الترتيب : أن لا يقدم آية على آية ، ولا كلمة على كلمة ، فلو قال : ( الحمد لله رب العالمين * ملك يوم الدين * الرحمن الرحيم * إياك نعبد ... ) فهذا لا يصح ، لا بد أن يقرأها مرتبة ، لأن ترتيب الآيات توقيفي ، بأمر النبي ? وليس اجتهادياً .
الثاني : أن تكون متوالية .
( فإن قطعها بذكر ، أو سكوت غير مشروعين ، وطال ... ) : إن تركها بذكر غير مشروع ، بأن لما قرأ : ? مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ? قام يسبح الله - عز وجل - : ( سبحان من يبعث الناس ليوم لا ريب فيه ، سبحان من يذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، سبحان من ينسف الجبال نسفاً ، سبحان من يضع الصراط على شفير جهنم ، سبحان من يحاسب الخلائق ، سبحان من يضع الموازين ... ) وأتى بكل مشاهد يوم القيامة !! ، ثم قال : ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ? ، تبطل لعدم الموالاة ، كذلك لو أنه في أثناء الفاتحة قرأ آيات أخرى من غير الفاتحة ، فإنها تبطل لعدم الموالاة .
( أو سكوت غير مشروعين )
السكوت غير المشروع هو سكوت المأموم فقط ، فالمأموم يسكت ، ربما يقرأ آيتين من الفاتحة ثم يشرع الإمام في القراءة ، فيسكت لاستماع قراءة الإمام ، ثم إن الإمام لما انتهى من القراءة التي بعد الفاتحة سكت ، فأتمها المأموم ، فيصح هذا ، أن يبني أولها على آخرها ، لأن هذا سكوت مشروع ، وهذا بناءً على أنه يجب الإنصات لقراءة الإمام حتى في الفاتحة ، والقول الراجح : أن الإنسان يستمر في قراءة الفاتحة ، ولو قرأ الإمام ، لأن قراءة الفاتحة ركن حتى على المأموم ، وحتى في صلاة الجهر ، فليقرأها ، لأنه ربما يؤخرها ثم لا يسكت الإمام .
( وطال ) يعني بذلك : السكوت ، فإن لم يطل ، بأن سكت يسيراً ثم استمر ، [ فله الإكمال ] .
( أو ترك منها تشديدة )(3/351)
تشديدة : مثل : ? الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? ، بعض الأئمة نسمعه يقول : ( الْحَمْدُ للّهِ رَب ِ الْعَالَمِينَ ? هذا ما يجوز ، لأنه ترك تشديدة ، والحرف المشدد عن حرفين . مثل - أيضاً - : ? إِيَّاكَ ? ، بعض الناس يقول : ( إِيَاكَ ) ، هذا ترك منها تشديدة .
( أو ) ترك منها ( حرفاً ) مثل : ( الْحَمْدُ للّـ? رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أسقط الهاء ، لا تصح ، لأنه لا بد أن يأتي بها كاملة .
( أو ترتيباً ) تقدم الكلام عنها .
( لزم غير مأموم إعادتها ) وغير المأموم هو : الإمام والمنفرد ، أما المأموم فلا يجب عليه إعادتها ، بناءً على أن قراءة المأموم في الصلاة سنة وليست بواجبة ، وهو المذهب ؛ مذهب الحنابلة : أن قراءة الفاتحة للمأموم سنة وليست بواجبة ، وعليه فإذا ترك منها شيئاً من ذلك لم تلزمه الإعادة ، لأنها ليست واجبة في حقه .
قوله : ( ويجهر الكل بآمين في الجهرية ) م(3/352)
الكل : المأموم والإمام ، يجهران بـ ( آمين ) في الجهرية ... فإذا كانت الصلاة الجهرية ، فليجهر بها الإمام والمأموم ، لكن متى يقولها المأموم ؟ يقولها إذا قال الإمام : ? وَلاَ الضَّالِّينَ ? ، وعلى هذا فيتفق صوت المأموم وصوت الإمام ، وأما من قال : يقولها إذا انتهى الإمام من التأمين ، مستدلاً بقوله ? : )) إذا أمَّن الإمام فأمنوا (( فغلط ، لأن قوله : )) إذا أمَّن الإمام فأمنوا (( يفسره قوله : )) إذا قال الإمام : ? وَلاَ الضَّالِّينَ ? فقولوا : ( آمين ) (( ، وعلى هذا فيكون معنى )) إذا أمَّن (( : إذا بلغ محل التأمين ، فأمِّنوا ، أو المعنى : إذا أمَّن : إذا شرع في التأمين ، وكما نعلم أن ( إذا ) يأتي شرطها للمستقبل ، وللقرب من المستقبل ، ? فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ? يعني : إذا أردت القراءة . إنما على كل حال : المأموم يجهر بـ ( آمين ) ويقولها مع إمامه ، ولهذا جاء في الحديث : )) فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له (( والملائكة يؤمنون إذا أمَّن الإمام .
قوله : ( ثم يقرأ بعدها ) أي بعد الفاتحة ( سورة تكون في الصبح من طوال المفصل ، وفي المغرب من قصاره ، وفي الباقي من أوساطه ) م(3/353)
المفصل : من ( ق? ) إلى آخر ( الناس ) ، وسمي مفصلاً ، لكثرة فواصله ، بسبب قصر سوره ... طواله من ( ق? ) إلى ( عَمَّ ) وأوساطه من ( عَمَّ ) إلى ( الضحى ) وقصاره من ( الضحى ) إلى آخر القرآن . وهذا هو الذي ينبغي : أن يقرأ الإنسان بهذه السور ، في المفصل على هذا الوجه . الفجر من طواله ، المغرب من قصاره ، الباقي من أوساطه . وإنما اختير المفصل ، ليكون ذلك أسهل في حفظه على المأمومين ، لأنه إذا تكرر عليهم المفصل حفظوه ، وهذا أحسن من كونه يقرأ آيات من السور ، حتى إن ابن القيم في زاد المعاد قال إنه لم يكن من هدي النبي ? أن يقرأ آيات من السور ، لا من أوساطها ولا آخرها ، لكنه - رحمه الله - غفل عن كون النبي ? يقرأ في ركعتي الفجر أحياناً : ? قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ ... ? الآية في الركعة الأولى ، و ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ ... ? الآية في الركعة الثانية ، والأصل أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض ، فلا ينهى الإنسان أن يقرأ من بعض السور آيات منها ، لا ينهى عن ذلك ، لكن يقال : الأفضل المحافظة على المفصل ، هذا هو الأفضل .
وقوله : ( في المغرب من قصاره ) يعني : في غالب الأحيان ، وينبغي أن يقرأ من طواله أحياناً ، فإنه ثبت أن النبي ? قرأ في المغرب بالطور ، وقرأ بها في الفجر ( قرأ بها في فجر يوم الرجوع من مكة إلى المدينة في حجة الوداع ، وسمعت ذلك أم سلمة ) ، وقرأ بها في المغرب في المدينة ، إثر غزوة بدر ، وسمعها جبير بن مطعم - وكان من أسرى بدر - ، يقول - رضي الله عنه - : ( لما بلغ قوله تعالى : ? أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ? كاد قلبي يطير ) ، لأن هذا دليل عقلي لا يمكن الانفكاك عنه .. ? أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ? الجواب : لا هذا ولا هذا ، وإذا كان لا هذا ولا هذا فمن خالقهم ؟ هو الله - عز وجل - .(3/354)
…فلا بأس أن يقرأ في المغرب من طوال المفصل أحياناً ، بل هو من السنة . وورد عن النبي ? أنه قرأ فيها بطولى الطوليين ، أي : بسورة الأعراف (1) .
قوله : ( ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان ) م
__________
(1) قال الشيخ - رحمه الله - في الدرس التالي : ذكر المؤلف فيما سبق أنه يقرأ بعد الفاتحة سورة ، هل هذا على سبيل الوجوب ؟ [ الجواب : ] على سبيل الندب ، الدليل قول النبي ? : )) لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (( .
…هل كونها على هذا الوجه ( في الفجر من طواله ، وفي المغرب من قصاره وفي الباقي من أوساطه ) هو على سبيل الوجوب ؟ لا ، على سبيل الاستحباب .(3/355)
لأنه هو المتواتر ، وهو الذي قد تلقته الأمة الإسلامية ، ومصحف عثمان هو ما تضمنته القراءات السبع ، فـ ( مالك ) و ( ملك ) من مصحف عثمان ، وتبينوا وتثبتوا من مصحف عثمان ، وكل القراءات السبع من مصحف عثمان ، وقوله هذا - رحمه الله - احترازاً من مصحف ابن مسعود - رضي الله عنه - وأمثاله ، مع أن النبي ? قال : )) من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد (( وهذا إذن من الرسول ? أن نقرأ بقراءة عبد الله بن مسعود ، فكيف يقول قائل : إذا قرأ في الصلاة بقراءة ابن مسعود التي حث عليها الرسول ? بطلت صلاته ، ولهذا كان القول الراجح في هذه المسألة : أنه لو قرأ بقراءة ابن مسعود أو غيرها مما صح ، فإن صلاته لا تبطل ، فلو قرأ قوله تعالى : ? وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ ? فالصلاة صحيحة ، ولو قرأ في كفارة اليمين : ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ ? فالصلاة صحيحة ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ؛ أنه إذا صحت القراءة عن النبي ? فالقراءة بها صحيحة ، ولا تبطل بها الصلاة ، لأن الكل حق ، والكل صحيح ، لكن كما قلت لكم آنفاً : لا يقرأ بالقراءات عند العوام إذا لم تكن معروفة عندهم في مصاحفهم .
…مسألة : لو قرأ تلقيناً ، يجوز أو لا يجوز ؟
يعني : عنده واحد يلقنه : قل : ? الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? ، قال : ? الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? ... يجزئ أو لا ؟ يجزئ ، لأنه يصدق عليه أنه قرأ ، ولأنه محتاج إليه أحياناً ، أحياناً يكون مع الإنسان نسيان ، إما لكبر ، أو لعاهة ، أو لحادث ، وينسى ، فيكون عنده ابنه أو ابنته يذكره ، يقول : قل : الله أكبر ، فيقول : الله أكبر ، قل كذا ... ويلقنه حتى ينتهي من الصلاة ، فصلاته صحيحة .
قوله : ( ثم يركع مكبراً رافعاً يديه ) م(3/356)
( ثم ) يعني بعد أن ينتهي من القراءة يركع .
( يركع ) يعني يحني ظهره تعظيماً لله - عز وجل - ، لأن هذه الصيغة تعد من التعظيم ، إلى وقتنا هذا ، إذا أراد أحد [ أن ] يعظم شخصاً انحنى له ، ولهذا لما سئل النبي ? عن الرجل يلاقي أخاه أينحني له ؟ قال : )) لا (( ، لأن هذا لا يكون إلا لله وحده .
…مسألة : ما حد الركوع الواجب ؟
قالوا : حد الركوع الواجب : أن يمكن متوسط اليدين مس ركبتيه بيديه ، يعني : أن يكون هذا الانحناء بحيث يمكن أن تمس يداه ركبتيه ، إذا كان متوسط اليدين ، لأن بعض الناس يداه قصار ، لا تمس الركبة إلا بانحناء بالغ ، وبعض الناس يداه طويلتان ، تمس الركبتين بأدنى انحناء ، قالوا : فالمعتبر الوسط .
…وقيل : إن الواجب أن يكون إلى الركوع التام أقرب منه إلى الوقوف التام ، وهذا جيد ، يعني : إذا انحنى قليلاً لا يعد راكعاً ، إذا انحنى حتى كان إلى الركوع التام أقرب منه إلى الوقوف التام ، فهذا أدنى مجزئ .
( مكبراً ) يكبر حال الهبوط ، لا قبل ، ولا بعد ، فإن كبر قبل أن يهوي راكعاً ، لم يصح التكبير ، وإن كبر بعد أن وصل لم يصح التكبير ، وإن بدأ قبل أن يهوي أو أتم بعد أن وصل إلى حد الركوع ، ففي إجزائه خلاف ، فمنهم من يقول : إنه يجزئ ، ومنهم من يقول : إنه لا يجزئ ، والأرفق : أنه يجزئ ، لأن كثيراً من الأئمة يبدأ التكبير قبل أن يهوي ، وكثيراً منهم يبدأ بعد أن يهوي ولكن لا يكمل حتى يصل إلى حد الركوع ، وجهَّال الأئمة لا يكبر إلا إذا وصل إلى الركوع وركع ، ( لماذا ؟ ) قال : لئلا يسابقني المأمومون ، فإذا سمعوا التكبير وإذا أنا قد ركعت ، وهذا اجتهاد في غير محله ، نقول : أنت تخطئ لخطأ المأمومين ؟ غلط ، كبر وأنت تهوي ، والذي يتقي الله يعرف أنه لا يمكن أن يركع حتى تصل إلى الركوع ، والذي لا يتقي الله هذا ( ما عليك منه ) .
…مسألة : لو أن أحداً نسي ، وأهوى إلى الركوع ووصل الركوع ، هل يكبر ؟(3/357)
لا ، لا يكبر ، لأنه فات محله ، فلا يكبر .
…مسألة : لو نسي فكبر قبل أن يهوي ، هل يعد تاركاً للتكبير ؟
نعم يعد تاركاً للتكبير .
…مسألة : لو كبر ثم أهوى وأكمل التكبير وهو مهوي ؟
فالمذهب لا يجزئ ، وعليه سجود السهو ، والقول الصحيح أنه يجزئ لمشقة التحرز منه .
( رافعاً يديه ) كما رفعهما عند تكبيرة الإحرام .
قوله : ( ويضعهما ) م
أي اليدين .
قوله : ( على ركبتيه ، مفرجتي الأصابع ، مستوياً ظهره )
( مفرجتي الأصابع ) يفرجها كأنه قابض ، كما جاء في الحديث : ( كالقابض للركبتين ) .
( مستوياً ظهره ) يعني : لا محدودباً ، ولا نازلاً ، بل يكون مستوياً كما كان النبي ? يفعل هذا حتى جاء في الرواية : ( لو صب عليه الماء لاستقر ) .
قوله : ( ويقول : )) سبحان ربي العظيم (( ) م
( ربي العظيم ) مناسب تماماً للركوع ، لأن الركوع تعظيم فشرع له من القول ما يناسبه .
قوله : ( ثم يرفع يديه قائلاً إمامٌ ومنفردٌ : )) سمع الله لمن حمده (( ) ا
يرفع رأسه ويديه جميعاً ، وهل يرفع يديه إلى أذنيه في الرفع من الركوع ؟ نعم ، كما صح ذلك عن النبي ? .
( قائلاً إمام ومنفرد : سمع الله لمن حمده ) ...
قولها: ( وبعد قيامهما : )) ربنا ولك الحمد ، ملء السماء ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد (( ) م
( وبعد قيامهما : )) ربنا ولك الحمد (( ) وفي هذه الجملة أربع صفات نبوية :
1/ ربنا لك الحمد .
2/ ربنا ولك الحمد .
3/ اللهم ربنا لك الحمد .
4/ اللهم ربنا ولك الحمد .
كل هذا وارد ، وكما قلنا فيما سبق ، ينبغي أن يأتي بهذا تارة ، وبهذا تارة .
قوله : ( ومأمومٌ في رفعه : )) ربنا ولك الحمد (( فقط ) ا(3/358)
المأموم لا يقول : )) سمع الله لمن حمده (( وإنما يقول بدلها : )) ربنا ولك الحمد (( . دليل هذا قول النبي ? : )) إنما جعل الإمام ليؤتم به ... (( إلى أن قال : )) وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد (( ، فإن قال قائل : أليس النبي ? قال : )) صلوا كما رأيتموني أصلي (( ؟ فالجواب : بلى . أليس يقول في رفعه : )) سمع الله لمن حمده (( ؟ بلى . إذن المأموم لماذا لا يقول [ كذلك ] ؟ نقول : لأن هذا ورد فيه نص خاص ، وهو )) إذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد (( .(3/359)
وقوله : ( فقط ) يعني : لا يزيد على هذه الكلمة ، فالمأموم يرفع قائلاً : )) ربنا ولك الحمد (( ، وفي حال قيامه يسكت ، لا يقول شيئاً ، لقوله ? : )) إذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد (( ، هذا المذهب ، لكنه قول ضعيف ، لأن النبي ? أراد بقوله : )) قولوا : ربنا ولك الحمد (( في مقابل : )) سمع الله لمن حمده (( والذكر الذي يكون بعد القيام ثابت للإمام والمأموم والمنفرد ، وهو : )) ربنا ولك الحمد ، ملء السماء ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد (( فالقول بأن المأموم يقف فقط ساكتاً قول ضعيف ، لأنه لا يمكن أن يسكت المأموم إلا لاستماع قراءة الإمام ، إذن الصواب : أن الإمام والمنفرد والمأموم ، كل منهم يقول : )) ربنا ولك الحمد ، ملء السماء ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد (( . بماذا نجيب عما استدلوا به : )) إذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد (( ؟ نقول : هذا في مقابل قول الإمام : )) سمع الله لمن حمده (( (1)
__________
(1) قال الشيخ - رحمه الله - في الدرس التالي : سألنا أحد الطلبة عن حال اليدين بعد الرفع من الركوع ، لأن المؤلف ما ذكره - رحمه الله - ، فسألنا عن ذلك ، فنقول : إن الإمام أحمد - رحمه الله - قال : إن شاء أرسلهما وإن شاء وضع يده اليمنى على اليسرى كما قبل الركوع ، فجعله مخيراً ، واختار بعض العلماء أنه يضع يده اليمنى على اليسرى ، واختار بعضهم أنه لا يضع ، حتى وصل إلى أن قال إنه بدعة ، وسأعلق على كلمة ( إنه بدعة ) ، فهذه ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن مخير ، وأنه إن أرسل فسنة ، وإن وضع فسنة ، وهذا مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - نصَّ عليه ، وكأنه - رحمه الله - لما لم يثبت إرسال اليدين ولا وضع اليد اليمنى على اليسرى ، جعل الإنسان مخيراً ، جعلنا لا نأمره لا بهذا ولا بهذا .
[ الثاني ] : وأما من قال بالاستحباب فحجته حديث سهل بن سعد قال : ( كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ) ووجه الدلالة : أن قوله : ( في الصلاة ) يعم جميع أجزائها ، فيخرج منه : الركوع ، لأن وضع اليد على الركبتين ، والسجود لأن اليد على الأرض ، والجلوس لأن اليد على الفخذين ، فيبقى القيام قبل الركوع والقيام بعد الركوع ، وهذا اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز .
[ الثالث ] : أما حجة الآخرين الذين يقولون إنه لا يضع ، فيقولون : إن الأصل إبقاء الجسد على ما هو عليه ، حتى يقوم دليل على أنه خلاف الأصل ، ولا دليل في المسألة ، وكأن هذا القول يرمي إلى أنه لا بد من دليل خاص على كل عمل بخصوصه ، فالمسألة من باب الاجتهاد ، والواجب على الإنسان أن يأخذ بما ترجح عنده من سنة الرسول ? ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها . والراجح عندي : أنه يضع يده اليمنى على اليسرى بعد الركوع كما قبله ، لأن حديث سهل بن سعد واضح .
لكن القول بأنه بدعة صعب ، لأننا لو بدعنا كل من خالفنا في المسائل الفقهية ، لم نكد نجد مسألة إلا والعلماء الآخرون فيها مبتدعة ، وهذا صعب ، لأنه إذا كان إما مصيب وإلا مبتدع ( ليس ) صحيحاً هذا ، فمسائل الاجتهاد الكل منهم مصيب في اجتهاده ، لا في موافقة الحق ، لأن الحق واحد ، ولا يمكن أن يكون الحق مع الرجل وخصمه أبداً ، لكن الاجتهاد حق ، كل يجتهد ، وقد علم كل أناس مشربهم ، وهذه نقطة مهمة ، وهي المسائل الفقهية إذا خالفنا فيها أحد لا يحق لنا أن نقول إنه مبتدع ، ما دمنا مجتهدين نحن وهو ، فكيف نقول إنه مبتدع وفيه احتمال أننا نحن مبتدعون ، أليس كذلك ؟ لأنه لا ينزل علينا الوحي ، فإذن نقول : اجتهادنا ليس ملزماً له ، واجتهاده ليس ملزماً لنا ، والكل مختصمون عند الله - عز وجل - ، ولكن نقول : المسائل الخلافية التي لها مساغ في الاجتهاد ، لا يمكن أن نبدع غيرنا فيها ... طالع كتب الفقهاء ، لا تكاد تجد صفحة إلا وفيها = = خلاف إما في المذاهب أو بين علماء المذهب الواحد ، لكن نقول : هذا مرجوح ، هذا ضعيف ، أو ما أشبه ذلك ، ولا نبدَّع ولا نضلل .(3/360)
.
قوله : ( ثم يَخِرُّ مكبراً ساجداً على سبعة أعضاء : رجليه ، ثم ركبتيه ، ثم يديه ، ثم جبهته مع أنفه ) ا
( يَخِرُّ ) الخرور يكون من أعلى إلى أسفل ، ومنه خرور الماء ، خرور النهر ، من أعلى إلى أسفل ، من القيام إلى السجود .
( مكبراً ) قائلاً : ( الله أكبر ) . يقولها فيما بين القيام والسجود .
( ساجداً على سبعة أعضاء ) وجوباً ، لقول النبي ? : )) أمرنا أن نسجد على سبعة أعضاء : على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه ، ليبين أن الأنف ليس مستقلاً ولا منعزلاً عن الجبهة ، بل هو منها ، لأننا لو عددنا الأنف مستقلاً لكانت الأعضاء ثمانية ، لكنه تابع للجبهة - ، واليدين ، والركبتين ، وأطراف القدمين (( فبدأ النبي ? بالأعلى فالأعلى ، الجبهة ، ثم اليدين ، ثم الركبتين ، ثم أطراف القدمين ، وجوباً ، وظاهر كلام المؤلف : أنه يبدأ بالركبتين قبل اليدين ، لقوله - رحمه الله - : ( رجليه ثم ركبتيه ) وهذا هو الحق ، أنه عند السجود يبدأ بالركبتين قبل اليدين ، لأن النبي ? نهى أن يبدأ الإنسان السجود باليدين قبل الركبتين ، في قوله : )) إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير (( ومعلوم أن البعير إذا برك يقدم يديه ، فإذا قدم الإنسان يديه ، صار كالبعير إذا برك ، ولهذا قال : )) وليضع ركبتيه قبل يديه (( هذا هو صواب الحديث ، وأما : )) وليضع يديه قبل ركبتيه (( فهذا يقول ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد : إنه منقلب على الراوي ، ويتعين أن يكون منقلباً ، لأنه لو كان على صواب ، لكان أول الحديث مناقضاً لآخره : ( لا يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه ) تناقض ، لأنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير ، فإذا قال قائل : لماذا لا نعتبر آخر الحديث دون أوله ؟ نقول : لا ، لأن آخره مبني على أوله فالمعتبر : الأول ، فإن قال قائل : البعير يبرك على ركبتيه ، وهما في يديه ، فإذن تكون الركبتان هما المتأخرتان ، فإذا(3/361)
بدأ بالركبتين ، فقد وقع في النهي ؟ الجواب سهل على هذا : أن النبي ? لم يقل : ( فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير ) لو قال ذلك ، لقلنا : لا تسجد على الركبتين ، ابدأ باليدين ، ولكنه قال : )) فلا يبرك كما ... (( فالنهي عن المشابهة ، لا عن العضو الذي يسجد عليه ، وهو واضح لمن تأمله ، ثم هو أيضاً مناسب للترتيب البدني ، الترتيب البدني : الركبتين قبل اليدين ، الرجلان على الأرض - معروف - ، ثم الركبتين ، ثم اليدين ، ثم الجبهة ، هذا الترتيب البدني ، كما أنه في القيام يبدأ بالأعلى : بالجبهة ، ثم اليدين ، ثم الركبتين (1) .
…مسألة : التكبير متى يكون ؟
من حين يهوي ، إلى أن يصل إلى السجود ، فإن تقدم ، على المذهب لا يصح ، وإن تأخر لا يصح ، والصواب أنه إذا تقدم أو تأخر وصار جزء منه أو أكثره حال الهوي ، فإنه لا يضر - إن شاء الله تعالى - .
قوله : ( ولو مع حائل ليس من أعضاء سجوده ) ا
الحائل : الذي يمنع مباشرة المصلي ، لكن اشترط المؤلف : أن لا يكون من أعضاء سجوده ، فإن كان من أعضاء سجوده لم يصح ، مثال الذي من أعضاء السجود : أن يسجد على كفيه ، فهنا سجد على حائل ، لكنه من أعضاء السجود ، فلا يصح ، إذ أنه يقال في هذا : سجد على ستة أعضاء .
__________
(1) قال الشيخ - رحمه الله - في الدرس التالي : ... لكن لو فرض أن الرجل ضعيف ، أو كثير اللحم ، أو معه ألم في ركبتيه ، أو شيخ كبير ، ويشق عليه أن ينزل على ركبتيه ، هل له أن ينزل على اليدين ؟ نعم ، له ذلك ، لأن الدين يسر ، كما قال النبي ? ، ومعنى ( يسر ) : اسلك الأيسر فهو الدين ، ليس هذا خبراً مجرداً عن معنى ، له معنى ، الدين يسر فمتى شق عليك شيء وانتقلت إلى آخر ليس فيه نهي فثَمَّ الدين ، الدين يسر - ولله الحمد - .(3/362)
وقوله : ( ولو مع حائل ) كأنه يشير إلى خلاف ، لأن الحائل غير أعضاء السجود ، إما متصل بالإنسان وإما منفصل ، فإن كان منفصلاً ، فلا بأس به ، لأنه ثبت عن النبي ? أنه سجد على الخُمْرة ، وهي صغيرة بمنزلة المنديل ، وإن كان متصلاً فلا يسجد عليه ، لقول أنس بن مالك - رضي الله عنه - : ( كنا نصلي مع النبي ? في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه وسجد عليه ) ، وحينئذ نقول : الحائل ثلاثة أقسام :
قسم لا يصح معه السجود : إذا كان من أعضاء السجود .
قسم لا بأس به : إذا كان منفصلاً .
قسم يجوز عند الحاجة : إذا كان متصلاً .
…هذا ما لم يكن من شعار الرافضة ، فإن كان من شعار الرافضة ، فإنهم يسجدون على ما يخص الجبهة فقط ، هذا لا يجوز أنه يستعمله الإنسان اللهم إلا للضرورة القصوى ، ولهذا نص العلماء على أنه يكره أن يخص جبهته بما يسجد عليه ، وعلَّلوا ذلك بأنه من صنيع الرافضة .
قوله : ( ويجافي عضديه عن جنبيه ) ا
يعني يبعدهما ، ومحل ذلك ما لم يؤذ جاره ، فإن كان في الصف وإذا جافى عضديه آذى الذي على جنبه ، فلا يفعل ، لأنه لا يمكن أن يفعل محرم لتحصيل سنة .
قوله : ( وبطنَه عن فخذيه ) ا
يجافي البطن عن الفخذين : يرفعه ، ولا يجعل بطنه على فخذيه ، ولا يمتد كما يفعل بعض الناس ، فبعض الناس في السجود يمتد ، حتى تقول هل هذا منبطح أو ساجد . هذا غلط غير صحيح ، أولاً : أن هذا خلاف السنة لا شك في هذا ، والرسول ? قال : )) اعتدلوا في السجود (( ، وهذا خلاف الاعتدال ، ثانياً : أنه سيشق على الرجل مشقة شديدة ، لأنه سيكون ارتكاء الجسم كله على الوجه ، واليدين ، فيتعب ، ولا يستطيع أن يطيل السجود ، فالمهم أن هذا فهم خاطئ من بعض الناس .
قوله : ( ويفرق ركبتيه ) ا(3/363)
يعني : لا يضمهما ، وأفاد المؤلف بقوله : ( ويفرق ركبتيه ) - إن أردنا أن نحمِّل عبارته - أنه لا يفرق قدميه : يضم بعضهما إلى بعض ، وهذا ظاهر كلام المؤلف ، حيث خص التفريق بالركبتين ، والقول بأنه يفرق بين القدمين ليس عليه دليل ، فإن قال قائل : والقول بأنه يضم الرجل إلى الأخرى ليس عليه دليل ، نقول : نعم إذا لم يكن دليل لا على هذا ولا على هذا ، فضعهما على طبيعتهما ، لأن كل شيء لا دليل عليه في الصلاة يرجع الإنسان إلى الطبيعة ، ولكن نقول : هذا فيه دليل ( أنه يضم إحدى رجليه إلى الأخرى ) :
أولاً : أن ابن خزيمة - رحمه الله - رواه صريحاً في صحيحه ، وإن كان بعض العلماء تكلم في هذا الحديث .
ثانياً : أنه ثبت في صحيح مسلم أن عائشة - رضي الله عنها - افتقدت النبي ? فقامت تلتمس ، فوقعت يدها على قدميه منصوبتين ، ومعلوم أن اليد لا يمكن أن تقع على القدمين جميعاً إلا وهما قد ضُمَّ بعضهما إلى بعض ، فالصواب : أن القدمين يضم بعضهما إلى بعض ، وأما من قال : يفرق ، ويجعل بينهما نحو شبر ، أو ما أشبه ذلك ، فهذا لا دليل عليه .
قوله : ( ويقول : )) سبحان ربي الأعلى (( ) ا(3/364)
في سجوده ، وتأمل حكمة الشريعة - الله أكبر - : في الركوع يقول : ( سبحان ربي العظيم ) ، لأن هذا يناسب هيئة الركوع ، لأنها تعظيم ، في السجود يقول : ( سبحان ربي الأعلى ) ، لأنه يناسب الهيئة أيضاً ، لأن وضع جبهتك على الأرض ، سفول ونزول ، أنت الآن أنزلت وجهك الذي كان في أعلى جسمك حتى وضعته على الأرض ، ثم هو أيضاً نزول معنوي ، فإن هذا ذل عظيم ، أن تضع جبهتك أشرف ما في جسمك على الأرض تعظيماً لمن تسجد له ، وعلى هذا فنقول : إن الذكر مناسب ( سبحان ربي الأعلى ) ، وتذكر أيضاً علو الرب - عز وجل - الذي فيه تنزيل الله عن السفول - جل وعلا - ، ولهذا كان الصحابة في السفر إذا علوا نَشَزاً كبروا وإذا نزلوا سبحوا ، لأن الإنسان إذا علا النشز ربما تعلو نفسه ، ويرى نفسه أنه ارتفع ، فيذكر كبرياء الله - عز وجل - ، فيقول : ( الله أكبر ) ، وإذا نزل يعلم نفسه أنه انخفض وسفل ، فيذكر علو الرب - عز وجل - ، فيقول : ( سبحان الله ) ينزهه عن النزول .(3/365)
…واعلم أنك إذا سجدت فإنك أقرب ما تكون إلى الله - عز وجل - ، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، وذلك لتمام ذله لربه - عز وجل - ، ومن تواضع لله رفعه ، ولم يقل المؤلف : ( يقول : سبحان ربي العظيم ، أو سبحان ربي الأعلى ثلاثاً ) لكن هو ورد ( ثلاثاً ) ، قال العلماء : والإمام لا يزيد على عشر ، لئلا يثقل على المأمومين ، أما المنفرد فليفعل ما شاء ، وأما المأموم فهو تبع لإمامه ، وقد ثبت عن النبي ? أنه قال : )) ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً (( نهاه الله أن يقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً ، لأن هذه الهيئة لا تليق بعظمة القرآن وإن كان تعظيماً لله - عز وجل - وخضوعاً له ، لكن القرآن له شرف عظيم ، فلو قرأ الإنسان وهو راكع أو ساجد ، هل تبطل صلاته ؟ قال الظاهرية : تبطل الصلاة ، لأنه قال قولاً منهياً عنه ، والأصل أن الإنسان إذا فعل في العبادة فعلاً منهياً عنه ، أنها تبطل ، لأنه منهي عنه بخصوصه ، كما لو تكلم بطلت صلاته ، فهذا إذا قرأ القرآن في الركوع أو السجود فإنها تبطل صلاته ، وقولهم لا شك أنه له وجاهة ، لأننا نقول لهذا الذي قرأ القرآن وهو راكع أو ساجد ، هل هو عاصٍ لله ورسوله ، أو لا ؟ الجواب : هو عاصٍ لله ورسوله ، فتبطل الصلاة . لكن الصحيح : أنها لا تبطل ، لأن النهي هنا عن القراءة ليس لذات القرآن ، لكن لأنه يقرأ في محل لا يناسب ، ثم إن القرآن ذكر مشروع في الجملة في الصلاة ، ليس كلام آدميين ، فالصحيح رأي الجمهور : أنها لا تبطل .
قوله : ( ثم يرفع رأسه مكبراً ) ا
( يرفع رأسه ) حال كونه ( مكبراً ) فالتكبير إذن في حال رفعه .
قوله : ( ويجلس مفترشاً يسراه ، ناصباً يمناه ، ويقول : )) رب اغفر لي (( ) ا(3/366)
( مفترشاً يسراه ) أي : راكباً عليها ، ( ناصباً يمناه ) أي : موقفها . وعلم من كلامه - رحمه الله - أنه لا يقعي في هذا الجلوس ، يعني : لا يركب على عقبيه وينصب قدميه ، لأن هذه الجلسة فيها مشقة شديدة على الإنسان ، والأحاديث كلها تدل على الافتراش ، إلا ما رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - والحديث في مسلم : أن الإقعاء سنة ، ولكن يبدو لي - والله أعلم - أنه كان في الأول سنة ، ثم نسخ ، ولم يعلم ابن عباس بالناسخ ، كما فعل عبد الله بن مسعود في وضع اليدين حال الركوع ، وفي قيام الإمام مع الاثنين ، فإن ابن مسعود - رضي الله عنه - لم يعلم بالناسخ ، أي : بنسخ التطبيق في حال الركوع ، ونسخ تقدم الإمام إذا كانوا ثلاثة ، فأمَّ رجلين من أصحابه ، وطبَّق في حال الركوع : [ والتطبيق : أن يجعل بطن كفه على بطن كفه الأخرى ، ثم يضعهما بين ركبتيه (1) ] وهذا منسوخ لا شك ، فالظاهر لي - والله أعلم - أن ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يبلغه النسخ في مسألة الإقعاء ، وكما ذكرت لكم ، أن فيه مشقة على الإنسان ، فالصواب ما ذهب إليه الجمهور من أن السنة هو افتراش الرجل اليسرى ونصب الرجل اليمنى .
( ويقول : )) رب اغفر لي (( ) يعني : يدعو بهذا الدعاء .... والمؤلف اقتصر على هذه الجملة ، وإلا هناك جُمل أخرى : )) رب اغفر لي ، وعافني ، وارزقني ، واجبرني ، واهدني (( تقال ، وعذر المؤلف - رحمه الله - أنه مختصر .
قوله : ( ويسجد الثانية كالأولى ) ا
( كالأولى ) فيما يقال ، وفيما يفعل .
قوله : ( ثم يرفع مكبراً ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه إن سَهُل ) ا
( ثم يرفع مكبراً ) يعني يكون التكبير إذا شرع في الرفع .
__________
(1) الممتع : 3/125 .(3/367)
( ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه إن سهل ) وهذا بالنسبة للشباب يسهل ، فإن صعب فليقم كما يتيسر له ، إما على يديه ، وإما أن يجلس يسيراً ثم يقوم ، المهم : إذا تعسر ، فالأمر - والحمد لله - واسع ، يفعل ما يتيسر له ، ولا يكلف نفسه ما يشق عليها .
…وظاهر كلام المؤلف أنه لا يجلس عند النهوض من الأولى مطلقاً ، لأنه قال : ( ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه إن سَهُل ) ، ولم يقل : ( وإن صعب فليجلس ) ، وهذا الذي ذهب إليه - رحمه الله - هو أحد أقوال ثلاثة في هذه المسألة :
…فمن العلماء من يقول : لا جلوس ، ويحاول أن يبادر بالقيام على قدر ما يستطيع ، وهذا هو المذهب .
…ومن العلماء من يقول : بل يجلس على كل حال ، يجلس ويستقر ثم يقوم ، سواء كان نشيطاً أو ضعيفاً .(3/368)
…وفصل بعض العلماء ، فقال : أما إن كان قوياً ، فالأفضل أن لا يجلس ، وإن كان ضعيفاً فالأفضل أن يجلس ويستوي ثم ينهض . وهذا التفصيل هو الصحيح ، واختاره صاحب المغني : الموفق - رحمه الله - ، وكذلك ابن القيم في زاد المعاد . وهو الذي يليق بالقواعد الشرعية ، لأن الأفضل أن الإنسان يكون نشيطاً في صلاته ، غير متوانٍ فيها ، ومعلوم أنه إذا قام من السجود إلى القيام رأساً ، أدل على النشاط وعلى القوة ، فإذا كان لا يستطيع ، فإنه يجلس ، يستقر ، لحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - قال : ( كان النبي ? إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي جالساً ) ، وعلى هذا فيكون التفصيل به التحصيل ، والعلماء دائماً إذا اختلفوا في شيء تجد أن التفصيل - في الغالب - هو الصواب ، وهذه الجلسة تسمى عند العلماء : ( جلسة الاستراحة ) ، لأن المقصود بها أن يريح الإنسان نفسه ، واشتقاقها يدل على أنها إنما تفعل عند الحاجة ، لكن بعض المتأخرين نازع في هذا ، وقال : لا نسميها جلسة الاستراحة ، بل نسميها جلسة في وتر من الصلاة كما قال مالك بن الحويرث . ونحن لا يهمنا التسمية ، المهم العمل ، هل نعمل بها أو لا ؟ القول الراجح : أننا لا نعمل بها إلا عند الحاجة ، كإنسان ضعيف ، إنسان مريض إنسان ركبه تؤلمه ، أو ما أشبه ذلك ، ويدل لهذا حديث مالك بن الحويرث نفسه الذي استدل به من يرى مشروعيتها على كل حال ، لأن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - قدم في عام الوفود سنة تسع من الهجرة ، بعد أن كبر الرسول ? ، ثم إن ظاهر الجلوس هذا أنه محتاج إليه ، لأنه إذا قام منه يعتمد على يديه ، والاعتماد على اليدين لا يكون إلا لحاجة ، وهذا يدل على أن القيام مباشرة فيه صعوبة ، ثم إن هذه الجلسة لو كانت مقصودة في الصلاة ، لكان لها تكبير في أولها ، وفي آخرها ، وذكر في حال وجودها ، وكل هذا منتفٍ ، التكبير الأول للقيام من السجود ، ولا شيء بعده ، والشارع لا يمكن(3/369)
أن يشرع شيئاً عبثاً ، فلو كانت هذه جلسة مقصودة في الصلاة كجلسة التشهد أو بين السجدتين ، لكان لها ذكر مشروع ، ولكان لها تكبير عند الجلوس وعند القيام ، ولكنها جلسة مشروعة عند الحاجة إليها ، حتى لا يشق الإنسان على نفسه . فإن قال قائل : وهل درء المشقة مقصود للشرع ؟ فالجواب : نعم ، ولهذا نهى النبي ? عن الصيام أبداً وعن القيام بلا نوم ، وما أشبه ذلك ، من أجل المشقة ، ثم إن قول الله تعالى بعد أن ذكر الصيام : ? يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ? قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة ، فإذا كان المصلي يشق عليه النهوض من السجود إلى القيام رأساً ، فالأمر - والحمد لله - واسع ، نقول : استرح ثم قم ، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس : أن من كان محتاجاً إليها فهي مشروعة في حقه ، ويجلس كما ورد ، ومن لم يكن محتاجاً إليها فلا ينبغي أن يجلس ، بل يقوم ناهضاً على صدور قدميه . فإن قال قائل : إذا كنت مأموماً ، وأنا لاأرى استحبابها إلا عند الحاجة ، والإمام يرى استحبابها ، فهل أقوم قبله ، أو أتابعه ؟ فالجواب : أتابعه ، لقول النبي ? : )) إنما جعل الإمام ليؤتم به (( ، ولأنني لو قمت سبقته إلى القيام ، فنقول : اجلس ، وإن لم ترها . بالعكس ، لو كان الإمام لا يراها ، والمأموم يراها ، والإمام ينهض قائماً بدون تأخير ، فهل يسن للمأموم أن يفعلها ؟ لا ، لا يسن ، لأن صلاته الآن ارتبطت بصلاة الإمام ، وقد نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى ، على أن الإمام إذا كان لا يجلس ، لا تجلس ، ولكن إذا قال قائل : هذه جلسة يسيرة ، لا تخل بالمتابعة ، كما لو أطلت السجود بعده . قلنا : وإطالة السجود بعده غير مشروعة ، هذه واحدة ، والثاني إذا أطلت السجود بعد قيام الإمام ، فما فعلت إلا أنك أطلت شيئاً مشروعاً لك ، وهو السجود ، أما الجلسة غير مشروعة ما دام الإمام قد نهض ، وإذا كان الإمام إذا(3/370)
نهض عن التشهد الأول مع وجوبه وجب على المأموم أن يتابعه ، فكيف بشيء مستحب على خلاف فيه .
قوله : ( ويصلي الثانية كذلك ) ا
( كذلك ) يعني : كالأولى .
قوله : ( ما عدا التحريمة ) ا
يعني بذلك : تكبيرة الإحرام ، لأنه لو كبر للإحرام بطلت الركعة الأولى ، ثم إذا أتى بركعة جديدة ثم قام للثالثة بتكبيرة إحرام بطلت الثانية ، وهلم جرا ، ولهذا قال : ( ما عدا التحريمة ) .
…إذا قال قائل : أليس الساجد يقوم مكبراً ؟ بلى ، لكن هذه التكبيرة ليست بعد أن يقوم ، هذه التكبيرة أثناء نهوضه .
قوله : ( والاستفتاح ) ا
فإنه لا يستفتح ، لأن الاستفتاح إنما يكون في الركعة الأولى .
قوله : ( والتعوذ ) ا
يعني : قول : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ، وهذا مبني على أن قراءة الصلاة واحدة ، وقال بعض أهل العلم : بل يشرع أن يتعوذ في كل ركعة ، والذي تميل إليه النفس : أنه لا يتعوذ إلا في أول ركعة ، لأن الصلاة شيء واحدة ، قراءة بينها تكبير وتسبيح ودعاء ، وهذا لا يقطع القراءة الأولى حتى نقول لا بد من تجديد التعوذ .
قوله : ( وتجديد النية ) ا
معلوم ، ما يجدد النية ، لو قلنا : يجدد النية فكم له من نية في صلاة رباعية ؟ أربع نيات ، وهذا غير صحيح ، النية الأولى تكفي . ثم إذا قلنا بتجديد النية ، وقلنا باستحباب النطق بها ، وهو قول ضعيف جداً ، صار كلما قام قال : اللهم إني نويت أن أكمل صلاتي ، فتجديد النية للتكميل لا للابتداء ، لو جدد النية للابتداء بطل الأول ، وهذا مشكل .... (1)
__________
(1) سئل الشيخ - رحمه الله - بعد نهاية الدرس : إذا نسي الإنسان الاستعاذة في الركعة الأولى ، أو تركها عمداً ، هل يستعيذ في الثانية أو الثالثة أو الرابعة ؟ فأجاب الشيخ - رحمه الله - : الظاهر أنه إذا نسي أنه يستعيذ متى ذكر .
وسئل : في السجود ، هل يكون الرأس بين اليدين ؟ فأجاب - رحمه الله - : في السجود ، ورد فيه صفات : إما أن يكون الرأس بين الكفين ، وإما أن تكون الكفان على حذاء المناكب ، كلها جائزة .(3/371)
قوله : ( ثم يجلس مفترشاً ) ا
هذا الجلوس هو الجلوس للتشهد .
( يجلس مفترشاً ) رجله اليسرى ، أي جاعلاً إياها كالفراش ، بحيث يكون معتمداً عليها ، ظهرها إلى الأرض ، وبطنها إلى أليته .
ومن صفة الافتراش : أن ينصب الرجل اليمنى ، فتكون الرجل اليمنى منصوبة خارجة عن جنبه ، واليسرى مفروشة .
قوله : ( ويداه على فخذيه ) ا
يعني : والحال أن يديه على فخذيه ، فتكون الجملة في قوله : ( يداه على فخذيه ) في موضع نصب على الحال .
قوله : ( يقبض خنصر اليمنى وبنصرها ) ا
الخنصر : الصغير ، والبنصر : جاره الذي إلى جنبه .
قوله : ( ويحلق إبهامها مع الوسطى ) ا
يجعلهما كالحَلْقة .
هذا أحد الصفتين ، والصفة الثانية : أن يضم الخنصر والبنصر والوسطى ويضم إليهنَّ الإبهام ، وتبقى السبابة مفتوحة ، فهاتان صفتان . هل يداوم على إحداهما ؟ الجواب : سبق لنا الكلام في هذا ، وهو قاعدة في جميع العبادات المتنوعة ، هل الأفضل أن يلزم الإنسان نوعاً منها واحداً ، أو أن يفعل كل الأنواع ؟ الثاني هو الصواب ، إذا كنت تعلم الأنواع فخذ بكل نوع في موضع ، وذكرنا أن في ذلك فوائد : إحياء السنة ، تمام الاقتداء ، حضور القلب ، حفظ السنة ( وهذا غير إحياء السنة ) .
قوله : ( ويشير بسبابتها في تشهده ) ا
يعني يشير بها عند التشهد : إذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، يشير بها : يرفعها . وقيل : يشير بها عند ذكر اسم الله ، كلما ذكر اسم الله - عز وجل - أشار بها ، فمثلاً يقول : التحيات لله ، ويشير ، إلى العلو ، لأن الله - سبحانه وتعالى - في العلو فوق كل شيء . وقيل : يشير في الدعاء فقط ، في الجملة الدعائية ، وهذا هو الأقرب ، ولم أعلم إلى ساعتي هذه أنه يشير بها عند التشهد ولا عند لفظ الجلالة ، وإنما جاء الحديث : )) يحركها يدعو بها (( ، وهذا يدل على أنها تحرك عند كل جملة دعائية . ننظر في التشهد :(3/372)
السلام عليك أيها النبي ، دعاء أو خبر ؟ دعاء . السلام علينا ، دعاء . اللهم صل على محمد . اللهم بارك على محمد . أعوذ بالله من عذاب جهنم . المهم في الدعاء ، إشارةً إلى علو المدعو - جل وعلا - ، والباقي : ذكر بعض العلماء أنها تبقى مرفوعة نوعاً ما ، ومحنية الرأس ، والظاهر أنه لا يلزم هذا ، يعني : يطلقها ، ولكن لا يضمها إلى الأصابع ، لو ضمها إلى الأصابع ، لكان تعيين ضم الخنصر والبنصر والوسطى والإبهام عبثاً ، ولو شرع أن تضم ، لكان يضم الخمسة جميعاً ، فهي لا تضم ، ولكن هل يبقى رافعاً لها دائماً ؟ لا ، لأنه لو كان كذلك ، لم يكن يشير بها عند الدعاء . وهل يبقى يحركها دائماً ؟ لا ، لا يحركها دائماً ، وهذا إلى العبث أقرب منه إلى المشروع ، ولا معنى له ، هذا يحتاج إلى دليل : أنه يحركها من أول ما يجلس إلى أن ينتهي . فصار الأقوال في الإشارة بها ثلاثة : إما في التشهد ، وإما عند لفظ الجلالة ، وإما عند الدعاء ، وهذا أقرب الأقوال .(3/373)
…وهل يكون وضع اليد اليمنى بين السجدتين كهذا ؟ نعم ، هو هكذا بين السجدتين ، وقد ذكر هذا وائل بن حجر - رضي الله عنه - ، وقد ذكره ابن القيم في زاد المعاد حكماً ثم دليلاً ، وقال : يفعل هكذا بين السجدتين ، واستدل بحديث وائل بن حجر ، وحديث وائل بن حجر ذكر [ فيه ] صاحب الفتح الرباني أن إسناده جيد ، وذكر المحشي على زاد المعاد أنه صحيح ، وقال بعض الناس : إنه شاذ ، وأنا لا أدري كيف كان شاذاً ، هل خالف أحداً حتى نقول شاذ ؟ لأن من شرط الشذوذ أن يكون فيه مخالفة ، ولم أعلم إلى ساعتي هذه - وأنتم ابحثوا - أن وضع اليد اليمنى على الفخذ تكون مبسوطة ، وإنما الذي ذكر أنها مبسوطة هي اليد اليسرى ، أما اليد اليمنى ففي بعض ألفاظ حديث ابن عمر ، أن الرسول ? كان إذا جلس للتشهد قبض الأصابع التي تقبض ، وفي بعض الألفاظ : ( إذا جلس في الصلاة ) ، فهنا عندنا شيء مطلق وشيء مقيد ، ومن القواعد المعروفة في أصول الفقه : أنه إذا ذكر بعض أفراد المطلق لحكم لا يخالف المطلق فإنه لا يعتبر قيداً ، ولذلك الذي أدين الله به : أن حال اليد اليمنى فيما بين السجدتين ، كحالها في التشهد ، ومن وجد في السنة ما سوى ذلك فليسعفنا به ، حتى لا نَضِلَّ ونُضِلَّ ، لأننا سنعمل به - إن شاء الله ، وعاملون به - ولكن أيضاً لا نضل غيرنا ، لأن هذه شريعة ، لن تجد أبداً في أي حديث - فيما أعلم بعد البحث - أن اليد اليمنى تكون مبسوطة على الفخذ ، أبداً . ولقد كنت أقرر أن اليد اليمنى تكون مبسوطة بين السجدتين كاليسرى ، ويكون الجلوس افتراشاً ، وفي التشهد الأول يكون الجلوس افتراشاً واليد [ اليمنى ] مقبوضة ، فهذا فرق بين الجلستين ، وفي التشهد الأخير تكون اليد [ اليمنى ] مقبوضة فيوافق التشهد الأول ، لكن يختلف عنه في صفة الجلوس ، فأقول : أن هذا من المناسبة ومن الحكمة : أن تكون الجلسات تختلف ، يتفق التشهد الأول والجلوس بين السجدتين في الافتراش ، ويختلفان(3/374)
في قبض اليد ، ويتفق التشهد الأول والأخير في قبض اليد ، ويختلفان في الافتراش . كنت أقرر هذا برهة من الزمن ، حتى نبهني على ذلك بعض الإخوة ، وأحالني على كلام ابن القيم - رحمه الله - ، فراجعته ، وإذا هو كما قال : أن وضع اليد بين السجدتين كوضعها في التشهد ، ومع ذلك أنا أقول : أرجو منكم إذا وجدتم شيئاً يخالف ذلك فأسعفونا به ، نحن نطلب الدليل في هذا وغيره .
…أما اليسرى فتبسط على الفخذ .
وهذا إحدى الصفتين ، وفيه صفة ثانية : أن اليد اليمنى تقدم حتى تكون على رأس الركبة ، وهي مقبوضة ، واليد اليسرى تلقَّم الركبة ، وكلا الأمرين سنة ، وإذا فعلت هذا مرة وهذا مرة فهو أفضل على حسب القاعدة التي ذكرناها .
قولها: ( ويقول : )) التحيات لله ، والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللهاوبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (( ) ا
..... (1)
قوله : ( هذا التشهد الأول ) ا
يقتصر عليه ، ثم يقوم ليقضي بقية صلاته إن كان في ثلاثية أو رباعية ، لكن المؤلف - رحمه الله - أكمل التشهد ...
قولها: ( ويقول : )) اللهم صلِّ على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم إنكاحميد مجيد ، وبارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد (( ) ا
..... (2)
وهذا التشهد ورد على روايات ، منها :
1/ ما ذكره المؤلف : ( كما صليت على آل إبراهيم ... كما باركت على آل إبراهيم ) .
2/ رواية أخرى : ( كما صليت على إبراهيم .... كما باركت على إبراهيم ) .
3/ رواية ثالثة : الجمع بينهما : ( كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ... كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ) .
__________
(1) الشرح كله للألفاظ والمفردات ، وغالبه موجود في الممتع : 3/203-221 .
(2) الشرح كله للألفاظ والمفردات ، وغالبه موجود في الممتع : 3/227-235 .(3/375)
…فهل نقول : إن هذا من باب زيادة الثقة ، أو من باب تنوع العبادات ؟
ينظر إلى مخرج الحديث ، إذا كان مخرج الحديث واحداً فهذا من باب زيادة الثقة ، أما إذا كان متعدداً فإن كل طريق يعتبر نوعاً آخر ، وقد ذكر بعض الفضلاء أنه لا يصح الجمع بينهما ، لكنه ثابت في صحيح البخاري .
قولها: ( ويستعيذ من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال ) ا
هذه أربع أمر النبي ? أن يستعيذ الإنسان منها في التشهد الأخير ، كما جاء ذلك مصرحاً به في صحيح مسلم : )) إذا تشهد أحدكم التشهد الأخير فليستعذ بالله ... (( ، وهذا فيه إشارة إلى أن التشهد الأول ليس محلاً للدعاء ، فلا ينبغي تطويله ، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد أن النبي ? كان يخففه حتى كأنما هو على الرَّضَف ، وهي الحجارة الحامية .
.... (1)
قوله : ( ويدعو بما ورد ) ا
__________
(1) الباقي من الشرح للألفاظ والمفردات ، وغالبه موجود في الممتع : 3/237-276 .(3/376)
ليته عبر بما عبر به رسول الله ? : )) بما أحب (( ، أما أن نقيد ونقول : ( بما ورد ) غير صحيح ، لأن الدليل يدل على أننا ندعو بما أحببنا ، صحيح أن الأدعية الواردة أفضل من غيرها وأبرك وأجمع لكن قد يكون له إرادات ، أرأيت لو أن إنساناً في زمن الاختبار ، ولما انتهى من التشهد ، قال : اللهم نجحني ، واجعل درجاتي مائة بالمائة ، يجوز هذا ، يدعو بما أحب . لو قال مثلاً : اللهم ارزقني بيتاً واسعاً ، يجوز . لو دعا بشيء من أمور الدنيا ، قال : اللهم اجعل مالي كمال فلان ، أنفقه في سبيلك ، يجوز ، أتمتع به فيما أبحت لي ، يجوز . إذن نقول : الصواب : أن يقال : يدعو بما أحب من خير الدنيا والآخرة ، وأما قول بعض العلماء - رحمهم الله - : إذا دعا بشيء من أمور الدنيا بطلت صلاته ، فلا وجه له ، الإنسان يدعو ربه ، وجاء في الحديث : )) ليسأل أحدكم ربه حتى شراك نعله (( يعني : حتى الشيء الزهيد ، اسأل الله .
قوله : ( ثم يسلم عن يمينه )) السلام عليكم ورحمة الله (( ، وعن يساره كذلك ) ا
يسلم عن يمينه ، يعني : كل السلام ، من حين يقول : ( السلام ) ينصرف ، يعني يصرف وجهه ، أما بعض الناس يقول : ( السلام ) [ دون التفات ] ( عليكم ورحمة الله ) ، يجعل ( السلام ) كلها على القبلة ، والانحراف في ( عليكم ) فقط ، من أين هذا ؟ لا وجه له . من حينما تبدأ بالسلام التفت ، حتى تكون ( عليكم ) عند الالتفات الكامل للمأمومين ، وفي اليسار كذلك . وعلى هذا لا وقوف بين السلامين ، ويكون انصرافه عن يساره أكثر قليلاً ، هذا هو المشروع .(3/377)
…هذا السلام فيه الخروج من الصلاة ، وهو على القول الصحيح ركن فيها ، لا تصح الصلاة بدونه - السلام - ، وأما من قال إنه إطلاق من محظور ، لأنه خطاب آدمي ، فكأنه [ المصلي ] تكلم لتبطل صلاته ، فسبحان الله ، قول ضعيف هذا ، لأننا لو قلنا إنه إطلاق من محظور ، لكان الإنسان لو فعل أي مبطل للصلاة خرج منها ، ولذلك يذكر أن بعض العلماء كان يشير على أحد الخلفاء أن يدع مذهباً معيناً ، لكن الخليفة متمسك به ، فقال يا أمير المؤمنين ، أتريد أن أصلي لك صلاة هذا المذهب ؟ قال : نعم ، صل . قال : الله أجل - بدل : الله أكبر ، لأن المقصود التعظيم - مدها?متان ، ويهوي راكعاً بلا تكبير ولا تسبيح ، ويرفع كذلك ، ولا طمأنينة ، فلما انتهى عند آخر الصلاة فسا ، لأنه فعل محظور وانتهت الصلاة ، قال : هذا ؟ قال : نعم ، تجزئ الصلاة عندهم ، فعدل عن المذهب . وهذا من ذكاء بعض العلماء ، ألم يمر علينا أن بعض الخلفاء كان يرى مذهب ابن عباس في جواز الاستثناء ولو طال الفصل [ في الحلف ] ، وهذا لا شك أنه قول ضعيف وإن كان ينجو به الإنسان من الإثم ، لكنه قول ضعيف ، فحمل هذا الخليفة على أحد العلماء الذي قال إنه لا يجوز ، قال : كيف تخالف ابن عباس ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، لو أنّا أخذنا بقول ابن عباس ، لكان الرجل يبايعك ويحلف لك ، فإذا خرج قال : إن شاء الله انحلت البيعة . قال : هكذا ؟ قال : نعم . قال : الصواب ما قلت .
…فالمهم أن هذه من ذكاء بعض العلماء أن يلزم الخلفاء بما فيه المنفعة (1)
__________
(1) قال الشيخ - رحمه الله - في الدرس التالي : وهل يجب أن ينوي به [ السلام ] الخروج من الصلاة ، أو لا ؟ المسألة لا تخلو من ثلاث حالات :
إما أن ينوي به الخروج من الصلاة ، وهذا أحسن شيء .
وإما أن ينوي به السلام على من يمينه أو يساره ، وفي إجزاء ذلك قولان للعلماء ، منهم من قال : إنه إذا نوى السلام على من يمنيه ويساره ، بطلت صلاته . ومنهم من قال : لا تبطل ، لأن النبي ? : )) إنما يكفي أحدكم أن يقول : السلام عليكم ورحمة الله من على يمينه ، والسلام عليكم ورحمة الله من على يساره (( .
الحال الثالثة : أن لا ينوي شيئاً ، سلَّم على أن هذا شيء مشروع في الصلاة ، واجب أو ركن ، ولم ينو شيئاً ، فهذا يجزئه ، لا شك ، وهذا في الغالب هو الذي عليه أكثر الناس ، ما يشعر تلك الساعة أنه يريد الخروج من الصلاة ، ولا أنه يسلم على من يمينه ويساره . وظاهر كلام المؤلف : أنه لا يزيد ( وبركاته ) ، بل يقول : السلام عليكم ورحمة الله ، في اليمين والشمال ، وهذا الذي عليه جمهور العلماء . وقيل : إنه يزيد ( وبركاته ) في السلام الثاني أو في السلام الأول ، أو فيهما ، وهذا مبني على صحة الحديث ، فإن صح الحديث عن النبي ? فعلى العين والرأس ، ولكن نقول ذلك أحياناً لا دائماً ، وإن لم يصح فقد كفينا همه . وقد أشرنا إلى هذه القاعدة في باب المناظرة ، وأن الإنسان إذا استدل عليك بحديث ، أو بقول مأثور عن الصحابة ، فطالبه أولاً بصحة النقل ، فإذا لم يصح كفيت همه ، وإن صح فحينئذ ينظر في أمره .(3/378)
.
قوله : ( وإن كان في ثلاثية ) ا ( أو رباعية ) ا
كالمغرب .
قوله : ( أو رباعية ) ا
كالظهر ، والعصر ، والعشاء .
قوله : ( نهض مكبراً بعد التشهد الأول ) ا
( نهض ) أي : قام .
…وظاهر كلامه أنه لا يقوم معتمداً على يديه ، لأن كلمة ( نهض ) تعطي أنه ينهض بسرعة وبقوة ونشاط ، فينهض مكبراً في حال النهوض ، لأن جميع التكبيرات والتسميع والتحميد يكون في حال الانتقال ، إلا قول المنفرد والإمام : ( ربنا ولك الحمد ) فيكون بعد تمام القيام .
( نهض مكبراً ) بدون أن يعتمد على الأرض ، إلا أن يكون محتاجاً لذلك ، كالكبير والمريض وما أشبه ذلك .
وقد أنكر النووي - رحمه الله - حديث أن النبي ? كان يقوم ضاماً كفيه كالعاجن ، قال : هذا لا يصح عن النبي ? ، وبعض العلماء قال : إنه صحيح . ولكن سواءٌ قام عاجناً ، أو قام باسطاً يديه على الأرض ، الأمر في هذا واسع ، إنما المهم أن لا يفعل إلا عند الحاجة .
( بعد التشهد الأول ) الذي أنهاه المؤلف - رحمه الله - عند قوله : ( أن محمداً عبده ورسوله ) قال : ( هذا التشهد الأول ) . وعلى هذا فإذا قال : ( أن محمداً عبده ورسوله ) ينهض ، ولا يزيد على هذا ، إلا إذا كان مأموماً واستمر الإمام ، فإنه لا يسكت ، يكمل ، حتى لو كمل التشهد كله ، لأنه تابع لإمامه ، والصلاة ليس فيها سكوت . وقال بعض أهل العلم : حتى المأموم لا يزيد وإذا كان الإمام أطال الجلوس فإنه يكرر التشهد ، لأن ذلك ( أي الزيادة ) لم ترد عن النبي ? ، ولكن الأقرب عندي أنه لا يكرر ، بل يستمر .
قوله : ( وصلى ما بقي كالثانية ) ا
الباقي : إن كانت ثلاثية ، فركعة ، وإن كانت رباعية ، فركعتان .
( كالثانية ) أي : بدون استفتاح ، ولا تعوذ ، ولكنه استثنى فقال :
( بالحمد فقط ) ا(3/379)
يعني : بالفاتحة فقط ، ولا يزيد . وهذا القول هو الراجح ، أنه لا زيادة في الركعتين على الفاتحة ، لأن حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - (1) صريح في أن النبي ? يقرأ في الأخريين بالفاتحة فقط ، وهو أولى من حديث أبي سعيد (2) ، فحديث أبي سعيد فيه ما يدل على أن الرسول ? يقرأ بالأخريين بزيادة على الفاتحة ، لكن الأخذ بحديث أبي قتادة أولى ، لوجهين :
الأول : أنه صريح بالتحديد ، قال : )) يقرأ في الأوليين بالفاتحة وسورة ، وفي الأخريين بالفاتحة فقط (( .
الثاني : أن حديث أبي سعيد يقول : ( إنهم كانوا يحزرون صلاته ) يعني : يخرصونها ، فليس صريحاً في التحديد ، والإنسان قد يحزر الشيء بناء على ظنه ، ويكون خلاف ما ظن .
قوله : ( ثم يجلس في تشهده الأخير متوركاً ) ا
( التشهد الأخير ) في الثلاثية في الثالثة ، وفي الرباعية في الرابعة .
( متوركاً ) التورك له ثلاث صفات :
الصفة الأولى : أن ينصب الرجل اليمنى ويخرج اليسرى من تحت ساقها ، فتكون الرجلان كلتاهما عن يمينه ، ومقعدته على الأرض .
الصفة الثانية : أن يخرج الرجلين كلتيهما من اليمين ، مفروشتين ، ومقعدته على الأرض .
الصفة الثالثة : اختلفت فيها الروايتان ، ففي صحيح مسلم أنه يفرش اليمنى ويخرج اليسرى من بين الساق والفخذ . وفي رواية أبي داود : يخرج الرجل اليسرى من تحت الساق .
__________
(1) يأتي .
(2) لفظه : ( كنا نحزر قيام رسول الله ? في الظهر والعصر ، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة ? ال?م تنزيل ? السجدة ، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك ، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر ، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك ) ( أخرجه مسلم ( 452 ) ، أخذته من الممتع : 3/298 - هامش الصفحة ) .(3/380)
…على رواية أبي داود تكون هي الصفة الثانية في التورك ، وعلى ما رواه مسلم تكون صفة ثالثة ، ولا شك أن الأخذ برواية مسلم أولى ، لأن مسلم بالاتفاق أصح من أبي داود - رحمه الله - فعلى كل حال ، وقد ذكرها كلها ابن القيم في زاد المعاد .
قوله : ( والمرأة مثله ، لكن تضم نفسها ، وتسدل رجليها في جانب يمينها ) ا
( والمرأة مثله ) مثل الرجل في الصلاة قولاً وفعلاً ، حتى في رفع اليدين عند التكبير لتكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع منه وعند القيام من التشهد الأول ، فإنها مثل الرجل ترفع يديها ، لكن في الجلوس تختلف عن الرجل ، تضم نفسها ، ولا تتجافى أيضاً في السجود ولا في الركوع ، لأن المطلوب منها : الستر .
( وتسدل رجليها بجانب يمينها ) ولا تفترش بين السجدتين ، ولا في التشهد الأول ، ولا تتورك في الأخير ، فتفارق الرجل : أن جميع ما تشرع فيه المجافاة غير مشروع للمرأة ، والثاني في صفة الجلوس : لا تجلس مفترشة ، ولا متوركة ، وإنما تجلس سادلةً رجليها إلى جانب يمينها . وهذا الاستثناء فيه نظر ، بل نقول : ما ثبت في حق الرجل ثبت في حق المرأة إلا بدليل ، فالدليل لا منازع معه ، فإذا ثبت عن النبي ? أنه كان يأمر بذلك ، فعلى العين والرأس ، وإذا لم يثبت ، فالأصل تساوي الرجال والنساء في أحكام الله - عز وجل - ، لأنهم كلهم مكلفون ، نعم لو فرض أن المرأة تصلي وحولها رجال ، فهنا نقول : الأفضل أن تضم نفسها ، أفضل بكثير ، وهذا لسبب عارض ، يعني ليس دائماً ، لكن تصلي في بيتها أو ليس عندها إلا محارمها أو نساء مثلها فإنها تكون كالرجل تماماً .(3/381)
…يستثنى من ذلك : مسألة الشعر ، لأن النبي ? نهى أن يصلي الرجل معقوص الشعر ، يعني مربوط ، وقال : )) أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ، ولا أكف شعراً ولا ثوباً (( ، والمرأة لا بد [ أن ] تكف الشعر ، لأنها سوف تغطي جميع رأسها ، فلا بد أن تكفه ، فهذا مما يستثنى ، فالمرأة لا نقول : دعي الشعر يسدل في الأرض ، لا ، نقول : استُرِيهِ ، أما الرجل فنعم .
…وإلى هنا انتهى صفة الصلاة .(3/382)
((((( الزكاة )))))(3/383)
******* الرسائل(3/384)
رسالة في زكاة الحلي
رسالة في زكاة الحلي
محمد بن صالح العثيمين
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب اليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.واشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلي الله عليه وعلى اله وصحبه و سلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فهذه رسالة في بيان حكم زكاة الحلي المباح ذكرت فيها ما بلغه علمي من الخلاف و الراجح من الأقوال وأدلة الترجيح، فأقول و بالله التوفيق و الثقة وعليه التكلان وهو المستعان: لقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في وجوب الزكاة في الحلي المباح على خمسة أقوال:
احدها: لا زكاة فيه وهو المشهور من مذاهب الأئمة الثلاثة مالك و الشافعي واحمد الا إذا اعد للنفقة وان اعد للأجرة ففيه الزكاة عند أصحاب احمد و لا زكاة فيه عند أصحاب مالك و الشافعي وقد ذكرنا أدلة هذا القول إيرادا على القائلين بالوجوب و اجبنا عنها.
الثاني: فيه الزكاة سنة واحدة وهو مروي عن انس ابن مالك رضي الله عنه.
الثالث: زكاته عاريته، وهو مروي عن أسماء وانس ابن مالك أيضا.
الرابع: انه يجب فيه أما الزكاة وأما العارية ورجحه ابن القيم رحمه الله في الطريق الحكمة.(3/385)
القول الخامس: وجوب الزكاة فيه إذا بلغ نصابا كل عام، وهو مذهب أبي حنيفة و راويه عن احمد و احد القولين في مذهب الشافعي و هذا هو القول الراجح لدلالة الكتاب والسنة و الآثار عليه –فمن أدلة الكتاب قوله تعالي ( و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم(34) يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) و المراد بكنز الذهب والفضة عدم إخراج ما يجب فيهما من زكاة وغيرها من الحقوق، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كل ما أديت وان كان تحت سبع ارضين فليس بكنز وكل ما لا تؤدي زكاته فهو كنز وان كان ظاهرا على وجه الأرض. قال ابن كثير رحمه الله: وقد روي هذا عن ابن عباس و جابر وأبي هريرة مرفوعا و موقوفا.أ.هـ – و الآية عامة في جميع الذهب و الفضة لم تخصص شيئا دون شئ، فمن ادعي خروج الحلي المباح من هذا العموم فعليه الدليل.
و أما السنة فمن أدلتها:
1- ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم انه قال: (( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها الا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فاحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه و جبينه و ظهره )) الحديث(1.) و المتحلي بالذهب و الفضة صاحب ذهب وفضة ولا دليل على إخراجه من العموم و حق الذهب الفضة من أعظمه و أوجبه الزكاة. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: الزكاة حق المال(3/386)
2/ما رواه الترمذي و النسائي وأبو داود و اللفظ له قال: حدثنا أبو كامل و حميد بن مسعدة المعنى أن خالد ابن الحارث حدثهم، حدثنا حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن حده أن امرأة أتت رسول الله صلي الله عليه وسلم و معها ابنة لها و في يد ابنتها مسكتان(2) غليظتان من ذهب، فقال لها: ((أتعطين زكاة هذا ؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار )) قال: فخلعتهما فالقتهما إلي النبي صلي الله عليه وسلم و قالت: هما لله ورسوله (1)
– قال في بلوغ المرام(2) وإسناده قوي. وقد رواه الترمذي عن طريق ابن لهيعة و المثنى بن الصباح ثم قال: أنهما يضعفان في الحديث، ولا يصح في هذا الباب شئ لكن قد رد قول الترمذي هذا برواية أبي داود لهذا الحديث من طريق حسين المعلم وهو ثقة احتج به صاحبا الصحيحين البخاري و مسلم و قد وافقهم الحجاج بن بن ارطاة، وقد وثقه بعضهم و روى نحوه احمد عن أسماء بنت يزيد بإسناد حسن.
3-ما رواه أبو داود قال: حدثنا محمد بن إدريس الرازي، حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق، حدثنا يحي ابن أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر أن محمد ابن عمرو بن عطاء اخبره عن عبد الله بن شداد بن الهاد انه قال: دخلنا على عائشة رضي الله عنها فقالت: (( دخل علي رسول الله فرأى في يدي فتخات من ورق(3) فقال: ((ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله. فقال: هو حسبك من النار)(4) قيل لسفيان: كيف تزكيه ؟قال: تضمه إلي غيره- وهذا الحديث أخرجه أيضا الحاكم و البيهقي و الدارقطني(5) وقال في التخليص(6) إسناده على شرط الصحيح و صححه الحاكم وقال: انه على شرط الشيخين- يعني البخاري و مسلما – و قال ابن دقيق: انه على شرط مسلم.(3/387)
4- ما رواه أبو داود قال: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا عتاب – يعني أبي بشير عن ثابت بت عجلان، عن عطاء عن أم سلمة قالت: كنت البس أوضاحا من ذهب فقلت: يا رسول الله اكنز هذا؟ فقال: ((ما بلغ تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز)(7) وأخرجه أيضا البيهقي و الدارقطني و الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه وصححه أيضا الذهبي(8) وقال البيهقي: تفرد به ابن عجلان قال في التنقيح: وهذا لا يضر فان ثابت بن عجلان روى له البخاري ووثقه ابن معين و النسائي، وقول عبد الحق فيه: (( لا يحتج بحديثه)) قول لم قله غيره. قال ابن دقيق:وقول العقيلي في ثابت بن عجلان (( لا يتابع على حديثه )) تحامل منه
* فان قيل: خلع هذا حين كان التحلي ممنوعا كما قاله مسقطو الزكاة في الحلي
فالجواب: إن هذا لا يستقيم فان النبي صلي الله عليه وسلم لم يمنع من التحلي به بل اقره مع الوعيد على ترك الزكاة ولو كان التحلي ممنوعا لأمر بخلعه و توعد على لبسه ثم إن النسخ يحتاج إلى معرفة التاريخ و لا يثبت ذلك بالاحتمال ثم لو فرضنا انه كان حين التحريم فان الأحاديث المذكورة تدل على الجواز بشرط إخراج الزكاة و لا دليل على ارتفاع هذا الشرط و إباحته إباحة مطلقة أي بدون زكاة
* فان قيل: ما الجواب عما احتج به لا يرى الزكاة في الحلي وهو ما رواه ابن الجوزي بسنده في (التحقيق ) عن عافيه بن أيوب، عن الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( ليس في الحلي زكاة))و رواه البيهقي في (( معرفة السنن و الآثار ))
قيل: الجواب علي هذا من ثلاثة أوجه: الاول: أن البيهقي قال فيه: انه باطل لا اصل له و إنما يروى عن جابر من قوله و عافيه بن أيوب مجهول فمن احتج به كان مغررا بدينه
الثاني: إننا إذا فرضنا توثيق عافية كما نقله ابن حاتم عن أبي زرعة فانه لا يعارض احاديث الوجوب ولا يقابل بها لصحتها و نهاية ضعفه(3/388)
الثالث: إننا إذا فرضنا انه مساو لها و يمكن معارضتها به فان الأخذ بها أحوط و ما كان أحوط فهو اولى بالإتباع لقول النبي صلي الله عليه وسلم:( دع ما يريبك إلي ما لا يريبك)(1) وقوله: (0 فمن اتقى الشبهات فقد استبرا لدينه و عرضه)(2)
* و أما الآثار فمنها:
1- عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه كتب إلي أبي موسى أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يصدقن من حليهن – قال ابن حجر في التلخيص(3) انه أخرجه ابن أبي شيبة و البيهقي من طريق شعيب بن يسار وهو مرسل قاله البخاري. قال: وقد أنكر ذلك الحسن فيما رواه ابن أبي شيبة عنه قال: لا نعلم أحدا من الخلفاء قال في الحلي زكاة لكن ذكره مرويا عن عمر صاحب المغني و المحلي و الخطابي
2- عن بن مسعود رضي الله عنه إن امرأة سألته عن حلي لها فقال: إذا بلغ مائتي درهم ففيه زكاة رواه الطبراني و البيهقي(4) و رواه الدارقطني من حديثه مرفوعا وقال: هذا وهم و الصواب موقوف(5) .
3- عن ابن عباس رضي الله عنهما، حكاه عنه المنذري و البيهقي قال الشافعي:لا ادري يثبت عنه أم لا
4- عن عبد الله بن عمر بن العاص انه كان يأمر بالزكاة في حلي بناته و نسائه، ذكره في المحلي من طريق جرير بن حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه.(3/389)
5- عن عائشة رضي الله عنها إنها قالت: لا باس بلبس الحلي إذا أعطى زكاته. رواه الدارقطني(6) من حديث عمرو بن شعيب عن عروة عن عائشة، لكن روى مالك في الموطأ(7) عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة إنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج من حليهن الزكاة. قال ابن حجر في التخليص(8) و يمكن الجمع بينهما بأنها كانت ترى الزكاة فيها(9) و لا ترى إخراج الزكاة مطلقا عن مال الأيتام لكن يرد على جمعه هذا ما رواه مالك في الموطأ(10) عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه انه قال: كانت عائشة تليني وأخا لي يتيمين في حجرها فكانت تخرج من أموالنا الزكاة. قال بعضهم: و يمكن أن يجاب عن ذلك بأنها لا ترى إخراج الزكاة عن أموال اليتامى واجبا فتخرجه تارة ولا تخرج أخرى كذا اقل. وأحسن منه أن يجاب بوجه آخر وهو إن عدم إخراجها فعل والفعل لا عموم له فقد يكون لأسباب ترى إنها مانعة من وجوب الزكاة فلا يعارض القول و الله اعلم
* فان قيل: ما الجواب عما استدل به مسقطو الزكاة فيما نقله الأثرم قال:سمعت احمد بن حنبل يقول: خمسة من الصحابة كانوا لا يرون في الحلي زكاة: انس ابن مالك و جابر و ابن عمر و عائشة وأسماء ؟ فالجواب: إن بعض هؤلاء روي عنهم الوجوب و إذا فرضنا أن لجميعهم قولا واحدا أو أن المتأخر عنهم هو القول بعدم الوجوب فقد خالفهم من خالفهم من الصحابة، وعند التنازع يجب الرجوع إلي الكتاب و السنة وقد جاء فيهما ما يدل على الوجوب كما سبق.(3/390)
*فان قيل: قد ثبت في الصحيحين(1) أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن)) وهذا دليل على عدم وجوب الزكاة في الحلي إذ لو كانت واجبة في الحلي لما جعله النبي صلي الله عليه وسلم مضربا لصدقة التطوع. فالجواب على هذا: إن الأمر بالصدقة من الحلي ليس فيه إثبات وجوب الزكاة فيه ولا نفيه عنه و إنما فيه الأمر بالصدقة حتى من حاجيات الإنسان و نظير هذا أن يقال: تصدق ولو من دراهم نفقتك و نفقة عيالك فان هذا لا يدل على انتفاء و جوب الزكاة في هذه الدراهم
*فان قيل: إن في لفظ الحديث: ( وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر)(2) و في حديث علي:(و ليس عليك شئ حتى يكون ذلك عشرون دينار)(3) و الرقة هي الفضة المضروبة سكة و كذلك الدينار هو السكة و هذا دليل علة اختصاص وجوب الزكاة بما كان كذلك
ـــــــــــــ
(1) رواه البخاري , كتاب الزكاة , باب الزكاة على الزوج رقم (1466) ومسلم , كتاب الزكاة , باب فضل النفقة والصدقة على ا لاقربين والزوج رقم (1000)
(2) رواه احمد (1/12)
(3) رواه ابوداؤود , كتاب الزكاة , باب فى زكاة السائمة رقم ( 1573)
و الحلي ليس منه. فالجواب من وجهين:
احدهما: إن الذين لا يوجبون زكاة الحلي ويستدلون بمثل هذا اللفظ لا يخصون وجوب الزكاة بالمضروب من الذهب و الفضة بل يوجبونها في التبر(1) ونحوه وان لم يكن مضروبا و هذا تناقض منهم و تحكم حيث ادخلوا فيه ما لا يشمله اللفظ على زعمهم و اخرجوا منه نظير ما ادخلوه من حيث دلالة اللفظ عليه أو عدمها.(3/391)
الثاني: إننا إذا سلمنا اختصاص الرقة و الدينار بالمضروب من الفضة و الذهب فان الحديث يدل على ذكر بعض أفراد و أنواع العام بحكم لا يخالف حكم العام و هذا لا يدل على التخصص كما إذا قلت: أكرم العلماء ثم قلت: أكرم زيدا و كان من جملة العلماء فانه لا يدل على اختصاصه بالإكرام، فالنصوص جاء بعضها عاما في وجوب زكاة الذهب و الفضة و بعضها جاء بلفظ الرقة الدينار وهو بعض أفراد العام فلا يدل ذلك على التخصيص
*فان قيل: ما الفرق بين الحلي المباح و بين الثياب المباحة إذا قلنا بوجوب الزكاة في الاول دون الثاني ؟
فالجواب: إن الشارع فرق بينهما حيث أوجبها في الذهب و الفضة من غير استثناء بل وردت نصوص خاصة في وجوبها في الحلي المباح المستعمل كما سبق و أما الثياب فهي بمنزلة الفرس و عبد الخدمة الذين قال فيهما رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((ليس على المسلم في عبده و لا فرسه صدقة) (2)فإذا كانت الثياب لللبس فلا زكاة فيها و إن كانت للتجارة ففيها زكاة التجارة
*فان قيل: هل يصح قياس الحلي المباح المعد للاستعمال علي الثياب المباحة المعدة للاستعمال كما قاله من لا يوجبون الزكاة في الحلي؟
*فالجواب : لا يصح القياس لوجوه:
الاول: انه قياس في مقابلة النص و كل قياس في مقابلة النص فهو قياس فاسد وذلك لأنه يقتضي إبطال العمل بالنص، و لان النص إذا فرق بين شيئين في الحكم فهو دليل على أن بينهما من الفوارق ما يمنع إلحاق احدهما بالآخر، ويجب افتراقها سواء علمنا تلك الفوارق أم جهلناها ومن ظن افتراق ما جمع الشارع بينهما أو اجتماع ما فرق الشارع بينهما فظنه خطأ بلا شك فان الشرع نزل من لدن حكيم خبير.(3/392)
الثاني: إن الثياب لم تجب الزكاة فيها أصلا، فلم تكن الزكاة فيها واجبة أو ساقطة بحسب القصد و إنما الحكم فيها واحد، وهو عدم وجوب الزكاة فكان مقتضي القياس أن يكون حكم الحلي واحدا وهو وجوب الزكاة سواء أعده لللبس أو لغيره، ولا يرد على ذلك وجوب الزكاة فيها إذا كانت عروضا لان الزكاة حينئذ في قيمتها.
الثالث: أن يقال: ما هو القياس الذي يراد الجمع به بين الحلي المعد للاستعمال و الثياب المعدة له ؟ اهو قياس التسوية أم قياس العكس؟ فان قيل هو قياس التسوية، قيل: هذا إنما يصح لو كانت الثياب تجب فيها الزكاة قبل إعدادها للبس و الاستعمال ثم سقطت الزكاة بعد إعدادها ليتساوى الفرع و الأصل في الحكم و إن قيل: هو قياس العكس، قيل: هذا إنما يصح لو كانت الثياب لا تجب فيها الزكاة إذا لم تعد لللبس و تجب فيها إذا أعدت لللبس فان هذا هو عكس الحكم في الحلي عند المفرقين بين الحلي المعد لللبس و غيره.
ــــــــ
(1) التبر : ما كان الذهب والفضة غير مصوغ
رواة البخاري , كتاب الزكاة , باب لا زكاة على المسلم في عبده ولا فرسه رقم (982)
الرابع: إن الثياب و الحلي افترقت عند مسقطي الزكاة في الحلي في كثير من المسائل، فما الفرق بينهما:
1-إذا اعد الحلي لنفقة و اعد الثياب للنفقة بمعنى انه إذا احتاج للنفقة باع منهما و اشترى نفقة فقالوا: في هذا الحال تجب الزكاة في الحلي و لا تجب في الثياب. ومن الغريب أن يقال: امرأة غنية يأتيها المال من كل مكان و كلما ذكر لها حلي معتاد اللبس اشترته برفيع الأثمان للتحلي به غير فرار من الزكاة و لما افترقت هذه المرأة نفسها أبقت حليها للنفقة و ضرورة العيش، فقلنا لها في الحلي الأولى: لا زكاة عليك في هذا الحلي، وقلنا لها في الحال الأخيرة: عليه الزكاة فيه. هذا هو مقتضي قول مسقطي الزكاة في الحلي المباح
2- إن الحنابلة قالوا: انه إذا اعد الحلي للكراء وجبت فيه الزكاة وإذا أعدت الثياب للكراء لم تجب(3/393)
3- انه إذا كان الحلي محرما وجبت الزكاة فيه وإذا كانت الثياب محرمة لم تجب الزكاة فيها
4- لو كان عنده حلي للقنية(1) ثم نواه للتجارة صار للتجارة ولو كان عنده ثياب للقنية ثم نواها للتجارة لم تصر للتجارة وعللوا ذلك بان الأصل في الحلي الزكاة فقويت النية بذلك بخلاف الثياب وهذا اعتراف منهم بان الأصل في الحلي وجوب الزكاة. فنقول لهم: وما الذي هدم هذا الأصل بدون دليل؟
5- قالوا: لو نوى الفرار من الزكاة باتخاذ الحلي لم تسقط الزكاة، وظاهر كلام أكثر أصحاب الإمام احمد انه لو أكثر من شراء العقار فرار من الزكاة سقطت الزكاة و قياس ذلك لو أكثر من شراء الثياب فرارا من الزكاة سقطت الزكاة إذ لا فرق بين الثياب و العقار فإذا كان الحلي المباح مفارقا للثياب المعدة لللبس في هذه الأحكام فكيف نوجب أو نجيز إلحاقه بها في حكم دل النص على افتراقها فيه؟ إذا نبين ذلك فان الزكاة لا تجب في الحلي حتى يبلغ نصابا لحديث أم سلمة السابق: ((ما بلغ أن تودي زكاته فزكي فليس بكنز))(2) فنصاب الذهب عشرون دينارا (3) و نصاب الفضة مائتا درهم(4) .
