنها تعمل عمل (ليس)، ولا تعمل إلا في الحين وما رادفة .
( لَوْ )"[271]" : على خمسة أوجه :
الأول : الامتناعية ، مثل : لو جئتني أكرمتك ، وتفيد الشرطية ، وتقييدها بالماضي ، والامتناع أي امتناع الشرط والجواب عند الجمهور ، وهو باطل بمواضع كثيرة ، أو امتناع الشرط خاصة مع عدم الدلالة على امتناع الجواب أو ثبوته ، ولكن إن كان مساوياً للشرط في العموم لزم انتفاؤه ، مثل : لوكانت الشمس طالعةً كان النهار موجوداً، وإن كان أعم لم يلزم انتفاؤه ، وإما ينتفي منه ماكان مساوياً للشرط ، مثل : لوكانت الشمس طالعةً كان الضوء موجوداً ، وأجود مايقال فيها : أنها حرف يقتضي في الماضي امتناع مايليه واستلزامه لتاليه .(6/186)
الثاني : أن تكون حرف شرط في المستقبل كـ(إنْ) ، إلا أنها لاتجزم ،مثل : {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعافاً خافوا عليهم}"[272]" والفرق بين هذه وبين الامتناعية أن الشرط في هذه مستقبل محتمل الوقوع لم يقصد فرضه الآن أو فيما مضى وعكسها الامتناعية .
الثالث : المصدرية بمنزلة (أنْ) إلا أنها لاتنصب ، وأكثر وقوع هذه بعد : ودَّ أو يودُّ ، مثل : {ودُّوا لو تدهن}"[273]" .
الرابع : التي للتمني بمعنى (ليت) مثل : {فلو أنَّ لنا كرةً فنكونَ}"[274]".
الخامس : أن تكون للعرض ، مثل : لو تنزل عندنا فتصيب خيراً .
وذُكِر لها معنى سادس ؛ وهو التقليل ، مثل : ‘‘ التمس ولو خاتماً من حديد’’"[275]".
وجواب (لو) إما مضارع منفي بـ(لم) ، أو ماضٍ مثبت أو منفي بـ(ما) والغالب على المثبت دخول اللام عليه ، مثل : {لونشاء لجعلناه حطاماً}"[276]"، ومن غير الغالب ؛ {لو نشاء جعلناه أجاجاً}"[277]" ، والغالب على المنفي خلوه من اللام ، مثل : {ولو شاء ربك ما فعلوه}"[278]"، ومن غير الغالب قوله :
51- وَلَوْ نُعْطَى الخِيَارَ لَمَا افْتَرَقْنَا [وَلَكِنْ لا خِيَارَ مَعَ الليَالي]"[279]"
وقد يكون جوابها جملة اسمية مقرونة باللام أو الفاء ، كقوله تعالى : {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة }"[280]" ، وقول الشاعر :
52- لَوْ كَانَ قَتْلٌ يَاسَلامُ فَرَاحَةٌ [لَكِنْ فَرَرْتُ مخَافَةً أَنْ أُوسَرا]"[281]"
( لَولا )"[282]" : على أربعة أوجه :
أحدها : أن تدخل على جملتين ؛ اسمية ففعلية لربط امتناع الثانية بوجود الأولى ، نحو : لولا زيدٌلأكرمتك ، ثم إن كان الخبركوناًمطلقاً وجب حذفه وكوناً مقيداً وجب ذكره إن لم يعلم ، وإلا جاز الوجهان ، هذا قول ابن مالك"[283]"وجماعة .(6/187)
وإذا ولي (لولا) ضمير فحقه أن يكون ضمير رفع ، نحو : { لولا أنتم لكنا مؤمنين}"[284]" ، وسمع قليلاً : ‘‘لولاي ولولاك ولولاه’’ قال سيبويه"[285]"والجمهور : هي جارة للضمير مختصة به ولا تتعلق بشيء ، وموضع المجرور بها رفع بالابتداء ، فإذا عطف عليها اسم ظاهر تعين رفعه ، مثل : لولاي وزيدٌ ، لأنها لاتخفض الظاهر .
الثاني : أن تكون للتحضيض والعرض ،وتختص بالمضارع أو ما في تأويله ، مثل : {لولا تستغفرون الله}"[286]" ، {لولا أخرتني}"[287]".
الثالث : أن تكون للتوبيخ والتنديم ، وتختص بالماضي ، مثل : {لولاجاءوا عليه بأربعة شهداء}"[288]" ، وقد يفصل بينها وبينه بـ(إذ) أو (إذا) أو جملة معترضة ، مثل : {لولا إذ سمعتموه}"[289]" ، {فلولا إذا بلغت الحلقوم .. إلى قوله : لولا إن كنتم غير مدينين}"[290]".
الرابع : الاستفهام ، مثل : { لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق }"[291]" قاله الهروي ، والظاهر أنه للعرض ، وذكر الهروي أنها تأتي نافية بمعنى (ما) ، مثل : { فلولا كانت قريةٌ آمنت فنفعها إيمانها }"[292]" أي فما كانت ، والظاهر أن المعنى على التوبيخ .
( لَومَا )"[293]" : بمنزلة (لولا) .
( لَمْ )"[294]" : حرف جزم لنفي المضارع ،وقد يرفع بعدها ، قيل ضرورة وقيل لغة ، وزعم بعضهم أن بعض العرب قد ينصب بها ، وقد يليها اسم معمول لفعل محذوف يفسره مابعده ، كقوله :
53- ظَنَنْتُ فَقِيراً ذَا غِنًى ثُمَّ نِلْتُهُ فَلَمْ ذَا رَجَاءٍ أَلْقَهُ غَيرَ وَاهِبِ"[295]"
( لمَاَّ )"[296]" : على ثلاثة أوجه :
الأول : مختصة بالمضارع فتجزمه وتنفيه وتقلبه ماضياً ، وتفارق (لم) في خمسة أمور : [الأول] : أنها لاتقترن بأداة شرط . [الثاني] : أن منفيها مستمر النفي إلى الحال . [الثالث] : أن منفيها قريب إلى الحال . [الرابع] : أن منفيها متوقع ثبوته . [الخامس] : أن منفيها جائز الحذف لدليلٍ ، بخلاف (لم) ، فأما قوله :(6/188)
54- احْفَظْ وَدِيعَتَكَ الَّتي اسْتُودِعْتَهَا
يَومَ الأَعَازِبِ إِنْ وَصَلْتَ وَإِنْ لمَِ"[297]"
فضرورةً .
الثاني : مختصة بالماضي فتقتضي جملتين وُجِدَت ثانيتهما عند وجود الأولى ، ويقال فيها حرف وجود لوجود ، مثل : لما جاءني أكرمته ، وجوابها إما فعل ماضٍ أو جملة اسمية مقرونة بـ(إذا) الفجائية أو بالفاء أو فعلاً مضارعاً مثل : {فلما أنجاكم إلى البر أعرضتم}"[298]"، {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}"[299]"، {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد}"[300]"، {فلما ذهب عن إبراهيم الروعُ وجاءته البشرى يجادلنا}"[301]".
الثالث : أن تكون حرف استثناء ، فتدخل على الجمل الاسمية ، نحو : {إنْ كل نفس لما عليها حافظ}"[302]" ، وعلى الفعل الماضي لفظاً لامعنى ، مثل: أنشدك الله لما فعلت ، أي ما أنشدك إلا فعلك .
( لَنْ )"[303]" : حرف نفي ونصب واستقبال ، وتأتي للدعاء كقوله :
55- لَنْ تَزَالُوا كَذَلِكُمْ ثُمَّ لازَالَـ ــــتْ لَكُمْ خَالِداً خُلُودَ الجِبَالِ"[304]"
وتلقي القسم بها وبـ(لم) نادرٌ جداً ، كقوله :
56- وَاللهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيكَ بِجَمْعِهِمْ [حَتَّى أٌوَسَّدَ في الترَابِ دَفِينَا]"[305]"
وزعم بعضهم أنها قد تجزم ،كقوله :
57- لَنْ يخِبِ الآنَ مِنْ رَجَائكَ مَنْ [حَرَّكَ مِنْ دُونِ بَابِكَ الحَلَقَةْ]"[306]"
( لَيْتَ )"[307]" : حرف تمنٍ يتعلق بالمستحيل غالباً ، وتنصب الاسم وترفع الخبر، وقد تنصبهما ، كقوله :
58- * يَالَيتَ أَيَّامَ الصِّبا رَوَاجِعاً *"[308]"
( لَعَلَّ )"[309]" : حرف ترجٍ ينصب الاسم ويرفع الخبر ، قال بعض أصحاب الفراء : وقد ينصبهما ، وحُكي : ‘‘لعلَّ أباك منطلقاً’’ ، وعقيل يخفضون بها المبتدأ ، كقوله :
59- [فَقُلْتُ ادْعُ أُخْرى وَارْفَعِ الصَّوتَ جَهْرَةً]
لَعَلَّ أَبِي المِغْوَارِ مِنْكَ قَرِيبُ"[310]"(6/189)
وهو في محل رفع بالابتداء لتنزيلها منزلة حرف الجر الزائد ، قيل وأول لحن سمع بالبصرة قوله : ‘‘لعل لها عذرٌ وأنت تلوم’’ وهو محتمل لتقدير ضمير الشأن ، كما في قوله : ‘‘إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون’’"[311]"، و لها معانٍ :
أحدها : التوقع ، وهو ترجي المحبوب والإشفاق من المكروه .
الثاني : التعليل ، أثبته جماعة منهم الكسائي ، كقوله تعالى : {لعله يتذكر}"[312]".
الثالث : الاستفهام ، أثبته الكوفيون ، ولذلك علق بها الفعل ، كقوله تعالى : {وما يدريك لعله يزكى}"[313]".
( لَكِنَّ )"[314]" : - المشددة - حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر ، وفي معناها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه واحد ؛ وهو الاستدراك ، وفسر بأن تنسب لما بعدها حكماً مخالفاً لكم ما قبلها .
الثاني : أنها تأتي للاستدراك ، وفسر برفع ما يتوهم ثبوته ، وتأتي لمعنى آخر أيضاً وهو: التوكيد ، مثل : لو جاءني أكرمته لكنه لم يجىء حيث أكدت ما أفادته (لو) من الامتناع .
الثالث : أنها للتوكيد دائماً ويصحب التوكيد معنى الاستدراك ، وقد يحذف اسمها ، كقوله :
60- فَلَوْ كُنْتَ ضَبيَّاً عَرَفْتَ قَرَابَتي وَلَكِنَّ زِنجِيٌّ عَظِيمُ المَشَافِرِ"[315]"
( لَكِنْ )"[316]" : - المخففة - هي ضربان ؛ مخففة من الثقيلة فلاتعمل ، وخفيفة بأصل الوضع فإن وليها كلام فهي حرف ابتداء لاعاطفة ، وإن وليها مفرد فهي عاطفة بشرطين :
أحدهما : أن يتقدمها نفي أو نهي ، فإن قلت : ‘‘قام زيدٌ لكنْ عمرٌو’’ ، جعلتها حرف ابتداء وأتممت الجملة فقلت : ‘‘لم يقم’’ ، وأجاز الكوفيون العطف"[317]" .
الثاني : أن لا تقترن بالواو .
( لَيْسَ )"[318]" : لنفي الحال ، ولنفي غيره بالقرينة ، مثل : ليس خلق الله مثلَه. وهي فعل لا يتصرف ، قيل إلا في ثلاثة مواضع :
الأول : أن تكون للاستثناء ، نحو : أتوني ليس زيداً . والصحيح أنها هي الناسخة واسمها مستتر .(6/190)
الثاني : أن تدخل على جملة اسمية رافعة للاسمين كما في لغة تميم ؛ ‘‘ ليس الطيب إلا المسكُ’’. فإنهم يهملونها حملاً على إهمال ما عند انتقاض النفي ، وزعم بعضهم أن من ذلك ما إذا دخلت جملة فعلية ماضية ، كقولهم : ‘‘ليس خلق الله مثله’’ .
الثالث : أن تكون حرفاً عاطفاً ، أثبته الكوفيون لقوله :
61- أَيْنَ المَفَرُّ وَالإلهُ الطَّالِبُ وَالأَشْرَمُ المَغْلُوبُ لَيْسَ الغَالِبُ"[319]"
وخُرَّج على أن الخبر محذوف تقديره : ليس الغالب إياه .
حرف الميم
( مَا )"[320]" : اسمية حرفية ؛ فالاسمية أنواع :
1_ موصولية .
2_ تامة ، وهي التي تقدر بالشيء ونحوه ، كقوله تعالى : {فنعِمَّاهي}"[321]"، أي فنعم الشيء هي . وقوله : ‘‘غسلتُه غسلاً نعِمَّاً’’. أي نعم الغسل هو .
3_ نكرة موصوفة ، كقولك : مررت بما معجبٍ لك ، أي بشيء معجب لك .
4_ تعجبية ، مثل : ما أحسن زيداً ، المعنى : شيء حسن زيداً .
5_ استفهامية ، وإذا أتت بعدها (ذا) فعلى أوجه :
الأول : أن تكون (ذا) اسم إشارة ، كقولك : ماذا التواني .
الثاني : أن تكون (ذا) موصولة ، كقوله :
62-[أَلا تَسْأَلانِ المَرْءَ]مَاذَا يُحَاوِلُ أَنحْبٌ فَيُقْضَى[أَمْ ضَلالٌ وَبَاطِلُ]"[322]"
الثالث : أن تكون مركبة مع (ما) للاستفهام ، كقوله تعالى : {ماذا ينفقون قل العفوَ}"[323]"على قراءة نصب العفو .
الرابع : أن تجعل (ما) اسم جنس بمعنى شيء أو موصولاً بمعنى (الذي) كقوله :
63- دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ سَأَتَّقِيهِ [وَلَكِنْ بِالمُغَيَّبِ نَبِّئيني]"[324]"
فـ(ماذا) مفعول : (دعي) والتقدير : دعي شيئاً أو دعي الذي علمتِ .
الخامس : أن تكون (ذا) إشارية و(ما) زائدة.
السادس : أن تكون (ما) استفهامية و(ذا) زائدة ، والتحقيق أن الاسماء لاتزاد .
6_ شرطية ، وهي إما زمانية ، كقوله تعالى : {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم}"[325]"، أو غير زمانية ، كقوله : {وما تفعلوا من خير يعلمه الله}"[326]".(6/191)
والحرفية أنواع :
1_ حرف نفي ، وتعمل عمل (ليس) بشروط ، وندر تركيبها مع النكرة تشبيهاً بـ(لا) ، كقوله :
64-وَمَا بَأْسَ لَوْ رَدَّتْ عَلَينَا تحِيَّةً [قَلِيلٌ عَلَى مَنْ يَعْرِفِ الحَقَّ عَابُهَا]"[327]"
2_ حرف مصدر ، وتكون زمانية مثل : { مادمت حياً }"[328]" ، وغير زمانية مثل : {ليجزيك أجر ما سقيت لنا}"[329]".
3_ كافة عن عمل الرفع ، وتتصل بثلاثة أفعال ؛ قَلَّ ، وكَثُرَ ، وطَالَ ، ولا يليهن إلا جملة فِعلية مصرح بفعلها ، فأما قوله :
65- [صَدَدْتِ فَأَطْوَلْتِ الصُّدُودَ]وَقَلَّمَا
وِصَالٌ عَلَى طُولِ الصُّدُودِ يَدُومُ"[330]"
فضرورة . وزعم بعضهم أن (ما) مع هذه الأفعال مصدرية لاكافة .
4_ كافة عن عمل النصب والرفع ، وهي المتصلة بـ(إن) وأخواتها .
5_ كافة عن عمل الجر ، وتتصل بـ(رُبَّ) وبالكاف كقولهم : كن كما أنت ، وبالباء كقوله :
66- [فَلَئِنْ صِرْتَ لاتُحِيرُ جَوَاباً] لَبِمَا قَدْ تُرَى وَأَنْتَ خَطِيبُ"[331]"
وبـ(من) كقوله :
67- وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضَرْبَةً
[عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الفَمِ]"[332]"
على خلاف فيما عدا (رُبَّ) وتتصل أيضاً بكلمة (بين) ، كقوله :
68- بَيْنَمَا نحْنُ بِالأَرَاكِ مَعاً [إِذْ أَتَى رَاكِبٌ عَلَى جَمَلِهْ]"[333]"
وقيل (ما) زائدة و(بين) مضافة إلى الجملة وقيل زائدة و(بين) مضافة إلى زمن محذوف مضاف إلى الجملة ، أي : بين أوقات نحن بالأراك ، والأقوال الثلاثة تجري في (بين) مع الألف كقوله :
69- فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا
[إِذَا نحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ لَيْسَ نُنْصَفُ]"[334]"
وتتصل أيضاً بـ(حيث) و(إذ) ويضمنان حينئذٍ معنى(إن) الشرطية فيجزمان فعلين .
12_ حرف معوضٌ به عن (كان) مثل : أما أنت منطلقاً انطلقت . والأصل: انطلقت لأن كنت منطلقاً .
6_ حرف معوض به عن فعل الشرط كقولهم : افعل هذا أما لا، والتقدير: أن لا تفعل غيره.(6/192)
7_ زائدة بعد الرافع كقولك : شتان ما زيد وعمرو ، وبعد الناصب الرافع نحو : ليتما زيداً قائم ، وبعد الجازم ، كقوله : {وإما ينزغنَّكَ من الشيطان نزغٌ}"[335]"وبعد الخافض ، نحو : {فبما رحمة من الله لنت لهم}"[336]"، {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ}"[337]" ، وبعد أداة الشرط مثل : {حتى إذا ما جاؤها}"[338]"، وبين المتبوع وتابعه نحو : {مثلاً ما بعوضةً}"[339]"و(بعوضة) بدل ، وقيل اسم نكرة صفة لـ(مثلاً) ، أو بدل منه ، وذكر فيها أقوال أخرى كثيرة ، وأما قوله تعالى : {فقليلاً ما يؤمنون}"[340]" فـ(ما) محتملة لثلاثة أوجه :
أحدها : الزيادة ، إما لمجرد تقوية الكلام فقليل بمعنى العدم ، وأمالإفادة التقليل ، فقليل بمعناه الحقيقي .
الثاني : النفي ، و(قليلاً) نعت لمصدر محذوف أولظرف محذوف أي إيماناً قليلاً أو زمناً قليلاً ، ويضعف هذا الوجه أن (ما) النافية لها الصدارة فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها لكن يسهله تقدير (قليلاً) نعتاً لظرف لأنهم يتوسعون في الظروف .
الثالث : أن تكون مصدرية والفعل المنسبك فاعل (قليل) ، و(قليل) حال معمول لمحذوف دل عليه المعنى والتقدير لعنهم الله فأخروا قليلاً إيمانهم .
( مِنْ )"[341]" : لها خمسة عشر معنى :
1_ ابتداء الغاية ، وهو الغالب ، نحو : {من المسجد الحرام}"[342]".
2_ التبعيض ، {منهم من كلَّم الله}"[343]".
3_ بيان الجنس ، وتقع كثيراً بعد (ما) و(مهما) ، {مايفتح الله للناس من رحمة}"[344]".
4_ التعليل ، { مما خطيئاتهم }"[345]" .
5_ البدل ، { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة }"[346]" .
6_ مرافة (عن) ، { فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله }"[347]" .
7_ مرادفة الباء ، { ينظرون من طرف خفي }"[348]" ، والظاهر أنها هنا للابتداء .
8_ مرادفة (في) ، { للصلاة من يوم الجمعة }"[349]" .
9_ موافقة (عند) .
10_ مرادفة (ربما) وذلك إذا اتصلت بـ(ما) كقوله :(6/193)
وَإنَّا لممَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ [ضَرْبَةً عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الفَمِ]"[350]"
[67]
والظاهر أنها ابتدائية و(ما) مصدرية .
11_ مرادفة (على) ، { ونصرناه من القوم }"[351]".
12_ الفصل وهي الداخلة على ثاني المتضادين ،كقوله تعالى : { والله يعلم المفسد من المصلح }"[352]".
13 _ الغاية .
14_ التنصيص على العموم ، وهي الزائدة في نحو : {ما جاءنا من بشير}"[353]".
15 _ توكيد العموم ، وهي الزائدة في نحو : ماجاءني من دَيَّارٍ . وشرطٌ لزيادتها تقدم نفي أو نهي أو استفهام بـ(هل) وتنكير مجرورها وكونه فاعلاً أو مفعولاً أو مبتدأً ، ولم يشترط الكوفيون تقدم نفي أو نهي أو استفهام"[354]"، ولم يشترط آخرون تنكير مجرورها ولا كونه فاعلاً أومفعولاً أو مبتدأً.
( مَنْ )"[355]" : على خمسة أوجه ؛ شرطية واستفهامية ، وإذا قلت : من ذا لقيت ، فـ(مَنْ) مبتدأ ، و(ذا) موصول خبره ، ويجوز كونها زائدة على رأي الكوفيين المجوزين لزيادة الأسماء ، وموصولة ونكرة موصوفة كمررت بمن معجبٍ لك .
( مَهْمَا )"[356]" : اسم شرط ، ولها ثلاثة معانٍ :
الأول : أن تكون لما لايعقل غير الزمان مع تضمن معنى الشرط .
الثاني : الزمان والشرط فتكون ظرفاً لفعل الشرط ، ذكره ابن مالك"[357]" .
الثالث : الاستفهام ذكره جماعة .
( مَعَ )"[358]" : اسم وتستعمل مضافة ، فتكون ظرفاً ولها حينئذٍ ثلاثة معانٍ :
أحدها : موضع الاجتماع ، نحو : أنا معك .
الثاني : زمانه ، نحو : حئتُ مع العصر .
الثالث : بمعنى (عند) وحكى سيبويه"[359]": ذهبت من معه ، أي من عنده . وتستعمل غير مضافة فتنون حالاً ، وقد تكون ظرفاً ، وتستعمل للجماعة كما تستعمل للاثنين .
( مَتَى )"[360]" : تكون اسم استفهام واسم شرط وبمعنى : وسط ، وحرفاً بمعنى (من) أو(في) .
( مذُّ ، ومنذُ )"[361]" : لها ثلاث حالات :(6/194)
الأولى : أن يليهما اسم مجرور فهما حرفا جر ، وقيل : اسمان مضافان ، وعلى الأول فهما بمعنى (من) إن كان الزمان ماضياً ، وبمعنى (في) إن كان حاضراً وبمعنى (من) و(إلى) جميعاً إن كان معدوداً ، نحو : ما رأيته مذ يومِ الخميس أو يومِنا ، أو منذُ ثلاثةِ أيام.
الحالة الثانية : أن يليها اسم مرفوع فقيل هما مبتدأ ، وما بعدهما خبر ، وقيل ظرفان مخبر بهما على مابعدهما ، وقيل ظرفا مضافان لجملة حذف فعلها.
الحالة الثالثة : أن يليها جملة اسمية أو فعلية فالمشهور أنهما ظرفان مضافان إما إلى الجملة أو إلى زمن مضاف إلى الجملة وقيل مبتدآن فيجب تقدير زمن مضاف إلى الجملة يكون هو الخبر .
حرف النون
النون المفردة"[362]" : أربعة أوجه :
[الأول] : نون التوكيد ؛ خفيفة وثقيلة ، ويؤكد بها الفعل ، فيدخلان على الأمر مطلقاً ، ولايؤكد بها الماضي مطلقاً إلا شذوذاً ، وأما المضارع فإن كان حالاً لم يؤكد بهما ، وإن كان مستقبلاً أكد بهما وجوباً وقريباً منه ، وجوازاً كثيراً وجوازاً قليلاً .
الثاني : التنوين ، وهو نون زائدةٌ ساكنة تلحق الآخر لغير توكيد ، وأقسامه خمسة ، وزاده بعضهم إلى عشرة أقسام .
الثالث : نون الإناث ، مثل : يضربْنَ .
الرابع : نون الوقاية وتسمى نون العماد ، وتلحق قبل ياء المتكلم المنصوبة في الفعل متصرفاً أم جامداً ، واسم الفعل ، مثل : دَرَاكِني ، وبعض الحروف .
( نَعَمْ )"[363]" : حرف تصديق ووعد وإعلام ، فالأول بعد الخبر ، كقام زيدٌ ، والثاني : بعد افعل ولا تفعل وما في معناهما ، والثالث بعد الاستفهام ، نحو: هل جاء زيد؟ .
قيل : وتأتي للتوكيد إذا وقعت صدراً ، نحو : ‘‘ نعم هذه أطلالهم ’’ ، والحق أنها في هذا حرف إعلام وأنها جواب لسؤال مقدر .(6/195)
واعلم أنه إذا قيل : قام زيدٌ ، فتصديقه : نعم ، وتكذيبه : لا ، ويمتنع دخول (بلى) لعدم النفي ، وإذا قيل : ماقام زيدٌ ، فتصديقه : نعم ، وتكذيبه : بلى ، ويمتنع دخول (لا) لأنها لنفي الإثبات لا لنفي النفي . والحاصل أن (بلى) لا تأتي إلا بعد نفي ، وأن (لا) لاتأتي إلا بعد إيجاب ، وأن (نعم) تأتي بعدهما .
حرف الهاء
الهاء المفردة"[364]" : على خمسة أوجه :
الأول : ضمير الغائب .
الثاني : حرفٌ للغَيبة ، مثل : إياه .
الثالث : هاء السكت ،وهي اللاحقة لبيان حركةٍ أو حرف ، مثل : {ماهيَهْ}"[365]" .
الرابع : المبدلة من همزة الاستفهام ، كقوله :
70- وَأَتَى صَوَاحِبُهَا فَقُلْنَ:هَذَا الذِي مَنَحَ المَوَدَّةَ غَيرَنَا وَجَفَانَا"[366]"
الخامس : هاء التأنيث ، مثل : رحمة ، والتحقيق أنها لاتعد ، لأنها جزءَكلمةٍ .
( هَا )"[367]" : على ثلاثة أوجه :
الأول : أن تكون اسم لفعل أمر هو (خُذْ) ، ويجوز مد ألفها واتصال الكاف بها ، مثل : ‘‘هاكم ، هاؤم’’ ويجوز حذف الكاف مع الهمزة ، فيقال : هاءَ ، هاءِ ، هاؤما ، هاؤم ، هاؤنَّ ؛ للمفرد والمفردة والمثنى وجمع الذكور وجمع الإناث.
الثاني : أن تكون ضميراً للمؤنث .
الثالث : أن تكون للتنبيه ، فتدخل على اسم الإشارة وعلى ضمير الرفع المخبر عنه باسم إشارة ، مثل : {هاأنتم أولاء}"[368]" ، وعلى نعت (أي) في النداء ، مثل : يا أيُّها الرجل ، ويجوز ضم الهاء اتباعاً لـ(أي) فتقول يا أيُّهُ الرجل ، وعلى اسم الله في القسم إذا حذف حرف القسم ، مثل : ها الله، بقطع همزة الله ووصلها .
( هَلْ )"[369]" : حرف موضوع لطلب التصديق الإيجابي ، فتفارق الهمزة في عشرة أمور :
1- أنها للتصديق .
2- للإيجاب ، فلا يجوز : هل لم يقم .
3- تجعل المضارع للاستقبال .
4-5-6- لاتدخل على شرط ولا (إنَّ) ، ولا اسم بعده فعل في الاختيار .(6/196)
7-8- أنها تقع بعد العاطف لاقبله وبعد (أم) مثل : {فهل يهلك}"[370]"، {أم هل تستوي}"[371]".
9- أنه يراد بالاستفهام بها النفي ، نحو : {هل على الرسل إلا البلاغ}"[372]" ، ولاتجوز الهمزة ؛ أعلى الرسل إلا البلاغ.
10_ تأتي بمعنى (قد) ، { هل أتى على الإنسان حين من الدهر }"[373]" ، وقيل لاتأتي بمعنى (قد) والاستفهام في مثل هذا للتقرير ، والله أعلم .
حرف الواو
الواو المفردة"[374]" : تأتي لأحدعشر معنى :
الأول : العاطفة ، وهي لمطلق الجمع .
الثاني : الاستئنافية ، ويرفع مابعدها .
الثالث : الحالية .
الرابع : واو المعية ، سواء على اسم ، كـ : سرتُ والنيل ، أو على فعل مضارع معطوف على اسم صريح أو مؤول ، مثل :
71- [وَلُبْسُ عَبَاءَةٍ] وَتَقَرَّ عَيني [أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ]"[375]"
الخامس : واو القسم .
السادس : واو (رب) ، ولا تدخل إلا على منكر متعلقه متأخر .
الثامن : الزائدة ، كقوله : {وناديناه أن يا إبراهيم}"[376]".
التاسع : واو الثمانية ، مثل : {وثامنهم كلبهم}"[377]" .
العاشر : ضمير المذكر أو ما نزل منزلته ، مثل : {ياأيها النمل ادخلوا}"[378]".
الحادي عشر : واو علامة الذكور ، مثل : أكلوني البراغيث .
( وَا )"[379]" : على وجهين :
الأول : أن تكون للندبة .
الثاني : أن تكون اسم فعل بمعنى : (اعجب) ويقال : واها ، ووي ، وقد تلحق (وي) كاف الخطاب فيقال : ويك ، وقال الكسائي : أصله ويلك فالكاف ضمير مجرور ، وأما { وي كأنه }"[380]" فقيل (وي) اسم فعل والكاف حرف خطاب و(أن) على إضمار اللام ، وقيل : (وي) اسم فعل و(كأنَّ) للتحقيق ، وقيل بتكلف أنَّ الكاف حرف جر للتعليل .
حرف الياء(6/197)
( يَا )"[381]" : حرف نداء للبعيد ، وقد تكون للقريب ، ونصب المنادى بـ(أدعوا) محذوفاً وجوباً ، وقيل بها وإذا وليها ماليس منادى مثل : {ياليت قومي }"[382]" ، فقيل المنادى محذوف ، وقيل هي للتنبيه ، وقيل إن وليها نداء أوأمر فللنداء وإلا فللتنبيه .
مختصر مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب
الباب الثاني : في تفسير الجملة وأحكامها
محمد بن صالح العثيمين
الباب الثاني
من الكتاب
في تفسير الجملة وأحكامها
الجملة إما اسمية أو فعلية أو ظرفية"[1]"، فالأولى ماصدرت باسم ، والثانية ماصدرت بفعل ، والثالثة ماصدرت [بظرف] مثل : أعندك زيدٌ . إن جعل زيد فاعل (عند) .
وتنقسم إلى صغرى وكبرى"[2]"، فالكبرى هي الاسمية التي خبرها جملة ، نحو : زيدٌ قام أبوه ، أو أبوه قائم ، والصغرى ما سواها ، مثل : قام زيدٌ ، زيدٌ قائمٌ .
الجمل التي لامحل لها من الإعراب ، وهي التي لاتحل محل المفرد"[3]"
الأولى : الجملة الابتدائية .
الثانية : المعترضة بين شيئين لإفادة الكلام تقويةً أو تحسيناً ، إما بين الفعل ومرفوعه أو مفعوله ، أو بين المبتدأ وخبره ، أو بين الشرط وجوابه ، أو الموصوف وصفته ، أو الموصول وصلته ، أو بين المتضايفين ، أو الجار والمجرور ، أو بين الفعل وسوف ، أو قد والفعل ، أو حرف نفي ومنفيه .
الثالثة : التفسيرية ، وهي الفضلة الكاشفة لحقيقة ما تليه ، كقوله تعالى : {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب }"[4]" فجملة : خلقه .. إلخ تفسير لمثل آدم ، وقد تكون مقرونة بـ(أن) مثل : { أن اصنع الفلك }"[5]" ، أو بـ(أي) ، كقوله :
72-وَتَرْمِينَني بِالطَّرْفِ أَي أَنْتَ مُذْنِبٌ [وَتَقْلِينني لَكِنَّ إِيَّاكِ لا أَقْلِي]"[6]"
قال المؤلف : وقولي الفضلة احترازاً عن الجملة المفسرة لضمير الشأن ، فإنها كاشفة لحقيقة المعنى المراد به ، ولها محل .
الرابعة : المجاب بها القسم ، مثل : {والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين}"[7]".(6/198)
الخامسة : الواقعة جواباً لشرط غير جازم ولم تقترن بالفاء أو (إذا) الفجائية.
السادسة : الواقعة صلةً لاسم أو حرف .
السابعة : التابعة لما لامحل لها .
الجمل التي لها محل"[8]"
الأولى : الواقعة خبراً .
الثانية : الواقعة حالاً .
الثالثة : الواقعة مفعولاً ، وتقع مفعولاً في ثلاثة أبواب : الأول : المحكية بالقول أو مرادفه.
الثاني : باب (ظن) حيث تقع مفعولاً ثانياً . الثالث : في باب التعليق ، وليس خاصاً بباب (ظن) بل في كل فعلٍ قلبي .
الرابعة : الواقعة مجرورة بالإضافة ، ولا يضاف إلى الجملة إلا ثمانية : أسماء الزمان ، ظروفاً كانت أو أسماء . ، وحيثُ ، وآية ، وذو ، ولدن ، وريْث ، وقول ، وقائل .
الخامسة : الواقعة جواباً لشرط جازم ، إذا اقترنت بالفاء أو (إذا) .
السادسة : التابعة لمفرد نعتاً أو عطفاً أو بدلاً .
السابعة : التابعة لجملةٍ ذات محل .
وهذا الحصر لما له محل بسبع بناء على ماذكروه ، والحق أنها تسع ؛
الثامنة : الجملة المستثاة ، كقوله : { إلا من تولى وكفر }"[9]" .
التاسعة : الجملة المسند إليها ، كقوله تعالى : { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم }"[10]" إذا أعرب (سواء) خبراً و(أأنذرتهم) مبتدأً ، وقولهم : ‘‘تسمع بالمعيدي خير من أن تراه’’ إذا لم نقل إن الأصل : أن تسمع .
حكم الجمل بعد المعارف وبعد النكرات"[11]"
الجمل بعد المعارف المحضة أحوال ، وبعد النكرات المحضة صفات ، وبعد غير المحضة يجوز الوجهان ، فغير المحض من النكرات ماوصف ، كقوله تعالى: { وهذا ذكر مبارك أنزلناه }"[12]" ، وغير المحض من المعارف اسم الجنس المحلى بـ(أل) كقوله تعالى : {كمثل الحمار يحمل أسفاراً}"[13]" فيجوز في في (أنزلناه) وفي(يحمل) أن يكونا حالين وأن يكونا صفتين لأن المعروف الجنسي يقرب في المعنى من النكرة .
مختصر مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب
الباب الثالث : في أحكام الظرف و الجار و المجرور
محمد بن صالح العثيمين
الباب الثالث(6/199)
في أحكام الظرف والجار والمجرور"[1]"
لابد للجار والمجرور والظرف من متعلق إما بفعل أو بما يشبهه ، أو بما أول بما يشبه أو بما يشير إلى معناه ، فإن لم يوجود من هذه شيء وجب تقديره ، وهل يتعلقان بالفعل الناقص ؟ على قولين مبناهما هل الفعل الناقص يدل على الحدث ؟ وهل يتعلقان بالجامد؟ وهل يتعلقان بأحرف المعاني فالمشهور المنع مطلقاً وقيل يجوز مطلقاً ، وقيل إن ناب عن فعل محذوف جاز على طريق النيابة لا الأصالة وإلا فلا ، مثال ذلك : يالزيد ، فاللام متعلقة بـ(يا) وكذلك قوله تعالى: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون}"[2]" فإن (بمجنون) متعلق بـ(ما) والمشهور أنهم يقدرون فعلاً مطابقاً للنفي أي انتفى ذلك بنعمة ربك .
ويستثنى من قولنا لابد للجار من متعلق أمور :
الأول : الزائد ، مثل : { وكفى بالله شهيداً }"[3]" .
الثاني : (لعل) في لغة عقيل لأنها بمنزلة الزائد حيث أن مجرورها في موضع رفع على الابتداء .
الثالث : نحو : لولاي على القول بأنها جارة لأن الضمير بعدها مرفوع المحل بالابتداء .
الرابع : (رب) لأن محل ما بعدها بحسب العوامل .
الخامس : أدوات الاستثناء كـ(خلا) إذا خفض بهن .
حكم المرفوع بعد الظرف والمجرور"[4]"
لايخلو من حالين ؛
أحدهما : أن يتقدمهما نفي أو استفهام أو موصوف أو موصول أو صاحب خبر أو حال ، مثل : مررت بزيدٍ عليه جبةٌ . ففيه ثلاثة أقوال :
أحدها : ترجيح كونه مبتدأ مخبرًا عنه بالظرف .
الثاني : ترجيح كونه فاعلاً ، اختاره ابن مالك .
الثالث : وجوب كونه فاعلاً ، ونقل عن الأكثر ، وإذا كان فاعلاً فهل عامله فعل محذوف أو نفس الظرف والمجرور؟ على قولين ؛ المختار الثاني .
الحال الثانية : أن لايتقدمهما ماسبق من النفي وشبهه ، فالجمهور يوجبون الابتداء والكوفيون يجوزون الوجهين"[5]".
مختصر مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب
الباب الرابع : في أحكام يكثر دورها
محمد بن صالح العثيمين
الباب الرابع
في أحكام يكثر دورها(6/200)
الأول : مايعرف به المبتدأ من الخبر"[1]"، يجب الحكم بالابتدائية على المتقدم من الاسمين في ثلاث مسائل :
الأولى : إذا كانا معرفتين تساوت رتبتهما أو اختلفت ، وقيل يجوز تقدير الأول خبراً ، وقيل المشتق خبر إن تقدم ، والتحقيق أن المبتدأ ما كان أعرف.
الثانية : إذا كانا نكرتين يصلح كل منهما للابتداء ، مثل : أفضل منك ، أفضل مني .
الثالثة : إذا اختلفا تعريفاً وتنكيراً وكان الأول المعرفة ، مثل : زيدٌ قائمٌ ، وإن كان الأول النكرة فإن لم يكن له مسوغ فهو خبر اتفاقاً ، مثل : خزٌّ ثوبُك ، وإن كان له مسوغ فكذلك عند الجمهور ، وسيبويه يجعله المبتدأ"[2]" مثل : كم مالك ؟ ويتجه عندي جواز الوجهين .
[الثاني]"[3]": تقول :‘‘أمكن المسافرَ السفر’’ بنصب المسافر لاغير ، لأنك تقول : أمكنني السفرَ ولا تقول : أمكنت السفرَ .
[الثالث]"[4]": الفروق بين عطف البيان والبدل ثمانية ، منها :
الأول : أن عطف البيان لايكون ضميراً ولا تابعاً للضمير .
الثاني : أن عطف البيان لايخالف متبوعه في التعريف والتنكير بخلاف البدل.
الثالث والرابع : أن عطف البيان لايكون جملة ولاتابعاً لجملة .
الخامس : أنه لايكون فعلاً تابعاً لفعل .
السادس : أنه ليس في نية إحلاله محل الأول ، ولذا يمتنع البدل ويتعين البيان في نحو : يازيد الحارثُ ، وياسعيد كرزٌ .
السابع : أنه ليس في التقدير من جملة أخرى .
[الرابع]"[5]": خبر اسم الشرط إذا وقع مبتدأً فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الخبر فعل الشرط وهو الصحيح .
الثاني : جواب الشرط .
الثالث : مجموعهما .
[الخامس]"[6]": مسوغات الابتداء بالنكرة ذكرَ أنها تنحصر في عشرة أشياء وعدَّها .
[السادس]"[7]": العطف ثلاثة أقسام ؛
[الأول] : عطف على اللفظ وهو الأصل ، مثل : ليس زيدُ بقائم ولا قاعد.
الثاني : عطف على المحل ، نحو : ليس زيدٌ بقائمٍ ولا قاعداً - بالنصب - .(6/201)
الثالث : على التوهم ، نحو : ليس زيد قائماً ولا قاعدٍ ، بجر (قاعد) على توهم دخول الباء في الخبر ، ولكل قسم من هذه الأقسام شروط ذكرها مفصلة .
[السابع]"[8]": عطف الخبر على الإنشاء وبالعكس فيه قولان .
[الثامن]"[9]": عطف الجملة الاسمية على الفعلية وبالعكس فيه ثلاثة أقوال؛ الجواز والمنع ، والثالث ؛ الجواز بالواو فقط .
[التاسع]"[10]": المواضع التي يعود الضمير فيها على متأخر لفظاً ورتبة سبعة وعدّها.
ضمير الفصل"[11]"
يشترط لهذا الضمير ستة شروط ؛
الأول : أن يكون ما قبله مبتدأً ولو منسوخاً .
الثاني : أن يكون معرفة ، وقيل يجوز ‘‘ماظننت أحداً هو القائم’’ .
الثالث : أن يكون مابعده خبراً ولو منسوخاً .
الرابع : أن يكون معرفة أو كالمعرفة في أنه لا يقبل (أل) ، كقوله : {إن ترنِ أنا أقلَّ منك مالاً}"[12]" .
الخامس : أن يكون بصيغة المرفوع ، فيمتنع ‘‘زيدٌ إياه الفاضل’’ .
السادس : أن يطابق ما قبله ، فيمتنع ‘‘ كنت هو الفاضل’’ .
وله ثلاث فوائد :
الأولى :بيان أن مابعده خبر لاتابع .
الثانية : التوكيد .
الثالثة : الاختصاص ، أي الحصر .
وأما محله من الإعراب"[13]"، فزعم البصريون أنه لامحل له وهو حرف عند أكثرهم ، وقال الكوفيون : له محل ما بعده ، وقيل محله ما قبله فمثل : {كانوا هم الغالبين }"[14]" محله النصب عند الكوفيين والرفع على القول الثاني .
روابط الجملة عشرة"[15]"، وذكرها .
الأشياء التي تحتاج إلى رابط أحدعشر"[16]"، وذكرها .
الأمور التي يكتسبها الاسم بالإضافة عشرة"[17]"، وذكرها ، ومن ذلك أنه يكتسب البناء في ثلاثة أبواب ؛
الأول : أن يكون المضاف مبهماً كغير ومثل ودون وبين ، كقوله تعالى : {لقد تقطع بينَكم}"[18]" بناءً على أن (بين) فاعل مبني على الفتح .
الباب الثاني : أن يكون المضاف زماناً مبهماً والمضاف إليه (إذْ) ، كقوله : {ومن خزي يومئذٍ}"[19]" قرئ بفتح (يوم) وكسرها"[20]".(6/202)
الثالث : أن يكون المضاف زماناً مبهماً والمضاف إليه فعل مبني بناءً أصلياً أو عارضاً كقوله :
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبِ عَلَى الصِّبَا
[وَقُلْتُ : أَلمَّا أَصْحُ وَالشَّيبُ وَازِعُ؟]"[21]"
وقوله :
74- [لأَجْتَذِبَنْ مِنْهُنَّ قَلْبي تَحَلُّماً] عَلَى حِينَ يَسْتَصْبِينَ كُلَّ حَلِيمِ"[22]"
فإن كان المضاف فعلاً معرباً أو جملة اسمية فأوجب البصريون الإعراب والصحيح جواز البناء .
الأمور التي لايكون الفعل معها إلا قاصرًا"[23]"
هي عشرون :
الأول : أن يكون على (فَعُلَ) لأنه لأفعال السجايا وما أشبهها ، ولذلك يحول المتعدي قاصراً إذا حول للمبالغة والتعجب نحو : ضَرُب الرجل وفَهُم بمعنى : ما أضربه وما أفهمه.
الثاني والثالث : أن يكون على (فَعَِل) ووصفهما على (فعيل) مثل : ذلَّ وقوي .
الرابع : (أفْعَل) بمعنى صار كذا ، مثل : أحصد الزرع أي صار حصاداً .
الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر : على وزن (افعلَلَّ) كاقشعرَّ ، أو (افوَعَلَّ) كاكْوَهَدَّ الفرخ ، أو (افعنلل) أصلي اللامين كاحرنجم أو زائد أحدهما كاقعنسس ، أو (افعنلى) كاحربنى ، أو (استفعل) دالاً على التحول كاستحجر الطين ، أو (انفعل) كانطلق .
الثاني عشر : أن يطاوع المتعدي لواحد مثل : ضاعفت الحسنات فتضاعفت .
الثالث عشر : أن يكون رباعياً مزيداً فيه،مثل : تدحرج .
الرابع عشر: أن يضمن معنى فعل قاصر نحو : {ولا تعد عيناك عنهم}"[24]".
الخامس عشر إلى العشرين : أن يدل على سجيةٍ كلَؤمَ ، أو عرَض كفَرِحَ ، أو نظافة كطَهُرَ ، أو دنس كنَجِسَ ، أو لون كابيَضَّ ، أو حليةٍ كشَابَ .
الأمور التي يتعدى بها الفعل القاصر"[25]"
هي سبعة أو ثمانية وعدها .
مختصر مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب
الباب الخامس
محمد بن صالح العثيمين
[ الباب الخامس ]
ذكر جهاتٍ يدخل على المعرب الاعتراض من جهتها ، ومنها :(6/203)
الجهة الخامسة"[1]": أن يترك بعض ما يحتمله اللفظ من الأوجه الظاهرة ، وذكر لذلك أمثلةً مرتبةً على الأبواب .
(كافة) :ملتزم فيها شيئان ؛
أولاً : استعماله لمن يعقل .
والثاني : نصبه على الحال .
اشترط النحويون في بعض الجمل أن تكون خبرية وفي بعضها أن تكون إنشائية ، فمن الأول ؛ الصلة والصفة والحال وخبر (كان) وخبر(إنَّ) وخبر ضمير الشان ، قيل وخبر المبتدأ وجواب القسم غير الاستعطافي ، أما الاستعطافي فيكون إنشاءً كقوله :
75- بِعَيشِكِ يَا سَلْمَى ارْحمِي ذَا صَبَابَةٍ
[أَبَى غَيرَ مَايُرْضِيكِ في السِّرِّ وَالجهْرِ]"[2]"
شروط الحذف"[3]"
شروط الحذف ثمانية :
الأول : وجود دليل إن كان المحذوف عمدة ، أما إن كان فضلة فالشرط أن لايكون في حذفه ضرر .
الثاني : ألا يكون ما يحذف كالجزء ، فلا يحذف الفاعل ولا نائبه ولا ما يشبهه .
الثالث : أن لايكون مؤكداً ، فلا يحذف العائد في نحو قولك : الذي رأيته نفسَه زيد .
الرابع : أن لايؤدي حذفه إلى اختصار المختصر ، فلا يحذف اسم الفعل دون معموله .
الخامس : أن لايكون عاملاً ضعيفاً ، فلا يحذف الجار والجازم والناصب للفعل إلا في مواضع قويت فيها الدلالة وكثر استعمالها ولايمكن القياس عليها .
السادس : أن لايكون عوضاً عن الشيء فلا تحذف (ما) في أما أنت منطلقاً ولا التاء من نحو : (عِدَةٌ وزِنَةٌ) .
السابع : أن لا يؤدي حذفه إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه ، فلا يحذف المفعول - وهو الهاء - من ضربني وضربته زيد ، لئلا يتسلط على زيد ثم يقطع عنه برفعه للفعل الأول .
الثامن : أن لايؤدي حذفه إلى إعمال العامل الضعيف مع إمكان إعمال العامل القوي ، فلا يحذف الضمير في : زيد ضربته ، لأنه يؤدي إلى إعمال المبتدأ وإهمال الفعل مع أنه أقوى .(6/204)
المحذوف المقدر ينبغي تقليله ما أمكن ، ولذلك كان تقدير الأخفش في قولهم :‘‘ضربي زيداً قائماً ’’ : ضربي زيداً ضربه قائماً أولى من تقدير باقي البصريين : حاصل إذا كان أو إذ كان قائماً ، لأنه لم يقدر إلا اثنين وهم قدروا خمسة .
إذا دار الأمر بين أن يكون المحذوف المبتدأ أو الخبر ، فقيل يكون المبتدأ وقيل يكون الخبر ، مثاله : { فصبر جميل}"[4]" هل يقدر فصبري صبر جميل أو يقدر فصبر جميل أمثل من ضده .
أذا دار الأمر بين كون المحذوف أولاً أو ثانياً ؛ فكونه ثانياً أولى ، مثاله : نون الوقاية في قوله : { أتحاجونِي }"[5]" بتخفيف النون ، ومثل : مَقُول ومَبِيع المحذوف منهما واو مفعول ، ومثل : إقامة المحذوف منها ألف إفعال ، ومثل : زيد وعمرو قائم ، فقائمٌ خبر للأول ، وقيل للثاني ، وقيل لهما ، ومثل ذلك مالم يوجد مانع من صحة الحذف من الأول أو الثاني فيمتنع .
وقد استطرد المؤلف رحمه الله لما يحذف من الجمل أو الكلمات في مواضع كثيرة ، ثم قال : الحذف الذي يلزم النحوي النظر فيه هو ما اقتضته الصناعة ، وذلك بأن يجد خبراً بدون مبتدأ ، أو شرطاً بدون جزاء ، أو معطوفاً بدون معطوف عليه ، أو معمولاً بدون عامل ، ونحو ذلك ، وأما غير ذلك مثل المحذوف في قوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر}"[6]" أي والبرد فهذا للمفسر لاللنحوي وبحثه في علم النحو فضول .
مختصر مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب
الباب السادس : في أمور اشتهرت بين المعربين و الصواب خلافها
محمد بن صالح العثيمين
الباب السادس
في أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها
قال المؤلف : وهي كثيرة يحضرني منها عشرون موضعاً وذكرها ، ونحن نذكر منها مايلي :
1_ قولهم"[1]" في (إذا) غير الفجائية: إنها ظرف لما يستقبل من الزمان فيها معنى الشرط غالباً ، وأحسن من ذلك أن يقال : ظرف مستقبل خافض لشرطه منصوب بجوابه صالح لغير ذلك.(6/205)
2_ قولهم"[2]": ‘‘ ائتني أكرمْك ’’ إن الفعل مجزوم بجواب الأمر والصواب أنه جواب شرط مقدر .
3_ قولهم"[3]": المجازي التأنيث يجوز معه التذكير والتأنيث ، والصواب أن يقال : المسند إلى المؤنث المجازي يجوز فيه التذكير والتأنيث إذا كان فعلاً أو شبهه والفاعل ظاهرا ، ولذا لايجوز : هذا الشمس ، ولا هو الشمس ، بخلاف طلع الشمس .
4_ قولهم"[4]": النكرة إذا أعيدت نكرةً كانت غير الأولى ، وإن أعيدت معرفة أو كانت معرفةً فأعيدت معرفةً أو نكرة فالثانية هي الأولى ، ويشكل على هذه القواعد الأربع قوله تعالى : {الله الذي خلقكم من ضعف}"[5]" إلخ ، فإن (قوة) أعيدت نكرة ، والثانية هي الأولى ، وقوله تعالى : {أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير}"[6]" فإن الثاني أعم من الأول ، وقوله: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}"[7]" فإن الثاني الجزاء والأول العمل ، وقوله : {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً}"[8]" فالثاني غير الأول ، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن ما خرج عن القاعدة فلقرينة أخرجته .
5_ قولهم"[9]" في : {خلق الله السماوات}"[10]" أنه مفعول به ، والصواب أنه مفعول مطلق يوضحه أن المفعول به ما كان موجوداً قبل الفعل الذي عمل فيه ثم أوقع الفاعل به فعلاً ، والمفعول المطلق ما كان الفعل فيه هو إيجاده ، ومثل ذلك : كتبت كتاباً ، وعملت صالحاً ، بخلاف بعت كتاباً .
6_ قولهم في : (كاد)"[11]": إن إثباتها نفي ونفيها إثبات وهو خطأ والصواب أنها كغيرها إثباتها إثبات ونفيها نفي ، وبيان ذلك أن معناها المقاربة ، فمعنى : كاد يفعل قارب الفعل ، ولم يكد يفعل لم يقارب الفعل ، فإذا انتفت مقاربة الفعل انتفى عقلاً ذلك الفعل ، أما في حال الإثبات فإذا قلت : كاد يفعل ، فمعناه قارب الفعل ولم يفعل ، ولا يرد على ذلك قوله تعالى : {وما كادوا يفعلون}"[12]"مع أنهم فعلوا وذبحوها لأن نفي ذلك في أول الأمر ما قاربوا الفعل ولكنهم بعد فعلوا .(6/206)
إذا قلت : مررت برجلٍ أبيض الوجه لا أحمرَِه ، فإن فتحت الراء فمحل الهاء النصب على التشبيه بالمفعول به ، وإن كسرت الراء فمحل الهاء جر بالإضافة ، لأن (أحمر) لا ينصرف فلا يجر بالكسرة إلا إذا أضيف .
إذا قيل : ما أنت ، فهو مبتدأ وخبر ، وإذا قيل : ما أنت وزيداً ، فما مفعول مقدم لفعل محذوف تقديره : ما تصنع أنت ، وأن فاعل تصنع برز لما حذف الفعل والواو للمعية وزيداً مفعول معه .
مختصر مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب
الباب السابع : في كيفية الإعراب
محمد بن صالح العثيمين
[الباب السابع]
[في كيفية الإعراب]
الباب الثامن
في ذكر أموركلية
القاعدة الأولى"[1]": قد يعطى الشيء حكم ما أشبهه كقوله تعالى : {ولم يعْي بخلقهن بقادر }"[2]" دخلت الباء في خبر(إنَّ) لأن هذه الجملة بمعنى : أوَليس الله بقادر ، وكقولهم : ‘‘علمت زيدٌ من هو’’ برفع زيد جوازاً لأنه نفس (من) المعنى ، وكقولهم : ‘‘ إن أحداً لايقول ذلك ’’ حيث استعملوا (أحداً) في الإثبات لأنه نفس الضمير المستتر في يقول .
القاعدة الثانية"[3]": قد يعطى الشيء حكم الشيء إذا جاوره كقول بعضهم : ‘‘ هذا جُحُرُ ضبٍّ خربٍ ’’ بالجر ، والأكثر الرفع ، وكقولهم : رِجْسٌ نِجْسٌ ، والأصل : نَجِس ، وكقولهم : ‘‘ أخَذَه ما قدُم وما حدُث’’ بضم دال حدث .
القاعدة الثالثة"[4]": قد يشرب لفظ معنى لفظ آخر فيعطى حكمه ويسمى ذلك تضميناً ، وفائدته أن تؤدى كلمة واحدة مؤدى كلمتين كقوله تعالى : {يشرب بها عباد الله}"[5]" أي يروى بها .
القاعدة الرابعة"[6]": التغليب يغلبون الشيء مع غيره عليه كقولهم : الأبوين وقولهم : الخافقين للمشرق والمغرب ، أي المخفوق فيه .(6/207)
القاعدة الخامسة"[7]": يعبر بالفعل عن وقوعه وهو الأصل ، وعن مشارفته ، كقوله تعالى: { فبلغنَ أجلهنَّ }"[8]" وعن إرادته وأكثر ما يكون ذلك بعد أداة الشرط ، كقوله : {فإذا قرأت القرآن}"[9]" وقوله : { وكم من قريةٍ أهلكناها فجاءها بأسنا }"[10]" أي أردنا إهلاكها .
القاعدة السادسة"[11]": يعبر عن الماضي والآتي كما يعبر عن الحاضر قصداً لإحضاره في الذهن ، كقوله تعالى : { وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة }"[12]" لأن لام الابتداء للحال .
القاعدة السابعة"[13]": قد يكون اللفظ على تقدير ، وذلك المقدر على تقدير آخر ، قالوا عسى زيد أن يقوم ، أي قياماً أي قائماً وقيل على حذف مضاف أي عسى أمر زيد قياماً أو عسى زيد صاحب قيام .
القاعدة الثامنة"[14]": قد يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل ، كقولهم: رب رجلٍ وأخيه . فعملت (رب) في (أخيه) وهو معرفة ولو باشرها لم تعمل فيه .
القاعدة التاسعة"[15]": يتوسعون في الظرف والمجرور ما لايتوسعون في غيرهما ، فأجازوا الفصل بهما بين الفعل الناقص ومعموله بين فعل التعجب والمتعجب منه وبين الحرف الناسخ ومنسوخة وبين الاستفهام والقول الجاري مجرى الظن وبين حرف الجر ومجروره وبين المضاف والمضاف إليه وبين (إذن) و(لن) ومنصوبهما وقدموهما خبرين على الاسم في باب (إنَّ) ومعمولين للخبر في باب (ما) ومعولين لصلة (أل) وعلى الفعل المنفي بـ(ما) وعلى (إن) معمولين لخبرها وعلى العامل المعنوي .
القاعدة العاشرة"[16]": من فنون كلامهم القلب ، وأكثر ما يقع في الشعر ، كقوله :
76- وَمَهْمَهٍ مُغْبَرَّةٍ أَرْجَاؤهُ كَأَنَّ لَونَ أَرْضِهِ سمَاؤهُ"[17]"
أي كأن لون سمائه لون أرضه ، ومنه في غير الشعر : أدخلت القلنسوة في رأسي ، والأصل : أدخلت رأسي في القلنسوة .(6/208)
القاعدة الحادية عشرة"[18]": من ملح كلامهم تقارض اللفظين في الأحكام ، ولذلك أمثلة منها : إعطاء كلمة (غير) حكم (إلا) في الاستثناء ، وإعطاء حكم (إلا) حكم (غير) ، ومنها إعطاء (أن) حكم (ما) المصدرية في الإهمال وبالعكس ، ومُثِّل له بقوله : ‘‘ كما تكونوا يولى عليكم ’’"[19]" ذكره ابن الحاجب ، والمعروف : ‘‘كما تكونون’’ ، ومنها : إعطاء (إن) حكم (لو) في الإهمال وبالعكس ، ومنها : إعطاء (إذا) حكم (متى) في الجزم بها وبالعكس ، ومنها : إعطاء (لم) حكم (لن) في النصب بها وبالعكس كقوله:
لن يخب الآن من رجائك من حرك دون بابك الحلقة"[20]"
[58]
ومنها إعمال (ما) النافية عمل (ليس) وإهمال (ليس) عند انتقاض النفي ، ومنها إعطاء (عسى) حكم (لعل) في العمل كقوله :
* يا أبتا علك أو عساكا *"[21]"
[33]
وإعطاء (لعل) حكم (عسى) في اقتران خبرها بـ(أن) كقوله : ‘‘ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ’’"[22]" ، ومنها إعطاء الفاعل إعراب المفعول وبالعكس عند أمن اللبس ، كقولهم : ‘‘خرق الثوبُ المسمارَ’’ وسمع نصبهما كقوله :
77- قَدْ سَالَمَ الحَيَّاتِ مِنْهُ القَدَمَا [الأفْعُوَانَ وَالشُّجَاعَ الشَّجْعَمَا
وَذَاتَ قَرْنَينِ ضَمُوزاً ضِرْزِمَا]"[23]"
في رواية من نصب الحياتِ ، وسمع رفعهما كقوله :
78- [إِنَّ مَنْ صَادَ عَقْعَقاً لمَشُومُ] كَيْفَ مَنْ صَادَ عَقْعَقَانِ وَبُومُ"[24]"
وبهذا تم ما أردنا نقله مختصراً من مغني اللبيب في يوم الخميس
الموافق 6 ربيع الأول سنة 1389هـ والحمد لله الذي
بنعمته تتم الصالحات وصلى وسلم الله على
نبينا محمدوآله وصحبه مدى الأوقات
آمين آمين
آمين
---
[1] - انظر : المغني ص884.
[2] - سورة الأحقاف . الآية : 33 .
[3] - انظر : المغني ص894.
[4] - انظر : المغني ص897.
[5] - سورة الإنسان . الآية : 6 .
[6] - انظر : المغني ص900.
[7] - انظر : المغني ص902.
[8] - سورة البقرة . الآيات : 231 و 232 و 234 .(6/209)
[9] - سورة الإسراء .الآية : 45 .
[10] - سورة الأعراف . الآية : 4 .
[11] - انظر : المغني ص905.
[12] - سورة النحل . الآية : 124 .
[13] - انظر : المغني ص907.
[14] - انظر : المغني ص908.
[15] - انظر : المغني ص909.
[16] - انظر : المغني ص911.
[17] - هذا الرجز لرؤبة ، انظر : الإنصاف 1/773 ، وشرح المفصل 2/118 ، وشرح الشذور ص443 ، روي ( وبلدٍ مغبرةٍ أرجاؤه ) و ( وبلدٍ عاميةٍ أعماؤه ) . الشاهد فيه : الشطر الثاني حيث قلب التشبيه للمبالغة ، فأصله : كأن لون سمائه لون أرضه .
[18] - انظر : المغني ص915.
[19] - أخرجه الديلمي ، والبيهقي في شعب الإيمان (عن سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، للألباني 1/328).
[20] - سبق ذكره عند الكلام عن (لن) ص .
[21] - سبق ذكره في الكلام عن (عسى) .
[22] - رواه البخاري في الشهادات باب (27) ومسلم في الأقضية رقم(4) وأحمد 6/3330 رقم (26484) عن أم سلمة رضي الله عنها .
[23] - هذا الرجز لعبد بني عبس أو لأبي حيان الفقعسي أو للعجاج أو لمساور بن هند العبسي أو للدبيري ، انظر : الكتاب 1/287 ، والمقتضب 3/283 ، والخصائص 2/430 والهمع 1/165 ، واللسان مادة : (شجعم) ، والدرر 3/6 . الشاهد فيه : (الحياتِ) فإنها الفاعل عطيت إعراب المفعول لأمن اللبس .
[24] - هذا بيت من الخفيف للطرمَّاح بن حكيم ، انظر : الهمع 1/156 ، والدرر 3/5 . ومعجم شواهد العربية 1/358 . الشاهد فيه : (عقعقان وبوم) فإنهما أعطيا إعراب الفاعل ، مع أنهما مفعولان .
---
[1] - انظر : المغني ص854.
[2] - انظر : المغني ص857.
[3] - انظر : المغني ص860.
[4] - انظر : المغني ص861.
[5] - سورة الروم . الآية : 54 .
[6] - سورة النساء . الآية : 128 .
[7] - سورة الرحمن . الآية : 60 .
[8] - سورة النساء . الآية : 153 .
[9] - انظر : المغني ص867.
[10] - سورة التوبة . الآية : 36 .
[11] - انظر : المغني ص868.(6/210)
[12] - سورة البقرة . الآية : 71 .
---
[1] - انظر : المغني ص722.
[2] - هذا بيت من الطويل ، انظر : الهمع 2/41 ، والدرر 4/221 ، ومعجم شواهد العربية 1/175 ، الشاهد فيه : (بعيشك ارحمي) فإن جملة جواب القسم الاستعطافي (ارحمي) إنشائيةً .
[3] - انظر : المغني ص786.
[4] - سورة يوسف . الآيتان : 18 ، و83 .
[5] - سورة الأنعام . الآية : 80 ، قرأ بتخفيف النون نافع وابن ذكوان وهشام بخلاف عنه ، والباقون بتخفيف النون . انظر : الدر المصون 5/15 .
[6] - سورة النحل . الآية :81 .
---
[1] - انظر : المغني ص588.
[2] - انظر : الكتاب 2/128 .
[3] - انظر : المغني ص592.
[4] - انظر : المغني ص593.
[5] - انظر : المغني ص608.
[6] - انظر : المغني ص608.
[7] - انظر : المغني ص615.
[8] - انظر : المغني ص627.
[9] - انظر : المغني ص630.
[10] - انظر : المغني ص635.
[11] - انظر : المغني ص641.
[12] - سورة الكهف . الآية : 39 .
[13] - انظر : الإنصاف 2/706 .
[14] - سورة الصافات . الآية :116 .
[15] - انظر : المغني ص647.
[16] - انظر : المغني 653.
[17] - انظر : المغني ص663.
[18] - سورة الأنعام . الآية :94 .
[19] - سورة هود . الآية :66 .
[20] - بفتحها قراءة نافع والكسائي ، وقرأ الباقون بكسرها ، انظر : الدر المصون 6/349 .
[21] - هذا بيت من الطويل ، للنابغة الذبياني ، من قصيدة مطلعها :
عفا ذو حسا من فرتنى فالفوارع * فجنبا أريك فالتلاع الدوافع
انظر : الديوان ص96 ، والكتاب 2/330 ، والإنصاف 1/292 ، وشرح الشذور ص93 ، والدرر 3/144 . الشاهد فيه : (على حينَ عاتبت) فإن المضاف زمان مبهم والمضاف إليه فعل مبني بناء أصلياً وهو (عاتبَ) .(6/211)
[22] - هذا بيت من الطويل ، انظر : التصريح 2/42 ، والهمع 1/218 ، والدرر 3/145 ، ومعجم شواهد العربية 1/367 . الشاهد فيه : (على حينَ يستصبين) فإن المضاف زمان مبهم وهو(حين) والمضاف إليه فعل مبني بناءً عارضاً وهو (يتصبين) لأنه فعل مضارع اقترنت به نون النسوة .
[23] - انظر : المغني 674.
[24] - سورة الكهف . الآية : 28 .
[25] اتظر : المغني ص678.
---
[1] - انظر : المغني ص566.
[2] - سورة القلم . الآية : 2 .
[3] - سورة النساء . الايتان : 79 ، و 166 .
[4] - انظر : المغني ص578.
[5] - انظر : الإنصاف 1/51.
---
[1] - انظر : المغني ص492.
[2] - انظر : المغني ص497.
[3] - انظر : المغني ص500.
[4] - سورة آل عمران . الآية :59 .
[5] - سورة المؤمنون . الآية : 27 .
[6] - هذا بيت من الطويل ، انظر : شرح المفصل 8/140 ، والدرر 4/21 ، ومعجم شواهد العربية 1/302 . الشاهد فيه : (أي أنت مذنب) فإن هذه الجملة مفسرة مقرونة بـ(أي) .
[7] - سورة يس . الآية : 2،3 .
[8] - انظر : المغني ص536.
[9] - سورة الغاشية . الآية : 23 .
[10] - سورة البقرة . الآية : 6 .
[11] - انظر : المغني ص560.
[12] - سورة الأنبياء . الآية : 50 .
[13] - سورة الجمعة . الآية : 5 .
---
[1] - انظر : المغني ص17 .
[2] - هذا بيت من الطويل لامرئ القيس من معلقته المشهورة ،* قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * انظر : الديوان ص147 وشرح الزوزني ص21 و التصريح 2/189 ، والهمع 1/173 والدرر 3/16.الشاهد : قوله : (أفاطمَ) فقد استعمل الهمزة لنداء القريب .
[3] - هذا بيت من الطويل لعمر بن أبي ربيعة ، انظر : الديوان ص 380 ، وهو فيه :
فوالله ما أدري وإني لحاسب * بسبع رميت الجمر أم بثمان
والكتاب 3/175 ، والمقتضب 3/294 ، وشرح المفصل 8/154 الشاهد : قوله : (بسبع)، فالمراد: أبسبع .
[4] - سورة الشرح ، الآية : 1 .
[5] - سورة الروم . الآية :9 .
[6] - سورة يونس . الآية : 51 .(6/212)
[7] - وسورة يوسف . الآية : 109.
[8] - سورة الأنبياء ، الآية : 108 .
[9] - انظر : الكتاب : 3 / 187 وما بعدها .
[10] - فتقدر الأولى مثلاً : أَمَكَثوا ولم يسيروا . (الهمع 2/69) .
[11] - انظر : المغني ص24.
[12] - سورة البقرة ، الآية : 6 .
[13]- سورة الزخرف . الآية : 19 .
[14] - سورة الشرح ، الآية : 1 .
[15] - سورة الأنعام ، الآية : 164 .
[16] - سورة هود . الآية : 87.
[17] - سورة آل عمران . الآية : 20.
[18] - سورة الفرقان . الآية :45.
[19] - سورة الحديد .الآية:16.
[20] - انظر : المغني ص29.
[21] - انظر : المغني ص30.
[22] - وهو الصحيح كما قال المرادي ، وقد ذهب بعض الكوفيين والدنوشري إلى أنها اسم . (حاشية يس على التصريح 2/234).
[23] -سورة المؤمنون . الآية : 91.
[24] - انظر : المغني ص33.
[25] -سورة الأنفال . الآية : 38.
[26] - سورة المجادلة .الآية : 2.
[27] - سورة الكهف . الآية : 5.
[28] -سورة يونس .الآية : 68.
[29] - انظر : الإنصاف في مسائل الخلاف . 1 / 195.
[30] - هذا بيت من البسيط ، لم أجد قائله ، انظر شرح التسهيل 1/370 والتصريح 1/196 والهمع 2/112 والدرر 2/101 . وقد ورد هذا البيت بنصب (ذهب) وبرفعها ، فالرفع على أن (إن) زائدة وقد أبطلت عمل (ما) النافية فلا تعمل عمل ليس . أما بالنصب فعلى أن (إن) نافية مؤكدة لـ(ما) . انظر : عدة السالك 1/275 .
[31] -انظر : المغني ص41.
[32] - سورة البقرة . الآية : 148.
[33] - سورة الأعراف . الآية : 129 .
[34] - سورة البقرة .الآية : 233.
[35] - وهي قراءة مجاهد وتروى عن ابن عباس ، انظر : الدر المصون 2/463 .
[36] - سورة طه .الآية : 89.(6/213)
[37] - هذا بيت من المتقارب ، لجنوب (أو عمرة) بنت العجلان الهذلية .انظر : الإنصاف 1/207 وشرح المفصل 8/75 والتصريح 1/232 . الشاهد فيه : (بأنْك ربيع) فقد ذكر اسم (أنْ) وهو كاف الخطاب وجاء خبرها مفرد وهو (ربيع) وفي الشطر الثاني جاء الخبر جملة فجاز الأمران .
[38] - سورة المؤمنون .الآية:27.
[39] - وذلك لأنك لو أتيت بـ(أي) مكان (إن) في قولك : كتبت إليه أن قم ، لم تجده مقبولاً . (المغني -تحقيق عبد الحميد- 1/39 ).
[40] - سورة المائدة .الآية :117.
[41] - سورة يوسف .الآية : 96.
[42] - فتكون كـ(إن) المكسورة ، وذلك لأدلة منها تواردهما في الموضع الواحد ، كقوله تعالى :{أن تضل إحداهما}. انظر : المغني -عبد الحميد- 1/44 ، وشرح المفصل 2/99.
[43] -سورة ق . الآية : 2 .
[44] - انظر : المغني ص55.
[45] - هذا بيت من الطويل لعمر بن أبي ربيعة ، انظر : شرح التسهيل 2/9 والهمع 1/134والأشموني 1 /230 ولم أجده في الديوان ، الشاهد فيه : نصب (أسداً) وهي خبر إنَّ ، وخرج على أن الجزء الثاني حال والخبر محذوف ، فيكون التقدير : إنَّ حراسنا تلقاهم أسداً .(حاشية الصبان 1/269).
[46] - انظر : المغني ص55.
[47] - انظر : المغني ص61.
[48] - الآية هي قوله تعالى : { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } . في سورة المنافقون .رقم : 6.
[49] - هذا بيت من الطويل للأسود بن يعفر أو للعين المنقري ، انظر : الكتاب 3/154 . والمقتضب 3/294 والتصريح 2/143. الشاهد فيه : حذف همزة الاستفهام في قوله : (شُعيث) وذلك للضرورة لدلالة (أم) عليها ، فالأصل : أشُعَيث .
[50] - سورة السجدة .الآيتان :2-3.
[51] - سورة الرعد .الآية : 16.
[52] - سورة الأعراف . الآية : 195.
[53] - انظر تعليق محي الدين عبد الحميد في أوضح المسالك 3/374.(6/214)
[54] - هذا بيت من البسيط قاله : سعد بن جؤية .انظر : الهمع 2/134 والدرر 6/115 . الشاهد فيه : (أم هل) فأم هنا زائدة .
[55] -انظر : المغني ص71.
[56] - هذا بيت من الطويل لابن ميادة يمدح الوليد بن يزيد بن عبدالملك .انظر : الإنصاف 1/317 وشرح المفصل 1/44 وشرح التسهيل 1/41 . الشاهد فيه : (اليزيد) حيث إن (أل) هنا زائدة .
[57] - مثل عربي ، قال في اللسان : أي جاءوا بجماعتهم الشريف والوضيع ولم يتخلف أحد وكانت فيهم كثرة ، 5/27 . الشاهد : دخول الألف واللام شذوذاً على الحال .
[58] - انظر : المغني ص78.
[59] - هذا بيت من الوافر لأبي العتاهية . التمثيل فيه : ( أما والله) فقد استعمل (أما) حرف استفتاح .
[60] - انظر : المغني ص79.
[61] - انظر : المغني ص84 .
[62] - سورة التوبة .الآية : 106.
[63] - سورة الكهف .الآية : 86.
[64] - سورة الإنسان.الآية : 3.
[65] - انظر : المغني ص87.
[66] - سورة الكهف .الآية : 24.
[67] - سورة سبأ . الآية : 24.
[68] - سورة الإنسان . الآية : 24.
[69] - هذا بيت من الطويل لتوبة بن الحُميًّر - صاحب ليلى الأخيلية - انظر : أمالي القالي 1/88 و تجريد الأغاني . القسم الأول 3/1286 والهمع 2/134 والدرر 6/117 ، من قصيدة مطلعها :
نأتك بليلى دارها ماتزورها * وشطت نواها واستمر مريرها
الشاهد فيه : ( أو عليها) حيث استعمل (أو) كالواو .
[70] - انظر : الإنصاف 2/478، وتابعهم أبو علي الفارسي وابن برهان (التصريح 2/145).
[71] - هذا بيت من البسيط لجرير ، انظر : الديوان ص 120 والهمع 2/134 والدرر 6/186 . الشاهدفيه : ( أو زادوا) حيث جاءت (أو) للإضراب بمعنى (بل) .
[72] - انظر : الأمالي الشجرية 2/320.
[73] - انظر : المغني ص95.
[74] - سورة يونس .الآية : 62.
[75] - سورة هود . الآية: 8.(6/215)
[76] - هذا بيت من البسيط ، لم أجد قائله ، انظر : شرح التسهيل 2/70 والأشموني 1/266 والدرر 2/232. الشاهد فيه : ( ألا ارعواء ) فقد استعمل (ألا) - جميعها- للتوبيخ والإنكار .
[77] - هذا بيت من الطويل ، انظر شرح التسهيل 2/70 والتصريح 1/245 ، والأشموني 1/266 . الشاهد فيه : (ألا عُمرَ ) حيث استعمل (ألا) للتمني .
[78] - هذا بيت من البسيط ، روي لمجنون بني عامر ، ومن نسبه إليه أبدل ( سلمى ) بـ ( ليلى ) ، وقد رأيته في الديوان (ص157) ، قال : ( إذًا ) . وفسره بتفسير مخالف لمعنى من استشهدوا به على وقوع الاستفهام عن النفي ، هذا مافهمت والله أعلم ، وانظر : شرح التسهيل 2/70 ، والدرر 2/229 .
[79] - سورة النور .الآية : 22.
[80] -انظر : المغني ص98.
[81] - وهو رأي الكوفيين ، انظر : الإنصاف 1/260 ، وشرح المفصل 2/76.
[82] - سورة النساء . الآية : 66.
[83] - انظر : المقتضب 4/402 .
[84] - سورة المؤمنون . الآية : 22.
[85] - آية المؤمنون .
[86] - انظر : الإنصاف 1/266 .
[87] - منهم المازني ، انظر : شرح المفصل 7/107 ، والانتصاف من الإنصاف 1/107.
[88] - انظر : المغني ص102.
[89] - انظر : المغني ص104.
[90] - سورة البقرة . الآية : 187.
[91] - انظر : حاشية الصبان 2/215.
[92] - سورة يوسف . الآية : 33.
[93] - سورة النمل . الآية : 33.
[94] - سورة إبراهيم . الآية : 37. ، انظر : حاشية الصبان 2/214.
[95] - انظر : المغني ص105.
[96]- سورة يونس . الآية : 53.
[97] - انظر : المغني ص106.
[98] - انظر : المغني ص107.
[99] - سورة الأنفال . الآية :65.
[100] - انظر : المغني ص117.
[101] - سورة البقرة .الآية :50.
[102] - سورة مريم . الآية : 16.
[103] - سورة آل عمران . الآية : 8 .
[104] - سورة غافر . الآية :71.
[105] - سورة الزخرف . الآية :39 .
[106] - انظر : الهمع 1/205.(6/216)
[107] - هذا بيت من البسيط ، لعثمان بن لبيد العذري ، أو عثير بن لبيد ، انظر : الكتاب 3/528 . و في شرح الشذور وشرح شواهده نسبه إلى عنبر بن لبيد والظاهر أنه تصحيف . وهذا البيت من قصيدة مطلعها :
يا قلب إنَّك من أسماء مغرور * فاذكر وهل ينْفعنْك اليوم تذكير
انظر : شرح شذور الذهب ص144. وشرح شواهد الشذور ص 94 والتي بعدها .
الشاهد فيه : ( فبينما العسر إذ دارت ) حيث جاءت(إذ) للمفاجأة بعد (بينما) .
[108] - انظر : الهمع 1/205.
· والألف في (بينا) للإشباع وبين مضافة إلى الجملة ويؤيده أنها قد أضيفت إلى المفرد . ذكره لك قُبيل بحث حرف الياء .
[109] - انظر : المغني ص120.
[110] - انظر : الهمع 1/206.
[111] - هذا بيت من الكامل ، روي : فتحمل بالحاء المهملة ويروى بالجيم ( فتجمل ) ، وهو لعبدقيس بن خفاف أو لحارثة بن بدر الغداني ، انظر : شرح الأشموني 2/323 . والدرر 3/102 ومعجم شواهد العربية 1/319. الشاهد فيه : الشطر الثاني كله حيث جزمت (إذا) فعلي الشرط ضرورةً .
[112] - سورة الجمعة . الآية : 11.
[113] - سورة الليل . الآية : 1.
[114] - انظر : الهمع 1/207.
[115] - انظر : المغني ص136.
[116] - انظر : المغني ص137.
[117] - سورة البقرة . الآية : 17.
[118] - سورة النساء .الآية: 166.
[119] - انظر : إعراب القرآن المنسوب له 2/669 ، و سر صناعة الإعراب 1/142.
[120] - هذا بيت من الوافر لقيس بن زهير العبسي . انظر : الكتاب 3/315 والتي بعدها ، والإنصاف 1/30 ، والأشموني 1/66. الشاهد فيه : ( بما لاقت ) حيث جاءت الباء زائدةً مع الفاعل فما فاعل (تأتِ) وذلك للضرورة .
[121] - سورة الحج . الآية: 15.
[122] - انظر : شرح الكافية الشافية 1/337.(6/217)
[123] - هذا بيت من البسيط . انظر : شرح التسهيل 1/385 و شرح شواهد المغني 1/340(عن المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية) ومعجم شواهد العربية 1/313 . الشاهد فيه : (بمزءود ) حيث جاءت الباء زائدةً مع الحال المنفي ، فإن مزءود حال من التاء منفي بما . وإن سألت عن معنى المزءود فهو الفزِع .
[124] - انظر : المغني ص150.
[125] - انظر : سر صناعة الإعراب 1/135.
[126] - انظر : المغني ص151 .
[127] - سورة الأنبياء . الآية : 26.
[128] - سورة الأعلى . الآية : 16.
[129] - هذا بيت من الخفيف ، انظر : شرح التسهيل 3/370 والهمع 2/ 136والتصريح 2/148 والدرر 6/135 ومعجم شواهد العربية 1/298 . الشاهد فيه : ( وجهك البدر لا بل الشمس ) فإن لا فيه لتوكيد الإضراب بعد الإيجاب .
[130] - انظر : المغني ص153.
[131] - سورة التغابن . الآية :7.
[132] - سورة الزخرف . الآية : 80 .
· وإذا كان الاستفهام للتقرير فيجاب بـ(بلى) على الأكثر كما هنا مراعاة للفظ ، وقد يجاب بـ(نعم) عند أمن اللبس مراعاة للمعنى ، كقول جحدر [ بن ربيعة العكْلي ، الشاعر الأموي صاحب الحكاية المشهورة مع الحجاج ] :
نعم وترى الهلال [ كما أراه * ويعلوها النهار كما علاني ]
بعد قوله:
أليس الليل يجمع أم عمرٍو * [ وإيانا فذاك لنا تدان ]
[133] - سورة الأعراف . الآية : 172.
[134] - رواه مسلم في الإيمان باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة . رقم : (773) عن ابن عباس رضي الله عنهما .
[135] - انظر : المغني ص158.
[136] - سورة النساء .الآية: 100.
[137] - رواه مسلم في الطهارة . باب النهي عن البول في الماء الراكد . رقم (95) ، وأحمد ج2ص477 رقم (8714) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
[138] -انظر : شرح الكافية الشافية 3/1607 ، وشواهد التوضيح والتصحيح ص162 .
[139] انظر : المغني ص162.
[140] - انظر : المغني ص163.
[141] - انظر : المغني ص164.
[142] - انظر : الكتاب 2 /349.(6/218)
[143] - انظر : الإنصاف 1/278 وما بعدها .
[144] - انظر : المغني ص166.
[145] - هذا بيت من الوافر ، انظر : الأشموني 1/460 والتصريح 2/3 والهمع 2/23 والدرر 4/111 . الشاهد فيه : ( حتاك ) فقد جر بـ(حتى) كاف الخطاب فجر مضمراً وهذا للضرورة .
[146] - هذا بيت من الطويل ، روي : ( فأنتمو تخشوننا) ، وروي : ( وأنتم تخافوننا) انظر : شرح التسهيل 3/358 و الهمع 2/136 والدرر 6/139 . الشاهد فيه : (حتى الكماةَ ) و (حتى بنينا ) فإن معطوف حتى غاية لما قبلها ، فالأول في الزيادة والثاني في النقص .
[147] - هذا بيت من الطويل لجرير انظر : الديوان ص344 ، وشرح المفصل 8/ 18 والهمع 1/248 والدرر 4/112 ، من قصيدة مطلعها :
أجدَّك لايصحو الفؤاد المعلل * وقد لاح من شيبٍ عذار ومسحلُ
الشاهد فيه : ( حتى ماءُ .. ) برفع : ماء ، حتى هنا : حرف تبتدأ به الجملة ، فدخلت على الجملة الاسمية .
[148] - انطر : الدر المصون 2/382.
[149] - سورة البقرة . الآية : 214.
[150] - سورة الأعراف .الآية : 95.
[151] - انظر : المغني ص168.
[152] - سورة طه .الآية :91.
[153] - سورة الحجرات . الآية : 9.
[154] - هذا بيت من الكامل ، انظر : شرح الأشموني 2/293 ومعجم شواهد العربية1/298 ، الشاهد فيه : (حتى تجود) فقد دخلت (حتى) الجارة على الفعل المضارع فنصب بعدها بـ(أن) مضمرة وإضمارها للوجوب وهي مرادفة هنا لـ(إلا) الاستثنائية .
[155] - سورة البقرة . الآية : 214.
[156] - انظر : المغني ص173.
[157] - انظر : المقتضب 2/39.
[158] - انظر : المغني ص176 .
[159] - هو أبو الفتح عثمان ابن جني ، وذلك في كتاب : ‘‘التمام في نفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري’’ (مغني اللبيب ص178).(6/219)
[160] - هذا الرجز ، لم أجد له قائلاً ، انظر: شرح المفصل 4/90 وشرح الشذور ص147 وابن عقيل 2/54 والدرر 3/124 . الشاهد فيه : (حيثَ سُهيلٍ ) فقد أعرب (حيث) بنصبها على أنها مفعول به وأضافها إلى مفرد وهو : (سهيل) .
[161] - انظر : المغني ص178.
[162] - انظر : المغني ص179.
[163] - انظر : الدرر 2/12، والهمع 2/25، والإنصاف 2/832 .
· أي فلاتحتج إلى متعلق .
[164] - انظر : المغني ص184.
[165] - انظر : الكشاف 1/315.
[166] - انظر : المغني ص185.
[167] - سورة الضحى . الآية :5.
[168] - هذا بيت من الوافر لزهير بن أبي سُلمى المزني ، انظر : الديوان ص12 والهمع 1/153 الدرر 2/261 ، من قصيدته الحولية :
عفا من آل فاطمة الجواء * فيمنٌ فالقوادم فالحِساء
التي منها البيت المشهور :
وإن الحق مقطعه ثلاث * يمينٌ أو نفارٌ أو جلاءُ
الشاهد فيه : (وسوف إخال أدري) : فقد فصلت (سوف) عن الفعل بفعل ملغى وهو : (إخال) وسبب إلغائه هو وقوعه بين(سوف) والفعل . انظر : همع الهوامع 2/230.
[169] - انظر : المغني ص186.
[170] - هذابيت من البسيط ، انظر : شرح التسهيل 3/160 والهمع 1/235 والدرر 3/186، الشاهد فيه : (لاسِيَمَا ) فإنها مخففة والواو محذوفة .
[171] - سورة القصص .الآية :28.
[172]- انظر : المغني ص178.
[173] - سورة طه . الآية :58.
[174] - سورة آل عمران . الآية :113.
[175] - سورة الصافات . الآية : 55.
[176] - هذا بيت من الكامل ، انظره في اللسان مادة (سوا) وفي معجم الشواهد يرى أن الأحزاب تصحيف والصواب (الأجراف) ونسبه إلى حسان أو رجل من بني الحارث ، انظره 1/65 و1/241 . الشاهد فيه : (سوى حذيفة) إذ أتت (سوى) بمعنى القصد مكسورةً .
[177] - قال ابن مالك : ولسوىً سُوى سواء اجعلا * على الأصح مالغير جعلا . (الألفية ص50)
وقال في الكافية : *(سوى) كـ(غير) في جميع ماذكر* 2/716 . وانظر التصريح 1/362.(6/220)
[178] - الكتاب 1/407 ، والكافية 2/716 ، والتصريح 1/362 .
[179] - الإنصاف 1/294 .
[180] - انظر : المغني ص189.
[181] - سورة الزخرف .الآية :13.
[182] -سورة طه . الآية:10.
[183] - سورة الشعراء .الآية : 14.
[184] - سورة البقرة . الآية: 177.
[185] - هذا بيت من الوافر لقحيف العامري انظر : المقتضب 2/320 والخصائص 2/311 والإنصاف 2/630 والأشموني 1/469 ، والدرر 4/135 ، الشاهد فيه : (عليَّ) فإنها بمعنى : عني .
[186] - سورة البقرة . الآية : 185 .
[187] - سورة القصص . الآية : 15.
[188] - سورة المطففين . الآية : 2.
[189] - سورة الأعراف . الآية :105.
[190] - هذان بيتان من الطويل من أبيات لابن الدمينة عبدالله بن عبيدالله الخثعمي ، أولها :
ألا يا صبا نجد متى هجتِ من نجدِ * فقد زادني مسراكِ وجداً على وجدِ
انظر شرح المفصّل 8/119. وتجريد الأغاني القسم الثاني 2/1829 ومعجم شواهد العربية 1 /109. الشاهد فيهما : (على أن قرب الدار) فقد استدرك بـ(على) قوله :(فلم يُشفَ مابنا) ، واستدرك بـ(على) الثانية قوله : (على أن قرب الدر خير من البعد) .
[191] - هذا بيت من الطويل لمزاحم بن الحارث العقيلي ، يصف قطاةً . انظر : الكتاب 4/231 والمقتضب 3/53 وشرح المفصل 8/38. وأوضح المسالك 3/58 والدرر 4/187. وقد روي البيت :
غدت مِن عليه بعد ما تم خِمسها * تصل ، وعن قيضٍ ببيداء مجهل
الشاهد فيه : ( من عليه) فـ(على) هنا اسم بمعنى (فوق) - مبني على السكون في محل جر - لدخول (من) عليها .
[192] -انظر : المغني ص196.
[193] - رواه مسلم ، في الصيام ، باب قضاء الصيام عن الميت ، رقم : (156) وروى أحمد نحوه ج1ص279 رقم (1969) عن ابن عباس رضي اله عنهما .
[194] - سورة محمد . الآية : 38 .
[195] - سورة التوبة . الآية : 114.
[196] - سورة الانشقاق . الآية : 19.
[197] - سورة الشورى .الآية : 25.
[198] - سورة النجم . الآية : 3.(6/221)
[199] - هذا بيت من الكامل . لقطري بن الفجاءة الخارجي . انظر : شرح المفصل 8/40 ، وأوضح المسالك 3/57. وابن عقيل 2/30 وشرح شواهد المغني 1/439. الشاهد فيه : ( مِن عن يميني ) فإن (عن) اسم بمعنى جانب ، مبني على السكون في محل جر ، وذلك لدخول (مِن) عليها .
[200] - هذا بيت من الطويل . انظر : الهمع 2/36 والدرر 4/191. الشاهد فيه : ( على عن ) فإن (عن) هنا اسم مبني على السكون في محل جر ، وذلك لدخول (على) عليها .
[201] - انظر : المغني ص200.
[202] - انظر : المغني ص201.
[203] - هذا رجز لرؤبة بن العجاج ، انظر : الكتاب 2/374 ، والإنصاف 1/222 ، والأشموني 1/228. الشاهد فيه : (عساكا) فإن (عسى) هنا حرف - للترجي مثل (لعل) . انظر: الانتصاف من الإنصاف 1/223 -لاتصالها بضمير النصب وهو كاف الخطاب .
[204] - سورة البقرة . الآية :216.
[205] - انظر : الكتاب 3/157.
[206] - انظر : المقتضب 3/68.
[207] - انظر : المغني ص205.
[208] - انظر : المغني ص206.
[209] - سورة النساء . الآية : 40.
[210] - انظر : المغني ص209.
[211] - سورة فاطر . الآية : 37.
[212] - سورة الفاتحة . الآية : 7.
[213]- هذا بيت من البسيط لرجلٍ من بني كنانة ، انظر : الكتاب 2/329 ، وانظره في اللسان والقاموس مادة (وقل). الشاهد فيه : (غيرَ أن) حيث جاءت (غير) مبنية لإضافتها إلى مبني وهو (أن) المصدرية .
[214] - هذا الرجز لم أجد قائله ، انظره في شرح التسهيل 2/313 ومعجم شواهد العربية 2/476 . الشاهد فيه : (غيرَه) فقد بنيت لإضافتها إلى مبني وهو هاء الغيبة .
[215] - هو الشيخ محمد الأمير ، انظر إلى كلامه هذا في حاشيته على المغني 1/136.
[216] - في شرح التسهيل 3/209 .(6/222)
[217] - هو بيت من الطويل ، لم أجد قائله ، انظر : شرح التسهيل 3/209 والقاموس مادة (غير) والدرر 3/116. الشاهد فيه : ( لاغيرُ) قال صاحب القاموس : ‘‘ وقولهم :(لاغيرُ) لحن’’ وهو غير جيد لأنه مسموع في قول الشاعر : جواباًبه .. البيت ’’ ارجع إليه للاستزادة .
[218] - انظر : المغني ص213.
[219] -سورة هود . الآية : 45.
[220] - سورة القصص . الآية : 15.
[221] - سورة الواقعة . الآيتان : 52 و 53 .
[222] - سورة الذاريات . الآية 27 .
[223] - سورة الصافات . الآيتان : 2و 3 .
[223] - هذا بيت من الطويل ، مجهول القائل ، انظر : الكتاب 1/139 ، وأوضح المسالك 2/136 ، والأشموني 1/353 والدرر 2/36 . الشاهد فيه : ( فانكح ) فإن الفاء زائدة لكون الخبر أمرا .
[224] - سورة الزمر . الآية : 66 .
[224] - سورة الكوثر . الآية : 2 .
[224] - سورة البقرة . الآية : 117 .
[224] - انظر : المغني 223.
[224] - سورة الأعراف . الآية : 38.
[224] - سورة يوسف . الآية : 32.
[224] - سورة طه . الآية : 71.
[224] - سورة إبراهيم . الآية : 9.
[224] - سورة التوبة . الآية : 38 .
[224] - سورة هود . الآية : 41 .
[224] - انظر : المغني ص226.