فإذا كان حلي الذهب ينقص وزن ذهبه عن عشرون دينارا وليس عند صاحبه من الذهب ما يكمل به النصاب فلا زكاة فيه وإذا كان حلي الفضة ينقص من وزن فضته عن مائتي درهم وليس عند صاحبه من الفضة ما يكمل به النصاب فلا زكاة فيه.
ـــــــــــ
(1) القنية : من الاقتناء وهو الادخار .
(2)سبق تخريجه
(3)المراد الدينار الإسلامي الذي يبلغ وزنه المثقال لربعة جرامات وربع , فيكون نصاب الذهب خمسة وثمانين جراما , يعادل عشر جنيهات سعودي وخمسة أثمان الجنية
(4) والمراد الدرهم الإسلامي الذي يبلغ وزنه سبعة أعشار مثقال , فيبلغ مائة واربعين مثقالا وهي خمسمائة وخمسة وتسعون جراما, تعادل ستة وخمسين ريالا عربيا من الفضة.(مجالس شهر رمضان للمؤلف ص 77)(3/394)
المعتبرون وزن ما في الحلي من الذهب و الفضة وأما ما يكون فيه من اللؤلؤ و نحوه فانه لا يحتسب به في تكميل النصاب ولا يزكي ما فيه من اللؤلؤ ونحوه لأنه ليس من الذهب و الفضة و الحلي من غير الذهب و الفضة لا زكاة فيه الا أن يكون للتجارة.
لكن هل المعتبر في نصاب الذهب الدينار الإسلامي الذي زنته مثقال وفي نصاب الفضة الدرهم الإسلامي الذي زنته سبعة أعشار مثقال أو المعتبر الدينار والدرهم عرفا في كل زمان و مكان بحسبه سواء قل ما فيه من الذهب و الفضة أم كثر ؟ الجمهور على الاول وحكى إجماعا، وحقق شيخ الإسلام ابن تيمية الثاني أي أن المعتبر الدينار والدرهم المصطلح عليه في كل زمان و مكان بحسبه فما سمي دينارا أو درهما ثبتت له الأحكام المعلقة على اسم الدينار و الدرهم سواء قل ما فيه من الذهب و الفضة أم كثر و هذا هو الراجح عندي لموافقته ظاهر النصوص وعلى هذا فيكون نصاب الذهب عشرين جنيها و نصاب الفضة مائتي ريال وان احتاط المرء و عمل بقول الجمهور فقد فعل ما يثاب عليه إن شاء الله.
فإذا بلغ الحلي نصابا خاصا عشرين دينارا أن كان ذهبا و مائتي درهم إن كان فضة ففيه ربع العشر لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:( إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شئ يعني في الذهب – حتى يكون لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار) رواه أبو داود.(1)(3/395)
و بعد: فان علي العبد أن يتقي الله ما استطاع و يعمل جهده في تحري معرفة الحق من الكتاب و السنة فإذا ظهر له الحق منهما وجب عليه العمل به، وان لا يقدم عليهما قول احد من الناس كائنا من كان ولا قياسا من الاقيسة أي قياس كان و عند التنازع يجب الرجوع إلي الكتاب و السنة فانهن الصراط المستقيم و الميزان العدل القويم، قال تعالي: ( فان تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )(النساء- 59) والرد إلي الله هو الرد إلي كتابه و الرد إلي الرسول هو الرد إلي سنته و هديه حيا و ميتا.
وقال تعالي:( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما)(النساء..65) .(3/396)
فاقسم الله تعالي وربوبيته لرسوله صلي الله عليه وسلم التي هي اخص ربوبية قسما مؤكدا على أن لا إيمان الا بان نحكم النبي صلي الله عليه وسلم في كل نزاع بيننا و الا يكون في نفوسنا حرج وضيق مما يقضي به رسول الله صلي الله عليه وسلم و أن نسلم لذلك تسليما تاما بالانقياد الكامل و التنفيذ . وتأمل كيف أكد التسليم بالمصدر فانه يدل على انه لا بد من تسليم تام لا انحراف فيه ولا توان . و تأمل أيضا المناسبة بين المقسم به و المقسم عليه فالمقسم به ربوبية الله لنبيه صلي الله عليه وسلم و المقسم عليه هو عدم الإيمان الا بتحكيم النبي صلي الله عليه وسلم تحكيما تاما يستلزم الانشراح و الانقياد و القبول، فان ربوبية الله لرسوله تقتضي أن يكون ما حكم به مطابقا لما إذن به ربه ورضيه فان مقتضي الربوبية أن لا يقره على خطأ لا يرضاه له وإذا لم يظهر له الحق من الكتاب و السنة وجب عليه أن يأخذ بقول من يغلب على ظنه انه اقرب إلي الحق بما معه من العلم و الدين فان النبي صلي الله عليه وسلم يقول: ( عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ)) (1) و أحق الناس بهذا أبو بكر و عمر و عثمان و علي رضوان الله عليهم أجمعين فإنهم خلفوا النبي صلي الله عليه وسلم في أمته في العلم و العمل و السياسة و المنهج جزاهم الله عن الإسلام و المسلمين أفضل الجزاء.
ــــــــ
(1) سبق تخريجه ص ( 15)
(2) رواه احمد (4/126, 127) وأبو داؤود,كتاب السنة , باب في لزوم السنة رقم ( 4607) والترمذي , كتاب العلم , باب ما جاء في الأخذ بالسنة رقم ( 2676) وابن ماجة , كتاب المقدمة , باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين رقم (42, 43) .
و نسال الله تعالي أن يهدينا صراطه المستقيم و أن يجعلنا ممن رأى الحق حقا فاتبعه و رأى الباطل باطلا فاجتنبه، والله اعلم، وصلي الله على نبينا محمد و اله و صحبه و سلم تسليما كثيرا.(3/397)
حرره كاتبه الفقير إلي الله محمد الصالح العثيمين و ذلك في 12 من صفر سنة 1382 و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
---
(1.) رواه مسلم , كتاب الزكاة , باب , كتاب الزكاة , باب إثم مانع الزكاة
(2) مسكتان : بفتح الميم وفتح السين المهملة , الواحدة مسكة وهي السوار
(1) رواه ابوداؤود , كتاب الزكاة , باب الكنز ما هو وزكاة الحلي رقم ( 1563) والترمزي كتاب الزكاة باب ما جاء في زكاة الحلي رقم (637) والنسائي كتاب الزكاة باب زكاة الحلي رقم (2479).
(2)بلوغ المرام ( 1/207) طبعة دار ابن كثير
(3) الورق : الفضة
(4)رواه ابوداؤود , كتاب الزكاة , باب الكنز وزكاة الحلي رقم ( 1565)
(5) رواه الحاكم (1/390) والبيقهي (4/129) والدار قطنى (2/105)
(6) تلخيص الحبير (2/189)
(7) رواه ابوداؤود , كتاب الزكاة ما هو الحلي وزكاة الحلي رقم (1564)
(8) رواه البيهقي (4/140) والدار (1/105)
(1) احمد (1/200) و(3/153) والترمذي , كتاب صفة القيامة , رقم (2518)
(2) رواه البخاري , كتاب الإيمان , باب فضل من استبرأ لدينه رقم (52) ومسلم , كتاب المساقاة , باب اخذ الحلال وترك الشبهات رقم ( 1599)
(3) تلخيص الجبير (1/188)
(4) رواه الطبراني (9/319) والبيهقي (4/931)
(5) سنن الدار قطنى ( 1/108)
(6) سنن الدار قطنى ( 1/107)
(7) الموطأ ( 1/250)
(8) تلخيص الحبير ( 1/189)
(9) أي في الحلية
(10) الموطأ (1/251)(3/398)
((((( الصيام )))))(3/399)
الرسائل(3/400)
فصول في الصيام و التراويح و الزكاة
مقدمة
محمد بن صالح العثيمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلّم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد: فإنه بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك فإننا نقدم إلى إخواننا المسلمين الفصول التالية سائلين الله تعالى أن يجعل عملنا خالصاً لله موافقاً لشريعته نافعاً لخلقه إنه جواد كريم
فصول في الصيام و التراويح و الزكاة
في حكم الصيام
محمد بن صالح العثيمين
الفصل الأول
في حكم الصيام
صيام رمضان فريضة ثابتة بكتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وإجماع المسلمين؛ قال الله ـ تعالى ـ: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.(3/401)
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان». متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «وصوم رمضان، وحج البيت».
وأجمع المسلمون على فريضة صوم رمضان، فمن أنكر فريضة صوم رمضان فهو مرتد كافر، يُستتاب فإن تاب وأقر بفريضته فذاك وإلا قُتِل كافراً.
وفُرض صومُ رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلّم، تسع رمضانات، والصوم فريضة على كل مسلم بالغ عاقل.
فلا يجب الصوم على الكافر، ولا يُقبَل منه حتى يُسلِم، ولا يجب الصوم على الصغير حتى يبلغ، ويحصل بلوغه بتمام خمس عشرة سنة، أو نبات عانته، أو نزول المني منه بالاحتلام أو غيره، وتزيد الأنثى بالحيض، فمتى حصل للصغير أحد هذه الأشياء فقد بلغ لكن يؤمر الصغير بالصوم إذا أطاق بلا ضرر عليه ليعتاده ويألفه. ولا يجب الصوم على فاقد العقل بجنون أو تغير دماغ أو نحوه، وعلى هذا فإذا كان الإنسان كبيراً يهذي ولا يميز فلا صيام عليه ولا إطعام.
فصول في الصيام و التراويح و الزكاة
في حِكَم الصيام وفوائده
محمد بن صالح العثيمين
الفصل الثاني
في حِكَم الصيام وفوائده
من أسماء الله تعالى: «الحكيم» والحكيم مَن اتَّصف بالحكمة، والحكمة: إتقان الأمور ووضعها في مواضعها، ومقتضى هذا الاسم من أسمائه تعالى أن كل ما خلقه الله تعالى أو شرعه فهو لحكمة بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها.
وللصيام الذي شرعه الله وفرضه على عباده حِكَمٌ عظيمة وفوائد جمَّة:
* فمن حِكَم الصيام: أنه عبادة يَتَقَرَّب بها العبد إلى ربه بترك محبوباته المجبول على محبَّتها من طعام وشراب ونكاح، لينال بذلك رضا ربه والفوز بدار كرامته، فيتبين بذلك إيثاره لمحبوبات ربه على محبوبات نفسه وللدار الآخرة على الدنيا.(3/402)
* ومن حكم الصيام: أنه سبب للتقوى إذا قام الصائم بواجب صيامه، قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }. فالصائم مأمور بتقوى الله ـ عز وجل ـ وهي امتثال أمره، واجتناب نهيه، وذلك هو المقصود الأعظم بالصيام، وليس المقصود تعذيب الصائم بترك الأكل والشرب والنكاح؛ قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامه وشرابه». رواه البخاري، قول الزور: كل مُحَرَّم من الكذب والغيبة والشتم، وغيرها من الأعمال المحرَّمة. والعمل بالزور: العمل بكل فعل مُحَرَّم من العدوان على الناس، بخيانة، وغش، وضرب الأبدان، وأخذ الأموال، ونحوها، ويدخل فيه الاستماع إلى ما يحرم الاستماع إليه من الأغاني المحرَّمة، والمعازف: وهي آلات اللهو. والجهل: هو السفه، وهو مجانبة الرشد في القول والعمل، فإذا تمشَّى الصائم بمقتضى هذه الآية والحديث كان الصيام تربية نفسه، وتهذيب أخلاقه، واستقامة سلوكه، ولم يخرج شهر رمضان إلا وقد تأثَّر تأثُّراً بالغاً يظهر في نفسه وأخلاقه وسلوكه.
* ومن حِكَم الصيام: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بالغِنى حيث إن الله ـ تعالى ـ قد يسَّر له الحصول على ما يشتهي، من طعام، وشراب، ونكاح مما أباح الله شرعاً، ويسَّره له قدراً، فيشكر ربه على هذه النعمة، ويذكر أخاه الفقير الذي لا يتيسر له الحصول على ذلك، فيجود عليه بالصدقة والإحسان.
* ومن حِكَم الصيام: التمرُّن على ضبط النفس والسيطرة عليها حتى يتمكَّن من قيادتها لما فيه خيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة، ويبتعد عن أن يكون إنساناً بهيميًّا لا يتمكن من منع نفسه عن لذَّتها وشهواتها، لما فيه مصلحتها.(3/403)
* ومن حِكَم الصيام: ما يحصل من الفوائد الصحيَّة الناتجة عن تقليل الطعام وإراحة الجهاز الهضمي فترة معيَّنة وترسُّب بعض الفضلات والرطوبات الضارة بالجسم وغير ذلك.
فصول في الصيام و التراويح و الزكاة
في حُكم صيام المريض والمسافر
محمد بن صالح العثيمين
الفصل الثالث
في حُكم صيام المريض والمسافر
قال الله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
والمريض على قسمين:
أحدهما: مَن كان مرضه لازماً مستمرًّا لا يرجى زواله كالسرطان فلا يلزمه الصوم؛ لأنه ليس له حال يُرجى فيها أن يقدر عليه، ولكن يُطعِم عن صيام كل يوم مسكيناً، إما بأن يجمع مساكين بعدد الأيام فيعشِّيهم أو يُغديهم كما كان أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ يفعله حين كبر، وإما بأن يفرق طعاماً على مساكين بعدد الأيام لكل مسكين ربع صاع نبوي، أي مايزن نصف كيلو وعشرة غرامات من البُر الجيِّد، ويحسن أن يجعل معه ما يأدمه من لحم أو دهن، ومثل ذلك الكبير العاجز عن الصوم، فيطعم عن كل يوم مسكيناً.
الثاني: مَن كان مرضه طارئاً غير ميؤوس من زواله كالحُمَّى وشبهها وله ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن لا يشق عليه الصوم ولا يضره فيجب عليه الصوم؛ لأنه لا عذر له.
الحال الثانية: أن يشق عليه الصوم ولا يضره فيكره له الصوم لِمَا فيه من العدول عن رخصة الله تعالى مع الإشقاق على نفسه.(3/404)
الحال الثالثة: أن يضره الصوم فيحرم عليه أن يصوم لِمَا فيه من جلب الضرر على نفسه، وقد قال ـ تعالى ـ: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }. وقال: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ» أخرجه ابن ماجه، والحاكم، قال النووي: وله طرق يقوي بعضها بعضاً، ويعرف ضرر الصوم على المريض إما بإحساسه بالضرر بنفسه، وإما بخبر طبيب موثوق به. ومتى أفطر المريض في هذا القسم فإنه يقضي عدد الأيام التي أفطرها إذا عوفي، فإن مات قبل معافاته سقط عنه لقضاء المريض لأن فرضه أن يصوم عدة من أيام أُخر ولم يدركها.
والمسافر على قسمين:
أحدهما: مَن يقصد بسفره التحيل على الفطر، فلا يجوز له الفطر؛ لأن التحيل على فرائض الله لا يسقطها.
الثاني: مَن لا يقصد ذلك فله ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يشق عليه الصوم مشقة شديدة فيحرم عليه أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم «كان في غزوة الفتح صائماً فبلغه أن الناس قد شقَّ عليهم الصيام، وأنهم ينظرون فيما فعل فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشربه، والناس ينظرون، فقيل له: إن بعض الناس قد صاموا، فقال: «أولئك العُصاة، أولئك العُصاة» رواه مسلم.
الحال الثانية: أن يشق عليه الصوم مشقة غير شديدة فيكره له الصوم لِما فيه من العدول عن رخصة الله ـ تعالى ـ مع الإشقاق على نفسه.
الحال الثالثة: أن لا يشق عليه الصوم فيفعل الأيسر عليه من الصوم والفطر، لقوله ـ تعالى ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. والإرادة هنا بمعنى المحبة، فإن تساويا فالصوم أفضل؛ لأنه فِعْل النبي صلى الله عليه وسلّم.(3/405)
كما في صحيح مسلم عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم في رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعبدالله بن رواحة».
والمسافر على سفر من حين يخرج من بلده حتى يرجع إليها، ولو أقام في البلد التي سافر إليها مدة فهو على سفر مادام على نيَّة أنه لن يقيم فيها بعد انتهاء غرضه الذي سافر إليها من أجله، فيترخص برخص السفر، ولو طالت مدة إقامته لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم تحديد مدة ينقطع بها السفر، والأصل بقاء السفر وثبوت أحكامه حتى يقوم دليل على انقطاعه وانتفاء أحكامه.
ولا فرق في السفر الذي يترخّص فيه بين السفر العارض كحج وعمرة وزيارة قريب وتجارة ونحوه، وبين السفر المستمر كسفر أصحاب سيارات الأجرة (التكاسي) أو غيرها من السيارات الكبيرة فإنهم متى خرجوا من بلدهم فهم مسافرون يجوز لهم ما يجوز للمسافرين الآخرين من الفطر في رمضان وقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، والجمع عند الحاجة إليه بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، والفطر أفضل لهم من الصيام، إذا كان أسهل لهم ويقضونه في أيام الشتاء، لأن أصحاب هذه السيارات لهم بلد ينتمون إليها، فمتى كانوا في بلدهم فهم مقيمون، لهم ما للمقيمين وعليهم ما عليهم، ومتى سافروا فهم مسافرون، لهم ما للمسافرين وعليهم ما على المسافرين.
فصول في الصيام و التراويح و الزكاة
في مفسدات الصوم وهي المفطرات
محمد بن صالح العثيمين
الفصل الرابع
في مفسدات الصوم وهي المفطرات
مفسدات الصوم سبعة:(3/406)
أحدها: الجماع، وهو إيلاج الذكر في الفرج، فمتى جامع الصائم فسد صومه، ثم إن كان في نهار رمضان والصوم واجب عليه لزمته الكفَّارة المغلَّظة لفُحش فعله، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن كان الصوم غير واجب عليه كالمسافر يجامع زوجته وهو صائم فعليه القضاء دون الكفَّارة.
الثاني: إنزال المني بمباشرة أو تقبيل أو ضم أو نحوها، فإن قبَّل ولم ينزل فلا شيء عليه.
الثالث: الأكل والشرب، وهو إيصال الطعام أو الشراب إلى الجوف سواء كان عن طريق الفم أو عن طريق الأنف، أيًّا كان نوع المطعوم، أو المشروب، ولا يجوز للصائم أن يستنشق دخان البخور بحيث يصل إلى جوفه؛ لأن الدخان جرم، وأما شم الروائح الطيبة فلا بأس به.
الرابع: ما كان بمعنى الأكل أو الشرب، مثل الإبر المغذية التي يستغنى بها عن الأكل والشرب، فأما غير المغذية فلا تفطر سواء كانت عن طريق العرق أو العضل.
الخامس: إخراج الدم بالحجامة وعلى قياسه إخراجه بالفصد، ونحوه مما يؤثِّر على البدن كتأثير الحجامة، فأما إخراج الدم اليسير للفحص ونحوه، فلا يفطر لأنه لا يؤثِّر، على البدن من الضعف تأثير الحجامة.
السادس: التقيؤ عمداً، وهو إخراج ما في المعدة من طعام أو شراب.
السابع: خروج دم الحيض والنفاس.
وهذه المفسدات لا تفطر الصائم إلا بثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون عالماً بالحكم وعالماً بالوقت.
الثاني: أن يكون ذاكراً.
الثالث: أن يكون مختاراً.(3/407)
فلو احتجم يظن أن الحجامة لا تفطر فصومه صحيح لأنه جاهل بالحكم، وقد قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}. وقال ـ تعالى ـ: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا}. فقال الله: «قد فعلت»، وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه جعل عقالين أسود وأبيض تحت وسادته فجعل يأكل وينظر إليهما فلمَّا تبيَّن أحدهما من الآخر، أمسك عن الأكل يظن أن ذلك معنى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}.
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال له صلى الله عليه وسلّم: «إنَّما ذلك بياضُ النهار وسوادُ الليل». ولم يأمره بالإعادة.
ولو أكل يظن أن الفجر لم يطلع أو أن الشمس قد غربت ثم تبيَّن خلاف ظنه فصومه صحيح؛ لأنه جاهل بالوقت، وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: أفطرنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، في يوم غيم ثم طلعت الشمس. ولو كان القضاء واجباً لبيَّنه صلى الله عليه وسلّم؛ لأن الله أكمل به الدين، ولو بيَّنه صلى الله عليه وسلّم لنقله الصحابة؛ لأن الله تكفَّل بحفظ الدين، فلما لم ينقله الصحابة علمنا أنه ليس بواجب، ولأنه مما توفر الدواعي على نقله لأهميته، فلا يمكن إغفاله، ولو أكل ناسياً أنه صائم لم يفطر، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «مَن نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه». متفق عليه. ولو أكره على الأكل، أو تمضمض فتهرَّب الماء إلى بطنه أو قطر في عينه، فتهرَّب القطور إلى جوفه، أو احتلم فأنزل منيًّا فصومه صحيح في ذلك كله لأنه بغير اختياره.(3/408)
ولا يفطر الصائم بالسواك بل هو سُنَّة له ولغيره في كل وقت في أول النهار وآخره، ويجوز للصائم أن يفعل ما يخفف عنه شدة الحر والعطش كالتبرد بالماء ونحوه، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم «كان يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش». وبَلَّ ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ثوباً فألقاه على نفسه وهو صائم، وهذا من اليُسر الذي كان الله يريده بنا ولله الحمد والمِنَّة على نعمته وتيسيره.
فصول في الصيام و التراويح و الزكاة
في التراويح
محمد بن صالح العثيمين
الفصل الخامس
في التراويح
التراويح: قيام الليل جماعة في رمضان، ووقتها من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلّم في قيام رمضان حيث قال: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه». وفي صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلّم قام ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم، فلمَّا أصبح قال: «قد رأيت ما صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تُفرَض عليكم». وذلك في رمضان.
والسُّنَّة أن يقتصر على إحدى عشرة ركعة، يسلِّم من كل ركعتين؛ لأن عائشة رضي الله عنها سئلت كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلّم في رمضان؟ فقالت: «ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة» متفق عليه. وفي الموطأ عن محمد بن يوسف ـ وهو ثقة ثبت ـ عن السائب بن يزيد ـ وهو صحابي ـ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أُبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة.(3/409)
وإن زاد على إحدى عشرة ركعة فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئِل عن قيام الليل فقال: «مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلَّى ركعة واحدة توتر له ما قد صلَّى» أخرجاه في الصحيحين، لكن المحافظة على العدد الذي جاءت به السُّنَّة مع التأنِّي والتطويل الذي لا يشق على الناس أفضل وأكمل.
وأما ما يفعل بعض الناس من الإسراع المفرط فإنه خلاف المشروع، فإن أدَّى إلى الإخلال بواجب أو ركن كان مبطلاً للصلاة.
وكثير من الأئمة: لا يتأنَّى في صلاة التراويح وهذا خطأ منهم، فإن الإمام لا يصلي لنفسه فقط، وإنما يصلي لنفسه ولغيره، فهو كالولي يجب عليه فعل الأصلح، وقد ذكر أهل العلم أنه يكره للإمام أن يسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يجب.
وينبغي للناس أن يحرصوا على إقامة هذه التراويح، وأن لا يضيِّعوها بالذهاب من مسجد إلى مسجد، فإن مَن قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة وإن نام بعد على فراشه.
ولا بأس بحضور النساء صلاة التراويح إذا أمنت الفتنة، بشرط أن يخرجن محتشمات غير متبرجات بزينة ولا متطيبات.
فصول في الصيام و التراويح و الزكاة
في الزكاة وفوائدها
محمد بن صالح العثيمين
الفصل السادس
في الزكاة وفوائدها(3/410)
الزكاة فريضة من فرائض الإسلام، وهي أحد أركانه وأهمها بعد الشهادتين والصلاة، وقد دلَّ على وجوبها كتاب الله ـ تعالى ـ وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وإجماع المسلمين، فمن أنكر وجوبها فهو كافر مرتد عن الإسلام يستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل، ومن بخل بها أو انتقص منها شيئاً فهو من الظالمين، المستحقين لعقوبة الله ـ تعالى ـ قال الله ـ تعالى: ـ: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَن آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته مُثِّلَ له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زَبيبتان يُطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ يقول: أنا مَالُكَ أنا كنزُك». الشجاع: ذَكَرُ الحيَّات، والأقرع: الذي تمعط فروة رأسه لكثرة سُمِّه، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدِّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبهُ وجبينه وظهرهُ كلما بردت أُعيدت في يوم كان مقدارهُ خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد».
وللزكاة فوائد دينية وخلقية واجتماعية كثيرة، نذكر منها ما يأتي:(3/411)
فمن فوائدها الدينية:
1 ـ أنها قيام بركن من أركان الإسلام الذي عليه مدار سعادة العبد في دنياه وأخراه.
2 ـ أنها تقرب العبد إلى ربه وتزيد في إيمانه، شأنها في ذلك شأن جميع الطاعات.
3 ـ ما يترتب على أدائها من الأجر العظيم، قال الله ـ تعالى ـ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَواْ وَيُرْبِى الصَّدَقَتِ}. وقال ـ تعالى ـ: {وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَآ ءاتَيْتُمْ مِّن زَكَوةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ }. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «مَن تصدَّق بعدل تمرة ـ أي: ما يعادل تمرة ـ من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يأخذها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوَّه حتى تكون مثل الجبل» رواه البخاري ومسلم.
4 ـ أن الله يمحو بها الخطايا كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «والصدقة تطفأ الخطيئة كما يطفأ الماء النار». والمراد بالصدقة هنا الزكاة وصدقة التطوع جميعاً.
ومن فوائدها الخلقية:
1 ـ أنها تُلْحِق المزكي بركب الكرماء ذوي السماحة والسخاء.
2 ـ أن الزكاة تستوجب اتصاف المزكي بالرحمة والعطف على إخوانه المعدمين، والراحمون يرحمهم الله.
3 ـ أنه من المشاهد أن بذل النفع المالي والبدني للمسلمين يشرح الصدر ويبسط النفس ويوجب أن يكون الإنسان محبوباً مكرماً بحسب ما يبذل من النفع لإخوانه.
4 ـ أن في الزكاة تطهيراً لأخلاق باذلها من البخل والشح كما قال ـ تعالى ـ: {خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}.
ومن فوائدها الاجتماعية:
1 ـ أن فيها دفعاً لحاجة الفقراء الذين هم السواد الأعظم في غالب البلاد.
2 ـ أن في الزكاة تقوية للمسلمين ورفعاً من شأنهم، ولذلك كان أحد جهات الزكاة الجهاد في سبيل الله كما سنذكره إن شاء الله تعالى.(3/412)
3 ـ أن فيها إزالة للأحقاد والضغائن التي تكون في صدور الفقراء والمعوزين، فإن الفقراء إذا رأوا تَمَتُّع الأغنياء بالأموال وعدم انتفاعهم بشيء منها، لا بقليل ولا بكثير فربما يحملون عداوة وحقداً على الأغنياء حيث لم يراعوا لهم حقوقاً، ولم يدفعوا لهم حاجة، فإذا صرف الأغنياء لهم شيئاً من أموالهم على رأس كل حول زالت هذه الأمور وحصلت المودة والوئام.
4 ـ أن فيها تنمية للأموال وتكثيراً لبركتها، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما نقصت صدقة من مال». أي إن نقصت الصدقة المال عدديًّا فإنها لن تنقصه بركة وزيادة في المستقبل بل يخلف الله بدلها ويبارك له في ماله.
5 ـ أن له فيها توسعة وبسطاً للأموال، فإن الأموال إذا صرف منها شيء اتسعت دائرتها وانتفع بها كثير من الناس، بخلاف إذا كانت دولة بين الأغنياء لا يحصل الفقراء على شيء منها.
فهذه الفوائد كلها في الزكاة تدل على أن الزكاة أمر ضروري لإصلاح الفرد والمجتمع، وسبحان الله العليم الحكيم.(3/413)
والزكاة تجب في أموال مخصوصة منها: الذهب والفضة بشرط بلوغ النصاب، وهو في الذهب أحد عشر جنيهاً سعوديًّا وثلاثة أسباع الجنيه. وفي الفضة ستة وخمسون ريالاً سعوديًّا من الفضة أو ما يعادلها من الأوراق النقدية، والواجب فيها ربع العشر، ولا فرق بين أن يكون الذهب والفضة نقوداً أم تبراً أو حليًّا، وعلى هذا فتجب الزكاة في حُليّ المرأة من الذهب والفضة إذا بلغ نصاباً، ولو كانت تلبسه أو تعيره، لعموم الأدلة الموجبة لزكاة الذهب والفضة بدون تفصيل، ولأنه وردت أحاديث خاصة تدل على وجوب الزكاة في الحُلي وإن كان يلبس، مثل ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلّم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال: «أتعطين زكاة هذا؟» قالت: لا. قال: «أَيسُرُّك أن يُسوِّرك الله بهما سوارين من نار؟» فألقتهما وقالت: هما لله ورسوله. قال في «بلوغ المرام»: رواه الثلاثة وإسناده قوي، ولأنه أحوط وما كان أحوط فهو أولى.
ومن الأموال التي تجب فيها الزكاة: عروض التجارة، وهي كل ما أعد للتجارة من عقار وسيارات ومواشي وأقمشة وغيرها من أصناف المال، والواجب فيها ربع العُشر فيقومها على رأس الحول بما تساوي ويخرج ربع عشره، سواء كان أقل مما اشتراها به أم أكثر أم مساوياً. فأما ما أعدَّه لحاجته أو تأجيره من العقارات والسيارات والمعدات ونحوها فلا زكاة فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة»، لكن تجب في الأجرة إذا تم حولها وفي حليّ الذهب والفضة لما سبق.
فصول في الصيام و التراويح و الزكاة
في أهل الزكاة
محمد بن صالح العثيمين
الفصل السابع
في أهل الزكاة(3/414)
أهل الزكاة هم الجهات التي تصرف إليها الزكاة، وقد تولَّى الله تعالى بيانها بنفسه فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
فهؤلاء ثمانية أصناف:
الأول: الفقراء، وهم الذين لا يجدون من كفايتهم إلا شيئاً قليلاً دون النصف، فإذا كان الإنسان لا يجد ما ينفق على نفسه وعائلته نصف سنة فهو فقير فيعطى ما يكفيه وعائلته سنة.
الثاني: المساكين، وهم الذين يجدون من كفايتهم النصف فأكثر ولكن لا يجدون ما يكفيهم سنةً كاملة فيكمل لهم نفقة السنة.. وإذا كان الرجل ليس عنده نقود ولكن عنده مورد آخر من حرفة أو راتب أو استغلال يقوم بكفايته فإنه لا يعطى من الزكاة لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا حظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب».
الثالث: العاملون عليها، وهم الذين يوكلهم الحاكم العام للدولة بجبايتها من أهلها، وتصريفها إلى مستحقيها، وحفظها ونحو ذلك من الولاية عليها، فيعطون من الزكاة بقدر عملهم وإن كانوا أغنياء.
الرابع: المؤلفة قلوبهم وهم رؤساء العشائر الذين ليس في إيمانهم قوة، فيعطون من الزكاة ليقوى إيمانهم، فيكونوا دُعاة للإسلام وقدوة صالحة، وإذا كان الإنسان ضعيف الإسلام ولكنه ليس من الرؤساء المطاعين بل هو من عامة الناس فهل يعطى من الزكاة ليقوى إيمانه؟
يرى بعض العلماء أنه يعطى لأن مصلحة الدين أعظم من مصلحة البدن، وها هو إذا كان فقيراً يعطى لغذاء بدنه، فغذاء قلبه بالإيمان أشد وأعظم نفعاً، ويرى بعض العلماء أنه لا يعطى لأن المصلحة من قوة إيمانه مصلحة فردية خاصة به.
الخامس: الرِّقاب، ويدخل فيها شراء الرقيق من الزكاة وإعتاقه ومعاونة المكاتبين وفكُّ الأسرى من المسلمين.(3/415)
السادس: الغارمون، وهم المدينون إذا لم يكن لهم ما يمكن أن يوفوا منه ديونهم، فهؤلاء يعطَون ما يوفون به ديونهم قليلة كانت أم كثيرة، وإن كانوا أغنياء من جهة القوت، فإذا قدر أن هناك رجلاً له مورد يكفي لقوته وقوت عائلته، إلا أن عليه ديناً لا يستطيع وفاءه، فإنه يعطى من الزكاة ما يوفي به دينه، ولا يجوز أن يسقط الدين عن مدينه الفقير وينويه من الزكاة.
واختلف العلماء فيما إذا كان المدين والداً أو ولداً، فهل يعطى من الزكاة لوفاء دينه، والصحيح الجواز.
ويجوز لصاحب الزكاة أن يذهب إلى صاحب الحق ويعطيه حقَّه وإن لم يعلم المدين بذلك، إذا كان صاحب الزكاة يعرف أن المدين لا يستطيع الوفاء.
السابع: في سبيل الله، وهو الجهاد في سبيل الله فيعطَى المجاهدون من الزكاة ما يكفيهم لجهادهم، ويشترى من الزكاة آلات للجهاد في سبيل الله.
ومن سبيل الله العلم الشرعي، فيعطى طالب العلم الشرعي ما يتمكن به من طلب العلم من الكُتُب وغيرها، إلا أن يكون له مال يمكنه من تحصيل ذلك به.
الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر الذي انقطع به السفر فيعطى من الزكاة ما يوصله لبلده.
فهؤلاء هم أهل الزكاة الذين ذكرهم الله ـ تعالى ـ في كتابه وأخبر بأن ذلك فريضة منه صادرة عن علم وحكمة والله عليم حكيم.
ولا يجوز صرفها في غيرها كبناء المساجد، وإصلاح الطرق، لأن الله ذكر مستحقيها على سبيل الحصر، والحصر يفيد نفي الحكم عن غير المحصور فيه.
وإذا تأملنا هذه الجهات عرفنا أن منهم مَن يحتاج إلى الزكاة بنفسه ومنهم من يحتاج المسلمون إليه، وبهذا نعرف مدى الحكمة في إيجاب الزكاة، وأن الحكمة منه بناء مجتمع صالح متكامل متكافأ بقدر الإمكان، وأن الإسلام لم يهمل الأموال ولا المصالح التي يمكن أن تبنى على المال، ولم يترك للنفوس الجشعةِ الشحيحةِ الحريةَ في شُحِّها وهواها، بل هو أعظم موجِّهٍ للخير ومصلح للأُمم، والحمد لله رب العالمين.(3/416)
فصول في الصيام و التراويح و الزكاة
في زكاة الفطر
محمد بن صالح العثيمين
الفصل الثامن
في زكاة الفطر
زكاة الفطر فريضة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، عند الفطر من رمضان. قال عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم الفطر من رمضان على العبد والحر والذَكر والأُنثى والصغير والكبير من المسلمين» متفق عليه.
وهي صاع من طعام مما يقتاته الآدميون، قال أبوسعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: «كنا نخرج يوم الفطر في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم صاعاً من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر». رواه البخاري. فلا تجزأ من الدراهم والفرش واللباس وأقوات البهائم والأمتعة وغيرها؛ لأن ذلك خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلّم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». أي مردود عليه. ومقدار الصاع كيلوان وأربعون غراماً من البُر الجيِّد، هذا هو مقدار الصاع النبوي الذي قدر به النبي صلى الله عليه وسلّم الفطرة.
ويجب إخراج الفطرة قبل صلاة العيد والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، وتجزأ قبله بيوم أو يومين فقط، ولا تجزأ بعد صلاة العيد؛ لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلّم: «فرض زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومَن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات». رواه أبوداود وابن ماجه. ولكن لو لم يعلم بالعيد إلا بعد الصلاة أو كان وقت إخراجها في برّ أو بلد ليس فيه مستحق أجزأ إخراجها بعد الصلاة عند تمكنه من إخراجها. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(3/417)
مجموع فتاوى ورسائل - المجلد العشرون
مجالس شهر رمضان
محمد بن صالح العثيمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينهُ، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا. من يهدِه اللهُ فلا مضلَ له، ومن يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلَّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعهم بإِحسانٍ إلى يومِ الدين وسلَّم تسليماً.
أما بعد: فهذه مجالسُ لشهرِ رمضانَ المبارك تستوعبُ كثيراً من أحكامِ الصيامِ والقيامِ والزكاةِ وما يناسبُ المقامَ في هذا الشهر الفاضل، رتبتُها على مجالسَ يوميةٍ أو ليليةٍ انتخبتُ كثيراً من خطبِها من كتاب «قُرّة العيون المبصرة بتلخيص كتاب التبصرة» مع تعديلِ ما يُحتاجُ إلى تعديلِه، وأكثرت فيها من ذكر الأحكام والآداب لحاجة الناس إلى ذلك. وسميته: «مجالس شهر رمضان». وقد سبق أن طبع عدة مرات، ثم بدا لي أن أعلِّق عليه بصفة مختصرة، وتخريج أحاديثه، وإضافة ما رأيته محتاجاً إلى إضافة، وحذف ما رأيته مستغنى عنه، وهو يسير لا يخلّ بمقصود الكتاب، أسأل الله تعالى أن يجعل عملنا خالصاً لله، وأن ينفع به إنه جواد كريم.
مجالس شهر رمضان
المجلس الأول - في فضلْ شهرْ رمضَان
محمد بن صالح العثيمين(3/418)
الحمدُ للهِ الذي أنشأَ وبَرَا، وخلقَ الماءَ والثَّرى، وأبْدَعَ كلَّ شَيْء وذَرَا، لا يَغيب عن بصرِه صغيرُ النَّمْل في الليل إِذَا سَرى، ولا يَعْزُبُ عن علمه مثقالُ ذرةٍ في الأرض ولاَ في السَّماء، {لَهُ مَا فِي السَّمَوَتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الاَْسْمَآءُ الْحُسْنَى } [طه: 6 8]، خَلَقَ آدَمَ فابتلاه ثم اجْتَبَاهُ فتاب عليه وهَدَى، وبَعَثَ نُوحاً فصنَع الفُلْكَ بأمر الله وجَرَى، ونَجَّى الخَليلَ من النَّارِ فصار حَرُّها بَرْداً وسلاماً عليه فاعتَبِرُوا بِمَا جَرَى، وآتَى مُوسى تسعَ آياتٍ فَمَا ادَّكَرَ فِرْعَوْنُ وما ارْعَوَى، وأيَّدَ عيسى بآياتٍ تَبْهَرُ الوَرى، وأنْزلَ الكتابَ على محمد فيه البيَّناتُ والهُدَى، أحْمَدُه على نعمه التي لا تَزَالُ تَتْرَى، وأصلِّي وأسَلِّم على نبيِّه محمدٍ المبْعُوثِ في أُمِ القُرَى، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبِهِ في الْغارِ أبي بكرٍ بلا مِرَا، وعلى عُمَرَ الْمُلْهَمِ في رأيه فهُو بِنُورِ الله يَرَى، وعلى عثمانَ زوجِ ابْنَتَيْهِ ما كان حديثاً يُفْتَرَى، وعلى ابن عمِّهِ عليٍّ بَحْرِ العلومِ وأسَدِ الشَّرى، وعلى بَقيَةِ آله وأصحابِه الذين انتَشَرَ فضلُهُمْ في الوَرَىَ، وسَلَّمَ تسليماً.(3/419)
إخواني: لقد أظَلَّنَا شهرٌ كريم، وموسمٌ عظيم، يُعَظِّمُ اللهُ فيه الأجرَ ويُجْزلُ المواهبَ، ويَفْتَحُ أبوابَ الخيرِ فيه لكلِ راغب، شَهْرُ [1] في فضل شهر رمضانالخَيْراتِ والبركاتِ، شَهْرُ المِنَح والْهِبَات، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185]، شهرٌ مَحْفُوفٌ بالرحمةِ والمغفرة والعتقِ من النارِ، أوَّلُهُ رحمة، وأوْسطُه مغفرةٌ، وآخِرُه عِتق من النار. اشْتَهَرت بفضلِهِ الأخبار، وتَوَاتَرَت فيه الاثار، ففِي الصحِيْحَيْنِ: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إِذَا جَاءَ رمضانُ فُتِّحَت أبوابُ الجنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النار، وصُفِّدتِ الشَّياطينُ». وإنما تُفْتَّحُ أبوابُ الجنة في هذا الشهرِ لِكَثْرَةِ الأعمالِ الصَالِحَةِ وتَرْغِيباً للعَاملِينْ، وتُغَلَّقُ أبوابُ النار لقلَّة المعاصِي من أهل الإِيْمان، وتُصَفَّدُ الشياطينُ فَتُغَلُّ فلا يَخْلُصونُ إلى ما يَخْلُصون إليه في غيرِه.(3/420)
وَرَوَى الإِمامُ أحمدُ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أُعْطِيَتْ أمَّتِي خمسَ خِصَال في رمضانَ لم تُعْطهُنَّ أمَّةٌ من الأمَم قَبْلَها؛ خُلُوف فِم الصائِم أطيبُ عند الله من ريح المسْك، وتستغفرُ لهم الملائكةُ حَتى يُفطروا، ويُزَيِّنُ الله كلَّ يوم جَنتهُ ويقول: يُوْشِك عبادي الصالحون أن يُلْقُواْ عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتُصفَّد فيه مَرَدةُ الشياطين فلا يخلُصون إلى ما كانوا يخلُصون إليه في غيرهِ، ويُغْفَرُ لهم في آخر ليلة، قِيْلَ يا رسول الله أهِيَ ليلةُ القَدْرِ؟ قال: لاَ ولكنَّ العاملَ إِنما يُوَفَّى أجْرَهُ إذا قضى عَمَلَه».
إخواني: هذه الخصالُ الخَمسُ ادّخَرَها الله لكم، وخصَّكم بها مجالس شهر رمضانمِنْ بين سائِر الأمم، وَمنَّ عليكم ليُتمِّمَ بها عليكُمُ النِّعَمَ، وكم لله عليكم منْ نعم وفضائلَ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَبِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَسِقُونَ } [آل عمران: 110].
® الخَصْلَةُ الأولى:(3/421)
أن خُلْوفَ فَمِ الصائِم أطيبُ عند الله مِنْ ريحِ المسك، والخلوف بضم الخاءِ أوْ فَتْحَها تَغَيُّرُ رائحةِ الفَم عندَ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ من الطعام. وهي رائحةٌ مسْتَكْرَهَةٌ عندَ النَّاس لَكِنَّها عندَ اللهِ أطيبُ من رائحَةِ المِسْك لأنَها نَاشِئَةٌ عن عبادة الله وَطَاعَتهِ. وكُلُّ ما نَشَأَ عن عبادته وطاعتهِ فهو محبوبٌ عِنْدَه سُبحانه يُعَوِّضُ عنه صاحِبَه ما هو خيرٌ وأفْضَلُ وأطيبُ. ألا تَرَوْنَ إلى الشهيدِ الذي قُتِلَ في سبيلِ اللهِ يُريد أنْ تكونَ كَلِمةُ اللهِ هي الْعُلْيَا يأتي يوم الْقِيَامَةِ وَجرْحُه يَثْعُبُ دماً لَوْنُهَ لونُ الدَّم وريحُهُ ريحُ المسك؟ وفي الحَجِّ يُبَاهِي اللهُ الملائكة بأهْل المَوْقِفِ فيقولُ سبحانَه: «انْظُرُوا إلى عبادِي هؤلاء جاؤوني شُعْثاً غُبْراً». رواه أحمد وابن حبَّان في صحيحه، وإنما كانَ الشَّعَثُ محبوباً إلى اللهِ في هذا الْمَوْطِنِ لأنه ناشِأُ عَن طاعةِ اللهِ باجتنابِ مَحْظُوراتِ الإِحْرام وترك التَّرَفُّهِ.
® الخَصْلَةُ الثانيةُ:
أن الملائكةَ تستغفرُ لَهُمْ حَتَّى يُفْطروا. وَالملائِكةُ عبادٌ مُكْرمُون عند اللهِ {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحرم: 6]. فهم جَديْرُون بأن يستجيبَ الله دُعاءَهم للصائمينَ حيث أذِنَ لهم به. وإنما أذن الله لهم بالاستغفارِ للصائمين مِنْ هذه الأُمَّةِ تَنْويهاً بشأنِهم، ورفْعَةً لِذِكْرِهِمْ، وَبَياناً لفَضيلةِ صَوْمهم، والاستغفارُ: طلبُ الْمغفِرةِ وهِي سَتْرُ الذنوب في الدُّنْيَا والاخِرَةِ والتجاوزُ عنها. وهي من أعْلىَ المطالبِ وأسْمَى الغَاياتِ فَكلُّ بني آدم خطاؤون مُسْرفونَ على أنفسِهمْ مُضْطَرُّونَ إلَى مغفرة اللهِ عَزَّ وَجَل.
® الخَصْلَةُ الثالثةُ:(3/422)
أن الله يُزَيِّنُ كلَّ يوم جنَّتَهُ ويَقول: «يُوْشِك عبادي الصالحون أن يُلْقُوا عنهُمُ المَؤُونة والأَذَى ويصيروا إليك» فَيُزَيِّن تعالى جنته كلَّ يومٍ تَهْيئَةً لعبادِهِ الصالحين، وترغيباً لهم في الوصولِ إليهَا، ويقولُ سبحانه: «يوْشِك عبادِي الصالحون أنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ المؤونةُ والأَذَى» يعني: مؤونَة الدُّنْيَا وتَعَبها وأذاهَا ويُشَمِّرُوا إلى الأعْمَالِ الصالحةِ الَّتِي فيها سعادتُهم في الدُّنْيَا والاخِرَةِ والوُصُولُ إلى دار السَّلامِ والْكَرَامةِ.
® الخَصْلَةُ الرابعة:
أن مَرَدةَ الشياطين يُصَفَّدُون بالسَّلاسِل والأغْلالِ فلا يَصِلُون إِلى ما يُريدونَ من عبادِ اللهِ الصالِحِين من الإِضلاَلِ عن الحق، والتَّثبِيطِ عن الخَيْر. وهَذَا مِنْ مَعُونةِ الله لهم أنْ حَبَسَ عنهم عَدُوَّهُمْ الَّذِي يَدْعو حزْبَه ليكونوا مِنْ أصحاب السَّعير. ولِذَلِكَ تَجدُ عنْدَ الصالِحِين من الرَّغْبةِ في الخَيْرِ والعُزُوْفِ عَن الشَّرِّ في هذا الشهرِ أكْثَرَ من غيره.
® الخَصْلَةُ الخامسةُ:
أن الله يغفرُ لأمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلّم في آخرِ ليلةٍ منْ هذا الشهر إذا قَاموا بما يَنْبَغِي أن يقومُوا به في هذا الشهر المباركِ من الصيام والقيام تفضُّلاً منه سبحانه بتَوْفَيةِ أجورِهم عند انتهاء أعمالِهم فإِن العاملَ يُوَفَّى أجْرَه عند انتهاءِ عمله.
وَقَدْ تَفَضَّلَ سبحانه على عبادِهِ بهذا الأجْرِ مِنْ وجوهٍ ثلاثة:(3/423)
الوجه الأول: أنَّه شَرَع لهم من الأعْمال الصالحةِ ما يكون سبَبَاً لمغَفرةِ ذنوبهمْ ورفْعَةِ درجاتِهم. وَلَوْلاَ أنَّه شرع ذلك ما كان لَهُمْ أن يَتَعَبَّدُوا للهِ بها. فالعبادةُ لا تُؤخذُ إِلاَّ من وحي الله إلى رُسُلِه. ولِذَلِكَ أنْكَرَ الله على مَنْ يُشَّرِّعُونَ مِنْ دُونِه، وجَعَلَ ذَلِكَ نَوْعاً مِنْ الشَّرْك، فَقَالَ سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الشورى: 21].
الوجه الثاني: أنَّه وَفَّقَهُمْ للعملِ الصالح وقد تَرَكَهُ كثيرٌ من النَّاسِ. وَلَوْلا مَعُونَةُ الله لَهُمْ وتَوْفِيْقُهُ ما قاموا به. فلِلَّهِ الفَضْلُ والمِنَّة بذلك.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاِْيمَنِ إِنُ كُنتُمْ صَدِقِينَ } [الحجرات: 17].
الوجه الثالث: أنَّه تَفَضَّلَ بالأجرِ الكثيرِ؛ الحَسنةُ بعَشْرِ أمثالِها إلى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ. فالْفَضلُ مِنَ الله بِالعَمَلِ والثَّوَابِ عليه. والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
إخْوانِي: بُلُوغُ رمضانَ نِعمةٌ كبيرةٌ عَلَى مَنْ بَلَغهُ وقَامَ بحَقِّه بالرِّجوع إلى ربه من مَعْصِيتهِ إلى طاعتِه، ومِنْ الْغَفْلةِ عنه إلى ذِكْرِهِ، ومِنَ الْبُعْدِ عنهُ إلى الإِنَابةِ إِلَيْهِ:(3/424)
يَا ذَا الَّذِي مَا كفاهُ الذَّنْبُ في رَجبٍحَتَّى عَصَى ربَّهُ في شهر شعبانِلَقَدْ أظَلَّكَ شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَافَلاَ تُصَيِّرْهُ أَيْضاً شَهْرَ عِصْيانِوَاتْل القُرآنَ وَسَبِّحْ فيهِ مجتَهِداًفَإِنه شَهْرُ تسبِيحٍ وقُرْآنِكَمْ كنتَ تعرِف مَّمنْ صَام في سَلَفٍمِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْوَانِأفْنَاهُمُ الموتُ واسْتبْقَاكَ بَعْدهموحَيَّاً فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي اللَّهُمَّ أيْقِظنَا من رَقَدَات الغفلة، ووفْقنا للتَّزودِ من التَّقْوَى قَبْلَ النُّقْلَة، وارزقْنَا اغْتِنَام الأوقاتِ في ذيِ المُهْلَة، واغْفِر لَنَا ولوَالِدِيْنا ولِجَمِيع المسلِمِين برَحْمتِك يا أَرحم الراحِمين. وصلَّى الله وسلَّم على نبيَّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الثاني - في فضلِ الصِّيَام
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله اللطيفِ الرؤوفِ المَنَّانِ، الْغَنِيِّ القويِّ السِّلْطَان، الحَلِيمِ الكَرِيم الرحيم الرحمن، الأوَّلِ فلا شَيْءٍ قبلَه، الاخِرِ فلا شَيْء بعده، الظَاهرِ فلا شَيْء فوْقَه، الباطِن فلا شَيْءً دُونَه، المحيطِ عِلْمَاٍ بما يكونُ وما كان، يُعِزُّ وَيُذِلُ، ويُفْقِرُ ويُغْنِي، ويفعلُ ما يشاء بحكْمتِهِ كلَّ يَوْم هُو في شان، أرسى الأرضَ بالجبالِ في نَوَاحِيها، وأرسَلَ السَّحاب الثِّقالَ بماءٍ يُحْييْها، وقَضَى بالفناءِ على جميع سَاكِنِيها لِيَجزِيَ الذين أساؤوا بِمَا عَمِلوا ويَجْزِي المُحْسنين بالإِحسان.
أحْمَدُه على الصفاتِ الكاملةِ الحِسَان، وأشكرُه على نِعَمِهِ السَّابغةِ وبَالشَّكرِ يزيد العطاء والامْتِنَان، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له المَلِكُ الدَّيَّان، وأشهد أنَّ محمداً عَبْدُهُ ورسولُهُ المبعوثُ إلى الإِنس والجان، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعينَ لهم بإحسان ما توالت الأزمان، وسلَّم تسليماً.(3/425)
إخْوانِي: اعلمُوا أنَّ الصومَ من أفضَلِ العباداتِ وأجلِّ الطاعاتِ جاءَتْ بفضلِهِ الآثار، ونُقِلَتْ فيه بينَ الناسِ الأَخبار.
فَمِنْ فضائِلِ الصومِ أنَّ اللهَ كتبَه على جميعِ الأُمم وَفَرَضَهُ عَلَيْهم.
قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [2] في فضل الصيامكُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183]. ولَوْلاَ أنَّه عبادةٌ عظيمةٌ لاَ غِنَى لِلْخلقِ عن التَّعَبُّد بها للهِ وعما يَتَرَتَّب عليها مِنْ ثوابٍ ما فَرَضَهُ الله عَلَى جميعِ الأُمَمِ.
ومِنْ فضائل الصومِ في رَمضانَ أنَّه سببٌ لمغفرة الذنوبِ وتكفيرِ السيئاتِ، ففي الصحيحينِ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ صَامَ رمضان إيماناً واحْتساباً غُفِرَ لَهُ ما تقدَّم مِن ذنبه» يعني: إيماناً باللهِ ورضاً بفرضيَّةِ الصَّومِ عليهِ واحتساباً لثَوابه وأجرهِ، لم يكنْ كارِهاً لفرضهِ ولا شاكّاً فيَ ثوابه وأجرهِ، فإن الله يغْفِرُ له ما تقدَم من ذنْبِه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الصَّلواتُ الخَمْسُ والجمعةُ إلى الجمعةِ ورمضانُ إلى رمضانَ مُكفِّراتٌ مَا بينهُنَّ إذا اجْتُنِبت الْكَبَائر».(3/426)
ومِنْ فضائِل الصوم أنَّ ثوابَه لا يَتَقَيَّدُ بِعَدَدٍ مُعيَّنٍ بل يُعطَى الصائمُ أجرَه بغير حسابٍ. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «قال الله تعالى: كُلُّ عَمَل ابن آدم لَهُ إلاَّ الصومَ فإِنَّه لي وأنا أجزي بهِ. والصِّيامُ جُنَّةٌ فإِذا كان يومُ صومِ أحدِكم فَلاَ يرفُثْ ولا يصْخَبْ فإِنْ سابَّهُ أَحدٌ أو قَاتله فَليقُلْ إِني صائِمٌ، والَّذِي نَفْسُ محمدٍ بِيَدهِ لخَلُوفُ فمِ الصَّائم أطيبُ عند الله مِن ريح المسك، لِلصائمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهما؛ إِذَا أفْطَرَ فرحَ بِفطْرهِ، وإِذَا لَقِي ربَّه فرُح بصومِهِ».
وَفِي رِوَايِةٍ لمسلم: «كُلُّ عملِ ابنِ آدمَ لَهُ يُضَاعفُ الحَسَنَة بعَشرِ أمثالِها إلى سَبْعِمائِة ضِعْفٍ، قَالَ الله تعالى إِلاَّ الصَومَ فإِنه لِي وأَنَا أجْزي به يَدَعُ شهْوَتَه وطعامه من أجْلِي».
وَهَذَا الحديثُ الجليلُ يدُلُّ على فضيلةِ الصومِ من وجوهٍ عديدةٍ:(3/427)
الوجه الأول: أن الله اختصَّ لنفسه الصوم من بين سائرِ الأعمال، وذلك لِشرفِهِ عنده، ومحبَّتهِ له، وظهور الإِخلاصِ له سبحانه فيه، لأنه سِرُّ بَيْن العبدِ وربَّه لا يطَّلعُ عليه إلاّ الله. فإِن الصائمَ يكون في الموضِعِ الخالي من الناس مُتمكِّناً منْ تناوُلِ ما حرَّم الله عليه بالصيام، فلا يتناولُهُ؛ لأنه يعلم أن له ربّاً يطَّلع عليه في خلوتِه، وقد حرَّم عَلَيْه ذلك، فيترُكُه لله خوفاً من عقابه، ورغبةً في ثوابه، فمن أجل ذلك شكر اللهُ له هذا الإِخلاصَ، واختصَّ صيامَه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ ولهذا قال: «يَدعُ شهوتَه وطعامَه من أجْلي». وتظهرُ فائدةُ هذا الاختصاص يوم القيامَةِ كما قال سَفيانُ بنُ عُييَنة رحمه الله: إِذَا كانَ يومُ القِيَامَةِ يُحاسِبُ الله عبدَهُ ويؤدي ما عَلَيْه مِن المظالمِ مِن سائِر عمله حَتَّى إِذَا لم يبقَ إلاَّ الصومُ يتحملُ اللهُ عنه ما بقي من المظالِم ويُدخله الجنَّةَ بالصوم.
الوجه الثاني: أن الله قال في الصوم: «وأَنَا أجْزي به». فأضافَ الجزاءَ إلى نفسه الكريمةِ؛ لأنَّ الأعمالَ الصالحةَ يضاعفُ أجرها بالْعَدد، الحسنةُ بعَشْرِ أمثالها إلى سَبْعِمائة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرةً، أمَّا الصَّوم فإِنَّ اللهَ أضافَ الجزاءَ عليه إلى نفسه من غير اعتبَار عَددٍ وهُوَ سبحانه أكرَمُ الأكرمين وأجوَدُ الأجودين، والعطيَّةُ بقدر مُعْطيها. فيكُونُ أجرُ الصائمِ عظيماً كثيراً بِلاَ حساب. والصيامُ صبْرٌ على طاعةِ الله، وصبرٌ عن مَحارِم الله، وصَبْرٌ على أقْدَارِ الله المؤلمة مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ وضعفِ البَدَنِ والنَّفْسِ، فَقَدِ اجْتمعتْ فيه أنْواعُ الصبر الثلاثةُ، وَتحقَّقَ أن يكون الصائمُ من الصابِرِين. وقَدْ قَالَ الله تَعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10].(3/428)
الوجه الثالث: أن الصَّومَ جُنَّةٌ: أي وقايةٌ وستْرٌ يَقي الصَّائِمَ من اللَّغوِ والرَّفثِ، ولذلك قال: «فإِذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفُثْ وَلاَ يَصْخبْ»، ويقيه من النَّار. ولذلك روى الإِمام أحمدُ بإسْناد حَسَنٍ عن جابر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «الصيام جُنَّةٌ يَسْتجِنُّ بها العبدُ من النار».
الوجه الرابع: أنَّ خَلوفَ فمِ الصائمِ أطيبُ عند الله مِنْ ريحِ المسْكِ لأنَّها من آثارِ الصيام، فكانت طيِّبةً عندَ الله سبحانه ومحْبُوبةً له. وهذا دليلٌ على عَظِيمِ شأنِ الصيامِ عند الله حَتَّى إنَّ الشيء المكروهَ المُسْتخْبَثَ عند الناس يَكونُ محبوباً عندَ الله وطيباً لكونِهِ نَشَأ عن طاعَتِهِ بالصيام.(3/429)
الوجه الخامس: أن للصائِمِ فرْحَتينْ: فَرحَةً عند فِطْرِهِ، وفَرحةً عنْد لِقاءِ ربَّه. أمَّا فَرحُهُ عند فَطْرهِ فيَفرَحُ بِمَا أنعمَ الله عليه مِنَ القيام بعبادِة الصِّيام الَّذِي هُو من أفضلِ الأعمالِ الصالِحة، وكم أناسٍ حُرِمُوْهُ فلم يَصُوموا. ويَفْرَحُ بما أباحَ الله له مِنَ الطَّعامِ والشَّرَابِ والنِّكَاحِ الَّذِي كان مُحَرَّماً عليه حال الصوم. وأمَّا فَرَحهُ عنْدَ لِقَاءِ ربِّه فَيَفْرَحُ بِصَوْمِهِ حين يَجِدُ جَزاءَه عند الله تعالى مُوفَّراً كاملاً في وقتٍ هو أحوجُ ما يكون إِلَيْهِ حينَ يُقالُ: «أينَ الصائمون ليَدْخلوا الجنَّةَ من بابِ الرَّيَّانِ الَّذِي لاَ يَدْخله أحدٌ غيرُهُمْ». وفي هذا الحديث إرشادٌ للصَّائِمِ إذا سَابَّهُ أحدٌ أو قَاتله أن لا يُقابِلهُ بالمثْلِ لِئَلا يزدادَ السِّبابُ والقِتَالُ وأن لا يَضْعُف أمامه بالسكوت بل يخبره بأنه صائم، إشارة إلى أنه لن يقابله بالمثل احتراماً للصوم لا عجزاً عن الأخذ بالثأر وحيئنذٍ ينقطع السباب والقتال: {ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ } [فصلت: 34، 35].
ومِنْ فَضائِل الصَّومِ أنَّه يَشْفَع لصاحبه يومَ القيامة. فعَنْ عبدالله بن عَمْرو رضي الله عنهما أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلّم قال: «الصِّيامُ والْقُرآنُ يَشْفَعَان للْعبدِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصيامُ: أي ربِّ مَنَعْتُه الطعامَ والشَّهْوَة فشفِّعْنِي فيه، ويقولُ القرآنُ منعتُه النوم بالليلِ فشَفِّعْنِي فيهِ، قَالَ فَيشْفَعَانِ»، رَوَاهُ أَحْمَدُ.
إخْوانِي: فضائلُ الصوم لا تدركُ حَتَّى يَقُومَ الصائم بآدابه. فاجتهدوا في إتقانِ صيامِكم وحفظِ حدوده، وتوبوا إلى ربكم من تقصيركم في ذلك.(3/430)
اللَّهُمَّ احفظْ صيامَنا واجعلْه شافعاً لَنَا، واغِفْر لَنَا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلَّى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
مجالس شهر رمضان
المجلس الثالث - في حُكْمِ صيَامِ رَمضان
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله الَّذي لا مانعَ لما وَهَب، ولا مُعْطيَ لما سَلَب، طاعتُهُ للعامِلِينَ أفْضلُ مُكْتَسب، وتَقْواه للمتقين أعْلَى نسَب، هَيَّأ قلوبَ أوْلِيائِهِ للإِيْمانِ وكَتب، وسهَّلَ لهم في جانبِ طاعته كُلَّ نَصَب، فلمْ يجدوا في سبيل خدمتِهِ أدنى تَعَب، وقَدَّرَ الشقاءَ على الأشقياء حينَ زَاغوا فَوَقَعُوا في العطَب، أعرضُوا عنْهُ وكَفَروا بِهِ فأصْلاهم نَاراً ذاتَ لَهب، أحمدهُ على ما مَنَحَنَا من فضْله وَوَهَب، وأشهَدُ أن لا إِله إلاَّ الله وَحْدهُ لا شريكَ لَهُ هزَمَ الأحْزَابَ وَغَلَب، وأشْهَدُ أن محمداً عبدهُ وَرَسُولهُ الَّذي اصْطَفاه الله وانتَخَبَ، صلَّى الله عَلَيْهِ وعلى صَاحِبه أبي بكر الْفائِقِ في الفَضَائِلِ والرُّتَب، وعلى عُمَرَ الَّذي فرَّ الشيطانُ منهُ وهَرَب، وعَلَى عُثْمان ذي النُّوُريَنِ التَّقيِّ النَّقِّي الْحسَب، وَعَلى عَليٍّ صهره وابن عمه في النَّسب، وعلى بقِيَّةِ أصحابه الذينَ اكْتَسَوا في الدِّيْنِ أعْلَى فَخْرٍ ومُكْتسَب، وعلى التَّابِعين لهم بإحْسَانٍ ما أشرق النجم وغرب، وسلَّم تسليماً.(3/431)
إخواني: إنَّ صيامَ رمضانَ أحَدُ أرْكان الإِسْلام ومَبانيه العظَام قَالَ اللهُ تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [3] في حكم صيام رمضانتَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ(3/432)
الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 183 185].
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «بُنِي الإِسلامُ على خَمْسٍ: شهادةِ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وأنَّ محمداً رسولُ الله، وإقام الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وحَجِّ الْبَيْتِ، وَصومِ رمضانَ»، متفق عليه. ولمسلم: «وصومِ رمضانَ وَحَجِّ البيتِ».
وأجْمَعَ المسلمونَ على فرضيَّةِ صوم رمضان إجْمَاعاً قَطْعياً معلوماً بالضَّرُورةِ منِ دينِ الإِسْلامِ فمَنْ أنكر وجوبَه فقد كفَر فيستتاب فإن تابَ وأقرَّ بِوُجوبِه وإلاَّ قُتِلَ كَافراً مُرتَدَّاً عن الإِسلامِ لا يُغسَّلُ، ولاَ يُكَفَّنُ، ولاَ يُصَلَّى عليه، ولا يُدعَى له بالرَّحْمةِ، ولا يُدْفَنُ في مَقَابِر المسلمين، وإنما يُحْفَر له بعيداً فِي مَكانٍ ويُدفنُ؛ لئلا يُؤْذي الناس بِرائِحَتِهِ، ويتأذى أهْلُه بِمُشَاهَدَته.
فُرضَ صِيامُ رمضانَ في السنةِ الثانيةِ منَ الهجرةِ، فصامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم تِسع سِنين. وكان فرض الصيَّام على مَرْحَلَتَيْن:
المَرْحَلةُ الأوْلَى: التَّخيير بَيْنَ الصيامِ والإِطعامِ مَعَ تفضيلِ الصيامِ عليهِ.(3/433)
المَرْحَلةُ الثانيةُ: تعيينُ الصيامِ بدون تخْييرٍ. ففي الصحيحين عن سَلَمة بن الأكوع رضي الله عنه قال لما نَزَلَتْ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } كان مَنْ أرَاد أن يُفْطِر ويفْتديَ «يعني فَعَل» حتى نَزَلَتْ الآيةُ التي بَعْدَها فَنَسخَتْها يَعْني بها قولهُ تَعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فَأوْجَب الله الصيامَ عَيْناً بِدُونَ تَخْيير.
ولا يجبُ الصومُ حتى يَثْبتَ دخولُ الشَّهْر، فلا يَصومُ قَبْلَ دخولِ الشهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا يَتَقَدمنَّ أحَدُكم رمضانَ بصوم يومٍ أو يومينِ إلاَّ أنْ يكونَ رجلٌ كانَ يصومُ صَوْمَهُ فلْيصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ»، رواه البخاري. ويُحْكَمُ بدخول شهرِ رمضانَ بِواحدٍ من أمْرَينِ:(3/434)
الأولُ: رؤْيةُ هلالِهِ لقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «إِذَا رأيتُمُ الهلالَ فصوموا»، متفق عليه. ولا يُشْتَرطُ أن يراه كلُّ واحدٍ بنفسه بلْ إذا رآهُ مَنْ يَثْبُتُ بشهادتِهِ دخولُ الشَّهْر وجبَ الصومُ على الجَمِيْع.
ويُشْتَرطُ لقبولِ الشَّهَادةِ بالرُّؤْيةِ أن يكونَ الشاهِدُ بَالِغاً عاقلاً مسلماً مَوثُوقاً بخبرهِ لأمانته وَبصرهِ. فأمَّا الصغيرُ فلا يَثْبتُ الشهرُ بشهادتِه لأنه لا يُوْثَق به وأوْلَى منه المجنونُ. والكافرُ لا يَثْبتُ الشهرُ بشهادته أيْضاً لحديث ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: «جاءَ أَعْرابيٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إني رَأيتُ الهلالَ يعني رَمضانَ فقال: أتَشْهَدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله؟ قال: نَعَمْ. قال: أتَشْهَدْ أنَّ محمداً رسولُ الله؟ قال: نَعَمْ. قال: يا بِلالُ أذِّنْ في الناسِ فَلْيصُوموا غَدَاً»، أخرجه السبعة إلاّ أحمد.(3/435)
وَمَنْ لا يُوْثَقُ بخبره بِكونِهِ مَعْروفاً بالكَذبِ أوْ بالتَّسَرُّعِ أوْ كان ضعيفَ البَصرِ بحيثُ لا يُمْكنُ أنْ يراه فلا يَثْبُتُ الشهرُ بشهادتِهِ للشَكِّ في صدقِه أوْ رجَحانِ كَذِبهِ، وَيثْبُتُ دخولُ شهْرِ رمضان خاصَة بشهادةِ رجلٍ واحد لقول ابن عُمر رضي الله عنهما: «تَرَاءَى الناسُ الهلالَ فأخْبرتُ النبي صلى الله عليه وسلّم أنِّي رأيتُهُ فصامَ وأمَرَ الناسَ بصيامِهِ»، رواه أبُو داودَ والحاكمُ وقال: على شرطِ مسلمٍ. ومَنْ رَآهُ مُتَيَقِّناً رُؤْيَته وجَبَ عليه إخبارُ وُلاَةِ الأمُورِ بذلك، وكَذلِكَ من رأى هلالَ شَوَّالٍ وذِي الحِجَّة لأنَّه يَتَرَتَّبُ على ذلك واجبُ الصومِ والفطر والحج ـ وما لا يتم الواجبُ إلاَّ به فهو واجب ـ وإن رآه وحدَه في مكانٍ بعيدٍ لا يمكنه إخبارُ ولاةِ الأمورِ فإنه يصوُم ويَسْعَى في إيصالِ الخبرِ إلى ولاةِ الأمورِ بقَدْرِ ما يَستطيعُ.
وإذا أُعلنَ ثبوتُ الشهرِ من قِبَلِ الحكومةِ بالرَّاديو أو غيرهِ وجَبَ العملُ بذلك في دخولِ الشَّهْرِ وخروجه في رمضانَ أوْ غيرهِ؛ لأنَّ إعلانَه مِن قِبَل الحكومةِ حُجَّةٌ شرعيَّةٌ يجبُ العملُ بها. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بلالاً أنْ يؤذِّنَ في الناسِ مُعلناً ثبوتَ الشهرِ ليصُوموا حينَ ثَبَتَ عنده صلى الله عليه وسلّم دخولُهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ الإِعْلامَ مُلزِماً لهم بالصيامِ.
وإذا ثَبتَ دخولُ الشهر ثبوتاً شرْعيَّاً فَلاَ عِبْرةَ بمنازل القمر؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم علَّقَ الحكْم برؤيةِ الهلالِ لا بمنَازلِهِ، فقالَ صلى الله عليه وسلّم: «إِذَا رَأيتُمُ الهلالَ فصُوموا وإِذَا رَأَيْتُمُوه فأفْطِروا»، متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلّم: «إن شَهِدَ شاهدان مُسْلمانِ فصومُوا وأفْطُروا»، رواه أحمد.(3/436)
الأمر الثاني: مما يُحْكَمُ فيهِ بِدُخولِ الشَّهرِ إكْمالُ الشهرِ السابقِ قَبْله ثلاثينَ يَوْماً لأن الشَّهر الْقمريَّ لايمكن أن يزيدَ على ثلاثينَ يوماً ولا ينقصَ عن تسعةٍ وعشرينَ يوماً ورُبَّما يَتَوالَى شهْرَان أو ثلاثة إلى أربعة ثلاثين يوماً أو شهران أو ثلاثة إلى أربعة تسعة وعشرين يوماً، لَكن الغالِب شَهرٌ أو شهرانِ كامِلةٌ والثالثُ ناقصٌ. فَمَتَى تمَّ الشَّهْرُ السابقُ ثلاثينَ يوماً حُكمَ شرعاً بدخولِ الشهرِ الَّذِي يَلْيِهِ وإن لمْ يُرَ الهلالُ لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «صُوموا لِرؤيتِهِ وأفْطروا لرؤيته فإن غُمِّي عليكُمْ الشهر فعدوا ثلاثين»، رواهُ مسلم، ورواه البخاري بلفْظِ: «فإن غُبَّي عليكم فأكْمِلوا عدَّة شعبانَ ثَلاثينَ». وفي صحيح ابن خُزيمة من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يَتحفَّظُ من شعبانَ ما لا يَتَحَفَّظ من غيرهِ ثم يصوم لرؤيةِ رمضان فإنْ غُمَّ عليه عَدَّ ثلاثين يوماً ثم صام»، وأخرجه أيضاً أبو دَاود والدَّارقطنيُّ وصحَّحهُ.
وبهذه الأحاديث تبيَّن أنَّه لا يصامُ رمضانُ قبل رُؤْيَةِ هلالهِ. فإن لمْ يُرَ الهلالُ أُكْمِلَ شعبانُ ثلاثين يوماً. ولاَ يُصام يومُ الثلاثينَ منه سواءٌ كانتِ الليلةُ صحواً أم غيماً لقول عمار بن ياسرٍ رضي الله عنه: «مَنْ صَامَ اليومَ الَّذي يشكُّ فيه فقد عصى أبا القاسمِ صلى الله عليه وسلّم»، رواهُ أبو داود والترمذيُّ والنسائيُّ وذكره البخاريُّ تَعْلِيقاً.
اللَّهُمَّ وفِّقْنا لاتِّبَاعِ الهُدى، وجنِّبنَا أسْبَاب الهلاكِ والشَّقاء، واجعل شَهرنَا هَذَا لَنَا شهرَ خيرٍ وبركةٍ، وأعِنَّا فيهِ على طاعتك، وجنِّبْنا طرقَ معصِيتك، واغْفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتِك يا أرْحَمَ الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابِه والتابعينَ لهم بإِحسانٍ إلى يومِ الدِّين.
مجالس شهر رمضان(3/437)
المجلس الرابع - في حكم قِيَام رمَضان
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله الَّذِي أعانَ بفضلِهِ الأقدامَ السَّالِكة، وأنقذ برحمته النُّفوسَ الهالِكة، ويسَّر منْ شاء لليسرى فرغِبَ في الآخِرة، أحمدُه على الأمور اللَّذيذةِ والشَّائكة، وأشهد أن لا إِله إلاَّ الله وَحدَهُ لا شريكَ له ذو الْعزَّةِ والْقهرِ فكلُّ النفوسِ له ذليلةُ عانِيَة، وأشهد أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه القائمُ بأمر ربِّه سِراً وعلاَنِية، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكْرٍ الَّذِي تُحَرِّضُ عَلَيْه الْفرقَة الآفِكة، وعَلَى عُمَرَ الَّذِي كانَتْ نَفْسُه لنفسه مالِكَة، وعَلَى عُثمانَ مُنْفِقِ الأمْوال المتكاثرة، وعَلَى عَليِّ مُفرِّقِ الأبطالِ في الجُموع المُتكاثفَة، وَعَلَى بَقيَّةِ الصَّحابة والتابعين لهم بإحسانٍ ما قَرعتِ الأقدام السالِكَة، وسلَّم تسليماً.
إخواني: لَقَدْ شَرَع اللهُ لعبادِهِ العباداتِ ونوَّعها لهم ليأخُذوا مِنْ كل نوع منها بنَصيب، ولِئَلاَّ يَملوا من النَّوْع الواحدِ فَيْتركُوا العملَ فيشقَى الواحِدُ منهم ويخيب، وَجَعَلَ منها فَرَائض لا يجوزُ النَّقصُ فيها ولا الإِخْلاَل. ومنها نَوَافل يحْصُلُ بها زيادةُ التقربِ إلى اللهِ والإِكمَال.(3/438)
فمِنْ ذَلِكَ الصلاةُ فَرضَ الله منها على عبادِهِ خمسَ صلواتٍ في اليومِ واللَّيْلَةِ خَمْساً في الْفِعلِ وخمسينَ في الميزانِ، وندَبَ الله إلى [4] في حكم قيام رمضانزيادةِ التَّطوع من الصلوات تكميلاً لهذَه الفرائِض، وزيادةَ في القُربى إليه فمِنْ هذه النوافل الرواتبُ التابعةُ للصَّلواتِ المفروضةِ: ركعتَان قبلَ صلاةِ الفجر، وأربعُ ركعاتٍ قبلَ الظهر، وَرَكْعتان بعْدَها، ورَكعتَان بعد المغْرب، وركعَتانِ بَعْد الْعشَاءِ. ومنها صلاةُ الليل التي امْتدَحَ الله في كتابِهِ القَائمينَ بها فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَماً } [الفرقان: 46]، وقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [السجدة: 16، 17]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أفضل الصلاةِ بَعْد الفريضةِ صلاةُ الليل»، رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلّم: «أيُّها الناس أفْشوا السلامَ وأطعِمُوا الطعامَ وصِلوا الأرْحَامَ وصَلُّوا باللَّيل والناسُ نيامٌ تَدخُلُوا الجنّةَ بِسَلام»، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح وصححه الحاكم.(3/439)
ومن صلاة اللَّيل الوترُ أقلُّه ركعةٌ وأكثرهُ إحدَى عشرةَ ركعةً. فيُوتِرُ بركعةٍ مفردة لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «منْ أحبَّ أنْ يُوتِر بواحدةٍ فَلْيفعلْ»، رواه أبو داود والنسائي. ويُوْتِر بثلاث لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ أحبَّ أن يوتر بثلاثٍ فلْيَفْعَل»، رواه أبو داود والنسائي. فإنْ أحب سَرَدَها بسلامٍ واحدٍ لما روى الطحاويُّ أنَّ عُمر بنَ الخطاب رضي الله عنه أوتر بثلاثِ ركعاتٍ لم يسلِّم إلاَّ في آخرهِنَّ. وإنْ أحبَّ صلَّى ركعتين وسلَّم ثم صلَّى الثالثة لِمَا روى البخاريُّ عن عبدالله بن عُمَر رضي الله عنهما أنَّه كان يسلَّمُ بين الرَّكعتين والرَّكعةِ في الوترِ حتى كان يأمرُ ببعض حاجته. ويوتر بخَمْس فيسْردُها جميعاً لا يجْلسُ ولا يَسلِّمُ إلاّ في آخِرِهنَّ. لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أحبَّ أن يوتر بخمْسٍ فليفْعل»، رواه أبو داود والنسائي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلّم يُصلِّي من الليلِ ثلاثَ عَشْرَة ركعةً يوترُ مِنْ ذَلِكَ بخمسٍ لا يَجْلسُ في شَيْءٍ منهن إلا في آخِرهِنّ»، متفق عليه. ويوتر بسبع فيسْرِدُها كالخمْس لقول أمِّ سلمةَ رضي الله عنها: «كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يوتر بسبعٍ وبخمسٍ لا يَفْصلُ بينهن بسلامٍ ولا كلامٍ»، رواه أحمد والنسائي وابن ماجة.(3/440)
ويوتر بتسع فيسردُها لا يجلس إلاَّ في الثَّامنَةِ، فيقرَأ التشهد ويدعُو ثم يقومُ ولا يسلَّمُ فيصلِّي التاسعةَ ويتشهد ويدعو ويسلِّم لحديث عائشةَ رضي الله عنها في وِتْر رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالَتْ: «كان يصلِّي تسْعَ رَكَعَاتٍ لا يجلسُ فيها إلا في الثَّامِنَةِ فيذكرُ الله ويحمدَهُ ويدْعُوه ثم يَنْهضُ ولا يُسلِّم ثم يَقُومُ فيصلَّي التاسعة ثم يقعُدُ فيذكرُ الله ويحمدُهُ ويدْعُوه ثم يسلِّم تسليماً يسمعُنا» الحديث، رواه أحمد ومسلم. ويصلِّي إحْدى عشْرة ركعةً. فإن أحَبَّ سلَّم من كل ركعتين وأوْتَرَ بواحدةٍ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُصلِّي ما بينَ أنْ يفْرَغَ من صلاةِ العشاءِ إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلِّم بين كل ركعتين ويُوْتر بواحدةٍ» الحديث رواه الجماعةُ إلاّ الترمذيَّ. وإن أحبَّ صلَّى أربعاً ثم أرْبعاً ثم ثلاثاً لحديث عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُصلِّي أربعاً فلا تسْألْ عن حُسْنِهنَّ وطولهنَّ ثم يصلِّي أربعاً(1) فلا تسألْ عن حُسْنِهنَّ وطولهنَّ ثم يصلِّي ثلاثاً»، متفق عليه.
وسَرْدُ الخمسِ والسبع والتسعِ إنما يكونُ إذا صلَّى وحده أو بجماعة محصورين اختاروا ذلك. أما المساجدُ العامة فالأولى للإِمام أن يسلِّم في كل ركعتين لِئلاَّ يشقَّ على الناس ويربِكَ نياتهم، ولأنَّ ذَلِكَ أيسُر لهم. وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أيُّكم أَمَّ النَّاسَ فليوجِزْ فإِنَّ مِنْ ورائه الكبيرَ والضعيفَ وذا الحاجة»، وفي لفظٍ: «فإذا صلَّى وَحْدَه فليصلِّ كيف يَشاء»، ولأنَّه لم يُنْقَلُ أن النبي صلى الله عليه وسلّم أوتر بأصحابه بهذه الكَيفيَّة وإنَّما كان يَفْعَلُ ذلك في صلاتِهِ وحده.(3/441)
وصلاةُ الليل في رمضانَ لها فضيلةٌ ومزيَّةٌ على غيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ قَام رمضانَ إِيْماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِهِ»، متفق عليه. ومعنى قوله: «إِيْماناً» أي: إيماناً بالله وبما أعدَّه من الثوابِ للقائِمينَ، ومعنى قوله: «احتساباً» أي: طلباً لثَوابِ الله لم يَحْمِله على ذلك رياءٌ ولاَ سمعة ولا طلبُ مالٍ ولاَ جاهٍ. وقيام رمضان شاملٌ للصَّلاةِ في أولِ اللَّيل وآخرِهِ. وعلى هَذَا فالتَّراويحُ منْ قِيام رمضانَ: فينْبغِي الحرْصُ عليها والاعتناءُ بها واحتسابُ الأجْرِ والثوابِ مِنَ اللهِ عَلَيْهَا. وما هِيَ إلاَّ لَيالٍ مَعْدودةٌ ينْتهزُها المؤمنُ العاقلُ قبل فوَاتِها. وإنما سُمِّيَتْ تراويحَ لأن الناسَ كانُوا يُطِيلونَها جدَّاً فكلما صَلَّوا أربَعَ رَكْعَاتٍ استراحُوا قليلاً.(3/442)
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلّم أوَّل من سَنَّ الْجَمَاعَةَ في صلاةِ التَّراويحِ في الَمسْجِدِ، ثم تركها خوفاً من أنْ تُفْرضَ على أمَّتِهِ، ففي الصحيحين عَنْ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم صلَّى في المسجدِ ذات لْيلةٍ وصلَّى بصلاتِهِ ناسٌ ثُمَّ صلَّى من الْقَابلةِ وكثر الناسُ ثم اجْتمعوا من اللَّيْلة الثالثةِ أو الرابعةِ فلَمْ يخرجْ إِلَيْهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فَلَمَّا أصبَحَ قال: «قد رأيتُ الَّذِي صَنَعْتُم فلم يَمْنعني من الخُروجِ إليكم إلاَّ إِنِي خَشيتُ أنْ تُفْرضَ عَلَيْكُمْ. قال: وَذَلِكَ فِي رمضانَ». وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال: «صُمْنا مع النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فلَمْ يقُمْ بنا حتى بَقِي سَبْعٌ من الشَّهْرِ، فقامِ بِنَا حتى ذَهبَ ثُلُثُ اللَّيْل، ثُمَّ لم يقم بنا في السادسة، ثم قام بنا في الخامسة حتى ذهب شَطْرُ الليلِ أي نصفُه فقلنا: يا رسولَ الله لو نَفَّلتَنا بَقيَّة ليلتنا هذه فقال صلى الله عليه وسلّم: إنَّه مَنْ قام مع الإِمامِ حَتَّى ينْصرفَ كُتِبَ له قيامُ ليلةٍ» الحديث، رواه أهْل السنن بسندٍ صحيحٍ.(3/443)
واختَلَفَ السَّلفُ الصَّالحُ في عدد الركعاتِ في صلاةِ التَّراويحِ والْوترِ مَعَهَا. فقيل: إحْدَى وأربعون ركعةً وقيل: تسعٌ وثلاثونَ وقيل: تسعٌ وعشرونَ وقيل: ثلاثٌ وعشرون وقيل: تسعَ عشرةَ وقيل: ثلاثَ عشرةَ وقيل: إحدى عشرةَ وقيل: غير ذلك. وأرجح هذه الأقوال أنها إحدى عشرةَ أو ثلاثَ عشرةَ لما في الصحيحين عن عائشةَ رضي الله عنها أنهَا سُئِلَتْ كيفَ كانتْ صلاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في رمضان؟ فقالت: «ما كانَ يزيدُ في رمضانَ ولا غيرِه على إحْدى عَشرةَ رِكعةً»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانتْ صلاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثَلاَثَ عشْرةَ ركعةً يعني مِنَ اللَّيْل»، رواه البخاري. وفي المُوطَّأ عن السَّائِب بن يزيدَ رضيَ الله عنه قال: «أمرَ عُمَر بنُ الخطابِ رضي الله عنه أُبيِّ بنَ كَعْب وتميماً الداريَّ أنْ يقُومَا للنَّاس بإحْدى عَشرةَ ركعةً»، وكان السلفُ الصَّالحُ يطيلونَهَا جِداً، ففي حديث السائب بن يزيدَ رضي الله عنه قال: «كان القارأ يقرأ بالمئين يعني بمئات الآيَاتِ حَتَّى كُنَّا نَعْتمدُ على الْعصِيِّ منْ طولِ القيامِ، وهذا خلافُ ما كان عليه كثيرٌ من النَّاس الْيَوْمَ حيثُ يُصَلُّون التراويحَ بسُرعةٍ عظيمةٍ لا يَأتُون فيها بواجِبِ الهدُوءِ والطّمأنينةِ الَّتِي هي ركنٌ منْ أركانِ الصلاةِ لا تصحُّ الصلاةُ بدونِهَا فيخلُّون بهذا الركن ويُتْعِبونَ مَنْ خَلْفَهُم من الضُّعفاءِ والمَرْضَى وكبارِ السَنِّ فيَجْنُونَ عَلَى أنفُسهمْ ويجْنونَ على غيرهم، وقد ذَكَرَ العلماءُ رحِمَهُم الله أنَّهُ يُكْرَه للإِمام أنْ يُسرعَ سرعةً تَمنعُ المأمُومينَ فعلَ ما يُسنُّ، فكيف بسُرعةٍ تمْنَعهُمْ فعْلَ مَا يجبُ، نسألُ الله السَّلامةَ.(3/444)
ولا ينبغي للرَّجل أنْ يتخلَّفَ عن صلاةِ التَّراويِح، لينالَ ثوابها وأجْرَها، ولا ينْصرفْ حتى ينتهي الإِمامُ منها ومِن الوترِ ليحصل له أجْرُ قيام الليل كلَّه. ويجوز للنِّساءِ حُضورُ التراويحِ في المساجدِ إذا أمنتِ الفتنةُ منهنَّ وبهنَّ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «لا تَمْنعوا إماءَ الله مساجدَ الله». ولأنَّ هذا مِنْ عملِ السَّلفِ الصالحِ رضي الله عنهم، لكِنْ يجبُ أنْ تأتي متسترةً متحجبةً غَيرَ متبرجةٍ ولا متطَيبةٍ ولا رافعةٍ صوتاً ولا مُبديةٍ زينةً لِقولِهِ تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ(3/445)
النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور: 31] أي: لكِنْ ما ظهرَ منْها فلا يمكن إخفاؤه وهيَ الجلبَابُ والعبَاءَةُ ونحْوهُما ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لما أمر النِّساءَ بالخروج إلى الصلاة يومَ العِيد قالت أمُّ عطية: يا رسولَ اللهِ إحدانا لا يكونُ لها جِلَبابٌ قال: «لتُلبِسها أُختُها من جلبابها»، متفق عليه.(3/446)
والسنة للنساء أن يتأخرن عن الرجالَ ويبعِدْن عنْهم ويبدأنَ بالصَّف المُؤخَّر بالمُؤخَّر عكس الرجال لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «خير صفوف الرجَالِ أوَّلُهَا وشرُّها آخِرُها وخير صفوفِ النساءِ آخِرُها وشُّرها أوَّلُها»، رواه مسلم. ويَنْصرفنَ من المسجدِ فورَ تَسليمِ الإِمامِ، ولا يتأخَّرنَ إلاَّ لِعذرٍ لحديثِ أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالتْ: «كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا سلَّم قامَ النِّساءُ حِينَ يقضِي تسليمَه وهو يمكُثُ في مَقامِهِ يَسْيراً قبل أنْ يقومَ»، قالتْ: نرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال. رواه البخاري.
اللَّهُمَّ وفقْنا لِمَا وَفَّقتَ القومَ واغْفِر لَنَا ولِوَالديْنا ولجميع المسلمينَ برحمتِكَ يا أرحم الرَّاحمين وصلَّى الله وسلَّم على نبينَا محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الخامس - في فضْل تلاَوة القرآن وأنواعهَا
محمد بن صالح العثيمين
الحَمْدُ لله الدَّاعي إلى بابه، الموفِّق من شاء لصوابِهِ، أنعم بإنزالِ كتابِه، يَشتملُ على مُحكم ومتشابه، فأما الَّذَينَ في قُلُوبهم زَيْغٌ فيتبعونَ ما تَشَابَه منه، وأمَّا الراسخون في العلم فيقولون آمنا به، أحمده على الهدى وتَيسيرِ أسبابِه، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له شهادةً أرْجو بها النجاةَ مِنْ عقابِه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أكمَلُ النَّاس عَملاً في ذهابه وإيابه، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ أفْضل أصحَابه، وعَلَى عُمر الَّذِي أعَزَّ الله بِهِ الدِّيْنَ واسْتَقَامَتِ الدُّنْيَا بِهِ، وَعَلَى عثمانَ شهيدِ دارِهِ ومِحْرَابِه، وعَلى عليٍّ المشهورِ بحَلِّ المُشْكِلِ من العلوم وكَشْفِ نِقابه، وَعَلَى آلِهِ وأصحابه ومنْ كان أوْلَى بِهِ، وسلَّمَ تسليماً.(3/447)
إخواني: قالَ الله تَعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَبَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَرَةً لَّن تَبُورَ الصَّلَوةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَرَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر: 29، 30].
تِلاوةُ كتَابِ اللهِ عَلَى نوعين: تلاوةٌ حكميَّةٌ وهي تَصْدِيقُ أخبارِه وتَنْفيذُ أحْكَامِهِ بِفِعْلِ أوامِرِهِ واجتناب نواهيه. وسيأتي الكلام عليها [5] في فضل تلاوة القرآن وأنواعهافي مجلس آخر إن شاء الله.
والنوعُ الثاني: تلاوة لفظَّيةٌ، وهي قراءتُه. وقد جاءت النصوصُ الكثيرة في فضْلِها إما في جميع القرآنِ وإمَّا في سُورٍ أوْ آياتٍ مُعَينَةٍ منه، ففِي صحيح البخاريِّ عن عثمانَ بن عفانَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «خَيرُكُم مَنْ تعَلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَه»، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الماهرُ بالقرآن مع السَّفرةِ الكرامِ البررة، والذي يقرأ القرآنَ ويتتعتعُ فيه وهو عليه شاقٌّ له أجرانِ». والأجرانِ أحدُهُما على التلاوةِ والثَّاني على مَشقَّتِها على القارأ.(3/448)
وفي الصحيحين أيضاً عن أبي موسى الأشْعَريِّ رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم قالَ: «مثلُ المؤمنِ الَّذِي يقرأ القرآنَ مَثَلُ الأتْرُجَّةِ ريحُها طيبٌ وطعمُها طيّبٌ، ومثَلُ المؤمِن الَّذِي لاَ يقرَأ القرآنَ كمثلِ التمرة لا ريحَ لها وطعمُها حلوٌ»، وفي صحيح مسلم عن أبي أمَامةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «اقْرَؤوا القُرآنَ فإنه يأتي يومَ القيامةِ شفيعاً لأصحابهِ». وفي صحيح مسلم أيضاً عن عقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «أفلا يغْدو أحَدُكمْ إلى المسجدِ فَيَتعلَّم أو فيقْرَأ آيتينِ منْ كتاب الله عزَّ وجَلَّ خَيرٌ لَهُ مِنْ ناقتين، وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاثٍ، وأربعٌ خير له مِنْ أربَع ومنْ أعْدادهنَّ من الإِبِلِ».
وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قَالَ: «ما اجْتمَعَ قومٌ في بيتٍ مِنْ بُيوتِ اللهِ يَتْلُونَ كتابَ الله ويَتدارسونَهُ بَيْنَهُم إلاَّ نَزَلَتْ عليهمُ السكِينةُ وغَشِيْتهُمُ الرحمةُ وحفَّتهمُ الملائكةُ وَذَكَرَهُمْ الله فيِمَنْ عنده». وقال صلى الله عليه وسلّم: «تعاهَدُوا القرآنَ فوالذي نَفْسِي بيده لَهُو أشدُّ تَفلُّتاً من الإِبلِ في عُقُلِها»، متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلّم: «لا يقُلْ أحْدُكم نِسيَتُ آية كَيْتَ وكيْتَ بل هو نُسِّيَ»، رواه مسلم. وذلك أنَّ قولَه نَسيتُ قَدْ يُشْعِرُ بعدمِ المُبَالاةِ بِمَا حَفظَ من القُرْآنِ حتى نَسيَه.
وعن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «من قَرأ حرفاً من كتاب الله فَلَهُ به حَسَنَةٌ، والحسنَةُ بعشْر أمْثالها، لا أقُول الم حرفٌ ولكن ألفٌ حرفٌ ولاَمٌ حرفٌ وميمٌ حرفٌ»، رواه الترمذي.(3/449)
وعنه رضي الله عنه أيضاً أنَّه قالَ: «إنَّ هذا القرآنَ مأدُبةُ اللهِ فاقبلوا مأدُبَتَه ما استطعتمُ، إنَّ هذا القرآن حبلُ اللهِ المتينُ والنورُ المبينُ، والشفاءُ النافعُ، عصمة لِمَنْ تمسَّكَ بِهِ ونجاةٌ لِمَنْ اتَّبعَهُ، لا يزيغُ فَيُستَعْتَب، ولا يعوَجُّ فيقوَّمُ، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَقُ من كثرةِ التَّرْدَادَ، اتلُوه فإنَّ الله يَأجُرُكُم على تلاوتِهِ كلَّ حرفٍ عشْرَ حسناتٍ. أمَا إني لا أقولُ الم حرفٌ ولكِنْ ألِفٌ حرفٌ ولاَمٌ حرفٌ وميم حرفٌ» رواه الحاكِم.
إخواني: هذه فضائِل قِراءةِ القُرآنِ، وهذا أجْرُه لمن احتسب الأجرَ مِنَ الله والرِّضوان، أجورٌ كبيرةٌ لأعمالٍ يسيرةٍ، فالمَغْبونُ منْ فرَّط فيه، والخاسرُ مَنْ فاتَه الرِبْحُ حين لا يمكنُ تَلافِيه، وهذه الفضائلُ شاملةٌ لجميع القرآنِ. وَقَدْ وردت السُّنَّةُ بفضائل سُورٍ معينةٍ مخصصةٍ فمن تلك السور سورةُ الفاتحة. ففي صحيح البخاري عن أبي سَعيدِ بن المُعلَّى رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال له: «لأعُلِّمنَّك أعْظَم سورةٍ في القرآن {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ } هي السَّبعُ المَثَانِي والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيْتُه»، ومن أجل فضيلتِها كانت قراءتُها ركْناً في الصلاةِ لا تصحُّ الصلاةُ إلاَّ بها، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحةِ الكتاب»، متفق عليه. وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ صلَّى صلاةً لمْ يقرأ فيها بفاتحةِ الكتاب فهي خِدَاجٌ يقولها ثلاثاً»، فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراءَ الإِمام فقال اقْرأَ بِها في نَفْسكَ. الحديث، رواه مسلم.(3/450)
ومن السور المعيَّنَة سورةُ البقرة وآل عمران قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «اقرؤوا الزهراوين البقرةُ وآل عمران فإنهما يأتيان يومَ القيامةِ كأنَّهُمَا غَمامتان أو غَيَايتان أو كأنهما فِرْقَانِ مِنْ طيرٍ صوافَّ تُحاجَّانِ عن أصحابهما اقرؤوا سُورَة البقرةِ فإنَّ أخْذَها بَرَكةٌ وتَرْكَها حسرةٌ لا يستطيعها البَطَلَةُ» يعني السحرة، رواه مسلم. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ البيتَ الَّذِي تُقرأُ فيه سورة البقرةِ لا يَدْخله الشَّيطانُ»، رواه مسلم. وَذَلِكَ لأنَّ فيها آية الكرسيِّ. وقد صحَّ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلّم أن من قرأها في لَيْلَةٍ لم يَزَلْ عليه مِنَ الله حافظٌ ولا يَقربُه شيطانٌ حتى يُصْبحَ.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ جبْريلَ قالَ وهُو عِنْدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: هذا بابٌ قد فُتِحَ من السَّماءِ ما فُتحَ قَطُّ، قال: فنزلَ منْه مَلكٌ فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فقال: «أبْشرْ بنورَيْن قد أوتيتهما لم يؤتهُمَا نبيُّ قَبْلَك فاتِحةُ الكتابِ وخواتيمُ سورةِ البقرةِ لن تقْرَأ بحرفٍ منهما إلاَّ أوتِيتَهُ»، رواه مسلم.(3/451)
ومن السُّورِ المعينةِ في الفضيلةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإِخلاص: 1] ففي صحيح البخاري عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قالَ فيها: «والَّذِي نفْسي بيده إنَّها تعدلُ ثُلُثَ القرآنِ»، وليس معنى كونِها تعدلُه في الفضيلةِ أنَّها تُجْزِأ عنه. لذَلِكَ لو قَرَأهَا في الصلاةِ ثلاثَ مراتٍ لم تُجْزئه عن الفاتحةِ. ولا يَلْزَم من كونِ الشيءِ معادلاً لغيرهِ في الفضيلةِ أنْ يُجزأ عنه، ففي الصحيحين عن أبي أيُّوبَ الأنصارِي رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ قالَ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له الُملْكُ وله الحمدُ عَشْرَ مرَّاتٍ كان كمَن أعتقَ أربعةَ أنفُسٍ من ولدِ إسْماعيلَ» ومع ذلك فلو كان عليه أربعُ رقاب كفارة فقال هذا الذكر لم يجزئه عن هذه الرقاب وإن كان يعادلها في الفضيلة.
ومن السُّور المعيَّنةِ في الفضيلةِ سُورتَا المُعوِّذَتَين {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ الْفَلَقِ } و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }، فعن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ألمْ تَر آيَاتٍ أُنْزِلَت الليلةَ لمْ يُرَ مثْلُهُنَّ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }»، رواه مسلم. وللنَّسائي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أمرَ عُقبَةَ أنْ يقرأ بهما ثم قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما سَأَلَ سائِل بمثلهما ولا اسْتَعَاذَ مُسْتِعيذٌ بمثلهما».(3/452)
فاجْتهدوا إخواني في كثرةِ قراءةِ القرآنِ المباركِ لا سيَّما في هذا الشهرِ الَّذِي أنْزل فيه فإنَّ لكثْرة القراءةِ فيه مزيَّةً خاصةً. كان جبريلُ يُعارضُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم القُرْآنَ في رمضانَ كلَّ سنةٍ مرّةً. فَلَمَّا كان العامُ الَّذي تُوُفِّي فيه عارضَه مرَّتين تأكيداً وتثبيتاً. وكان السَّلفُ الصالحُ رضي الله عنهم يُكثِرون من تلاوةِ القرآنِ في رمضانَ في الصلاةِ وغيرها. كان الزُّهْرِيُّ رحمه الله إذا دخلَ رمضانُ يقول إنما هو تلاوةُ القرآنِ وإطْعَامُ الطَّعامِ. وكان مالكٌ رحمه الله إذا دخلَ رمضانُ تركَ قراءةَ الحديثِ وَمَجَالسَ العلمِ وأقبَل على قراءةِ القرآنِ من المصْحف. وكان قتادةُ رحمه الله يخْتِم القرآنَ في كلِّ سبعِ ليالٍ دائماً وفي رمضانَ في كلِّ ثلاثٍ وفي العشْرِ الأخير منه في كلِّ ليلةٍ. وكان إبراهيمُ النَخعِيُّ رحمه الله يختم القرآن في رمضان في كلِّ ثلاثِ ليالٍ وفي العشر الأواخِرِ في كلِّ ليلتينِ. وكان الأسْودُ رحمه الله يقرأ القرآنَ كلَّه في ليلتين في جميع الشَّهر.
فاقْتدُوا رحمَكُمُ الله بهؤلاء الأخْيار، واتَّبعوا طريقهم تلحقوا بالْبرَرَةِ الأطهار، واغْتَنموا ساعات اللَّيلِ والنهار، بما يُقرِّبُكمْ إلى العزيز الغَفَّار، فإنَّ الأعمارَ تُطوى سريعاً، والأوقاتَ تمْضِي جميعاً وكأنها ساعة من نَهار.
اللَّهُمَّ ارزقْنا تلاوةَ كتابِكَ على الوجهِ الَّذِي يرْضيك عنَّا. واهدِنا به سُبُلَ السلام. وأخْرِجنَا بِه من الظُّلُماتِ إلى النُّور. واجعلْه حُجَّةً لَنَا لا علينا يا ربَّ العالَمِين.
اللَّهُمَّ ارْفَعْ لَنَا به الدَّرجات. وأنْقِذْنَا به من الدَّرَكات. وكفِّرْ عنَّا به السيئات. واغْفِر لَنَا وَلِوَالِديِنَا ولجميعِ المسلمينَ برحمتكَ يا أرْحَمَ الراحمين. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين.
مجالس شهر رمضان(3/453)
المجلس السّادس - في أقسام النَّاس في الصيَام
محمد بن صالح العثيمين
الحمد للهِ الَّذِي أتقَنَ بحكمتِهِ مَا فَطرَ وبنَى، وشرعَ الشرائعَ رحمةً وحِكْمةً طريقاً وسنَناً، وأمرنَا بطاعتِه لا لحَاجتِهِ بلْ لَنَا، يغفرُ الذنوبَ لكلِّ مَنْ تابَ إلى ربَّه ودَنا، ويُجزلُ العطَايَا لمَنْ كان مُحسناً {وَالَّذِينَ جَهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ جَهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت: 69] أحْمده على فضائلهِ سِرّاً وعلَناً، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً أرْجو بها الفوزَ بدارِ النَّعيمِ والْهنَا، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولهُ الَّذِي رفَعَه فوقَ السموات فدَنَا، صَلَّى الله عليه وعلى صاحِبه أبي بكر الْقائمِ بالعبادةِ راضياً بالعَنا، الَّذِي شَرَّفه الله بقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 40]، وعلى عُمرَ المجدِّ في ظهور الإِسلام فمَا ضعُف ولا ونَى، وعلى عثمانَ الَّذِي رضيَ بالْقَدرِ وقد حلَّ في الفناءِ الفنا، وعلى عليٍّ الْقريبِ في النَّسب وقد نال المُنى، وعلى سائرِ آلِهِ وأصحابه الكرام الأمَنَاء، وسلَّم تسليماً.
إخواني: سبَقَ في المجلس الثالث أنَّ فَرْضَ الصيام كان في أولِ الأمر على مرْحلتين، ثم استقرتْ أحْكامُ الصيامِ فكان الناسُ فيها أقساماً عَشرَةً:
® القسمُ الأوَّلُ:(3/454)
المُسلِمُ البالغُ العاقلُ المقيمُ القادر السالمُ من الموانعِ، فيجبُ [6] في أقسام الناس في الصيامعليه صومُ رمضانَ أدَاءً في وقتِه لدلالةِ الكتاب والسُنَّةِ والإِجْماع على ذلك، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185] وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتمُ الهلاَلَ فصُوموا»، متفق عليه. وأجمع المسلمونَ على وُجوبِ الصيامِ أداءً على مَنْ وصفنا.
فأمَّا الكافرُ فلا يجب عليه الصيام ولا يصِحُّ منه لأنَّه ليس أهلاً للعبادةِ، فإذَا أسْلمَ في أثْناءِ شهرِ رمضانَ لم يلزمه قضاءُ الأيام الماضية، لقولِه تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاَْوَّلِينِ } [الأنفال: 38]. وإنْ أسْلمَ في أثَناءِ يوم منه لزمه إمساكُ بقيِّة اليَومِ لأنَّه صار من أهلْ الوجوبِ حين إسلامه ولا يلزمه قضاؤه لأنه لم يكن من أهل الوجوب حينَ وقْت وجوبِ الإِمسَاكِ.
® القسم الثاني:(3/455)
الصغيرُ فلا يجب عليه الصيامُ حتى يبلُغَ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقِظَ وعن الصغير حتى يكْبُرَ وعن المجنونِ حتى يفيقَ»، رواه أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ وصححه الحاكم. لكن يأمُرُه وليُّه بالصومِ إِذَا أطاقه تمريناً لَهُ على الطاعة ليألفَهَا بعْدَ بلوغِهِ اقتداءً بالسلفِ الصالح رضي الله عَنْهم. فقد كان الصحابةُ رُضوان الله عليهم يُصَوِّمُون أولادَهم وهُمَ صِغارٌ ويذْهَبون إلى المسجد فيجعلون لهم اللُّعْبةَ من الْعِهنِ (يعني الصوف أو نحوَه) فإذا بكَوا من فقْدِ الطعامِ أعطوهُم اللعبة يتَلهَّوْن بها.
وكثيرٌ من الأولياءِ اليومَ يغْفُلونَ عن هذا الأمْرِ ولا يأمرونَ أولادَهم بالصيام، بلْ إنَّ بعْضَهم يمنعُ أولادَه من الصيامِ مع رغْبَتهم فيه يَزعُم أنَّ ذلك رحمةٌ بهم. والحقيقةُ أنَّ رحْمَتهمْ هي القيامُ بواجب تربيتهم على شعائر الإِسلام وتعالِيْمهِ القَيِّمةِ. فمنْ مَنعهم مِن ذلك أوْ فرَّط فيه كان ظالماً لهم ولِنَفْسه أيضاً.. نعَمْ إنْ صَاموا فَرأى عليهم ضَرراً بالصيامِ فلا حرجَ عليه في منعهم منه حِيْنِئذٍ.
ويَحْصل بُلوغُ الذكر بواحدٍ من أمور ثلاثةٍ:
أحدُها: إِنزالُ المَنيِّ باحتلامٍ أو غيرهِ لقولِه تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الاَْطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [النور: 59]، وقولِهِ صلى الله عليه وسلّم: «غُسْلُ الجُمُعةِ واجِبٌ على كلِّ محتلم»، متفق عليه.(3/456)
الثاني: نبَاتُ شَعرِ العَانةِ وهو الشَّعْر الْخشِنُ ينْبُت حوْلَ الْقُبلِ، لقول عَطيَّة الْقُرَظِّي رضي الله عنه: «عُرِضْنا على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم يومَ قُرَيْظةَ فمن كان محتلماً أو أنبتت عانته قتل ومن لا تُرِكَ»، رواه أحمد والنسائي وهو صحيح.
الثالثُ: بلوغُ تمامِ خَمْسَ عَشْرةَ سنةً لقولِ عبدالله بن عُمرَ رضي الله عنهما: «عُرِضْت على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم يوم أحد وأنا ابنُ أربَعَ عَشرَةَ سنةً فلم يُجْزني» (يعني: القتالِ) زاد البيهقيَّ وابنُ حبَانَ في صحيحه بسند صحيح: «ولم يرني بلغت، وعرضت عليه يوم الْخَنْدَقِ وأنا ابنُ خمْسَ عَشْرةَ سنةً فأجازنِي»، زاد البيهقي وابن حبان في صحيحه بسند صحيح: «ورآني بَلغْت» رواه الجماعة. قال ابن نافع: فقَدِمتُ على عُمرَ بن عبدِالعزيز وهو خليفة فحدثته الحديث فقال: إن هذا الحد بين الصغيرِ والكبيرِ، وكتَبَ لعُمَّاله أنْ يفرضُوا (يعني من العطاء) لمنْ بلَغَ خمسَ عَشْرَةَ سنةً، رواه البخاريُّ.
ويحصل بلوغُ الأُنثى بما يحْصلُ به بلوغُ الذَكَرِ وزيادة أمرٍ رابعٍ وهو الحيضُ، فمتى حاضتْ الأُنثى فقد بلغتْ، فيجري عليها قلَمُ التكليفِ وإنْ لم تبلُغْ عشر سنينَ، وإذا حصل البلوغُ أثْنَاء نهار رمضانَ فإنْ كان منْ بَلغ صائماً أتمَّ صومَه ولاَ شَيْءً عليه وإن كان مفطراً لزمه إِمساكُ بقيةِ يوْمهِ لأنه صار مِنْ أهل الوجوبِ، ولا يلزمه قضاؤه لأنه لم يكن من أهلِ الوجوبِ حين وُجوبِ الإِمساكِ.
® القسمُ الثالثُ:(3/457)
المجنونُ وهو فاقِدُ العقلِ فلا يجبُ عليه الصيامُ، لما سبق من قولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: «رُفعَ القلمُ عن ثلاثةٍ..» الحديث. ولا يصحُّ مِنه الصيامُ لأنه ليس له عَقْلٌ يعقِل به العبادةَ وينويها، والعبادة لا تصح إلا بنيَّةٍ لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمالُ بالنيِّاتِ وإنما لكلِّ امرأ ما نَوى..» فإنْ كان يجنُّ أحياناً ويُفيقُ أحياناً لزمه الصيام في حالِ إفاقتهِ دون حالِ جنونِه، وإنْ جُنَّ في أثناءِ النهارِ لم يبطُل صومُه كما لو أغمي عليه بمرضٍ أو غيره لأنَّه نوى الصومَ وهو عاقلٌ بنيَّةٍ صحيحةٍ. ولا دليل على البطلانِ خصوصاً إذا كان معلوماً أنَّ الجنونَ ينْتَابُه في ساعاتٍ مُعيَّنةٍ. وعلى هذا فلا يلزمُ قضاءُ الْيَوْم الَّذِي حصل فيه الجُنونُ. وإذا أفَاق المجنونُ أثناء نهار رمضانَ لزمه إمْسَاكُ بقيَّةِ يومِهِ، لأنَّه صار من أهلِ الوجوب، ولا يلزمُهُ قضاؤهُ كالصبيِّ إذا بلَغَ والكافرِ إذا أسْلَمَ.
® القسمُ الرابعُ:
الْهَرِمُ الَّذِي بلَغَ الهذَيَان وسقَط تَميِيزُه فلا يجبُ عليه الصيامُ ولا الإِطعام عنه لسُقوطِ التكليف عنه بزَوال تمييزهِ فأشْبهَ الصَّبيَّ قبل التمييزِ. فإن كان يميز أحياناً ويهذي أحياناً وجب عليه الصوم في حال تمييزه دونَ حالِ هذَيانِه. والصلاةُ كالصومِ لا تلزمه حال هذيانه وتلزمه حالَ تمييزِه.
® القسمُ الخامسُ:(3/458)
العاجزُ عن الصيام عجْزاً مستَمِراً لا يُرجَى زوالُه، كالكبيرِ والمريض مرضاً لا يُرْجى برؤه كصاحبِ السَّرطانِ ونحوِه، فلا يجب عليه الصيامُ لأنَّه لا يستطيعُه. وقد قال الله سبحانه: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاَِنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [التغابن: 16]، وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ } [البقرة: 286]. لكن يجب عليه أن يُطعمَ بدلَ الصيامِ عنْ كلِّ يومٍ مسكيناً لأنَّ الله سبحانَه جَعَل الإِطعامَ مُعَادلاً للصيامِ حينَ كان التخييرُ بينهُما أوَّلَ ما فُرِضَ الصيامُ فتعيَّن أنْ يكون بدلاً عن الصيامِ عند العَجزِ عنه لأنه معادله.
ويخيَّرُ في الإِطعام بين أنْ يُفرِّقَه حبَّاً على المسَاكينِ لكُلِّ واحدٍ مُدٌّ من البرِّ ربْعُ الصَّاع النَبوي، ووزنه ـ أي المُدِّ ـ نصفُ كِيلُو وعَشرةُ غراماتٍ بالْبُرِّ الرِّزينِ الجيِّدِ، وبينَ أنْ يُصلحَ طعاماً فيدعو إليهِ مساكينَ بقدْرِ الأيامِ الَّتِي عليه، قال البخاريُّ رحمه الله: وأمَّا الشيخُ الكبيرُ إذا لم يُطقِ الصيام فقَدْ أطعَمَ أنسٌ بعدمَا كبر عاماً أوْ عامين كُلَّ يوم مسكيناً خُبْزاً ولحماً، وَأفْطرَ. وقال ابنُ عباس رضي الله عنهما في الشيخ الكبيرِ والمَرأةِ الكبيرةِ لا يستطيعانِ أنْ يَصُومَا فيطعمانِ مكانَ كلِّ يوم مسكيناً، رواه البخاري.(3/459)
إخواني: الشَّرعُ حكمةٌ من الله تعالى ورحمةٌ رحم الله به عبادَه لأنه شَرْعٌ مبنيٌ على التسهيلِ والرحمةِ وعلى الإِتقانِ والحكمةِ، أوجبَ الله به على كلِّ واحدٍ من المكلَّفين ما يناسب حالَه ليقومَ كلُّ أحدٍ بما عليهِ، منشرحاً به صَدرُه، ومطمئِنةً به نفْسُه، يَرْضى بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلّم نبيَّاً، فاحمدوا الله أيُّها المؤمنون على هذا الدِّين القيِّم وعلى ما أنْعَمَ به عليكم من هِدايتكُم له وقد ضلَّ عنه كثيرٌ من الناسِ، واسألوه أنْ يُثَبِّتكُمْ عليه إلى الممات.
اللَّهُمَّ إنا نسألُك بأنا نَشْهد أنَّك أنت الله لا إِله إلاَّ أنت الأحدُ الصَّمَدُ الذي لم يلد ولم يولد ولم يكنْ له كفواً أحدٌ، يا ذَا الجلالِ والإِكرامِ، يا مَنَّانُ يا بديعَ السمواتِ والأرضِ، يا حيُّ يا قيومُ، نسألك أن تُوفِّقنَا لما تُحبُّ وترضَى، وأنْ تْجعَلنَا ممَّنْ رضِي بك ربَّاً، وبالإِسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلّم نبيَّاً، ونسألك أنْ تُثبتنا على ذلك إلى المماتِ، وأنْ تغفرَ لنَا الخطايَا والسيئاتِ، وأنْ تَهبَ لنا منك رحمة إنَّك أنْتَ الوهابُ، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وآلِهِ وصحبهِ وأتْبَاعهِ إلى يوم الدِّين.
مجالس شهر رمضان
المجلس السابع - في طائِفَة من أقسَام الناس في الصيّام
محمد بن صالح العثيمين(3/460)
الحمد لله المُتعَالى عن الأنداد، المقَدَّس عن النَّقائص والأضداد، المُتنزِّهِ عن الصاحِبةِ والأوْلاد، رافع السَّبع الشِّداد، عاليةً بغير عِماد، وواضِع الأرضِ للمهاد، مثَبتةً بالراسياتِ الأطْواد، المطَّلِع على سِرِّ القُلُوب ومكنونِ الفُؤاد، مقدِّرِ ما كان وما يكونُ من الضَّلال والرَشاد، في بحار لُطفِه تجري مراكب العباد، وفي ميدان حبِّه تجول خيلُ الزُّهَّاد، وعنده مبتغى الطالبين ومنتهى القصاد، وبِعينِه ما يتحمَّل المُتَحَمِّلون من أجله في الاجتهاد، يرى دبيب النمل الأسود في السَّواد، ويعلَمُ ما توَسْوسُ به النفسُ في باطِن الاعتقاد، جادَ على السائلين فزادَهُم من الزَّاد، وأعطى الكثير من العاملين المخلصين في المراد، أحمَدُه حمداً يفوقُ على الأعْداد، وأشْكره على نِعَمه وكلَّما شُكِر زَاد، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له له الملكُ الرَّحيم بالعباد، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسولهُ المبعوث إلى جميعِ الخلْق في كلِّ البلاد، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ الَّذِي بذَل منْ نفْسِه ومالِهِ وجاد، وعلى عُمَر الَّذِي بالَغَ في نصْرِ الإِسلام وأجاد، وعلى عثمانَ الَّذِي جهَّزَ جيشَ العُسْرةِ فيا فخره يوم يقوم الأشهاد، وعلى علٍّي المعروفِ بالشجاعةِ والجلاد، وعلى جميع الآلِ والأصْحابِ والتابعينَ لهم بإحَسانٍ إلى يوم التَّنَاد، وسلِّم تسليماً.
[7] في طائفة من أقسام الناس في الصيام إخواني: قدَّمنا الكلامَ عن خْمسَةِ أقسامٍ من الناس في أحْكامِ الصيام. ونتكلَّمُ في هذا المجلِس عن طائفةٍ أخرى من تلك الأقسامِ:
® فالقسمُ السادسُ:(3/461)
المسافرُ إذا لم يقْصُدْ بسَفَرِه التَّحيُّلَ على الفِطْرِ، فإن قَصَد ذَلِكَ فالفطرُ عليه حرامٌ والصيامُ واجبٌ عليه حْينئذٍ. فإذا لَمْ يقصد التَّحيُّلَ فهو مخيَّرٌ بين الصيام والفطر سواءٌ طالتْ مدةُ سفره أمْ قصُرتْ، وسواءٌ كان سفرُه طارِئاً لغَرض أمْ مُسْتَمِّراً، كسَائِقي الطائراتِ وسياراتِ الأجْرةِ لعموم قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185]. وفي الصحيحين عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: كُنَّا نُسَافر مع النبي صلى الله عليه وسلّم فَلَمْ يَعِب الصائمُ على المُفطِر ولا المفْطِرُ على الصائمِ. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: يَرْونَ أنَّ مَنْ وجَدَ قُوَّة فصَام فإنَّ ذلك حَسَنٌ، ويرونَ أنَّ منْ وجَدَ ضعْفاً فأفْطرَ فإنَّ ذلك حَسَنٌ. وفي سنن أبي داودَ عن حمزةَ ابن عمْرو الأسلَميِّ أنَّه قال: يا رسولَ الله إني صاحبُ ظهرٍ أعالجه أسافِرُ عليه وأكريه وإنَّه ربَّما صادفني هذا الشهرُ ـ يعنِي رمضانَ ـ وأنا أجدُ الْقوَّة وأنا شَابٌ فأجد بأنَّ الصَّومَ يا رسولَ الله أهونُ عليَّ منْ أن أؤخِّرهُ فيكون ديناً عليَّ أفأصُومُ يا رسولَ الله أعظمُ لأجري أمْ أفطرُ قال: «أيَّ ذلك شئتَ يا حمزةُ».(3/462)
فإذا كان صاحبُ سيارةِ الأجرةِ يشقُّ عليه الصومُ في رمضانَ في السَّفرِ من أجل الحرِّ مثلاً فإنه يؤخره إلى وقت يبرد فيه الجو ويتيسَّر فيه الصيام عليه. والأفضل للمسافر فعلُ الأسهلِ عليه من الصيام والْفِطرِ، فإنْ تساويَا فالصَّومُ أفضلُ لأنَه أسْرعُ في إبراء ذمته وأنشط له إذا صامَ معَ الناسِ، لأنه فعلُ النبي صلى الله عليه وسلّم كما في صحيح مسلمٍ عن أبي الدرداءِ رضي الله عنه قال: خَرَجنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم في رمضانَ في حرٍّ شديدٍ، حتى إنْ كان أحَدُنا ليضع يَدَه على رأسِهِ من شدةِ الحرِّ، وما فينا صائمٌ إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعبدُالله بنُ رواحة. وأفْطرَ صلى الله عليه وسلّم مراعاةً لأصحابِه حينَ بلغه أنَّهمْ شَقَّ عليهِم الصيام، فعن جابرٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم خرج إلى مكةَ عامَ الفتحِ فصامَ حتى بَلَغ كُرَاعَ الْغميمَ، فصامَ الناسُ معه فقيل له: إنَّ الناسَ قد شقَّ عليهم الصيامُ، وإنَّهم ينظُرونَ فيما فَعْلت، فَدعَا بقَدَحٍ مِن ماءٍ بعد العصر فشَربَ والناسُ ينظرون إليه، رواه مسلم. وفي حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أتَى على نهرٍ من السَّماءِ والناسُ صيامٌ في يوم صائفٍ مُشاةً، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلّم على بغلةٍ له، فقال: «أشْربُوا أيها الناسُ» فأبَوْا، فقال: «إنِّي لسْتُ مثلكُمْ، إنِّي أيْسرُكمْ، إني راكب»، فأبَوْا، فَثَنَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فخِذَه فنزلَ فشرب وشربَ الناسُ، وما كانَ يُرِيدُ أن يشربَ صلى الله عليه وسلّم»، رواه أحمد.(3/463)
وإذا كان المسافرُ يَشُقُّ عليه الصومُ فإنَّه يفطرُ ولا يصُومُ في السفرِ، ففي حديثِ جابرٍ السابق أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم لمَّا أفْطرَ حينَ شَقَّ الصومُ على الناس قيل له: إنَّ بعض الناسِ قد صَامَ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أولَئِك العُصاةُ، أولئك العصاة»، رواه مسلم.
وفي الصحيحين، عن جابرٍ أيضاً أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان في سفرٍ، فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه، فقال: «ما هذا؟» قالوا: صائمٌ، فقال: «ليس من البرِّ الصيامُ في السفر». وإذا سافر الصائمُ في أثناء اليوم وشقَّ عليه إكْمالُ صومِهِ جاز له الفطرُ إذا خَرجَ من بلدِه، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم صام وصامَ الناسُ معه حتى بلغ كُراعَ الْغميمِ، فلما بلغه أن الناس قد شَقَّ عليهم الصيام أفطر وأفطر الناس معه، وكراعُ الغميمِ جبلٌ أسودُ في طرفِ الحَرَّةِ يمتدُّ إلى الوادي المُسَمَّى بالْغَمِيمِ بين عُسفَانَ وَمَرِّ الظَّهرانِ.(3/464)
وإذا قدِم المسافرُ إلى بلدِه في نهارِ رمضانَ مفطِراً لم يصحَّ صومُه ذلكَ اليومَ، لأنه كان مُفْطِراً في أوَّل النهار. والصومُ الواجبُ لا يصح إلاَّ مِنْ طلُوعِ الفجر، ولكن هل يلزمه الإِمساكُ بقيةَ اليوم؟ اختلفَ العلماءُ في ذلك فَقَال بعْضهُم: يجب عليه أنْ يُمسِكَ بقيةَ اليومِ احتراماً للزمنِ، ويجب عليه الْقَضَاءُ أيضاً لِعَدَمِ صحةِ صومِ ذلك اليوم، وهذا المشهور من مذهب أحمد رحمه الله، وقال بعض العلماء: لا يجب عليه أن يمسك بقية ذلك اليوم، لأنه لا يستفيدُ من هذا الإِمساكِ شيئاً لوجوب القضاءِ عليه، وحُرْمةُ الزَّمن قد زالتْ بفِطره المباح له أوَّلَ النهارِ ظاهراً وباطناً. قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: من أكل أول النهار فلْيَأْكُلْ آخره، أي: من حلَّ له الأكل أولَ النهار بعُذرٍ حلَّ له الأكلُ آخِره. وهذا مذهَبُ مالِك والشافعيّ ورواية عن الإِمام أحمد، ولكنْ لا يُعْلِنُ أكلَه ولا شربَه لخفاءِ سببِ الفطرِ فيُساء به الظَّنُّ أو يُقْتَدى به.
® القسمُ السَّابعُ:
المِريضُ الَّذِي يُرجَى برؤُ مرضِه وله ثلاثُ حالاتٍ:
إحداها: أنْ لا يشقَّ عليه الصومُ ولا يَضُرُّه، فيجبُ عليه الصومُ لأنه ليس له عُذْرٌ يُبِيح الْفِطْرَ.(3/465)
الثانيةُ: أنْ يشقَّ عليه الصومُ ولا يضُرُّه، فيفطرُ لقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185]. ويُكْره له الصوم مع المشقَّةِ، لأنه خروجٌ عن رُخصةِ الله تعالى وتعْذيبٌ لنفسه، وفي الحديث: «إن الله يُحب أن تُؤتى رُخَصُه كما يكرهُ أن تؤتى معْصِيتُه» رواه أحمد وابنُ حبان وابنُ خُزَيمة في صحيحيهما.
الثالثةُ: أنْ يضُرَّه الصومُ فيجبُ عليه الْفطرُ ولا يجوزُ له الصومُ لقولِه تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [النساء: 29]، وقولِه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [البقرة: 195]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ لِنفْسكَ عليْك حقَّاً»، رواه البخاري. ومن حقهَا أنْ لا تضرَّها مع وجود رخصةِ الله سبحانه. ولقولِه صلى الله عليه وسلّم: «لا ضَررَ ولا ضرارِ»، أخرجه ابن ماجه والحاكم. قال النَّووي وله طرق يقويِ بعضها بعضاً.(3/466)
وإذا حدَث له المرَضُ في أثناءِ رمضانَ وهو صائمٌ وشقَّ عليه إتمامُه جاز له الفطرُ لوجودِ المُبيح للفطر. وإذا برأ في نهارِ رمضانَ وهو مفطر لم يصحَّ أنْ يصومَ ذلك اليَوْمَ لأنَّه كان مُفطِراً في أوَّلِ النهار، والصومُ الواجب لا يصحُّ إلاَّ مِنْ طلوع الفجر ولكِنْ هل يلْزَمه أنْ يُمسِكَ بقية يومِهِ؟ فيه خلافٌ بَيْنَ العلماء سبق ذكْرُه في المسافرِ إذا قدِم مُفطِراً.
وإذا ثبت بالطِّبِّ أنَّ الصومَ يجلِبُ المرَضَ أو يؤخر بُرءَه جاز له الفطرُ محافظةً على صِحَّتِه واتقاءً للمرض. فإنْ كان يُرْجى زوالُ هذا الْخَطر، انْتظَرَ حتى يزولَ ثم يقضْى ما أفْطر. وإنْ كان لا يُرْجى زوالهُ فحكمه حُكمُ القسمِ الخامِسِ يُفطِرُ ويُطْعِمُ عنْ كلِّ يومٍ مسكيناً.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للعملِ بما يُرضيك، وجنِّبْنا أسبابَ سَخَطِك ومعاصِيْك، واغفر لنا ولوالدينَا ولجميع المسلمينَ برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الثامن - في بقيّة أقسام الناس في الصيّام وأحكام القضاء
محمد بن صالح العثيمين(3/467)
الحمدُ لله الواحدِ العظيم الجبَّار القدير القويَّ القَهَّار، المُتَعالِي عن أنْ تُدركهُ الخواطر والأبْصار، وَسَمَ كل مخلوقٍ بسِمة الافتِقار، وأظْهر آثارَ قدرتِه بتصريفِ الليلِ والنهار، يسمعُ أنين المدنفِ يَشْكو ما بِه مِنَ الأضْرار، ويُبْصِر دبيبَ النملةِ السوداءِ في الليلةِ الظَّلماءِ على الغَار، ويعلم خَفِيَّ الضَّمائرِ ومكنونَ الأسْرار، صفاتُه كذاته والمُشبِّهةُ كفَّار، نُقرُّ بما وصف به نفسه على ما جاء في القرآنِ والأخبار {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ } [التوبة: 109]، أحْمدُه سبحانَه على المَسَارِّ والمَضَارِّ، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ لَهُ المتفردُ بالْخلقِ والتدبير {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَنَ اللَّهِ وَتَعَلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [القصص: 68]، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسولهُ أفضلُ الأنبياءِ الأطهارِ، صلَّى الله عليه وعلى أبي بكر رفيقِه في الْغَار، وعلى عُمرَ قامِع الكُفَّار، وعلى عثمانَ شهيدِ الدَّار، وعلى عليٍّ القائمِ بالأسْحار، وعلى آلِهِ وأصْحابهِ خصوصاً المهاجرينَ والأنْصار، وسلَّم تسليماً.
إخواني: قدَّمنَا الكلامَ عن سبعة أقسامٍ من أقْسَامِ الناسِ في الصيامِ وهذه بقيَّةُ الأقسامِ:
[8] في بقية أقسام الناس في الصيام وأحكام القضاء® القسمُ الثامنُ:(3/468)
الحائضُ فيحرمُ عليها الصيامُ ولا يصحُّ منها لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في النساءِ: «ما رأيت مِنْ ناقصاتِ عَقْلٍ ودينٍ أذْهَبَ للُبِّ الرَّجل الحازمِ مِنْ إحداكُنَّ، قُلنَ: وما نقصانُ عقلِنا ودينِنا يا رسولَ الله؟ قال: أَلْيسَ شَهادةُ المرأةِ مثلَ نصْفِ شهادةِ الرَّجُلِ؟ قُلنَ: بلى. قال: فذلك نقصانُ عَقْلِها، أليس إذا حاضتْ لم تُصلِّ ولَم تُصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك مِنْ نقصانِ دِيْنِها»، متفق عليه.
والْحيْضُ دمُ طبيعي يعتادُ المرأةَ في أيَّامٍ معلومةٍ.
وإذا ظَهَرَ الحيضُ منها وهي صائمةٌ ولو قبلَ الغروبِ بلحْظَةٍ بَطلَ صومُ يومِها ولزِمَها قضاؤه إلاَّ أنْ يكون صومُها تطوُّعاً فقضاؤه تطوُّعٌ لا واجبٌ.
وإذا طهُرتْ من الحيضِ في أثناءِ رمضانَ لم يصحَّ صومُها بقيَّة اليومِ لوجودِ ما يُنافي الصيامَ في حقِّها في أولِّ النهارِ، وهل يَلزمُها الإِمْساك بقيَّة اليوم؟ فيه خلافٌ بين العلماء سبق ذِكْرُه في المسافر إذا قدِم مُفطِراً.
وإذا طهرتْ في الليل في رمضان ولو قبْل الفجرِ بلحظة وجب عليها الصومُ لأنها مِنْ أهلِ الصيام وليس فيها ما يمنعُه فوجبَ عليها الصيامُ، ويصحُّ صومُها حينئذٍ وإنْ لم تَغْتَسل إلاَّ بعد طلوعِ الفجر كالجُنبِ إذا صامَ ولم يغْتسِلْ إلاَّ بعدَ طلوعِ الْفجرِ فإنَّه يصحُّ صومُه لقول عائشة رضي الله عنها: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يصبحُ جُنُباً من جماعٍ غير احتلامٍ ثم يصومُ في رَمضانَ»، متفق عليه.
والنُّفسَاءُ كالحائضِ في جميع ما تقَدَّم.(3/469)
ويجبُ عليها القضاءُ بعددِ الأيام التي فاتَتْها لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 184]. وسُئلت عائشةُ رضي الله عنها: ما بالُ الحائضِ تقضي الصومَ ولا تقضي الصلاة؟ قالتْ: «كان يصيبُنَا ذلك فنؤمرُ بقضاء الصومِ ولا نؤمرُ بقضاء الصلاة»، رواه مسلم.
® القسمُ التاسعُ:
المرأة إذا كانت مُرضعاً أو حاملاً وخافتْ على نفسِها أو على الولَد من الصَّوم فإنها تفطرُ لحديث أنسِ بن مالك الْكعِبي رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله وضَع عن المسافر شطرَ الصلاة وعن المسافر والحامل والمرضع الصومَ أو الصيام»، أخرجه الخمسة، وهذا لفظ ابن ماجة. ويلزمُهَا القضاءُ بِعَدَدِ الأيامِ التي أفطرتْ حِينَ يتيسَّرُ لها ذلك ويزولُ عنها الخوفُ كالمريض إذا بَرِأ.
® القسمُ العاشرُ:
مَن احتاج للْفطرِ لِدفْعِ ضرورةِ غيرهِ كإِنقاذ معصومٍ مِنْ غرقٍ أوْ حريقٍ أو هدْمٍ أوْ نحو ذلك فإذا كان لا يمكنه إِنقَاذُه إلاَّ بالتَّقَوِّي عليه بالأكْل والشُّرب جاز له الفِطرُ، بل وَجبَ الفطرُ حِيْنئذٍ لأن إنقاذ المعصوم من الْهَلكَةِ واجبٌ، وما لا يَتمُّ الواجبُ إلاَّ به فهو واجبُ، ويلزمُه قضاءُ ما أفْطَرَه.(3/470)
ومثلُ ذلك مَن احتاجَ إلى الْفِطرِ للتَّقَوِّي به على الْجهادِ في سبيل الله في قِتَاله الْعَدُوَّ فإنه يفْطر ويقضي ما أفطَر سواء كان ذلك في السفر أو في بلده إذا حضره العَدُوُّ لأنَّ في ذلك دفاعاً عن المسلمينَ وإعلاءً لكلمةٍ الله عزَّ وجَلَّ. وفي صحيح مسلمٍ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: سافَرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى مكةَ ونحنْ صيامٌ فنَزلْنا منْزلاً فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «إنكم قد دَنَوْتم مِنْ عدوِّكم والْفِطرُ أقْوى لكم» فكانتْ رخصةً فمِنَّا مَنْ صامَ ومنا مَنْ أفْطر، ثم نزلنا منزلاً آخرَ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «إنكم مُصَبِّحو عدوِّكم والفطرُ أقوى لكم فأفْطرِوا وكانتْ عزمْةً فأفْطَرنا». ففي هذا الحديث إيماءٌ إلى أن القوةَ على القتال سببٌ مُستقِلٌ غيرُ السفرِ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم جعل عِلَّةَ الأمْرِ بالفِطر القُوَّةَ على قتالِ العدُوِّ دونَ السفرِ ولذلِك لم يأمرهم بالفِطر في المنزَلِ الأوَّل.
وكُلُّ مَنْ جاز له الفطرُ بسببٍ مما تقَدَّم فإنَّه لا يُنكرُ عليه إعْلانُ فِطْرهِ إذا كان سبَبُه ظاهراً كالمريضِ والكبير الذي لا يستطيع الصومَ، وأمَّا إن كان سببُ فطره خفيَّاً كالحائِضِ ومَنْ أنقَذَ معصوماً من هلَكةٍ فإنه يُفطر سرَّاً ولا يعْلِنُ فِطْرَه لئلا يَجُرَّ التهمةَ إلى نَفْسِه ولئلاَّ يَغْتَرَّ به الجاهلُ فيظنُّ أنَّ الفطرَ جائزٌ بدون عُذْر.(3/471)
وكُلُّ من لَزِمه القضاءُ من الأقسام السابقةِ فإنَّه يقْضِي بعددِ الأيامِ التي أفْطر لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }. فإنْ أفطَر جَميعَ الشهر لزمه جميعُ أيامه. فإن كان الشهر ثلاثين يوماً لزمه ثلاثون يوماً، وإن كان تسعةً وعشرينَ يوماً لزمه تسعةٌ وعشرونَ يوماً فَقْط.
والأوْلىَ المُبادَرَةُ بالْقضاءِ من حينِ زوالِ الْعذرِ لأنه أسبقُ إلى الخيرِ وأسْرَعُ في إبراءِ الذِّمَّةِ.
ويجوز تأخيرهُ إلى أن يكونَ بينهُ وبين رمضانَ الثاني بعددِ الأيامِ التي عليه لقولِه تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 184].
ومن تمام الْيُسرِ تأخير قضائِها. فإذا كان عليه عشرةُ أيامٍ من رمضان جاز تأخيرها إلى أن يكون بينه وبينَ رمضانَ الثاني عشرة أيامٍ.(3/472)
ولا يجوز تأخيرُ القضاءِ إلى رمضانَ الثاني بدونِ عذرٍ لقولِ عائشة رضي الله عنها: «كان يكونُ عليَّ الصومُ من رمضانَ فما أسْتطيع أنْ أقضيه إلاَّ في شعبانَ»، رواه البخاري، ولأنَّ تأخيره إلى رمضانَ الثاني يُوْجبُ أنْ يتراكم عليه الصومُ وربَّمَا يعجزُ عنه أوْ يموتُ، ولأن الصومَ عبادةٌ متكرِّرةٌ فَلْم يَجُز تأخيرُ الأولَى إلى وقتِ الثانيةِ كالصلاةِ، فإن استَمرَّ به العذرُ حَتَّى ماتَ فلا شَيْءَ عليه لأن الله سبحانه أوجَبَ عليه عدَّةً من أيامٍ أُخَرَ ولم يتمكنْ منْها فسقطت عنه كمن مات قبلَ دخولِ شهر رمضانَ لا يلزمُه صومُه، فإن تمكَّن من القضاءِ فَفَرَّط فيه حتى مات صام وليُّهُ عنه جميعَ الأيامِ التي تمكَّنَ من قضائِها، لقوله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ ماتَ وعليه صيامٌ صامَ عنه وليُّه»، متفق عليه.
ووَلِيُّهُ وارِثُه أو قريبُه. ويجوز أنْ يصومَ عنه جماعةٌ بعددِ الأيامِ التي عليه في يوم واحدٍ، قال البخاري: قال الحسنُ: إن صامَ عنه ثلاثَونَ رجلاً يوماً واحداً جاز. فإن لم يكن له وليٌّ أو كان له وليٌّ لا يريدُ الصومَ عنه أُطعمَ مِنْ تركتِه عن كلِّ يومٍ مسكينٌ بعددِ الأيام التي تمكَّنَ من قضائِها؛ لِكُلِّ مسكينٍ مدُّ برٍّ وزنه بالبرِّ الجيِّد نصفُ كيلو وعشرةُ جرامات.
إخواني: هذه أقسامُ الناسِ في أحكام الصيامِ شرعَ الله فيها لكل قِسْمٍ ما يُناسِب الحالَ والمَقَام. فاعرِفوا حكمة ربِّكم في هذه الشَّرِيْعَة. واشكروا نعمتَهُ عليكم في تسهيلِهِ وتيْسيرِه. واسألوه الثَّباتَ على هذا الدِّينِ إلى الممات.(3/473)
اللَّهُمَّ اغْفِر لنا ذنوباً حالتْ بيننا وبينَ ذِكْرِك. واعفُ عن تقصيرنا في طاعتِك وشُكْرك. وأدم علينا لُزُومَ الطريقِ إليَك. وهَبْ لنا نُوراً نهتدي به إليك. اللَّهُمَّ أذِقْنا حلاوةَ مناجاتِك. واسلكْ بنا سبيلَ أهْلِ مرضاتِك. اللَّهُمَّ أنْقِذْنا من دَرَكاتِنا، وأيْقظْنا من غفَلاتِنا، وألْهمنا رُشْدَنَا، وأحْسِنْ بكَرَمِك قصدَنا، اللَّهُمَّ احْشُرْنا في زُمْرةِ المُتَّقين، وألحقْنا بعبادِك الصالحِينَ. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس التاسع - في حِكَمِ الصِّيَام
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ للهِ مدبِر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، الملكِ القدُّوس السلام، المُتفرِّدِ بالعظمةِ والبقاءِ والدَّوام، المُتَنزِّهِ عن النقائصِ ومشابهَةِ الأنام، يَرَى ما في داخلِ العروقِ وبواطنِ العظام، ويسمع خَفِيَّ الصوتِ ولطيفَ الكلام، إِلهٌ رحيمٌ كثيرُ الإِنعَام، ورَبٌ قديرٌ شديدُ الانتقام، قدَّر الأمورَ فأجْراها على أحسنِ نظام، وشَرَع الشرائعَ فأحْكمَها أيَّما إحْكام، بقدرته تهبُّ الرياحُ ويسير الْغمام، وبحكمته ورحمته تتعاقب الليالِي والأيَّام، أحمدُهُ على جليلِ الصفاتِ وجميل الإِنعام، وأشكرُه شكرَ منْ طلب المزيدَ وَرَام، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله الَّذِي لا تحيطُ به العقولُ والأوهام، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أفضَلُ الأنام، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ السابق إلى الإِسلام، وعلى عمَرَ الَّذِي إذا رآه الشيطانُ هَام، وعلى عثمانَ الَّذِي جهَّزَ بمالِه جيشَ العُسْرةِ وأقام، وعلى عليٍّ الْبَحْرِ الخِضَمِّ والأسَدِ الضِّرْغَام، وعلى سائر آلِهِ وأصحابِه والتابعين لهم بإِحسانٍ على الدوام، وسلَّم تسليماً.(3/474)
عبادَ الله: اعلموا رحمكم اللهُ أنَّ الله سبحانَه لَهُ الحكمُ التام والحكمة البالغة فيما خَلَقه وفيما شَرَعه، فهُوَ الحكِيمُ في خَلقِهِ وفي شرْعِهِ، لم يَخلقْ عبادَه لَعِباً، ولمْ يتركهم سُدىً، ولم يَشْرعْ لهم الشرائع [9] في حكم الصيامعَبثاً، بل خلقهم لأمرٍ عظيمٍ، وهيَّأهمْ لِخطبٍ جَسيمْ، وبيَّن لهم الصراطَ المستقيم، وشرعَ لهم الشرائعَ يزداد بها إيمانهم، وتكمُلُ بها عبادتُهم، فما من عبادة شرعها الله لعباده إلا لحكمةٍ بالغة، علِمَها مَنْ علِمَها وجهِلهَا منْ جهِلهَا، وليس جهْلُنا بحكمَة شَيْءٍ من العباداتِ دليلاً على أنه لا حكمَة لها، بل هو دليلٌ على عجزنا وقصورنا عن إدراك حكمة الله سبحانَه لقوله تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإِسراء: 85].(3/475)
وقد شَرعَ اللهُ العباداتِ ونظَّمَ المعاملاتِ ابتلاءً وامتحاناً لعبادِهِ ليَتبيَّن بذلك منْ كان عابداً لمَوْلاَهُ ممَّن كان عابداً لِهواه، فَمنْ تقبَّلَ هذه الشرائعَ وتلكَ النظم بصدرِ منشَرحٍ ونفس مطمئنة فهو عابدً لمولاه، راضٍ بشريعتِه، مُقدِّمٌ لطاعةِ ربِّه على هوى نفْسِه، ومن كان لا يقْبلُ من العباداتِ، ولا يتبعُ من النُّظُم إلا مَا ناسَبَ رغبتَه ووافقَ مرَادَه فهو عابدٌ لهواه، ساخطٌ لشريعة الله، مُعرضٌ عن طاعةِ ربِّه، جعلَ هواه متْبُوعاً لا تابعاً، وأراد أنْ يكونَ شرع الله تابعاً لرغبتِه مع قصورِ علْمِه وقلَّةِ حكمته قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَتُ وَالاَْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } [المؤمنون: 71]. ومن حكمة الله سبحانه أن جَعَل العباداتِ مُتنوِّعةً ليتمحَّصَ القُبولُ والرِّضى، ولِيمحِّصَ الله الذينَ آمنوا. فإنَّ منَ الناسِ منْ قد يَرضى بنَوْع مِنَ العباداتِ ويلتزم به، ويسخطُ نوعاً آخر ويفرِّطُ فيه فجعل اللهُ من العبادات ما يتَعَلَّقُ بعمَلِ البدَنِ كالصلاةِ، ومنها ما يتعلقُ ببذْلِ المالِ المحبوب إلى النفسِ كالزكاةِ، ومنها ما يتعلقُ بعملِ البدنِ وبذلِ المال جميعاً كالحج والجهادِ، ومنها ما يتعلقُ بكفِّ النَّفْسِ عن محبوباتها ومُشْتَهَيَاتها كالصيام. فإذا قام العبد بهذه العبادات المتنوعة وأكْمَلها على الوجهِ المطلوب منه دون سخطٍ أو تفريطٍ فتعب وعملَ وبذَلَ ما كان محبوباً إليه وكفَّ عما تشتهيه نفْسُه طاعةً لربِّه وامتثالاً لأمْرِهِ ورضاً بشرعِهِ كان ذلك دليلاً على كمالِ عُبوديته وتمام انْقيادِه ومَحبَّتِهِ لربِّه وتعظيمِه له فَتحقَّقَ فيه وصفُ العُبوديَّة لله ربِّ العالمِين.(3/476)
إذا تبينَ ذلك فإنَّ للصيامِ حِكَماً كثيرةً استوجبتْ أنْ يكونَ فريضةً من فرائِض الإِسلامِ وركناً منْ أركانِه.
فمنْ حِكَمِ الصيام أنَّه عبادةٌ لله تعالى يَتَقَرَّبُ العبدُ فيها إلى ربِّه بتْركِ محبوباتِه ومُشْتَهَياتِه منْ طعام وشرابٍ ونِكاح، فيظْهرُ بذلك صدقُ إيْمانِه وكمالُ عبوديتِه لله وقوةُ مَحَبَّته له ورجائِه ما عنده. فإنَّ الإِنسانَ لا يتركُ محبوباً له إلاَّ لمَا هو أعْظَمُ عنده مِنه. ولما عَلِمَ المؤمنُ أن رضَا الله في الصِّيام بترك شهواته المجبول على محبَّتِها قدَّمَ رضَا مولاه على هواه فَتَركها أشدَّ ما يكونُ شوقاً إليها لأنَّ لذتَه وراحةَ نفْسِهِ في تْركِ ذلك لله عزَّ وَجلَّ، ولذلك كان كثيرٌ من المؤمنين لو ضُربَ أو حُبسَ على أن يُفْطر يوماً من رمضانَ بدونِ عُذْرٍ لم يُفطِرْ. وهذه الحكمةُ من أبلغ حِكمِ الصيامِ وأعظمِها.
ومنْ حِكَمِ الصيام أنه سببٌ للتَّقْوى كما قال سبحانه وتعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183]. فإنَّ الصَّائِمَ مأمُورٌ بفعل الطاعاتِ واجتناب المعاصي كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «منْ لَم يَدعْ قول الزورِ والعملَ به والجَهلَ فليس لله حاجةٌ في أنَّ يَدعَ طعامَه وشرابَه»، رواه البخاري. وإذا كان الصائمُ متلبساً بالصيامِ فإنَّه كلَّما همَّ بمعصيةٍ تَذكَّر أنَّه صائمٌ فامتَنعَ عنها. ولهذا أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم الصائمَ أنْ يقولَ لمَنْ سابَّه أو شاتَمَه: إنِي امْرؤٌ صائمٌ، تَنْبيهاً له على أنَّ الصائمَ مأمورٌ بالإِمساك عن السَّبِّ والشَّتْمِ، وتذكيراً لنفْسِه بأنه متلبسٌ بالصيام فيمتنعُ عن المُقابَلةِ بالسبِّ والشتم.(3/477)
ومن حِكَم الصيامِ أن القلب يتخلَّى للفِكْرِ والذِّكْرِ، لأنَّ تَناوُلَ الشهواتِ يستوجبُ الْغَفْلَةَ ورُبَّما يُقَسِّى القلبَ ويُعْمى عن الحقِّ، ولذلك أرشَدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إلى التخفيفِ من الطَّعامِ والشراب، فقال صلى الله عليه وسلّم: «مَا مَلأ ابنُ آدمَ وِعَاءٍ شرّاً من بطنٍ، بحَسْبِ ابن آدمَ لُقيْماتٌ يُقمن صُلْبَه، فإِن كان لا مَحالَةَ فَثُلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنفسِهِ» رواه أحمد والنسائيُّ وابن ماجة.
وفي صحيح مُسْلمٍ أنَّ حْنَظلَة الأسُيديِّ ـ وكان منْ كتَّاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم ـ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم: نَافَق حنظلةُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وما ذَاك؟» قال: يا رسولَ الله نكونُ عندك تُذكِّرُنا بالنارِ والجنةِ حتى كأنَّا رأيُ عينٍ فإذَا خَرجنا من عندك عافسْنَا الأزْواجَ والأولادَ والضَّيعاتِ فَنسِيْنا كثيراً. (الحديث) وفيه: «ولكن يا حنظلةُ ساعةً وساعة» ثلاث مرات. وقال أبو سليمان الداراني: إن النفسَ إذا جاعت وعطِشَت صَفَا القلب وَرَقَّ وإذا شبِعت عميَ القلب.
ومنْ حِكَمِ الصيامِ أنَّ الغنيَّ يَعرفُ به قدْرَ نعمةِ الله عليه بالغِنَى حيثُ أنعمَ الله تعالى عليه بالطعامِ والشرابِ والنكاح وقد حُرِمَهَا كثيرٌ من الْخلْق فَيَحْمَد الله على هذه النِعمةِ ويشكُرُه على هذا التَّيسيرِ، ويذكرُ بذلك أخَاه الفقيرَ الذي ربَّما يبيتُ طاوياً جائِعاً فيجودُ عليه بالصَّدَقةِ يكْسُو بها عورتَه ويسُدُّ بها جَوعتَه. ولذلك كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أجْوَدَ الناسِ وكان أجْودَ ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريلُ فيُدارِسُه القرآنَ.(3/478)
ومن حِكَمِ الصيامِ التَّمرُّنُ على ضَبْطِ النَّفْسِ، والسَّيْطرةُ عليها، والْقوَّةُ على الإِمساكِ بزِمَامِهَا حتى يتمكنَ من التحكم فيها ويقودَها إلى ما فيه خيرُها وسعادتها، فإنَّ النَّفس أمَّارةٌ بالسوءِ إلاما رَحِمَ ربي، فإذا أطلقَ المرءُ لنَفْسِهِ عنَانها أوقعتْهُ في المهالك وإذا ملَكَ أمْرَها وسيْطر عليها تمكَّنَ من قيادتِها إلى أعلى المراتب وأسْنَى المَطَالب.
ومن حِكَمِ الصيام كسْرُ النفْس والحدُّ من كِبريائِها حتى تخضعَ للحق وتَلِيْنَ للخَلْق، فإنَّ الشَبعَ والرِّيَّ ومباشرةَ النساءِ يَحمِلُ كلٌ منها على الأشَرِ والْبَطرِ والعُلوِّ والتكبُّر على الخَلْقِ وعن الحقِّ. وذلك أنَّ النفسَ عند احتياجِها لهذه الأمورِ تشغلُ بتحصيلِها فإذا تَمكَّنتْ منها رأتْ أنَّها ظَفِرتْ بمطلوبها فيحصلُ لها من الفَرحِ المذمومِ والبطرِ ما يكونُ سبباً لِهلاكها، والمَعْصومُ مَنْ عَصَمَه الله تعالى.
ومن حِكَمِ الصيامِ أنَّ مجارِيَ الدَّم تضيقُ بسببِ الجوع والعطشِ فتضيقُ مَجارِي الشيطانِ من الْبَدنِ فإنَّ الشيطانَ يَجْري مِن ابن آدَمَ مجْرَى الدم، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم، فتسْكُنُ بالصيامِ وَسَاوسُ الشيطانِ، وتنكسرُ سَورةُ الشهوةِ والغضبِ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا مَعْشَر الشباب مَن استطاع منكم الْبَاءةَ فلْيتزوجْ فإنَّه أغَضُّ للبَصر وأحْصَنُ لِلفَرْجِ، ومَن لم يستطعْ فعليه بالصومِ فإنه له وِجاءُ»، متفق عليه. فجعل الصوم وجاء لشهوة النكاح وكسراً لحدتها.
ومنْ حِكَمِ الصيامِ ما يترتَّبُ عليه من الفَوائدِ الصِّحِّيَّةِ الَّتي تحصل بتقليل الطعامِ وإراحَةِ جهازِ الهضْم لمدةٍ معينةٍ وترسُّبِ بعضِ الرطوباتِ والفضلات الضَّارَّةِ بالجسْمِ وغير ذلك. فما أعظمَ حكمةَ الله وأبلَغَها، وما أنفعَ شرائعَه للخلق وأصلحَهَا.(3/479)
اللَّهُمَّ فقِّهْنا في ديِنك وألهمنا معرفةَ أسرارِ شريعتِك. وأصْلحِ لنا شُؤون ديننَا ودنيانا، واغْفِرْ لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمينَ برحمتكَ يا أرحمَ الراحمين وصلى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس العاشر - في آداب الصيام الواجبة
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله الَّذِي أرْشَدَ الخلقَ إلى أكْملِ الاداب، وفتَحَ لهم من خزائنِ رحمتِهِ وجودِهِ كُلَّ باب، أنَار بصائرَ المؤمنينَ فأدركوا الحقائقَ وطلبُوا الثَّواب، وأعْمَى بصائرَ المُعْرِضين عن طاعتِهِ فصار بينهم وبين نوره حجاب، هدى أولئك بفضله ورحمته وأضلَّ الآخرين بعدله وحكمته، إن في ذلك لذِكْرى لأولى الألبَاب، وأشْهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحده لا شريكَ له، له الملكُ الْعَزيزُ الوَهَّاب، وأشْهدُ أنَّ محمداً عبده ورسولهُ المبعوثُ بأجَلِّ العباداتِ وأَكمَلِ الآداب، صلَّى الله عليه وعلى جميع الالِ والأصْحَاب، وعلى التابعين لَهم بإحْسَانٍ إلى يومَ المَآب، وسلَّم تسليماً.
إخواني: اعْلَمُوا أنَّ للصيام آداباً كثيرةً لا يتمُّ إِلاّ بها ولا يكْمُلُ إِلاَّ بالقيامِ بها وهي على قِسمَين: آدابٌ واجبةٌ لا بُدَّ للصائم من مُراعاتِها والمحافظةِ عليها، وآداب مستحبةٌ ينبغي أن يُراعيها ويحافظَ عليها.(3/480)
فمنَ الآداب الواجبةِ أنْ يقومَ الصائمُ بما أوجبَ الله عليه من العباداتِ القوْليَّةِ والفعليَّةِ ومن أهمِّها الصلاةُ المفروضةُ التي هي آكدُ أركانِ الإِسلامِ بعد الشهادَتَين، فتجبُ مراعاتُها بالمحافظةِ [10] في ْآداب الصيام الواجبةعليها والقيامِ بأرْكانِها وواجباتِها وشروطِها، فيؤديها في وقْتِها مع الجماعةِ في المساجِدِ، فإنَّ ذَلِكَ من التَّقْوى التي مِنْ أجْلها شُرعَ الصيامُ وفُرِضَ على الأمة، وإضاعةُ الصلاة مُنافٍ للتَّقْوى وموجبٌ للعقوبةِ. قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً الشَّهَوَتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً * إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [مريم: 59، 60].(3/481)
ومِنَ الصائمين مَنْ يتهاونُ بصلاة الجماعةِ مع وُجوبها عليه. وقد أمَرَ الله بها في كتابه فقال: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } (يعني: أتُّموا صلاتَهم) فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن(3/482)
تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [النساء: 102].
فأمر الله بالصلاةِ مع الجماعةِ في حالِ القتالِ والخوفِ. ففي حالِ الطُّمَأنينةِ والأمنِ أوْلَى. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه: «أنَّ رجُلاً أعْمَى قال: يا رسولَ الله ليس لي قائدٌ يقودنُي إلى المسجدِ. فرخَّصَ له. فلمَّا ولَّى دعاه وقال هلْ تسمعُ النِّداء بالصلاةِ؟ قال نَعَمْ قال فأَجِبْ»، رواه مسلم. فلم يُرخِّص له النبيُ صلى الله عليه وسلّم في تركِ الجماعةِ مع أنه رجلٌ أعمى وليس له قائد، وتاركُ الجماعةِ مع إضاعتِهِ الواجبَ قَدْ حَرَم نفْسَه خيراً كثيراً من مُضاعفةِ الحسنات، فإن صلاة الجماعة مضاعفة كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «صلاةُ الجماعة تفضل على صلاةِ الْفذِّ بسبْعٍ وعشرين درجةً». وفوَّتَ المصالِحَ الاجتِماعيَّة التي تحصل للمسلمين باجتماعِهم على الصلاةِ من غرْسِ المَحَبَّةِ والأُلفةِ وتعليمِ الجاهلِ ومساعدةِ المحتاجِ وغير ذلك.(3/483)
وبتركِ الجماعةِ يَعرِّضُ نفْسَه للعقوبةِ ومشابهةِ المنافقينَ، ففي الصحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أثْقلُ الصَلَوَاتِ على المنافقين صلاةُ العشاءِ وصلاةُ الفجر، ولو يَعْلَمون ما فيهما لأتَوهُما ولوْ حَبْواً. ولقد هممْت أنْ آمُرَ بالصلاةِ فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلِّي بالناس، ثم أنطلق معي برِجالٍ معهم حِزَمٌ من حطبٍ إلى قوم لا يشهدون الصلاةَ فأحرق عليهم بيوتَهم بالنارِ». وفي صحيح مسلم عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: من سَرَّه أنْ يَلْقى الله غداً مسلماً فلْيحافظْ على هؤلاء الصلواتِ، حيث يُنادَى بهن فإنَّ الله شَرَعَ لنبيكم سُنَنَ الْهُدى وإنهنَّ مِنْ سُننِ الهُدى، قال: ولقد رأيتنا وما يتخلَّفُ عنها إلاَّ منافقٌ معلوم النفاقِ. ولقد كَان الرجُلُ يُؤتْى به يُهادَى بين الرجلين حتى يقامَ في الصفَّ. ومن الصائمين مَنْ يتجاوزُ بالأمر فينامُ عن الصلاةِ في وقتِها. وهذا منْ أعظمِ المنكرات وأشدِّ الإِضاعَةِ للصلواتِ حتى قال كثيرٌ من العلماءِ: إن مَنْ أخَّرَ الصلاةَ عن وقتِها بدونِ عذْرٍ شرعيٍّ لَمْ تقبلْ وإن صلى مئة مرَّةٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ عمِل عملاً ليس عليه أمْرُنا فهو رَدُّ»، رواه مسلم. والصلاةُ بعد وقتِها ليس عليها أمرُ النبي صلى الله عليه وسلّم فتكونُ مردودةً غيرَ مقبولةٍ.(3/484)
ومن الآداب الواجبةِ: أن يجتِنبَ الصائمُ جميعَ ما حَرَّمَ الله ورسولُه مِنَ الأقوال والأفَعالِ، فيجتنبَ الكذبَ وهو الإِخبار بخلاف الواقع، وأعظمُه الكذبُ على الله ورسولِه كأنْ يَنْسُبَ إلى الله أو إلى رسولِهِ تحليَلَ حرامٍ أوْ تحريمَ حلالٍ بلا علم. قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل: 116، 117]، وفي الصحيحين وغيرهما من حديثِ أبي هريرة وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقْعَدَه من النار». وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلّم من الْكَذِب فقال: «إيَّاكُم والكذبَ فإنَّ الكَذبَ يَهْدِيْ إلى الفُجُورِ وإنَّ الفجورَ يهدِي إلى النار ولا يزالُ الرجلُ يكذِب ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتَب عند الله كَذَّاباً»، متفق عليه.(3/485)
ويجتنبُ الغِيْبَةَ، وهي ذكْركَ أخَاك بما يَكْرهُ في غَيْبتِهِ، سواءٌ ذكرتَه بما يَكرَه في خِلْقَتهِ كالأعْرَجِ والأعورِ والأعمى على سبيلِ الْعيْبِ والذَّم، أو بما يَكرهُ في خُلُقِه كالأحْمَق والسفيهِ والفاسِقِ ونحوه. وسواءٌ كان فيه ما تقُولُ أمْ لم يكُنْ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئل عن الغِيْبةِ فقال: «هي ذكْرُك أخاك بما يكْره، قيل: أفَرأيتَ إنْ كان في أخِي ما أقول؟ قال: إنْ كان فيه ما تقولُ فقد اغتبتَه وإنْ لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّهُ»، رواه مسلم. ولقد نهى الله عن الغِيبةِ في القرآن وشبَّهها بأبشعِ صورةٍ؛ شبَّهها بالرَّجُل يأكلُ لحمَ أخيه ميتاً، فقال تعالى: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [الحجرات: 12]. وأخْبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أنَّه مَرَّ لَيْلَةَ المعراجِ بقومٍ لهم أظْفارٌ من نُحاسٍ يخمشون بها وجوهَهم وصدورَهُمْ فقال: «مَنْ هؤلاء يا جبريلُ؟ قالَ: هؤلاءِ الذينَ يأكلونَ لحومَ الناسِ ويَقعونَ في أعْراضِهِم»، رواه أبو داود.(3/486)
ويجتنبُ النَّمِيْمَةَ وهي نقْلُ كلامِ شخصٍ في شخصٍ إليهِ ليُفْسدَ بَينهما، وهي من كبائِر الذنوبِ. قال فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يدخلُ الجَنَّةَ نَمَّام»، متفق عليه. وفي الصحيحين من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم مرَّ بقَبْرَين فقال: «إنَّهما ليُعَذَّبانِ وما يُعذَّبان في كبير (أي في أمرٍ شاقٍّ عليهما)، أمَّا أحَدُهما فكان لا يسْتنْزهُ من البولِ، وأمَّا الآخرُ فكانَ يَمْشِي بالنَّميمة». والنميمةُ فَسَادٌ للفَرْدِ والمجتَمَع وتفريقٌ بينَ المسلمين، وإلقاءٌ للعداوةِ بينهم {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ } [القلم: 10، 11] فمن نمَّ إليكَ نمّ فيك فاحذره.
ويجتنبُ الْغِشَّ في جميع المعاملاتِ من بيعٍ وإجارةٍ وصناعةٍ ورهنٍ وغيرها، وفي جميع المناصحاتِ والمشوراتِ فإنَّ الغشَّ من كبائِر الذنوبِ، وقد تبرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من فاعِلِه فقال صلى الله عليه وسلّم: «من غَشَّنَا فليس مِنَّا». وفي لفظٍ: «من غش فليس مِني»، رواه مسلم. والغشُّ خديعةٌ وضياعٌ للأمانةِ وفقْدٌ للثِّقَةِ بين الناسِ، وكلُّ كَسبٍ من الغشِّ فإنَّه كسبٌ خبيثٌ حرامٌ لا يزيدُ صاحبَه إلاَّ بُعْدَاً من الله.(3/487)
ويجتنبُ المَعازِفَ وهي آلاتُ اللَّهْوِ بجميعِ أنواعِها كالْعُودِ والرَّبابةِ والقَانونِ والْكَمنجَةِ والبيانو والْكَمانِ وغيرها فإنَّ هذه حَرَام. وتزدادُ تحريماً وإثماً إذا اقترنت بالْغنَاءِ بأصواتٍ جميلةٍ وأغانٍ مثيرةٍ قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [لقمان: 6]. وقد صَحَّ عن ابن مسعودٍ أنَّه سُئِلَ عن هذِه الآية فقال: والله الذي لا إِلهَ غيرُه هو الغناء. وصح أيضاً عن ابن عباسٍ وابن عمرَ وذكره ابن كثيرٍ عن جابرٍ وعكرمةَ وسعيدِ بن جُبيْرٍ ومجاهِدٍ وقال الْحَسنُ: نزلتْ هذه الاية في الغناءِ والمزامير. وقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من المَعازفِ وقَرَنَها بالزِّنَا فقال صلى الله عليه وسلّم: «ليكونَنَّ من أمَّتي أقْوَامٌ يستحِلُّونَ الحِرَ والحريرَ والخمْر والمعازفَ»، رواه البخاري. فالْحِرُ الفَرْجُ والمراد به الزِنا ومعنى يستحلون أي يفعلَونَها فعْلَ المستحِلِّ لها بدونِ مبالاةٍ، وقد وقعَ هذَا في زمِننا فكان مِن الناسِ من يستعملُ هذه المعازفَ أوْ يَسْتَمِعُها كأنَّها شَيْءٌ حلالٌ، وهذا مما نجحَ فيه أعداء الإِسلام بكيدهم للمسلمين حتى صدوهم عن ذكر الله ومهامِّ دينهم ودنياهُم، وأصْبَحَ كثيرٌ منهم يستمعون إلى ذلك أكْثر مما يستمعونَ إلى قراءةِ القرآنِ والأحاديثِ وكلام أهْلِ العلم المُتضمِّنِ لبيانِ أحْكامِ الشريعةِ وحِكَمِها. فاحذورا أيها المسلَمونَ نواقضَ الصومِ ونواقِصَهُ، وصُونُوه عن قول الزُّورِ والعملِ به. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من لم يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أنْ يَدَع طعامَهَ وشرابَه». وقال جابرٌ رضي الله عنه: إذا صمتَ فليصمْ سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمحارِمِ، ودَع عنك أذَى الجارِ، وليكن(3/488)
عليك وقارٌ وسَكِينةٌ، ولا يكن يومُ صومِك ويومُ فِطْرِك سواءً.
اللَّهُمَّ احفظْ علينا دينَنَا. وكفَّ جوارحَنا عما يُغْضبُك. واغفرْ لنا ولِوالِدينا ولجميع المسلمينَ برحمتِكَ يا أرْحَمَ الراحمينَ. وصلَّى الله وسلَّم على نَبِيَّنَا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الحادي عشر - في آداب الصيام المستحبة
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله مُبلِّغِ الراجِي فوقَ مأمُولِه، ومُعْطِي السائلِ زيادةً على مسؤولِه، أحمدُه على نيلِ الهُدَى وحصولِه، وأقِرُّ بوحدانيَّتِهِ إقرارَ عارفٍ بالدَّلِيل وأصُوله، وأصلِّي وأسَلِّم على نبينا محمدٍ عبدِه ورسولِه، وعلى صاحبه أبي بكرٍ الملازم له في ترحالِهِ وحُلُولِه، وعلى عُمَر حامِي الإِسْلامِ بعزْمٍ لا يُخَافُ من فُلولِه، وعلى عثمانَ الصابرِ على البلاء حين نزولِه، وعلى عليٍّ بن أبي طالبٍ الذي أرهبَ الأعداءَ بشجاعتِهِ قبل نُضُولِه، وعلى جميع آلِه وأصْحابه الذين حازُوا قصَبَ السَّبْق في فروعِ الدينِ وأصُولِه، ما تَرَدَّد النسيمُ بين جَنوبِه وشمَالِهِ وغرْبِهِ وقُبولِه.