[224] - هذا بيت من الطويل ، لأخي يزيد بن عبد الله البجلي ، روي الشطر الثاني :* وما العاشق المسكين فينا بسارق * في معجم شواهد العربية 1/236 ، والمعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية 2/576 ،وللفرزدق : وما حل من جهل حبى حلمائنا * ولا قائل المعروف فينا يعنف ، في ديوانه 2/561 والكتاب 4/118 ، ومعجم الشواهد والمعجم المفصل ، وورد البيت ملفقاَ : هنا ، وفي الدرر 4/28 والمعجم المفصل ومعجم الشواهد . الشاهد فيه : ( قد والله أوطأت ) فإنه قد فصل بين (قد) والفعل بالقسم وهذا جائز .(6/223)
[224] - هذا بيت من الكامل ، للنابغة زياد بن معاوية الذُّبياني - فيما يزعمون - انظر : الديوان ص121 وشرح التسهيل 4/109 ابن عقيل 1/23 . والأشموني 1/15 ، والدرر 2/202 ، من قصيدة مطلعها :
أمن آل مية رائحٌ أو مغتدِ * عجلان ذا زادٍ وغير مزود
ورد البيت ( أفد ) وورد ( أزف ) . الشاهد فيه :( قدِ ) حيث حذف الفعل بعد (قد) وهو (زال) .
[224] - سورة البقرة . الآية : 246.
[224] - انظر : المغني ص233.
[224] - حاشية محمد الأمير 1/151 .
[224] - انظر : المغني ص233.
[224] - سورة البقرة .الآية : 198.
[224] - سورة الشورى .الآية : 11.
[224] - هذا الرجز ، للعجاج ، انظر : شرح المفصل 8/42 والتصريح 2/18 والهمع 2/31 والأشموني 1/472 والدرر 4/156 . الشاهد فيه:(كالبرد) فإن الكاف هنا اسم بمعنى (مثل) .
[225] - سورة الضحى . الآية : 3.
[225] - سورة الإسراء . الآية : 62.
[225] - انظر : المغني ص241.
[225] - هذا بيت من البسيط ، انظره في شرح التسهيل 4/19 ، وابن الناظم ص666 والأشموني 2/277والدرر 3/35 . الشاهد فيه : (كي) فإنها مختصرة من (كيف) .
[225] - سورة الحديد .الآية :23.
[225] - هذا بيت من الطويل ، لجميل بن معمر - جميل بثينة - انظر : الديوان ص79 وشرح التسهيل 4/16 وشرح الشذور ص310، والدرر 4/67. الشاهد فيه :(كيما أن) حيث جمع بين (كي)و(أن) وهذه ضرورة.
[225] - انظر : المغني ص 243
[226]- انظر : المغني ص246.
[226] - انظر : شرح الكافية الشافية 4/1711 .
[226] - سورة آل عمران . الآية :146.
[226] - هذا بيت من الخفيف ، انظر : وشرح التسهيل 2/423 ، والأشموني 2/389 والتصريح 2/281 والدرر 4/51 ، الشاهدفيه : (ألِما) حيث جاء تمييزها منصوباً وهو خلاف الأكثر الغالب .
[226] - انظر : المغني ص247.
[226] - سورة النمل . الآية : 42.(6/224)
[226] - روى البخاري في تفسير القرآن ، سورة رقم :(11) باب (4) ، وفي الأدب باب (60) ، وفي التوحيد باب (36) ، ومسلم في التوبة رقم (52) ، وأحمد 2/141 رقم (5891)رووا نحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما .
[226] - انظر : حاشية الصبان 4/86.
[227] - انظر : المغني ص249.
[227] - انظر : الانتصاف من الإنصاف 1/402 .
[227] - انظر : المغني ص252.
[227] - منهم البطليوسي ، وذلك لأن زيداً هو نفس القائم ولا يشبه الشيء بنفسه ، حاشية الصبان 1/272 .
[228] - واستدلوا بقوله : فأصبح بطن مكة مقشعراَ * كأن الأرض ليس بها هشام
انظر : التصريح 1/212 .
[228] - رواه البخاري في الأنبياء باب(51) ، ومسلم في الزهد رقم (10) ، وهو حديث الثلاثة من بني إسرائيل الأبرص والأقرع والأعمى الذين أراد الله أن يبتليهم ، والحديث مشهور .
[228] - انظر : التصريح 1/212 ، وحاشية الصبان 1/272 .
[229] - انظر : المغني ص255.
[230] - سورة آل عمران . الآية :185.
[230] - سورة مريم . الآية :95 .
[231] - كقوله : زخرت به ليلة كلها * فجئت به مؤيداً خنفقيقا
انظر : شرح المفصل 3/44 ، والإنصاف 2/451 ، ويرى الأخفش رأيهم ، الهمع 2/124 ، وإلى هذا مال ابن مالك في شرح التسهيل 3/296.
[231] - سورة الحجر . الآية :30.
[231] - هذا بيت من البسيط ، لكُثيِّر عزة ، وليس في ديوانه . وانظر : شرح التسهيل 3/292 ، وقيل لعمر بن أبي ربيعة ، انظر: الديوان ص143 والأمالي للقالي 1/195 والدرر 6/33 . الشاهد فيه : (كل الناس) حيث خلف الاسم الظاهر (الناس) الضمير .
[231] - سورة غافر . الآية : 48 ، وانظر : الكشاف 3/430.
[232] - سورة المدثر . الآية : 38 .
[232] - سورة الفرقان . الآية :39 .
[232] - سورة مريم . الآية :95 .
[232] - هذا بيت من الطويل ، لكثير ، انظر : شرح التسهيل 3/299 ، والهمع 2/73 والدرر 5/132 . الشاهد فيه : (كلُّها) حيث عمل فيها الفعل وليس الابتداء ، فهي فاعل .(6/225)
[232] - سورة القمر . الآية :52.
[232]- سورة المؤمنون . الآية : 53 .
[232] - هذا بيت من الطويل ، لقيس بن ذريح ، انظر : الديوان ص33 ، والهمع 2/74 ، والدرر 5/136 . الشاهد فيه : (كل مصيبات) .
[233] - هو محمد بن يوسف الغرناطي ، من كبار علماء العربية والتفسير والحديث ، ولد بغرناطة وتوفي في القاهرة سنة 745هـ ، من أشهر تصانيفه : البحر المحيط في تفسير القرآن . (الأعلام 8/26) .
[233] - هو عنترة بن شداد العبسي ، شاعر جاهلي مشهور ، من شعراء المعلقات ، اشتهر بالفروسية وبحبه لابنة عمه عبلة ، كان عبداً فنال حريته لإقدامه وشجاعته ، توفي قبل البعثة بزمن .
[233] - هذا بيت من الكامل ، من معلقته المشهورة ، ومطلها :
هل غادر الشعراء من متردمِ * أم هل عرفت الدار بعد توهمِ
انظر البيت في الديوان ص 196 والهمع 2/74 ، وفي الزوزني ص132 :
جادت عليه كل بكر حرة * فتركن كل قرارة كالدرهمِ
، والدرر 5/136 الشاهد فيه : (فتركن) ولم يقل تركت .
[233] - سورة مريم . الآية : 95 .
[234] - سورة الإسراء . الآية : 84 .
[235] - سورة يس . الآية : 40 .
[236] - انظر : لمغني ص 270.
[237] - انظر : الإنصاف 2/643.
[238] - سورة الفيل . الآية :1 .
[239] - انظر : المغني ص274.
[240] - سورة قريش . الآية : 1 .
[241] - سورة الرعد . الآية : 2 .
[242] - سورة الإسراء . الآية : 107 .
[243] - سورة الأنبياء . الآية : 47 .
[244] - انظر : سر صناعة الإعراب 1/329و332.
[245] - سورة البقرة .الآية : 186.
[246] - سورة الحج . الآية : 29 .
[247] - رواه البخاري في الصلاة باب(10) ، ورواه مسلم في المساجد رقم (263) ، وأحمد 3/207 رقم (12664) ، عن أنس رضي الله عنه ، ورواه البخاري في الأذان باب (161) (بكم) بدل(لكم) .
[248] - سورة العنكبوت . الآية : 12 .
[249] - سورة يونس . الآية :58 .(6/226)
[250] - هذا بيت من الوافر ، لحسان بن ثابت رضي الله عنه أو أبي طالب أو الأعشى ، انظر : الكتاب 3/8 ، والإنصاف 2/530 ، وشرح التسهيل 4/60 ، وابن الناظم ص690 ، والشذور ص231 ، والأشموني 2/314 والدرر 5/61. الشاهد فيه : ( تَفدِ) فإنه فعل مجزوم بلام الطلب المحذوفة .
[251] - سورة إبراهيم . الآية : 31 ، انظر : سر صناعة الإعراب 1/39 ، وشرح المفصل 7/35، وانظر : إعراب القرآن للدرويش 5/192.
[252] - سورة الحشر . الآية :13 .
[253] - انظر : المغني ص305.
[254] - هذا الرجز ، لرؤبة بن العجاج أو لعنترة بن عروس ، انظر : شرح التسهيل 2/30 ، وابن عقيل 1/336 ، واللسان مادة (شهرب) ، والدرر 2/187 . الشاهد فيه : ( لعجوز) إذ دخلت اللام زائدةً على خبر المبتدأ .
[255] - سورة الأنبياء . الآية : 22 .
[256] - سورة البقرة . الآية : 251 .
[257] - سورة يوسف . الآية : 91 .
[258] - سوررة الحشر . الآية : 12 .
[259] - هذا بيت من الكامل ، انظر : شرح التسهيل 3/218 ، والهمع 2/44 ، الدرر 4/240 . الشاهد فيه : (لمتى) فإن اللام المؤذنة دخلت على غير (إن) مع أن الأكثر أن تدخل عليها .
[260] - انظر : المغني ص313.
[261] - سورة النحل . الآية : 62 .
[262] - انظر : معاني القرآن 2/8.
[263] - انظر : الأمالي الشجرية 2/230.
[264] - سورة هود .الآية : 113 .
[265] - سورة الأعراف . الآية : 21 .
[266] - سورة القيامة . الآية : 1.
[267] - سورة الأنعام . الآية : 151 .
[268] - سورة الأنعام . الآية : 109 .
[269] - سورة الأنبياء . الآية : 95 .
[270] - سورة آل عمران . الآيتا ن : 79 و 80 .
[271] - انظر : المغني ص334.
[272] - انظر : المغني ص337.
[273] - سورة النساء . الآية :9 .
[274] - سورة القلم . الآية : 9 .
[275] - سورة الشعراء . الآية :102 .(6/227)
[276] - رواه البخاري في النكاح ، باب (40) ، وفي فضائل القرآن باب (21) ، وفي اللباس باب (49) ، ومسلم في النكاح رقم (76) وأحمد 5/413 رقم (22793) عن سهل بن سعد الساعدي .
[277] - سورة الواقعة . الآية : 65 .
[278] - سورة الواقعة . الآية : 70 .
[279] - سورة الأنعام . الآية : 112 .
[280] - هذا بيت من الوافر ، انظر : التصريح 2/260 ، والهمع 2/66 ، والأشموني 2/352 ، والدرر 5/101 . الشاهد فيه : (لَمَا) فإن جواب (لو) اقترنت به اللام وهو من غير الغالب .
[281] - سورة البقرة . الآية : 103 .
[282] - هذا بيت من الكامل ، لعامر بن الطفيل ، انظر : شرح التسهيل 4/100 ، والهمع 2/66 ، والدرر 5/102. الشاهد فيه : (فراحةٌ) فإن جواب (لو) جملة اسمية اقترنت بالفاء .
[283] - انظر : المغني ص359.
[284] - انظر : شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح ص65.
[285] - سورة سبأ . الآية : 31 .
[286] - انظر : الكتاب 2/373 والتي بعدها .
[287] - سورة النمل . الآية :46 .
[288] - سورة المنافقون . الآية :10 .
[289] - سورة النور . الآية :13 .
[290] - سورة النور . الآية : 11 .
[291] - سورة الواقعة . الآيات : 83 ،84 ، 85 ،86 .
[292] - سورة المنافقون . الآية :10 .
[293] - سورة يونس . الآية :98 .
[294] - انظر : المغني ص364.
[295] - انظر : المغني ص365.
[296] - هذا بيت من الطويل ، انظره في شرح التسهيل 2/141 والتي بعدها ، ومعجم شواهد العربية 1/59 . الشاهد فيه : (فلم ذا) فقد ولي (لم) معمول فعلٍ محذوف وهو (ذا) فسر الفعل مابعده ، فإن(ذا) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الألف لفعل محذوف ، فتكون الجملة : فلم ألق ذا رجاء غير واهب .
[297] - انظر : المغني ص367.(6/228)
[298] - هذا بيت من الكامل ، لإبراهيم بن هرمة ، انظر : أوضح المسالك 4/202 ، والأشموني 2/316 ، والتصريح 2/247 ، والدرر 5/66 . الشاهد فيه : (وإن لمِ) فقد حذف منفي (لم) - مجزومها - ضرورةً فالأصل : إن وصلت وإن لم تصل .
[299] - سورة الإسراء . الآية : 67 .
[300] - سورة العكنبوت . الآية : 65 .
[301] - سورة لقمان . الآية : 32 .
[302] - سورة هود . الآية : 74 .
[303] - سورة الطارق . الآية : 4 .
[304] - انظر : المغني ص 373.
[305] - هذا بيت من الخفيف ، للأعشى ميمون بن قيس ، انظر : الديوان ص169 ، وشرح التسهيل 4/15 ، والهمع 2/56 ، والدرر 2/42 و 4/62 ، من قصيدة مطلعها :
ما بكاء الكبير بالأطلال * وسؤالي وهل ترد سؤالي
عدها بعض النقاد هي المعلقة . الشاهد فيه : (لن تزالوا كذالكم) حيث استعمل (لن) للدعاء .
[306] - هذا بيت من الكامل ، لأبي طالب عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انظر : شرح التسهيل 3/207 ، والأشموني 2/36 ، والهمع 2/41 ، والدرر 4/220 ؛ روي :‘‘حتى أوارى’’ . الشاهد فيه :(لن يصلوا) حيث صدَّر جواب القسم بـ(لن) .
[307] - هذابيت من المنسرح ، لأعرابي ذي قصةٍ مع الحسين بن علي رضي الله عنه ، انظر : الهمع 2/4 ، والأشموني 2/277 ، والدرر 4/63 . الشاهد فيه : (لن يخب) حيث جزم المضارع بـ(لن) .
[308] - انظر : المغني ص375.
[309] - هذا الرجز لرؤبة بن العجاج ، انظر : الكتاب 2/142 ، والدرر 2/170 ، الشاهد فيه : ( أيامَ الصبا رواجعاً) فقد نصبت (ليت) الاسم والخبر .
[310] - انظر : المغي ص377.
[311] - هذا بيت من الطويل ، لكعب بن سعد الغنوي ، يرثي أخاه أبا المغوار ، انظر : ابن عقيل 2/196 ، والتصريح 1/156 ، والأشموني 1/454 ، والهمع 2/33 ، والدرر 4/174 . وروي : ‘‘دعوة’’ و ‘‘ثانياً’’. الشاهد فيه :(لعل أبي المغوار) حيث جر بـ(لعل) .(6/229)
[312] - رواه البخاري في اللباس باب (89) ، ومسلم في اللباس والزينة رقم (98) ، عن ابن مسعود ، وأحمد روى نحوه عن عائشة 6/225 رقم (25619) .
[313] - سورة طه . الآية :44 .
[314] - سورة عبس . الآية : 3 .
[315] - انظر : المغني ص383.
[316] - هذا بيت من الطويل ، للفرزدق ، انظر : الديوان 2/481 والكتاب 2/135 والتي بعدها ، والإنصاف 1/182 ، وشرح التسهيل 2/13 ، واللسان مادة (شفر) ، . الشاهد فيه : ( ولكنَّ زنجيٌّ) حيث حذف اسم (لكنَّ) ، فالأصل : ولكنك زنجيٌّ .
[317] - انظر : المغني ص385.
[318] - انظر : الإنصاف . 2/484 .
[319] - انظر : المغني ص386.
[320] - الراجز هو نفيل بن حبيب ، انظر : شرح التسهيل 3/346 ، والهمع 2/138 ، والدرر 6/146 . الشاهد فيه : (المغلوب ليس الغالب) فإنها عاطفة كقولك : المغلوب لا الغالب .
[321] - انظر : المغني ص390.
[322] - سورة البقرة . الآية : 271 .
[323] - هذا بيت من الطويل ، للبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه ، انظر: الديوان ص144 ، والكتاب 2/417 وشرح التسهيل 1/159 ، وأوضح المسالك 1/159 ، والأشموني 1/120 ، واللسان مادة : (حول) . الشاهد فيه : (ماذا) فإن (ذا) هنا موصولة .
[324] - سورة البقرة . الآية :219 .
[325] - هذا بيت من الوافر ، نسب إلى المثقف العبدي وسحيم بن وثيل ، انظر : الكتاب 2/418 ، والهمع 1/84 ، والدرر 1/271 . الشاهد فيه : (ماذا علمتِ) فإن (ذا) مع(ما) اسم جنس بمعنى (شيء) أو اسم موصول بمعنى (الذي) .
[326] - سورة التوبة . الآية : 7 .
[327] - سورة البقرة . الآية : 197 .
[328] - هذا بيت من الطويل ، انظر : الهمع 1/124 ، والدرر 2/107. الشاهد فيه : (مابأس) حيث ركبها مع النكرة وهذا نادرٌ .
[329] -سورة مريم . الآية : 31 .
[330] - سورة القصص . الآية : 25 .(6/230)
[331] - هذا بيت من الطويل ، للمرار الفقعسي ، أو لعمر بن أبي ربيعة ، انظر : ديوان عمر بن أبي ربيعة ص376 والكتاب 1/30 ، والإنصاف 1/144 ، وشرح التسهيل 2/109 ، والدرر 5/190 . الشاهد فيه : (وقلما وصالٌ) حيث جاء الفعل بعدها مقدراً وليس صريحاً .
[332] - هذا بيت من الخفيف ، لصالح بن عبد القدوس ، وفي أمالي القالي لمطيع بن إياس الكوفي يرثي يحيى بن زياد الحارثي 1/271 ، وانظر : الهمع 2/38 والدرر 4/203. الشاهد فيه : (لبِما) حيث كفت (ما) االباءَ من الجر .
[333] - هذا بيت من الطويل ، لأبي حية النميري . انظر : الكتاب 3/156 ، والمقتضب 4/174 ، والتصريح 2/10 ، والهمع 2/35 ، والدرر 4/181 . الشاهد فيه : (لمما نضرب) حيث كفت (ما) (من) عن الجر .
[334] - هذا بيت من الخفيف ، لجميل بن معمر ، انظر : ديوانه :105 . ومعجم شواهد العربية 1/324 . الشاهد فيه :(بينما) حيث اتصلت (ما) بـ(بين) .
[335] - هذا بيت من الطويل ، لحرقة بنت النعمان بن المنذر ، انظر : الهمع 1/211 ، واللسان مادة (نصف) ، والدرر 3/119 . الشاهد فيه: (فبينا) فإنها إما مضافة إلى جملة ، أو مضافة إلى زمن محذوف مضاف إلى جملة ، أو زائدة .
[336] - سورة الأعراف . الآية : 200 .
[337] - سورة آل عمران . الآية : 159 .
[338] - سورة القصص . الآية : 28 .
[339] - سورة فصلت . الآية : 20 .
[340] - سورة البقرة . الآية : 26 .
[341] - سورة البقرة . الآية : 88 .
[342] - انظر : المغني ص 419.
[343] - سورة الإسراء . الآية : 1 .
[344] - سورة البقرة . الآية : 253 .
[345] - سورة فاطر . الآية : 2 .
[346] - سورة نوح . الآية : 25 .
[347] -سورة التوبة . الآية : 38 .
[348] - سورة الزمر . الآية : 22 .
[349] - سورة الشورى . الآية :45 .
[350] - سورة الجمعة . الآية :9 .
[351] - سبق ذكره ص .
[352] - سورة الأنبياء . الآية : 77 .
[353] - سورة البقرة . الآية : 220 .(6/231)
[354] - سورة المائدة . الآية : 19 .
[355] - ورأى الأخفش رأيهم ، انظر : شرح المفصل 8/10 و137 ، وشرح الكافية الشافية 2/798.
[356] - انظر : المغني ص431.
[357] - انظر : المغني ص435.
[358] - انظر : شرح التسهيل 4/69 .
[359] - انظر : المغني ص493.
[360] - انظر : الكتاب 1/420 .
[361] - انظر : المغني ص440.
[362] - انظر : المغني ص441.
[363] - انظر : المغني ص443.
[364] - انظر : المغني ص451.
[365] - انظر : المغني ص454.
[366] - سورة القارعة . الآية : 10 .
[367] - هذا بيت من الكامل ، لعمر بن أبي ربيعة ، انظر : شرح المفصل 10/42 ،ومعجم شواهد العربية 1/387 ، ولم أجده في ديوانه . الشاهد فيه : (هَذَا) فإن هذه الهاء مبدلة من همزة الاستفهام ، وليست للتنبيه ، فإن الأصل : أذا الذي ..
[368] - انظر : المغني ص455.
[369] - سورة آل عمران . الآية : 119 .
[370] - انظر : المغني ص456.
[371] - سورة الأحقاف . الآية : 35 .
[372] - سورة الرعد . الآية : 16 .
[373] - سورة الرعد . الآية : 35 .
[374] - سورة الإنسان . الآية :1 .
[375] - انظر : المغني ص463.
[376] - هذا بيت من الوافر ، لميسون بنت بحدل ، زوجة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، انظر : الكتاب 3/45 ، وأوضح المسالك 4/192 ، وشرح الشذور ص335 ، والأشموني 2/308 ، والدرر 4/90 ، وفي بعض هذه المراجع (لَلُبس) . الشاهد فيه : (وتقرَّ) فإن الواو هنا للمعية ، والفعل المضارع منصوب بأن المضمرة بعدها .
[377] - سورة الصافات . الآية : 104 .
[378] - سورة الكهف . الآية :22 .
[379] - سورة النمل . الآية :18 .
[380] - انظر : المغني ص482.
[381] - سورة القصص . الآية :82 .
[382] - انظر : المغني ص488.(6/232)
(( قواعد في الإملاء ))
لفضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه قواعدُ في الإملاء
(( القاعدة الأولى : في كتابة الألف ))
للألف موضعان :
أحدهما : أن تكون في وسط الكلمة : فتكتب بصورة الألف بكل حال ، مثل : قال ، وباع .
الثاني : أن تكون في آخر الكلمة : فتارة تكتب بصورة الألف ، وتارة بصورة الياء .
فتكتب بصورة الألف في خمسة مواضع :
1- أن تكون الكلمة حرفاً مثل : كلا ، ولولا .
ويستثنى من ذلك : بلى ، وإلى ، وعلى ، وحتى ما لم تتصل بما الاستفهامية .
فإن اتصلت بها كتبت بصورة الألف مع حذف ألف ما مثل : إلام ، علام ، حتام .
2- أن تكون الكلمة اسماً مبنياً ، مثل : قمنا ، ذا .
ويستثنى من ذلك : أن ، ومتى ، وأولى اسم إشارة ، والألى اسم موصول فتكتب بالياء .
3- أن تكون الكلمة اسماً أعجمياً ، مثل : أمريكا .
ويستثنى من ذلك : موسى ، وعيسى ، وكسرى ، وبخارى ، فتكتب بالياء .
4- أن تكون الكلمة ثلاثية وأصل الألف الواو ، مثل : دعا ، العصا .
5- أن تكون الألف مسبوقة بالياء ، مثل : دنيا سجايا .
ويستثنى من ذلك : الأعلام فتكتب على ياء ، مثل : يحيى .
وتكتب الألف بصورة الياء في ثلاثة مواضع :
1- ما استثني مما سبق في التي تكتب بصورة الألف .
2- إذا كانت في الأفعال أو الأسماء المعربة رابعة فأكثر ، مثل : أعطى ، اصطفى ، المعطى ، المصطفى .
3- إذا كانت في فعل أو في اسم معرب ثالثة منقلبة عن ياء ، مثل : الفتى ، سعى .
(( القاعدة الثانية : في كتابة الهمزة ))
للهمزة ثلاثة مواضع : أول الكلمة ، وآخرها ، ووسطها .
1- فإن كانت في أولها : كتبت بصورة الألف بكل حال ، مثل : أكرِمْ أبوك إكراماً .
2- وإن كانت في آخرها : فتارة تكتب مفردة ، وتارة على حرف مجانس لحركة ما قبلها .
فتكتب مفردة إذا كان قبلها واو مضمومة مشددة ، مثل : التبوّء .
وإذا وقعت بعد ساكن ، مثل : دفء ، قروء ، دعاء ، ملئ .(6/233)
ويستثنى من ذلك : إذا كانت منصوبة منونة بعد ساكن يمكن اتصالها به فإنها تكتب على ياء ، مثل : ( خطئاً كبيراً ) ( شيئاً مذكوراً ) .
وتكتب بحرف مجانس لحركة ما قبلها إذا كان ما قبلها متحركاً غير واو مضمومة مشددة فتكتب على واو ، مثل : التواطؤ ، وعلى ألف في مثل : قرأ ، وعلي ياء في مثل : قرئ .
3- وإن كانت الهمزة في وسط الكلمة : فتارة تكتب ألفاً ، وتارة واواً ، وتارة ياء ، وتارة مفردة
فتكتب ألفاً : إذا كانت ساكنة بعد فتح ، مثل : رأس .
أو مفتوحة بعد فتح أو بعد حرف صحيح ساكن ، مثل : سأل ، يسأل .
وتكتب واواً : إذا كانت مفتوحة أو ساكنة بعد ضم ، مثل : مؤلف ، لؤلؤ .
أو كانت مضمومة بعد ضم أو فتح أو سكون ، مثل : شؤون ، يؤم ، مرؤوس .
وبعضهم يكتب الهمزة في نحو مرءوس مفردة .
وتكتب ياء : إذا كانت مكسورة بكل حال ، مثل : سئم ، سئل ، مئين ، أسئلة ، مسائل ، مسيئين .
وإذا كانت مفتوحة أو مضمومة أو ساكنة بعد كسر أو ياء ساكنة ، مثل : مائة ، فتون ، بئر ، مسيئان ، مسيئون ، ولا تكون ساكنة بعد الياء .
وتكتب مفردة : إذا كانت مفتوحة بعد حرف مد غير الياء ، مثل : تساءل ، مروءة ، سموءل .
أو كان بعدها ألف اثنين ولم يمكن اتصالها بما قبلها ، مثل : جزءان ، فإن أمكن اتصالها بما قبلها فعلى ياء ، مثل : خطئان .
(( القاعدة الثالثة : في كتابة تاء التأنيث ))
تكتب تاء التأنيث تارة مفتوحة ، وتارة مربوطة .
فتكتب مربوطة : في جمع التكسير ، مثل : قضاة ، وفي المفردة المؤنثة ، مثل : شجرة .
ويستثنى من ذلك : بنت ، وأخت ، فإنها مفتوحة فيهما .
وتكتب مفتوحة : إذا اتصلت بالفعل ، مثل : قامت ، أو بجمع المؤنث السالم ، مثل : مسلمات ، أو بالحروف ، مثل : ثمت ، ربت ، لعلت ، لات .
(( القاعدة الرابعة : فيما يكتب ولا ينطق به ))
الذي يكتب ولا ينطق به :
1- همزة الوصل في صلة الكلام .(6/234)
ويستثنى من ذلك : همزة ابن وابنة بين علمين في سطر واحد فتحذف ، مثل : عمر بن الخطاب ، فاطمة بنة محمد .
2- ألف مائة ومائتان .
3- الألف بعد واو الجماعة المتطرفة في الفعل كقالوا .
4- الواو في : أولئك ، وأولو ، وأولي ، وأولات .
5- واو عمرو علماً غير منصوب منون ، مثل : عمرو بن العاص فرقاً بينه وبين عمر ، فإن كان منصوباً منوناً حذفت الواو ، مثل : رأيت عمراً .
6- حروف العلة إذا وليها ساكن ، مثل : سعى ، الفتى ، يدعو الله .
(( القاعدة الخامسة : فيما ينطق به ولا يكتب ))
1- الألف في الكلمات التالية : الله ، إله ، لكن ، ثلثمائة ، ذا مع لام البعد ، مثل : ذلك ، فإن كانت بدون اللام كتبت ، مثل : ذاك ، ها التنبيه إذا اتصلت باسم الإشارة غير مبدوء بالتاء ، مثل: هذا ، فإن بدئ بالتاء كتبت ، مثل : هاتيك ، هاتان .
2- إحدى الواوين في طاوس ، و داود .
3- ( ال ) الواقعة بين لامين ، مثل : لِلّذين ، لليل ، للهو ، للتين .
4- لام اسم الموصول المفرد أو جمع المذكر ، مثل : الذي ، والذين ، بخلاف المثنى ، مثل : اللذان ، أو جمع المؤنث ، مثل : اللات فتكتب اللام .
والله أعلم والحمد لله رب العالمين .
كتبه : محمد بن صالح العثيمين .
تاريخ الشراء : 30/7/1419هـ
نسخه : أبو العنود .
في مدينة الدمام يوم السبت2/8/1419هـ .
وتم إصلاحه في تاريخ : 30/10/1419هـ(6/235)
الاعتدال في الدعوة
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيسرني أن التقي بكم هذا اللقاء في موضوع هام يهم جميع المسلمين آلا وهو الدعوة إلى الله عز وجل.
قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(1)، والاستفهام في الآية بمعنى النفي أي لا احسن قولاً.
والغرض من الآتيان بالاستفهام في موضع النفي إفادة أمرين:
الأول: انتفاء هذا الشيء.
الثاني: تحدي المخاطب أن يأتي به، فالاستفهام مشرباً معنى التحدي أي إذا كان عندك شيء أحسن من هذا فأت به، ولكننا نقول لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين.
والدعوة إلى الله تعالى هي الدعوة إلى شريعة الله الموصلة إلى كرامته. ودعوة الرسل عليه الصلاة والسلام، تدور على ثلاثة أمور:
أولاً: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته.
ثانياً: معرفة شريعته الموصلة إلى كرامته.
ثالثاً: معرفة الثواب للطائعين والعقاب للعاصين.
والدعوة إلى الله تعالى أحد أركان الأعمال الصالحة التي لا يتم الربح بها كما قال الله تعالى: (وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ . وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ . وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).(6/236)
فإن التواصي بالحق يلزم منه الدعوة إلى الحق، والتواصي بالصبر يلزم منه الدعوة إلى الصبر على دين الله – عز وجل – في أصوله وفروعه.
إن الدعوة إلى الله – عز وجل – صارت الآن وما زالت بين طرفين ووسط.
أما الطرفان فجانب الإفراط، بحيث يكون الداعية شديداً في دين الله يريد من عباد الله – عز وجل – أن يطبقوا الدين بحذافيره ولا يتسامح عن شيء الدين يسمح به، بل إنه إذا رأى من الناس تقصيراً حتى في الأمور المستحبة تأثر تأثراً عظيماً وذهب يدعو هؤلاء القوم المقصرين دعاء الغليظ الجافي وكأنهم تركوا شيئاً من الواجبات ومن الأمثلة على ذلك:
* المثال الأول: رجل رأى جماعة من الناس لا يجلسون عند القيام إلى الركعة الثانية أو عند القيام إلى الركعة الرابعة، وهي التي تسمى عند أهل العلم جلسة الاستراحة، هو يرى أنها سنة ومع ذلك إذا رأى من لا يفعلها اشتد عليه وقال لماذا لا تفعلها؟ ويتكلم معه تكلم من يظهر من كلامه أنه يقول بوجوبها، مع أن بعض أهل العلم حكى الإجماع على أن هذه الجلسة ليست بواجبة وأن خلاف العلماء فيها دائر بين ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها مستحبة على الإطلاق.
القول الثاني: ليست مستحبة على الإطلاق.
القول الثالث: أنها مستحبة لمن كان يحتاج إليها حتى لا يشق على نفسه كالكبير والمريض ومن في ركبه وجع وما أشبه ذلك.
فيأتي بعض الناس ويشدد فيها ويجعلها كأنها من الواجبات.(6/237)
* المثال الثاني: بعض الناس يرى شخصاً إذا قام بعد الركوع ووضع يده اليمنى على اليسرى قال أنت مبتدع لابد أن تسدل يديك فإن وضعتهما على الصدر فإن ذلك من البدع والمنكرات، مع أن المسألة مسألة اجتهادية، وقد يكون الدليل مع من قال: إن اليدين توضعان بعد الركوع على الصدر كما توضعان قبله أيضاً على الصدر؛ لأن هذا هو مقتضى الحديث الذي رواه البخاري عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة".
* المثال الثالث: كذلك بعض الناس ينكر على من يصلي إذا تحرك أدنى حركة وإن كانت هذه الحركة مباحة وقد ورد في السنة ما هو مثلها أو أكثر فتجده ينكر عليه الإنكار العظيم، حتى إنه يجعل هذا الأمر هو محل الانتقاد في هؤلاء القوم مع أنها حركة مباحة جائزة ورد نظيرها أو ما هو أكثر منها في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا تشديد، وكان أبو جحيفة – رضي الله عنه – ذات يوم يصلي وقد أمسك زمام فرسه بيده فتقدمت الفرس فذهب رضي الله عنه، وهو يصلي يسايرها شيئاً فشيئاً حتى انتهى من صلاته فرآه رجل من طراز هذا المتشدد، فجعل يقول انظروا إلى هذا الرجل، انظروا إلى هذا الرجل، انظروا إلى هذا الرجل – وأبو جحيفة صحابي جليل، رضي الله عنه – فلما سلم أبو جحيفة بين لهذا الرجل أن مثل هذا العمل جائز وأنه لو ترك فرسه لذهبت ولم يحصل عليها إلى الليل، فانظر إلى الفقه في الشريعة والتسامح والتيسير فيها.(6/238)
وهذا النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يصلي بأصحابه وهو يحمل إمامة بنت زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم – يعني أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جد هذه الطفلة – فكان يصلي بالناس يحمل هذه الطفلة إذا قام حملها وإذا سجد وضعها، صلى الله عليه وسلم، هذا فيه حركة، وفيه ملاطفة للطفلة، وفيه أنه يؤم الناس فقد يلتفت بعضهم لينظر ماذا كان للنبي، صلى الله عليه وسلم، مع هذه الطفلة ومع ذلك فالنبي، صلى الله عليه وسلم، وهو اتقى الناس لله – عز وجل – وأعلمهم بما يتقي كان يفعل ذلك.
* ومثال آخر: اجتمع نفر من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عمله في السر، فأخبروا بذلك فتقالوا عمل النبي، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، ولكن نحن بحاجة إلى عمل أكثر ليغفر الله لنا ذنوبنا، فقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر. وقال الثاني: أنا أقوم ولا أنام. وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فبلغ قولهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: "أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" هذا كله يدل على أنه لا ينبغي لنا بل لا يجوز لنا أن نغلو في دين الله سواء في دعاء غيرنا إلى دين الله، أو في أعمالنا الخاصة بنا، بل نكون وسطاً مستقيماً كما أمرنا الله تعالى بذلك، وكما أمر بذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، فالله – عز وجل – يقول: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(1)، والنبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم" وأخذ حصيات وهو في أثناء مسيره من مزدلفة إلى منى أخذ حصيات بكفه وجعل يقول: "يا أيها الناس بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين".(6/239)
* وضد ذلك: من يتهاون في الدعوة إلى الله – عز وجل – فتجده يرى الفرص مواتية والمقام مناسباً للدعوة إلى الله ولكن يضيع ذلك، تارة يضيعه لأن الشيطان يملي عليه أن هذا ليس وقتاً للدعوة، أو أن هؤلاء المدعوين لن يقبلوا منك، أو ما أشبه ذلك من المثبطات التي يلقيها الشيطان في قلبه فيفوت الفرصة على نفسه.
وبعض الناس إذا رأى مخالفاً له بمعصية بترك أمر أو فعل محظور كرهه واشمأز منه وابعد عنه، وأيس من إصلاحه وهذه مشكلة والله سبحانه وتعالى بين لنا أن نصبر وأن نحتسب قال الله تعالى لنبيه: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)(2). فالإنسان يجب عليه أن يصبر ويحتسب ولو رأى على نفسه شيئاً من الغضاضة فليجعل ذلك في ذات الله عز وجل، والنبي، صلى الله عليه وسلم، عندما أدميت إصبعه في الجهاد قال هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت.
وهذا عكس الأول حتى إن هذا ليرى الأمر بعينه ويسمعه بأذنه يجد هذا الأمر المخالف لشريعة الله ولا يدع الناس إلى الاستقامة وعدم معصية الله – عز وجل – ومخالفته، بل إنا نسمع أن بعض الناس يقول:
يجب أن تجعل الأمة الإسلامية التي تنتسب إلى الإسلام وتتجه في صلاتها إلى القبلة يجب أن تكون طائفة واحدة غير متميزة، لا يفرق بين مبتدع وصاحب سنة، وهذا لا شك خط وخطل وخطر؛ لأن الحق يجب أن يميز عن الباطل، ويجب أن يميز أصحاب الحق عن أصحاب الباطل حتى يتبين، أما لو إندمج الناس جميعاً وقالوا نعيش كلنا في ظل الإسلام وبعضهم على بدعة قد تخرجه من الإسلام فهذا لا يرضى به أحد ناصح لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.(6/240)
ويوجد أناس يستطيعون الدعوة إلى الله لما عندهم، من العلم والبصيرة ويشاهدون الناس يخلون في أشياء ولكن يمنعهم خوف مسبة الناس لهم أو الكلام فيهم أن يقولوا الحق فتجدهم يقصرون ويفرطون في الدعوة إلى الله – عز وجل-. وهؤلاء إذا نظروا إلى القوم الوسط الذين تمسكوا بدين الله على ما هو عليه إذا رأوهم قالوا: إن هؤلاء لضالون، إن هؤلاء لمتعمقون، إن هؤلاء لمتشددون متنطعون، مع أنهم على الحق.
وإذا نظر إليهم المفرطون الغالون قالوا أنتم مقصرون لم تقوموا بالحق ولم تغاروا لله – عز وجل -، ولهذا يجب أن لا نجعل المقياس في الشدة واللين هو ما تمليه علينا أهواؤنا وأذواقنا، بل يجب أن نجعل المقياس هدي النبي، صلى الله عليه وسلم، وهدى أصحابه، والنبي، صلى الله عليه وسلم، رسم لنا هذا بقوله وبفعله وبحاله، صلى الله عليه وسلم، رسمه لنا رسماً بيناً، فإذا دار الأمر بين أن اشتد أو اتيسر بمعنى أنني كنت في موقف حرج لا أدري الفائدة في الشدة أم الفائدة في التيسير والتسهيل فأيهما أسلك؟ أسلك طريق التيسير لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الدين يسر" ولما بعث معاذ أو أبا موسى الأشعري إلى اليمن قال: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا" ولما مر يهودي بالنبي، صلى الله عليه وسلم، فقال السام عليكم يا محمد – يريد الموت عليك لأن السام بمعنى الموت – وكان عند النبي، صلى الله عليه وسلم، عائشة رضي الله عنها فقالت "عليك السام واللعنة" فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام، "إن الله رفيق يحب الرفق وإن الله ليعطي بالرفق مالا يعطي على العنف"، فإذا أخذنا بهذا الحديث في الجملة الأخيرة منه: "إن الله ليعطي بالرفق مالا يعطي على العنف" عرفنا أنه إذا دار الأمر بين أن استعمل الشدة أو استعمل السهولة كان الأولى أن استعمل السهولة ثقة بقول الرسول، عليه الصلاة والسلام: "إن الله ليعطي بالرفق مالا يعطي على العنف" ومن أراد أن يفهم هذا(6/241)
الأمر فليجرب، لأنك إذا قابلت المدعو بالشدة إشمأز ونفر وقابلك بشدة مثلها، إن كان عامياً قال عندي علماء اعلم منك، وإن كان طالب علم ذهب يجادلك حتى بالباطل الذي تراه مثل الشمس وهو يراه مثل الشمس ولكنه يأبى إلا أن ينتصر لنفسه، لأنه لم يجد منك رفقاً وليناً، ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. والحق لا يخفى إلا على أحد رجلين: إما معرض وإما مستكبر، أما من أقبل على الحق بإذعان وانقياد فإنه بلا شك سيوفق له.
ومن التطرف ما يكون من الآباء والأمهات في زمننا هذا حين صار الشباب – ولله الحمد – من ذكور وإناث عندهم اتجاه إلى العمل بالسنة بقدر المستطاع، صار بعض الآباء والأمهات يضايقون هؤلاء الشاب من بنين وبنات في بيوتهم، وفي أعمالهم حتى إنهم لينهونهم عن المعروف مع أنه لا ضرر على الآباء في فعله ولا ضرر على الأبناء أو البنات في فعل هذا المعروف، كمن يقول لأولاده لا تكثروا النوافل لا تصوموا البيض، أو الاثنين، أو الخميس، أو ما أشبه ذلك، مع أن هذا لا يضر الوالدين شيئاً ولا يحول دون قضاء حوائجهما، وليس بضار على الابن في عقله، أو بدنه، أو في دروسه ولا على البنت كذلك. وأنا أخشى على هؤلاء القوم أن يكون هذا النهي منهم لأولادهم كراهة للحق والشريعة وهذا على خطر، فالذي يكره الحق أو الشريعة ربما يؤدي به ذلك إلى الردة لأن الله تعالى يقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)(1)، ولا تحبط الأعمال إلا بردة عن الإسلام كما قال الله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(1) هذا مثال من الشدة في أولياء الأمور.(6/242)
أما بالنسبة للأولاد من بنين أو بنات إذا كانوا متمشين في منهاجهم وسيرهم على شريعة الله فليسوا في شدة.
* وهناك في المقابل من يكون شديداً من الأولاد بنين وبنات عل أهله بحيث لا يتسع صدرهم لما يكونون عليه من الأمور المباحة فتجده يريد من أبيه أو أمه أو اخوته أو اخوته أن يكونوا على المستوى الذي هو عليه من الالتزام بشريعة الله، وهذا غير صحيح، الواجب عليك إذا رأيتهم على منكر أن تنهاهم عن المنكر، أما إذا رأيتهم قد قصروا في أمر يسعهم التقصير فيه كترك بعض المستحبات فإنه لا ينبغي لك أن تشتد معهم، وكذلك في بعض الأمور الخلافية يجب عليك إذا كانوا مستندين إلى رأي أحد من أهل العلم أن لا تضيق بهم ذرعاً وأن لا تشتد عليهم.
فالذي ينبغي للإنسان سواء كان داعية لغيره إلى الله أم متعبداً لله أن يكون بين الغلو والتقصير مستقيماً على دين الله – عز وجل – كما أمر الله – عز وجل – بذلك في قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)(2).
وإقامة الدين الإتيان به مستقيماً على ما شرعه الله – عز وجل -، ولا تتفرقوا فيه نهى عن ذلك سبحانه وتعالى لأن التفرق خطره عظيم على الأمة أفراداً وجماعات.(6/243)
والتفرق أمر مؤلم ومؤسف لأن الناس إذا تفرقوا كما قال الله تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم)(3)، فإذا تفرق الناس وتنازعوا فشلوا وخسروا وذهبت ريحهم ولم يكن لهم وزن وأعداء الإسلام ممن ينتسبون للإسلام ظاهراً، أو ممن هم أعداء للإسلام ظاهراً وباطناً يفرحون بهذا التفرق وهم الذي يشعلون ناره ويلقون العداوة والبغضاء بين هؤلاء الأخوة الدعاة إلى الله – عز وجل – فالواجب أن نقف ضد كيد هؤلاء المعادين لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولدينه، وأن نكون يد واحدة، وأن نكون اخوة متآلفين على كتاب الله، وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، كما كان سلف الأمة في سيرهم ودعوتهم إلى الله – عز وجل -، ومخالفة هذا الأصل ربما تؤدي إلى انتكاسة عظيمة، والتفرق هو قرة عين شياطين الأنس والجن؛ لأن شياطين الأنس والجن لا يودون من أهل الحق أن يجتمعوا على شيء، بل يريدون أن يتفرقوا لأنهم يعلمون أن التفرق تفتت للقوة التي تحصل بالالتزام بالوحدة والاتجاه إلى الله – عز وجل – ويدل هذا قوله تعالى:(وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم)(1)، وقوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(2)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(3)، وقوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه)(4)، فالله تعالى قد نهانا عن التفرق وبين لنا عواقبه الوخيمة، والواجب علينا أن نكون أمة واحدة، وكلمة واحدة، وإن اختلفت آرائنا في بعض المسائل، أو في بعض الوسائل؛ فالتفرق فساد وشتات للأمر، وموجب للضعف، والصحابة رضوان الله عليهم(6/244)
حصل بينهم الاختلاف لكن لم يحصل منهم التفرق ولا العداوة ولا البغضاء حصل بينهم الاختلاف حتى في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة " . وخرجوا رضوان الله عليهم من المدينة إلى بني قريظة وحان وقت صلاة العصر، فاختلف الصحابة فمنهم من قال: لا نصلي إلا في بني قريظة ولو غابت الشمس لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فنقول سمعنا واطعنا.
ومنهم من قال إن النبي، عليه الصلاة والسلام، أراد بذلك المبادرة والإسراع إلى الخروج وإذا حان الوقت صلينا الصلاة لوقتها. فبلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يعنف أحداً منهم ولم يوبخه على ما فهم، وهم بأنفسهم لم يتفرقوا من أجل اختلف الرأي في فهم حديث الرسول، عليه الصلاة والسلام. وهكذا يجب علينا أن لا نتفرق وأن نكون أمة واحدة. قد يقول قائل: إذا كان المخالف صاحب بدعة فكيف نتعامل معه؟
فأقول: إن البدع تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: بدع مكفرة.
القسم الثاني: بدع دون ذلك.
وفي كلا القسمين الواجب علينا أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ومعهم البدع المكفرة وما دونها إلى الحق ببيان الحق دون أن نهاجمهم عليه إلا بعد أن نعلم منهم الاستكبار عن قبول الحق لأن الله تعالى يقول للنبي، صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(1)، فندعوا أولاً هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته والحق مقبول لدى ذي كل فطرة سليمة، فإذا وجد منهم العناد والاستكبار فإننا نبين باطلهم على أن بيان باطلهم في غير المجادلة معهم أمر واجب.(6/245)
أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة؛ فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجرهم، وإذا كانت دون ذلك فإننا ننظر فإن كان في هجرهم مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث" فكل مؤمن وإن كان فاسقاً فإنه يحرم هجره ما لم يكن في الهجر مصلحة فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه؛ لأن الهجر دواء، أما إذا لم يكن فيه مصلحة، أو كان فيه زيادة في المعصية والعتوا فإن ما لا مصلحة فيه تركه هو المصلحة.
وحل هذه المشكلة: أعني مشكلة التفرق – أن نسلك ما سلكه الصحابة رضي الله عنهم، وأن نعلم أن هذا الخلاف الصادر عن اجتهاد في مكان يسوغ فيه الاجتهاد لا يؤثر بل إنه في الحقيقة وفاق لنا لأن كل واحد منا أخذ بما رأى بناءً على أنه هو مقتضى الدليل، إذاً فمقتضى الدليل أمامنا جميعاً، وكل منا لم يأخذ برأيه إلا لأنه مقتضى الدليل فالواجب على كل واحد منا أن لا يكون في نفسه على أخيه شيء، بل الواجب أن يحمده على ما ذهب إليه لأن هذه المخالفة مقتضى الدليل عنده.
ولو أننا الزمنا أحدنا أن يأخذ بقول الآخر لكن إلزامي إياه أن يأخذ بقولي ليس بأولى من إلزامه إياي أن أخذ بقوله، فالواجب أن نجعل هذا الخلاف المبني على اجتهاد أن نجعله وفاقاً حتى تجتمع الكلمة ويحصل الخير.
وإذا حسنت النية سهل العلاج، أما إذا لم تسحن النية وكان كل واحد معجباً برأيه ولا يهمه غيره فإن النجاح سيكون بعيداً.
وقد أوصى الله عباده بالاتفاق فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(1) فإن هذه الآية موعظة للإنسان أي موعظة.(6/246)
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من الهداة المهتدين والصلحاء المصلحين إنه جواد كريم. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---
(1) سورة فصلت الآية: 33.
(1) سورة الأنعام الآية: 153.
(2) سورة الأحقاف الآية: 35.
(1) سورة محمد، الآية: 9.
(1) سورة البقرة، الآية: 217.
(2) سورة الشورى، الآية: 13.
(3) سورة الأنفال، الآية: 46.
(1) سورة الأنفال، الآية: 46.
(2) سورة آل عمران، الآية: 105.
(3) سورة الأنعام، الآية: 159.
(4) سورة الشورى، الآية: 13.
(1) سورة الأنعام، الآية: 108.
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 102 – 103.(6/247)
الخلاف بين العلماء
مقدمة
محمد بن صالح العثيمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلِّم تسليماً.
{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }. {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالاَْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }. {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }، أما بعد:
فإنه قد يثير هذا الموضوع التساؤل لدى الكثيرين، وقد يسأل البعض: لماذا هذا الموضوع وهذا العنوان الذي قد يكون غيره من مسائل الدين أهم منه؟ ولكن هذا العنوان وخاصة في وقتنا الحاضر يشغل بالَ كثيرٍ من الناس، لا أقول من العامة بل حتى من طلبة العلم، وذلك أنها كثرت في وسائل الإعلام نشر الأحكام وبثّها بين الأنام، وأصبح الخلاف بين قول فلان وفلان مصدر تشويش، بل تشكيك عند كثير من الناس، لاسيما من العامة الذين لا يعرفون مصادر الخلاف، لهذا رأيت ـ وبالله أستعين ـ أن أتحدث في هذا الأمر الذي له في نظري شأن كبير عند المسلمين.
الخلاف بين العلماء
الأسباب
محمد بن صالح العثيمين(6/248)
إن من نعمة الله تبارك وتعالى على هذه الأُمَّة أن الخلاف بينها لم يكن في أصول دينها ومصادره الأصيلة، وإنما كان الخلاف في أشياء لا تمس وحدة المسلمين الحقيقية وهو أمر لابد أن يكون.. وقد أجملت العناصر التي أريد أن أتحدث عنها بما يأتي:
أولاً: من المعلوم عند جميع المسلمين مما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم أن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق، وهذا يتضمن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد بيَّن هذا الدين بياناً شافياً كافياً، لا يحتاج بعده إلى بيان، لأن الهدى بمعناه ينافي الضلالة بكل معانيها، ودين الحق بمعناه ينافي كل دين باطل لا يرتضيه الله عز وجل، ورسول الله بُعِثَ بالهدى ودين الحق، وكان الناس في عهده صلوات الله وسلامه عليه يرجعون عند التنازع إليه فيحكم بينهم ويبيِّن لهم الحق سواء فيما يختلفون فيه من كلام الله، أو فيما يختلفون فيه من أحكام الله التي لم ينزل حكمها، ثم بعد ذلك ينزل القرآن مبيِّناً لها، وما أكثر ما نقرأ في القرآن قوله: «يسألونك عن كذا»، فيجيب الله تعالى نبيّه بالجواب الشافي ويأمره أن يبلغه إلى الناس. قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }.
{وَيَسَْلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }.(6/249)
{يَسَْلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَبِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
{يَسَْلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ }. إلى غير ذلك من الآيات.
ولكن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلّم اختلفت الأُمَّة في أحكام الشريعة التي لا تقضي على أصول الشريعة وأصول مصادرها.
ولكنه اختلاف سنبيِّن إن شاء الله بعض أسبابه. ونحن جميعاً نعلم علم اليقين أنه لا يوجد أحد من ذوي العلم الموثوق بعلمهم وأمانتهم ودينهم يخالف ما دلَّ عليه كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلّم عن عمد وقصد؛ لأن من اتَّصفوا بالعلم والديانة فلابد أن يكون رائدهم الحق، ومَن كان رائده الحق فإن الله سييسِّره له. واستمعوا إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى }.(6/250)
ولكن مثل هؤلاء الأئمة يمكن أن يحدث منهم الخطأ في أحكام الله تبارك وتعالى، لا في الأصول التي أشرنا إليها من قبل، وهذا الخطأ أمر لابدَّ أن يكون؛ لأن الإنسان كما وصفه الله تعالى بقوله: {وَخُلِقَ الإِنسَنُ ضَعِيفاً }.
الإنسان ضعيف في علمه وإدراكه، وهو ضعيف في إحاطته وشموله، ولذلك لابدَّ أن يقع الخطأ منه في بعض الأمور، ونحن نجمل ما أردنا أن نتكلم عليه من أسباب الخطأ من أهل العلم في الأسباب الآتية السبعة، مع أنها في الحقيقة أسباب كثيرة، وبحر لا ساحل له، والإنسان البصير بأقوال أهل العلم يعرف أسباب الخلاف المنتشرة، نجملها بما يأتي:
السبب الأول: أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه.
وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومَن بعدهم. ونضرب مثالين وَقَعَا للصحابة من هذا النوع.
الأول: فإننا علمنا بما ثبت في صحيح البخاري وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، وفي أثناء الطريق ذُكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابة رضي الله عنهم، فاستشار المهاجرين والأنصار واختلفوا في ذلك على رأيين.. وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبدالرحمن بن عوف، وكان غائباً في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك عِلماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه» فكان هذا الحكم خافياً على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبدالرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.(6/251)
مثال آخر: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتدّ بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر... أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر لم تنقض العدة عندهما وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع الحمل، لأن الله تعالى يقول: {وَأُوْلَتُ الاَْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
ويقول: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. وبين الآيتين عموم وخصوص وجهي، وطريق الجمع بين ما بينهما عموم وخصوص وجهي، أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس رضي الله عنهما، ولكن السُّنَّة فوق ذلك. فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حديث سبيعة الأسلمية أنها نفست بعد موت زوجها بليال فأذن لها رسول الله أن تتزوج»، ومعنى ذلك أننا نأخذ بآية سورة الطلاق التي تسمَّى سورة النساء الصغرى، وهي عموم قوله تعالى: {وَأُوْلَتُ الاَْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.. وأنا أعلم علم اليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًّا وابن عباس لأخذا به قطعاً، ولم يذهبا إلى رأيهما.(6/252)
السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أقوى منه، ونحن نضرب مثلاً أيضاً، ليس فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم. فاطمة بنت قيس رضي الله عنها طلَّقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبرها النبي: أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملاً؛ لقوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُوْلَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
عمر رضي الله عنه ـ ناهيك عنه فضلاً وعلماً ـ خفيت عليه هذه السُّنَّة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، وردَّ حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت، فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟ وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضاً لمَن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة، أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل. وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة فيأخذون بها، ويراها الآخرون ضعيفة، فلا يأخذون بها، نظراً لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.(6/253)
السبب الثالث: أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه، وجلَّ من لا ينسى، كم من إنسان ينسى حديثاً، بل قد ينسى آية، رسول الله صلى الله عليه وسلّم «صلَّى ذات يوم في أصحابه فأسقط آية نسياناً»، وكان معه أُبي بن كعب رضي الله عنه، فلمَّا انصرف من صلاته قال: «هلا كنت ذَكَّرتنيها» وهو الذي ينزل عليه الوحي، وقد قال له ربه: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى }.(6/254)
ومن هذا ـ أي مما يكون الحديث قد بلغ الإنسان ولكنه نسيه ـ قصة عمر بن الخطاب مع عمار بن ياسر رضي الله عنهما حينما أرسلهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حاجة، فأجنبا جميعاً عمار وعمر. أما عمار فاجتهد ورأى أن طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، لأجل أن يشمل بدنه التراب، كما كان يجب أن يشمله الماء وصلَّى، أما عمر رضي الله عنه فلم يصل.. ثم أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأرشدهما إلى الصواب، وقال لعمار: «إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا» ـ وضرب بيديه الأرض مرة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه. وكان عمار رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وفيما قبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات يوم وقال له: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله في حاجة فأجنبنا، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا». ولكن عمر لم يذكر ذلك وقال: اتق الله يا عمار، فقال له عمار: إن شئت بما جعل الله عليَّ من طاعتك أن لا أُحدِّث به فعلت، فقال له عمر: نوليك ما توليت ـ يعني فحدِّث به الناس ـ فعمر نسي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم جعل التيمم في حال الجنابة كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وحصل بينه وبين أبي موسى رضي الله عنهما مناظرة في هذا الأمر، فأورد عليه قول عمار لعمر، فقال ابن مسعود: ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار، فقال أبوموسى: دعنا من قول عمار، ما تقول في هذه الآية؟ ـ يعني آية المائدة ـ فلم يقل ابن مسعود شيئاً، ولكن لا شك أن الصواب مع الجماعة الذين يقولون أن الجُنُب يتيمم، كما أن المحدث حدثاً أصغر يتيمم، والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي، فيقول قولاً يكون به معذوراً لكن مَن علِم الدليل(6/255)
فليس بمعذور. هذان سببان.
السبب الرابع: أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد.
فنضرب لذلك مثالين، الأول من الكتاب، والثاني من السُّنَّة:
1 ـ من القرآن، قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً...} اختلف العلماء رحمهم الله في معنى {أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَآءَ} ففهم بعضٌ منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون: أن المراد به اللمس المثير للشهوة. وفهم آخرون أن المراد به الجِماع، وهذا الرأي رأي ابن عباس رضي الله عنهما.(6/256)
وإذا تأمَّلت الآية وجدت أن الصواب مع مَن يرى أنه الجِماع، لأن الله تبارك وتعالى ذَكَرَ نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر. ففي الأصغر قوله: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}. أما الأكبر فقوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ...} الآية. وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يُذكر أيضاً موجبا الطهارتين في طهارة التيمم، فقوله تعالى: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ} إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر.. وقوله: {أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَآءَ} إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر.. ولو جعلنا الملامسة هنا بمعنى اللمس، لكان في الآية ذِكْر موجبين من موجبات طهارة الحدث الأصغر. وليس فيها ذكر لشيء من موجبات طهارة الحدث الأكبر، وهذا خلاف ما تقتضيه بلاغة القرآن، فالذين فهموا من الآية أن المراد به مطلق اللمس قالوا: إذا مسَّ إنسان ذكرٌ بشرةَ الأنثى انتقض وضوؤه، أو إذا مسها لشهوة انتقض، ولغير شهوة لا ينتقض، والصواب عدم الانتقاض في الحالين، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبَّل إحدى نسائه، ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ، وقد جاء من طرق يقوي بعضها بعضاً.
2 ـ من السُّنَّة: لمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من غزوة الأحزاب، ووضع عدَّة الحرب جاءه جبريل فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه بالخروج وقال: «لا يصلينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة» الحديث، فقد اختلف الصحابة في فهمه. فمنهم مَن فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلمَّا حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها.(6/257)
ومنهم مَن فهم: أن مراد رسول الله ألا يصلوا إلا إذا وصلوا بني قريظة فأخَّروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها.
ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نصٌ مشتبه. وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم.. إذن من أسباب الخلاف أن يفهم من الدليل خلاف مراد الله ورسوله، وذلك هو السبب الرابع.
السبب الخامس: أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ، فيكون الحديث صحيحاً والمراد منه مفهوماً ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه، فحينئذٍ له العذر لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم بالناسخ.
ومن هذا رأى ابن مسعود رضي الله عنه.. ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا ركع؟ كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه ويضعهما بين ركبتيه، هذا هو المشروع في أول الإسلام، ثم نُسخ ذلك، وصار المشروع أن يضع يديه على ركبتيه. وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن مسعود رضي الله عنه لم يعلم بالنسخ، فكان يطبق يديه، فصلَّى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبتيهما، ولكنه رضي الله عنه نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق.. لماذا؟ لأنه لم يعلم بالنسخ، والإنسان لا يكلف إلا وسع نفسه.. قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ }.(6/258)
السبب السادس: أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع. بمعنى أنه يصل الدليل إلى المستدل، ولكنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، وهذا كثير في خلاف الأئمة. وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع، ولكنه عند التأمل لا يكون إجماعاً.
ومن أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة العبد. وآخرون قالوا: أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد. هذا من غرائب النقل، لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظنَّ أن لا مخالف لهم، لاعتقاده أن ذلك مقتضى النصوص، فيجتمع في ذهنه دليلان النص والإجماع، وربما يراه مقتضى القياس الصحيح، والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده، والأمر قد كان بالعكس.
ويمكن أن نمثل لذلك برأي ابن عباس رضي الله عنهما في رِبا الفضل..
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنما الربا في النسيئة»، وثبت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره: «أن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة».
وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة. أما ابن عباس فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط. مثاله لو بعت صاعاً من القمح بصاعين يداً بيد، فإنه عند ابن عباس لا بأس به، لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط.
«وإذا بعت مثلاً مثقالاً من الذهب بمثقالين من الذهب يداً بيد» فعنده أنه ليس ربا. لكن إذا أخَّرت القبض، فأعطيتني المثقال ولم أعطك البدل إلا بعد التفرق فهو ربا.. لأن ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن هذا الحصر مانع من وقوع الربا في غيره، ومعلوم أن (إنما) تفيد الحصر فيدل على أن ما سواه ليس بربا، لكن الحقيقة أن ما دلَّ عليه حديث عبادة يدل على أن الفضل من الربا لقول الرسول صلى الله عليه وسلّم: «مَن زاد أو استزاد فقد أربى».(6/259)
إذاً ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدلَّ به ابن عباس؟ موقفنا أن نحمله على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضاً في الفضل، بأن نقول: إنما الربا الشديد الذي يعمد إليه أهل الجاهلية والذي وَرَدَ فيه قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَفاً مُّضَعَفَةً}. إنما هو ربا النسيئة، أما ربا الفضل فإنه ليس الربا الشديد العظيم، ولهذا ذهب ابن القيّم في كتابه «إعلام الموقعين» إلى أن تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل، وليس من باب تحريم المقاصد.
السبب السابع: أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالاً ضعيفاً. وهذا كثير جداً، فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف: ما ذهب إليه بعض العلماء من استحباب صلاة التسبيح، وهو أن يصلي الإنسان ركعتين، يقرأ فيهما بالفاتحة، ويُسَبِّح خمس عشرة تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم أضبطها، لأنني لا أعتقدها من حيث الشرع. ويرى آخرون أن صلاة التسبيح بدعة مكروهة، وأن حديثها لم يصح، وممن يرى ذلك الإمام أحمد 6 وقال: إنها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية 6: إن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة مَن تأمَّلها وجد أن فيها شذوذاً حتى بالنسبة للشرع، إذ إن العبادة إما أن تكون نافعة للقلب، ولابد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما أن لا تكون نافعة فلا تكون مشروعة، وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر أو في العمر مرة، وهذا لا نظير له في الشرع، فدل على شذوذها سنداً ومتناً، وأن مَن قال إنها كذب، كشيخ الإسلام فإنه مصيب، ولذا قال شيخ الإسلام: إنه لم يستحبها أحد من الأئمة.(6/260)
وإنما مثَّلت بها لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون هذه البدعة أمراً مشروعاً، وإنما أقول بدعة، أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس لأننا نعتقد أن كل مَن دان لله سبحانه مما ليس في كتاب الله أو سُنَّة رسوله فإنه بدعة.
كذلك أيضاً مَن يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال. الدليل قوي لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء من حديث «ذكاة الجنين ذكاة أمه».. فالمعروف عند أهل العلم من معنى الحديث أن أمّ الجنين إذا ذكيت فإن ذكاتها ذكاة له ـ أي لا يحتاج إلى ذكاة إذا أُخرج منها بعد الذبح، لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته.
ومن العلماء مَن فهم أن المراد به ـ أي بالحديث ـ أن ذكاة الجنين كذكاة أمه، تكون بقطع الودجين وإنهار الدم ـ ولكن هذا بعيد والذي يبعده أنه لا يحصل إنهار الدم بعد الموت.
ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكُل». ومن المعلوم أنه لا يمكن إنهار الدم بعد الموت.
هذه الأسباب التي أحببت أن أنبه عليها مع أنها كثيرة، وبحر لا ساحل له.. ولكن بعد هذا كله ما موقفنا؟
وما قلته في أول الموضوع: أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء أو اختلاف المتكلمين في هذه الوسائل صاروا يتشككون ويقولون مَن نتبع؟.
>T0M01.6T1M2T2M01.6<تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد وحينئذٍ نقول: موقفنا من هذا الخلاف، وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم أنهم موثوقون علماً وديانة، لا مَن هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله، لأننا لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهل العلم.. ولكننا نعني به العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم، موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين:(6/261)
1 ـ كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله؟ وهذا يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره، وهو كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحِّراً في العلم.
2 ـ ما موقفنا من اتباعهم؟ ومن نتبع من هؤلاء العلماء؟ أيتبع الإنسان إماماً لا يخرج عن قوله، ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب، أم يتبع ما ترجَّح عنده من دليل ولو كان مخالفاً لِمَا ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟
الجواب هو الثاني، فالواجب على مَن علِم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف مَن خالف من الأئمة. إذا لم يخالف إجماع الأمة، ومن اعتقد أن أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجب أن يؤخذ بقوله فعلاً وتركاً بكل حال وزمان، فقد شهد لغير الرسول بخصائص الرسالة، لأنه لا يمكن أحد أن يكون هذا حكم قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويُترَك سوى رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ولكن يبقى الأمر فيه نظر، لأننا لا نزال في دوامة مَن الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من الأدلة؟ هذه مشكلة، لأن كل واحد صار يقول: أنا صاحبها. وهذا في الحقيقة ليس بجيد، نعم من حيث الهدف والأصل هو جيد؛ أن يكون رائد الإنسان كتاب الله وسُنَّة رسوله، لكن كوننا نفتح الباب لكل مَن عرف أن ينطق بالدليل، وإن لم يعرف معناه وفحواه، فنقول: أنت مجتهد تقول ما شئت، هذا يحصل فيه فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع. والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ عالِم رزقه الله عِلماً وفهماً.
2 ـ طالب علم عنده من العلم، لكن لم يبلغ درجة ذلك المتبحِّر.
3 ـ عامي لا يدري شيئاً.(6/262)
أما الأول: فإن له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان مقتضى الدليل عنده مهما خالفه مَن خالفه من الناس، لأنه مأمور بذلك. قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وهذا من أهل الاستنباط الذين يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله.
أما الثاني: الذي رزقه الله علماً ولكنه لم يبلغ درجة الأول، فلا حرج عليه إذا أخذ بالعموميات والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزاً في ذلك، وألا يقصِّر عن سؤال مَن هو أعلى منه من أهل العلم؛ لأنه قد يخطأ، وقد لا يصل علمه إلى شيء خصَّص ما كان عامًّا، أو قيَّد ما كان مطلقاً، أو نَسَخَ ما يراه محكماً. وهو لا يدري بذلك.
أما الثالث: وهو مَن ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم لقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ }، وفي آية أخرى: {إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَتِ وَالزُّبُرِ}. فوظيفة هذا أن يسأل، ولكن مَن يسأل؟ في البلد علماء كثيرون، وكلٌّ يقول: إنه عالم، أو كلٌّ يقال عنه: إنه عالم، فمن الذي يسأل؟ هل نقول: يجب عليك أن تتحرى مَن هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل مَن شئت ممَّن تراه من أهل العلم، والمفضول قد يوفَّق للعلم في مسألة معيَّنة، ولا يوفَّق مَن هو أفضل منه وأعلم ـ اختلف في هذا أهل العلم؟
فمنهم مَن يرى: أنه يجب على العامي أن يسأل مَن يراه أوثق في علمه من علماء بلده، لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه مَن يراه أقوى معرفة في أمور الطب فكذلك هنا؛ لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك مَن تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار مَن تراه أقوى علماً إذ لا فرق.(6/263)
ومنهم مَن يرى: أن ذلك ليس بواجب؛ لأن مَن هو أقوى عِلماً قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها، ويرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل.
والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل مَن يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب، لأن من هو أفضل قد يخطأ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية، والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه.
وأخيراً أنصح نفسي أولاً وإخواني المسلمين، ولاسيما طلبة العلم إذا نزلت بإنسان نازلة من مسائل العلم ألا يتعجَّل ويتسرَّع حتى يتثبَّت ويعلم فيقول لئلا يقول على الله بلا علم.
فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلِّغ شريعة الله كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «العلماء ورثة الأنبياء».
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم «أن القضاة ثلاثة: قاض واحد في الجنة وهو مَن عَلِمَ الحق فحكم به» كذلك أيضاً من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلِّمك لاسيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس.
وقد ذكر لي بعض مشائخنا أنه ينبغي لمَن سئل عن مسألة أن يُكْثِر من الاستغفار، مستنبطاً من قوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }، لأن الإكثار من الاستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في نسيان العلم والجهل كما قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَقَهُمْ لَعنَّهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ}،
وقد ذُكِرَ عن الشافعي أنه قال:(6/264)
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصيوقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي فلا جرم حينئذٍ أن يكون الاستغفار سبباً لفتح الله على المرء.
وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهَّاب.
والحمد لله رب العالمين أولاً وأخيراً...
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(6/265)
تعاون الدعاة وأثره في المجتمع
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله ـ تعالى ـ بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..
موضوع الرسالة
أيها الإخوة: فإنه يسرّني في هذه الليلة.. ليلة الثلاثاء الموافق الثاني من شهر ربيع الثاني عام عشرة وأربعمائة وألف، أن أحضر إلى هذا المكان.. إلى صالة كليّة أصول الدين في الرياض التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل هذا الحضور وهذا اللقاء مباركًا نافعًا..
أيها الإخوة: إن موضوع الرسالة، كما هو معلوم للجميع أو لأكثرهم هو: «تعاون الدعاة وأثره في المجتمع» ولا شكَّ أن الدعوة إلى الله لها مرتبة عظيمة في شريعة الله، فإنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال في كتابه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم قولاً أمره أن يبلغه إلى الأمة أمرًا خاصًّا، فقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
والنبي صلى الله عليه وسلّم مأمور أن يقول بكل القرآن، أن يبلغ كلام الله إلى عباد الله، ولكن إذا كان الأمر ذا أهمية، فإن الله ـ تعالى ـ يوجه أمرًا خاصًّا إلى رسوله صلى الله عليه وسلّم ليقوم بتبليغه إلى الأمة، ولهذا أمثلة في كتاب الله مثل هذه الاية التي تلوت، ومثل قوله ـ تعالى ـ: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ(6/266)
بِمَا يَصْنَعُونَ ... وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ومثل قوله تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} وغير هذه الايات كثير، لكن المهم أنه ينبغي أن نعلم أن الله إذا صدّر الأمر بالقول إلى محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فإن ذلك يقتضي عناية خاصة فيما وقع فيه هذا القول...
يقول الله ـ تعالى ـ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} والمشار إليه هو المستفاد من قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فالنبي صلى الله عليه وسلّم، كإخوانه من سائر النبيين والمرسلين، تبوؤا هذا المقام(6/267)
العالي العظيم، وهو مقام الدعوة إلى الله.. لكنها دعوة على بصيرة فيما يدعون إليه.. وعلى بصيرة في حال من يدعونهم.. وعلى بصيرة في أسلوب الدعوة.. لابد من هذه البصائر الثلاث.
البصيرة فيما يدعون إليه، والبصيرة في حال المدعو.
والبصيرة في أسلوب الدعوة، وإذا تمت هذه الأمور الثلاثة؛ صارت الدعوة دعوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وإذا اختل منها واحد؛ نقص من كمالها بقدر ما اختل من هذه الأمور الثلاثة يقول الله ـ تعالى ـ في هذه الاية: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
خصائص الداعية
فكل من اتبع النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه لا يُكتفى باتباعه، أن يقوم بالعبادات الخاصة. من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج وبر والدين، وصلة رحم، بل لابد أن يكون داعية إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ بحاله ومقاله.. ولابُدَّ أن يكون أيضًا داعية إلى الله على بصيرة.. بحال من يدعوهم..؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لمّا بعث معاذًا إلى اليمن، قال له: «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب..»(1) وأخبره بحالهم؛ ليكون مستعدًّا لملاقاتهم.. حتى ينزل كل إنسان منزلته، ولا ريب أنَّ كل إنسان عاقل.. يعلم الفرق بين دعوة الإنسان الجاهل، ودعوة الإنسان المعاند المكابر، ولهذا قال الله ـ تعالى ـ {وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، فالذين ظلموا لا نجادلهم بالتي هي أحسن، وإنما نجادلهم بما يليق بحالهم، وظلمهم، ولابُدَّ أن يكون الداعية عالمًا بأسلوب الدعوة.. وكيف يدعو الناس.. وهذا أمرٌ مهم جدًّا، بالنسبة للدُّعاة.. كيف يدعون الناس؟ هل يدعون الناس بالعنف، والشدِّة، والقدح فيما هم عليه، وسب ما(6/268)
ينتهجونه؟! أو يدعون الناس باللين والرفق، وتحسين ما يدعونهم إليه دون أن يقبوحهم فيما هم عليه من منهج وسلوك؟ نستمع يقول الله ـ تعالى ـ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم بل لعباده، لجميع المؤمنين: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108].
نحن نعلم جميعًا أن سب آلهة المشركين أمرٌ مطلوب؛ لأنها آلهة باطلة، كما قال الله ـ تعالى ـ: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62].
وسبّ الباطل، وبيان منزلته للناس أمرٌ مطلوب لابد منه.. ولكن إذا كان يترتب على ذلك مفسدة أكبر، مع إمكان زوال الباطل بدون هذه المفسدة.. فإن الله يقول: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ومعلوم أنهم إذا سبُّوا الله فإنهم يسبونه عدوًا بغير علم، بل نعلم أن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ منزه عن كل عيب، ونحن إذا سببنا آلهتهم، فقد سببناها بحق، ومع ذلك نهى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ عن هذا الحقِّ خوفًا من هذا الباطل العادي؛ لأنه شر، وبناءً على ذلك فإذا رأى الداعية شخصًا على أمرٍ يرى هذا الداعية أنه باطل، وصاحبه يرى أنه حق، فليس من طريق الدعوة التي أرشد الله إليها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلّم أن يقدح فيما هو عليه، من مذهب أو نحلة؛ لأن ذلك ينفره، وربما يؤدي إلى أن يسب ما أنت عليه من الحق؛ لأنك سببت ما هو عليه من الباطل الذي يعتقده حقًّا، ولكن الطريق: أن(6/269)
أبين له الحق، وأشرحه له؛ لأن كثيرًا من الناس، ولا سيما المقلدون، قد يخفى عليهم نور الحق.. بما غشيهم من الهوى والتقليد، لذلك أقول: يبين الحق ويوضح، ولا شك أن الحق تقبله الفطر السليمة؛ لأنه دين الله وشرعه.. فلابد أن يؤثر هذا الحق... أن يؤثر في المدعو.. لا أقول: إنه يؤثر في الحال؛ لأن هذا قد يكون من الأمور الصعبة.. لكن قد يؤثر ولو بعد حين.. قد يفكر هذا المدعو فيما دُعِيَ إليه، مرةً بعد أخرى حتى يتبين له الحق، فالمهم أن الداعية لابد أن يكون ذا بصيرة بما يدعو إليه في الأسلوب الذي يدعو إليه الناس؛ لأن هذا أمر مهم بالنسبة لقبول الدعوة ورفضها.. ولا يخفى علينا جميعًا ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلّم في كيفية الدعوة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالتي هي أحسن، لا يخفى علينا قصة الأعرابي الذي جاء فبال في طائفة من المسجد ـ فزجره الناس وأنكروا عليه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلّم قال: «دعوه ولا تزرموه...»(2)
فلما فرغ من بوله.. أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بما تزول به هذه المفسدة، وهي أن يصب عليه ذنوبٌ من ماء، أي: دلو أو شبهه، ثم دعا الأعرابيّ، وقال له: «إن هذه المساجد، لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ والصلاة، وقراءة القرآن(3)» أو كما قال صلى الله عليه وسلّم. فتأمل هذه الدعوة إلى الحق بهذا الأسلوب.. ماذا تتصور من حال هذا الأعرابي الذي دعاه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى تعظيم المساجد.. بهذا الأسلوب الليّن السهل، إنك لن تتصور إلاَّ أن هذا الأعرابي سيقبل وسيطمئن وسيرتاح، وسيجد الفرق بين ما قام به الصحابةـ رضي الله عنهم ـ من الزجر، وما قام به النبي صلى الله عليه وسلّم من التعليم الهادئ، الذي ينشرح فيه الصدر، ويطمئن به القلب..
تخلق الداعية بما يدعو إلية
إنه يجب على الداعية أيضًا أن يكون هو أول من يتخلق بما يدعو إليه.. لأنه إذا كان يدعو إلى حق، فإن(6/270)
من الحمق البالغ أن يخالف ذلك الحق، وإن كان يدعو إلى باطل، فإن ذلك أشد وأقبح، أن يدعو الناس إلى الضلال، وإلى الشر، فحال الداعية إذا كانت مخالفة لدعوته، لا شكَّ أنه مؤثر في دعوته في ألاَّ تقبل، فإن الناس ينظرون إلى الدعاة غير نظرهم إلى سائر الناس، إذا رأوا الداعية يدعو إلى شيء، ولكنه لا يقوم به، فسيكون عندهم شك فيما دعا إليه، أهو حق أو باطل؟! لأنه سيقول المدعو: إذا كان حقًّا فلماذا لا يفعله.. وحينئذٍ يقل قبول الناس له.. مع ما يلحقه من الإثم العظيم في كونه يدعو ولكنه لا يفعل، يقول الله ـ تعالى ـ منكرًا على بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].
إذن.. فليس من العقل أن يأمر الإنسان غيره بالبر وينسى نفسه.. لأنه إذا كان برًّا، فليكن هو أول من يدعو إليه، هو أول من ينفذه، هو أول من يقوم به، حتى يكون داعية للناس بمقاله وبحاله..
أن يكون بصيرا بما يدعو اليه
ومما يجب على الداعية أن يكون بصيرًا بما يدعو إليه، فلا يتكلم إلاَّ بما يعلم أنه الحق، أو بما يغلب على ظنه أنه الحق، إذا كان هذا الشيء الذي يدعو إليه مما يسوغ فيه الظن، أما أن يدعو بجهل؛ فإنه يهدم أكثر مما يبني، مع أنه آثم إثمًا كبيرًا، يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].
لا تتبع شيئًا لا علم لك به؛ لأنك مسؤول.. ويقول ـ عزَّ وجلَّ ـ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
ونحن نسمع عن بعض(6/271)
الدعاة، أنهم يدعون إلى أمر يجانبون فيه الصواب.. ونعلم أو يغلب على ظنناـ أنهم لم يدعو إلى هذا الشيء عن علم واختيار منهم له.. ولكنه عن جهل.. فيحصل بذلك مفسدتان عظيمتان..
المفسدة الأولى: قبول هذا الباطل الذي دعا إليه هذا الداعية، عن غير علم.
المفسدة الثانية: رد الحق المبني على العلم، كما نشاهد أو نسمع عن بعض الناس في تحريم أشياء ليس لديهم برهان من الله على تحريمها، أو إيجاب أشياء ليس عندهم فيها برهان من الله على إيجابها، فإذا سمع العامّة هذا الداعية يقول بهذا وهم يحسنون الظن به.. رَدّوا الحق الذي عند غيره، وقبلوا هذا الباطل، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نسمع من يقول: إنه لا يجوز استعمال آلات التسجيل، ولماذا؟ قال: لأن هذا ليس موجودًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم فهل هذا الدليل الذي استدل به، هل له وجه في استدلاله به؟
الجواب عليه: ليس له وجه، وذلك لأن هذا ليس من الأمور التعبدية.. حتى نقول إنه إذا لم يثبت شرعيته فهو مردود، بل هو من أمور الوسائل المباحة على الأصل؛ لأن الأصل فيما عدا العبادات الأصل فيه الإباحة.والأصل في الأشياء حل وامنِع عبادةً إلاَّ بإذن الشارع الأصل فيما عدا العبادات هو الحل، ثم هذا الشيء الذي حكمنا بحله.. قد يكون وسيلة إلى أمر مطلوب فيكون مطلوبًا، وقد يكون وسيلة إلى أمر منكر فيكون منكرًا، فآلات التسجيل مثلاً، إذا سجل فيها الخير، فلا شك أنها خير، وفي عهد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كانوا يسجلون القرآن بالكتابة.. وهذه وسيلة، أما الان فنسجل بالكتابة، ونسجل بالصوت، وهذه وسيلة.
من نعم الله علينا (فيما أرى)، كم حفظ فيها من العلم، وكم استفاد منها السامع، فكيف يمكن لداعية أن يقوم ويقول للناس: إنّ هذا أمرٌ منكر، هذا أمر بدعة، هذا أمر لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لو أننا سلكنا هذا المسلك؛ لألغينا كثيرًا من الأمور التي فيها مصالح ظاهرة للمسلمين،(6/272)
أمثال ذلك كثير، ولا أحب أن أطيل بها، لكن الذي أريد أن أؤكد عليه، هو أنه يجب على الداعية أن يكون بصيرًا في دين الله عزَّ وجلَّ، حتى لا يدعو إلى منكر وهو لا يعلم، أو لا يحذّر من معروف وهو لا يعلم، والحمد لله الشيء الذي لا تدعو إليه اليوم وتؤجله إلى الغد بعد أن تتأمل في النصوص والأدلة خيرٌ لك من أن تتعجل وتقول فيما لا تعلم، هذه مسائل عامة بالنسبة للداعية أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه، وفي حال من يدعوهم، وفي أساليب الدعوة.
أن يكون صبورا
ومما يجب أن يكون عليه أيضًا الداعية أن يكون صبورًا على ما يناله من أذًى قولي أو فعلي؛ لأن الداعية إلى الخير، لابد أن يكون له أضداد، يكرهون ما يدعو إليه، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: 31]، كل نبي له عدو من المجرمين، لا من أجل شخصه، ولكن من أجل نبوته، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث ويرسل، كان عند قريش الصادق الأمين، ولمّا بعث بشريعة الله؛ صار عندهم الكذَّاب، الساحر، الشاعر، الكاهن، المجنون، إلى آخر ما يلقبونه به من ألقاب السوء، يقول الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: 31]، لماذا لشخصه، أو لنبوته؟ لنبوته فكل من أخذ بمنهاج النبي؛ فلابد أن يكون له عدو من المجرمين، وإذا كان له عدو، فلابد أن يحرص هذا العدوّ على إيذائه بكل ما يستطيع، من قول أو فعل، ولكن على الداعية أن يصبر، ويحتسب، ويؤمل ويرجو نصر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ والعاقبة الحميدة.
لا ينبغي أن يكون داعية لشخص
ثم إن الداعية لا ينبغي أن يكون داعية لشخصه، بل يجب أن يكون داعية إلى الله، بمعنى أنه لا يهمه أن ينتصر أو(6/273)
أن يقبل قوله في حياته، أو بعد مماته، المهم أن ما يدعو إليه من الحق يكون مقبولاً لدى الناس، سواء في حياته أو بعد موته، صحيح أن الإنسان يُسر وينشط إذا قبل الحق الذي يدعو إليه في حياته، لكن إذا قُدِّر أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ابتلاه ليعلم صبره من عدم الصبر، ابتلاه بعدم القبول المباشر أو السريع، فليصبر وليحتسب، وما دام يعلم أنه على الحق، فليثبت عليه، وتكون العاقبة له، خلافًا لبعض الدعاة، الذين إذا سمعوا قولاً يؤذيهم، أو فُعِلَ فيهم فِعْلٌ يؤذيهم، نكصوا أو ترددوا أو شكّوا فيما هم عليه، وقد قال الله ـ تعالى ـ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94].
الإنسان الداعية إذا لم يجد قبولاً حاضرًا ربما ينكص على عقبيه، أو يتشكك ويتردد، هل هو على حق أو ليس على حق؟! ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد بيَّن الحق، وجعل للحق منارًا معلومًا، فإذا علمت أنك على حق فاثبت، وإن سمعت ما تكره، أو رأيت ما تكره، فاصبر فإن العاقبة للمتقين..
من آداب الدعاة
ومن آداب الدُّعاة التي يجب أن يكونوا عليها هو تعاونهم، تعاونهم فيما بينهم، لا يكن همّ الواحد منهم أن يقبل قوله ويُقدم على غيره، بل يكن همّ الداعية أن تُقبل الدعوة، سواء صدرت منه أو صدرت من غيره، ما دُمتَ تريد أن تعلو كلمة الله، فلا يهمنك أن تكون من قِبَلكِ أو من قِبَلِ غيرك، صحيح أن الإنسان يحب أن يكون الخير على يده، لكن لا يكره أن يكون الخير على يد غيره، بل يجب أن يحب أن تعلو كلمة الله، سواء على يده أو يد غيره، وإذا بنى اتجاهه على هذا؛ فسوف يعاون غيره في الدعوة إلى الله، وإن تقدَّم قَبُول الناس لغيره على قبولهم إياه.
الواجب على الدعاة أن يكونوا يدًا واحدة، يتساعدون،(6/274)
ويتعاونون، ويتشاورون فيما بينهم، وينطلقون انطلاقًا واحدًا، ويقومون لله مثنى وثلاث ورباع {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
وإذا كنَّا نرى أن دعاة الشرّ والسوء يجتمعون ويتحدون ويخططون، فلماذا لا يعمل الدعاة هذا العمل، حتى يرشد بعضهم بعضًا فيما يخطئ فيه الآخر من علم أو وسيلة دعوة أو ما أشبهه ذلك؟! ونحن إذا نظرنا إلى نصوص الكتاب والسنة؛ وجدنا أنَّ الله ـ تعالى ـ وصف المؤمنين بأوصاف تدل على أنهم متحدون متعاونون، قال الله ـ تعالى ـ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 71].
وقال ـ تعالى ـ: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104، 105].
إنَّ الشيطان يلقي في قلب الداعية شيئًا من كراهة داعية مثله إذا نجح في دعوته، لا يحب أن يكون مثله في نجاح الدعوة، بل يكره أن يتقدم هذا في النجاح، وقبول الناس له، ولهذا قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في تفسير الحسد: إنَّ الحسد أن تكره نعمة الله على غيرك، وإن كان معروفًا عند العلماء أن الحسد تمني زوال النعمة عن الغير، بل نقول: الحسد كراهة نعمة الله تعالى على غيرك، سواء تمنيت زوالها أم لم(6/275)
تتمنَ، فأنت أيها الإنسان يجب عليك أن تعاون أخاك الداعية في دعوته، حتى وإن تقدم عليك ونجح في دعوته، ما دمت تريد أن تكون كلمة الله هي العُليا، واعلموا أيها الإخوة أن دُعاة السوء والشر يحبون أن يتفرق دُعاة الخير؛ لأنهم يعلمون أن اتحادهم وتعاونهم سبب لنجاحهم، وأن تفرقهم سبب لفشلهم، قال الله ـ تعالى ـ: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
ولا ريب أن كل واحدٍ منا معرّض للخطأ، فإذا رأينا من أحدنا خطأً؛ فلنتعاون على إزالة هذا الخطأ بالاتصال به، وبيان هذا الخطأ، وقد يكون الخطأ خطأً في ظننا، ولكنه في الواقع ليس بخطأ، فيبين لنا هذا خطأنا في ظننا أنه خطأ، أما أن نأخذ من خطئه سببًا للقدح فيه، والتنفير عنه، فإن هذا ليس من سمات المؤمنين، فضلاً عن كونه من سمات الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ ، ولا أحد يشك أننا في هذه السنوات القريبة بدأ الشباب ـ ولله الحمد ـ ينطلق منطلقًا سليمًا للدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، ولكن حصل فيه شيءٌ من الخطأ، في أنَّ بعض الشباب الآن صار ينطلق من منطلق وحده، ولا يبالي برأي غيره، بل هو معجبٌ بما عنده من العلم والفكر، وإن كان على جانب كبير من الجهل بعلمه، والخطأ في فكره، فتجده يحتقر غيره، ولا ينصاع لما معه من الحق، حتى لو ذُكر له إمامٌ من أئمة المسلمين المشهود لهم بالعلم والدين والأمانة، قال: ومن هذا، أليس رجلاً وأنا رجل؟! مع العلم بأن ما ذهب إليه مما ادَّعى أنه من رجولته مبني على قلة البصيرة والعلم، فتجده لا يجمع بين أطراف الأدلة مثلاً: يأخذ بدليل، ولا سيما إذا كان هذا الدليل يدل على حكم غريب، يأخذ به، ويدع ما سواه، ولا يرعوي أو ينصاع إذا قيل له فكّر في الأمر، انظر في الأدلة، انظر إلى خلاف جمهور العلماء مثلاً، ولكنه لا يفكّر، وهو أيضًا يعامل إخوانه الدعاة هذه المعاملة، يجد أن غيره إذا خالفه،(6/276)
فهو على باطل، وهو الذي على الحق، كأنما يوحى إليه.
ولا شكَّ أن هذا المنهج منهجٌ غير سديد، فلا يجوز للإنسان أن يعتقد خطأ غيره، وأنَّ الصواب معه في أمورٍ تقبل الاجتهاد؛ لأنه إذا اعتقد ذلك فكأنما تنصّب منصب النبوة والرسالة والعصمة، فالخطأ جائز على غيرك، هو جائز عليك، والصواب الذي تدّعيه لنفسك يدّعيه غيرك، وقد يكون الصواب مع غيرك، والخطأ معك، ومن ثَمَّ صار بعض الشباب الان ينتمي إلى طائفةٍ معيَّنة، أو إلى عالمٍ معيّن ينتصر له، ويأخذ بقوله، سواء كان صوابًا أم خطأً، وهذا في الواقع مما يشتت الأمة، ويضعف العزيمة، ويجعل هؤلاء الشباب المقبل على الله محلّ هزء وسخرية لأهل الشر والسوء.
فالواجب علينا أن نكون كما أمر الله، بل أن نكون كما وصفنا الله {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وأن تكون كلمتنا واحدة، ولست أقول: إنه يجب أن يكون قولنا واحدًا بمعنى ألاَّ يقع بيننا خلاف فيما يسوغ فيه الخلاف؛ لأن هذا أمرٌ لا يمكن، لكن أقول: إنه إذا وقع بيننا خلافٌ فيما يسوغ فيه الخلاف، يجب ألاَّ يؤدي هنا إلى اختلاف القلوب، بل تكون القلوب واحدة، والموالاة بيننا قائمة، والمحبة ثابتة، ولو اختلفنا فيما يسوغ فيه الاجتهاد.
وأضرب لهذا مثلاً، في مسألة تعتبر يسيرة بالنسبة للمهمات من الإسلام، كمسألة الجلوس في الصلاة عند القيام إلى الركعة الثانية، أو القيام إلى الركعة الرابعة، فإنَّ من أهل العلم من يرى أنه سنة، ومن العلماء من يرى أنه ليس بسنة، ومن العلماء من يفصّل، والخلاف في هذا مشهور، لكن إذا كان صاحبي ومشاركي في الدعوة، إذا كان يرى أن الجلوس سنة، وأنا لا أرى أنَّه سنة، وجلس ولم أجلس أنا، فهل يسوغ لنا أن نجعل من هذا الخلاف سببًا لكراهة بعضنا بعضًا؟! أو للتشهير أو للتشنيع؟ لا والله لا يسوغ، وإذا كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ اختلفوا في أمرٍ أكبر من هذا، وأهمّ وأعظم، ولم(6/277)
ينفّر بعضهم عن بعض، ولم يكره بعضهم بعضًا.. فما بالنا نحن، يكره بعضنا بعضًا من أجل هذه المسائل اليسيرة، بالنسبة لما هو أهمّ منها في الدين، ألم يعلم الكثير منَّا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رجع من غزوة الأحزاب، وجاءه جبريل، وأمره أن يخرج إلى بني قريظة، لنقضهم العهد، ندب أصحابه صلى الله عليه وسلّم إلى الخروج إلى بني قريظة، وقال: «لا يصلينَّ أحدٌ العصر إلاَّ في بني قريظة(1)» فخرجوا من المدينة، فأدركتهم الصلاة، فمنهم من قال: لا نصلي إلاَّ في بني قريظة، وأخّروا الصلاة حتى خرج الوقت، ومنهم من قال: نصلي العصر في وقتها، وإن لم نصل إلى بني قريظة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلّم، فلم يُعنف أحدًا من الطائفتين، وهم بأنفسهم لم يكن في قلوب بعضهم على بعض شيءٌ من الكراهة أو العداوة مع أنَّ الخلاف هذا أشدّ من الاختلاف في الجلوس، عند القيام للركعة الثانية أو الرابعة، يعني هذا خلاف في إخراج الصلاة عن وقتها، أو الصلاة في وقتها، فالذي أرجوه من إخوتي الدعاة ألاَّ يجعلوا هذه الأمور التي يقع فيها الاختلاف السائغ الذي يُسوِّغه الاجتهاد، ألاَّ يجعلوها سببًا للفرقة والتحزب وتضليل بعضهم بعضًا؛ لأن ذلك مما يضعف منصبهم أمام أعدائهم، وأنتم تعلمون أن هناك أعداءً يتربصون الدوائر بالدعاة إلى الخير، ولكن من كان الله معه؛ فله العاقبة، وهو المنصور في الدنيا والاخرة، كما قال الله ـ تعالى ـ: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51].
أسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يجعلني وإياكم من أنصار دينه، والدعاة إليه على بصيرة، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب، وأسأل الله ـ تعالى ـ أن يجزي إخواننا الذين هيئوا لنا هذا اللقاء، أن يجزيهم خيرًا، وأن يجعلهم ـ دائمًا ـ من هداة الخير.
أسئلة
إن مما وقع فيه الخلاف بين الدعاة إلى الله ـ عزَّ(6/278)
وجلَّ ـ أمر وسائل الدعوة، فمنهم من يجعله عبادةً توقيفية، وبالتالي ينكر على من يقيمون الأنشطة المتنوعة، الثقافية أو الرياضية، أو المسرحية، كوسائل لجذب الشباب ودعوتهم، ومنهم من يرى أن الوسائل تتجدد بتجدد الزمان، وللدعاة أن يستخدموا كل وسيلة مباحة في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ.. نرجو من فضيلتكم بيان الصواب في ذلك، والله يحفظكم؟.
ج1: الحمد رب العالمين... لا شكَّ أن الدعوة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ عبادة.. كما أمر الله بها في قوله {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 521]، والإنسان الداعي إلى الله يشعر وهو يدعو إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أنه ممتثل لأمر الله، متقرب إليه به، ولا شك أيضًا أن أحسن ما يُدعى به هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم؛ فإن كتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو أعظم واعظ للبشرية {يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[يونس: 57]، والنبي صلى الله عليه وسلّم كذلك، قوله أبلغ الأقوال موعظة، فقد كان يعظ أصحابه أحيانًا موعظة يصفونها بأنها وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فإذا تمكن الإنسان من أن تكون عظته بهذه الوسيلة؛ فلا شك أن هذه خير وسيلة، أي بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وإذا رأى أن يضيف إلى ذلك أحيانًا وسائل مما أباحه الله، فلا بأس بهذا، لا بأس بذلك، ولكن بشرط أن تكون هذه الوسائل لا تشتمل على شيء محرّم كالكذب، أو تمثيل دور الكافر مثلاً في التمثيليات، أو تمثيل الصحابة رضي الله عنهم، أو أئمة المسلمين من بعد الصحابة، أو ما أشبه ذلك، مما يُخشى منه أن يُزْدَرى، أو أن يزدري أحدٌ من الناس(6/279)
هؤلاء الأئمة الفضلاء، وكذلك أيضًا لا تشتمل التمثيلية على تشبه رجلٍ بامرأة، أو بالعكس؛ لأن هذا مما ثبت فيه اللعن عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فإنه لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء(5)، المهم أنه إذا فُعِلَ شيء من هذه الوسائل أحيانًا من أجل التأليف ولم تشتمل على شيء محرّم، فلا أرى بها بأسًا، أمَّا الإكثار منها وجعلها هي الوسيلة في الدعوة إلى الله، والإعراض عن الدعوة بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحيث لا يتأثر المدعو إلاَّ بمثل هذه الوسائل، فلا أرى ذلك، بل أرى أنه محرّم؛ لأنَّ توجيه الناس إلى غير الكتاب والسنة فيما يتعلق بالدعوة إلى الله أمر منكر، لكن فعل ذلك أحيانًا لا أرى فيه بأسًا إذا لم يشتمل على شيء محرّم.
: هل الدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ومسلمة، أم تقتصر على العلماء وطلاب العلم فقط؟
ج2: إذا كان الإنسان على بصيرة فيما يدعو إليه، فلا فرق بين أن يكون عالمًا كبيرًا يُشار إليه، أو طالب علمٍ مجدًّا في طلبه، أو عاميًّا لكنه علم المسألة علمًا يقينيًّا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم يقول: «بلِّغوا عنِّي ولو آية»(6)ولا يشترط في الداعية أن يبلغ مبلغًا كبيرًا في العلم، لكن يشترط أن يكون عالمًا بما يدعو إليه، أما أن يقوم عن جهل ويدعو بناءً على عاطفةٍ عنده، فإنَّ هذا لا يجوز، ولهذا نجد من الإخوة الذين يدعون إلى الله، وهم ليس عندهم من العلم إلاَّ القليل، نجدهم لقوة عاطفتهم يحرّمون ما لم يحرّمه الله، ويوجبون ما لم يوجبه الله على عباده، وهذا أمرٌ خطير جدًّا؛ لأن تحريم ما أحل الله كتحليل ما حرَّم الله، فهم مثلاً إذا أنكروا على غيرهم تحليل هذا الشيء، فغيرهم ينكر عليهم تحريمه أيضًا؛ لأن الله جعل الأمرين سواء فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ(6/280)
الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117].
: هل يجوز للداعية أن يدعو الناس وهم على منكراتهم، كإتيانهم وهم على الأرصفة في معازفهم ولهوهم؟.. وهل تجوز الزيارات بغرض الدعوة لبيوت العُصاة؟ وما هو الأسلوب المناسب في ذلك؟
ج3: الدعوة تكون بالحكمة.. كما أمر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فإذا رأى الإنسان أنّ دعوتهم في هذا المحل، أو في هذا الوقت مناسبة ومثمرة؛فليتقدم إليهم حتى وإن جاء العُصاة في أماكنهم، وقد ذكر المؤرخون أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يأتي الناس في الموسم، موسم الحج في منازلهم ويدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ، وكذلك يدعوهم وإن كانوا على الأرصفة وفي لهوهم إذا رأى في ذلك مصلحة، وإذا كان لا يرى مصلحة في دعوتهم جميعًا فبإمكانه أن يأخذهم واحدًا واحدًا، وليحرص على زعمائهم، والكبراء منهم؛ لأن الزعماء والكبراء إذا صلحوا؛ صلح الأتباع، فليحرص مثلاً إذا كان لا يتمكن أو لم ير مصلحة في الدعوة العامة على الكبراء والزعماء، ويتقدم إليهم إمَّا في بيوتهم أو في مكان آخر أنسب ويدعوهم.
المهم أنَّ الإنسان إذا التزم ما أرشد الله إليه، وأمر به من الحكمة؛ صار على خير كثير {يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
: ما رأيك يا فضيلة الشيخ في بعض الشباب، بل ومنهم بعض طلبة العلم الذي صار ديدنهم التجريح في بعضهم البعض، وتنفير الناس عنهم والتحذير منهم، هل هذا عملٌ شرعي، يثاب عليه أو يعاقب عليه؟
ج4: الذي أرى أنَّ هذا عمل محرَّم، وإذا كان الإنسان لا يجوز أن يغتاب أخاه المؤمن، وإن لم يكن عالمًا، فكيف يسوغ له أن يغتاب إخوانه العلماء من المؤمنين، والواجب على الإنسان المؤمن أن يَكُفَّ لسانه عن الغيبة في إخوانه(6/281)
المؤمنين، قال ـ تعالى ـ: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12]، وليعلم هذا الذي ابتلي بهذه البلوى، أنَّه إذا جرح العالم، فسيكون سببًا في رد ما يقوله هذا العالم من الحق، فيكون وبال رد الحق وإثمه على هذا الذي جرح العالم؛ لأن جرح العالِم في الواقع ليس جرحًا شخصيًّا، بل هو جرح لإرث محمد صلى الله عليه وسلّم؛ فإن العلماء ورثة الأنبياء، فإذا جُرِّح العلماء وقدح فيهم، لم يثق الناس في العلم الذي عندهم، وهو موروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وحينئذٍ لا يثقون بشيء من الشريعة التي يأتي بها هذا العالِم الذي جُرح، ولست أقول: إن كل عالِم معصوم، بل كل إنسان معرّض للخطأ، وأنت إذا رأيت من عالمٍ خطأ فيما تعتقده فاتصل به وتفاهم معه، فإن تبين لك أن الحق معه؛ وجب عليك اتباعه، وإن لم يتبين لك، ولكن وجدت لقوله مساغًا؛ وجبَ عليك الكفّ عنه، وإن لم تجد لقوله مساغًا، فحذّر عن قوله؛ لأن الإقرار على الخطأ لا يجوز، لكن لا تجرحه وهو رجل عالم معروف بحسن النية، ولو أردنا أن نجرح العلماء المعروفين بحسن النية لخطأ وقعوا فيه من مسائل الدين، لجرحنا علماءً كبارًا، ولكن الواجب هو ما ذكرت، إذا رأيت من عالم خطأً فناقشه وتكلم معه فإما أن يتبين لك أن الصواب معه فتتبعه، أو أن الصواب معك فيتبعك، أو لا يتبين الأمر ويكون الخلاف من الخلاف السائغ. وحينئذ يجب عليك الكف عنه، وليقل هو ما يقول،وأنت تقول ما تقول.
والحمد لله الخلاف ليس في هذا العصر فقط. الخلاف من عهد الصحابة إلى يومنا... وأما إذا تبين الخطأ ولكنه أصر انتصارًا لقوله؛ وجب عليك أن تبين الخطأ، وتنفر من الخطأ، لكن(6/282)
على أساس القدح في هذا الرجل وإرادة الانتقام منه؛ لأن هذا الرجل قد يقول قولاً حقًّا في غير ما جادلته فيه المهم أني أنصح إخواني بالابتعاد عن هذا البلاء وهذا المرض، وأسأل الله لي ولهم الشفاء من كل ما يعيبنا أو يضرنا في ديننا ودنيانا.
: قلتم في كتابكم: «زاد الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ» ما نصّه: «أما التفرق والتحزب، فإنَّ هذا لا تقر به عين أحد. إلاَّ من كان عدوًّا للإسلام والمسلمين» والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «اختلاف أمتي رحمة(7)» فما المراد بهذا الخلاف الذي هو الرحمة، وما التفرق المقصود في كلامكم؟ حفظكم الله.
ج5: أمَّا الحديث الذي ذكره السائل، فهو حديث ضعيف ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلّم؛ لأن الله يقول {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119]، فجعل الله ـ تعالى ـ الاختلاف من صفة غير المرحومين، فالأمة لا يمكن أن تختلف، بل رحمة الله بها ألاَّ تختلف، لا أقول: لا تختلف أقوالها، فإن الأقوال قد تختلف، لكن لا تختلف قلوبها.. وعلى تقدير أن يكون الحديث صحيحًا، أو حجة، فإن معناه: أن الخلاف الواقع بين الأمة في آرائهم داخلٌ تحت رحمة الله، أي: أن الله تعالى يرحم المجتهد منهم، وإن وقع بينهم خلاف في اجتهادهم، بمعنى أن الله لا يعاقب من جَانَبَ الصواب، وقد اجتهد فيه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر»(8) هذا معنى الحديث إن كان حجة، وإلاَّ فالصحيح أن الحديث ضعيف، وليس ثابتًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبناءً على ذلك لا يقع خلاف بين ما ذكر في «زاد الداعية» وبين هذا الذي قيل إنه حديث.
: فضيلة الشيخ: لا شكَّ أن التعاون بين الدعاة أمرٌ محتم لنجاح دعوتهم، وقبول الناس لها، والسؤال: الساحة الإسلامية تحفل بكثير من الدعاة، ولكل منهم أسلوبه وطريقته، لكن مع ذلك،(6/283)
قد يكون هناك خلافٌ في مسائل مهمة كالعقيدة، فما هي الضوابط التي ترونها للعمل والتعاون مع هؤلاء وغيرهم، والدعاة بحاجة إلى توجيهكم في هذه المسألة.. وفقكم الله.
ج6: لا شك أن الضوابط لهذا الخلاف هو الرجوع إلى ما أرشد الله إليه في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، وفي قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]، فالواجب على من خرج عن الصواب في العقيدة أو في العمل أي في الأمور العلمية والعملية ـ الواجب أن يُبين له الحق ويُوضح، فإن رجع فذلك من نعمة الله عليه، وإن لم يرجع فهو ابتلاء من الله ـ سبحانه وتعالى ـ له، وعلينا أن نبيِّن الخطأ الذي هو واقع فيه، وعلينا أن نبيِّن الخطأ وأن نحذِّر من هذا الخطأ بقدر الاستطاعة، ومع هذا لا نيأس، فإن الله ـ تعالى ـ رد أقوامًا من بدع عظيمة حتى صاروا من أهل السنة، ولا يخفى على كثير منا ما اشتهر عن أبي الحسن الأشعري ـ رحمه الله ـ أنه بقي في طائفة الاعتزال مدة أربعين سنة من عمره، ثم اعتدل بعض الشيء لمدة، ثم هداه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ إلى السبيل الأقوام، إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة، فالحاصل أن مسائل العقيدة مهمة، ويجب التناصح فيها، كما يجب التناصح أيضًا في الأمور العملية، وإن كانت دائرة الخلاف بين أهل العلم في المسائل العملية أوسع وأكثر، إذ إن المسائل العلمية العقدية لم يحصل فيها اختلاف في الجملة، وإن كان بعضها قد وقع فيه بعض الخلاف، كمسألة(6/284)
فناء النار، ومسألة عذاب البرزخ، ومسألة الموازين، ومسألة ما يوزن، وأشياء متعددة لكن إذا قستها بالخلاف العملي وجدت أنها في دائرة ضيقة ولله الحمد، ولكن مع هذا يجب علينا فيمن خالفنا في الأمور العلمية أو العملية يجب علينا المناصحة وبيان الحق على كل حال.
: يقول السائل: فضيلة الشيخ: هل يؤخذ من الاية {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هل يؤخذ منها أنه يجب على الداعية أن يترك السنة إذا كان يترتب على تطبيق هذه السنة أن تُسبَّ هذه السنة، كتقصير الثياب وغيرها؟ وجزاكم الله خيرًا؟
ج7: إن ترك السنة ليس فيها سب للاخرين فلا تنطبق عليه الاية، لكن ربما يؤخذ ترك السنة من دليل آخر من السنة وهو ترك النبي صلى الله عليه وسلّم بناء البيت «الكعبة» على قواعد إبراهيم خوفًا من الفتنة؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر، فمثلاً إذا كانت السُّنة من الأمور المستغربة عند العامة والتي يتهم الإنسان فيها بما ليس فيه فإن الأولى والأفضل أن الإنسان يمهد لهذه السُّنة في القول قبل أن يتخذها بالفعل، يبين للناس في المجالس، في المساجد، في أي فرصة مناسبة يبين لهم الحق حتى إذا قام بفعله. فإذا الناس قد اطمأنوا وفهموا وعرفوا.
وأنا أجزم أن العامة قد يكرهون السُّنة؛ لأن هذا الرجل هو الذي فعلها ولا يكرهونها لأن رجلاً آخر فعلها.
لو أن أحدًا من أهل العلم المعتبرين عند العامة رفع ثوبه لم يكن استنكار الناس لهذا العمل كاستنكارهم له إذا وقع من شخص آخر لا يعتبرونه عالمًا ولا يثقون به، وهذا أمرٌ معلوم.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن الأولى أن تتدرج بالعامة بحيث إذا فعلت فعلاً يستنكرونه يكون عندهم علم مسبق به حتى يرد على قلوبهم وهي غير فارعة من العلم به.
س(6/285)
8: من الدعاة من ينتهج أسلوب التربية والتعليم للمدعوين، ومنهم من ينتهج أسلوب الوعظ والتذكير في الأماكن العامة التي يجتمع فيها الناس، فما رأي فضيلتكم في هذا، وأيُّ الأساليب أنجح؟
ج 8: الذي أرى أنَّ هذه من نعمة الله ـ سبحانه وتعالى ـ على العباد، أن جعلهم يختلفون في الطريق أو الوسيلة في الدعوة إلى الله، فهذا رجلٌ واعظ أعطاه الله سبحانه وتعالى بيانًا وقدرة على الكلام وتأثيرًا، نقول له: الوعظ أحسن له، وهذا آخر أعطاه الله ـ تعالى ـ لينًا ورقَّة ولطافة يربي الناس بأن يدخل فيهم من هذه الناحية، فنقول: هذا الأسلوب أفضل من الأول، لا سيما أنه إذا كان لا يحسن أن يتكلم؛ لأن بعض الناس داعية وعنده علم، لكن لا يحسن أن يتكلم؛ وفضل الله ـ سبحانه وتعالى ـ موزَّع بين عباده، رفع الله بعضهم فوق بعضٍ درجات، فالذي أرى أن الإنسان يستعمل الأسلوب الذي يرى أنه أنفع وأجدى، وأنه به أقوم، وألاَّ يدخل نفسه في أمرٍ يعجز عنه، بل يكون واثقًا من نفسه، مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ، حتى إذا وردت عليه إيرادات تخلَّص منها.
س 9: ما رأي فضيلتكم فيمن ينفر من قراءة كتب الدُّعاة المعاصرين، ويرى الاقتصار على كتب السَّلف الأخيار، وأخذ المنهج منها، ثم ما هي النظرة الصحيحة أو الجامعة لكتب السلف رحمهم الله، وكتب الدعاة المعاصرين والمفكرين؟ وفقكم الله!
ج 9: الذي أرى أن الدعوة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم فوق كل شيء، وهذا رأينا جميعًا بلا شك، ثم يلي ذلك ما ورد عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة، وعن أئمة الإسلام فيمن سلف، أما ما يتكلم عليه المتأخرون المعاصرون فإنه قد حدثت أشياء، هم بها أدرى، فإذا اتخذ الإنسان من كتبهم ما ينتفع به في هذه الناحية، فقد أخذ بحظ وافر، ونحن نعلم أن المعاصرين إنما أخذوا ما أخذوا من العلم ممن سبق، فلنأخذ نحن مما أخذوا منه لكن استجدت أمور، هم بها أبصر منا، ولم تكن معلومة لدى السلف بأعيانها،(6/286)
فالذي أرى أن يجمع الإنسان بين الحسنيين، فيعتمد أولاً على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وثانيًا على كلام السلف الصالح من الخلفاء الراشدين والصحابة وأئمة المسلمين، ثم على ما كتبه المعاصرون، الذين جدَّت في زمنهم حوادث لم تكن معلومة بأعيانها فيما سلف.
س 10: فضيلة الشيخ يثير البعض قضية أن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ قد تكفَّل بحفظ هذا الدين، ومن ثمَّ فإن العمل الذي يؤدّيه الدُّعاة في سبيل خدمة الإسلام عبث لا داعي له، فكيف الرد على هؤلاء؟
ج10: الرد على هؤلاء بسيط، إذ إن هؤلاء نزعتهم نزعة من ينكر الأسباب، ولا ريب أن إنكار الأسباب من الضلال في الدين والسفه في العقل، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ تكفَّل بحفاظ الدين، لكن بأسباب... كذلك بما يقوم به الدعاة إلى هذا الدين من نشره وبيانه للناس، والدعوة إليهم، وما هذا القول إلاَّ بمنزلة من يقول: لا تتزوج فإن قُدّر لك ولد فسيأتيك، أو لا تسعى في الرزق، فإن قُدر لك رزقٌ فسيأتيك، فنحن نعلم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ إذا كان يقول سبحانه وبحمده: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فإنما يقول ذلك لعلمه؛ بأنه سبحانه وتعالى الحكيم، لا تكون الأشياء إلاَّ بأسباب فيقدر الله ـ تعالى ـ لحفظ هذا الدين من الأسباب ما يكون به الحفظ، ولهذا نجد علماء السلف حينما حفظ الله بهم دينهم من البدع العقدية والعملية، ساروا يتكلمون ويكتبون، ويبينون للناس، فلابد أن نقوم بما أوجب الله علينا من الدفاع عن الدين، وحمايته، ونشره بين العباد، وبذلك سيتحقق الحفظ.
س 11: هناك من الناس، من لا يرتدع إلاَّ بالعنف، فما العمل معه؟
ج 11: لا شك أنَّ من الناس من لا يرتدع إلاَّ بالعنف، ولكن العنف الذي لا يخدم المصلحة، ولا يحصل به إلاَّ ما هو أشر، لا يجوز استعماله؛ لأن الواجب اتباع الحكمة، والعنف الذي منه الضرب والتأديب والحبس، إنما يكون لولاة(6/287)
الأمور، وأما عامة الناس، فعليهم بيان الحق، وإنكار المنكر، وأمَّا تغيير المنكر، ولا سيما باليد، فإن هذا موكول إلى ولاة الأمور، وهم الذين يجب عليهم أن يُغيروا المنكر بقدر ما يستطيعون؛ لأنهم هم المسؤولون عن هذا الأمر، ولو أن الإنسان أراد أن يُغير المنكر بيده كلما رأى منكرًا، لحصل بذلك مفسدة قد تكون أكبر من المنكر الذي أراد أن يغيره بيده، فلهذا يجب اتباع الحكمة في هذا الأمر، لو كنت ربّ أهل بيت، أي راعيهم، فإنك تستطيع أن تُغير المنكر في هذا البيت بيدك، فغيَّره، لكن تغير هذا المنكر بيدك في السوق، قد تكون النتيجة أسوأ من بقاء هذا المنكر، ولكن يجب عليك أن تبلغ من يملك تغيير هذا المنكر في السوق.
س 12: فضيلة الشيخ: قد ذكرتم خلال المحاضرة أنه يجب على الداعية ألاَّ يدعو إلى شيء إلاَّ بعد تحقيقه في نفسه، والسؤال هو: إذا كان هذا الداعية يدعو إلى شيء لا يستطيع تطبيقه بعد المحاولة على ذلك، ويرى أن هذا المدعو سوف يقدر على القيام به.. فهل يدعو إليه؟
ج 12: نعم.. إذا كان هذا الداعي الذي يدعو إلى الخير، لا يستطيع أن يفعله بنفسه، فعليه أن يدعو غيره إليه، ولنفرض كذلك أن رجلاً يدعو إلى قيام الليل، لكنه لا يستطيع أن يقوم الليل، يعني لا يستطيع أن يقوم هو الليل، فلا نقول: إذا كنت لا تستطيع، فلا تدعُ إلى قيام الليل، رجل يدعو إلى الصدقة وهو لا يستطيع، لا يملك أن يتصدق، نقول: ادعُ، وأما شيء يدعو إليه وهو يستطيعه، فلا شك أنه سفهٌ في العقل وضلال في الدين.
س 13: لماذا لا تُحقق مسائل الخلاف، ليتبنّى الداعية وجه الصواب فيها سبيلاً إلى جمع كلمة الأمة؟
ج 13: مسألة تحقيق مسائل الخلاف مشكلة؛ لأن كل إنسان يذهب إلى قول يرى أنه مُحقق فيه، وإذا أردنا أن نجمع العلماء في بلدٍ ما، فإن الظاهر أنه ألا يتفقوا والظاهر لا يتفقوا سيكون هناك خلاف في الرأي، حتى وإن حققنا، فإنه سيقع الخلاف، ولكن الواجب على العامة أو الذين لا(6/288)
يستطيعون أن يعرفوا الحق بأنفسهم، الواجب عليهم، أن يتقوا الله ما استطاعوا، وألاَّ يكون الدافع لهم بقبول هذا العالم المخالف لهذا العالم الاخر هو الهوى، بل يكون الدافع هو قصد الهدى، وعلى هذا فيتبع الإنسان عند اختلاف العلماء من يرى أنه أقرب إلى الصواب لعلمه ودينه وأمانته، وأما أن نجمع الناس على قول واحد، فالظاهر أنَّ هذا أمرٌ متعذر، وليت....
س 14: أنا شاب أريد أن أكون داعية.. ولكن لا يوجد لدي الأسلوب المناسب، هل الشريط الإسلامي والكتاب الإسلامي المفيد، يكفي بأن أقوم بنشره أو توزيعه، أفيدونى جزاكم الله خيرًا؟
ج 14: نعم، لا شك أن الإنسان قد لا يتمكن من الدعوة بنفسه، ولكنه يتمكن من الدعوة بنشر الكتب النافعة والأشرطة النافعة، ولكنه بناءً على أنه لا يستطيع الدعوة بنفسه، فإنه لا ينشر هذه الكتب، ولا هذه الأشرطة، إلاَّ بعد عرضها على طالب علم، ليعرف ما فيها من خطأ، حتى لا يوزع هذا الرجل ما كان خطأً وهو لا يشعر به، وله أيضًا ـ بل من أساليب الدعوة ـ أن يتفق مع طالب علم، بأن يكتب طالب العلم ما فيه الدعوة إلى الخير، ويكون تمويل هذا على هذا الرجل الذي لا يستطيع الدعوة بنفسه.
س 15: فضيلة الشيخ: ألسنا ـ نحن المسلمين ـ مسؤولين أمام الله عزَّ وجلَّ، عن مآل، ومصير غير المسلمين في العالم كله، حيث يقع علينا مسؤولية دعوتهم لدين الله، ودين الحق، وإبراز السبيل السوي المستقيم لحكمة الله في الخلق، فما هو موقفنا إذا قالوا عند الحساب يوم القيامة لم يأتنا نذير ولا دعوة؟
ج 15: لا شك أن الواجب على المسلمين أن يبلغوا دين الله إلى جميع الناس، ولكن من الذي يقدر على ذلك إنه لابد أن يكون هناك قدرة؛ لأن جميع الواجبات التي أوجبها الله على عباده، مشروطة بالقدرة عليها؛ لقول الله ـ تعالى ـ: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ(6/289)
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم(9)» فنحن يجب علينا ـ نحن المسلمين ـ أن نبلغ دين الله وشريعته لجميع الخلق لكن بقدر الاستطاعة، فمن الذي يستطيع أن يبلغ جميع الخلق شريعة الله، إن الذي يستطيع ذلك هو الذي يجب عليه، وأما من لا يستطيع؛ فلا يكلف الله نفسًا إلاَّ وسعها.
س 16: هل يعني كلامكم في التعاون بين الدعاة أن يكونوا على صف واحد، من ناحية منهج الدعوة، وأسلوب الدعوة، أم أنه التعاون العام بالعمل العام بين الناس؟
ج 16: الذي أرى أن المراد بالتعاون الإطار العام، وذلك لأن الإطار الخاص، أو الأسلوب الخاص موكول إلى الشخص نفسه، فقد يرى الإنسان الداعية أن هذا الأسلوب المعين في هذا الوقت المعين في هذا المكان المعين خيرٌ منه في مكان آخر، ولا يمكن الاتفاق على أسلوب معين، في جميع الأحوال وجميع الأوقات وجميع الأماكن، لكن الإطار العام هو الذي يجب على الدعاة أن يتعاونوا فيه.
س 17: فضيلة الشيخ: قلتم إن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب الإمام أحمد فكيف حكمنا على المذاهب الثلاثة الباقية؟
ج 17: ما أظن أنا هذا باعتبار أن المذاهب الثلاثة ليست على مذهب أهل السنة، لكن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ معروف بين أهل العلم أنه إمام أهل السنة، وأنه قام بالدفاع عن السنة قيامًا لم يقمه أحدٌ فيما نعلم، ومحنته مع المأمون ومن بعده مشهورة، وإلا فلا شك أن أئمة الإسلام ـ ولله الحمد ـ كلهم على خير، وعلى حق ولكن ذلك لا يعني أن نبرئ كل واحد منهم من الخطأ، بل كل واحد منهم قد يقع منه الخطأ، بل الإمام أحمد نفسه قد يصرح بالرجوع عن القول وإن كان قد قاله من قبل كما في قوله في طلاق السكران، يقول: كنت أقول في وقوع طلاق السكران حتى تبينته، يعني فتبين له أنه لا يقع،؛ لأنه إذا أوقعه أتى خسرتين: تحريم هذه الزوجة على زوجها الذي طلقها وحلها لغيره، وإذا قال بعدم(6/290)
الوقوع أتى خسرة واحدة وهي حلها لهذا الزوج، الذي لم يتحقق بينونتها منه.
س 18: يحجم كثير من الدعاة في التعاون مع المؤسسات الإعلامية، رغم تأثيرها الواضح على المجتمعات.. ما هو رأي فضيلتكم في واجب الدعاة تجاه هذه المؤسسات والعاملين بها؟
ج 18: الذي أرى أنه إذا طُلب من الإنسان أن يدعو إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في مكان تكون المصلحة فيه أكثر والنفع أعم؛ فإنه لا ينبغي له أن يحجم عن هذا، بل الذي ينبغي أن يتقدم، وأن يرى أنَّ ذلك من نعمة الله عليه، حتى وإن كان قد يتعلل بأن هذه الوسائل الإعلامية، قد يكون فيها شيء من الشر، فإن هذا فيما أرى ليس بعلة؛ لأن هذه الوسائل إن لم تُملأ بالخير؛ ملئت بضده، وإذا ملئت بالخير، فلا يضر من تقدم إلى الخير أن يشوبها شيء من الشر، فأرى أنه من التعاون والتناصح أن يُقدِم الإنسان ويلبي الدعوة إذا طُلب إلى المشاركة في هذه الأمور.
س 19: نرى بعض الدعاة وبعض الشباب ممن يكون إمام مسجد، قد يترك المسجد، ويذهب يدعو للمناطق من حوله، ويترك المسجد دون إمام.. فما توجيهكم لهذا؟. جزاكم الله خيرًا.
ج 19: أنا أوجه الإخوة الأئمة إلى أنَّ بقاءهم في منصبهم، يؤمون المسلمين ويؤدون ما يجب عليهم أفضل من كونهم يخرجون إلى الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، وأفضل من كونهم يذهبون ليصوموا رمضان بمكة، أو يصلوا قيام العشر الأواخر في مكة؛ لأن قيامهم بوظيفتهم قيام بواجب، وذهابهم إلى ما يذهبون إليه ذهاب إلى سنة، وقد ثبت في الحديث الصحيح القدسي أن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ قال: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إليَّ مما افترضته عليه(10)» أمَّا إذا تعين أن يكون هو الداعي إلى الجهة التي ذهب إليها ولم يقم بهذا الفرض فليقدم إلى الجهات المسؤولة عن حاله، حتى يؤذن له بالذهاب، وتلتزم الجهات المسؤولة بإقامة من يكون مكانه.
(5) رواه البخاري، كتاب اللباس، باب المتشبهين بالنساء، والمتشبهات بالرجال، رقم (5885).
(6) رواه(6/291)
البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم (1643).
(7) انظر كشف الخفا للعجلوني (1/66).
(8) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب، رقم(2537)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأخطأ أو أصاب، رقم(6171).
(9) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، رقم (8827)، ومسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، رقم (7331).
(10) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (2056).
(1) رواه البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً، رقم (649).
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، رقم (91).
(2) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، رقم (5026)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات، رقم (482).
(3) رواه مسلم، كتاب الطهار، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات، رقم (582)(6/292)
زاد الداعية إلى الله
المقدمة
محمد بن صالح العثيمين
* الزاد الأول: أن يكون الداعية على علم فيما يدعو إليه:
على علم صحيح مرتكز على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، لأن كل علم يتلقى من سواهما فإنه يجب أن يعرض عليهما أولاً، وبعد عرضه فإما أن يكون موافقاً أو مخالفاً. فإن كان موافقاً قُبل، وإن كان مخالفاً وجب رده على قائله كائناً من كان، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله وتقولون: قال أبو بكر وعمر». إذا كان هذا في قول أبي بكر وعمر الذي يُعارض به قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فما بالكم بقول من دونهما في العلم والتقوى والصحبة والخلافة؟! إن ردَّ قوله إذا خالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، من باب أولى، ولقد قال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }. (النور: 63). قال الإمام أحمد رحمه الله: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك».
وإن أول زاد يتزود به الداعية إلى الله عز وجل أن يكون على علم مستمد من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، الصحيحة المقبولة، وأما الدعوة بدون علم فإنها دعوة على جهل، والدعوة على الجهل ضررها أكبر من نفعها، لأن هذا الداعية قد نصب نفسه موجهاً ومرشداً فإذا كان جاهلاً فإنه بذلك يكون ضالاً مضلاًّ والعياذ بالله، ويكون جهله هذا جهلاً مركباً، والجهل المركب أشد من الجهل البسيط، فالجهل البسيط يمسك صاحبه ولا يتكلم، ويمكن رفعه بالتعلم، ولكن المشكلة كل المشكلة في حال الجاهل المركب، إن هذا الجاهل المركب لن يسكت بل سيتكلم ولو عن جهل وحينئذ يكون مدمراً أكثر مما يكون منوراً.(6/293)
* أيها الأخوة: إن الدعوة إلى الله على غير علم خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم، ومن اتبعه، استمعوا إلى قول الله تعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلّم، حيث قال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }. (يوسف: 108). فقال: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }، أي أن من اتبعه، صلى الله عليه وسلّم، فإنه لابد أن يدعو إلى الله على بصيرة لا على جهل.
* وتأمل أيها الداعية لله قول الله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي على بصيرة في ثلاثة أمور:
الأول: على بصيرة فيما يدعو إليه، بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجباً، وهو في شرع الله غير واجب فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرماً، وهو في دين الله غير محرم فيحرم على عباد الله ما أحله الله لهم.(6/294)
الثاني: على بصيرة في حال الدعوة ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلّم، معاذاً إلى اليمن قال له: «إنك ستأتي قوماً أهل كتاب». ليعرف حالهم ويستعد لهم. فلابد أن تعلم حال هذا المدعو ما مستواه العلمي؟ وما مستواه الجدلي؟ حتى تتأهب له فتناقشه وتجادله، لأنك إذا دخلت مع مثل هذا في جدال وكان عليك لقوة جدله صار في هذا نكبة عظيمة على الحق وأنت سببها، ولا تظن أن صاحب الباطل يخفق بكل حال فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم، قال: «إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع» فهذا يدل على أن المخاصم وإن كان مبطلاً قد يكون ألحن بحجته من آخر فيُقضى بحسب ما تكلم به هذا المخاصم فلابد أن تكون عالماً بحال المدعو.
الثالث: على بصيرة في كيفية الدعوة قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }. (النحل: 125).
* وبعض الناس قد يجد المنكر فيهجم عليه، ولا يفكر في العواقب الناتجة عن ذلك لا بالنسبة له وحده، ولكن بالنسبة له ولنظرائه من الدعاة إلى الحق، لذا يجب على الداعية قبل أن يتحرك أن ينظر إلى النتائج ويقيس، قد يكون في تلك الساعة ما يطفي لهيب غيرته فيما صنع، لكن سيخمد هذا الفعل نار غيرته وغيرة غيره في المستقبل، قد يكون في المستقبل القريب دون البعيد؛ لهذا أحث أخواني الدعاة على استعمال الحكمة والتأني، والأمر وإن تأخر قليلاً لكن العاقبة حميدة بمشيئة الله تعالى.(6/295)
وإذا كان هذا أعني تزود الداعية بالعلم الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، هو مدلول النصوص الشرعية فإنه كذلك مدلول العقول الصريحة التي ليس فيها شبهات ولا شهوات، لأنك كيف تدعو إلى الله ـ عز وجل ـ وأنت لا تعلم الطريق الموصل إليه، لا تعلم شريعته كيف يصح أن تكون داعية؟!
فإذا لم يكن الإنسان ذا علم فإن الأولى به أن يتعلم أولاً، ثم يدعو ثانياً.
قد يقول قائل: هل قولك هذا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «بلغوا عني ولو آية».
فالجواب: لا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلّم، يقول: «بلغوا عني» إذاً فلابد أن يكون ما نبلغه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، هذا هو ما نريده، ولسنا عندما نقول إن الداعية محتاج إلى العلم لسنا نقول إنه لابد أن يبلغ شوطاً بعيداً في العلم، ولكننا نقول لا يدعو إلا بما يعلم فقط ولا يتكلم بما لا يعلم.
زاد الداعية إلى الله
الزاد الأول: أن يكون الداعية على علم فيما يدعو إليه
محمد بن صالح العثيمين
* الزاد الأول: أن يكون الداعية على علم فيما يدعو إليه:(6/296)
على علم صحيح مرتكز على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، لأن كل علم يتلقى من سواهما فإنه يجب أن يعرض عليهما أولاً، وبعد عرضه فإما أن يكون موافقاً أو مخالفاً. فإن كان موافقاً قُبل، وإن كان مخالفاً وجب رده على قائله كائناً من كان، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله وتقولون: قال أبو بكر وعمر». إذا كان هذا في قول أبي بكر وعمر الذي يُعارض به قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فما بالكم بقول من دونهما في العلم والتقوى والصحبة والخلافة؟! إن ردَّ قوله إذا خالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، من باب أولى، ولقد قال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }. (النور: 63). قال الإمام أحمد رحمه الله: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك».
وإن أول زاد يتزود به الداعية إلى الله عز وجل أن يكون على علم مستمد من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، الصحيحة المقبولة، وأما الدعوة بدون علم فإنها دعوة على جهل، والدعوة على الجهل ضررها أكبر من نفعها، لأن هذا الداعية قد نصب نفسه موجهاً ومرشداً فإذا كان جاهلاً فإنه بذلك يكون ضالاً مضلاًّ والعياذ بالله، ويكون جهله هذا جهلاً مركباً، والجهل المركب أشد من الجهل البسيط، فالجهل البسيط يمسك صاحبه ولا يتكلم، ويمكن رفعه بالتعلم، ولكن المشكلة كل المشكلة في حال الجاهل المركب، إن هذا الجاهل المركب لن يسكت بل سيتكلم ولو عن جهل وحينئذ يكون مدمراً أكثر مما يكون منوراً.(6/297)
* أيها الأخوة: إن الدعوة إلى الله على غير علم خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم، ومن اتبعه، استمعوا إلى قول الله تعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلّم، حيث قال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }. (يوسف: 108). فقال: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }، أي أن من اتبعه، صلى الله عليه وسلّم، فإنه لابد أن يدعو إلى الله على بصيرة لا على جهل.
* وتأمل أيها الداعية لله قول الله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي على بصيرة في ثلاثة أمور:
الأول: على بصيرة فيما يدعو إليه، بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجباً، وهو في شرع الله غير واجب فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرماً، وهو في دين الله غير محرم فيحرم على عباد الله ما أحله الله لهم.(6/298)
الثاني: على بصيرة في حال الدعوة ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلّم، معاذاً إلى اليمن قال له: «إنك ستأتي قوماً أهل كتاب». ليعرف حالهم ويستعد لهم. فلابد أن تعلم حال هذا المدعو ما مستواه العلمي؟ وما مستواه الجدلي؟ حتى تتأهب له فتناقشه وتجادله، لأنك إذا دخلت مع مثل هذا في جدال وكان عليك لقوة جدله صار في هذا نكبة عظيمة على الحق وأنت سببها، ولا تظن أن صاحب الباطل يخفق بكل حال فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم، قال: «إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع» فهذا يدل على أن المخاصم وإن كان مبطلاً قد يكون ألحن بحجته من آخر فيُقضى بحسب ما تكلم به هذا المخاصم فلابد أن تكون عالماً بحال المدعو.
الثالث: على بصيرة في كيفية الدعوة قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }. (النحل: 125).
* وبعض الناس قد يجد المنكر فيهجم عليه، ولا يفكر في العواقب الناتجة عن ذلك لا بالنسبة له وحده، ولكن بالنسبة له ولنظرائه من الدعاة إلى الحق، لذا يجب على الداعية قبل أن يتحرك أن ينظر إلى النتائج ويقيس، قد يكون في تلك الساعة ما يطفي لهيب غيرته فيما صنع، لكن سيخمد هذا الفعل نار غيرته وغيرة غيره في المستقبل، قد يكون في المستقبل القريب دون البعيد؛ لهذا أحث أخواني الدعاة على استعمال الحكمة والتأني، والأمر وإن تأخر قليلاً لكن العاقبة حميدة بمشيئة الله تعالى.(6/299)
وإذا كان هذا أعني تزود الداعية بالعلم الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، هو مدلول النصوص الشرعية فإنه كذلك مدلول العقول الصريحة التي ليس فيها شبهات ولا شهوات، لأنك كيف تدعو إلى الله ـ عز وجل ـ وأنت لا تعلم الطريق الموصل إليه، لا تعلم شريعته كيف يصح أن تكون داعية؟!
فإذا لم يكن الإنسان ذا علم فإن الأولى به أن يتعلم أولاً، ثم يدعو ثانياً.
قد يقول قائل: هل قولك هذا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «بلغوا عني ولو آية».
فالجواب: لا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلّم، يقول: «بلغوا عني» إذاً فلابد أن يكون ما نبلغه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، هذا هو ما نريده، ولسنا عندما نقول إن الداعية محتاج إلى العلم لسنا نقول إنه لابد أن يبلغ شوطاً بعيداً في العلم، ولكننا نقول لا يدعو إلا بما يعلم فقط ولا يتكلم بما لا يعلم.
زاد الداعية إلى الله
الزاد الثاني: أن يكون الداعية صابراً على دعوته
محمد بن صالح العثيمين
* الزاد الثاني: أن يكون الداعية صابراً على دعوته، صابراً على ما يدعو إليه، صابراً على ما يعترض دعوته، صابراً على ما يعترضه هو من الأذى.
أن يكون صابراً على الدعوة أي مثابراً عليها لا يقطعها ولا يمل، بل يكون مستمراً في دعوته إلى الله بقدر المستطاع وفي المجالات التي تكون الدعوة فيها أنفع وأولى وأبلغ، وليصبر على الدعوة ولا يمل، فإن الإنسان إذا طرقه الملل استحسر وترك، ولكن إذا كان مثابراً على دعوته فإنه ينال أجر الصابرين من وجه، وتكون له العاقبة من وجه آخر، واستمع إلى قول الله عز وجل مخاطباً نبيه: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }. (هود: 49).(6/300)
ولابد أن يكون الإنسان صابراً على ما يعترض دعوته من معارضات ومجادلات لأن كل إنسان يقوم داعياً إلى الله عز وجل لابد أن يعارض: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً }. (الفرقان: 31). فكل دعوة حقة لابد أن يقوم لها معارض، لابد أن يقوم لها ممانع، ومجادل فيها ومشكك، ولكن يجب على الداعية أن يصبر على ما يعترض دعوته حتى لو وصفت تلك الدعوة بأنها خطأ أو أنها باطل وهو يدرك أنها مقتضى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فليصبر على ذلك.
ولكن هذا لا يعني أن الإنسان يصر على ما يقول، وما يدعو إليه، وإن تبين له الحق، فإن الذي يصر على ما يدعو إليه وإن تبين له الحق يشبه من قال الله فيهم: {يُجَدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ }. (الأنفال: 6). والمجادلة في الحق بعدما تبين صفة مذمومة، وقد قال الله فيمن اتصف بها: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }. (النساء: 115). فما يعترض دعوتك أيها الداعية إن كان حقّاً فالواجب عليك الرجوع إليه، وإن كان باطلاً فلا يثني عزمك عن المضي قدماً في دعوتك.(6/301)
* كذلك لابد أن يكون الداعية صابراً على ما يعترضه هو من الأذى لأن الداعية لابد أن يؤذى إما بالقول وإما بالفعل، وهاهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أوذوا بالقول وأوذوا بالفعل اقرأ قول الله عز وجل: {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ }. (الذاريات: 52). ما رأيك فيمن يأتيه الوحي من ربه ويقال في وجهه إنك ساحر أو مجنون؟ لاشك أنه يتأذى ومع هذا فالرسل صبروا على ما أوذوا بالقول وعلى ما أوذوا بالفعل؛ انظر إلى أول الرسل نوح عليه الصلاة والسلام كان قومه يمرون به وهو يصنع الفلك ويسخرون به فيقول لهم: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}. (نوح: 38، 39). ولم يقتصر الأمر بهم على السخرية به، بل توعدوه بالقتل: {قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ ينُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ }. (الشعراء: 116). أي من المقتولين رمياً بالحجارة، هنا توعد بالقتل مع تهديد بأنا قد رجمنا غيرك إظهاراً لعزتهم وأنهم قد رجموا آخرين وأنت منهم، ولكن هذا لم يثن نوحاً، عليه الصلاة والسلام، عن دعوته بل استمر حتى فتح الله بينه وبين قومه، وهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قابله قومه بالرفض بل شهّروا به بين الناس: {قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ }. (الأنبياء: 61).(6/302)
ثم توعدوه بالإحراق: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَعِلِينَ }. (الأنبياء: 68). فأوقدوا ناراً عظيمة ورموه بالمنجنيق لبعدهم عنها لشدة حرارتها ولكن قال رب العزة والجلال: {قُلْنَا ينَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَمَا عَلَى إِبْرَهِيمَ }. (الأنبياء: 69). فكانت برداً وسلاماً ونجا منها، فكانت العاقبة لإبراهيم، {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَهُمُ الاَْخْسَرِينَ }. (الأنبياء: 70). وهذا موسى عليه الصلاة والسلام توعده فرعون بالقتل: {ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاَْرْضِ الْفَسَادَ }. (غافر: 26). فتوعده بالقتل ولكن آخر الأمر كانت العقبى لموسى عليه الصلاة والسلام {وَحَاقَ بَِالِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } (غافر: 45) عليه الصلاة والسلام، حصل له من الأذية ما حصل حتى رماه اليهود بأنه ابن بغي، وقتلوه على زعمهم وصلبوه ولكن الله تعالى يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}. (النساء: 157، 158). فنجي منهم، وهذا خاتم الرسل وإمامهم وسيد بني آدم محمد صلى الله عليه وسلّم، قال الله عنه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرِينَ }. (الأنفال: 30).(6/303)
{وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ }. (الحجر: 6). {وَيَقُولُونَ أَءِنَّا لَتَارِكُو ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ }. (الصافات: 36). وحصل من أذيتهم القولية والفعلية ما هو معلوم لدى العلماء في التاريخ ومع هذا صبر فكانت العاقبة له.
إذن فكل داعية لابد أن يناله أذى ولكن عليه أن يصبر، ولهذا لما قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلّم، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً }. (الإنسان: 23). كان من المتوقع أن يقول الله فاشكر نعمة الله على تنزيل هذا القرآن، ولكن الله قال له: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً }. (الإنسان: 24). إشارة إلى أن كل من قام بهذا القرآن فلابد أن يناله ما يناله من الأمور التي تحتاج إلى صبر عظيم، فعلى الداعية أن يكون صبوراً وأن يستمر حتى يفتح الله له، وليس من الضروري أن يفتح الله له في حياته؛ بل إن المهم أن تبقى دعوته بين الناس ناصعة متبوعة، ليس المهم الشخص ولكن المهم الدعوة فإذا بقيت دعوته ولو بعد موته، فإنه حي قال الله عز وجل: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }. (الأنعام: 122). ففي الحقيقة أن حياة الداعية ليس معناها أن تبقى روحه في جسمه فقط بل أن تبقى مقالته حية بين الناس، وانظر إلى قصة أبي سفيان مع هرقل وكان قد سمع بمخرج النبي صلى الله عليه وسلّم، دعا أبا سفيان فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلّم، عن ذاته، ونسبه، وما يدعو إليه، وأصحابه فلما أخبره أبو سفيان عما سأله عنه قال هرقل له: «إن كان ما تقول حقّاً فسيملك ما تحت قدمي هاتين». سبحان الله من يتصور أن ملكاً إمبراطوريّاً كما يقولون(6/304)
يقول مثل هذا القول في محمد صلى الله عليه وسلّم، وهو مع ذلك لم يحرر جزيرة العرب من رق الشيطان والهوى، ومن يتصور أن مثل هذا الرجل يقول مثل هذا القول؟ ولهذا لما خرج أبو سفيان قال لقومه: «لقد أمِر أمر ابن أبي كشبة إنه ليخافه ملك بني الأصفر»، «أمِر» يعني عظم ومنه قوله تعالى: {لقد جئت شيئاً إمرا} أي عظيماً.
وقد ملك النبي صلى الله عليه وسلّم ما تحت قدمي هرقل بدعوته لا بشخصه، لأن دعوته أتت على هذه الأرض واكتسحت الأوثان والشرك وأصحابه، وملكها الخلفاء الراشدون بعد محمد صلى الله عليه وسلّم، ملكوها بدعوة النبي صلى الله عليه وسلّم، وبشريعة النبي صلى الله عليه وسلّم، إذن على الداعية أن يصبر وستكون العاقبة له إذا كان صادقاً مع الله سواء في حياته أو بعد مماته.
{إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }. (الأعراف: 128). وقال الله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }. (يوسف: 90).
زاد الداعية إلى الله
الزاد الثالث: الحكمة فيدعو إلى الله بالحكمة
محمد بن صالح العثيمين(6/305)
* الزاد الثالث: الحكمة فيدعو إلى الله بالحكمة، وما أمرَّ الحكمة على غير ذي الحكمة. والدعوة إلى الله تعالى تكون بالحكمة، ثم بالموعظة الحسنة، ثم الجدال بالتي هي أحسن لغير الظالم، ثم الجدال بما ليس أحسن للظالم، فالمراتب إذن أربع. قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }. (النحل: 125). وقال تعالى: {وَلاَ تُجَدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَبِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }. (العنكبوت: 46).(6/306)
* إن الحكمة: إتقان الأمور وإحكامها، بأن تنزل الأمور منازلها وتوضع في مواضعها، ليس من الحكمة أن تتعجل وتريد من الناس أن ينقلبوا عن حالهم التي هم عليها إلى الحال التي كان عليها الصحابة بين عشية وضحاها. ومن أراد ذلك فهو سفيه في عقله بعيد عن الحكمة، لأن حكمة الله عز وجل تأبى أن يكون هذا الأمر، ويدلك لهذا أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو الذي ينزل عليه الكتاب نزل عليه الشرع متدرجاً حتى استقر في النفوس وكمل. فرضت الصلاة في المعراج قبل الهجرة بثلاث سنوات، وقيل سنة ونصف، وقيل خمس سنين، على خلاف بين العلماء في هذا.. ومع هذا لم تفرض على وضعها الان، أول ما فرضت كانت ركعتين للظهر والعصر والعشاء والفجر، وكانت المغرب ثلاثاً، لأجل أن تكون وتراً للنهار، وبعد الهجرة وبعد أن أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثلاث عشرة سنة في مكة زيدت صلاة الحضر فصارت أربعاً في الظهر والعصر والعشاء، وبقيت صلاة الفجر على ما هي عليه؛ لأنها تطول فيها القراءة، وبقيت المغرب ثلاثاً لأنها وتر النهار.
والزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة أو فرضت في مكة لكنها لم تقدر تقديراً في أنصبائها وواجبها ولم يبعث النبي صلى الله عليه وسلّم السعاة لأخذ الزكاة إلا في السنة التاسعة من الهجرة فكان تطور الزكاة على ثلاث مراحل: في مكة {وآتوا حقه يوم حصاده}، ولم يبين الواجب، ولا مقدار ما يجب فيه ذلك الواجب، وجعل الأمر موكولاً إلى الناس، وفي السنة الثانية من الهجرة بينت الزكاة بأنصبائها. وفي السنة التاسعة من الهجرة صار النبي صلى الله عليه وسلّم، يبعث السعاة إلى أهل المواشي والثمار لأخذها.
فتأمل مراعاة أحوال الناس في تشريع الله عز وجل وهو أحكم الحاكمين. وكذلك في الصيام تطور في تشريعه فكان أول ما فرض يخير الإنسان بين أن يصوم أو يطعم، ثم تعين الصيام، وصار الإطعام لمن لا يستطيع الصوم على وجه مستمر.(6/307)
* أقول إن الحكمة تأبى أن يتغير العالم بين عشية وضحاها فلابد من طول النفس، واقبل من أخيك الذي تدعوه ما عنده اليوم من الحق، وتدرج معه شيئاً فشيئاً حتى تنتشله من الباطل، ولا يكن الناس عندك على حد سواء، فهناك فرق بين الجاهل والمعاند.
* ولعل من المناسب أن أضرب أمثلة من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلّم:
* المثال الأول: دخل رجل أعرابي والنبي صلى الله عليه وسلّم، جالس في أصحابه في المسجد فبال الأعرابي في طائفة من المسجد فزجره الناس ـ والزجر هو النهر بشدة ـ ولكن النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو الذي أعطاه الله تعالى من الحكمة نهاهم، فلما قضى بوله أمر صلى الله عليه وسلّم أن يراق على بوله ذنوباً من ماء ـ يعني دلواً ـ فزالت المفسدة فدعا الرسول صلى الله عليه وسلّم، الأعرابي فقال له: «إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر إنما هي للصلاة وقراءة القرآن». أو كما قال صلى الله عليه وسلّم، فانشرح صدر الأعرابي لهذه المعاملة الحسنة، ولهذا رأيت بعض أهل العلم نقل أن هذا الأعرابي قال: «اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً». لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم، عامله هذه المعاملة الطيبة، أما الصحابة رضوان الله عليهم فسعوا في إزالة المنكر من غير تقدير لحال هذا الرجل الجاهل.(6/308)
* المثال الثاني: معاوية بن الحكم رضي الله عنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلّم، يصلي بالناس فعطس رجل من القوم فقال الحمد لله ـ فإذا عطس أحد في الصلاة فليقل الحمد لله سواء في القيام أو في الركوع أو في السجود ـ قال هذا الرجل: الحمد لله، فقال له معاوية: يرحمك الله، وهذا خطاب لادمي يبطل الصلاة فرماه الناس بأبصارهم وجعلوا ينظرون إليه فقال معاوية: واثكل أمِّياه ـ والثكل الفقد وهذه كلمة تقال ولا يراد معناها، وقد قالها النبي صلى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال قلت: بلى يا رسول الله. قال: كف عليك هذا وأخذ بلسانه وقال: كفه عليك، فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم». ثم مضى معاوية رضي الله عنه في صلاته فلما أتم الصلاة دعاه النبي صلى الله عليه وسلّم، قال معاوية رضي الله عنه: فوالله ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه، اللهم صلي وسلم عليه، والله ما كهرني، ولا نهرني وإنما قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح، والتكبير وقراءة القرآن». أو كما قال صلى الله عليه وسلّم، انظر إلى الدعوة المحببة إلى النفوس يقبلها الإنسان وينشرح بها صدره.
ونأخذ من الحديث من الفوائد الفقهية: أن من تكلم في الصلاة وهو لا يدري أن الكلام يبطل الصلاة فإن صلاته صحيحة.(6/309)
* المثال الثالث: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله هلكت. قال: «ما أهلكك؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم. فأمره النبي صلى الله عليه وسلّم أن يعتق رقبة، فقال: لا أجد، ثم أمره أن يصوم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، ثم أمره أن يطعم ستين مسكيناً، فقال: لا أستطيع، فجلس الرجل. فأتي النبي صلى الله عليه وسلّم، بتمر فقال: «خذ هذا فتصدق به». ولكن الرجل طمع في كرم النبي صلى الله عليه وسلّم، الذي هو أعظم كرم لمخلوق، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكرم الناس، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلّم حتى بدت أنيابه أو نوجذه. لأن هذا الرجل جاء خائفاً يقول: «هلكت» فذهب غانماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أطعمه أهلك» فذهب الرجل مطمئناً غانماً فرحاً بهذا الدين الإسلامي، وبهذا اليسر من الداعية الأول لهذا الدين الإسلامي صلوات الله وسلامه عليه.
* المثال الرابع: ولننظر كيف عامل النبي صلى الله عليه وسلّم مرتكب الإثم: رأى النبي صلى الله عليه وسلّم رجلاً وفي يده خاتم ذهب فنزعه النبي صلى الله عليه وسلّم بيده الكريمة وطرحه في الأرض، وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده». فالنبي صلى الله عليه وسلّم لم يعامله معاملة الأولين بل نزعه من يده وطرحه في الأرض، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلّم قيل للرجل خذ خاتمك انتفع به فقال: «والله لا آخذ خاتماً طرحه النبي صلى الله عليه وسلّم»، الله أكبر هذا الامتثال العظيم من الصحابة رضوان الله عليهم.
المهم أنه يجب على الداعية أن يدعو إلى الله عز وجل بالحكمة فليس الجاهل كالعالم، وليس المعاند كالمستسلم، فلكل مقام مقال، ولكل منزلة حال.
زاد الداعية إلى الله
الزاد الرابع: أن يتخلق الداعية بالأخلاق الفاضلة
محمد بن صالح العثيمين(6/310)
* الزاد الرابع: أن يتخلق الداعية بالأخلاق الفاضلة بحيث يظهر عليه أثر العلم في معتقده، وفي عبادته، وفي هيئته، وفي جميع مسلكه حتى يمثل دور الداعية إلى الله، أما أن يكون على العكس من ذلك فإن دعوته سوف تفشل وإن نجحت فإنما نجاحها قليل.
فعلى الداعية أن يكون متخلقاً بما يدعو إليه من عبادات أو معاملات أو أخلاق وسلوك حتى تكون دعوته مقبولة وحتى لا يكون من أول من تسعر بهم النار.
* أيها الأخوة: إننا إذا نظرنا إلى أحوالنا وجدنا أننا في الواقع قد ندعو إلى شيء ولكننا لا نقوم به وهذا لا شك أنه خلل كبير، اللهم إلا أن يحول بيننا وبينه النظر إلى ما هو أصلح لأن لكل مقام مقالاً. فالشيء الفاضل قد يكون مفضولاً لأمور تجعل المفضول راجحاً ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يدعو إلى بعض الخصال ولكنه يشتغل أحياناً بما هو أهم منها، وربما يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم.
* أيها الأخوة: إنني أريد من كل داعية أن يكون متخلقاً بالأخلاق التي تليق بالداعية حتى يكون داعية حقّاً وحتى يكون قوله أقرب إلى القبول.
زاد الداعية إلى الله
الزاد الخامس: أن يكسر الداعية الحواجز
محمد بن صالح العثيمين(6/311)
* الزاد الخامس أن يكسر الداعية الحواجز التي بينه وبين الناس لأن كثيراً من إخواننا الدعاة إذا رأى قوماً على منكر قد تحمله الغيرة وكراهة هذا المنكر على أن لا يذهب إلى هؤلاء ولا ينصحهم، وهذا خطأ وليس من الحكمة أبداً؛ بل الحكمة أن تذهب وتدعو، وتبلغ وترغب وترهب، ولا تقل هؤلاء فسقة لا يمكن أن أمشي حولهم. إذا كنت أنت أيها الداعية المسلم لا يمكن أن تمشي حول هؤلاء ولا أن تذهب إليهم لدعوتهم إلى الله فمن الذي يتولاهم؟ أيتولاهم أحد مثلهم؟! أيتولاهم قوم لا يعلمون؟ أبداً ولهذا ينبغي للداعية أن يصبر، وهذا من الصبر الذي ذكرناه سابقاً أن يصبر نفسه ويكرهها وأن يكسر الحواجز بينها وبين الناس حتى يتمكن من إيصال دعوته إلى من هم في حاجة إليها، أما أن يستنكف فهذا خلاف ما كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يفعله، والنبي صلى الله عليه وسلّم كما هو معلوم كان يذهب في أيام منى إلى المشركين في أماكنهم ويدعوهم إلى الله وقد أثر عنه أنه صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا أحد يحملني حتى أبلغ كلام ربي فإن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي». فإذا كان هذا دأب نبينا، وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلّم، فإنه من الواجب علينا أن نكون مثله في الدعوة إلى الله.
زاد الداعية إلى الله
الزاد السادس: أن يكون قلب الداعية منشرحاً لمن خالفه
محمد بن صالح العثيمين
* الزاد السادس: أن يكون قلب الداعية منشرحاً لمن خالفه، لاسيما إذا علم أن الذي خالفه حسن النية وأنه لم يخالفه إلا بمقتضى قيام الدليل عنده، فإنه ينبغي للإنسان أن يكون مرناً في هذه الأمور، وأن لا يجعل من هذا الخلاف مثاراً للعداوة والبغضاء، اللهم إلا رجل خالف معانداً بحيث يبين له الحق ولكن يصر على باطله فإن هذا يجب أن يعامل بما يستحق أن يعامل به من التنفير عنه، وتحذير الناس منه؛ لأنه تبين عداوته حيث بين له الحق فلم يمتثل.(6/312)
* وهناك مسائل فرعية يختلف فيها الناس وهي في الحقيقة مما وسع الله فيه على عباده ـ وأعني مسائل ليست من الأصول التي تبلغ إلى تكفير المخالف ـ فهذه مما وسع الله فيها على العباد وجعل الخطأ فيها واسعاً، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد». فالمجتهد لا يخرج عن دائرة الأجر أبداً فإما أجران إن أصاب، وإما أجر واحد إن أخطأ، وإذا كنت لا تريد أن يخالفك غيرك فإن غيرك أيضاً يريد أن لا يخالفه أحد، فكما أنك تريد أن يأخذ الناس بقولك، فالمخالفون لك يريدون أيضاً أن يأخذ الناس بقولهم، والمرجع عند التنازع ما بيّنه الله عز وجل في قوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }. (الشورى: 10). ويقول عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }. (النساء: 59). فيجب على كل المختلفين والمتنازعين أن يرجعوا إلى هذين الأصلين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، ولا يحل لأحد أن يعارض كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم بكلام أحد من البشر مهما كان، فإذا تبين لك الحق فالواجب أن تضرب بقول من خالفه عرض الحائط، وأن لا تلتفت إليه مهما كانت منزلته من العلم والدين، لأن البشر يخطىء لكن كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم ليس فيه خطأ.(6/313)
* ويؤسفني أن أسمع عن قوم يعتبرون جادّين في طلب الحق والوصول إليه ومع ذلك نجدهم متفرقين، لكل واحد منهم اسم معين أو وصف معين، وهذا في الحقيقة خطأ، إن دين الله عز وجل واحد، وأمة الإسلام واحدة، يقول الله عز وجل: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }. (المؤمنون: 52). ويقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }. (الأنعام: 159). وقال عز وجل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }. (الشورى: 13). فإذا كان هذا توجيه الله عز وجل لنا فالواجب علينا أن نأخذ بهذا التوجيه، وأن نجتمع على بساط البحث، وأن يناقش بعضنا بعضاً على سبيل الإصلاح لا على سبيل الانتقاد أو الانتقام، فإن أي إنسان يجادل غيره ويحاج بقصد الانتصار لرأيه واحتقار رأي غيره، أو لقصد الانتقاد دون الإصلاح فإن الغالب أن يخرجوا على وجه لا يرضي الله ورسوله، فالواجب علينا في مثل هذا الأمر أن نكون أمة واحدة، وأنا لا أقول إنه لا يخطىء أحد، كل يخطىء، ويصيب، ولكن الكلام في الطريق إلى إصلاح هذا الخطأ، ليس الطريق إلى إصلاح الخطأ(6/314)
أن أتكلم في غيبته وأقدح فيه، ولكن الطريق إلى إصلاحه، أن أجتمع به وأناقشه فإذا تبين بعد ذلك أن الرجل مصرّ على عناده، وعلى ما هو عليه من باطل فحينئذ لي العذر ولي الحق بل يجب عليّ أن أبين خطأه، وأن أحذر الناس من خطئه، وبهذا تصلح الأمور، أما التفرق والتحزب فإن هذا لا تقر به عين أحد، إلا من كان عدوّاً للإسلام والمسلمين.
والله أسأل أن يجمع قلوبنا على طاعته، وأن يجعلنا من المتحاكمين إلى الله ورسوله، وأن يخلص لنا النية ويبين لنا ما خفي علينا من شريعته إنه جواد كريم.
والحمد لله رب العالمين وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(6/315)
كتاب العلم
في تعريف العلم وفضله وحكم طلبه
محمد بن صالح العثيمين
في تعريف العلم وفضله وحكم طلبه
الفصل الأول
تعريف العلم
لغة: نقيض الجهل، وهو: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً حازماً.
اصطلاحاً: فقد قال بعض أهل العلم: هو المعرفة وهو ضد الجهل، وقال آخرون من أهل العلم: إن العلم أوضح من أن يعرف.
والذي يعنينا هو العلم الشرعي، والمراد به : ((علم ما أنزل الله على رسوله من البيانات والهدى)) ، فالعلم الذي فيه الثناء والمدح به خيراً يفقهه في الدين )) (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) (2) .
ومن المعلوم أن الذي ورثه الأنبياء إنما هو علم شريعة الله – عز وجل – وليس غيره، فالأنبياء – عليهم الصلاة والسلام_ ما ورثوا للناس علم الصناعات وما يتعلق بها، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم حي قدم المدينة وجد الناس يؤبرون النخل – أي يلقحونها – قال لهم لما رأى من تعبهم كلاماً يعني أنه لا حاجة إلى هذا ففعلوا، وتركوا التلقيح، ولكن النخل فسد، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنتم أعلم بشؤون دنياكم )) (1).
ولو كان هذا هو العلم الذي عليه الثناء لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به، لأن أكثر من يثني عليه بالعلم والعمل هو النبي صلى الله عليه وسلم .
إذن فالعلم الشرعي هو الذي يكون فيه الثناء ويكون الحمد لفاعله، ولكني مع ذلك لا أنكر أن يكون للعلوم الأخرى فائدة، ولكنها فائدة ذات حدين : إن أعانت على طاعة الله وعلى نصر دين الله وانتفع بها عباد الله، فيكون ذلك خيراً ومصلحة، وقد يكون تعلمها واجبا في بعض الأحيان إذا كان ذلك داخلاً في قوله تعالي: )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ َ) (لأنفال:60) .(6/316)
وقد ذكر كثير من أهل العلم أن تعلم الصناعات فرض كفاية ، وذلك لأن الناس لابد لهم من أن يطبخون بها، ويشربون بها ، وغير ذلك من الأمور التي ينتفعون بها، فإذا لم يوجد من يقوم بهذه المصانع صار تعلمها فرض كفاية. وذا محل جدل بين أهل العلم، الشرعي الذي هو فقه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما عدا ذلك فإما أن يكون وسيلة إلى خير أو وسيلة إلى شر، فيكون حكمه بحسب ما يكون وسيلة إليه.
الفصل الثاني
فضائل العلم
لقد مدح الله – سبحانه وتعالى العلم وأهله، وحثَ عباده على العلم والتزود منه وكذلك السنة المطهرة.
فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة، وهو من أفضل وأجلَ العبادات، عبادات التطوع، لأنه نوع من الجهاد في سبيل الله، فإن دين الله – عز وجل – إنما قام بأمرين :
أحدهما: العلم والبرهان.
والثاني: القتال والسنان، فلا بد من هذين الأمرين، ولا يمكن أن يقوم دين الله ويظهر إلا بهما جميعاً ، والأول منهما مقدًم على الثاني، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغيٌر على قوم حتى تبلغهم الدعوة إلى الله - عز وجل – فيكون العلم قد سبق القتال.
قال تعالي: )أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) (الزمر، الآية:9) فالاستفهام هنا لابد فيه من مقابل أمن هو قائم قانت آناء الليل والنهار أي كمن ليس كذلك، والطرف الثاني المفضل عليه محذوف للعلم به، فهل يستوي من هو قانت آناء الليل ساجداً أو قائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هل يستوي هو من هو مستكبر عن طاعة الله ؟(6/317)
الجواب: لا يستوي فهذا الذي هو قانت يرجو ثواب الله ويحذر الآخرة هل فعلُهُ ذلك عن علم أو عن جهل ؟ الجواب : عن علم، ولذلك قال: ] أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [ (الزمر الآية: 9) . لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، كما لا يستوي الحي والميت، والسميع والأصم، والبصير والأعمى، العلم نور يهتدي به الإنسان، ويخرج به من الظلمات إلى النور، العلم يرفع الله به من يشاء من خلقه ] يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [ (المجادلة: الآية11). ولهذا نجد أن أهل العلم محل الثناء، كلما ذُكروا أثنى عليهم، وهذا رفع لهم في الدنيا، أما في الآخرة فإنهم يرتفعون درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله والعمل بما عملوا .
إن العابد حقًا هو الذي يعبد ربه على بصيرة ويتبين له الحق، وهذه سبيل النبيe ] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ (يوسف الآية : 108)
فالإنسان الذي يتطهر وهو يعلم أنه على طريق شرعي، هل هو كالذي يتطهر من أجل أنه رأى أباه أو أمه يتطهرا؟ .
أيهما أبلغ في تحقيق العبادة ؟ رجل يتطهر لأنه علم أن الله أمر بالطهارة وأنها هي طهارة النبي صلى الله عليه وسلم فيتطهًر امتثالاً لأمر الله واتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أم رجل آخر يتطهر لأن هذا هو المعتاد عنده ؟ .(6/318)
فالجواب: بلا شك أن الأول هو الذي يعبد الله على بصيرة. فهل يستوي هذا وذاك؟ وإن كان فعل كل منهما واحداً ، لكن هذا عن علم وبصيرة يرجو الله – عز وجل ويحذر الآخرة ويشعر بأنه متبع للرسول صلى الله عليه وسلم وأقف عند هذه النقطة وأسأل هل نستشعر عند الوضوء بأننا نمتثل لأمر الله – سبحانه وتعالى- في قوله : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن) [ (المائدة: الآية6).
هل الإنسان عند وضوئه يستحضر هذه الآية وأنه يتوضأ امتثالاً لأمر الله؟ .
هل يستشعر أن هذا وضوء رسول الله e وأنه يتوضأ اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب: نعم، الحقيقة أن منا من يستحضر ذلك، ولهذا بذلك الإخلاص وأن نكون متبعين لرسول الله e . نحن نعلم أن من شروط الوضوء النية، لكن النية قد يراد بها نية العمل وهذا نتنبه لهذا الأمر العظيم، وهي أن نستحضر ونحن نقوم بالعبادة أن نمتثل أمر الله بها لتحقيق الإخلاص، وأن نستحضر أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها ونحن له متبعون فيها لتحقيق المتابعة؛ لأن من شروط صحة العمل:
الإخلاص.
والمتابعة.
اللذين بها تتحقق شهادة أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
نعود إلى ما ذكرنا أولاً من فضائل العلم، إذ بالعلم يعبد الإنسان ربه على بصيرة، فيتعلق قلبه بالعبادة ويتنور قلبه بها، ويكون فاعلاً لها على أنها عبادة لا على أنها عادة، ولهذا إذا صلي الإنسان على هذا النحو فإنه مضمون له ما أخبر الله به من أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ومن أهم فضائل العلم ما يلي:(6/319)
1- أنه إرث الأنبياء، فالأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – لم يورثوا درهماًَ ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم، فمنْ أخذ بالعلم فقد أخذ بحظ وافر من إرث الأنبياء، فأنت الآن في القرن الخامس عشر إذا كنت من أهل العلم ترث محمداً e وهذا من أكثر الفضائل.
2- أنه يبقى والمالي يفني، فهذا أبو هريرة - رضي الله عنه – من فقراء الصحابة حتى إنه يسقط من الجوع كالمغمي عليه وأسألكم بالله هل يجري لأبي هريرة ذكر بين الناس في عصرنا أم لا ؟ نعم يجري كثيرا فيكون لأبي هريرة أجر من انتفع بأحاديثه، إذ العلم يبقى والمال يفنى، فعليك يا طالب العلم أن تستمسك بالعلم فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية أو عمل ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )) (1)
3- أنه لا يتعقب صاحبه في الحراسة؛ لأنه إذا رزقك الله علماً فمحله في القلب لا يحتاج إلى صناديق أو مفاتيح أو غيرها، هو في القلب محروس، وفي النفس محروس، وفي الوقت نفسه هو حارس
لك؛ لأنه يحميك من الخطر بإذن الله – عز وجل – فالعلم يحرسك، ولكن المال أنت تحرسه تجعله في صناديق وراء الأغلاف، ومع ذلك تكون غير مطمئن عليه.
4- أن الإنسان يتوصل به إلى أن يكون من الشهداء على الحق، والدليل قوله تعالي: ] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ (آل عمران: الآية18). فهل قال: (( أولو المال))؟ لا، بل قال : ] وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ [ فيكفيك فخراً يا طالب العلم أن تكون ممن شهد الله أنه لا إله إلا هو مع الملائكة الذين يشهدون بوحدانية الله – عز وجل –(6/320)
5- أن أهل العلم هو أحد صنفي ولاة الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله تعالي: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [ (النساء: من الآية59). فإن ولاة الأمور هنا تشمل ولاة الأمور من الأمراء والحكام، والعلماء وطلبة العلم؛ فولاية أهل العلم في بيان شريعة الله ودعوة الناس إليها وولاية الأمراء في تنفيذ شريعة الله وإلزام الناس بها.
6- أن أهل العلم هو القائمون على أمر الله تعالي حتى تقوم الساعة، ويستدل لذلك بحديث معاوية – رضى الله عنه – يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقوم: (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )) (1) . رواه البخاري.
وقد قال الإمام أحمد عن هذه الطائفة: (( إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم )).
وقال القاضي عياض – رحمه الله - : (( أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب الحديث)).
7- أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرغب أحداً أن يغبط أحداً على شيْ من النعم التي أنعم الله بها إلا على نعمتين هما:
1- طلب العلم والعمل به.
2- التاجر الذي جعل ماله خدمة للإسلام. فعن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا حسد إلا في إثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها ويعٌلّمٌها)) (1)(6/321)
8- ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقُُه في دين الله ونفعهُ ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به )) (2
9- أنه طريق الجنة كما دل على ذلك حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله e قال: (( ومن سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة. )) (1) . رواه مسلم.
10- ما جاء في حديث معاوية – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله e: (( من يرد الله به خيراً يُفقهه في الدين )) (2) . أي يجعله فقيهاً في دين الله – عز وجل - ، والفقه في الدين ليس المقصود به فقه الأحكام العملية المخصوصة عند أهل العلم بعلم الفقه فقط، ولكن المقصود به هو: علم التوحيد، وأصول الدين، وما يتعلق بشريعة الله – عز وجل -. ولو لم يكن من نصوص الكتاب والسنة إلا هذا الحديث في فضل العلم لكان كاملاً في الحثً على طلب علم الشريعة والفقه فيها.
11- أن العلم نور يستضيء به العبد فيعرف كيف يعبد ربه، وكيف يعامل عباده، فتكون مسيرته في ذلك على علم وبصيرة.(6/322)
12- أن العالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولا يخفي على كثير منّا قصة الرجل الذي من بني إسرائيل قتل تسعا ًوتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عابد فسأله هل له من توبة ؟ فكان العابد استعظم الأمر فقال: لا. فقتله فأتم به المئة، ثم ذهب إلى عالم فسأله فأخبره أن له توبة وأنه لاشيء يحول بينه وبين التوبة، ثم دله على بلد أهله صالحون ليخرج إليها، فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق. والقصة مشهورة (1) . فانظر الفرق بين العالم والجاهل.
13- أن الله يرفع أهل العلم في الآخرة وفي الدنيا، أما في الآخرة فإن الله يرفعهم درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله – عز وجل – والعمل بما علموا ، وفي الدنيا يرفعهم الله بين عباده بحسب ما قاموا به. قال الله تعالي: ] يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[ (المجادلة: الآية11).
الفصل الثالث
حكم طلب العلم
طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون طلب العلم واجباً على الإنسان عيناً أي فرض عين، وضابطه أن يتوقف عليه معرفة عبادة يريد فعلها أو معاملة يريد القيام بها، فإنه يجب عليه في هذه الحال أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة وكيف يقوم بهذه المعاملة، وما عدا ذلك من العلم ففرض كفاية وينبغي لطالب العلم أن يشعر نفسه أنه قائم بفرض كفاية حال طلبه ليحصل له ثواب فاعل الفرض مع التحصيل العلمي.
ولا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال، بل هو من الجاهد في سبيل الله، ولاسيما في وقتنا هذا حين بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر، وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم، وبدأ الجدل من كثير من الناس ، فهذه ثلاثة أمور كلها تحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم.
أولا: بدع بدأت تظهر شرورها.(6/323)
ثانيًا: أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم.
ثالثاً: جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها
بغير علم.
فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع، وعندهم فقه في دين الله، وعندهم حكمة في توجيه عباد الله لأن كثيراً من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ولا يهمهم النظر إلى إصلاح الخلق وإلى تربيتهم، وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا صار وسيلة إلى شر أكبر لا يعلم مداه إلا الله.
---
(1) البخاري ، كتاب العلم، باب: من يرد الله به خيراً، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة.
(2) أبو داود، كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، والترميذي، كتاب العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة.
(1) أخرجه مسلم من كتاب الفضائل، باب : وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره r من معايش الدنيا على سبيل الرأي.
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية ، باب : ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
(1) البخاري، كتاب العلم، باب: من يرد الله به خيراً ومسلم، كتاب الزكاة، باب: النهي عن المسألة.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم ، كتاب الصلاة ، باب: فضل
من يقوم بالقرآن ويعلمه.
(2) أخرجه البخاري ، كتاب العلم، باب: فضل من علم وعمل ، ومسلم، كتاب الفضائل ، باب: مثل مابعث به النبي e من الهدى والعلم.
(1) أخرجه مسلم ، كتاب الدعوات ، باب : فضل الاجتماع على تلاوة القرآن.
(2) تقدم تخريجه ص 13.
(1) أخرجها البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر من بني إسرائيل ، ومسلم، كتاب التوبة، باب: قبول توبة القاتل.
كتاب العلم
في آداب طالب العلم والأسباب المعينة على تحصيله
محمد بن صالح العثيمين
في آداب طالب العلم والأسباب المعينة على تحصيله
الفصل الأول
آداب طالب العلم(6/324)
طالب العلم لابد له من التأدب بآداب، نذكر منها :
الأمر الأول : إخلاص النية لله - عز وجل -:
بأن يكون قصده بطلب العلم وجه الله والدار الآخرة؛ لأن الله حثُ عليه ورغب فيه، فقال تعالى: ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [ (محمد: الآية19) والثناء على العلماء في القرآن معروف، وإذا أثنى الله على شيء أو أمر به صار عبادة.
إذن فيجب الإخلاص فيه لله بأن ينوي الإنسان في طلب العلم وجه الله – عز وجل – وإذا نوى الإنسان بطلب العلم الشرعي أن ينال شهادة ليتوصل بها إلى مرتبة أو رتبة، فقد قال رسول الله e (( من تعلم علماً يبتغي به وجه الله – عز وجل – لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) – يعني ريحها - (1) وهذا وعيد شديد.
لكن لو قال طالب العلم: أنا أريد أن أنال الشهادة لا من أجل حظ من الدنيا، ولكن لأن النظم أصبح مقياس العالم فيها
شهادته فنقول: إذا كانت نية الإنسان نيل الشهادة من أجل نفع الخلق تعليمًا أو إدارة أو نحوها، فهذه نية سليمة لا تضره شيئاً ؛ لأنها نية حق.
وإنما ذكرنا الإخلاص في أول آداب طالب العلم ؛ لأن الإخلاص أساس، فعلى طالب العلم أن ينوي بطلب العلم امتثال أمر الله – عز وجل – لأن الله - عز وجل – أمر بالعلم فقال تعالي : ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [ (محمد: الآية 19) فأمر بالعلم، فإذا تعلمت فإنك ممتثل لأمر الله – عز وجل - .
الأمر الثاني: رفع الجهل عن نفسه وعن غيره :(6/325)
أن ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه وعن غير؛ لأن الأصل في الإنسان الجهل، ودليل ذلك قوله تعالي: ] وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون [ (النحل:78) . والواقع يشهد بذلك فتنوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسك وبذلك تنال خشية الله ]إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ (فاطر، الآية:28) فتنوي رفع الجهل عن نفسك لأن الأصل فيك الجهل، فإذا تعلمت وصرت من العلماء انتفي عنك الجهل، وكذلك تنوي رفع الجهل عن الأمة ويكون ذلك بالتعليم بشتى الوسائل لتنفع الناس بعلمك.
وهل من شرط نفع العلم أن تجلس في المسجد في حلقة ؟
أو يمكن أن تنفع الناس بعلمك في كل حال ؟
الجواب: بالثاني؛ لأن الرسول e يقول: (( بلغوا عني ولو آية )) (1)
لأنك إذا علمت رجلاً علماً وعلّمه رجلاً آخر صار لك أجر رجلين، ولو علم ثالثاُ صال لك أجر ثلاثة وهكذا، ومن ثم صار من البدع أن الإنسان إذا فعل عبادة قال: (( اللهم اجعل ثوابها لرسول الله ))؛ لأن الرسول e هو الذي علمك بها وهو الذي دلك عليها فله مثل أجرك.
قال الإمام أحمد – رحمه الله تعالي -: (( العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته )). قالوا : كيف ذلك ؟ (( ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره ))؛ لأن الأصل فيهم الجهل كما هو الأصل فيك، فإذا تعلمت من أجل أن ترفع الجهل عن هذه الأمة كنت من المجاهدين في سبيل الله الذين ينشرون دين الله.
الأمر الثالث: الدفاع عن الشريعة:(6/326)
أن ينوي بطلب العلم الدفاع عن الشريعة؛ لأن الكتب لا يمكن أن تدافع عن الشريعة، ولا يدافع عن الشريعة إلا حامل الشريعة، فلوا أن رجلاً من أهل البدع جاء إلى مكتبة حافلة بالكتب الشرعية فيها ما لا يحصي من الكتب، وقام يتكلم ببدعة ويقررها فلا أظن أن كتاباً واحداً يرد عليه، لكن إذا تكلم عن عند شخص من أهل العلم ببدعته ليقررها فإن طالب العلم يرد عليه ويدحض كلامه بالقرآن والسنة.
فعلى طالب العلم أن ينوى بطلب العلم الدفاع عن الشريعة ؛ لأن الدفاع عن الشريعة لا يكون إلا برجالها كالسلاح تماماً، لو كان عندنا أسلحة ملأت خزائنها فهل هذه الأسلحة تستطيع أن تقوم من أجل أن تلقي قذائفها على العدو؟ أو لا يكون ذلك إلا بالرجال ؟
فالجواب: لا يكون ذلك إلا بالرجال، وكذلك العلم.
ثم إن البدع تتجدد، فقد توجد بدع ما حدثت في الزمن الأول ولا توجد في الكتب فلا يمكن أن يدافع عنها إلا طالب العلم، ولهذا أقول:
إن ما تجب مراعاته لطالب العلم الدفاع عن الشريعة، إذن فالناس في حاجة ماسة إلى العلماء؛ لأجل أن يردوا على كيد المبدعين وسائر أعداء الله – عز وجل – ولا يكون ذلك إلا بالعلم الشرعي المتلقي من كتاب الله وسنة رسوله e .
الأمر الرابع: رحابة الصدر في مسائل الخلاف:
أن يكون صدره رحباً في مواطن الخلاف الذي مصدره الاجتهاد ؛ لأن مسائل الخلاف بين العلماء، أما أن تكون مما لا مجال للاجتهاد فيه ويكون الأمر فيها واضحاً فهذه لا يعذر أحد بمخالفتها، وإما أن تكون مما للاجتهاد فيها مجال فهذه يعذر فيها من خالفها، ولا يكون قولك حجة على من خالفك فيها؛ لأننا لو قبلنا ذلك لقنا بالعكس قوله حجة عليك.(6/327)
وأنا أريد بهذا ما للرأي فيه مجال، ويسع الإنسان فيه الخلاف، أما من خالف طريق السلف كمسائل العقيدة فهذه لا يقبل من أحد مخالفة ما كان عليه السلف الصالح، لكن في المسائل الأخرى التي للرأي فيها مجال فلا ينبغي أن يتُخذ من هذا الخلاف مطعنٌ في الآخرين، أو يتُخذ منها سببٌ للعداوة والبغضاء .
فالصحابة – رضي الله عنهم – يختلفون في أمور كثيرة، ومن أراد أن يطلع على اختلافهم فليرجع إلى الآثار الواردة عنهم يجد الخلاف في مسائل كثيرة، وهي أعظم من المسائل التي اتخذها الناس هذه الأيام ديدناً للاختلاف حتى اتخذ الناس من ذلك تحزباً بأن يقولوا: أنا مع فلان كأن المسألة مسألة أحزاب فهذا خطأ.
من ذلك مثلاً كأن يقول أحد إذا رفعت من الركوع فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى، بل أرسلها إلى جنب فخذيك فإن لم تفعل فأنت مبتدع.
كلمة مبتدع ليست هينة على النفس، إذا قال لي هذا سيحدث في صدري شيء من الكراهية؛ لأن الإنسان بشر، ونحن نقول هذه المسألة فيها سعة إما أن يضعها أو يرسلها، ولهذا نص الإمام أحمد – رحمه الله – على أنه يخيّر بين أن يضع يده اليمنى على اليسرى وبين الإرسال؛ لأن الأمر في ذلك واسع، ولكن ما هي السنة عند تحرير هذه المسألة؟(6/328)
فالجواب: السنة أن تضع يدك اليمنى على اليسرى إذا رفعت من الركوع كما تضعها إذا كنت قائماً، والدليل فيما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال ((كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ))(1) فلتنظر هل يريد بذلك في حال السجود؟ أو يريد بذلك في حال القعود ؟ لا بل يريد بذلك في حالة القيام وذلك يشمل القيام قبل الركوع والقيام بعد الركوع، فيجب أن لا نأخذ من هذا الخلاف بين العلماء سبباً للشقاق والنزاع؛ لأننا كلنا نريد الحق وكلنا فعل ما أدّاه اجتهاده إليه، فما دام هكذا فإنه لا يجوز أن نتخذ من ذلك سبباً للعداوة والتفرق بين أهل العلم؛ لأن العلماء لم يزالوا يختلفوا حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
إذن فالواجب على طلبة العلم أن يكونوا يداًَ واحدة، ولا يجعلوا مثل هذا الخلاف سبباً للتباعد والتباغض، بل الواجب إذا خالفت صاحبك بمقتضى الدليل عندك، وخالفكم هو بمقتضى الدليل عنده أن تجعلوا أنفسكم على طريق واحد، وأن تزداد المحبة بينكما.
ولهذا فنحن نحب ونهنىء شبابنا الذين عندهم الآن اتجاهاً قوياً إلى أن يقرنوا المسائل بالدلائل وأن يبنوا علمهم على كتاب الله وسنة رسوله، نرى أن هذا من الخير وأنه يبشر بفتح أبواب العلم من مناهجه الصحيحة، ولا نريد منهم أن يجعلوا ذلك سببا للتحزب والبغضاء، وقد قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [ (الأنعام: الآية: 159) فالذين يجعلون أنفسهم أحزاباً يتحزبون إليها لا نوافقهم على ذلك لأن حزب الله واحد ، ونرى أن اختلاف الفهم لا يوجب أن يتباغض الناس وأن يقع في عرض أخيه.(6/329)
فيجب على طلبة العلم أن يكونوا إخوة، حتى وإن اختلفوا في بعض المسائل الفرعية، وعلى كل واحد أن يدعو الآخر بالهدوء والمناقشة التي يُراد بها وجه الله والوصول إلى العلم، وبهذا تحصل الألفة، ويزول هذا العنت والشدة التي تكون في بعض الناس، حتى قد يصل بهم الأمر إلى النزاع والخصام، وهذا لا شك يفرح أعداء المسلمين والنزاع بين الأمة من أشد ما يكون في الضرر قال الله تعالى: ] )وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [ ( الأنفال، الآية:46) .
وكان الصحابة- رضي الله عنهم – يختلفون في مثل هذه المسائل، ولكنهم على قلب واحد، على محبة وائتلاف، بل إني أقول بصراحة إن الرجل إذا خالفك بمقتضى لدليل عنده فإنه موافق لك في الحقيقة؛ لأن كلاً منكما طال للحقيقة وبالتالي فالهدف واحد وهو الوصول إلى الحق عن دليل ، فهو إذن لم يخالفك ما دمت تقرّ أنه إنما خالفك بمقتضى الدليل عنده، فأين الخلاف؟ وبهذه الطريقة تبقي الأمة واحدة وإن اختلفت في بعض المسائل لقيام الدليل عندها، أما مَنْ عاند وكابر بعد ظهور الحق فلا شك أنه يجب أن يعامل بما يستحقه بعد العناد والمخالفة، ولكل مقام مقال.
الأمر الخامس: العمل بالعلم:
أن يعمل طالب العلم بعلمه عقيدة وعبادة، وأخلاقاً وآداباً ومعاملةً ؛ لأن هذا هو ثمرة العلم وهو نتيجة العلم، وحامل العلم كالحامل لسلاحه، إما له وإما عليه، ولهذا ثبت عن النبي e أنه قال: (( القرآن حجة لك أو عليك)) (1) . لك إن عملت به،(6/330)
وعليك إن لم تعمل به، وكذلك يكون العمل بما صح عن النبي e بتصديق الأخبار وامتثال الأحكام ، إذا جاء الخبر من الله ورسوله فصدقه وخذه بالقبول والتسليم ولا تقل: لم؟ وكيف؟ فإن هذا طريقة غير المؤمنين فقد قال الله تعالى: ] )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً[ (الأحزاب الآية :36) .
والصحابة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم بأشياء قد تكون غريبة وبعيدة عن أفهامهم، ولكنهم يتلقون ذلك بالقبول لا يقولون: لم؟ وكيف؟ بخلاف ما عليه المتأخرون من هذه الأمة، نجد الواحد منهم إذا حُدًث بحديث عن الرسول e وحار عقله فيه نجده يورد على كلام الرسول e الإيرادات التي تستشف منها أنه يريد الاعتراض لا الاسترشاد، ولهذا يحال بينه وبين التوفيق، حتى يرد هذا الذي جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يتلقه بالقبول والتسليم.
وأضرب لذلك مثلاً ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) (1)
هذا الحديث حدّث به النبي e وهو حديث مشهور بل متواتر، ولم يرفع أحد من الصحابة لسانه ليقول: يا رسول الله كيف ينزل؟ وهل يخلو منه العرش أم لا؟ وما أشبه ذلك، لكن نجد بعض الناس يتكلم في مثل هذا ويقول كيف يكون على العرش وهو ينزل إلى السماء الدنيا؟ وما أشبه ذلك من الإيرادات التي يوردونها، ولو أنهم تلقوا هذا الحديث بالقبول وقالوا إن الله – عز وجل – مستو على عرشه والعلو من لوازم ذاته، وينزل كما يشاء- سبحانه وتعالي – لاندفعت عنهم هذه الشبهة ولم يتحيروا فيما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه.(6/331)
إذن الواجب علينا أن نتلقى ما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب والتسليم، وأن لا نعارضها بما يكون في أذهاننا من المحسوس والمشاهد؛ لأن الغيب أمر فوق ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة لا أحب أن أطيل بذكرها، إنما موقف المؤمن من مثل هذه الأحاديث هو القبول والتسليم بأن يقول صدق الله ورسوله كما أخبر الله عن ذلك في قوله: ] )آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ [ (البقرة الآية: 285) .
فالعقيدة يجب أن تكون مبنية على كتاب الله وسنة رسوله، وأن يعلم الإنسان أنه لا مجال للعقل فيها لا أقول مدخل للعقل فيها، وإنما أقول لا مجال للعقل فيها، إلا لأن ما جاءت به من نصوص في كمال الله شاهدة به العقول، وإن كان اعقل لا يدرك تفاصيل ما يجب لله من كمال لكنه يدرك أن الله قد ثبت له كل صفة الكمال لابد أن يعمل بهذا العلم الذي منّ الله به عليه من ناحية العقيدة.
كذلك من ناحية العبادة، التعبد لله – عز وجل – وكما يعلم كثير منا أن العبادة مبنية على أمرين أساسين :
إحداهما: الإخلاص لله – عز وجل ـ .