إخواني: هذا المجلسُ في بيانِ القسمِ الثانِي من آداب الصومِ وهي الآدابُ المُسْتحبَّةُ، فمنها:(3/489)
السُّحُورُ وهو الأكلُ في آخِرِ الليل سُمِّي بذلكَ لأنَّه يقعُ في السَّحَرِ فقد أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم به فقال: «تَسحَّروا فإن في السحورِ بركةً»، متفق عليه. وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاصِ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «فَصْلُ ما بَيْنَ صيامِنَا وصيامِ أهلِ الكتاِب أكْلةُ السَّحَر». وأثْنَى صلى الله عليه وسلّم على سَحُورِ التَّمرِ فقال: «نِعْمَ سَحُورُ المؤمنِ التمرُ»، [11] في آداب الصيام المستحبةرواه أبو داود. وقال صلى الله عليه وسلّم: «السُّحُور كله بركةٌ فلا تَدَعُوْه ولو أن يجرع أحدكم جرعةً من ماءٍ فإن الله وملائكتَه يُصلُّون على المُتسَحِّرِين» رواه أحمد وقال المنذريُّ: إسنادُه قويٌّ.(3/490)
وَيَنْبَغِي للمتسحر أنْ ينْويَ بِسُحُوره امتثالَ أمر النبي صلى الله عليه وسلّم، والاقْتداءَ بفعلِهِ، ليكونَ سُحُورُه عبادةً، وأنْ ينويَ به التَّقَوِّيَ على الصيام ليكونَ له به أجرٌ. والسُّنَّةُ تأخيرُ السُّحورِ ما لَمْ يخْشَ طلوعَ الْفَجْرِ لأنَّه فعلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم، فعن قتادة عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلّم وزَيْدَ بن ثابتٍ تسحَّرَا فلَّما فرغا من سُحُورهما قام نبيُّ الله صلى الله عليه وسلّم إلى الصلاةِ فصلَّى، قُلنا لأنس: كمْ كان بين فراغِهما من سُحُورهما ودخولهما في الصلاةِ؟ قال: قَدْرُ ما يقْرأ الرجلُ خَمسين آيةً، رواه البخاري. وعن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ بلاَلاً كان يؤذِّنُ بلَيْل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «كُلُوا واشرَبُوا حتى يُؤذِّنَ ابن أمِّ مكتومٍ فإنَّه لا يؤذنُ حتى يطلُعَ الفجْرَ»، رواه البخاري. وتأخيرُ السُّحور أرفْقُ بالصائِم وأسْلَمُ من النومِ عن صلاةِ الفجرِ. وللصائم أن يأكلَ ويشربَ ولو بَعْد السُّحورِ ونيَّةِ الصيام حتى يَتيقَّنَ طلوعَ الفجر لقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَكِفُونَ فِي الْمَسَجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة: 183]. ويحكم بطلوعِ الفجرِ إما بمشاهَدَتِهِ في الأُفقِ أو بخَبَرٍ موثوقٍ به بأذانٍ أو غيرِه، فإذا طلع الفجرُ أمْسَكَ وينوي بقلبِه ولا يَتلفَّظ بالنيةِ لأنَّ التلفظ بها بدعةٌ.(3/491)
ومن آداب الصيام المستحبةِ تعجيلُ الفُطور إذا تحقق غروبُ الشَّمْسِ بمُشَاهدتِها أو غَلَب على ظنِّه الغروبُ بِخبرٍ موثوقٍ به بأذانٍ أو غيرِه، فعن سَهْلِ بنِ سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يَزالُ الناسُ بخيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ»، متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلّم فيما يرْويهِ عن ربِّه عزَّ وجلَّ: «إن أحبَ عبادي إليَّ أعجلُهم فطراً»، رواه أحمد والترمذي. والسنَّة أنْ يفطِرَ على رُطَبٍ، فإن عُدِم فتمْر، فإنْ عُدِم فَمَاء، لقول أنسٍ رضي الله عنه: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُفطِرُ قبلَ أن يُصَلِّيَ على رُطباتٍ، فإنْ لَمْ تكنْ رطبات فَتَمَرَات، فإن لم تكن تمرات حَسَا حَسَواتٍ من ماءٍ»، رواه أحمد وأبو داود والترمذي. فإن لم يجد رُطباً ولا تمراً ولا ماءً أفْطَر على ما تَيسَّر من طعام أو شرابٍ حلال. فإنْ لم يجد شَيْئاً نَوى الإِفطار بقلبِه ولا يمص إصْبَعَه أو يجمع ريقَه ويَبلعه كما يفعلُ بعضُ العَوَامِّ.
وينبغي أن يدعُوَ عندفِطرِه بما أحَبَّ، ففي سنن ابن ماجة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «إنَّ للصائِمِ عند فطْرِه دعوةً ما تُرَدُّ». قال في الزوائد: إسنادُه صحيح، وروى أبو داودَ عن معاذَ بنِ زهْرَةَ مرسَلاً مرفوعاً: كان إذا أفطر يقولُ: اللَّهُمَّ لك صُمْت وعلى رزقك أفَطَرَتُ. وله من حديث ابنِ عمَر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان إذا أفْطَر يقولُ: «ذَهَبَ الظَّمأُ وابْتَلَّتِ العروُقُ وثَبتَ الأجْرُ إنْ شاءَ الله».(3/492)
ومن آدابِ الصيامِ المستحبةِ كثرةُ القراءةِ والذكرِ والدعاءِ والصلاةِ والصدقة. وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبَّان أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة لا ترد دعوتُهم: الصائمُ حتى يُفْطِر، والإِمامُ العادلُ، ودعوةُ المظلومِ يرْفَعُها الله فوقَ الغمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السماء ويقولُ الرَّبُّ: وعِزَّتِي وجَلالِي لأنصُرنَّكِ ولو بَعدَ حينٍ»، ورواه أحمد والترمذي. وفي الصحيحين من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أجْوَد الناسِ، وكان أجوَدَ ما يكونُ في رمضانَ حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن. فَلَرَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّم حينَ يَلقاهُ جبريلُ أجْوَدُ بالْخيرِ من الريحِ المُرسلةِ. وكان جُوْدُه صلى الله عليه وسلّم يَجْمعُ أنْواعَ الجُودِ كُلَّها من بذْلِ الْعِلْمِ والنَّفْسِ والمالِ لله عزَّ وجلَّ في إظهارِ دينِه وهداية عبادِه وإيْصالِ النَّفْعِ إليهم بكَلِّ طريقٍ من تعْليم جاهِلِهِم وقضاءِ حوائِجِهم وإطعام جائِعهم. وكان جودُه يتضاعَفُ في رمضان لِشَرَفِ وَقتِهِ ومضاعَفَةِ أجْرِهِ وإعانَةِ العابدين فيه على عبادتهم والجمع بين الصيام وإطعامِ الطعام وهما مِنْ أسْبابِ دخولِ الجنَّةِ.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قالَ: «مَنْ أصبح منْكُمْ اليومَ صائماً؟ فقال أبو بكر: أنا. قال: فمَنْ تبعَ منكم اليومَ جِنازةً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمَنْ أطعم منكم اليومَ مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمَنْ عادَ منكم اليومَ مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: مَا اجتمعْنَ في امرأ إلاَّ دَخَلَ الجنَّةَ».(3/493)
ومن آداب الصيام المستحبةِ أنْ يَسْتحضِرَ الصائمُ قدْرَ نعْمة الله عليه بالصيام حيثُ وفَّقَه له ويَسَّره عليه حتى أتمَّ يومَه وأكْملَ شَهْره، فإنَّ كثيراً من الناسِ حُرمُوا الصيامَ إمَّا بموتِهِم قبل بلوغِهِ أو بعجْزهم عنه أو بضلالهم وإعْرَاضِهِم عن القيام به، فَلْيَحْمدِ الصائمُ ربَّه على نعمةِ الصيامِ التي هي سببٌ لمغفرةِ الذنوب وتَكْفير السيئاتِ ورفْعةِ الدرجاتِ في دارِ النعيم بجوارِ الربِّ الكريم.
إخواني: تأدبُوا بآداب الصيام، وتَخلَّوا عن أسْباب الغضب والانتقام، وتَحلوا بأوْصاف السَلَف الكرام، فإنَّه لن يُصْلِحَ آخر هذِه الأمة إلاَّ ما أصلَحَ أوَّلها منَ الطاعَة واجتنابِ الآثام.
قال ابن رجبٍ رحمه الله: الصائمون على طَبقَتَين: إحدَاهما: من ترك طعامَه وشرابَه وشهوتَه لله تعالى يرجو عنده عِوَضَ ذَلِكَ في الجنَّة،فهذا قد تاجَرَ مع الله وعَامله والله لا يضيعُ أجرَ منْ أحسنَ عملاً ولا يخيبُ معه من عامله، بل يربحُ أعظمَ الربح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لرجل: «إنك لن تدع شيئاً اتقاء الله إلا آتاك الله خيراً منه» أخرجه الإِمام أحمد.
فهذا الصائم يُعطى في الجنةِ ما شاء من طعام وشرابٍ ونساءٍ. قال الله تعالى: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى الاَْيَّامِ الْخَالِيَةِ } [الحاقة: 24]. قال مُجاهدٌ وغيرُه: نَزَلتْ في الصائمين. وفي حديثِ عبدالرحمَن بنِ سَمُرةَ الَّذي رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في منامِه قال: «ورَأيتُ رجلاً من أمَّتِي يلْهثُ عَطَشاً كُلَّمَا دنا من حَوضٍ مُنِعَ وطُرِدَ فجاءه صيامُ رمضان فسقاهُ وأرواه»، خرجه الطبراني.
يا قوم ألا خاطبٌ في هذا الشهرِ إلى الرحمن؟ ألا راغب فيما أعدَّ الله للطائِعين في الْجنَان؟(3/494)
مَنْ يُرِدْ مُلْكَ الْجِنَانِفلْيَدعْ عنه التوانيولْيَقْم في ظُلمةِ الليلِإلى نورِ القُرآنِولْيَصِلْ صوماًبصومٍإن هذا العَيشَ فَانِإنَّما العيشُ جِوارُ اللهفي دارِ الأمانِ الطَّبَقَةُ الثانيةُ مِنَ الصائِمين: منْ يصومُ في الدنيا عما سِوى الله فَيَحْفَظُ الرأسَ وما حَوى والْبطْنَ وما وَعَى ويَذْكُر الموتَ والْبِلى ويريد الاخِرةَ فَيتركُ زينةَ الدنيا، فهذا عيدُ فِطرهِ يوم لقاءِ ربِّه وَفَرَحته برُؤْيتِهِ.
من صام بأمر الله عن شهواته في الدنيا أدركها غداً في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [العنكبوت: 5].
يا مَعْشَر التائبين صومُوا اليومَ عن شهواتِ الْهَوى لِتُدْرِكوا عيدَ الفطرِ يوم اللِّقاء.
اللَّهُمَّ جَمِّل بواطِنَنَا بالإِخلاصِ لك، وحَسِّنْ أعمالَنا باتِّباع رسولِكَ والتأدُّب بآدابه، اللَّهُمَّ أيْقِظْنا من الغَفَلات، ونجِّنا من الدَّركات، وكفِّر عنَّا الذنوبَ والسَيِّئات، واغْفِرْ لَنَا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين الأحياءِ منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعينَ.
مجالس شهر رمضان
المجلس الثاني عشر - في النوع الثاني من تلاوة القرآن
محمد بن صالح العثيمين(3/495)
الحمدُ لله معطي الجزيلَ لمنْ أطاعه ورَجَاه، وشديد العقاب لمن أعرضَ عن ذكره وعصاه، اجْتَبَى من شاء بفضلِهِ فقرَّبَه وأدْناه، وأبْعَدَ مَنْ شاء بعَدْلِه فولاَّه ما تَولاَّه، أنْزَل القرآنَ رحمةً للعالمين ومَنَاراً للسالِكين فمنْ تمسَّك به نال منَاه، ومنْ تعدّى حدوده وأضاع حقُوقَه خسِر دينَه ودنياه، أحْمدُه على ما تفضَّل به من الإِحسانِ وأعطاه، وأشْكره على نِعمهِ الدينيةِ والدنيويةِ وما أجْدَرَ الشاكرَ بالمزيدِ وأوْلاه، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له الكاملُ في صفاتِهِ المتعالي عن النُّظَراءِ والأشْباءه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي اختاره على البشر واصْطفاه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابعينَ لهم بإِحسانٍ ما انْشقَّ الصبحُ وأشْرقَ ضِياه، وسلَّم تسليماً.
إخواني: سبق في المَجْلِس الخامسِ أنَّ تِلاوةَ القرآنِ على نوعين تلاوةِ لفظِهِ وهي قراءته وتقدَّم الكلامُ عليها هُناكَ.
والنوعُ الثاني تلاوةُ حُكمِه بتصديقِ أخبارِهِ واتَّباعِ أحكامِهِ، فعْلاً للمأموراتِ وتركاً للْمنهِيَّات.(3/496)
وهذا النَّوعُ هو الغايةُ الْكُبرَى من إنزال القرآن كما قال تعالى: [12] في النوع الثاني من تلاوة القرآن{كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ إِلَيْكَ مُبَرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاَْلْبَبِ } [ص: 29]. ولهذا دَرَجَ السلف الصالحُ رضي الله عنهم على ذلك يتعلَّمون القرآن، ويصدِّقون بِهِ، ويُطبقون أحْكامَه تطبيقاً إيْجابيَّاً عن عقيدةٍ راسخةٍ ويقين صادق. قال أبو عبدالرحمنِ السُّلميُّ رحمه الله: حدَّثَنا الذين كانوا يُقرِؤوننا القرآن، عثمان بنُ عفانَ وعبدُالله بنُ مسعودٍ، وغيرهما، أنَّهم كانَوا إذا تعلَّمُوا منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم عَشرَ آياتٍ لم يتجاوزوها حتى يتعلَّموها وما فِيها من الْعلْم والْعَمَل، قالوا: فَتعلَّمنَا القرآنَ والعلمَ والعملَ جميعاً. وهذا النوعُ من التلاوة هو الَّذِي عليه مَدار السعادةِ والشقاوةِ، قال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بَِايَتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [طه: 123 127].(3/497)
فَبيَّن الله في هذه الآيات الكريمةِ ثوابَ المتَّبِعينَ لِهُدَاه الَّذِي أوْحاه إلى رسُلِهِ، وأَعْظَمُه هذا القرآنُ العظيمُ، وبيَّنَ عقابَ المُعْرضين عنه. أمَّا ثوابُ المتَّبعين له فلا يَضلِّونَ ولا يَشقَونَ، ونفْيُ الضلالِ والشقاءِ عنهم يتضمَّن كمالَ الهدايةِ والسعادةِ في الدُّنيا والآخرةِ، وأما عقاب المعرضين عنه المتكبِّرين عن العمل به فهو الشقاء والضلال في الدنيا والآخرة، فإنَّ له معيشةً ضنْكاً، فهو في دُنياه في هَمٍّ وقَلقِ نَفْس ليس له عقيدةٌ صحيحةٌ، ولا عملٌ صالحٌ: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَفِلُونَ كَالأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَفِلُونَ } [الأعراف: 179]. وهُو في قبرِه في ضيْقٍ وضَنكٍ قد ضُيِّق عليه قبرُه حتى تختلف أضْلاعُه، وهُو في حَشْره أعْمَى لا يُبصرُ {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإِسراء: 97]. فَهمْ لمَّا عَمُوا في الدُّنيا عن رُؤْيَةِ الحقِّ وصَمُّوا عن سَماعِه وأمْسكُوا عن النطق به {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَمِلُونَ } [فصلت: 5] جازَاهُمُ الله في الآخرةِ بمثلِ ما كانوا عليه في الدُّنيا، وأضَاعهم كما أضَاعوا شَريعتَه {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [طه: 125، 126] {جَزَآءً وِفَقاً } [النبأ: 26] {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا(3/498)
كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [القصص: 84].
وفي صحيح البخاريِّ: عن سَمُرةَ بن جنْدُب رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان إذا صلَّى صلاةً، وفي لفظٍ: صلاةَ الْغَداةِ أقْبلَ علينا بوَجْههِ فقال: «مَنْ رأى منكم الليلةَ رُؤْيا؟ قال: فإنْ رأى أحدٌ قَصَّها، فيقولُ: ما شاء الله، فسألنا يوماً فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا. قال: لَكنِّي رأيْتُ الليلةَ رجُلين أتَيانِي (فساق الحديث وفيه) فانْطلقْنَا حتى أتيْنَا على مضْطَجِعٍ وإذا آخَرُ قائمٌ عليه بصَخْرةٍ وإذا هُوَ يَهْوي بالصَّخْرَةِ لِرَأْسِه فَيثْلغ رأسَه فَيَتدهْدَهُ الْحجرُ ههنا فَيتْبعُ الحجرَ فيأخذه فلا يَرجعُ إلى الرَّجُلِ حتى يصِحَّ رأسُه كَمَا كان، ثم يعودُ عليه فيفعلُ به مثل ما فعل به المرَّة الأولى، فقلتُ: سبحانَ الله! ما هذا؟ فقالاَ لي انْطلِق (فذكر الحديث وفيه) أمَّا الرجلُ الذي أتيت عليه يُثْلَغُ رأسُه بالحجرِ فهو الرجلُ يأخُذُ القرآنَ فَيَرْفُضُهُ وينامُ عن الصلاةِ المكتوبةِ».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم خطبَ الناسَ في حجَّةِ الوَداع فقال: «إنَّ الشيطانَ قد يَئِسَ أن يُعْبَدَ في أرضِكُم ولكنْ رَضِيَ أن يُطاع فيما سوى ذلك ممَّا تَحاقرُون من أعمالكم فاحذروا، إني تَركتُ فيكم ما إن تَمسَّكْتُم به فَلَنْ تضلوا أبداً كتابَ الله وسُنةَ نبيِّه»، رواه الحاكم وقال: صحيح الإِسناد.
وعن عَمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يُمثَّل القرآنُ يوم القيامةِ رجلاً فيُؤْتى بالرجلِ قد حَملهُ فخالفَ أمْرَه فيُمثَّلُ له خَصْماً، فيقولُ: يا ربِّ حمَّلْته إيَّاي فبئسَ الحاملُ، تَعدَّى حُدودي، وضيَّع فرائِضِي، وركب مَعْصِيتَي، وترَكَ طَاعتِي، فما يَزَالَ يُقذِف عليه بالحُجَجِ حتى يقالَ: شأنَكَ بِهِ، فيأخُذُه بيده فما يُرْسلُه حتى يُكِبَّه على مِنْخَره في النار».(3/499)
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «القرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك». وقال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: القرآنُ شافعٌ مُشفَّعٌ فمَن جَعلَه أمَامَهُ قادهُ إلى الجنةِ ومن جعله خلفَ ظهرهِ ساقَه إلى النار.
فيَا مَنْ كان القرآنُ خَصْمَه؛ كيفَ ترجو مِمَّنْ جعلْتَه خصْمَكَ الشفاعَةَ؟ ويْلٌ لمن شفعاؤه خُصماؤه يومَ تربحُ البضَاعة.
عبادَ الله: هذا كتابُ الله يُتْلى بَيْن أيْديكم ويُسْمَع. وهو القرآنُ الَّذي لو أُنزِلَ على جبلٍ لَرأيْتَه خاشِعاً يَتَصَدَّع، ومع هذا فلا أُذُنٌ تسمع، ولا عينٌ تدْمع، ولا قلبٌ يخشع، ولا امتثالٌ للقرآنِ فيُرجَى به أنْ يَشْفع، قلوبٌ خَلتْ من التَّقْوى فهي خَرَابٌ بَلْقَع، وتَرَاكمتْ عليها ظُلْمةُ الذنوب فهي لا تُبْصِرُ ولا تَسْمع، كم تُتْلى علينا آيَاتُ القرآنِ وقُلوبُنا كالحجارةِ أو أشد قَسْوة، وكم يتوالى علينا شهرُ رمضانَ وحالُنا فيه كحالِ أهلِ الشَّقْوة، لا الشَّابُّ منا يَنِتَهي عن الصَّبوة، ولا الشيخُ ينْتَهي عن القبيح فيَلْحقُ بأهلِ الصَّفوَة، أينَ نحنَ من قومٍ إذا سمِعُوا داعيَ الله أجابُوا الدَّعْوة، وإذا تُليتَ عليهم آياتُه وَجلَتْ قُلوبُهم وجَلتْهَا جَلْوَة، أولئك قومٌ أنْعَمَ الله علَيْهم فعرفُوا حقَّه فاختارُوا الصَّفوة.
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: ينبغي لقارأ القرآنِ أنْ يُعْرفَ بليلهِ إذا النَّاسُ يَنامُون، وبنَهَارِهِ إذا الناسُ يُفطِرُون، وببُكائِه إذا الناسُ يَضْحَكون، وبوَرَعِهِ إذا الناسُ يخلطون، وبِصَمْتِهِ إذا الناسُ يَخُوضون، وبِخشُوعِهِ إذا الناسُ يَخْتالُون، وبحْزْنِهِ إذا الناسُ يَفْرحون.(3/500)
يا نفْسُ فازَ الصالحون بالتُّقَىوأبصَروا الحقَّ وقلبي قد عَمِىِيا حُسْنَهم والليلُ قد أجَنَّهُمْونورُهم يفُوقُ نورَ الأنْجُمِتَرَنَّموا بالذِّكْر في لَيْلِهُمُوفَعَيْشُهم قَدْ طابَ بالتَّرنُّمِقلوبُهُمْ للذِّكْرِ قَدْ تَفَرَّغتْدمُوعُهم كلُؤْلُؤٍ منْتَظِمِأسْحارُهُمْ بنورِهِمِ قَدْ أشْرَقَتْوخِلعُ الغفرانِ خَيْرُ القِسَمِقَدْ حَفِظوا صيامَهُم من لَغْوهِموخَشَعُوا في الليلِ في ذِكْرِهِمِويْحَكِ يا نفسُ أَلاَ تَيَقَّظِيللنَّفْعِ قبلَ أنْ تَزِلَّ قَدمِيمضى الزَّمانُ في تَوَانٍ وَهَوىفاسْتَدْرِكِي ما قَدْ بَقِي واغْتَنِمِي إخواني: احفَظُوا القرآنَ قبلَ فواتِ الإِمكان. وحافِظُوا على حدودِهِ من التَّفْرِيطِ والعِصْيان. واعْلَمُوا أنَّه شاهدٌ لكم أوْ عليكم عند المَلِكِ الدَّيَّان. ليس مَنْ شُكْر نعمةِ الله بإِنْزَالِهِ أنْ نَتَّخِذَه وراءَنا ظِهْريَّاً. وليس مِنْ تعظيمِ حرمات الله أنْ تتخذَ أحكامَه سِخْرياً. {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّلِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يلَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَنُ لِلإِنْسَنِ خَذُولاً وَكَانَ الشَّيْطَنُ لِلإِنْسَنِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يرَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } [الفرقان: 27 31].(4/1)
اللَّهُمَّ ارزقْنا تِلاوةَ كتابِكَ حقَّ التِّلاوة، واجْعَلنا مِمَّنْ نال به الفلاحَ والسَّعادة. اللَّهُمَّ ارزُقْنا إقَامَةَ لَفْظهِ ومَعْنَاه، وحِفْظَ حدودِه ورِعايَة حُرمتِهِ. اللَّهُمَّ اجْعلنا من الراسخين في الْعلم المؤمنين بمُحْكَمِهِ ومتشابههِ تصديقاً بأخْبَاره وتنفيذاً لأحْكامه. واغْفِرْ لَنَا ولوالِدِيْنا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحَمَ الرَّاحمين وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ وَعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجْمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الثالث عشر - في آداب قراءة القرآن
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله الَّذِي لشرعه يَخْضَعُ مَنْ يعْبُد، ولِعَظَمتِه يخشعُ مَنْ يَرْكع ويسجُد، ولِطِيْب مناجاتِه يسهرُ المتَهْجِّدُ ولا يرْقُد، ولِطَلبِ ثوابِه يَبْذِلُ المُجَاهدُ نَفْسَه ويَجْهد، يتَكَلَّمُ سبحانَه بكلامٍ يجِلُّ أنْ يُشَابِه كَلاَمَ المخلوقين ويَبْعد، ومِنْ كلامِهِ كتابُه المُنَزَّلُ على نبيِّهِ أحمد، نقرؤه ليلاً ونهاراً ونُرَدِّد، فلا يَخْلَقُ عن كثرةِ التَّردَادِ ولا يَمُلَّ ولا يُفَنَّد، أحمده حَمْدَ مَنْ يَرْجُو الوقوفَ على بابِه غيرَ مُشَرَّد، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له شهادةَ مَنْ أخلصَ لله وتَعَبَّد، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذي قام بواجب العبادِة وتَزَوَّدْ، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ الصديق الَّذِي ملأ قلَوب مُبْغِضيْهِ قَرحَاتٍ تُنْفِد، وعلى عُمَرَ الَّذِي لم يَزْل يُقَوِّي الإِسلامَ ويَعْضُد، وعلى عثمان الَّذِي جاءَتْه الشهادةُ فلم يترَدَّدْ، وعلى وعليٍّ الَّذِي ينْسفُ زرْعَ الكُفرِ بسيفِه ويَحْصُد، وعلى سائرِ آلِهِ وأصحابِه صلاة مُسْتَمرَّة على الزمانِ الْمُؤبَّد، وسلَّم تسليماً.(4/2)
إخواني: إنَّ هذا القرآنَ الَّذِي بَيْنَ أيْدِيكم تتْلُونه وتسمعونَه وتحفَظُونه وتكتُبونَه هو كلامُ ربِّكُمْ ربِّ الْعَالِمِين، وإِله الأوَّلِين والآخِرِين، وهو حبْلُه المتينُ، وصراطُهُ المستقيم، وهو الذِّكْرُ المبارَكُ والنورُ المبين، تَكلَّمَ الله به حقيقةً على الوصفِ الَّذِي يَلِيْقُ [13] في آداب قراءة القرآنبجلالِهِ وعظَمتِه، وألْقَاه على جبريل الأمينِ أحَدِ الملائكةِ الكرام المقَرَّبين، فنزلَ به على قلبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلّم ليكون من المُنْذرِين بلسانٍ عربيٍّ مبينِ، وَصَفَهُ الله بأوصافٍ عظيمةٍ لِتُعظِّمُوه وتحترمُوه فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185] {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ الْحَكِيمِ } [آل عمران: 58] {يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً نُوراً مُّبِيناً } [النساء: 174] {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَبٌ مُّبِينٌ نُورٌ وَكِتَبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ(4/3)
رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ السَّلَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [المائدة: 15، 16] {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَلَمِينَ } [يونس: 37] {يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [يونس: 57] {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود: 1] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ } [الحجر: 9] {وَلَقَدْ ءاتَيْنَكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الحجر: 87، 88] {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل: 15] {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [الإِسراء: 9، 10] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّلِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ(4/4)
وَلاَ يَزِيدُ الظَّلِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } [الإِسراء: 82] {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإِسراء: 88] {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الاَْرْضَ وَالسَّمَوَتِ الْعُلَى } [طه: 2 4] {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَلَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1] {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَلَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَْمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاَْوَّلِينَ * أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِى إِسْرَءِيلَ } [الشعراء: 192 197] {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَطِينُ * وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } [الشعراء: 210، 211] {بَلْ هُوَ ءَايَتٌ بَيِّنَتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بَِايَتِنَآ إِلاَّ الظَّلِمُونَ } [العنكبوت: 49] {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَفِرِينَ } [يس: 69، 70] {كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ إِلَيْكَ مُبَرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاَْلْبَبِ } [ص: 29] {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } [ص: 67] {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَباً مُّتَشَبِهاً(4/5)
مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر: 23] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَبٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت: 41، 42] {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلاَ الإِيمَنُ وَلَكِن جَعَلْنَهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلاَ الإِيمَنُ وَلَكِن جَعَلْنَهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52] {وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف: 4] {هَذَا بَصَئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [الجاثية: 20] {وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ } [ق: 1] {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَبٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَلَمِينَ الْعَلَمِينَ } [الواقعة: 75 80] {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاَْمْثَلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ اللَّهِ وَتِلْكَ الاَْمْثَلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }(4/6)
[الحشر: 21] وقال تعالى عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فََامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } [الجن: 1، 2] وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج: 21، 22].
فهذه الأوصافُ العظيمةُ الكثيرةُ التي نقَلْناها وغيرُها مِمَّا لم نَنْقُله تدُل كلُّها على عَظَمةِ هذا القرآنِ ووجوبِ تعظيمِه والتَّأدُّبِ عند تلاوتِه والبعدِ حال قراءتِه عن الهُزءِ واللَّعِب.
فمِنْ آداب التِّلاوَةِ إخْلاصُ النيِّةِ لله تعالى فيها لأنَّ تِلاَوَةَ القرآنِ من العباداتِ الجَليلةِ، كما سبقَ بَيَانُ فضلها، وقد قال الله تعالى {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَفِرُونَ } [غافر: 14]، وقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ } [الزمر: 2].
وقال تعالى: {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ } [البينة: 5]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «اقْرَؤُوا القرآنَ وابْتغُوا به وجهَ الله عزَّ وجلَّ مِن قبلِ أن يأتيَ قومٌ يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه»، رواه أحمد. ومعنى يتعجَّلونه يَطْلبون به أجْرَ الدُّنيا.
ومِنْ آدَابِها: أنْ يقرأ بقلْبٍ حاضرٍ يتدبَّرُ ما يقْرَأ ويتفهَّمُ معانِيَهُ ويَخْشعُ عند ذلك قَلْبُه ويَسْتحضر بأنَّ الله يخاطِبُه فيه هذا القرآن لأنَّ القُرْآنَ كلامُ الله عزَّ وجَلَّ.(4/7)
ومِنْ آدَابِها: أنْ يَقْرَأ على طهارةٍ لأن هذا من تعظيم كلامِ الله عزَّ وجل، ولا يَقْرأ الْقُرآنَ وهو جُنُبٌ حَتَّى يَغْتَسِلَ إِنْ قدِر على الماءِ أو يَتيمَّم إنْ كان عاجزاً عن استعمال الماء لمرضٍ أوْ عَدَم. ولِلْجُنُبِ أن يذْكُرَ الله ويَدْعُوَهُ بِما يُوَافقُ الْقُرْآنَ إذا لم يقصدِ القرآنَ، مِثْلُ أن يقولَ: لا إِله إِلاَّ أنتَ سبحانَكَ إني كنتُ من الظالمين، أوْ يقولَ: ربنا لا تُزغْ قُلوبَنا بعد إذْ هَدَيتْنَا وهَبْ لَنَا من لَدُنْكَ رحمةً إنك أنتَ الوَهَّاب.
ومنْ آدَابِها: أنْ لا يقرأ القرآنَ في الأماكِنِ المسْتَقْذَرة أو في مجمعٍ لا يُنْصَتُ فيه لقراءتِه لأن قراءَتَه في مثل ذلكَ إهانةٌ له. ولا يجوز أن يقرأ القرآن في بْيتِ الخلاءِ ونحوه مما أُعِدَّ للتَّبَوُّلِ أو التَّغَوُّطِ لأنه لا يَلِيْقُ بالقرآنِ الكريمِ.
ومِنْ آدابِها: أن يستعيذَ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ عندَ إرادةِ القراءة لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ } [النحل: 98] ولئلاَّ يَصُدَّه الشيطانُ عن القراءةِ أوْ كمالِها. وأمَّا الْبَسْمَلةُ فإنْ كان ابتداءُ قِرَاءتِه منْ أثْنَاءِ السُّوْرَةِ فلا يُبَسْمِلُ، وإنْ كانَ من أوَّلِ السورةِ فَلْيُبَسْمِلْ إلا في سورةِ التَّوْبةِ فإنَّه ليس في أوَّلها بَسْملةٌ. لأنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم أشْكَلَ عليهم حينَ كتابةِ المِصْحفِ هل هي سورةٌ مُسْتَقِلَّةٌ أو بقيَّةُ الأنْفال ففَصَلُوا بينهما بدونِ بَسْمَلةٍ وهذا الاجتهاد هو المطابق للواقع بلا رَيْبٍ إذْ لو كانت البَسْمَلة قد نزلت في أولها لَبَقِيَتْ محفوظة بحفظ الله عزَّ وجل لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ } [الحجر: 9].(4/8)
ومِن آدَابِها: أن يُحَسَّنَ صوتَه بالقُرآنِ ويترَّنَّمَ به، لمَا في الصحيحين من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما أذِنَ الله لِشَيْء (أي ما اسْتَمَع لشيءٍ) كما أذِنَ لنَبِيٍّ حَسنِ الصوتِ يَتغنَّى بالقرآنِ يَجْهرُ به». وفيهما عن جبيرِ بن مُطْعمٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقرأُ في المَغربِ بالطُّورِ فما سمعتُ أحداً أحسنَ صوتاً أو قراءةً منه صلى الله عليه وسلّم. لكِنْ إنْ كان حوْلَ القارأ أحدٌ يتأذَّى بِجهْرهِ في قراءتِه كالنائم والمصِّلي ونحوهما فإنَّه لا يجْهرُ جهْراً يشَوِّشُ عليه أو يؤذيه، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم خَرجَ على الناسِ وهُمْ يُصَلُّون ويجهرون بالقراءةِ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن المُصَلّي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهرْ بعضُكم على بعضٍ في القرآن»، رواه مالك في المُوَطَّأ. وقال ابن عبدالبر: وهو حديث صحيح.(4/9)
ومِن آدَابِها: أنْ يُرتِّلَ القرآنَ ترتيلاً لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } [المزمل: 4] فيقْرأهُ بتَمهُّلٍ بدونِ سُرعةٍ لأنَّ ذلك أعْوَنُ على تدَبُّر معانِيه وتقويمِ حروفِه وألْفاظِه. وفي صحيح البخاريِّ عن أنس بن مالِك رضي الله عنه أنه سُئِل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: كانتْ مَدَّاً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدُّ بسم الله ويَمدُّ الرحمن ويمدُّ الرحيم، وسُئِلتْ أمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها عنها عن قراءةِ النبي صلى الله عليه وسلّم فقالت: كان يُقَطِّعُ قراءتَه آيَةً آيةً، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ الدِّينِ ، رواه أحمدُ وأبو داود والترمذي، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تَنْثُروُه نثْرَ الرَّملِ ولا تهذُّوه هَذَّ الشِّعْرِ، قِفُوْا عند عجائِبِه وحَرِّكُوا بهِ القلوبَ ولا يكنْ هَمُّ أحَدِكم آخِرَ السورةِ. ولا بأْسَ بالسرعةِ الَّتِي ليس فيها إخْلالٌ باللفظِ بإسْقاط بعضِ الحروفِ أوْ إدغام ما لا يصح إدْغامُه. فإنْ كان فيها إخلالٌ باللفظِ فهي حرَامٌ لأنها تغييرٌ للقرآنِ.(4/10)
ومِنْ آدَابِها: أنْ يسجدَ إذا مرَّ بآيةِ سَجْدةٍ وهو على وضوءٍ في أيِّ وقتٍ كان مِنْ ليلٍ أوْ نهارٍ، فيُكبِّرُ للسجودِ ويقولُ: سبحان ربِّي الأعلى، ويدْعُو، ثم يرفعُ مِنَ السجودِ بدونِ تكبير ولا سلامٍ، لأنَّه لم يردْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم إلاَّ أنْ يكونَ السجودُ في أثْناءِ الصلاةِ فإنه يكَبِّر إذا سَجَد وإذا قام، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه كان يُكبِّر في الصلاةِ كُلَّما خَفَضَ وَرفَعَ ويُحَدِّثُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يَفْعَلُ ذَلِك، رواه مسلم. وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يُكبِّر في كلِّ رَفعٍ وخَفْضٍ وقيامٍ وقعودٍ، رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. وهذا يعُمُّ سجودَ الصلاةِ وسجودَ التلاوةِ في الصلاةِ.
هذه بعض آدابِ القراءةِ، فتأدَّبُوا بِها واحرِصوا عليها وابتغُوا بها من فضلِ الله.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنا من المعظِّمين لحرماتِك، الفائزين بهباتِك، الوارِثين لِجنَّاتِكَ، واغْفِرْ لَنَا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آلِهِ وصحبه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الرابع عشر - في مفطرات الصوم
محمد بن صالح العثيمين(4/11)
الحمدُ لله المطَّلعِ على ظاهِر الأمْرِ ومكنونِه، العالم بسرِّ العبدِ وجهرهِ وظنونِه، المُتَفرِّدِ بإنْشَاءِ العالم وإبْداعِ فُنُونِه، المدبِّر لكلٍّ منهُمْ في حركتِه وسُكُوْنِه، أحْسَنَ كلَّ شَيْءٍ خَلق، وفتَق الأسماع وشقَّ الحَدَق، وأحْصَى عَدَدَ ما في الشَّجَرِ من وَرَق، في أعْوادِه وغُصُونِه، مد الأرْضَ ووضعَها وأوْسَعَ السماءَ وَرفعَها، وسَيَّرَ النجومَ وأطْلعهَا، في حنْدسِ اللَّيلِ ودُجُوْنه، أنزل القطْر وبلاً رَذاذاً، فأنْقَذَ به البِذْر من اليُبْسِ إنْقاذاً، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّلِمُونَ فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ } [لقمان: 11]، أحْمُده على جوده وإحسْانِه، وأشْهد أن لا إِله إِلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له في أُلُوهِيَّتِهِ وسُلْطانِه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المؤيَّدُ ببُرهانِه، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ في جميع شأنه، وعلى عُمرَ مقْلقِ كِسْرى في إيوانِه، وعلى عثمانَ ساهرِ ليْلِهِ في قرآنِه، وعلى عليٍّ قالعِ بابِ خيْبرَ ومُزَلْزِل حُصونِه، وعلى آلِهِ وأصحابه المجتهد كلٌ منهم في طاعةِ ربِّه في حركتِه وسكونِه، وسَلَمَ تسليماً.
إخواني: قال الله تعالى: {فَالنَ بَشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَكِفُونَ فِي الْمَسَجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة: 187]. ذكَرَ الله في هذه الآيةِ الكريمةِ [14] في مفطرات الصومأصُولَ مُفَطِّراتِ الصومِ وذكَر النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في السُّنَّةِ تمامَ ذلك.(4/12)
والمُفَطِّرَاتُ سبعةُ أنْواع:
الأول: الجماعُ وهو إيلاجُ الذَّكَرِ في الْفَرْجِ، وهو أعْظَمُها وأكْبَرُها إثماً. فمَتَى جامع الصائمُ بطَل بصومُه فَرْضاً كان أوْ نَفْلاً. ثم إنْ كان في نهارِ رمضانَ والصومُ واجبٌ عليه لَزِمه مع القضاءِ الكفارةُ المغلَّظةُ وهي عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ فإنْ لم يَجدْ فصيام شهرينِ متتابعين لا يُفْطرِ بينهما إلاَّ لعُذْرٍ شرعيٍّ كأيَّام العيدين والتشريقِ أو لعُذْرٍ حسِّيٍّ كالمَرضِ والسفر لغيرِ قصدِ الْفِطْر، فإنْ أفطَرَ لغيرِ عذرٍ ولو يوماً واحداً لزمه استِئْنافُ الصيامِ مِنْ جديدٍ ليحصلَ التتابُع فإن لَم يستطعْ صيامَ شهرينِ متتابعين فإطعامُ ستِّين مسكيناً لِكُلِّ مسكينٍ نِصفُ كيلو وعَشرةُ غراماتٍ من الْبُرِّ الجيِّد، وفي صحيح مسلم أن رجلاً وقع بامرأتِهِ في رمضانَ فاستَفْتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «هَلْ تجدُ رقبةً؟ قال: لا. قال: هل تستطيعُ صيامَ شهرين؟ (يعني متتابعين كما في الروايات الأخْرَى) قال: لا. قال: فأطْعِمْ ستين مِسْكيناً». وهو في الصحيحين مطولاً.(4/13)
الثاني: إنزالُ المنيِّ باختياره بتقبيل أو لمسٍ أو استمناء أو نحو ذلك لأنَّ هذا مِنَ الشَّهْوةِ الَّتِي لا يكونُ الصوم إلاَّ باجتِنَابها كما جاء في الحديث الْقُدْسيِّ: «يَدَع طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجْلِي»، رواه البخاري. فأمَّا التقبيلُ واللَّمْس بدونِ إنْزالٍ فلا يُفَطِّرُ، لمَا في الصحيحين من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يُقَبِّلُ وهو صائمٌ ويباشر وهو صائمٌ، ولَكِنَّه كان أمْلَكَكُمْ لإِربِه». وفي صحيح مسلم أنَّ عُمرَ بن أبي سلمة سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلّم: أيُقَبِّلُ الصائمُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «سَلْ هذه ـ يعني أمَّ سلمةَ ـ فأخْبَرتْهُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يصنعُ ذلك، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: أما والله إني لأتقاكم لله وأخَشاكم له»، لكن إنْ كان الصائمُ يخشى على نفْسِه من الإِنزالِ بالتقبيلِ ونحوِه أو مِنَ التدَرُّج بذلك إلى الجماعِ لعدمِ قوَّتِهِ على كَبْحِ شَهْوَتِهِ فإنَّ التقبيلَ ونَحْوَه يحرم حينئذٍ سَداً للذَّريعةِ، وَصوناً لصيامه عن الفسادِ، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلّم المتوضأ بالمبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون صائماً خوفاً من تسرب الماء إلى جوفه.
وأمَّا الإِنزالُ بالاحتلام أو بالتَّفْكير المجرَّدِ عن العمل فلا يُفَطِّر لأنَّ الاحتلامَ بغيرِ اختيارِ الصائَم. وأمَّا التَفكيرُ فمعفوٌ عنه لقولِه صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله تَجَاوزَ عن أمَتِي ما حدَّثَتْ به أنْفُسَهَا ما لم تَعْملْ أوْ تتكلمْ»، متفق عليه.(4/14)
الثالث: الأكلُ أو الشربُ، وهو إيصالُ الطَّعامِ أو الشراب إلى الْجَوْف من طريقِ الْفَمِ أو الأنفِ أيَّاً كان نوعُ المأكولُ أو المَشروب، لقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَكِفُونَ فِي الْمَسَجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة: 187] والسَّعُوط في الأنْفِ كالأكل والشرب لقوله صلى الله عليه وسلّم في حديث لَقِيْط بن صبرة: «وبالِغْ في الاستنشاقَ، إلاَّ أن تكون صائماً»، رواه الخمسة وصححه الترمذي. فأما شم الروائح فلا يفطِّر لأنه ليس للرائحة جرم يدخل إلى الجوف.
الرابع: ما كان بمَعْنَى الأكْلِ والشربِ وهو شيئانِ:
أحَدُهما: حَقْنُ الدَّمِ في الصائمِ مثل أن يُصابَ بنزيفٍ فيُحقنَ به دمٌ فيفْطِرُ بذلك لأن الدَّمَ هو غايةُ الغِذاءِ بالطَّعامِ والشرابِ، وقد حصل ذلك بحقن الدَّم فيه.(4/15)
الشيء الثاني: الإِبُر المغذِّيةُ الَّتِي يُكتَفَى بها عن الأكل والشرب فإذا تناوَلها أفْطَر لأنها وإنْ لم تكن أكْلاً وشرباً حَقِيْقةً، فإنَّها بمعناهُما، فَثَبَت لها حُكمهما. فأمَّا الإِبرُ غير المُغَذِّيةِ فإنَّها غيرُ مُفَطِّرةٍ سواءٌ تَنَاولها عن طريق العَضَلاتِ أو عن طريق الَعُرُوقِ حَتَّى ولو وجدَ حرارتها في حلْقِهِ فإنَّها لا تُفْطِّرَ لأنها ليست أكلاً ولا شُرباً ولا بمعناهما، فلا يثْبت لها حُكمهما، ولا عِبْرةَ بوجودِ الطَّعْمِ في الحلْقِ في غير الأكل والشربِ، ولذا قال فُقُهاؤنا: لو لَطخَ باطنِ قَدمِهِ بِحَنْظَلٍ فوجد طعْمَه في حلقِه لم يُفْطِر، وقال شيخ الإِسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله في رِسالةِ «حقيقةُ الصيامِ»: ليس في الأدلة ما يَقْتضي أنَّ المُفَطِرَ الَّذِي جَعلهَ الله ورسوله مُفَطِّراً هو ما كَانَ واصِلاً إلى دماغٍ أو بَدنٍ أوْ ما كان داخِلاً مِنْ مَنْفَذٍ أو واصِلاً إلى جوفٍ ونحْو ذَلِك من المعاني التي يجعلُها أصحابُ هذه الأقاويل هي مَنَاطَ الْحُكْمِ عند الله ورسولِه. قال: وإذا لم يكنْ دليلٌ على تعليق الله ورسولِه الْحُكْمَ على هذا الْوَصفِ، كان قولُ القائلِ: إنَّ الله ورسوله إنَّما جعلا هذا مُفَطِّراً لِهذَا قولاً بلا عِلمٍ. انتهى كلامِه رحمه الله.(4/16)
الخامسُ: إخْراجُ الدَّمِ بالحجامةِ، لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: «أفْطَر الحاجِمُ والمَحْجُومُ»، رواه أحمد وأبو داود من حديث شَدَّاد بن أوْسٍ، قال البخاريُّ: ليس في البابِ أصَحُّ منه. وهذا مذهبُ الإِمام أحمدَ وأكْثرِ فقهاءِ الحديث. وفي معنى إخراجِ الدَّمِ بالحجامِة، وعلى هذا فلا يجُوزُ للصائم صوماً واجباً أن يتبرعَ بإخراج دمه الكثير الَّذِي يؤثر على البدن تأثير الحجامة إلا أن يوجدَ مضطرٌ له لا تندفعُ ضرورته إلا به، ولا ضرر على الصائم بسحب الدم منه فيجوز للضرورة، ويفطر ذلك اليوم ويقضي. وأما خروج الدم بالرُّعافِ أو السعال أو الباسور أو قلع السن أو شق الجرح أو تحليل الدم أو غرز الإِبرة ونحوها فلا يفطر لأنه ليس بحجامة ولا بمعناها إذا لا يؤثر في البدن كتأثيرِ الحجامةِ.
السادسُ: التَّقَيُّؤ عَمْداً وهو إخراجُ ما في المَعِدةِ من طعام أو شرابٍ عن طريق الْفَم، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «منْ ذَرَعه الْقَيءُ فليس عليه قضاءٌ ومَن استقاء عمداً فلْيَقض»، رواه الخمسة إلا النسائيَّ وصححه الحاكم ومَعْنَى ذرعه غَلَبه ويفطر إذا تعمد القيء إما بالفعل كعصر بطنه أو غمز حلقه أو بالشم مثل أن يشم شيئاً ليقيء به أو بالنظر كأن يتعمد النظر إلى شيء ليقيء به فيُفْطِرُ بذلك كلِّه، أمَّا إذَا حصلَ القيءُ بدونِ سببٍ منه فإنَّه لا يَضرُّ، وإذا راجت مَعِدتُهُ لَمْ يلزمْه مَنْعُ القَيءِ لأنَّ ذلك يَضُرُّه ولكنْ يتركُه فلا يحاولُ القيءَ ولا منْعَه.
السابعُ: خروجُ دمِ الْحَيْضَ والنِّفَاسِ، لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم في المَرْأةِ أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟ فمتى رأتْ دمَ الْحَيْض أو النِّفاس فَسدَ صومُها سَواءٌ في أوَّل النهارِ أمْ في آخرِهِ ولو قبل الغُروبِ بَلَحظةٍ وإنْ أحَسَّتْ بانتقال الدَّمِ ولم يَبْرُزْ إلاَّ بعد الغروبِ فصومُها صحيحٌ.(4/17)
ويحرمُ على الصائمِ تناوُلُ هذه المفُطِّراتِ إن كان صَومُه واجباً كصومِ رمضان والكفارةِ والنَّذْرِ إلا أن يكون له عذرٌ يبيح الفطرَ كسفرٍ ومرضٍ ونحوهما لأن من تلبَّس بواجبٍ لزمه إتمامُه إلا لعذرٍ صحيح، ثم إن من تناولها في نهارِ رمضانَ لغيِر عذرٍ وجب عليه الإِمساكُ بقيةَ اليوم والقضاءُ وإلا لزمه القضاء دونَ الإِمساك. أما إن كان صومُه تطوعاً فإنه يجوز له الفطرُ ولو بدون عذر لكن الأولى الإِتمام.
إخواني: حافظُوا على الطَّاعات، وجانبُوا المعاصيَ والمحرَّمات، وابتهلوا إلى فاطرِ الأرض والسموات، وتعرَّضُوا لنفحاتِ جودِه فإنَّه جزيلُ الْهبات. واعلموا أنه ليسَ لكم من دُنْياكم إلا ما أمضَيْتُموه في طاعةِ مولاكم. فالْغَنِيْمةَ الغنيمةَ قبلَ فواتِ الأوَان. والمرابَحَةَ المرابحةَ قبل حُلولِ الخُسْران.
اللَّهُمَّ وفِّقْنَا لاغتنامِ الأوقات، وشغْلِها بالأعمالِ الصالحات، اللَّهُمَّ جُدْ علينا بالْفضلِ والإِحسان، وعاملنا بالعفوِ والغُفْران، اللَّهُمَّ يَّسرْنَا لليُسرى، وجنِّبْنا العُسْرى واغْفِرْ لنا في الآخِرةِ والأولى، اللَّهُمَّ ارزقنا شفاعةَ نبيِّنا وأوْردْنا حوضه وأسقِنَا منه شربةً لا نظْمأ بعدَها أبداً يا ربَّ العالمين.
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وباركْ على عبدِك ونبيِّك محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الخامس عشر - في شروط الفطر بالمفطرات وما لا يفطِّرُ وما يجوز للصائم
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله الحكيم الخالق، العظيم الحليم الصادق، الرحيِمِ الكريمِ الرازِق، رَفَعَ السَّبْع الطرائق بدون عمَدٍ ولا عَلائقِ، وثبَّتَ الأرضَ بالجبالِ الشواهِق، تَعرَّفَ إلى خلْقه بالبراهينِ والحقائِق، وتكفَّلَ بأرزاقِ جميع الخلائق، خلق الإِنسان من ماء دافق، وألزمه بالشرائع لوصل العلائق، وسامَحَه عنِ الخطأ والنسيانِ فيما لا يُوَافق.(4/18)
أحْمَدُه ما سكتَ ساكتٌ ونطقَ ناطِق، وأشْهَد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ مُخلِصٍ لا منافِق، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الذي عمَّتْ دعوتُه النازل والشَّاهِق، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ القائمِ يومَ الرِّدَّةِ بالْحَزم اللائق، وعلى عُمَرَ مُدَوِّخ الكفارِ وفاتِح المَغْالِقَ، وعلى عثمانَ الذي مَا اسْتَحَلَّ حُرْمَتَه إلاَّ مارِق، وعلى عليٍّ الذي كان لِشَجاعَتِه يَسْلُك المَضَايق، وعلى آلِهِ وأصحابِه الذين كُلٌّ منهم على من سِواهُم فائِق، وسلَّم تسليماً.
إخواني: إن المُفطِّراتِ السابقةَ ما عدا الحيضَ والنِّفاس، وهي الجماعُ والإِنزالُ بالمباشرةِ والأكلُ والشربُ وما بمعناهما والحجامةُ [15] في شروط الفطر بالمفطرات وما لا يفطر وما لا يجوز للصائموالقيءُ لاَ يُفطِّرُ الصائمَ شَيءٌ منها إلاَّ إذا تَنَاولها عالماً ذاكرِاً مختاراً فهذه ثلاثة شروطٍ:(4/19)
الشرطُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ عالماً، فإن كان جاهِلاً لم يُفطِرُ، لقوله تعالى في سورةِ البقرةِ {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ } [286] فقال الله: قد فَعَلْتُ، وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [الأحزاب: 5]. وسواءٌ كان جاهِلاً بالْحُكْمَ الشَّرْعِيِّ، مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ هذا الشيءَ غير مُفَطِّرٍ فيَفْعَلَه أو جاهِلاً بالحَالِ أيْ بالْوقْتِ، مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ الْفَجْرَ لم يَطلُع فيأْكُلَ وهو طالِعٌ، أو يظنَّ أنَّ الشمسَ قد غَربَتْ فيأكلَ وهي لم تَغْرُب، فلا يُفْطِر في ذلك كلِّه، لما في الصحيحين عن عَدِيِّ بن حاتِم رضي الله عنه قال: لمَّا نزَلتْ هذه الاية: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَكِفُونَ فِي الْمَسَجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة: 187] عمَدتُ إلى عِقالَين: أحَدُهما أسْودُ والآخَرُ أبْيَضُ فجعلتُهما تحت وِسادتِي وجعلتُ أنظُرُ إليهما فلما تبيَّن لِي الأبيضُ من الأسْودِ أمسكتُ، فلمَّا أصبحتُ غدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخْبرتُه بالَّذِي صَنعتُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه(4/20)
وسلّم: «إنَّ وِسادَك إذنْ لعرِيضٌ إن كان الخيطُ الأبيضُ والأسودُ وسادك إنَّما ذلك بياضُ النهارِ وسوادُ الليل». فقد أكلَ عدّي بعد طلوعِ الْفَجْر ولم يمسكْ حتى تبين له الخيطانِ ولم يأمُرُه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بالقضاءِ لأنه كان جاهلاً بالْحُكْمِ. وفي صحيح البخاريِّ من حديثِ أسْماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالَتْ: أفْطرْنَا في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم يوم غيم ثم طلعت الشمس، ولم تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمرَهُمْ بالقضاءِ، لأنهم كانوا جاهِلينَ بالوقتِ ولو أمَرهُمْ بالقضاءِ لنُقِلَ، لأنه ممَّا توَفَّرُ الدَّواعِي على نقلِهِ لأهميَّتِه، بل قالَ شيخُ الإِسلام ابن تيمية في رسالةِ (حقيقة الصيام): إنه نَقَل هشامُ بنُ عُرْوةَ أحدُ رواة الحديث عن أبيهِ عروةَ أنهم لم يؤمَرُوا بالقضاءِ. لَكنْ متى علِم ببقاءِ النهارِ وأن الشَّمسَ لم تغب أمْسكَ حتى تغيبَ.
ومثْلُ ذَلِكَ لَوْ أكَلَ بعد طلوع الفجرِ يظنُّ أنَّ الْفَجْر لَمْ يطْلُعْ، فتبيَّن له بعد ذلك أنه قد طلعَ فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لأنَّه كان جاهِلاً بالوقتِ، وقد أباحَ الله له الأكل والشربَ والجِماعَّ حَتَّى يتبيَّنَ له الْفَجرُ، والمُباحُ المأذونُ فيه لا يُؤمَر فاعِلهُ بالقضاء، لكن متى تبيَّنَ له وهو يأكلُ أو يشربُ أن الشمسَ لم تغربْ أو أن الفجرَ قد طلع أمسكَ ولفَظَ ما في فمه إن كان فيه شيء لزوال عذرِه حينئذٍ.(4/21)
الشَّرطُ الثاني: أنْ يكونَ ذاكِراً، فإنْ كان ناسياً فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لمَا سبق في آيةِ الْبقرةِ، ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «من نَسِي وهُوَ صائمٌ فأكَلَ أو شرِب فليُتِمَّ صَوْمَه فإنَّما أطْعمَه الله وسقاه»، متفق عليه واللَّفظ لمسلم. فأمْرُ النبي صلى الله عليه وسلّم بإتْمامِه دليلٌ على صحتِه، ونِسْبَةُ إطعام النَّاسِي وسقْيهِ إلى الله دليلٌ على عدم المؤاخذةِ عليه. لكن متى ذَكَرَ أو ذُكِّرَ أمْسَكَ ولَفَظَ ما في فَمِه إن كان فيه شيءٌ لِزَوال عُذْره حِيْنَئذٍ، ويجب على من رأى صائماً يأكلُ أو يشربُ أن يُنبِّههُ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ } [المائدة: 5].(4/22)
الشَّرطُ الثالثُ: أنْ يكونَ مُخْتاراً، أي مُتَنَاولاً لِلْمُفَطِّر باخْتيَاره وإرادته، فإنْ كانَ مُكرَهاً فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لأنَّ الله سبحانَه رَفَعَ الْحُكمَ عَمَّنْ كَفَرَ مُكْرَهاً وقلْبُهُ مُطمَئِنٌّ بالإِيمانِ فقال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَنِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ بِالإِيمَنِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106] فإذا رَفَع اللهُ حكْمَ الكفرِ عمن أُكْرِهَ عليه فمَا دونه أوْلى، ولقولِهِ صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله تجاوز عن أمَّتِي الْخَطأ والنسيانَ وما اسْتُكرهوا عليه»، رواه ابنُ ماجة والبيهقيُّ وحسَّنَه النَّوَوِيُّ. فلوْ أكْرَهَ الرجلُ زوجتَه على الوطءِ وهي صائمة فصيامها صحيح ولا قضاء عليها. ولا يحل له إكراهها على الوطءِ وهي صائمةٌ إلاَّ إنْ صامتْ تطوُّعاً بغير إذنه وهو حاضرٌ، ولو طارَ إلى جوفِ الصائم غُبارٌ أو دخل فيه شيءٌ بغير اختياره أو تمَضْمَضَ أوْ استَنْشَقَ فنزل إلى جوفِه شيء من الماءِ بغيرِ اختيارِهِ فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاءَ عليه.(4/23)
ولا يُفْطِرُ الصائمُ بِالْكُحْلِ والدواءِ في عينِه ولو وجد طعْمَه في حلْقِه لأنَّ ذلك ليس بأكْلٍ ولا شُربٍ ولا بمعناهُما، ولا يُفْطِر بِتَقْطير دواءٍ في أذُنِه أيْضاً، ولا بوضع داواءٍ في جرحٍ ولو وجد طعم الدواء في حَلْقِه لأنَّ ذلك ليس أكْلاً ولا شُرباً ولا بمعنى الأكْلِ والشُّرب. قال شيخ الإِسلام ابن تيميةَ في رسالةِ (حقيقةُ الصيام): ونحْنُ نعلَمُ أنه ليس في الكتابِ والسُّنَّةِ ما يَدلُّ على الإِفْطارِ بهذه الأشَياءِ، فعَلِمْنَا أنَّها ليست مُفَطِّرةً، قال: فإنَّ الصيامَ من دينِ المسلمين الَّذِي يحتاج إلى معرفته الخاصُّ والعامُّ. فلَوْ كانتْ هذه الأمورُ مما حَرَّمه الله ورسولُه في الصيامِ ويفْسُدُ الصومُ بها لكانَ هذا مما يجبُ على الرسولِ صلى الله عليه وسلّم بَيانُهُ، ولو ذكر ذلك لَعَلِمَهُ الصحابة وبَلَّغُوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه. فلما لم ينقُلْ أحدٌ من أهْلِ العلمِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في ذلك لا حَديثاً صحيحاً ولا ضعِيفاً ولاَ مُسْنداً ولا مُرسَلاً عُلِم أنَّه لم يَذكُرْ شَيْئاً من ذلك، والحديث المَرويُّ في الكْحلِ يعني أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أمر بالإِثمد المُرَوَّح عندَ النَّوم وقال: «ليتَّقهِ الصائِمُ»، ضعيفٌ، رواه أبو داود في السنن ولم يرْوهِ غيرُه. قال أبو داود: قال لي يحيى بن معين هذا حديث منكر. وقال شيخ الإِسلام أيضاً. والأحكام التي تحتاجُ الأمَّةُ إلى معرفتها لا بُدَّ أن يُبيِّنها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بياناً عاماً ولا بُدَّ أنْ تَنْقُلها الأمَّةُ. فإذا انْتَفَى هذا عُلِمَ أن هذا ليس مِنْ دِيْنهِ. انتهى كلامُه رحمه الله وهو كلامٌ رَصِينٌ مبنيٌ على براهينَ واضحةٍ وقواعد ثابتةٍ.(4/24)
ولا يُفطِرُ بِذَوْق الطعامِ إذا لم يَبْلعْه ولا بشمِّ الطيب والْبخُورِ، لكن لا يسْتَنْشِقْ دُخانَ البَخُور لأنَّ لَهُ أجزاءً تصعدُ فربَّما وصلَ إلى المَعِدَة شيءٌ منه، ولا يُفْطِرُ بالمضمضمةِ والاستنشاقِ، لَكِنْ لا يُبالغُ في ذلك لأنَّه ربَّما تَهَّرب شيءٌ من الماءِ إلى جوفِه، وعن لَقِيْطِ بن صَبَرَةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أسْبغِ الوضوء وخَلِّلْ بينَ الأصابع وبالِغْ في الاستنشاق إلاَّ أنْ تكون صائماً»، رواه أبو داود والنسائيُّ وصححه ابنُ خزيمةَ.
ولا يُفْطِرُ بالتَّسَوُّكِ، بل هو سُنَّةٌ له في النهار وآخره كالمُفْطِرينَ لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: «لولا أنْ أشقَّ على أمَّتِي لأَمرْتُهم بالسواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ»، رواه الجماعة. وهذا عامٌ في الصائمينَ وغيرِهم في جميع الأوْقاتِ، وقال عَامِرُ بنُ ربيعةَ رضي الله عنه: «رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم ما لا أحْصِي يتسوَّك وهو صائمٌ»، رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
ولا يَنْبَغِي للصائمِ تَطْهيرُ أسنانِهِ بالمعجُون لأنَّ له نفوذاً قويَّاً ويُخشَى أنْ يتَسرَّبَ مع ريِقِهِ إلى جوفه وفي السِّواكِ غُنيْةً عنه.
ويجوزُ للصائمِ أنْ يفعلَ ما يخفِّفُ عنه شِدَّة الحرِّ والْعَطشِ كالتَّبَرُّدِ بالماءِ ونحوه لما رَوى مَالكٌ وأبو داودَ عن بعض أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بالُعَرْجِ (اسم موضع) يصبُّ المَاءَ على رأسهِ وهو صائم مِنَ الْعَطشِ، أوْ من الْحَر. وبلّ ابنُ عُمَر رضي الله عنهما ثَوْباً فألْقَاه على نفْسِهِ وهو صائمٌ، وكان لأنس بن مالكٍ رضي الله عنه حجَرٌ منْقُورٌ يشبِهُ الحَوضَ إذا وجدَ الحرَّ وهو صائمٌ نَزلَ فيه وكأنه والله أعلم مملوءٌ ماءً. وقال الْحَسَنُ لا بأسَ بالمضمضمةِ والتَّبرُّدِ للصائمِ، ذكَرَ هذه الاثارَ البخاريُّ في صحيحِه تعْلِيقاً.(4/25)
إخواني: تَفقَّهوا في دين الله لتعبدوا الله على بَصيرةٍ فإنَّه لا يستوي الَّذِين يعلمون والَّذِين لا يَعْلمُون. ومنْ يُردِ الله به خيراً يُفَقِّههُ في الدِّينِ.
اللَّهُمَّ فقهْنا في ديْنِنا وارزقْنا العمل به، وثبِّتنَا عليه وتوفَّنَا مؤمِنين وألْحِقنَا بالصالحين. واغفر لنا ولِوالِدِينا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحم الراحمينَ وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبهِ أجْمعينَ.
مجالس شهر رمضان
المجلس السادس عشر - في الزكاة
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله الَّذِي يمْحو الزَّلَلَ ويصْفح، ويغفر الخَطلَ ويسْمح، كلُّ منْ لاذَ بِهِ أفْلَح، وكلُّ من عَامَله يَرْبح، رَفَعَ السماءَ بغير عَمدٍ فتأمَّلْ والْمَح، وأنْزَلَ الْقَطرَ فإذا الزَّرعُ في الماءِ يسْبح، والمواشِي بعد الْجَدبِ في الْخصْب تَسرَح، وأقام الوُرْقَ على الوَرَقِ تُسَبِّح، أغْنَى وأفْقَر ورُبَّما كانَ الْفَقْرُ أصْلَح، فكم من غَنيٍّ طرحهُ الأشرُ والبطر أقْبحَ مطْرَحٍ، هذا قارونُ مَلَكَ الكثير لكنَّه بالقليل لم يَسْمح، نُبِّه فَلمْ يسْتَقيظْ ولِيم فلم ينْفعْه اللوم إذ قال له قومُه لا تَفْرحْ، أحْمَدُه ما أمْسَى النهارُ وما أصْبح، وأشْهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله الْغَنِيُّ الجوادُ مَنَّ بالعطاءِ الواسعِ وأفْسَح، وأشْهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي جاد لله بِنَفْسِهِ ومالِه وأبانَ الحَقَّ وأوْضحَ، صلَّى الله عليه وعلى صاحبِه أبي بكرٍ الَّذِي لازَمَهُ حضراً وسفراً ولم يَبْرَحَ، وعلى عُمَرالَّذِي لم يزلْ في إعْزازِ الدِّينِ يكْدَحُ، وعلى عثمانَ الَّذِي أنفق الكثير في سبيلِ الله وأصْلَحَ، وعلى عليٍّ ابنِ عَمِّهِ وأَبْرَأ ممَّن يغلُو فيه أو يَقْدح، وعلى بقيةِ الصحابةِ والتابعين لهم بإحسانٍ وسلَّم تسليماً.(4/26)
إخواني: قال الله تعالى: {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ } [البينة: 5]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [16] في الزكاةلاَِنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المزمل: 20]، وقال تعالى: {وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَآ ءاتَيْتُمْ مِّن زَكَوةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [الروم: 39]. والآياتُ في وجوبِ الزكاةِ وفرْضِيَّتها كثيرةٌ، وأمَّا الأحاديثُ فمنها ما في صحيح مسلم عن عبدالله بن عُمرَ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قال: «بُني الإِسلامُ على خمسةٍ: على أنْ يُوحَّدَ الله، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وصيامِ رمضانَ، والحجِّ»، فقال رجلٌ: الحجِّ وصيامِ رمضانَ؟ قال: لاَ، صيامِ رمضانَ، والحجِّ، هكذا سمعته من رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم. وفي روايةٍ: شهادةِ أنْ لا إِلهَ إلاَّ الله وأنْ محمداً رسولُ الله (الحديث بمعناه).(4/27)
فالزَّكاةُ أحدُ أركانِ الإِسْلامِ ومبانيِه العِظَام وهي قرينةُ الصلاةِ في مواضِعَ كثيرةٍ من كتاب الله عزَّ وجلَّ، وقد أجْمعَ المسلمونَ على فرْضِيَّتها إجماعاً قَطْعِيَّاً. فمنْ أنْكَر وجوبَها مع عِلْمِه به فهو كافرٌ خارجٌ عن الإِسْلامِ، ومن بخِلَ بها أو انْتَقصَ منها شيئاً فهو من الظَّالمينَ المتَعرضينَ للعقوبةِ والنَّكالِ.
وتجب الزكاةُ في أربعةِ أشياء:
الأوَّل: الخارجُ من الأرضِ من الحبوب والثمار لقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الاَْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ الاَْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [البقرة: 267]، وقولِهِ سبحانه: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأنعام: 141]. وأعْظَمُ حقوقِ المالِ الزكاةُ. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «فِيْمَا سَقَتِ السماءُ أوْ كان عثريّاً الْعُشْرُ وفيما سُقِي بالنَّضح نصفُ العُشر»، رواه البخاري. ولا تجبُ الزكاةُ فيه حتى يبلُغَ نصاباً وهو خَمْسةُ أوْسقٍ، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «ليسَ في حبٍّ ولا ثَمَرٍ صَدَقةٌ حَتَّى يبْلُغَ خمسةَ أوسق»، رواه مسلم. والْوَسَقُ سِتُّون صاعاً بصاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فيكونُ النصابُ ثَلَثَمائَة صاعٍ بصاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الَّذِي تبلغ زِنَتُه بالبُرِّ الجيِّدِ ألْفَين وأربَعينِ جَرَاماً؛ أيْ كِيْلُوين وخُمسي عُشر الْكِيلُو، فتكونُ زنةُ النصاب(4/28)
بالبُرِّ الجيِّد ستمائةٍ واثْنَي عَشَرَ كيْلو. ولا زكاةَ فيما دُوْنها.ومِقْدَارُ الزكاةِ فيها الْعُشْرُ كاملاً فيما سُقِيَ بدونِ كُلْفةٍ ونِصفُه فيما سُقيَ بكلْفةٍ، ولا تَجبُ الزكاةُ في الفواكِهِ والخضرواتِ والبِطِّيخِ ونحوها، لقولِ عمَرَ: ليس في الخُضْرواتِ صدقةٌ، وقولِ عليٍّ: ليس في التُّفَّاحِ وما أشبَه صدقةٌ، ولأنها ليست بحبٍّ ولا ثمرٍ لكن إذا باعها بدراهمَ وحالَ الحولُ على ثَمنِهَا ففيهِ الزكاةُ.
الثاني: بَهيمةُ الأنعامِ وهي الإِبلُ والبقرُ والغَنَمُ ضأنًا كانت أم مَعْزاً إذا كانت سَائِمةً وأُعِدت لِلدَّر والنَّسْلِ وبلغَت نِصاباً، وأقلُّ النصابِ في الإِبْلِ خَمْسٌ، وفي البقرِ ثلاثون، وفي الغنم أربعون. والسائمةُ هي التي ترعى الْكَلأ النابتَ بدون بذْرِ آدمِيً كلَّ السَّنَةِ أو أكْثَرَها، فإنْ لَمْ تَكُنْ سائِمةً فلا زكاةَ فيها، إلاَّ أنْ تكون للتجارةِ، وإن أعِدَّتْ للتَّكسُّب بالبيعِ والشراءِ والمُنَاقلةِ فيها فهي عروضُ تجَارةٍ تزكَّى زكاةَ تجارةٍ سواءٌ كانت سائمةً أوْ مُعَلَّقةً إذا بلغت نصابَ التجارةِ بِنَفْسِها أو بضَمِّها إلى تجارتِهِ.(4/29)
الثالثُ: الذِّهَبُ والفضةُ على أيِّ حالٍ كانتْ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [التوبة: 34، 35]، والمُرَادُ بِكَنْزِهَا عَدم إنفاقِها في سبيلِ الله، وأعظَمُ الإِنفاق في سبيل الله إنفاقُها في الزَكاةِ. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «مَا مِنْ صاحِب ذهب ولا فضةٍ لا يُؤدّي منها حقَّها إلاَّ إذا كان يومُ القيامة صُفِّحَتْ له صفائحُ من نارِ فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جَنْبُه وجبيْنُه وظهْرُه كلَّمَا برَدتْ أعِيدتْ له في يومٍ كان مِقْدَارُه خمْسِين ألْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضى بَيْنَ العباد».
والمرادُ بِحقِّها زكاتُها كما تُفَسِّرُه الروايةُ الثانيةُ: «ما مِنْ صاحِب كنْزٍ لا يؤدِّي زكاتَه» (الحديث).(4/30)
وتجب الزكاةُ في الذهبِ والفضَّةِ سواءٌ كانت نقُوداً أو تِبْراً أو حليَّاً يُلْبسَ أو يُعَارُ أو غيرَ ذلك، لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة فيهما بدون تفصيل. فعن عبدِالله بن عَمْرو بن العاصِ رضي الله عنْهما أنَّ امْرأةً أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم ومَعَهَا ابنةٌ لها وفي يد ابْنتِها مسكَتَان غليظتَان من ذهبٍ (أي سِوَارَان غليظَانِ) فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أتُعْطِينَ زكاةَ هذا؟ قالت: لا. قال: أيَسُرُّكِ أنْ يُسوِّركِ الله بهما يومَ القيامةِ سِوارينِ من نارٍ؟ قال: فَخَلَعَتْهُما فألقتها إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقالت: هما لله ورسوله»، رواه أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ والترمذيُّ. قال في بلوغِ المَرَامِ: وإسنادُه قويٌ.
وعن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «دخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فرأى في يَدي فتخَاتٍ من وَرِقٍ (تعني من فِضةٍ) فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: مَا هَذَا؟ فقلتُ صَنَعْتُهنَّ أتَزيَّنُ لك يا رسول الله. قال: أتُؤدِّينَ زكاتَهن؟ قالتْ: لا. أوْ مَا شَاءَ الله. قال: هو حَسْبُكِ من النار»، أخرجه أبو داود والبيهقيُّ والحاكمُ وصححه وقال: على شرطِ الشَّيْخينِ، وقال ابنُ حَجَرٍ في التلخيصِ: على شرط الصحيح، وقال ابن دُقيقٍ: على شرطِ مسلمٍ.
ولا تجبُ الزكاة في الذهب حتى يَبْلُغَ نصاباً وهو عِشْرون دِيْنَاراً لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال في الذهبِ: «ليس عليكَ شيءٌ حتى يكون لك عشرون دينارً»، رواه أبو داود. والمراد الدينارُ الإِسلاميُّ الَّذِي يبلُغُ وزنُه مِثْقَالاً وزِنَهُ المثقالِ أرْبعةُ غراماتٍ وربْعٌ فيكونُ نصابُ الذهبِ خمسةً وثمانينَ غراماً يعادِلُ أحَدَ عَشَر جنيهاً سعودياً وثلاثةَ أسباعِ جُنيهٍ.(4/31)
ولا تجبُ الزكاةُ في الفضةِ حتى تبلغَ نصاباً وهو خَمْسُ أواقٍ، لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «ليس فِيْما دونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صدقةٌ»، متفق عليه. والأوقيَّةُ أرْبعونَ درهماً إسلاميّاً، فيكونُ النصاب مائتي درهم إسلاميٍّ، والدرهمُ سبعةُ أعْشَار مثقالٍ فيبلُغُ مائةً وأربعينَ مثقالاً وهي خَمْسُمائةٍ وخمسةٌ وتسعون غراماً تُعَادل ستَّةً وخمسينَ ريالاً عربياً مِن الفضةِ، ومقدارُ الزَّكاةِ في الذهبِ والفضةِ ربعُ الْعُشر فقط.
وتجبُ الزكاةُ في الأورَاقِ النَّقْدِيَّةِ لأنها بدلٌ عن الفضَّة فتقومُ مقامَها، فإذا بلغتْ نصابَ الفضةِ وجَبَتْ فيها الزَّكاةُ، وتجبُ الزكاةُ في الذهبِ والفضةِ والأوراقِ النقديةِ سواءٌ كانت حاضرةً عنده أمْ في ذِمَمِ الناس. وعلى هذا فتجبُ الزكاةُ في الدِّينِ الثابتِ سواءٌ كان قرضاً أمْ ثمَنَ مَبِيْع أمْ أجرةً أم غير ذلك، إذا كان على مَلَيء باذِلٍ فَيُزكِّيه مَعَ مَاله كلَّ سنةٍ أو يؤخر زكاتَه حتى يقبِضَهُ ثُمَّ يزكِّيهِ لكلِّ ما مضى من السِّنين، فإنْ كان على مُعْسِر أو مُمَاطلٍ يصعبُ اسْتخراجُه منه فلا زكاة فيه حتى يقْبِضَه فيُزَكِّيه سنَةً واحدةً سنةَ قبضِه ولا زكاةَ عليه فيما قبْلَها من السِّنِين.
ولا تجبُ الزَّكاةُ فيما سِوى الذهب والفضةِ من المَعَادِن وإنْ كانَ أغْلَى منهما إلاَّ أنْ يكونَ للتجارةِ فيزكَّى زَكاةَ تِجارةٍ.(4/32)
الرابعُ: مما تجبُ فيه الزكاةُ عُرُوضُ التجارةِ وهي كلُّ ما أعدَّه للتَّكَسّبِ والتجارةِ من عقارٍ وحيوانٍ وطعام وشرابٍ وسياراتٍ وغيرها من جميع أصْناف المَال فيُقَوِّمُهِا كلَّ سَنةٍ بما تُسَاوي عند رأسِ الْحوْلِ ويُخْرجُ رُبْعَ عُشْر قِيْمتِها سواءٌ كانت قيمتُها بقدرِ ثَمَنِها الَّذِي اشتراها به أمْ أقلّ أمْ أكثرَ، ويجبُ على أهل البِقَالات والالاتِ وقِطَعِ الغيارات وغيرها أن يُحْصُوها إحصاءً دقيقاً شاملاً للصغير والكبير ويُخْرجوا زكاتَها، فإنْ شقَّ عليهم ذلك احْتاطُوا وأخرجوا ما يكون به براءةُ ذِمَمِهمْ.
ولا زكاةَ فيما أعدَّه الإِنْسانُ لحاجتِه منْ طَعامٍ وشرابٍ وفُرُشٍ ومَسْكنٍ وحيواناتٍ وسيارةِ ولباسٍ سوى حُليِّ الذهب والفضةِ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «ليس على المُسْلِمِ في عبدِهِ ولا فَرسِه صدقةٌ»، متفق عليه.
ولا تجبُ الزكاةُ فيما أعِدِّ للأُجرةِ من عقاراتٍ وسياراتٍ ونحوها وإنَّما تجبُ في أجْرَتها إذا كانت نقوداً وحالَ عليها الحولُ وبلغَتْ نصاباً بِنَفْسِها أوْ بِضَمِّها لما عندَه من جِنْسِها.
إخواني: أدُّوا زكاةَ أموالِكم وطِيبُوا بها نَفْساً فإنها غُنْمٌ لا غُرْمٌ وربْحٌ لا خَسَارَةٌ، وأحْصوا جميعَ ما يلزمُكُمْ زكاتُه، واسْألُوا الله القبولَ لما أنْفقتُم والبركةَ لكم فيما أبْقَيْتُم، والحمدُ لله ربِّ العالمينَ وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجْمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس السابع عشر - في أهْل الزكاة
محمد بن صالح العثيمين(4/33)
الحمدُ لله الَّذِي لا رافعَ لما وَضَعَ، ولا واضِعَ لما رفع، ولا مانِع لما أعْطَى ولا مُعْطِي لما منَع، ولا قاطعَ لما وَصَل ولا وَاصِل لما قَطَعَ، فسبحانَهُ من مُدَبِّرٍ عظيم، وإِله حكِيم رحيم، فَبِحكْمتِه وقعَ الضررُ وبرحمته نَفَع، أحْمَدُه على جميع أفْعَاله، وأشْكُرُه على واسِع إفضالِه، وأشْهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له أحْكَمَ ما شَرَعَ وأبْدَعَ ما صَنَع، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أرْسلَه والْكُفْرُ قد عَلاَ وارتفع، وصالَ واجْتمع، فأهْبَطَه من عَلْيائِه وقَمعَ، وفَرَّقَ من شَرِّه ما اجْتَمع، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبه أبي بكرٍ الَّذِي نَجمَ نَجْمُ شجاعَتِه يومَ الرِّدَّةِ وطَلَع، وعلى عُمَرَ الَّذِي عَزَّ به الإِسلامُ وامتنَع، وعلى عثمانَ المقتولِ ظلْماً وما ابْتَدَعَ، وعلى عليٍّ الَّذِي دحضَ الْكُفْرَ بجهادِهِ وقَمعَ، وعلى جميع آلِهِ وأصحابِه ما سَجَد مُصَلٍّ وركع، وسلَّم تسليماً.
إخواني: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 60].(4/34)
في هذه الآيةِ الكريمةِ بيَّنَ الله تعالى مَصارفَ الزكاةِ وأهْلَهَا المسْتَحقينَ [17] في أهل الزكاةلها بِمُقْتَضَى عِلْمِه وحكمتِه وعَدْله ورحمتِه، وحَصَرها في هؤلاءِ الأصناف الثمانيةِ، وبيَّنَ أنَّ صرفَها فيهم فريضةٌ لازمةٌ وأنَّ هذه القِسْمَةَ صادرةٌ عن علمِ الله وحكمتِهِ، فلا يجوزُ تَعَدِّيها وصرفُ الزكاةِ في غيرِها؛ لأنَّ الله تعالى أعْلَمَ بمصالحِ خلقِه وأحكَمُ في وضْع الشَّيءِ في موضِعَه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة: 50].
فالصنف الأولُ والثاني: الفقراء والمساكين وهم الذين لا يجدون كِفَايتَهم، وكفايةَ عائلتهم لا مِنْ نقودٍ حاضِرةٍ ولا منْ رواتبَ ثابتةٍ ولا مِنْ صناعةٍ قائمةٍ ولا مِنْ غَلَّةٍ كافيةٍ ولا مِنْ نفقات على غيرهِم واجبة فهم في حاجةٍ إلى مواساةٍ ومعونةٍ. قال العلماءُ: فيعْطونَ مِنَ الزكاةِ ما يَكفيْهم وعائِلَتَهُمْ لمُدة سنةٍ كاملةٍ حتى يأتيَ حولُ الزكاةِ مرةً ثانيةً ويُعْطَى الفقيرُ لزواجٍ يحتاجُ إليهِ ما يَكْفِي لِزواجه، وطالبُ العلم الفقير لشراء كتب يحتاجها. ويعْطى منْ له راتب لا يكفيه وعائلته من الزكاة ما يُكمِّل كفايَتَهم لأنه ذو حاجة.(4/35)
وأمَّا من كان له كفايةٌ فلا يجوز إعطاؤه من الزكاةِ وإنْ سألَها؛ بل الواجبُ نُصحُه وتْحذِيرُه من سُؤالِ ما لا يحلُّ له، فعن عبدِالله بن عُمَر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «لا تَزَالُ المسْألةُ بأحَدِكُم حتى يَلْقَى الله عزَّ وجلَّ وليس في وجههِ مُزعةُ لحمٍ»، رواه البخاري. وعن أبي هريرةَ رضيَّ الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ سأل الناسَ أموالَهم تكثُّراً فإنما يسأل جمراً فَلْيَسْتقِلَّ أو ليسْتكثْر»، رواه مسلم. وعَنْ حَكيمِ بنِ حزامٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال له: «إنَّ هذا المَالَ خَضِرَةٌ حلوةٌ فمنْ أخَذَه بسَخاوةِ نَفْسٍ بُوركَ فيه، ومن أخذَه بإشراف نفْسٍ لم يباركْ له فيه وكان كالَّذِي يأكُلُ ولا يشْبع، واليَدُ العُلْيا خيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلى»، رواه البخاري ومسلم. وعن عبدالرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يَفْتَحُ عبْدٌ بابَ مَسْألةٍ إلاَّ فتحَ الله عليه بابَ فقر»، رواه أحمد.
وإن سأل الزكْاةَ شخصٌ وعليه علامةُ الغنى عنها وهو مجهولُ الحَال جاز إعطاؤه منها بعد إعْلامِه أنَّه لا حظَّ فيها لغَنيٍّ ولا لِقَويِّ مُكْتَسبٍ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أتاه رجُلان يَسْألانه فقَلَّبَ فيهما البَصَر فَرآهما جَلدَين فقال: «إنْ شئتُما أَعْطيتُكُما ولا حَظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقَويٍّ مُكْتَسِبٍ»، رواه أحمدُ وأبو داود والنسائيُّ.(4/36)
الصنفُ الثالثُ مِنْ أهلِ الزكاةِ: العامِلُون عليها وهم الذينَ ينصِّبُهم وُلاَةُ الأمورِ لِجبايةِ الزكاةِ من أهلها وحِفْظِها وتصريفِها، فيُعْطَون منها بقدرِ عملِهِم وإنْ كانوا أغنِياءَ، وأمَّا الوكلاء لفَردٍ من الناس في توزيعِ زكاتِه فليسوا من العامِلين عليها فلا يستحقونَ منها شيئاً من أجْلِ وَكالتهم فيها، لكِنْ إن تَبرَّعُوا في تفريقِها على أهلِها بأمانةٍ واجْتهادٍ كانوا شركاءَ في أجْرِها لما روى البخاريُّ عن أبي موسى الأشْعَريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «الخازِنُ المسْلِمُ الأمينُ الَّذِي يُنَفِّذُ أو قال: يُعْطِي ما أُمِرَ به كاملاً موفَّراً طيِّباً به نَفْسُه فيدفَعُه إلى الَّذِي أمَر به أحدُ المُتصَدقِّين، وإنْ لم يتبرَّعوا بتَفرِيقِها أعْطاهُمْ صاحبُ المال من مالِه لا مِنَ الزكاةِ».
الصنفُ الرابعُ: المؤلَّفَةُ قلوبُهم وهم ضعفاءُ الإِيْمانِ أو مَنْ يُخْشَى شَرُّهُمْ، فيُعْطَونَ مِن الزكاةِ ما يكونُ به تقوية إيمانم أوْ دفعُ شرهم إذا لم يندفع إلاَّ بإعطائِهِمْ.