والثاني: المتابعة للرسول، فيبني الإنسان عبادته على ما جاء عن الله ورسوله، لا يبتدع في دين الله ما ليس منه لا في أصل العبادة، ولا في وصفها ، ولهذا نقول : لا بد في العبادة أن تكون ثابتة بالشرع في هيئتها، وفي مكانها، وفي زمانها، وفي سببها، لابد أن تكون ثابتة بالشرع في هذه الأمور كلها.(6/332)
فلو أن أحداً أثبت شيئاً من الأسباب لعبادة تعبد الله بها دون دليل رددنا عليه ذلك، وقلنا: إن هذا غير مقبول؛ لأنه لابد أن يثبت بأن هذا سبب لتلك العبادة وإلا فليس بمقبول منه، ولو أن أحداً شرع شيئاً من العبادات لم يأت به الشرع أو أتي بشيء ورد به الشرع لكن على هيئة ابتدعها أو في زمان ابتدعه، قلنا إنها مردودة عليك؛ لأنه لابد أن تكون العبادة مبنية على ما جاء به الشرع؛ لأن هذا هو مقتضى ما علّمك الله تعالى من العلم ألا تتعبد الله تعالى إلا بما شرع.
ولهذا قال العلماء إن الأصل في العبادات الحظر حتى يقوم دليل على المشروعية واستدلوا على ذلك بقوله: ] أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه [ (الشورى: الآية21) . وبقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة – رضي الله عنها -: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) (1) .
حتى لو كنت مخلصا وتريد الوصول إلى الله، وتريد الوصول إلى كرامته، ولكنه على غير الوجه المشروع فإن ذلك مردود عليك، ولو أنك أردت الوصول إلى الله من طريق لم يجعله الله تعالى طريقا.
للوصول إليه فإن ذلك مردود عليه.
إذن فواجب طالب العلم أن يكون متعبداً الله تعالى بما علمه من الشرع لا يزيد ولا ينقص، لا يقول إن هذا الأمر الذي أريد أن أتعبد لله به أمر تسكن إليه نفسي ويطمئن إليه قلبي وينشرح به صدري، لا يقول هكذا حتى لو حصل هذا فليزنها بميزان الشرع فإن شهد الكتاب والسنة لها بالقبول فعلى العين والرأس وإلا فإنه قد يزين له سوء عمله: ] )أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [ (فاطر: الآية8) .(6/333)
كذلك لابد أن يكون عاملا بعمله في الأخلاق والمعاملة ، والعلم الشرعي يدعو إلى كل خلق فاضل من الصدق، والوفاء ومحبة الخير للمؤمنين حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) (1) وقال عليه الصلاة والسلام: (( من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه )) (2) ، وكثير من الناس عندهم غيرة وحب للخير، ولكن يسعون الناس بأخلاقهم، نجدة عنده شدة وعنف حتى في مقام الدعوة إلى الله – عز وجل، نجده يستعمل العنف والشدة، وهذا خلاف الأخلاق التى أمر بها الله - عز وجل ـ.
واعلم أن حسن الخلق هو ما يقرب إلى الله – عز وجل – وأولى الناس برسول الله e وأدناهم منه منزلة أحاسنهم أخلاقاً كما قال صلى الله عليه وسلم (( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلى وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمفيهقون)) . قالوا يا رسول الله ! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال؟ ((المتكبرون)) (1)
الأمرالسادس: الدعوة إلى الله :
أن يكون داعياً بعلمه إلى الله – عز وجل – يدعو في كل مناسبة في المساجد، وفي المجالس، وفي الأسواق وفي كل مناسبة، هذ1 النبي e بعد أن آتاه الله النبوة والرسالة ما جلس في بيته بل كان يدعو الناس ويتحرك، وأنا لا أريد من طلبة العلم أن يكونوا نسخاً من كتب، ولكني أريد منهم أن يكونوا علماء عاملين.
الأمر السابع: الحكمة :(6/334)
أن يكون متحلياً بالحكمة، حيث يقول الله تعلي:] يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [ (البقرة: الآية269) والحكمة أن يكون طالب العلم مربياً لغيره بما يتخلق به من الأخلاق، وبما يدعو إليه من دين الله – عز وجل – بحيث يخاطب كل إنسان بما يليق بحاله، وإذا سلكنا هذا الطريق حصل لنا خير كثير كما قال ربنا – عز وجل:- ] وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [ (البقرة: الآية269) .
والحكيم هو : الذي ينزل الأشياء منازلها ، لأن الحكيم مأخوذ من الإحكام وهو الإتقان، وإتقان الشيء أن ينزله منزلته، فينبغي بل يجب على طالب العلم أن يكون حكيماً دعوته.
وقد ذكر الله مراتب الدعوة في قوله تعالي: ] )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل: الآية125) وذكر الله تعالى مرتبة رابعة في جدال أهل الكتاب فقال تعالي:] )وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) (العنكبوت: الآية46) .فيختار طالب العلم من أساليب الدعوة ما يكون أقرب إلى القبول، ومثال ذلك في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء أعرابي فبال في جهة من المسجد، فقام إليه الصحابة يزجرونه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما قضى بوله دعاه النبي وقال له: (( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن )) (1) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، أرأيتم أحسن من هذه الحكمة؟ فهذا الأعرابي انشرح صدره واقتنع حتى إنه قال (( اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحداً)) .(6/335)
وقصة أخرى عن معاوية بن الحكم السُلميّ ، قال: بيْنا أنا أصلي مع رسول الله e إذ عطس رجل من القوم، فقلت: واُثكل أُمياه! ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يصمتونني، لكنّي سكتٌ. فما صلى رسول الله e ، فبأبي هو وأمي ! ما رأيت معلماً بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ! ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني. قال: (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن )) (2) ومن هنا نجد أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالحكمة كما أمر الله – عز وجل -.
ومثال آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً وفي يده خاتم ذهب وخاتم الذهب حرام على الرجال، فنزعه النبي e من يده ورمى به، وقال: (( يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده )) (3) ولما انصرف النبي e قيل للرجل : خذ خاتمك انتفع به، فقال: والله لا
آخذ خاتماً طرحه رسول الله e، فأسلوب التوجيه هنا أشد؛ لأن لكل مقام مقالاً ، وهكذا ينبغي لك من يدعو إلى الله أن ينزل الأمور منازلها وألا يجعل الناس على حد سواء، والمقصود حصول المنفعة.
وإذا تأملنا ما عليه كثير من الدعاة اليوم وجدنا أن بعضهم تأخذه الغيرة حتى ينفر الناس من دعوته، لو وجد أحداً يفعل شيئاً محرماً لوجدته يشهر به بقوى وبشدة يقول: ما تخاف الله، ما تخشى الله، وما أشبه ذلك حتى ينفر منه، وهذا ليس بطيب؛ لأن هذا يقابل بالضد، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لما نقل عن الشافعي – رحمه الله – ما يراه في أهل الكلام، حينما قال: (( حكمي في أهل الكلام أ، يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام )).(6/336)
قال شيخ الإسلام: إن الإنسان إذا نظر إلى هؤلاء وجدهم مستحقين لما قاله الشافعي من وجه، ولكنه إذا نظر إليهم بعين القدر والحيرة قد استولت عليهم والشيطان قد استحوذ عليهم، فإنه يرق لهم ويرحمهم، ويحمد الله أن عافاه مما ابتلاهم به، أو توا ذكاءً وما أوتوا زكاء، أو أوتوا فهوما وما أوتوا علوما، أو أوتوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء.
هكذا ينبغي لنا أيها الأخوة أن ننظر إلى أهل المعاصي بعينين: عين الشرع، وعين القدر،عير الشرع إي لا تأخذنا في الله لومة لائم كما قالت تعالى عن الزانية والزاني:] َفاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [ (النور: الآية2)
وننظر إليهم بعين القدر فنرحمهم ونرق لهم ونعاملهم بما نراه أقرب إلى حصول المقصود وزوال المكروه، وهذا من آثار طالب العلم بخلاف الجاهل الذي عنده غيرة، لكن ليس عنده علم، فطالب العلم الداعية إلى الله يجب أن يستعمل الحكمة.
الأمر الثامن: أن يكون الطالب صابراً على العلم:
أي مثابراً عليه لا يقطعه ولا يمل بل يكون مستمراً في تعلمه بقدر المستطاع، وليصبر على العلم، ولا يمل فإن الإنسان إذا طرقه الملل استحسر وترك، ولكن إذا كان مثابراً على العلم فإنه ينال أجر الصابرين من وجه، وتكون له العاقبة من وجه آخر، واستمع إلى قول الله – عز وجل – مخاطباً نبيه : ] )تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [ (هود الآية:49) .
الأمر التاسع : احترام العلماء وتقديرهم:(6/337)
إن على طلبة العلم احترام العلماء وتقديرهم، وأن تتسع صدورهم لما يحصل من اختلاف بين العلماء وغيرهم ، وأن يقابلوا هذا بالاعتذار عمن سلك سبيلاً خطأ في اعتقادهم، وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأن بعض الناس يتتبع أخطاء الآخرين، ليتخذ منها ما ليس لائقا في حقهم ، ويشوش على الناس سمعتهم، وهذا أكبر الأخطاء، وإذا كان اغتياب العامي من الناس من كبائر الذنوب فإن اغتياب العالم أكبر وأكبر؛ لأن اغتياب العالم لا يقتصر ضرره على العالم بل عليه وعلى ما يحمله من العلم الشرعي.
والناس إذا زهدوا في العالم أو سقط من أعينهم تسقط كلمته أيضاً . وإذا كان يقول الحق ويهدي إليه فإن غيبة هذا الرجل لهذا العالم تكون حائلاً بين الناس وبين علمه الشعري، وهذا خطره كبير وعظيم.
أقول: إن على هؤلاء الشباب أن يحملوا ما يجري بين العلماء من الاختلاف على حسن النية، وعلى الاجتهاد، وأن يعذروهم فيما اخطأوا فيه، ولا مانع أن يتكلموا معهم فيما يعتقدون أنه خطأ، ليبينوا لهم هل الخطأ منهم أومن الذين قالوا إنهم أخطأوا؟ لأن الإنسان أحياناً يتصور أن قول العالم خطأ، ثم بعد المناقشة يتبين له صوابه. والإنسان بشر (( كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) (1)
أما أن يفرح بزلة العالم وخطئه ، ليشيعها بين الناس فتحصل الفرقة، فإن هذا ليس من طريق السلف.(6/338)
وكذلك أيضاً ما يحصل من الأخطاء من الأمراء، لا يجوز لنا أن نتخذ ما يخطئون فيه سٌلّماً للقدح فيهم في كل شيء ونتغاضي عما لهم من الحسنات؛ لأن الله يقول في كتابه: ] )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا[ (المائدة: الآية8).يعني لا يحملكم بغض قوم على عدم العدل، فالعدل واجب، ولا يحل للإنسان أن يأخذ زلات أحد من الأمراء أو العلماء أو غيرهم فيشيعها بين الناس ، ثم يسكت عن حسناتهم، فإن هذا ليس بالعدل . وقس هذا الشيء على نفسك لو أن أحداً سٌلط عليكم وصار ينشر زلاتك وسيئاتك، ويخفي حسناتك وإصاباتك ، لعددت ذلك جناية منه عليك، فإذا كنت ترى ذلك في نفسك؛ فإنه يجب عليك أن ترى ذلك في غيرك، وكما أشرت آنفاً إلى أن علاج ما تظنه خطأ أن تتصل بمن رأيت أنه أخطأ، وأن تناقشه، ويتبين الموقف بعد المناقشة .
فكم من إنسان بعد المناقشة يرجع عن قوله إلى ما يكون هو الصواب، وكم من إنسان بعد المناقشة يكون قوله هو الصواب، وظننا هو الخطأ. (( فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) (1) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه )) (2) ، وهذا هو العدل والاستقامة.
الأمر العاشر: التمسك بالكتاب والسنة:
يجب على طالبة العلم الحرص التام على تلقي العلم والأخذ من أصوله التي لا فلاح لطالب العلم إن لم يبدأ بها، وهي:(6/339)
1- القران الكريم : فإنه يجب على طالب العلم الحرص عليه قراءةً وحفظاً وفهماً وعملاً به، فإن القرآن هو حبل الله المتين ، وهو أساس العلوم، وقد كان السلف يحرصون عليه غاية الحرص فيذكر عنهم الشيء العجيب من حرصهم على القرآن ، فتجد أحدهم حفظ القرآن وعمره سبع سنوات، وبعضهم حفظ القرآن في أقل من شهر، وفي هذا دلالة على حرص السلف – رضوان الله عليهم – على القرآن ، فيجب على طالب العلم الحرص عليه وحفظه على يد أحد المعلمين؛ لأن القرآن يؤخذ عن طريق التلقي.
وإنه مما يؤسف له أن تجد بعض طلبة العلم لا يحفظ القرآن ، بل بعضهم لا يحسن القراءة، وهذا خلل كبير في منهج طلب العلم. لذلك أكرر أنه يجب على طلبة العلم الحرص على حفظ القرآن والعمل به والدعوة إليه وفهمه فهماً مطابقاً لفهم السلف الصالح.
2- السنة الصحيحة: فهي ثاني المصدرين للشريعة الإسلامية، وهي الموضحة للقرآن الكريم، فيجب على طالب العلم الجمع بينهما والحرص عليهما، وعلى طالب العلم حفظ السنة، إما بحفظ نصوص الأحاديث أو بدراسة أسانيدها ومتونها وتمييز الصحيح من الضعيف، وكذلك يكون حفظ السنة بالدفاع عنها والرد على شبهات أهل البدع في السنة.
فيجب على طالب العلم أن يلتزم بالقرآن والسنة الصحيحة، وهما له – إي طالب العلم – كالجناحين للطائر إذا انكسر أحدهما لم يطر.(6/340)
لذلك لا تراعي السنة وتغفل عن القرآن ، أو تراعي القرآن وتغفل عن السنة ، فكثير من طلبة العلم يعتني بالسنة وشروحها ورجالها، ومصطلحاتها اعتناءً كاملاً؛ لكن لو سألته عن آية من كتاب الله لرأيته جاهلا بها، وهذا غلط كبير، فلا بد أن يكون الكتاب والسنة لرأيته جاهلا بها، وهذا غلط كبير، فلا بد أن يكون الكتاب والسنة جناحين لك يا طالب العلم، وهناك شيء ثالث منهم وهو كلام العلماء، فلا تهمل كلام العلماء ولا تغفل عنه ؛ لأن العلماء أشد رسوخاً منك في العلم، وعندهم من قواعد الشريعة وأسرارها وضوابطها ما ليس عندك ولهذا كان العلماء الأجلاء المحققون إذا ترجح عندهم قول، يقولون: إن كان أحد قال به وإلا فلا نقول به، فمثلا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالي- على علمه وسعة اطلاعه إذا قال قولاً لا يعلم به قائلاً قال : أنا أقول به إن كان قد قيل به، ولا يأخذ برأيه.
لذا يجب على طالب العلم الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يستعين بكلام العلماء .
والرجوع إلى كتاب الله يكون بحفظه وتدبره والعمل على ما جاء به؛ لأن الله يقول: ] كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ (ص الآيةّ:29) (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ[ وتبر الآيات يوصل إلى فهم المعنى،] وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [. والتذكر هو العمل بهذا القرآن.
نزل هذا القرآن لهذه الحكم، وإذا كان نزل لذلك؛ فلنرجع إلى الكتاب لنتدبره ولنعلم معانيه، ثم نطبق ما جاء به ووالله إن فيه سعادة الدنيا والآخرة، يقول الله تعالي: ] فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى[ ] مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [ (طه: الآيتان 123 ، :124)(6/341)
ولهذا لا تجد أحداً أنعم بألاً ، ولا أشرح صدراً ، ولا أشد طمأنينة في قلبه من المؤمن أبداً ، حتى وإن كان فقيراً ، فالمؤمن أشد الناس انشراحاً ، وأشد الناس اطمئناناً ، وأوسع الناس صدراً وأقرأوا إن شئتم قول الله تعالي: قول الله تعالي: ] مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون [ (النحل الآية:97) .
ما هي الحياة الطيبة ؟
الجواب: الحياة الطيبة هي انشراح الصدر وطمأنينة القلب، حتى ولو كان الإنسان في أشد بؤس، فإنه مطمئن القلب منشرح الصدر، قال النبي e : (( عجباً الأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له )) (1)
الكافر إذا أصابته الضراء هل يصبر ؟ فالجواب: لا. بل يحزن وتضيق عليه الدنيا، وربما انتحر وقتل نفسه، ولكن المؤمن يصبر ويجد لذة الصبر انشراحاً وطمأنينة؛ ولذلك تكون حياته طيبة، وبذلك يكون قوله تعالى: ] فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [ . حياة طيبة في قبله ونفسه.
بعض المؤرخين الذين تكلموا عن حياة الحافظ ابن حجر – رحمه الله – وكان قاضي قضاة مصر في عهده، وكان إذا جاء إلى مكان عمله يأتي بعربة تجرها الخيول أو البغال في موكب. فمر ذات يوم برجل يهودي في مصر زيات – أي يبيع الزيت – وعادة يكون الزيات وسخ الثياب – فجاء اليهودي فأوقف الموكب. وقال للحافظ ابن حجر – رحمه الله -: إن نبيكم يقول" (( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )) (1) . وأنت قاضي قضاة مصر ،وأنت في هذا الموكب، وفي هذا النعيم، وأنا – يعني نفسه اليهودي – في هذا العذاب وهذا الشقاء.(6/342)
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : (( أنا فيما أنا فيه من الترف والنعيم يعتبر بالنسبة إلى نعيم الجنة سجناً ، وأما أنت بالنسبة للشقاء الذي أنت فيه يعتبر بالنسبة لعذاب النار جنة)) . فقال اليهودي: أهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنمحمداً رسول الله. وأسلم.
· فالمؤمن في خير مهما كان، وهو الذي ربح الدنيا والآخرة.
· والكافر في شر وهو الذي خسر الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى : ] )وَالْعَصْر* إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ * وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر* [ ( العصرالآيات 1- 3) .
فالكفار والذين أضاعوا دين الله وتاهوا في لذاتهم وترفهم ، فهم وإن بنوا القصور وشيدوها وازدهرت لهم الدنيا؛ فإنهم في الحقيقة في جحيم، حتى قال بعض السلف: (( لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف )).
أما المؤمنون فقد نعموا بمناجاة الله وذكره، وكانوا مع قضاء الله وقدره ، فإن أصابتهم الضراء صبروا، وإن أصابتهم السراء شكروا، فكانوا في أنعم ما يكون، بخلاف أصحاب الدينا فإنهم كما وصفهم الله بقوله: ] ) فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [ (التوبة: الآية58) .
وأما الرجوع إلي السنة النبوية: فسنة الرسول e ثابتة بين أيدينا، ولله الحمد، ومحفوظة، حتى ما كان مكذوباً على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن أهل العلم بينوا سنته، وبينوا ما هو مكذوب عليه، وبقيت السنة - ولله الحمد – ظاهرة محفوظة، يستطيع إي إنسان أن يصل إليها إما بمراجعة الكتب – إن تمكن – وإلا ففي سؤال أهل العلم.(6/343)
ولكن إذا قال قائل: كيف توفق بين ما قلت من الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله e؟ مع أننا نجد أن أناساً يتبعون الكتب المؤلفة في المذاهب ويقول: أنا مذهبي كذا؛ وأنا مذهبي كذا؛ وأنا مذهبي كذا!! حتى إنك لتفتي الرجل وتقول له: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فيقول : أنا مذهبي حنفي، أنا مذهبي مالكي، أنا مذهبي شافعي، أنا مذهبي حنبلي ... وما أشبه ذلك.
فالجواب: أن نقول لهم إننا جميعا نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .
فما معني شهادة أن محمداً رسول الله ؟
قال العلماء : معناها: (( طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهي وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع )) .
فإذا قال إنسان أنا مذهبي كذا أو مذهبي كذا أو مذهبي كذا فنقول له: هذا قول الرسول- عليه الصلاة والسلام – فلا تعارضه بقول أحد.
حتى أئمة المذاهب ينهون عن تقليدهم تقليدا محضاً ويقولون: (( متى تبين الحق فإن الواجب الرجوع إليه)).
فنقول لمن عارضنا بمذهب فلان أو فلان: نحن وأنت نشهد أن محمداً رسول الله، وتقتضي هذه الشهادة إلا نتبع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذه السنة بين أيدينا واضحة جلية، ولكن لست أعني بهذا القول أن نقلل من أهمية الرجوع لكتب الفقهاء وأهل العلم، بل إن الرجوع إلى كتبهم للانتفاع بها ومعرفة الطرق التي بها تستنبط الأحكام من أدلتها من الأمور التي لا يمكن أن تحقق طلب العلم إلا بالرجوع إليها.(6/344)
ولذلك نجد أولئك القوم الذين لم يتفقهوا على أيدي العلماء نجد أن عندهم من الزلات شيئاً كثيراً؛ لأنهم صاروا ينظرون بنظر أقل مما ينبغي أن ينظروا فيه، يأخذون مثلاُ صحيح البخاري فيذهبون إلى ما فيه من الأحاديث، مع أن في الأحاديث ما هو عام ، ومخصص، ومطلق، ومقيد ، وشيء منسوخ، لكنهم لا يهتدون إلى ذلك، فيحصل بهذا ضلال كبير.
الأمر الحادي عشر: التثبت والثبات:
ومن أهم الآداب التي يجب أن يتحلى بها طالب العلم التثبت فيما ينقل من الأخبار والتثبت فيما يصدر من الأحكام، فالأخبار إذا نقلت فلابد أن تتثبت أولاً هل صحت عمن نقلت إليه أو لا، ثم إذا صحت فتثبت في الحكم ربما يكون الحكم الذي سمعته مبنياً على أصل تجهله أنت، فتحكم أنه خطأ، والواقع أنه ليس بخطأ .
ولكن كيف العلاج في هذه الحال ؟
العلاج: أن تتصل بمن نُسب إليه الخبر وتقول نقلأ عنك كذا وكذا فهل هذا صحيح؟ ثم تناقشه فقد يكون استنكارك ونفور نفسك منه أول وهلة سمعته لأنك لاتدري ما سبب هذا المنقول، ويقال إذا علم السبب بطل العجب، فلابد أولاً من التثبت في الخبر والحكم، ثم بعد ذلك تتصل بمن نقل عنه وتسأله هل صح ذلك أم لا؟ ثم تناقشه: إما أن يكون هو على حق وصواب فترجع إليه أو يكون الصواب معك فيرجع إليه.
وهناك فرق بين الثبات والتثبت فهما شيئان متشابهان لفظاً مختلفان معني.(6/345)
فالثبات معناه : الصبر والمثابرة وإلا يمل ولا يضجر وإلا يأخذ من كل كتاب نتفة، أو من كل فن قطعة ثم يترك؛ لأن هذا الذي يضر الطالب، ويقطع عليه الأيام بلا فائدة، فمثلاً بعض الطلاب يقرأ في النحو : في الأجرومية ومرة في متن قطر الندي، ومرة في الألفية. وكذلك الحال في: المصطلح، مرة في النخبة، ومرة في الفية العراقي، وكذلك في الفقه: مرة في زاد المستقنع، ومرة في عمدة الفقه، ومرة في المغني ، ومرة في شرح المهذب، وهكذا في كل كتاب، وهلم جرا ، هذا في الغالب لا يحصلُ علماً، ولو حصل علماً فإنه يحصل مسائل لا أصولاً ، وتحصيل المسائل كالذي يتلقط الجراد واحدة بعد الأخرى، لكن التأصيل والرسوخ والثبات هو المهم، فكن ثابتاً بالنسبة للكتب التي تقرأ أو تراجع وثابتاً بالنسبة للشيوخ الذين تتلقى عنهم، لا تكون ذواقاً كل أسبوع عند شيخ، كل شهر عن شيخ ، قرر أولاً من ستتلقى العلم عنده، ثم إذا قررت ذلك فاثبت ولا تجعل كل شهر أو كل أسبوع لك شيخا ، ولا فرق بين أن تجعل لك شيخاً في الفقه وتستمر معه في الفقه، وشيخا آخر في النحو وتستمر معه في النحو، وشيخاً آخر في العقيدة والتوحيد وتستمر معه، المهم أن تستمر لا أن تتذوق، وتكون كالرجل المطلاق كما تزوج امرأة وجلس عندها أياماً طلقها وذهب يطلب أخرى.
أيضاً التثبت أمر مهم؛ لأن الناقلين تارة تكون لهم نوايا سيئة، ينقلون ما يشوه سمعته المنقول عنه قصداً وعمداً ، وتارة لا يكون عندهم نوايا سيئة ولكنهم يفهمون الشيء على خلاف معناه الذي أريد به، ولهذا يجب التثبت، فإذا ثبت بالسند ما نٌقل أتى دور المناقشة مع صاحبه الذي نقل عنه قبل أن تحكم على القول بأنه خطأ أو غير خطأ، وذلك لأنه ربما يظهر لك بالمناقشة أن الصواب مع هذا الذي نٌقل عنه الكلام.
والخلاصة أنه إذا نقل عن شخص ما، ترى أنه خطأ فاسلك طرقا ثلاثة على التريب:
الأول : التثبت في صحة الخبر.(6/346)
الثاني: النظر في صواب الحكم، فإن كان صواباً فأيده ودافع عنه، وإن رأيته خطأ فاسلك الطريق الثالث وهو : الاتصال بمن نسب إليه لمناقشته فيه وليكن ذلك بهدوء واحترام.
الأمر الثاني عشر: الحرص على فهم مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم :
من الأمور المهمة في طلب العلم قضية الفهم، أي فهم مراد الله – عز وجل – ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كثيراً من الناس أوتوا علماً ولكن لم يؤتوا فهماً. لا يكفي أن تحفظ كتاب الله وما تيسر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون فهم. لابد أ ن تفهم عن الله ورسوله ما أراده الله ورسوله، وما أكثر الخلل من قوم استدلوا بالنصوص على غير مراد الله ورسوله فحصل بذلك الضلال.
وهنا أنبّه على نقطة مهمة ألا وهي: أن الخطأ في الفهم قد يكون أشد خطراً بالجهل؛ لأن الجاهل الذي يخطىء بجهله يعرف أنه جاهل ويتعلم، لكن الذي فهم خطأ يعتقد في نفسه أنه عالم مصيب، ويعتقد أن هذا هو مراد الله ورسوله، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة ليتبين لنا أهمية الفهم:
المثال الأول: قال الله تعالي: ] )وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * [ ] فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * [ (الانبياء الآيتان: 78، 79) .
فضل الله – عز وجل – سليمان على داود في هذه القضية بالفهم ] فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان[َ ولكن ليس هناك نقص في علم داود ] وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [ .(6/347)
وانظر إلى هذه الآية الكريمة لما ذكر الله – عز وجل – ما امتاز به سليمان من الفهم، فإنه ذكر أيضاً ميزة داود عليه السلام، فقال تعالى: ] وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ [ . وذلك حتى يتعادل كل منهما، فذكر الله تعالى ما اشتركا فيه من الحكم والعلم ثم ذكر ما امتاز به كل واحد منهما عن الآخر.
وهذا يدلنا على أهمية الفهم، وأن العلم ليس كل شيء.
المثال الثاني: إذا كان عندك وعاءان أحدهما فيه ماء ساخن دافىء، والآخر فيه ما بارد قارس، والفصل فصل الشتاء، فجاء رجل يريد الاغتسال من الجنابة، فقال بعد الناس: الأفضل أن تستخدم الماء البارد، وذلك لأن الماء البارد فيه مشقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ، قالوا بلي يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره ... )) (1) الحديث.
يعني إسباغ في أيام البرد فإذا أسبغت الوضوء بالماء البارد كان أفضل من أن تسبغ الوضوء بالماء المناسب لطبيعة الجو.
فالرجل أفتى بأن استخدام الماء البارد أفضل واستدل بالحديث السابق.
فهل الخطأ في العلم أم في الفهم ؟
الجواب: أن الخطأ في الفهم؛ لأن الرسول e يقول: (( إسباغ الوضوء على المكاره)) ولم يقل: أن تختار الماء البارد للوضوء، وفرق بين التعبيرين . لو كان الوارد في الحديث التعبير الثاني لقلنا نعم اختر الماء البارد. ولكن قال: (( إسباغ الوضوء على المكاره)). أي أن الإنسان لا يمنعه برودة الماء من إسباغ الوضوء.
ثم نقول: هل يريد الله بعباده اليسر أم يريد بهم العسر ؟
الجواب: في قوله تعالي:] يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[ (البقرة: الآية 185) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الدين يسر )) (1)(6/348)
فأقول لطلبة العلم: إن قضية الفهم قضية مهمة، فعلينا أن تفهم ماذا أراد الله من عباده ؟ هل أراد أن يشق عليهم في أداء العبادات أم أراد بهم اليسر ؟!
ولا شك أن الله - عز وجل – يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر.
فهذه بعض آداب مما ينبغي لطالب العلم أن يكون متأثراً بها في علمه حتي يكون قدوة صالحاً وحتى يكون داعيا إلى الخير وإماماً في دين الله – عز وجل – فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، كما قال الله تعالي: ] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [ (السجدة الآية:24) .
الفصل الثاني
الأسباب المعينة على طلب العلم
الأسباب المعينة على طلب العلم كثيرة، نذكر منها :
أولا: التقوى:
وهي وصية الله للأولين والآخرين من عباده، قال الله تعالي:] وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيدا [ (النساء: من الآية131) .(6/349)
وهي أيضاً وصية الرسول e لأمته، فعن أبي إمامة صدي بن عجلان الباهلي– رضي الله عنه – قال: (( سمعت رسول الله e يخطب في حجة الوداع فقال: إتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدٌوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم تدخلوا جنة ربكم )) (1) وكان e إذا بعث أميراً على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً. ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها في خطبهم ومكاتباتهم ووصاياهم عند الوفاة ؛ كتب عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى ابنه عبدالله: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله -عز وجل– فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه ؛ ومن شكره زاده – وأوصى علي – رضي الله عنه – رجلاً فقال: ( أوصيك بتقوي عز وجل الذي لا بد لك من لقائه ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة) ، وكتب أحد الصالحين إلى أخ له في الله تعالى: ( أما بعد ... أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك. وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه لا تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك وليكثر وجلك والسلام).
ومعنى التقوى : أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه وقاية تقيه منه. وتقوى العبد ربه: أن يجعل بينه وبين من يخشاه من غضبه وسخطه وقاية تقيه من ذلك، بفعل طاعته واجتناب معاصيه.
واعلم أن التقوى أحياناً تقترن بالبر، فيقال: بر وتقوى كما في قوله تعالى: ] وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [ (المائدة: الآية2)
وتارة تذكر وحدها فإن قرنت بالبر صار البر فعل الأمر، والتقوى ترك النواهي.(6/350)
وإذا أفردت صارت شاملة نعم فعل الأمر واجتناب النواهي، وقد ذكر الله في كتابه أن الجنة أعدت للمتقين، فأهل التقوى هم أهل الجنة – جعلنا الله وإياكم منهم – ولذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله – عز وجل – امتثالاً لأمره، وطلباً لثوابه، والنجاة من عقابه. قال الله – عز وجل -: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم [ (لأنفال الآية:29) .
وهذه الآية فيها ثلاث فوائد مهمة:
الفائدة الأولى: ] يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانا [ أي يجعل لكم ما تٌفرقون به بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع ، وهذا يدخل فيه العلم بحيث يفتح الله على الإنسان من العلوم ما لا يفتح لغيره، فإن التقوى يحصل بها زيادة الهدى، وزيادة العلم، وزيادة الحفظ، ولهذا يذكر عن الشافعي – رحمه الله – أنه قال :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال أعلم بأن العلم نور
ونور الله لا يؤتاه عاصي
ولا شك أن الإنسان كلما ازداد علماً ازداد معرفة وفرقاناً بين الحق والباطل، والضار والنافع، وكذلك يدخل فيه ما يفتح الله على الإنسان من الفهم؛ لأن التقوى سبب لقوى الفهم، وقوة يحصل بها زيادة العلم، فإنك ترى الرجلين يحفظان آية من كتاب الله يستطيع أحدهما أن يستخرج منها ثلاثة أحكام، ويستطيع الآخر أن يستخرج أكثر من هذا بحسب ما أتاه الله من الفهم.
الفتوى سبب لزيادة الفهم، ويدخل في ذلك أيضاً الفراسة أن الله يعطي المتقي فراسة يميز بها حتى بين الناس.(6/351)
فبمجرد ما يرى الإنسان يعرف أنه كاذب أو صادق، أو بر أو فاجر حتى أنه ربما يحكم على الشخص وهو لم يعاشره، ولم يعرف عنه شيئاً بسبب ما أعطاه الله من الفراسة.
الفائدة الثانية: ] وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [ . (الأنفال الآية: 29) وتكفير السيئات يكون بالأعمال الصالحة، فإن الأعمال الصالحة تكفر الأعمال السيئة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر )) (1) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما )) (2) . فالكفارة تكون بالإعمال الصالحة، وهذا يعني أن الإنسان إذا اتقي الله سهل له الأعمال الصالحة التي يكفّر الله بها عنه.
الفائدة الثالثة: ] ويغفر لكم [ بأن ييسر كم للاستغفار والتوبة، فإن هذا من نعمة الله على العبد أن ييسر للاستغفار والتوبة.
ثانياً : المثابرة والاستمرار على طلب العلم:
يتعين على طالب العلم أن يبذل الجهد في إدراك العلم والصبر عليه وأن يحتفظ به بعد تحصيله، فإن العلم لا ينال براحة الجسم، فيسلك المتعلم جميع الطرق الموصلة إلى العلم وهو مثاب على ذلك؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقا إلى الجنة )) (3) . فليثابر طالب العلم ويجتهد ويسهر الليالي ويدع عنه كل ما يصرفه أو يشغله عن طلب العلم.(6/352)
وللسلف الصالح قضايا مشهورة في المثابرة على طلب العلم حتى أنه يروى عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه سئل بما أدركت العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدون غير مئول وعنه أيضا – رضي الله عنه – قال : (( ... إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه – وهو قائل – فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح على من التراب، فيخرج فيقول : يا ابن عم رسول الله ما جاء بك ؟ ألا أرسلت إلي فآتيك ؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث ... )) . فابن عباس – رضي الله عنه – تواضع للعلم فرفعه الله به.
وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يثابر المثابرة الكبيرة، ويروى أيضاً عن الشافعي – رحمه الله – أنه استضافه الإمام أحمد ذات ليلة فقدم له العشاء، فأكل الشافعي ثم تفرق الرجلان إلى منامهما، فبقي الشافعي – رحمه الله – يفكر في استنباط أحكام من حديث، وهو قول النبي e: ((يا أبا عمير ما فعق النغير )) (1) أبا عمير كان معه طائر صغير يسمي النغير ، فمات هذا الطائر فحزن عليه الصبي، وكان النبي e يداعب الصبيان ويكلم كل إنسان بما يليق به، فظل طول الليل يستنبط من هذا الحديث ويقال إنه استنبط منه أكثر من ألف فائدة، ولعله إذا استنبط فائدة جز إليها حديث آخر ، وهكذا حتى تتم فلما أذن الفجر قام الشافعي – رحمه الله – ولم يتوضأ ثم انصرف إلى بيته، وكان الإمام أحمد يثني عليه عند أهله فقالوا له:
يا أبا عبد الله كيف تثني على هذا الرجل الذي أكل فشرب ونام ولم يقم، وصلى الفجر بدون وضوء؟ فسأل الإمام الشافعي فقال: ( أما كوني أكلت حتى أفرغت الإناء فذلك لأني ما وجدت طعاماً أطيب من طعام الإمام أحمد فأردت أن أملأ بطني منه، وأما كوني لم أقسم لصلاة الليل فإن العلم أفضل من قيام الليل، وقد كنت أفكر في هذا الحديث، وأما كوني لم أتوضأ لصلاة الفجر فكنت على وضوء من صلاة العشاء ) ولا يحب أن يكلفهم بماء الوضوء .(6/353)
أقول على كل حال، إن المثابرة في طلب العلم أمر مهم، فلننظر في حاضرنا الآن هل نحن على هذه المثابرة؟ لا. أما الذين يدرسون دراسة نظامية إذا انصرفوا من الدراسة ربما يتلهون بأشياء لا تعين على الدرس، وإني أضرب مثلا وأحب ألا يكون وإلا يوجد له نظير، أحد الطلبة في بعض المواد أجاب إجابة سيئة ، فقال المدرس: لماذا؟ فقال : لأني قد أيست من فهم هذه المادة، فأنا لا أدرسها ولكن أريد أن أكون حاملاً لها، كيف اليأس؟ وهذا خطأ عظيم، يجب أن نثابر حتى نصل إلى الغاية.
وقد حدثني شيخنا المثابر عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – أنه ذكر عن الكسائي إمام أهل الكوفة في النحو أنه طلب النحو فلم يتمكن،وفي يوم من الأيام وجد نملة تحمل طعاماً لها وتصعد به إلى الجدار وكما صعدت سقطت ، ولكنها ثابرت حتى تخلصت من هذه العقبة وصعدت الجدار، فقال الكسائي: هذه النملة ثابرت حتى وصلت الغاية، فاثبر حتى صار إماماً في النحو.
ولهذا ينبغي لنا أيها الطلبة أن نثابر ولا نيأس فإن اليأس معناه سد باب الخير، وينبغي لنا ألا نتشاءم بل نتفاءل وأن نعد أنفسنا خيراً.
ثالثاً الحفظ :
فيجب على طالب العلم الحرص على المذاكرة وضبط ما تعلمه إما بحفظه في صدره، أو كتابته، فإن الإنسان عرضة للنسيان، فإذا لم يحرص على المراجعة وتكرر ما تعلمه فإن ذلك يضيع منه وينساه وقد قيل:
العلم صيد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة وتتركها بين الخلائق طالقة
ومن الطرق التي تعين على حفظ العلم وضبطه أن يهتدي الإنسان بعلمه، قال الله تعالي: ] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُم [ (محمد، الآية: 17).
وقال ] )وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً[ (مريم الآية: 76)
فكلما عمل الإنسان بعلمه زاده الله حفظاً وفهماً، لعموم قوله: ] زادهم هدى [ .(6/354)
رابعاً ملازمة العلماء:
يجب على طالب العلم أن يستعين بالله – عز وجل – ثم بأهل العلم، ويستعين بما كتبوا في كتبهم؛ لأن الاقتصار على مجرد القراءة والمطالعة يحتاج إلى وقت طويل بخلاف من جلس إلى عالم يبين له ويشرح له وينير له الطريق، وأنا لا أقول إنه لا يدرك العلم إلا بالتلقي من المشائخ ، فقد يدرك الإنسان بالقراءة والمطالعة لكن الغالب أنه إذا ما أكب إكباباً تاماً ليلاً ورزق الفهم فإنه قد يخطء كثيراً ولهذا يقال: [ من كان دليله كتابه فخطئه أكثر من صوابه ]، ولكن هذا ليس على الإطلاق في الحقيقة.
ولكن الطريقة المثلى أن يتلقى العلم على المشائخ ، وأنا أنصح طالب أيضاً ألا يتلقف من كل شيخ في فن واحد، مثل أن يتعلم الفقه من أكثر من شيخ؛ لأن العلماء يختلفون في طريقة استدلالهم من الكتاب والسنة، ويختلفون في آرائهم أيضاً، فأنت تجعل لك عالماً تتلقى علمه في الفقه أو البلاغة وهكذا ، أي تتلقى العلم في فن واحد من شيخ واحد، وإذا كان الشيخ عنده أكثر من فن فتلتزم معه، لأنك إذا تلقيت علم الفقه مثلاً من هذا وهذا واختلفوا في رأيهم فماذا يكون موقفك وأنت طالب؟ يكون موقفك الحيرة والشك، لكن التزامك بعالم في فن معين فهذا يؤدي إلى راحتك.
---
(1) أخرجه الإمام أحمد ج 2 ص 338، وأبوداود ، كتاب العلم، باب: طلب العلم لغير الله تعالى. وابن ماجه، المقدمة، باب: الانتفاع بالعلم والعمل به، والحاكم في (( المستدرك)) ج 1 ص 160، وابن أبي شيبة في (( المصنف)) ج8 ص 543، قال الحاكم : حديث صحيح سنده ثقات.
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء ، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل
(1) أخرجه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب: وضع اليمنى على اليسرى، ولفظه: (( عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة)).
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوضوء ، باب : فضل الوضوء.(6/355)
(1) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب: الدعاء والصلاة من الليل ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.
(1) رواه مسلم، كتاب الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ، ورد محدثات الأمور.
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب: باب أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم، كتاب الإيمان،
باب:
الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير.
(2) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب: الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول . ونصة: عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: كنا مع رسول الله e في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه ومنا من ينتصل، ومنا من هو في جشره إذا نادي مُنادي رسول الله e : الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله e فقال: (( أنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جٌعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاْ وأمور تنكرونها. =
= وتجيء فتن يدقق بعضاً وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه ! فمن أحب أن يزحزح عن الناس ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه .ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يديه وثمرة قلبه فليطعمه إن استطاع، فإن جاء آخر فاضربوا عنق الآخر )).
(1) أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة ، باب: ما جاء في معالي الأخلاق ، والإمام أحمد يلفظ (( إن من أحبكم أحسنكم خلقاً)) جـ 2 ص 189 ، والبغوي في (( شرح السنة )) جـ 12 ص 366، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) وقال: (( رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح)).
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء باب : صب الماء على البول في المسجد ، ومسلم كتاب الطهارة، باب :
وجوب غسل البول.(6/356)
(2) أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة.
(3) أخرجه مسلم ، كتاب اللباس، باب : تحريم خاتم الذهب على الرجال.
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 3 ص 198 والترمذي، كتاب : صفة القيامة، جـ 4 ص 569 برقم [ 2499] ، وابن ماجه ، كتاب الزهد، باب: ذكر التوبة ، والدارسي كتاب الرقاق، باب : في التوبة، والبغوي في ((شرح السنة)) جـ 5 ص 92، وأبو نعيم في (( الحلية )) جـ 332 والحاكم في (( المستدرك)) جـ 273، وقال: ((حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، قال العجلوني: (( إسناده قوي )) ج 2 ص 120.
(1) رواه البخاري، كتاب المساجد، باب : تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ومسلم، كتاب البر والصلة،
باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم .
(2) تقدم تخريجه ص 37.
(1) رواه مسلم، كتاب الزهد، المؤمن أمره كله خير.
(1) رواه مسلم ، كتاب الزهد .
(1) رواه مسلم، كتاب الطهارة ، باب: فضل إسباغ الوضوء على المكاره .
(1) رواه البخاري ، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر .
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الجمعة.
(1) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة باب: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات
لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
(2) أخرجه البخاري، كتاب العمرة ، ومسلم، كتاب الحج.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الدعوات، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الأدب : الانبساط إلى الناس.
كتاب العلم
في طريق تحصيل العلم وأخطاء يجب الحذر منها
محمد بن صالح العثيمين
في طريق تحصيل العلم وأخطاء يجب الحذر منها
الفصل الأول
طريق تحصيل العلم(6/357)
من المعلوم أن الإنسان إذا أراد مكاناً فلا بد أن يعرف الطريق الموصل إليه، وإذا تعددت الطرق فإنه يبحث عن أقربها وأيسرها؛ لذلك كان من المهم طالب العلم أن يبني طلبه للعلم على أصول، ولا يتخبط عشواء، فمن لم يتقن الأصول حرم الوصول، قال الناظم :
وبعد فالعلم بحور زاخرة لن يبلغ الكادح فيه آخره
لكن في أصوله تسهيلاً لنيله فاحرص تجد سبيلاً
اغتنم القواعد الأصولا فمن تفته يحرم الوصولا
فالأصول هي: العلم والمسائل فروع، كأصل الشجرة وأغصانها إذا لم تكن الأغصان على أصل جيد فإنها تذبل وتهلك
لكن ما هي الأصول؟
هل هي القواعد والضوابط ؟
أو هي القواعد والضوابط ؟
أو كلاهما ؟
الجواب : الأصول هي أدلة الكتاب والسنة، والقواد والضوابط المأخوذة بالتتبع والاستقراء من الكتاب والسنة، وهذه من أهم ما يكون لطالب العلم، مثلاً المشقة تجب التيسير هذا من الأصول مأخوذ من الكتاب والسنة. من الكتاب من قوله تعالي:]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ (الحج: الآية 78) ومن السنة: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمران بن حصين: (( صلَ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع على جنب )) (1) وقوله صلى الله عليه وسلم (( إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم )) (2) . هذا أصل لو جاءتك ألف مسألة بصور متنوعة لأمكنك أن تحكم على هذه المسائل بناء على هذا الأصل، ولكن لو لم يكن عندك هذا الأصل وتأتيك مسألتان أشكل عليك الأمر.
ولنيل العلم طريقان:
أحدهما: أن يتلقى ذلك من الكتب الموثوق بها، والتي ألفها علماء معروفون بعلمهم، وأمانتهم، وسلامة عقيدتهم من البدع والخرافات.
وأخذ العلم من بطون الكتب لا بد أن الإنسان يصل فيه إلى غاية ما. لكن هناك عقبتان:
العقبة الأولى:(6/358)
الطول، فإن الإنسان يحتاج إلى وقت طويل، ومعاناة شديدة، وجهد جهيد حتى يصل إلى ما يرومه من العلم، وهذه عقبة قد لا يقوى عليها كثير من الناس، لاسيما وهو يرى من حوله قد أضاعوا أوقاتهم بلا فائدة ، فيأخذه الكسل ويكل ويمل ثم لا يدرك ما يريد.
العقبة الثانية: أن الذي يأخذ العلم من بطون الكتب علمه ضعيف غالباً ، لا ينبني عليه قواعد أو أصول، ولذلك نجد الخطأ الكثير من الذي يأخذ العلم من بطون الكتب لأنه ليس له قواعد وأصول يقٌعد عليها ويبني عليها الجزئيات التي في الكتاب والسنة نجد بعض الناس يمر بحديث ليس مذكوراً في كتب الحديث المعتمدة من الصحاح والمسانيد وهذا الطريق يخالف ما في هذه الأصول المعتمدة هند أهل العلم، بل عند الأمة ، ثم يأخذ بهذا الحديث ويبني عقيدته عليه، وهذا لاشك أنه خطأ؛ لأن الكتاب والسنة لهما أصول تدور عليها الجزئيات ، فلابد أن ترد هذه الجزئيات إلى أصول، بحيث إذا وجدنا في هذه الجزئيات شيئاً مخالفاً لهذه الأصول لا يمكن الجمع فيها، فإننا ندع هذه الجزئيات.
الثاني: من طرق تحصيل العلم أن تتلقى ذلك من معلم موثوق في علمه ودينه، وهذا الطريق أسرع وأتقن للعلم؛ لأن الطريق الأول قد يضل فيه الطالب وهو لا يدري إما لسوء فهمه، أو قصور علمه، أو لغير ذلك من الأسباب، أما الطريق الثاني فيكون فيه المناقشة والأخذ والرد مع المعلم فينفتح بذلك للطالب أبواب كثيرة في الفهم، والتحقيق، وكيفية الدفاع عن الأقوال الصحيحة، ورد الأقوال الضعيفة، وإذا جمع الطالب بين الطريقين كان ذلك أكمل وأتم ، وليبدأ الطالب بالأهم فالأهم،
وبمختصرات العلوم قبل مطولاتها حتى يكون مترقياً من درجة إلى درجة أخري فلا يصعد إلى درجة حتى يتمكن من التي قبلها ليكون صعوده سليماً.
الفصل الثاني
أخطاء يجب الحذر منها
وهناك أخطاء يرتكبها بعض طلبة العلم:
منها الحسد:(6/359)
وهو: كراهة ما أنعم الله به على غيره، وليس هو تمني زوال نعمة الله على الغير، بل هو مجرد أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره، فهذا هو الحسد سواء منى زواله أو أن يبقى ولكنه كاره له.
كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- فقال: (( الحسد كراهة الإنسان ما أنعم الله به على غيره)).
والحسد قد لا يخلو منه النفوس، يعني قد يكون اضطرارياً للنفس، ولكن جاء في الحديث: (( إذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت لا تحقق )) (1)، يعني أن الإنسان يجب عليه إذا رأى من قلبه حسداً للغير ألا يبغي عليه بقول أو فعل، فإن ذلك من خصال اليهود الذين قال الله عنهم: ] )أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء الآية:54)
ثم إن الحاسد يقع في محاذير:
أولاً: كراهيته ماقدره الله، فإن كراهته ما أنعم الله به على هذا الشخص كراهة لما قدره كوناً ، ومعارضة لقضاء الله – عز وجل –
ثانيا: أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل الناس الحطب؛ لأن الغالب أن الحاسد يعتدي على المحسود بذكر ما يكره وتنفير الناس عنه، والحط من قدره وما أشبه ذلك ، وهذا من كبائر الذنوب التي قد تحيط بالحسنات.
ثالثا: مايعق في قلب الحاسد من الحسرة والجحيم والنار التي تأكله أكلاً ، فكلما رأى نعمة من الله على هذا المحسود اغتم وضاق صدره؛ وصار يراقب هذا الشخص كلما أنعم الله عليه بنعمة حزن واغتم وضاقت عليه الدنيا.
رابعا: أن في الحسد تشبهاً باليهود ، معلوم أن من أتى خصلة من خصال الكفار صار منهم في هذه الخصلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من تشبه بقوم فهو منهم )) (1)(6/360)
خامساً: أنه مهما كان حسده ومهما قوي لا يمكن أبداً أن يرفع نعمة الله عن الغير، إذا كان هذا غير ممكن فكيف يقع في قلبه الحسد.
سادساً: أن الحسد ينافي كمال الإيمان لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن لأحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) (1) ولازم هذا أن تكره أن تزول نعمة الله على أخيك، فإذا لم تكو تكره أن تزول نعمة الله عليك فأنت لم تحب لأخيك ما تحب لنفسك وهذا ينافي كمال الإيمان.
سابعاً: أن الحسد يوجب إعراض العبد عن سؤال الله تعالى من فضله، فتجده دائما مهتماً بهذه النعمة التي أنعم الله بها على غيره ولا يسأل الله من فضله، وقد قال الله تعالي: ] وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه[ (النساء الآية: 32) .
ثامناً أن الحسد يوجب ازدراء نعمة الله عليه، أي أن الحاسد يرى أنه ليس في نعمة ، وأن هذا المحسود في نعمة أكبر منه، وحينئذ يحتقر نعمة الله عليه فلا يقوم بشكرها بل يتقاعس.
تاسعا: الحسد خلق ذميم؛ لأن الحاسد يتتبع نعم الله على الخلق في مجتمعه، ويحاول بقدر ما يمكنه أن يحول بين الناس وبين هذا المحسود بالحط من قدره أحياناً، وبازدراء ما يقوم به من الخير أحياناً إلى غير ذلك.
عاشراً: إن الحاسد إذا حسد فالغالب أن يعتدي على المحسود وحينئذ يأخذ المحسود من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئاته فطٌرح عليه ثم طٌرح في النار.(6/361)
والخلاصة: أن الحسد خلق ذميم، ومع الأسف أنه أكثر من يوجد بين العلماء وطلبة العلم، ويوجد بين التجار فيحسد بعضهم البعض، وكل ذي مهنة يحسد من شاركه فيها، لكن مع الأسف أنه بين العلماء أشد وبين طلبة العلم أشد مع أنه كان الأولى والأجدر أن يكون أهل اللم أبعد الناس عن الحسد وأقرب الناس إلى كمال الأخلاق.
وأنت يا أخي إذا رأيت الله قد أنعم على عبده نعمة ما فاسع أن تكون مثله ولا تكره من أنعم الله عليه فقل: اللهم زده من فضلك وأعطني أفضل منه، والحسد لا يغير شيئا من الحال لكنه كما ذكرنا آنفاً فيه هذه المفاسد وهذه المحاذير العشرة، ولعل من تأمل وجد أكثروالله المستعان.
ومنها الإفتاء بغير علم:
الإفتاء منصب عظيم، به يتصدى صاحبه لبيان ما يشكل على العامة من أمور دينهم، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم؛ لذلك كان هذا المنصب العظيم لا يتصدر له إلا من كان أهلاً له لذلك يجب على العباد أن يتقوا الله تعالى وأن لا يتكلموا إلا عن علم وبصيرة، وأن يعلموا أن الله وحده له الخلق والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا مدبر للخلق إلا الله ولا شريعة للخلق سوى شريعة الله، فهو الذي يوجب الشيء، وهو يحرمه، وهو الذي يندب إليه ويحلله، ولد أنكر الله على من يحللون ويحرمون بأهوائهم فقال تعالي:] قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [ (يونس الآية:59)(6/362)
] )وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَة [ (يونس الآيتان: 59، 60) وقال تعالي: ] وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [ ] مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النحل الآيتان: 116 ، 117) وإن من أكبر الجنايات أن يقول الشخص عن شيء إنه حلال وهو لا يدري ما حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه حرام وهو لا يدري عن حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه واجب وهو لا يدري أن الله أوجبه، ويقول عن الشيء إنه غير واجب هو لا يدري أن الله لم يوجبه، إن هذه جناية وسوء أدب مع الله – عز وجل -.
كيف تعلم أيها العبد أن الحكم لله ثم تتقدم بين يديه فتقول في دينه وشريعته ما لا تعلم ؟ لقد قرن الله القول عليه بلا علم بالشرك به ، فقال سبحانه: ] قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [ (لأعراف ،الآية:33) .
وإن كثيراً من العامة يفتي بعضهم بعضاً بما لا يعلمون فتجدهم يقولون هذا حلال،أو حرام،أو واجب،أو غير واجب، وهم لا يدرون عن ذلك شيئاً ، أفلا يعلم هؤلاء أن الله تعالى سائلهم عما قالوا يوم القيامة .
أفلا يعلم هؤلاء أنهم إذا أضلوا شخصاً فأحلوا له ما حرم الله ، أو حرَّموا ما أحل الله له فقد باءوا بإثمه وكان عليهم مثل وزر ما عمل وذلك بسبب ما أفتوه به.(6/363)
إن بعض العامة يجني جناية أخرى فإذا رأى شخصاً يريد أن يستفتي عالماً يقول له هذا عالمي لا حاجة أن تستفتي ،هذا أمر واضح ، هذا حرام مع أنه في الواقع حلال فيحرمه ما أحل الله له ، أو يقول له: هذا واجب فيلزمه بما لم يلزمه الله به، أو يقول هذا غير واجب في شريعة الله فيسقط عنه ما أوجب الله عليه، أو يقول هذا حلال وهو في الواقع حرام، وهذه جناية منه على شريعة الله، وخيانة لأخيه المسلم حيث أفتاه بدون علم، أرأيتم لو أن شخصاً سأل عن طريق بلد من البلدان، فقلت الطريق من هنا وأنت لا تعلم أفلا يعد الناس ذلك خيانة منك؟ فكيف تتكلم عن طريق الجنة وهو الشريعة التي أنزل الله وأنت لا تعلم عنها شيئاً؟!
وإن بعض المتعلمين أنصاف العلماء يقعون فيما يقع فيه العامة من الجرأة على الشريعة في التحليل والتحريم والإيجاب فيتكلمون فيما لا يعلمون، ويجملون في الشريعة ويفصلون، وهم من أجهل الناس في أحكام الله، إذا سمعت الواحد منهم يتكلم فكأنما ينزل عليه الوحي فيما يقول من جزمه وعدم تورعه، لا يمكن أن ينطق ويقول: لا أدري مع أن عدم العلم هو صفة الحق الثابت ومع ذلك يصر بناء على جهله على أنه عالم فيضر العامة؛ لأن الناس ربما يثقون بقوله ويغترون به، وليت هؤلاء القوم يقتصرون على نسبة الأمر إليهم لا بل تراهم ينسبون ذلك للإسلام فيقولون: الإسلام يرى كذا، وهذا لا يجوز إلا فيما علم القائل أنه من دين الإسلام، ولا طريق إلى ذلك إلا بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله ،أو إجماع المسلمين عليه .
إن بعض الناس لجرأته وعدم ورعه وعدم حيائه من الله وعدم خوفه منه يقول عن الشيء المحرم الواضح تحريمه ما أظن هذا حرام، أو عن الشيء الواجب والواضح وجوبه يقول ما أظن هذا واجباً، إما جهلاً منه، أو عناداً ومكابرة، أو تشكيكاً لعباد الله في دين الله .(6/364)
أيها الإخوة: إن من العقل والإيمان ومن تقوى الله وتعظيمه أن يقول الرجل عما لا يعلم لا أعلم، لا أدري، اسأل غيري، إن ذلك من تمام العقل؛ لأن الناس إذا رأوا تثبته وثقوا به، ولأنه يعرف قدر نفسه حينئذ وينزلها منزلتها، وإن ذلك أيضاً من تمام الإيمان بالله وتقوى الله حيث لا يتقدم بين يدي ربه ولا يقول عليه في دينه مالا يعلم، ولقد كان رسول الله e وهو أعلم الخلق بدين الوحي فيجيب الله سبحانه عما سئل عنه نبيه ] يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [ (المائدة الآية: 4) ] وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرا [ (الكهف الآية:83) ] يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [ (لأعراف الآية: 187) ولقد كان الأجلاء من الصحابة، تعرض لهم المسألة لا يدرون حكم الله فيها فيهابونها ويتوقفون فيها.
فها هو أبوبكر الصديق – رضي الله عنه – يقول: (( أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله بغير علم)).
وهاهو عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تنزل به الحادثة فيجمع لها الصحابة ويستشيرهم فيها، قال ابن سيرين: لم يكن أحد أهيب مما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر، وقال ابن مسعود – رضي الله عنه :- (( أبها الناس من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم ، فأن مع العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم)). وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أحسنها، فقال له أصحابه: قد استحيينا لك، فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: ] لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [ (البقرة الآية:32) .(6/365)
وهناك أمثلة كثيرة على الإفتاء بغير علم، أن المريض إذا تنجست ثيابه ولم يمكن أن يطهرها يفتى بأنه لا يصلي حتى يطهر ثيابه، وهذه فتوى كاذبة خاطئة باطلة ، فالمريض يصلي ولو كان عليه ثياب نجسه’ ، ولو كان بدنه نجساً إذا كان لا يستطيع أن يطهر ذلك، لأن الله يقول: ] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم[ (التغابن الآية: 16) فيصلي المريض على حسب حاله وعلى حسب ما يقدر عليه، يصلى قائماً ، فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنبه يومىء برأسه إذا استطاع، فإن ، فإن لم يستطع أو ما بعينه عند بعض أهل العلم، فإن لم يستطع الإيماء بعينه وكان معه عقه فلينو الفعل بقلبه وليقل القول بلسانه مثلا: يقول الله أكبر ثم يقرأ الفاتحة وسورة ، ثم يقول: الله أكبر وينوى أنه راكع، ثم يقول سمعه الله لمن حمده وينوي أنه رفع الركوع، ثم يقول هكذا في السجود وبقية أفعال الصلاة، ينوي الفعل الذي لا يقدر عليه، ينويه بقلبه ولا يؤخر الصلاة عن وقتها.
وبسبب هذه الفتوى الكاذبة الخاطئة يموت بعض المسلمين وهم لا يصلون من أجل هذه الفتوى الكاذبة، ولو أنهم علموا أن الإنسان المريض يصلي على أي حال لماتوا وهم يصلون .
ومثل هذه المسألة وأشباهها كثير فيجب على العامة أن يتلقوا أحكامها من أهل العلم حتى يعرفوا بذلك حكم الله – عز وجل – وحتى لا يقولوا في دين الله ما يعلمون.
ومنها: الكبر:
وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأجمع التفسير وأبينه وأوضحه فقال :
(( الكبرٌ بطَرٌ الحق وغًمْطٌ الناس )) (1)
وبطر الحق هو : رد الحق، وغمط الناس يعني احتقارهم، ومن الكبرياء ردك على معلمك، والتطاول عليه وسوء الأدب معه، وأيضا استنكافك عمن يفيدك ممن هو دونك كبرياء، وهذا يقع لبعض الطلبة إذا أخبره أحد بشيء وهو دونه في العلم استنكف ولم يقبل، وتقصيرك عن العمل بالعلم عنوان حرمان – نسأل الله العافية -:(6/366)
وفي هذا يقول القائل:
العلم حربٌ للفتى المتعالي كالسيل حربٌ للمكان العالي
ومعنى البيت:
أن الفتى المتعالي لا يمكن أن يدرك العلم؛ لأن العلم حرب له كالسيل حرب للمكان العالي، لأن المكان العالي ينفض عنه السيل يميناً وشمالاً ولا يستقر عليه، كذلك العلم لا يستقر مع الكبر والعلو، وربما يسلبٌ العلم بسبب ذلك.
ومنها : التعصب للمذاهب والآراء:
فيجب على طالب العلم أن يتخلى عن:
الطائفية والحزبية بحيث يعقد الولاء والبراء على طائفة معينة أو على حزب معين فهذا لا شك خلاف منهج السلف، فالسلف الصالح ليسوا أحزاباً بل هم حزب واحد، ينضوون تحت قول الله – عز وجل -: ] هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْل ُ[ (الحج: الآية78) .(6/367)
فلا حزبية ولا تعدد، ولا موالاة ، ولا معاداة إلا على حسب ما جاء في الكتاب والسنة، فمن الناس مثلاً من يتحزب إلى طائفة معينة، يقرر منهجها ويستدل عليه بالأدلة التي قد تكون دليلاً عليه، ويحامي دونها، ويضلل من سواه حتى وإن كانوا أقرب إلى الحق منها، ويأخذا مبدأ: من ليس معي فهو على، وهذا مبدأ خبيث؛ لأن هناك وسطاً بين أن يكون لك أو عليك، وإذا كان عليك بالحق، فليكن عليك وهو في الحقيقة معك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) (1) ونصر الظالم أن تمنعه من الظلم، فلا حزبية في الإسلام، ولهذا لما ظهرت الأحزاب في المسلمين، وتنو عن الطرق، وتفرقت الأمة، وصار بعضهم يضلل بعضاً، ويأكل لحم أخيه ميتاً، لحقهم الفشل كما قال الله تعالي:] وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [ (لأنفال: الآية46) لذلك نجد بعض طلاب العلم يكون عند شيخ من المشايخ، ينتصر لهذا الشيخ بالحق والباطل ويعادي من سواه، ويضلله ويبدعه، ويرى أن شيخه هو العالم المصلح، ومن سواه إما جاهل أو مفسد، وهذا غلط كبير، بل يجب أخذ قول من وافق قوله الكتاب والسنة وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومنها: التصدر قبل التأهل:
مما يجب الحذر منه أن يتصدر طالب العلم قبل أن يكون أهلاً للتصدر ؛ لأنه إذا فعل ذلك كان هذا دليلاً على أمور:
الأمر الأول : إعجابه بنفسه حيث تصدر فهو يرى نفسه عَلَم الأعلام.
الأمر الثاني : أن ذلك يدل على عدم فقهه ومعرفته للأمور؛ لأنه إذا تصدر، ربما يقع في أمر لا يستطيع الخلاص منه، إذ أن الناس إذا روأوه متصدراً أو ردوا عليه من المسائل ما يبين عواره.
الأمر الثالث: أنه إذا تصدر قبل أن يتأهل لزمه أن يقول على الله ما لا يعلم؛ لأن الغالب أن من كان هذا قصده، أنه لا يبالي ويجب على كل ما سٌئِلَ ويخاطر بدينه وبقوله على الله – عز وجل – بلا علم.(6/368)
الأمر الرابع: أن الإنسان إذا تصدر فإنه في الغالب لا يقبل الحق، لأنه يظن بسفهه أنه إذا خضع لغيره ولو كان معه الحق كان هذا دليلاً على أنه ليس بعالم.
ومنها: سوء الظن:
فيجب على طالب العلم الحذر من أن يظن بغيره ظناً سيئاً مثل أن يقول: لم يتصدق هذا إلا رياء، لم يلق الطالب هذا السؤال إلا رياءً ليعرف أنه طال فاهم، وكان المنافقون إذا أتى المتصدق من المؤمنين بالصدقة، إن كانت كثيرة قالوا: مرائي، وإذا كانت قليلة قالوا: إن الله غني عن صدقة هذا كما قال الله عنهم: ] الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ (التوبة الآية:79) فإياك وسوء الظن بمن ظاهره العدالة، ولا فرق بين أن تظن ظناً سيئاً بمعلمك أو بزميلك، فإن الواجب إحسان الظن بمن ظاهر العدالة، أما من ظاهره غير العدالة فلا حرج أن يكون في نفسك سوء ظن به ، لكن مع ذلك عليك أن تتحقق حتى يزول ما في نفسك من هذا الوهم ، لأن بعض الناس قد يسيء الظن بشخص ما بناء على وهم كاذب لا حقيقة له.
فالواجب إذا أسأت الظن بشخص، سواء من طلبة العلم أو غيرهم، الواجب أن تنظر هل هناك قرائن واضحة تسوغ لك سوء الظن فلا بأس، وأما إذا كان مجرد أوهام فإنه لا يحل لك أن تسيء الظن بمسلم ظاهره العدالة، قال تعالي: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ [ (الحجرات الآية:12) لم يقل كان الظن؛ لأن بعض الظنون لها أصل ولها مبرر
( إن بعض الظن إثم ) وليس لك الظن، فالظن الذي يحصل فيه العدوان على الغير لا شك أنه إثم، وكذلك الظن الذي لا مستند له، وأما إذا كان له مستند فلا بأس أن تظن الظن السيء بحسب القرائن والأدلة.(6/369)
لذلك ينبغي للإنسان أن ينزل نفسه منزلتها، وأن لا يدنسها بالأقذار، وأن يحذر هذه الأخطاء مما تقدم؛ لأن طالب العلم شرفه الله بالعلم وجعله أسوة وقدوة، حتى أن لله رد أمور الناس عند الإشكال إلى العلماء فقال: ] فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ ( الأنبياء الآية: 7) وقال تعالى: ] وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(النساء الآية: 83) فالحاصل أنك يا طالب العلم محترم، فلا تنزل بنفسك إلى ساحة الذل والضعة، بل كن كما ينبغي أن تكون.
---
(1) أخرجه البخاري، كتاب تقصير الصلاة، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقرها، باب: جواز النافلة قائماً أو
قاعداً .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله e ومسم كتاب الحج باب فرض الحج
مرة في العمر.
(1) نص الحديث: (( ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة ، والظن، والحسد ، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا
حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق )) ذكره الحافظ ابن حجر في (( فتح البار)) جـ 10 ص 213
وقال عنه:(( هذا مرسل أو معضل لكن له شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي في(( الشعب))
أ . هـ
وأخرجه ابن عبدالبر في التمهيد بلفظ: (( إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحققوا، وإذا تطيرتم
فامضوا وعلى الله فتوكلوا))(6/370)
وبلفظ آخر: (( ثلاث لم يسلم منهم أحد: الطيرة، والظن ، والحسد ، قيل: فما المخرج منهن يا رسول
الله قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدتم فلا تبغوا )) جـ 6 ص 125.
أخرجه الطبراني في (( الكبير )) بلفظ : ثلاثة لازمات لأمتي: الطيرة، والحسد ، وسوء الظن ))
فقال رجل : وما يذهبهن يارسول الله ممن هن فيه ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا
ظننت فلا تحقق، وإذا طيرت فامض )) جـ 3 ص 8258.
وانظر: كشف الخفاء للعجلوني جـ 1 ص 104 ، وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 191 ((صورة
الحجرات)).
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 5 ص 5 ، وأبو داود، كتاب اللباس، باب : في لبس شهرة، وابن أبي شيبة في (( المصنف )) جـ 5 ص 313، والهيثمي في (( مجمع الزوائد )) جـ 10 ص 271، وابن عبد البر في (( التمهيد)) جـ 6 ص 80 ـ قلل الهيثمي: (( رواه الطبراني في الأوسط وفيه على بن غراب وقد وثقه غير واحد وضعفه بعضهم وبقية رجاله ثقات )) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالي: (( إسناده جيد)) الفتاوى جـ 5 ص 331، وقال ابن حجر – بعد ذكر الحديث : - (( حسن من هذا الوجه وأبو منيب لا يعرف اسمه، وفي الإسناد عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف في توثيقه، وله شاهد مرسل بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن سعيد بن جبلة )) فتح الباري 6/97، وقد ذكره السيوطي في (( الجامع الصغير )) 1/590 وأشار إلى أنه حسن. وصححه أحمد شاكر (( المسند)) رقم 5114).
(1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم، كتاب الإيمان،
باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه.(6/371)
(1) أخرجه البخاري، كتاب المظالم باب: أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً، ومسلم كتاب البر والصلة، باب: نصر
الأخ ظالماً أو مظلوماً.
كتاب العلم
في كتب طالب العلم وفتاوى حول العلم وفوائد
محمد بن صالح العثيمين
في كتب طالب العلم وفتاوى حول العلم وفوائد
الفصل الأول
كتب طالب العلم
قبل البدء في هذا الفصل لابد أن نبين بعض الأمور المهمة لطالب العلم وهي:
الأمر الأول: كيف تتعامل مع الكتاب ؟
التعامل مع الكتاب يكون بأمور:
الأول: معرفة موضوعه: حتى يستفيد الإنسان منه؛ لأنه يحتاج إلى التخصص، ربما يكون كتاب سحر أو شعوذة أو باطل، فلا بد من معرفة موضوع الكتاب حتى تحصل الفائدة منه.
الثاني: معرفة مصطلحاته: لأن معرفة المصطلحات يحصل بها أنك تحفظ أوقاتاً كثيرة، وهذا يفعله العلماء في مقدمات الكتب، فمثلاً نعرف أن صاحب (( بلوغ المرام )) إذا قال متفق عليه يعني رواه البخاري ومسلم، لكن صاحب (( المنتقى )) على خلاف ذلك فإذا قال صاحب المنتقى – متفق عليه فإنه يعني رواه الإمام أحمد والبخاري، ومسلم، وكذلك في كتب الفقه يفرق كثير من العلماء بين القولين، والوجهين، والروايتين، والاحتمالين، فالروايتان عن الإمام، والوجهان عن الأصحاب، وهم أصحاب المذهب الكبار أهل التوجيه، والاحتمالان للتردد بين قولين، والقولان أعم من ذلك كله .
كذلك يحتاج أن تعرف مثلاً إذا قال المؤلف إجماعاً أو وفاقاً، إذا قال إجماعاً يعني بين الأمة، وإذا قال وفاقاً يعني مع الأئمة الثلاثة كما هو اصطلاح صاحب (( الفروع)) في فقه الحنابلة، وكذلك بقية أصحاب المذاهب كل له اصطلاح ، فلا بد أن تعرف اصطلاح المؤلف.(6/372)
الثالث: معرفة أسلوبه وعباراته: ولهذا تجد أنك إذا قرأت الكتاب أول ماتقرأ لاسيما في الكتب العلمية المملوءة علماً تجد أنه تمر بك العبارة تحتاج إله تأمل وتفكير في معناها؛ لأنك لم تألفه، فإذا كررت هذا الكتاب ألفته.
وهناك أيضا أمر خارج عن التعامل مع الكتاب وهو : التعليق بالهوامش أو الحواشي. فهذا أيضاً مما يجب لطالب العلم أن يغتنمه، وإذا مرت به مسألة تحتاج إلى شرح، أو إلى دليل، أو إلى تعليل ويخشى أن ينساه فإنه يُعلق إما بالهامش - وهو الذي على اليمين أو اليسار – أو بالحاشية – وهي التي في الأسفل – وكثيراً ما يفوت الإنسان مثل هذه الفوائد التي لو علقها لم تستغرق عليه إلا دقيقة أو دقيقتين، ثم إذا عاد ليتذكرها بقي مدة يتذكرها وقد لا يذكرها.
فينبغي على طالب العلم أن يعتني بذلك لاسيما في كتب الفقه، يمر بك في بعض الكتب مسألة وحكمها ويحصل عندك توقف وإشكال ، فإذا رجعت للكتب – التي أوسع من الكتب الذي بين يديك ووجدت قولاً يوضح المسألة فإنك تعلق القول من أجل أن ترجع إليه مرة أخرى إذا احتجت إليه دون الرجوع إلى اصل الكتاب الذي نقلت منه، فهذا مما يوفر عليك الوقت.
الأمر الثاني: مطالعة الكتب على نوعين:
أولاً: مطالعة تدبر وتفهم، فهذه لابد أن يتأمل الإنسان ويتأنى.
ثانيا: مطالعة استطلاع فقط ينظر من خلالها على موضوع الكتاب، وما فيه من مباحث، ويتعرف على مضمون الكتاب، وذلك من خلال تصفح وقراءة سريعة للكتاب، فهذه لا يحصل فيها من التأمل والتدبر ما يحصل في النوع الأول . والطريقة المثلى في قراءة الكتب، التدبر والتفكر في المعاني والاستعانة بذوي الفهم من أهل العلم الصحيح، ولا يخفى أن أولى الكتب بذلك ؛ كتاب الله عز وجل . وعليك بالصبر والمثابرة، فما أعطى الإنسان عطاء خيراً وأوسع من الصبر.
الأمر الثالث: جمع الكتب :(6/373)
ينبغي لطال العلم أن يحرص على جمع الكتب ، ولكن يبدأ بالأهم فالأهم، فإذا كان الإنسان قليل ذات اليد ، فليس من الخير وليس من الحكمة أن يشتري كتباً كثيرة يٌلزم نفسه بغرامة قيمتها، فإن هذا من سوء التصرف، وإذا لم يمكنك أن تشتري من مالك فيمكنك أن تستعير من أي مكتبة .
الأمر الرابع : الحرص على الكتب المهمة:
يجب على طالب العلم أن يحرص على الكتب الأمهات الأصول دون المؤلفات حديثاً؛ لأن بعض المؤلفين حديثاً ليس عنده العلم الراسخ، ولهذا إذا قرأت ما كتبوا تجد أنه سطحي، قد ينقل الشيء بلفظه، وقد يحرفه إلى عبارة طويلة لكنها غثاء، فعليك بالأمهات كتب السلف فإنها خير وأبرك بكثير من كتب الخلف.
لأن غالب كتب المتأخرين قليلة المعاني، كثيرة المباني، تقرأ صفحة كاملة يمكن أن تلخصها بسطر أو سطرين، لكن كتب السلف تجدها هينة، لينة، سهلة رصينة، لا تجد كلمة واحدة ليس لها معنى.(6/374)
ومن أجل الكتب التي يجب على طالب العلم أن يحرص عليها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم – رحمهما الله – ومن المعلوم أن كتب ابن القيم أسهل وأسلس؛ لأن شيخ الإسلام ابن تيمية كانت عباراته قوية لغزارة علمه، وتوقد ذهنه، وابن القيم رأى بيتاً معموراً فكان من التحسين والترتيب، ولسنا نريد بذلك أن نقول إن ابن القيم نسخة من ابن تيمية، بل ابن القيم حر إذا رأى أن شيخه خالف ما يراه صواباً تكلم، لما رأى وجوب فسخ الحج إلى العمرة، وأن ابن عباس – رضي الله عنهما – يرى أنه يجب على من لم يسق الهدي إذا أحرم بحج أو قرا، وأن يفسخه إلى عمرة، وكان شيخ الإسلام يرى أن الوجوب خاص بالصحابة، قال وأنا إلى قوله أميل مني إلى قول شيخنا، فصرح بمخالفته، فهو رحمه الله مستقل ، حر الفكر، لكن لا غرو أن يتابع شيخه رحمه الله فيما يراه حقاً وصواباً، ولا شك أنك إذا تأملت غالب اختيارات شيخ الإسلام وجدت أنها هي الصواب وهذا أمر يعرفه من تدبر كتبهما.
الأمر الخامس: تقويم الكتب:
الكتب تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول : كتب خير.
القسم الثاني: كتب شر.
القسم الثالث: كتب لا خير ولا شر.
فاحرص أن تكون مكتبتك خالية من الكتب التي ليس فيها خير أو التي فيها شر وهناك كتب يقال إنها كتب أدب، لكنها تقطع الوقت وتقتله في غير فائدة، وهناك كتب ضارة ذات أفكار معينة وذات منهج معين، فهذه أيضاً لا تدخل المكتبة سواء كان ذلك في المنهج أو كان ذلك في العقيدة، مثل كتب المبتدعة التي تضر في العقيدة، والكتب الثورية التي تضر في المنهج.
وعموماً كل كتب تضر فلا تدخل مكتبتك؛ لأن الكتب غذاء للروح كالطعام والشراب للبدن، فإذا تغذيت بمثل هذه الكتب صار عليك ضرر عظيم واتجهت اتجاهاً مخالفاً لمنهج طالب العلم الصحيح.
كتب مختارة لطالب العلم(1)
أولاً: العقيدة:(6/375)
1- كتاب (( ثلاثة الأصول )).
2- كتاب (( القواعد الأربع))
3- كتاب (( كشف الشبهات ))
4- كتاب (( التوحيد ))
وهذه الكتب الأربعة لشيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالي-:
5- كتاب (( العقيدة الواسطية )) وتتضمن توحيد الأسماء والصفات، وهي من أحسن ما أٌلف في هذا الباب وهي جديرة بالقراءة والمراجعة.
6- كتاب (( الحموية)).
7- كتاب (( التدمورية)) وهما رسالتان أوسع من (( الواسطية)). وهذه الكتب الثلاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالي -.
8- كتاب (( العقيدة الطحاوية )) للشيخ أبي جعفر بن محمد الطحاوي.
9- كتاب (( شرح العقيدة الحاوية )) لأبي الحسن علي بن أبي العز.
10- كتاب (( الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم – رحمه الله تعالي:-
11- كتاب (( الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية )) لمحمد بن أحمد السفاريني الحنبلي، وفيها بعض الإطلاقات التي تخالف مذهب السلف، كقوله:
وليس ربنا بجوهر ولا عرض ولا جسم تعالى في العلى
لذلك لابد لطالب العلم أن يدرسها على شيخ ملم بالعقيدة السلفية لكي يبين ما فيها من الإطلاقات المخالفة لعقيدة السلف الصالح.
ثانيا: الحديث:
1- كتاب (( فتح الباري شرح صحيح البخاري)) لابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى -:
2- كتاب (( سبل السلام شرح بلوغ المرام)) للصنعاني، وكتابه جامع بين الحديث والفقه.
3- كتاب (( نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار )) للشوكاني .
4- كتاب (( عمدة الأحكام )) للمقدسي، وهو كتاب مختصر ، وعامة أحاديثه في الصحيحين فلا يحتاج إلى البحث عن صحتها.(6/376)
5- كتاب (( الأربعين النووية)) لأبي زكريا النووي – رحمه الله تعالى وهذا كتاب طيب؛ لأن فيه آداباً، ومنهجاً جيداً، وقواعد مفيدة جداً مثل حديث (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) (1) فهذه قاعدة لو جعلتها هي الطريق الذي تمشي عليه لكانت كافية،
الفصل الثاني
فتاوى حول العلم
1- سئل فضيلته – حفظه الله -: هل يعذر طلبة العلم الذين درسوا العقيدة على غير مذهب السلف الصالح محتجبين بأن العالم الفلاني أو الإمام الفلاني يعتقد هذه العقيدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا لا يعذر به صاحبه حيث بلغه الحق؛ لأن الواجب عليه أن يتبع الحق أينما كان، وأن يبحث حتى يتبين له.
والحق – ولله الحمد – ناصع، بين لمن صلحت نيته، وحسن منهاجه، فإن الله – عز وجل يقول في كتابه: ] )وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر[ (القمر الآية:17) . ولكن بعض الناس – كما ذكر الأخ السائل- يكون لهم متبوعون معظمون لا يتزحزحون عن آرائهم،
مع أنه قد ينقدح في أذهانهم أن آراءهم ضعيقة أو باطلة، لكن التعصب والهوى يجملهم على موافقة متبوعيهم، وإن كان قد تبين لهم الهدي.
2- وسئل فضيلة الشيخ: عمن لا يحب دراسة العقيدة خصوصاً مسألة القدر خوفاً من الزلل؟
فأجاب بقوله: هذه المسألة كغيرها من المسائل المهمة التي لابد للإنسان منها في دينه ودنياه، لابد أن يخوض غمارها وأن يستعين بالله – تبارك وتعالى على تحقيقها ومعرفتها حتى يتبين له الأمر؛ لأنه لا ينبغي أن يكون على شك في هذه الأمور المهمة. أما المسائل التي لا تخل بدينه لو أجلها ولا يخشى أن تكون سببا لانحرافه، فإنه لا بأس أن يؤجلها مادام غيرها أهم منها، ومسائل القدر من الأمور المهمة التي يجب على العبد أن يحققها تماما حتى يصل فيها إلى اليقين.(6/377)
وهي في الحقيقة ليس فيها إشكال – ولله الحمد – والذي يثقل دروس العقيدة على بعض الناس هم أنهم مع الأسف الشديد يرجحون جانب ((كيف)) على جانب ((لم)) والإنسان مسؤول عن عمله بأداتين من أدوات الاستفهام ((لم)) و ((كيف)) فلم عملت كذا ؟ هذا الإخلاص. كيف عملت كذا؟ هذا المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأكثر الناس الآن مشغولون بتحقيق جواب ((كيف)) غافلون عن تحقيق جواب ((لم)) ولذلك تجدهم في جانب الإخلاص لا يتحرون كثيراً ، وفي جانب المتابعة يحرصون على أدق الأمور، فالناس الآن مهتمون كثيراً بهذا الجانب، غافلون عن الجانب الأهم وهو جانب العقيدة وجانب الإخلاص وجانب التوحيد .
لهذا تجد بعض الناس في مسائل الدين يسأل عن مسألة يسيرة جداً جداً وقلبه منكب على الدنيا غافل عن الله مطلقاً في بيعه وشرائه، ومركوبه، ومسكنه، وملبسه ، فقد يكون بعض الناس الآن عابداً للدنيا وهو لا يشعر، وقد يكون مشركاً بالله في الدنيا وهو لا يشعر، لأنه مع الأسف الشديد لا يهتم بجانب التوحيد وجانب العقيدة، وهذا ليس من العامة فقط ولكن من بعض طلاب العلم وهذا أمر له خطورته.
كما أن التركيز على العقدية فقط بدون العمل الذي جعله الشارع كالحامي والسور لها خطأ أيضاً لأننا نسمع في الإذاعات ونقرأ في الصحف التركيز على أن الدين هو القيدة السمحاء وما أشبه ذلك من العبارات، وفي الحقيقة أن هذا يخشى أن يكون باباً يلج منه من يلج في استحلال بعض المحرمات بحجة أن العقيدة سليمة، ولكن لابد من ملاحظة الأمرين جميعاً ليستقيم الجواب على ((لم)) وعلى ((كيف)).
وخلاصة الجواب : أنه يجب على المرء دراسة علم التوحيد والعقيدة؛ ليكون على بصيرة في إلهه ومعبوده – جل وعلا – على بصيرة بأسماء الله، وصفاته، وأفعاله، على بصيرة في أحكامه الكونية، والشرعية، على بصيرة في حكمته، وأسرار شرعه وخلقه، حتى لا يضل بنفسه أو يضل غيره.(6/378)
وعلم التوحيد هو أشرف العلوم لشرف متعلقه ولهذا سماه أهل العلم ( الفقه الأكبر) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )) (1) . وأول ما يدخل في ذلك وأولاه علم التوحيد والعقيدة، لكن يجب على المرء أيضاً أن يتحرى كيف يأخذ هذا العلم ومن أي مصدر يتلقاه، فليأخذ من هذا العلم أولاً ما صفا منه وسلم من الشبهات، ثم ينتقل ثانيا إلى النظر فيما أورد عليه من البدع والشبهات؛ ليقوم بردها وبيانها مما أخذ من قبل العقيدة الصافية، وليكن المصدر الذي يتلقاه منه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم كلام الصحابة – رضي الله عنهم – ثم ما قاله الأئمة بعدهم من التابعين وأتباعهم، ثم ما قاله العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم، وخصوصا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم عليهما وعلى سائر المسلمين وأئمتهم سابغ الرحمة والرضوان.
* * *
3- سئل فضيلة الشيخ : يتحرج بعض طلبة العلم الشرعي عند قصدهم العلم والشهادة فكيف
يتخلص طالب العلم من هذا الحرج؟
فأجاب بقوله : يجاب على ذلك بأمور:
أحدها: أن لا يقصدوا بذلك الشهادة لذاتها، بل يتخذون هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق؛ لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات، والناس غالباً لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة وبذلك تكون النية سليمة.
الثاني: أن من أراد العلم قد لا يجده إلا في هذه الكليات فيدخل فيها بنية طلب العلم ولا يؤثر عليه ما يحصل له من الشهادة فيما بعد.(6/379)
الثالث: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين حسنى الدنيا، وحسنى الآخرة فلا شيء عليه في ذلك؛ لأن الله يقول] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا [ ]2[ ] وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق الآيتان: 2 ، 3 ) وهذا ترغيب في التقوى بأمر دنيوي.
فإن قيل: من أراد بعمله الدنيا كيف يُقال بأنه مخلص ؟
فالجواب: أنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقا فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم على عبادته بل قصد أمراً مادياً من ثمرات العبادة، فليس كالمرائي الذي يتقرب إلى الناس بما يتقرب به إلى الله ويريد أن يمدحوه به، لكنه بإرادة هذا الأمر المادي نقص إخلاصه فصار معه نوع من الشرك وصارت منزلته دون منزلة من أراد الآخرة إرادة محضة.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه على أن بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية؛ فمثلاً يقولون في الصلاة رياضة وإفادة للأعصاب، وفي الصيام فائدة لإزالة الفضلات وترتيب الوجبات، والمفروض ألا تجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل؛ لأن ذلك يؤدي إلى إضعاف الإخلاص والغفلة عن إرادة الآخرة، ولذلك بين الله تعالى في كتابه حكمة الصوم – مثلاً أنه سبب للتقوى، فالفوائد الدينية هي الأصل، والدنيوية ثانوية، وعندما نتكلم عند عامة الناس فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية، وعندما نتكلم عند ممن لا يقتنع إلا بشيء مادي فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ولكل مقام مقال.
* * *
4- وسئل فضيلته – حفظه الله تعالى -: يختلف الكثير من طلبة العلم في معاملة أهل المعاصي، فما التوجيه الصحيح جزاكم الله خيراً ؟(6/380)
فأجاب – رعاه الله تعالى -: نقول: هذه المسألة وهي أن بعض طلبة العلم إذا رأوا المنحرف خٌلقياً أو فكرياً أو عملياً . يكرهونه ويتخذون من هذه الكراهة نفوراً منه وبعداً عنه، ولا يحاولون أبداً أن يصلحوا إلا من شاء الله من طلبة العلم الذين أنار الله قلوبهم ويرون أن هجره وكراهته والبعد عنه والتنفير منه يرون ذلك قربة. وهذا لا شك أنه خطأ وأن الواجب على طلبة العلم أن ينصحوا وينظروا كم من إنسان في غفلة فإذا نُصح استجاب.
وما أشد تأثير جماعة أهل الدعوة الذين يسمون أنفسهم أهل الدعوة والتبليغ. ما أشد تأثيرهم على الناس . وكم من فاسق اهتدي فأطاع، وكم من كافر اهتدى فأسلم على أيديهم؛ لأنهم وسعوا الناس بحسن الأخلاق، فلذلك نحن نسأل الله أن يجعل إخواننا الذين أعطاهم العلم أن يطعمهم من أخلاق هؤلاء حتى ينفعوا الناس أكثر وإن كان يؤخذ على جماعة الدعوة والتبليغ ما يؤخذ لكنهم في حسن الخلق والتأثير يسبب أخلاقهم لا أحد ينكر فضلهم، وقد رأيت كتاباً للشيخ عبد العزيز ابن باز – حفظه الله – وجهه إلى شخص كتب إليه ينتقد هؤلاء الجماعة، فقال في جملة رده:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ
من اللوم أو سدّوا المكان الذي سّدوا
وحسن الخلق لا شك أنه له تأثيراً عظيما ًفي استجابة الناس للداعي.(6/381)
أما إذا رأوا الإنسان خشناً فإنهم يسبونه ويذمونه على ما فيه من الأخلاق الشرعية، تجدهم مثلاً يسبونه على لحيته، واللحية أخلاق شرعية، ويسبونه على تقصير الثوب، يسبونه على المشي حافياً . لماذا؟ لأنه ليس حَسَنَ الأخلاق مع الناس. لا يدعو بالأخلاق إنما يدعو بالجفاء والغلظة، ويريد أن يصلح الناس كلهم في ساعة واحدة، هذا خطأ لا يمكن أن يصلح الناس في ساعة واحدة أبدأً . أليس النبي e قد بقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس؟ وفي النهاية أخرج من مكة حين تآمروا عليه ] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوك[ (لأنفال الآية: 30).يثبتوك يعني يحبسوك أو يقتلوك أو يخرجوك ] وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[ . فلا يمكن أن تصلح الخلق بمجرد دعوة أو دعوتين لاسيما إذا لم تكن ذا قيمة بينهم لكن اصبر وأطل النفس وادع بالحكمة وأحسن الخلق وسيتبين لك الأمر فيما بعد . ولا شك أن حسن المنطق له تأثير عظيم بالغ. ويُحكى أن رجلاً من أهل الحسبة مر على فلاح يسني إبله وكان في أذان المغرب. وكان هذا الفلاح يغني لأن الإبل إذا سمعت الغناء تمشي كأنها مجنونة؛ لأنها تطرب فكان يغني غافلاً ولا يسمع الأذان فتكلم عليه رجل الحسبة بكلام شديد. قال له – أي صاحب الإبل -: سوف أغني وأستمر في الغناء وإذا ما ذهبت فالعصا لمن عصا، - يقول هذا الكلام بسبب أنه جاءه بعنف – فذهب صاحب الحسبة إلى الشيخ القاضي وقال له: أنا ذهبت لفلان وسمعته يغني على إبله والمؤذن يؤذن المغرب ونصحته فلم يستجب. فلما كان من الغد ذهب الشيخ القاضي إلى مكان صاحب الإبل في الوقت نفسه فلما إذن جاء الفلاح وقال له: يا أخي أذن المؤذن فعليك أن تذهب وتصلي فإن الله يقول: ] وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [ (طه الآية:132) . فقال(6/382)
صاحب الإبل: جزاك الله خير، ووضع العصا التي يسوق بها الإبل وتوضأ ومشى معه، وماذا حصل؟ حصل المقصود، أما الأول لو تمادي معه لحصل الشر وترك الخير، ولكن الثاني أتاه بالتي هي أحسن فانقاد تماماً، فلذلك أقول: إن بعض طلبة العلم يكون عندهم غيرة لكن لا يحسنون التصرف، والواجب أن الإنسان يكون في تصرفاته على علم وبصيرة وعلى قدر كبير من الحكمة نسأل الله للجميع التوفيق، والحمد الله رب العالمين.
* * *
5- وسئل فضيلته: هناك بعض طلبة العلم يحرص على حضور دروس طلبة العلم دون
أن يلقي اهتماماً بدروس العلماء الذين جمعوا ما لم يجمعه طلبة العلم.
فما توجيه فضيلتكم – حفظكم الله تعالى -؟
فأجاب فضيلته بقوله : الذي أراه أن الإنسان ينبغي أن يطلب العلم على عالم ناضج؛ لأن بعض طلبة العلم يتصدر للتدريس فيحقق المسألة من المسائل سواء حديثية أو فقهية أو عقائدية يحققها تماماً ويراجع عليها، فإذا سمعه الناشيء من طلبة العلم ظن أنه من أكابر العلماء، لكن لو خرج قيد أنملة عن هذا الموضوع الذي حققه ونقحه وراجع عليه وجدت أنه ليس عنده علم، لذلك يجب على طالب العلم المبتدىء أن يتلقي العلم على يد العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم ودينهم.