الصنفُ الخامسُ: الرقَابُ وهم الأرقاء المكاتُبون الَّذِين اشْتَروا أنْفُسَهُم لِيُحَرِّروا بذلك أنْفُسَهم، ويجوزُ أنْ يُشْترى عَبْدٌ فيُعْتَق وأنْ يُفَكَّ بها مُسْلِمٌ من الأسْرِ لأنَّ هذا داخلٌ في عموم الرِّقَاب.
الصنفُ السادسُ: الغارِمُون الَّذِين يَتَحَمَّلُون غَرَامةً وهم نوعانِ:(4/37)
الأول: مَنْ تَحمَّلَ حَمَالةً لإِصْلاحِ ذاتِ الْبَيْنِ وإطْفَاءِ الفتنةِ فيُعْطَى من الزكاةِ بقَدْرِ حَمَالتِه تشجيعاً له على هذا العملِ النَّبيْلِ الَّذِي به تأليفُ المسلمين وإصلاحُ ذاتِ بَيْنِهم وإطفاءُ الفتنةِ وإزالة الأحْقَادِ والتنافرِ. وعن قبيصةَ الهلاليِّ قال: تحمَّلتُ حمالةً فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أسْألُه فيها فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «إقِمْ حتى تأتِينَا الصدقةُ فَنَأمُرَ لك بها»، ثم قال: «يا قبيصةُ إنَّ المسألةُ لا تحِلُّ إلاَّ لأحَدِ ثلاثةٍ: رجل تحمَّل حمالةً فحلَّتْ له المسألةُ حتى يصيبَها ثُمَّ يُمْسِكُ» وذكر تمام الحديث. رواه مسلم.
الثاني: مَنِ تَحمَّل حمالةً في ذمتِه لنَفْسِه وليس عنده وفَاءٌ فيُعْطَى من الزكاةِ ما يُوفي به دينَه وإنْ كَثُر أو يُوفَى طَالِبُه وإنْ لم يُسلَّمْ للمطلوب؛ لأنَّ تسليمَه للطالبِ يحصُل به المقصودُ من تبْرِئَةِ ذمةِ المطلوب.
الصنفُ السابعُ: في سبيلِ الله وهو الجهادُ في سبيل الله الَّذِي يُقْصَدُ به أنْ تكون كلمةُ الله هي العُلْيا لا لحميَّةٍ ولا لعصبيَّةٍ، فيُعْطَى المجاهدُ بهذه النِّيَّةِ ما يكْفِيهِ لِجِهادِهِ من الزكاةِ أوْ يُشْترى بها سلاحٌ وعَتَادٌ للمجاهدين في سبيلِ الله لحمايةِ الإِسْلامِ والذَّودِ عنه وإعلاءِ كلمةِ الله سبحانَه.(4/38)
الصنفُ الثامنُ: ابنُ السَّبِيْل وهو المسافُرِ الَّذِي انقطع به السَّفرُ ونَفَد مَا في يَدِه فيُعْطَى مِن الزكاةِ ما يُوصَلَه إلى بلدهِ وإنْ كان غنياً فيها وَوَجَدَ من يُقْرضُه، لكنْ لا يَجُوز أنْ يَسْتَصْحِبَ معه نفقةً قليلةً لأجْل أن يأخذ من الزكاة إذا نفدت، لأنها حيلةٌ على أخذ ما لا يستحق. ولا تُدْفَع الزكاةُ لكافر إلا أن يكونَ من المؤلَّفةِ قلوبهم، ولا تُدفع لِغَنيِّ عنها بما يكفِيه من تجارةٍ أو صناعةٍ أوْ حرفةٍ أوْ راتبٍ أوْ مَغَلِّ أو نفقةٍ واجبةٍ إلا أن يكون من العامِلينَ عليها أو المجاهِدينَ في سبيلِ الله أو الغَارمينَ لإِصْلاحَ ذاتِ البَيْن. ولا تُدْفَع الزكاةُ في إسقاطِ واجبٍ سِوَاها فلا تُدْفَع للضَّيْفِ بدلاً عن ضيافتِه، ولا لمن تجب نفقتُهُ من زوجةٍ أو قريبٍ بدلاً عن نفقتهما، ولا يجوز دفُعها للزوجةِ والقريبِ فيما سوى النفقةِ الواجبةِ، فيجوز أن يَقْضِيَ بها ديناً عن زوجتِه لا تَسْتَطِيعُ وفاءَه وأنْ يَقْضِيَ بها عن والِديْهِ أو أحدٍ منْ أقاربه ديناً لا يستطيعُ وفاءَه. ويجوز أن يدفعَ الزكاةَ لأقاربه في سَدادِ نَفَقَتِهم إذا لم تكنْ واجبة عليه لِكَوْنِ مالِه لا يَتَحمَّلُ الإِنفاقَ عليهم أو نحو ذلك. ويجوزُ دفعُ الزوجةِ زكاتَها لزوجها في قضاءِ دينٍ عليه ونحوه؛ وذلك لأنَّ الله سبحانَه علَّقَ استحقاقَ الزكاةِ بأوصافٍ عامة تشملُ من ذكرنا وغيرهم، فمن اتَّصفَ بها كان مستحقاً، وعلى هذا فلا يخرج أحَدٌ منها إلا بنص أو إجماع.(4/39)
وفي الصحيحين من حديث زيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ امْرَأة عبدِالله بن مسعودٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أمَرَ النِّساءَ بالصدقةِ فسَألَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فقالَتْ: يا رسولَ الله إنَّك أمَرْتَ بالصدقةِ وكان عندي حُلِيٌّ فأردتُ أنْ أتصدقَ به، فزَعم ابنُ مسعودٍ أنَّه وولَدَه أحَقُّ مَنْ تَصدَّقتُ به عليهم فقال النبيُّ : «صَدَقَ ابن مسعودٍ زوجُكِ وولَدُك أحقُّ مَنْ تصدَّقتِ به عليهم». وعن سلْمَانَ بنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الصدقةُ على الفقيرِ صدقةً وعلى ذَوِي الرَّحَمِ صدقةٌ وَصِلَةٌ»، رواه النسائيُّ والترمذيُّ وابنُ خزيمةَ والحاكمُ وقال: صحيحُ الإِسناد. وذوو الرَّحمِ هم الْقَرابَةُ قربُوا أمْ بَعُدُوا.(4/40)
ولا يجوز أن يُسْقِطَ الدَّيْنَ عن الفقير ويَنْويهُ عن الزكاةِ لأنَّ الزكاةَ أخْذٌ وإعطَاء. قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [التوبة: 103]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله افْتَرَضَ عليهم صدَقةً تُؤخذُ مِنْ أغْنيائِهِم فَتُردُّ على فقرائِهم». وإسْقَاطُ الدَّيْنَ عن الفقير ليس أخذاً ولا رَدَّاً، ولأنَّ ما في ذمةِ الفقير دَيْنٌ غَائبٌ لا يَتَصَرَّفُ فيه فلا يجزأ عن مالٍ حاضرٍ يَتَصَرَّفُ فيه، ولأنَّ الدَّيْنَ أقلُّ في النَّفْسِ من الحاضرِ وأدْنَى فأداؤه عنه كأداءِ الرِدِيءِ عن الجيِّد. وإذا اجتهد صاحبُ الزَّكاةِ فَدَفَعَهَا لمنْ يَظُنُّ أنَّه من أهلِها فَتَبَيَّنَ بخلافِهِ فإنها تجزئُه؛ لأنَّه اتقى الله ما استطاعَ ولا يُكلِّف الله نفساً إلا وُسْعَها. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «قال رَجُلٌ: والله لأتَصَدَّقَّ (فَذَكَرَ الحديث وفيه) فَوَضَعَ صدقته في يد غَنِيٍّ فأصْبَحَ الناسُ يَتَحَدَّثُون تُصُدِقَ على غنِيٍّ فقال: الحمد لله على غَنِيٍّ فأُتِي فقيل أمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّه يَعْتَبِرُ فينْفقُ مما أعْطاه الله»، وفي رواية لمسلم: «أمَّا صدقتُكَ فقد تُقبِّلت». وعن مَعْن بن يزيدَ رضي الله عنه قال: كان أبي يُخْرجُ دنانيرَ يتصدقُ بها فوضعها عندَ رجُلٍ في المسجد، فجئت فأخَذْتُها فأتيتُه بها فقال: والله ما إيَّاك أَرَدْتُ فخاصَمته إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «لك ما نَوَيتَ يا يزيدُ ولك ما أخَذْتَ يا مَعْنُ»، رواه البخاريُّ.(4/41)
إخواني: إن الزكاةَ لا تجزأ ولا تقْبَلُ حتى توضع في المَحَلِّ الَّذِي وَضَعَها الله فيه فاجْتَهدوا رحمكم الله فيها، واحْرصُوا على أنْ تَقَع موقَعها وتَحِلَّ مَحلَّها لِتُبْرئوا ذِمَمَكُمْ وتُطَهِّروا أمْوَالَكُمْ وتُنَفِّذُوا أمْرَ ربِّكم وتُقْبَلَ صَدَقاتُكُمْ والله المُوَفِّقُ والحمد لله ربِّ العالمِينَ وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعينَ.
مجالس شهر رمضان
المجلس الثامن عشر - في غَزوة بَدر
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله القويِّ المتين، القاهرِ الظاهرِ الملكِ الحقِّ المبين، لا يخفى على سمعِه خفيُّ الأنينِ، ولا يعزُب عن بصرِه حركاتُ الجنِين، ذلَّ لكبريائِه جبابرةُ السلاطين، وَقَضى القضاءَ بحكمتِه وهو أحْكَمُ الحاكمين، أحمده حمْدَ الشاكِرين، وأسْألُه مَعُونَةَ الصابِرين، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له إِلهُ الأوَّلين والآخرين، وأشَهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطَفَى على جميع المرسلين، المنصورُ ببَدرٍ بالملائِكةِ المنزَلين، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابِعين لهم بإحْسانٍ إلى يومِ الدين، وسلم تسليماً.(4/42)
إخواني: في هذا الشهرِ المُباركِ نصرَ الله المسلمينَ في غزوة بدرٍ الْكُبْرى على أعْدَائِهم المُشرِكينَ وسَمَّى ذلك اليومَ يومَ الفُرْقانِ؛ لأنَّه سبحانه فرَّقَ فيه بَيْنَ الحقِّ والبَاطِلِ بنَصْر رسولِهِ والمؤمنين وخَذْلِ الكفارِ المشركِين. كان ذلك في شهر رمضانَ من السَّنَةِ الثانية من الهِجْرةِ، وكان سببُ هذه الغزوة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بَلَغَهُ أنَّ أبا سفيانَ قد توجَّه من الشامِ إلى مكةَ بعيْرِ قريشٍ، فَدَعَا أصحابَه إلى الخروج إليه لأخْذِ العِيْرِ، لأنَّ قُريشاً حَربٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابِه ليس بَيْنَه وبينَهم عهْدٌ، وقد أخْرَجوهم من ديارِهم وأموالِهم وقامُوا ضِدَّ دعوتِهم دعوةِ الحقِّ، فكانُوا مُسْتَحقِّين لما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابُه [18] في غزوة بدربِعِيْرِهم. فخرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابُه في ثَلثِمائةٍ وبضعةَ عَشَرَ رجُلاً على فَرسَين وسَبْعِين بَعِيراً يتعقبونها منهم سَبْعون رجُلاً من المُهَاجرين، والباقُون مِن الأنصارِ، يَقْصُدونَ الْعِيْرَ لا يريدونَ الْحَرْبَ، ولَكنَّ الله جمَعَ بينهم وبينَ عَدُوِّهم على غيرِ ميْعاد لِيَقْضيَ الله أمراً كان مفعولاً ويتمَّ ما أرَاد. فإن أبا سفيانَ عَلمَ بهم فبعثَ صارخاً إلى قُريشٍ يَستنجدُهم لِيحْمُوا عِيْرَهُمْ، وتَركَ الطريقَ المعتادةَ وسلكَ ساحلَ البحرِ فَنَجا.(4/43)
أما قريشٌ فإنَّه لما جاءهم الصارخُ خَرجُوا بأشْرافِهِم عن بَكْرَةِ أبِيهم في نحو ألفِ رجلٍ معهم مئةُ فرسٍ وسبعُمائة بَعِيرٍ {بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [الأنفال: 74] ومَعهَم الْقِيَانُ يُغَنِّينَ بهجاءِ المسلمينَ، فلما عَلِمَ أبو سفيانَ بخروجِهم بعثَ إليهم يُخْبرهُم بِنَجَاتِه، ويُشير عليهِم بالرجوعِ وعدم الْحَربِ، فأبَوْا ذلك وقال أبُو جهلٍ: والله لا نرجعُ حتى نبلُغَ بدراً ونُقِيمُ فيه ثَلاثاً، نَنْحَرُ الجُزُورَ، ونُطْعِمُ الطعامَ، ونسقِي الْخَمْرَ، وتسمعُ بنا العَرَبُ فلا يَزالون يهابونَنَا أبداً.(4/44)
أمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فإنه لما عَلِمَ بخروجِ قريشٍ جمعَ من معه من الصحابةِ فاستشارَهم وقال: إن الله قدْ وَعَدَني إحْدى الطائفتين إمَّا العيرَ أو الجيشَ، فقام المقْدَادُ بنُ الأسْودِ وكَان من المُهاجِرينَ وقالَ: يا رسول الله امْض لما أمرَكَ الله عَزِّ وجلِّ فوَالله لا نقُولُ كما قالتْ بنو إسْرائيلَ لمُوسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَعِدُونَ قَعِدُونَ } [المائدة: 24] ولكِنْ نقاتلُ عن يمينِك وعن شمالِك ومن بَيْنَ يَدَيْكَ ومن خَلْفِك، وقام سعدُ بنُ مُعَاذٍ الأنْصاريُّ سيِّدُ الأوْس فقال: يا رسول الله لعلَّكَ تَخْشَى أنْ تكونَ الأنصارُ تَرَى حقْاً عليها أن لا تَنصُركَ إلاَّ في ديارِهم وإني أقُولُ عن الأنْصارِ وأجيبُ عنهم فاظْعَنْ حيثُ شئتَ، وصِل حبل مَنْ شئتَ، واقطعْ حبْلَ مَنْ شئتَ، وخذْ من أموالِنا ما شئتَ، وأعطِنا منها ما شئتَ، ومَا أخَذْتَ منَّا كان أحَبَّ إلينا مما تركتَ، وما أمْرت فيه من أمْرٍ فأمْرُنا فيه تَبَعٌ لأمْرك، فوالله لَئِن سِرْتَ بناحتى تبلُغَ الْبركَ من غَمْدانَ لنَسيرنَّ معك، ولئن اسْتعرضتَ بنا هذا البَحْرَ فخضْتَه لنخُوضَنَّه معك، وما نَكرَهُ أنْ تكونَ تَلَقَى العدوَّ بنا غداً، إنَّنا لصبرٌ عند الْحَربِ، صِدْقٌ عند اللِّقاءِ، ولعلَّ الله يُريكَ منا ما تَقَرُّ به عَيْنُك. فسُرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم لما سَمِعَ من كلامِ المهاجرينَ والأنصارِ رضي الله عنهم وقال: «سَيْرُوا وأبْشِرُوا فَوالله لَكَأنِّي أنْظُرَ إلى مَصارِعِ القومِ»، فَسَارَ النبي صلى الله عليه وسلّم بجنودِ الرحمنِ حتى نَزَلُوا أدنَى ماءٍ من مِيَاهِ بَدْرٍ، فقال له الْحبابُ بنُ المُنْذرِ بن عَمْرو بنِ الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المَنْزِلَ؟ أمَنْزلٌ أنْزَلَكَهُ الله ليس لنا أن نتقدمَ عنه أوْ نتأخر؟ أمْ هو الرَّأْيُ والْحَرْبُ والمَكيدةُ؟ فقال(4/45)
النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: بل هو الرأْيُ والحربُ والمكيدةُ»، فقال: يا رسولَ الله إنَّ هذا ليس بمَنزِلٍ، فَانْهَضْ بنا حتى نَأتِيَ أدْنَى ماءٍ من القومِ فننزله ونُغَوِّر ما ورَاءه من الْقُلبِ ثم نَبْنِيَ عليه حوضاً فَنَمْلأه فنشربَ ولا يشربُونَ، فاسْتَحْسَنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم هذا الرَّأيَ ونهض، فنزلَ بالعْدُوَةِ الدُّنيا مما يلِي المدينةَ وقريشٌ بالْعُدْوةِ القُصْوى مما يلي مكةَ، وأنْزلَ الله تلك الليلة مطراً كان على المشركين وَابلاً شديداً وَوحَلاً زَلَقاً يمنعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلاًّ طهرَهم ووطَّأ لهم الأرض وشَدَّ الرَّمْلَ ومَهَّدَ المَنْزِلَ وثَبَّتَ الأقدام. وبنى المسلمون لِرسول الله صلى الله عليه وسلّم عَريْشاً على تل مُشْرِفٍ على مَيْدَانِ الحرب ثم نَزَلَ صلى الله عليه وسلّم من الْعَريشِ فَسَوَّى صفوف أصْحابِه، ومشى في موضِع المَعْرَكةِ، وجعَل يُشيرُ بيدهِ إلى مصارعِ المشركينَ، ومحلاَّتِ قَتْلِهم يقولُ: هذا مصرعُ فلانٍ إنْ شاء الله، هذا مصرعُ فلانٍ، فما جاوزَ أحَدٌ مِنْهُمْ موضعَ إشارتِه، ثم نَظَرَ صلى الله عليه وسلّم إلى أصحابه وإلى قُرَيْشٍ فقال: اللَّهُمَّ هذه قريشٌ جاءت بفَخْرِها وخُيَلائِها وخَيْلِها تُحادُّك وتكذّبُ رسولَك، اللَّهُمَّ نَصْركَ الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ انْجِزْ لي ما وعدتنِي، اللَّهُمَّ إني أنْشُدُك عَهْدَك ووَعْدَك، اللَّهُمَّ إنْ شئتَ لم تُعْبَدْ، اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هذه العِصَابَةُ اليومَ لا تُعْبَد، واستَنْصَرَ المسلمون رَبَّهُمُ واستغاثوه فاستجابَ لهم: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ(4/46)
وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } [الأنفال: 12 14].
ثُمَّ تقابَلَ الجَمَعانِ، وحَمِي الْوطِيسُ واستدارتْ رَحَى الحربِ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلّم في العَرِيشِ، ومعه أبو بكرٍ وسَعْدُ بنُ مُعاذٍ يحرسانه، فما زالَ صلى الله عليه وسلّم يُنَاشِدُ ربَّه ويسْتَنْصِرُهُ ويَسْتَغِيْثُه، فأغْفَى إغْفَاةً ثم خرج يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ» وحَرَّضَ أصحابَه على القتال وقال: والَّذِي نَفْسُ محمدٍ بيدِهِ لا يقاتلُهُمُ اليومَ رَجُلٌ فَيَقْتَلُ صابراً مُحْتَسِباً مُقْبلاً غَيْرَ مُدْبر إلاَّ أدخله الله الجنّةَ. فقام عُمَيرُ بنُ الحِمَام الأنصاريُّ وبِيَدِه تَمَرات يأكُلُهُنَّ فقال: يا رسولَ الله جنة عَرْضُها السمواتُ والأرْضُ قال النبي صلى الله عليه وسلّم: نَعَمْ. قال: بَخٍ بَخٍ يا رسولَ الله ما بَيْنِي وبَيْنَ أنْ أدخُل الجنةَ إلاّ أنْ يقتُلَني هؤلاءِ، لَئِنْ حِييتُ حتى آكُلَ تمراتِي هذهِ إنها لحَيَاةٌ طويلةٌ، ثم ألْقَى التمراتِ وقاتلِ حتى قُتِلَ رضي الله عنه.(4/47)
وأخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم كفَّاً مِنْ تُرابٍ أو حصاً فرَمَى بها القومَ فأصابتْ أعْيُنَهم فما مِنْهم واحِدٌ إلاَّ مَلأتْ عيْنَه، وشُغلوُا بالتراب في أعْينهم آيةً من آياتِ الله عزَّ وجلَّ، فَهُزمَ جَمْعُ المشركين، ووَلَّوُا الأدْبارَ، واتَّبعهم المسلمون يقْتُلون ويأسرون. قَتْلُوا سَبْعينَ رجلاً وأسَروا سبعين. أمَّا الْقَتْلى فألْقِي منهم أربعةٌ وعشرون رجلاً مِنْ صَنَاديدهِم في قليبٍ من قُلْبَانِ بَدْر، منهم أبو جهلٍ وشَيْبَةُ بنُ رَبيعةَ وأخوه عُتْبة وابنُه الوَليدُ بنُ عتبةَ، وفي صحيح البخاريِّ: عن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم استقْبَل الكعبةَ فدَعَا على هؤلاء الأربعةِ قال: فأشْهَدُ بالله لقد رأيتُهم صَرْعَى قد غيَّرتهم الشَّمسُ وكان يوماً حاراً.
وفيه أيضاً عن أبي طلحةَ رضي الله عنه أنَّ نَبيَّ الله صلى الله عليه وسلّم أمر يومَ بدرٍ بأربعةٍ وعشرينَ رَجُلاً من صناديدِ قريشٍ فَقُذِفُوا في طَويٍّ من أطْواءِ بدرٍ خبيثٍ مُخْبثٍ، وكان إذا ظَهَر على قوم أقَامَ بالعَرْصَةِ ثلاثَ لَيالٍ، فلما كان ببدرٍ اليومَ الثالَثَ أمَرَ برَاحِلتِه فشُدُّ عليها ثم مشَى واتَّبعَهُ أصحابُه حَتَّى قامَ على شَفَةِ الرَّكِيِّ فجعل يُنَادِيْهم بأسمائِهِم وأسماءِ آبائِهِم يا فلانُ بنَ فلانٍ ويا فلانُ بنَ فلانٍ أيَسُرُّكُمْ أنَّكُمْ أطْعتُمُ الله ورسولَه، فإنا قد وَجَدْنَا ما وَعَدنَا ربُّنا حقَّاً فهل وجَدْتُم ما وَعَدَكُمْ ربُّكم حقَّاً؟ قال عُمَرُ: يا رسولَ الله مَا تُكلِّمُ مِنْ أجْسَادٍ لا أرواحَ لها؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «والَّذِي نَفْسُ محمدٍ بِيَدِه ما أنْتُم بأسْمَعَ لما أقولُ منهم».(4/48)
وأمَّا الأسْرَى فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم اسْتَشارَ الصحابةَ فيهم، وكان سعدُ ابن مُعاذٍ قد ساءَه أمْرُهُمْ وقال: كانتْ أوَّل وَقْعَةٍ أوْقَعها الله في المشركينَ وكان الإِثْخَانُ في الْحَربِ أحبَّ إليَّ من اسْتِبْقَاءِ الرِّجالِ. وقال عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم: أرَى أنْ تُمَكِّنَنا فنضربَ أعْنَاقَهم فتُمَكِّن عليَّاً من عَقِيْل فيضربَ عنقَه، وتمكِّنَنِي من فلانٍ يعنِي قريباًله فأضْرِبَ عنقَه، فإنَّ هؤلاء أئِمَّةُ الْكُفْرِ وصناديدُها.
وقال أبو بَكْرٍ رضي الله عنه: هم بَنُو الْعِمِّ والعَشيْرةُ، وأرَى أن تأخُذَ منهم فِدْيةً فتكونُ لنا قُوةً على الكفارِ، فعسى الله أنْ يهديَهُم للإِسلامِ، فأخَذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم الفدية، فكان أكْثَرهم يفْتَدِي بالمَالِ مِنْ أربعةِ آلافِ درهمٍ إلى ألْفِ درهمٍ، ومنهم مَنْ افْتدى بتعليمِ صِبْيَانِ أهْلِ المدينةِ الكِتابَةَ والقِراءة، ومنهم مَنْ كان فِداؤُهُ إطْلاَقَ مأسورِ عند قريشٍ من المسلمينَ، ومنهم منَ قَتَله النبيُّ صلى الله عليه وسلّم صبراً لِشدَّةِ أذيِّتِه، ومنهم مَنْ مَنَّ عليه بدونِ فداءٍ لِلْمَصْلَحَةِ.
هذه غزوةُ بدرٍ انتصَرَتْ فيها فِئَةٌ قليلةٌ على فئةٍ كثيرةٍ {فِئَةٌ تُقَتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُِّوْلِى الاَْبْصَرِ } [آل عمران: 13]. انتصرت الفئةُ القليلةُ لأنها قائمةٌ بدِينِ الله تُقَاتِلُ لإِعْلاءِ كَلِمَتِهِ والدِّفاع عن ديْنِه، فنصَرَها الله عزَّ وجلَّ. فقومُوا بدِيْنِكَم أيُّها المسلمونَ لتُنْصَروا على أعدائِكم، واصْبِرُوا وصَابِرُوا وَرَابِطُوا واتقوا الله لعلَّكُمْ تفلِحُون.(4/49)
اللَّهُمَّ انْصُرْنا بالإِسلامِ واجعلنا من أنصارِهِ والدعاةِ إليه وثبِّتَنا عليه إلى أن نلْقَاكَ. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس التاسع عشر - في غَزوة فتح مَكة شرّفها الله عز وجل
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله الَّذِي خلق كلَّ شَيْء فَقَدَّرَه، وعلِمَ مَوْردَ كلِّ مخلوقٍ ومصْدَرَه، وأثْبَتَ في أمِّ الكتاب ما أرَادَه وسَطَّره، فلا مُؤخرَ لِمَا قدَّمَه، ولا مُقَدِّم لما أخَّرَه، ولا ناصرَ لمَنْ خَذلَهُ ولا خاذِلَ لِمَنْ نَصَره، تفرَّد بالمُلْكِ والبقاءِ، والعزَّةِ والكبرياء، فمَنْ نازَعه ذلك أحْقَرَه، الواحدُ الأحَدُ الربُّ الصَّمَد، فلا شريكَ له فيْمَا أبْدَعَه وفَطَرَه، الحيُّ القَيُّومُ فما أقْومَهَ بشُؤُونِ خلْقِه وأبْصَرَه، العليمُ الخبيرُ فلا يخْفَى عليه ما أسَرَّه العبدُ وأضْمَرَه، أحْمَدُه على ما أوْلَى مِنْ فضلِهِ ويَسَّرَه.
وأشْهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ لَهُ، قَبِلَ تَوْبةَ العاصِي فعفَا عن ذَنْبِه وغَفَرَه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي أوْضَح به سبيلَ الهدايةِ ونَوَّرَه، وأزال به ظلماتِ الشِّرْكِ وقَتَرَه، وفَتحَ عليه مَكَّةَ فأزَال الأصنامَ مِن الْبَيْتِ وَطَهَّرَه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه الكرامِ الْبَرَرَة، وعلى التابعينَ لهم بإحْسَانٍ ما بَلَغَ القَمَرُ بدرَه وسَرَرَه، وسلَّم تسليماً.(4/50)
إخواني: كما كان في هذا الشهرِ المباركِ غزوةُ بدْرٍ الَّتِي انتصر فيها الإِسْلامُ وعلا منارُه، كان فيه أيضاً غزوةُ فتْحِ مكةِ البلدِ الأمينِ [19] في غزوة فتح مكة شرفها الله عز وجلفي السَّنَةِ الثامِنَةِ من الْهِجرَةِ فأنقَذَه الله بهذا الفتحِ العظيمِ مِنَ الشركِ الأثِيم، وصار بلداً إسلامياً حَلَّ فيه التوحيدُ عن الشِّرْكِ، والإِيْمَانُ عن الكُفْرِ، والإِسلامُ عن الاسْتِكْبَار، أعلِنَتْ فيه عبادةُ الواحدِ الْقَهَّار، وكُسِرَتْ فيه أوْثانُ الشركِ فمَالها بعْدَ ذَلِكَ انْجِبَار، وسَبَبُ هذا الفتحِ العظيمِ أنَّه لما تَمَّ الصلْحُ بَيْنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وبَيْنَ قريشٍ في الحُديْبيّةِ في السَّنَةِ السَّادسةِ كان مَنْ أحَبَّ أنْ يدْخُلَ في عهْدِ النبي صلى الله عليه وسلّم فَعلَ، ومَن أحبَّ أنْ يدخُلَ في عهدِ قريشٍ فَعَلَ، فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ في عهْدِ النبي صلى الله عليه وسلّم ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان بَيْنَ القبيلتَين دماءٌ في الجاهليَّة فانْتَهَزَتْ بنو بكرٍ هذه الهُدنَةَ فأغَارتْ على خزاعةَ وهم آمِنُون، وأعَانَتْ قريشٌ حُلَفَاءها بَنِي بكرٍ بالرجالِ والسِّلاحِ سِرّاً على خزاعةَ حلفاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم، فقدِم جماعةٌ منهم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فأخبروهُ بما صنعت بنو بكر وإعانة قريش لها.(4/51)
أما قريش فسُقِط في أيدِيْهم ورَأوْا أنّهُمْ بِفِعْلِهم هذا نَقَضَوا عَهْدهم، فأرسَلُوا زعيمهم أبَا سُفْيَانُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لِيَشُدَّ الْعَقْدَ وَيَزِيْدَ في المُدَّة، فَكَلَّمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم في ذلك، فلم يَرُدَّ عليه ثم كلَّمَ أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ لِيَشْفَعَا له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يُفْلِحْ، ثم كَلَّمَ عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ فلم يُفلحْ أيْضاً، فقال له: ما تَرَى يَا أبا الحَسَنِ، قال: ما أرَى شَيْئاً يُغْنِي عنك ولَكنَّك سَيِّدَ بنِي كِنَانَةَ فَقُمْ فأجِرْ بَيْنَ الناس، قال: أتَرَى ذلك مُغْنِياً عني شيئاً، قال: لا والله ولَكِنْ ما أجِدُ لك غَيَره، فَفَعَل أبو سفيانَ، ثم رَجَعَ إلى مكة فقالتْ له قريشُ: ما وَرَاءَكَ؟ قال: أتَيْتُ محمداً فكَلَّمْتُه فوَالله ما رَدَّ عَليَّ شَيْئاً، ثم أتَيْتُ ابن أبي قُحافةَ وابنَ الخطاب فلم أجدُ خيراً، ثم أتيتُ علِيَّاً فأشارَ عَليَّ بشيء صنَعْتُه أجَرْتُ بَينَ النَّاسِ، قالوا: فهل أجاز ذلك مُحمدٌ؟ قال: لا. قالوا: وَيْحَكَ، ما زادَ الرَّجُلُ (يعْنُون عليّاً) أنْ لَعِبَ بك.(4/52)
وأمّا النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فقد أمر أصحابَه بالتَّجَهُّزِ لِلْقتالِ، وأخْبرهم بما يُريد واستَنْفَرَ مَنْ حولَه من القبائلِ وقال: اللَّهُمَّ خُذِ الأخبارِ والْعُيونَ عَنْ قريشٍ حتى نَبْغَتَها في بلادِها، ثم خرَجَ من المدينةِ بنحو عَشَرةِ آلاف مُقَاتِلٍ، وَوَلَّى على المدينةِ عَبْدَالله بنَ أمِّ مَكْتُومٍ ولما كانَ في أثْنَاءِ الطريق لَقِيَهُ في الْجُحْفَةِ عَمُّهُ العَبَّاسُ بأهْلِهِ وعيالِه مهاجراً مُسْلماً، وفي مَكَانٍ يُسَمَّى الأبْواءَ لقيه ابن عَمّه أبو سفيانَ بنُ الحارثِ ابنُ عَبْدِالمُطَّلِبِ وابنُ عَمَّتِهِ عبدُالله بنُ أبي أمَيَّةَ، وكانا من أشَدِّ أعْدائِه فأسْلَمَا فَقَبِل منهما، وقال في أبي سفيانَ: أرجو أنْ يكونَ خَلَفاً مِنْ حَمْزَةَ.(4/53)
ولمَّا بلغ صلى الله عليه وسلّم مكاناً يُسَمَّى مَرَّ الظَّهْرَانِ قريباً مِنْ مكةَ أمَرَ الْجَيْشَ فأوْقَدُوا عَشَرَةَ آلاف نارٍ، وجَعل على الْحرس عُمَرَ بنَ الخطابِ رضيَ الله عنه، وَرَكِبَ العباسُ بَغْلَةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لِيلْتَمِسَ أحَداً يُبَلِّغِ قريشاً لِيَخْرُجوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فيطلبوا الأمانَ منه ولا يحصُل القتالُ في مكةَ البلدِ الأمينِ، فَبَيْنَمَا هو يَسِيرُ سَمِع كلامَ أبي سفيانَ بن حرب يقول لِبُدَيلِ بن وَرْقَاءَ: ما رأيتُ كاللَيلةِ نِيراناً قطُّ فقال بُديْلٌ: هذه خزاعَةُ، فقال أبو سفيان: خزاعةُ أقل من ذلك وأذلُّ فعرف العباسُ صوت أبي سفيانَ فنَادَاه فقال: مالك أبَا الْفَضْلِ؟ قالَ: هذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم في الناسِ قال: فما الحيلَةُ؟ قالَ العباسُ: ارْكَبْ حَتَّى آتِيَ بك رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فأسْتأمِنَه لك، فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فقال: وَيْحَكَ يا أبا سفيانَ أمَا آنَ لكَ أنْ تَعْلَمَ أن لا إِله إلاّ الله؟ فقال: بأبِي أنتَ وأمِّي ما أحْلَمَكَ وأكرَمَك وأوْصَلَكَ لَقَدْ علمْتُ أنْ لَوْ كانَ مع الله غَيْرهُ لأغْنَى عنِّي، قال: أمَا آنَ لك أنْ تَعْلَم أنَّي رسولُ الله؟ فَتَلَكَّأ أبوُ سفيانَ، فقالَ له العباسُ: وَيْحك أسْلِمْ فأسْلَمَ وشَهدَ شهادةَ الحَقِّ.(4/54)
ثم أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم العباسَ أن يُوْقِفَ أبا سفيانَ بِمَضَيقِ الْوَادي عِنْد خَطْم الْجَبَل حَتَّى يمُرَّ به المسلمون، فَمَرَّتْ به الْقَبَائِلُ على رَايَاتِها ما تَمُرُّ به قَبيلةٌ إلاَّ سَأل عنها العَبَّاسَ فيُخْبِرُهُ فيقولُ: ما لي وَلَهَا حَتَّى أقْبَلَتْ كَتِيبةٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فقال: مَنْ هَذِهِ؟ قال العباسُ: هؤلاءِ الأنْصارُ عليهم سَعدُ بنُ عُبَادَةَ معه الرَّايةُ فلما حاذَاه سُعدٌ قال: أبا سفيان اليومُ يومُ الملحمةِ اليومَ تستحلُّ الكعبة، ثم جاءت كتِيْبَةٌ وهي أقلُّ الكتائبِ وأجَلُّها فيهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم وأصْحَابُه ورَايَتُه مع الزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ، فَلَّما مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأبي سفيان أخْبَرَه بِمَا قال سعْدٌ فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «كَذَبَ سَعْدٌ ولكِنْ هذا يومٌ يُعَظِّمُ الله فيه الْكَعْبةَ ويومٌ تكْسَى فيه الْكَعْبَة».(4/55)
ثمَّ أمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أنْ تُؤْخَذَ الرَّايةُ من سَعْدٍ وتُدفَعَ إلى ابْنِهِ قَيْسٍ ورأى أنَّها لم تَخرُج عن سعْدٍ خروجاً كاملاً إذ صارت إلى ابنِه، ثم مضَى صلى الله عليه وسلّم وأمَرَ أن تُرْكَزَ رايتُه بالْحَجُونِ ثُمَّ دَخَلَ مكةَ فاتحاً مُؤَزَّراً منصوراً قد طأطأ رأسَه تَواضُعاً لله عزَّ وجلَّ حَتَّى إنَّ جبْهَتَه تَكَادُ تَمسُّ رَحْلَه وهو يَقْرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [الفتح: 1] ويُرَجِّعُهَا وبعثَ صلى الله عليه وسلّم على إحدى المَجْنَبَتين خالدَ بنَ الْوَلِيدِ وعلى الأخْرَى الزُّبيرَ بنَ العَوَّامِ وقال: مَنْ دَخَلَ المسجد فهو آمِنٌ، ومَنْ دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمِنٌ، ومن دخلَ بيْتَه وأغْلَقَ بابَه فهو آمِنٌ، ثم مضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم حتى أتى المَسْجِدَ الْحَرَامَ فطافَ به على راحِلَتِهِ وكان حوْلَ البيتِ ستون وثَلثُمائَةِ صَنَم، فَجَعَلَ صلى الله عليه وسلّم يطْعُنُها بقَوْس معه ويُقول: {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَطِلُ إِنَّ الْبَطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإِسراء: 81] {جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَطِلُ وَمَا يُعِيدُ } [سبأ: 49]، والأصنامُ تَتساقَطُ على وجوهِها، ثم دَخَلَ صلى الله عليه وسلّم الكعبة فإذَا فيها صورٌ فأمَرَ بها فَمُحِيَتُ ثم صلَّى فيها فلَّما فرغَ دَارَ فيها وكبَّرَ في نَواحِيْها وَوَحَّدَ الله عزَّ وجلَّ، ثُمَّ وَقَفَ على باب الكعبةِ وقُريشٌ تَحْتَه ينْتَظِرُون ما يَفْعَلُ، فأخذَ بعِضَادَتِي الباب وقال: لا إِله إِلاَّ الله وحدَّه لا شريكَ له، لَهُ المُلْكُ وله الحمدُ وهو على كَلِّ شَيْءٍ قديرٌ، صَدَقَ وَعْدَه ونَصرَ عَبْدَه وهَزمَ الأحزابَ وحْدَه، يا مَعْشَر قُريش إنَّ الله قد أذهَبَ عَنكم نَخَوَةَ الجاهِليَّةِ وتَعَظُّمَها بالآباءِ، الناسُ مِنْ آدمَ وآدمُ من تُرابٍ {يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا(4/56)
خَلَقْنَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13]. يا مَعْشرَ قريشٍ، ما تَظُنُّونَ أني فاعِلٌ بكُمْ؟ قالوا: خيراً أخٌ كرِيمٌ، وابنُ أخٍ كريم، قال: فإنِّي أقُول لكم كما قال يوسفُ لإخوَتِه {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَحِمِينَ } [يوسف: 92] أذْهَبُوا فَأنْتم الطُّلَقَاء.
ولما كان اليومُ الثاني من الفتح قام النبيُّ صلى الله عليه وسلّم خطيباً في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله حرم مكة ولم يحرمْها الناس فلا يحلٌ لأمرأ يؤمنُ بالله واليوم الآخر أن يسفكَ بها دماً ولا يعضدَ بها شجرةً، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقولوا: إن الله أذنَ لرسولِه ولم يأذنْ لكم وإنما أذنَ لي فيها ساعةٌ من نهارٍ، وقد عادت حرمتُها اليوم كحرمتِها بالأمس، فَلْيُبَلِّغ الشاهدُ الغائب. وكانت الساعةُ التي أُحلِّتْ فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم من طلوعِ الشمس إلى صلاةِ العصرِ يومَ الفتحِ، ثم أقامَ صلى الله عليه وسلّم تسعةَ عشرَ يوماً بمكةَ يقصرُ الصلاةَ ولم يصمْ بقيةَ الشهرِ لأنه لم ينوِ قطعَ السفرِ. أقامَ كذلك لتوطيدِ التوحيدِ ودعائمِ الإِسلام وتثبيتِ الإِيمان ومبايعةِ الناسِ. وفي الصحيح عن مجاشع قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بأخي بعد الفتح ليبايعَه على الهجرةِ فقال صلى الله عليه وسلّم: ذهبَ أهلُ الهجرةِ بما فيها ولكنْ أبايعَه على الإِسلامِ والإِيمانِ والجهادِ.(4/57)
وبهذا الْفَتحِ المُبِين تمَّ نصرُ الله ودخل الناس في دينِ الله أفواجاً، وعادَ بلدُ الله بلداً إسلاميَّاً أعْلِنَ فيه بتَوْحِيْدِ الله وتصديق رسولِه وتحكيم كتابِه، وصارتِ الدولَةُ فيه لِلْمُسْلمينِ، وانْدَحَرَ الشركُ وتَبَدَّدَ ظلامُه، واللهُ أكبرُ وللهِ الْحَمْدُ وَذَلِكَ مِنْ فضلِ الله على عبادِه إلى يوم القيامةِ.
اللَّهُمَّ أرزُقْنا شُكْرَ هذه النعمةِ العظيمةِ، وحقِّق النِّصر للأمَّةِ الإِسلاميةِ كلَّ وقتٍ في كلِّ مكانٍ، واغفِرْ لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين برحمتِك يا أرحَمَ الراحمينَ وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس العشرون - في أسباب النصر الحقيقية
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله العظيمِ في قَدْرِه، العزيزِ في قهْرِه، العالمِ بحالِ العَبْدِ في سِرِّه وجَهْرِه، الجائِدِ على المُجَاهدِ بِنَصْرِه، وعلى المتَواضِعِ من أجْلِهِ بِرَفْعِه، يسمعُ صَريفَ القلمِ عند خطِّ سَطْرِه، ويرى النَّملَ يدبُّ في فيافي قَفْرِه، ومِن آياتِه أنْ تقوم السَماءُ والأرضُ بأَمْرِه، أحْمَدُهُ على القَضَاءِ حُلْوِه ومُرِّه، وأشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له إقامةً لِذْكْرِهِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه المبعوثُ بالبِرِّ إلى الخلْقِ في بّره وبَحْرِه، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبِه أبي بكرٍ السابقِ بما وَقَرَ من الإِيمانِ في صَدْرِه، وعلى عُمَر مُعزِّ الإِسلامِ بَحَزْمِه وقهرهِ، وعلى عثمانَ ذِي النُّورَينِ الصابِر من أمره على مُرِّه، وعلى عليٍّ ابن عمِّه وصِهْرِه، وعلى آلِهِ وأصحابه والتابعينَ لهم بإِحسانٍ ما جاد السحابُ بقطْرِه، وسلَّم تسليماً.(4/58)
إخواني: لقد نصرَ الله المؤمنينَ في مَواطنَ كثيرةٍ في بدرٍ والأحزابِ والفتحِ وحُنينٍ وغيرها، نصرَهُمُ اللهُ وفاءً بِوَعدِه {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } [الروم: 47] {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَْشْهَدُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر: 51، 52]. نَصرَهُمُ اللهُ لأنهم قائمونَ بدينِه وهو الظَّاهرُ على الأديانِ كلِّها، فمن تمسك به فهو ظاهرٌ على [20] في أسباب النصر الحقيقيةالأممِ كلِّها {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 33]. نصَرَهم اللهُ تعالى لأنهم قاموا بأسبابِ النصرِ الحقيقيَّةِ المادَيةِ منها والمَعْنَويةِ، فكان عندهم من العَزْمِ ما بَرَزُوا به على أعْدائهم أخذاً بتوجيه اللهِ تعالى لَهُم وتَمشِّياً مع هديهِ وتثبيتِه إياهم {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ } [آل عمران: 139، 140] {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء: 104] {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ(4/59)
أَعْمَلَكُمْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَلَكُمْ * إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسَْلْكُمْ أَمْوَلَكُمْ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسَْلْكُمْ أَمْوَلَكُمْ } [محمد: 35، 36]. فَكانوا بهذِه التَّقْويَةِ والتثبيتِ يَسِرونَ بِقُوةٍ وعزْمٍ وجِدٍّ وأخَذُوا بكِلَّ نصيبٍ من القُوة امتثالاً لقولِ ربِّهم سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [الأنفال: 60] من القُوَّةِ النفسيةِ الباطنةِ والقوةِ العسكريةِ الظاهرة. نصرهم الله تعالى لأنهم قامُوا بنصر دينِه {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّهُمْ فِى الاَْرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَآتَوُاْ الزَّكَوةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَقِبَةُ الاُْمُورِ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَقِبَةُ الاُْمُورِ } [الحج: 40، 41]. ففي هاتين الآيتين الكريمتين وعدَ اللهُ بالنصر من ينصرُه وعداً مؤكداً بمؤكدات لفظية ومَعنوية، أما المؤكدات اللفظية فهي القسمُ المقدَّرُ لأنَّ التقديرَ واللهِ لينصرنَّ اللهُ مَنْ ينصرُهُ وكذلك اللامُ والنونُ في «وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ » كلاهُما يفيدُ التوكيدَ، وأمَّا التوكيدُ(4/60)
المعنويُّ ففي قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ } فهو سبحانه قَويٌّ لا يضْعُفُ وعزيزٌ لا يذِلُّ وكلُّ قوةٍ وعزةٍ تُضَادُّهُ ستكونُ ذُلاً وضعفاً وفي قولِه: {وَلِلَّهِ عَقِبَةُ الاُْمُورِ } تثبيتٌ للمؤمِنِ عندما يسْتَبعِدُ النصر في نَظَره لِبُعد أسبابِه عندَه فإنَّ عواقبَ الأمورِ لله وحْدَهُ يغَيِّر سبحانَه ما شاءَ حَسْبَ ما تَقْتَضِيه حكمَتُه. وفي هاتين الايتين بيانُ الأوْصافِ التي يُستحقُّ بها النصرُ وهي أوصافٌ يَتَحَلَّى بها المؤمنُ بعدَ التمكين في الأرضِ، فلا يُغْرِيه هذا التمكينُ بالأشَرِ والْبَطرِ والعلوِّ والفسادِ، وإنما يَزيدُه قوةً في دين الله وتَمسُّكاً به.(4/61)
الوصفُ الأول: {الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّهُمْ فِى الاَْرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَآتَوُاْ الزَّكَوةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَقِبَةُ الاُْمُورِ } [الحج: 41] والتمكينُ في الأرض لا يكونُ إلاّ بعْدَ تحقيق عبادةِ الله وحْدَه كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَسِقُونَ } [النور: 55]. فإذا قام العبدُ بعبادَةِ الله مخلصاً له في أقْوَالِه وأفعالِه وإرادَتِه لا يريدُ بها إلا وجه الله والدار الاخرة ولا يريد بها جاهاً ولا ثناءً من الناسِ ولا مالاً ولا شيئاً من الدُّنيا، واستمَرَّ على هذِه العبادة المخْلصة في السَّراء والضَراءِ والشِّدةِ والرَّخاءِ، مكَّنَ الله له في الأرض. إذَنْ فالتمكينُ في الأرضَ يستلزمُ وصفاً سابقاً عليه وهو عبادةُ اللهِ وحْدَه لا شريكَ له.
وبعد التمكين والإِخلاص يَكُونُ:(4/62)
الوصفُ الثاني: وهو إقامةُ الصلاةِ بأن يؤدِّيَ الصلاة على الوجهِ المطلوب منه قائماً بشروطِها وأركانِها وواجباتِها وتمامُ ذلك القيامُ بمُسْتَحَبَّاتِها، فيحسنُ الطُّهورَ، ويقيمُ الركوعَ والسجودَ والقيامَ والقعودَ، ويحافَظُ على الوقتِ وعلى الجمعةِ والجماعاتِ، ويحافظُ على الخشوعِ وهو حضورُ القلبِ وسكونُ الجوارح، فإِنَّ الخشوعَ رُوحُ الصلاةِ ولُبُّها، والصلاةُ بدونِ خشوعٍ كالجسمِ بدون روحٍ، وعن عمار بن ياسرٍ رضي الله عنه قال سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقولُ: «إنَّ الرجل لينصرفُ وما كتِب له إلاَّ عُشْرُ صلاتِهِ تُسْعُها ثُمنْها سُبْعُها سُدسُها خُمْسُها ربْعُها ثلْثُها نصفها»، رواه أبو داود والنسائي.
الوصفُ الثالث: إيتاءُ الزكاةِ {وَآتُواْ الزَّكَوةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } بأن يعْطوُهَا إلى مستحقِّيها طِّيبةً بها نفوسُهم كاملةً بدونِ نقصٍ يبتغُون بذلك فضلاً من الله ورضواناً، فيُزكُّون بذلك أنفسَهُم ويطهِّرون أموالَهم وينفعونَ إخوانهم من الفقراءِ والمساكينِ وغيرهم من ذوي الحاجات، وقد سبقَ بيانُ مُسْتحِقَّي الزكاةِ الواجبةِ في المجلِسِ السابعَ عَشر.
الوصفُ الرابعُ: الأمر بالمعروفِ {وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَقِبَةُ الاُْمُورِ } والمعروفُ كلُّ ما أمرَ اللهُ به ورسولُه من واجباتٍ ومستحبات، يأمرون بذلك إحياءَ لشريعةِ اللهِ وإصلاحاً لعباده واستجلاباً لرحمتِهِ ورضوانِهِ، فالمؤمنُ للمؤمنِ كالبنيِان يشدُ بعضُه بعضاً، فكما أنَّ المؤمنَ يحبُّ لنفسِهِ أَنْ يكونَ قائماً بطاعَةِ ربِّه فكذلك يجبُ أن يحبَّ لإِخوانِه من القيام بِطاعةَ الله ما يحبُّ لنفسه، والأمرُ بالمعروفِ عن إيمانٍ وتصديقٍ يستلزمُ أن يكونَ الامرُ قائماً بما يأمرُ به لأنه يأمرُ به عن إيمانٍ واقتناعٍ بفائدتِهِ وثمراتِهِ العاجلة والآجلةِ.(4/63)
الوصفُ الخامسُ: النَّهيُ عن المنكرِ {وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَقِبَةُ الاُْمُورِ } والمُنْكَرُ كلُّ ما نهى اللهُ عنه ورسولُه من كبائر الذنوبِ وصغائِرِها مما يتعلقُ بالعبادةِ أو الأخلاقِ أو المعاملةِ ينْهونَ عن ذلك كلِّه صِيانةً لدينِ الله وحمايةً لِعباده واتقاءً لأسْبابِ الفسادِ والعقوبةِ.
فالأمرُ بالمعروفِ والنَهْيُ عن المنكر دعَامَتَانِ قَوِيَّتانِ لبقاءِ الأمَّةِ وعزتِها ووحْدَتِها حتى لا تتفرَّق بها الأهواءُ وتَشَتَّتَ بها المسالكُ، ولذلك كانَ الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر من فرائِضِ الدين على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ مع القدرةِ {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 104، 105]. فَلَوْلا الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر لتَفَرَّق الناسُ شِيعاً وتمزَّقوا كل ممزَّق كلُّ حزبٍ بما لَدَيْهِمْ فرحون، وبه فُضِّلت هذه الأمةُ على غيرها {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَبِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَسِقُونَ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَبِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَسِقُونَ } [آل عمران: 110]. وبتَركه {لُعِنَ الَّذِينَ(4/64)
كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ يَتَنَهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المائدة: 78، 79].
فهذه الأوصافُ الخمسةُ متى تحقَّقتْ مع القيامِ بما أرشدَ الله إليه من الْحَزمِ والعزيِمَةِ وإعْدادِ القُوَّةِ الحسيَّة حصل النصرُ بإذنِ الله {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاَْخِرَةِ هُمْ غَفِلُونَ مِّنَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاَْخِرَةِ هُمْ غَفِلُونَ } [الروم: 6، 7]. فيَحْصَلُ للأمَّةِ من نصْر الله ما لَمْ يخْطُرْ لهم على بالٍ، وإن المؤمنَ الواثقَ بوعدِ الله ليَعْلمُ أنَّ الأسباب المادِّيةَ مَهْما قويَتْ فليستْ بشيء بالنسبةِ إلى قُوةِ الله الذي خلقها وأوْجَدَها، افْتَخَرَتْ عادٌ بقوَّتِها وقالُوا منْ أشدُّ منا قوةً فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بَِايَتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } [فصلت: 15، 16]. وافْتَخر فرعونُ بمُلكِ مصْرَ وأنْهَاره التي تْجري مِنْ تحته فأغرقَه الله بالماءِ الَّذِي كان يفْتَخرُ بِمثْلِهِ وأوْرث مُلْكهُ(4/65)
مُوسى وقومَه وهو الَّذِي في نظر فرعونَ مَهِيْن ولاَ يكادُ يُبِين، وافتَخرت قريشٌ بعظَمتها وَجَبروتِها فخرجوا من ديَارِهم برؤسائِهم وزعمائِهم بطراً ورِئاءَ الناس يقولون لا نَرْجعُ حتى نقدمَ بَدْراً فننحرَ فيها الجزور ونَسْقِيَ الخمورَ وتعزفَ الْقِيانُ وتسمعَ بنا العربُ فلا يزالُون يهابوننَا أبداً. فَهُزمُوا على يد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه شرَّ هزيمةٍ، وسُحبت جثثُهم جِيفاً في قليبِ بدرٍ، وصاروا حديثَ الناس في الذُّلِّ والهوانِ إلى يوم القيامةِ. ونحنُ المسَلمين في هذا العصرِ لو أخَذْنَا بأسباب النصرِ وقُمْنَا بواجبِ دينِنا وكنَّا قدوةً لا مُقْتَدين ومتبوعِين لا أتباعاً لِغَيرنا وأخَذْنَا بوسائِل الحرب الْعَصْريَّةِ بصدقٍ وإخلاصٍ لنصَرنَا الله على أعدائنا كما نصر أسلافَنا. صدقَ الله وعْدَه ونصر عَبْدَه وهزَمَ الأحزابَ وحْدَه. {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [الفتح: 23].
اللَّهُمَّ هييء لنا منْ أسبابِ النصرِ ما به نَصْرُنَا وعزتُنا وكرامتُنا ورفعةُ الإِسلام وذُل الكفرِ والعصيانِ إنك جوادٌ كريمُ وصلَّى الله وسلَّم على نبِينا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمَعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الحادي والعشرون - في فضْل العشر الأخيرة من رمَضانُ
محمد بن صالح العثيمين(4/66)
الحمدُ لله المتفردِ بالجلالِ والبقاء، والعظمةِ والكبرياء، والعزِّ الَّذِي لا يُرام، الواحد الأحدِ، الرب الصمدِ، الملِكِ الَّذِي لا يحتاجُ إلى أحَد، العليِّ عن مُداناةِ الأوهام، الجليل العظيم الَّذِي لا تدركُه العقولُ والأفْهامُ، الغنيِّ بذاتِه عن جميعِ مخلوقاتِه، فكلُّ مَنْ سواه مفتقرٌ إليه على الدَّوامَ، وَفَّقَ مَنْ شاء فأمَنَ به واستقام ثم وَجَدَ لذة مناجاةِ مولاهُ فَهَجَر لذيذَ المنام، وصَحِب رُفقةً تتجافى جنوبُهم عن المضَاجع رغبةً في المقام، فَلَوْ رأيتَهم وَقَدْ سارتْ قوافلُهم في حَنْدسِ الظَّلام، فواحدٌ يسْأَلُ العفَو عن زَلَّته، وآخَرُ يشكو ما يجدُ من لَوْعَتِهِ، وآخَرُ شَغله ذِكْرُه عن مسألتِه، فسبحانَ من أيْقَظَهُمْ والناسُ نيام، وتبارك الَّذِي غَفَرَ وعفَا، وستَر وكَفَى، وأسْبَل على الكافةِ جميعَ الإِنعام، أحمده على نَعمِهِ الجِسام، وأشكرهُ وأسألُه حفظَ نعمةِ الإِسلامِ، وأشْهَدُ أن لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لاَ شريكَ لَهُ عَزَّ منْ اعتز به فلا يُضَام، وَذلَّ مَنْ تكبَّر عن طاعتِهِ ولَقِي الاثام، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي بَيَّنَ الحلالَ والحرام، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبه أبي بكرٍ الصدِّيق الَّذِي هو في الْغَارِ خيرُ رفيق، وعلى عمَر بنِ الخطَّاب الَّذِي وُفِّقَ للصواب، وعلى عثمان مصابِر الْبَلا ومن نال الشهادة العظمى مِنْ أيْدِي العدا، وعلى ابنِ عمَّه عليٍّ بن أبي طالب وعلى [21] في فضل العشر الأخير من رمضانجميعِ الصحابةِ والتابعينَ لهم بإحسانٍ مَا غابَ في الأفقِ غَارِب، وسلَّم تسليماً.
إخواني: لَقَدْ نَزَل بكم عشرُ رمضانَ الأخيرةُ، فيها الخيراتُ والأجورُ الكثيرة، فيها الفضائلُ المشهورةُ والخصائصُ المذكورةُ.(4/67)
فمنْ خصائِصها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يجتهدُ بالعملِ فيها أكثرَ مِن غيرها، ففي صحيح مسلم عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يجتهدُ في العَشْرِ الأواخِرِ ما لا يجتهدُ في غيره. وفي الصحيحين عنها قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إذا دخلَ العَشرُ شَدَّ مِئزره وأحيا ليلَه وأيقظ أهلَه. وفي المسند عنها قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يَخْلِطُ العِشْرين بصلاةٍ ونومٍ فإذا كان العشرُ شمَّر وشدَّ المِئزرَ.
ففي هذه الأحاديث دليلٌ على فضيلةِ هذه العشرِ، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يجتهدُ فيها أكثر مما يجتهدُ في غيرِهِا وهذا شاملٌ للاجتهادِ في جميع أنواع العبادةِ من صلاةٍ وقرآنٍ وذكرٍ وصدقةٍ وغيرِها؛ ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يَشدُّ مئزرَه يعْني يعتزلُ نساءَه ليتفَرغَ للصلاةِ والذكرِ، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يُحْيي ليلَه بالقيامِ والقراءةِ والذكرِ بقلبه ولسانِه وجوارِحِه لِشَرفِ هذه الليالِي وطلباً لليلةِ الْقَدْرِ التي مَنْ قامها إيمانَاً واحتساباً غَفَرَ اللهُ له ما تقدمَ من ذنبه. وظاهِرُ هذا الحديثِ أنَّه صلى الله عليه وسلّم يُحْيِي الليلَ كلَّه في عبادةِ ربِّه مِنَ الذكرِ والقراءةِ والصلاةِ والاستعدادِ لذلِكَ والسحورِ وغيرها، وبهذا يحْصُلُ الجمْعُ بَيْنَه وبينَ مَا في صحيح مسلمٍ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما أعْلَمُهُ صلى الله عليه وسلّم قَامَ ليلةً حتى الصباحِ، لأنَّ إحياءَ الليل الثَّابتَ في العشرِ يكونُ بالقيامِ وغيرِه مِنْ أنْواعِ العبادةِ والَّذِي نَفَتْه إحياءُ الليلِ بالقيامِ فَقَطْ. والله أَعلم.(4/68)
وممَّا يدُلُّ على فَضيلةِ العشرِ من هذه الأحاديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يُوقِظُ أهلَه فيها للصلاةِ والذكرِ حِرْصاً على اغتنام هذه الليالِي المباركةِ بِما هي جديرةٌ به من العبادةِ فإنَّها فرصةُ الْعُمرِ وغنيمةُ لمنْ وفَّقه الله عزَّ وجلَّ، فلا ينبغِي للمؤمن العاقلِ أنْ يُفَوِّت هذه الفرصةَ الثمينةَ على نفسِه وأهلِه فما هي إلاَّ ليَالٍ معدودةٌ ربَّمَا يدركُ الإِنسانُ فيها نفحةً من نَفَحَاتِ المَوْلَى فتكونُ سعادةً له في الدنيا والآخرةِ. وإنه لمِنَ الحرمانِ العظيمِ والخسارةِ الفادحةِ أنْ تَرى كثيراً مِنَ المسلمينَ يُمْضُونَ هذه الأوقاتَ الثمينة فيما لا ينفعُهم، يَسْهَرُونَ مُعْظَمَ الليلِ في اللَّهوِ الباطلِ، فإذا جاء وقتُ القيام نامُوا عنه وفوَّتُوا على أنفسهم خيراً كثيراً لعَلَّهُمْ لا يَدركونَه بعد عامِهم هَذَا أبَداً، وهذا من تلاعُبِ الشيطانِ بِهم ومَكْرهِ بهم وصَدِّهِ إياهُم عن سبيلِ الله وإغْوائِهِ لهم، قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَنٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [الحجر: 42]. والعاقلُ لا يتخذُ الشيطانَ ولِيّاً من دَونِ الله مع عِلْمِهِ بَعَدَاوَتِهِ لَهُ فإنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ للعقل والإِيمانِ. قَالَ الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّلِمِينَ بَدَلاً } [الكهف: 50]، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَبِ السَّعِيرِ } [فاطر: 6].(4/69)
ومن خصائص هذه العشر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يعْتَكِفُ فيهَا، والاعتكافُ: لُزُومُ المسجِد للتَّفَرُّغِ لطاعةِ الله عزَّ وجلَّ وهو من السنن الثابتة بكتاب الله وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلّم، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تُبَشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَكِفُونَ فِي الْمَسَجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة: 187]. وقد اعتكفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم واعتَكَفَ أصحابُه معه وبعْدَه، فَعَنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم اعتَكَفَ العشرَ الأوَّلَ من رمضانَ ثم اعتكف العشر الأوسْط ثم قال: «إني اعتكِفُ العشرَ الأوَّل الْتَمِسُ هذه الليلةَ، ثم أعْتكِفُ العشرَ الأوسطَ، ثم أُتِيْتُ فقيل لي: إنها في العشرِ الأواخرِ، فمن أحبَّ منكم أنْ يعتكِفَ فَلْيَعْتكفْ» (الحديث) رواه مسلم.(4/70)
وفي الصحيحين عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يعتكفُ العشرَ الأواخرِ مِنْ رمضانَ حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ. ثم اعتكف أزواجُه مِن بعدِه. وفي صحيح البخاريِّ عنها أيضاً قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يعتكفُ في كلِّ رمضانَ عشرةَ أيامٍ. فلما كان العامُ الذي قُبِضَ فيه اعتكفَ عشرين يوماً، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يعتكِف العشرَ الأواخرَ مِن رمضانَ، فلم يعتكفْ عاماً، فلما كان العامُ المقبلُ اعتكفَ عشرينَ، رواه أحمد والترمذي وصححه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إذا أرادَ أن يعتكفَ صلَّى الفجرَ ثم دخل مَعْتَكَفَهُ فاستأذنَته عائشةُ، فإذِنَ لها، فضربتْ لها خِبَاءً، وسألت حفصة عائشةَ أنْ تستأذن لها، ففعلتْ، فضربتْ خِبَاءً، فلما رأتْ ذلك زينبُ أمَرَتْ بخباءٍ فضُرِبَ لها، فلما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلّم الأخْبِيَة قال: «ما هَذا؟» قالوا: بناءُ عائشةَ وحفصةَ وزينبَ. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «آلبِرَّ أردْنَ بِهذا؟ انْزعُوها فلا أراها». فنزعَتْ وترَك الاعتكاف في رمضانَ حتى اعتكف في العشر الأول من شوَالٍ. مِنْ البخَاريِّ ومسلم في رواياتٍ. وقال الإِمامُ أحمدُ بنُ حنبلَ رحمه الله: لا أعْلَمُ عن أحدٍ من العلماءِ خلافاً أنَّ الاعتكافَ مَسْنونٌ.(4/71)
والمقصود بالاعتكاف: انقطاعُ الإِنسانِ عن الناسِ لِيَتَفَرَّغَ لطاعةِ الله في مسجدٍ من مساجِده طلباً لفضْلِهِ وثوابِهِ وإدراكِ ليلة القَدْرِ، ولذلك ينْبغِي للمعتكفِ أنْ يشتغلَ بالذكرِ والقراءةِ والصلاةِ والعبادةِ، وأن يتَجنَّب ما لا يَعْنِيه من حديثِ الدنيَا ولا بأسَ أنْ يتحدثَ قليلاً بحديثٍ مباحٍ مع أهْلِه أو غيرهم لمصلحةٍ، لحديث صَفِيَّةَ أمِّ المؤمنينَ رضي الله عنها قالتْ: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم معتكفاً فأتَيْتُه أزورُه ليلاً فحدثتُه ثم قمتُ لأنْقَلِبَ (أي لأنصرفَ إلى بيتي) فقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم معِي» (الحديث) متفق عليه.
ويحرُمُ على المعتكفِ الجِماعُ ومُقَدَّمَاتُه من التقبيلِ واللَّمسِ لشهوةٍ لقولِه تعالى: {وَلاَ تُبَشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَكِفُونَ فِي الْمَسَجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وأمَّا خُروجُه من المسجدِ فإنْ كان بِبَعْض بدنِه فلا بأسَ به لحديث عائشة رضي الله عنها قالتْ: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُخرجُ رأسَه مِنَ المسجِدِ وهو معتكفٌ فأغسله وأنا حائض»، رواه البخاري. وفي رواية: «كانت تَرجّل رأس النبيَّ صلى الله عليه وسلّم وهي حائضٌ وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه»، وإن كان خروجه بجميع بدنه فهو ثلاثة أقسام:
الأوَّلُ: الخروجُ لأمرٍ لا بُدَّ منه طبعاً أوْ شرعاً كقضاءِ حاجةِ البولِ والغائِط والوضوءِ الواجبِ والغُسْلِ الواجِب لجنابَةٍ أوْ غيرها والأكلِ والشربِ فهذا جائزٌ إذا لم يُمْكنْ فعْلُهُ في المسجدِ فإنْ أمكنَ فِعُلُه في المسجدِ فلاَ. مثلُ أنْ يكونَ في المسجدِ حَمَّامٌ يمكنُه أنْ يقضيَ حاجتَه فيه وأن يغتسلَ فيه، أوْ يَكونَ له من يأتِيْهِ بالأكِل والشربِ فلا يخرجُ حينئذٍ لعدمِ الحاجة إليه.(4/72)
الثاني: الخروج لأمْر طاعةِ لا تجبُ عليهِ كعيادةِ مريضٍ وشهودِ جنازةٍ ونحو ذلك فلايفعله إلاَّ أنْ يشترطَ ذلك في ابتداءِ اعتكافِه مثل أن يكون عنده مريض يحب أن يعودَه أو يخشى من موته فيشترط في ابتداء اعتكافه خروجَه لِذَلِكَ فلا بأْسَ به.
الثالث: الخروجُ لأمْرٍ ينافي الاعتكافَ كالخروج للبيعِ والشراءِ وجماعِ أهْلِهِ ومباشرتِهم ونحو ذلك، فلا يفعله لا بشرطٍ ولا بغيرِ شرطٍ، لأنه يناقضُ الاعتكافَ وينافي المقصودَ منه.
ومن خصائِص هذه العشر أنَّ فيها ليلةَ الْقَدْرِ التي هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ فاعْرفوا رحمكم الله لهذه العشر فَضْلَها ولا تضيِّعُوها، فوَقْتُها ثمينٌ وخيرُها ظاهِرٌ مبينٌ.
اللَّهُمَّ وفقْنَا لِمَا فيهِ صلاحُ دينِنا ودنيانَا، وأحْسِنْ عاقَبَتَنا وأكْرِمْ مثَوانا، واغفر لنَا ولوالِدِينَا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ وصَلَّى الله وسلّم على نبيِّنا محمدٍّ وآلِهِ وصحبِه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الثاني والعشرون - في الاجتْهاد في العشر الأواخر ولَيْلَة القدر
محمد بن صالح العثيمين(4/73)
الحمدُ لله عالمِ السِّر والجهر، وقاصِمِ الجبابرةِ بالعزِّ والقهر، مُحْصِي قطراتِ الماءِ وهو يَجْرِي في النَّهْر، وباعثِ ظلامِ الليلِ ينسخُه نورُ الفجر، موِفِّر الثواب للعابدِينَ ومكملِّ الأجْر، العَالمِ بخَائَنَةِ الأعينِ وخافية الصدر، شَمل برزقِه جميعَ خلقِه فلَم يْترُكِ النملَ في الرَّمْلِ ولا الفرخَ في الْوَكر، أغنى وأفْقَرَ وبحِكْمَتِهِ وقوع الغِنَى والفَقر، وفَضَّل بعضَ المخلوقاتِ على بعض حتى أوقاتَ الدَّهر، لَيلةُ القدْر خيرٌ مِنْ ألفِ شهر، أحمدُه حمداً لا مُنتَهى لعَدَدِه، وأشكره شكراً يسْتجلِبُ المزيدَ من مَددِه، وأشهد أنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله وحده لا شريكَ له شهادةَ مخْلِص في مُعْتَقَده، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي نَبع الماءُ منْ بينَ أصابع يدِه صلى الله عليه وسلّم وعلى أبي بكرٍ صاحبه في رخائِه وشدائده، وعلى عمرَ بن الخطاب كهْفِ الإِسلامِ وعَضُدِه، وعلى عثمانَ جامِع كتاب الله ومُوحِّدِه، وعلى عليٍّ كافي الحروبِ وشجعَانِها بِمُفْرَدِه، وعلى آلِهِ وأصحابِه المحسنِ كلٌ منهمْ في عملِه ومقصِده، وسلَّم تسليماً.(4/74)
إخواني: في هذِه العشرِ المباركة ليلةُ القَدْرِ الَّتِي شرَّفها الله على غيرها، ومَنَّ على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها، أشادَ الله بفضلها في كتابة المبين فقال تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ كُنَّا مُنذِرِينَ مُنذِرِينَ * [22] في الاجتهاد في العشر الأواخر وليلة القدرفِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاَْوَّلِينَ } [الدخان: 3 8]. وصفَها الله سبحانَه بأنها مباركةٌ لكَثْرةِ خيرِها وبَركتِها وفضلها، فمِن بركتها أنَّ هذا القرآنَ المباركَ أُنْزِلَ فيها ووصَفَها سبحانَه بأنه يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيم، يعني يفصَل من اللوح المحفوظِ إلى الْكَتَبةِ ما هو كائنٌ مِنْ أمرِ الله سبحانَه في تلك السنةِ من الأرزاقِ والآجالِ والخير والشرِّ وغير ذلك من كلِّ أمْرٍ حكيمٍ من أوامِر الله المُحْكَمَةِ المتْقَنَةِ التي ليس فيها خَلَلٌ ولا نقصٌ ولا سَفَهٌ ولا باطلٌ ذلك تقديرُ العزيز العليم. وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } [القدر: 1 5]. الْقَدرُ بمعنَى الشرفِ والتعظيم أوْ بمعنى التقديرِ والقضاءِ؛ لأنَّ ليلةَ القدر شريفةٌ عظيمةٌ يقدِّر الله فيها ما يكون في السنةِ ويقضيهِ من أمورِهِ الحكيمةِ(4/75)
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } يعني في الفضل والشرفِ وكثرةِ الثواب والأجر ولذلك كانَ مَنْ قامَهَا إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه. {تَنَزَّلُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } الملائكة عبادٌ من عباد الله قائمون بعبادته ليلاً ونهار {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء: 19، 20] يتنزلون في ليلة القدر إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة {وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } هو جبريل عليه السلام خصَّه بالذكر لشرفه وفضله. {سَلَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } يعني أن ليلة القدر ليلةُ سلامَ للمؤمنين من كل مخوف لكثرة من يعتقُ فيها من النار، ويَسْلمُ مِنْ عذابِها. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } يعني أن ليلة القدرِ تنتهي بطلوعِ الفجرِ لانتهاءِ عملِ الليلِ به، وفي هذه السورةِ الكريمةِ فضائلُ متعددةٌ لليلةِ القدرِ:
الفضيلةُ الأولى: أن الله أنزلَ فيها القرآنَ الَّذِي بهِ هدايةُ البشرِ وسعادتُهم في الدُّنَيا والاخرِهِ.
الفضيلةُ الثانيةُ: ما يدُل عليه الاستفهامُ من التفخيم والتعظيم في قولِه: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ }.
الفضيلةُ الثالثةُ: أنَّها خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ.
الفضيلةُ الرابعةُ: أنَّ الملائكةَ تتنزلُ فيها وهُمْ لاينزلونَ إلاَّ بالخيرِ والبركةِ والرحمةِ.
الفضيلةُ الخامسةُ: أنها سَلامٌ لكثرةِ السلامةِ فيها من العقابِ والعذابِ بما يقوم به العبدُ من طاعةِ الله عزَّ وجلَّ.
الفضيلة السادسةُ: أنَّ الله أنزلَ في فضِلِها سورةٌ كاملةً تُتْلَى إلى يومِ القيامةِ.(4/76)
ومن فضائل ليلةِ القدرِ ما ثبتَ في الصحيحين من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «من قَامَ ليلةَ القدرِ إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه»، فقوله إيماناً واحتساباً يعني إيماناً بالله وبما أعدَّ اللهُ من الثوابِ للقائمينَ فيهَا واحتساباً للأجرِ وطلب الثواب. وهذا حاصلٌ لمنْ علِمْ بها ومَنْ لم يعلَمْ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم لَمْ يَشْترطِ العلمَ بهَا في حصولِ هذا الأجر.
وليلةُ القدرِ في رمضانَ، لأنَّ الله أنزلَ القرآنَ فيهَا وقد أخْبَرَ أنَّ إنزالَه في شهرِ رمضانَ، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [القدر:1]، وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة:185]. فبهذا تَعَيَّن أنْ تكونَ ليلةُ القدرِ في رمضانَ، وهي موجودةٌ في الأمَم وفي هذه الأمةِ إلى يومِ القيامةِ لما روى الإِمامُ أحْمَدُ والنسائيُّ عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أنه قال: «يا رسولَ الله أخْبرنِي عن ليلةِ القَدْرِ أهِي في رمضانَ أمْ في غيرهِ؟ قال: بلْ هِي في رمضانَ. قال: تكونُ مع الأنبياءِ ما كانُوا فإذا قُبِضُوا رُفِعَتْ أمْ هي إلى يومِ القيامةِ؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة» (الحديث). لَكِنْ فضلُها وأجْرُها يختَصُّ والله أعَلْمُ بهذه الأمةِ كما اختصتْ هذه الأمة بفضيلة يوم الجمعة وغيرها من الفضائل ولله الحمدِ.(4/77)
وليلةُ القَدْر في العشر الأواخر من رمضانَ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «تَحَرِّوا ليلةَ القدرِ في العشرِ الأواخر من رمضانَ»، متفقٌ عليه. وهي في الأوْتار أقْرب من الأشفاعِ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «تحروا ليلةَ القدرِ في الْوِترِ من العشرِ الأواخر من رمضان»، رواه البخاري. وهي في السَّبْعِ الأواخرِ أقْرَبٌ، لحديث ابنِ عمر رضي الله عنهما أنَّ رجالاً من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أُرُوا ليلةَ القدرِ في المنام في السبعِ الأواخر فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أرَى رُؤياكُمْ قد تواطأت (يعني اتفقت) في السبعِ الأواخرِ فمن كانَ مُتَحرِّيَها فَلْيتحَرَّها في السبعِ الأواخرِ»، متفق عليه. ولمسلم عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «التمِسُوَها في العشر الأواخر (يعني ليلةَ القدْرِ) فإن ضعف أحدُكم أو عجز فلا يُغْلَبَنَّ على السبعِ البواقِي». وأقربُ أوْتارِ السبعِ الأواخرِ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ لحديثِ أبيِّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: «والله لأعلم أيُّ ليلةٍ هي الليلةُ التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقيامِها هي ليلةُ سبعٍ وعشرينَ»، رواه مسلم. ولا تَخْتَصُّ ليلةُ القدرِ بليلةٍ معينةٍ في جميعِ الأعوامِ بل تَنتَقِّلُ فتكونُ في عامٍ ليلةَ سبع وعشرينَ مثلاً وفي عام آخرَ ليلة خمسٍ وعشرينَ تبعاً لمشيئةِ الله وحكمتِه، ويدُلُّ على ذلك قولُه صلى الله عليه وسلّم: «الُتمِسُوها في تاسعةٍ تبقى في سابعةٍ تبقَى في خامسةٍ تبقَى»، رواه البخاري. قال في فتح الباري: أرجح الأقوال أنها في وترٍ من العشرِ الأخيرِ وأنها تَنْتَقِلُ. اهـ.(4/78)
وقد أخُفَى الله سبحَانه عِلْمَها على العبادِ رحمةً بهم ليَكْثُر عملُهم في طلبها في تلك الليالِي الفاضلةِ بالصلاةِ والذكرِ والدعاءِ فيزدادُوا قربةً من الله وثواباً، وأخفاها اختباراً لهم أيضاً ليتبينَ بذلك مَنْ كانَ جادَّاً في طلبها حريصاً عليها مِمَّنْ كانَ كسلانَ متهاوناً، فإنَّ مَنْ حرصَ على شيءٍ جدَّ في طلبِه وهانَ عليه التعبُ في سبيلِ الوصولِ إليهِ والظَفر به، وربَّما يظهرُ اللهُ عِلْمَهَا لبعضِ الْعبَادِ بأماراتٍ وعلاماتٍ يرَاهَا كما رأى النَبيُّ صلى الله عليه وسلّم علامتَها أنه يسجُدُ في صبيحتِها في ماءٍ وطينٍ فنزل المطرُ في تلك الليلةِ فسجد في صلاةِ الصبحِ في ماءٍ وطينٍ.
إخواني: ليلةُ القدرِ يُفْتح فيها الْبَاب، ويقرَّبُ فيها الأحْبَابُ، ويُسْمَع الخطابُ، ويردُّ الجواب، ويُكْتَبُ للعاملينَ فيها عظيمُ الأجرِ، ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألف شَهْر، فاجتهدُوا رحمكم الله في طلبِها، فهذَا أوانُ الطَّلب، واحذَرَوا من الغفلةِ ففي الغفلة العَطَب.
تَوَلَّى العُمُر في سهورٍوفي لَهْوٍ وفي خُسْرفيا ضيعةَ ما أَنْفَقْتُ في الأيام من عُمْريوما لِي في الَّذِي ضيَّعْتُ من عمريَ من عُذْرِفما أغْفَلَنَا عن واجباتِ الحمدِ والشكرِأمَا قد خَصَّنا اللهُبشهرٍ أيِّما شهرِبشهرٍ أنْزَلَ الرحمنُ فيهِ أشرفَ الذِّكْرِوهل يُشبِهُه شهرٌوفيه ليلةُ القدرِفكمْ مِنْ خَبرٍ صَحَّبما فِيها من الخيررَوَيْنَا عن ثقاتٍ أنَّها تُطْلَبُ في الوِترفطُوبى لأمْرىءٍ يطلُبُهَا في هِذِه العَشرِفَفِيْهَا تنزلُ الأملاكُبالأنوار والبرِوقد قَالَ سلامٌ هيَحتى مَطْلعِ الفجرِألاَ فادَّخِروها إنِّها من أنْفَسِ الذُّخرفكمْ مِنْ مُعْتَقٍ فيهامن النارِ ولا يَدْرِي اللَّهُمَّ اجْعلْنَا ممن صامَ الشهر، وأدركَ ليلةَ القدرِ، وفاز بالثوابِ الجزيلِ الأجرِ.(4/79)
اللَّهُمَّ اجْعلْنَا من السابقينَ إلى الخيراتِ، الهاربينَ عن المنكَرات، الآمنينَ في الغرفات، مع الَّذِينَ أنعمتَ عليهم وَوَقَيْتَهُمْ السيئاتِ، اللَّهُمَّ أعِذْنا من مُضلاَّتِ الفتنِ، وجنبنا الفواحشَ ما ظهَرَ منها وما بطَن.