6- فضيلة الشيخ: يلاحظ ضعف الهمة والفتور في طلب العلم، فما الوسائل والطرق التي تدفع إلى علو الهمة والحرص على العلم؟
فأجاب – حفظه الله ورعاه – بقوله: ضعف الهمم في طلب العلم الشرعي من المصائب الكبيرة وهناك أمور لابد منها:(6/383)
الأمر الأول: الإخلاص لله – عز وجل – في الطلب والإنسان إذا أخلص لله في الطلب وعرف أنه يُثاب على طلبه وسيكون في الدرجة الثالثة من درجات الأمة فإن همته تنشط ] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا [ (النساء الآية:69).
ثانيا: أن يُلازم زملاء يحثونه على العلم ويساعدونه على المناقشة والبحث ولا يمل من صحبتهم ماداموا يعينونه على العلم .
ثالثا: أن يصبر نفسه بمعني يحبسها لو أرادت أن تتفلت، قال الله تعال للنبي e: ] وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ (الكهف الآية: 28) فليصبر؛ وإذا صبر وتعود الطلبة صار الطلب سجية له وصار اليوم الذي يفقد فيه الطلب يوماً طويلاً عليه، أما إذا أعطي نفسه العنان فلا، فالنفس أمارة بالسوء والشيطان يحثه على الكسل وعدم التعلم.
7- سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى -: ما نصيحة فضيلتكم لمن يجعل الولاء والبراء لإخوانه في موافقتهم له في مسألة أو عدم موافقتهم له، وكذلك ما يحصل من الحسد والبعض من طلاب العلم ؟(6/384)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا صحيح، فإن بعض الناس يجعلون الولاء والراء مقيد بالموافقة له أو عدم الموافقة، فتجد الشخص يتولى الشخص؛ لأنه وافقه فيها، يتبرأ منه لأنه خالفه فيها، وأذكر لكم قصة مرت علينا في منى بين طائفتين من الإفريقيين كل واحد يلعن الثاني ويكفره، فجيء بهم إلينا، وهم يتنازعون قلنا: ما لذي حدث؟ قال الأول: هذا الرجل إذا قام إلى الصلاة يضع يده اليمنى على اليسرى فوق الصدر وهذا كفر بالسنة ، وقال الثاني: هذا إذا قام للصلاة يرسل يديه على الفخذين دون أن يجعل اليمنى على اليسرى وهذا كفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من رغب عن سنتي فليس مني)) (1) . وعلى هذا يكفر بعضهم بعضاً !! مع العلم أن هذه المسألة مسألة سنة، وليست واجبة ولا ركن ولا شرط للصحة وبعد جهد وعناء كبير اقتنعوا أمامنا والله أعلم بما وراءنا ، والآن تجد بعض الإخوان مع الأسف يرد على إخوانه أكثر مما يرد على الملحدين الذين كفرهم صريح، يعاديهم أكثر مما يعادي هؤلاء ويشهر بهم في كلام لا أصل له، ولا حقيقة له، لكن حسد وبغي،
class=Section2>
ولا شك أن الحسد من أخلاق اليهود أخبث عباد الله.(6/385)
ثم إن الحسد لا يستفيد منه الحاسد إطلاقا، بل لايزيده إلا غماً وحسرة، ابغ الخير للغير يحصل لك الخير، وأعلم أن فضل الله يؤتيه من يشاء، لو حسدت فإنك لن تمنع فضل الله، ربما تمنع فضل الله عليك بمحبتك زوال فضل الله على غيرك وكراهتك نعمة الله على غيرك، لذلك الحاسد في ظروف طالب العلم مشكوك في نيته وإخلاصه في طلب العلم؛ لأنه إنما حسد لكون الثاني صار له جاه عند الناس وله كلمة والتف الناس حوله فحسده، لكونه يريد الدنيا، أما لو كان يريد الآخرة حقاً، ويريد العلم حقاً، لسأل عن هذا الرجل الذي التف الناس حوله وأخذوا بقوله. تسأل عن علمه لتكون مثله أيضاً ؛ تجيء أنت لتستفيد منه؛ أما أن تحسده وتشوه سمعته، وتذكر فيهمن العيوب ما ليس فيه فهذا لا شك أنه بغي وعدوان وخصلة ذميمة.
* * *
8- سئل فضيلة الشيخ : ذكر الخطيب البغدادي جانباً من جوانب تعلم العلم وهو لزوم أحد
العلماء أو أحد المشائخ فما رأي فضيلتكم؟
فأجاب فضيلته : بقوله: هذا جيد كون الإنسان يركز على شيخ من المشائخ يجعله هو الأصل لاسيما المبتدىء الصغير، المبتدىء الصغير إذا طلب العلم على عدة أناس تذبذب، لأن الناس ليسوا على رأي واحد خصوصاً في عصرنا الآن، كان فيما سبق أي قبل مدة كان الناس هنا في المملكة لا يخرجون أبداً عن الإقناع والمنتهى؛
فتجد فتاواهم واحدة، وشروحهم واجدة، لا يختلف واحد عن الآخر إلا في الإلقاء وحسن الأسلوب،لكن الآن لما كان كل واحد حافظاً حديثاً أو حديثين قال: أنا الإمام المقتدي به والإمام أحمد رجل ونحن رجال، فصارت المسألة فوضى، صار كل إنسان يفتي أحياناً تأتي الفتاوى تبكي وتُضحك وكنت أهم أن أدؤّن مثل هذه الفتاوى لكن كنت أخشى أن أكون ممن تبع عورات إخوانه فتركته تحاشياً مني وإلا نقلنا أشياء بعيدة عن الصواب بعد الثريا عن الثرى.(6/386)
فأقول: ملازمة عالم واحد مهمة جداً مادام الطالب في أول الطريق لكي لا يتذبذب، ولهذا كان مشائخنا ينهوننا عن مطالعة المغني وشرح المهذب والكتب التي فيها أقوال متعددة عندما كنا في زمن الطلبة، وذكر لنا بعض مشائخنا أن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بابطين رحمه الله – وهو من أكبر مشائخ نجد مفتي الديار النجدية ذكروا أنه كان مكبًا على الروض المربع لا يطالع إلا إياه ويكرره، كل ما خلص منه كرره لكن يأخذه بالمفهوم و المنطوق والإشارة والعبارة فحصل خير كثير.
أما إذا توسعت مدارك الإنسان فهذا ينبغي له أن ينظر أقوال العلماء يستفيد منها فائدة علمية وفائدة تطبيقية، لكن في أول الطلب أنا أنصح الطالب أن يركز على شيخ معين لا يتعداه.
9- وسئل فضيلة الشيخ : إذا أراد طالب العلم أن ينقل الأحاديث التي زادت من بلوغ المرام على المحرر لابن عبد الهادي فهل هذه الطريقة مفيدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شيء في ذلك، هذه طريقة خاصة لكنه على سبيل العموم كونه يًُدرس الكتب المشهورة المتداولة بين الناس أحسن.
* * *
10- سئل فضيلة الشيخ : عن: كتاب المحرر لابن عبد الهادي أليس خيراً من بلوغ
المرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: بلوغ المرام بين الناس، وصحابه محقق – رحمه الله
والشيء المتداول ينبغي للإنسان أن يعتني به أكثر من غيره؛ لأن الشيء
المهجور لا ينتفع به الناس كثيراً، والبلوغ كما هو معلوم خُدم وقرأ به علماؤنا
ومشائخنا.
* * *
11- وسئل حفظة الله تعالى:- ذٌكر عن ابن الوزير – رحمه الله – أن الصحابة أبابكر، وعمر، وعثمان، وعلي – رضي الله عنهم – لم يحفظوا القران الكريم ، وكذلك ما ورد عن الأئمة كعثمان ابن أبي شيبة على قدره أنه لم يحفظ القرآن ، الأشياء التي تدعو بعض طلبة العلم لترك حفظ كتاب الله ، هل هذا صحيح؟(6/387)
فأجاب فضيلته : بقوله: أنا أستبعد أن أبابكر، وعمر وعثمان ، وعلياًُ وهؤلاء الأجلة من الصحابة لم يحفظوا كتاب الله – هذا بعيد – وتعلم أن القرآن جمع على عهد أبي بكر، وعلى عهدعثمان كيف يجمعون ولا يحفظون؟! بعيد جداً ولكن حتى لو رُوي عنه فيجب أن ننظر في الإسناد أولاً ثم إذا صح الإسناد فنقول: إن الذي تحدث عنهم وقال إنهم لم يحفظوا القرآن كله تحدث عما علمَ ، ويبعده جداً أن مثل هؤلاء لا يحفظون القرآن، ولام ينبغي أن يثني الرجل عن حفظ القرآن مثل هذه الروايات.
* * *
12 - وسئل فضيلة الشيخ: أرجو من فضيلتكم – حفظكم الله تعالى – توضيح المنهج الصحيح
في طلب العلم في مختلف العلوم الشرعية جزاكم الله غيراً وغفر لكم؟
فأجاب بقوله: العلوم الشرعية على أصناف منها:
1- علم التفسير: فينبغي لطالب العلم أن يقرن التفسير بحفظ كتاب الله– عز وجل – اقتداء بالصحابة – رضي الله عنهم– حيث لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، ولأجل أن يرتبط معنى القرآن الكريم بحفظ ألفاظه فيكون الإنسان ممن تلاه حق تلاوته لا سيما إذا طبقه.
2- علم السنة: فيبدأ بما هو أصح، وأصح ما في السنة ما اتفق عليه البخاري ومسلم.
لكن طلب السنة ينقسم إلى قسمين:
قسم يريد الإنسان معرفة الأحكام الشرعية سواء في علم العقائد والتوحيد أو في علم الأحكام العملية، وهذا ينبغي أن يُركز على الكتب المؤلفة في هذا فيحفظها كبلوغ المرام، وعمدة الأحكام ، وكتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب كتاب التوحيد ، وما أشبه ذلك
وتبقى الأمهات للمراجعة والقراءة، فهناك حفظ وهناك قراءة يقرأ الأمهات ويكثر من النظر فيها لأن في ذلك فائدتين:
الأولى: الرجوع إلى الأصول.
الثانية: تكرار أسماء الرجال على ذهنه، فإنه إذا تكررت أسماء الرجاء لا يكاد يمر به رجل مثلا من رجال البخاري في أي سند كان إلا عرف أنه من رجال البخاري فيستفيد هذه الفائدة الحديثية.(6/388)
3- علم العقائد: كتبه كثيرة وأرى أن قراءتها في هذا الوقت تستغرق وقتاً كثيراً والفائدة موجودة في الزبد التي كتبها مثل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله والعلامة ابن القيم، وعلماء نجد مثل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ومن بعده من العلماء.
4- علم الفقه: ولا شك أن الإنسان ينبغي له أن يُركز على مذهب معين يحفظه ويحفظ أصوله وقواعده، لكن لا يعني ذلك أن نلتزم التزاماً بما قاله الإمام في هذا المذهب كما يلتزم بما قاله النبي e ، لكنه يبني الفقه على هذا ويأخذ من المذاهب الأخري ما قام الدليل على صحته، كما هي طريقة الأئمة من أتباع المذاهب كشيخ الإسلام ابن تيمية ، والنووي وغيرهما حتى يكون قد بنى على أصل، لأني أرى أن الذين أخذوا بالحديث دون أن يرجعوا إلى ما كتبه العلماء في الأحكام الشرعية، أرى عندهم شطحات كثيرة ، وإن كانوا أقوياء في الحديث وفي فهمه لكن يكون عندهم شطحات كثيرة؛ لأنهم بعيدون عما يتكلم به الفقهاء.(6/389)
فتجد عندهم من المسائل الغريبة ما تكاد تجزم بأنها مخالفة لإجماع أو يغلب على ظنك أنها مخالفة للإجماع، لهذا ينبغي للإنسان أن يربط فقهه بما كتبه الفقهاء- رحمهم الله – ولا يعني ذلك أن يجعل الإمام، إمام هذا المذهب كالرسول – عليه الصلاة والسلام – يأخذ بأقواله وأفعاله على وجه الالتزام، بل يستدل بها ويجعل هذا قاعدة ولا حرج بل يجب إذا رأى القول الصحيح في مذهب آخر أن يرجع إليه ، والغالب في مذهب الإمام أحمد أنه لا تكاد ترى مذهباً من المذاهب إلا وهو قول للإمام أحمد، راجع كتب الروايتين في المذهب تجد أن الإمام أحمد – رحمه الله – لا يكاد يكون مذهب من المذاهب إلا وله قول يوافقه، وذلك لأنه – رحمه الله – واسع الإطلاع ورجّاع للحق أينما كان، فلذلك أرى أن الإنسان يركز على مذهب من المذاهب التي يختارها، وأحسن المذاهب فيما نعلم من حيث اتباع السنة مذهب الإمام أحمد رحمه الله – وإن كان غيره قد يكون أقرب إلى السنة من غيره، على إنه كما أشرت قبل قليل؛ لا تكاد تجد مذهباً من المذاهب إلا والإمام أحمد يوافقه – رحمه الله
وأهم شيء أيضاً في منهج طالب العلم بعد النظر والقراءة، أن يكون فقيهاً، بمعنى أنه يعرف حكم الشريعة وآثارها ومغزاها وأن يطبق ما علمه منها تطبيقاً حقيقياً بقدر ما يستطيع ]لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [ (البقرة الآية: 286) لكن يحرص على التطبيق بقدر ما يستطيع، وأنا أكرر عليكم دائماً هذه النقطة (( التطبيق)) سواء في العبادات أو الأخلاق أو في المعاملات. طبق حتى يُعرف أنك طالب علم عامل بما علمت.
ونضرب مثلاً إذا مَر أحدكم بأخيه هل يشرع له أن يسلم عليه؟(6/390)
الجواب: نعم يشرع ولكن أرى الكثير يمر بإخوانه وكأنما مر بعمود لا يسلم عليه، وهذا خطأ عظيم حيث يمكن أن ننقد العامة إذا فعلوا مثل هذا الفعل، فكيف لا يُنتقد الطالب ؟ وما الذي يضرك إذا قلت السلام عليكم ؟ وكم يأتيك ؟ عشر حسنات – تساوي الدنيا كلها عشر حسنات لو قيل للناس: كل من مر بأخيه وسلم عليه سيدفع له ريال، لوجدت الناس في الأسواق يدورون لكي يسلموا عليه؛ لأن سيحصل على ريال لكن عشر حسنات نفرط فيها. والله المستعان.
وفائدة أخرى: المحبة والألفة بين الناس، فالمحبة والألفة جاءت نصوص كثيرة بإثباتها وتمكينها وترسيخا، والنهي عما يضادها والمسائل التي تضاد كثيرة، كبيع المسلم على بيع أخيه، والخطبة على خطبة المسلم، وما أشبه ذلك، كل هذا دفعاُ للعداوة والبغضاء وجلباً للألفة والمحبة، وفيها أيضاً تحقيق الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم (( والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا)) (1) ومعلوم أن كل واحد منا يحب أن يصل إلى درجة يتحقق فيها الإيمان له؛ لأن أعمالنا البدنية قليلة وضعيفة.
الصلاة يمضي أكثرها ونحن ندبر شئوناً أخرى، الصيام كذلك، الصدقة الله أعلم بها، فأعمالنا وإن فعلناها فهي هزيلة نحتاج إلى تقوية الإيمان، السلام مما يقوي الإيمان؛ لأن الرسول e قال: (( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أخبركم بشيء إذ(6/391)
فعلتموه تحاببتم – يعني حصل لكم الإيمان – أفشوا السلام بينكم)) (1) هذه نقطة واحدة مما علمناه ولكننا أخللنا به كثيراً لذلك أقول: أسأل الله أن يعينني وإياكم على تطبيق ما علمنا ؛ لأننا نعلم كثيرا ولكن لا نعمل إلا قليلاً، فعليكم يا إخواني بالعلم وعليكم بالعمل وعليكم بالتطبيق، فالعلم حجة عليكم، العلم إذا غذيتموه بالعمل أزداد ] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ[ (محمد الآية:17) . إذا غذيتموه بالعمل أزددتم نوراً وبرهاناً ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [ (لأنفال: الآية29) ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم [ (الحديد الآية:28) والآيات في هذا المعنى كثيرة، فعليكم بالتطبيق في العبادات وفي الأخلاق وفي المعاملات حتى تكونوا طلاب علم حقيقة، أسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
* * *
13- سئل فضيلة الشيخ : متى يكون طالب العلم متبعاً لمذهب الإمام أحمد ؟
فأجاب فضيلته: بقوله : مذهب الإمام أحمد وغيره من الأئمة قسمان :
* مذهب شخصي.
* ومذهب اصطلاحي.
فأنت تكون متبعاً له شخصياً إذا أخذت برواية من الروايات عنه، ولكنك لست آخذاً بالمذهب المصطلح عليه إذا كان يخالف المصطلح عليه، والمذهب المصطلح عليه، أحياناً ينص الإمام أحمد على أنه رجع عنه وعلى أنه لا يقول به ، لكن لكل أناس من أصحاب المذاهب طريقة يمشون عليها.
* * *(6/392)
14- وسئل الشيخ : ما توجيه فضيلتكم – حفظكم الله تعالى – لطالب العلم المبتدىء هل يقلد إماماً من أئمة المذاهب أم يخرج عنه ؟
فأجاب قائلا: قال الله –عز وجل-: ] فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ ( الأنبياء الآية: 7)
فإذا كان هذا طالباً ناشئاً لا يعرف كيف يخرج الأدلة فليس له إلا التقيد سواء قلد إماماً سابقاً ميتاً أو إماماً حاضراً – عالم من العلماء – وسأله، هذا هو الأحسن، لكن إذا تبين له أن هذا القول مُخالف للحديث الصحيح وجب عليه أن يأخذ بالحديث الصحيح.
15- سئل فضيلة الشيخ – رعاه الله -: ما رأي فضيلتكم في بعض طلبة العلم الذين قد جمعوا أسس العلم في العقيدة ومعرفة الأحكام الفقهية أخذاً من العلماء، فهل يقومون الدعوة في المساجد أم ينتظرون حتى يكون عندهم إذن
رسمي من الجهات المختصة، وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته: بقوله: الذي أرى ألا يتكلموا فيما يمنع فيه الكلام إلا بإذن لأن طاعة ولي الأمر في تنظيم الأمور واجبة، وتعلم أنه لو أذن للصغار الذين ابتدأوا طلب العلم بالكلام لتكلموا بما لا يعلمون، وحصل بذلك مفسدة واضطراب للناس، ربما في العقائد فضلاً عن الأعمال البدنية.
فمنع الناس من الكلام إلا بإذن وبطاقة ليس منعاً تاماً حتى نقول لا طاعة لولاة الأمر في ذلك لأن فيه منعاً لتبليغ الشريعة لكنه منعُ مقيد بما يضبطه بحيث يُعرف من هو أهل لذلك أو لا، وكما تعلمون الآن كل من تقدم إلى المسئولين لهذا الأمر وعلموا أنه أهل لذلك أعطوه إذناً لم نعلم بأنهم قالوا لأحد تقدم وهو أهل لنشر العلم لا تفعل، والأمر – والحمد لله – أمر يطمئن إليه الإنسان، ولا يجوز لأحد أن يتكلم في موضع يُمنع فيه من الكلام من جهة ولي الأمر، إلا بإذن يعني مثلاً في المساجد أو في الأماكن العامة، لكن بينه وبين إخوانه، في غرفته، في حجرته فهذا لا بأس به ولا يمنع أحد منه.
* * *(6/393)
16 - سئل فضيلة الشيخ : – عفر الله له -: كثرت الأسئلة عن كيفية الطلب وبأي شيء يبدأ من أراد أن يطلب العلم وبأي المتون يبدأ حفظاً ، فما توجيهكم لهؤلاء الطلبة، وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله : أولاً وقبل أن أذكر التوجيه لهؤلاء
الطلبة أوجه الطلبة أن يتلقوا العلم عن عالم؛ لأن تلقي العلم عن العالم فيه فائدتان عظيمتان:
الأولى: أنه أقرب تناولا؛ لأن العالم عنده اطلاع وعنده معرفة ويعطيك العلم ناضجاً سهلاً .
الثانية: أن الطلب على عالم يكون أقرب إلى الصواب بمعنى أن الذي يطلب العلم على غير عالم يكون له شطحات وآراء شاذة بعيدة عن الصواب، وذلك لأنه لم يقرأ على عالم راسخ في علمه حتى يربيه على طريقته التي يختارها.
فالذي أرى أن يحرص الإنسان على أن يكون له شيخ يلازمه لطلب العلم؛ لأنه إذا كان له شيخ فإنه سوف يوجهه التوجيه الذي يرى أنه مناسب له.
أما بالنسبة للجواب على سبيل العموم فإننا نقول:
أولاً: الأولى أن يحفظ الإنسان كتاب الله تعالى قبل كل شيء ؛لأن هذا هو دأب الصحابة – رضي الله عنه – كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى تعلموها وما فيها من العلم والعمل، وكلام الله أشرف الكلام على الإطلاق.
ثانيا: يأخذ من متون الأحاديث المختصرة ما يكون ذخراً له في الاستدلال بالنسبة مثل: عمدة الأحكام، بلوغ المرام، الأربعين النووية وما أشبه ذلك.
ثالثا: يحفظ من متون الفقه ما يناسبه ومن أحسن المتون التي نعلمها (( زاد المستقنع في اختصار المقنع )) لأن هذا الكتاب قد خدم من قبل شارحه منصور بن يونس البهوتي ومن قبل من بعده من خدموا
هذا الشرح والمتن بالحواشي الكثيرة.
رابعاً: النحو وما أدراك ما النحو الذي لا يعرفه من الطلبة إلا القليل حتى إنك لترى الرجل قد تخرج من الكلية وهو لا يعرف عن النحو شيئاً يتمثل بقول الشاعر:
لا بارك الله في النحو ولا أهله إذا كان منسوبا إلى نفطويه(6/394)
أحرقه الله بنصف اسمه وجعل الباقي صراخاً عليه
لماذا قال الشاعر هذا الكلام ؟ الجواب: لأنه عجز عن النحو، ولكن أقول إن النحو بابه من حديد ودهاليزه قصب يعني أنه شديد وصعب عند أول الدخول فيه، ولكنه إذا انفتح الباب لطالبه سهل عليه الباقي بكل يسر وصار سهلاً عليه، حتى إن بعض طلبة العلم الذين بدءوا في النحو صاروا يعشقونه فإذا خاطبتهم بخطاب عادي جعل يعربه ليتمرن على الإعراب، ومن أحسن متون النحو الأجرومية، كتاب مختصر مركز غاية التركيز ولهذا أنصح من يبدأ أن يبدأ به فهذه الأصول التي ينبغي أن يبني عليها طالب العلم.
خامساً: أما ما يتعلق بعلم التوحيد فالكتب في هذا كثيرة منها: (( كتاب التوحيد)) لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – ومنها: (( العقيدة الواسطية)) لشيخ ابن تيمية، وهي كثيرة معروفة ولله الحمد.
والنصيحة العامة لطالب العلم أن يكون عليه آثار علمه من تقوي الله – عز وجل والقيام بطاعته ، وحسن الخلق، والإحسان إلى الخلق بالتعليم والتوجيه والحرص على نشر العلم بجميع الوسائل سواء كان ذلك عن طريق الصحف أو المجلات أو الكتب أو الرسائل أو
النشرات وغير ذلك من الوسائل.
وأنصح طالب العلم أيضاً ألا يتسرع في الحكم على الشيء ؛ لأن بعض طلبة العلم المبتدئين تجده يتسرع في الإفتاء وفي الأحكام وربما يخطىء العلماء الكبار وهو دونهم بكثير، حتى إن بعض الناس يقول : ناظرت شخصاً من طلبة العلم المبتدئين فقلت له: إن هذا قول الإمام أحمد بن حنبل. فقال: وما الإمام أحمد بن حنبل؛ الإمام أحمد بن حنبل رجل ونحن رجال، سبحان الله !! صحيح أن الإمام أحمد رجل وأنت رجل، فأنتما مستويان في الذكورة، أما في العلم فبينكما فرق عظيم ، وليس كل رجل رجلاً بالنسبة للعلم.
وأقول إن على طالب العلم أن يكون متأدباً بالتواضع وعدم الإعجاب بالنفس وأن يعرف قدر نفسه.(6/395)
ومن المهم لطالب العلم المبتدىء : ألا يكون كثير المراجعة لأقوال العلماء؛ لأنك إذا أكثرت مراجعتك لأقوال العلماء وجعلت تطالع المغني في الفقه لابن قدامة، والمجموع للنووي والكتب الكبيرة التي تذكر الخلاف وتناقشه فإنك تضيع.
ابدأ أولاً كما قلنا بالمتون المختصرة شيئاً حتى تصل إلى الغاية، وأما أن تريد أن تصعد الشجرة من فروعها فهذا خطأ.
* * *
17- سئل فضيلة الشيخ: – حفظه الله تعالى-: ما طريقة طلب العلم باختصار جزاكم الله خيرا ً؟.
فأجاب فضيلته: بقوله: طريقة طلب العلم باختصار في نقاط :
1- احرص على حفظ كتاب الله تعالى واجعل لك كل يوم شيئا معيناً تحافظ على قراءته
بتدبر وتفهم، وإذا عنت لك فائدة أثناء القراءة فقيدها.
2- احرص على حفظ ما تيسر من صحيح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك حفظ عمدة الأحكام.
3- احرص على التركيز والثبات بحيث لا تأخذ العلم نتفاً من هذا شيئاً ومن هذا شيئاً؛ لأن هذا يضيع وقتك ويشتت ذهنك.
4- ابدأ بصغار الكتب وتأملها جيداً ثم انتقل إلى ما فوقها، حتى تحصل على العلم شيئاً فشيئاً على وجه يرسخ في قلبك وتطمئن إليه نفسك.
5- احرص على معرفة أصول المسائل وقواعدها وقيد كل شيء يمر بك من هذا القبيل فقد قيل: من حُرم الأصول حُرم الوصول.
6- ناقش المسائل من شيخك، أو مع من تثق به علماً وديناً من أقرانك، ولو بأن تقدر في ذهنك أن أحداً يناقشك فيها إذا لم تمكن المناقشة مع من سمينا.
* * *
18- وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى - : عن حكم تعلم اللغة الإنجليزية في الوقت الحاضر؟(6/396)
فأجاب فضيلته: بقوله: تعلمها وسيلة، فإذا كنت محتاجاً إليها كوسيلة في الدعوة إلى الله فقد يكون تعلمها واجباً ، وإن لم تكن محتاجاً إليها فلا تشغل وقتك بها واشتغل بما هو أهم وأنفع، والناس يختلفون في حاجتهم إلى تعلم اللغة الإنجليزية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد
بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود (1) فتعلم اللغة الإنجليزية وسيلة من الوسائل إن احتجت إليها تعلمتها وإن لم تحتج إليها فلا تضع وقتك فيها .
* * *
19- سئل رعاه الله بمنه وكرمه – عن حكم مشاهدة الأفلام التعليمية التي قد تكون فيها نساء وخصوصاً أفلام تعلم اللغة الإنجليزية ؟
فأجاب قائلاً : أنا أرى أن مشاهدة الأفلام التعليمية جائزة ولا بأس بها؛ لأنها مشاهدة لأمر يكون خيراً ، وإذا كان الذي يظهر من النساء والمشاهدون رجال فإن حصل تمتع بالنظر إليها ، فهذا محرم، وأما إذا لم يكن ذلك فهذا محل توقف عندي، وعلى كل حال فإنني أكره ذلك لأن يُخشى على الإنسان من الفتنة إذا شاهد ذلك، وبالإمكان إذا كان الذي يتكلم في هذه الحلقة امرأة أن تضع على الشاشة غطاء حتى لا تظهر أما الطلبة،
هذا إذا اضطررنا إلى الاستماع للمرأة بحيث لا يوجد لهذا الموضوع رجل، فإن كان يوجد رجل فلا يعدل عنه إلى النساء إذا كان المتعلمون رجالاً والعكس بالعكس.
* * *
20- وسئل فضيلته : كثر عند بعض الشباب الصالح القول بعدم التقيد مستندين إلى بعض أقوال ابن القيم عليه رحمة الله، فما قولكم ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحقيقة إنني أؤيد هذا، أن الإنسان لا يركن إلى التقليد؛ لأن المقلد قد يخطىء، ولكني مع ذلك لا أرى أن نبتعد عن أقوال أهل العلم السابقين حتى لا نتشتت ونأخذ من كل مذهب لأننا وجدنا أن الإخوة الذين يُنكرون التقليد وجدناهم أحياناً يضيعون حتى يقولوا بما لم يسبقهم إليه أحد.(6/397)
ولكن إذا دعت الضرورة إلى التقليد فإنه لابد منه لقول الله تعالى: ] فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ (الأنبياء الآية: 7) فأوجب – سبحانه سؤال أهل الذكر إذا كنا لا نعلم، وسؤالهم يتضمن اعتماد قولهم وإلا لم يكن لسؤالهم فائدة.
فالتقليد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى– بمنزلة الميتة إن اضطررت إليها فكلها ، وإن استغنيت عنها فهي حرام عليك، فمتى نزل بالإنسان نازلة ولا يتمكن من مطالعتها في الكتب التي تسوق الأدلة فلا حرج عليه حينئذ أن يقلد، ولكنه يقلد من يراه أقرب إلى الحق في علمه وأمانته، وأما مادام عنده قدرة على
استنباط الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقلد.
* * *
21- سئل فضيلة الشيخ: إذا كانت الأمة أحوج إلى العلوم المادية كالطب والهندسة وغيرها، فهل الأفضل للإنسان أن يتخصص في العلوم المادية أم العلوم الشرعية ؟(6/398)
فأجاب بقوله: لاشك أن الأصل هو العلوم الشرعية ولا يمكن لإنسان أن يعبد الله حق عبادته إلا بالعلم الشرعي كما قال الله تعالى: ] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [ (يوسف الآية: 108) فلا بد من العلم الشرعي الذي تقوم به حياة المرء في الدنيا والآخرة، ولا يمكن لأي دعوة أن تقوم إلا وهي مبنية على العلم، وبهذه المناسبة أود أن أحث إخواني الدعاة إلى الله أن يتعلموا قبل أن يدعوا وليس معنى ذلك أن يتبحروا في العلم لكن ألا يتكلموا بشيء إلا وقد بنوه على العلم؛ لأنهم إذا تكلموا بما لا يعلمون كانوا داخلين تحت قوله تعالي: ] قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [ (لأعراف الآية: 33)
والعلوم الشرعية تنقسم إلى قسمين:
قسم لابد للإنسان من تعلمه وهو ما يحتاجه في أمور دينه ودنياه.
وقسم آخر وهو فرض كفاية، فإنه هنا يمكن الموازنة بينه وبين ما تحتاجه الأمة من العلوم الأخرى التي ليست من العلوم الشرعية.
وكذلك العلوم الأخرى التي ليست من العلوم الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم علوم ضارة، فيحرم تعلمها ولا يجوز للإنسان أن يشتغل بهذه العلوم مهما تكن نتيجتها.
2- قسم علوم نافعة، فإنه يتعلم منها ما فيه النفع.
3- وقسم العلوم التي جهلها لا يضر والعلم بها لا ينفع وهذه لا ينبغي للطالب أن يقضي وقته في طلبها.
* * *
22- سئل فضيلة الشيخ: نلاحظ أن أكثر الشباب يهتم بقراءة الكتب الثقافية العامة متأثراً بها وغير مهتم بكتب الأصول فما نصيحتكم وفقكم الله ؟(6/399)
فأجاب قائلاً : نصيحتي لنفسي أولاً لإخواننا طلبة العلم أن يعتنوا بكتب أهل العلم من السلف؛ لأن كتب السلف فيها من الخير الكثير والعلم الكثير وفيها من البركة ما هو معلوم.
* * *
23- وسئل فضيلته : نرى كثيراً من الناس يعلم بعض الأحكام الشرعية كتحريم حلق اللحية وشرب الدخان ومع ذلك لا يعمل بعلمه، فما أسباب ذلك ؟ وكيف تُعالح هذه الظاهرة الخطيرة ؟
فأجاب بقوله: أسباب ذلك هو: اتباع الهوى، وكون الإنسان ليس عنده من الوازع الديني ما يحمله على تقوى الله – عز وجل –
في تجنب ما يراه حراماً ، والإنسان إذا حاسب نفسه ورأى أنه راجع إلى ربه مهما طال فإنه قد يغلب هواه وقد يسيطر على نفسه.
ومن أسباب ذلك أيضاً: أن الشيطان يصغر مثل هذه المعاصي في قلب العبد، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك فقال:(( إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل ذلك كمثل قوم نزلوا أرضاً فأتي هذا بعود وهذا بعود وهذا بعود ثم إذا جمعوا حطباً كثيراً وأضرموا ناراً كثيراً )) (1) فهكذا المعاصي المحقرات التي يراها الإنسان حقيرة لا تزال به حتى تكون من كبائر الذنوب.
ولهذا قال أهل العلم: إن الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر ، وإن الاستغفار من الكبائر يكفرها ، لهذا نقول لهؤلاء: عليكم أن تحاسبوا أنفسكم.
ومن أسباب ذلك أيضا: قلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان كل واحد منا إذا رأى أحداً على معصية أرشده وبين له أن ذلك مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العاقل سوف يعتبر ويتغير.
24- وسئل – غفر الله له -: ما لواجب على طالب العلم والعالم تجاه الدعوة إلى الله ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدعوة إلى الله واجبه كما قال الله تعالي:(6/400)
] ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ (النحل، الآية:125 ) . وقد جعل الله الدعوة على ثلاث مراتب: الدعوة بالحكمة، وبالموعظة وبالمجادلة؛ لأن من تدعوه إما أن يكون لا علم عنده ولا منازعة عنده ولا مخالفة فهذا يُدعوه إما أن يكون لا علم عنده ولا منازعة عنده ولا مخالفة فهذا يُدعى بالحكمة، والحكمة هي بيان الحق، وحكمة الحق إن تيسر لك ؛ والموعظة تكون مع من عنده شيء من الإعراض وتوقف عن قبول الحق فإنك تعظه بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى وبهما جميعاً إن اقتضت الحال ذلك، والمجادلة تكون مع من عنده إعراض ومنازعة في الحق فإنك تجادله بالتي هي أحسن من القول أو بالتي هي أحسن بالإقناع.(6/401)
وانظر إلى مجادلة إبراهيم – عليه السلام- مع الذي حاجه في ربه، قال الله عن ذلك: ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[(البقرة الآية: 258) وكيف هذا ؟ يؤتى بالرجل مستحقاً للقتل فلا يقتله وهذا بزعمه إحياؤه، ويؤتى بالرجل لا يستحق القتل فيقتله وهذا بزعمه إماتته، يمكن أن يجادل هذا بأن يقال: إنك إذا أوتيت بالرجل المستحق القتل فلم تقتله، إنك ما أحييته؛ لأن الحياة موجودة فيه من قبل، ولكنك أبقيت الحياة بعدم قتله، ويمكن تقول: إنه إذا قتل من لا يستحق القتل إنه لم يمته، وإنما فعل سبباً يكون به الموت ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الدال أنه يؤتى إليه بشاب فيشهد هذا الشاب أنه الدجال الذي أخبر عنه النبي e فيقتله الدجال، ويجعله قطعتين ويمشي بينهما تحقيقاً للتباين بينهما، ثم يناديه الدجال فيقوم متهلهلاً يضحك يقول: أشهد إنك الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يأتي ليقتله فلا يقدر (1) فهذا دليل على أن الأمر كله بيد الله.
فيمكن أن يحاج هذا الرحل بمثل ذلك، ولكن إبراهيم عليه السلام، أراد أن يأتي بدليل آخر لا يحتاج إلى محاجة ولا مجادلة، قال إبراهيم : ] فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [ (البقرة الآية: 258) فنكص عن الجواب: ] فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ (البقرة الآية: 258) .(6/402)
فقوله تعالى: ] وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ (النحل الآية:125) أي الأحسن في الأسلوب والإقناع وبالتالي يجب علينا أن ندعو إلى الله مادام الإنسان قادراً على ذلك، ولكن الدعوة إلى الله فرض كفاية أي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإذا رأيت شخصاً منحرفاً وليس حولك من يدعوه صار الآن فرض عين عليك؛ لأن العلماء يقولون فرض الكفاية: إنه إذا لم يوجد سوى هذا الرجل تعين عليه.
* * *
25- سئل فضيلة الشيخ: ما فائدة تعلم طلاب العلم فرق المعتزلة والجهمية والخوارج مع عدم وجودها في هذا العصر؟
فأجاب فضيلته بقوله: تعلم فرق المبتدعة في هذا الزمان فيه فائدة وهي: أن نعرف مآخذ هذه الفرق لنرد عليهم إذا وجدوا، وهم موجودون فعلاً، وقوله السائل: إنه لا وجود لهم الآن مبني على علمه هو، ولكن المعلوم عندنا وعند غيرنا ممن يطلعون على أحوال الناس أن هذه الفرق موجودة وأن لها نشاطاً أيضاً في نشر بدعهم، ولذلك لابد من أن نتعلم هذه الآراء حتى نعرف زيفها ونعرف الحق ونرد على من يجادلون فيها.
* * *
26 - سئل فضيلة الشيخ: نحن طلاب العلم نحفظ الكثير من الآيات على سبيل الاستشهاد، وفي نهاية العام نكون قد نسينا الكثير منها، فهل ندخل في حكم من يعذبون بسبب نسيان ما حفظوه ؟
فأجاب قائلاً : نسيان القرآن له سببان:
الأول: ماتقتضيه الطبيعة.
والثاني: الإعراض عن القرآن وعدم المبالاة به.
فالأول لا يأثم به الإنسان ولا يعاقب عليه، فقد وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى بالناس ونسي آية، فلما انصرف ذكره بها أبي بن كعب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (( هلا كنت ذكرتنيها )) (1) وسمع رسول الله قارئاً يقرأ، فقال: (( يرحم الله فلاناً فقد ذكرني آية كنت أنسيتها ))
وهذا يدل على أن النسيان الذي يكون بمقتضى الطبيعة ليس فيه لوم على الإنسان.(6/403)
أما ما سببه الإعراض وعدم المبالاة فهذا قد يأثم به . وبعض الناس يكيد له الشيطان ويوسوس له إلا يحفظ القرآن لئلا ينساه ويقع في الإثم، والله سبحانه وتعالى يقول:] فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [ (النساء الآية: 76) فليحفظ الإنسان القرآن لأنه خير، وليؤمل عدم النسيان، والله سبحانه عند ظن عبده به.
ونظير هذا ما يستدل به بعض الناس بقول الله تعالى : ] لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [ (المائدة الآية: 101) فيترك السؤال والعلم والتعلم. ولكن كان هذا حين نزول الوحي والتشريع، فقد يسأل البعض عن أشياء سكت الله عنها فُتبين لهم فيكون فيها تشديد على المسلمين بالإيجاب أو التحريم. أما الآن فلا تغيير في الأحكام ولا نقص فيها فيجب السؤال عن الدين .
* * *
27- سئل فضيلة الشيخ – غفر الله له -: قد يعلم الإنسان شيئاً ويأمر به غيره وهو نفسه لا يعمله سواء كان فرضاً أو نفلاً فهل يحل له أن يأمر غيره بما لا يعمل؟.
وهل يجب على المأمور امتثال أمره أم يحل له الاحتجاج عليه بعدم عمله ثم لا يعمل ما أمر به تبعاً لذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هنا أمران، الأمر الأول: هذا الذي يدعو إلى الخير وهو لا يفعله نقول له: قال الله – عز وجل:
] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ[ ] كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ[ (الصف الآيتان: 2 ، 3) وأنا أعجب كيف رجل يؤمن بأن هذا هو احلق، ويؤمن بأن التعبد لله به يقربه إليه ويؤمن بأنه عبد لله ثم لا يفعله فهذا شيء يعجب له ويدل على السفه وأنه محط التوبيخ واللوم لقوله تعالي: ] لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ[ . فنقول لهذا الرجل: أنت آثم بتركك العمل بما علمت وبما تدعو إليه، ولو بدأت بنفسك لكان ذلك من العقل والحكمة.(6/404)
أما الأمر الثاني: بالنسبة للمأمور فإنه لا يصح له أن يحتج على هذا الرجل بفعله فإذا أمره بخير وجب عليه القبول ، يجب أن يقبل الحق من كل من قال به ولا يأنف من العلم.
* * *
28- وسئل فضيلته : كيف نرد على من قال: إن العلماء السابقين لم تكن لديهم المشاغل التي تؤثر على حفظهم كما هو حاصل لعلماء هذا الزمان، ومنهم من يكون ليس لديهم إلا التفرغ لطلب العلم وحفظه والجلوس بلا مشاغل، أما الآن فكثرت المشاغل الدنيوية التي تأخذ كل الوقت، والإنسان قد لا يستطيع الاستغناء عن هذه المشاغل؟
فأجاب – حفظه الله - : أقول لطالب العلم ما دمت أنك قد فرغت نفسك للعلم فكن طالب علم حقاً ، وأعتقد أن البناء الذي فرغ نفسه للبناء لا يلتفت إلى عمل آخر، بل يلتفت إلى مهمته التي كرس نفسه لها ورأى أنها هي الخير له، فما دمت تعلم أن طلب العلم هو الخير وتريد أن تتخذه طريقاً فلا تلتفت إلى غيره.
وفي ظني أن الرجل إذا ثابر مع الإيمان والإخلاص وصدق النية فإن الله – سبحانه وتعالى – يعينه ولا يعبأ بهذه المشكلات، والله – عز وجل – يقول:] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [ (الطلاق الآية: 4) ] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [ ] وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [ (الطلاق الآيتان: 2 ، 3) فعليك بصدق النية في الطلب تجد أن الأمر سهل وميسر.
* * *
29- وسئل الشيخ: بماذا تنصح من يريد طلب العلم الشرعي ولكنه بعيد عن العلماء مع العلم بأن لديه مجموعة كتب منها الأصول والمختصرات ؟(6/405)
فأجاب بقوله: أنصحه بأن يثابر على طلب العلم ويستعين بالله – عز وجل – ثم بأهل العلم، لأن تلقي الإنسان العلم على يدي العالم يختصر له الزمن بدلاً من أن يذهب ليراجع عدة كتب وتختلف عليه الآراء، ولست أقول كمن يقول، أنه لا يمكن إدراك العلم إلا على عالم أو على شيخ فهذا ليس بصحيح، لأن الواقع يكذبه لكن دراستك علىالشيخ تُنورُ لك الطريق وتختصره.
* * *
30- سئل الشيخ: أنا طالب علم وأهلي عندهم ظروف مادية، فقال لي والدي اعمل علينا أفضل لك من طلب العلم فهل أترك دراستي للعلم؟ وهل العمل على الأهل أفضل أم لا ؟
فأجاب فضيلته: بقوله: لا شك أن طلب العلم أفضل، اللهم إلا في حالة الضرورة إلا أنه يمكنه أن يجمع بينهما ولا سيما أن الحالة الاقتصادية – والحمد لله – أن أكثر الناس قد أوسع الله عليهم فيمكن أن تقوم بحاجة أهلك فتتزوج امرأة يكون عندها بعض المؤنة وتكون مستمراً في طلب العلم .
* * *
31- وسئل فضيلة الشيخ: أنا طالب في الجامعة وكل دراستي نظريات غربية تنافي تعاليم الشرع فيما رأيكم إذا علمت أنني أنوي نقد مثل هذه النظريات ونفع الأمة الإسلامية في دراستي الحالية وبعد تخرجي ؟
فأجاب بقوله: أقول هذا لا شك أنه من الجاهد في سبيل الله، أن يدرس الإنسان هذه النظريات المخالفة للإسلام حتى يرد عليها عن علم.
ولهذا قال النبي e لمعاذ وقد أرسله إلى اليمن: (( إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب )) (1) فأخبره بحالهم كي يستعد لهم، وكذلك العلماء الذين درسوا هذه الأمور كشيخ الإسلام ابن تيمية درس من العلوم والنظريات الفلسفية وغيرها ما يستطيع أن يرد به على أصحابها.(6/406)
فإذا كنت تتعلم هذه الأمور للرد، وأنت واثق أن لديك المقدرة والحصانة على الرد بحيث لا تتأثر بها، بأن يكون لديك علم شرعي راسخ، ويكون لديك عبادة وتقوى فأرجو إن شاء الله تعالى أن يكون هذا خيراً لك ونفعاً للمسلمين، وأما إذا كنت ترد عليها بشيء غير مقبول أو ليس لديك دليل، فلا تنتهج هذا الطريق وكذلك إذا كنت تعرف نفسك أنك لست على يقين كامل وثبات راسخ فأنا أشير عليك أن تدع هذه الأمور لأنها خطيرة، ولا ينبغي للإنسان أن يتعرض للبلاء مع الخوف منه .
* * *
32- وسئل فضيلته: أنا طالب أحب أن آخذ درجات عالية ومعدلاً ممتازاً وأنا مع ذلك نيتي طيبة فما رأيك في الفرح بالدرجات العالية والغضب من الدرجات الضعيفة، هل في هذا خدس للإخلاص ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر إن شاء الله أنه ليس في هذا خدش للإخلاص؛لأن هذا أمر طبيعي أن الإنسان يُسر بالحسنة ويُساء بالسيئة ، والله تعالى بين أن الأشياء التي لا تلائم المرء سماها سيئة فلا بد أن تسؤه وكذلك الحسنة لا بد أن تسره.
فهذا لا يؤثر على إخلاصك إذا كان الأمر كما قلت عندك نية طيبة، أما إذا كان همك هو الدرجات أو الشهادة فهذا شيء آخر، فها هو عبد الله بن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لما ألقى النبي e على أصحابه مسألة قال: (( أن في الشجر شجرة تشبه المؤمن فجعل الصحابة – رضي الله عنهم – يخوضون في أشجار البوادي قال ابن عمر: فوقع في قلبي أنها النخلة ولكني كنت صغيراً فما أحبب أن أتكلم )) (1) ، وعمر رضي الله عنه – قال لابنه: (( وددت أنك قلتها)) ، وهذا يدل على أن فرح الإنسان بنجاح وما أشبه ذلك لا يضر.
* * *
33- وسئل الشيخ – غفر الله له -: ما رأي فضيلتكم في تعلم طالب العلم اللغة الإنجليزية لا سيما في سبيل استخدامها في الدعوة إلى الله ؟(6/407)
فأجاب فضيلته: بقوله: رأينا في تعلم اللغة الإنجليزية أنها وسيلة لا شك، وتكون وسيلة طيبة إذا كانت الأهداف طيبة، وتكون رديئة إذا كانت لأهداف رديئة، لكن الشيء الذي يجب اجتنابه أن تتخذ بديلاً عن اللغة العربية، فإن هذا لا يجوز، وقد سمعنا بعض السفهاء يتكلم بها بدلاً من اللغة العربية، حتى إن بعض السفهاء المغرمين الذين اعتبرهم أذناباً لغيرهم كانوا يعلمون أولادهم تحية غير المسلمين يعلمونهم أن يقولوا بأي باي عند الوداع وما أشبه ذلك.
لأن إبدال اللغة العربية التي هي لغة القرآن وأشرف اللغات بهذه اللغة محرم وقد صح عن السلف النهي عن رطانة الأعاجم وهم من سوى العرب.
أما استعمالها وسيلة للدعوة فإنه لا شك أن يكون واجباً أحياناً، وأنا لم أتعلمها وأتمني أنني كنت تعلمتها ووجدت في بعض الأحيان أني أضطر إليها حتى المترجم لا يمكن أن يعبر عما في قلبي تماما.
وأذكر لكم قصة حديث في مسجد المطار بجدة مع رجال التوعية الإسلامية نتحدث بعد صلاة الفجر عن مذهب التيجاني وأنه مذهب باطل وكفر بالإسلام وجعلت أتكلم بما أعلم عنه فجاءني رجل فقال: أريد أن تأذن لي أن أترجم بلغة الهوسا. فقلت: لا مانع فترجم فدخل رجل مسرع فقال: هذا الرجل الذي يترجم عنك يمدح التيجانية فدهشت وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلوا كنت أعلم مثل هذه اللغة ما كنت أحتاج إلى مثل هؤلاء الذين يخدعون، فالحاصل أن معرفة لغة من تخاطب لا شك أنا مهمة في إيصال المعلومات قال الله تعالي ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [ (ابراهيم: الآية: 4)
34- وسئل – حفظه الله تعالى -: أنا متخصص في علم الكيمياء وأتابع البحوث والدراسات التي تصدر في هذا المجال لكي أستفيد وأفيد من ذلك في أي مجال أعمل به سواء مدرسة أو مصنعاً مع العلم بأن ذلك يشغلني عن طلب العلم والشرعي فكيف أوفق بينهما ؟.(6/408)
فأجاب بقوله : أرى أن التوفيق بين العلمين يمكن بحيث تركز على العلم الشرعي ويكون هو الأصل لديك، ويكون طلب العلم الآخر على سبيل الفضول ثم مع ذلك تمارس هذا العلم الثاني من أجل مصلحة تعود عليك وعلى أمتك بالخير مثل أتستدل بدراسة هذا العلم على كمال حكمة الله – عز وجل – وربط الأسباب بمسبباتها وما إلى ذلك مما يعرفه غيرنا ولا نعرفه في هذه العلوم، فأنا أقول استمر في طلب العلم الشرعي وأطلب الآخر لكن اجعل الأهم والمركز عليه هو العلم الشرعي.
35- سئل فضيلة الشيخ: أي كتب تفسير القرآن تنصح بقراءتها؟ وحفظ القرآن، إذا حفظ الإنسان ونسي فهل هناك وعيد فيه ؟ وكيف يحفظ الإنسان ويحافظ على ما حفظ؟
فأجاب بقوله: القرآن وعلومه متنوعة، وكل مفسر يفُسر القرآن يتناول طرفاً من هذه العلوم ولا يمكن أن يكون تفسيراً واحداً يتناول القرآن من جميع الجوانب.
فمن العلماء من ركز في تفسيره على التفسير الأثري – أي على ما يؤثر عن الصحابة والتابعين – كابن جرير وابن كثير.
ومنهم من ركز على التفسير النظري كالزمخشري وغيره ولكن أنا أرى أن يفسر الآية هو بنفسه أولاً – أي يكرر في نفسه أن هذا هو معنى الآية – ثم بعد ذلك يراجع ما كتبه العلماء فيها؛ لأن هذا يفيده أن يكون قوياً في التفسير غير عالة على غيره، وكلام الله –عز وجل – منذ بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ] بلسان عربي مبين [
وإن كان يجب الرجوع إلى تفسير الصحابة؛ لأنهم أدرى الناس بمعانيه، ثم إلى كتب المفسرين التابعين، لكن مع ذلك لا أحد يستوعب كلام الله - عز وجل .
فالذي أرى أن الطريقة المثلى أن يكرر الإنسان تفسير الآية في نفسه، ثم بعد ذلك يراجع كلام المفسرين فإذا وجده مطابقاً فهذا مما يُمكنه من تفسير القرآن وييسره له وإن وجده مخالفاً رجع إلى الصواب.(6/409)
وأما حفظ القرآن فطريقة حفظه تختلف من شخص لآخر، بعض الناس يحفظ القرآن آية آية بمعنى أنه يحفظ آية يقرأها أولاً ثم يرددها ثانياً وثالثاً حتى يحفظها ثم يحفظ التي بعدها ثم يكمل ثمن أو ربع الجزء أو ما أشبه ذلك، وبعض الناس يقرأ إلى الثمن جميعاً ويردده حتى يحفظه ومثل هذا لا يمكن أن نحكم عليه بقاعدة عامة فنقول للإنسان استعمل ما تراه مناسباً لك في حفظ القرآن.
لكن المهم أن يكون عندك علم لما حفظت متى أردت الرجوع إليه، وأحسن ما رأيت في العلم أن الإنسان إذا حفظ شيئاً اليوم يقرأه مبكراً الصباح التالي فإن هذا يعين كثيراً على حفظ ما حفظه في اليوم الأول هذا شيء فعلته أنا فإن هذا يعين على الحفظ الجيد.
أما الوعيد على من ينسى ، قال الإمام أحمد: (( ما أشد ما ورد فيه)) أي حفظ آية ونسيها والمراد بذلك من أعرض عنها حتى تركها، وأما من نسيها لسبب طبيعي أو لأسباب كانت واجبة أشغلته فإن هذا لا يلحق به إثم ] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا[ (البقرة الآية: 286) .
وقد ثبت عن النبي e أنه صلى بأصحابه فنسي آية فذكره أحد الصحابة بها بعد الصلاة فقال: (( هلا كنت ذكرتني بها )) فالإنسان الذي ينساه تهاوناً به وإعراضاً عنه لا شك أنه خاسر وأنه مستحق الإثم، وأما الذي ينساه لشيء واجب عليه أوجبه الله – سبحانه وتعالى – عليه أو نسياناً طبيعياً فهذا لا يلحقه شيء .
* * *
فأجاب فضيلته: بقوله: لا شك أنه من خير الكتب ؛ لأن فيه مسائل كثيرة مقرونة بالأدلة، لكنه لا يسلم من الأخطاء،وكما قال ابن رجب – رحمه الله – في مقدمة القواعد الفقهية، قال (( يأبي الله العصمة لكتاب غير كتابه ولكن المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه))، الكتاب لا شك أنه نافع لكن لا أرى أن يقتنيه إلا طالب علم يميز بين الصحيح والضعيف ؛ لأن به مسائل ضعيفة كثيرة.(6/410)
ومن ذلك القول باستحباب صلاة التسبيح (1) فإن صلاة التسبيح هذه قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – إن حديثها كذب، وقال إنها لا يستحبها أحد من الأئمة، ولما سئل عنها الإمام أحمد نفض يده كالمنكر لها .
37- وسئل -حفظه الله تعالى -: في هذا الزمن يجرى تسمية بعض العلوم التجريبية بالعلم حتى إن المدارس الثانوية سمت بعلمي وأدبي، فهل هذا صحيح؟ إضافة لذلك إن هذا التقسيم في المدارس يعلق بأذان الطلاب مما يؤثر عليهم مستقبلاً؟
فأجاب فضيلته: بقوله: هذا التقسيم إلى علمي وأدبي هو اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح؛ لأنهم يرون أن المواد العلمية هي ما يتعلق بعلم الكون والأحياء والنباتات وما أشبه ذلك ، ولكن الذي يجب أن نفهمه أن هذا ليس هو العلم الذي حٌثّ عليه وأثني على طلبيه، فإن العلم الذي أثنى الله على أصحابه، والذي أصحابه ، والذي أصحابه هم أهل خشية الله، إنما هو علم الشريعة فقط، وأما العلوم الأخرى فإنها إن كانت نافعة فإنها تكون مطلوبة لا لذاتها ولكن لما يرجى فيها من نفع ، وأما إذا كانت ضارة وجب اجتنابها، وأما إذا كانت غير نافعة ولا ضارة فإن الإنسان لا ينبغي أن يضيع وقته فيها.
38- وسئل أعلى الله درجته في المهديين - : هل يعذر الشخص بعدم طلبه للعلم بسبب انشغاله بدراسته التي ليس بها طلب للعلم الشرعي أو بسبب عمله أو غير ذلك؟
فأجاب فضيلته: بقوله: طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون واجباً على الإنسان عيناً أي فرض عين كما لو أراد الإنسان أن يتعبد الله بعبادة فإنه يجب عليه أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة.
وعلى هذا ، فهذا الذي يشغله عن طلب العلم الشرعي حاجة أهله أو غير ذلك من الصوارف مع محافظة على ما يجب الحفاظ عليه من العبادة نقول: إن هذا معذور ولا حرج عليه ولكن ينبغي أن يتعلم من العلم الشرعي بقدر ما يستطيع.
* * *(6/411)
39- سئل فضيلة الشيخ: ما المقصود بالعلماء في قوله تعالي: ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ ؟
فأجاب بقوله: المقصود بهم العلماء الذين يوصلهم علمهم إلى خشية الله، وليس المراد بالعلماء من علموا شيئاً من أسرار الكون كأن يعلموا شيئاً من أسرار الفلك وما أشبه ذلك أو ما يسمى بالإعجاز العلمي، فالإعجاز العلمي في الحقيقة لا ننكره، لا ننكر أن في القران أشياء ظهر بيانها في الأزمنة المتأخرة لكن غالى بعض الناس في الإعجاز العلمي حتى رأينا من جعل القرآن كأنه كتاب رياضة وهذا خطأ، فنقول: إن المغالاة في إثبات الإعجاز العلمي لا ينبغي لأن هذه قد تكون مبنية على نظريات والنظريات تختلف، فإذا جعلنا القرآن دالاً على هذه النظرية ثم تبين بعد أن هذه النظرية خطأ معنى ذلك أن دلالة القرآن صارت خاطئة، وهذه مسألة خطيرة جداً.
والآن يا إخواني : اعتنى في الكتاب والسنة ببيان ما ينفع الناس من العبادات والمعاملات ولهذا بين دقيقها وجليلها حتى آداب الأكل والجلوس والدخول وغيرها. لكن علم الكون هل جاء على سبيل التفصيل ؟ ولذلك فأنا أخشى من انهماك الناس في الإعجاز العلمي أن يشتغلوا به عما هو أهم، إن الشي الأهم هو تحقيق العبادة لأن القرآن نزل بهذا، قال الله تعالي: ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [ (الذريات، الآية: 56)
أما علماء الكون الذين وصلوا إلى ما وصلوا إليه فننظر إن اهتدوا بما وصلوا إليه من العلم واتقوا الله – عز وجل – وأخذوا بالإسلام صاروا من علماء المسلمين الذين يخشون الله، وإن بقوا على كفرهم وقالوا إن هذا الكون له محدث فإن هذا لا يعدو أن يكونوا قد خرجوا من كلامهم الأول إلى كلام لا يستفيدون منه، فكل يعلم أن لهنذا الكون محدثاً؛ لأن هذا الكون إما أن يحدث نفسه، وإما أن يحدث صدفة، وإما أن يحدثه خالق وهو الله – عز وجل(6/412)
فكونه يحدث نفسه مستحيل ؛ لأن الشيء لا يخلق نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقاً ؟!
ولا يمكن أن تُوجد صدفة؛ لأن كل حادث لابد له من محدث، ولأن وجوده على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعاً باثاً أن يكون وجوده صدقة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظماً حال بقائه وتطوره ؟ !
وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها ، ولا أن تُوجد صدفة تعينً أن يكون لها مٌوجد وهو الله رب العالمين.
* * *
40- سئل الشيخ – غفر الله له -: هل تعليم الطالب الرياضيات إذا كان الشخص ينوي بها وجه الله له أجر أم لا ؟
فأجاب فضيلته: بقوله: إذا كانت هذه الرياضيات ما تنفع المسلمين في معاشهم ونوى الشخص بذلك نفع الناس بها فإنه يؤجر على نيته، ولكنها ليست كالعلوم الشرعية فإنها إذا كانت من المباحات تكون وسيلة؛ لأن القاعدة الشرعية أن المباح قسم واسع فقد يكون حراماً وقد يكو مكروهاً وقد يكون مستحباً وقد يكون واجباً.
ونقول مثلاً : أن الأصل في البيع الحلال، ولكن قد يكون مكروهاً، فإذا أراد شخص أن يشتري منك شيئاً ينقذ به حياته مثل الطعام والشراب فما حكم البيع ؟ الحكم واجب، وشخص آخر أراد أن يشتري منك عنباً ليجعله خمراً فهذا البيع حرام، وشخص آخر أراد أن يشتري ماء ليتوضأ به وليس عنده ماء فالشراء واجب ؛ فعلى هذا نقول: إن المباح إذا كان وسيلة لأمر مشروع كان مشروعاً وإذا كان ذريعة لأمر محرّم كان حراماً.
* * *
41- وسئل فضيلة الشيخ : بعض الشباب يريدون أن يتعلموا الطب وبعض العلوم الأخرى ولكن هناك عوائق مثل الاختلاط والسفر إلى بلاد الخارج فما الحل؟ وما نصيحتكم لهؤلاء الشباب ؟(6/413)
فأجاب فضيلته: بقوله: نصيحتي لهؤلاء أن يتعلموا الطب لأننا في بلادنا في حاجة شديدة إليه، وأما مسألة الاختلاط فإنه هنا في بلادنا والحمد لله يمكن أن يتقي الإنسان ذلك بقدر الاستطاعة.
وأما السفر إلى بلاد الكفار فلا أرى جواز السف إلا بشروط :
الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات ؛ لأن هناك في لبلاد الكفار يوردون على أبناء المسلمين الشبهات حتى يردوهم عن دينهم.
الثاني: أن يكون عند الإنسان دين يدفع به الشهوات، فلا يذهب إلى هناك وهو ضعيف الدين ، فتغلبه الشهوات فتدفع به إلى الهلاك.
الثالث: أن يكون محتاجاً إلى السفر بحيث لا يوجد هذا التخصص في بلاد الإسلام.
فهذه الشروط الثلاثة إذا تحققت فليذهب، فإن تخلف واحد منها فلا يسافر،لأن المحافظة على الدين أهم من المحافظة على غيره (1)
42– سئل فضيلته بقوله: نعم، فهم اللغة العربية مهم سواء في قواعد الإعراب أو قواعد البلاغة، كلها مهمة ولكن بناء على بناء على أننا والحمد الله عرب فإنه يمكننا أن نتعلم دون أن نعرف قواعد اللغة العربية، لكن من الكمال أن يتعلم الإنسان قواد اللغة العربية، فأنا أحدث على تعلم اللغة العربية في جميع قواعدها
* * *
43- سئل فضيلة الشيخ: أيهما أفضل: التفرغ للدعوة إلى الله – عز وجل – أم التفرغ لطلب العلم؟
فأجاب قائلاً: طلب العلم أفضل وأولى، وبإمكان طالب العلم أن يدعو وهو يطلب العلم، ولا يمكن أن يقوم بالدعوة إلى الله وهو على غير علم، قال الله تعالى: ] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [ (يوسف: الآية 108) فكيف يكون هناك دعوة بلا علم؟ ولا أحد دعا بدون علم أبداً ، ومن يدعوا بدون علم لا يوفق.
* * *(6/414)
44- سئل فضيلة الشيخ : إذا كان آفة العلم النسيان فما الأمور أو الطرق التي تعين على ضبط العلم: أن يهتدي الإنسان بعلمه قال تعالي:] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُم [ (محمد، الآية: 17)
فإذا عمل العالم بعلمه، ازداد علماً وأتي تقوى، أي عبادة وخشية.
ومنها: أن يفرغ قلبه للعلم بحيث لا يتشاغل بغيره عنه بل يكون هو همه وهاجسه.
ومنها: أن يتعاهده بالحفظ والمذاكرة.
ومنها: أن يستحضر الحكم ودليله عند كل عمل يقوم به.
ومنها: أن يكب على طلب العلم فلا يجعل طلب العلم عند التفرغ فقط، ولهذا يقولون أعط العلم كلك يعطيك بعضه، وأعط العلم بعضك لا يعطيك شيئاً ، فلا بد من الإكباب على طلب العلم ليلاً ونهاراً، والمناقشة وتطبيق ما علمت على ما عملت حتى يبقى العلم.
* * *
45- سئل فضيلة الشيخ: ما توجيهكم – حفظكم الله تعالى – لطلاب العلم حيث يلاحظ الإهمال وعدم الجد مما له آثار سيئة في التحصيل العلمي؟
فأجاب بقوله: يجب على طلاب العلم أن يبذلوا غاية الجهد في تحصيل العلم، حتى يدركوا المعلومات إدراكاً قوياً، راسخاً في نفوسهم؛ لأنهم إذا اجتهدوا ,اخذوا العلوم شيئاً فشيئاً سهلت عليهم ورسخت في نفوسهم وسيطروا عليها سيطرة تامة، وإن أنتم يا طلاب العلم أهملتم وتهاونتم انطوى عنكم الزمن، وتراكمت عليكم الدروس، فأصبحتم عاجزين عن تصورها فضلاً عن تحقيقها فندمتم حين لا تنفع الندامة.
46- وسئل فضيلته: نرجو من سماحتكم – حفظكم الله تعالي – توجيه نصيحة لمن عمل في مجال التدريس ، عسى الله أن ينفع بها وجزاكم الله خيراً ؟(6/415)
فأجاب فضيلته: بقوله : نقول أهم ما يتعلق بالمعلمين أن يدركوا العلوم التي يعطونها للطلبة إدراكاً جيداً مستقراً في نفوسهم، قبل أن يقفوا أمام الطلبة حتى لا يقع الواحد منهم في حيرة عند سؤال التلاميذ له ومناقشتهم إياه فإن من أعظم المقومات الشخصية لدى الكلبة أن يكون المعلم قوياً في علمه وملاحظته، إن قوة المعلم العلمية في تقويم شخصيته لا تقل عن قوة ملاحظته، إن المعلم إذا لم يكن عنده علم ارتبك عند السؤال فينحط قدره أمام تلاميذه، وإن أجاب بالخطأ فلن يثقوا فيه بعد ذلك، إن انتهرهم عند السؤال والمناقشة فلن ينسجموا معه.(6/416)
إذن فلا بد للمعلم من إعداد واستعداد وتحمل وصبر، المعلم عند توجيه السؤال له إن كان عنده علم راسخ في ذهنه مستقر في نفسه أجاب بكل سهولة وانطلاق وإلا فإنه لا يخلو بعد ذلك من هذه الأمور الثلاثة السابقة وكل 1لك ينافي الآداب التي ينبغي أن يكون المعلم عليها، وإذا كان على المعلم أن يدرك العلم الذي سيلقيه أمام الطلبة فإن عليه أن يحرص على حُسن إلقائه إليهم بأن يسلك أسهل الطرق في إيضاح المعاني وضرب الأمثال ومناقشة الطلبة فيما ألقاه عليهم سابقاً، أما أن يأتي يقرأ الشيء عليهم قراءة ولا يدري من فهم ممن لم يفهم ولا يناقشهم فيما مضى فإن هذه الطريقة عقيمة جداً لا تثمر ثمراً ولا تكون نتيجتها طيبة وإذا كان المعلم يجتهد في الأمور العلمية تحصيلاً وعرضاً فعليه أن يجتهد في الأمور التعبدية، عليه أن يكون حسن النية والتوجيه فينوي بتعليمه الإحسان إلى طلبته وإرشادهم إلى ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وليجعل نفسه لهم بمنزلة الأب الرفيق الشفيق ليكون لتعليمه أثرٌُ بالغُ في نفوسهم وعلى المعلم أن يظهر أما طلبته بالمظهر اللائق من الأخلاق الفاضلة والآداب العالية التي أساسها تمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون قدوة لتلاميذه في العلم والعمل فإن التلميذ ربما يتلقى من معلمه من الأخلاق والآداب أكثر مما يتلقى منه من العلم من حيث التأثر لأن أخلاق المعلم وآدابه صورة مشهودة معبرة عما في نفسه ظاهرة في سلوكه فتنعكس هذه الصورة تماماً على إدارة التلاميذ.
إن على المعلم أن يتقي الله تعالى في نفسه، وفيمن ولاه الله عليهم من التلاميذ وأن يحرص غاية الحرص أن يمثل أمامهم بالأخلاق حتى يكو قدوة صالحة (( ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة )) (1) .(6/417)
وإنني أقول للمعلمين: إن عند التلاميذ ملاحظة دقيقة عجيبة على صغر سنهم، إن المعلم إذا أمرهم بشيء ثم رأوه يخالفهم فيما أمرهم به فإنهم سوف يضعون علامات الاستفهام أما وجه هذا المعلم، كيف يعلمنا بشيء ويأمنا به وهو يخالف ما كان يعلمنا ويأمرنا به، لا تستهن يا معلماً بالتلاميذ حتى ولو كانوا صغاراً فعندهم أمر الملاحظة من الأمور العجيبة.
* * *
47- وسئل فضيلة الشيخ: عن طال علم يريد أن يذهب مع إخوانه في الله لطلب العلم وكان الحائل بينه وبين الذهاب معهم هو أهله، والده وأمه، فما الحكم في خروج هذا الطالب ؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الطالب إن كان هناك ضرورة لبقائه عندهم فهذا أفضل مع أنه يمكنه أن يبقي عندهم مع طلب العلم، لأن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله ، والعلم من الجهاد وبالتالي فيكون بر الوالدين مقدماً عليه إذا كانا في حاجة إليه.
أما إذا لم يكونا في حاجة إليه ويتمكن من طلب العلم أكثر إذا خرج فلا حرج عليه أن يخرج في طلب العلم في هذه الحال، ولكنه مع هذا لا ينسى حق الوالدين في الرجوع إليهما وإقناعهما إذا رجع، وأما إذا علم كراهة الوالدين للعلم الشرعي فهؤلاء لا طاعة لهما، ولا ينبغي له أن يستأذن منهما إذا خرج؛ لأن الحامل لهما كراهة العلم الشرعي.
* * *
48ـ سئل فضيلة الشيخ ـ غفر الله له ـ: هل يجوز تعلم العلم من الكتب فقط دون العلماء وخاصة إذا كان يصعب تعلم العلم من العلماء لندرتهم؟ وما رأيك في القول القائل: من كان شيخه الكتاب كان خطؤه أكثر إلى الصواب؟(6/418)
فأجاب قائلاً: لا شك أن اعلم يحصل بطلبه عند العلماء وبطلبه في الكتب؛ لأن كتاب العالم هو العالم نفسه، فهو يحدثك من خلال كتابه، فإذا تعذر الطلب على أهل العلم، فإنه يطلب العلم من الكتب، ولكن تحصيل العلم عن طريق العلماء أقرب من تحصيله عن طريق الكتب؛ لأن الذي يحصل عن طريق الكتب يتعب أكثر ويحتاج إلى جهد كبير جداً، ومع ذلك فإنه قد تخفى عليه بعض الأمور كما في القواعد الشرعية التي قعدها أهل العلم والضوابط، فلابد أ، يكون له مرجع من أهل العلم بقدر الإمكان.
وأما قوله: "من كان دليله كتابه فخطؤه أكثر من صوابه" ، فهذا ليس صحيحاً على إطلاقه ولا فاسداً على إطلاقه، أما الإنسان الذي يأخذ العلم من أي كتاب يراه فلا شك أنه يخطئ كثيراً، وأما الذي يعتمد في تعلمه على كتب رجال معروفين بالثقة والأمانة والعلم فإن هذا لا يكثر خطؤه بل قد يكون مصيباً في أكثر ما يقول.
* * *
49ـ سئل فضيلة الشيخ: هل يجوز تفسير القرآن الكريم بالنظريات العلمية الحديثة؟(6/419)
فأجاب بقوله: تفسير القرآن بالنظريات العلمية له خطورته، وذلك إننا إذا فسرنا القرآن بتلك النظريات ثم جاءت نظريات أخرى بخلافها فمقتضى ذلك أن القرآن صار غير صحيح في نظر أعداء الإسلام؛ أما في نظر المسلمين فإنهم يقولون إن الخطأ من تصور هذا الذي فسر القرآن بذلك، لكن أعداء الإسلام يتربصون به الدوائر، ولهذا أنا أحذر غاية التحذير من التسرع في تفسير القرآن بهذه الأمور العلمية ولندع هذا الأمر للواقع، إذا ثبت في الواقع فلا حاجة إلى أن نقول القرآن قد أثبته، فالقرآن نزل للعبادة والأخلاق، والتدبر، يقول الله ـ عز وجل (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29) وليس لمثل هذه الأمور التي تدرك بالتجارب ويدركها الناس بعلومهم، ثم إنه قد يكون خطراً عظيماً فادحاً في تنزل القرآن عليها، أضرب لهذا مثلاً قوله تعالى:( )يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) (الرحمن:33) لما حصل سعود الناس إلى القمر ذهب بعض الناس ليفسر هذه الآية ونزلها على ما حدث وقال: إن المراد بالسلطان العلم، وأنهم بعلمهم نفذوا من أقطار الأرض وتعدوا الجاذبية وهذا خطأ ولا يجوز أن يفسر القرآن به وذلك لأنك إذا فسرت القرآن بمعنى فمقتضى ذلك أنك شهدت بأ، الله أراده وهذه شهادة عظيمة ستسأل عنها.
ومن تدبر الآية وجد أن هذا التفسير باطل لأن الآية سيقت في بيان أحوال الناس وما يؤول إليه أمرهم، اقرأ سورة الرحمن تجد أن هذه الآية ذُكرت بعد قوله تعالى: : ()كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)( الرحمن الايات 26 - 28 )
فلنسأل هل هؤلاء القوم نفذوا من أقطار السموات؟(6/420)
الجواب: لا، والله يقول: (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض) .
ثانياً: هل أرسل عليهم شواظ من نار ونحاس؟
والجواب: لا. إذن فالآية لا يصح أن تفسر بما فسر به هؤلاء، ونقول: إن وصول هؤلاء إلى ما وصولوا إليه هو من العلوم التجريبية التي أدركوها بتجاربهم، أما أن نُحرِّف القرآن لنخضعه للدلالة على هذا فهذا ليس بصحيح ولا يجوز.
* * *
50ـ سئل الشيخ : ذكرتم ـ جزاكم الله خيراً ـ أن الاعتماد على أقوال الرجال خطأ يضر طالب العلم فهل يفهم من هذا عدم التمذهب أو الرجوع إلى مذهب معين فيما يشكل من أحكام ؟
فأجاب فضيلته بقوله : التمذهب بمذهب معين إذا كان المقصود منه أن الإنسان يلتزم بهذا المذهب معرضاً عما سواه سواء كان الصواب في مذهبه أو مذهب غيره فهذا لا يجوز ولا أقول به .
أما إذا كان الإنسان يريد أن ينتسب إلى مذهب معين لينتفع بما فيه من القواعد والضوابط ولكنه يرد ذلك إلى الكتاب والسنة، وإذا تبين له الرجحان في مذهب آخر ذهب إليه فهذا لا بأس به ، والعلماء المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره هم من هذا النوع هم محققون ولهم مذهب معين ولكنهم لا يخالفون الدليل إذا تبين لهم .
* *
51ـ سئل الشيخ: هل حديث " كل أمر ذي بال لم يبدأ ببسم الله ... إلى آخر الحديث " حديث صحيح لأنه يكثر في مؤلفات العلماء؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الحديث اختلف العلماء في صحته، فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي، ومنهم من ضعفه، ولكن تلقي العلماء له بالقبول ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن له أصلاً، فالذي ينبغي للإنسان التسمية على كل الأمور المهمة، أو البداية بحمده الله ـ عز وجل ـ .
* * *
52ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ: أيهما أفضل: مخالطة الناس بعد العشاء لتعليمهم وإرشادهم ونصحهم بحيث لا يمكن قيام الليل أو اعتزالهم حتى يتم قيام الليل؟(6/421)
فأجاب قائلاً : طلب العلم أفضل من قيام الليل؛ لأن طلب العلم كما قال الإمام أحمد:"لا يَعدلُهُ شيء لمن صحته نيته" قالوا: كيف ذلك؟ قال: "ينوي به رفع الجهل عن نفسه وعن غيره"، فإذا كان الإنسان يسهر في أول الليل في طلب العلم ابتغاء لوجه الله سواء كان يدرُسه أو يدرِّسه أو يعلِّمه ثم يقول الليل فهو أفضل لكن إذا تزاحم الأمران فطلب العلم الشرعي أفضل وأولى، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة أن يوتر قبل أن ينام، قال العلماء: وسبب ذلك أن أبا هريرة كان يحفظ أحاديث الرسول أول الليل وينام آخر
الليل، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يوتر قبل أن ينام ([1]) .
* * *
53 ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ ماذا يجب على تجاه أحد الأساتذة عندما يخطئ وخصوصاً في المواد الدينية وأنا متأكد من الجواب الصحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا سؤال مهم حيث نجد أن بعض الأساتذة لا يريد لأحد أن يخطئه مهما ارتكب من الخطأ، وهذا ليس بصحيح، فكل إنسان معرض للخطأ، والإنسان إذا أخطأ ونُبّه فهذا من نعمة الله عليه، حتى لا يغتر الناس بخطئه، ولكن ينبغي للطالب أن يكون عنده شيء من اللباقة، فلا يقوم أمام الطلبة يرد على هذا المدرس، فهذا خلاف الأدب، ولكن يكون ذلك بعد انتهاء الدرس، فإن اقتنع المدرس فعليه أن يعيد ذلك أمام الطلبة في الدرس المقبل وأن لم يقتنع فعلى الطالب أن يقوم أمام الطلبة في الدرس المقبل، ليقول يا أستاذ إنك قلت كذا وكذا وهذا ليس بصحيح.
* * *
54ـ وسئل ـ جزاه الله خيراً ـ: هل يجوز إلقاء التحية على مدرس غير مسلم في الفصل أو خارجه؟(6/422)
فأجاب فضيلته بقوله: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام"(1) ، وكان اليهود يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: السام عليكم والسام معناه الموت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول وعليكم (2) فأنت لا تبدأه بالسلام، فإذا سلم وبدأ فردّ عليه وعليكم، إلا أن ابن القيم رحمه الله ـ ذكر في أحكام أهل الذمة أن الكافر إذا علمنا أنه قال السلام عليكم فلنا أن نقول وعليكم السلام.
* * *
55ـ وسُئل فضيلة الشيخ: أمامي مجال لدخول كلية علمية فهل أدخلها لنفع المسلمين أم أسلك المجال في كلية الشريعة؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً.
فأجاب بقوله: الذي أرى أن أفضل الكليات في الجامعات هي الكليات الدينية، وأما المواد الأخرى فربما يقوم بها رجل آخر، لا سيما من كانت له رغبة في دراسة العلوم الدينية، ومادام عندك رغبة في دخول كلية الشريعة فإن ذلك من أفضل.
* * *
56ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: ما سبب توقف العالم عن الفتوى؟
فأجاب فضيلته بقوله : توقف العالم عن الفتوى إذا كان أهلاً للفتوى وعنده علم قد يكون لتعارض الأدلة عنده، وقد يكون لظنه أن هذا المستفتي متلاعب؛ لأن بعض المستفتين لا يستفتي للحق إنما يريد التلاعب والنظر فيما عند هذا العالم، والعالم الثاني، والعالم الثالث وهكذا، فيتقوف العالم أو يعرض عن إجابة هذا السائل الذي يعلم أو يغلب على ظنه أنه متلاعب لينظر ماذا عند الناس ، أو يريد أن يضرب أقوال الناس بعضها ببعض، وهذا أشد فيذهب ويقول: قال العالم الفلاني كذا، وقال العالم الفلاني كذا، فهذا من أسباب توقف المفتي.
* * *
57ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: هناك من الناس من يفتي بغير علم، ما حكم ذلك؟(6/423)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل من أخطر الأمور وأعظمها إثماً، وقد قرن الله سبحانه وتعالى ـ القول عليه بلا علم ، بالشرك به ، فقال تعالى: ()قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33)
وهذا يشمل القول على الله في ذاته أو صفاته أو أفعاله أو شرائعه، فلا يحل لأحد أن يفتي بشيء حتى يعلم أن هذا هو شرع الله ـ عز وجل ـ وحتى تكون عنده أداة وملكة يعرف بها ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ يفتي
والمفتي معبرِّ عن الله ـ عز وجل ـ ومبلِّغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال قولاً وهو لا يعلم أو لا يغلب على ظنه ـ بعد النظر والاجتهاد والتأمل في الأدلة ـ فإنه يكون قد قال على وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قولاً بلا علم ، فيتأهب للعقوبة، فإن الله ـ عز وجل يقول : ()وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ) (العنكبوت:68)
* * *
58ـ سئل الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ: هل هناك دعاء لحفظ القرآن؟ وما طريقة حفظه ؟
فأجاب قائلاً : لا أعرف في ذلك دعاء يحفظ به القرآن إلا حديثاً، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم علمه علي بن أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ (1)، وفي صحته نظر ، قال عنه ابن كثير ـ رحمه الله تعالى:ـ إنه من البينّ غرابته بل نكارته .
وقال السيد محمد رشيد رضا ـ في التعليق عليه ـ: بل أسلوبه أسلوب الموضوعات لا أسلوب أفصح البشر محمد صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنه ـ ولا أسلوب عصرهما .
أ . هـ .(6/424)
وقال الذهبي: هذا الحديث منكر شاذ ، ولكن الطريق إلى حفظه هو: أن يواظب الإنسان على حفظه وللناس في حفظه طريقان:
أحدهما : أن يحفظه آية آية أو آيتين آيتين أو ثلاثاً ثلاثاًَ حسب طول الآيات وقصرها .
الثاني : أن يحفظه صفحة صفحة.
والناس يختلفون منهم من يفضل أن يحفظه صفحة صفحة يرددها حتى يحفظها ، ومنهم من يفضل أن يحفظ الآية ثم يرددها حتى يحفظها ثم يحفظ آية أخرى كذلك وهكذا حتى يتم .
ثم إنه أيضاً ينبغي سواء حفظ بالطريقة الأولى أو الثانية ألا يتجاوز شيئاً حتى يكون قد أتقنه لئلا يبني على غير أساس، وينبغي أن يستعيد ما حفظه كل يوم خصوصاً في الصباح، فإذا عرف أنه قد أجاد ما حفظه أخذ درساً جديداً.
* * *
59ـ سئل الشيخ : أريد أن أتعلم العلم الشرعي وأبدأ في التعلم ولا أعرف كيف أبدأ ، فبماذا تنصحوني في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: خير ممنهج لطالب العلم أن يبدأ الطالب بفهم كلام الله عز وجل ـ من كتب التفسير الموثوق بها كتفسير ابن كثير والبغوي ، ثم بفهم ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة من الكتب الحديثة الموثوقة كبلوغ المرام والمنتقى وأصول كتب الحديث الملتزمة بالصحيح كصحيحي البخاري ومسلم ثم بكتب العقيدة السليمة مثل العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم بكتب الفقه المختصرة ليتفقه بها على المذهب الذي يراه أقرب إلى الكتاب والسنة ، وحين يترقى في العلم يقرأ الكتب المطولة ليزداد بها علماً .
* * *
60ـ سئل الشيخ حفظه الله تعالى ـ: هل يجوز للمرء أن يترك عمله ويتفرغ لطلب العلم ، فيكون عالة على أبيه وأخيه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال بل هو من الجهاد في سبيل الله ، ولا سيما في وقتنا هذا حين(6/425)
بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر ، وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم ، وبدأ الجدل من كثير من الناس ، فهذه ثلاثة أمور كلها تحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم:
أولاً: بدع بدأت تظهر شرورها.
ثانياً: أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم .
ثالثاً: جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها بغير علم
فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع وعندهم أيضاً فقه في دين الله ، وعندهم حكمة في توجيه عباد الله؛ لأن كثيراً من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ولا يهمهم النظر إلى اصلاح الخلق وإلى تربيتهم، وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا صار وسيلة إلى شرٍّ أكبر لا يعلم مداه إلا الله.
وهاهم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أحياناً يُلْزَمون بأشياء قد تكون النصوص دالة على عدم الإلزام بها من أجل تربية الخلق .
عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ألزم الناس بإمضاء الطلاق الثلاث، كان الطلاق الثلاث في عهد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر ، كان الطلاق الثلاثـ أي في مجلس واحد ـ واحداً ، لكن هو محرم أي طلاق المرأة ثلاثاً في مجلس واحد حرام ، لأنه تعدى حدود الله ـ عز وجل ـ .
قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: "أرى الناس قد تتايعوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم"(1) ، فأمضاه عليهم ، وجعل الطلاق الثلاث ثلاثاً لا واحداً بعد أن مضى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبي بكر وسنتان من خلافته ـ رضي الله عنه ـ ألزم الناس بالطلاق الثلاث ، مع أن الإنسان لو راجع زوجته بعد هذا الطلاق لكان رجوعه صحيحاً في العهدين السابقين لعهد عمر وسنتين من خلافته ، لكن رأى أن المصلحة تقتضي إمضاء الطلاق الثلاث ومنع الإنسان من الرجوع إلى زوجته .(6/426)
أيضاً عقوبة الخمر في عهد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يؤتي بالرجل الشارب فيضرب بطرف الثوب أو بالجريد أو النعال نحواً من أربعين جلدة ، وفي عهد أبي بكر يجلد أربعين، وفي عهد عمري يجلد أربعين، لكنه لما كثير الشرب جمع الصحابة واستشارهم فقال عبد الرحمن بن عوف : أخف الحدود ثمانون، فجعل عمر عقوبة شارب الخمر ثمانين جلدة.(2) كل هذا من أجل إصلاح الخلق ، فينبغي للمسلم أو المفتي والعالم في مثل هذه الأمور أن يراعي أحوال الناس وما يصلحهم .
* * *
61ـ وسئل الشيخ : طالب العلم المبتدئ هل يبدأ في طلب العلم بالبحث عن الأدلة أم يقلد في ذلك أئمة أحد المذاهب ؟ ما توجيه سماحتكم ـ حفظكم الله تعالى ـ ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الطالب المبتدئ في العلم يجب عليه البحث عن الدليل بقدر إمكانه؛ لأنه المطلوب الوصول إلى الدليل، ولأجل أن يحصل له التمرن على طلب الأدلة وكيفية الاستدلال فيكون سائراً إلى الله على بصيرة وبرهان، ولا يجوز له التقليد إلا لضرورة كما لو بحث فلم يستطع الوصول إلى نتيجة أو حدثت له حادثة تتطلب الفورية فلم يتمكن من معرفة الحكم بالدليل قبل فوات الحاجة إليها فله حينئذ أن يقلد بنيه أنه متى تبين له الدليل رجع إليه، وإذا اختلف عليه المفتون، فقيل يخيَّر، وقيل يأخذ بالأيسر لأنه الموافق لقوله تعالى )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(البقرة: من الآية185) . وقيل: يأخذ بالأشد لأنه أحوط وغيره مشتبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من أتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" (1). والأرجح أن يأخذ بما يغلب على ظنه أنه أقرب إلى الصواب لكون قائله أعلم وأورع، والله أعلم.
* * *
62ـ وسئل فضيلته: ما هي الكتب التي تنصح بها؟ ونرجو توجيه نصيحة للطلاب جزاكم الله خيراً.(6/427)
فأجاب فضيلته بقوله: من أحسن ما يطالعه الطلاب من الكتب ، كتب التفسير الموثوقة كتفسير ابن كثير، والشيخ عبد الرحمن السعدي، وكتب الحديث كفتح الباري شرح صحيح البخاري، وسبل السلام بلوغ المرام، ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ، ورياض الصالحين.
ننصح أبناءنا الطلبة بالحرص على العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق الحسنة، وكسب الوقت فيما فيه خيرهم وصلاحهم في دينهم ودنياهم ، وأن يمرِّنوا أنفسهم على فعل الجميل والصبر على الأمور التي فيها مصلحتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
* * *
63ـ وسئل ـ حفظه الله تعالى ـ: بماذا تنصح من بدأ في طلب العلم على كبر سنه؟ وإن لم يتيسر له شيخ يأخذ منه ويلازمه فهل ينفعه طلب العلم بلا شيخ؟
فأجاب فضيلته بقوله: نسأل الله تعالى أن يعين من أكرمه الله بالاتجاه إلى طلب العلم، ولكن العلم في ذاته صعب يحتاج إلى جهد كبير؛ لأننا نعلم أنه كلما تقدمت السن من الإنسان زاد حجمه وقل فهمه ، فهذا الرجل الذي بدأ الآن في طلب العلم ينبغي له أن يختار عالماً يثق بعلمه ليطلب العلم عليه؛ لأن طلب العلم عن طريق المشائخ أوفر وأقرب وأيسر، فهو أوفر لأن الشيخ عبارة عن موسوعة علمية، لا سيما الذي عنده علم نافع في النحو والتفسير والحديث والفقه وغيره.
فبدلاً من أن يحتاج إلى قراءة عشرين كتاباً يتيسر تحصيله من الشيخ ، وهو لذلك يكون أقصر زمناً، وهو أقرب للسلامة كذلك، لأنه ربما يعتمد على كتاب ويكون نهج مؤلفه مخالفاً لنهج السلف سواء في الاستدلال أو في الأحكام .
فننصح هذا الرجل الذي يريد طلب العلم على الكبر أن يلزم شيخاً موثوقاً، ويأخذ منه؛ لأن ذلك أوفر له، ولا ييأس، ولا يقول بلغت من الكبر عتيًّا؛ لأنه بذلك يَحرمُ نفسه من العلم.(6/428)
وقد ذُكر أن بعض أهل العلم دخل المسجد يوماً بعد صلاة الظهر فجلس، فقال لله أحد الناس: قم فصل ركعتين، فقام فصلى ركعتين ، وذات يوم دخل المسجد بعد صلاة العصر فكبر ليصلي ركعتين فقال له الرجل: لا تصلِّ فهذا وقت نهي، فقال : لا بد أن أطلب العلم، وبدأ في طلب العلم حتى صار إماماً ، فكان هذا الجهل سبباً لعلمه ، وإذا علم الله منك حسن النية ومنَّ عليك بالتوفيق فقد تجمع من العلم الشيء الكثير .
* * *
64ـ وسئل فضيلة الشيخ : ما هي نصيحتك لمن ينسى ما يقرأ ويتعلم ؟
فأجاب بقوله : أهم شيء في حفظ العلم أن يعمل الإنسان بحفظه ، لقوله الله تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد:17)
وقال )وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً )(مريم: من الآية76) . فكلما عمل الإنسان بعلمه زاده الله حفظاً وفهماً ، لعموم قوله( زادهم هدى)
وقد روي عن الشافعي ـ رحمه الله ـ قوله :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال أعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
ومن أسباب ذلك الإعراض عن الشواغل التي تأخذ بالفكر عن العلم؛ لأن الإنسان بشر إذا تشتت همته ضعفت قدرته على تحصيل العلم .
وكذلك كثرة البحث مع الزملاء بغرض الوصول للحق وليس للغلبة ولا شك الإخلاص من جملة ما يحفظ به العلم.
* * *
65ـ سئل فضيلة الشيخ: انتشرت الفتوى حتى صار الصغير يفتي، فما تعليقكم ـ غفر الله لكم ـ ؟(6/429)
فأجاب قائلاً : كان السلف ـ رحمهم الله ـ يتدافعون الفتوى لعظم أمرها ومسئوليتها وخوفاً من القول على الله بلا علم؛ لأن المفتي مخبر عن الله مبين لشرعه، فإن قال على الله بلا علم؛ لأ، المفتي مخبر عن الله مبين لشرعه، فإن قال على الله بلا علم فقد وقع فيما هو صنو للشرك، واستمع إلى قول الله تعالى )قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33) فقرن الله ـ سبحانه ـ القول عليه بلا علم بالشرك، وقال سبحانه)وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36) . فلا ينبغي أن يتسرع الإنسان في الفتوى ، بل ينتظر ويتدبر ويراجع ، فإن ضاق الوقت فيحول المسألة إلى من هو أعلم منه ليسلم من القول على الله بلا علم .
وإذا علم الله من نيته الإخلاص وإرادة الصلاح فسوف يصل إلى المرتبة التي يريدها بفتواه ، فمن اتقى الله فسيوفقه الله ويرفعه .
والذي يفتي بلا علم أضل من الجاهل ، فالجاهل يقول : لا أدري ويعرف قدر نفسه ، ويلتزم الصدق ، أما الذي يقارن نفسه بأعلام العلماء بل ربما فضل نفسه عليهم فيَضل ويُضل ويخطئ في مسائل يعرفها أصغر طالب علم فهذا شره عظيم وخطره كبير .
* * *
66ـ سئل فضيلة الشيخ : هل يجوز لطالب العلم أن يرجح بعض الآراء الفقهية على بعض ثم يلزم بها غيره؟
وهل له أن يأخذ بالرأي المرجوح في بعض الأحوال وهو يعلم الراجح؟(6/430)
فأجاب بقوله : إذا لم يتبين الحكم بياناً تامًّا لطالب العلم ويظل عنده شك منه، فله أن يلزم نفسه به احتياطاً، ولا يلزم غيره بذلك، لأنه ليس عنده دليل بين يكون حجة له أمام الله عز وجل ـ حين يحرِّم أو يوجب على عباد الله ما لم يثبت شرعاً ـ وكثيراً ما يتردد المجتهد في بعض الأشياء فيحب أن يطبقها على نفسه ويحتمل ما يكون فيها من المشقة، ولكنه يخشى من إلزام عباد الله بها .