اللَّهُمَّ ارزُقْنَا شكرَ نعمتِك وحسنَ عبادتكَ، واجْعلْنَا من أهل طاعتِك وولايتك، وآتنا في الدنيا حسنةً وفي الاخرة حسنةً وقنَا عذَابَ النار، واغفر لنَا ولوالِدِينا ولِجميعِ المسلمينَ برحمتك يا أرحمَ الرَّاحمين وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الثالث والعشرون - في وصف الجنة جعلنا الله من أهلها
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله مبلِّغ الراجِي فوق مأمولِة، ومعطي السائِل زيادةً على سُؤلِه، المنَّانِ على التائب بصَفحِه وقَبولِه، خَلق الإِنسانَ وأَنشأَ داراً لِحُلُولِه، وجعل الدنيا مرحلةً لِنُزولِه، فتوَطَّنها مَنْ لم يعرفْ شَرفَ الأخرى لخُمُوُلِه، فأخذَ منها كارهاً قبل بلوغِ مأموله، ولم يُغْنِه ما كسَبه من مالٍ وولدٍ حتى انهْزَم في فُلولِه، أوَ مَا تَرى غِربانَ الْبَين تَنُوحُ على طُلُولِه، أمَّا الموفَّقُ فَعَرَفَ غرورَها فلمْ ينخدِع بمُثُولِه، وسابَقَ إلى مغفرةٍ من الله وجنةٍ عرضُها السماء والأرضُ أعِدَّتْ للذينَ آمنوا بالله ورسولِه، وأشْهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ عارفٍ بالدليلِ وأصُولِه، وأشْهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه ما ترَدَّد النسيمُ بين شمالِه وجنوبِه ودَبُورِه وقَبولِه، صلَّى الله عليه وعلى أبي بكر صاحبِه في سفرِهِ وحلولِه، وعلى عمرَ حامِي الإِسلامِ بسيفٍ لا يخافُ من فُلولِه، وعلى عثمانَ الصابرِ على البلاءِ حينَ نزولِه، وعلى عليٍّ الماضِي بشجاعتِه قبلَ أن يصولَ بنصُولِه، وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ ما امتَدَّ الدهرُ بِطُوله، وسلَّم تسليماً.(4/80)
إخواني: سارعُوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضُها كعرضِ السماءِ والأرض، فيها ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمِعتْ ولا خَطرَ على قلبِ بشرٍ. قال الله تعالى: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَفِرِينَ النَّارُ [23] في وصف الجنة جعلنا الله من أهلهاتَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَفِرِينَ النَّارُ } [الرعد: 53]، وقال تعالى: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَرٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّرِبِينَ وَأَنْهَرٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَلِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ طَعْمُهُ وَأَنْهَرٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّرِبِينَ وَأَنْهَرٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَلِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَلِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [محمد: 15]، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَلِدُونَ } [البقرة: 25]، وقال تعالى:(4/81)
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بَِانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَنٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } [الإِنسان: 14 20]، وقال تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [الغاشية: 10 16]، وقال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج: 23]، وقال تعالى: {عَلِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [الإِنسان: 21]، وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ } [الرحمن: 76]، وقال تعالى: {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاَْرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً فِيهَا عَلَى الاَْرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } [الإِنسان: 13]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ * فِى جَنَّتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَبِلِينَ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَبِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَكِهَةٍ ءَامِنِينَ } [الدخان: 51(4/82)
55]، وقال تعالى: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَجُكُمْ تُحْبَرُونَ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَفٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَبٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاَْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاَْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَلِدُونَ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاَْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاَْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَلِدُونَ } [الزخرف: 70 74]، وقال تعالى: {فِيهِنَّ قَصِرَتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن: 56 58]، وقال تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَتٌ حِسَانٌ * فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَتٌ فِى الْخِيَامِ } [الرحمن: 70 72]، وقال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17]، وقال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ } [يونس: 26]. فالْحُسنَى هي الجنةُ لأنَّهُ لا دارَ أحسنُ منها، والزيادةُ هي النظرُ إلى وجهِ الله الكريمِ رزقَنَا الله ذلك بِمنِّهِ وكرمِه. والآياتُ في وصفِ الجنةِ ونعيمها وسرورها وأنْسِهَا وحبُورِها كثيرةٌ جداً.(4/83)
وأما الأحاديثُ فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قُلْنَا: يا رسولَ الله حدِّثنَا عن الجنةِ ما بناؤُهَا قال: «لَبِنَةٌ ذهبٍ ولبنةٌ فضةٍ، ومِلاَطُها المسكُ، وحَصباؤها اللؤلؤُ والياقوتُ، وترابَها الزَعفرانُ، مَنْ يدخلُها ينعمُ ولا يبأسُ، ويخلُدُ ولا يموتُ، لا تَبْلَى ثيابه ولا يَفْنى شبابُه»، رواه أحمد والترمذي. وعن عِتَبةَ بن غزوانَ رضي الله عنه أنه خطَب فحمد الله وأثْنَى عليه، ثم قالَ: «أمَّا بعدُ فإن الدنيا قد آذَنَتْ بِصُرْمِ ووَلَّتْ حذَّاءَ ولم يبْقَ منها إلا صُبابةٌ كصُبابةِ الإِناء يصطبُّها صاحبُها، وإنَّكُمْ منتقِلونَ منها إلى دارٍ لا زوالَ لها فانتقلوا بخير ما يَحْضُرَنكُمْ. ولَقَدْ ذُكِرَ لنا أنَّ مِصراعينِ منْ مصاريعِ الجنةِ بيْنَهما مسيرةُ أربعينَ سَنَةً، وليأتِينَّ عليه يومٌ وهو كَظِيظٌ مِنَ الزحامِ»، رواه مسلم. وعن سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «في الجنةِ ثمانيةُ أبوابٍ فيها بابٌ يسمَّى الريَّانَ لا يدخلُه إلا الصائمون»، متفق عليه. وعن أسامةَ بن زيدٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ألاَ هَلْ من مُشَمِّرٌ إلى الجنةِ، فإنَّ الجنةَ لا خطر لها، هي وَرَبِّ الكعبةِ نورٌ يَتَلأْلأُ وريحانةٌ تَهْتزُّ وقصرٌ مشِيدٌ ونهرٌ مطَّردٌ وثَمَرةٌ نضِيْجَةٌ وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ وحُلَلٌ كثيرةٌ ومُقَامٌ في أبدٍ في دارٍ سليمةٍ وفاكهةٌ وخضرةٌ وحَبْرةٌ ونعمةٌ في مَحَلَّةٍ عاليةٍ بهيَّةٍ، قالوا: يا رسولَ الله نحن المشمِّرون لها. قال: قولوا إنْ شاء الله. فقال القوم: إنْ شاء الله»، رواه ابن ماجةَ والبيهقيُّ وابنُ حبَّانَ في صحيحهِ.(4/84)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنةِ مئة درجةٍ أعَدَّها الله للمجاهدِين في سبيلِه بينَ كلِّ درجتين كما بينَ السماءِ والأرض. فإذَا سألتُمُ الله فأسألُوه الفِرْدوسَ فإنَّهُ وسطُ الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجَّرُ أنهار الجنة وفوقَه عرشُ الرحمنِ»، رواه البخاريُّ وله عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إن أهْلَ الجنةِ يَتراءَوْنَ أهل الغرَفِ فوقَهم كما تَتَراءَوْنَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ في الأفُق من المشرق أو المغرب لتفاضلِ ما بيْنَهم. قالوا: يا رسولَ الله تلك مَنازلُ الأنبياءِ لا يبلغُها غيرُهم قال: بَلَى والَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقُوا المرسلينَ». وعن أبي مالكٍ الأشعريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنةِ غُرَفاً يُرَى ظاهرُها من باطِنُها وباطنُها مِن ظاهرِها أعَدَّها الله لمَنْ أطْعَمَ الطعامَ وأدامَ الصيامَ وصلَّى بالليلِ والناس نيامٌ»، أخرجه الطبراني. وعن أبي موسَى رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «إنَّ للمؤمِن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدةٍ مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً للمؤمن فيها أهلُون يطوفُ علِيهمْ فلا يَرَى بعضُهم بعضاً»، متفق عليه.(4/85)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ أوَّلَ زُمْرَةٍ تدخلُ الجَنةَ على صُورةِ القمر ليلةَ البدْرِ، ثم الذينَ يلونَهُمُ على أشَدِّ نجمِ في السماءِ إضاءةً، ثم همْ بعَدَ ذلك منازلُ لا يتَغَوَّطُونَ، ولا يبولُونَ، ولا يمتخِطون، ولا يبصُقون، أمشاطُهُم الذهبُ، ومجامِرُهم الأُلوَّة، ورشْحُهمُ المِسْكُ، أخلاقُهم على خَلْقِ رجلٍ واحدٍ على طولِ أبيْهم آدمَ ستُون ذِراعاً». وفي روايةٍ: «لا اختلافَ بينَهم ولا تباغِضَ، قلوبُهُم قلبٌ واحدٌ يسبِّحونَ الله بُكرةً وعشِياً». وفي روايةٍ: «وأزُواجُهُم الحورُ العِين». وله مِن حديث جابر رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل الجنةِ يَأكلُون فيها ويشْرَبُون ولا يتفُلُون ولا يبُولونَ ولا يَتَغَوَّطونَ ولا يمْتَخِطون، قالوا: فما بالُ الطعام؟ قال: جُشاءٌ ورَشْحٌ كَرشحِ المسكِ يُلْهَمُونَ التسبيحَ والتحميدَ كما يُلْهَمُونَ النَّفس».(4/86)
وعن زيدِ بن أرقمَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسُ محمدٍ بيدِه إن أحدَهُمْ (يعني أهل الجنةِ) ليُعْطَى قوةَ مئةِ رجلٍ في الأكل والشرب والجماعِ والشهوةِ تكون حاجةُ أحدهم رَشْحاً يفيض مِنْ جلودهم كرشْحِ المسْكِ فَيَضْمُر بطنه»، أخرجه أحمد والنسائي. وعن أنس رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لقاب قوسِ أحدِكم أو موضعِ قدمٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيهَا، ولَوْ أنَّ امرأةً من نساءِ الجنة اطلعتْ إلى الأرض لأضاءت ما بيْنَهُمَا ولملأت ما بينهما ريحاً ولنَصِيِفُها (يعني الخمارَ) خيرٌ من الدنيا وما فيها»، رواه البخاري. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ في الجنة لسُوقاً يأتونَها كُلَّ جمعةٍ فتَهبُّ ريحُ الشَّمالِ فتحثو في وجوهِهِم وثيابِهم فيزدادُونَ حُسناً وجَمَالاً، فيرجعونَ إلى أهلِيْهمْ فيقولُونَ لهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدَنا حسنا وجمالاً»، رواه مسلم. وله عن أبي سعيد رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «إذا دخل أهل الجنةِ الجنة ينادِي منادٍ: إن لكمْ أنّ تَصِحُّوا فلا تَسْقموا أبداً وإن لكم أن تَحْيَوْا فلا تموتوا أبداً، وإنَّ لكم أن تشِبُّوا فلا تَهرموا أبداً. وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً وذلك قولُ الله عز وجل: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأعراف: 43]».(4/87)
وفي الصحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عزَّ وجلَّ: أعْدَدْتُ لعبادي الصالحينَ مَا لاَ عَيْنٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطرَ على قلب بَشَر. وأقْرَؤوا إن شئتُم {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17]». وعن صُهَيب رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ نادىَ منادٍ يا أهلَ الجنةِ إن لكم عندَ الله مَوْعِداً يريدُ أن يُنْجِزَكُمُوهُ، فيقولونَ: ما هُو ألَمْ يُثَقِّلْ موازينَنَا ويُبَيِّضْ وجوهَنا ويدخلْنا الجنةَ ويزحْزحْنا عن النار؟ قال: فيكشفُ لهم الحِجَاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحبَّ إليهمْ من النظرِ إليه ولا أقَرَّ لأعينِهم منهُ»، رواه مسلمٌ. وله من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنَّ الله يقول لأهلِ الجنةِ: «أحِلُّ عليكم رضوانِي فلا أسخطُ عليكم بعدَه أبداً».
اللَّهُمَّ ارزقنا الخُلْدَ في جنانِك، وأحِلَّ علينا فيها رضوانَك، وارزقْنا لَذَّة النظرِ إلى وجهك والشوقَ إلى لقائك من غيرِ ضرَّاءَ مُضِرَّة ولا فتنةٍ مُضلةٍ.
اللَّهُمَّ صلِّ وسلَّم وبارِكْ على عبدِك ونبيِّك محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الرابع والعشرون - في أوصاف أهل الجنة
محمد بن صالح العثيمين
ـ جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه ـ(4/88)
الحمدُ لله الَّذِي كوَّنَ الأشياءَ وأحْكمهَا خَلْقاً، وفتقَ السموات والأرضَ، وكانتا رَتْقاً، وقسَّمَ بحكمتِه العبادَ فأسعدَ وأشْقى، وجعلَ للسعادةِ أسباباً فسَلكهَا منْ كانَ أتْقَى، فَنَظَر بعينِ البصيرةِ إلى العواقبِ فاختارَ ما كَان أبْقَى، أحمدُه وما أقْضِي له بالحمدَ حقَّاً، وأشكُره ولم يزَلْ لِلشُّكر مستحِقَّاً، وأشْهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله وحده لا شريكَ له مالكُ الرقاب كلِّها رِقَّاً، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أكمل البشر خُلُقاً وخَلْقَاً صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الصديق الحائز فضائلَ الأتباعِ سَبْقاً، وعلى عُمرَ العادلِ فما يحابِي خَلْقاً، وعلى عثمانَ الَّذِي استسْلَمَ للشهادةِ وما تَوَقَّى، وعلى عليٍّ بائعِ ما يَفْنَى ومشترِي ما يبْقى، وعلى آلِهِ وأصحابِه الناصرينَ لدينِ الله حقاً، وسلَّمَ تسليماً.(4/89)
إخواني: سمعتْمْ أوصافَ الجنةِ ونعيمَها وما فيها من السرورِ والفرحِ والحبورِ، فوالله إنَّها لجديرةٌ بأنْ يَعْملَ لها العاملُون، ويتنافَس فيها المتنافِسُونَ، ويُفْنِي الإِنسانُ عمرَه في طَلبهَا زاهداً في الدُّون، فإنْ سألتُمْ عن العمل لها والطريقِ الموصل إليها فقد بيَّنه اللهُ فيما أنزلُه من وحيهِ على أشرفِ رسله. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَتُ وَالاَْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَتُ وَالاَْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ وَالاَْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ لِلْمُتَّقِينَ * [24] في أوصاف أهل الجنة جعلنا الله منهم بمنه وكرمهالَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَفِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالْكَظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَفِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 133 135].
فهذه عدة أوصاف من أوصاف أهل الجنة:
الوصفُ الأوّلُ: (الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّتٍ وَعُيُونٍ ) وهم الذين اتَّقوا ربَّهم باتخاذ الوقايةِ من عذابهِ بفعلِ ما أمَرهم بهِ طاعةً له وَرَجَاءً لثوابِه، وتركِ ما نهاهُمْ عنه طاعةً لَهُ وخوفاً من عقابه.(4/90)
الوصفُ الثاني: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَفِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) فهُمْ ينفقونَ ما أمِروا بإنفاقِه على الوجهِ المطلوبِ منهمْ مِنَ الزكاةِ والصدقاتِ والنفقاتِ على مَنْ له حقٌ عليهم والنفقاتِ في الجهادِ وغيره من سُبُل الخيرِ ينفقونَ ذلك في السَّراءِ والضَّراءِ لا تحملهم السَّراءُ والرَّخاءُ على حُبِّ المالِ والشحِّ فيهِ طمَعاً في زيادتِه، ولا تحملُهم الشِّدةُ والضراءُ على إمساكِ المالِ خوفاً من الحاجةِ إليهِ.
الوصفُ الثالثُ: (وَالْكَظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَفِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) وهم الحابِسُونَ لغَضَبِهم إذا غضِبُوا فلا يعْتَدون ولا يحقِدون على غيرِهم بسببه.
الوصفُ الرابعُ: (وَالْعَفِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) يعْفُون عمَّنْ ظلَمهم واعتَدَى عليهمْ فلا ينتقمون لأنفسِهم مع قدْرَتِهِم على ذلك وفي قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } إشارةٌ إلى أنَّ العفَوَ لا يُمْدَح إِلا إذا كان من الإِحسانِ وذلكَ بأن يقعَ مَوْقِعَهُ ويكونَ إصلاحاً. فأما العفوُ الَّذِي تزدادُ بِه جريمةُ المعتدِي فليس بمحمودٍ ولا مأجورٍ عليه. قال الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ } [الشورى: 40].(4/91)
الوصفُ الخامسُ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الفاحشةُ ما يُسْتَفْحَشُ من الذنوبِ وهي الكبائرُ كقتلِ النفسِ المُحَرَّمَةِ بغيرِ حقٍّ وعقوقِ الوالدين وأكل الرِّبا وأكل مالِ اليتيمِ والتَّوَلِّي يومَ الزَّحفِ والزِّنَا والسرقةِ ونحوها من الكبائرِ. وأمَّا ظُلْمُ النفس فهوَ أعَمُّ فيشمَلُ الصغائرَ والكبائِرَ. فهمْ إذا فَعَلُوا شيئاً من ذَلِكَ ذَكرُوا عظمةَ مَنْ عَصَوْه فخافوا منه، وذَكرُوا مغفرتَه ورحمتَه فَسَعَوْا في أسبابِ ذلك فاسْتَغْفَروا لذنوبهم بطلب سترِها والتجاوزِ عن العقوبةِ عليها وفي قوله: (وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) إشارةٌ إلى أنهم لا يَطلبُونَ المغفرةَ من غيرِ اللهِ لأنَّه لا يغفرُ الذنوبَ سِواه.(4/92)
الوصفُ السادسُ: (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) أي لم يسْتَمِرُّوا على فعلِ الذنبِ وهم يعْلَمون أنَّه ذنبٌ ويَعْلَمُون عظمةَ من عصَوْه ويَعلَمونَ قُرْبَ مغفرَتِه بل يبادِرون إلى الإِقلاع عنه والتوبةِ منه. فالإِصرارُ على الذنوب مع هذا العلمِ يجعلُ الصغائرَ كبائرَ ويتدرَّجُ بالفاعلِ إلى أمورٍ خطيرةٍ صعبةٍ. وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ مُّعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فَعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ حَفِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لاَِمَنَتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَتِهِمْ يُحَفِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَرِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ } [المؤمنون: 1 11] فهذه الآياتُ الكريمةُ جمَعَتْ عِدَّةَ أوصافٍ مِن أوصافِ أهلِ الجنةِ:
الوصفُ الأولُ: (الْمُؤْمِنُونَ ) الذين آمَنُوا بالله وبكلِّ ما يجبُ الإِيمانُ به مِن ملائكةِ الله وكتبِه ورسلِهِ واليومِ الآخرِ والقدرِ خيرهِ وشرِّه، آمَنُوا بِذَلِكَ إيماناً يستلزمُ القبولَ والإِذعانَ والانقيادَ بالقولِ والعمل.
الوصفُ الثاني: (الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ ) حاضرةٌ قلوبُهم ساكنةٌ جوارحُهم يستحضرون أنهم قائمونَ في صلاتهِم بينَ يدي الله عزَّ وجلَّ يخاطِبونَّهُ بكلامه، ويتقربُون إليهِ بذكرهِ، ويَلجؤُون إليه بدعائِه، فهم خاشعُون بظواهِرِهم وبواطِنِهم.(4/93)
الوصفُ الثالثُ: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ ) واللَّغْوُ كلُّ ما لا فائدة فيهِ ولا خيرَ من قولٍ أو فعلٍ، فهم معرضونَ عنه لقوةِ عزيمتِهم وشِدَّةِ حْزمِهم لا يُمضُونَ أوقاتَهم الثمينةَ إلاَّ فيما فيه فائدةٌ، فَكَمَا حفظُوا صلاتَهم بالخشوعِ حفظُوا أوقاتَهم عن الضياع وإذا كانَ مِنْ وصفِهم الإِعراض عن اللَّغوِ وهو ما لا فائدةَ فيه فإعراضُهَم عما فيه مضرةٌ من باب أوْلى.
الوصفُ الرابعُ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فَعِلُونَ ) يحتملُ أنَّ المرادَ بالزكاةِ القسطُ الواجبُ دفعُه من المالِ الواجبِ زكاتُه، ويحتملُ أنَّ المرادَ بها كلُّ ما تَزْكُوْ به نفوسُهم من قولٍ أو عمل.
الوصفُ الخامسُ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) فهم حَافِظُون لفُروجِهم عَنِ الزِّنَا واللواطِ لما فيهما من معصيةِ الله والانحطاطِ الخُلُقِيِّ والاجتماعيِّ. ولعلَّ حفظَ الفرجِ يَشْمَلُ ما هو أعَمُّ من ذلك فيشمَلُ حِفْظَهُ عن النظر واللمس أيضاً وفي قوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } إشارةٌ إلى أنَّ الأصْلَ لومُ الإِنسانِ على هذا الفعلِ إلاَّ على الزوجةِ والمملوكة لما في ذلك مِن الحاجة إليه لدفعِ مُقْتَضَى الطَبيعةِ وتحصيل النسل وغيرهِ من المصالحِ وفي عموم قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } دليلٌ على تحريم الاستمناءِ الذي يُسَمَّى (العادة السريةَ) لأنه عملِيَّةٌ في غيرِ الزوجاتِ والمملوكاتِ.(4/94)
الوصفُ السادسُ: (وَالَّذِينَ هُمْ لاَِمَنَتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَعُونَ ) الأمانةُ ما يُؤتَمَنُ عليه مِنْ قولٍ أو فعلٍ أو عينٍ. فمن حدَّثَكَ بِسِرٍّ فقد ائتمنَكَ، ومنْ فعَل عندَك مَا لاَ يُحِبُّ الاطلاع عليه فقد ائتمنك ومن سلَّمكَ شيئاً من مالِه لِحِفْظِه فقد ائتمنك، والْعَهْدُ ما يلتزمُ به الإِنسانُ لغيرهِ كالنذرِ لله والعهودِ الجاريةِ بينَ الناس. فأهلُ الجنةِ قائمون برعايةِ الأماناتِ والعهدِ فيما بينَهم وبينَ الله وفيما بينهم وبينَ الخلق، ويدخلُ في ذلك الوفاءُ بالعقودِ والشروطِ المباحةِ فيها.
الوصفُ السابعُ: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَتِهِمْ يُحَفِظُونَ ) يُلازِمونَ على حفظِها من الاضاعةِ والتفريطِ، وذلك بأدَائِها في وقتِها على الوجهِ الأكملِ بشروطِها وأركانها وواجباتِها. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أوصافاً كثيرةً في القرآن لأهلِ الجنةِ سوى ما نقلناه هنا، ذَكَر ذَلِكَ سبحانَهُ ليتَّصفَ به مَنْ أرادَ الوصولَ إليهَا. وفي الأحاديثِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ذلك شيءٌ كثيرٌ.(4/95)
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ سَلَكَ طريقاً يلتمس فيه عِلْمَاً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة»، رواه مسلم. وله عنه أيضاً أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «ألا أدلُّكم على ما يمحُو الله به الخطايَا ويرفعُ به الدرجاتِ؟ قالوا: بَلَى يا رسول الله. قال: إسباغُ الوضوءِ على المَكَارهِ وكثرةُ الْخُطَا إلى المساجدِ، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاةِ». وله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ما مِنْكم مِنْ أحدٍ يتوضَّأُ فيُسْبغُ الوضوءَ ثم يقولُ أشهد أنْ لا إِله إلا الله وحده لا شريكَ له وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه إلا فُتِحتْ له أبوابُ الجنةِ الثمانيةُ يدخلُ من أيِّها شاءَ». وعن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً «فيمَنْ تَابعَ المؤذنَ من قلْبه دَخَلَ الجنةَ»، رواه مسلم.
وعن عثمانَ بن عفَّانَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ بَنى مسجداً يبْتغِي به وجهَ الله بَنَى الله لَهُ بيتاً في الجنةِ»، متفق عليه. وعن عُبَادة بن الصامتِ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ اللهُ على العبادِ فمن جاءَ بهِنَّ ولم يُضَيِّعْ منهن شيئاً استخفافاً بحقِّهن كان له عندَ الله عهداً أنْ يدخلَه الجنةَ»، رواه الإِمامُ أحمدَ وأبو داودَ والنسائي.(4/96)
وعن ثَوْبَانَ رضي الله عنه أنَّه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عن عَمَلٍ يدخلُه الله به الجنةَ فقالَ: «عليكَ بكثْرَة السجودِ فإنكَ لا تسجد لله سجدةً إلاَّ رَفَعَكَ الله بها درجةً وحطَّ عنك بها خطِيئةً»، رواه مسلم. وعن أمِّ حبيبةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ما مِنْ عبدٍ مسلمٍ يصلَّي لله تعالى في كلِّ يومٍ اثنتي عَشْرَة ركعةً تطوُّعاً غيرَ فريضةٍ إلاَّ بَنَى الله له بيتاً في الجنةِ»، رواه مسلم. وهنَّ أربعٌ قبلَ الظهر، وركعتانِ بعدَها، وركعتانِ بعدَ المغربِ، وركعتانِ بعدَ العشاءِ، وركعتانِ قبلَ صلاة الصبح.
وعن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه أنه قالَ لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: أخْبِرنِي بعملٍ يدخلُني الجنةَ ويباعدُني عن النارِ. قال: «لقد سَألْتَ عن عظيمٍ وإنه لَيَسيرٌ على منْ يسَّرَهُ الله عليه، تعبدُ الله ولا تشركُ به شيئاً، وتقيمُ الصلاةَ، وتؤتِي الزكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيت»، (الحديث) رواه أحمدُ والترمذيُّ وصححه. وعن سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ في الجنةِ باباً يقالُ له الريَّانُ يدخلُ منه الصائِمون يومَ القيامةِ لا يدخل منه أحدٌ غيرُهُمْ» (الحديث) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «العمرةُ إلى العمرةِ كفارةٌ لما بينهما، والحجُ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة»، متفق عليه. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ كان له ثلاثُ بناتٍ يُؤْوِيهنَّ ويرحمهنَّ ويَكفَلُهُنَّ وَجَبَتْ له الجنةُ الْبَتَّةَ. قيل: يا رسولَ الله فإن كانتا اثنتين قال: وإن كانتا اثنتين. قال: فَرَأى بعض القومِ أن لو قالَ: واحدةً لقالَ واحدة»، رواه أحمد.(4/97)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم سُئِلَ عن أكثر ما يُدْخِلُ الجنةَ، فقال: «تَقْوى اللهِ وحسنُ الْخُلق»، رواه الترمذيُّ وابنُ حِبَّانَ في صحيحه. وعن عياض بن حمارٍ المجاشعيِّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أهلُ الجنةِ ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مُقْسطٌ متصدِّقٌ موفقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلبِ لكل ذِي قُرْبَى، ومُسْلِمٌ وعَفِيفٌ متَعفِّفٌ ذو عيالٍ»، رواه مسلم في حديث طويل.
فهذه أيُّها الإِخوان طائفةٌ من أحاديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم تُبَيِّنُ شيئاً كثيراً من أعْمالِ أهْلِ الجنةِ لمنْ أرادَ الوصولَ إليها.
أسْأل الله أن يُيَسِّرَ لنَا وَلَكُمْ سُلوكَها ويُثَبتَنَا عليها إنهُ جوادٌ كريمٌ وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.
مجالس شهر رمضان
المجلس الخامس والعشرون - في وصف النار
محمد بن صالح العثيمين
ـ أعاذنا الله منها ـ
الحمدُ لله الحيِّ القيومِ، الباقِي وغيْرُه لا يدوم، رَفَعَ السماءَ وزيَّنَها بالنجوم، وأمْسَك الأرض بجبالٍ في التُّخوم، صوَّر بقدرتِه هذه الجُسوم، ثمَّ أماتها ومحا الرُّسوم، ثم ينفخُ في الصُّورِ فإذا الميْتُ يقُوم، ففريقٌ إلى دار النعيمِ وفريقٌ إلى نارِ السَّمومِ، تفْتَحُ أبوابُها في وجوهِهِم لكلِّ بابٍ منهم جزْءٌ مقسوم، وتُوْصَدُ عليهم في عَمَدٍ ممَدَّدَةٍ فيها للهمُوم والغُموم، يوم يغْشاهُمُ العذاب مِنْ فوقِهم ومن تحتِ أرجُلِهمْ فما منهم مرْحُوم، وأشهدُ أن لا إِله إِلاَّ الله وحده لا شريكَ له شهادةَ مَنْ للَنجاةِ يَرُوم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، الَّذِي فَتحَ الله بدينِه الْفُرْسَ والرُّوم، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه ومن تبعهم بإحسانٍ ما هطَلَتْ الغُيوم، وسلَّم تسليماً.(4/98)
إخواني: لقد حذَّرنا اللهُ تعالى في كتابه من النارِ وأخبرَنا عن أنواعِ عذابِها بما تَتَفَطَّرُ منه الأكبادُ وتتفجرُ منه القلوب، حَذَّرنَا منها وأخْبَرَنا عن أنواع عذابِها رحمةً بنا لنزدَادَ حَذراً وخوْفاً، فاسمَعوا ما جاء في كتاب الله تعالى وسنةِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلّم من أنْواع عذابِها لعلكم تذَكَّرُون. وأنيبُوا إلى ربكم وأسلمُوا له من قبل أنْ يأتِيَكم العذابُ [25] في وصف النار ـ أعاذنا الله منها ـثم لا تُنصرون. قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَفِرِينَ } [آل عمران: 131]، {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ سَلَسِلَ وَأَغْلَلاً وَسَعِيراً } [الإِنسان: 4]، وقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا } [الكهف: 29]، وقال تعالى مُخاطباً إبليسَ: {إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [الحجر: 42 44]، وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَفِرِينَ حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَفِرِينَ } [الزمر: 71]،(4/99)
وقال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } [الملك: 6 8]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت: 55]، وقال تعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يعِبَادِ فَاتَّقُونِ } [الزمر: 16]، وقال تعالى: {وَأَصْحَبُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَبُ الشِّمَالِ * فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } [الواقعة: 41 44]، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } [التوبة: 81]، وقال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } [القارعة: 10، 11]،وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَلٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } [القمر: 47، 48]، وقال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } [المدثر: 27 29]، وقال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]، وقال تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَلَةٌ صُفْرٌ } [المرسلات: 32، 33]، وقال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الاَْصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم(4/100)
مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ } [إبراهيم: 49، 50]، وقال تعالى: {إِذِ الاَْغْلَلُ فِى أَعْنَقِهِمْ والسَّلَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ } [غافر: 71 72]، وقال تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } [الحج: 19 22]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَِايَتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } [النساء: 15]، وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الاَْثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ * كَغَلْىِ الْحَمِيمِ } [الدخان: 43 46]، وقال في تلكَ الشجرةِ: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَطِينِ } [الصافات: 64، 65]، وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لاََكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالُِونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَرِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَرِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } [الواقعة: 51 56]، وقال تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا } [الكهف: 29]، وقال تعالى: {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [محمد: 15]،(4/101)
وقال تعالى: {وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } [إبراهيم: 16، 17]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَلِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظَّلِمِينَ * وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ } [الزخرف: 74 77]، وقال تعالى: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإِسراء: 97]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } [النساء: 168، 169]، وقال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكٍّ مُّرِيبِ } [الأحزاب: 64، 65]، وقال تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [الجن: 23]، وقال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاَْفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } [الهمزة: 5 9].(4/102)
والآياتُ في وصفِ النارِ وأنواعِ عذابِها الأليمِ الدائمِ كثيرةٌ.
أما الأحاديثُ فعنْ عبدِالله بن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «يُؤتى بالنارِ يومَ القيامةِ لها سبعون ألفَ زمامٍ مع كلِّ زمامٍ سبعون ألفَ ملَكٍ يجرُّونَها»، رواه مسلم. وفي الصحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «نَارُكم هذِه ما يُوقدُ بنُو آدمَ جُزْءٌ واحدٌ من سبعين جزءاً من نار جهنَّم، قالوا: يا رسولَ الله إنَّها لَكَافيةٌ قال: إنها فُضِّلَتْ عليهَا بِتِسْعَةٍ وستينَ جزءاً كلُّهن مثلُ حرِّها». وعنه رضي الله عنه قال: كنَّا عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فسَمِعنَا وَجبَةً، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أَتَدْرُونَ ما هَذَا؟ قلْنَا: الله ورسولُه أعلمُ. قال: هذا حجرٌ أرْسَلَه الله في جهنَّمَ مُنْذُ سبعينَ خَريفاً (يَعْنِي سبعينَ سنةً) فالان حينَ انتَهَى إلى قعْرها»، رواه مسلم.
وقال عُتْبَة بنُ غَزوانَ رضي الله عنه وهو يَخْطب: «لَقَدْ ذُكِرَ لنَا أنَّ الحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفِير جَهَنَّمَ فيهوي فيها سبعين عاماً ما يدركُ لها قَعْراً والله لتُمْلأنّ أفعَجِبْتُم؟»، رواه مسلم. وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لَوْ أنَّ قطْرةً من الزَّقُّومِ قَطَرَتْ في دار الدُّنْيَا لأفْسَدَتْ على أهلِ الدنيا مَعَايِشَهُمْ»، رواه النسائيُّ والترمذيُّ وابنُ ماجة. وعن النعمانِ بن بَشِيرٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ أهْوَنَ أهل النارِ عذاباً مَنْ لَهُ نَعْلانِ وشِرَاكانِ من نارٍ يَغلي منهما دماغُه كما يغلي المِرْجَل ما يَرَى أنَّ أحداً أشدُّ منهُ عَذَاباً وإنَّهُ لأهْونُهمْ عذاباً»، رواه مسلم وللبخاريِّ نحوه.(4/103)
وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «يُؤتَى بأنْعَم أهل الدنيا مِنْ أهل النار فيُصْبَغُ في النارِ صَبْغَةً ثم يُقَال: يا ابنَ آدمَ هل رأيتَ خيراً قطُّ هل مَرَّ بكَ نعيمٌ قط؟ فيقولُ لا والله يا ربِّ، ويؤْتَى بأشَدِّ الناسِ بؤساً في الدنيا مِنْ أهل الجنة فيصبغُ صبغةً في الجنة فيقال: يا ابن آدمَ هل رأيتَ بؤساً قط؟ هل مَرَّ بك من شدة قط؟ فيقولُ: لا والله يا ربِّ ما رأيتُ بؤساً ولا مرّ بِي مِنْ شدةٍ قَطُّ»، رواه مسلم. يعني أنَّ أهل النارِ ينسُون كلَّ نعيمٍ مَرَّ بِهِم في الدُّنيا، وأهْلَ الجنة ينسون كلَّ بؤْسٍ مرّ بهم في الدنيا.
وعنه رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «يُقَالُ للرجلِ من أهل النارِ يومَ القيامةِ: أرأيْتَ لو كانَ لكَ ما على الأرض من شيء أكنتَ تفتدي به؟ فيقول: نعم، قال: فيقول: قد أردتُ منكَ ما هُو أهْونُ من ذلكَ، قد أخذتُ عَلَيْك في ظهرِ آدم أن لا تُشْرِكَ بي شيئاً فأبيتَ إلاَّ أنْ تشركَ بي»، رواه أحمدُ ورواه البخاريُّ ومسلمٌ بنحوه. وروى ابنُ مَرْدَوَيْهِ عن يَعْلِي بنِ مُنْيَة وهو ابنُ أمَيَّةَ، ومنية أمُّهُ قال: «يُنْشِيءُ الله لأهل النار سحابةً فإذا أشْرَفَتْ عليهم نادَاهُمْ: يا أهل النَّارِ أيُّ شيءٍ تطلبون وما الَّذِي تسْألون فيذكرونَ بها سحائبَ الدنيا والماءَ الَّذي كان ينزلُ عليهم، فيقولون: نَسْأَلُ يا ربِّ الشرابَ فيُمطرُهم أغلالاً، تزيد في أغلالهم وسلاسل تزيدُ في سلاسِلِهم وجمراً يُلْهبُ النارَ عليهم».
وعن أبي موسى رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثةٌ لا يَدْخُلون الجنّةَ: مُدْمِنُ خمرٍ، وقاطعُ رحم، ومُصدِّقُ بالسحرِ. ومَنْ مات مدمنَ الخمرِ سقاه الله من نَهْرِ الغوْطَةِ. قيل: وما نهرُ الغوطةِ؟ قال: نهرٌ يجري من فروج المُومِسَاتِ يؤذي أهلَ النار ريحُ فروجهن»، رواه أحمد.(4/104)
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إن على الله عهداً لمنْ شرب المسكرات لَيَسقيِه من طِينةِ الخبَالِ. قالوا: يا رسولَ الله وما طينةُ الخبَالِ؟ قال: عَرقُ أهل النار أو عُصَارةُ أهلِ النارِ». وفي الصحيحين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «يُقَال لليهودِ والنصارى ماذا تَبْغُون؟ فيقولونَ: عطِشْنَا ربَّنَا فأسقنا فيُشارُ إليهم: ألا تَرِدُوْنَ؟ فيُحْشَرونَ إلى جهنَم كأنها سرابٌ يحطِمٌ بعضُها بعضاً، فيتَساقطونَ في النار». قال الْحَسَنُ: ما ظَنُّك بقومٍ قاموا على أقدامهم خمسينَ ألْفَ سنةٍ لم يأكلوا فيها أكلةً ولم يشربوا فيها شربةً حتى انقطعت أعناقُهم عطشاً واحتَرقَتْ أجوافُهم جوعاً، ثم انْصُرفَ بهم إلى النارِ فيُسْقَون من عينٍ آنِيَةٍ قد آنَ حَرُّها واشتد نُضْجُها.
وقال ابن الجوزيِّ رحمه الله في وصفِ النار: دارٌ قَدْ خُصَّ أهلُها بالبِعادِ، وحرمُوا لذةَ المُنَى والإِسْعاد، بُدِّلَتْ وضاءةُ وجوهِهِم بالسَّواد، وضُرِبُوا بمقَامِعَ أقْوى من الأطواد، عليها ملائكةٌ غِلاظٌ شداد، لو رأيتَهم في الحميمِ سرحون، وعلى الزمهرير يُطْرَحون، فحزنُهم دائمٌ فما يفْرَحون، مُقَامهُم محتومٌ فما يبْرَحون، أبَدَ الآباد، عليها ملائِكةٌ غلاظ شداد، يبكُون على تضييع أوقات الشباب، وكلَّما جَادَ البكاءُ زاد، عليها ملائكة غلاظٌ شِداد، يا حسرتهم لِغَضَبِ الخالق، يا محنَتهُمْ لِعظَمِ البَوَائِق، يا فضيحتَهم بين الخلائق، على رؤوس الأشْهاد، أينَ كسْبُهُم للْحُطام، أينَ سعيُهم في الاثام، كأنَّه كان أضغَاثَ أحْلام، ثم أُحْرِقَتْ تلك الأجسام، وكلما أحْرِقَتْ تُعَاد، عليها ملائكةٌ غلاظٌ شِداد.(4/105)
اللَّهُمَّ نَجِّنا من النار، وأعِذْنَا من دارِ الخزْيِ والْبَوَار، وأسكنَّا برحمتِك دارَ المتقينَ الأبرار، واغفرْ لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحمَ الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمداً وعلى آله وصحبه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس السادس والعشرون - في أسباب دخول النار
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله القويِّ المتين، الظاهر القاهر المُبين، لا يعزب عن سمْعِه أقَلُّ الأنين، ولا يخْفَى على بصرِه حركَاتُ الجَنِين، ذَلَّ لكبريائِه جبابرة السلاطين، وبطلَ أمَام قدرتِه كَيدُ الكائِدين، قضى قضاءه كما شاء على الخاطِئين، وسبقَ اختيارهُ من اختاره من العالمِين، فهؤلاء أهلُ الشِّمَالِ وهؤلاءِ أهلُ اليمين، جرَى الْقَدَرُ بذلك قبلَ عمَلِ العامِلين، ولولا هذَا التقسيمُ لبطلَ جهادُ المجاهِدين، وما عُرِف أهلُ الإِيمانِ مِن الكافِرين، ولا أهلُ الشكِّ من أهل اليقين، ولولا هذا التقسيمُ ما امتلأتِ النارُ من المُجْرمين. {وَلَوْ شِئْنَا لاََتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أَجْمَعِينَ } [السجدة: 13]. تلكَ يا أخِي حكمةُ الله وهو أحْكمُ الحاكِمين، أحمدُه سبحانَه حمدَ الشاكِرين، وأسأله معونَة الصابِرِين، واسْتَجِيرُ بِهِ من العذابِ المُهين، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطفى الأمين، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبه أبي بكرٍ أول تابعٍ من الرجال على الدِّين، وعلى عمرَ القويِّ في أمر الله فلا يَلِين، وعلى عثمانَ زوجِ ابنتِي الرسولِ ونعمَ القرِين، وعلى عليٍّ بَحْر العلومِ الأنزع البطين، وعلى جميع آل بيت الرسول الطاهرين، وعلى(4/106)
سائِر أصَحابِه الطَّيِّبين، [26] في أسباب دخول الناروعلى أتباعِه في ديِنه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً.
إخواني: اعلمُوا أنَ لدخولِ النار أسباباً بيَّنها اللهُ في كِتابِه وعلى لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلّم ليَحْذَرَ الناسُ منها ويَجتنبُوها. وهذِه الأسبابُ على نوعين:
النوعُ الأولُ: أسبابٌ مُكَفِّرةٌ تُخرِج فاعلَها من الإِيمانِ إلى الكفرِ وتوجبُ له الخلودِ في النار.
النوعُ الثاني: أسبابٌ مُفَسِّقَةٌ تُخْرجُ فاعلَها مِنَ العدالةِ إلى الْفِسق ويَسْتَحِقُ بها دخولَ النارِ دونَ الخلودِ فيها.
فأمَّا النوعُ الأولُ فنَذْكُرُ منه أسباباً:
السبب الأولُ: الشركُ بالله: بأنْ يجعلَ لله شريكاً في الرُّبوبيةِ أو الألُوهيةِ أو الصِّفَاتِ. فمَن اعتقد أنَّ مع الله خالقاً مشاركاً أو منفرداً، أو اعتقد أن مع الله إلهاً يستحق أنَ يُعْبَد، أو عَبَد مع الله غيره فصرف شيئاً من أنواع العبادة إليه، أو اعتقد أنَّ لأحدٍ من العلمِ والقدرةِ والعظمةِ ونحوها مثل ما لله عزَّ وجلَّ فقد أشركَ بالله شرْكاً أكْبَرَ واستحقَّ الخلودَ في النار، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [المائدة: 72].(4/107)
السبب الثاني: الكفرُ بالله عزَّ وجلَّ أوْ بملائكتِه أوكتبِه أو رسلِه أو اليومِ الآخرِ أو قضاءِ الله وقدرِه، فمَنْ أنكر شيئاً من ذلك تكذيباً أو جَحْداً أو شكَّ فيه فهو كافرٌ مخلَّدٌ في النار. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [النساء: 150، 151]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ يَقُولُونَ يلَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ * وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } [الأحزاب: 64 68].(4/108)
السبب الثالثُ: إنكارُ فرض شيء من أركانِ الإِسلامِ الخمسةِ، فَمَنْ أنكرَ فَرِيضَةَ توحيدِ الله أو الشهادةِ لرسولِه بالرسالِة أو عمومِها لجميع الناسِ أو فريضةَ الصلواتِ الخمسِ أو الزكاةِ أو صوم رمضانَ أو الحجِ فهو كافرٌ لأنه مُكذِّبٌ لله ورسولِه وإجماع المسلمين، وكذلك مَنْ أنكر تحريمَ الشركِ أو قتلِ النفسِ التي حَرَّم الله أو تحريمِ الزِّنا أو اللواطِ أو الخمرِ أو نحوها مما تَحْريمُه ظاهرٌ صريحٌ في كتاب الله أو سنة رسولِه صلى الله عليه وسلّم لأنه مُكَذِّبَ لله ورسولِه، لكن إن كان قريبَ عهدٍ بإسلامٍ فأنكر ذلك جهلاً لم يَكفُر حتى يُعَلَّم فينكرَ بعد عِلْمِهِ.
السبب الرابعُ: الاستهزاءُ بالله سبحانه أو بدينهِ أو رسولِه صلى الله عليه وسلّم، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ وَءَايَتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَنِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [التوبة: 64، 65] والاستهزاء هو السُّخْريَّةُ وهو من أعظم الاستهانةِ بالله ودينه ورسولِه وأعظمِ الاحتقارِ والازدراءِ تعالَى اللهُ عَنْ ذلك عُلوَّاً كبيراً.
السبب الخامسُ: سبُّ الله تعالى أو دينِه أو رسولِه وهو القَدْحُ والْعَيْبُ وذِكْرُهُمْ بما يقتضي الاستخفافَ والانتقاصَ كاللَّعنِ والتَقْبِيحِ ونحوِ ذلك.(4/109)
قال شيخُ الإِسلام ابن تيميةَ رحمه الله: مَنْ سَبَّ الله أو رسوله فهو كافرٌ ظاهراً وباطناً سواءُ كان يعتقد أنَّ ذلك محرمٌ أو كان مُسْتَحِلاًّ له أو كان ذاهلاً عن اعتقاد. وقال أصحابنا: يكفر سواء كان مازحاً أوجاداً. وهذا هو الصواب المقطوع به، ونقل عن إسحق بن راهويه: أن المسلمين أجمعوا على أن من سبّ الله أو سبَّ رسولَه أو دفع شيئاً مما أنزَل الله فهو كافرٌ وإن كان مقرَّاً بما أنزل الله، وقال الشيخ أيضاً: والْحُكْمُ في سَبِّ سائِر الأنْبياءِ كالحكم في سبِّ نبيِّنا صلى الله عليه وسلّم، فمَنْ سبَّ نبيَّاً مُسَمَّى باسمه من الأنبياء المعروفينَ المذكورينَ في القرآنِ أو مَوْصُوفاً بالنُّبوةِ بأن يُذْكرَ في الحديثِ أن نبيَّاً فَعلَ أو قَالَ كذا فَيَسُبَّ ذلك الفاعلَ أو القائل مع عِلمِهِ أنه نبيٌّ فحكمه كما تقدم. اهـ.
وأما سبُّ غير الأنبياء فإن كان الغرض منه سبَّ النبي مثلُ أن يَسبَّ أصحابَه يقصد به سبَّ النبيِّ لأنَّ المقارِنَ يقتدي بمَنْ قارنَه، ومثلُ أن يقذِفَ واحدةً من زوجاتِ النبي صلى الله عليه وسلّم بالزِّنا ونحوه فإنَّه يكفرُ لأن ذلك قَدْحٌ في النبيِّ وسبٌّ له، قالالله تعالى: {الْخَبِيثَتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَتِ وَالطَّيِّبَتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [النور: 26].(4/110)
السبب السادسُ: الْحُكْمُ بغير ما أنزلَ الله مُعْتَقِداً أنَّه أقربُ إلى الْحَقِّ وأصلحُ للخلْق، أو أنه مساوٍ لحكم الله أو أنه يجوز الحكم به، فهو كافرٌ لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ } [المائدة: 44] وكذا لو اعتقَدَ أنَّ حكمَ غيرِ الله خيرٌ من حكم الله أو مساوٍ له أو أنه يجوزُ الحكمُ به فهو كافرٌ وإن لم يَحْكَمْ به لأنه مكذِّبٌ لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة: 50]، ولما يقتضيه قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ }.(4/111)
السبب السابعُ: النفاقُ وهو أنْ يكونَ كافراً بقلبِه ويظهرَ للناسِ أنه مسلمٌ إما بقولِه أو بفعلِه، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَفِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاَْسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } [النساء: 145]. وهذا الصنفُ أعظم مما قَبْلَه، ولذلك كانَتْ عقوبةُ أصحابه أشَدَّ، فهمْ في الدركِ الأسفل من النار، وذلك لأن كُفْرَهم جامعٌ بين الكفر والخِداع والاستهزاءِ بالله وآياتِهِ ورسولِه. قال الله تعالى عَنْهُمْ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ(4/112)
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ } [البقرة: 8 15].
وللنفاق علاماتٌ كثيرةٌ منها: الشَّكُّ فيما أنزلَ الله وإن كان يُظْهِرُ للناس أنه مؤمنٌ. قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } [التوبة: 45] ومنها كراهةُ حُكْم الله ورسوله، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَلاً بَعِيداً يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَلاً بَعِيداً إِلَى الطَّغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } [النساء: 60، 61]، ومنها كراهةُ ظهورِ الإِسلامِ وانتصار أهلِه والفرحُ بخُذْلانِهم، قال تعالى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ(4/113)
فَرِحُونَ } [التوبة: 50]، وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاَْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [آل عمران: 119، 120].
ومنها طلبُ الفتنةِ بينَ المسلمينَ والتفريق بينهَم ومحبَّة ذلك. قال تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاََوْضَعُواْ خِلَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمِينَ } [التوبة: 47].
ومنها محبةُ أعْداءِ الإِسلامِ وأئِمَّةِ الكفرِ ومدحُهم ونشرُ آرائِهم المخالفة للإِسلام. قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [المجادلة: 14].(4/114)
ومنها لمز المؤْمِنِينَ وعيبُهم في عباداتِه. قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة: 79] فيعيبونَ المجتهدينَ في العبادةِ بالرِّياءِ ويعيبون العاجِزينَ بالتَّقْصِير.
ومنها الاستكبارُ عن دُعاءِ المؤمنينَ احتقاراً وشكّاً. قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } [المنافقون: 5].
ومنها ثِقَلُ الصلاةِ والتكاسلُ عنها. قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَفِقِينَ يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً الْمُنَفِقِينَ يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء: 142]. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أثقلُ الصلاةِ على المنافقينَ صلاةُ العشاءِ وصلاة الفجرِ»، (الحديث) متفق عليه.(4/115)
ومنها أذِيَّةُ الله ورسولِهِ. قال الله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة: 61]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [الأحزاب: 57، 58].
فهذه طائفةٌ من علاماتِ المنافقينَ ذكرناها للتحذيرِ منها وتطهيرِ النفسِ من سلوكِها.
اللَّهُمَّ أعذْنَا من النفاق وارزقنا تحقيقَ الإِيمَان على الوجهِ الَّذِي يرضيكَ عنَا واغَفر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمينَ يا ربَّ العالمين وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وآلِهِ وصحبِه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس السابع والعشرون - في النوع الثاني من أسباب دخول النار
محمد بن صالح العثيمين(4/116)
الحمدُ لله الَّذِي أنْشَأَ الخلائِقَ بقدرتِه، وأظهر فيهِم عجائبَ حكمتِهِ، ودَلَّ بإياتِه على ثبوتِ وحدانيَّته، قضى على العاصِي بالعقوبةِ لِمُخَالفته، ثم دَعَا إلى التوبةِ ومَنَّ عليه بقبول توبتِه، فأجيبوا داعيَ الله وسابقوا إلى جنتِه، يغفرْ لكم ذنوبَكم ويؤتِكم كفْلينِ من رحمتِه، أحمدُه على جلالِ نعوتِه وكمال صِفَتِهِ، وأشكرُه على توفيقِه وسوابغ نعمتِهِ، وأشهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ لَهُ في ألوهيته وربوبيتِه، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه المبعوثُ إلى جميع بَريَّته، بشيراً للمؤمنين بجنتِه، ونذيراً للكافرين بنارِه وسطْوتِه، صلَّى الله عليه وعلى أبي بكرٍ خليفتِه في أمتِه، وعلى عمرَ المشهورِ بقَّوتِه على الكافرينَ وشدَّتِه، وعلى عثمانَ القاضي نحَبه في محنتِه، وعلى عليٍّ ابن عمه وزوج ابنته، وعلى سائر آله وأصحابه ومن تبعه في سنته، وسلَّم تسليماً.
إخواني: سبقَ في الدرسِ الماضِي ذِكرُ عدَّةِ أسبابٍ من النوع الأوَّل من أسباب دولِ النار المُوجِبَةِ للخلودِ فيها، وها نحنُ في هذا الدرس نذكرُ بمعونَةِ الله عدةَ أسباب من النوع الثاني، وهي الأسبابُ التي يستَحِقُّ فَاعلُها دخول النار دونَ الخلودِ فيها.(4/117)
السببُ الأوَّلُ: عُقُوقُ الوالِدَين وهما الأُمُّ والأبُ، وعقوقُهما أنْ [27] في النوع الثاني من أسباب دخول الناريقطعَ ما يجبُ لهما من بِرٍّ وصلةٍ أو يُسيءَ إليهما بالقولِ أو الفعلِ. قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّهُ وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا } [الإِسراء: 23، 24]. وقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَلِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ } [لقمان: 14]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «ثلاثةٌ قد حرَّمَ اللهُ عليهم الجنَّةَ مدمِنُ الخمرِ والعاقُّ لوالديهِ والدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ الخُبثَ في أهلِهِ»، رواه أحمدُ والنسائي.(4/118)
السببُ الثاني: قطيعةُ الرَّحِمِ وهي أنْ يُقَاطِع الرجلُ قرابته فيمنَعَ ما يجبُ لهم من حقوقٍ بدنيةٍ أو ماليةٍ. ففي الصحيحين عن جُبَير بن مُطعِمٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخلُ الجنَّة قاطِعٌ». قال سفيانُ: يعني قاطعُ رَحِمٍ. وفيهما أيضاً عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ الرَّحِمَ قامتْ فقالت لله عزَّ وجلَّ: هذا مقامُ العائِذ بكَ من القطيعةِ قال: نَعَمْ أما ترضَينَ أن أصِلَ مَن وَصَلَكِ، وأقطعَ مَنْ قطعكِ؟ قالت: بَلَى، قال: فذلِكَ لكِ، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم اقرؤوا إن شئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاَْرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ * أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَرَهُمْ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَرَهُمْ } [محمد: 22، 23].
ومن المُؤْسِفِ أنَّ كثيراً من المسلمين اليومَ غفَلُوا عن القيامِ بحقِّ الوالدينِ والأرحامِ وقطَعوا حبْلَ الْوَصْل، وحُجَّةُ بعضِهِم أنَّ أقاربَه لاَ يصِلُونَه. وهذه الحجةُ لا تنفعُ لأنه لو كانَ لا يصلُ إِلاَّ مَنْ وصلَه لم تكنْ صلتُه لله وإنما هي مُكافَأةٌ كما في صحيح البخاريِّ عن عبدالله ابن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ليسَ الوَاصِلُ بالمُكَافأ ولكنَّ الواصل الَّذِي إذا قُطِعتْ رَحِمُه وَصَلَها». وعن أبي هريرةَ رضي الله عَنْهُ أنَّ رجلاً قال يا رسول الله إنّ لي قرابةً أَصِلُهم ويَقطُعونني وأحسِنُ إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويَجْهَلون عليَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن كنتَ كما قُلتَ فكأنما تُسِفُّهُم الملَّ ولا يزالُ مَعَكَ من الله ظهيرٌ عليهم ما دمتَ على ذلك»، رواه مسلم.(4/119)
وإذا وصَلَ رَحِمَه وهم يقطعونَه فإنَّ له العاقبةَ الحميدةَ وسَيَعُودون فيصلُونَه كما وصَلَهم إن أراد الله بهم خيراً.
السبب الثالثُ: أكْلُ الرِّبا. قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَفاً مُّضَعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَفِرِينَ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَفِرِينَ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [آل عمران: 130 132]، وقد تَوَعَّدَ الله تعالى مَن عَادَ إلى الرِّبا بعد أن بلغتْهُ موعظةُ الله وتحذيُره توعَّده بالخلودِ في النار، فقال سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَنُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَواْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَنُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَواْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَواْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ } [البقرة: 275].(4/120)
السبب الرابع: أكل مُال اليتامى ذكوراً كانوا أم إناثاً، والتلاعب به. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَمَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء: 10]. واليتيم هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ.
السبب الخامسُ: شهادةُ الزُّور فقدْ روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لَنْ تزولَ قدمُ شاهد الزورِ حَتَّى يُوجب الله له النار»، رواه ابن ماجه والحاكم وقال: صحيح الإِسناد. وشهادةُ الزور أنْ يشهدَ بما لا يَعْلَمُ أو يشهدَ بما يَعْلَمُ أن الواقعَ خلافُه لأن الشهادة لا تجوزُ إلاَّ بما عَلِمه الشاهدُ. وفي الحديث قال لرجلٍ: «تَرَى الشمس؟ قال: نَعَم، قال على مثلِها فاشْهَدْ أو دَعْ».
السببُ السادسُ: الرِّشوةُ في الحُكْمِ، فعن عبدِالله بن عمْرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الراشِي والمرتشِي في النّار»، رواه الطبراني ورُوَاتُهُ ثقات معروفونَ، قاله في الترغيبِ والترهيب قال في النهايةِ: الراشِي من يُعْطِي الذي يُعِيْنُه على الباطِل والمرتِشي الاخذ. فأَمَّا ما يُعطَى تَوَصُّلاً إلى أخذِ حقٍّ أو دفعِ ظلمٍ فغيرُ داخلٍ فيه. اهـ.
السببُ السابعُ: اليمينُ الغَموسُ فعن الحارثِ بن مالكٍ رضي الله عنه قال سمعتَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم في الحَجِّ بينَ الجمْرَتَين وهو يقولُ: «منَ اقتطعَ مالَ أخيِه بيمين فاجرةٍ فلْيَتَبَوَّأ مقعدَه من النارِ لِيُبَلِّغ شاهِدُكمْ غائَبكم (مرتَّين أو ثلاثاً)»، رواه أحمدُ والحاكمُ وصحَّحَه. وسُميتْ غَموساً لأنها تَغْمِس الحالفَ بهَا في الإِثمِ ثُم تغمسِهُ في النارِ. ولا فرقَ بينَ أنْ يحلِف كاذباً على ما ادَّعاهُ فيُحْكمَ له به أو يحلفَ كاذباً على ما أنكَرَه فيُحكَمَ ببراءته منه.(4/121)
السببُ الثامنُ: القضاءُ بين الناسِ بغير علمٍ أو بِجورٍ وميلٍ لحديثِ بريدةَ بنِ الحصيب رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «القضاةُ ثلاثةٌ واحدٌ في الجَنّة واثنان في النارِ، فأمَّا الَّذِي في الجنةِ فرجل عَرَفَ الحقَّ وقضَى به. ورجلٌ عرفَ الحقَّ فجارَ في الحكمِ فهو في النارِ. ورجلٌ قضَى للناسِ على جهلٍ فهوَ في النارِ»، رواه أبو داود والترمذيُّ وابنُ ماجة.
السبب التاسعُ: الغِشُّ للرعيَّةِ وعدمُ النصحِ لهم بحيثُ يَتَصَرّفُ تصرُّفاً ليس في مصلحتهم ولا مصلحةِ العملِ لحديث مَعْقلِ بن يسارٍ رضي الله عنُه قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقولُ: «مَا مِنْ عبدٍ يسترْعِيِه الله على رعيةٍ يموتُ يوم يموت وهو غاشٌّ لِرَعيَّته إلاَّ حرَّمَ الله عليه الجنَّةَ»، متفق عليه. وهذا يعمُّ رعايةَ الرجلِ في أهلِه والسلطانَ في سلطانِه وغيرهم لحديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلّم يقولُ: «كُلُّكُمْ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته، الإِمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّتِه، والرجلُ راعِ في أهلِه ومسؤولٌ عن رعيَّتِه، والمرأةُ راعية في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيَّتِهَا، والخادمُ راع في مال سيِّده ومسؤول عن رعيّتِه، وكُلُّكُم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيتِه»، متفق عليه.(4/122)
السبب العاشر: تصويرُ ما فيهِ رُوْحٌ من إنسانٍ أو حيوانٍ فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقول: «كلُّ مُصوِّرٍ في النارِ يَجْعَلُ له بكلِّ صورةٍ صوَّرَها نَفْساً فتْعَذِّبُه في جهنم»، رواه مسلمٌ. وفي روايةٍ للبخاري: «مَنْ صوَّر صورةً فإن الله مُعذِّبُه حتى ينفخ فيها الروحَ وليس بنافخٍ فيها أبداً». فأما تصوير الأشجار والنباتِ والثمراتِ ونحوها مما يخلقُه الله من الأجسام الناميِة فلا بأسَ بِه على قول جمهورِ العلماءِ. ومِنهمْ مَنْ مَنع ذلك لما في صحيح البخاريِّ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقول: قال الله عزَّ وجلَّ: «ومَنْ أظلمُ مَّمن ذهبَ يخلقُ كخلقِي فلْيَخْلُقوا ذرَّةً أوْ لِيخلقوا حبةً أو شَعِيرةً».
السبب الحادي عشر: ما ثبتَ في الصحيحين عن حارثةَ بنِ وهْبٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركُم بأهل النارِ؟ كلُّ عُتُل جَوَّاظٍ مستكبرٍ»، فالعتلُّ الشديدُ الغليظُ الذي لا يلين للحَقِّ ولا للخلقِ، والجَّواظُ الشحيحُ البخيل فهو جمَّاعُ منَّاعُ، والمستكبرُ هو الذي يردُّ الحقَّ ولاَ يتواضعُ للخلقِ فهو يرَى نفسه أعلى من الناس ويرى رأيَه أصوبَ من الحقِّ.
السبب الثاني عشر: استعمالُ أواني الذَّهب والفضةِ في الأكلِ والشرب للرجالِ والنساءِ. ففي الصحيحين من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «الذي يشربُ في آنية الفضةِ إنما يجرجرُ في بطنِه نارَ جهنم». وفي رواية لمسلم: «إن الَّذِي يأكل أو يَشرب في آنيةِ الذهب والفضةِ إنما يجرجرُ في بطنِه نارَ جهنمَ».(4/123)
فاحذرُوا إخواني أسبابَ دخولِ النار، واعملُوا الأسبابَ التي تُبْعِدُكم عنها لتفوزُوا في دارِ القرارَ، واعلمُوا أن الدنيا متاعٌ قليلٌ سريعةُ الزوالِ والانهيار، واسألوا ربَّكم الثباتَ على الحقِّ إلى الممات، وأن يحشُرَكم مع الذين أنعمَ الله عليهمْ من المؤمنين والمؤمنات.
اللَّهُمَّ ثبّتْنَا على الحقِّ وتوفَّنا عليه، واغفر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحم الراحمين. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبهِ أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الثامن والعشرون - في زكاة الفطر
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله العليم الحكيم، العليِّ العظيم، خلقَ كلَّ شَيْءٍ فقَدَّره تقديراً، وأحْكَمَ شرائعَه ببالغِ حكمتِهِ بياناً للْخَلق وتَبْصيراً، أحمدُه على صفاتِه الكامِلة، وأشكرُه على آلائِه السابغة، وأشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاّ الله وحده لا شريكَ له لَهُ الملكُ وله الحمدُ وهوَ على كلِّ شَيْء قدير، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه البشيرُ النذير، صلَّى الله عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ المآبِ والمصِير، وسلَّم تسليماً.
إخواني: إن شهرَكُمُ الكريمَ قد عزَم على الرحيل، ولم يبقَ منه إلاَّ الزمنُ القليلُ، فمَنْ كان منكم محسِناً فليحمدِ اللهَ على ذلك ولْيَسْألْه القَبولَ، ومَنْ كان منكم مهملاً فلْيتبْ إلى اللهِ ولْيَعْتَذِرْ من تقصيرِه فالعذرُ قبْلَ الموتِ مَقْبولٌ.
إخواني: إن الله شرعَ لكم في ختامِ شهرِكم هذا أنْ تؤَدُّوا زكاةَ الفطر قبْلَ صلاةِ العيدِ، وسنتكلم في هذا المجلسِ عن حُكْمِها وحكمتِها وجنسِها ومقدارِها ووقتِ وجوبِها ودفعِها ومكانِها.(4/124)
فأما حكمُها فإنها فريضةٌ فرضَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم على المسلمينَ، وما فرضَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم أوْ أمَرَ به فلَهُ حكمُ ما فرضَه الله تعالى أو [28] في زكاة الفطرأمَرَ به. قال الله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أَرْسَلْنَكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } [النساء: 80]، وقال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [النساء: 115]، وقال تعالى: {وَمَآ ءَاتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الحشر: 7]. وهيَ فريضةٌ على الكبيرِ والصغيرِ والذكرِ والأُنثى والحرِّ والعَبْدِ من المسلمينَ. قال عبدُالله ابنُ عَمرَ رضي الله عنهما: فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم زكاة الفطر من رمضانَ صاعاً من تَمْرٍ أو صاعاً من شعيرٍ على العبدِ والحرِّ والذكر والأنثى والصغيرِ والكبيرِ من المسلمين. متفق عليه.(4/125)
ولا تجبُ عن الحمل الذي في البطن إلاَّ أنْ يتطوعَ بها فلا بأسَ، فقدْ كانَ أميرُ المؤمنينَ عثمانُ رضي الله عنه يخرجُها عن الحمل. ويجبُ إخراجُها عن نفسِه وكذلك عمن تَلْزَمُه مَؤُونَتُه من زوجةٍ أو قريبٍ إذا لم يستطيعوا إخراجَها عن أنفسِهم. فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجُوهَا عن أنفسِهم لأنَّهُم المخاطَبُون بها أصْلاً، ولا تَجِبُ إلاَّ على مَنْ وَجَدَها فاضلةً زائدةً عما يحتاجُه من نفقةِ يومِ العيدِ وليلتِه. فإنْ لم يجد إلاَّ أقلَّ من صاعٍ أخْرَجَه لقولِه تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاَِنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [التغابن: 16]، وقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتُوا منه ما استطعتم»، متفق عليه.
وأما حِكمتُها فظاهرةٌ جدّاً ففيها إحسانٌ إلى الفقراءِ وكفٌّ لهم عن السؤالِ في أيام العيدِ ليُشَاركوا الأغنياءَ في فرحِهم وسرورِهم بِه ويكونَ عيداً للجميع. وفيها الاتصافُ بخلق الكرمِ وحبِّ المواساة وفيها تطهيرُ الصائمِ مما يحصلُ في صيامِه من نقصٍ ولَغْوٍ وإثْمٍ، وفيها إظهارُ شكرِ نعمةِ الله بإتْمامِ صيامِ شهرِ رمضانَ وقيامِه وفعلِ ما تَيَسَّرَ من الأعمالِ الصالحةِ فيه.
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: فرضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم زكاةَ الفطرِ طُهرةً للصائمِ من اللغوِ والرفثِ وطعمةً للمساكين، فمن أدَّاها قبل الصلاةِ فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومن أدَّاها بعدَ الصلاةِ فهي صدقةٌ من الصدقاتِ. رواه أبو داودَ وابنُ ماجة.(4/126)
وأمَّا جنسُ الواجبِ في الفطرةِ فهو طعامُ الادميين من تمرٍ أوْ بُرِّ أوْ رزٍّ أو زبيبٍ أوْ أقِطٍ أو غيرها من طعامِ بِني آدمَ، ففي الصحيحين من حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: فرضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم زكاةَ الفطر من رمضانَ صاعاً من تمرٍ أوْ صاعاً من شعيرٍ. وكانَ الشَّعيرُ يومَذَاك مِنْ طعامِهم كما قال أبو سعيدٍ الخدريُّ رضي الله عنه. كنا نُخْرِجُ يومَ الفطرِ في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم صاعاً من طعامٍ وكان طعامُنَا الشعيرَ والزبيبَ والأقِطَ والتمرَ. رواه البخاري.
فلا يُجزِأُ إخراجُ طعامِ البهائمِ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فرضَها طعمةً للمساكين لا للبهائم.
ولا يجزأُ إخراجُها من الثياب والفُرُش والأواني والأمتعةِ وغيرِهَا مما سوى طعام الآدميين لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فرضَها من الطعامِ فلا يُتَعَدَّى ما عيَّنَه الرسولُ صلى الله عليه وسلّم.(4/127)
ولا تُجزِأُ إخراجُ قيمةِ الطعامِ لأنَّ ذلك خلافُ ما أَمَرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم. وقد ثبتَ عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قالَ: «مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»، وفي روايةٍ: «من أحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ»، رواه مسلم. وأصلُه في الصحيحين ومعنى رَدٌّ مردودٌ. ولأنَّ إخراجَ القيمةِ مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم حيث كانوا يخرجونَها صاعاً من طعامٍ، وقد قال النَبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «عليكم بسُنَّتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ من بعْدِي» ولأن زكاةَ الفطرِ عبادةٌ مفروضةٌ مِن جنسٍ مُعيَّن فلا يجزأُ إخراجها من غير الجنسِ المعيَّن كما لا يُجْزأُ إخراجها في غير الوقتِ المعيَّنِ. ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عيَّنَها من أجناسٍ مختلفةٍ وأقْيامُها مختلَفةٌ غالباً. فلو كانت القيمةُ معتبرةً لكان الواجبُ صاعاً من جنسٍ وما يقابلُ قيمتَه من الأجناس الأخْرَى. ولأنَّ إخراج القيمةِ يُخْرِجُ الفطرةَ عن كَوْنِها شعيرةً ظاهرةً إلى كونها صدقةً خفيةً فإن إخراجَها صاعاً من طعامٍ يجعلُها ظاهرَةً بين المسلمينَ معلومةً للصغير والكبير يشاهدون كَيْلها وتوزِيعَها ويتعارفونها بينهم بخلاف ما لو كانت دراهم يُخْرِجها الإِنسانُ خفية بينه وبين الآخذ.
وأما مقدارُ الفطرةِ فهو صاعٌ بصاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الَّذِي يبلغُ وَزْنُه بالمثاقيلِ أربعَمائةٍ وثمانينَ مِثقالاً مِن الْبُرِّ الْجيِّد وبالغرامات كِيْلوَين اثنين وخْمُسَيْ عُشْر كِيْلو من البرِّ الجيِّد، وذلك لأنَّ زنَةَ المثقالِ أربعةُ غراماتٍ ورُبُعٌ فيكون مبلغُ أربعمائةٍ وثمانين مثقالاً ألْفَيْ غرام وأربعين غراماً. فإذا أراد أن يعرفَ الصاع النبويَّ فلْيزن كيلوينِ وأربعين غِراماً من البُرِّ الجيِّد ويضعها في إناءٍ بقدرِها بحيثُ تَملَّؤُه ثم يَكيلُ به.(4/128)
وأما وقتُ وجوبِ الفطرةِ فهو غروبُ الشمسِ ليلةَ العيدِ، فمن كان مِنْ أهلِ الوجوبِ حينذَاك وجبتْ عليه وإلاَّ فلا. وعلى هذا فإذا مات قبلَ الغروب ولو بدقائقَ لم تجب الفطرةُ. وإن ماتَ بعدَه ولو بدقائقَ وجبَ إخراجُ فطرتِه، ولَوْ وُلِدَ شخصٌ بعدَ الغروب ولو بدقائقَ لم تجبْ فطرتُه، لكنْ يسن إخراجُها كما سبقَ وإن وُلِدَ قبل الغروبِ ولو بدقائقَ وجب إخراج الفطرةِ عنه.
وإنما كان وقتُ وجوبها غروبَ الشمس من ليلةِ العيدِ لأنَّه الوقت الذي يكونُ به الفطرُ من رمضان وهي مضافَةٌ إلى ذلك فإنه يقالُ: زكاةُ الفطرِ من رمضانَ فكانَ مناط الحكم ذلك الوقتُ.
وأمَّا زمنُ دفعِها فله وقتانِ: وقتُ فضيلةٍ ووقتُ جوازٍ. فأمَّا وقتُ الفضيلةِ: فهو صباحُ العيدِ قبلَ الصلاةِ لما في صحيح البخاريِّ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدرِيِّ رضي الله عنه قال: «كنَّا نُخْرِجُ في عهدِ النبي صلى الله عليه وسلّم يومَ الفطرِ صاعاً من طعامٍ»، وفيه أيضاً من حديثِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أمَرَ بزكاةِ الفطر أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاةِ»، ورواه مسلم وغيره.
ولذلك كان من الأفضل تأخيرُ صلاةِ العيد يومَ الفطرِ ليتسعَ الوقتُ لإِخراج الفطرةِ. وأمَّا وقتُ الجوازِ فهو قبْل العيدِ بيوم أو يومين. ففي صحيح البخارَيِّ عن نافع قال: كانَ ابنُ عمرَ يعْطِي عن الصغير والكبير حتى وإنْ كانَ يعطِي عن بَنِيَّ، وكان يُعْطِيها الَّذِين يَقْبلونَها، وكانُوا يُعْطَون قبْلَ الفطرِ بيومٍ أو يومين.(4/129)
ولا يجوزُ تأخيرُها عن صلاةِ العيدِ فإنْ أخَّرها عن صلاةِ العيدِ بلا غُذرٍ لم تُقْبَلْ منه لأنه خلافُ ما أمَرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم، وقد سبق من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ مَنْ أدَّاها قبْلَ الصلاةِ فهي زكاةٌ مقبولةٌ ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقةٌ مِنَ الصدقاتِ أمَّا إن أخَّرها لعذرٍ فلا بأسَ، مثلُ أن يصادفَه العيدُ في الْبَرِّ ليس عنده ما يدفعُ منه أو ليسَ عنده مَنْ يدفُع إليه، أو يأتَي خبرُ ثبوتِ العيدِ مفاجِئاً بحيثُ لا يَتَمَكَّنُ مِن إخراجها قبْلَ الصلاةِ أو يكون معتمداً على شخصٍ في إخراجها فينسى أنْ يُخْرِجَهَا فلا بأسَ أن يخرجها ولو بعدَ العيدِ لأنَّه معذورٌ في ذلك.
والواجبُ أنْ تصلَ إلى مستحقِّها أو وكيْلِهِ في وقتِها قبلَ الصلاةِ، فلو نَوَاها لشخصٍ ولم يصادفْه ولا وكِيْلَه وقتَ الإِخراجِ فإنه يدفعها إلى مستحق آخرَ ولا يؤخِّرُها عن وقتِهَا.
وأما مكانُ دفِعها فتدفعُ إلى فقراءِ المكانِ الَّذِي هو فيه وقت الإِخراج سواءٌ كانَ محل إقامتِهِ أو غَيرَه من بلادِ المسلمينَ لا سيَّما إن كانَ مكاناً فاضلاً كَمكَّة، والمدينةِ، أو كانَ فقراؤه أشدَّ حاجةً. فإن كان في بلدٍ ليس فيه مَنْ يدفعُ إليه أو كانَ لا يعرفُ المستحِقينَ فيه وكَّلَ من يدفعها عنه في مكانٍ فيه مستَحِقٌ.(4/130)
والمستحِقُون لزكاةِ الفطرِ هُمْ الفقراءُ ومَنْ عليهم ديونٌ لا يستطيعونَ وفاءَها فيُعْطُون منها بقدر حاجتِهم. ويجوزُ توزيعُ الفطرةِ على أكثرَ من فقيرٍ. ويجوزُ دفعُ عددٍ من الْفِطَر إلى مسكينٍ واحدٍ، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قَدَّر الواجبَ ولم يقدِّر مَنْ يدفعُ إليهِ، وعلى هذا لو جَمَعَ جماعةٌ فطرَهم في وعاءٍ واحدٍ بعدَ كيلها وصارُوا يدفُعون منه بلا كيلٍ ثانٍ أجْزَأهم ذلك، لكنْ ينبَغِي إخبار الفقِير بأنَّهم لا يعلمُون مقدارَ ما يدفعون إليه لئَلاَّ يَغْتَرَّ به فيدفعه عن نفسه وهو لا يدري عن كيلِه. ويجوز للفقير إذا أخَذَ الفطرةَ من شخصٍ أن يدفَعَهَا عن نفسِه أو أحدٍ من عائلتِهِ إذا كالَهَا أو أخبرَه دافعها أنَّها كاملةٌ ووَثِقَ بِقَوْلِه.
اللَّهُمَّ وفِّقْنا للقيام بطاعتِك على الوجهِ الَّذِي يرضيكَ عنَّا، وَزَكِّ نفوسَنا وأقوالَنا وأفعالَنَا وطهِّرنَا من سوءِ العقيدةِ والقولِ والعملِ إنك جوادٌ كريمٌ. وصلَّى الله وسلَّم على نبيَّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس التاسع والعشرون - في التوبة
محمد بن صالح العثيمين(4/131)
الحمدُ لله الَّذِي نَصب من كلِّ كائنٍ على وَحْدانيتِه بُرهاناً، وتصرَّفَ في خليقَتِه كما شاءَ عزّاً وسُلطاناً، واختارَ المتقينَ فوَهبَ لهم أمناً وإيماناً، وعمَّ المذنبينَ بحلْمِه ورحمتِه عفْواً وغُفراناً، ولم يَقطعْ أرزاقَ أهلِ معصيتِه جوداً وامتناناً، روَّح أهلَ الإِخلاصِ بنسيم قربه، وحذَّر يومَ الحساب بجسيمِ كربِه، وحفظ السالكَ نحوَ رضاه في سِرْبه، وأكرَمَ المؤمنَ إذْ كتب الإِيمانَ في قلبِه. حَكَمَ في بَرِيَّتِه فأمَر ونَهَى، وأقام بمعونتِهِ ما ضَعُفَ ووَهىَ، وأيْقَظَ بموْعظتِهِ مَنْ غفَل وَسَها، ودَعَا المُذْنِبَ إلى التوبةِ لغفرانِ ذنبه، ربٌّ عظيمٌ لا يمثال الأنام، وغنيٌّ كريمٌ لا يحتاجُ إلى الشرابِ والطعام، الْخَلْقُ مفتقرونَ إليه وعلى الدوام، ومضْطرُّون إلى رحمتِهِ في الليالي والأيام.
أحمدُه حمدَ عابدٍ لربه، معتذرٍ إليه من تقصيرِهِ وذنبِه، وأشهدُ أن لا إِلهَ إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ مُخلِصٍ من قلبِه، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه المصطفى من حِزبه، صلَّى الله عليه وعلى أبي بكرٍ خيرِ صحبِه، وعلى عمرَ الَّذِي لا يسِيرُ الشيطانُ في سِرْبِه، وعلى عثمانَ الشهيد لا في صفِّ حَرْبِه،وعلى عليٍّ مُعينِه في حَرْبه، وعلى آلِهِ وأصحابِه ومن اهتدى بهدْيِه، وسلَّم تسليماً.(4/132)
إخواني: اختمُوا شهرَ رمضانَ بالتوبةِ إلى الله من معاصِيْه، والإِنابةِ [29] في التوبةإليهِ بفعل ما يُرْضيه، فإنَّ الإِنسانَ لا يخلُو من الْخَطأ والتقصير، وكلُّ بنِي آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون، وقد حثَّ الله في كتابه وحثَّ النبي صلى الله عليه وسلّم في خطابه على استغفار الله تعالى والتوبة إليه، فقال سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [هود: 3]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ } [فصلت: 6]، وقال تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور: 31]، وقال سبحانه: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَرُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [التحريم: 8]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة: 222]. والآياتُ في ذكرالتوبةِ عديدة.(4/133)
وأما الأحاديثُ فمنها: عن الأغَرِّ بنِ يَسَار المُزنيِّ رضي الله عنهُ قال: قالَ النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا أيها الناسُ توبُوا إلى الله واستغفروه فإني أتوبُ في اليوم مئةَ مرة»، رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إني لأستغفر اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرة»، رواه البخاري. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «للهُ أشدُ فرَحاً بتوبةِ عبدِه حين يتوبُ إليهِ من أحدِكم كان على راحلتِه بأرضٍ فلاةٍ فانفلتت منُه وعليها طعامُه وشرابُه فأيس منها، فأتى شجرةً فاضطجعَ في ظلِّها وقد أيِس من راحلتِه، فبينما هُو كذَلِكَ إذْ هو بها قائمةً عندَه، فأخذَ بخِطامِها، ثم قالَ من شدَّةِ الفرحِ: اللَّهُمَّ أنتَ عبِدي وأنا ربُّك أخطأ من شدَّةِ الفرحِ»، رواه مسلم. وإنما يفرحُ سبحانَه بتوبةِ عبدِه لمحبَّتِه للتوبةِ والعفْوِ ورجوعِ عبدِه إليه بعد هَربِه منه، وعن أنس وابن عباسٍ رضي الله عنهم أنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لو أن لابن آدم وادياً من ذهبٍ أحبَّ أن يكونَ له وادِيَانِ ولن يملأ فَاه إِلاَّ الترابُ ويتوبُ الله على مَن تابَ»، متفق عليه.
فالتوبةُ هي الرجوعُ من معصية الله إلى طاعتِه لأنَّه سبحانه هو المعبودُ حقاً، وحقيقةُ العُبوديةِ هي التذللُ والخضوعُ للمعبودِ محبةً وتعظيماً، فإذا حصلَ مِنَ العبدِ شرودٌ عن طاعةِ ربِّه فتوبتُه أن يرْجعَ إليه ويقفَ ببابِه موقفَ الفقيرِ الذليلِ الخائف المنكسرِ بينَ يديِه.(4/134)
والتوبةُ واجبةٌ على الفَوْرِ لا يجوزُ تأخيرُها ولا التسويفُ بها، لأنَّ الله أمَرَ بها ورسولُه، وأوَامِرُ الله ورسولِهِ كلُّها على الفورِ والمبادرةِ لأنَّ العبدَ لا يدري ماذا يحصلُ له بالتأخيرِ، فلعلَّهُ أن يفجأه الموتُ فلا يستطيعُ التوبةَ، ولأنَّ الإِصرارَ على المعصيةِ يوجبُ قَسْوةَ القلب وبُعْدَه عن الله عزَّ وجلَّ وضعفَ إيمانه، فإنَّ الإِيمانَ يزيْد بالطاعاتِ وينقصُ بالعصيانِ، ولأنَّ الإِصرارَ على المعصيةِ يوجبُ إلْفَهَا والتَّشبُّثَ بها، فإنَّ النفسَ إذا اعتادتْ على شيء صعُب عليها فِراقُه وحيئنذٍ يعسرُ عليه التخلصُ من معصيتِه ويفتحُ عليه الشيطانُ بابَ معاصٍ أخرى أكبرَ وأعظمَ مما كانَ عليه. ولِذَلِكَ قال أهلُ العلم وأربابُ السلوكِ: إن المعاصيَ بَرِيدُ الكفر ينتقلُ الإِنسانُ فيها مرحلةً مرحلةً حتى يزيغَ عن دينِه كلِّه نسأل الله العافيةَ والسلامةَ.
والتوبةُ التي أمر الله بها هي التوبةُ النصوحُ التي تشتمِلُ على شرَائطِ التوبةِ وهي خمسةٌ:
الأولُ: أن تكونَ خالِصةً لله عزَّ وجلَّ بأن يكونَ الباعِثُ لها حبَّ الله وتعظيمَه ورجاءَ ثوابِه والخوفَ من عقابِه، فلا يريدُ بها شيئاً من الدَنيا ولا تزَلُّفاً عند مخلوقٍ، فإن أراد هذَا لم تقبلْ توبتُه لأنَّه لم يَتُبْ إلى الله وإنما تابَ إلى الغرضَ الَّذِي قصدَه.
الثاني: أن يكونَ نادماً حزِناً على ما سلفَ من ذنبه يتمنَّى أنه لم يحصلْ منه لأجلِ أن يُحدثَ له ذلكَ الندمُ إنابةً إلى الله وانكساراً بينَ يديه ومَقْتاً لنفسه التي أمَرَتْه بالسوءِ فتكونُ توبتُه عن عقيدةٍ وبصيرةِ.(4/135)
الثالثُ: أنْ يُقْلِعَ عن المعصيةِ فوراً، فإن كانتِ المعصيةُ بفعلِ محرمٍ تَرَكَهُ في الحالِ، وإن كانتْ المعصيةُ بتركِ واجبٍ فَعَله في الحالِ إنْ كان مما يمكن قضاؤه كالزكاةِ والحجِّ، فلا تصحُّ التوبةُ مع الإِصرارِ على المعصيةِ فلو قال: إنه تابَ من الرِّبا مثلاً وهو مستمرٌ على التعامُل به لم تصحَّ توبتُه ولم تكنْ هذه إلاَّ نَوْعَ استهزاءٍ بالله وآياتِه لاتزيدُه مِنَ الله إِلاَّ بُعداً. ولو تابَ من تركِ الصلاةِ مع الجماعةِ وهو مستمرٌ على تركِها لم تصح توبتُه.
وإذا كانتِ المعصيةُ فيما يتعلقُ بحقوقِ الخلقِ لم تصحَّ التوبةُ منها حتى يتخلَّصَ من تلك الحقوقِ، فإذا كانتْ معصيتُه بأخذِ مالٍ للغيرِ أو جحدِه لم تصح توبتُه حتى يؤدِّيَ المالَ إلى صاحبِه إن كان حيَّاً أو إلى ورثتِه إن كان ميتاً، فإن لم يكنْ له ورثةٌ أدَّاهُ إلى بيت المالِ، وإن كانَ لا يدري مَنْ صاحبُ المالِ تصدَّقَ به له والله سبحانَه يعلمُ بِه، وإن كانتْ معصيتُه بغِيْبَةِ مسلم وجبَ أن يَسْتحلَّهُ من ذلك إن كانَ قد علمِ بِغيبتِه إيَّاه أو خافَ أن يَعلَمَ بِها وإِلاَّ استغفَرَ له وأثْنَى عليهِ بصفاتِه المحمودةِ في المجلسِ الَّذِي اغتابَه فيه فإن الحسناتِ يُذْهِبْن السيئاتِ.
وتصحُّ التوبةُ من ذنبٍ مَعَ الإِصرارِ على غيرِه، لأنَّ الأعمال تتبعَّضُ والإِيمانَ يتفاضلُ، لكن لا يستحقُّ الوصفُ المطلقَ للتوبةِ وما يستحقُّه التائبون على الإِطلاقِ من الأوصافِ الحميدةِ والمنازلِ العاليةِ حتى يتوبَ إلى الله من جميع الذنوبِ.(4/136)
الرابعُ: أن يعزمَ على أن لا يعودَ في المستقبل إلى المعصيةِ؛ لأنَّ هذه ثمرةُ التوبةِ ودليلُ صِدْقِ صاحبِها. قإن قالَ: إنه تائبٌ وهو عازمٌ أو متردِّدٌ في فعلِ المعصيةِ يوماً مَّا لم تصح توبتُه لأنَّ هذه توبةٌ مُؤقَّتةٌ يتحَّينُ فيها صاحبُها الْفُرَصَ المناسبةَ ولا تدل على كراهيتِهِ للمعصيةِ وفرارِه منها إلى طاعةِ الله عزَّ وجلَّ.
الخامسُ: أن لا تكونَ بَعْدَ انتهاءِ وقتِ قبولِ التوبةِ. فإن كانتْ بعد انتهاءِ وقتِ القبولِ لم تُقْبَلْ. وانتهاءُ وقتِ القبولِ نوعانِ. عامٌ لكلِّ أحدٍ وخاصٌ لكلِّ شخصٍ بنفسِه.
فأما العامُّ: فهو طلوعُ الشمسِ من مغربها، فإذا طلعتْ الشمسُ من مغربها لم تنفع التوبةُ. قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَنِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } [الأنعام: 158] والمرادُ ببعضِ الاياتِ طلوعُ الشمس من مغربها فسَّرَها بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلّم، وعن عبدالله بن عَمْرو ابن العاصٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال التَّوبَةُ تُقْبَلُ حَتَّى تطلعَ الشَّمسُ من مغربها، فإذا طلعتْ طُبعَ على كلِّ قلبٍ بِما فيهِ وكفَى الناسَ العملُ». قال ابنُ كثيرٍ: حسنُ الإِسنادِ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ تابَ قبلَ أن تطلُعَ الشمس مِنْ مغربِها تاب الله عليه»، رواه مسلم.(4/137)
وأما الخاصُّ: فهو عندَ حضورِ الأجلِ فمتَى حضر أجلُ الإِنسانِ وعاينَ الموتَ لم تنفعْه التوبةُ ولم تُقْبلْ منه. قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الاَْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الاَْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [النساء: 18] وعن عبدِالله بن عمرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يَقْبَلُ تَوبةَ العبدِ ما لَمْ يُغرغِرْ» يعني بِرُوحِه، رواه أحمدُ والترمذيُّ وقال: حديثٌ حسنٌ.
وَمَتَى صحَّتِ التوبةُ باجتماع شروطِها وقُبِلتْ محا الله بها ذَلِكَ الذَّنْبَ الَّذِي تابَ منه وإنْ عَظُمَ. قال الله تعالى: {قُلْ يعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر: 35].
وهذه الآيةُ في التائبينَ المنيبينَ إلى ربِّهم المسلِمين لَهُ. قال الله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 110].
فبادِرُوا رَحِمَكم الله أعماركم بالتوبةِ النصوحِ إلى ربِّكم قبل أن يفجأكم الموتُ فلا تستطِيعون الخلاص.(4/138)
اللَّهُمَّ وفقْنَا للتوبةِ النصوحِ التي تمْحُو بها ما سلَفَ من ذنوبنا ويسِّرْنَا لليُسْرى، وجنِّبْنَا العسرى، واغفرْ لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمينَ في الآخِرةِ والأولى، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ. وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وآلِهِ وصحبِه أجمعين.
مجالس شهر رمضان
المجلس الثلاثون - في ختام الشهر
محمد بن صالح العثيمين
الحمدُ لله الواسعِ العظيم، الجوادِ البَرِّ الرَّحِيم، خلقَ كلَّ شَيْء فقدَّره، وأنزلَ الشرعَ فَيَسَّره وهو الحكيمُ العليم، بدأ الخلقَ وأنهاه، وسيَّر الفَلَكَ وأجراه، {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس: 38 40].
أحمدُهُ على ما أوْلى وهدَى، وأشكرهُ على ما وهبَ وأعطَى، وأشهدُ أنه لا إِله إِلاَّ هو الملك العليُّ الأعلى، الأولُ الَّذِي ليس قَبْلَه شَيْء، والاخِرُ الَّذِي ليس بَعْدَه شيء، والظاهرُ الَّذِي ليس فوقَه شيء، والباطِنُ الَّذِي ليس دونَه شيء، وهو بكلِّ شيء عليم، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه المصطفى على المرسلين، صلَّى الله عليه وعلى صاحبِه أبي بكر أفضل الصِّدِّيقين، وعلى عمرَ المعروفِ بالقوةِ في الدِّين، وعلى عثمانَ المقتولِ ظلماً بأيدي المجرمين، وعلى عليٍّ أقربِهم نسباً على الْيقين، وعلى جميعِ آلِهِ وأصحابِه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً.(4/139)
إخواني: إن شهرَ رمضانَ قَرُبَ رحيلُه وأزِفَ تحويلُه، وإنه شاهدٌ لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فمن أودعه عملاً صالحاً [30] في ختام الشهرفليحمد الله على ذلك وليَبْشِر بِحُسْنِ الثوابِ، فإن الله لا يضيعُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملاً، ومن أودَعه عملاً سيئاً فَليتُبْ إلى ربِّه توبةً نصوحاً فإن الله يتوبُ على من تاب، ولَقَدْ شرعَ الله لكم في خِتامِ شهرِكم عباداتٍ تزيدُكم من الله قُرْباً وتزيدُ في إيمانكم قُوَّةً وفي سِجلِّ أعمالِكم حسنات، فشرعَ الله لكم زكاةَ الفطرِ وتقدَّم الكلامُ عليها مفصَّلاً، وشرع لكم التكبيرَ عند إكْمالِ الْعِدَّةِ من غروبِ الشمس ليلة العيدِ إلى صلاةِ العيدِ. قال الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185] وصِفتُهُ أنْ يقولَ الله أكبر الله أكبر لا إِله إِلاَّ الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ويُسَنُّ جهرُ الرجالِ به في المساجدِ والأسواقِ والبيوتِ إعلاناً بتعظيم الله وإظهاراً لعبادتِه وشكرِه ويُسِرُّ به النساءُ لأنهن مأموراتٌ بالتَستُّر والإِسرار بالصوتِ، ما أجملَ حالَ الناسِ وهُمْ يكبِّرون الله تعظيماً وإجلاَلاً في كلِّ مكانٍ عندَ انتهاء شهرِ صومِهم يملأون الآفاق تكبيراً وتحميداً وتهليلاً يرجون رحمةَ اللهِ ويخافون عذابَه. وشرَع الله سُبحانه لعبادِه صلاةَ العيدِ يومَ العيد وهي من تمام ذكر الله عزَّ وجلَّ، أمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم بها أمَّتَه رجالاً ونساءً، وأمْرُه مطاعٌ لقولِه تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ } [محمد: 33]. وقد أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم النساءَ أن يَخْرُجنَ إلى صلاةِ العيد، مع أنَّ البيوتَ خيرٌ لهن فيما عدَا هذه الصلاة.(4/140)
وهذا دليلٌ على تأكيدها، قالت أمُّ عطيةَ رضيَ الله عنها: أمَرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أن نُخرجهُن في الْفِطْرِ والأضحى؛ العَوَاتِقَ والحُيَّضَ وذواتِ الخُدورِ، فأمَّا الحيَّضُ فيعتزِلْنَ المُصَلَّى ويشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين. قلتُ: يا رسولَ الله إحْدانَا لا يكونُ لها جِلبابٌ، قال: «لِتُلْبِسْها أختُها مِنْ جلبابِها». متفق عليه. الجلبابُ لباسٌ تلتحفُ فيه المرأة بمنزلةِ العباءةِ.
ومن السُّنَّة أنْ يأكُلَ قبلَ الخروجِ إلى الصلاة في عيدِ الفطرِ تَمَرَاتٍ وتراً ثلاثاً أوْ خمساً أو أكثرَ من ذلك يَقْطَعُها على وِترٍ لقولِ أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم لا يَغْدُو يومَ الفطرِ حتى يأكل تمراتٍ ويأكلُهن وِتراً»، رواه أحمدوالبخاري. ويخرُجُ ماشياً لاَ راكباً إلا مِنْ عذرٍ كعَجْزٍ وبُعْدٍ لقولِ عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «من السنةِ أن يخرُجَ إلى العيدِ ماشياً»، رواه الترمذيُّ وقال: حديث حسن. ويسنُّ للرجلِ أنْ يتجَمَّل ويلبسَ أحسنَ ثيابِه لما في صحيح البخاري عن عبدالله بن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: أخَذَ عُمَرُ جبةً من إسْتَبرقٍ ـ أي حريرٍ ـ تباعُ في السوقِ فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالَ: يا رسولَ الله ابْتَعْ هذِه يعني اشتَرِها تجمَّلُ بها للعيدِ والوفودِ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنما هذِهِ لباسُ مَنْ لا خلاقَ له»، وإنما قالَ ذلك لكونها حريراً. ولا يجوزُ للرجل أن يلبسَ شيئاً من الحريرِ أو شيئاً من الذهب لأنهما حرامٌ على الذكورِ من أمَةِ محمد صلى الله عليه وسلّم. وأما المرأةُ فتَخرجُ إلى العيدِ متجمِّلةٍ ولا متطيِّبةٍ ولا متبرجةٍ ولا سافرةٍ لأنها مأمورةٌ بالتَّسَتر منهِيةٌ عن التبُّرِجِ بالزينةِ وعن التطيُّبِ حالَ الخروجِ.(4/141)
ويُؤَدي الصلاةَ بخشوعٍ وحضورِ قلبٍ، ويكثرُ من ذكرِ الله ودعائِه ويرجو رحمتَه، ويخافُ عذابَه، ويتذكرُ باجتماع الناس في الصلاةِ على صعيد المسجدِ اجتماعَ الناسِ في المَقَام الأعظمِ بينَ يدي الله عزَّ وجلَّ في صعيدِ يومِ القيامةِ، ويَرى إلى تفَاضِلِهم في هذا المجتمع فيتذكر به التفاضلَ الأكبرَ في الآخرةِ، قال الله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلاَْخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [الإِسراء: 21]. ولْيكُنْ فَرحاً بنعمةِ الله عليه بإدراكِ رمضانَ وعمل ما تَيَسَّرَ فيه من الصلاةِ والصيام والقراءةِ والصدقةِ وغير ذلك من الطاعاتِ فإنَّ ذلك خيرٌ من الدنيا وما فيها {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس: 58] فإنَّ صيامَ رمضانَ وقيامَه إيماناً واحتساباً من أسباب مغفرةِ الذنوبِ والتخلصِ من الآثام. فالمؤمِنُ يفرحُ بإكمالِه الصومَ والقيام، لتَخلُّصِه به من الآثام، وضعيفُ الإِيمانِ يفرحُ بإكمالِه لتَخلُّصِه من الصيامِ الَّذِي كان ثقيلاً عليه ضائقاً به صدرُه، والْفَرقَ بين الفرحين عظيم.
إخواني: إنه وإن انْقَضَى شهرُ رمضانَ فإن عمل المؤمنِ لا ينقضِي قبْلَ الموت. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ الْيَقِينُ } [الحجر: 99]، وقال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران: 102]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «إذا مات العبدُ انقطعَ عملُه»، فلم يَجْعلْ لانقطاع العملِ غايةً إلاّ الموتَ، فلئِن انقضى صيامُ شهرِ رمضانَ فإن المؤمنَ لن ينقطعَ من عبادةِ الصيام بذلك، فالصيام لا يزالُ مشروعاً ولله الحمد في العام كلِّه.(4/142)
ففي صحيح مسلمٍ من حديثِ أبي أيوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «من صامَ رمضانَ ثم أتْبَعه ستاً من شوالٍ كان كصيام الدهرِ». وصيامُ ثلاثةِ أيام من كلِّ شهرٍ قال فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله»، رواه أحمد ومسلم. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: أوصانِي خَلِيلي صلى الله عليه وسلّم بثلاثٍ وذكر منها صيام ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهر.
والأوْلَى أن تكونَ أيامَ الْبِيض وهي الثالث عشرَ والرابعَ عشرَ والخامسَ عشرَ،لحديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «يا أبا ذرٍّ إذا صمت من الشهر ثلاثةً فصُم ثلاثَ عشرةَ وأربعَ عشرةَ وخمسَ عشرةَ»، رواه أحمد والنسائي في الصحيح.
وفي صحيح مسلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم سُئِلَ عن صومِ يومِ عرفة فقال: «يُكَفِّرُ السنةَ الماضيةَ والباقيةَ». وسُئِلَ عن صيامِ عاشُورَاءَ فقال: «يُكَفِّر السنةَ الماضيةَ». وسُئِلَ عن صومِ يوم الاثنين فقال: «ذَاكَ يومٌ وُلِدتُ فيه ويومٌ بُعِثْتُ فيه أوْ أُنزِلَ عَلَيَّ فيه». وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم سُئِلَ: أيُّ الصيامِ أفضلُ بَعْد شهرِ رمضانَ؟ قال: «أفضلُ الصيامِ بعد شهرِ رمضانَ صيامُ شهر الله المحَرَّمِ».(4/143)
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالتْ: «ما رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم اسْتَكْمَل شهراً قطُّ إِلاَّ شهرَ رمضانَ. وما رأيتُه في شهرٍ أكثرَ صياماً منه في شعبانَ». وفي لفظ: «كان يصومُه إِلاَّ قليلاً». وعنها رضي الله عنها قالتْ: «كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يتَحَرَّى صيامَ الاثنين والخميس»، رواه الخمسة إلاَّ أبا داودَ فَهُوَ له من حديثِ أسامةَ بن زيدٍ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «تُعْرَضُ الأعمالُ يومَ الاثنينِ والخميسِ فأحبُّ أن يُعْرَضَ عملِي وأنا صائمٌ»، رواه الترمذيُّ.
ولئِن انقَضَى قيامُ شهرِ رمضانَ فإنَّ القيامَ لا يزالُ مشروعَاً ولله الحمدُ في كلِّ ليلةٍ من ليالِي السَّنَةِ ثابتاً من فعلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم وقولِه، ففي صحيح البخاري عن المغيرةِ بن شعبةَ رضي الله عنه قال: إن كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم لَيَقُومُ أو لَيُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدمَاه، فيقالُ لَهُ فيقولُ: «أفَلاَ أكونُ عبداً شكوراً؟»، وعن عبدِالله بن سَلاَم رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أيُّها الناسُ أفْشُوا السَّلامَ وأطِعموا الطعامَ وصِلُوا الأرحامَ وصَلُّوا بالليل والناسُ نيامٌ تَدْخلوا الجنةَ بسَلامِ»، رواه الترمذيُّ وقال: حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أفضلُ الصلاةِ بعد الفريضة صلاة الليل». وصلاة الليل تشمل التطوع كلَّه والوتر فيصلِّي مَثْنَى مثنى فإذا خَشِيَ الصبحَ صلَّى واحدةً فأوتَرَت ما صَلَّى، وإن شاءَ صلَّى على صفةِ ما سبقَ في المجلس الرابعِ.(4/144)
وفي الصحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «يَنْزلُ ربَنا تباركَ وتعالى كلِّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا حينَ يبقى ثلثُ الليل الآخِرُ فيَقولُ: مَنْ يدعونِي فأسْتجِيبَ له؟ مَن يسألُني فأعطيه؟ من يستغفَرُني فأغفرَ له؟».
والرواتبُ التابعَةُ للفرائِض اثنتَا عشْرةَ ركعةً: أربعٌ قبل الظهرِ وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاةِ الفجرِ، فَعَنْ أمِّ حبيبةَ رضي الله عنها قالتْ: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقولُ: «ما من عبدٍ مسلمٍ يصلَّي لله تعالى كلَّ يومٍ ثِنْتَيْ عَشْرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة»، وفي لفظ: «من صلَّى ثِنْتَي عشرةَ ركعةً في يومٍ وليلة بُنِي له بهن بيتٌ في الجنة»، رواه مسلم.
والذِّكرُ أدْبارَ الصلواتِ الخمس أمرَ اللهُ به في كتابه وحثَّ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَباً مَّوْقُوتاً قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَباً مَّوْقُوتاً } [النساء: 103].(4/145)
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إذا سلَّم استغفرَ ثلاثاً وقال: «اللَّهُمَّ أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ تباركتَ يا ذَا الجلالِ والإِكرام»، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «من سبَّح الله في دُبُرِ كلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثينَ وحمدَ اللهَ ثلاثاً وثلاثين وكبَّرَ ثلاثاً وثلاثين فتلك تِسْعةٌ وتسعون، ثم قالَ تمام المئةِ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ لهُ، لهُ الملكِ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثلَ زَبَد البحرِ»، رواه مسلم.
فاجتهدُوا إخوانِي في فعلِ الطاعاتِ، واجتنبُوا الخطايَا والسيئاتِ، لتفوزُوا بالحياةِ الطيبةِ في الدنيا والأجْرَ الكثير بعد المَمَات قال الله عزَّ وجلَّ: {مَنْ عَمِلَ صَلِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل: 97].
اللَّهُمَّ ثبِّتنا على الإِيمانِ والعملِ الصالحِ، وأحينَا حياةً طيبةً، وألْحِقْنَا بالصَّالحين، والحمد لله ربَّ العالمينَ وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين.
وإلى هنا انتهى ما أردنا كتابته في هذا، نسألُ الله أن يجعلَ عملنَا خالصاً لوجهه ومقرباً إليه ونافعاً لعباده، وأن يتولانا في الدنيا والآخرةِ ويهدينَا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وكان الفراغ منه يوم 29 محرم
من عام ستة وتسعين وثلاث مئة وألف
على يد مؤلفه الفقير إلى مولاه محمد بن صالح العثيمين
والحمد لله رب العالمين
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وآلِهِ وصحبِه أجمعين.(4/146)
بلوغ المرام(4/147)
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
فهذا الشرح المبارك الذي فُرغ من شرح الشيخ العثيمين رحمه الله على كتاب الصيام من بلوغ المرام هو من تفريغي وقد حاولت أن أكتب
نص ما يقوله الشيخ رحمه الله إلا في بعض المسائل فُعبر عنها بما
يعنيه الشيخ بكلامه
ومن وجد خطأ فليراسلني على البريد الموضح بالغلاف للأهمية وهوazizeee@yahoo.com
أو على هذا البريد
aziz153@islamway.net
ملاحظة مهمة
الخط المرفق في هذا الملف يجب أن تنسخه وتضعه في مجلد الخطوط
إن أردت تنسيقا للحديث الشريف
فاذهب إلى ابدأ
ثم
إعدادات
ثم
الخطوط
والصق الملف الأزرق المرفق وستجد خط الحديث يختلف عن الشرح
وهو يفيد لمن يريد طباعته أو إراحة عينيه
وأخيرا
لا تنسوني من الدعاء بالتوفيق
وأرجو منكم أن تراسلوني إن وجدت أخطاء
وشكراً لكم
أخوكم أبو مصعب الجهني
أرجو نشره على أوسع نطاق لتعم الفائدة بإذن الله
كتاب الصيام من ( بلوغ المرام )
الصيام لغة : الإمساك ومنه قوله تعالى ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً)(مريم: من الآية26)
وفي الشرع : هو التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس
( تعبد ) لا لتشهي النفس ، ولا للعادة ، وهذه الكلمة يجب أن تُقال في تعريف كل عبادة
قال صاحب الفروع ( هو فرض إجماعاً ، وفُرض في السنة الثانية إجماعاً فصام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة رمضانات إجماعاً )
مرتبته : هو أحد أركان الإسلام(4/148)
الحكمة من فرضه : الابتلاء بصدق القصد والامتثال لأن الصائم يُمسك عن شهوات ثلاث وهي شهوة الطعام ، وشهوة الشراب ، وشهوة الجماع ، وهذا في وقت العمل وهو ( النهار ) لا الليل الذي ينام الناس فيه ، وهذا من أجل الله عز وجل ، ولهذا قال عزّ وجلّ ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) وفسّره العلماء بأن الأعمال الصالحة يُقتص منها للمظلوم إذا ظلَم العابدُ الناسَ إلا الصوم فلا يُقتصّ منه )
لا يُصام غير هذا الشهر والحكمة من صيامه هو قوله تعالى ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ )(البقرة: من الآية185) فكأن الله سبحانه خصّ هذا الشهر بالصوم لأنه أنزل فيه القرآن وإنزاله أكبر النعم فهو أفضل من المطر والثمر لأنه لا تقوم الأمة إلا به
سبب تسمية رمضان بهذا الاسم :
قيل : لأن العرب أول ما عيّنت الشهور صادف رمضان وقت الحر والرمضاء فسموه بهذا الاسم وهذا من أحسن ما قيل فيه
وقيل : لأنه يرمض المعدة بالعطش .
وقيل : لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها .
وقيل : لا يُعلل ، بل هو صادف تسميته كغيره
1- عن أبي هريرة ( قال قال رسول الله (( لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ) متفق عليه
( لا ) ناهية ، والخطاب لجميع الأمة
( رمضان ) أي الشهر
( رجلٌ ) بالرفع وهو الأفصح لأن ما قبله تامٌ منفي
( كان يصوم …. ) رجل كان يصوم صوماً فلا حرج عليه
و ( الرجل ) ليس مُخرجاً للمرأة ، لكن لمّا كان الرجال أشرف من النساء صارت خطابات الشرع دائماً متعلقة بالرجولية
فيؤخذ منه النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين
* هل النهي للتحريم أو الكراهة ؟
قيل : للتحريم فلو صام قبل رمضان بيوم أو يومين كان عاصياً وصومه مردود عليه
وقيل : للكراهة ، فلو صام لا يأثم وصومه مقبول ، لكن في القلب شيء من قولنا ( مقبول ) ولو كان النهي للكراهة ، لأنه إذا كان للكراهة لم يُعدّ طاعة ، وكيف يكون مقبولاً وليس بطاعة؟(4/149)
وكيف يمكن أن نقول إنه مقبول والنبي ( يقول ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ّ )
فنحن نجزم بأن صومه مردود عليه لكن هل يأثم أو لا ؟ ينبني على التحريم أو الكراهة
فوائد الحديث :
جواز الصوم بعد النصف من شعبان وقد ورد فيه نهيٌ وهو قوله ( ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ) ، لكن لم يقل أحد بأن النهي للتحريم في هذا الحديث ، لكن من صححه قال : إن النهي للكراهة ، ومن لم يصححه لم يعتبره شيئاً ، وهذا إذا لم يكن يصوم شعبان كله فإن كان يصوم شعبان كله فلا بأس ولو كان يصوم بعد منتصف الشهر
حماية حدود الشريعة ، لأن النهي عن الصوم قبل رمضان بيوم أو يومين لئلا يتجرأ أحدٌ فيقول : سأصوم احتياطاً ! فإن هذا من تعدي الحدود ، فكيف تحتاط في أمرٍ حدده الله عز وجل بقوله ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(البقرة: من الآية185)
فيه دليل على القول الراجح في صوم يوم الغيم ليلة الثلاثين من شعبان فإن العلماء مختلفون في هذا ، وسيأتي بيانه
إذا وُجد سببٌ ظاهر ينفي ما قصد الشرع فإنه يزول النهي لقوله ( يصوم صوماً ) لأنه إذا كان يصوم صوماً زال احتمال أن يكون صام على سبيل الاحتياط ، ونظيره من بعض الوجوه النهي عن الصلاة وقت النهي فإذا كان لها سبب زال النهي لأنه يزول المحذور الذي نهى الشارع عن الصلاة من أجله في هذه الأوقات
من كان من عادته أن يصوم شيئاً فلا ينهى عن الصيام المتقدم كأن يكون من عادته صيام الإثنين والخميس أو صوم ثلاثة أيام من كل شهر، أو ينذر صوماً عند قدوم فلان فيصادف قدومه آخر شعبان ، أو يكون قضاء من رمضان الماضي ، أو يكون من عادته صيام يوم وإفطار يوم ...( ( 1 ) وهذا بإجماع العلماء 1 )
2- عن عمار بن ياسر ( قال : من صام اليوم الذي يًشكّ فيه فقد عصى أبا القاسم (
رواه البخاري تعليقا ووصله الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان(4/150)
هذا من قول عمار( ، وهو من باب الرأي لأنه استنبطه من قوله ( ( فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ) يعني : ولا تصوموا
فهو ليس من باب المرفوع حكماً لأن قول الصحابي المرفوع حكماً هو الذي ليس للرأي فيه مجال .
( يُشك ) يعني يشك هل هو من رمضان أو غيره ؟ وذلك : بالحيلولة بين القمر والبصر إما : بسحاب أو قتر أو دخان كثيف ، وهو يكون ليلة الثلاثين من شعبان
( أبا القاسم ) كنيةٌ يعرف بها النبي (
( تعليقاً ) المعلق ما حُذف جميع إسناده أو أول إسناده
* نظير هذا الحديث قول أبي هريرة ( في الذي خرج من المسجد بعد الأذان ( أما هذا فقد عصى أبا القاسم ( ) فهذا قاله تفقهاً من عنده ، ووجهه أن النبي ( فرض صلاة الجماعة وإذا فرضها كانت مخالفته معصية . ولكن هل قال أبو هريرة ( ذلك لأنه خرج بعد الأذان أو لأنه خرج عن صلاة الجماعة ؟ الظاهر الثاني ولهذا نقول : لو خرج ليصلي في مسجد آخر فإنه لا يكون عاصيا للنبي (
قال بعض العلماء : مثل هذا له حكم الرفع لكن في هذا نظراً ما دامت المسألة من باب الفقه الذي يدخله الاجتهاد فهو من قول الصحابي
فوائد الحديث :
صيام اليوم الذي يُشك فيه معصية
جواز الإخبار عن النبي ( بأبي القاسم ، وسبب التعبير بذلك دون الاسم لأن عادة العرب جرت على أن الكناية تعتبر من باب التعظيم ولهذا قال الشاعر:
أُكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقبُ
لو قال قائل : إذا قال أحد ( أبا القاسم ) فقد يشتبه بغيره ؟
نقول : لا يشتبه لأن هذه الكنية في عهد الصحابة لا يكنى بها إلا النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا نهى النبي ( أن يتكنى احد بكنيته لئلا يلتبس عليه الأمر ، ولئلا ينُادى المكنى بأبي القاسم والنبي ( يسمع فيظنه يعنيه
هل يلزم من معصية النبي ( الإثم ؟
هذا هو الأصل وقد يراد بها المخالفة حتى في الأمور المكروهة ولهذا اختلف العلماء في حكم صوم يوم الشكّ وقبله نذكر المراد به(4/151)
فقيل : يوم الشك هو الذي تكون ليلته صحواً ولا يُرى فيه الهلال( ( 1 ) وهذا القول من مفردات مذهب الإمام أحمد رحمه الله 1 )
وقيل : هو الذي تكون ليلته مغيمة ( فيها غيم أو دخان أو جبال لا يُرى الهلال بسببها)( ( 1) وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة 1 )
والأقرب هو الثاني ، لأنه إذا كانت السماء صحواً ليلة الثلاثين فهذا ليس بشك ، فما دمنا تطلبناه ولم نره أًبح غير موجود وحينئذ لا شكّ
أما حكم صوم يوم الشك ففيه خلاف
قيل : محرم
وقيل : مستحب
وقيل : مكروه
وقيل : مباح
وقيل : الناس تبع للإمام ، إن صام صاموا وإلا فلا
وقيل : يعمل بالعادة الغالبة فلا تتوالى ثلاثة أشهر كلها ناقصة ، أو كلها تامة ، بل إذا كان شهران تامان فالثالث ناقص وهكذا ، هذا الغالب وقد تختلف الحال أحياناً
ـــ عند الاختلاف يُرجع إلى الكتاب والسنة وقد قال تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(البقرة: من الآية185)هذه جملة إيجابية شرطية تدل على وجوب الصوم إذا شوهد الهلال
مفهومه : إذا لم يُشاهد فلا يجب .
فعليه انتفى القول بالوجوب بدلالة القرآن
وينتفي الوجوب أيضاً بدلالة السنة في قوله ( ( إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا )
أما الاستحباب فإنه يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه
أما الإباحة فحقيقة القائل بهذا القول أنه تعارضت عنده الأدلة كالوجوب وعدمه فسلط طريق السلامة وأباحه
الكراهة لأن النبي ( علق الصوم بالرؤية وكذلك الآية
أصح الأقوال (( التحريم )) لأنه معصية للنبي ( لقوله ( فإن غم عليكم أكملوا عدة شعبان ثلاثين ) ، ويرجح هذا الوجوب حديث عمار( ، ويستثنى من هذا ما سبق وهو قوله ( ( إلا رجل كان يصوم .... )
3- عن ابن عمر( قال : سمعت رسول الله ( يقول : إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له . متفق عليه
ولمسلم ( فإن أُغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين )
وللبخاري ( فأكملوا العدة ثلاثين )(4/152)
وله في حديث أبي هريرة ( فأكملوا عدة شعبان ثلاثين )
( رأيتموه ) الضمير هنا لا مرجع له سابق ، فيبين ذلك ما بعده وهو ( الهلال ) ، فالأول هلال رمضان والثاني هلال شوّال
( غُمّ ) وفي لفظ ( غُبّي ) والمراد : سُتر بأي شيء كسحاب أو قتر أو جبال
( اقدروا له ) اخُتلف في معناها
قيل : القدر هو التقدير أي : فارجعوا إلى الحساب وذهب إليه كثير من المتأخرين كالذي لا يجد الماء فيرجع إلى التراب
وقيل : ضيقوا عليه والتضييق من الخلف أي تجعل شعبان تسعة وعشرين يوماً والدليل قوله تعالى ( ومن قُدر عليه رزقه ) أي ضُيّق
وقيل : أي أكملوا العدة ثلاثين ، وهو أصحها لأن كلام النبي ( لا يفسره أحد أعلم ممن تكلم به ولفظ البخاري أعم وهو قوله ( ( أكملوا العدة ثلاثين ) لأنه يشمل هلال الصوم وهلال الفطر
فوائد الحديث :
لا يجب الصوم مع الشك لقوله ( إذا رأيتموه ) ، وهل المراد أن يراه جميع الناس أو من يثبت به دخول الشهر ؟ الثاني ، ولم يقل بالأول أحد
مفهوم الحديث ( إذا لم يُر فلا صيام )
لكن لو ثبت في بلد ما ورئي يقينا ، هل يلزم الآخرين الصوم أم لا ؟
قيل : إذا ثبتت الرؤية في بلد إسلامي وجب الصوم على جميع المسلمين في أقطار الأرض سواء اختلفت المطالع أو اتفقت وسواء قربت الأماكن أو بعدت ، وهذا هو المذهب( ( 1 ) وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أيضاً 1 ) وهو ما ينحى إليه كثير من المعاصرين بحجة أن هذا أولى لاجتماع كلمة المسلمين وأنه لا ينبغي أن تكون هناك جهة تأكل وأخرى تصوم واحتجوا بحديث ( الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس ) وهذا له وجهة نظر من حيث جمع الكلمة وهذا لا شكّ أنه صواب لو كان الخليفة واحداً لجميع بلاد المسلمين ، لكنّ الآن الكلمة متفرقة والسلطان يختلف ، فلو كان واحداً لقلنا بهذا سواءً اختلفت المطالع أو اتفقت
وعلى هذا القول فبأي بلد نعتبر ؟
المذهب يقول : أي بلد سواء كان في أقصى الشرق أو الغرب(4/153)
وذهب بعض المعاصرين إلى أن المعتبر مكة لأن جميع المسلمين يؤمونها في صلاتهم ولأن الله سماها ( أم القرى ) والأم المرجع
وقيل : إن اتفقت مطالع القمر وجب الصوم على كل قوم اتفقت مطالعهم( ( 2 ) وهو قول الشافعي وجماعه من السلف 2 )
سواء كانت الولاية واحدة أو أكثر لقوله تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) فمفهوم هذه الآية : من لم يشهد فلا صيام عليه
ودليل السنة قوله ( ( إذا رأيتموه ) وإذا اختلفت المطالع فلا يمكن أن يروه
ودليل الواقع : هو أمر مشاهد معلوم
ودليل القياس : إذا كان الناس يتمشون في الصوم والإفطار كل إنسان على حسب ما تقتضيه الحال في الصوم اليومي فكذلك في الصوم الشهري
مثال : أهل الشرق يمسكون في الصيام قبلنا وأهل المغرب بعدنا ، وهذا بالاتفاق حتى الفقهاء السابقون يقولون بهذا ولهذا قالوا ( لو مات رجلان عند غروب الشمس بالضبط أحدهما بالمشرق والثاني بالمغرب – وهما متوارثان فيما بينهما- فمن الذي يرث أخاه ؟
الذي في المشرق لأن غروب الشمس في المغرب بعد غروبها في المغرب وهذا قول قوي جدا جدا وهو اختيار شيخ لإسلام وهو ما تطمئن إليه النفس
قال شيخ الإسلام ( اختلاف المطالع ثابت باتفاق أهل المعرفة )
وقال ( فإن اتفقت المطالع وجب الصوم وإلا فلا )
وقيل : الناس تبع للإمام ، والصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطروا ولهذا كل من له ولاية على أرض فإنه يجب على كل من تحت ولايته أن يكون صومهم واحداً وفطرهم واحداً وهذا هو الذي عليه العمل اليوم
ولهذا – مع الأسف الشديد – إذا زانت العلاقة بيننا وبين جيراننا اتفقت المطالع وإن ساءت اختلفت المطالع ، وهذا القول أقرب الأقوال عملياً ، أما الأقرب نظرياً فلا شك أن قول شيخ الإسلام رحمه الله هو الصواب
لا يجوز الفطر مع الشك في رؤية الهلال لقوله ( إّذا رأيتموه فأفطروا ) ومفهومه : إذا لم تروه فلا تفطروا(4/154)
أن هذا الدين يسر في كل شيء ولهذا قال ( اقدروا ) لأنه مع الشك سيكون الإنسان قلقاً هل أصوم أم لا أصوم ؟
إذا أشكل علينا نرجع إلى الحساب على رأي من يرى تقدير الحساب لكن الحديث لا يدل عليه
لو ثبت دخول الشهر في أثناء اليوم فهل يجب علينا الإمساك ؟ نعم لقوله ( إذا رأيتموه فصوموا ) لكن هل يجب القضاء ؟
أكثر العلماء على وجوبه
وقال شيخ الإسلام : لا يجب القضاء ، لأنه ( علق الوجوب بالرؤية وهذا اليوم لم تثبت رؤيته إلا أثناء اليوم ولما ثبتت فعلوا ما أُمروا به فأمسكوا ، والإنسان إذا فعل ما أُمر به لم يكلف العيادة مرتين ، ومعلوم أن المحظورات تسقط بالجهل لقوله تعالى ( لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) ، وعدي بن حاتم ( عندما سمع قوله تعالى ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) جعل تحت وسادته حبلين ( عقالين ) فإذا ميّز أمسك ولم يأمره النبي ( بالقضاء ، وأيضا الصحابة رضي الله عنهم أفطروا في يوم غيم ثم طلعت الشمس ولم يأمرهم ( بالقضاء
والمذهب : أنه يجب القضاء
* لو قال قائل : ألستم تقولن : لو طهرت الحائض أثناء النهار لزمها الإمساك والقضاء؟
نقول : الصحيح لا يلزمها الإمساك لأن هذه المرأة قد أُبيح لها الأكل في هذا النهار فليس له حرمة في حقها وقد روي عن ابن مسعود أنه قال ( من أكل أول النهار فليأكل آخره )
لو قدم المسافر مُفطراً إلى بلده في النهار ؟
المذهب : يلزمه الإمساك والقضاء
الصحيح : أنه لا يلزمه الإمساك
مسألة يُلغز بها
رجلٌ بالغٌ عاقلٌ جامع زوجته في نهار رمضان وسط بلده وجاز له ذلك ؟
الجواب : هو الرجل الذي يقدم من السفر ويكون قد أفطر في سفره وتكون امرأته قد طهرت من حيض في أثناء النهار .
يجب الصوم إما برؤية الهلال أو بالشهادة على الرؤية والإخبار بها أو بإكمال شعبان(4/155)
4- عن ابن عمر ( قال : تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي ( أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه . رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان
( تراءى ) طلبوا رؤيته
( الهلال ) هلال رمضان
( رأيته ) رؤية بصرية
فوائد الحديث :
مشروعية تراءي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان وهذه المشروعية أخذناها من إقرار النبي ( للصحابة على ذلك
من رآه فليخبر من له أمر ، وهل الإخبار واجب أو مستحب أومباح ؟ واجب لأن صيام رمضان وقته مضيق وأهل العلم ذكروا أنه يجب إعلام الإنسان بدخول الوقت إذا كان نائما وخيف فوات الوقت
وجوب الصوم برؤية الواحد ولكن يشترط أن يكون موثوقاً بخبره بأن نعلم عدالته وقوة بصره ، أما العدالة فمن قوله تعالى ( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا )(الحجرات: من الآية6) ، وقوة البصر لأن ضعيف البصر لا يوثق بخبره ، ويمكن أن يؤخذ هذا من قوله تعالى ( القوي الأمين )
هل يُصام برؤية امرأة ؟ أو يقال المرأة نصف الرجل ؟
نعم يصام برؤية المرأة لأن رؤية الهلال من الأخبار الدينية والأخبار الدينية لا يُشترط فيها التعدد لا في الذكور ولا في الإناث( ( 1 ) اختلف العلماء بنصاب البينة بدخول شهر رمضان
فقيل : هو كغيره من الشهور لا بدّ فيه من شاهدين عدلين
وقيل : لا يُقبل إلا بشاهدين فإذا كان هناك غيم أو ما يحجب الرؤية فتُقبل شهادة الواحد
وقيل : يُقبل شاهد واحد مُطلقاً وهو الراجح الذي دلّ عليه الحديث 1 )
فلو أذن مؤذن واحد فيجوز الإفطار إذا علمتَ ثقته وأنه لا يؤذن إلا بعد غروب الشمس أما إذا كان يستعمل التقويم ففي الأخذ به نظر لما يلي :
قد يكون في التقويم خطأ
قد تكون ساعة المؤذن متقدة
4- الصحابة عدول ثقات مقبول خبرهم(4/156)
5 – عن ابن عباس ( أن أعرابياً جاء إلى النبي ( فقال : إني رأيت الهلال ، فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال : نعم ، قال : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم قال ( فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً ) رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان ورجّح النسائي إرساله
( رأيت الهلال ) أي بالعين
( أعرابي ) ساكن البادية
( أتشهد ) أتقر باللسان ، معترفا به في قلبك أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
( أذّن ) أعلم ، وهذا يدل على أن الرجل أتى ليلاً
فوائد الحديث :
عدالة الصحابة وإن جُهلت حالهم لأنه ( لم يسأل عن حاله
قبول شهادة الأعرابي ، وأما من ردّ شهادتهم بحجة أن ( الأعراب أشد كفراً ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ) فهذا غلط ، لأن المدار ليس على الأعرابي والقروي بل المدار على العدالة وهي وصف تكون في هذا وهذا
إذا جهلنا حال الرجل فإننا نختبره لأنه ( اختبر الأعرابي ،، ولا نختبره بقول : كيف رأيته ؟! إذا كان ثقة ، وبعضهم يتعنت ويقول : كيف رأيته ؟ فحم أو دقيق؟! يماني أم سماوي؟! ... هذه لو قيلت له ربما يرتبك
الخبر بمعنى الشهادة لأن حديث ابن عمر ( السابق يقول ( أخبرت .... ) وهذا الأعرابي قال ( رأيت الهلال ) واعتبرها النبي ( شهادة ، لكن هذه المسألة فيها خلاف وهي ( هل الخبر شهادة أم لا ؟ ) الفقهاء رحمهم الله يفرقون ويقولون : الخبر ليس بشهادة لكن لما كان هلال رمضان بمنزلة الأخبار الدينية قبلنا فيه الخبر وإن لم يكن بلفظ الشهادة ، فلا يُحتاج إلى قول ( أتشهد أنك رأيته ؟ ) لمن رآه ، لكن في غيره من الشهور لا بدّ أن يشهد و يقول ( أشهد أني رأيته )
والصواب : أن الشهادة والخبر بمعنى واحد ولا فرق ، ولهذا قيل لإمام أحمد : إن فلاناًُ يقول : أُخبر بأن العشرة في الجنة ولكني لا أشهد بذلك ، فقال رحمه الله : إذا أخبر فقد شهد وصدق – رحمه الله – فإن الشهادة خبر في الواقع عما رأى وسمع(4/157)
الجواب بـ ( نعم ) مقبول يثبت به مدلول السؤال ، فلو قيل لرجل ( هل طلقت امرأتك ؟)
فقال ( نعم ) تطلق
ولو قيل له بعد عقد النكاح ( أتقبل بها ) فقال ( نعم ) انعقد النكاح
لو قيل له ( ألست طبقت امرأتك ؟ ) فقال ( نعم ) لا تطلق لأن المنفي يُجاب عنه بـ (نعم) ، لكن قال العلماء : لو كان المجيب عامياً لا يفرق فإنها تطلق
على أن ( نعم ) وردت في اللغة إجابة للإثبات ، قال الشاعر
أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك لنا تداني
نعم وترى الهلال كما أراه ويعلوها النهار كما علاني
ينبغي إعلان دخول الشهر لقوله ( فأذن .. )
ينبغي أن يُعلن بأقوى وسيلة والآن ( الإذاعة والتلفزيون ) هما الوسيلة( ( 1 ) مسألة ( من رأى الهلال وحده )
قال شيخ الإسلام : من رأى وحده هلال رمضان فلا يلزمه الصوم ولا جميع أحكام الشهر وإنما يصوم مع الناس ويفطر مع الناس وهذا أظهر الأقوال وأصل المسألة أن الله علق أحكاما شرعية بمسمى الهلال والشهر فلو طلع الهلال في السماء ولم يعرفه الناس لم يكن هلالا فلا يسمى هلالا إلا بالظهور والاشتهار كما دلّ عليه الكتاب والسنة
وأما المشهور من مذهب الإمام أحمد والأئمة الثلاثة فإن من رأى الهلال وحده فإنه يلزمه الصوم وجميع أحكام الشهر متعلقة به لعلمه أن هذا اليوم من رمضان 1 )
6- عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي ( قال ( من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) رواه الخمسة ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه وصححه مرفوعاً ابن خزيمة وابن حبان
وللدارقطني ( لا صيام لمن لم يفرضه من الليل )
( يبيت ) ( قبل الفجر ) فيجب أن نحمل قوله ( يبيت ) على معنى ينوي ، وأنه ليس بشرط أن يبيت الإنسان على هذه النية ، ويؤيده الرواية الأخرى(4/158)
7- عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي النبي ( ذات يوم فقال ( هل عندكم شيء؟ ) قلنا : لا ، قال ( فإني إذاً صائم ) ثمّ أتانا يوماً آخر فقلت ( أُهدي لنا حيسٌ ) فقال ( أرينيه فلقد أصبحت صائماً فأكل ) رواه مسلم
الإتيان بهذا الحديث بعد حديث حفصة مهم جداً ، ولنبدأ بفوائد حديث حفصة
( ذات ) لها عدة استعمالات ، إن أضيفت إلى الزمان صارت لتوكيد التنكير ، فـ ( ذات يوم ) أي
يوم من الأيام ، وليست بمعنى ( صاحبة يوم ) لأنه لا يستقيم
( إني إذاً ) أي في هذا الوقت لأن ( إذاً ) للحاضر و ( إذ ) للماضي و ( إذا ) للمستقبل
( حيس ) التمر الذي يخلط مع الإقط والسمن وبعضهم يخلط الدقيق بدل الإقط ، وهو طعام مرغوب
فوائد حديث حفصة رضي الله عنها :
لا بد أن تتقدم نية الصوم على طلوع الفجر ، والعلة أن الصيام ا لشرعي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فمن لم ينو قبل طلوع الفجر فما صام يوماً ، ولكن حديث عائشة يدلّ على أن النفل فيه سعة
الجزم بالنية قبل الفجر فيمن علم أن اليوم من رمضان وأما من لم يعلم فكيف يبيت النية؟ سيأتي
النفل المقيد كالفرض
مثال : إنسان يريد صوم الست من شوال ، فلا بدّ أن ينويها قبل الفجر ولا يصح أن ينويها أثناء النهار
4- لو شكّ ( هل رمضان من الغد أم لا ؟ ) فمعلوم أن الشاك لا يفرض النية وهو لا يدري
فهل له قول ( إن كان غداً من رمضان فأن سأصوم فرضاً ) أو لا يجوز ؟
المذهب : لا يجوز لأن النية لا بدّ فيها من الجزم
واختار شيخ الإسلام رحمه الله أن ذلك جائز ، والإنسان يحتاج إلى هذه النية المعلقة
فيما إذا نام ليلة الثلاثين من شعبان قبل أن يتبين الأمر هل هو رمضان أم لا ؟
لو أصبح هذا النائم والوقت رمضان فما العمل ؟
المذهب : يمسك ويقضي
واختار شيخ الإسلام أنه لا يلزمه القضاء لأنه أضمر في نفسه أنه إن كان رمضان صام
فرضاً وهذا غاية ما يقدر عليه والله يقول ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها )(4/159)
ولنا دليل على جواز التعليق في العبادات وهو حديث ضباعة بنت الزبير فقد أخبرت
النبي ( أنها تريد الحج وهي شاكية فقال ( حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني
فإن لك على ربك ما استثنيت )
وقد يُقال : لا دلالة في الحديث لأن حديثها شرط في التكميل والذي يضمر النية شرط
في الابتداء والبناء
فنقول : نعم ، هذا فرق صحيح ولكن هل هو فرق مؤثر مع قول النبي ( فإن لك على ربك ما استثنيت ) ؟ نأخذ بالتعليل
فكلام شيخ الإسلام رحمه الله هو الأرجح عندي أنه إذا نام الإنسان قبل أن يثبت دخول
الشهر فلينو أنه إن كان غداً من رمضان فهو صائم فرضاً فإذا تبين بعد استيقاظه أنه
ثبت فليبن على نيته
5- هل يُشترط في رمضان لكل يوم نية أم لا ؟
قيل : لا بد لكل يوم من نية والعلة أن كل يوم كالعبادة المنفردة فلا يفسد صوم يوم
بفساد صوم يوم آخر ، وبأنه من الجائز أن يكون هناك سبب للفطر في اليوم الثاني
من سفر أو مرض أو غيره( ( 1 ) وهو قول الجمهور 1 )
وقيل : إن رمضان تكفي فيه نية واحدة لأن رمضان عبادة واحدة متتابعة لا تفريق
بينها ، ولو سألت أي إنسان ليلة اليوم الثاني : أتريد أن تصوم غدا؟ لقال : نعم
وهذا كافي ، وهذا القول هو الراجح أنه يكفي في رمضان نية واحدة( ( 2 ) وهو قول المالكية ، ومذهب الأحناف أن الصيام الثابت في الذمة كالقضاء والكفارات والنذر المطلق يشترط فيه تعيين النية ، وأما ما يتعلق بزمان بعينه كصوم رمضان أداء والنذر المعين زمانه والنفل المقيد فلا يشترط التعيين بل تكفي نية الصيام 2 ) من أوله إلا إذا
حصل إفطار لعذر كما لو سافر في أثناء الشهر فأفطر ثم استأنف الصيام فلا بد من
تجديد النية لأنه قطعها
فوائد حديث عائشة رضي الله عنها :
في الحديث إنشاء صوم ( إني إّذاً صائم ) وفيه إبطال صوم ( فأكل ) وكلها نفل
وفيه حال النبي ( المعيشية
اتقاء الإحراج ، فهو ( لم يقل ( أعطوني ) لكن سأل ( هل عندكم .. )(4/160)
كل صوم معين لا بد أن ينويه قبل الفجر سواء كان فريضة أو نفلا لكن تمتاز الفريضة بأنه إذا نواها أثناء النهار لا تجزيء
تصح النافلة من أثناء النهار ويدل عليه قوله ( إذاً صائم ) أي : من هذا الوقت وعموم قول ( ( إنما الأعمال بالنيات ) ، ولكن لا يحصل له ثواب اليوم الكامل لأن الراجح أنه يحصل على الثواب من حين نوى
وقيل : بل يحصل له أجر يوم كامل لأنه ما دام صحّ ان يُقال إنه صائم فالصوم الشرعي من طلوع الفجر
7- عن سهل بن سعد ( أن النبي ( قال ( لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر ) متفق عليه
( لا يزال ) من أفعال الاستمرار وأفعال الاستمرار هي ( زال – فتئ – برح – انفك )
هذه نفيها إثبات / وقد يُحذف النفي ويبقى الفعل مع حذف حرف النفي لكن الفعل يبقى للاستمرار
( ما ) مصدرية ، أي مدة تعجيلهم الفطر ( ظرفية ) ، وقال ( هذا لأن المبادرة بالفطر مبادرة إلى ما أحل الله له بعد منعه منه ، وفي إحلال الممنوع منة عظيمة من الله عز وجل ، والمبادِر إلى فضل الله ومنته محمود لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده
وفيها وجه آخر / وهو أن في ذلك مخالفة لليهود والنصارى فقد كانوا يؤخرون الفطر ومخالفتهم خير بلا شك
( ما عجلوا الفطر ) مشروط بالعلم بغروب الشمس أو الظن بغروبها .
العلم ظاهر ، وغلبة الظن دليله ما رواه البخاري عن أسماء رضي الله عنها ( أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي ( ثم طلعت الشمس ) ومعلوم أن إفطارهم ذلك اليوم ليس عن علم ويقين بدليل أن الشمس طلعت لكن عن غلبة الظن.
فوائد الحديث :
الحث على تعجيل الفطر بشرط علم أو ظن وهنا حالات :
يعلم أن الشمس لم تغرب ، فلا يجوز الإفطار
يغلب على ظنه أنها لم تغرب ، فلا يجوز الإفطار
يتردد هل غابت أم لا بدون ترجيح ، فلا يجوز الإفطار لأن الأصل بقاء النهار
يغلب على ظنه أنها غابت ، فيجوز الإفطار
يعلم أنها غابت ، فله الفطر
س – كيف نعلم أن الشمس غابت ؟(4/161)
إذا غاب قرصها وصار قرنها الأعلى لا يُرى فقد غابت حتى لو بقي الضوء في الجو
ونعلم الضوء فيما إذا كان الإنسان في طائرة في الجو وضوء الشمس يلوح فيها لكن قرص الشمس غاب عنا فهنا يفطر
تفاضل الأعمال ، فلو أخروا الفطر فُقد عنهم الخير بسبب تفاضل الأعمال
هل يفطر قبل أن يصلي المغرب أو بعدها ؟
الجواب : قبل الصلاة ، لأنه لو أخّر إلى ما بعد الصلاة كان مؤخراً للفطر
9- وللترمذي من حديث أبي هريرة ( عن النبي ( قال ( قال الله عز وجل : أحب عبادي إليّ أعجلهم فطراً )
( عبادي ) العبودية الخاصة ، والمراد الصائمون
وهذا الحديث يؤيد حديث سهل (
فوائد الحديث :
إثبات المحبة لله عز وجل
تفاضل محبة الله عز وجل للعباد لقوله ( أحب عبادي )
الحث على المبادرة بتعجيل الفطر
تفاضل الأعمال
10 – عن أنس ( قال قال رسول الله ( ( تسحروا فإن في السحور بركة ) متفق عليه
( تسحّروا ) كُلوا أكلة السحر ، والسحر آخر الليل ، وهذا أمر به
( السَّحور ) ويجوز بالضم أي الطعام ، وبالفتح اسمٌ لما يُتسحر به ، والأقرب الضم
( بركة ) البركة فيه من عدة أوجه
امتثال لأمر النبي ( وهذا أعظم البركة
فيه مخالفة لأهل الكتاب كما قال ( ( فصل ما بيننا وبين أهل الكتاب أكلة السحور ) ولا شكّ أن مخالفة الكفار – ولا سيما في العبادة – بركة
فيه تقوية على الصوم فالذي يتسحر أقوى من الذي لا يتسحر
يأكله الإنسان ليتقوى به على العبادة وهذا غير لذي قبله فذاك تحصل فيه القوة مباشرة أما هذا فالنية أنه فعله ليتقوى به على عبادة الله عز وجل
فيه اقتداء بالنبي ( ، وما أعظم الاقتداء به ( !
فوائد الحديث :
الأمر بالسحور ، وهل هو على سبيل الوجوب أو الاستحباب ؟ الثاني ، ما لم يخش الضرر بتركه فيكون للوجوب( ( 1 ) وصرفه عن الوجوب أيضا مواصلته ( وقد ذكر ابن المنذر إجماع العلماء على استحبابه 1 )(4/162)
القوم الذين يأكلون السحور أول الليل ثم ينامون ، لم يمتثلوا أمر النبي ( لأن السحور ما أُكل في السحر وهؤلاء ينامون قبل نصف الليل
حسن تعليم النبي (
11- وعن سليمان بن عامر الضبي ( عن النبي ( قال ( إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر ، فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور ) رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم
المؤلف - رحمه الله – لم يأت بالحديث الذي يدل على ماذا يتسحر به ؟ التمر أو الأرز أو .... ؟
فالجواب : أننا نتسحر بما يتيسر ، أو بما يعد سحوراً
لو تسحر إنسان بشراب ( عصير أو لبن ) هل هذا سحور ؟
الظاهر – والله أعلم – أن كل ما يحصل به الغذاء والتنشط على الصوم فهو داخل ، لكن لا شك أن الناس يفرقون بين الأكل والشرب
( إذا أفطر ) إذا غربت الشمس
( فليفطر ) اللام للأمر ، وسكنت لوقوعها بعد الفاء ، وكذلك تسكن بعد الواو وثم كما في قوله تعالى ( فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر ...) وقوله تعالى ( ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم .....) ، أما لام التعليل فهي مكسورة دائماً ، ويخطئ من يسكنها من الأئمة كما في قوله تعالى ( لِيكفروا بما أتيناهم ولِيتمتعوا ..... ) فيجب كسرها هنا
( لم يجد ) لانعدامه أو لانعدام ثمنه
ذكر النبي ( نوعان : التمر والماء ، لكنه هو نفسه ( يفطر أولا على رطب ، فإن لم يجد فعلى تمر ، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء ، فتكون ثلاثة أنواع وهذا هو الأفضل
الرطب لأنه لين فتهضمه المعدة بسرعة وينتشر في العروق بسرعة وفيه غذاء ومنفعة وإعادة الحرارة الطبيعية للبدن
ثم التمر وهو قاس بعض الشيء فيكون هضمه بطيئا بالنسبة للرطب
ثم الماء فإنه طهور يطهر المعدة فهو لها بمنزلة الغسيل وهذا مع كونه أمراً شرعيا فهو أمر طبي أيضاً
فوائد الحديث :
حكمة النبي ( في الإرشاد للإفطار بهذه الأشياء لنفعها للبدن(4/163)
الترتيب بين هذه الأشياء ( الرطب ــ التمر ــ الماء ) قال العلماء : إذا لم يجد الماء فالأفضل الحلوى لأنها أقرب شبهاً للتمر والماء ، فإن لم يجد فعلى أي طعام كان ، ولو وجد حلوى وماء فالماء أفضل لأنه منصوص عليه ، وإذا لم يكن معك شيء فانو أنه لو كان معك أكل لأكلته
12- عن أبي هريرة ( قال : نهى رسول الله ( عن الوصال ، فقال رجل من المسلمين : فإنك تواصل يا رسول الله ؟ فقال : وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال فقال : لو تأخر الهلال لزدتكم , كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا . متفق عليه
( الوصال ) هو أن يصل يوما بيوم في الصوم بدون إفطار ، يبقى 36 ساعة على القليل ( 24) ساعة لليوم الأول ، و ( 12) ساعة من اليوم الثاني
( نهى ) لما فيه من المشقة والتعنت والله يقول ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وكمال التعبد ليس بالمشقة بل باتباع السنة
( فقال رجل ) لا معترضاً ، لأن المسلم لا يعترض وهو ( من المسلمين ) لكن يردي أن يعرف الفرق بين كونه ( ينهى عن الشيء ويفعله
( أيكم مثلي ؟ ) أي : لا أحد مثلي ، والاستفهام للنفي
( يطعمني ) طعام ليس فيه غذاء للبدن لأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا ولم يكن خاصا به
وقال بعضهم : يأتيه طعام وشراب من الجنة وهذا أبعد لأنه بفطر ، وقال بعضهم المراد هو الإطعام والإسقاء المعنوي لا الجسمي ، وهو ما يحصل لقلب النبي (
من الاستغناء عن إذا البدن بغذاء القلب حيث إنه ( يشتغل بذكر الله عز وجل عن
الأكل والشرب وهذا هو الصواب والدليل عليه قول الشاعر
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
ومن الواقع : لو كان بين اثنين صداقة قوية، لوجدتهما يجلسان مع بعض ولا
يهتمان بالغذاء
( أبوا ) امتنعوا(4/164)
( أن ينتهوا ) أن يمتثلوا ، وهذا ليس استكباراً عن نهيه ( لكن ظناً منهم أن هذا من باب الرفق ولديهم همة يستطيعون بها الوصال
( الهلال ) أي : هلال شوال
( المنكل ) هل عقوبة أو حتى أحسوا بألم الوصال ؟
الظاهر الثاني ، والأول فيه احتمال قوي لكن يضعف الثاني أنه لو كان حراما
يستحق التنكيل ما أقرهم عليه رسول الله ( أبداً
وقد يُقال إنه يقرهم على هذا المحرم لمصلحة الانتهاء كما أقر المسيء في صلاته
على صلاته التي لا طمأنينة فيها حتى يتهيأ ويتأهب لقبول ما يُلقى عليه
فوائد الحديث :
النهي عن الوصال ، وهل هو للتحريم أو الكراهة ؟
فيه تفصيل : إن كان الوصال يؤدي إلى ضرر في البدن فهو محرم لقوله ( ( لا ضرر ولا ضرار )
وإن كان يشغل عن واجب – كإنسان يجب عليه أن يكون في صف الجهاد – فإذا واصل لم يتمكن فهو محرم لئلا يشتغل عن الواجب بمباح
إما إن كان تعبداً لله عز وجل بدون أن يترتب عليه ضرر أو ترك واجب فهو مكروه والدليل إقرارهم من النبي ( عليه( ( 1 ) وفي الوصال ثلاثة أقوال
قيل : يجوز وقاله ابن الزبير ولعض السلف كعبدالرحمن بن أبي ليلى وإبراهيم النخعي
وقيل : يحرم وهو قول الأئمة الثلاثة
ومذهب أحمد التفصيل وهو جوازه إلى السحر وكراهته لأكثر من ليلة وقال عنه ابن القيم : أنه أعدل الأقوال لحديث ( فليواصل إلى السحر ) 1 )
حسن خلق النبي ( وسعة صدره حيث قبل الإيراد على فعله
ينبغي للإنسان إذا خالف غيره أن يبين وجه المخالفة لئلا يُتهم
جواز ذكر المزايا التي يمن الله عز وجل بها على الإنسان بدون افتخار
المخالفة لغير قصد العصيان لا تعد معصية
إذا حنث الإنسان في يمينه إكراماً لضيفه فلا كفارة عليه
جواز التنكيل بما يقرر الحكم في نفس المخالف
جواز استعمال ( لو ) ، ولو لها استعمالات
إن قصد بها الندم على ما قضاه الله وقدّره فلا تجوز كما في حديث ( فإن لو تفتح عمل الشيطان )(4/165)
تكون لمجرد الخبر كقولك لصاحبك ( لو زرتني لأكرمتك ) ، فتجوز لأنه مجرد خبر ، ومنه هذا الحديث ( لو تأخر الهلال لزدتكم ) ومنه قوله ( ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ) وهذا خبر لا ندم
تكون في تمني الخير كقول الفقير ( لو أن لي مال فلان – غني يتصدق – لعملت به مثله ) فهذا يؤجر لأنه تمنٍ للخير ، ومثله إن تمنى الشر يأثم
التعزيرات – التأديب الذي يُقصد به الكف عن محرم ، وهو لا يتقيد بشيء معين
13- عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( ( من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجةً في أن يدع طعامه وشرابه ) رواه البخاري وأبو داود واللفظ له
( يدع ) يترك
( قول الزور ) من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، أي القول الذي هو زور ، والزور هو كل قول محرم وأصل مادة ( زور ) الانحراف ومنه قوله تعالى ( تزاور عن كهفهم )
( العمل به ) أي بالزور ، أي : كل عمل محرم
( الجهل ) السفه والعدوان على الغير ، وليس المراد ضد العلم لأنه لا وجه له في هذا السياق
( حاجة ) ليست الحاجة المفهومة في اللغة ، وهو أن يكون الإنسان مضطراً لهذا الشيء لكن المراد الإرادة ، ونفينا المعنى الأول مع أنه ظاهر الكلام لأنه لا يليق بالله عز وجل
يدلّ لهذا الحديث قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، فليس الحكمة منه الجوع والعطش فالله يقول ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم )
فوائد الحديث :
تأكد تحريم قول الزور على الصائم وأنه ينقص أجره بفعل الزور
نقصان ثواب الصائم بالجهل والسفه
إثبات الحكمة لله عز وجل في مشروعاته
حاجة الله في أن يدع هذه الأشياء ويتقيها
لو قيل : هذه محرمة في الصيام وغيره فما وجه اختصاصها بالصيام الجواب : تزداد إثماً إذا وقعت من الصائم
هل تفطرون الصائم إذا قال الزور أو عمل به أو جهل على الناس ؟
الجواب : فيه خلاف(4/166)
قيل : يفسد الصوم بفعل هذه الأشياء ، لأن هذه الأفعال نُهي عنها في الصوم
وقيل : لا يفسد بها الصوم ، والمقصود في الحديث التحذير وهذا هو الراجح
قال الإمام أحمد رحمه الله : لو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم
فهي تنقصه وتذهب حكمته ، وهناك قاعدة وهي أن ( من فعل محرماً في العبادة
ــــ إن كان محرماً من أجلها أفسدها ( كالأكل من الصائم فلو أكل بطل صومه )
ـــ وإن كان تحريمها عاما لم يفسدها ( كما في هذا الحديث لأن تحريمها عام )
14- عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي ( يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه . متفق عليه واللفظ لمسلم وزاد في رواية ( في رمضان )
المُقبَّل في الحديث هو عائشة رضي الله عنها
( يباشر ) دون الفرج ، ولكنه يملك نفسه (
فوائد الحديث :
جواز تقبيل الصائم امرأته ومباشرتها لأنه ( كان يفعله والأصل أن ما فعله النبي ( حلال لو قال قائل : هذا مختص به ( لقولها ( كان أملككم لإربه )
نقول : الأصل عدم الخصوصية لأن الله إذا أراد حكماً خاصاً به بينه كما في قوله تعالى ( خالصة لك من دون المؤمنين ) وقال ( لكيلا يكون على المؤمنين حرج ) مع أنه ( فعله
جواز المباشرة بالعضو التناسلي
الاحتراز عن ما يُظن فيه ما لا يراد لقولها ( أملككم لإربه ) فمن لا يملك نفسه لا يحل له فعل ذلك سداّ للذريعة ومن يملك إربه فله ذلك
نصّت على أنه في رمضان كما في الزيادة التي عند مسلم لئلا يُعتقد أنه في نفل إن شاء أمضاه وإن شاء قطعه
ما ذكره بعضهم من أنّ إنزال المني والمذي لا يفطر لأن من فعل مثل هذا فالغالب أن يخرج منه شيء لا سيما إذا كان شابا فهذا قول مردود ، لأن الشيء المحتمل إذا لم يتحقق فلا عبرة به ، وربما يشير قولها ( كان أملككم لإربه ) إلى أنه لا يباشر حتى يصل إلى حد الإنزال ..
فالصواب أن إنزال المني مفطر(4/167)
أما إنزال المذي فليس بمفطر لأن إنزال المني من الشهوة وقد قال تعالى في الحديث القدسي ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) وفي الحديث ( أيأتي أحدنا شهوته وله أجر .. )( ( 1 ) المباشرة أو التقبيل بدون إنزال مني ولا مذي لا تفسد الصوم بالإجماع
المباشرة أو التقبيل مع إنزال المني تفسد الصوم وحُكي الإجماع
المباشرة أو التقبيل مع إنزال المذي دون المني فيها خلاف والراجح أنها لا تفسده 1 )
استدل بعضهم بهذا الحديث على أنه يُسن أن يقبل ويباشر وهو صائم لكنه ضعيف جداً لأن المقصود هو بيان الجواز فقط وهل كان ( يفعل ذلك يتعبد به كتلاوة القرآن ؟!! لا
فالصواب إباحته بشرط أن لا يخشى على نفسه الإنزال وعدم امتلاك النفس
15- عن ابن عباس ( أن النبي ( احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم . رواه البخاري
( الحجامة ) استخراج الدم الفاسد من البدن بطريقة معينة معروفة
احتجم ( في رأسه ومعلوم أنه لا بد من إزالة الشعر في موضع الحجامة
( احتجم وهو صائم ) هذه الجملة أنكرها بعض علماء الحديث كالإمام أحمد رحمه الله وقالوا : هي وهم من راويها
16- عن شداد بن أوس ( أن النبي ( أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان فقال ( أفطر الحاجم والمحجوم ) رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه أحمد وابن خزيمة وابن حبان
( الحاجم والمحجوم ) هل ( أل ) هنا للعهد الذهني أو الذكري أو الجنس ؟
للذكري ممتنع ، لأنه لم يسبق لذلك ذكر
للعهد الحضوري ، أي هؤلاء الاثنان ، يحتمل
للجنس ، إثبات حكم عام لا الحكم على خذين الشخصين ، محتمل أيضاً
17- عن أنس بن مالك ( قال : أول ما كُرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم ، فمر به النبي ( فقال ( أفطر هذان ) ثم رخّص النبي ( بعد في الحجامة للصائم ، وكان أنس يحتجم وهو صائم . رواه الدارقطني وقواه
( هذان ) أي : جعفر وحاجمه
( بعد ) أي بعد هذا القول(4/168)
في هذه الأحاديث بيان حكم الحجامة : هل هي تفطر الصائم أم لا ؟ وإذا فطرت فهل تشمل الحاجم والمحجوم أو الحاجم فقط ؟
ــ لو صحّ حديث ابن عباس ( لكان فيه دليل على جواز الحجامة للصائم لكن ضعّف كثير من الحفاظ لفظة ( وهو صائم ) ، ولو فرض أنه صحيح فإن هذا من فعله ( وفعله لا يدل على العموم فيحتمل أنه احتجم وهو صائم ثم أفطر ، ويحتمل أنه صوم نفل والإنسان فيه مخير فيجوز له الفطر ، ويحتمل أنه كان قبل الحكم بإفطار الحاجم والمحجوم
وما دامت هذه الاحتمالات واردة فلا يستقيم أن نستدل به على جواز الحجامة للصائم
فوائد الأحاديث :
جواز الحجامة للمحرم ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : ولا بد في الحجامة من أن يحلق مكان القارورة . فيجوز أن يحلق شيئاً من رأسه إن احتاج إلى ذلك
أما الحجامة وجوازها ففيها خلاف
مذهب الإمام أحمد رحمه الله : أن الحجامة تفطر الصائم حاجماً كان أو محجوماً وقال الإمام أحمد رحمه الله : " أصح ما فيها حديث شداد بن أوس ( "
المحجوم : إفطاره ظاهر لأنه يُسحب منه الدم الذي به قوام البدن وهذا يؤدي إلى ضعف البدن ولا يستطيع المواصلة فكان من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه إذا احتجم يأكل ويشرب من أجل أن يسترد قوته
فـ " من احتاج للحجامة في الصوم الواجب قلنا له : احتجم وكل واشرب ولا شيء عليك "
و" من لم يحتج إليها قلنا له : لا تحتجم ويحرم عليك الاحتجام
وبهذا يُعلم أن كون الحجامة مفطرة من باب التيسير على الصائم لا التشديد عليه
الحاجم : كيف يكون مفطرا ؟
قيل : لأنه أعان المحجوم على إفطاره فصار مفطراً بالإثم لا بالفعل
وقيل : المسالة تعبدية ولا نعقل علتها
وقيل : وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله أن النبي ( يتكلم عن حاجم بآلة معروفة في ذلك الوقت وهي مصّ القارورة فسيمصها بقوة من أجل الإسراع في إفراغ الهواء ولا يأمن من أن يشفط شيئا من الدم(4/169)
. قال رحمه الله : وهذا لا ينضبط والعلة إذا كانت منتشرة لا يمكن انضباطها يُكتفى فيها بأدنى مظنة ، وعلى رأيه فالمسألة معللة
لو قال قائل : لو حجم بطريقة أخرى لا يمص فيها القارورة ؟
ــ على رأي من يرى أن المسألة تعبدية فإنه يفطر وهذا يشبه مذهب الظاهرية من بعض الوجوه ، الاقتصار على الظاهر بدون علة
ــ من رأى التعليل يقول : لا يفطر وهذا هو الصواب
ــ لو سقط إنسان على مُحَدّد ( أي شيء حاد ) فإنه لا يفطر ولو خرج منه دم كثير لأنه لم يتعمد إخراج الدم
ــ لو حكّ رأسه وكانت أظفاره قوية وانجرح الرأس وخرج دم يسير فإنه لا يفطر
ــ العامة يشددون في هذا الباب جداً
ــ لا بد أن يكون الدم الخارج الذي يفطر مؤثراً كتأثير الحجامة
ــ لو أُخذ منه دم لعلاج آخر . هذه المسألة وهي أخذ الدم من الإنسان جائزة بشرطين
الأول : أن ينتفع المريض
الثاني : ينتفي الضرر عن المتبرع
بخلاف الأعضاء ( كالكبد ) فإنه لا يجوز التبرع بها أبداً حتى بعد موت المتبرع لأنه جسمه أمانة عنده قال تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) وقال ( ولا تقتلوا أنفسكم) وقال ( ( كسر عظم الميت ككسره حيا ) ، ولهذا أصبح بعضهم بناء على فتوى من يقول بجواز التبرع بالأعضاء يقتل أولاده وهم صغار ويبيعون أكبادهم ، وبدأ السراق يسرقون الأولاد في بلاد الخارج ، لكن لو منع هذا وعوقب من يفعله لم يحصل
أما حكم المتبرع بالدم من حيث إفطاره وعدمه فإذا كان الدم كثيراً يؤثر عليه كما تؤثر الحجامة فإنه مفطر ، وحينئذ نقول : هل يجوز أن يتبرع ويفسد صومه ؟
إن كان صومه نفلاً فلا بأس لأن النفل يجوز أن يبطله الإنسان
وإن كان الصوم واجباًً فلا يجوز أن يتبرع به إلا إذا قرر الأطباء أنه إذا لم يُحقن في هذا المريض دم مات الآن فحينئذ يتبرع به لأن هذا إنقاذ نفس معصومة
ـــ الذي يُحقن به الدم وهو صائم ، هل يفطر أم لا ؟(4/170)
كنت أرى أنه يفطر ، وأقول إذا كان الطعام والشراب مفطراً فإنه يتحول إلى دم فالدم هو لبابة الطعام والشراب فهو يفطر مثلها
ثم بدا لي أنه لا يفطر لأنه وإن أعطى البدن قوة لكن لا يغنيه عن الطعام والشراب وليس من حقنا أن نلحق فرعاً بأصل لا يساويه
18- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ( اكتحل في رمضان وهو صائم. رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف وقال الترمذي : لا يصح في هذا الباب شيء
( اكتحل ) وضع الكحل في عينيه ، وأحسن الكحل الإثمد فإنه يصح ويقوي النظر ويجمل العين ويشدّ الأجفان
هل الإثمد الموجود الآن هو المذكور أو تقليد له ؟
قيل : يوجد الإثمد الأصلي
وقيل : لا يوجد لكن هذا يشبهه والمرجع الأطباء إن حكموا بالنفع
( في رمضان ) أي نهار رمضان والدليل قولها ( وهو صائم )
ما دام إسناد الحديث ضعيفا فما فائدة ذكره ؟
حتى إذا مرّ بك في أي كتاب تقول ( قال ابن حجر : إسناده ضعيف ) لأنه يوجد في كثير من كتب الفقه أحاديث ضعيفة وكثيرا ما يحتجون بغير الصحيح
ـــ لسنا بحاجة إلى هذا الحديث لأننا إذا تدبرنا النصوص وجدنا أن المفطرات لا يدخل فيها الكحل فهو ليس بأكل ولا شرب ولا جماع ولا حجامة وهذه هي المفطرات ، فمن زعم أن الكحل مفطر فعليه بالدليل ، ونحن لسنا مجبورين على ذكر هذا الدليل لأن الأصل معنا
إذاً الكحل لا يفطر الصائم سواء وجد الكحل في حلقه أم لم يجده لأن بعض الأكحال لها نفوذ قوي يصل طعم الكحل إلى الحلق ، فلا يفطر
وليس مناط الحكم أن يصل الطعم إلى الحلق بل مناط الحكم أن يصل المأكول إلى المعدة
قال بعض العلماء : إذا وجد طعم الكحل في حلقه أفطر ، لكنه ضعيف لعدم الدليل على أنه مفطر، ولأن العين ليست منفذا للطعام والشراب
لو قال قائل : ينتقض هذا عليكم بما لو تسعط في شيء فوصل إلى حلقه
نقول : السعوط من الأنف والأنف منفذ يوصل إلى المعدة بدليل أن المرضي يسعطون بالدواء ويصل إلى المعدة وينتفع به المريض بخلاف العين(4/171)
لو قال : إذا تسعط بشيء ووصل إلى حلقه ، هل تفطرونه ؟
إن كان مظنة أن يصل إلى المعدة فإننا نفطره به لأنه إذا وصل إلى الحلق ثم ازدجره نزل إلى المعدة ، وإذا لم يصل بل كان مجرد طعم كالحرارة فلا يفطر
ــ وعليه فدواء الربو الذي هو بخار غير مفطر لأنه لا يصل إلى المعدة وإنما هو شيء بارد يفتح مسام النفس
ــ لو وطيء إنسان على حنظل فوجد كعمها في حلقه ؟
( الحنظل ) حب مر جدا ، وهو نافذ – سبحان الله – نفوذا عظيما إذا وطأه الإنسان وانفضخ تحت قدمه أحس بطعمه في حلقه ، فهو لا يفطر حتى على المذهب الذين يفطرون بالكحل إذا وصل إلى الحلق لا يفطرونه ، والتعليل أن القدم ليست منفذاً للطعام والشراب
19- عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله ( ( من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ) متفق عليه . وللحاكم ( من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة ) وهو صحيح
( نسي ) النسيان يُطلق على معنيين :
الأول : الترك كقوله تعالى ( نسوا الله فنسيهم ) أي تركوه ولم يقوموا بأمره
الثاني : الذهول وهو المراد بهذا الحديث ومثل قوله تعالى ( لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) والمراد من هذا الحديث أي : ذهل ولم يكن على باله أنه صائم
( ليتم ) ليستمر وصومه لا نقص فيه
( أطعمه الله وسقاه ) أي : الذي أنساه الله عز وجل رأفة به حتى أكل وشرب
فوائد الحديث :
سعة رحم الله عز وجل وأنها سبقت غضبه
فعل الناسي لا ينسب إليه لأنه بغير اختياره لقوله ( أطعمه الله وسقاه )
الأكل والشرب من المفطرات بدليل أنه نفى حكمه عمن كان ناسيا فمن كان متعمداً يأكل ويشرب فالمفطرات إلى الآن ( الأكل – الشرب – الحجامة – الإنزال – الجماع )
لا فرق بين أن يأكل نافعاً أو ضاراً أو لا نافع ولاضار مثل ( الأزرار والورق ) ، وإذا أكل شيئاً لا يذوب في المعدة كالخرز فهذا يفطر أيضا
لو قال قائل : هذا لا تحصل به فائدة كالأكل والشرب(4/172)
الجواب : وما يدرينا ، النبي ( يعصب الحجر على بطنه من الجوع فينتفع بذلك
ـــ الإبرة التي تُغرز في الوريد أو اللحم أو الجلد لا تفطر لأنها ليست في معنى الأكل والشرب ، فأي إنسان يدعي في شيء أنه يفطر فعليه بالدليل
ـــ الإبر المغذية التي تُغرز ليتغذى بها المريض ، هل تلحق بالطعام والشراب بناء على أنها تغني عن الطعام والشراب ؟ أو لا تلحق ؟ فيه احتمال
يحتمل أن لا تلحق والفارق أن الطعام والشراب يحصل به لذة عن مضغه فيتمتع أما الإبر فإنك تجد المريض - وهو يتغذى بها مشتاقاً - إلى الأكل والشرب
ويحتمل أنها مفطرة لأنها تغني عن الأكل والشرب فيبقى عليها المريض أياماً أو أشهر وما كان بمعنى الشيء أُلحق به حكما كما تقتضيه الشريعة .
بقينا في مسألة التلذذ بالأكل والشرب فنقول : هذا لا أثر له بدليل أن الاستنشاق إذا وصل إلى المعدة يفطر مع أن الاستنشاق لا لذة فيه
إذن هذه الإبر الاحتياط أن نقول إنها مفطرة ، وفائدته أنه لا يستعملها المريض الصائم إذا جاز له الفطر ، فإذا احتاج إليها وقال الأطباء لا بد أن تحقن بها وكان صائما فحينئذ نقول : لا بأس يتناولها ويأكل ويشرب
الصائم لا يفطر بالأكل والشرب إذا كان ناسيا ويزول الحكم إذا ذكر ولو كانت في فمه و
تذكر فإنه يجب عليه لأن يمجها ولا يجوز له أن يبلعها لأن الحكم يدور مع علته
رواية الحاكم
هو كالأول إلا أن فيه فائدة وهي أن من جامع في رمضان ناسياً أنه صائم فلا كفارة عليه وهذا هو الصحيح ، إذ لا فرق بين الأكل والشرب والجماع إلا في تغليظ الجماع فقط وله شاهد في القرآن وهو قوله تعالى ( لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) وهذا عام في جميع العبادات فمن أخرج شيئاً فعليه الدليل
س- هل يُلحق الجاهلُ بالناسي ؟
نعم ، بل من باب أولى ، لأن الجاهل ليس عنده علم أصلا ، والناسي قد نسي شيئاً يعلمه والجهل نوعان(4/173)
جهل بالحكم ( كأن يفعل مفطراً ولا يعلم أنه يفطر ) ودليله قوله تعالى ( لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) و ( حديث عدي بن حاتم المتقدم ذكره )
جهل بالواقع ( كأن يظن أنه في ليل ويأكل ثم يتبين له أنه في نهار مع علمه أن هذا مفطر ، وهذا دليله حديث أسماء في البخاري ( أفطرنا في يوم غيم .... )
وقال بعض الفقهاء : يلزمه القضاء وهو ضعيف لا دليل عليه
ـــ إذا أكل شاكاً في طلوع الفجر جاز له ، ولكنه يحرم عليه إذا كان شاكاً في غروبها
ـــ إذا علم أن فعله محرم لكنه لم يعلم بما يترتب عليه فإنه لا يُعذر كمن جامع امرأته في رمضان عالماً بحرمة ذلك الفعل لكنه لم يعلم بالكفارة المغلظة فعليه الكفارة لأنه تعمد المخالفة والكفارة حكم وضعي لا تكليفي و ( الحكم الوضعي إذا وجد سببه ثبت ) والدليل حديث أبي هريرة ( الآتي وفيه ( هلكت ... )
ـــ لو كان يجامع امرأته ظانا أن الفجر لم يطلع وتبين له أن الفجر طلع ونزع فهل عليه قضاء وكفارة ؟
الصحيح : لا كفارة عليه
وقيل : عليه قضاء وكفارة لأنه يتلذذ بالنزع كما يتلذذ بالإدخال ، فصارت المسألة مشكلة إن واصل فعليه قضاء وكفارة ، وإن نزع فعليه قضاء وكفارة ، فماذا يعمل ؟
يجب أن ينزع ، وأما إيجاب القضاء والكفارة فضعيف .
وعبارة المذهب ( النزع جماع ) وهذا من تكليف ما لا يطاق لو قلنا به ، فنزعه تخلص من محظور كما يتخلص المغتصب من الأرض بالمشي عليها
ـــ الإفطار إذا أُكره عليه لا يفطر لقوله تعالى ( ولكن ما تعمدت قلوبكم ) وهذا مكره لم يتعمد ولقوله تعالى ( إلا من أُكره )
وإذا كان الكفر وهو أعظم الذنوب لا يثبت مع الإكراه فما دونه من باب أولى
وعليه لو أَكره رجلٌ امرأتَه على الجماع فلا شيء عليها
لكن لو أنها حين أكرهها طاوعت ولم تمكنه من نفسها لدفع الإكراه بل مطاوعة للإكراه
قيل : هي غير معذورة
وقيل : وهو الصحيح أنها معذورة ، وأن المكره إذا فعل الشيء دفعاً للإكراه أو مطاوعة له فهو سواء(4/174)
شروط فساد الصوم :
أن يكون ذاكرا ً ، وضده الناسي
أن يكون عالماً ، وضده الجاهل
أن يكون مريداً ، وضده المكره
20- عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء ) رواه الخمسة وأعله أحمد وقواه الدارقطني
هذا من المفطرات
( ذرعه ) غلبه
( القيء ) معروف ، وهو خروج الطعام من المعدة أو الشراب لسبب أحيانا ولغير سبب أحيانا
( استقاء ) طلب القيء لأن ( استفعل ) تدل على الطلب
فوائد الحديث :
المرء لا يؤاخذ بما يغلبه إلا فيما بينك وبين الناس فلا يعفى عنه ، فلو أُكرهت على إحراق مال إنسان فعليك الضمان ، ولو أُكرهت على ضرب إنسان فعليك الضمان ، ولو حملك إنسان بيده فضرب بك الآخر فمات فلا شيء عليك لأنك كالآلة تماماً ، فإن أُصيب المضروب به صار على الضارب ضمان الاثنين
رحمة الخالق عز وجل بالخلق لأن الإنسان إذا استقاء تفرغت المعدة وقوي الجوع والعطش وضعف البدن فمن رحمته أن نقول : إذا فعله عمداً فعليه القضاء ، وإن كان لحاجة فليأكل وليشرب بقية يومه ، وإن كان لغير حاجة فإن كان في رمضان وجب عليه الإمساك احتراماً للزمن ووجب عليه القضاء
لا بد أن يكون قيئاً لا قلساً والقلس ما كان ملء الفم فأقل
من استقاء بأي وسيلة فقاء وهو صائم فسد صومه ومن وسائل التقيؤ : إدخال الأًبع في الفم ــ يضع شيئاً مكروها ــ ينظر إلى شيء يتقزز منه ــ يشم رائحة كريهة ــ يتذكر شيئاً مكروهاً
من أفسد ما يجب عليه من الصوم وجب عليه قضاؤه سواء من رمضان أو كفارة كفدية الأذى
الخلاصة :
المفطرات هي ( الأكل والشرب والجماع ) وهذه بنص القرآن
و(ما أُلحق بالأكل ) ( الإنزال بالمباشرة )
ــ الإنزال بالتفكير بدون مباشرة لا يفسد صومه لقوله ( ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها مل تعمل أو تتكلم ) ،، أما إّذا حصل منه فعل كالتقبيل أو الضم أو التحريك للذكر فإن صومه يفسد
ومنها ( الحجامة ) ( القيء )(4/175)
ويبقى اثنان في النساء خاصة ( خروج دم الحيض ) و ( دم النفاس )
فمتى خرج أحدهما فسد صوم المرأة
ـــ لو أحست عند غروب الشمس أن حيضها تحرك لينزل لكنه لم ينزل إلا بعد الغروب فلا شيء عليها لأنه لم يخرج منها شيء والنبي ( قال في المرأة التي تحتلم عليها الغسل ( إّذا رأت الماء )
الصيام في السفر
الصيام في السفر ليس بواجب ولو كان السفر في قلب رمضان لقوله تعالى ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )(البقرة: من الآية184) ، ولا فرق بين أن يجد مشقة في الصوم أو لا يجد ، فمجرد السفر يجوز فيه الفطر
ـــ ما هو السفر الذي تثبت به الرخص ؟
لم يحدد النبي ( السفر بحدّ ، وأفطر دحية في سفر ثلاثة أميال
فلم يرد في الكتاب ولا في السنة تقدير المسافة لكنها قضايا أعيان صادف أن النبي ( سافرها
ــ نقيد السفر بما يسميه الناس سفراً لأنه أُطلق في الكتاب والسنة والذين حددوه بمسافة حددوه بالأميال والأصابع الفراسخ فهل يظن أحد أن النبي ( حدد بهذا ؟!!