ولذلك نقول : لا مانع أن يسلك الإنسان هذا المسلك، ولكنه لا يترك إعادة النظر مرة بعد أخرى حتى يتبين الأمر ويلزم الناس بمقتضى الدليل ولا يكون مقصراً في طلب الدليل فيكون مقصراً في بيان الشرع.
ولا يجوز له العمل بالمرجوح، بل يتعين عليه أن يعمل بالراجح إذا تبين له أنه راجح.
* * *
67ـ سئل فضيلة الشيخ: يلاحظ التقصير في العمل بالعلم، فما نصيحة فضيلتكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على من علم شيئاً صحيحاً من الشريعة أن يبلغه للناس لأن العمل بما علم الإنسان يستوجب حفظه بالعمل ويزيده الله تعالى بالقرآن نوراً فيكتسب من حفظ العلم بطريقة العمل به أن الله ـ عز وجل نوراً زائداً على ما عنده قال الله تعالى )وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (التوبة:124 ()وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:125) . ولهذا قيل : العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل .(6/431)
السلف الصالح في طلب العلم إذا علموا مسألة عملوا بها وكثير منهم لا يخفى عليه ما يقع من سرعة الامتثال والمبادرة للصحابة فيما عملوا حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم حث النساء على الصدقة في يوم العيد فجعل النساء يلقين ما على آذانهن من الحلي يلقينه في ثوب بلال رضي الله عنه ـ ولم يقلن إذا وصلنا إلى البيت تصدقنا ولن بادرن بذلك .
وكذلك الرجل الذي طرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه الذي كان من ذهب وألقاه في الأرض ما رجع إليه بعد أن علم التحريم حتى قيل له خذ خاتمك لتنتفع به فقال : والله لا آخذ خاتماً طرحه النبي صلى الله عليه وسلم بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال اخرجوا إلى بني قريظة : " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة"(1). فخرجوا بعد أن كانوا مرهقين حتى إن الصلاة أدركتهم في الطريق فمنهم من صلى خوفاً من فوات الوقت ومنهم من أخر لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" .
فأنظر يا أخي طالب العلم إلى سرعة امتثال الصحابة لما علموا من تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم فهل إذا طبقنا هذا الأمر على ما هو الواقع الآن فهل نحن على هذا الأمر في هذا الوقت؟ أعتقد أن هذا يفوت كثيراً وما أكثر ما علمنا أن الصلاة ركن من أركان الإسلام يكفر المرء بتركها وما أكثر ما علمنا أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان ولابد منه، وما أكثر ما علمنا أشياء كثيرة هي من المحظورات ومع ذلك نجد في طلبة العلم من ينتهك هذا المحظور، وكذلك من يترك هذا الواجب ولا يبالي به فهذا فرق عظيم بين طلب العلم في الماضي وطلبه في الحاضر.
* * *
68ـ وسئل فضيلة الشيخ: ما هي الطريقة الصحيحة في طلب العلم؟ هل يكون بحفظ المتون في علوم الشريعة أم فهمها؟ نرجو التوضيح حفظكم الله تعالى .(6/432)
فأجاب فضيلته بقوله: على طالب العلم أن يبدأ العلم شيئاً فشيئاً ، فعليك أن تبدأ في الأصول والقواعد والضوابط وما أشبه ذلك من المختصرات مع المتون؛ لأن المختصرات سُلّم إلى المطولات، لكن لابد من معرفة الأصول والقواعد ومن لم يعرف الأصول حُرم الوصول.
وكثير من طلبة العلم تجده يحفظ مسائل كثيرة لكن ما عنده أصل لو تأتيه مسألة واحدة شاذة عما كان يحفظه ما استطاع أن يعرف لها حلًّا ، لكن إذا عرف الضوابط والأصول استطاع أن حيكم على كل مسألة جزئية من مسائلة، ولهذا فأنا أحث إخواني على معرفة الأصول والضوابط والقواعد لما فيها من الفائدة العظيمة وهذا شيء جربناه وشاهدناه مع غيرنا على أن الأصول هي المهم، ومنها حفظ المختصرات ، وقد أراد بعض الناس أن يمكروا بنا قالوا لنا: إن الحفظ لا فائدة فيه، وإن المعنى هو الأصل، ولكن الحمد لله أنه أنقذنا من هذه الفكرة وحفظنا ما شاء الله أن نحفظ من متون النحو وأصول الفقه والتوحيد.
وعلى هذا فلا يُستهان بالحفظ ؛ فالحفظ هو الأصل، ولعل أحداً منكم الآن يذكر عبارات قرأها من قبل مدة طويلة، فالحفظ مهم لطالب العلم حتى وإن كان فيه من الصعوبة، ونسأل الله سبحانه وتعالى ـ أن تكونوا ممن اهتدوا بطريقة سلفنا الصالح وأن يجعلنا من الهداة المهتدين، إنه جواد كريم .
* * *
69ـ سئل فضيلة الشيخ : ما رأيكم بمن يترك الدعوة بحجة التفرغ لطلب العلم، وأنه لا يتمكن من الجمع بين الدعوة والعلم في بداية الطريق؛ لأنه يغلب على ظنه ترك العلم إذا اشتغل بالدعوة، ويرى أن يطلب العلم حتى إذا أخذ منه نصيباً اتجه لدعوة الناس وتعليمهم وإرشادهم؟(6/433)
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن الدعوة إلى الله تعالى مرتبة عالية ومقام عظيم؛ لأنه مقام الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وقد قال الله تعالى )وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33) وأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول )قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108) ومن المعلوم أن ه لا يمكن الدعوة بغير علم كما في قوله هنا (على بصيرة) وكيف يدعو الشخص إلى شيء لا يعلمه؟ ومن دعا إلى الله تعالى بغير علم كان قائلاً على الله ما لا يعلم، فالعلم هو المرتبة الأولى للدعوة.
ويمكن الجمع بين العلم والدعوة في بداية الطريق ونهايته، فإن تعذر الجمع كان البدءُ بالعلم؛ لأنه الأصل الذي ترتكز عليه الدعوة، قال البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه في الباب العاشر من كتاب العلم : باب العلم قبل القول والعمل واستدل بقوله تعالى )فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد:19) قال فبدأ العلم.
ومن ظن أنه لا يمكن الجمع بين العلم والدعوة فقد أخطأ، فإن الإنسان يمكنه أن يتعلم ويدعو أهله وجيرانه وأهل حارته وأهل بلدته وهو في طلب العلم .
والناس اليوم في حاجة بل في ضرورة إلى طلب العلم الراسخ المتمكن في النفوس المبني على الأصول الشرعية، وأما العلم السطحي الذي يعرف الإنسان به شيئاً من المسائل التي يتلقاها كما يتلقاها العامة دون معرفة لأصولها وما بنيت عليه فإنه علم قاصر جدًّا لا يتمكن الإنسان به من الدفاع عن الحق وقت الضرورة وجدال المبطلين.(6/434)
فالذي أنصح به شباب المسلمين أن يكرسوا جهودهم لطلب العلم مع القيام بالدعوة إلى الله بقدر استطاعتهم وعلى وجه لا يصدهم عن طلب العلم ؛ لأن طلب العلم جهاد في سبيل الله تعالى، ولهذا قال أهل العلم: إذا تفرغ شخص قادر على التكسب من أجل طلب العلم فإنه يعطي من الزكاة؛ لأن ذلك من الجهاد في سبيل الله بخلاف ما إذا تفرغ للعبادة، فإنه لا يعطي من الزكاة، لأنه قادر على التكسب.
* * *
70ـ سئل الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ: ما رأي فضيلتكم في تعلم التجويد والالتزام به؟
وهل صحيح ما يذكر عن فضيلتكم ـ حفظكم الله تعالى ـ من الوقوف بالتاء في نحو(الصلاة، الزكاة)؟
فأجاب قائلاً: لا أرى وجوب الالتزام بأحكام التجويد التي فصلت بكتب التجويد، وإنما أرى أنها من باب تحسين القراءة، وباب التحسين غير الإلزام، وقد ثبت في صحيح البخاري (1) عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنهما ـ أنه سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: كانت مدًّا، ثم قرأ"بسم الله الرحمن الرحيم"يمدّ ببسم الله، ويمد بالرحمن ، ويمد بالرحيم.
والمد هنا طبيعي لا يحتاج إلى تعمده والنص عليه هنا يدل على أنه فوق الطبيعي .
ولو قيل بأن العلم بأحكام التجويد المفصلة في كتب التجويد واجب للزم تأثيم أكثر المسلمين اليوم، ولقلنا لمن أراد التحدث باللغة الفصحى: طبق أحكام التجويد في نطقك بالحديث وكتب أهل العلم وتعليمك ومواعظك.
وليعلم أن القول بالوجوب يحتاج إلى دليل تبرأ به الذمة أمام الله ـ عز وجل ـ في إلزام عباده بما لا دليل على إلزامهم به من كتاب عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ في جواب له أن التجويد حسب القواعد المفصلة في كتب التجويد غير واجب.(6/435)
وقد اطلعت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه اله ـ حول حكم التجويد قال فيه ص50 مجلد 16 من مجموع ابن قاسم ـ رحمه الله ـ للفتاوى : "ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك ، فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق ب(أأنذرتهم) وضم الميم من (عليهم) ووصلها بالواو وكسر الهاء أو ضمها ونحو ذلك وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت" . ا.هـ .
وأما ما سمعتم من أني أقف بالتاء في نحو " الصلاة، الزكاة"
فغير صحيح بل أقف في هذا وأمثالها على الهاء.
* * *
71ـ سئل فضيلة الشيخ: بعض الناس يكتبون حرف(ص) بين قوسين ويقصدون به رمز لجملة صلى الله عليه وسلم فهل يصح استعمال حرف (ص) رمزاً لكلمة (صلى الله عليه وسلم )؟
فأجاب فضيلته بقوله: من آداب كتابة الحديث كما نص عليه علماء المصطلح ألا يرمز إلى هذه الجملة بحرف(ص)، وكذلك لا يعبر عنها بالنعت مثل(صلعم)، ولا ريب أن الرمز أو النعت يفوت الإنسان أجر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذا كتبها ثم قرأ الكتاب من بعده وتلا القارئ هذه الجملة صار للكاتب الأول نيل ثواب من قرأها، ولا يخفى علينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما ثبت عنه : "أن من صلى عليه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً" (1).
فلا ينبغي للمؤمن أن يحرم نفسه الثواب والأجر لمجرد أن يسرع في إنهاء ما كتبه.
* * *
72ـ سئل فضيلة الشيخ: عندما يطرح سؤال شرعي يتسابق عامة الناس إذا كانوا في مجلس مثلاً بالفتيا في تلك المسألة وبغير علم غالباً، فما تعليقكم على هذه الظاهرة؟
وهل يعتبر هنا الأمر من التقديم بين يدي الله ورسوله؟(6/436)
فأجاب بقوله: من المعلوم أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في دين الله بغير علم؛لأن الله تعالى يقول: ()قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33)
والواجب على الإنسان أن يكون ورعاً خائفاً من أن يقول على الله بغير علم، وليس هذا من الأمور الدنيوية التي للعقل فيها مجال، على أنها وإن كانت من الأمور الدنيوية التي للعقل فيها مجال، فإن الإنسان ينبغي له أن يتأنى وأن يتروى، وربما يكون الجواب الذي في نفسه يجيب به غيره فيكون هو كالحكم بين المجيبين وتكون كلمته هي الأخيرة الفاصلة، وما أكثر ما يتكلم الناس بآرائهم ، أعني غير المسائل الشرعية، فإذا تأنى الإنسان وتأخر ظهر له من الصواب من أجل تعدد الآراء ما لم يكن على باله.
ولهذا فإني أنصح كل إنسان أن يتأنى وأن يكون هو الأخير في التكلم ليكون كالحاكم بين هذه الآراء، ومن أجل أن تظهر له في الآراء المختلفة ما لم يظهر له قبل سماعها، هذا بالنسبة للأمور الدنيوية، أما الأمور الدينية فلا يجوز أبداً أن يتكلم الإنسان إلا بعلم يعلمه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو أقوال أهل العلم.
* * *
73ـ وسئل ـ أعلى الله درجته ـ: عن كتاب بدائع الزهور؟
فأجاب قائلاً: هذا الكتاب رأيت فيه أشياء كثيرة غير صحيحة، ولا أرى أن يقتنيه الإنسان ولا أن يجعله بين أيدي أهله لما فيه يمن الأشياء المنكرة.
* * *
74ـ وسئل أيضاً: عن كتاب تنبيه الغافلين؟(6/437)
فأجاب فضيلته بقوله: تنبيه الغافلين كتاب وعظ وغالب كتب المواعظ يكون فيها الضعيف، وربما الموضوع ويكون فيها حكايات غير صحيحة، يريد المؤلفون بها أن يرققوا القلوب وأن يبكوا العيون، ولكن هذا ليس بطريق سديد؛ لأن فيما جاء في كتاب الله وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواعظ كفاية.
ولا ينبغي أن يوعظ الناس بأشياء غير صحيحة سواء نُسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو نُسبت إلى قوم صالحين قد يكونوا أخطأوا فيما ذهبوا إليه من الأقوال والأعمال، والكتاب فيه أشياء لا بأس بها ومع ذلك فإنني لا أنصح أن يقرأه إلا الشخص الذي عنده علم وفهم وتمييز بين الصحيح والضعيف والموضوع .
* * *
75ـ وسئل فضيلته: ما هي مكانة وفضل أهل العلم في الإسلام؟
فأجاب فضيلته بقوله: مكانة أهل العلم أعظم مكانة؛ لأنهم ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولهذا يجب عليهم من بيان العلم والدعوة إلى الله ما لا يجب على غيرهم، وهم في الأرض كالنجوم في السماء يهدون الخلق الضالين التائهين، ويبينون لهم الحق ويحذرونهم من الشر ولذلك كانوا في الأرض كالغيث يصيب الأرض القاحلة فتنبت بإذن الله .
ويجب على أهل العلم من العمل والأخلاق والآداب ما لا يجب على غيرهم؛ لأنهم أسوة وقدوة فكانوا أحق الناس وأولى الناس بالتزام الشرع في آدابه وأخلاقه .
* * *
76ـ سئل فضيلة الشيخ: بعض الناس يعتقد أن دور علماء المسلمين مقصور على الأحكام الشرعية وأنه لا دخل لهم في العلوم الأخرى كالسياسة والاقتصاد ونحوهما، فما رأيكم في هذا الاعتقاد؟
فأجاب فضيلته بقوله: رأينا في هذا الاعتقاد أنه مبني على الجهل في حال العلماء، ولا ريب أن العلماء علماء الشريعة عندهم علم في الاقتصاد وفي السياسة، وفي كل ما يحتاجون إليه في العلوم الشرعية، وإذا شئت أن تعرف ما قلته فانظر إلى محمد رشيد رضا ـ رحمه الله صاحب مجلة المنار في تفسيره وفي غيرها من كتبه .(6/438)
وانظر أيضاً إلى من قبله من أهل العلم بالشرع من يكون مقدماً للأهم على المهم، فتجده في العلم الشرعي بلغ إلى نصيب كبير وفي العلوم الأخرى يكون أقل من ذلك بناء على قاعدة أن تبدأ بالأهم قبل المهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"(1).
* * *
77ـ سئل فضيلة الشيخ: متى يكون الخلاف في الدين معتبراً؟
وهل يكون الخلاف في كل مسألة أم له مواضع معينة؟
نرجو بيان ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً اعلم أن خلاف علماء الأمة الإسلامية إذا كان صادراً عن اجتهاد فإنه لا يضر من لم يوفق للصواب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد"(1) . ولكن من تبين له الحق وجب عليه اتباعه بكل حال، والاختلاف الذي يقع بين علماء الأمة الإسلامية لا يجوز أن يكون سباً لاختلاف القلوب؛ لأن اختلاف القلوب يحصل فيه مفاسد عظيمة كبيرة كما قال تعالى)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46)
والخلاف المعتبر بين العلماء والذي ينقل ويذكر هو الخلاف الذي له حظ من النظر، أما خلاف العامة الذين لا يفهمون ولا يفقهون فلا عبرة به ولهذا يجب على العامي أن يرجع إلى أهل العلم كما قال الله تعالى:(فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل ، الآية: 43
وأما قول السائل: هل يكون الخلاف في كل مسألة؟
فالجواب أن الخلاف قد يكون في بعض المسائل التي يختلف فيها الاجتهاد أو يكون بعض الناس أعلم من بعض في الاطلاع على نصوص الكتاب والسنة، أما المسائل الأصلية فإنها يقل فيها الخلاف.
* * *
78ـ وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم الاجتهاد في الإسلام؟
فأجاب قائلاً: الاجتهاد في الإسلام هو: بذل الجهد لإدراك حكم شرعي من أدلته الشرعية.(6/439)
وهو واجب على من كان قادراً عليه؛لأن الله ـ عز وجل ـ يقول: ) فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(النحل: من الآية43). والقادر على الاجتهاد يمكنه معرفة الحق بنفسه ولكن لابد أن يكون ذا سعة في العم واطلاع على النصوص الشرعية وعلى الأصول المرعية، وعلى أقوال أهل العلم لئلا يقع فيما يخالف ذلك، فإن من طلبة العلم من لم يدركوا من العلوم إلا الشيء اليسير، ثم ينصب نفسه مجتهداً فتجده يعمل بأحاديث عامة، لها ما يخصها أو يعمل بأحاديث منسوخة لا يعلم ناسخها أو يعمل بأحاديث أجمع العلماء على أنها على خلاف ظاهرها ولا يدري عن إجماع العلماء ومثل هذا على خطر عظيم.
فالمجتهد لابد أن يكون عنده علم بالأدلة الشرعية وعنده علم بالأصول التي إذا عرفها استطاع أن يستنبط الأحكام من أدلتها وعلم بما عليه العلماء لئلا يخالف الإجماع وهو لا يدري فإذا كانت هذه الشروط في حقه موجودة متوافرة فإنه يجتهد ويمكن أن يتجزأ الاجتهاد بأن يجتهد الإنسان في مسألة من مسائل العلم فيبحثها ويحققها ويكون مجتهداً فيها أو في باب من أبواب العلم كأبواب الطهارة مثلاً يبحثه ويحققه ويكون مجتهداً فيه .
* * *
79ـ سئل فضيلة الشيخ : هل يجب التقليد لمذهب معين أم لا ؟
فأجاب قائلاً: نعم، يجب التقليد لمذهب معين وجوباً لازماً؛ لكن هذا المذهب المعين الذي يجب تقليده مذهب الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الذي ذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع، وهو الذي به سعادة الدنيا والآخرة، قال تعالى)قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31)(6/440)
وقال تعالى )وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران:132) فهذا هو المذهب الواجب الاتباع بإجماع أهل العلم وأما غير هذا المذهب فإن اتباعه ضائع إذا لم يتبين الدليل من خلافه فإن تبين الدليل بخلافه فاتباعه محرم .
حتى قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ من قال : إن أحداً من الناس يجب طاعته في كل ما قال ، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأن في ذلك طاعة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق ـ رحمه الله ـ لا أحد من الناس يجب أن يؤخذ بقوله مطلقاً إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجب الأخذ بقوله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"(1). وقال :"إن يطيعوا أبابكر وعمر يرشدوا"(2).
* * *
80ـ سئل فضيلة الشيخ : من الملاحظ في الصحوة الإسلامية الاتجاه إلى العلم ولله الحمد والمنة، وخصوصاً علم السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم ومن الملاحظات:
أ ـ العرض للصحيحين (البخاري ومسلم) نقداً، تضعيفاً وتصحيحاً من قبل بعض طلبة العلم الذين لم ترسخ أقدامهم في هذا العلم، علماً بأن هذين الكتابين من أصول السنة والجماعة وقد تلقتهما الأمة بالقبول.
ب ـ رواج مذهب الظاهرية عند غالبية الشباب والإعراض عن كتب فقهاء الأمة .
جـ ـ انشغال بعض طلبة هذا العلم الشريف به عن العلوم الضرورية لطلبة العلم الشرعي مثل القرآن الكريم، واللغة العربية ، والفقه ، والفرائض ... إلخ .
د ـ شيوع ظاهرة التعالم والتصدر للتدريس والفتيا من قبل بعض طلبة العلم الذين لا يعرف لهم شيوخ ولا قدم ثابتة في العلم وإنما هي القراءة ومطالعة الكتب .
فما توجيهكم حفظكم الله ورعاكم؟
فأجاب حفظه الله ورعاه قائلاً:(6/441)
الجواب على الملاحظة الأولى: لا شك أن هذه الصحوة صاحَبَها ولله الحمد حب اتباع السنة والحرص عليها، ولكن كما ذكرت صار ينتهج هذا المنهج قوم لم يبلغوا ما بلغ أهل العلم من قبلهم في التحري والدقة، وربط الشريعة بعضها بعض، وتقييد مطلقها وتخصيص عامها والرجوع إلى القواعد العامة المعروفة بالشريعة، فصاروا يلتقطون من كل وجه حتى في الأحاديث الضعيفة التي لا يعمل بها عند أهل العلم لشذوذها ومخالفتها لما في الكتب المعتمدة بين الأمة.
تجدهم يتلقفونها ويحتدون فيها وفي العلم بها وفي الإنكار على من خلافها، وكذلك أيضاً تجدهم قد بلغ ببعضهم العجب إلى أن صاروا يعترضون على الصحيحين أو أحدهما من الناحية الحديثية، ويعترضون على الأئمة من الناحية الفقهية، الأئمة الذين أجمعت الأمة على إمامتهم وحسن نيتهم وعلمهم، فتجد هؤلاء الذين لم يبلغوا ما بلغه من سبقهم يتعرضون لهؤلاء الأئمة ويحطون من قدرهم وهذه وصمة عظيمة لهذه الصحوة، والواجب على الإنسان أن يتريث، وأن يتعقل وأن يعرف لذوي الحق حقهم ولذوي الفضل فضلهم، وإنما يعرف الفضل من الناس أهله، نسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق.
وأما الجواب على الملاحظة الثانية فنقول: هذا أيضاً من البلاء، ولعل في جوابي السابق ما يدل عليه؛ لأن مذهب الظاهرية كما هو معروف مذهب يأخذ بالظاهر ولا يرجع إلى القواعد العامة النافعة، ولو إننا ذهبنا نتتبع من أقوالهم ما يتبين به فساد منهجهم أو بعض منهجهم لوجدنا الكثير، ولكننا لا نحب أن نتتبع عورة الناس .(6/442)
والجواب على الملاحظة الثالثة : فلا شك أن الأولى بطالب العلم أن يبدأ أولاً بكتاب الله ـ عز وجل ـ فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا لا يتعلمون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل ، ثم بالسنة النبوية، ولا يقتصرون على معرفة الأسانيد والرجال والعلل إنما يحرصون على مسألة فقه هذه السنة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:"رب مُبلغ أوعى من سامع" (1)ويقول :" رُبَّ حامل فقهٍ ليس بفقيه"(2). والناس الآن في ضرورة إلى معرفة الأسانيد وصحتها وفي ضرورة أيضاً إلى الفقه في هذه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقها على القواعد والأصول الشرعية حتى لا يضل الإنسان ويضل غيره .
الجواب على الملاحظة الرابعة : يجب أن يعلم الإنسان المفتي، أنه سفير بين الله وبين خلقه، ووارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يكون عنده علم راسخ يستطيع به أن يفتي عباد الله، ولا يجوز للإنسان أن يتصدر للفتوى والتدريس وليس معه علم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر"أن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلَّوا وأضلُّوا"(1) والحمد لله، الإنسان الذي يريد الخير ولكنه يأتي حتى يدركه وينشره فإنه إن فسح له الأجل حتى أدرك ما أراد فهذا هو مطلوبه، وإن لم يفسح له في الأجل وقضى الله عليه الموت، فإنه كالذي يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله .
وكم من إنسان تعجل في التدريس والفتيا فندم؛ لأنه تبين له أن ما كان يقرره في تدريسه أو يفتي به في فتواه كان خطأ، والكلمة إذا خرجت من فم صاحبها ملكته، وإذا كانت عنده ملكها.(6/443)
فليحذر الأخوة الذين هم في ريعان طلب العلم من التعجل وليتأنوا حتى تكون فتواهم مبينة على أسس سليمة، وليس العلم كالمال يتطلب الإنسان فيه الزبائن ليدرك من يبيع بل يدرك من يشتري منه، بل العلم إرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيجب على الإنسان أن يكون مستشعراً حين الفتوى شيئين:
الأول: أنه يقول عن الله ـ عز وجل ـ وعن شريعة الله .
الثاني: أنه يقول عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم لأن العلماء ورثة الأنبياء.
* * *
81ـ وسئل ـ غفر الله له ـ عن أقسام الناس في طلب علم الكتاب والسنة الصحيحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: انقسم الناس في طلب علم الكتاب والسنة إلى أربعة أقسام:
القسم الأولى من تجده معرضاً عن الكتاب والسنة، مكبًّا على الكتب الفقهية المذهبية يعمل بما فيها مطلقاً، ولا يرجع إلا إلى ما قاله فلان وفلان من أصحاب الكتب المذهبية.
القسم الثاني: من أكب على علوم القرآن، مثل علم التجويد أو ما يتصل بمعناه أو إعرابه وبلاغته، وأما بالنسبة للسنة وعلم الحديث فهو قليل البضاعة فيها وهذا قصور كبين بلا شك.
القسم الثالث: من تجده مكبًّا على علم الحديث وعلم تحقيق الأسانيد وما فيها من علل وما يتعلق بالحديث من حيث القبول أو الرد؛ ولكنه في علوم القرآن ضعيف جدًّا، فلو سألته عن تفسير أوضح آية في كتاب الله فلا يعرف تفسيرها، وكذلك في علم التوحيد وال عقيدة ولو سُئِلَ لم يعرف، وهذا قصور كبير بلا شك .(6/444)
القسم الرابع: من كان حريصاً على الجمع بين الكتاب والسنة الصحيحة، وما كان عليه سلف الأمة مما يتعلق بعلم الكتاب والسنة، ومع ذلك ليس معرضاً عما قاله أهل العلم في كتبهم بل هو يقيم له وزناً ويستعين به على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن العلماء ـ رحمهم الله ـ وضعوا قواعد وضوابط وأصولاً ينتفع بها طالب العلم، حتى المفسر في تفسير القرآن وحتى طالب السنة في معرفة السنة أو في شرح معانيها فيكون مركزاً على الكتاب والسنة ومستعيناً بما قاله أهل العلم في كتبهم وهذا هو خير الأقسام .
ولننظر هل نحن طبقنا سير العلم على هذه الطريقة الأخيرة أو أننا من القسم الأول أو الثاني أو الثالث .
فإذا كان غير القسم الأخير فإنه يجب أن نصحح طريقنا؛ لأن الله يقول في كتابه:(يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) . النساء ، الآية: 59 . وأولى الأمر يشمل العلماء ويشمل الأمراء :(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ... الآية). النساء ، الآية : 59. ونحن دائماً لا سيما إذا رجعنا إلى المأخوذ عن الصحابة والتابعين نجدهم دائماً يتحاكمون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ومع ذلك فإني لا أقول إنه يجب أن تهدر أقوال العلماء، بل أقوال العلماء لها قيمتها ووزنها واعتبارها ويستعان بها على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
* * *
82ـ سئل ـ غفر الله له ـ: ما قول فضيلتكم في بعض الطلاب الذين يدرسون من أجل الوظيفة والراتب، وكذلك ما يفعله البعض من استئجار من يكتب لهم البحوث، أو يعد لهم الرسائل، أو يحقق بعض الكتب فيحصلون به على شهادات علمية؟(6/445)
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على طلبة العلم إخلاص النية لله ـ عز وجل ـ وأن يعتقد أنه ما قرأ حرفاً ولا كلمة، ولا أتم صفحة في العلم الشرعي إلا وهو يقربه إلى الله ـ عز وجل ـ ولكن كيف يمكن أن ينوي التقرب إلى الله بطلب العلم؟
الجواب: يمكن ذلك، لأن الله أمر به، والله إذا أمر بشيء ففعله الإنسان امتثالاً لأمر الله، فتلك عبادة الله؛ لأن عبادة الله هي امتثال أمره، واجتناب نهيه، وطلب مرضاته، واتقاء عقوبته.
ومن إخلاص النية في طلب العلم أن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره من الأمة، وعلامة ذلك أن الرجل تجده بعد طلب العلم متأثراً بما طلب، متغيراً في سلوكه ومنهاجه، وتجده حريصاً على نفع غيره، وهذا يدل على أن نيته في طلب العلم رفع الجهل عنه وعن غيره فيكون قدوة، صالحاً مصلحاً، وهذا ما كان عليه السلف الصالح، أما ما عليه الخلف اليوم فيختلف كثيراً عن ذلك، فتجد الأعداد الكبيرة من الطلاب في الجامعات والمعاهد، منهم من نيته لا تنفعه في الدنيا والآخرة، بل تضره، فهو ينوي أن يصل إلى الشهادة لكي يتوصل بها إلى الدنيا فقط، وقد جاء التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:"من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" أي ريحها ـ .
وهذا خطر عظيم، فعلم شرعي تجعله وسيلة إلى عرض الدنيا، هذا قلب للحقائق، والطالب إذا أخلص النية جاءته الدنيا تبعاً ولن يفوته شيء وسيخرج هو ومن يريد الشهادة للدنيا على حد سواء، بل المخلص أكثر تحصيلاً للعلم وأبلغ رسوخاً فيه.(6/446)
وإن مما يؤسف له ـ كما ذكر السائل ـ أن بعض الطلاب يستأجرون من يعد لهم بحوثاً أو رسائل يحصلون على شهادات علمية، أو من يحقق بعض الكتب فيقول لشخص حضر لي تراجم هؤلاء وراجع البحث الفلاني، ثم يقدمه رسالة ينال بها درجة يستوجب بها أن يكون في عداد المعلمين أو ما أشبه ذلك، فهذا في الحقيقة مخالف لمقصود الجامعة ومخالف للواقع، وأرى أنه نوع من الخيانة؛ لأنه لابد أن يكون المقصود من ذلك الشهادة فقط فإنه لو سئل بعد أيام عن الموضوع الذي حصل على الشهادة فيه لم يجب.
لهذا أحذر إخواني الذين يحققون الكتب أو الذين يحضّرون رسائل على هذا النحو من العاقبة الوخيمة، وأقول إنه لا بأس من الاستعانة بالغير ولكن ليس على وجه أن تكون الرسالة كلها من صنع غيره، وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح ، إنه سميع مجيب .
* * *
83ـ سئل فضيلة الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ: هل العلوم كالطب والهندسة من التفقه في دين الله؟(6/447)
فأجاب فضيلته بقوله: ليست هذه العلوم من التفقه في دين الله؛ لأن الإنسان لا يدرس فيها الكتاب ولا السنة، لكنها من الأمور التي يحتاجها المسلمون، ولهذا قال بعض أهل العلم: عن تعلم الصناعات والطب والهندسة والجيولوجيا وما أشبه ذلك من فروض الكفايات، لا لأنها من العلوم الشرعية، ولكنها لأنها لا تتم مصالح الأمة إلا بها، ولهذا أنبه الإخوان الذين يدرسون مثل هذه العلوم أن يكون قصدهم بتعلم هذه العلوم نفع إخوانهم المسلمين ورفع أمتهم الإسلامية. الأمة الإسلامية الآن ملايين لو أنها استغلت مثل هذه العلوم فيما ينفع المسلمين لكان في ذلك خير كثير، ولا ما احتجنا إلى الكفار في تحصيل كمالياتنا بل وفي تحصيل ضرورياتنا أحياناً، فهذه العلوم إذا قصد بها الإنسان القيام بمصالح العباد صارت مما يقرب إلى الله لا لذاتها ولكن لما قُصد بها، أما أنها فقه في الدين فليست فقهاً في الدين؛ لأن الفقه في الدين هو الفقه في أحكام الله تعالى الشرعية والقدرية، والفقه في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته.
* * *
84ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: بِمَ يكون الإخلاص في طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإخلاص في طلب العلم يكون بأمور:
الأمر الأول: أن تنوي بذلك امتثال أمر الله؛ لأن الله أمر بذلك فقال )فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)(محمد: من الآية19). وحث سبحانه وتعالى على العلم، والحث على الشيء يستلزم محبته والرضا به والأمر به.
الأمر الثاني: أن تنوي بذلك حفظ شريعة الله؛ لأن حفظ شريعة الله يكون بالتعلم والحفظ في الصدر ويكون كذلك بالكتابة.
الأمر الثالث: أن تنوي حماية الشريعة والدفاع عنها؛ لأنه لولا العلماء ما حُميت الشريعة ولا دافع عنها أحد، ولهذا نجد مثلاً شيخ الإسلام أبن تيمية وغيره من أهل العلم تصدوا لأهل البدع وبينوا بطلان بدعهم، نرى أنهم حصلوا على خير كثير.(6/448)
الأمر الرابع: أن تنوي بذلك اتباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنك لا يمكن أن تتبع شريعته حتى تعلم هذه الشريعة.
الأمر الخامس: أن تنوي بذلك رفع الجهل عن نفسك وعن غيرك.
* * *
85ـ سئل فضيلة الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ: يقول بعض الناس : إن إخلاص النية في عصرنا الحاضر صعب أو قد يكون مستحيلاً؛ لأن الذين يطلبون العلم ولا سيما الطلب النظامي يطلبون العلم لنيل الشهادة فحسب؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول: إذا كنت تطلب العلم لنيل الشهادة، فإن كنت تريد من هذه الشهادة أن ترتقي مرتقى دنيويًّا فالنية فاسدة، أما إذا كنت تريد أن ترتقي إلى مرتقى تنفع الناس به لأنك تعرف اليوم أنه لا يمكَّن الإنسان من ارتقاء المناصب العالية النافعة للأمة إلا إذا كان معه شهادة، فإذا قصدت بهذه الشهادة أن تنال ما تنفع الناس به فهذه نية طيبة لا تنافي الإخلاص.
* * *
86ـ وسئل فضيلة الشيخ: ما نصيحة فضيلتكم حول العمل بالعلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لابد من العمل بالعلم، لأن ثمرة العلم العمل؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه صار من أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة كما قيل:
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عبّاد الوثن(6/449)
فإذا لم يعمل بعلمه أورث الفشل في العلم وعدم البركة ونسيان العلم، لقول الله تعالى(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ )(المائدة: من الآية13) وهذا النسيان يشمل النسيان الذهني والنسيان العملي، فيكون بمعنى ينسونه ذهنيًّا أو ينسونه يتركونه؛ لأن النسيان في اللغة العربية يطلق بمعنى الترك، أما إذا عمل الإنسان بعلمه فإن الله تعالى يزيده هدى، قال تعالى:(والذين أهتدوا زادهم هدى) . محمد ، الآية: 17. ويزيده تقوى ولهذا قال :(وأتاهم تقواهم) محمد، الآية:17. فإذا عمل بعلمه ورَّثه الله علم ما لم يعلم ولهذا قال بعض ا لسلف : العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
* * *
87ـ سئل الشيخ ـ وفقه الله تعالى: ما الأمور التي جب توافرها فيمن يتلقى عنه العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لابد أن يُطلب العلم على شيخ متقن ذي أمانة؛ لأن الإتقان قوة، والقوة لابد معها من أمانة، قال الله تعالى) إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)(القصص: من الآية). ربما يكون العالم عنده إتقان وسعة علم وقدرة على التفريع والتقسيم، ولكن ليس عنده أمانة فربما أضلك من حيث لا تشعر، وليعلم أن أخذ العلم عن الشيخ أفيد من الكتب من وجوه:
الأول:قصر المدة.
الثاني: قلة التكلفة.
الثالث: أن ذلك أحرى بالصواب.(6/450)
لأن هذا الشيخ قد علم وتعلم ورجح وفهم فيعطيك الشيء ناضجاً، لكنه يمرنك على المطالعة والمراجعة إذا كان عنده شيء من الأمانة، أما من اعتمد على الكتب فلابد أن يكرس جهوده ليلاً ونهاراً، ثم إذا طالع الكتب التي يقارن فيها بين أقوال العلماء فسيقت أدلة هؤلاء وسيقت أدلة هؤلاء من يدله على أن هذا أصوب؟ يبقى متحيراً، ولهذا نرى أن ابن القيم حينما يناقش قولين لأهل العلم سواء في زاد المعاد أو أعلام الموقعين إذا ساق أدلة القول الأول وعلله نقول هذا هو القول الصواب ولا يجوز العدول عنه بأي حال من الأحوال ثم ينقضه ويأتي بالقول المقابل ويذكر أدلته وعلله فتقول هذا هو القول الصواب، فيحصل عندك من الإشكال والتردد، فلابد أن تكون قراءتك على شيخ متقن أمين .
* * *
88ـ وسئل فضيلة الشيخ: بعض المبتدئين يبدأون في القراءة من كتاب المحلي لابن حزم بحجة التمرن على المناظرة وحينما تنصحهم بأن هذا سابق لأوانه فيقولون نريد التمرن فهل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: مناظرة ابن حزم ـ رحمه الله ـ مناظرة صعبة، يشدد على خصمه، ويحصل منه أحياناً سبّ لمخالفه، فهو ـ رحمه الله ـ كان شديداً جداً، وأخشى أن يكون طالب العلم الصغير إذا تعود على مثل ما كان عليه ابن حزم أخشى عليه من المماراة، فلو أنه سلاك مسلكاً سهلاً لكان أحسن، وإذا حصل على قدر كبير من العلم ـ إن شاء الله ـ وعرف كيف يستفيد من ابن حزم فليطالع في كتابه، لذلك لا أنصح بمطالعته للطالب المبتدئ، لكن التمرن على المجادلة لإثبات الحق أمر لابد منه، فكثير من الناس عنده علم واسع لكنه عند المجادلة لا يستطيع إثبات الحق.
* * *
89ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: إذا أراد طالب العلم الفقه فهل له الاستغناء عن أصول الفقه؟(6/451)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أراد طالب العلم أن يكون عالماً في الفقه فلابد أن يجمع بين الفقه وأصول الفقه ليكون متبحراً متخصصاً فيه، وإلا فيمكن أن تعرف الفقه بدون علم الأصول، ولكن لا يمكن أن تعرف أصول الفقه، وتكون فقيهاً بدون علم الفقه، أي أنه يمكن أن يستغني الفقيه عن أصول الفقه ولا يمكن أن يستغني الأصولي عن الفقه إذا كان يريد الفقه، ولهذا اختلف علماء الأصول هل الأولى لطالب العلم أن يبدأ بأصول الفقه حتى يبني الفقه عليها، أو بالفقه لدعاء الحاجة إليه، حيث إن الإنسان يحتاج إليه في عمله، في عبادته ومعاملاته قبل أن يتقن أصول الفقه، والثاني هو الأولى وهو المتبع غالباً.
* * *
90ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين: بعض طلبة العلم يأتي إلى مسألة من مسائل العلم فيبحثها ويحققها بأدلتها ومناقشتها مع العلماء، فإذا حضر مجلس عالم يشار إليه بالبنان، قال: ما تقول أحسن الله إليك في كذا وكذا، قال: هذا حرام مثلاً، قال: كيف؟ بم تجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم كذا ؟ عن قول فلان كذا؟ ثم أتى بأدلة لا يعرفها العالم؛ لأن العلام ليس محيطاً بكل شيء حتى يُظهر نفسه أنه أعلم من هذا العالم فما رأي فضيلتكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة تقع كثيراً يأتي الإنسان يكون باحثاً المسألة بحثاً دقيقاً جيداً ثم يباغت العلماء بمثل هذا، وعلى الإنسان أن يكون سؤاله لطلب العلم ومعرفة الحق لا ليظهر علمه وضعف علم غيره .
والحاصل أن الإنسان يجب أن يكون متأدباً مع من هو أكبر منه، وإذا حصل خطأ ممن هو أكبر، فالخطأ يجب أن يُبين بحال لبقة أو ينتظر حتى يخرج مع هذا العالم ويكلمه بأدب، والعالم الذي يتقي الله إذا بان له الحق فإنه سوف يرجع إليه، وسوف يبين للناس أنه رجع عن قوله.
* * *
91ـ وسئل فضيلة الشيخ: ما توجيهكم حول استغلال الوقت وحفظه من الضياع؟(6/452)
فأجاب فضيلته قائلاً: ينبغي لطالب العلم أن يحفظ وقته عن الضياع، وضياع الوقت يكون على وجوه:
الوجه الأول: أن يدع المذاكرة ومراجعة ما قرأ.
الوجه الثاني:أن يجلس إلى أصدقائه ويتحدث بحديث لغو ليس فيه فائدة.
الوجه الثالث: وهو أضرها على طالب العلم ألا يكون له هم إلا تتبع أقوال الناس وما قيل وما قال، وما حصل وما يحصل في أمر ليس معنيًّا به، وهذا لا شك أنه من ضعف الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(1)، والاشتغال بالقيل والقال وكثرة السؤال مضيعة للوقت، وهو في الحقيقة مرض إذا دبَّ في الإنسان ـ نسأل الله العافية ـ صار أكبر همه، وربما يعادي من لا يستحق العداء، أو يوالي من لا يستحق الولاء، من أجل اهتمامه بهذه الأمور التي تشغله عن طلب العلم بحجة أن هذا من باب الانتصار للحق، وليس كذلك، بل هذا من إشغال النفس بما لا يعني الإنسان، أما إذا جاءك الخبر بدون أن تلقفه وبدون أن تطلبه، فكل إنسان يتلقى الأخبار، لكن لا ينشغل بها، ولا تكون أكبر همه؛ لأن هذا يشغل طالب العلم، ويفسد عليه أمره ويفتح في الأمة باب الحزبية فتتفرق الأمة.
* * *
92ـ وسئل فضيلة الشيخ: هل يجوز لطالب العلم إذا كان في مجلس عامة أن يقول لهم من عنده مسألة أو مشكلة فليطرحها حتى أجيب عليها وتحصل الفائدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز عرض العالم على المتعلم وعامة الناس أن يسألوا عما بدا لهم ولا يعد ذلك إعجاباً من العالم بنفسه، لأنه قد يقول قائل: لماذا يقول اسأل عما بدالك، هذا تعظيم لنفسه، وكبر منه؟ نقول: ليس هذا المراد بل المراد نشر العلم، والإنسان لا يعلم عما في قلب أخيه حتى يحدثه به، لذلك لا يقال هذا الفعل خطأ مادام الإنسان ليس قصده الإعجاب بالنفس وإنما قصده بث العلم فلا حرج في ذلك.
* * *(6/453)
93ـ وسئل فضيلة الشيخ: هل تعتبر أشرطة التسجيل طريقة من طرق العلم؟ وما هي الطريقة المثلى للاستفادة منها؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما كون هذه الأشرطة وسيلة من وسائل تحصيل العلم فهذا لا يَشُكُّ فيه أحد ، ولا نجحد نعمة الله علينا في هذه الأشرطة التي استفدنا كثيراً من العلم بها؛ لأنها توصّل إلينا أقوال العلماء في أي مكان كنا.
ونحن في بيوتنا قد يكون بيننا وبين هذا العالم مفاوز ويسهل علينا أن نسمع كلامه من خلال هذا الشريط. وهذه من نعم الله ـ عز وجل ـ علينا، وهي في الحقيقة حجة لنا وعلينا، فإن العلم انتشر انتشاراً واسعاً بواسطة هذه الأشرطة.
وأما كيف يستفاد منها؟
فهذا يرجع إلى حال الإنسان نفسه، فمن الناس من يستطيع أن يستفيد منها ، وهو يقود السيارة، ومنهم من يستمع إليه أثناء تناوله لطعام الغداء أو العشاء أو القهوة.
المهم أن كيفية الاستفادة منها ترجع إلى كل شخص بنفسه، ولا يمكن أن نقول فيها ضابطاً عاماً.
* * *
94ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: أيهما أفضل: قيام الليل، أم طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: طلب العلم أفضل م قيام الليل؛ لأن طلب العلم كما قال الإمام أحمد:" لا يعدله شيء لمن صحت نيته ينوي به رفع الجهل عن نفسه وعن غيره". فإذا كان الإنسان يسهر في أول الليل لطلب العلم ابتغاء وجه الله سواء كان يُدرسه ويعلمه الناس فإنه خير من قيام الليل، وإن أمكنه أن يجمع بين الأمرين فهو أولى لكن إذا تزاحم الأمران فطلب العلم الشرعي أفضل وأولى، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة: " أن يوتر قبل أن ينام" (1)قال العلماء: وسبب ذلك أن أبا هريرة كان يحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أول الليل وينام آخر الليل فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يوتر قبل أن ينام .
* * *
95ـ سئل فضيلة الشيخ: هل من توجيه إلى طلبة العلم حتى يكونوا دعاة؟ حيث إنهم يحتجون بطلب العلم وأنه يشغلهم عن الدعوة؟(6/454)
فأجاب فضيلته بقوله: الدعوة التي تكون دون طلب العلم لا خير فيها، بمعنى أنها تفوِّت خيراً كثيراً، والواجب على طالب العلم أن يطلب العلم مع الدعوة إلى الله. ما المانع لطالب العلم إذا رأى شخصاً معرضاً بالمسجد الذي يطلب فيه العلم أن يدعوه إلى الله ـ عز وجل ـ؟ ما المانع إذا خرج إلى السوق ليقضي حوائجه أن يدعو إلى الله ـ عز وجل في السوق إذا رأى معرضاً عن دين الله؟ ما المانع إذا كان بالمدرسة ورأى من الطلبة من هو معرض أن يدعوه إلى الله عز وجل ـ ويأخذ بيده . لكن المشكلة أن الإنسان إذا رأى مخالفاً له بمعصية أو ترك أمر كرهه واشمأز منه، وأبعد عنه، ويئس من إصلاحه والله ـ سبحانه وتعالى ـ بين لنا أن نصبر، وأن نحتسب.
قال الله لنبيه)فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ )(الاحقاف: من الآية3) فالإنسان يجب عليه أن يصبر ويحتسب، ولو رأى في نفسه شيئاً أو على نفسه شيئاً من الغضاضة فليجعل ذلك في ذات الله ـ عز وجل ـ إن النبي عليه الصلاة والسلام لما أدميت أصبعه في الجهاد، قال:
هل أنت إلا أصبع دَميت وفي سبيل الله ما لَقِيت(1)
* * *
96ـ سئل فضيلة الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ: إذا اجتهد العالم في مسألة من المسائل ولم يصب الحكم الصحيح فبم يحكم عليه؟
فأجاب فضيلته قائلاً: العالم إذا اجتهد في مسألة من المسائل قد يصيب وقد يخطئ لما ثبت من حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ: " وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا". رواه مسلم(1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد". متفق عليه(2)، وعليه فهل نقول إن المجتهد مصيب ولو أخطأ؟(6/455)
الجواب: قيل: كل مجتهد مصيب، وقيل: ليس كل مجتهد مصيباً. وقيل: كل مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول، حذراً من أن نصوب أهل البدع في باب الأصول.
والصحيح: أن كل مجتهد مصيب من حيث اجتهاده، أما من حيث موافقته للحق؛ فإنه يخطئ ويصيب، ويدل قوله صلى الله عليه وسلم:"فاجتهد فأصاب، واجتهد فأخطأ"؛ فهذا واضح في تقسيم المجتهدين إلى مخطئ ومصيب، وظاهر الحديث والنصوص أنه شامل للفروع والأصول، حيث دلت تلك النصوص على أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، لكن الخطأ المخالف لإجماع السلف خطأ ولو كان المجتهدين؛ لأنه لا يمكن أن يكون مصيباً والسلف غير مصيبين سواء في علم الأصول أو الفروع.
على أن شيخ الإسلام ابن تيمية وبان القيم أنكرا تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وقالا: إن هذا التقسيم محدث بعد عصر الصحابة، ولهذا نجد القائلين بهذا التقسيم يلحقون شيئاً من أكبر أصول الدين بالفروع، مثل الصلاة، وهي ركن من أركان الإسلام ويخرجون أشياء في العقيدة اختلف فيها السلف، يقولون: إنها من الفروع؛ لأنها ليست من العقيدة، ولكن فرع من فروعها، ونحن نقول: إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة؛ فكل الدين أصول؛ لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروع’؛ فهذا عقيدة سابقة على العمل، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله بها.
والصحيح: أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمي بالأصول أو الفروع، لكن ما خرج عن منهج السلف فليس بمقبول مطلقاً.
* * *
97- سئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ: عمن يقول بعدم الاجتهاد وخلو هذا العصر من المجتهدين؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أن باب الاجتهاد باق بدليل السنة كما في حديث عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد"(1) .(6/456)
لذلك قول من يقول: بعدم الاجتهاد وخلو هذا العصر من المجتهدين، قول ضعيف ويترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى آراء الرجال، وهذا خطأ، بل الواجب على من تمكن من أخذ الحكم من الكتاب والسنة أن يأخذ منها، لكن لكثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشيء بمجرد أن يسمع حديثاً في هذا الحكم حتى يتثبت؛ لأن هذا الحكم قد يكون منسوخاً أو مقيداً أو عامًّا وأنت تظنه بخلاف ذلك.
وأما أن نقول لا تنظر في القرآن والسنة؛ لأنك لست أهلاً للاجتهاد، فهذا غير صحيح، ثم إنه على قولنا:أن باب الاجتهاد مفتوح؛ لا يجوز أبداً أن تحتقر آراء العلماء السابقين، أو أن تنزل من قدرهم؛ لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليسوا بمعصومين، فكونك تقدح فيهم، أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس ليسخروا بهم فهذا أيضاً لا يجوز، وإذا كانت غيبة الإنسان العادي محرمة، فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها، ثم يأتي في آخر الزمان من يقول: إن هؤلاء لا يعرفون، وهؤلاء يفرضون المحال، ويقولون: كذا وكذا. مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل النادرة قد لا يقصدون الوقوع، ولكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدها وأصولها.
* * *
98ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ: ما قولكم فيما يحصل م البعض من قدح في الحافظين النووي وابن حجر وأنهما من أهل البدع؟
وهل الخطأ من العلماء في العقيدة ولو كان عن اجتهاد وتأويل يلحق صاحبه بالطوائف المبتدعة؟
وهل هناك فرق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية؟
فأجاب فضيلته بقوله:(6/457)
إن الشيخين الحافظين( النووي ابن حجر) لهما قدم صدق ونفع كبير في الأمة الإسلامية ولئن وقع منهما خطأ في تأويل بعض نصوص الصفات إنه لمغمور بما لهما من الفضائل والمنافع الجمة ولا نظن أن ما وقع منهما إلا صادر عن اجتهاد وتأويل سائغ ـ ولو في رأيهما وأرجو الله تعالى أن يكون من الخطأ المغفور وأن يكون ما قدماه من الخير والنفع من السعي المشكور وأن يصدق عليهما قول الله تعالى)ِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ )(هود: من الآية114). والذي نرى أنهما من أهل السنة والجماعة، ويشهد لذلك خدمتهما لسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم وحرصهما على تنقيتها مما ينسب إليها من الشوائب، وعلى تحقيق ما دلت عليه من أحكام ولكنهما خالفا في آيات الصفات وأحاديثها أو بعض ذلك عن جادة أهل السنة عن اجتهاد أخطئا فيه، فنرجو الله تعالى أن يعاملهما بعفوه.
وأما الخطأ في العقيدة: فإن كان خطأ مخالفاً لطريق السلف، فهو ضلال بلا شك ولكن لا يحكم على صاحبه بالضلال حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة، وأصر على خطئه وضلاله، كان مبتدعاً فيما خالف فيه الحق، وإن كان سلفيًّا فيما سواه، فلا يوصف بأنه مبتدع على وجه الإطلاق، ولا بأنه سلفي على وجه الإطلاق، بل يوصف بأنه سلفي فيما وافق السلف، مبتدع فيما خالفهم، كا قال أهل السنة في الفاسق: إنه مؤمن بما معه من الإيمان، فاسق بما معه م العصيان، فلا يعطي الوصف المطلق ولا ينفى عنه مطلق الوصف، وهذا هو العدل الذي أمر الله به، إلا أن يصل المبتدع إلى حد يخرجه من الملة فإنه لا كرامة له في هذه الحال .(6/458)
وأما الفرق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية: فلا أعلم أصلاً للتفريق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية لكن لما كان السلف مجمعين فيما نعلم على الإيمان في الأمور العلمية الحيوية والخلاف فيها إنما هو في فروع من أصولها لا في أصولها كان المخالف فيها أقل عدداً وأعظم لوماً. وقد اختلف السلف في شيء من فروع أصولها كاختلافهم، هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه في اليقظة واختلافهم في اسم الملكين اللذين يسألان الميت في قبره، واختلافهم في الذي يوضع في الميزان أهو الأعمال أم صحائف الأعمال أم العامل؟ واختلافهم هل يكون عذاب القبر على البدن وحده دون الروح؟ واختلافهم هل يسأل الأطفال وغير المكلفين في قبورهم؟ واختلافهم هل الأمم السابقة يسألون في قبورهم كما تسأل هذه الأمة؟ واختلافهم في صفة الصراط المنصوب على جهنم؟ واختلافهم هل النار تفنى أو مؤبدة، وأشياء أخرى وإن كان الحق مع الجمهور في هذه المسائل، والخلاف فيها ضعيف.
وكذلك يكون في الأمور العملية خلاف يكون قويًّا تارة وضعيفاً تارة.
وبهذا تعرف أهمية الدعاء المأثور: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
99ـ سئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته ـ عما يحصل من اختلاف الفتيا من عالم لآخر في موضوع واحد. ما مرد ذلك؟ وما موقف متلقي الفتيا؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: مرد ذلك إلى شيئين:
الأول: العلم. فقد يكون أحد المفتين ليس عنده من العلم ما عند المفتي الآخر، فيكون المفتي الآخر أوسع اطلاعاً منه، يطلع على ما لم يطلع عليه الآخر.(6/459)
والثاني: الفهم، فإن الناس يختلفون في الفهم اختلافاً كثيراً قد يكونون في العلم سواء، ولكن يختلفون في الفهم، فيعطي الله تعالى هذا فهماً واسعاً ثاقباً؛ يفهم مما علم أكثر مما فهمه الآخر، وحينئذ يكون الأكثر علماً والأقوى فهماً أقرب إلى الصواب من الآخر. أما بالنسبة للمستفتي فإنه إذا اختلف عليه عالمان مفتيان فإنه يتبع من يرى أنه أقرب إلى الصواب، إما لعلمه، وإما لورعه ودينه، كما أنه لو كان الإنسان مريضاً واختلف عليه طبيبان فإنه سوف يأخذ بقول من يرى أنه أقرب إلى الصواب فإنه تساوى عنده الأمران ولم يرجح أحد المفتين على الآخر فإنه يخير إن شاء أخذ بهذا وإن شاء أخذ بهذا وما اطمأنت إليه نفسه أكثر فليأخذ به.
* * *
100ـ سئل فضيلة الشيخ: ما قولكم فيمن يتخذ من أخطأ العلماء طريقاً للقدح فيهم ورميهم بالبهتان؟
وما النصيحة التي توجهها لطلبة العلم في ذلك؟(6/460)
فأجاب فضيلته بقوله: العلماء ـ بلا شك ـ يخطئون ويصيبون وليس أحد منهم معصوماً، ولا ينبغي لنا بل ولا يجوز أن نتخذ خطئهم سلماً للقدح فيهم، فإن هذه طبيعة البشر كلهم أن يخطئوا إذا لم يوفقوا للصواب، ولكن علنيا إذا سمعنا عن عالم أو عن داعية من الدعاة أ, عن إمام من أئمة المساجد إذا سمعنا خطأ أن نتصل به، حتى يتبين لنا لأنه قد يحصل في ذلك خطأ في النقل عنه، أو خطأ في الفهم لما يقول، أو سوء قصد في تشويه سمعة الذي نقل عنه هذا الشيء، وعلى كل حال فمن سمع منكم عن عالم أو عن داعية أو عن إمام مسجد أو أي إنسان له ولاية، من سمع منه ما لا ينبغي أن يكون، فعليه أن يتصل به وأن يسأله: هل وقع ذلك منه أم لم يقع، ثم إذا كان قد وقع فليبين له ما يرى أنه خطأ، فإما أن يكون قد أخطأ فيرجع عن خطئه، وإما أن يكون هو المصيب، فيبين وجه قوله حتى تزول الفوضى التي قد نراها أحياناً ولا سيما بين الشباب. وإن الواجب على الشباب وعلى غيرهم إذا سمعوا مثل ذلك أن يكفوا ألسنتهم وأن يسعوا بالنصح، والاتصال بمن نُقل عنه ما نُقل حتى يتبين الأمر، أما الكلام في المجالس ولا سيما في مجالس العامة أن يقال ما تقول في فلان؟ ما تقول في فلان الآخر الذي يتكلم ضد الآخرين؟ فهذا أمر لا ينبغي بثه إطلاقاً؛ لأنه يثير الفتنة والفوضى فيجب حفظ اللسان، قال النبي صلى
الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ:"ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، وقال: كف عليك هذا. قلت: يا رسول الله إنا لمؤاخذون بما نتكلم به . قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجهوهم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"(1) .(6/461)
وأنصح طلبة العلم وغيرهم أن يتقوا الله وألا يجعلوا أعراض العلماء والأمراء مطية يركبونها كيف ما شاءوا، فإنه إذا كانت الغيبة في عامة الناس من كبائر الذنوب فهي في العلماء والأمراء أشد وأشد، حمانا الله وإياكم عما يغضبه، وحمانا عما فيه العدوان على إخواننا، إنه جواد كريم.
101ـ سئل فضيلة الشيخ ـ غفر الله له ـ: ما توجيهكم حول ما يحصل من البعض من التفرق والتحزب؟ فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن التحزب والتفرق في دين الله منهي عنه محذر منه، لقوله تعالى:( )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105) وقوله تعالى )إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام:159) فلا يجوز للأمة الإسلامية أن يتفرقوا أحزاباً، لكل طائفة منهج مغاير لمنهج الأخرى، بل ا لواجب اجتماعهم على دين الله على منهج واحد وهو هدى النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين والصحابة المرضيين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (1) .
وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن تتفرق الأمة أحزاباً لكل حزب أمير ومنهج، وأمير الأمة الإسلامية واحد، وأمير كل ناحية واحد، من قِبَل الأمير العام.(6/462)
وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ أمير السفر؛ لأن المسافرين نازحون عن المدن والقرى التي فيها أمراء من قبل الأمير العام، وربما تحصل مشاكل لا تقبل التأخير إلى وصول هذه المدن والقرى، أو مشاكل صغيرة لا تحتمل الرفع إلى أمراء المدن والقرى؛ كالنزول في مكان والنزوح عنه وتسريح الرواحل وحبسها ونحو ذلك، فكان من الحكمة أن يؤمر المسافرون أحدهم لمثل هذه الحالات.
ونصيحتي للأمة أن يتفقوا على دين الله ولا يتفرقوا فيه، وإذا رأوا من شخص أو طائفة خروجاً عن ذلك نصحوه وبيّنوا له الحق وحذروه من المخالفة وبينوا له أن الاجتماع على الحق أقرب إلى السداد والفلاح من التفرق. وإذا كان الخلاف عن اجتهاد سائغ فإن الواجب أن لا تتفرق القلوب وتختلف من أجل ذلك، فإن الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ حصل بينهم خلاف في الاجتهاد في عهد نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعده، ولم يحصل بينهم اختلاف في القلوب أو تفرق فليكن لنا فيهم أسوة، فإن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها.
وفقنا الله إلى ما يحبه ويرضاه.
* * *
102ـ سئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ: ما الواجب على العامي ومن ليس له قدرة على طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على من لا علم عنده ولا قدرة له على الاجتهاد أن يسأل أهل العلم؛ لقوله تعالى:( )فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(الانبياء: من الآية7). ولم يأمر الله تعالى بسؤالهم إلا من أجل الأخذ بقولهم، وهذا هو التقليد. لكن الممنوع في التقليد أن يلتزم مذهباً معيناً يأخذ به على كل حال ويعتقد أن ذلك طريقه إلى الله ـ عز وجل ـ فيأخذ به وإن خالف الدليل.
وأما من له قدرة على الاجتهاد؛ كطالب العلم الذي أخذ بحظ وافر من العلم، فله أن يجتهد في الأدلة ويأخذ بما يرى أنه الصواب أو الأقرب للصواب.(6/463)
وأما العامي وطالب العلم المبتدئ، فيجتهد في تقليد من يرى أنه أقرب إلى الحق؛ لغزارة علمه وقوة دينه وورعه.
* * *
103ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ: من الأصول التي يرجع إليها طالب العلم الشرعي أقوال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فهل هي حجة يُعمل بها؟
فأجاب بقوله: قول الصحابي أقرب إلى الصواب من غيره بلا ريب، وقوله حجة، بشرطين:
أحدهما: أن لا يخالف نص كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
والثاني: أن لا يخالفه صحابي آخر.
فإن خالف الكتاب أو السنة فالحجة في الكتاب أو السنة، ويكون قوله من الخطأ المغفور.
وإن خالف قول صحابي آخر طلب الترجيح بينهما، فمن كان قوله أرجح فهو أحق أن يتبع، وطرق الترجيح تعرف إما من حال الصحابي أو من قرب قوله إلى القواعد العامة في الشريعة أو نحو ذلك.
ولكن هل هذا الحكم عام لجميع الصحابة أو خاص بالخلفاء الراشدين أو بأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهماـ .
أما أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فلا ريب أن قولهما حجة بالشريطين السابقين، وقولهما أرجح من غيرهما إذا خالفهما، وقول أبي بكر أرجح من قول عمر ـ رضي الله عنهما ـ. وقد روى الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر"(1) ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ في قصة نومهم عن الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا" (1) .
وفي صحيح البخاري في باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر بن الخطاب قال: " هما المرءان يقتدى بهما" (1) ،يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ـ رضي الله عنه .(6/464)
وأما بقية الخلفاء الراشدين، ففي السنن والمسند من حديث العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" (1). وأولى الناس بالوصف هذا الخلفاء الأربعة ـ رضي الله عنهم ـ فيكون قولهم حجة .
وأما بقية الصحابة، فمن كان معروفاً بالعلم وطول الصحبة فقوله حجة، ومن لم يكن كذلك فمحل نظر، وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في أول كتابه(إعلام الموقعين): أن فتاوى الإمام مبينة على خمسة أصول، منها: فتاوى الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، والعلماء مختلفون فيها ، لكن الغالب واللازم أن يكون هناك دليل يرجح قوله أو يخالفه فيعمل بذلك الدليل.
* * *
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
نرجو من فضيلتكم التكرم بإفادتنا عما إذا كان تحديد موعد منتظم أسبوعياً لإلقاء محاضرة دينية أو حلقة علم، بدعة منهياً عنها باعتبار طلب العلم عبادة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يحدد موعداً لهذه العبادة. وتبعاً لذلك هل إذا اتفق مجموعة من الأخوة على الالتقاء في المسجد ليلة محددة كل شهر لقيام الليل، هل يكون ذلك بدعة مع إيراد الدليل على ذلك؟ وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .(6/465)
إن تحديد يوم معين منتظم لإلقاء محاضرة أو حلقة علم ليس ببدعة منهي عنها، بل هو مباح كما يقرر يوم معين في المدارس والمعاهد لحصة الفقة أو التفسير أو نحو ذلك. ولا شك أن طلب العلم الشرعي من العبادات لكن توقيته بيوم معين تابع لما تقتضيه المصلحة، ومن المصلحة أن يعين يوم لذلك حتى يا يضطرب الناس. وطلب العلم ليس عبادة موقتة بل هو بحسب ما تقتضيه المصلحة والفراغ. لكن لو خص يوماً معيناً لطب العلم باعتبار أنه مخصوص لطلب العلم وحده فهذا هو البدعة.
وأما اتفاق مجموعة على الالتقاء في ليلة معينة لقيام الليل فهذا بدعة؛ لأن إقامة الجماعة في قيام الليل غير مشروعة إلا إذا فعلت أحياناً وبغير قصد كما جرى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
كتبه محمد الصالح العثيمين
في 28/5/ 1415هـ.
104ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ: عما يحصل من البعض من الوقوع في أعراض العلماء الربانيين والقدح فيهم وغيبتهم وفقكم الله تعالى؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن الوقوع في أعراض أهل العلم المعروفين بالنصح، ونشر العلم والدعوة إلى الله تعالى، من أعظم أنواع الغيبة التي هي من كبائر الذنوب.
والوقيعة في أهل العلم أمثال هؤلاء ليست كالوقيعة في غيرهم؛ لأن الوقيعة فيهم تستلزم كراهتهم، وكراهة ما يحملونه، وينشدونه من شرع الله ـ عز وجل ـ فيكون في التنفير عنهم تنفير عن شرع الله ـ عز وجل ـ وفي هذا من الصد عن سبيل الله ما يتحمل به الإنسان إثماً عظيماً وجرماً كبيراً، ثم إنه يلزم من إعراض الناس عن أمثال هؤلاء العلماء، أن يلتفتوا إلى قوم جهلاء يضلون الناس بغير علم؛ لأن الناس لابد لهم من أئمة يأتمون بهم ويهتدون بهديهم، فإما أن يكونوا أئمة يهدون بأمر الله وإما أن يكونوا أئمة يدعون إلى النار، فإذا انصرف الناس عن أحد الجنسين مالوا إلى الجنس الآخر.(6/466)
وعلى المرء الواقع في أعراض أمثال هؤلاء العلماء أن ينظر في عيوب نفسه، فإن أول عيب يخدش به نفسه، وقوعه في أعراض هؤلاء العلماء، مع ما عنده من العيوب الأخرى التي يبرأ منها أهل العلم ويبرؤن أنفسهم من الوقيعة فيه من أجلها.
* * *
105ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ عن المسجلات الصوتية التي يُسجل فيها العالم، وهل هناك حرج من استعمالها؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن المسجلات الصوتية من نعم الله تعالى، إذا كان يسجل بها ما يفيد المسلم في دينه ودنياه، وأنه يحصل بها علم كثير مفيد، إذا كان من أهل العلم المعروفين بالتحقيق والأمانة، وهي بمنزلة الكتب المؤلفة، ومن المعلوم أنه لا أحد ينهى عن تأليف الكتب إذا كانت من أهل التحقيق والأمانة، وهي لا تصد عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل هي بيان وتفسير لكلام الله ورسوله ونشر لما تضمنه الكتاب والسنة من مواعظ تشتمل على أحاديث وآثار ضعيفة أو مكذوبة لقصد الترغيب أو الترهيب أو كليهما، والذين يسمعونها ممن لا معرفة لهم بالصحيح والضعيف يغترون بها ويأخذون بها مسلمة من غير بحث فيها ولا سؤال عنها ، فالله المستعان.
* * *
106ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ: متى ينكر على المخالف في المسائل الخلافية التي بين أهل العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: مسائل الخلاف نوعان:
النوع الأول نوع يكون الدليل فيها واضحاً لا يمكن فيه الاجتهاد، فهذه ينكر على المخالف فيها لمخالفة النص وذلك كحلق اللحية وإسبال الثوب أسفل من الكعبين، والتفرق في دين الله، وغير ذلك.
لكن لا يجعل ذلك وسيلة للتشاتم والتباغض، لا سيما مع العلم بحسن نية المخالف، بل تُعالج الأمور بحكمة حتى يحصل الوفاق.(6/467)
والنوع الثاني: يكون فيها الدليل غير واضح، إما لخفاء ثبوت الدليل، أو الدلالة أو وجود شبهة مانعة، وغير ذلك، فهذا لا ينكر فيه على المخالف؛لأن قول أحد المختلفين ليس حجة على الآخر، وأمثلة هذا كثيرة.
* * *
107ـ وسئل فضيلة الشيخ: إذا أراد الإنسان حفظ القرآن فبماذا تنصحونه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي ننصحه به أن يبدأ من البقرة، إلا إذا كان حفظه من المفصل أسهل له فليكن من المفصل؛ لأن بعض الناس يسهل عليه الحفظ من المفصل من أجل قصر سوره وآياته وكونه يسمعه من الأئمة في المساجد كثيراً، فإذا كان هذا سهل عليه فليبدأ بما هو أسهل، وننصحه أيضاً بتعاهد حفظه كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وننصحه أيضاً أن يهتم بما كان حفظه أكثر من اهتمامه بكثرة الحفظ؛ لأن العناية بالموجود أولى من العناية بالمفقود.
* * *
رسالة
حول الاجتماع والائتلاف وترك التفرق والاختلاف
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العظيم:(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون # واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون). آل عمران، الآيتان 102،103. فأمرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن نذكر نعمة الله علينا، إذا كنا أعداء فألف بين قلوبنا، فأصبحنا بنعمته إخوانا، فعلينا جميعاً أن نشكر الله على هذه النعمة وأن نحرص كل الحرص على أن تكون كلمتنا واحدة.(6/468)
لأننا بذلك نكون أمة قوية مرموقة، وأما إذا تنازعنا وتفرقنا فإنه بلا شك سوف نفشل وتذهب ريحنا، كما قال الله تعالى)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46)
وإن الواجب على طلبة العلم خاصة، وعلى المسلمين عامة أن يدعوا الأحقاد والأضغان وأن يكون هدفهم واحد ودعواهم واحدة، وأن لا يظهروا الشماتة بأنفسهم بالتفرق والتنازع والتنابز بالألقاب والكراهية والبغضاء، فإن ذلك أعظم سلاح فتاك يبطل هيبة المسلمين، ويوجب أن يتسلط عليهم أعداؤهم فيقفون متفرجين عليهم ينظرون إليهم وهم يتنازعون ويتخاصمون ويقولون كفينا أن نفسد بين المسلمين، وأنه يجب على كل واحد منا أن يعذر أخاه فيما طريقه الاجتهاد، فإن اجتهاد كل واحد ليس حجة على الآخر، والحجة ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الخلاف سائغاً لم يظهر فيه العصيان والتعصب للنفس، فإن الواجب أن تتسع صدورنا له، ولا مانع حينئذ من المناقشة الهادئة التي يُراد بها التوصل إلى الحق، فإن هذا هو طريق الصحابة، وأما أن نتخذ من الخلاف السائغ مثاراً للكراهية والبغضاء والتحزب، فإن ذلك خلاف طريق السلف الصالح، ولينظر الإنسان وليتفكر في هذه الشريعة الإسلامية فإنها جاءت بما يوجب الألفة والمحبة، ونهت عن كل ما يوجب التفرق والبغضاء، فكثير من العبادات يشرع فيها الاجتماع كالصلوات، وكثير من الأشياء نهى الله عنها لأنها توجب العداوة والبغضاء كالبيع على بيع المسلم، والخطبة على خطبته وغير ذلك.
فنصيحتي لإخواني أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وفي أمتهم، وأن لا يتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم.
وأسأل الله لنا جميعاً التوفيق لما يحب ويرضى.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرر في 29/3/1416هـ.(6/469)
108ـ وسئل فضيلة الشيخ: هل يجوز استفتاء أكثر من عالم؟
وفي حالة اختلاف الفتيا هل يأخذ المستفتي بالأيسر أم بالأحوط؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للإنسان إذا استفتى عالماً واثقاً بقوله أن يستفتي غيره؛ لأن هذا يؤدي إلى التلاعب بدين الله وتتبع الرخص، بحيث يسأل فلاناً، فإن لم يناسبه سأل الثاني، وإن لم يناسبه سأل الثالث وهكذا.
وقد قال العلماء:(من تتبع الرخص فسق)، لكن أحياناً يكون الإنسان ليس عنده من العلماء إلا فلاناً مثلاً، فيسأله من باب الضرورة، وفي نيته أنه إذا التقى بعالم أوثق منه في علمه ودينه سأله، فهذا لا بأس به، أن يسأل الأول للضرورة، ثم إذا وجد من هو أفضل سأله.
وإذا اختلف العلماء عليه في الفتيا أو فيما يسمع من مواعظهم ونصائحهم مثلاً، فإنه يتبع من يراه إلى الحق أقرب في علمه ودينه، فإن تساوى عنده الرجلان في العلم والدين، فقال بعض العلماء: يتبع الأحوط وهو الأشد، وقيل يتبع الأيسر، وهذا هو الصحيح؛ أنه إذا تعادلت الفتيا عندك، فإنك تتبع الأيسر؛ لأن دين الله ـ عز وجل ـ مبني على اليسر والسهولة، لا على الشدة والحرج.
وكما قالت عائشة ـرضي الله عنهاـ:"ما خُيرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً"(1). ولأن الأصل البراءة وعدم التأثيم والقول بالأشد يستلزم شغل الذمة والتأثيم.
* * *
109ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ: قلتم إن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب الإمام أحمد، فكيف حكمنا على المذاهب الثلاثة الباقية؟(6/470)
فأجاب فضيلته بقوله: لا . . . ما أظن إننا قلنا هذا باعتبار أن المذاهب الثلاثة ليست على مذهب أهل السنة، لكن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ معروف بين أهل العلم إنه إمام أهل السنة وأنه قام بالدفاع عن السنة قياماً لم يقمه أحد فيما نعلم. ومحنته مع المأمون ومن بعده مشهورة، وإلا فلا شك أن أئمة الإسلام ولله الحمد كلهم على خير وعلى حق، ولكن ذلك لا يعني أن نبرئ كل واحد منهم من الخطأ. بل كل واحد منهم قد يقع منه الخطأ بل الإمام أحمد نفسه قد يصرح بالرجوع عن القول وإن كان قد قاله من قبل كما في قوله في طلاق السكران حتى تبيّنته، يعني فتبين له أنه لا يقع؛ لأنه إذا أوقعه أتى خصلتين: تحريم هذه الزوجة على زوجها الذي طلقها وحلها لغيره، وإذا قال بعدم الوقوع أتى خصلة واحدة وهي حلها لهذا الزوج الذي لم يتحقق بينونتها منه.
* * *
110ـ وسئل فضيلته ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ: ما رأي فضيلتكم فيمن ينفّر من قراءة كتب الدعاة المعاصرين ويرى الاقتصار على كتب السلف الأخيار وأخذ المنهج منها؟
ثم ما هي النظرة الصحيحة أو الجامعة لكتب السلف ـ رحمهم الله ـ وكتب الدعاة المعاصرين والمفكرين؟
فأجاب فضيلته بقوله: أرى أن أخذ الدعوة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء، وهذا رأينا جميعاً بلا شك، ثم يلي ذلك ما ورد عن الخلفاء الراشدين وعن الصحابة وعن أئمة الإسلام فيمن سلف.(6/471)
أما ما يتكلم به المتأخرون والمعاصرون، فإنه يتناول أشياء حدثت هم بها أدرى، فإذا اتخذ الإنسان من كتبهم ما ينتفع به في هذه الناحية فقد أخذ بحظ وافر ونحن نعلم أن المعاصرين إنما أخذوا ما أخذوا من العلم ممن سبق فلنأخذ نحن مما أخذوا منه، ولكن أموراً قد استجدت هم بها أبصر منا، ثم إنها لم تكن معلومة لدى السلف بأعيانها، ولهذا أرى أن يجمع الإنسان بين الحسنيين، فيعتمد أولاً على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وثانياً على كلام السلف الصالح من الخلفاء الراشدين والصحابة وأئمة المسلمين، ثم على ما كتبه المعاصرون الذين يكتبون عن أشياء حدثت في زمانهم لم تكن معلومة بأعيانها عند السلف.
* * *
111ـ وسئل فضيلته ـ غفر الله له ـ: هناك بعض طلبة العلم يبدأ طلب العلم بكتب الحديث ويعرض عن المتون الفقهية وحجتهم بأن المتون الفقهية خالية من أدلة الكتاب والسنة فهل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن يبدأ الطالب قبل كل شيء بفهم القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى قال)كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29) ولان القرآن لا يحتاج إلى أي عناء في ثبوته؛ لأنه ثابت بالتواتر، لكن السنة فيها الصحيح وفيها الحسن وفيها الضعيف وفيها الموضوع فهي تحتاج إلى عناء، ثم هي أيضاً تحتاج إلى جمع أطرافها، فقد يبلغ الإنسان حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام يكون له مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه، أو يكون هذا الحديث منسوخاً وهو لا يعلم، ولهذا نجد كثيراً ممن زعموا أنهم مستندون على الحديث يخطئون في فهمه أو في طريقة الاستدلال به. ولا شك أن السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام أصل من الأصول، فهي كالقرآن في وجوب العمل بها إذا صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(6/472)
وأما جوابه بأن المتون خالية مما قال الله وقال رسوله فنعم، أكثر المتون الفقهية ليس فيها الدليل، ولكن توجد الأدلة في شروحها، فليست خالية من الأدلة باعتبار شروحها التي تحلل أغراضها وتبين معانيها.
والذي أرى أن يكون الإنسان بادئاً:
أولاً: بكتاب الله ـ عز وجل ـ .
وثانياً: بالسنة الثابتة عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم .
وثالثاً : بكتب الفقه المبنية على الكتاب والسنةز
لأن هذه تضبط تصرفه وتصحح فهمه.
لكن هل الأولى أن يحفظ متناً من متون الفقه أو متناً مختصراً من الحديث؟
الجواب: الأولى أن يحفظ متناً مختصراً من الحديث كعمدة الأحكام، وبلوغ المرام، ولكن لا يدع الاستئناس بكلام أهل العلم وأهل الفقه.
* * *
112ـ وسئل الشيخ ـ غفر الله له ـ: بعض طلبة العلم يكتفون بسماع أشرطة العلماء من خلال دروسهم فهل تكفي في تلقي العلم؟ وهل يعتبرون طلاب علم؟ وهل يؤثر في معتقدهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن هذه الأشرطة تكفيهم عن الحضور إلى أهل العلم إذا كان لا يمكنهم الحضور، وإلا فإن الحضور إلى العلماء أفضل وأحسن وأقرب للفهم والمناقشة، لكن إذا لم يمكنهم الحضور فهذا يكفيهم.
ثم هل يمكن أن يكونوا طلبة علم وهم يقتصرون على هذا ؟
نقول: نعم يمكن إذا اجتهد الإنسان اجتهاداً كثيراً كما يمكن أن يكون الإنسان عالماً إذا أخذ العلم من الكتب، لكن الفرق بين أخذ العلم من الكتب والأشرطة وبين التلقي من العلماء مباشرة، أن التلقي من العلماء مباشرة أقرب إلى حصول العلم؛ لأنه طريق سهل تمكن فيه المناقشة بخلاف المستمع أو القارئ فإنه يحتاج إلى عناء كبير في جمع أطراف العلم والحصول عليه.(6/473)
وأما قول السائل: هل يؤثر الاكتفاء بالأشرطة في معتقدهم، فالجواب: نعم يؤثر في معتقدهم إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة بدعية ويتبعونها، أما إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة من علماء موثوق بهم، فلا يؤثر على معتقداتهم، بل يزيدهم إيماناً ورسوخاً واتباعاً للمعتقد الصحيح.
* * *
113وسئل فضيلة الشيخ: ما رأي فضيلتكم فيمن صار ديدنهم تجريح العلماء وتنفير الناس عنهم والتحذير منهم، هل هذا عمل شرعي يثاب عليه أو يعاقب عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن هذا عمل محرَّم، فإذا كان لا يجوز للإنسان أن يغتاب أخاه المؤمن وإن لم يكن عالماً فكيف يسوغ له أن يغتاب إخوانه العلماء من المؤمنين؟ والواجب على الإنسان المؤمن أن يكف لسانه عن الغيبة في إخوانه المؤمنين. قال الله تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات:12) وليعم هذا الذي ابتلي بهذه البلوى أنه إذا جرَّح العالم فسيكون سبباً في رد ما يقوله هذا العالم من الحق، فيكون وبال رد الحق وإثمه على هذا الذي جرح العالم؛ لأن جرح العالم في الواقع ليس جرحاً شخصيّا بل هو جرح لإرث محمد صلى الله عليه وسلم .(6/474)
فإن العلماء ورثة الأنبياء فإذا جرح العلماء وقدح فيهم لم يثق الناس بالعلم الذي عندهم وهو موروث عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ لا يتقون بشيء من الشريعة التي يأتي بها هذا العالم الذي جُرح. ولست أقول إن كل عالم معصوم، بل كل إنسان معرض للخطأ، وأنت إذا رأيت من عالم خطأ فيما تعتقده، فاتصل به وتفاهم معه، فإن تبين لك أن الحق معه وجب عليك اتباعه، وإن لم يتبين لك ولكن وجدت لقوله مساغاً وجب عليك الكف عنه، وإن لم تجد لقوله مساغاً فحذر من قوله؛ لأن الإقرار على الخطأ لا يجوز، لكن لا تجرحه وهو عالم معروف مثلاً بحسن النية، ولو أردنا أن نجرح العلماء المعروفين بحسن النية لخطأ وقعوا فيه من مسائل الفقه، لجرحنا علماء كباراً، ولكن الواجب هو ما ذكرت وإذا رأيت من عالم خطأ فناقسه وتكلم معه، فإما أن يبتين لك أن الصواب معه فتتبعه أو يكون الصواب معك فيتبعك، أو لا يتبين الأمر ويكون الخلاف بينكما من الخلاف السائغ، وحينئذ يحب عليك الكف عنه وليقل هو ما يقول ولتقل أنت ما تقول.
والحمد لله ، الخلاف ليس في هذا العصر فقط، الخلاف من عهد الصحابة إلى يومنا، وأما إذا تبين الخطأ ولكنه أصر انتصاراً لقوله وجب عليك أن تبين الخطأ وتنفر منه، لكن لا على أساس القدح في هذا الرجل وإرادة الانتقام من؛ لأن هذا الرجل قد يقول قولاً حقاً في غير ما جادلته فيه.
فالمهم أنني أحذر إخواني من هذا البلاء وهو تجريح العلماء والتنفير منهم، وأسأل الله لي ولهم الشفاء من كل ما يعيبنا أو يضرنا في ديننا ودنيانا.
* * *
114ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ورعاه ـ: ما هي نصيحتكم لمن ابتدأ في طلب العلم؟ بأي شيء يبدأ؟(6/475)
فأجاب فضيلته بقوله: عندي أن أهم شيء في طلب العلم أن يتعلم الإنسان تفسير كلام الله ـ عز وجل ـ؛ لأن كلام الله هو العلم كله، قال تعالى ) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً)(النحل: من الآية89)وكان الصحابة لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعاً، هذا أهم شيء عندي، وعلى هذا فيبدأ الشاب ولا سيما الصغار من الشباب بحفظ القرآن، والآن حفظ القرآن ـ ولله الحمد ـ متيسر، ففي المسجد حلقات يحفظون القرآن ، وعليهم أمناء من القراء يحفظونهم القرآن، ثم إنه في هذه المناسبة أ,د من إخواني الأغنياء أن يولوا أهمية لهذه الحلقات بتشجيعهم ماديًّا ومعنويًّا، وليعلموا أنهم إذا عانوا في تعليم القرآن فإن لهم مثل أجر المعلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من جهز غازياً فقد غزى" (1) . ولأن الله تعالى قال) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)(المائدة: من الآية2). ولم يأمرنا بالتعاون إلا أن لنا أجراً، لذا أحث إخواني الأغنياء على دعم هذه الحلقات بالمال سواء كان المال نقداً أو كان عقارات توقف لهذه الحلقات تنفعه بعد موته. وأحث أيضاً القائمين على الحلقات على أن يهتموا بإنشاء ما يدر على هذه الحلقات في المستقبل؛ لأن التبرع المقطوع ينتهي، لكن إذا حرصوا على أن يؤسسوا منشآت تؤجر كان هذا حماية لهذه الحلقات من التوقف في المستقبل.(6/476)
بعد ذلك على الطالب أن يهتم بالسنة؛ لأنها هي مصدر التشريع الثاني، ولا أقول الثاني بالترتيب المعنوي، لكن بالترتيب الذكري؛ لأن ما ثبت في السنة كما ثبت في القرآن سواء بسواء؛ لأن الله تعالى يقول) وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(النساء: من الآية113). فليحفظ السنة، ومن الكتب المختصرة في السنة "عمدة الأحكام" وهي أيضاً موثوقة؛ لأن جامعها ـ رحمه الله ـ جمع فيها ما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، ولم يشذ عن هذا القيد إلا في أحاديث يسيرة، وإذا ترقى الإنسان شيئاً ما فليحفظ "بلوغ المرام" وهو من أحسن ما ألف في الحديث؛ لأنه ذكر الحديث ويذكر مرتبته فيعطي الإنسان قوة وقدرة على معرفة مرتبة الحديث؛ لأن الحديث ليس كالقرآن، فالقرآن لا يحتاج إلى البحث في سنده؛ لأنه ثابت متواتر، أما السنة فلا يتم الاستدلال بها إلا بأمرين: الأول: صحة الحديث، الثاني: دلالة الحديث على الحكم المطلوب. ولهذا إذا قال لك إنسان هذا حرام والدليل قوله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فعليك أن تطالبه بصحة النقل؛ لأن هناك أحاديث ضعيفة، وأحاديث مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم مثل:"حب الوطن من الإيمان" (1) .
* * *
115ـ وسئل فضيلته ـ وفقه الله تعالى ـ: هل يجوز لإنسان أن يجتهد في إفتاء بعض الناس إذا كان لا يوجد من يفتي أو لم يتيسر سؤال العلماء؟(6/477)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان جاهلاً فكيف يجتهد؟ وعلى أي أساس ينبي اجتهاده؟! والواجب على من لا يعلم الحكم أن يتوقف، وإذا سئل يقول : لا علم عندي، فالملائكة لما قال الله ـ عز وجل ـ لهم)أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: من الآية31) (قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة:32) أما كونه يقول إذا لم يجد عاماً يفتي أنا أفتي صواب أم خطأ فهذا خطأ ولا يجوز، فالجواب أن يقول للمستفتي: اسأل العلماء، والآن ولله الحمد الاتصالات سهلة يتصل عن طريق الهاتف أو البريد السريع أو البطيء.
* * *
116ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ: يقع من بعض الناس ـ هداهم الله تعالى ـ التقليل من شأن العلماء بدعوى عدم فقه الواقع فما توجيه سماحتكم جزاكم الله خيراً ووفقكم لما يحبه ويرضاه؟(6/478)
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن فقه الواقع أمر مطلوب، وأن الإنسان لا ينبغي أن يكون في عزلة عما يقع حوله وفي بلده، بل لابد أن يفقه لكن لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يكون الاشتغال بفقه الواقع مشغلاً عن فقه الشريعة والدين الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" (1) ، لم يقل يفقهه في الواقع، فإذا كان عند الإنسان علم بما يقع حوله لكنه قد صرف جهده وجل أمره إلى الفقه في دين الله، فهذا طيب، أما أن ينشغل بالواقع والتفقه فيه ـ كما زعم ـ والاستنتاجات التي يخالفها ما يقع فيما بعد؛ لأن كثيراً من المشتغلين بفقه الواقع يقدمون حسب ما تمليه عليهم مخيلتهم، ويقدرون أشياء يتبين أن الواقع بخلافها، فإذا كان فقه الواقع لا يشغله عن فقه الدين، فلا بأس به، لكن لا يعني ذلك أن نقلل من شأن علماء يشهد لهم بالخير وبالعلم وبالصلاح لكنهم يخفى عليهم بعض الواقع، فإن هذا غلط عظيم، فعلماء الشريعة أنفع للمجتمع من علماء فقه الواقع، ولهذا تجد بعض العلماء الذين عندهم اشتغال كثير في فقه الواقع وانشغال عن فقه الدين لو سألتهم عن أدنى مسألة في دين الله ـ عز وجل ـ لوقفوا حيارى أو تكلموا بلا علم، يتخبطون تخبطاً عشوائياً، والتقليل من شأن العلماء الراسخين في العلم المعروفين بالإيمان والعلم الراسخ جناية، ليس على هؤلاء العلماء بأشخاصهم، بل على ما يحملونه من شريعة الله تعالى، ومن المعلوم أنه إذا قلت هيبة العلماء وقلت قيمتهم في المجتمع فسوف يقل بالتبع الأخذ عنهم، وحينئذ تضيع الشريعة التي يحملونها أو بعضها، ويكون في هذا جناية عظيمة على الإسلام وعلى المسلمين أيضاً.
والذي أرى أنه ينبغي أن يكون عند الإنسان اجتهاد بالغ، ويصرف أكبر همه في الفقه في دين الله ـ عز وجل ـ حتى يكون ممن أراد الله بهم خيراً، وإلا ينسى نفسه من فقه الواقع، وأن يعرف ما حوله من الأمور التي يعملها أعداء الإسلام للإسلام.(6/479)
ومع ذلك أكرر أنه لا ينبغي للإنسان أن يصرف جل همه ووقته للبحث عن الواقع بل أهم شيء أن يفقه في دين الله ـ عز وجل ـ وأن يفقه من الواقع ما يحتاج إلى معرفته فقط وكما أشرت سابقاً في أول الجواب ـ أن من فقهاء الواقع من أخطأوا في ظنهم وتقديراتهم وصار المستقبل على خلاف ما ظنوا تماماً.
لكن هم يقدرون ثم يبنون الأحكام على ما يقدرونه فيحصل بذلك الخطأ، وأنا أكرر أنه لابد أن يكون الفقيه بدين الله عنده شيء من فقه أحوال الناس وواقعهم حتى يمكن أن يطبق الأحكام الشرعية على مقتضى ما فهم من أحوال الناس، ولهذا ذكر العلماء في باب القضاء: أن من صفات القاضي أن يكون عارفاً بأحوال الناس ومصطلحاتهم في كلامهم وأفعالهم.
* * *
117ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ: نحن طلبة نتلقى العلم، وندرس العقيدة على معلمين يدرسونا العقيدة الأشعرية، ويفسرون يد الله تعالى بقدرته أو نعمته واستواءه على عرشه بالاستيلاء عليه ونحو ذلك ، فما حكم الدراسة على هؤلاء المعلمين.(6/480)
فأجاب فضيلته بقوله: هؤلاء الذين يفسرون القرآن بهذا التفسير سواء سميناهم أشعرية أو غير هذا الاسم، لا شك أنهم أخطئوا طريقة السلف الصالح. فإن السلف الصالح لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه هؤلاء المتأولون، فليأتوا بحرف واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أبي بكر ، أو عمر ، أو عثمان، أو علي، أنهم أولوا اليد بالقدرة أو بالقوة أو أولوا الاستواء بالاستيلاء، أو أولوا الوجه بالثوب، أو أولوا المحبة بالثواب أو بغير الثواب، ليأتوا بحرف واحد عن هؤلاء أنهم فسروا هذه الآيات وأمثالها بما فسرَّ به هؤلاء، فإذا لم يأتوا فيقال:إما أن يكون السلف الصالح وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتقين عليه الصلاة والسلام إما أن يكونوا على جهل بمعاني هذه العقيدة العظيمة، وإما أن يكونوا على علم، ولكن كتموا الحق وكلا الأمرين لا يمكن أن يوصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه الراشدين ولا من صحابته المرضيين، فإذا كان ذلك لا يمكن في هؤلاء وجب أن نسير على هديهم.(6/481)
وأن نصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يدعوا قول فلان وفلان وأن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وأن يعلموا أن لهم مرجعاً يرجعون إلى الله تعالى فيه، ولا يمكن أن يكون لهم حجة فيما قال فلان وفلان، والله إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئاً، إن الله تعالى يقول)وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:65) ولم يقل: ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم فلان وفلان وإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العظيم) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(لأعراف: من الآية158). فأمر بالإيمان به واتباعه وإذا كان كذلك فهل يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً بالله ورسوله تمام الإيمان ثم يعدل عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في عقيدته بربه ويحرف ما وصف الله به نفسه في كتاب أو وصفه به رسوله الله صلى الله عليه وسلم لمجرد وهميات يدعونها عقليات.
إنني أنصحهم أن يرجعوا إلى الله ـ عز وجل ـ وأن يدعوا كل قول، لقول الله ورسوله فإنهم إن ماتوا على ذلك ماتوا على خير وحق وإن خالفوا ذلك فهم على خطر عظيم، ولن يغنوا عنهم من الله شيئاً، قال الله تعالى)يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (النحل:111)(6/482)
أكرر النصيحة لكل مؤمن أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيما يعتقده بربه ومعبوده ـ جل وعلا ـ وفيما يعتقده في الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وفيما كان عليه أئمة المسلمين الذين قادوا الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون التحكم إلى العقول التي هي وهميات في الحقيقة فيما يتعلق بالله تعالى وأسمائه وصفاته. ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية حق الإجادة في قوله عن أهل الكلام:{إنهم أوتوا فهوماً ولم يؤتوا علوماً، وأتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء} فعلى الإنسان أن يوسع مداركه في العلوم المبنية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يزكي نفسه باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أسأل الله تعالى أن يتوفانا جميعاً على الإيمان، وأن نلقاه وهو راضٍ عنا إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإني أدعوكم يا طلبة العلم أن تدعو إخوانكم إلى ما سمعتم، فإن والله هو الحق، ومن اطلع على حق سواه فإننا له قابلون وبه مستمسكون. أملاه محمد الصالح العثيمين.
* * *
118ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ جزاه الله خيراً ـ: كثيراً ما يشاع بأن الفتوى تتغير بتغير الزمان أو المكان، مثل: المذياع في أول ظهوره حرمه البعض، فنرجو من سماحتكم بيان الحق في هذه المسألة؟ والله يحفظكم ويرعاكم.
فأجاب فضيلته بقوله: الفتوى في الحقيقة لا تتغير بتغير الزمان، ولا بتغير المكان، ولا بتغير الأشخاص.(6/483)
ولكن الحكم الشرعي إذا عُلِّق بعلة فإنه إذا وجدت فيه العلة ثبت الحكم الشرعي، وإذا لم توجد لم يثبت الحكم الشرعي، وقد يرى المفتي أن يمنع الناس من شيء أحله الله لهم لما يترتب على فعل الناس له من المحرم كما فعل عمر ـ رضي الله عنه ـ في الطلاق الثلاث حين رأى الناس تتايعوا فيها فألزمهم بها، وكان الطلاق الثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فلما رأى عمر الناس تتايعوا في هذا ألزمهم بالثلاث ومنعهم من الرجوع إلى زوجاتهم (1).
وكذلك ما حصل في عقوبة شارب الخمر كانت العقوبة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر لا تزيد على أربعين جلدة، ثم إن الناس كثر شربهم الخمر فاستشار عمر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فأشروا بأن يجعل العقوبة ثمانين جلدة (2).
فالأحكام الشرعية لا يمكن أن يتلاعب بها الناس كلما شاءوا حرموا وكلما شاءوا أوجبوا، وإنما يرجع إلى العلل الشرعية التي تقتضي الوجوب أو عدمه وأما بالنسبة للمذياع: فلم يقل أحد بتحريمه من علماء التحقيق، وإنما قال بتحريمه أناس جهلوا حقيقة الأمر، وإلا فإن العلماء المحققين، وأخص منهم شيخانا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ لم يروا أن هذا من المحرمات بل رأوا أن هذا من الأشياء التي علّمها الله ـ عز وجل ـ الخلق، وقد تكون نافعة، وقد تكون ضارة بحسب ما فيها، وكذلك مكبر الصوت ـ المكرفون ـ أيضاً أنكره بعض الناس أول ما ظهر لكن بدون تحقيق، وأما المحققون فلم ينكروه، بل رأوا أنه من نعمة الله عز وجل ـ أن يسر لهم ما يوصلوا خطبهم ومواعظهم إلى البعيدين.
* * *
119ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ: ما نصيحتكم لطلبة العلم حول دعوة الناس وتعليمهم العلم الشرعي؛ لأنه قد يوجد من بعضهم ـ هداهم الله تعالى ـ شيء من الغلظة والشدة في التعامل، نرجو التوجيه والإرشاد، سدد الله خطاكم ووفقكم لما يحبه ويرضاه؟(6/484)
فأجاب فضيلته بقوله: الذي تدل عليه السنة المطهرة، سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب على الإنسان أن يدعوا إلى الله تعالى بالحكمة وباللين وبالتيسير فقد قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم)ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: من الآية125)وقال الله تعالى له)فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159) وقال الله تعالى حين أرسل موسى وهارون إلى فرعون)فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:44)
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن الله يعطي بالرفق ما لا يُعطى بالعنف" (1). وكان يقول إذا بعث بعثاً:"يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" (2).
وهكذا ينبغي على الداعية أن يكون ليناً طليق الوجه منشرح الصدر حتى يكون ذلك أدعى لقبول صاحبه الذي يدعوه إلى الله.
ويجب أن تكون دعوته إلى الله ـ عز وجل ـ لا إلى نفسه، ليحب الانتصار أو الانتقام ممن خالف السبيل؛ لأنه إذا دعا إلى الله وحده صار بذلك مخلصاً ويسر الله له الأمر وهدى على يديه من شاء من عباده ، لكن إذا كان يدعو لنفسه كأنه يريد أن ينتصر لها، وكأنه يشعر بأن هذا عدو له يريد أن ينتقم منه، فإن الدعوة ستكون ناقصة وربما تنزع بركتها.
فنصيحتي لإخواني طلبة العلم أن يشعروا هذا الشعور، أي أنهم يدعون الخلق رحمة بالخلق وتعظيماً لدين الله ـ عز وجل ـ ونصرة له.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وهدانا إلى صراطه المستقيم.
* * *
رسالة(6/485)
من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم . . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جواباً لكتابكم ذي الرقم . . . والتاريخ 24ـ 25/9/1409هـ.
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله تعالى أن يحبك كما أحببتني فيه وأن يجعلنا جميعاً من دعاة الحق وأنصاره، ويوفقنا للصواب في الاعتقاد والقول والعمل.
ثم إن كتابكم المذكور تضمن ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إذا تبين لكم رجحان قول كنتم تفتون أو تحكمون بخلافه فهل يجوز لكم الرجوع فيما أفتيتم به أو حكمتم.
المسألة الثانية: إذا تبين لكم رجحان قول كنتم تفتون أو تحكمون بخلافه فهل يجوز لكم مستقبلاً أن تفتوا أو تحكموا بما تبين لكم رجحانه.
المسألة الثالثة: هل يجوز للإنسان في مسائل الخلاف أن يفتي لشخص بأحد القولين ولشخ آخر بالقول الثاني.
والجواب على هذه المسائل العظيمة بعون الله وتوفيقه أن نقول مستمدين من الله تعالى الهداية والصواب.
أما المسألة الأولى:
فمتى تبين للإنسان ضعف ما كان عليه من الرأي وأن الصواب في غيره وجب عليه الرجوع عن رأيه الأول إلى ما يراه صواباً بمقتضى الدليل الصحيح، وقد دل على وجوب الرجوع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقول الخلفاء الراشدين وإجماع المسلمين وعمل الأئمة.(6/486)
أما كتاب الله تعالى: فمن أدلته قوله تعالى : )وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (الشورى:10) فمتى كان الحكم في مسائل الخلاف إلى الله وجب الرجوع فيها إلى ما دل عليه كتاب الله. وقال تعالى) فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(النساء: من الآية59)وقال تعالى:( )وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115)
ومن سبيل المؤمنين الرجوع إلى ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وأما السنة: فمن أدلتها قوله صلى الله عليه وسلم:"إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي" (1).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وأما أقوال الخلفاء الراشدين: فمن أشهرها قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في المشركة وهي زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء حيث من الإخوة الأشقاء من الميراث لكونها عصبة، وقد استغرقت الفروض التركة ثم قضى بعد ذلك بتشريكهم مع الإخوة لأم، فقال له رجل: قد قضيت في هذا عام الأول بغير هذا، فقال: وكيف قضيت؟ قال: جعلته للإخوة للأم ولم تجعل للإخوة من الأب والأم شيئاً، قال عمر: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي. أخرجه ابن أبي شيبة11/253، وقال ـ رضي الله عنه ـ في كتابه لأبي موسى في القضاء: لا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.(6/487)
وأما الإجماع: فقال الشافعي ـ رحمه الله ـ: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.
وأما عمل الأئمة: فها هو الإمام أحمد يقول القول ويقول بخلافه، فتارة يصرح بالرجوع كما صرح بالرجوع عن القول بوقوع طلاق السكران، وتارة يصرح أصحابه برجوعه عنه كما صرح الخلال برجوع الإمام عن قوله فيمن ابتدأ مسح خفيه مقيماً ثم سافر أنه يتم مسح مقيم إلى القول بأن يتم مسح مسافر، وتارة لا يصرح ولا يصرح عنه برجوع فيكون له في المسألة قولان.
والمهم أنه متى تبين للإنسان ضعف رأيه الأول وجب عليه الرجوع عنه ولكن يسوغ له نقض حكمه الأول ولا يلزمه إخبار المستفتي بالرجوع؛ لأن كلا من الرأيين الأول والثاني صادر عن اجتهاد، والاجتهاد لا ينقض بمثله وظهور خطأ اجتهاده الأول لا يمنع احتمال خطئه في الثاني، فقد يكون الاجتهاد الأول هو الصواب في الواقع، وإن ظهر له خلافه؛ لأن الإنسان غير معصوم في اجتهاده لا الثاني ولا الأول.
وأما المسألة الثانية:
فجوابها يعلم من جواب المسألة الأولى وهو أنه يجب على الإنسان الرجوع إلى ما تبين له أنه الصواب، وإن كان يفتي أو يحكم بخلافه سابقاً.
وأما المسألة الثالثة:(6/488)
فإن كان في المسألة نص، كان الناس فيها سواء، ولا يفرق فيها بين شخص وآخر، وأما المسائل الاجتهادية فإنها مبنية على الاجتهاد، وإن كان الاجتهاد فيها في الحكم كذلك في محله، ولهذا لما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه أن الناس كثر شربهم الخمر زادهم في عقوبتها ولما رآهم تتايعوا في الطلاق الثلاث أمضاه عليهم، ولهذا ما يؤيده من كلام الله تعالى وما جاءت به السنة ففي كتاب الله تعالى يقول جل ذكره:( )وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) (الأنعام:146) فعاملهم الله بما تقتضيه حالهم وحرم عليهم هذه الطيبات ببغيهم وظلمهم:( )فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) (النساء:160) .وفي السنة جاء قتل شارب الخمر في الرابعة إذا تكررت عقوبته ثلاثاً ولم يقلع، مع أن عقوبة شارب الخمر في الأصل لا تبلغ القتل.
فإذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه تقتضي أن يعامل معاملة خاصة عومل بمقتضاه ما لم يخالف النص.
وكذلك إذا كان الأمر قد وقع وكان في إفتائه بأحد القولين مشقة وأفتى بالقول الثاني فلا حرج مثل أن يطوف في الحج أو العمرة بغير وضوء ويشق عليه إعادة الطواف لكونه نزح عن مكة أو لغير ذلك فيفتي بصحة الطواف بناء على القول بعدم اشتراط الوضوء فيه. وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ يفعل ذلك أحياناً ويقول لي: هناك فرق بين من فعل ومن سيفعل وبين ما وقع وما لم يقع.(6/489)
وفي مقدمات(المجموع) للنووي ـ رحمه الله ـ 1/88 ط المكتبة العالمية: قال الصيمري: إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامل بما فيه تغليظ وهو مما لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز ذلك زجراً له كما روى عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه سئل عن توبة القاتل فقال: لا توبة له، وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكيناً قد قتل فلم أقنطه.
وهذا الذي ذكرناه لا يكون مطرداً في كل صورة فلو أراد قاض أو مفت أن يأخذ في ميراث الإخوة مع الجد بقول من يرى توريثهم إذا رأى أنهم فقراء وأن التركة كثيرة وبقول من لا يرى توريثهم إذا كان المال قليلاً وهم أغنياء لم يكن ذلك سائغاً؛ لأن في هذا إسقاط لحق الغير لمصلحة الآخرين بلا موجب شرعي.
هذا والله أسال أن يلهمنا جميعاً الصواب في القول والعمل والاعتقاد
الفصل الثالث
فوائد متنوعة في العلم
الفائدة الأولى
لابد لطالب العلم من مراعاة عدة أمور عند طلبه لأي علم من العلوم:
أولاً: حفظ متن مختصر فيه.
فإذا كنت تطلب النحو، فإن كنت مبتدئاً فلا أرى أحسن من متن الاجرومية؛ لأنه واضح وجامع وحاصر وفيه بركة، ثم متن ألفة ابن مالك؛ لأنها خلاصة علم النحو كما قال هو نفسه:
أحصى من الكفاية الخلاصة كما اقتصي غنى بلا خصاصة
وأما في الفقه فمتن زاد المستنقع، لأنه كتاب مخدوم بالشروح والحواشي والتدريس، وإن كان بعض المتون الأخرى أحسن منه من وجه، لكن هو أحسن من حيث كثرة المسائل الموجودة فيه، ومن حيث إنه مخدوم.
وأما في الحديث فمتن عمدة الأحكام، وإن ترقيت فبلوغ المرام، وإن كنت تقول إما هذا أو هذا، فبلوغ المرام أحسن؛ لأنه أكثر جمعاً للأحاديث، ولأن الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله بين درجة الحديث.(6/490)
وأما في التوحيد فمن أحسن ما قرأنا متن كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وأما في توحيد الأسماء والصفات فمن أحسن ما قرأت العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهو كتاب جامع مبارك مفيد، وهلم جرا، خذ من كل فن تطلبه متناً مختصراً فيه واحفظه.
ثانياً: ضبطه وشرحه على شيخ متقن وتحقيق ألفاظه وما كان زائداً أو ناقصاً.
ثلاثاً: عدم الاشتغال بالمطولات، وهذه الفقرة مهمة لطالب العلم، فلابد لطالب العلم أن يتقن المختصرات أولاً حتى ترسخ العلوم في ذهنه ثم يُفيض إلى المطولات، لكن بعض الطلبة قد يغرب فيطالع المطولات ثم إذا جلس مجلساً قال: قال صحاب المغني، قال صاحب المجموع، قال صاحب الإنصاف، قال صاحب الحاوي، ليظهر أنه واسع الاطلاع، وهذا خطأ نحن نقول: ابدأ بالمختصرات حتى ترسخ العلوم في ذهنك، ثم إذا منَّ الله عليك، فاشتغل بالمطولات، وقياس ذلك بالأمر المحسوس أن ينزل مَنْ لم يتعلم السباحة إلى بحر عميق فإنه لا يستطيع أن يتخلص فضلاً عن أن يتقن.
رابعاً: لا تنتقل من مختصر إلى آخر بلا موجب فهذا من باب الضجر، وهذه آفة تقطع على الطالب طلبه وتضيع عليه أوقاته، فإذا كان كل يوم له كتاب يقرأ فيه، فهذا خطأ في منهج طالب العلم، فإذا قررت كتاباً من تب العلم فاستمر فيه، ولا تقول أقرأ كتاباً أو فصلاً من هذا الكتاب ثم أنتقل للآخر، فإن هذا مضيعة للوقت.
خامساً: اقتناص الفوائد والضوابط العلمية، فهناك فوائد التي لا تكاد تطرأ على الذهن، أو يندر ذكرها والتعرض لها، أو تكون مستجدة تحتاج إلى بيان الحكم فيها، فهذه اقتناصها، وقيدها بالكتابة، ولا تقول هذه معلومة عندي، ولا حاجة أن أقيدها، لأنها سرعان ما تُنسى، وكم من فائدة تمر بالإنسان فيقول هذه سهلة ما تحتاج إلى قيد، ثم بعد فترة وجيزة يتذكرها ولا يجدها.(6/491)
لذلك احرص على اقتناص الفوائد التي يندر وقوعها أو يتجدد وقوعها، ومن أحسن ما ألف في هذا الموضوع كتاب العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ"بدائع الفوائد" فقد جمع فيه من بدائع العلوم، ما لا تكاد تجده في كتاب آخر، فهو جامع في كل فن، كلما طرأ على باله مسألة أو سمع فائدة قيدها، ولهذا تجد فيه من علم العقائد ، والفقه، والحديث، والتفسير، والنحو، والبلاغة وغيرها.
وأيضاً أحرص على الاهتمام بالضوابط.
ومن الضوابط: ما يذكره العلماء تعليلاً للأحكام، فإن كل التعليلات للأحكام الفقهية تعتبر ضوابط؛ لأنها تبنى عليها الأحكام، فهذه احتفظ بها، وسمعت أن بعض الإخوان يتتبع هذا الضوابط في الروض المربع ويحررها، وقلت من الأحسن أن يقوم بهذه طائفة، تتبع الروض المربع من أوله إلى آخره كلما ذكر علة تُقيد ، لأن كل علة يبنى عليها مسائل كثيرة، إذ أن العلم له ضابط، فكل ضابط يدخل تحته جزئيات كثيرة.
فمثلاً إذا شك في طهارة ماء أو بنجاسته فإنه يبني على اليقين،فهذه العلة تعتبر حكماً وتعتبر ضابطاً.
أيضاً يعلل بأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا شك في نجاسة طاهر فهو طاهر، أو في طهارة نجسر فهو نجس؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان.
فإذا حرص طالب العلم ودوّن كلما مر عليه من هذه التعليلات وحررها وضبطها ثم حاول في المستقبل أن يبني عليها مسائل جزئية لكان في هذا فائدة كبيرة له ولغيره.
سادساً: جمع النفس للطلب، فلا يشتتها يميناً ويساراً، اجمع النفس على الطلب مادمت مقتنعاً بأ هذا منهجك وسبيلك، وأيضاً اجمع نفسك على الترقي فيه لا تبقى ساكناً. فكِّر فيما وصل إليه علمك من المسائل والدلائل حتى تترقى شيئاً فشيئاً، واستعن بمن تثق به من زملائك وإخوانك فيما إذا احتاجت المسألة إلى استعانة، ولا تستحي أن تقول يا فلان ساعدني على تحقيق هذه المسألة بمراجعة الكتب، الحياء لا ينال العلم به أحد، فلا ينال العلم مستحيي ولا مستكبر.
الفائدة الثانية(6/492)
مما ينبغي لطالب العلم مراعاته تلقي العلم عن الأشياخ؛ لأنه يستفيد بذلك فوائد عدة:
1ـ اختصار الطريق، فبدلاً من أن يذهب يقلب في بطون الكتب وينظر ما هو القول الراجح وما سبب رجحانه، وما هو القول الضعيف وما سبب ضعفه، بدلاً من ذلك كله، يمد إليه المعلم ذلك بطريق سهل ويعرض له خلاف أهل العلم في المسائل على قولين أو
أو ثلاثة مع بيان الراجح، والدليل كذا، وهذا لا شك أنه نافع لطالب العلم.
2ـ السرعة في الإدراك، فطالب العلم إذا كان يقرأ على عالم فإنه يدرك بسرعة أكثر مما رو ذهب يقرأ في الكتب؛ لأنه إذا قرأ في الكتب تمر عليه العبارات المشكلة والغامضة فيحتاج إلى التدبر وتكرار العبارة مما يأخذ منه الوقت والجهد، وربما فهمها على وجه خطأ وعمل بها.
3ـ الربط بين طلاب العلم والعلماء الربانيين، لذلك القراءة على العلماء أجدى وأفضل من قراءة الإنسان لنفسه.
الفائدة الثالثة
إذا دعت الحاجة للسؤال فليحسن طالب العلم السؤال، أما إذا لم تدع الحاجة فلا يسأل، لأنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل إلا إذا احتاج هو أو ظن أن غيره يحتاج إلى السؤال، فقد يكون مثلاً في درس، وهو فاهم الدرس ولكن فيه مسائل صعبة تحتاج إلى بيانها لبقية الطلبة فليسأل من أجل حاجة غيره، والسائل لحاجة غيره كالمعلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل وسأله عن الإيمان، والإحسان، والإسلام، والساعة وأشراطها، قال:" هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" (1)، فإذا كان الباعث على السؤال حاجة السائل فسؤاله وجيه، أو حاجة غيره وسأل ليعلم غيره فهذا أيضاً وجيه وطيب، أما إذا سأل ليقول الناس: ما شاء الله فلان عنده حرص على العلم، كثير السؤال، فهذا غلط، وعلى العكس من ذلك من يقول: لا أسأل حياءً، فالثاني مُفْرِط، وخير الأمور الوسط.
كذلك ينبغي أن يكون عند طالب العلم حسن الاستماع لجواب العالم، وصحة الفهم للجواب، فبعض الطلبة إذا سأل وأجيب تجده يستحي أن يقول ما فهمت.(6/493)
والذي ينبغي لطالب العلم إذا لم يفهم أن يقول ما فهمت لكن بأدب وتوقير للعالم.
الفائدة الرابعة
الحفظ ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: غريزي: يهبه الله تعالى لمن يشاء، فتجد الإنسان تمر عليه المسألة والبحث فيحفظه ولا ينساه.
والقسم الثاني: كسبي: بمعنى أن يمرن الإنسان نفسه على الحفظ، ويتذكر ما حفظ فإذا عود نفسه تذكر ما حفظ سهل عليه حفظه.
الفائدة الخامسة
المجادلة والمناظرة نوعان:
النوع الأول: مجادلة مماراة: يماري بذلك السفهاء ويجاري العلماء ويريد أن ينتصر قوله فهذه مذمومة.
النوع الثاني: مجادلة لإثبات الحق وإن كان عليه فهذه محمودة مأمور بها، وعلامة ذلك ـ أي المجادلة الحقة ـ أن الإنسان إذا بان له الحق اقتنع وأعلن الرجوع، أما المجادل الذي يريد الانتصار لنفسه فتجده لو بان أن الحق مع خصمه، يورد إيرادات يقول: لو قال قائل، ثم إذا أجيب قال: لو قال قائل، ثم إذا أجيب قال: لو قال قائل، ثم تكون سلسلة لا منتهى له، ومثر هذا عليه خطر ألا يقبل قلبه الحق، لا بالنسبة للمجادلة مع الآخر ولكن في خلوته، وربما يورد الشيطان عليه هذه الإيرادات فيبقى في شك وحيرة، كما قال الله تبارك وتعالى)وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام:110) وقال الله تعالى) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ)(المائدة: من الآية49). فعليك يا أخي بقبول الحق سواء مع مجادلة غيرك أو مع نفسك، فمتى تبين لك الحق فقل: سمعنا وأطعنا، وآمنا وصدقنا.
ولهذا تجد الصحابة يقبلون ما حكم به الرسول عليه الصلاة والسلام أو ما أخبر به دون أن يوردوا عليه الاعتراضات.(6/494)
فالحاصل أن المجادلة إذا كان المقصود بها إثبات الحق وإبطال الباطل فهي خير، وتعودها وتعلمها خير لا سيما في وقتنا هذا، فإنه كثُرَفيه الجدال والمراء، حتى أن الشيء يكون ثابتاً وظاهراً في القرآن والسنة يم يورد عليه أشكالات.
وهنا مسألة : وهي أن بعض الناس يتحرج من المجادلة حتى وإن كانت حقاً استدلالاً بحديث:"وأنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً" (1) فيترك هذا الفعل.
فالجواب: من ترك المراء في دين الله فليس بمحق إطلاقاً؛ لأن هذا هزيمة للحق، لكن قد يكون محقًّا إذا كان تخاصمه هو وصاحبه في شيء ليس له علاقة بالدين أصلاً، قال: رأيت فلاناً في السوق، ويقول الآخر: بل رأيته في المسجد، ويحصل بينهما جدال وخصام فهذه هي المجادلة المذكورة في الحديث، أما من ترك المجادلة في نصرة الحق فليس بمحق إطلاقاً فلا يدخل في الحديث
الفائدة السادسة
من الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يهتم بها المذاكرة، والمذاكرة نوعان:
النوع الأول: مذاكرة مع النفس، بأن تجلس مثلاً جلسة وحدك ثم تعرض مسألة من المسائل أو مسألة قد مرت عليك، ثم تأخذ في محاولة عرض الأقوال وترجيح ما قيل في هذه المسألة بعضها على بعض، وهذه سهلة على طالب العلم، وتساعد على مسألة المناظرة السابقة.
النوع الثاني: مذاكرة مع الغير، بأن يختار من إخوانه الطلبة من يكون عوناً له على طلب العلم، مفيداً له، فيجلس مع ويتذاكرون، يقرأ مثلاً ما حفظاه، كل واحد يقرأ على الآخر قليلاً، أو يتذاكران في مسألة من المسائل بالمراجعة أو بالمفاهمة إن قدرا على ذلك فإن هذا مما ينمي العلم ويزيده، لكن إياك والشغب والصلف؛ لأن هذا لا يفيد.
الفائدة السابعة
كراهية التزكية والمدح والتكبر على الخلق:(6/495)
وهذه يبتلي بها بعض الناس فيزكي نفسه، ويرى أن ما قاله هو الصواب وأن غيره إذا خالفه فهو مخطئ وما أشبه ذلك، كذلك حب المدح تجده يسأل عما يقال عنه فإذا وجد أنهم مدحوه انتفخ وزاد انتفاخه حتى يعجز جلده عن تحمل بدنه، كذلك التكبر على الخلق، بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ إذا آتاه الله علماً تكبر، الغني بالمال ربما يتكبر ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم:" العائل المستكبر من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم" (1)، لأنه ليس عنده مال يوجب الكبرياء، لكن العالم لا ينبغي أن يكون كالغني كلما ازداد علماً ازداد تكبراً، بل ينبغي العكس كلما ازداد علماً ازداد تواضعاً؛ لأن من العلوم التي يقرأها أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه كلها تواضع للحق وتواضع للخلق، لكن على كل حال إذا تعارض التواضع للحق مع التواضع للخلق أيهما يقدم؟
يقدم التواضع للحق، فمثلاً لو كان هناك إنسان يسب الحق ويفرح بمعاداة من يعمل به، فنا لا تتواضع له، تواضع للحق، وجادل هذا الرجل حتى وإن أهانك أو تكلم فيك فلا تهتم به، فلابد من نصرة الحق.
الفائدة الثامنة
زكاة العلم تكون بأمور:
الأمر الأول : نشر العلم: نشر العلم من زكاته، فكما يتصدق الإنسان بشيء من ماله، فهذا العالم يتصدق بشيء من علمه، وصدقة العلم أبقى دوماً وأقل كلفة ومؤنة، أبقى دوماً؛ لأنه ربما كلمة من عالم تُسمع ينتفع بها أجيال من الناس ومازلنا الآن ننتفع بأحاديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ولم ننتفع بدرهم واحد من الخلفاء الذين كانوا في عهده، وكذلك العلماء ننتفع بكتبهم ومعهم زكاة وأي زكاة، وهذه الزكاة لا تنقص العلم بل تزيده كما قيل:
يزيده بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفًّا شددت(6/496)
الأمر الثاني: العمل به: لأنه العمل به دعوة إليه بلا شك، وكثير من الناس يتأسون بالعالم، بأخلاقه وأعماله أكثر مما يتأسون بأقواله، وهذا لا شك زكاة.
الأمر الثالث: الصدع بالحق: وهذا من جملة نشر العلم ولكن النشر قد يكون في حال السلامة وحال الأمن على النفس وقد يكون في حال الخوف على النفس، فيكون صدَّعاً بالحق.
الأمر الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا شك أن هذا من زكاة العلم، لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عارف للمعروف وعارف للمنكر ثم قائم بما يجب عليه من هذه المعرفة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الفائدة التاسعة
موقف طالب العلم من وَهْمِ وخطأ العلماء:
هذا الموقف له جهتان:
الأولى: تصحيح الخطأ: وهذا أمر واجب، يجب على من عثر على وهم إنسان ولو كان من أكبر العلماء أن ينبه على هذا الوهم وعلى هذا الخطأ لأن بيان الحق أمر واجب وبالسكوت يمكن أن يضيع الحق لاحترام من قال بالباطل؛ لأن احترام الحق أولى بالمراعاة.
لكن هل يصرح بقائل الوهم أو الخطأ؟ أو يقول توهم بعض الناس فقال كذا وكذا؟
الجواب: ينظر لما تقتضيه المصلحة، قد يكون من المصلحة ألا يصرح، كما لو كان يتكلم عن عالم مشهور في عصره موثوق عند الناس، محبوب إليهم، يقول: قال فلان: كذا، وكذا وهذا خطأن فإن العامة لا يقبلون كلامه بل يسخرون منه ولا يقبلون الحق، ففي هذه الحالة ينبغي أن يقول: من الخطأ أن يقول القائل كذا وكذا، ولا يذكر اسمه، وقد يكون هذا الرجل الذي توهم متبوعاً، يتبعه شرذمة من الناس وليس له قدر في المجتمع فحينئذ يصرح لئلا يغتر الناس به، فيقول: قال فلان كذا وكذا وهو خطأز(6/497)
الثانية: أن يقصد بذلك بيان معايبه لا بيان الحق من الباطل، وهذه تقع من إنسان حاسد ـ والعياذ بالله ـ يتمنى أن يجد قولاً ضعيفاً أو خطأ لشخص ما فينشره بين الناس، ولهذا نجد أهل البدع يتكلمون في شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وينظرون إلى أقرب شيء يمكن أن يقدح به فينشرونه ويعيبونه، مثلاً يقولون خالفت الإجماع في أن الطلاق الثلاث واحدة فيقولون هذا شاذ، ومن شذ في النار، وأمثال هذا كثير.
المهم أن يكون قصدك من البيان إظهار الحق ومن كان قصده الحق وُفق لقبوله، أما من كان قصده أن يظهر عيوب الناس فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته، فإذا عثرت على وهم عالم، حاول أن تدفع اللوم عنه وأن تذب عنه، لا سيما إذا كان من العلماء المشهود لهم بالعدالة والخير ونصح الأمة.
الفائدة العاشرة
في المقصود ببركة العلم:
قبل بيان المقصود بالبركة في العلم لابد أن نعرف البركة فهي كما يقول العلماء"الخير الكثير الثابت" ويعيدون ذلك إلى اشتقاق هذه الكلمة فإنها ن البركة وهي مجمع الماء، والبركة التي هي مجمع الماء مكان واسع، ماؤه كثير ثابت، فالبركة هي الخيرات الكثيرة الثابتة، من كل شيء من المال والولد ومن العلم؟ وكل شيء أعطاه الله ـ عز وجل ـ لك تسأل الله سبحانه البركة فيه؛ لأن الله ـ عز وجل ـ إذا لم يبارك لك فيما أعطاك حرمت خيراً كثيراً.(6/498)
ما أكثر الناس الذين عندهم المال الكثير وهم في عداد الفقراء لماذا؟ لأنهم لا ينتفعون بما لهم، تجد عندهم من الأموال ما لا يحصى، لكن يقصر على أهله في النفقة، وعلى نفسه ولا ينتفع بماله، والغالب أن من كانت هذه حاله وبخل بما يجب عليه، أن يسلط الله على أمواله آفات تذهبها، كثير من الناس عنده أولاد لكن أولاده لم ينفعوه، عندهم عقوق واستكبار على الأب، حتى أنه ـ أي الولد ـ يجلس إلى صديقه الساعات الطويلة يتحدث إليه ويأنس به ويفضي إليه أسراره ـ لكنه إذا جلس عند أبيه، فإذا هو كالطير المحبوس في القفص ـ والعياذ بالله ـ لا يأنس بأبيه، ولا يتحدث إليه، ولا يفضي إليه بشيء من أسراره، ويستثقل حتى رؤية والده: فهؤلاء لم يبارك لهم في أولادهم.
أما البركة في العلم فتجد بعض الناس قد أعطاه الله علماً كثيراً لكنه بمنزلة الأمي فلا يظهر أثر العلم عليه في عباداته، ولا في أخلاقه ولا في سلوكه، ولا في معاملاته مع الناس، بل قد يكسبه العلم استكباراً على عباد الله وعلوًّا عليهم واحتقاراً لهم، وما علم هذا أن الذي منَّ عليه بالعلم هو الله، وإن الله لو شاء لكان مثل هؤلاء الجهال.
تجده قد أعطاه الله علماً، ولكن لم ينتفع الناس بعلمه. لا بتدريس ولا بتوجيه، ولا بتأليف، بل هو منحصر على نفسه، لم يبارك الله له في العلم، وهذا بلا شك حرمان عظيم، مع أن العلم من أبرك ما يعطيه الله العبد؛ لأن العلم إذا علمته غيرك، ونشرته بين الأمة، أجرت على ذلك من عدة وجوه:
أولاً: أن في نشرك العلم نشراً لدين الله ـ عز وجل ـ فتكون من المجاهدين، فالمجاهد في سبيل الله يفتح البلاد بلداً بلداً حتى ينشر فيها الدين، وأنت تفتح القلوب بالعلم حتى تنشر فيها شريعة الله ـ عز وجل ـ .(6/499)
ثانياً: من بركة نشر العلم وتعليمه، أن فيه حفظاً لشريعة الله وحماية لها؛ لأنه لولا العلم لم تحفظ الشريعة، فالشريعة لا تحفظ إلا برجالها رجال العلم، ولا يمكن حماية الشريعة إلا برجال العلم، فإذا نشرت العلم، وانتفع الناس بعلمك، حصل في هذا حماية لشريعة الله، وحفظ لها.
ثالثاً: فيه أنك تُحسن إلى هذا الذي علمته؛ لأنك تبصره بدين الله ـ عز وجل ـ فإذا عبد الله على بصيرة؛ كان لك من الأجر مثل أجره؛ لأنك أنت الذي دللته على الخير، والدال على الخير كفاعل الخير، فالعلم في نشره خير وبركة لناشره ولمن نُشر إليه.
رابعاً: أن في نشر العلم وتعليمه زيادة له، علم العالم يزيد إذا علم الناس؛ لأنه استذكار لما حفظ، وانفتاح لما لم يحفظ، وما أكثر ما يستفيد العالم من طلبة العلم، فطلابه الذين عنده أحياناً يأتون له بمعان ليست له على بال، ويستفيد منهم وهو يعلمهم، وهذا شيء مشاهد.
ولهذا ينبغي للمعلم إذا استفاد من الطالب، وفتح له الطالب شيئاً من أبواب العلم ـ ينبغي له أن يشجع الطالب ، وأن يشكره على ذكل ، خلافاً لما يظنه بعض الناس أن الطالب إذا فتح عليه، وبين له شيئاً كان خفيًّا عليه، تضايق المعلم، يقول هذا صبي يعلم شيخاً فيتضايق، ويتحاشى بعد ذلك أن يتناقش معه، خوفاً من أن يطلعه على أمر قد خفى عليه، وهذا من قصور علمه بل من قصور عقله.
لأنه إذا منَّ الله عليك بطلبة يذكرونك ما نسيت ويفتحون عليك ما جهلت، فهذا من نعمة الله عليك، فهذا من فوائد نشر العلم أنه يزيد إذا علمت العلم كما قال القائل مقارناً بين المال والعلم يقول في العلم:
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفًّا شددت
إذا شددت به كفًّا، وأمسكته نقص، أي تنساه، ولكن إذا نشرته يزداد.
وينبغي للإنسان عند نشر العلم أن يكون حكيماً في التعليم، بحيث يلقي على الطلبة المسائل التي تحتملها عقولهم فلا يأتي إليهم بالمعضلات، بل يربيهم بالعلم شيئاً فشيئاً.(6/500)
ولهذا قال بضعهم في تعريف العالم الرباني: العالم الرباني هو: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
ونحن نعْلَمُ جميعاً أن البناء ليس يؤتي به جميعاً حتى يوضع على الأرض، فيصبح قصراً مشيداً بل يبنى لبنة لبنة، حتى يكتمل البناء، فينبغي للمعلم أن يراعي أذهان الطلبة بحيث يلقي إليهم ما يمكن لعقولهم أن تدركه، ولهذا يؤمر العلماء أن يحدثوا الناس بما يعرفون.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
كذلك أيضاً ينبغي لمعلم أن يعتني بالأصول والقواعد؛ لأن الأصول والقواعد هي التي يبنى عليها العلم.
وقد قال العلماء: من حُرم الأصول حُرم الوصول، أي لا يصل إلى الغاية إذا حرم الأصول، فنبغي أن يلقي على الطلبة القواعد والأصول التي تتفرع عليها المسائل الجزئية؛ لأن الذي يتعلم على المسائل الجزئية لا يستطيع أن يهتدي إذا أتته معضلة فيعرف حكمها؛ لأنه ليس عنده أصل.
* * *
كتاب العلم
رسائل مختارة
محمد بن صالح العثيمين
رسائل مختارة
الرسالة الأولى
حسن الخلق وأهميته لطالب العلم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيرا، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ووفق الله من شاء من عباده فاستجاب لدعوته، واهتدى بهديه، وخذل الله بحكمته من شاء من عباده فاستكبر عن طاعته، وكذب خبره، وعاند أمره، فباء بالخسران والضلال البعيد.
أيها الأخوة، يطيب لي أن أتحدث إليكم عن الخلق الحسن، والخلق كما يقول أهل العلم هو: صورة الإنسان الباطنة؛ لأن للإنسان صورتين:(7/1)
صورة ظاهرة، وهي خلقته التي جعل الله البدن عليه. وكما نعلم جميعاً أن هذه الصورة الظاهرة منها ما هو جميل حسن، ومنها ما هو قبيح سيئ، ومنها ما بين ذلك.
وصورة باطنة، منها صورة حسنة ومنها صورة سيئة، ومنها ما بين ذلك. وهذا ما يعبر عنه بالخلق.
فالخُلُق إذن هو:
"الصورة الباطنة التي طُبعَ الإنسان عليها"، وكما يكون الخُلُق طبيعة فإنه يكون كسباً. بمعنى أن الإنسان كما يكون مطبوعاً على الخُلُق الحسن الجميل قد يحصل على الخُلُق الحسن الجميل عن طريق الكسب والمرونة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس:"إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة. قال يا رسول الله أهما خُلُقان تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما"(1) .
فهذا دليل على أن الأخلاق الفاضلة تكون طبعاً وتكون تطبعاً، ولكن الطبع بلا شك أحسن من التطبع؛ لأن الخلق إذا كان طبيعيًّا صار سجية للإنسان وطبيعة له لا يحتاج في ممارسته إلا تكلف، ولا يحتاج في ممارسته إلى تصنع، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء. ومن حُرم هذا أي من حرم الخلق على سبيل الطبع فإنه يمكنه أن يناله على سبيل التطبع، وذلك بالمرونة والممارسة كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وكثير من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق لا يكون إلا في معاملة الخلق، دون معاملة الخالق. ولكن هذا الفهم قاصر فإن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون فيم معاملة الخالق.
فموضوع حسن الخلق إذن معاملة الخالق ـ جل وعلا ـ، ومعاملة الخلق أيضاً.
فما هو حسن الخلق في معاملة الخالق؟
حسن الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاث أمور:
1ـ تلقي أخبار الله تعالى بالتصديق.
2ـ وتلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق.
3ـ وتلقي أقداره بالصبر والرضا.
فهذه ثلاث أشياء عليها مدار حسن الخلق مع الله ـ عز وجل
أولاً: تلقي أخباره بالتصديق:(7/2)
بحيث لا يقع عند الإنسان شك أو تردد في تصديق خبر الله تعالى، لأن خبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ صادر عن علم وهو أصدق القائلين كما قال تعالى عن نفسه:( ومن أصدق من الله حديثا) النساء، الآية:87.
ولازم تصديق أخبار الله أن يكون الإنسان واثقاً بها مدافعاً عنها مجاهداً بها، بحيث لا يدخله شك، أو تشكيك في أخبار الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا تخلق بهذا الخلق أمكنه أن يدفع كل شبهة يوردها المغرضون على أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء أكانوا من المسلمين الذين ابتدعوا في دين الله ما ليس منه أم كانوا ن غير المسلمين الذين يلقون الشبهة في قلوب المسلمين، ولنضرب لذلك مثلاً: ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن فإحدى جناحيه داء والأخرى شفاء"(1) .
هذا خبر رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم في أمور الغيب لا ينطق بما أوحى الله إليه؛ لأنه بشر والبشر لا يعلم الغيب بل قد قال الله له:(قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن اتبع إلا ما يوحي إلي). الأنعام، الآية:50. هذا الخبر يجب علينا أن نقابله بحسن الخلق وحسن الخلق نحو هذا الخبر أن نتلقى هذا الخبر بالقبول، وأن نجزم بأن ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فهو حق وصدق وإن اعترض عليه من يعترض. ونعلم علم اليقين أن ما خالف ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه باطل؛ لأن الله تعالى يقول:( )فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس:32)
ومثال آخر:(7/3)
من أخبار يوم القيامة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بقدر ميل (1)، سواء كان ميل المكحلة أو ميل المسافة،هذه المسافة بين الشمس ورؤوس الخلائق قليلة، ومع ذلك فإن الناس لا يحترقون بحرّها مع أن الشمس لو تدنو الآن في الدنيا مقدار أنملة لاحترقت الدنيا، فقد يقول قائل كيف تدنو من رؤوس الخلائق يوم القيامة بهذه المسافة ثم يبقى الناس؟ فما هو حسن الخلق نحو هذا الحديث؟ حسن الخلق نحو هذا الحديث أن نقبله ونصدق به، وأن لا يكون في صدورنا حرج منه، ولا ضيق، ولا تردد، وأن نعلم أن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا فهو حق، ولا يمكن أن نقيس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا لوجود الفارق العظيم. فإذا كان كذلك فإن المؤمن يقبل مثل هذا الخبر بانشراح وطمأنينة ويتسع فهمه له.
ثانياً: تلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق: إن حسن الخلق في معاملة الله بالنسبة للأحكام أن يتلقاها الإنسان بالقبول والتنفيذ والتطبيق فلا يرد شيئاً من أحكام الله، فإذا ردّ شيئاً من أحكام الله، فهذا سوء خلق مع الله سواء ردها منكراً حكمها، أو ردها مستكبراً عن العمل بها، أو ردها متهاوناً بالعمل بها، فإن ذلك مناف لحسن الخلق مع الله ـ عز وجل ـ.
ولنضرب لذلك مثلاً، الصوم لا شك أنه شاق على الإنسان؛ لأن الإنسان يترك فيه المألوف من طعام وشراب ونكاح، وهذا أمر شاق، ولكن المؤمن حسن الخلق مع ربه ـ عز وجل ـ يقبل هذا التكليف بانشراح صدر وطمأنينة، وتتسع له نفسه فتجده يصوم الأيام الحارة الطويلة وهو بذلك راضٍ منشرح الصدر؛ لأنه يحسن الخلق مع ربه. أما سيئ الخُلُق مع الله فيقابل مثل هذه العبادة بالضجر والكراهية ولولا أنه يخشى من أمر لا تحمد عقباه لكان لا يلتزم بالصيام.
ومثال آخر:(7/4)
الصلاة لا شك أنها ثقيلة على بعض الناس، وهي ثقيلة على المنافقين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر" (1)، لكن الصلاة بالنسبة للمؤمن قرة عينه وراحة نفسه، قال الله تعالى)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45) )الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:46 على هؤلاء غير كبيرة بل إنها سهلة يسيرة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"جعلت قرة عيني في الصلاة" (2) .
فحسن الخلق مع الله ـ عز وجل ـ بالنسبة للصلاة، أن تؤديها وقلبك منشرح مطمئن وعيناك قريرتان، تفرح إذا كنت متلبساً بها وتنتظرها إذا أقبل وقتها، فإذا صليت الفجر كنت في شوق إلى صلاة الظهر، وإذا صليت الظهر كنت في شوق إلى صلاة العصر، وإذا صليت العصر كنت في شوق إلى صلاة المغرب، وإذا صليت المغرب كنت في شوق إلى صلاة العشاء، وإذا صليت العشاء كنت في شوق إلى صلاة الفجر، وهكذا دائماً قلبك معلق بهذه الصلوات.
ونضرب مثالاً ثالثاً في المعاملات:(7/5)
في المعاملات حرم الله عينا الربا، حرمه تحريماً صريحاً في القرآن كما قال الله تعالى:(وأحل الله البيع وحرم الربا). البقرة، الآية:275. وقال فيه:( ) فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(البقرة: من الآية275) فتوعد من عاد إلى الربا بعد أن جاءته الموعظة وعلم الحكم توعده بالخلود في النار والعياذ بالله. المؤمن يقبل هذا الحكم بانشراح ورضا وتسليم. وأما غير المؤمن؛ فإنه لا يقبله ويضيق صدره به، يتحيل عليه بأنواع الحيل لأننا نعلم أن في الربا كسباً متيقناً وليس فيه مخاطرة، لكنه في الحقيقة كسب لشخص وظلم لآخر. ولهذا قال الله تعالى) وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)(البقرة: من الآية279) أما الأمر الثالث من موضوع حسن الخلق مع الله فهو تلقي أقداره بالصبر والرضا، وكلنا يعلم أن أقدار الله ـ عز وجل ـ التي ينفذها في خلقه بعضها ملائم وبعضها غير ملائم.
هل المرض يلائم الإنسان؟ أبداً الإنسان يحب أن يكون صحيحاً. وهل الفقر يلائم الإنسان ؟ لا. فالإنسان يحب أن يكون غنيًّا. وهل الجهل يلائم الإنسان؟ لا. فالإنسان يحب أن يكون عالماً. لكن أقدار الله ـ عز وجل ـ بحكمته تتنوع منها ما يلائم الإنسان ويستريح له بمقتضى طبيعته، ومنها ما لا يكون كذلك. فما هو حسن الخلق مع الله ـ عز وجل ـ نحو أقدار الله؟(7/6)
حسن الخلق مع الله نحو أقداره أن ترضى بما قدر الله لك، وأن تطمئن إليه، وأن تعلم أن الله سبحانه وتعالى ـ ما قدره لك إلا لحكمة وغاية محموة يستحق عليها الشكر، وعلى هذا فإن حسن الخلق مع الله نحو أقداره هو أن الإنسان يرضى ويستسلم ويطمئن. ولهذا امتدح الله تعالى الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال:( وبشر الصابرين). البقرة، الآية:155.
ونوجز ما سبق:
نقول إن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون في معاملة الخالق، وأن حسن الخلق في معاملة الخالق هو تلقي أخباره بالتصديق وتلقي أحكامه بالقبول والتطبيق. وتلقي أقداره بالصبر والرضا. هذا حسن الخلق مع الله.
أما حسن الخلق مع المخلوق فعرفه بعضهم. ويذكر عن الحسن البصري أنه "كف الأذى، وبذل الندى، وطلاقة الوجه".
ثلاثة أمور:
1ـ كف الأذى.
2ـ بذل الندى.
3ـ طلاقة الوجه.
ومعنى كف الأذى، أن الإنسان يكف أذاه عن غيره سواء كان هذا الأذى يتعلق بالمال، أو يتعلق بالنفس، أو يتعلق بالعرض. فمن لم يكف أذاه عن الخلق فليس من حسن الخُلق، بل هو سيئ الخُلق. وقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم في أعظم مجمع اجتمع به في أمته. قال:"إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" (1).(7/7)
إذا كان رجل يعتدي على الناس بالخيانة، أو يعتدي على الناس بالضرب والجناية، أو يعتدي على الناس في العرض، أو بالسب والغيبة. فهذا ليس بحسن الخلق مع الناس؛ لأنه لم يكف أذاه عنهم، ويعظم إثم ذلك كلما كان موجهاً إلى من له حق عليك أكبر. فالإساءة إلى الوالدين مثلاً أعظم من الإساءة إلى غيرهما، والإساءة إلى الأقارب أعظم من الإساءة إلى الأباعد، والإساءة إلى الجيران أعظم من الإساءة إلى من ليسوا من جيراناً لك.ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ:" والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه" (1). وفي رواية لمسلم:"لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" والبوائق هي: الشرور.
وأما بذل الندى، الندى هو الكرم والجود. يعني أن تبذل الكرم والجود، والكرم ليس كما يظنه بعض الناس هو أن تبذل المال، بل الكرم يكون في بذل النفس، وفي بذل الجاه، وفي بذل المال، إذا رأينا شخصاً يقضي حوائج الناس يساعدهم يتوجه في شئونهم إلى من لا يستطيعون الوصول إليه، ينشر علمه بين الناس، يبذل ماله بين الناس، فإنا نصفه بحسن الخلق لأنه بذل الندى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"(2) .
ومعنى ذلك أنك إذا ظُلمت أو أسيء إليك فإنك تعفو وتصفح، وقد امتدح الله العافين عن الناس فقال في الجنة)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134) وقال الله تعالى:(وأن تعفوا أقرب للتقوى). البقرة، الآية: 237. وقال تعالى:(وليعفوا وليصفحوا) . النور، الآية: 22.(7/8)
وكل إنسان يتصل بالناس فلابد أن يجد من الناس شيئاً من الإساءة، فموقفه من هذه الإساءة أن يعفوا ويصفح، وليعلم علم اليقين أنه بعفوه وصفحه ومجازاته بالحسنى سوف تنقلب العداوة بينه وبين أخيه إلى ولاية وصداقة. قال الله تعالى)وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34) فما هو الأحسن، السيئة أم الحسنة؟ الحسنة. وتأملوا أيها العارفون باللغة العربية كيف جاءت النتيجة ب (إذا) الفجائية تدل على الحدث الفوري في نتيجتها.(فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) ولكن هل كل أحد يوفق إلى ذلك؟ لا)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35)
وهاهنا مسألة:
هل نفهم من هذا أن العفو عن الجاني مطلقاً محمود ومأمور به؟
قد نفهم من هذا الكلام أن العفو مطلقاً محمود ومأمور به. ولكن ليكن معلوماً لديكم أن العفو إنما يُحمد إذا كان العفو أحمد، ولهذا قال الله تعالى)وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40) فجعل العفو مقروناً بالإصلاح، وهل يمكن أن يكون العفو غير إصلاح؟
الجواب: نعم. قد يكون هذا الذي اجترأ عليك وجنى عليك رجلٌ شريرُ، معروف بالشر والفساد، فلو عفوت عنه لتمادى في شره، وفساده، فما هو الأفضل حينئذ، أن نعفو أو نأخذ بالجريمة؟
الأفضل أن نأخذ بالجريمة؛ لأن في ذلك إصلاحاً.
قال شيخ الإسلام:{ الإصلاح واجب، والعفو مندوب}. فإذا كان في العفو فوات الإصلاح فمعنى ذلك أننا قدمنا مندوباً على واجب. وهذا لا تأتي به الشريعة. وصدق رحمه الله.(7/9)
وإنني بهذه المناسبة أود أن أنبه على مسألة يفعلها كثير من الناس بقصد الإحسان، وهي أن تقع حادثة من شخص فيهلك بسببها شخص آخر، فيأتي أولياء المقتول فيسقطون الدية عن هذا الجاني الذي فعل الحادث، فهل إسقاطهم محمود ويعتبر من حسن الخلق أو في ذلك تفصيل؟ في ذلك تفصيل.
لابد أن نتأمل ونفكر في حال هذا الجاني الذي وقع منه الحادث هل هو من الناس المعروفين بالتهور وعدم المبالاة؟ هل هو من الطراز الذي يقول أنا لا أبالي أن أصدم شخصاً لأن ديته في الدرج. والعياذ بالله؟
أم أنه رجل حصلت منه الجناية مع كمال التحفظ وكمال الاتزان ولكن الله تعالى قد جعل كل شيء بمقدار؟ فالجواب: إن كان من الطراز الثاني فالعفو بحقه أولى، ولكن قبل العفو حتى في الطراز الثاني يجب أن نلاحظ هل على الميت دين؟ إذا كان عليه دين فإنه لا يمكن أن نعفو.
ولو عفونا فإن عفونا لا يعتبر، وهذه مسألة ربما يغفل عنها كثير من الناس. لماذا نقول إنه قبل العفو يجب أن نلاحظ هل على الميت دين أم لا؟ لماذا نقول ذلك؟
لأن الورثة يتلقون الاستحقاق لهذه الدية من الميت الذي أصيب بالحادث ولا يرد استحقاقهم إلا بعد الدين ولهذا لما ذكر الله الميراث قال) مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)(النساء: من الآية11)هذه مسألة تخفى على كثير من الناس وعلى هذا فنقول: إذا حصلت حادث على شخص ما فمات فإنه قبل أن يقدم ورثته على العفو ننظر في حال المجني عليه فإن كان عليه دين لا وفاء له إلا من الدية فلا عفوا؛ لأن الدين مقدم على الميراث، وإن لم يكن عليه دين نظرنا في حال الجاني فإن كان من المتهورين فترك العفو عنه أولى، وإن لم يكن منهم نظرنا في ورثة المجني عليه فإن كان غير مرشدين فلا يملك أحد إسقاط حقهم عن المجني عليه، وإن كانو مرشدين فالعفو في هذه الحال أفضل.(7/10)
والحاصل: أن من حسن الخلق العفو عن الناس، وهو بذل الندى؛ لأن بذل الندى: إما إعطاء، وإما إسقاط، والعفو من الإسقاط.
وأما طلاقة الوجه فهي أن يكون الإنسان طليق الوجه، وضد طليق الوجه عبوس الوجه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"لا تحقرنّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" (1) .
طلاقة الوجه تدخل السرور على من قابلك. وعلى من اتجه لك، وتجلب المودة والمحبة، وتوجب انشراح القلب، بل توجب انشراح الصدر منك وممن يقابلك ـ وجرب تجد ـ لكن إذا كنت عبوساً فإن الناس ينفرون منك ، ولا ينشرحون بالجلوس إليك، ولا بالتحدث معك، وربما تصاب بمرض خطير يسمى بالضغط، فإن انشراح الصدر وطلاقة الوجه من أكبر العقاقير المانعة من هذا الداء داء الضغط. ولهذا فإن الأطباء ينصحون ابتلي بهذا الداء بأن يبتعد عما يثيره ويغضبه؛ لأن ذلك يزيد في مرضه، فطلاقة الوجه تقضي على هذا المرض؛ لأن الإنسان يكون منشرح الصدر محبوباً إلى الخلق.
هذه الأصول الثلاثة التي يدور عليها حسن الخلق في معاملة الخلق.
ومما ينبغي أن يعرف من حسن الخلق حسن المعاشرة بأن يكون الإنسان مع من يعاشره من أصدقاء، وأقارب، وأهل، يكون حسن العشرة معهم لا يضيق بهم ولا يُضِّيق عليهم، بل يدخل السرور عليهم بقدر ما يمكنه في حدود شريعة الله. وهذا القيد لابد منه أعني أن يكون في حدود شريعة الله؛ لأن من الناس من لا يسير إلا بمعصية الله والعياذ بالله وهذا لا يوافق عليه.
لكن إدخال السرور على من يتصل بك من أهل وأصدقاء وأقارب من حسن الخلق . ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"إن خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" (1) .(7/11)
وكثير من الناس مع الأسف الشديد يحسن الخلق مع الناس، ولكنه لا يحسن الخلق مع أهله وهذا خطأ وقلب للحقائق. كيف تحسن الخلق مع الأباعد وتسيء الخلق مع الأقارب؟ فالأقارب أحق الناس بأن تحسن إليهم الصحبة والعشرة. ولهذا قال رجل: يا رسول الله:"من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك. في الثالثة أو الرابعة" (2) .
والحاصل إن إحسان العشرة مع الأهل والأصحاب والأقارب كل ذلك من حسن الخلق، وينبغي لنا في هذه المراكز الصيفية أن نستغل وجود الشباب بحيث نمرنهم على إحسان الخلق لتكون هذه المراكز مراكز تعليم وتربية؛ لأن العلم بدون تربية يكون ضرره أكثر من نفعه. لكن مع التربية يكون العلم مؤدياً لنتيجته المقصودة. ولهذا قال الله تعالى)مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79) هذه فائدة العلم أن يكون الإنسان ربانيًّا بمعنى مربياً لعباد الله على شريعة الله.(7/12)
فهذه المراكز التي نأمل من القائمين عليها أن يجعلوها ميداناً للتسابق في الأخلاق الفاضلة ومنها حسن الخلق. فحسن الخلق يكون بالطبع ويكون بالتطبع ـ كما تقدم ـ وحسن الخلق بالطبع أكمل من حسن الخلق بالتطبع. وأتينا على ذلك بدليل وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام:"بل جبلك الله عليهما" (1). وحسن الخلق بالتطبع قد يفوت الإنسان في مواطن كثيرة؛ لأن حسن الخلق بالتطبع يحتاج إلى ممارسة وإلى معاناة وإلى تذكر عند وجود كل ما يثير الإنسان، ولهذا جار رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله أوصني، قال:" لا تغضب" فردد مراراً قال:"لا تغضب" (2) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام:"ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (3).
والصرعة: هو الذي يغلب الرجال عند المصارعة.
إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، الذي يصرع نفسه ويملكها عند الغضب هو الشديد. وملك الإنسان نفسه عند الغضب يعتبر من أحاسن الأخلاق، فإذا غضبت فلا تنفذ الغضب، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كنت قائماً فأجلس وإذا كنت جالساً فاضجع،
وإذا زاد بك الغضب فتوضأ حتى يزول عنك.
والمقصود أننا نقول: إن حسن الخلق طبع وتطبع وأن حسن الخلق بالطبع هو الأفضل؛ لأنه يكون سجية الإنسان ويسهل عليه في كل موطن، ولكن التطبع قد يفوته في بعض المواقف.
كذلك نقول إن حسن الخلق يكون بالاكتساب بمعنى أن الإنسان يمرن نفسه، فكيف يكون الإنسان حسن الخلق؟ يكون الإنسان حسن الخلق بالآتي:
أولاً: بأن ينظر في كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم. ينظر النصوص الدالة على مدح ذلك الخلق العظيم، والمؤمن إذا رأى النصوص تمدح شيئاً من الأخلاق أو من الأعمال فإنه سوف يقوم به.(7/13)
ثانياً: مجالسة الأخيار والصالحين الموثوق بعلمهم وأمانتهم يقول النبي عليه الصلاة والسلام:"مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد لا يَعدمُك من صاحب المسك: إما تشتريه أو تجد ريه، وكير الحداد: يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحاً خبيثة" (1).
فعليكم أيها الشباب أن تصاحبوا من عُرفوا بحسن الأخلاق، والبعد عن مساوئ الأخلاق وسفاسف الأعمال، حتى تأخذوا من هذه الصحبة مدرسة تستعينون بها على حسن الخلق.
ثالثاً: أن يتأمل الإنسان ماذا يترتب على سوء خلقه، فسيئ الخلق ممقوت، وسيئ الخلق مهجور، وسيئ الخلق مذكور بالوصف القبيح. فإذا علم الإنسان أن سوء الخلق يفضي به إلى هذا فإنه يبتعد عنه.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً وأن يتوفانا على ذلك، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
* * *
الرسالة الثانية
الخلاف بين العلماء وأسبابه وموقفنا(7/14)
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) ()يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1))يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب:70) (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:71)
أما بعد:فإنه قد يثير هذا الموضوع التساؤل لدى الكثيرين، وقد يسأل البعض لماذا هذا الموضوع وهذا العنوان الذي قد يكون غيره من مسائل الدين أهم منه؟(7/15)
ولكن هذا العنوان وخاصة في وقتنا الحاضر يشغل بال كثير من الناس، لا أقول من العامة بل حتى من طلبة العلم، وذلك أنها كثرت في وسائل الإعلام نشر الأحكام وبثها بين الأنام، وأصبح الخلاف بين قول فلان وفلان مصدر تشويش، بل تشكيك عند كثير من الناس، لا سيما من العامة الذين لا يعرفون مصادر الخلاف، لهذا رأيت وبالله أستعين أن أتحدث في هذا الأمر الذي له في نظري شأن كبير عند المسلمين.إن من نعمة الله ـ تبارك وتعالى ـ على هذه الأمة أن الخلاف بين الأمة لم يكن في أصول دينها ومصادره الأصلية، وإنما كان الخلاف في أشياء لا تمس وحدة المسلمين الحقيقية وهو أمر لابد أن يكون، وقد أجملت العناصر التي أريد أن أتحدث عنها بما يأتي:(7/16)
أولاً: من المعلوم عند جميع المسلمين مما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى بعث محمداً بالهدى ودين الحق وهذا يتضمن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين هذا الدين بياناً شافياً كافياً، لا يحتاج بعده إلى بيان، لأن الهدى بمعناه ينافي الضلالة بكل معانيها، ودين الحق بمعناه ينافي كل دين باطل لا يرتضيه الله عز وجل ـ ورسول الله بعث بالهدى ودين الحق، وكان الناس في عهده ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يرجعون عند التنازع إليه فيحكم بينهم ويبين لهم الحق سواء فيما يختلفون فيه من كلام الله، أو فيما يختلفون فيه من أحكام الله التي لم ينزل حكمها، ثم بعد ذلك ينزل القرآن مبيناً لها، وما أكثر ما نقرأ في القرآن قوله:(يسألونك عن) كذا فيجيب الله ـ تعالى نبيه بالجواب الشافي ويأمره أن يبلغه إلى الناس، قال الله تعالى)يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (المائدة:4)
) وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(البقرة: من الآية219) ()يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (لأنفال:1)
(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) البقرة، الآية:189.(7/17)
()يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)
إلى غير ذلك من الآيات.
ولكن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اختلفت الأمة في أحكام الشريعة التي لا تقضي على أصول الشريعة، وأصول مصادرها.
ولكنه اختلاف سنبين إن شاء الله بعض أسبابه.
ونحن جميعاً نعلم علم اليقين أنه لا يوجد أحد من ذوي العلم الموثوق(7/18)
بعلمهم وأمانتهم ودينهم يخالف ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن عمد وقصد؛ لأن من اتصفوا بالعلم والديانة، فلابد أن يكون رائدهم الحق، ومن كان رائده الحق فإن الله سييسره له. واستمعوا إلى قوله تعالى)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17) )فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) (الليل:5) )فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (الليل:7) ولكن مثل هؤلاء الأئمة يمكن أن يحدث منهم الخطأ في أحكام الله ـ تبارك وتعالى ـ لا في الأصول التي أشرنا إليها من قبل، وهذا الخطأ أمر لابد أن يكون ، لأن الإنسان كما وصفه الله ـ تعالى ـ بقوله:(وخلق الإنسان ضعيفاً). النساء، الآية:28.الإنسان ضعيف في علمه وإدراكه، وهو ضعيف في إحاطته وشموله، ولذلك لابد أن يقع الخطأ منه في بعض الأمور. ونحن نجمل ما أردنا أن نتكلم عليه من أسباب الخطأ من أهل العلم في الأسباب الآتية السبعة: مع أنها في الحقيقة أسباب كثيرة، وبحر لا ساحل له، والإنسان البصير بأقوال أهل العلم يعرف أسباب الخلاف المنتشرة، نجملها بما يأتي:
السبب الأول:
أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه.
وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومن بعدهم . ونضرب مثالين وقعا للصحابة من هذا النوع:(7/19)
الأول إننا علمنا بما ثبت في صحيح البخاري(1) وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى الشام، وفي أثناء الطريق، ذكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابةـ رضي الله عنهم ـ فاستشار المهاجرين والأنصار واختلفوا في ذلك على رأيين . . . وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائباً في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك علماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه" فكان هذا الحكم خافياً على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبد الرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.(7/20)
مثال آخر: كان علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر. . أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر لم تنقض العدة عنده وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع الحمل(2) ، لأن الله تعالى يقول:" ) وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )(الطلاق: من الآية4).ويقول)وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)(البقرة: من الآية234)وبين الآيتين عموم وخصوص وجهي، وطريق الجمع بين ما بينهما عموم وخصوص وجهي، أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ولكن السنة فوق ذلك. فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سبيعة الأسلمية أنها نفست بعد موت زوجها بليال فأذن لها رسول الله أن تتزوج، ومعنى ذلك أننا نأخذ بآية سورة الطلاق التي تسمى سورة النساء الصغرى، وهي عموم قوله تعالى:) وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). الطلاق، الآية:4. وأنا أعلم علم اليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًّا وابن عباس لأخذا به قطعاً، ولم يذهبا إلى رأيهما.
السبب الثاني:
أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أقوى منه، ونحن نضرب مثلاً أيضاً، ليس فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم.
فاطمة بنت قيس ـ رضي الله عنها ـ طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا نفقة لها ولا سكنى(1) ،(7/21)
وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملاً لقوله تعالى) وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )(الطلاق: من الآية6)عمر رضي الله عنه ـ ناهيك عنه فضلاً وعلماًـ خفيت عليه هذه السنة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، ورد حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟ وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضاً لمن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة، أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل، وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة فيأخذون بها ويراها الآخرون ضعيفة، فلا يأخذون بها نظراً لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
السبب الثالث:
أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه، وجل من لا ينسى، كم من إنسان ينسى حديثاً، بل قد ينسى آية.(7/22)
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات يوم في أصحابه فأسقط آية نسياناً، وكان معه أبي بن كعب ـ رضي الله عنه فلما انصرف من صلاته قال:"هلا كنت ذكرتنيها"(1) وهو الذي ينزل عليه الوحي، وقد قال له ربه:(سنقرئك فلا تنسى(6) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى). الأعلى، الآيتان:6، 7. ومن هذا ـ أي مما يكون قد بلغ الإنسان ولكنه نسيه ـ قصة عمر بن الخطاب مع عمار بن ياسرـ رضي الله عنهما ـ حينما أرسلهما رسول الله في حاجة، فأجنبا جميعاً عمار وعمر(1) . أما عمار فاجتهد ورأى أن طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، لأجل أن يشمل بدنه التراب، كما كان يجب أن يشمله الماء وصلى، أما عمر ـ رضي الله عنه ـ فلم يصل ... ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرشدهما إلى الصواب، وقال لعمار: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ـ وضرب بيديه ووجهه وكان عمار ـ رضي الله عنه ـ يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وفيما قبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات يوم وقال له: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله في حاجة، فأجنبنا فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا". ولكن عمر لم يذكر ذلك وقال :اتق الله يا عمار، فقال له عمال: إن شئت بما جعل الله علّي من طاعتك أن لا أحدث به فعلت، فقال له عمر: نوليك ما توليت ـ يعني فحدث به الناس ـ فعمر نسي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم في حال الجنابة كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وحصل بينه وبين أبي موسى ـ رضي الله عنهما مناظرة في هذا الأمر فأورد عليه قول عمار لعمر، فقال ابن مسعود: ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار فقال أبو موسى: دعنا من قول عمار، ما تقول في هذه الآية يعني آية المائدة، فلم يقل ابن مسعود شيئاً، ولكن(7/23)
لا شك في أن الصواب مع الجماعة الذين يقولون أن الجنب يتيمم، كما أن المحدث حدثاً أصغر يتيمم، والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي فيقول قولاً يكون به معذوراً، لكن من علم الدليل فليس بمعذور، هذان سببان.
السبب الرابع:
أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد.
فنضرب لذلك مثالين، الأول من الكتاب، والثاني من السنة:
1ـ من القرآن قوله تعالى:(وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيبا). النساء، الآية:43.
اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في معنى(أو لامستم النساء). ففهم بعض منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون: أن المراد به اللمس المثير للشهوة. وفهم آخرون أن المراد به الجماع وهذا الرأي رأي ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ .(7/24)
وإذا تأملت الآية وجدت أن الصواب مع من يرى أنه الجماع؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ذكر نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر. ففي الأصغر قوله: ) فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )(المائدة: من الآية6)أما الأكبر فقوله:( ) وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(المائدة: من الآية6). . .) الآية. وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يذكر أيضاً موجباً الطهارتين في طهارة التيمم فقوله تعالى:(أو جاء أحد منكم من الغائط) إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر . . . وقوله:(أو لامستم النساء) إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر . . ولو جعلنا الملامسة هنا بمعنى اللمس، لكان في الآية ذكر موجبين من موجبات طهارة الحدث الأصغر، وليس فيها ذكر لشيء من موجبات طهارة الحدث الأكبر، وهذا خلاف ما تقتضيه بلاغة القرآن، فاللذين فهموا من الآية أن المراد به مطلق اللمس قالوا: إذا مس إنسان ذكر بشرة الأنثى انتقض وضوؤه، أو إذا مسها لشهوة أنتقض، ولغير شهوة لا ينتقض، والصواب عدم الانتقاض في الحالين، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّل إحدى نسائه، ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ(1) ، وقد جاء من طرق يقوي بعضها بعضاً.
2ـ من السنة: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الأحزاب، ووضع عدة الحرب جاءه جبريل فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج وقال:"لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"(2)(7/25)
الحديث ، فقد اختلف الصحابة في فهمه. فمنهم من فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلما حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها. ومنهم من فهم: أن مراد رسول الله أن لا يصلوا إلا إذا وصلوا بني قريظة فأخروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها.ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نص مشتبه. وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم. إذن من أسباب الخلاف أن يفهم من الدليل خلاف مراد الله ورسوله، وذلك هو السبب الرابع.
السبب الخامس:
أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ فيكون الحديث صحيحاً والمراد منه مفهوماً ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه فحينئذ له العذر؛ لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم الناسخ.
ومن هذا رأي ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا ركع؟ كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه ويضعهما بين ركبتيه. هذا هو المشروع في أول الإسلام ثم نسخ ذلك وصار المشروع أن يضع يديه على ركبته. وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لم يعلم(7/26)
بالنسخ، فكان يطبق يديه، فصلى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبهما، ولكنه ـ رضي الله عنه ـ نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق . . . لماذا؟ لأنه لم يعلم بالنسخ، والإنسان لا يكلف إلا وسع نفسه، قال تعالى)لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286)
السبب السادس:
أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو أجماع، بمعنى أنه يصل الدليل إلى المستدل، ولكنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، وهذا كثير في خلاف الأئمة. وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع، ولكنه عند التأمل لا يكون إجماعاً.
ومن أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة العبد. وآخرون قالوا: أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد. هذا من غرائب النقل؛ لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظن أن لا مخالف لهم، لاعتقاده أن ذلك مقتضى النصوص، فيجتمع في ذهنه دليلان، النص والإجماع، وربما يراه مقتضى القياس الصحيح، والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده، والأمر قد كان بالعكس.
ويمكن أن نمثل ذلك برأي ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في ربا الفضل.
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنما الربا في النسيئة"(1) .
وثبت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره:"أن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة"(2)(7/27)
وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة. أما ابن عباس فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط. مثاله لو بعت صاعاً من القمح بصاعين يداً بيد فإنه عند ابن عباس لا بأس به؛ لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط . وإذا بعت مثلاً مثقالاً من الذهب بمثقالين من الذهب يداً بيد فعنده أنه ليس ربا. لكن إذا أخرت القبض، فأعتطيتني المثقال ولم أعطك البدل إلا بعد التفرق فهو ربا . . لأن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يرى أن هذا الحصر مانع من وقوع الربا في غيره، ومعلوم أن : إنما تفيد الحصر فيدل على أن ما سواه ليس بربا، لكن الحقيقة أن ما دل عليه حديث عبادة يدل على أن الفضل من الربا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من زاد أو استزاد فقد أربى(3
إذن ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدل به ابن عباس؟ موقفنا أن نحمله على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضاً في الفضل، بأن نقول: إنما الربا الشديد الذي يعمد إليه أهل الجاهلية والذي ورد فيه قوله تعالى)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:130) إنما هو ربا النسيئة، أما ربا الفضل فإنه ليس الربا الشديد العظيم، ولهذا ذهب ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين": إلى تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل، وليس من باب تحريم المقاصد.
السبب السابع:(7/28)
أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالاً ضعيفاً. وهذا كثير جدًّا، فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف: ما ذهب إليه بعض العلماء من استحباب صلاة التسبيح(1) وهو أن يصلي الإنسان، يقرأ فيهما بالفاتحة، ويسبح خمس عشر تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم أضبطها، لأنني لا أعتقد من حيث اشرع، ويرى آخرون: أن صلاة التسبيح بدعة مكروهة، وأن حديثها لم يصح، وممن يرى ذلك الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وقال: إنها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وإن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة من تأملها وجد أن فيها شذوذاً حتى بالنسبة للشرع إذ أن العبادة، إما أن تكون نافعة للقلب، ولابد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما أن لا تكون نافعة فلا تكون مشروعة وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان كل يوم أو كل أسبوع أو كل أسبوع أو كل شهر أو في العمر مرة، وهذا لا نظير له في الشرع، فدل على شذوذها سنداً ومتناً، وأن من قال إنها كذب، كشيخ الإسلام فإنه مصيب، ولذا قال شيخ الإسلام: أنه لم يستحبها أحد من الأئمة .
وإنما مثلت بها لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون هذه البدعة أمراً مشروعاً، وإنما أقول بدعة، أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس؛ لأننا نعتقد أن كل من دان لله ـ سبحانه ـ مما ليس في كتاب الله أو سنة رسوله فإنه بدعة.
كذلك أيضاً من يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال. الدليل قوي لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء من حديث أسود"ذكاة الجنين ذكاة أمه"(1)
فالمعروف عند أهل العلم من معنى الحديث أن أم الجنين إذا ذكيت فإن ذكاتها ذكاة له ـ أي لا يحتاج إلى ذكاة إذا أخرج منها بعد الذبح؛ لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته.(7/29)
ومن العلماء من فهم أن المراد به أي بالحديث . . . إن ذكاة الجنين
الجنين كذكاة أمه، تكون بقطع الودجين وإنهار الدم ـ ولكن هذا بعيد والذي يبعده أنه لا يحصل إنهار الدم بعد الموت.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما أن هر الدم وذكر اسم الله عليه فكل"(1) . ومن المعلوم أنه لا مكن إنهار الدم بعد الموت، هذه الأسباب التي أحببت أن أنبه عليها مع أنها كثير، وبحر لا ساحل له . . ولكن بعد هذا كله ما موقفنا؟
وما قلته في أول الموضوع أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء أو أختلاف المتكلمين في هذه الوسائل صاروا يتشككون ويقولون من نتبع؟
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
وحينئذ نقول: موقفنا من هذا الخلاف وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم أنهم موثوقون علماً وديانة، لا من هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله؛ لأننا لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهل العلم.
ولكننا نعني به العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم، موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين:
1ـ كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يتقضيه كتاب الله وسنة رسوله؟ وهذا يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره، وهو كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحراً في العلم.(7/30)
2ـ ما موقفنا من اتباعهم؟ ومن نتبع من هؤلاء العلماء؟ ايتبع الإنسان إماماً لا يخرج عن قوله، ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب. أم يتبع ما ترجح عنده من دليل ولو كان مخالفاً لما ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟ الجواب هو الثاني، فالواجب على من علم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف من خالف من الأئمة. إذا لم يخالف إجماع الأمة، ومن اعتقد أن أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يؤخذ بقوله فعلاً وتركاً بكل حال وزمان، فقد شهد لغير الرسول بخصائص الرسالة؛ لأنه لا يمكن أحد أن يكون هذا حكم قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن يبقى الأمر فيه نظر؛ لأننا لانزال في دوامة من الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من الأدلة؟ هذه مشكلة؛ لأن كل واحد صار يقول: أنا صحابها، وهذا في الحقيقة ليس بجيد، نعم من حيث الهدف والأصل، هو جيد أن يكون رائد الإنسان كتاب الله وسنة رسوله، لكن كوننا نفتح الباب لكل من عرف أن ينطق بالدليل، وإن لم يعرف معناه وفحواه، فنقول: أنت مجتهد تقول ما شئ، هذا يحصل فيه فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع، والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:
1ـ عالم رزقه الله علماً وفهماً.
2ـ طالب علم عنده من العلم، لكن لم يبلغ درجة ذلك المتبحر.
3ـ عامي لا يدري شيئاً.
أما الأول:
فإنه له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان مقتضى الدليل عنده مهما خالفه من خالفه من الناس لأنه مأمور بذلك، قال تعالى:(لعلمه الذين يستنبطونه منهم). النساء، الآية:83. وهذا من أهل الاستنباط الذين يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله.
أما الثاني:(7/31)
الذي رزقه الله علماً ولكنه لم يبلغ درجة الأول فلا حرج عليه إذا أخذ بالعموميات والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزاً في ذلك وألا يقصر عن سؤال من هو أعلى منه من أهل العلم لأنه قد يخطئ وقد لا يصل علمه إلى شيء خصص ما كان عاماً، أو قيد ما كان مطلقاً، أو نسخ ما يراه محكماً. وهو لا يدري بذلك.
أما الثالث:
وهو من ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم لقوله تعالى) فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(الانبياء: من الآية7)وفي آية أخرى:(إن كنتم لا تعلمون(43) بالبينات والزبر) النحل، الآيتان:43،44. فوظيفة هذا أن يسأل، ولكن من يسأل؟ في البلد علماء كثيرون، وكل يقول: إنه عالم، أو كل يقال عنه: إنه عالم فمن الذي يسأل؟ هل نقول: يجب عليك أن تتحرى من هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل من شئت ممن تراه من أهل العلم
والمفضول قد يوفق للعمل في مسألة معينة، ولا يوفق من هل أفضل منه وأعلم ـ اختلف في هذا أهل العلم؟
فمنهم من يرى: أنه يجب على العامي أن يسأل من يراه أوثق في علمه من علماء بلده؛ لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه من يراه أقوى في أمور الطب فكذلك هنا، لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك من تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار من تراه أقوى علماً إذاً لا فرق.
ومنهم من يرى: أن في ذلك ليس بواجب لأن من هو أقوى علماً قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها ويرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل.
والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل من يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب؛ لأن من هو أفضل قد يخطئ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية، والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه.(7/32)
وأخيراً أنصح نفسي أولاً وإخواني المسلمين، ولا سيما طلبة العلم إذا نزلت بإنسان نازلة من مسائل العلم ألا يتعجل ويتسرع حتى يتثبت ويعلم فيقول لئلا يقول على الله بلا علم.
فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلغ شريعة الله كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"العلماء ورثة الأنبياء"(1) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم:"أن القضاة ثلاثة: قاضٍ واحد في الجنة وهو من علم الحق فحكم به"(2) . كذلك أيضاً من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلمك لا سيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس.
وقد ذكر لي بعض مشائخنا أنه ينبغي لمن سئل عن مسألة أن يكثر من الاستغفار، مستنبطاً ن قوله تعالى)إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً) (النساء:105) ( واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيما) . النساء، 106. لأن الإكثار من الأستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في نسيان العلم والجهل كما قال تعالى:(فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به). المائدة، الآية:13.
وقد ذكر الشافعي أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
فلا جرم حينئذ أن يكون الاستغفار سبباً لفتح الله على المرء.
وأسأل الله التوفيق والسداد وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
والحمد لله رب العالمين أولاً وأخيراً.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
* * *
الرسالة الثالثة
حث طلبة العلم على الالتحاق بجماعات تحفيظ القرآن الكريم(7/33)
الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
نعم إن خير الحديث كتاب الله تعالى؛ لأنه كلام الله ـ عز وجل ـ تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين(جبريل) على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
وقد جاء نصوص الكتاب والسنة في فضل تلاوة القرآن والعمل به، فقال الله تعالى)إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر:29) )لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر:30) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(1) متفق عليه ، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران"(2) متفق عليه، وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:"مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب، وريحها طيب، ومثل الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، ولا طعم لها، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها . . ." (3) .(7/34)
وعن أبي أمامة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي شافعاً لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غياتيان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صحابهما"(4) .
ولما كانت تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه بهذه المثابة هبَّ كثير من الشباب في بلادنا وغيرها إلى تلاوة الكتاب العزيز تعليماً فأنشئت في بلادنا جماعات تحفيظ القرآن الكريم في مدن وقرى كثيرة تحت إشراف ورعاية وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد والتحق بها ـ ولله الحمد ـ جم غفير من الشباب ولم يتقصر نشاطها على الذكور، بل شمل النساء أيضاً وحصل بذلك خير كثير، حتى حفظ القرآن عن ظهر قلب كثير من هؤلاء الشباب، فالحمد لله رب العالمين.
وإنني لأحث إخواني الذي منَّ الله تعالى عليهم بالأولاد، أن يشجعوا أولادهم على الالتحاق بهذه الجماعات، وأن يتعاهدوهم حال التحاقهم، ويستعينوا على ذلك بالاتصال بالمسؤولين في هذه الجماعات للمتابعة. فإن تلاوة كتاب الله من أسباب الصلاح وصلاح الولد خير للوالد في دنياه وبعد مماته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"(1) .
ولا شك أن الالتحاق بهذه الجماعات ـ أعني جماعات تحفيظ القرآن ـ يحصل به مصالح وتندرئ به مفاسد.
يحصل به حفظ القرآن الكريم ومحبته والميل إليه.
ويحصل به ربط الدارس ببيوت الله ـ عز وجل ـ (المساجد) .
ويحصل به استغلال الوقت بهذا الهدف النبيل.
ويحصل به من حسن رعاية الطالب ما يثاب عليه أبوه أو غيره من ولاة أمره.(7/35)
ويحصل به ثواب المجتمعين على تلاوة كتاب الله تعالى في بيت من بيوته فما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، وكما تحصل به هذه المصالح فإنه تندرئ به مفاسد .
يندرئ به ضياع الوقت الذي هو أشد ضرراً من ضياع المال، فإن المال له ما يخلفه والوقت لا يخلفه شيء فإن كل وقت مضى لا يرجع كما قيل: امس الدابر لا يعود.
تندرس به مفسدة الفراغ مفسدة بل مفاسد كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجدة(1) مفسدة للمرء أي مفسدة
فمن مفاسد الفراغ أن الشباب ينشأ على حياة ضياع لا جدية فيها.
ومن مفاسد الفراغ أنه قد يكون سبباً للتخريب.
ومن مفاسد الفراغ أنه يفضي إلى التسكع في الأسواق والتجول، الذي ربما يفضي إلى فاسد الأخلاق.
ومن مفاسد الفراغ البدني أنه يفضي إلى الفراغ الذهني فيتبلد الذهن ويكون الشاب سطحياً ليس عنده تفكير عميق ولا ذهن حاد.
وإني لأحث إخواني الذين منَّ الله عليهم بالمال أن يجودوا بشيء مما منَّ الله به عليهم، فإن بذل المال في هذه الجماعات من أفضل الأعمال لمشاركة الباذل العامل فيها في الأجر كما جاء نحو ذلك فيمن جهز غازياً، قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من جهز غازياً في سبيل ا لله فقد غزا"(2) .
كما أحث سائر إخواني المسلمين على تشجيع هذه الجماعات بكافة أنواع التشجيع المعنوي والمادي، عملاً بقول الله تعالى:(وتعاونوا على البر والتقوى). المائدة، الآية:2.
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً ممن حقق ذلك بمقالة وفعاله، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والذين اتبعوهم بإحسان مدى الأوقات.
رسالة: في التحذير من الحسد وبيان خطره(7/36)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم النبيين، وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الحسد خُلق ذميم وهو: تمني زوال نعمة الله على الغير.
وقيل: الحسد كراهة ما أنعم الله به على غيره.
فالأول هو المشهور عند أهل العلم، والثاني هو الذي قرّره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فمجرد كراهة ما أنعم الله به على الناس يعتبر حسداً، والحسد محرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وحذر منه، وهو من خصال اليهود الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
والحسد مضارهُ كثيرة: منها: أنه اعتراض على قضاء الله وقدره وعدم رضا بما قدره الله عز وجل؛ لأن الحسد يكره هذه النعمة التي أنعم الله بها على المحسود.
ومنها : أن الحاسد يبقى دائماً في قلق وحرقة ونكد، لأن نعم الله على العباد لا تحصى، فإذا كان كلما رأى نعمه على غيره حسده وكره أن تكون هذه النعمة حالة عليه، فلابد أن يكون في قلق دائم وهذا هو شأن الحاسد والعياذ بالله.
ومنها: أن الغالب أن الحاسد يبغي على المحسود فيحاول أن يكتم نعمة الله على المحسود أو يزيل نعمة الله على هذا المحسود فيجمع بين الحسد وبين العدوان.
ومنها: أن الحاسد فيه شبه من اليهود الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
ومنها: أن الحاسد يحتقر نعمة الله عليه؛ لأنه يرى أن المحسود أكمل منه وأفضل فيزدري نعمة الله عليه، ولا يشكره سبحانه تعالى عليها.
ومنها: أن الحسد يدل على دناءة الحاسد، وأنه شخص لا يحب الخير للغير؛ بل هو سافل ينظر إلى الدنيا، ولو نظر إلى الآخرة لأعرض عن هذا.
ولكن إذا قال قائل: إذا وقع الحسد في قلبي بغير اختياري فما هو الدواء؟
فالجواب: أن الدواء يكون بأمرين:(7/37)
الأول: الإعراض عن هذا بالكلية، وأن يتناسى هذا الشيء، وأن يشتغل بما يهمه في نفسه.
الثاني: أن يتأمل ويتفكر في مضار الحسد، فإن التفكر في مضار العمل يوجب النفور منه، ثم يجرب إذا أحب الخير لغيره واطمأن بما أعطاه الله، هل يكون هذا خيرًا، أم الخير أن يتتبع نعمة الله على الغير ثم تبقى حرقة في نفسه وتسخطأً لقضاء الله وقدره، وليختر أي الطريقين شاء، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين.
رسالة في بيان خطر التقول على العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
ليس بغريب أن ينسب إلى أحد العلماء المعتبرين ما لم يقله بل ما يصرح بخلافه، وهذا معلوم من عهد السلف الصالح، ففي صحيح مسلم ـ في كتاب اللباس في باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة 3/1641 ـ أن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ أرسلت مولاها إلى عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فقالت:" بلغني عنك أنك تُحرم أشياء ثلاث: العلم في الثّوب، ومَيثرةَ الأُرجُوانِ وصوْمَ رجَبٍ كُلّه" . فقال عبد الله: أمّا ما ذَكرتّ من رجبٍ، فكيف بمن يصومُ الأبد.
وأما ما ذكرتَ من العَلمُ في الثّوبِ فإني سمعتُ عمر بن الخطّاب يقول:سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ:"إنما يلبسُ الحرير من لا خَلاقَ له"، فخفتُ أن يكون العَلمُ منه.
وأما ميثرةُ الأرجُوان، فهذه ميثرةُ عبد الله ، فإذا هي أُرجُوانُ.(7/38)
فرجع مولى أسماء إليها فأخبرها بما قال عبد الله فقالت: هذه جُبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجتْ جُبّة طيالسةِ كَسْرِوانّية لها لِبنةُ ديباجٍ وفرجيها مكفُوفين بالدّيباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتّى قُبضتْ. فلمّا قُبضت قبضتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَلبُسها فنحنُ نغسلُها للمرضى ليُستشفى بها.
الميثرةُ: وطاء يجعل على الرحل ليلين للراكب من الوثارة.
والأُرجُوان: بضم الهمزة والجيم هو الأحمر الشديد الحمرة.
ومعنى قول ابن عمر:" فكيف بمن يصوم الأبد" لإنكار على من نسب إليه تحريم صوم رجب كله، لأنه ـ رضي الله عنه ـ كان يصوم الأبد.
وقد أنكر ـ رضي الله عنه ـ كل ما نسب إليه من تحريم الثلاثة، فأنكر صوم رجب بأنه كان يصوم الأبد، وتحريم علم الثوب بأنه كان تركه خوفاً من أن يكون من لبس الحرير فهو حكم احتياطي، وأنكر تحريم ميثرة الأرجوان بأنه كان له ميثرة أرجوان.
والمهم أن التقول على العلماء كان من قديم الزمان وله أسباب:
1ـ منها أن يسأل الشخص عالماً سؤالاً يقصد به معنى، فيفهمُ العالمُ المجيبُ خلاف ما قصد السائل، فيجيبُ بحسب ما فهم من السؤال ويفهم السائل الجواب على ما قصد من السؤال.
2ـ ومنها أن يفهم العالم السؤال على ما قصده به السائل فيجيبه بحسبه لكن يفهم السائل منه خلاف ما قصده المجيب.
3ـ ومنها أن يكون له هوى في حكم مسألة ما، فيُشّيع نسبته إلى عالمٍ معروفٍ ليكون أدى لقبوله.
4ـ ومنها أن يكون الحكم غربياً منكرًا، فيُنسبه إلى عالم ليشوه به سُمعتّهُ ويتخذ من ذلك وسيلةً إلى غيبته، والإيقاع به، مع أن العالم لم يكن منه فتوى في ذلك.
إلى غير ذلك من الأسباب وشر الأسباب التي ذكرناها هذا الأخير والذي قبله.(7/39)
ولكن الواجب على من سمع من ذلك أن يتثبت أولاً من صحة نسبة القول إلى العالم، ثم يتأمل في القول المنقول هل له حظ من النظر، فإن كان له حظ من النظر قبله ودافع عنه؛ لأنه حقٌ والحقُ يجبُ قبوله والدفاع عن القائل به.
وإن لم يكن حظٌ من النظر، اتصل بقائله وناقشه بأدبٍ فيقول: بلغني كذا وكذا فما وجه ذلك في شريف علمكم، أو نحو هذه العبارة.
ثم يأخذ في النقاش معه بأدب واحترام لقوله تعالى)ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل: من الآية125)إلا أن يكون معانداً ظالماً فيجادل بما يستحق، كما قال تعالى في مجادلة أهل الكتاب)وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ )(العنكبوت: من الآية46)وإذا تبين الحق بعد النقاش وجب على من تبين له ابتاعه والدفاع عمن قال به.فإن لم يتبين لكل واحد أن الحق مع صاحبه، فالله تعالى حسيب الجميع وهو تعالى عند قلب كل قائل وقوله، وليس قول كل واحد حجة على الآخر، فليذهب كل واحد إلى ما تبين له أنه الحق ولا يُشّنعُ على صاحبه أو يُبدّعهُ أو يُفسّقُه ما دامت المسألة تحت مجهر الاجتهاد.
نسأل الله التوفيق للصواب والعمل بما يرضيه، وأن يهب لنا من لدنه رحمة وحكمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين الذي بنعمة تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
كتبه محمد الصالح العثيمين في 22/6/1417هـ.
* * *
رسالة
في بيان الموقف الصحيح نحو العلماء
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
نسأل الله لكم التوفيق والسداد والعناية وأن يجزيكم على ما قدمتموه لهذا الدين خير الجزاء.(7/40)
سماحة الشيخ، نحو إخوانكم في إندونيسيا نحبكم في الله ونتابع أخباركم وفتاواكم ونستفيد كثيراً من علومكم عن طريق كتبكم وأشرطتكم، وفي هذه المناسبة نستفتيكم فيما كتبه أحد الدعاة في إحدى مجلات إندونيسية المسماء بـ"سلفي" قال:" أهل الراي هم أهل الفكر الذي يستدلون بالقياس أكثر من استدلالهم بالقرآن والحديث وإمامهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت". وقال:" وأهم شيء في هذا المبحث هو في أي مسألة نهينا أخذ مفاهيم دينية منه(أبو حنيفة)، حتى لا نغتر بعده. روايات منقولة عنه ضل فيها هو" وقال:" بل أهل السنة يحترمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل احترام لكن لا يمنعهم ذلك من انتقادهم بأسلوب علمي مؤدب فيما أخطأوا فيه من أجل أن لا يتبعوا ما أخطأوا" ثم قال:" في المسائل العقدية والفقهية كثيراً ما اعتمد أبو حنيفة على قياس وينقصه الاهتمام بالأدلة من السنة النبوية" ثم قال: "هناك روايات تؤكد على أن أبا حنيفة مرجئي والإرجاء مذهب بدعي مبني على الإيمان قول واعتقاد في القلب دون جعل العمل من ضمنه" ثم نقل أقوال العلماء الذين تكلموا على أبى حنيفة بكلام شديد التي رواها الإمام اللالكائي مثل قول الثوري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وشريك بن عبد الله وأقوال الأئمة الأخرى مثل ابن قتيبة وابن أبي شيبة ثم قال:"لكن موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من مخالفة أبي حنيفة لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يختلف عن موقف الأوزاعي منها، حيث قال: ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يعتمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى.(مجموع الفتاوى 20/304) ثم علق عليه وقال:"موقف شيخ الإسلام المذكور أعلاه لولا أنه خالف آراء الأئمة السابقين مثل الأوزاعي وبان قتيبة وابن أبي شيبة وغيرهم لقبلناه واعتمدنا عليه في موقفنا نحو أخطاء أبي حنيفة في المسائل الفقهية، لكن عصر شيخ الإسلام بعيد عن أبي حنيفة،(7/41)
والأئمة الذين خالفهم أبو حنيفة عاصروه أو جاءوا بعده بفترة قصير فيكون موقفهم نحو أبي حنيفة أرجح من موقف ابن تيمية نحوه.
السؤال: ما الموقف الصحيح نحو الإمام أبي حنيفة؟ نرجو توجيهاتكم.
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الموقف الصحيح نحو الأئمة الذين لهم أتباع، يشهدون بعدالتهم، واستقامتهم، أن لا نتهجم عليهم، وأن نعتقد أن ما خالفوا فيه الصواب، صادر عن اجتهاد، والمجتهد من هذه الأمة لا يخلو من أجر، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور.
وأبو حنيفة ـ رحمه الله ـ كغيره من الأئمة له أخطأ وله إصابات، ولا أحد معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال الإمام مالك: كان يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
والواجب الكف عن أئمة المسلمين، لكن القول إذا كان خطأ، فيذكر القول دون أن يتعرض أحد لقائله بسبب، يذكر القول إذا كان خطأ ويرد عليه، هذا هو الطريق السليم . حرر في 12/2/1420هـ.
رسالة
في التحزّب خطره وضرره
سماحة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
لا يخفى على فضيلتكم كثرة الأحزاب في الساحة، فما توجيهكم حفظكم الله تعالى؟
فأجاب بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا شك أن تحزب المسلمين إلى أحزاب متفرقة متناحرة، مخالف لما تقتضيه الشريعة الإسلامية من الائتلاف والاتفاق، موافق لما يريده الشيطان من التحريش بين المسلمين، وإيقاع العداوة والبغضاء، وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، قال الله تعالى:(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون) . الأنبياء، الآية:92.(7/42)
وفي الآية الأخرى :(وأنا ربكم فاتقون) . المؤمنون، الآية:52. وقال تعالى:(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا). آل عمران، الآية:103. وقال تعالى: )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105)
فاجتهدوا في جمع الكلمة، وترك التنابذ، والتفرق فإن التنازع والتفرق، سبب للخذلان والفشل.
أسأل الله تعالى أن يصلح أمور المسلمين ويجمع كلمتهم على الحق إنه على كل شيء قدير. كتبه محمد الصالح العثيمين في 13 صفر سنة 1419هـ .
رسالة
فضل تلاوة كتاب الله والحث على تعليمه
قال فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن من المعلوم ما في فضل تلاوة كتاب الله العزيز، من الأجر العظيم، وحفظ شريعة الله ـ عز وجل ـ وصلة العبد بربه، حيث يتلو كتابه الذي هو كلامه، الموصوف بصفات العظمة، والمجد، والكرم، قال الله تعالى)وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر:87) . وقال تعالى)بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ:(22) وقال تعالى: )فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم(ٌ76) إنه لقرآن كريم(77) في كتاب مكنون(7/43)
(78) لا يمسه إلا المطهرون(79) تنزيل من رب العالمين(80). الواقعة، الآيات:75ـ80. ولهذا أقسم الله به كما في قوله تعالى:(ق والقرآن المجيد). ق، الآية:1. وأثنى على من يقوم بتلاوته، وبين ما لهم من الثواب في قوله تعالى)إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر:29) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور) فاطر، الآيتان:29، 30. وقال تعالى:( الذين أتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) . البقرة، الآية:121.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(1) . وأنه قال:"ما اجتمع قوم في بيوت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده"(2) .
ولقد ظهر في زماننا هذا جماعات كثر لتحفيظ القرآن في جميع أنحاء البلاد، ومقر هذه الجماعات بيوت الله عز وجل، وهي المساجد، والتحق بها ولله الحمد شباب كثير من ذكور وإناث.
وإني أدعوا إخواني المسلمين أن يحرصوا على مساعدة هذه الجماعات، لينالوا مثل أجر التالين لكتاب الله عز وجل فإن من أعان على خير أصابه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من دعاء إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"(3) . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من جهز غازياً في سبيل الله فقد غز، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا"(4).
وفق الله الجميع لما فيه الخير والهدى والصلاح والإسلاح إنه جواد كريم. كتبه محمد الصالح العثيمين في 7/8/ 1408هـ.
تم
بحمد الله تعالى
كتاب العلم
---(7/44)
(1) [1] (1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب : الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ـ مختصر ـ والإمام أحمد 4/206، وأبي داود (5525).
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ... إلخ .
(1) (1) جزء من حديث أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى:( إنا أرسلنا نحواً إلى قومه . . .)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلاً.
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب: فضل العشاء في الجماعة، ومسلم، كتاب المساجد، باب: فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة.
(2 ( 2) أخرجه الإمام أحمد جـ3 ص128، والنسائي، كتاب النساء، باب: عشرة النساء، والحاكم في "المستدرك" جـ2 ص175 وقال:"حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"ووافقه الذهبي.
(1) [2] (1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفاراً . . .".
(1) [3] (1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: إثم من لم يأمن جاره بوائقه، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: تحريم إيذاء الجار.
(2) (2) أخرجه الإمام أحمد جـ5 ص153، والترمذي، كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في معاشر الناس، والدارمي، كتاب الرقاق، باب: حسن الخلق.
(1) [4] (1) أخرجه مسلم، كتاب البر، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء.
(1) [5] (1)أخرجه الإمام أحمد جـ2 ص250ـ472، وبان ماجة، كتاب النكاح، باب: حسن معاشرة النساء، والهيثمي جـ4 ص302ـ303.
(2) (2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة، ومسلم ، كتاب البر والصلة، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به.
(1) (1) تقدم تخريجه ص256
(2) (2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: الحذر من الغضب.
(3) (3) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: الحذر من الغضب، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب: فضل من يملك نفسه عند الغضب.(7/45)
(1) [6] (1) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب: في العطار وبيع المسك
(1)(1) البخاري، كتاب الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم، كتاب السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة.
(2) (2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الطلاق، آية: 4. ومسلم، كتاب الطلاق، باب:انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل.
(1) (1)صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب: المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها.
(1) [7] (1) تقدم تخريجه ص128.
(1) [8] (1) البخاري، كتاب التيمم، باب: التيمم ضربة، ومسلم، كتاب الحيض، باب: التيمم.
(1) (1) أخرجه الإمام أحمد جـ6 ص210، وأبو داود، كتاب الطهارة، باب: الوضوء من القُبلة، والترمذي، كتاب الطهارة ، باب: الوضوء من القبلة، وابن ماجة، كتاب الطهارة، باب: الوضوء من القبلة، والنسائي، كتاب الطهارة، باب: ترك الوضوء من القبلة، والدار قطني جـ1 ص138، والبيهقي جـ1 ص125.
(2) (2) البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب: صلاة الطالب والمطلوب، ومسلم، كتاب الجهاد، باب: المبادرة بالغزو.
(1) (1) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب: بيع الطعام مثلاً بمثل.
(2) (2) مسلم، كتاب المساقاة، باب: صرف وبيع الذهب بالورق نقداً.
(3) (3) جزء من الحديث السابق.
(1) [9] (1) حديث صلاة التسبيح تقدم تخريجه ص138.(7/46)
(1) [10] (1) أخرجه الإمام أحمد جـ 3 ص39، والترمذي، كتاب الأطعمة، باب: ذكاة الجنين، وابن ماجة، كتاب الذبائح، باب: ذكاة الجنين ذكاة أمه. والدرامي، كتاب الأضاحي، باب: ذكاة الجنين ذكاة أمه. والبيهقي، جـ 9 ص335، والحاكم في "المستدرك" جـ4 ص127، والطبراني في الكبير، جـ 4 ص192، وابن أبي شيبة في المصنف جـ14 ص179، والهيثمي في "المجمع" جـ4 ص35، وأبو نعيم في "الحلية" جـ7 ص92، وابن حبان(1077). قال الحاكم"صحيح على شرط مسلم"،ووافقه الذهبي. وقال الزيلعي في "نصب الراية" جـ4 ص190:"ورجاله رجال الصحيح، وليس فيه غير ابن إسحاق وهو مدلس ولم يصرح بالسماع، فلا يحتج به، ومحمد بن الحسن الواسطي ذكره ابن حبان في "الضعفاء" وروى له هذا الحديث، وصححه الألباني في "الإرواء" جـ8 ص142.
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب الذبائح، باب: التسمية على الذبيحة، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر.
(1) تقدم تخرجه ص13.
(2)أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب: في القاضي يخطئ بلفظ:"القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" قال أبو داود:" وهذا أصح شيء فيه، يعني حديث ابن بريدة".(7/47)
وأخرجه الترمذي، كتاب الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، بلف:" القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة ، رجل قضى بغير حق فعلم ذاك فذاك في النار. وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة".وأخرجه ابن ماجة، كتاب الأحكام، باب: الحاكم يجتهد فيصيب الحق، والبغوي في "شرح السنة" جـ10 ص94، والبيهقي جـ10 ص116 ، ص117، والطبراني في "المعجم الكبير" جـ2 ص5، والحاكم في "المستدرك" جـ4 ص91، وقال:"حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. قال الهيثمي:"رجاله ثقات" .
(1) (1) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن.
(2) (2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه.
(3) (3) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: فضل القرآن على سائر الكلام، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: فضيلة حافظ القرآن.
(4) (4) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: قراءة القرآن وسورة البقرة.
(1) [11] (1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب: ما يلحق الإنسان بعد وفاته.
(1) [12] (1) الجدة : الغنى .
(2) (2) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب: فضل من جهَّز غازياً أو خلفه بخير. ومسلم ، كتاب الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي.
(1) [13] (1) تقدم تخريجه ص294.
(2) (2) رواه مسلم(2700) في الذكر والدعاء.
(3) (3) رواه مسلم (2674) .
(4) (4) تقدم تخريجه ص296.
---
(1) هذه الكتب سئل عنها فضيلة شيخنا – جزاه الله خيراً – فجمعت هاهنا على وجه الاختصار.
(1) أخرجه الإمام أحمد (1-201) ، والترمذي (2318)، وحسنه النووي في ( رياض الصالحين) ص 73،
وصححه أحمد شاكر ( المسند) 1737).
(1) تقدم تخريجه ص 13(7/48)
(1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب : الترغيب في النكاح، ومسلم، كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه.
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
(1) تقدم تخريجه ص 113
(1) ونصه : عن خارجه – يعني ابن زيد بن ثابت :- قال : قال زيد بن ثابت: أمرني رسول الله e فتعلمت له كتاب يهود، وقال: (( إني والله ما آمن يهود على كتابي)) فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذفته، فكنت أكتب له إذا كتب وأقرأ له إذا كُتب إليه)) أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب: رواية حديث أهل الكتاب، والإمام أحمد جـ 5 ص 186، والحاكم في (( المستدرك)) جـ 1 ص 75، وقال: (( حديث صحيح)) ووافقه الذهبي.
والحديث علقه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب: ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد بقوله: (( وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت أن النبي e أمره أن يتعلم كتاب اليهود حتى كتبت للنبي e كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه)). وانظر: الإصابة جـ 1 ص 543.
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ ص 402، والدارمي، كتاب الرقاق ، باب: في المحقرات، والهيثمي في (( مجمع الزوائد)) جـ 10 ص 190 ، وقال: (( رجاله رجال الصحيح )).
(1) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب: ذكر الدجال وصفة ما معه.
(1) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: نسيان القرآن.
(1) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة (1395) ، ومسلم، كتاب الإيمان (29).
(1) أخرجه البخاري، كتب العلم، باب: قول لمحدث حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا ، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب: مثل المؤمن مثل النخلة. ولفظه (( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها،وأنها مثل المسلم فحدثوني ما هي ؟ )) فوق الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستصيبت ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ قال: (( هي النخلة)).(7/49)
(1) حديث صلاة التسبيح أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة ، باب: صلاة التسبيح، والترمذي ، كتاب الصلاة، باب : التسبيح.
وابن ماجة،كتاب إقامة الصلاة، باب : ما جاء في صلاة التسبيح، وابن خزيمة، كتاب التطوع ، باب: صلاة التسبيح، والبيهقي في (( السنن)) جـ 3 ص 51، والبغوي في (( شرح السنة )) جـ 4 ص 156، والطبراني في (( الكبير)) جـ 12 ص 243، قال الترمذي: (( حديث غريب من حديث أبي رافع)) قال ابن خزيمة : (( في القلب من إسناده شيء)) وقال الإمام أحمد : (( لم تثبت عندي صلاة التسبيح)) مسائل الإمام أحمد – روياة ابنه عبد الله جـ 2 ص 295، وقال أيضاً: (( إسناده ضعيف)) مسائل الإمام أحمد – رواية النيسابوري – جـ 1 ص 105.
وقد فصل القول فيها شيخنا العلامة محمد بن عثيمين – حفظه الله ورعاه – فقال: (( والذي يترجح عندي أن صلاة التسبيح ليست بسنة وأن خبرها ضعيف وذلك من وجوه:
أولا: أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل تثبت به مشروعيتها.
الثاني: أن حديثها مضطر فقد اختلف فيه على عدة أوجه.
الثالث:أنها لم يستحبها أحد من العلماء وأئمة السلف – رحمهم الله تعالى – قال شيخ الإسلام: (( نص الإمام أحمد على كراهيتها ولم يستحبها إمام. قال: أما أبو حنيفة ومالك والشافعي فلم يسموا عنها بالكلية)).(7/50)
الرابع : أنها لو كانت هذه الصلاة مشروعة لنقلت للأمة نقلاً لا ريب فيه واشتهرت بينهم لعظم فائدتها ولخروجها عن جنس الصلوات بل وعن جنس العبادات ، فإننا لا نعلم عبادة يخير فيها هذا التخيير بحيث تفعل في كل يوم أو أسبوع مرة أو في الشهر مرة أو في السنة مرة أو في العمر مرة فلما كانت عظيمة الفائدة خارجة عن جنس الصلوات ولم تشتهر ولم تنقل على أنه لا أصل لها وذلك إن ما خرج عن نظائره وعظمت فائدته فإن الناس سيهتمون به وينقلونه ويشيع بينهم شيوعاً ظاهراً وعظمت فائدته فإن الناس سيهتمون به وينقلونه ويشيع بينهم شيوعا ظاهرا فلما لم يكن هذا في هذه الصلاة علم أنها ليست مشروعة ولذلك لم يستحبها أحد من الأئمة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – وأن فيما يثبت مشروعيته من النوافل الخير والبركة لم أراد المزيد وهو في غني بما ثبت عما لم يثبت مما فيه خلاف وشبهة والله المستعان )) انتهى كلامه – حفظه الله ورعاه – نقلاً من مجموع الفتاوى لفضيلته، في فتاوى الفقه، كتاب الصلاة، باب: صلاة التطوع، يسّر الله تعالى نشره.
(1) انظر تفصيل هذه المسألة في " مجموع الفتاوى" لفضيلة شيخنا 3/28.
(1) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة.
(1) أخرجه البخاري، كتاب الصيام، باب: صيام البيض، ومسلم ، كتاب صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، ولفظه: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام" .
(1) (1) رواه مسلم ، كتاب السلام، باب : النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم .
(2) (2) أخرجه البخاري، كتاب الأداب، باب: الرفق في الأمر كله، مسلم، كتاب السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم.(7/51)
(1) (1) أخرجه الترمذي (3570) ، والحاكم (1-316).
(1) (1) أخرجه مسلم ، كتاب الطلاق ، باب : طلاق الثلاث.
(2) (2) أخرجه مسلم ، كتاب الحدود ، باب : حد الخمر .
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان ، باب : فضل من استبرأ لدينه، ومسلم، كتاب المساقاة ، باب : أخذ الحلال وترك الشبهات .
(1) [3](1) أخرجه البخاري، كتاب صلاة الخوف ، باب : صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماءً ، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب : المبادرة بالغزو.
(1) (1) في فضائل القرآن، باب: مدّ القراءة(4759).
(1) (1) أخرجه الإمام أحمد 2/168.
(1) (1) تقدم تخريجه صلى الله عليه وسلم ص13 .
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب : أجر الحاكم إذا اجتهد، ومسلم، كتاب الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد .
(1) [4] (1) أخرجه الترمذي، كتاب المناقب، وابن ماجة في المقدمة .
(2) (2) مسلم، كتاب المساجد ، باب: قضاء الصلاة الفائتة .
(1) [5] (1) أخرجه البخاري ، كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى.
(2) (2) أخرجه الإمام أحمد 5/183.
(1) [6] (1) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب: كيف يُقبض العلم، ومسلم، كتاب العلم، باب: رفع العلم وقبضه .
(1) (1) تقدم تخريجه صلى الله عليه وسلم 93.
(1) (1) تقدم تخريجه ص154 .
(1) (1) أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد، ومسلم ، كتاب الجهاد.
(1) (1) أخرجه مسلم، كتاب الجهاد، باب: تأمير الإمام الأمراء.
(2) (2) تقدم تخريجه ص176.
(1) (1) تقدم تخريجه ص176.
(1) (1) أخرجه الإمام أحمد 3/413، وابن ماجة(3973).
(1) (1) أخرجه الإمام أحمد(4/126 ـ 127)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجة (42ـ 44).
(1) (1) تقدم تخريجه ص178.
(1) (1) تقدم تخريجه ص 178 .
(1) (1) أخرجه البخاري ، كتاب الحج، باب:كسوة الكعبة، وفي كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(7/52)
(1) (1) تقدم تخريجه ص 204.
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسلم كتاب الفضائل، باب: مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام.
(1) (1) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب: فضل من جهّز غازياً أو خلفه بخير، ومسلم ، كتاب الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله .
(1) (1) أنظر الدرر المنتثرة للسيوطي، ص110، وكشف الخفاء 1/325، والأسرار المرفوعة ص189.
(1) [8](1) تقدم تخريجه ص13.
(1) [9] (1) تقدم تخرجيه ص160.
(2) (2) تقدم تخريجه ص160.
(1) [10] ـ(1) أخرجه مسلم، كتاب البر، باب فضل الرفق.
(2) (2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: قوله عليه الصلاة والسلام:"يسروا. . ."، ومسلم، كتاب الجهاد، باب: الأمر بالتيسير وترك التنفير.
(1) (1) تقدم تخريجه ص204.
(1) (1) أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان، باب: بيان أركان الإيمان والإسلام.
(1) (1) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب: حسن الخلق.
(1) [11] (1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، برقم (107).(7/53)
كتاب العلم
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
في تعريف العلم وفضله وحكم طلبه
الفصل الأول
تعريف العلم
لغة: نقيض الجهل، وهو: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا.
اصطلاحًا: فقد قال بعض أهل العلم: هو المعرفة وهو ضد الجهل، وقال آخرون من أهل العلم: إن العلم أوضح من أن يعرف.
والذي يعنينا هو العلم الشرعي، والمراد به : علم ما أنزل الله على رسوله من البينات والهدى، فالعلم الذي فيه الثناء والمدح ما في الحديث « من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين » (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر » (2) .
ومن المعلوم أن الذي ورثه الأنبياء إنما هو علم شريعة الله - عز وجل - وليس غيره، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- ما ورثوا للناس علم الصناعات وما يتعلق بها، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وجد الناس يؤبرون النخل - أي يلقحونها - قال لهم لما رأى من تعبهم كلامًا يعني أنه لا حاجة إلى هذا ففعلوا، وتركوا التلقيح، ولكن النخل فسد، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « أنتم أعلم بشؤون دنياكم » (3) .
_________
(1) البخاري ، كتاب العلم، باب: من يرد الله به خيرًا، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة.
(2) أبو داود، كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، والترمذي، كتاب العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة.
(3) أخرجه مسلم من كتاب الفضائل، باب : وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي.(7/54)
ولو كان هذا هو العلم الذي عليه الثناء لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به؛ لأن أكثر من يُثنى عليه بالعلم والعمل هو النبي صلى الله عليه وسلم .
إذن فالعلم الشرعي هو الذي يكون فيه الثناء ويكون الحمد لفاعله، ولكني مع ذلك لا أنكر أن يكون للعلوم الأخرى فائدة، ولكنها فائدة ذات حدين : إن أعانت على طاعة الله وعلى نصر دين الله وانتفع بها عباد الله، فيكون ذلك خيرًا ومصلحة، وقد يكون تعلمها واجبا في بعض الأحيان إذا كان ذلك داخلا في قوله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } (الأنفال:60) .
وقد ذكر كثير من أهل العلم أن تعلم الصناعات فرض كفاية ؛ وذلك لأن الناس لا بد لهم من أن يطبخوا بها، ويشربوا بها ، وغير ذلك من الأمور التي ينتفعون بها، فإذا لم يوجد من يقوم بهذه المصانع صار تعلمها فرض كفاية. وذا محل جدل بين أهل العلم الشرعي الذي هو فقه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما عدا ذلك فإما أن يكون وسيلة إلى خير أو وسيلة إلى شر، فيكون حكمه بحسب ما يكون وسيلة إليه.(7/55)
الفصل الثاني
فضائل العلم
لقد مدح الله - سبحانه وتعالى - العلم وأهله، وحثَّ عباده على العلم والتزود منه وكذلك السنة المطهرة.
فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة، وهو من أفضل وأجلّ العبادات، عبادات التطوع؛ لأنه نوع من الجهاد في سبيل الله، فإن دين الله - عز وجل - إنما قام بأمرين :
أحدهما: العلم والبرهان.
والثاني: القتال والسنان، فلا بد من هذين الأمرين، ولا يمكن أن يقوم دين الله ويظهر إلا بهما جميعًا ، والأول منهما مقدّم على الثاني، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يُغِير على قوم حتى تبلغهم الدعوة إلى الله - عز وجل - فيكون العلم قد سبق القتال.
قال تعالى: { مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } (الزمر، الآية :9) فالاستفهام هنا لا بد فيه من مقابل " أمَّن هو قائم قانت آناء الليل والنهار" أي كمن ليس كذلك، والطرف الثاني المفضل عليه محذوف للعلم به، فهل يستوي من هو قانت آناء الليل ساجدًا أو قائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هل يستوي هو ومن هو مستكبر عن طاعة الله ؟(7/56)
الجواب: لا يستوي؛ فهذا الذي هو قانت يرجو ثواب الله ويحذر الآخرة هل فِعلُه ذلك عن علم أو عن جهل ؟ الجواب : عن علم، ولذلك قال: { مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } (الزمر الآية : 9) . لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، كما لا يستوي الحي والميت، والسميع والأصم، والبصير والأعمى، العلم نور يهتدي به الإنسان، ويخرج به من الظلمات إلى النور، العلم يرفع الله به من يشاء من خلقه { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (المجادلة: الآية 11). ولهذا نجد أن أهل العلم محل الثناء، كلما ذُكروا أُثنِيَ عليهم، وهذا رَفْع لهم في الدنيا، أما في الآخرة فإنهم يرتفعون درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله والعمل بما عملوا .(7/57)
إن العابد حقًّا هو الذي يعبد ربه على بصيرة ويتبين له الحق، وهذه سبيل النبي صلى الله عليه وسلم { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (يوسف الآية : 108)
فالإنسان الذي يتطهر وهو يعلم أنه على طريق شرعي، هل هو كالذي يتطهر من أجل أنه رأى أباه أو أمه يتطهرا؟
أيهما أبلغ في تحقيق العبادة ؟ رجل يتطهر ؛ لأنه علم أن الله أمر بالطهارة ، وأنها هي طهارة النبي صلى الله عليه وسلم فيتطهر امتثالا لأمر الله واتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أم رجل آخر يتطهر ؛ لأن هذا هو المعتاد عنده ؟(7/58)
فالجواب: بلا شك أن الأول هو الذي يعبد الله على بصيرة. فهل يستوي هذا وذاك؟ وإن كان فعل كل منهما واحدًا ، لكن هذا عن علم وبصيرة يرجو الله - عز وجل ويحذر الآخرة ويشعر بأنه متبع للرسول صلى الله عليه وسلم وأقف عند هذه النقطة وأسأل هل نستشعر عند الوضوء بأننا نمتثل لأمر الله - سبحانه وتعالى- في قوله : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } (المائدة: الآية 6).
هل الإنسان عند وضوئه يستحضر هذه الآية وأنه يتوضأ امتثالا لأمر الله؟ .
هل يستشعر أن هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يتوضأ اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟(7/59)
الجواب: نعم، الحقيقة أن منا من يستحضر ذلك، ولهذا يجب عند فعل العبادات أن نكون ممتثلين لأمر الله بها حتى يتحقق لنا بذلك الإخلاص وأن نكون متبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم . نحن نعلم أن من شروط الوضوء النية، لكن النية قد يراد بها نية العمل ، وهذا نتنبه لهذا الأمر العظيم، وهي أن نستحضر ونحن نقوم بالعبادة أن نمتثل أمر الله بها لتحقيق الإخلاص، وأن نستحضر أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها ونحن له متبعون فيها لتحقيق المتابعة؛ لأن من شروط صحة العمل:
الإخلاص.
والمتابعة.
اللذين بهما تتحقق شهادة أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله .
نعود إلى ما ذكرنا أولا من فضائل العلم، إذ بالعلم يعبد الإنسان ربه على بصيرة، فيتعلق قلبه بالعبادة ويتنور قلبه بها، ويكون فاعلا لها على أنها عبادة لا على أنها عادة، ولهذا إذا صلى الإنسان على هذا النحو فإنه مضمون له ما أخبر الله به من أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ومن أهم فضائل العلم ما يلي:(7/60)
1- أنه إرث الأنبياء، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا وإنما ورثوا العلم، فمَنْ أخذ بالعلم فقد أخذ بحظ وافر من إرث الأنبياء، فأنت الآن في القرن الخامس عشر إذا كنت من أهل العلم ترث محمدًا صلى الله عليه وسلم وهذا من أكثر الفضائل.
2- أنه يبقى والمال يفنى، فهذا أبو هريرة - رضي الله عنه - من فقراء الصحابة حتى إنه يسقط من الجوع كالمغمى عليه وأسألكم بالله هل يجري لأبي هريرة ذكر بين الناس في عصرنا أم لا ؟ نعم يجري كثيرا فيكون لأبي هريرة أجر من انتفع بأحاديثه؛ إذ العلم يبقى والمال يفنى، فعليك يا طالب العلم أن تستمسك بالعلم فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية أو عمل ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له » (1)
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية ، باب : ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.(7/61)
3- أنه لا يُتعب صاحبه في الحراسة؛ لأنه إذا رزقك الله علمًا فمحله في القلب لا يحتاج إلى صناديق أو مفاتيح أو غيرها، هو في القلب محروس، وفي النفس محروس، وفي الوقت نفسه هو حارس لك؛ لأنه يحميك من الخطر بإذن الله - عز وجل - فالعلم يحرسك، ولكن المال أنت تحرسه تجعله في صناديق وراء الأغلاق، ومع ذلك تكون غير مطمئن عليه.
4- أن الإنسان يتوصل به إلى أن يكون من الشهداء على الحق، والدليل قوله تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } (آل عمران: الآية 18). فهل قال: (( أولو المال))؟ لا، بل قال : { وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } فيكفيك فخرًا يا طالب العلم أن تكون ممن شهد الله أنه لا إله إلا هو مع الملائكة الذين يشهدون بوحدانية الله - عز وجل - .(7/62)
5- أن أهل العلم هو أحد صنفي ولاة الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (النساء: من الآية 59). فإن ولاة الأمور هنا تشمل ولاة الأمور من الأمراء والحكام، والعلماء وطلبة العلم؛ فولاية أهل العلم في بيان شريعة الله ودعوة الناس إليها وولاية الأمراء في تنفيذ شريعة الله وإلزام الناس بها.
أن أهل العلم هو القائمون على أمر الله تعالى حتى تقوم الساعة، ويستدل لذلك بحديث معاوية - رضي الله عنه - يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله » (1) رواه البخاري .
وقد قال الإمام أحمد عن هذه الطائفة: (( إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم )).
وقال القاضي عياض - رحمه الله - : (( أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب الحديث)).
7- أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرغب أحدًا أن يغبط أحدًا على شيء من النعم التي أنعم الله بها إلا على نعمتين هما:
1- طلب العلم والعمل به.
_________
(1) البخاري ، كتاب العلم، باب: من يرد الله به خيرًا ومسلم، كتاب الزكاة، باب: النهي عن المسألة .(7/63)
2- التاجر الذي جعل ماله خدمة للإسلام. فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها ويُعلّمها » (1) .
8- ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكان منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقُُه في دين الله ونفعهُ ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به » (2) .
9- أنه طريق الجنة كما دل على ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ومن سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة » . )) (3) رواه مسلم .
_________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم ، كتاب الصلاة ، باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه.
(2) أخرجه البخاري ، كتاب العلم، باب: فضل من علم وعمل ، ومسلم، كتاب الفضائل ، باب: مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم.
(3) أخرجه مسلم ، كتاب الدعوات ، باب : فضل الاجتماع على تلاوة القرآن.(7/64)
10- ما جاء في حديث معاوية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من يرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين » (1) أي: يجعله فقيهًا في دين الله - عز وجل - ، والفقه في الدين ليس المقصود به فقه الأحكام العملية المخصوصة عند أهل العلم بعلم الفقه فقط، ولكن المقصود به هو: علم التوحيد، وأصول الدين، وما يتعلق بشريعة الله - عز وجل -. ولو لم يكن من نصوص الكتاب والسنة إلا هذا الحديث في فضل العلم لكان كاملا في الحثّ على طلب علم الشريعة والفقه فيها.
11- أن العلم نور يستضيء به العبد فيعرف كيف يعبد ربه، وكيف يعامل عباده، فتكون مسيرته في ذلك على علم وبصيرة.
_________
(1) تقدم تخريجه ص 13.(7/65)
12- أن العالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولا يخفى على كثير منّا قصة الرجل الذي من بني إسرائيل « قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على رجل عابد فسأله هل له من توبة ؟ فكأن العابد استعظم الأمر فقال: لا. فقتله فأتم به المائة، ثم ذهب إلى عالم فسأله فأخبره أن له توبة وأنه لا شيء يحول بينه وبين التوبة، ثم دلَّه على بلد أهله صالحون ليخرج إليها، فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق . » والقصة مشهورة (1) . فانظر الفرق بين العالم والجاهل.
13- أن الله يرفع أهل العلم في الآخرة وفي الدنيا، أما في الآخرة فإن الله يرفعهم درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله - عز وجل - والعمل بما علموا ، وفي الدنيا يرفعهم الله بين عباده بحسب ما قاموا به. قال الله تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (المجادلة: الآية 11).
_________
(1) أخرجها البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر من بني إسرائيل ، ومسلم، كتاب التوبة، باب: قبول توبة القاتل.(7/66)
الفصل الثالث
حكم طلب العلم
طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون طلب العلم واجبًا على الإنسان عينًا أي فرض عين، وضابطه أن يتوقف عليه معرفة عبادة يريد فعلها أو معاملة يريد القيام بها، فإنه يجب عليه في هذه الحال أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة وكيف يقوم بهذه المعاملة، وما عدا ذلك من العلم ففرض كفاية وينبغي لطالب العلم أن يشعر نفسه أنه قائم بفرض كفاية حال طلبه ليحصل له ثواب فاعل الفرض مع التحصيل العلمي.
ولا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال، بل هو من الجهاد في سبيل الله، ولا سيما في وقتنا هذا حين بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر، وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم، وبدأ الجدل من كثير من الناس ، فهذه ثلاثة أمور كلها تُحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم.
أولا: بدع بدأت تظهر شرورها.
ثانيًا: أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم.
ثالثًا: جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها بغير علم.(7/67)
فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع، وعندهم فقه في دين الله، وعندهم حكمة في توجيه عباد الله ؛ لأن كثيرًا من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ولا يهمهم النظر إلى إصلاح الخلق وإلى تربيتهم، وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا صار وسيلة إلى شر أكبر لا يعلم مداه إلا الله.(7/68)
الأمر الأول : إخلاص النية لله - عز وجل -:
بأن يكون قصده بطلب العلم وجه الله والدار الآخرة؛ لأن الله حثَّ عليه ورغَّب فيه، فقال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } (محمد: الآية 19) والثناء على العلماء في القرآن معروف، وإذا أثنى الله على شيء أو أمر به صار عبادة.
إذن فيجب الإخلاص فيه لله بأن ينوي الإنسان في طلب العلم وجه الله - عز وجل - وإذا نوى الإنسان بطلب العلم الشرعي أن ينال شهادة ليتوصل بها إلى مرتبة أو رتبة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من تعلم علمًا يبتغي به وجه الله - عز وجل - لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة » - يعني ريحها - (1) وهذا وعيد شديد.
لكن لو قال طالب العلم: أنا أريد أن أنال الشهادة لا من أجل حظّ من الدنيا، ولكن لأن النُّظُم أصبح مقياس العالم فيها شهادته فنقول: إذا كانت نية الإنسان نيل الشهادة من أجل نفع الخلق تعليمًا أو إدارة أو نحوها، فهذه نية سليمة لا تضره شيئًا ؛ لأنها نية حق.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد ج 2 ص 338، وأبو داود ، كتاب العلم، باب طلب العلم لغير الله تعالى. وابن ماجه، المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، والحاكم في «المستدرك» ج 1 ص 160، وابن أبي شيبة في «المصنف» ج8 ص 543، قال الحاكم : حديث صحيح سنده ثقات.(7/69)
وإنما ذكرنا الإخلاص في أول آداب طالب العلم ؛ لأن الإخلاص أساس، فعلى طالب العلم أن ينوي بطلب العلم امتثال أمر الله - عز وجل - لأن الله - عز وجل - أمر بالعلم فقال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } (محمد: الآية 19) فأمر بالعلم، فإذا تعلمت فإنك ممتثل لأمر الله - عز وجل - .(7/70)
الأمر الثاني: رفع الجهل عن نفسه وعن غيره :
أن ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه وعن غيره ؛ لأن الأصل في الإنسان الجهل، ودليل ذلك قوله تعالى: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (النحل:78) . والواقع يشهد بذلك فتنوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسك وبذلك تنال خشية الله { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (فاطر، الآية :28) فتنوي رفع الجهل عن نفسك ؛ لأن الأصل فيك الجهل، فإذا تعلمت وصرت من العلماء انتفى عنك الجهل، وكذلك تنوي رفع الجهل عن الأمة ويكون ذلك بالتعليم بشتى الوسائل لتنفع الناس بعلمك.
وهل من شرط نفع العلم أن تجلس في المسجد في حلقة ؟ أو يمكن أن تنفع الناس بعلمك في كل حال ؟
الجواب: بالثاني؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: « بلِّغوا عني ولو آية » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء ، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل(7/71)
لأنك إذا علَّمت رجلا علمًا وعلَّمه رجلا آخر صار لك أجر رجلين، ولو علَّم ثالثا صار لك أجر ثلاثة وهكذا، ومن ثَمَّ صار من البدع أن الإنسان إذا فعل عبادة قال: (( اللهم اجعل ثوابها لرسول الله ))؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي علمك بها وهو الذي دلك عليها فله مثل أجرك.
قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: (( العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته )). قالوا : كيف ذلك ؟ (( ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره ))؛ لأن الأصل فيهم الجهل كما هو الأصل فيك، فإذا تعلمت من أجل أن ترفع الجهل عن هذه الأمة كنت من المجاهدين في سبيل الله الذين ينشرون دين الله.(7/72)
الأمر الثالث: الدفاع عن الشريعة:
أن ينوي بطلب العلم الدفاع عن الشريعة؛ لأن الكتب لا يمكن أن تدافع عن الشريعة، ولا يدافع عن الشريعة إلا حامل الشريعة، فلو أن رجلا من أهل البدع جاء إلى مكتبة حافلة بالكتب الشرعية فيها ما لا يحصى من الكتب، وقام يتكلم ببدعة ويقررها فلا أظن أن كتابًا واحدًا يرد عليه، لكن إذا تكلم عند شخص من أهل العلم ببدعته ليقررها فإن طالب العلم يرد عليه ويدحض كلامه بالقرآن والسنة.
فعلى طالب العلم أن ينوي بطلب العلم الدفاع عن الشريعة ؛ لأن الدفاع عن الشريعة لا يكون إلا برجالها كالسلاح تمامًا، لو كان عندنا أسلحة ملأت خزائنها ؛ فهل هذه الأسلحة تستطيع أن تقوم من أجل أن تلقي قذائفها على العدو؟ أو لا يكون ذلك إلا بالرجال ؟
فالجواب: لا يكون ذلك إلا بالرجال، وكذلك العلم.
ثم إن البدع تتجدد، فقد توجد بدع ما حدثت في الزمن الأول ولا توجد في الكتب فلا يمكن أن يدافع عنها إلا طالب العلم، ولهذا أقول:(7/73)
إن ما تجب مراعاته لطالب العلم الدفاع عن الشريعة، إذن فالناس في حاجة ماسة إلى العلماء؛ لأجل أن يردوا على كيد المبتدعين وسائر أعداء الله - عز وجل - ولا يكون ذلك إلا بالعلم الشرعي المتلقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .(7/74)
الأمر الرابع: رحابة الصدر في مسائل الخلاف:
أن يكون صدره رحبًا في مواطن الخلاف الذي مصدره الاجتهاد ؛ لأن مسائل الخلاف بين العلماء، إما أن تكون مما لا مجال للاجتهاد فيه ويكون الأمر فيها واضحًا فهذه لا يُعذر أحد بمخالفتها، وإما أن تكون مما للاجتهاد فيها مجال فهذه يُعذر فيها من خالفها، ولا يكون قولك حجة على من خالفك فيها؛ لأننا لو قبلنا ذلك لقلنا بالعكس قوله حجة عليك.
وأنا أريد بهذا ما للرأي فيه مجال، ويسع الإنسانَ فيه الخلافُ، أما من خالف طريق السلف كمسائل العقيدة فهذه لا يقبل من أحد مخالفة ما كان عليه السلف الصالح، لكن في المسائل الأخرى التي للرأي فيها مجال فلا ينبغي أن يتُخذ من هذا الخلاف مطعن في الآخرين، أو يتُخذ منها سببٌ للعداوة والبغضاء .
فالصحابة - رضي الله عنهم - يختلفون في أمور كثيرة، ومن أراد أن يطلع على اختلافهم فليرجع إلى الآثار الواردة عنهم يجد الخلاف في مسائل كثيرة، وهي أعظم من المسائل التي اتخذها الناس هذه الأيام ديدنًا للاختلاف حتى اتخذ الناس من ذلك تحزبًا بأن يقولوا: أنا مع فلان كأن المسألة مسألة أحزاب فهذا خطأ.(7/75)
من ذلك مثلا كأن يقول أحد إذا رفعت من الركوع فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى، بل أرسلها إلى جنب فخذيك فإن لم تفعل فأنت مبتدع.
كلمة مبتدع ليست هينة على النفس، إذا قال لي هذا سيحدث في صدري شيء من الكراهية؛ لأن الإنسان بشر، ونحن نقول هذه المسألة فيها سعة إما أن يضعها أو يرسلها، ولهذا نص الإمام أحمد - رحمه الله - على أنه يخيّر بين أن يضع يده اليمنى على اليسرى وبين الإرسال؛ لأن الأمر في ذلك واسع، ولكن ما هي السنة عند تحرير هذه المسألة؟(7/76)
فالجواب: السنة أن تضع يدك اليمنى على اليسرى إذا رفعت من الركوع كما تضعها إذا كنت قائمًا، والدليل فيما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال « كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة » (1) فلتنظر هل يريد بذلك في حال السجود؟ أو يريد بذلك في حال القعود ؟ لا بل يريد بذلك في حالة القيام وذلك يشمل القيام قبل الركوع والقيام بعد الركوع، فيجب أن لا نأخذ من هذا الخلاف بين العلماء سببًا للشقاق والنزاع؛ لأننا كلنا نريد الحق وكلنا فعل ما أدّاه اجتهاده إليه، فما دام هكذا فإنه لا يجوز أن نتخذ من ذلك سببًا للعداوة والتفرق بين أهل العلم؛ لأن العلماء لم يزالوا يختلفوا حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
إذن فالواجب على طلبة العلم أن يكونوا يدًا واحدة، ولا يجعلوا مثل هذا الخلاف سببًا للتباعد والتباغض، بل الواجب إذا خالفت صاحبك بمقتضى الدليل عندك، وخالفكم هو بمقتضى الدليل عنده أن تجعلوا أنفسكم على طريق واحد، وأن تزداد المحبة بينكما.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب: وضع اليمنى على اليسرى، ولفظه: (( عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة)).(7/77)
ولهذا فنحن نحب ونهنىء شبابنا الذين عندهم الآن اتجاهًا قويًّا إلى أن يقرنوا المسائل بالدلائل وأن يبنوا علمهم على كتاب الله وسنة رسوله، نرى أن هذا من الخير وأنه يبشر بفتح أبواب العلم من مناهجه الصحيحة، ولا نريد منهم أن يجعلوا ذلك سببا للتحزب والبغضاء، وقد قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (الأنعام: الآية : 159) فالذين يجعلون أنفسهم أحزابًا يتحزبون إليها لا نوافقهم على ذلك؛ لأن حزب الله واحد ، ونرى أن اختلاف الفهم لا يوجب أن يتباغض الناس وأن يقع في عرض أخيه.(7/78)
فيجب على طلبة العلم أن يكونوا إخوة، حتى وإن اختلفوا في بعض المسائل الفرعية، وعلى كل واحد أن يدعو الآخر بالهدوء والمناقشة التي يُراد بها وجه الله والوصول إلى العلم، وبهذا تحصل الألفة، ويزول هذا العنت والشدة التي تكون في بعض الناس، حتى قد يصل بهم الأمر إلى النزاع والخصام، وهذا لا شك يفرح أعداء المسلمين والنزاع بين الأمة من أشد ما يكون في الضرر قال الله تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } ( الأنفال، الآية :46) .(7/79)
وكان الصحابة- رضي الله عنهم - يختلفون في مثل هذه المسائل، ولكنهم على قلب واحد، على محبة وائتلاف، بل إني أقول بصراحة : إن الرجل إذا خالفك بمقتضى الدليل عنده فإنه موافق لك في الحقيقة؛ لأن كلًّا منكما طالب للحقيقة وبالتالي فالهدف واحد وهو الوصول إلى الحق عن دليل ، فهو إذن لم يخالفك ما دمت تقرّ أنه إنما خالفك بمقتضى الدليل عنده، فأين الخلاف؟ وبهذه الطريقة تبقى الأمة واحدة وإن اختلفت في بعض المسائل لقيام الدليل عندها، أما مَنْ عاند وكابر بعد ظهور الحق فلا شك أنه يجب أن يعامل بما يستحقه بعد العناد والمخالفة، ولكل مقام مقال.(7/80)
الأمر الخامس: العمل بالعلم:
أن يعمل طالب العلم بعلمه عقيدة وعبادة، وأخلاقًا وآدابًا ومعاملةً ؛ لأن هذا هو ثمرة العلم وهو نتيجة العلم، وحامل العلم كالحامل لسلاحه، إما له وإما عليه، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « القرآن حجة لك أو عليك » (1) لك إن عملت به ، وعليك إن لم تعمل به، وكذلك يكون العمل بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بتصديق الأخبار وامتثال الأحكام ، إذا جاء الخبر من الله ورسوله فصدِّقه وخُذه بالقبول والتسليم ولا تقل: لِمَ؟ وكيف؟ فإن هذا طريقة غير المؤمنين فقد قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } (الأحزاب الآية :36) .
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوضوء ، باب : فضل الوضوء.(7/81)
والصحابة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم بأشياء قد تكون غريبة وبعيدة عن أفهامهم، ولكنهم يتلقون ذلك بالقبول لا يقولون: لِمَ؟ وكيف؟ بخلاف ما عليه المتأخرون من هذه الأمة، نجد الواحد منهم إذا حُدِّث بحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وحارَ عقله فيه نجده يورد على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم الإيرادات التي تستشف منها أنه يريد الاعتراض لا الاسترشاد، ولهذا يُحال بينه وبين التوفيق، حتى يردّ هذا الذي جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يتلقه بالقبول والتسليم.
وأضرب لذلك مثلا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له » (1)
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب: الدعاء والصلاة من الليل، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.(7/82)
هذا الحديث حدّث به النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث مشهور بل متواتر، ولم يرفع أحد من الصحابة لسانه ليقول: يا رسول الله كيف ينزل؟ وهل يخلو منه العرش أم لا؟ وما أشبه ذلك، لكن نجد بعض الناس يتكلم في مثل هذا ويقول كيف يكون على العرش وهو ينزل إلى السماء الدنيا؟ وما أشبه ذلك من الإيرادات التي يوردونها، ولو أنهم تلقوا هذا الحديث بالقبول وقالوا : إن الله - عز وجل - مستو على عرشه والعلو من لوازم ذاته، وينزل كما يشاء- سبحانه وتعالى - لاندفعت عنهم هذه الشبهة ولم يتحيروا فيما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه.
إذن الواجب علينا أن نتلقى ما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب والتسليم، وأن لا نعارضها بما يكون في أذهاننا من المحسوس والمشاهد؛ لأن الغيب أمر فوق ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة لا أحب أن أطيل بذكرها، إنما موقف المؤمن من مثل هذه الأحاديث هو القبول والتسليم بأن يقول : صدَق الله ورسوله كما أخبر الله عن ذلك في قوله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ } (البقرة الآية : 285) .(7/83)
فالعقيدة يجب أن تكون مبنية على كتاب الله وسنة رسوله، وأن يعلم الإنسان أنه لا مجال للعقل فيها لا أقول مدخل للعقل فيها، وإنما أقول لا مجال للعقل فيها، إلا لأن ما جاءت به من نصوص في كمال الله شاهدة به العقول، وإن كان العقل لا يدرك تفاصيل ما يجب لله من كمال لكنه يدرك أن الله قد ثبت له كل صفة الكمال لا بد أن يعمل بهذا العلم الذي منَّ الله به عليه من ناحية العقيدة.
كذلك من ناحية العبادة، التعبد لله - عز وجل - وكما يعلم كثير منا أن العبادة مبنية على أمرين أساسين :
إحداهما: الإخلاص لله - عز وجل ـ .
والثاني: المتابعة للرسول، فيبني الإنسان عبادته على ما جاء عن الله ورسوله، لا يبتدع في دين الله ما ليس منه لا في أصل العبادة، ولا في وصفها ، ولهذا نقول : لا بد في العبادة أن تكون ثابتة بالشرع في هيئتها، وفي مكانها، وفي زمانها، وفي سببها، لا بد أن تكون ثابتة بالشرع في هذه الأمور كلها.(7/84)
فلو أن أحدًا أثبت شيئًا من الأسباب لعبادة تعبد الله بها دون دليل رددنا عليه ذلك، وقلنا: إن هذا غير مقبول؛ لأنه لا بد أن يثبت بأن هذا سبب لتلك العبادة وإلا فليس بمقبول منه، ولو أن أحدًا شرع شيئًا من العبادات لم يأت به الشرع أو أتي بشيء ورد به الشرع لكن على هيئة ابتدعها أو في زمان ابتدعه، قلنا إنها مردودة عليك؛ لأنه لا بد أن تكون العبادة مبنية على ما جاء به الشرع؛ لأن هذا هو مقتضى ما علّمك الله تعالى من العلم ألا تتعبد الله تعالى إلا بما شرع.
ولهذا قال العلماء : إن الأصل في العبادات الحظر حتى يقوم دليل على المشروعية ، واستدلوا على ذلك بقوله: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (الشورى: الآية 21) وبقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها-: « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » (1) .
حتى لو كنت مخلصا وتريد الوصول إلى الله، وتريد الوصول إلى كرامته، ولكنه على غير الوجه المشروع فإن ذلك مردود عليك، ولو أنك أردت الوصول إلى الله من طريق لم يجعله الله تعالى طريقا للوصول إليه فإن ذلك مردود عليك.
_________
(1) رواه مسلم، كتاب الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ، وردّ محدثات الأمور.(7/85)
إذن فواجب طالب العلم أن يكون متعبدًا الله تعالى بما علمه من الشرع لا يزيد ولا ينقص، لا يقول : إن هذا الأمر الذي أريد أن أتعبد لله به أمر تسكن إليه نفسي ويطمئن إليه قلبي وينشرح به صدري، لا يقول هكذا حتى لو حصل هذا فليزنها بميزان الشرع فإن شهد الكتاب والسنة لها بالقبول فعلى العين والرأس وإلا فإنه قد يزين له سوء عمله: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (فاطر: الآية 8) .(7/86)
كذلك لا بد أن يكون عاملا بعمله في الأخلاق والمعاملة ، والعلم الشرعي يدعو إلى كل خلق فاضل من الصدق، والوفاء ومحبة الخير للمؤمنين حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » (1) وقال عليه الصلاة والسلام: « من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه » (2) ، وكثير من الناس عندهم غيرة وحب للخير، ولكن يسعون الناس بأخلاقهم، نجده عنده شدة وعنف حتى في مقام الدعوة إلى الله - عز وجل، نجده يستعمل العنف والشدة، وهذا خلاف الأخلاق التى أمر بها الله - عز وجل ـ.
واعلم أن حسن الخلق هو ما يقرب إلى الله - عز وجل - وأولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وأدناهم منه منزلة أحاسنهم أخلاقًا كما قال صلى الله عليه وسلم : « (( إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون )) . قالوا يا رسول الله ! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال؟ ((المتكبرون)) » (3)
_________
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب: باب أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير.
(2) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب: الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول . ونصه: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جَشَرِه إذا نادى مُنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها. وتجيء فتن يرقق بعضها بعضًا وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه ! فمن أحب أن يزحزح عن الناس ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه . ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يديه وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر فاضربوا عنق الآخر )).
(3) أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة ، باب: ما جاء في معالي الأخلاق ، والإمام أحمد بلفظ (( إن من أحبكم أحسنكم خلقًا)) جـ 2 ص 189 ، والبغوي في (( شرح السنة )) جـ 12 ص 366، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) وقال: (( رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح)).(7/87)
الأمر السادس: الدعوة إلى الله :
أن يكون داعيًا بعلمه إلى الله - عز وجل - يدعو في كل مناسبة في المساجد، وفي المجالس، وفي الأسواق وفي كل مناسبة، هذا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن آتاه الله النبوة والرسالة ما جلس في بيته بل كان يدعو الناس ويتحرك، وأنا لا أريد من طلبة العلم أن يكونوا نسخًا من كتب، ولكني أريد منهم أن يكونوا علماء عاملين.(7/88)
الأمر السابع: الحكمة :
أن يكون متحليًا بالحكمة، حيث يقول الله تعالى: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } (البقرة: الآية 269) والحكمة أن يكون طالب العلم مُربيًا لغيره بما يتخلق به من الأخلاق، وبما يدعو إليه من دين الله - عز وجل - بحيث يخاطب كل إنسان بما يليق بحاله، وإذا سلكنا هذا الطريق حصل لنا خير كثير كما قال ربنا - عز وجل:- { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } (البقرة: الآية 269) .
والحكيم هو : الذي ينزل الأشياء منازلها؛ لأن الحكيم مأخوذ من الإحكام وهو الإتقان، وإتقان الشيء أن ينزله منزلته، فينبغي بل يجب على طالب العلم أن يكون حكيمًا في دعوته.(7/89)
وقد ذكر الله مراتب الدعوة في قوله تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل: الآية 125) وذكر الله تعالى مرتبة رابعة في جدال أهل الكتاب فقال تعالى: { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (العنكبوت: الآية 46) فيختار طالب العلم من أساليب الدعوة ما يكون أقرب إلى القبول، ومثال ذلك في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء أعرابي فبال في جهة من المسجد، فقام إليه الصحابة يزجرونه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما قضى بوله دعاه النبي وقال له: « إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن » (1) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، أرأيتم أحسن من هذه الحكمة؟ فهذا الأعرابي انشرح صدره واقتنع حتى إنه قال (( اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدًا)) .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء باب : صب الماء على البول في المسجد ، ومسلم كتاب الطهارة، باب : وجوب غسل البول.(7/90)
وقصة أخرى عن معاوية بن الحكم السُلميّ ، قال: « بيْنا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت: واثُكل أُمياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يصمتونني، لكنّي سكتّ. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبأبي هو وأمي ! ما رأيت معلمًا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ! ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني. قال: (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن )) » (1) ومن هنا نجد أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالحكمة كما أمر الله - عز وجل -.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة.(7/91)
ومثال آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وفي يده خاتم ذهب وخاتم الذهب حرام على الرجال، فنزعه النبي صلى الله عليه وسلم من يده ورمى به، وقال: « يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده » (1) ولما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قيل للرجل : خذ خاتمك انتفع به، فقال: والله لا آخذ خاتمًا طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلوب التوجيه هنا أشد؛ لأن لكل مقام مقالا ، وهكذا ينبغي لكل من يدعو إلى الله أن ينزل الأمور منازلها وألا يجعل الناس على حد سواء، والمقصود حصول المنفعة.
وإذا تأملنا ما عليه كثير من الدعاة اليوم وجدنا أن بعضهم تأخذه الغيرة حتى يُنَفِّر الناس من دعوته، لو وجد أحدًا يفعل شيئًا محرمًا لوجدته يُشهِّر به بقوة وبشدة يقول: ما تخاف الله، ما تخشى الله، وما أشبه ذلك حتى ينفر منه، وهذا ليس بطيب؛ لأن هذا يقابل بالضد، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لما نقل عن الشافعي - رحمه الله - ما يراه في أهل الكلام، حينما قال: (( حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام )).
_________
(1) أخرجه مسلم ، كتاب اللباس، باب : تحريم خاتم الذهب على الرجال.(7/92)
قال شيخ الإسلام : إن الإنسان إذا نظر إلى هؤلاء وجدهم مستحقين لما قاله الشافعي من وجه، ولكنه إذا نظر إليهم بعين القدر ، والحيرة قد استولت عليهم والشيطان قد استحوذ عليهم، فإنه يَرِقّ لهم ويرحمهم، ويحمد الله أن عافاه مما ابتلاهم به، أوتوا ذكاءً وما أوتوا ذكاء، أو أوتوا فهوما وما أوتوا علوما، أو أوتوا سمعًا وأبصارًا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء.
هكذا ينبغي لنا أيها الإخوة أن ننظر إلى أهل المعاصي بعينين: عين الشرع، وعين القدر، عين الشرع أي لا تأخذنا في الله لومة لائم كما قالت تعالى عن الزانية والزاني: { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } (النور: الآية 2)
وننظر إليهم بعين القدر فنرحمهم ونرق لهم ونعاملهم بما نراه أقرب إلى حصول المقصود وزوال المكروه، وهذا من آثار طالب العلم بخلاف الجاهل الذي عنده غيرة، لكن ليس عنده علم، فطالب العلم الداعية إلى الله يجب أن يستعمل الحكمة.(7/93)
الأمر الثامن: أن يكون الطالب صابرًا على العلم:
أي مثابرًا عليه لا يقطعه ولا يمل بل يكون مستمرًّا في تعلمه بقدر المستطاع، وليصبر على العلم، ولا يمل فإن الإنسان إذا طرقه الملل استحسر وترك، ولكن إذا كان مثابرًا على العلم فإنه ينال أجر الصابرين من وجه، وتكون له العاقبة من وجه آخر، واستمع إلى قول الله - عز وجل - مخاطبًا نبيه : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (هود الآية :49) .
الأمر التاسع : احترام العلماء وتقديرهم:
إن على طلبة العلم احترام العلماء وتقديرهم، وأن تتسع صدورهم لما يحصل من اختلاف بين العلماء وغيرهم ، وأن يقابلوا هذا بالاعتذار عمن سلك سبيلا خطأ في اعتقادهم، وهذه نقطة مهمة جدًّا؛ لأن بعض الناس يتتبع أخطاء الآخرين؛ ليتخذ منها ما ليس لائقا في حقهم ، ويشوش على الناس سمعتهم، وهذا أكبر الأخطاء، وإذا كان اغتياب العامي من الناس من كبائر الذنوب فإن اغتياب العالم أكبر وأكبر؛ لأن اغتياب العالم لا يقتصر ضرره على العالم بل عليه وعلى ما يحمله من العلم الشرعي.(7/94)
والناس إذا زهدوا في العالم أو سقط من أعينهم تسقط كلمته أيضًا . وإذا كان يقول الحق ويهدي إليه فإن غيبة هذا الرجل لهذا العالم تكون حائلا بين الناس وبين علمه الشرعي، وهذا خطره كبير وعظيم.
أقول: إن على هؤلاء الشباب أن يحملوا ما يجري بين العلماء من الاختلاف على حسن النية، وعلى الاجتهاد، وأن يعذروهم فيما أخطأوا فيه، ولا مانع أن يتكلموا معهم فيما يعتقدون أنه خطأ؛ ليبينوا لهم هل الخطأ منهم أو من الذين قالوا إنهم أخطأوا ؟ لأن الإنسان أحيانًا يتصور أن قول العالم خطأ، ثم بعد المناقشة يتبين له صوابه .
والإنسان بشر « كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون » (1) .
أما أن يفرح بزلة العالم وخطئه ، ليشيعها بين الناس فتحصل الفرقة، فإن هذا ليس من طريق السلف.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 3 ص 198 والترمذي، كتاب : صفة القيامة، جـ 4 ص 569 برقم [ 2499] ، وابن ماجه ، كتاب الزهد، باب: ذكر التوبة ، والدارمي كتاب الرقاق، باب : في التوبة، والبغوي في ((شرح السنة)) جـ 5 ص 92، وأبو نعيم في (( الحلية )) جـ 332 والحاكم في (( المستدرك)) جـ 273، وقال: ((حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، قال العجلوني: (( إسناده قوي )) ج 2 ص 120.(7/95)
وكذلك أيضًا ما يحصل من الأخطاء من الأمراء، لا يجوز لنا أن نتخذ ما يخطئون فيه سُلّمًا للقدح فيهم في كل شيء ونتغاضى عما لهم من الحسنات؛ لأن الله يقول في كتابه: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا } (المائدة: الآية 8) يعني لا يحملكم بغض قوم على عدم العدل، فالعدل واجب، ولا يحل للإنسان أن يأخذ زلات أحد من الأمراء أو العلماء أو غيرهم فيشيعها بين الناس ، ثم يسكت عن حسناتهم، فإن هذا ليس بالعدل . وقس هذا الشيء على نفسك لو أن أحدًا سُلِّط عليك وصار ينشر زلاتك وسيئاتك، ويُخفي حسناتك وإصاباتك ، لعددت ذلك جناية منه عليك، فإذا كنت ترى ذلك في نفسك؛ فإنه يجب عليك أن ترى ذلك في غيرك، وكما أشرت آنفًا إلى أن علاج ما تظنه خطأ أن تتصل بمن رأيت أنه أخطأ، وأن تناقشه، ويتبين الموقف بعد المناقشة .(7/96)
فكم من إنسان بعد المناقشة يرجع عن قوله إلى ما يكون هو الصواب، وكم من إنسان بعد المناقشة يكون قوله هو الصواب، وظننا هو الخطأ. « فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا » (1) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه » (2) ، وهذا هو العدل والاستقامة.
_________
(1) رواه البخاري، كتاب المساجد، باب : تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم .
(2) تقدم تخريجه ص 37.(7/97)
الأمر العاشر: التمسك بالكتاب والسنة:
يجب على طلبة العلم الحرص التام على تلقي العلم والأخذ من أصوله التي لا فلاح لطالب العلم إن لم يبدأ بها، وهي:
1- القران الكريم : فإنه يجب على طالب العلم الحرص عليه قراءةً وحفظًا وفهمًا وعملا به، فإن القرآن هو حبل الله المتين ، وهو أساس العلوم، وقد كان السلف يحرصون عليه غاية الحرص فيذكر عنهم الشيء العجيب من حرصهم على القرآن ، فتجد أحدهم حفظ القرآن وعمره سبع سنوات، وبعضهم حفظ القرآن في أقل من شهر، وفي هذا دلالة على حرص السلف - رضوان الله عليهم - على القرآن ، فيجب على طالب العلم الحرص عليه وحفظه على يد أحد المعلمين؛ لأن القرآن يؤخذ عن طريق التلقي.
وإنه مما يؤسف له أن تجد بعض طلبة العلم لا يحفظ القرآن ، بل بعضهم لا يحسن القراءة، وهذا خلل كبير في منهج طلب العلم. لذلك أكرر أنه يجب على طلبة العلم الحرص على حفظ القرآن والعمل به والدعوة إليه وفهمه فهمًا مطابقًا لفهم السلف الصالح.(7/98)
2- السنة الصحيحة: فهي ثاني المصدرين للشريعة الإسلامية، وهي الموضحة للقرآن الكريم، فيجب على طالب العلم الجمع بينهما والحرص عليهما، وعلى طالب العلم حفظ السنة، إما بحفظ نصوص الأحاديث أو بدراسة أسانيدها ومتونها وتمييز الصحيح من الضعيف، وكذلك يكون حفظ السنة بالدفاع عنها والرد على شبهات أهل البدع في السنة.
فيجب على طالب العلم أن يلتزم بالقرآن والسنة الصحيحة، وهما له - أي : طالب العلم - كالجناحين للطائر إذا انكسر أحدهما لم يطر.(7/99)
لذلك لا تراعِ السنة وتغفلْ عن القرآن ، أو تراعِ القرآن وتغفلْ عن السنة ، فكثير من طلبة العلم يعتني بالسنة وشروحها ورجالها، ومصطلحاتها اعتناءً كاملا؛ لكن لو سألته عن آية من كتاب الله لرأيته جاهلا بها، وهذا غلط كبير، فلا بد أن يكون الكتاب والسنة جناحين لك يا طالب العلم، وهناك شيء ثالث مهم وهو كلام العلماء، فلا تهمل كلام العلماء ولا تغفل عنه ؛ لأن العلماء أشد رسوخًا منك في العلم، وعندهم من قواعد الشريعة وأسرارها وضوابطها ما ليس عندك ولهذا كان العلماء الأجلاء المحققون إذا ترجح عندهم قول، يقولون: إن كان أحد قال به وإلا فلا نقول به، فمثلا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- على علمه وسعة اطلاعه إذا قال قولا لا يعلم له قائلا قال : أنا أقول به إن كان قد قيل به، ولا يؤخذ برأيه.
لذا يجب على طالب العلم الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يستعين بكلام العلماء .(7/100)
والرجوع إلى كتاب الله يكون بحفظه وتدبره والعمل على ما جاء به؛ لأن الله يقول: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } (ص الآية :29) { لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } وتدبر الآيات يوصل إلى فهم المعنى، { وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } والتذكر هو العمل بهذا القرآن.
نزل هذا القرآن لهذه الحِكَم، وإذا كان نزل لذلك؛ فلنرجع إلى الكتاب لنتدبره ولنعلم معانيه، ثم نطبق ما جاء به ووالله إن فيه سعادة الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } (طه: الآيتان 123، 124)(7/101)
ولهذا لا تجد أحدًا أنعم بالا ، ولا أشرح صدرًا ، ولا أشد طمأنينة في قلبه من المؤمن أبدًا ، حتى وإن كان فقيرًا ، فالمؤمن أشد الناس انشراحًا ، وأشد الناس اطمئنانًا ، وأوسع الناس صدرًا واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (النحل الآية :97) .
ما هي الحياة الطيبة ؟
الجواب: الحياة الطيبة هي انشراح الصدر وطمأنينة القلب، حتى ولو كان الإنسان في أشد بؤس، فإنه مطمئن القلب منشرح الصدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له » (1)
الكافر إذا أصابته الضراء هل يصبر ؟ فالجواب: لا. بل يحزن وتضيق عليه الدنيا، وربما انتحر وقتل نفسه، ولكن المؤمن يصبر ويجد لذة الصبر انشراحًا وطمأنينة؛ ولذلك تكون حياته طيبة، وبذلك يكون قوله تعالى: { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } حياة طيبة في قلبه ونفسه.
_________
(1) رواه مسلم، كتاب الزهد، المؤمن أمره كله خير.(7/102)
بعض المؤرخين الذين تكلموا عن حياة الحافظ ابن حجر - رحمه الله - وكان قاضي قضاة مصر في عهده، وكان إذا جاء إلى مكان عمله يأتي بعربة تجرها الخيول أو البغال في موكب ، فمر ذات يوم برجل يهودي في مصر زَيّات - أي : يبيع الزيت - وعادة يكون الزيّات وَسِخ الثياب - فجاء اليهودي فأوقف الموكب. وقال للحافظ ابن حجر - رحمه الله -: إن نبيكم يقول : « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » (1) . وأنت قاضي قضاة مصر ، وأنت في هذا الموكب، وفي هذا النعيم، وأنا - يعني نفسه اليهودي - في هذا العذاب وهذا الشقاء.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : (( أنا فيما أنا فيه من الترف والنعيم يعتبر بالنسبة إلى نعيم الجنة سجنًا ، وأما أنت بالنسبة للشقاء الذي أنت فيه يعتبر بالنسبة لعذاب النار جنة)) . فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. وأسلم.
* فالمؤمن في خير مهما كان، وهو الذي ربح الدنيا والآخرة.
* والكافر في شر وهو الذي خسر الدنيا والآخرة.
_________
(1) رواه مسلم ، كتاب الزهد .(7/103)
قال الله تعالى : { وَالْعَصْرِ }{ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ }{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } ( العصر الآيات 1- 3) .
فالكفار والذين أضاعوا دين الله وتاهوا في لذاتهم وترفهم ، فهم وإن بنوا القصور وشيدوها وازدهرت لهم الدنيا؛ فإنهم في الحقيقة في جحيم، حتى قال بعض السلف: (( لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف )).
أما المؤمنون فقد نعموا بمناجاة الله وذكره، وكانوا مع قضاء الله وقدره ، فإن أصابتهم الضراء صبروا، وإن أصابتهم السراء شكروا، فكانوا في أنعم ما يكون، بخلاف أصحاب الدنيا فإنهم كما وصفهم الله بقوله: { فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } (التوبة: الآية 58) .(7/104)
وأما الرجوع إلي السنة النبوية: فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ثابتة بين أيدينا، ولله الحمد، ومحفوظة، حتى ما كان مكذوبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن أهل العلم بيَّنوا سنته، وبيَّنوا ما هو مكذوب عليه، وبقيت السنة - ولله الحمد - ظاهرة محفوظة، يستطيع أي إنسان أن يصل إليها إما بمراجعة الكتب - إن تمكن - وإلا فبسؤال أهل العلم.
ولكن إذا قال قائل: كيف توفق بين ما قلت من الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ مع أننا نجد أن أناسًا يتبعون الكتب المؤلفة في المذاهب ويقول: أنا مذهبي كذا؛ وأنا مذهبي كذا؛ وأنا مذهبي كذا!! حتى إنك لتفتي الرجل وتقول له: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فيقول : أنا مذهبي حنفي، أنا مذهبي مالكي، أنا مذهبي شافعي، أنا مذهبي حنبلي ... وما أشبه ذلك.
فالجواب: أن نقول لهم إننا جميعا نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله .
فما معنى شهادة أن محمدًا رسول الله ؟
قال العلماء : معناها: (( طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع )) .(7/105)
فإذا قال إنسان أنا مذهبي كذا أو مذهبي كذا أو مذهبي كذا فنقول له: هذا قول الرسول- عليه الصلاة والسلام - فلا تعارضه بقول أحد.
حتى أئمة المذاهب ينهون عن تقليدهم تقليدا محضًا ويقولون: (( متى تبين الحق فإن الواجب الرجوع إليه)).
فنقول لمن عارضنا بمذهب فلان أو فلان: نحن وأنت نشهد أن محمدًا رسول الله، وتقتضي هذه الشهادة ألا نتبع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذه السنة بين أيدينا واضحة جلية، ولكن لست أعني بهذا القول أن نقلل من أهمية الرجوع لكتب الفقهاء وأهل العلم، بل إن الرجوع إلى كتبهم للانتفاع بها ومعرفة الطرق التي بها تستنبط الأحكام من أدلتها من الأمور التي لا يمكن أن يتحقق طلب العلم إلا بالرجوع إليها.
ولذلك نجد أولئك القوم الذين لم يتفقهوا على أيدي العلماء نجد أن عندهم من الزلات شيئًا كثيرًا؛ لأنهم صاروا ينظرون بنظر أقل مما ينبغي أن ينظروا فيه، يأخذون مثلا صحيح البخاري فيذهبون إلى ما فيه من الأحاديث، مع أن في الأحاديث ما هو عام ، ومخصص، ومطلق، ومقيد ، وشيء منسوخ، لكنهم لا يهتدون إلى ذلك، فيحصل بهذا ضلال كبير.(7/106)
الأمر الحادي عشر: التثبت والثبات:
ومن أهم الآداب التي يجب أن يتحلى بها طالب العلم التثبت فيما ينقل من الأخبار والتثبت فيما يصدر من الأحكام، فالأخبار إذا نقلت فلا بد أن تتثبت أولا ، هل صحت عمن نقلت إليه أو لا ؟ ثم إذا صحت فتثبت في الحكم ربما يكون الحكم الذي سمعته مبنيًّا على أصل تجهله أنت، فتحكم أنه خطأ، والواقع أنه ليس بخطأ .
ولكن كيف العلاج في هذه الحال ؟
العلاج: أن تتصل بمن نُسِبَ إليه الخبر وتقول : نُقل عنك كذا وكذا فهل هذا صحيح؟ ثم تناقشه فقد يكون استنكارك ونفور نفسك منه أول وهلة سمعته لأنك لا تدري ما سبب هذا المنقول، ويقال : إذا علم السبب بطل العجب، فلا بد أولا من التثبت في الخبر والحكم، ثم بعد ذلك تتصل بمن نقل عنه وتسأله هل صح ذلك أم لا؟ ثم تناقشه: إما أن يكون هو على حق وصواب فترجع إليه أو يكون الصواب معك فيرجع إليه.
وهناك فرق بين الثبات والتثبت فهما شيئان متشابهان لفظًا مختلفان معنى.(7/107)
فالثبات معناه : الصبر والمثابرة وألا يمل ولا يضجر وألا يأخذ من كل كتاب نتفة، أو من كل فن قطعة ثم يترك؛ لأن هذا الذي يضر الطالب، ويقطع عليه الأيام بلا فائدة، فمثلا بعض الطلاب يقرأ في النحو : في الآجرومية ومرة في متن قطر الندى، ومرة في الألفية. وكذلك الحال في: المصطلح، مرة في النخبة، ومرة في ألفية العراقي، وكذلك في الفقه: مرة في زاد المستقنع، ومرة في عمدة الفقه، ومرة في المغني ، ومرة في شرح المهذب، وهكذا في كل كتاب، وهلم جرا ، هذا في الغالب لا يحصِّلُ علمًا، ولو حصَّل علمًا فإنه يحصل مسائل لا أصولا ، وتحصيل المسائل كالذي يتلقط الجراد واحدة بعد الأخرى، لكن التأصيل والرسوخ والثبات هو المهم، فكن ثابتًا بالنسبة للكتب التي تقرأ أو تراجع وثابتًا بالنسبة للشيوخ الذين تتلقى عنهم، لا تكون ذوّاقًا كل أسبوع عند شيخ، كل شهر عن شيخ ، قرِّر أولا من ستتلقى العلم عنده، ثم إذا قرّرت ذلك فاثبت ولا تجعل كل شهر أو كل أسبوع لك شيخا ، ولا فرق بين أن تجعل لك شيخًا في الفقه وتستمر معه في الفقه، وشيخا آخر في النحو وتستمر معه في النحو، وشيخًا آخر في العقيدة والتوحيد وتستمر معه، المهم أن تستمر لا أن تتذوق، وتكون(7/108)
كالرجل المطلاق كما تزوج امرأة وجلس عندها أيامًا طلقها وذهب يطلب أخرى.
أيضًا التثبت أمر مهم؛ لأن الناقلين تارة تكون لهم نوايا سيئة، ينقلون ما يشوه سمعة المنقول عنه قصدًا وعمدًا ، وتارة لا يكون عندهم نوايا سيئة ولكنهم يفهمون الشيء على خلاف معناه الذي أريد به، ولهذا يجب التثبت، فإذا ثبت بالسند ما نقل أتى دور المناقشة مع صاحبه الذي نقل عنه قبل أن تحكم على القول بأنه خطأ أو غير خطأ؛ وذلك لأنه ربما يظهر لك بالمناقشة أن الصواب مع هذا الذي نقل عنه الكلام.
والخلاصة أنه إذا نُقل عن شخص ما ترى أنه خطأ فاسلك طرقًا ثلاثة على الترتيب:
الأول : التثبت في صحة الخبر.
الثاني: النظر في صواب الحكم، فإن كان صوابًا فأيده ودافع عنه، وإن رأيته خطأ فاسلك الطريق الثالث وهو : الاتصال بمن نُسب إليه لمناقشته فيه وليكن ذلك بهدوء واحترام.(7/109)
الأمر الثاني عشر: الحرص على فهم مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم :
من الأمور المهمة في طلب العلم قضية الفهم، أي فهم مراد الله - عز وجل - ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كثيرًا من الناس أوتوا علمًا ولكن لم يؤتوا فهمًا. لا يكفي أن تحفظ كتاب الله وما تيسر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون فهم. لا بد أن تفهم عن الله ورسوله ما أراده الله ورسوله، وما أكثر الخلل من قوم استدلوا بالنصوص على غير مراد الله ورسوله فحصل بذلك الضلال.
وهنا أنبّه على نقطة مهمة ألا وهي: أن الخطأ في الفهم قد يكون أشد خطرًا بالجهل؛ لأن الجاهل الذي يخطئ بجهله يعرف أنه جاهل ويتعلم، لكن الذي فهم خطأ يعتقد في نفسه أنه عالم مصيب، ويعتقد أن هذا هو مراد الله ورسوله، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة ليتبين لنا أهمية الفهم:(7/110)
المثال الأول: قال الله تعالى: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } (الأنبياء الآيتان: 78، 79) .
فضَّل الله - عز وجل - سليمان على داود في هذه القضية بالفهم { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } ولكن ليس هناك نقص في علم داود { وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } .
وانظر إلى هذه الآية الكريمة لما ذكر الله - عز وجل - ما امتاز به سليمان من الفهم، فإنه ذكر أيضًا ميزة داود عليه السلام، فقال تعالى: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } . وذلك حتى يتعادل كل منهما، فذكر الله تعالى ما اشتركا فيه من الحكم والعلم ثم ذكر ما امتاز به كل واحد منهما عن الآخر.
وهذا يدلنا على أهمية الفهم، وأن العلم ليس كل شيء.(7/111)
المثال الثاني: إذا كان عندك وعاءان أحدهما فيه ماء ساخن دافئ، والآخر فيه ماء بارد قارس، والفصل فصل الشتاء، فجاء رجل يريد الاغتسال من الجنابة، فقال بعض الناس: الأفضل أن تستخدم الماء البارد؛ وذلك لأن الماء البارد فيه مشقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ، قالوا بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره » ... )) (1) الحديث.
يعني إسباغ في أيام البرد فإذا أسبغت الوضوء بالماء البارد كان أفضل من أن تسبغ الوضوء بالماء المناسب لطبيعة الجو.
فالرجل أفتى بأن استخدام الماء البارد أفضل واستدل بالحديث السابق.
فهل الخطأ في العلم أم في الفهم ؟
الجواب: أن الخطأ في الفهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: « إسباغ الوضوء على المكاره » ولم يقل: أن تختار الماء البارد للوضوء، وفرق بين التعبيرين . لو كان الوارد في الحديث التعبير الثاني لقلنا نعم اختر الماء البارد. ولكن قال: « إسباغ الوضوء على المكاره » . أي أن الإنسان لا يمنعه برودة الماء من إسباغ الوضوء.
ثم نقول: هل يريد الله بعباده اليسر أم يريد بهم العسر ؟
_________
(1) رواه مسلم، كتاب الطهارة ، باب: فضل إسباغ الوضوء على المكاره .(7/112)
الجواب: في قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (البقرة: الآية 185) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الدين يسر » (1)
فأقول لطلبة العلم: إن قضية الفهم قضية مهمة، فعلينا أن تفهم ماذا أراد الله من عباده ؟ هل أراد أن يشق عليهم في أداء العبادات أم أراد بهم اليسر ؟!
ولا شك أن الله - عز وجل - يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر.
فهذه بعض آداب مما ينبغي لطالب العلم أن يكون متأثرًا بها في علمه حتى يكون قدوة صالحًا وحتى يكون داعيا إلى الخير وإمامًا في دين الله - عز وجل - فبالصبر واليقين تُنَال الإمامة في الدين ، كما قال الله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } (السجدة الآية :24) .
_________
(1) رواه البخاري ، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر .(7/113)
الفصل الثاني
الأسباب المعينة على طلب العلم
الأسباب المعينة على طلب العلم كثيرة، نذكر منها :
أولا: التقوى:
وهي وصية الله للأولين والآخرين من عباده، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا } (النساء: من الآية 131) .(7/114)
وهي أيضًا وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فعن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي - رضي الله عنه - قال: « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال: اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم تدخلوا جنة ربكم » (1) وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا. ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها في خُطَبهم ومكاتباتهم ووصاياهم عند الوفاة ؛ كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى ابنه عبد الله : أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله -عز وجل- فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه ؛ ومن شكره زاده - وأوصى علي - رضي الله عنه - رجلا فقال: ( أوصيك بتقوى عز وجل الذي لا بد لك من لقائه ولا مُنتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة) ، وكتب أحد الصالحين إلى أخ له في الله تعالى: (أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك ، فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك ، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك ، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى ملك غيره ، فليعظم منه حذرك
_________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الجمعة.(7/115)
وليكثر منه وجلك والسلام).
ومعنى التقوى : أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه وقاية تقيه منه. وتقوى العبد ربه: أن يجعل بينه وبين من يخشاه من غضبه وسخطه وقاية تقيه من ذلك، بفعل طاعته واجتناب معاصيه.
واعلم أن التقوى أحيانًا تقترن بالبر، فيقال: بر وتقوى كما في قوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } (المائدة: الآية 2)
وتارة تذكر وحدها فإن قرنت بالبر صار البر فعل الأمر، والتقوى ترك النواهي.
وإذا أفردت صارت شاملة تعم فعل الأمر واجتناب النواهي، وقد ذكر الله في كتابه أن الجنة أعدت للمتقين، فأهل التقوى هم أهل الجنة - جعلنا الله وإياكم منهم - ولذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله - عز وجل - امتثالا لأمره، وطلبًا لثوابه، والنجاة من عقابه. قال الله - عز وجل -: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (الأنفال الآية :29) .
وهذه الآية فيها ثلاث فوائد مهمة:(7/116)
الفائدة الأولى: { يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } أي يجعل لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع ، وهذا يدخل فيه العلم بحيث يفتح الله على الإنسان من العلوم ما لا يفتح لغيره، فإن التقوى يحصل بها زيادة الهدى، وزيادة العلم، وزيادة الحفظ، ولهذا يذكر عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
ولا شك أن الإنسان كلما ازداد علمًا ازداد معرفة وفرقانًا بين الحق والباطل، والضار والنافع، وكذلك يدخل فيه ما يفتح الله على الإنسان من الفهم؛ لأن التقوى سبب لقوة الفهم، وقوة يحصل بها زيادة العلم، فإنك ترى الرجلين يحفظان آية من كتاب الله يستطيع أحدهما أن يستخرج منها ثلاثة أحكام، ويستطيع الآخر أن يستخرج أكثر من هذا بحسب ما آتاه الله من الفهم.
الفتوى سبب لزيادة الفهم، ويدخل في ذلك أيضًا الفراسة أن الله يعطي المتقي فراسة يميّز بها حتى بين الناس.
فبمجرد ما يرى الإنسان يعرف أنه كاذب أو صادق، أو بر أو فاجر حتى أنه ربما يحكم على الشخص وهو لم يعاشره، ولم يعرف عنه شيئًا بسبب ما أعطاه الله من الفراسة.(7/117)
الفائدة الثانية: { وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } . (الأنفال الآية : 29) وتكفير السيئات يكون بالأعمال الصالحة، فإن الأعمال الصالحة تكفر الأعمال السيئة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر » (1) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما » (2) . فالكفارة تكون بالأعمال الصالحة، وهذا يعني أن الإنسان إذا اتقى الله سهل له الأعمال الصالحة التي يكفّر الله بها عنه.
الفائدة الثالثة: { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } بأن ييسركم للاستغفار والتوبة، فإن هذا من نعمة الله على العبد أن ييسر للاستغفار والتوبة.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة باب: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
(2) أخرجه البخاري، كتاب العمرة ، ومسلم، كتاب الحج.(7/118)
ثانيًا : المثابرة والاستمرار على طلب العلم:
يتعين على طالب العلم أن يبذل الجهد في إدراك العلم والصبر عليه وأن يحتفظ به بعد تحصيله، فإن العلم لا يُنَال براحة الجسم، فيسلك المتعلم جميع الطرق الموصلة إلى العلم وهو مُثَاب على ذلك؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهَّل الله له طريقا إلى الجنة » (1) . فليثابر طالب العلم ويجتهد ويسهر الليالي ويدع عنه كل ما يصرفه أو يشغله عن طلب العلم.
وللسلف الصالح قضايا مشهورة في المثابرة على طلب العلم حتى إنه يروى عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه سئل بما أدركت العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدن غير ملول وعنه أيضا - رضي الله عنه - قال : (( ... إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه - وهو قائل - فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح علي من التراب، فيخرج فيقول : يا ابن عم رسول الله ما جاء بك ؟ ألا أرسلت إليَّ فآتيك ؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث ... )) . فابن عباس - رضي الله عنه - تواضع للعلم فرفعه الله به.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الدعوات، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.(7/119)
وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يثابر المثابرة الكبيرة، ويروى أيضًا عن الشافعي - رحمه الله - أنه استضافه الإمام أحمد ذات ليلة فقدم له العشاء، فأكل الشافعي ثم تفرق الرجلان إلى منامهما، فبقي الشافعي - رحمه الله - يفكر في استنباط أحكام من حديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أبا عمير ما فعل النغير » (1) أبا عمير كان معه طائر صغير يسمى النغير ، فمات هذا الطائر فحزن عليه الصبي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب الصبيان ويكلم كل إنسان بما يليق به، فظل طول الليل يستنبط من هذا الحديث ويقال : إنه استنبط منه أكثر من ألف فائدة، ولعله إذا استنبط فائدة جر إليها حديث آخر، وهكذا حتى تتم فلما أذن الفجر قام الشافعي - رحمه الله - ولم يتوضأ ثم انصرف إلى بيته، وكان الإمام أحمد يثني عليه عند أهله فقالوا له:
_________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الأدب : الانبساط إلى الناس.(7/120)
يا أبا عبد الله كيف تثني على هذا الرجل الذي أكل فشرب ونام ولم يقم، وصلى الفجر بدون وضوء؟ فسأل الإمام الشافعي فقال: ( أما كوني أكلت حتى أفرغت الإناء فذلك لأني ما وجدت طعامًا أطيب من طعام الإمام أحمد فأردت أن أملأ بطني منه، وأما كوني لم أقم لصلاة الليل فإن العلم أفضل من قيام الليل، وقد كنت أفكر في هذا الحديث، وأما كوني لم أتوضأ لصلاة الفجر فكنت على وضوء من صلاة العشاء ) ولا يحب أن يكلفهم بماء الوضوء .
أقول على كل حال، إن المثابرة في طلب العلم أمر مهم، فلننظر في حاضرنا الآن هل نحن على هذه المثابرة؟ لا. أما الذين يدرسون دراسة نظامية إذا انصرفوا من الدراسة ربما يتلهون بأشياء لا تعين على الدرس، وإني أضرب مثلا وأحب ألا يكون وألا يوجد له نظير، أحد الطلبة في بعض المواد أجاب إجابة سيئة ، فقال المدرس: لماذا؟ فقال : لأني قد أيست من فهم هذه المادة، فأنا لا أدرسها ولكن أريد أن أكون حاملا لها، كيف اليأس؟ وهذا خطأ عظيم، يجب أن نثابر حتى نصل إلى الغاية.(7/121)
وقد حدثني شيخنا المثابر عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - أنه ذكر عن الكسائي إمام أهل الكوفة في النحو أنه طلب النحو فلم يتمكن، وفي يوم من الأيام وجد نملة تحمل طعامًا لها وتصعد به إلى الجدار وكلما صعدت سقطت ، ولكنها ثابرت حتى تخلصت من هذه العقبة وصعدت الجدار، فقال الكسائي : هذه النملة ثابرت حتى وصلت الغاية، فثابر حتى صار إمامًا في النحو.
ولهذا ينبغي لنا أيها الطلبة أن نثابر ولا نيأس فإن اليأس معناه سد باب الخير، وينبغي لنا ألا نتشاءم بل نتفاءل وأن نعد أنفسنا خيرًا.(7/122)
ثالثًا الحفظ :
فيجب على طالب العلم الحرص على المذاكرة وضبط ما تعلمه إما بحفظه في صدره، أو كتابته، فإن الإنسان عرضة للنسيان، فإذا لم يحرص على المراجعة وتكرار ما تعلمه فإن ذلك يضيع منه وينساه وقد قيل:
العلم صيد والكتابة قيده ... قيِّد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة ... وتتركها بين الخلائق طالقة
ومن الطرق التي تعين على حفظ العلم وضبطه أن يهتدي الإنسان بعلمه، قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (محمد، الآية : 17).
وقال { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } (مريم الآية : 76)
فكلما عمل الإنسان بعلمه زاده الله حفظًا وفهمًا، لعموم قوله: { زَادَهُمْ هُدًى } .(7/123)
رابعًا ملازمة العلماء:
يجب على طالب العلم أن يستعين بالله - عز وجل - ثم بأهل العلم، ويستعين بما كتبوا في كتبهم؛ لأن الاقتصار على مجرد القراءة والمطالعة يحتاج إلى وقت طويل بخلاف من جلس إلى عالم يبين له ويشرح له وينير له الطريق، وأنا لا أقول: إنه لا يُدرَك العلم إلا بالتلقي من المشايخ ، فقد يدرك الإنسان بالقراءة والمطالعة لكن الغالب أنه إذا ما أكبّ إكبابًا تامًّا ، ورزق الفهم فإنه قد يخطئ كثيرًا ولهذا يقال: من كان دليله كتابه فخطؤه أكثر من صوابه ، ولكن هذا ليس على الإطلاق في الحقيقة.(7/124)
ولكن الطريقة المثلى أن يتلقى العلم على المشايخ ، وأنا أنصح طالب العلم أيضًا ألا يتلقف من كل شيخ في فن واحد، مثل أن يتعلم الفقه من أكثر من شيخ؛ لأن العلماء يختلفون في طريقة استدلالهم من الكتاب والسنة، ويختلفون في آرائهم أيضًا، فأنت تجعل لك عالمًا تتلقى علمه في الفقه أو البلاغة وهكذا ، أي تتلقى العلم في فن واحد من شيخ واحد، وإذا كان الشيخ عنده أكثر من فن فتلتزم معه، لأنك إذا تلقيت علم الفقه مثلا من هذا وهذا واختلفوا في رأيهم فماذا يكون موقفك وأنت طالب؟ يكون موقفك الحيرة والشك، لكن التزامك بعالم في فن معين فهذا يؤدي إلى راحتك.(7/125)
في طريق تحصيل العلم وأخطاء يجب الحذر منها
الفصل الأول
طريق تحصيل العلم
من المعلوم أن الإنسان إذا أراد مكانًا فلا بد أن يعرف الطريق الموصل إليه، وإذا تعددت الطرق فإنه يبحث عن أقربها وأيسرها؛ لذلك كان من المهم لطالب العلم أن يبني طلبه للعلم على أصول، ولا يتخبط عشواء، فمن لم يتقن الأصول حرم الوصول، قال الناظم :
وبعد فالعلم بحور زاخرة ... لن يبلغ الكادح فيه آخره
لكن في أصوله تسهيلا ... لنيله فاحرص تجد سبيلا
اغتنم القواعد الأصولا ... فمن تفته يُحرم الوصولا
فالأصول هي: العلم والمسائل فروع، كأصل الشجرة وأغصانها إذا لم تكن الأغصان على أصل جيد فإنها تذبل وتهلك.
لكن ما هي الأصول؟
هل هي القواعد والضوابط ؟
أو هي القواعد والضوابط ؟
أو كلاهما ؟(7/126)
الجواب : الأصول هي أدلة الكتاب والسنة، والقواعد والضوابط المأخوذة بالتتبع والاستقراء من الكتاب والسنة، وهذه من أهم ما يكون لطالب العلم، مثلا المشقة تجلب التيسير هذا من الأصول مأخوذ من الكتاب والسنة. من الكتاب من قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج: الآية 78) ومن السنة: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمران بن حصين : « صلِّ قائمًا ، فإن لم تستطع فقاعدًا ، فإن لم تستطع على جنب » (1) وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » (2) . هذا أصل لو جاءتك ألف مسألة بصور متنوعة لأمكنك أن تحكم على هذه المسائل بناء على هذا الأصل، ولكن لو لم يكن عندك هذا الأصل وتأتيك مسألتان أشكل عليك الأمر.
ولنيل العلم طريقان:
أحدهما: أن يتلقى ذلك من الكتب الموثوق بها، والتي ألفها علماء معروفون بعلمهم، وأمانتهم، وسلامة عقيدتهم من البدع والخرافات.
وأخذ العلم من بطون الكتب لا بد أن الإنسان يصل فيه إلى غاية ما. لكن هناك عقبتان:
العقبة الأولى:
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب تقصير الصلاة، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز النافلة قائمًا أو قاعدًا .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسلم ، كتاب الحج ، باب فرض الحج مرة في العمر.(7/127)
الطول، فإن الإنسان يحتاج إلى وقت طويل، ومعاناة شديدة، وجهد جهيد حتى يصل إلى ما يرومه من العلم، وهذه عقبة قد لا يقوى عليها كثير من الناس، لا سيما وهو يرى من حوله قد أضاعوا أوقاتهم بلا فائدة ، فيأخذه الكسل ويكل ويمل ثم لا يدرك ما يريد.
العقبة الثانية: أن الذي يأخذ العلم من بطون الكتب علمه ضعيف غالبًا ، لا ينبني عليه قواعد أو أصول، ولذلك نجد الخطأ الكثير من الذي يأخذ العلم من بطون الكتب؛ لأنه ليس له قواعد وأصول يقعد عليها ويبني عليها الجزئيات التي في الكتاب والسنة نجد بعض الناس يمر بحديث ليس مذكورًا في كتب الحديث المعتمدة من الصحاح والمسانيد وهذا الطريق يخالف ما في هذه الأصول المعتمدة عند أهل العلم، بل عند الأمة ، ثم يأخذ بهذا الحديث ويبني عقيدته عليه، وهذا لا شك أنه خطأ؛ لأن الكتاب والسنة لهما أصول تدور عليها الجزئيات ، فلا بد أن ترد هذه الجزئيات إلى أصول، بحيث إذا وجدنا في هذه الجزئيات شيئًا مخالفًا لهذه الأصول لا يمكن الجمع فيها، فإننا ندع هذه الجزئيات.(7/128)