قال شيخ الإسلام رحمه الله : لم يكن في عهد النبي ( من يقيس الأراضي
إذن .. بما أن الشارع أطلقه فإننا نرجع إلى العرف
لو قال قائل : الأعراف لا تنضبط فقد يرى أحدهم أن هذا سفراً والآخر لا يراه سفراً
نقول : هذا يحصل به اختلاف الناس ، فمنهم من يتم ومنهم من يقصر
نقول : كما يحصل الاختلاف في أكل لحم الإبل ومس الذكر وتحديد القبلة ، قال الناظم
وكلُّ ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف احدد
ـــ المدة التي تنقطع بها أحكام السفر
ذكر النووي رحمه الله أن الأقوال في هذه المسألة بلغت عشرين قولاًُ ، لعدم وجود دليل صريح يدل عليه
لا يوجد في الكتاب ولا في السنة أن من أقام مدة كذا وكذا انقطعت عنه أحكام السفر ، بل وجدنا أن القرآن فيه الإطلاق والسنة فيها اختلاف في المكان بدون تفريق(4/176)
ففي القرآن قوله تعالى ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (النساء:101)
فلم يقل إلا كذا وكذا ، فنأخذ بالعموم ، ما دمنا ضاربين في الأرض فإننا نقصر
كما في قوله تعالى(وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّه)(المزمل: من الآية20)
التاجر معلوم يبقى يوم أو يومين أو عشرة ...
السنة : أقام النبي ( في تبوك عشرين يوما يصلي ركعتين
وأقام في الفتح تسعة عشر يوماً أفطر وصلى ركعتان
وفي حجة الوداع عشرة أيام ، قيل لأنس كما في لبخاري ( كم أقمتم في حجة الوداع ؟
قال : عشرة أيام ) ، ووجهه أنه قدم في ليوم الرابع وخرج في اليوم الرابع عشر ولم
يأت عنه حرف واحد يقول فيه ( إذا نويتم الإقامة مدة كذا وكذا فأتموا )
لو قال قائل : المدة التي تنقطع بها أحكام السفر أربعة أيام والدليل قدومه ( في اليوم الرابع ومكث قبل الخروج إلى منى أربعة أيام يقصر الصلاة ؟
نقول له : هذا لأن يكون دليلاً عليكم أقوى من أن يكون دليلا لكم ، لأنه ( يعلم أن من الناس من يقدم مكة قبل اليوم الرابع ، ولم يقل ( من قدم قبل اليوم الرابع فليتم ) ولو كان هذا واجبا لوجب أن يبلغ لأمته إقامته أربعة أيام ، وهل خروجه إلى منى سفر أم وهو باق في مكة ؟!!
بل يجب بقاؤه حتى يطوف ويسعى ، ولهذا قال من هو أفقه منهم أنه مكث ( عشرة أيام) في مكة .
ـــ ذكرنا لهم دليل الفتح وتبوك فقالوا : ما نوى إقامة أكثر من أربعة أيام ، كل يوم يقول : سأمشي !!!
نقول : سبحان الله !!! يبقى في مقابل جيوش الروم ، ويُقال يمكن يرجع في يوم ، هناك انتظار لا بد على الأقل عشرة أيام ، ولهذا بقي عشرين يوماً(4/177)
وهل يُعقل أن النبي ( لم ينو إقامة أكثر من أربعة أيام في فتح مكة لأنها بلاد خُلصت حديثاً من الشرك ؟!
إذن ... ما دام الإنسان ضارباً في الأرض فهو مسافر
وهم يتناقضون فلا يعدونه إماما ولا مكملا للأربعين لأنه ليس بمستوطن
قال شيخ الإسلام رحمه الله : من قسم الناس إلى مقيم ومستوطن ومسافر فقد أخطأ )
إما مسافر أو مقيم ( إقامة مطلقة أو استيطان
21- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال ( أولئك العصاة أولئك العصاة ) وفي لفظ فقيل له : إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب رواه مسلم
( الفتح ) فتح مكة الأعظم من أجل قتال قريش وهو بعد صلح الحديبية بسنتين
( كراع الغميم ) طرف جبل في عسفان
وهم ظنوا أن النبي ( فعل ذلك رفقة بهم فاجتهدوا
فوائد الحديث :
جواز السفر في رمضان وفيه دليل من القرآن وهو قوله تعالى ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )(البقرة: من الآية184)
لو قال قائل : يلزم من السفر لفطر فيُسقَط بالسفر وجوب الصوم
الجواب : إذا قصد بسفره أن يفطر فالسفر حرام والفطر حرام حتى لو سافر
السفر لأنك أردت به إسقاط واجب ، والفطر لأن محارم الله لا تسقط بالتحيل عليها
ــ نظيره الرجل يأكل البصل لا يقرب الجماعة ، لكن لو نوى بأكله تركها حرم عليه
جواز الفطر في أثناء النهار للمسافر حتى لو شرع في الصوم
الصوم في السفر أفضل إذا لم يكن مشقة لأنه ( كان صائما ولم يفطر إلا حين ذُكرت له المشقة ، ويرجح هذا أمور
الصوم في السفر كان من فعله ( كما في حديث أبي الدرداء ( وما فينا صائم إلا رسول الله ( وعبدالله بن رواحة )(4/178)
هو أسهل على المكلف لأن الصوم مع الناس أسهل
ولأنه أسرع في إبراء الذمة
ولأنه يصادف شهر رمضان الذي هو وقت الصيام
قال بعض العلماء : صوم رمضان في السفر حرام ولا يجزيء
وهذا رأي الظاهرية ، وقالوا بيننا وبينكم كتاب الله يقول الله تعالى ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )(البقرة: من الآية184)
و ( عدة ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره ( ففرضه ) وهذا قول ضعيف بل باطل
وقيل : مكروه ، لكنه ضعيف فكيف يفعل النبي ( المكروه
وقيل : مباح وهو ضعيف أيضا
ـــ الصحيح : أنه سنة ما لم يشق كما تقدم
إذا شقّ وكانت المشقة شديدة حرم الصوم لقوله ( أولائك العصاة )
إن كانت المشقة دون ذلك كُر هالصوم لحديث ( ليس من البر الصوم في السفر )
النبي ( لا يعلم الغيب
حسن تعليم النبي ( وإبلاغه الشريعة
جواز الفطر ولو في آخر النهار ، فلا نقول له : اصبر لم يبق شيء بل حتى لو لم يشق عليه ، ولو لم يبق إلا ربع ساعة
جواز الإخبار بمخالفة بعض الناس ولا تعد نميمة
تأكيد الخبر ، والحديث فيه تأكيد لفظي
22- عن حوزة بن عمرو الأسلمي ( أنه قال : يا رسول الله : إني أجد قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح ؟ فقال رسول الله ( ( هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه ) رواه مسلم وأصله في المتفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها أن حمزة سأل
( قوة ) قدرة بلا ضعف
( جناح ) أي : إثم ولوم
( الرخصة ) هي لتسهيل ما كان شاقا أو ما كان مظنة المشقة كالجمع في المطر ، وهذا أوضح بكثير مما عرفه أهل أصول الفقه
فوائد الحديث :
حرص الصحابة رضي الله عنهم على تعلم العلم وعبادة الله عز وجل على بصيرة
الإشارة إلى إسقاط الصوم عن المسافر وذلك بقوله ( قوة ) نفهم أنه إنما أسقط الصوم عن المسافر من أجل الضعف والمشقة لا سيما ووسائل نقلهم في القديم صعبة جدا
منة الله عز وجل بالتسهيل(4/179)
ما شرع للرخصة جاز مخالفته إلى ما هو أشق ما لم يكن فيه نهي وهذا مما يرجح قول الجمهور بأن قصر الصلاة في السفر سنة لا واجب وقد صلى الصحابة وراء عثمان أربعاً
فيه الرد على الجبرية لقوله ( من أحب .... )
23 – عن ابن عباس ( قال : رُخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه . رواه الدارقطني والحاكم وصححاه
( للشيخ الكبير ) قيده بالكبير لأن المشيخة تطلق على مشيخة العلم والمال وإن لم يكن الإنسان كبيراً
( يفطر ) أي : في رمضان
( لا قضاء عليه ) لأن عذره مستمر لا يرجى زواله
فوائد الحديث :
الشيخ الكبير لا يلزمه الصوم وهذا مقيد بما إذا شق عليه
من كان عذره دائما فلا صوم عليه لكن عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينا
الأمراض التي يُعرف أنها لا تبرأ كالسرطان إذا عجز عن الصوم من كانت به فلا بد أن يطعم
يطعم عن كل يوم مسكينا فيطعم ثلاثين مسكيناً أو تسعة وعشرين مسكيناً حسب الشهر
لو اقتصر على واحد يكرر عليه الإطعام فلا يجزيء وهذا ظاهر فيما إذا وُجد مساكين لكن إذا لم يجد إلا مسكين واحد فإننا نقول : كرر الإطعام عليه
لم يُقدّر إطعام المساكين فكل ما سُمي إطعاما فهو كاف ، فلو جمع عشرة فقراء وعشّاهم في الليلة الحادية عشر من الشهر كفى عن العشرة الأولى ، وكان أنس ( حين كبر لا يستطيع الصوم فكان يجمع ثلاثين مسكيناً ويطعمهم خبزاً وإداما
لو أطعم ثلاثين مسكيناً أول رمضان فإنه لا يجزيء لأنه لم يثبت في ذمته شيء فيطعم
كل يوم ، أو كل ثلث شهر ، أو آخر الشهر(4/180)
24- عن أبي هريرة ( قال : جاء رجل( ( 1 ) هو سلمة بن صخر البياضي 1 ) إلى النبي ( فقال : هلكت يا رسول الله . قال : " وما أهلكك" ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، فقال : هل تجد ما تعتق رقبة ؟ قال : لا ، فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا ، قال : فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً ؟ قال : لا ، ثم جلس فأُتي النبي ( بعرق فيه تمر فقال : " تصدق بهذا " فقال : أعلى أفقر منا ، فما بين لا بتيها أهل بيت أحوج إليه منا ، فضحك النبي ( حتى بدت أنيابه ، ثم قال :" اذهب فأطعمه أهلك " رواه السبعة واللفظ لمسلم
( هلكت ) الهلاك بمعنى الضياع والفناء
( وقعت ) جامعت
( رقبة ) رقيق ، وعيّن الرقبة لأنه لا يعيش الإنسان بدونها بعكس اليد والرجل
والإعتاق تحرير الرقبة وتخليصها من الرق
والمراتب المذكورة هنا ( عتق ــ صيام ــ إطعام )
( عرق ) زمبيل فيه تمر
( تصدق بهذا ) عن كفارتك
( اللابة ) الأسنان التي تلي الرباعيات
فوائد الحديث :
قيل : بلغت فوائد هذا الحديث ألف فائدة ( والقائل ابن حجر رحمه الله )
صراحة الصحابة رضي الله عنهم
الرجل كان عالماً بأن الجماع حرام لقوله ( هلكت ) ، ولو قيل يحتمل بأنه علم بعد أن جامع ثم قال ( هلكت ) فالجواب : هذا خلاف الأصل وإلا لقال : سألت وبيّن أنه أُفتي
وجوب الاستفصال عن الأشياء المجملة
يجب على المفتي إذا وردت عليه الفتوى المجملة أن يستفصل ، لكن لا يلزم السؤال عن انتفاء المانع
الكناية عما يستحيى من ذكر صريحه بما يدل عليه
جواز الاقتصار على رمضان وأنه لا يجب أن يقول ( شهر رمضان ) لأن بعضهم قال : يكره أن يقول ( رمضان ) بل يقول ( شهر رمضان ) وبعضهم حرم ذلك واستدل بحديث موضوع وهو ( لا تقولوا رمضان فإنه من أسماء الله )
في الجماع في نهار رمضان الكفارة المغلظة عتق فصيام فإطعام ،، ونظيره في التغليظ المظاهر عتق فصيام فإطعام ستين مسكينا(4/181)
تعظيم الجماع في نهار رمضان لأن فيه هذه الكفارة المغلظة ، ولو أفطر بغيره كالأكل والشرب عمداً فقد ذهب بعض العلماء إلى أنه مثله لانتهاك حرمة الزمن ، لكنه قياس ضعيف لأن الجماع من أعظم المحظورات حتى لو وقع في الحج يفسده فلا كفارة إلا بالجماع فقط .
لو جامع المسافر فلا شيء عليه إلا القضاء ،،، لكن لا بدّ من إضافة قيد وهو أن يكون في رمضان وأن يكون الصوم واجباً عليه فبهذين الشرطين تجب الكفارة ،،، فلو جامع في قضاء رمضان فلا كفارة عليه ، ولو جامع في نهار رمضان لكنه لم يجب عليه الصوم كما لو كان مسافراً فأفطر ثم قدم فلا كفارة عليه
كفارة الجماع في نهار رمضان على الترتيب لقوله ( هل تجد ) ( هل تستطيع) بخلاف فدية الأذى فهي على التخيير
يجوز أن يجامع زوجته ليلاً قبل أن يكفر لأنه ( لم يقل : لا تقربها حتى تكفر بخلاف المُظاهِر فلا يجوز له الجماع حتى يكفر
لا بد من التتابع في صوم الشهرين ، فلو أفطر بينهما انقطع التتابع ووجب إعادته لكن لو أفطر لعذر ( كمرض ) يستمر على ما سبق ، ولو سافر سفرا مباحا فله الفطر ثم يبني على ما مضى لأن هذا الفطر جائز في رمضان فكيف بالكفارة لكن لو سافر للتمتع بالفطر انقطع
لو كرر الجماع في يومين فعليه لكل يوم كفارة وأخذ بعضهم عكس هذا أن الكفارة لا تتعدد بتعدد الأيام
الأول : لأن كل يوم عبادة مستقلة منفردة ولهذا لو أفسد صوم يوم لم يفسد الثاني فكل يوم مستقل ، ولو قلنا يكفر كفارة واحدة لكان فيه فتح لباب التلاعب ، فكل يوم يجامع ثم يطع آخر الشهر وسد الذرائع معتبر شرعاً
الثاني : هذا نظير أن يفعل الإنسان محظوراً في الحج يكرره مرتين قبل أن يكفر وهو من جنس واحد ، يلزمه فدية واحدة ، ونظير أن يحدث الإنسان أحداثاً متنوعة كبول وغائط وريح فيكفيه وضوء واحد
فيُقال : ليس ظاهر الحديث كما زعمتم لأن الرجل عرف أنه هالك فجاء يسأل فوراً ولو جامع قبل هذه المرة لسأل(4/182)
ــ لو كرر ذلك في يوم واحد إن كفر عن الأول يكفر عن الثاني ، وإن لم يكفر كفاه كفارة واحدة ، لأن ذمته تبرأ إن كفر أولاً
المعتبر صيام شهرين ولو كانا ناقصين فلو كان واحدا منهما ( 29) يوما أصبح مجموعهما (58 ) يوماً ، حتى لو بدأ أثناء الشهر فالمعتبر شهرين هلاليين لا عدد الأيام
لا بد في الإطعام أن يكون على ستين مسكينا فلو أطعم عشرة طعام ستين مسكينا لا يجزئه
لا يشترط في إطعام المساكين التمليك ، فلو أطعم ستين مسكينا على غداء أو عشاء كان ذلك مجزئا ، لو وجد ستة مساكين فقط فإنه يكرر على هؤلاء الستة فيطعمهم عشرة أيام
إذا عجز عن إطعام الستين سقطت الكفارة
تقديم الإمام الأحوج فالأحوج في العطاء
الكفارة تدخل في اسم الصدقة لقوله ( تصدق بهذا )
جواز الإخبار بما يغلب على الظن وإن كان الواقع خلافه ( لقوله ما بين لابتيها) وأقره ( على هذا
جواز إقسام الإنسان بما يغلب على ظنه ولا إثم عليه إن كان على ماض ولا حنث عليه إن كان في المستقبل
سهولة الدين الإسلامي وأنه دين رحمة
جواز الضحك لأنه ( كان يضحك وجواز المبالغة
جواز صرف الكفارة لنفسه إن كان فقيرا لكن فيه نظر ، هل أمره ( على إطعام أهله على أنه كفارة أو أنه في حاجة ومن كان في حاجة فلا كفارة عليه ؟ الثاني ، وعلى فرض صحة ذلك فيشترط قضاؤها من شخص آخر لأننا لو قلنا يصرفها على نفسه لقلنا بسقوطها ولكن لو قيل : إذا أدى الكفارة عنه غيره فلا بأس أن تؤدى عليه لكنه ضعيف من حيث القياس – كيف نكافأ من وجبت عليه الكفارة - ،،، والذي يظهر أن النبي ( أذن له في أن يطعم أهله لأنهم في حاجة ومعدمون
المرأة مسكوت عنها في هذا الحديث لأنه لم يسأل عنها ولم يذكر النبي ( المرأة لاحتمال أنها مكرهه ،،، لكن لو وافقت معه فعليها الكفارة لأن ( ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء إلا بدليل )(4/183)
52- عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن النبي ( كان يصبح جنبا من غير جماع ثم يغتسل ويصوم . متفق عليه وزاد مسلم في حديث أم سلمة ( ولا يقضي)
( الجنب ) كلمة للجماعة والواحد والجماعة كما في قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(المائدة: من الآية6)
وهو – أي الجنب- من جامع وإن لم ينزل أو أنزل وإن لم يجامع ، أو جامع وأنزل
( من جماع ) لبيان الواقع ، لا احترازاً من الاحتلام لأنه ( لا يحتلم( ( 1 ) كما قاله بعض العلماء 1 ) ، لقوله ( ( تنام عيناي ولا ينام قلبي )
( يصوم ) يستمر في صومه لقولها ( يصبح ) والصوم يبتديء قبل الإصباح
فوائد الحديث :
النبي ( كغيره من البشر تصيبه الجنابة بل منّ الله عليه بقوة ، قال أنس ( : نقدرها بثلاثين رجلاً
جواز الجماع إلى طلوع الفجر لقولها ( يصبح جنباً ثم يغتسل ) ولا إصباح إلا بطلوع الفجر ودلّ عليه أيضاً قوله تعالى ( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ )(البقرة: من الآية187)
26- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ( قال ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) متفق عليه
( وليه ) وارثه والدليل قوله ( ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر ) فدل على أن الورثة أولياء ، ومعلوم أن الأقرب أولى من الأبعد ، فإن تساووا فهم سواء
اختلف العلماء في هذا الحديث هل هو منسوخ ، في صوم دون صوم ، أو عام ؟
فوائد الحديث :
من مات وعليه صوم صام عنه وليه
هل صوم الولي واجب ؟ لا ، هو سنة ، لأننا لو قلنا بوجوبه وأنه إذا لم يصم أثم لكان ذلك مخالفا لقوله تعالى ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )(الأنعام: من الآية164) ، فيكون قوله ( صام عنه وليه ) للاستحباب(4/184)
لا بد أن يكون على الميت صوم فإن كان صوم تطوع – كرجل اعتاد صيام ثلاثة أيام من كل شهر لكنه لم يصم حتى طلع الشهر فلا يصوم عنه وليه لأن قوله ( وعليه ) يدل على الوجوب
لا بد أن يكون عليه الصوم فإن لم يكن عليه فلا يصوم ولو كان فرضاً
مثال : رجل مرض من أول رمضان مرضا يرجى زواله وبقي عليه لكن بعد رمضان اشتد به الوجع حتى مات فهذا لا يصوم عنه وليه لأنه لم يجب عليه الصوم ، وهذا فرضه أن يصوم من أيام أخر ، وهو لم يتمكن من هذه الأيام الأخر وهلك
مثال : رجل سافر كل رمضان وأفطر وفي يوم العيد حصل عليه حادث ومات فلا يصوم عنه وليه لأنه لم يجب عليه الصوم والواجب الصيام من أيام أخر وهذا لم يتمكن
وعليه المريض إذا ترك الصوم إن كان مرضه لا يرجى برؤه فالواجب الإطعام ولا صوم عليه ولا على وليه
وإن كان مرضه يرجى برؤه واستمر معه حتى مات فلا إطعام عليه ولا قضاء
وإن كان يرجى برؤه وشفي وتمكن من القضاء ثم مات فإنه ينطبق عليه هذا الحديث ويصوم عنه وليه لأنه تمكن من قضاء الصوم ولم يصم
قوله ( صيام ) يشمل كل واجب سواء كان صيام رمضان أو كفارة أو فدية
لو قال قائل : هل يجوز أن يُوزع الصوم الواجب بين الأولياء فمثلاً : يكون له ستة أولاد وعليه ثلاثون يوماً فهل يجوز أن يصوم كل واحد منهم خمسة أيام ؟
الجواب : نعم ، كما يجوز أن يقضي هؤلاء عنه دينه كما لو كان عليه ( 600 ) ريال وقضى كل واحد منهم ( 100 ) ريال لأجزأ
ــــ إذا كان عليه صوم متتابع ، فهل يجوز اقتسامه ؟
قيل : لا يجوز لاشتراط التتابع ولأنه كتلة واحدة
لو قال قائل : سيتتابعون ، سنقول لهذا صم اليوم وغدا سيصوم الثاني وهكذا
نقول : لكن الذي صام الثاني لم يصم الأول والذي صام الثالث لم يصم الأول والثاني
فما اشترط فيه التتابع لا بد أن يكون الصائم واحداً
والذي يشترط فيه التتابع ( صيام الشهرين ـــ صيام كفارة اليمين )(4/185)
أما فدية الأذى ودم التمتع بدلا عن الهدي إذا لم يجده فليس متتابعا فيجوز أن يصوم كل واحد ما يُقدر له
ــــ من العجيب أن أكثر العلماء لا يرون العمل بهذا الحديث ويرون أنه منسوخ بما لا دليل فيه على النسخ إما لضعفه وإما لأنه لا دلالة فيه
ــــ ومنهم – كالإمام أحمد رحمه الله - قال : هذا خاص في النذر لأنه ( سئل عن ميت مات وعليه صوم نذر فأمر بقضائه وهذا ضعيف لوجهين
القضية المندرجة في عموم اللفظ لا تخصصه أبدا ، فذكر بعض أفراد العام بحكم يطابق العام ليس تخصيصا له لكنه ذكر لبعض أفراده
سبحان الله !!! كيف نحمل الحديث على النذر والصوم الواجب بالنذر بالنسبة للصوم الواجب في رمضان قليل جداً جداً ، فهل يجوز حمل اللفظ العام على المسألة النادرة ونلغي المسائل الكثيرة ؟ لا
ولو تنزلنا وقلنا : النذر الذي أوجبه الإنسان على نفسه يُقضى ، فما أوجب الله على الإنسان من باب أولى وأحرى
قوله ( عليه ) تخرج النفل وتخرج الواجب الذي لم يجب عليه بحيث لم يتمكن من أدائه
باب صوم التطوع وما نُهي عن صومه
27- عن أبي قتادة الأنصاري ( أن النبي ( سئل عن صوم يوم عرفة فقال ( يكفر السنة الماضية والسنة الباقية ) وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال ( يكفر السنة الماضية ) وسئل عن صوم يوم الإثنين فقال ( ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه وأُنزل عليّ فيه ) رواه مسلم
( التطوع ) فعل الطاعة ويُطلق اصطلاحا على فعل الطاعة الغير واجبة لكنه عند الفقهاء لغير الواجب والأصل أنها للطاعة الواجبة كما في قوله تعالى ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة: من الآية184)
( يكفر ) يغطي السيئات
( الباقية ) المستقبلة كما في لفظ ( السنة التي قبله والسنة التي بعده )
فوائد الحديث :
حرص الصحابة على العلم الشرعي
استحباب صوم يوم عرفة وأخذناه من ترتيب الثواب عليه(4/186)
الثواب قد يكون حصول مطلوب أو ارتفاع مكروه والحديث من القسم الثاني لقوله ( يكفر )
ظاهر الحديث العموم( ( 1 ) أي عموم صوم يوم عرفة لكل الناس 1 ) لكن يستثنى من ذلك الحاج لأنه ( لم يكن يصوم بل نهى عن صوم يوم عرفة ( بعرفة )
فيدع الفاضل لما هو أفضل منه فتفرغه في عرفة للذكر والدعاء أفضل من كونه يصوم مع أنه يكفر سنتين لكن يمنع من ذلك إتمام النسك فإتمام النسك أفضل
استحباب صوم يوم عاشوراء ، والحكمة أنه يوم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه ولما قدم النبي ( المدينة وجدهم يصومونه لهذه العلة فقال ( ( نحن أولى بموسى منكم )
صوم يوم عرفة أفضل من صوم يوم عاشوراء
الإشارة إلى استحباب صوم يوم الاثنين بقوله ( ذلك .. ) يعني فصومه أمر مطلوب
واستدل به بعض العلماء على أنه يسن الاحتمال بمولد النبي ( وقالوا : هذا الحديث يدل على أن لهذا الحديث مزية وللجواب على هذا نقول
الحديث لا يدل على تعيين اليوم من السنة بل من الأسبوع وأنتم جعلتموه من الشهر
لم يذكر النبي ( إلا الصوم فقط وأنتم لا تفعلون الصوم فقط
28- عن أبي أيوب الأنصاري ( أن رسول الله ( قال ( من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر ) رواه مسلم
( صام رمضان ) أي : كله
( ثم ) ولم يقل ( فأتبعه ) لأن الفاء للتعقيب ، وهو لا يمكن لوجود العيد
( ستاً ) لعدم وجود المميز ( التمييز ) ، ذكر مع المذكر
( كصيام الدهر ) شهر رمضان عن عشرة شهور ، وستة أيام عن شهرين
فوائد الحديث :
فضيلة رمضان حيث ندب إلى الصوم بعده كالراتبة بعد الصلاة
استحباب صيام ستة أيام من شوال وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن تكون متتابعة أو متفرقة
من صامها قبل أن يقضي ما عليه لم يحصل له هذا الأجر
ـــ لو كانت نفساء وأفطرت رمضان كله ثم طهرت في يوم العيد وصامت شوال كله وبعده ستة أيام فالظاهر أنه يحصل لها هذا الأجر لأنها أخرت الصيام لعذر
وقيل : لا تحصل لأن الحديث مقيد بـ ( شوال )(4/187)
فيُقال : نعم ، قيد على الأكثر والأعم ، والتقييد بالأكثر لا يعتبر تقييدا
فالظاهر أنه يحصل لها الأجر إن شاء الله
لا فرق بين تواليها أو تتابعها لأنه أطلق في هذا الحديث ، ونظيرها قوله تعالى ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ )(البقرة: من الآية196) ، فلا يشترط فيها التتابع ، لكن قوله تعالى ( شهرين متتابعين ) مقيدة بالتتابع ، ولكن الأفضل أن يبادر لأن فيه مسارعة إلى الخيرات
29- عن أبي سعيد الخدري ( قال : قال رسول الله ( ( ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار سبعين خريفا ) متفق عليه واللفظ لمسلم
( عبد ) المتعبد لله عز وجل عبودية شرعية
( في سبيل الله ) أي : في الجهاد ، وليس المراد ما يتوهمه بعضهم من أن المراد ( الإخلاص )
لأن الإخلاص لا يعبر عنه بهذا التعبير بل يُقال ( يبتغي به وجه الله )
( خريفا ) تمييز ، لأن العدد مبهم
فوائد الحديث :
فضيلة الصوم في سبيل الله ( الجهاد ) ما لم يؤد إلى ضعف ونقص في عمل الجهاد كالفتور والتعب ،،، ووجه كونه فاضلاً : لأن ذلك نوع من جهاد النفس حيث منعها من المحبوب فيجتمع للمجاهد جهادان : جهاد النفس وجهاد العدو ولأن فيه دليل على صدق طلب المجاهد
الأعمال الصالحة تتفاوت مراتبها في الفضل
التعبير بالبعض عن الأكل وذلك بقوله ( عن وجهه ) ، ( خريفا ) والخريف بعض العام
مسألة الثواب لا مجال للعقل في تقديرها
30- عن عائشة ( قالت : كان رسول الله ( يصوم حتى نقول لا يفطر ، ويفطر حتى نقول لا يصوم وما رأيت رسول الله ( استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شعر أكثر صياما منه في شعبان . متفق عليه واللفظ لمسلم
فوائد الحديث :
تنويع النبي ( للعبادات حسب ما تقتضيه المصلحة
لا يسن للإنسان أن يصوم شهرا كاملا إلا شهر رمضان لأن ذلك ليس من هدي النبي ((4/188)
ينبغي إكثار الصوم في شعبان والحكمة من ذلك توطين النفس وتمرينها على الصيام في رمضان
وقيل : هو بمنزلة الراتبة قبل الصلاة
31- عن أبي ذر ( قال : أمرنا رسول الله ( أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام : ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة . رواه النسائي والترمذي وصححه ابن حبان
( أمرنا ) الأمر طلب الفعل على وجه الاستعلاء
وهذه الأيام المذكورة في الحديث تسمى أيام البيض أو أيام الليال البيض ، لأن هذه الليالي تكون بيضاء من نور القمر وهي ( 13 ) ( 14 ) ( 15 )
فوائد الحديث :
مشروعية صيام هذه الثلاثة الأيام وهو على سبيل الاستحباب لأن العلماء أجمعوا على عدم وجوب صوم غير رمضان والنذر
تخصيص هذا الصيام بهذه الأيام ( 13 ) ( 14 ) ( 15 ) ، وإلا لو صام من أول الشهر أو من وسطه أو من آخره فإنه سيدرك الفضل وهو قوله ( ( صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله ) لكن الأفضل أن تكون ( 13 ) ( 14 ) ( 15 )
الحكمة في صيام هذه الأيام لا نعلمها فالنبي ( أمرنا بها وهذه هي العلة
وقيل : الدم في الجسد يتبع القمر – سبحان الله – كل ما امتلأ القمر نوراً كثر الدم في جسد الإنسان وغزارة الدم ربما تؤدي إلى ضرر انفجار في العروق فإذا صام فالصوم يضعف البدن ومجاري الدم
وتأثر الجو في الأرض بتأثر القمر معروف يعرفه أهل السواحل ، فالبحر يتوسع كل ما توسع ضوء القمر وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى
32- عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال ( لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ) متفق عليه واللفظ للبخاري ، وزاد أبو داود ( غير رمضان )
( لا يحل ) يحرم
( للمرأة ) ذات الزوج
( شاهد ) حاضر
( بإذنه ) رخصته وموافقته
فوائد الحديث :
قوله ( غير رمضان ) لأن رمضان طاعة مفروضة من الله عز وجل فلا تفطر طاعة لزوجها لأنه لا طاعة لمخلوق في طاعة الخالق ، وذكر الاستثناء هنا لأن رمضان قد يكون لها منه قضاء وفي حال القضاء قد يكون الزوج مفطرا(4/189)
عظم حق الزوج على الزوجة ، وهذا مقدم على حق الوالدين إلا للضرورة ولهذا يسمى التزويج ( إملاكا ) كأنه يملكها ، وفي بعض ألفاظ البخاري ( ملكتكها بما معك من القرآن )
لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه والحكمة ربما أنه يحتاج إلى الاستمتاع بها فيهاب أن يفسد عليها صومها وهذا من تمام حقها
وهل ذلك مقيد بما إذا كان الزوج ناشزاً ؟ أي يضيع حقوقها فهل لها الصوم بلا إذنه وهو شاهد ؟
نعم ، لأن ميزان العدل أنه إذا نشز فلها أن تنشز لقوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم)(البقرة: من الآية194)
إذا لم يكن ( شاهداً ) أي حاضراً ، فلا حرج أن تصوم ، كأن يكون مسافرا فلا حاجة لإذنه
وظاهره لا فرق بين أن يكون صومها فرضا أو نفلا لكن وراية أبي داود إن كانت محفوظة فالمراد النفل لكن المسألة فيها تفصيل
ـــ غير النفل يشمل الواجب بالنذر ويشمل القضاء والكفارة وفدية الأذى وجزاء الصيد فهل نقول أن كل واجب لها أن تصومه مع حضور الزوج بلا إذنه ؟
الواجب الموسع ليس لها الصوم إلا بإذنه لأنه لا ضرر عليها إذ أن الأمر واسمع وهذا هو الأولى وربما يستدل بفعل عائشة رضي الله عنها بأنها لا تقضي إلا في شعبان
ـــ هل يلزم الزوج أن يأذن لها إذا استأذنت ؟
في التطوع لا يلزمه ، لكنه في الحقيقة محروم أن يمنعها من صوم النفل مع عدم الحاجة إليها وإذنه لها مشاركة لها في أجرها
في الفريضة :
الفريضة المضيقة ليس له إذن فيها فتصوم هي أذن أم لم يأذن
الفريضة الموسعة عندي تردد فيها هل يمنعها أم لا ؟
لأنه تنازع في ذلك أمران
الوقت واسع : يقول : لن آذن الآن وإذا ضاق أذنت لك
هذا دين والمرأة قاضية على كل حال وتعجيله أرفق لها وأبرأ لذمتها
إلا لو فرض أنه سيسافر بعد أيام ولا يرجع إلا بعد مدة طويلة فلا يلزمه أن يأذن(4/190)
33- عن أبي سعيد الخدري ( أن رسول الله ( : نهى عن صيام يومين : يوم الفطر ويوم النحر . متفق عليه
النهي هو طلب الكف على وجه الاستعلاء
قول الصحابي ( نهى ) ( أمر ) هو كقوله ( ( افعلوا ) ( لا تفعلوا ) تماماً
نهى النبي ( عن صومهما لأنهما يوم فرح وسرور والإنسان مع الصوم لا ينطلق بفرحه وسروره هذا هو الصواب
وقيل : لأن الناس في ضيافة الله حيث شرع لهم الفطر والنحر لكن في النفس من هذا شيء
فوائد الحديث :
تحريم صوم العيدين لأن الأصل في النهي التحريم ، وللعلة المذكورة
إثبات أن هذين اليومين على أنهما عيدان للمسلمين
لو صامهما يحرم ولا يُقبل الصوم
لو نذر صوم أحدهما فالنذر حرام و لا يجوز الوفاء به لقوله ( ( من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) ، ويجب عليه كفارة اليمين لأن النذر لم ينعقد ، ولا يقضيهما لأننا لو حكمنا بذلك كأننا حكمنا بصحة النذر
لو نذر صوم الاثنين ووافق يوم عيد فلا يوف لكن يقضي ولا يكفر ويقضي لأن أصل نذره فلا شيء فيه
وقيل : يكفر لفوات الوقت
32- عن نبيشة الهذلي ( قال : قال رسول الله ( ( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل ) رواه مسلم
( أيام التشريق ) تشريق الشيء أي إبرازه حتى تشرق الشمس عليه وهي ( 11 ) ( 12 )
( 13 ) من ذي الحجة
سميت بذلك لأن الناس يشرقون لحوم ضحاياهم وهداياهم من أجل أن تيبس ولا تفسد
( أكل وشرب ) فلا يُصام فيها
( وذكر الله عز وجل ) كما في قوله تعالى ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ )(البقرة: من الآية203) ، فأكثروا
وقرن الذكر مع الأكل والشرب لسببين
لن يفوتك الأجر إذا لم تصم فاذكر الله
إذا كانت الأيام أيام الذكر فإن الإنسان يحتاج لطاقة لا سيما في أيام الصيف
35- عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم قالا : لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي . رواه البخاري
( لم يُرخص ) لم يؤذن(4/191)
( الهدي ) أي : هدي التمتع ، ووجهه قوله تعالى ) فَمَنْ لَمْ يَجِد( ( 1 ) أي الهدي 1 )ْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ )(البقرة: من الآية196)
وأيام التشريق من أيام الحج لأن فيها رمي ومبيت فيصومهن لأنه لو لم يصمهن لفرغ الحج قبل أن يصوم والله جعل الحج ظرفاً لصيامهنّ
فوائد الحديث :
لا يجوز صيام أيام التشريق
إذا كانت أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل فلا ينبغي الزهد في نعمة الله عز وجل
حكمة الشريعة الإسلامية بإعطاء النفوس بعض حقها من الفرح ولهذا جاز في أيام العيد والتشريق شيء من اللهو كضرب الدفوف واللعب بآلات الحرب ( السيوف ــ والبنادق ) لأن الله عز وجل علم أن الإنسان يحتاج في فرحه إلى ما يدخل السرور عليه
مشروعية ذكر الله تعالى في هذه الأيام
فيه دليل على أن الراجح من أن التكبير مشروع كل وقت في أيام التشريق وليس مقيدا بأدبار الصلوات
يجوز نحر الأضاحي في جميع هذه الأيام لأن النبي ( جعل حكمها واحدا في الأكل والشرب خلافا لمن يقول : إن نحر الأضاحي لا يجوز إلا يوم العيد فقط ، أو يوم العيد ويومين بعده ،،، والصحيح أنها تجوز يوم العيد وثلاثة أيام بعده
يجوز صيامها لمن لم يجد الهدي
من لم يجد الهدي فإنه يصوم ثلاثة الأيام في الحج وسبعة إذا رجع ، ولا يجوز صوم يوم العيد من هذه الثلاثة
لو صامها مع الإحرام بالعمرة قبل التشريق جاز على المذهب وهو الصحيح فيجوز صيامها أثناء العمرة أو بين العمرة والحج بشرط أن لا يتجاوز أيام الحج ولحديث (دخلت العمرة في الحج )
36- عن أبي هريرة ( قال قال رسول الله ( ( لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ) رواه مسلم
المراد لا تقتصروا على قيام ليلة الجمعة لأنه لا مزية له
فوائد الحديث :
النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام(4/192)
النهي الظاهر أنه للكراهة لأنه لو كان للتحريم لكانت مفسدته حاصلة سواء انفرد به أو ضمه إلى غيره ،،، ووجه الكراهة : أنه لا مزية له علىغيره
لا تُخص ليلة الجمعة بصيام
يجوز أن يقوم ليلتين ليلة الخميس والجمعة لأنه لم يخصها
لا ينبغي بل يكره أن يخص يوما أو ليلة بعبادة لم يخصصها الشرع كمن يخصص ليلة السابع والعشرين بعمرة
حرص الشرع على التزام الحدود الشرعية فلا يخص يوما بعمل إلا ما خصص الشرع
لو صام ليلة الجمعة أو قامها بدون قصد التخصيص فلا حرج عليه
37 – وعنه أيضا ( قال قال ( ( لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده ) متفق عليه
وهذا كالأول تماما ...
وهذا دليل على أن الحديث الآتي ( حديث الصماء ) ليس بصحيح
38 – وعنه أيضا أن رسول الله ( قال ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ) رواه الخمسة واستنكره أحمد
( انتصف ) إذا بلغ ( 15 ) يوماً
وهذا الحديث اختُلف في قبوله ورده ؟
قيل : ليس بمقبول لأنه يعارض الأحاديث الصحيحة فيكون شاذاً ، ووجه الشذوذ
ثبت عنه ( قوله ( لا تقدموا رمضان بصوم يوم لا يومين ....... ) وهو في الصحيحين ، ومفهومه أنه يجوز تقدم ذلك بثلاثة أو خمسة .
كان ( يكثر الصيام في شعبان ولم يكن ( ليصوم شيئا مكروها إلا ليبين أنه من خصائصه كما بينه في الوصال
وبعض العلماء صححه وقالوا : النهي عن تقدم صوم رمضان بيوم أو يومين للتحريم والنهي عن الصوم بعد النصف من شعبان للكراهة
ثم إن الكراهة إذا خص النصف الأخير بالصوم أما إذا صام شعبان من أوله فلا كراهة بالاتفاق
والظاهر أن الصوم لا بأس به حتى بعد النصف
39 – عن الصماء بنت بسر رضي الله عنها أن رسول الله ( قال ( لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغها ) رواه الخمسة ورجاله ثقات وهو مضطرب وأنكره مالك وقال أبو داود : إنه منسوخ
( افترض ) كرمضان والفدية والكفارة(4/193)
( لحاء العنب ) قشرة الغصن
ويفعل هذا تحقيقا للفطر
وظاهره تحريم صوم يوم السبت في غير الفرائض لأنه ما دام وصلت إلى حد أنه لا بد أن يأكل لحاء عنب أو عود شجرة فهو للتحريم
واختُلف في صحته
قيل : مضطرب
وقيل : منكر
وقيل : منسوخ
وقيل : شاذ
واختلفوا في حكمه أيضاً فمن لم يصححه لم يعتبره شيئا
ومن صححه أو حسنه قال : لا يجوز صيام يوم السبت إلا فيما افتُرض سواء ضم إلى غيره أم لا ، وإذا ثبت هذا الحكم صار لا بد من أن نقول إنه شاذ بلا شك لأن الأحاديث الصحيحة تدل على جواز صوم يوم السبت كحديث أبي هريرة السابق ( أو يوماً بعده ) وأحسن الأقوال في هذه المسألة ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه يكره إفراده بالصوم ولا يحرم ويؤيد هذا الحديث الذي بعده
40- عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله ( كان أكثر ما يصوم من الأيام السبت ويوم الأحد وكان يقول ( إنهما يوم عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم ) رواه النسائي وصححه ابن خزيمة وهذا لفظه
( المشركين ) اليهود عيدهم السبت ، والنصارى عيدهم الأحد
ومخالفتهم أن أيام العيد هي أيام فرح وسرور وليس من اللائق الصوم فيها – كما سبق- فإذا كانوا لا يصومون فإننا نخالفهم ونصوم
وفي الحديث دليل على أن حديث الصماء إن صح محمول على الإفراد أما إذا جمع السبت إلى الأحد أو إلى الجمعة فلا بأس
وفي الحديث حرصه ( على مخالفت المشركين
41- عن أبي هريرة ( أن النبي ( نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة . رواه الخمسة غير الترمذي وصححه ابن خزيمة والحاكم واستنكره العقيلي
والمراد إذا كان واقفا بعرفة والحكمة من ذلك : النشاط لما جاء من أجله وهو الدعاء والتضرع ومعلوم أن الإنسان إذا كان صائما فقد يؤدي به ذلك إلى الكسل لا سيما مع شدة الحر ويكون الكسل كما هو الغالب في آخر اليوم وهو أفضل اليوم ، وقد أفطر النبي ( ذلك اليوم
فوائد الحديث :(4/194)
الحاج لا يصوم في عرفة وأما من كان مع الحجاج في عرفة كالطباخ والسواق وليس بحاج فله أن يصوم
قد يعرض للمفضول ( وهو الفطر هنا ) ما يجعله فاضلا
42- عن عبدالله بن عمرو ( قال قال رسول الله ( ( لا صام من صام الأبد ) متفق عليه
43- ولمسلم من حديث أبي قتادة بلفظ ( لا صام ولا أفطر )
( لا صام ) نفي ، والظاهر أنه خبر محض لا يُقصد به الدعاء والمعنى أنه لم يحصل على أجر الصوم
فلا هو الذي حصل له الأجر بالصيام ولا الذي حصلت له الراحة بالفطر
فوائد الحديث :
النهي عن صوم الدهر
واختُلف في العلة
قيل : لأنه سيصوم أيام التشريق والعيدين وإذا أفطرها فلا يصدق عليه أنه صام الأبد لأنه أفطر من الأبد خمسة أيام وحملوه على أن المراد من صام الأيام المحرمات لكنه ضعيف جدا ولا ينبغي أن يعول عليه لأن صيام الأيام المحرمة ممنوع وإن لم يصم الأبد
والصحيح أن من صام الأبد سوى الأيام المحرمة فلا يحصل له الثواب لأنه لا بد من ترك أشياء يقوم بها يمنعه الصيام من القيام بها كحق الزائر والبدن والأهل
ـــ بم يرتفع هذا النهي ؟
بما أرشد إليه النبي ( عمرو بن العاص ( : صيام يوم وإفطار يوم ولا أفضل من ذلك
لو نذر صيام الدهر كله فالنذر محرم لا يجوز الوفاء به فليفطر ، وإذا أفطر فعليه الكفارة لأنه فوت ما نذر ... ولهذا كان الراجح أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به وفيه كفارة يمين
الإشارة إلى أنه لا ينبغي التنطع في العبادات
لو قال قائل : هذا ذم فيمن صام الأبد فكيف نجيب عن حديث ( صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر ) وحديث (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) ؟!
الجواب : رغّب النبي ( في صيام هذه الأيام من أجل إدراك ثواب صيام الدهر وفرقٌ بين الصوم الفعلي والصوم الحكمي
باب الاعتكاف وقيام رمضان(4/195)
ذكر المؤلف رحمه الله الاعتكاف يعد الصيام لأن الله ذكره بعد آية الصيام فقال تعالى ( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ )(البقرة: من الآية187)
هل هذا إشارة إلى أنه لا اعتكاف إلا بعد صوم ؟
قيل : نعم
والراجح : أنه لا اعتكاف مسنون إلا في العشر الأواخر فقط ، فلا يسن في كل وقت ، لأننا نعلم علم اليقين أن النبي ( كان يحث على عبادة الله ولم يقل يوما من الدهر ( اعتكفوا ) ، ثم إن الاعتكاف هو لشيء مقصود وهو التماس ليلة القدر
لو قال قائل : ينتقض هذا بأن عمر ( أذن له النبي ( بالاعتكاف في غير رمضان لنذره في الجاهلية ؟
الجواب : ننزل هذا بما سبق في القاعدة ( قد يؤذن للإنسان بما هو غير مشروع للأمة لتلقه به)
لو قال قائل : يرد عليكم أن النبي ( في بعض السنوات اعتكف في العشر الأولى من شوال وهذا خارج من رمضان ؟
الجواب : كان ( يحب إذا عمل عملا أن يثبته وقد تأخر عن الاعتكاف في تلك السنة فقضاها
و ( يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل )وهذا جواب سديد
وقد تأخر تلك السنة لأنه ( رأى أن كل واحدة من زوجاته تريد أن يكون لها خباء في المسجد تعتكف فيه فأنكر ذلك وقال ( آلبر إذن ) ، فهم أن هذا من باب الغيرة ، ثم أمر بالأخبئة فنقضت وترك الاعتكاف تطييباً لقلوبهن ولو شاء لبقي لكن من باب تطييب القلب
الاعتكاف : هو التعبد لله عز وجل بلزوم المسجد طاعة لله عز وجل فيجلس في زاوية ويقرأ القرآن ويذكر الله ويعتزل الناس
الأصل في الاعتكاف :
الكتاب في قوله تعالى ( وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ )
والسنة وستأتي إن شاء الله
44- عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه
بدأ بالقيام
( قام ) في الليل
( رمضان ) شهر رمضان كله
( إيماناً ) بالله عز وجل وبما وعد به من الثواب وذلك بأن يؤمن بأنه إذا قام به سيُغفر له(4/196)
( احتسابا ) ترقبا للأجر بحيث يضمر في نفسه أنه سيؤجر على هذا القيام
(غُفر ) المغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه
( ما تقدم ) ( ما ) اسم موصول وهو يفيد العموم أي : كل ذنب
والذنب بمعنى المعصية وسميت ذنبا لأنها كسب كذنوب الماء يُستخرج به الماء
فوائد الحديث :
الحث على قيام رمضان
الإشارة إلى أن للإخلاص تأثيرا في الثواب لقوله ( إيماناً ) فلم يقم عادة أو لأنه قومه يقومون
لا يحصل هذا الثواب العظيم إلا لمن جمع بين الوصفين ( الإيمان والاحتساب ) وأكثر الناس يغفل عن الاحتساب بل يقومون بالعمل لأنه عمل صالح لكن الاحتساب قليل
قيام رمضان تُغفر به الذنوب الصغائر والكبائر وأُخذ من العموم ومن المعلوم أن هذا العموم غير مراد إذا كان الإنسان جاحداً لبعض ما أنزل الله أو كان كافراً أو مشركاً
وهل المراد الذنوب السابقة غير الشرك أو الصغائر فقط ؟
أكثر العلماء على الثاني وهذا ظاهر فيما إذا كان العمل واحدا ثم ذكر ثوابه مطلقا في مكان ومقيد في مكان
مثال : ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ) وهذا صريح في أن رمضان يدخل فيه صيامه وقيامه مكفر بشرط اجتناب الكبائر وهذا واضح .
لكن أحيانا تأتي نصوص مطلقة ولم تقيد في مكان آخر كحديث ( من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ) فهل نقول إن هذا مقيد بما إذا اجتنبت الكبائر أو نقول هو عام مطلق لا يمكن أن نغيره ؟
أكثر العلماء على الأول وعللوا : إذا كانت هذه الفرائض العظيمة الصلاة الصيام لا تكفر إلا باجتناب الكبائر فما دونها من باب أولى ولا شك أن هذا قياس جلي واضح
لكن قد يقال : لماذا لا نسكت عن مثل هذه الكلام ونتفاءل على الله أنه يعم كل الذنوب لا سيما مع قوله ( زبد البحر ) ونؤمل على الله عز وجل أن يكون هذا ثابتاً ولو لم تجتنب الكبائر . فهذا أسلم وأقوى رجاء
ـــ من قام بعض ليالي رمضان(4/197)
إن كان تخلفه لعذر فهو كالفاعل ، وإلا فلا يحصل له الثواب لأن الثواب مشروط بشرط لا يتحقق إلا إذا وجد
ـــ ( قام رمضان ) هل يشترط قيام كل الليل ؟
لا ، لأن النبي ( لم يقم الليل كله إلا في العشر الأواخر ، ولما قال الصحابة رضي الله عنهم (لو نفلتنا بقية ليلتنا ) قال ( ( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )
45- عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله ( إذا دخل العشر – أي العشر الأخيرة من رمضان – شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله . متفق عليه
وهذا لأن ليلة القدر في هذه العشر
( مئزره ) مكان الإزار يشده ، وأما المعنى
فقيل : كناية عن الاجتهاد فالإنسان إذا أراد أن يعمل أعمالا شاقة شد المئزر لئلا يتفلت عند العمل
وقيل : لم يجامع لأن الإنسان إذا أراد أهله فإنه يحل المئزر
وقد يُقال هذا وهذا
( النكاح مع الشهوة أفضل من نوافل العبادات ) هذه مقولة للفقهاء فإذا كان شابا فإنه يأتي أهله ولو في العشر
( أحيا ليله ) بالقيام والذكر ، ويدخل فيه مقدمات الصلاة كالاغتسال للنشاط وشرب الشاهي والقهوة
( أيقظ أهله ) ليصلوا
فوائد الحديث :
جواز أحياء الليل كله بالقيام في العشر الأواخر ، أما في غير العشر فالأفضل أن ينام نصف الليل ثم يقوم ثلثه وينام سدسه
النبي ( محتاج إلى العمل الصالح
ينبغي للإنسان أن لا يأتي أهل في العشر الأخيرة اقتداء بالنبي (
ينبغي إيقاظ الأهل تأسيا بالنبي (
ينبغي اغتنام الأيام الفاضلة بالأعمال الصالحة
46- وعنها رضي الله عنها أن النبي ( كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده . متفق عليه
فوائد الحديث :
كان ( يداوم على الاعتكاف
اجتهاد النبي ( في عبادة الله
فضيلة العشر الأواخر لاختصاصها بليلة القدر والاعتكاف
العمل في العشر الأول من ذي الحجة أفضل ، والعمل في ليلة القدر أفضل
الاعتكاف لا زال مشروعا ولم تُنسخ مشروعيته(4/198)
جواز اعتكاف النساء ، لكنّ هذا مشروط بما إذا لم يكن هناك فتنة أو ضرر
47- وعنها رضي الله عنها قالت : كان النبي ( إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه . متفق عليه
فوائد الحديث :
يدخل المعتكف صباح يوم ( 21 ) لا عند غروب شمس ليلة ( 21 ) وأخذ بهذا بعض العلماء
والصحيح أنه يدخل إذا غابت شمس يوم ( 20 ) أي في ليلة عشرين
والمراد في هذا الحديث معتكفه الخاص
أما المسجد فيدخل أول الليل بعد غروب الشمس
48- وعنها رضي الله عنها قالت : إن كان رسول الله ( ليُدخل عليّ رأسه في المسجد فأُرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا . متفق عليه واللفظ للبخاري
( الترجيل ) تسريح الشعر ودهنه وتحسينه
( الحاجة ) ما يحتاجه الإنسان من طعام أو شراب وبول ونحوها
فوائد الحديث :
حرص النبي ( على النظافة فلا يترك الترجيل ولو كان معتكفاً
كان ( يتخذ الشعر ، وهل هو سنة ؟
قيل : اتخذه تعبداً ، فمن السنة اتخاذ الشعر
وقيل : اتخذه عادة ، وعليه فإن اعتاد الناس حلق رؤوسهم حلق وإلا أبقاه
جواز خروج بعض البدن من المسجد كأن ينظر حول المسجد من الباب وقدمه في المسجد
لا حرج على المعتكف في التجمل
حسن معاملة النبي ( لأهله
لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا لحاجة ، حتى الزيارة والعيادة وتشييع الجنازة لا يخرج لها لأن الاعتكاف سابقٌ على ما طرأ فهو أحق بالمراعاة
أنواع الخروج من المسجد للمعتكِف :
لا يجوز مطلقاً، لكونه منافيا للاعتكاف اشترط أم لم يشترط كأن ينوي الخروج للبيع والشراء فإن خرج بطل الاعتكاف
يجوز مطلقاً ، لحاجة الإنسان الدينية ( كأن تكون عليه جنابة فيغتسل ولو من بيته لأنه عندما خرج للاغتسال لا فرق بين البعيد والقريب ومثل الوضوء ) أو البدنية ( كأن يحتاج إلى الأكل أو الشرب أو قضاء الحاجة أو تبريد الجسم بالماء عند الحر )(4/199)
يجوز إن اشترط ، ولا يجوز إن لم يشترط وهذا في كل ما فيه مقصود شرعي مثل ( عيادة المريض وتشييع الجنازة وطلب العلم ) على أن في النفس شيء من طلب العلم لأننا نقول : أيام رمضان عند كثير من السلف ليست لطلب العلم بل تفرغ للعبادة
49- وعنها رضي الله عنها قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع . رواه أبو داود ولا بأس برجاله إلا أن الراجح وقف آخره
إذا قال الصحابي ( من السنة كذا ) فله حكم الرفع إلا إذا علمنا أنه استنبطه فهو رأي له
( جنازة ) بفتح الجيم أو بكسرها ، وقيل بالفتح للميت ، وبالكسر للنعش
( يباشرها ) مباشرة التلذذ لقوله تعالى ( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ )
( يمس ) يحتمل أن المراد الجماع ومقدماته ، أما اللمس مطلقاً كالسلام فلا بأس به
( جامع ) يجتمع فيه الناس ، لأنه لو اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجماعة إما أنه سيخرج في اليوم خمس مرات وهذا ينافي حقيقة الاعتكاف ، أو يفوّت الجماعة على نفسه فيأثم
( لما لا بد منه ) شرعي ( كالغسل للجنابة وليوم الجمعة ) وحسي بدني ( كالخروج للأكل والشرب وقضاء الحاجة )
( لا اعتكاف إلا بصوم )
هل يُشترط أن يكون المعتكف صائما ؟
قيل : نعم ، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله ( لا بد من الاعتكاف في الصوم ) ، واستدل بهذا الحديث ، وبأن النبي ( لم يعتكف إلا في رمضان ، وأما عشر شوال فكانت قضاء
قيل : ليس بشرط ، لكنه الأفضل وهذا هو الصحيح أنه يجوز بلا صوم
فوائد الحديث :
جواز الاعتكاف في جميع المساجد وهذا ليس مشترط بالمساجد الثلاثة وقد أنكر ابن مسعود ( على حذيفة فهمه هذه المسألة وقال " لعلك نسيت " وذكّره(4/200)
50- عن ابن عباس ( أن النبي ( قال ( ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ) رواه الدارقطني والحاكم والراجح وقفه
هذا خلاف الحديث السابق
والمعنى : لو نذر الإنسان أن يعتكف في مسجد فليس عليه صيام إلا أن يجعله على نفسه بأن يقول " لله علي أن أعتكف صائما في هذا المسجد عشرة أيام "
هنا جعله على نفسه وهو قول لابن عباس موفق للصواب
وفيه أنه لا اعتكاف إلا في العشر الأواخر فقط
51- عن ابن عمر ( أن رجالا من أصحاب النبي ( أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله ( : ( أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ) متفق عليه
ليلة القدر وصفها الله عز وجل بأوصاف عظيمة ، وسميت بذلك
قيل : لشرفها فـ ( قدر ) أي شرف
وقيل : للتقدير لأنه فيها ما يُقدر في جميع السنة ،، وقد يقال للسببين
وأوصافها التي جاءت
ليلة مباركة
يفرق فيها كل أمر حكيم
عظيمة ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (القدر:2)
(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر:3) ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4) ( سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر:5)
علامات ليلة القدر :
شدة الضوء والنور وهذا قد لا يُرى الآن لوجود الأنوار
راحة المؤمن واطمئنان قلبه وتوفيقه للدعاء والذكر
حضور القلب في القيام
طلوع الشمس صافية بلا شعاع وتزيد فرح المؤمن إذا وُفق ليلتها للقيام
وهي في رمضان والدليل مركب من آيتين
الأولى قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) الثانية قوله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة:185)(4/201)
الصحيح أنها ليست معينة لكن بعض الليالي أرجى من بعض وبهذا لقول تجتمع الأدلة فهي تتنقل حتى لا يعتاد الناس قيام تلك الليلة المعينة
( أُروا ) في رؤى ، والرؤى أقسام :
رؤيا حق ، يلقيها الملك على النائم فيرى حقا بالصراحة أو بالإشارة كما حصل مع الملك في سورة يوسف
رؤيا باطلة ، وهي ما تُحزن المؤمن وتزعجه
رؤيا عادية ، وهي ما يحصل من أحوال الناس وماجرياتهم
( تواطأت ) توافقت من ( وطء القدم على القدم )
( السبع الأواخر ) إذا كان الشهر ( 29 ) يوما فالمراد ( 23 )
إذا كان الشهر ( 39 ) يوما فالمراد ( 24 )
وليس المعنى كل سنة في السبع الأواخر بل المراد في تلك السنة فقط ولو كانت كل سنة لم يعتكف النبي ( العشر كلها لأن اعتكافه كان طلباً لليلة القدر
فوائد الحديث :
الرؤيا الصادقة يُعمل بها إذا كانت صالحة
كثرة الشهود تؤدي إلى قوة المشهود به
تحري ليلة القدر ليس بواجب لقوله ( فمن كان .... )
52- عن معاوية بن أبي سفيان ( عن النبي قال في ليلة القدر ( ليلة سبع وعشرين ) رواه أبو داود والراجح وقفه واختلف في تعيينها على أربعين قولا أوردتُها في فتح الباري
وهو موقوف لأن النبي ( لم يعيينها وهذا من رحمة الله عز وجل وحكمته
رحمة : ليزداد المؤمنون عبادة طاعة فلو عُينت لاجتهدوا فيها دون غيرها
حكمة : يبتلي الله سبحانه وتعالى من هو حريص على إدراكها ممن هو ليس بحريص
إذن فهي ليست معينة
وأصح الأقوال من الأربعين أنها في العشر الأواخر وأنها تتنقل وفي الوتر أرجى لحديث
( التمسوها في كل وتر )
53- عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله أرأيت إن علمتُ أي ليلة ليلة القدر ، ما أقول فيها ؟ قال ( قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )
رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم
( العفو ) التجاوز عن الذنوب
وفيه إشارة إلى أن الإنسان مهما بلغ في الاجتهاد فإنه مقصر
وهذا الدعاء يكون في مواطن الإجابة وأقربها السجود(4/202)
54- عن أبي سعيد الخدري ( قال : قال رسول الله ( ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ) متفق عليه
( الرحال ) أي : الإبل وما يقوم بها
والمراد الشد إلى المكان ( المسجد نفسه )
أما شد الرحال إلى مسجد فيه علم أو خطيب جيد فلا بأس به
وشد الرحال إليها لأن للصلاة فيها مزية
فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة
والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة
والصلاة في المسجد الأقصى جاء ت بعض الأحاديث تدل على أنها بخمسمائة صلاة
( المسجد الحرام )
قيل : جميع الحرم ، كل ما أُدخل في حدود الحرم ودليلهم
قوله تعالى ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1) ، وقيل إنه أُسري به من بيت أم هاني ، وهو خارج المسجد
لما نزل النبي ( بالحديبية وكان بعضها في الحل وبعضها في الحرم كان ينزل في الحل ويصلي في الحرم داخل الحدود
وقيل : المراد هو مسجد الكعبة خاصة وما زيد فيه فهو منه ودليلهم ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي ( قال ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة ) ، فنصّ على مسجد الكعبة
أما الإجابة على أدلة القائلين بأنه المراد كل الحرم(4/203)
قوله تعالى ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1) ، الثابت أنه أُسري بالنبي ( من الحجر ( حجر الكعبة ) وهذا ثبت في الصحيح ، قال ابن حجر رحمه الله : والجمع بين كونه أُسري فيه منه ومن بيت أم هاني – إن كان هذا اللفظ محفوظا – أنه كان في أول الليل في بيت أم هانيء نائما ، ثم أوقظ وخرج إلى المسجد ونام في الحجر
أما فعله بالحديبية فنحن نسلم أن الصلاة في الحرم أفضل من الصلاة في الحل لكن كلامنا على الفضل المخصوص وهو كون الصلاة فيه بمائة ألف صلاة
إذن الفضل مخصوص بالمسجد الذي فيه الكعبة
هذا نهاية شرح كتاب الصيام من بلوغ المرام
فالحمد لله الذي يسّر وأعان على ذلك
لا تنس أخي كاتب هذا الشرح من دعائك له
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم(4/204)
((((( الحج والعمرة )))))(4/205)
الحج والعمرة(4/206)
كيف يؤدي المسلم مناسك الحج والعمرة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فإن أحسن ما يؤدي به المسلم مناسك الحج والعمرة أن يؤديها على الوجه الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينال بذلك محبة الله ومغفرته (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران:31).
وأكمل صفة في ذلك التمتع لمن لم يسق الهدي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أصحابه وأكَّده عليهم وقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم".
* والتمتع: أن يأتي الحاج بالعمرة كاملة في أشهر الحج ويحل منها ثم يحرم بالحج في عامه.
العمرة
1- إذا وصلت إلى الميقات وأردت الإحرام بالعمرة فاغتسل كما تغتسل من الجنابة إن تيسر لك، ثم البس ثياب الإحرام إزاراً ورداء "والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب غير متبرجة بزينة" ثم قل : "لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
* ومعنى "لبيك" أجبتك إلى ما دعوتني إليه من الحج أو العمرة.
2- فإذا وصلت إلى مكة فطف بالبيت سبعة أشواط طواف العمرة ، تبتدئ من الحجر الأسود وتنتهي إليه ، ثم صل ركعتين خلف مقام إبراهيم قريباً منه إن تيسر أو بعيداً.
3- فإذا صليت الركعتين فاخرج إلى الصفا واسع بين الصفا والمروة سبع مرات سعي العمرة تبتدئ بالصفا وتختم بالمروة.
4- فإذا أتممت السعي فقصر شعر رأسك.
وبذلك تمت العمرة ففك إحرامك والبس ثيابك.
الحج
1- إذا كان ضحى اليوم الثامن من ذي الحجة فاحرم بالحج من مكانك الذي أنت نازل فيه، فاغتسل إن تيسر لك والبس ثياب الإحرام، ثم قل: لبيك حجاً، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.(4/207)
2- ثم اخرج إلى منى وصل بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً بلا جمع.
3- فإذا طلعت الشمس فسر إلى عرفة وصل بها الظهر والعصر جمع تقديم على ركعتين ركعتين ، وامكث فيها إلى غروب الشمس ، وأكثر من الذكر والدعاء هناك مستقبل القبلة.
4- فإذا غربت الشمس فسر من عرفة إلى مزدلفة وصل بها المغرب والعشاء والفجر، ثم امكث فيها للدعاء والذكر إلى قرب طلوع الشمس.
وإن كنت ضعيفاً لا تستطيع مزاحمة الناس عند الرمي فلا بأس أن تسير إلى منى آخر الليل لترمي الجمرة قبل زحمة الناس.
5- فإذا قرب طلوع الشمس فسر من مزدلفة إلى منى ، فإذا وصلت إليها فاعمل ما يلي:
أ- ارم جمرة العقبة ، وهي أقرب الجمرات إلى مكة بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى وكبر مع كل حصاة .
ب- اذبح الهدي وكل منه ووزع على الفقراء ، والهدي واجب على المتمتع والقارن .
ج- احلق رأسك أو قصره ، والحلق أفضل (المرأة تقصر منه بقدر أنملة).
تعمل هذه الثلاثة مبتدئاً بالرمي ثم الذبح ثم الحلق إن تيسر، وإن قدمت بعضها على بعض فلا حرج .
وبعد أن ترمي وتحلق أو تقصر تحل التحلل الأول ؛ فتلبس ثيابك ويحل لك جميع محظورات الإحرام إلا النساء .
6- ثم انزل إلى مكة وطف طواف الإفاضة (طواف الحج) واسع بين الصفا والمروة سعي الحج.
وبهذا تحل التحلل الثاني ويحل لك جميع محظورات الإحرام حتى النساء .
7- ثم اخرج بعد الطواف والسعي إلى منى فبت فيها ليلتي أحد عشر أثنى عشر.
8- ثم ارم الجمرات الثلاث في اليوم الحادي عشر والثاني عشر بعد الزوال ، تبتدئ بالأولى وهي أبعدهن عن مكة ، ثم الوسطى ، ثم جمرة العقبة ، كل واحدة بسبع حصيات متعاقبات ، تكبر مع كل حصاة ، وتقف بعد الجمرة الأولى والوسطى تدعو الله مستقبل القبلة، ولا يجزئ الرمي قبل الزوال في هذين اليومين(4/208)
9- فإذا أتممت الرمي في اليوم الثاني عشر فإن شئت أن تتعجل فاخرج من منى قبل غروب الشمس ، وإن شئت أن تتأخر – وهو أفضل – فبت في منى ليلة الثالث عشر وارم الجمرات الثلاث في يومها بعد الزوال كما رميتها في اليوم الثاني عشر.
10- فإذا أردت الرجوع إلى بلدك فطف عند سفرك بالكعبة طواف الوداع سبعة أشواط. والحائض والنفساء ليس عليهما طواف الوداع.
زيارة المسجد النبوي في المدينة
1- تتوجه إلى المدينة قبل الحج أو بعده بنية زيارة المسجد النبوي والصلاة فيه ؛ لأن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام .
2- فإذا وصلت إلى المسجد فصل فيه ركعتين تحية المسجد أو صلاة الفريضة إن كانت قد أقيمت .
3- ثم اذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقف أمامه وسلم عليه قائلاً : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، صلى الله عليك وجزاك عن أمتك خيراً .
ثم اخط عن يمينك خطوة أو خطوتين لتقف أمام أبي بكر وسلم عليه قائلاً : السلام عليك يا أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته ، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً .
ثم اخط عن يمينك خطوة أو خطوتين لتقف أمام عمر وسلم عليه قائلاً : السلام عليك يا عمر أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً .
4- واخرج إلى مسجد قباء متطهراً وصل فيه .
5- واخرج إلى البقيع وزر قبر عثمان رضي الله عنه فقف أمام وسلم عليه قائلاً : السلام عليك يا عثمان أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيراً ، وسلم على من في البقيع من المسلمين .
6- واخرج إلى أحد وزر قبر حمزة رضي الله عنه ومن معه من الشهداء هناك وسلم عليهم ، وادع الله تعالى لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان .
فائدة
* يجب على المحرم بحج أو عمرة ما يلي :
1- أن يكون ملتزماً بما أوجب الله عليه من شرائع دينه كالصلاة في أوقاتها مع الجماعة .(4/209)
2- أن يتجنب ما نهى الله عنه من الرفث والفسوق والعصيان (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة:197).
3- أن يتجنب أذية المسلمين بالقول أو الفعل عند المشاعر أو غيرها .
4- أن يتجنب جميع محظورات الإحرام :
أ- فلا يأخذ شيئاً من شعره أو ظفره ، فأما نقش الشوكة ونحوه فلا بأس به وإن خرج الدم .
ب- ولا يتطيب بعد إحرامه في بدنه أو ثوبه أو مأكوله أو مشروبه، ولا يتنظف بصابون مطيب ،فأما ما بقي من أثر الطيب الذي تطيب به عند إحرامه فلا يضر.
ج- ولا يقتل الصيد، وهو الحيوان البري الحلال المتوحش أصلاً.
د- ولا يباشر لشهوة بلمس أو تقبيل أو غيرهما ، وأشد من ذلك الجماع .
هـ- ولا يعقد النكاح لنفسه ولا غيره ، ولا يخطب امرأة لنفسه ولا غيره .
و- ولا يلبس القفازين وهما شراب اليدين ، فأما لف اليدين بخرقه فلا بأس به ، وهذه محظورات على الذكر والأنثى .
* ويختص الرجل بما يلي :
أ- لا يغطي رأسه بملاصق ، فأما تظليله بالشمسية وسقف السيارة والخيمة وحمل العفش عليه فلا بأس به .
ب- لا يلبس القميص ولا العمائم ولا البرانس ولا السراويل ولا الخفاف إلا إذا لم يجد إزاراً فيلبس السراويل ، أو لم يجد نعلين فيلبس الخفاف .
ج- لا يلبس ما كان بمعنى ما سبق ، فلا يلبس العباءة ولا القباء ولا الطاقية ولا الفنيلة ونحوها.
* ويجوز أن يلبس النعلين والخاتم ونظارة العين وسماعة الأذن ، وأن يلبس الساعة في يده أو يتقلدها في عنقه ، وأن يلبس الهميان والمنطقة وهما ما تجعل فيه النفقة ، ولو كان فيهما خياط .
* ويجوز أن يتنظف بغير ما فيه طيب ، وأن يغسل ويحك رأسه وبدنه ، وإن سقط بذلك شعر بدون قصد فلا شيء عليه .
* والمرأة لا تلبس النقاب وهو ما تستر به وجهها منقوباً لعينيها فيه ، ولا تلبس البرقع أيضاً . والسنة أن تكشف وجهها إلا أن يراها رجال غير محارم لها فيجب عليها ستره في حال الإحرام وغيرها .(4/210)
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بقلم الفقير إلى الله
محمد الصالح العثيمين(4/211)
مناسك الحج و العمرة
الفصل الأول : في السفر وشيء من آدابه وأحكامه
محمد بن صالح العثيمين
السفر : مفارقة الوطن، ويكون لأغراض كثيرة؛ دينية ودنيوية.
وحكمه : حكم الغرض الذي أُنشىء من أجله :
فإن أُنشىء لعبادة كان عبادة؛ كسفر الحج والجهاد.
وإن أُنشىء لشيء مباح كان مباحاً : كالسفر للتجارة المباحة.
وإن أُنشىء لعمل محرّم كان حراماً كالسفر للمعصية والفساد في الأرض.
وينبغي لمن سافر للحج أو غيره من العبادات أن يعتني بما يلي :
( 1 ) إخلاص النية لله ـ عز وجل ـ، بأن ينوي التقرب إلى الله عز وجل في جميع أحواله لتكون أقواله وأفعاله ونفقاته مقربة له إلى الله سبحانه وتعالى، تزيد في حسناته، وتكفّر سيئاته، وترفع درجاته.
قال النبي صلى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : « إنك لن تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها حتى ما تجعله في فِي امرأتك» أي : فمها، متفق عليه.
( 2 ) أن يحرص على القيام بما أوجب الله عليه من الطاعات واجتناب المحرمات، فيحرص على إقامة الصلاة جماعةً في أوقاتها، وعلى النصيحة لرفقائه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة.
ويحرص كذلك على اجتناب المحرمات القولية والفعلية، فيجتنب الكذب والغيبة والنميمة والغش والغدر، وغير ذلك من معاصي الله عز وجل.
( 3 ) أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة من الكرم بالبدن والعلم والمال، فيُعين من يحتاج إلى العون والمساعدة، ويبذل العلم لطالبه والمحتاج إليه، ويكون سخياً بماله، فيبذله في مصالح نفسه ومصالح إخوانه وحاجاتهم.
وينبغي أن يُكثر من النفقة وحاجات السفر، لأنه ربما تعرض الحاجة وتختلف الأمور.
وينبغي أن يكون في ذلك كله طَلْقَ الوجه، طيب النفس، رضي البال، حريصاً على إدخال السرور على رفقته ليكون أليفا مألوفا.(4/212)
وينبغي أن يصبر على ما يحصل من جفاء رفقته ومخالفتهم لرأيه، ويداريهم بالتي هي أحسن، ليكون محترماً بينهم، مُعظّماً في نفوسهم.
( 4 ) أن يقول عند سفره وفي سفره ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلّم؛ فمن ذلك : إذا وضع رجله في مركوبه فليقل : بسم الله، فإذا ركب واستقر عليه فليذكر نعمة الله عليه بتيسير هذا المركوب له، ثم ليقل : الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر { سُبْحَنَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطو عنا بُعدَه، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل.
وينبغي أن يُكبر كلما صعد مكاناً عُلواً، ويُسبح إذا هبط مكاناً منخفضا.
وإذا نزل منزلا فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فمن نزل منزلاً ثم قالها لم يضرَّه شيء حتى يرتحل من منزله ذلك.
الصلاة في السفر
يجب على المسافر أن يحافظ على أداء الصلاة في أوقاتها جماعةً، كما يجب على المقيم كذلك.
قال الله تعالى : {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً}.(4/213)
فأوجب الله الجماعة على الطائفتين في حال الحرب والقتال مع الخوف، ففي حال الطمأنينة والأمن تكون الجماعة أوجب وأولى.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يُواظبون على صلاة الجماعة حَضرَاً وسفرا حتى قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف. رواه مسلم.
ويجب أن يعتني بوضوئه وطهارته، فيتوضأ من الحدث الأصغر، كالبول والغائط والريح والنوم المستغرق، ويغتسل من الجنابة كإنزال المني والجماع.
فإن لم يجد الماء، أو كان معه ماء قليل يحتاجه لطعامه وشرابه، فإنه يتيمم لقوله تعالى : {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
وكيفية الوضوء والغُسل معلومة.
وكيفية التيمم أن يضرب الأرض بيديه فيمسح بهما وجهه وكفيه؛ ففي « صحيح البخاري» أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لعمار بن ياسر رضي الله عنه : « يكفيك الوجه والكفان»، وفي رواية : ضرب النبي صلى الله عليه وسلّم بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه وفي رواية مسلم ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة.
وطهارة التيمم طهارةٌ مؤقتة، فمتى وجد الماء بَطلت ووجب عليه استعماله، فإذا تيمم عن جنابة ثم وجد الماء وجب عليه الاغتسال عنها، وإذا تيمم من الغائط ثم وجد الماء وجب عليه الوضوء عنه.(4/214)
وفي الحديث : « الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته».
والسنة للمسافر أن يقصر الصلاة الرباعية، وهي الظهر والعصر والعشاء الاخرة إلى ركعتين، لما في « الصحيحين» من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك.
وفي « صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها قالت : « فُرِضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلّم ففرضت أربعاً، وتُركت صلاة السفر على الأولى».
فالسنة للمسافر قَصرُ الصلاة الرباعية إلى ركعتين من حين أن يخرج من بلده إلى أن يرجع إليه، سواء طالت مدة سفره أم قَصرُت.
وفي « صحيح البخاري» عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم أقام بمكة تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين يعنى عام الفتح. إلا أن يصلي المسافر خلف إمام يُصلي أربعاً فيلزمه أن يُصَلي أربعاً، سواءً أردك الإمام من أول الصلاة أم من اثنائها لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه». وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : «... فما أدركتم فصلو وما فاتكم فأتموا».
وسُئل ابن عباس رضي الله عنهما : ما بال المسافر يُصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً إذا ائتم بمقيم ؟ فقال : تلك السنة.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً، وإذا صلى وحده صلى ركعتين، يعني في السفر.
وأما الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فهو سنة للمسافر عند الحاجة إليه، إذا جد به السير واستمر به، فيفعل ما هو الأرفق به من جمع التقديم أو التأخير؛ ففي « الصحيحين» من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا ارتحل قبل أن تزيغَ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحلَ صلى الظهر ثم ركب.(4/215)
وللبيهقي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا كان في سفر وزالت الشمس صلى الظهر والعصر جمعاً.
وأما إذا لم يكن المسافر محتاجاً للجمع فلا يجمع، مثل أن يكون نازلاً في مكان لا يريد أن يرتحل منه إلا بعد دخول وقت الثانية، فالأولى عدم الجمع لأنه غير محتاج إليه، ولذلك لم يجمع النبي حين كان نازلاً في منى في حَجّة الوداع لعدم الحاجة إليه.
وأما صلاة التطوع، فيتطوع المسافر بما يتطوع به المقيم، فيصلي صلاة الضحى وقيام الليل والوتر وغيرها من النوافل سوى راتبة الظهر والمغرب والعشاء فالسنة أن لا يُصليها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
مناسك الحج و العمرة
الفصل الثاني : في شروط الحج
محمد بن صالح العثيمين
إن الشريعة الإسلامية جاءت من لَدُن حكيم خبير، لا يُشرع منها إلا ما كان مُوافقاً للحكمة، ومطابقاً للعدل، لذلك كانت الواجبات والفرائض لا تلزم الخلق إلا بشروط مرعية يلزم وجودها حتى يكون فرضها واقعاً موقعه.
فمن ذلك فريضة الحج لا تكون فرضاً على العباد إلا بشروط :
الشرط الأول : أن يكون مسلماً، بمعنى أن الكافر لا يجب عليه الحج قبل الإسلام، وإنما نأمره بالإسلام أولاً، ثم بعد ذلك نأمره بفرائض الإسلام، لأن الشرائع لا تُقبل إلا بالإسلام، قال الله تعالى : {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتُهُمْ إِلاَ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَرِهُونَ مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتُهُمْ إِلاَ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَرِهُونَ}.
الشرط الثاني : العقل، فالمجنون لا يجب عليه الحج ولا يصح منه لأن الحج لا بد فيه من نية وقصد، ولا يمكن وجود ذلك من المجنون.(4/216)
الشرط الثالث : البلوغ، ويحصل البلوغ في الذكور بواحد من أمور ثلاثة :
1 ـ الإنزال، أي إنزال المني لقوله تعالى : {وَإِذَا بَلَغَ الاٌّطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ، وقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « غُسل الجمعة واجب على كل محتلم» متفق عليه.
2 ـ نباتُ شعر العانة، وهو الشعر الخشن يَنبت حول القُبل لقول عطية القرظي رضي الله عنه. عُرضنا على النبي صلى الله عليه وسلّم يوم قُريظة، فمن كان محتلماً أو أَنبتَ عانته قُتِل ومَنْ لا تُرِك.
3 ـ تمام خمس عشرة سنة، لقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عُرضت على النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أُحد وأنا ابن أربعَ عشرة سنةٌ فلم يُجزني.
زاد البيهقي وابن حبان : ولم يَرَني بلغتُ، وعُرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني.
وفي رواية للبيهقي وابن حبان : ورآني بلغت.
قال نافع : فَقدِمتُ على عمر بن عبدالعزيز وهو خليفة فحدّثته الحديث، فقال : « إن هذا الحد بين الصغير والكبير، وكتب لعماله أن يفرضوا ـ يعني من العطاء ـ لمن بلغ خمس عشرة سنة». رواه البخاري.
4 ـ ويحصل البلوغ في الإناث بما يحصل به البلوغ في الذكور، وزيادة أمر رابع، وهو الحيضُ، فمتى حاضت فقد بلغت وإن لم تبلغ عشر سنين.
فلا يجب الحج على من دون البلوغ لصغر سنه، وعدم تحمُّله أعباء الواجب غالباً، ولقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « رُفع القلم عن ثلاثة؛ عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يَكبُر، وعن المجنون حتى يفيق». رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الحاكم.(4/217)
لكن يصح الحج من الصغير الذي لم يبلغ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم لقي رَكباً بالروحاء ـ اسم موضع ـ فقال : « من القوم ؟» قالوا : المسلمون. فقالوا : من أنت ؟ قال : « رسول الله»، فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت : ألهذا حج ؟ قال : « نعم ولكِ أجر» رواه مسلم.
وإذا أثبت النبي صلى الله عليه وسلّم للصبي حجاً ثبت جميع مقتضيات هذا الحج فليُجنَّب جميع ما يجتنبه المُحرم الكبير من محظورات الإحرام، إلا أن عمدَه خطأٌ، فإذا فعل شيئاً من محظورات الإحرام فلا فدية عليه ولا على وليِّه.
الشرط الرابع : الحرية، فلا يجب الحج على مملوك لعدم استطاعته.
الشرط الخامس : الاستطاعة بالمال والبدن، بأن يكونَ عنده مال يتمكن به من الحج ذهاباً وإياباً ونفقة، ويكون هذا المال فاضلاً عن قضاء الديون والنفقات الواجبة عليه، وفاضلاً عن الحوائج التي يحتاجها من المطعم والمشرب والملبس والمنكح والمسكن ومتعلقاته وما يحتاج إليه من مركوب وكُتبِ علمٍ وغيرها، لقوله تعالى : {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَلَمِينَ} .
ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة مَحْرَمٌ، فلا يجب أداء الحج على من لا محرم لها لامتناع السفر عليها شرعاً، إذ لا يجوز للمرأة أن تسافر للحج ولا غيره بدون محرم، سواء أكان السفر طويلاً أم قصيراً، وسواء أكان معها نساء أم لا، وسواء كانت شابة جميلة أم عجوزاً شوهاء، وسواء في طائرة أم غيرها لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلّم يخطب يقول : « لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم»، فقام رجلٌ فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « انطلق فحج مع امرأتك».(4/218)
ولم يستفصله النبي صلى الله عليه وسلّم هل كان معها نساء أم لا ؟ ولا هل كانت شابة جميلة أم لا ؟ ولا هل كانت آمنةً أم لا ؟
والحكمة في منع المرأة من السفر بدون محرم صونُ المرأة عن الشر والفساد، وحمايتها من أهل الفجور والفسق؛ فإن المرأة قاصرةٌ في عقلها وتفكيرها والدفاع عن نفسها، وهي مطمعُ الرجال، فربما تُخدع أو تُقهر، فكان من الحكمة أن تُمنع من السفر بدون محرم يُحافظ عليها ويصونها؛ ولذلك يُشترط أن يكون المَحرَم بالغاً عاقلاً، فلا يكفي المحرم الصغير أو المعتوه.
والمَحرَمُ زوج المرأة، وكل ذَكرٍ تَحرمُ عليه تحريماً مؤبداً بقرابةٍ أو رضاع أو مصاهرة.
فالمحارم من القرابة سبعة :
1 ـ الأصول؛ وهم الاباء والأجداد وإن علوا، سواء من قِبَلِ الأب أو من قِبَلِ الأم.
2 ـ الفروع؛ وهم الأبناء وأبناء الأبناء وأبناء البنات وإن نزلوا.
3 ـ الإخوة؛ سواءٌ كانوا إخوةً أشقاء أم لأب أم لأم.
4 ـ الأعمام؛ سواء كانوا أعماماً أشقاء أم لأب أو لأم، وسواء كانوا أعماماً للمرأة أو لأحدٍ من آبائها أو أمهاتها،فإن عم الإنسان عمٌّ له ولذريته مهما نزلوا.
5 ـ الأخوال سواء كانوا أخوالاً أشقاء أم لأب أم لأم، وسواء كانوا أخوالاً للمرأة أو لأحدٍ من آبائها أو أُمهاتها، فإن خال الإنسان خالٌ له ولذريته مهما نزلوا.
6 ـ أبناء الإخوة وأبناء أبنائهم وأبناء بناتهم وإن نزلوا، سواءٌ كانوا أشقاء أم لأب أم لأم.
7 ـ أبناء الأخوات وأبناء أبنائهن وأبناء بناتهن وإن نزلوا، سواءٌ كُنّ شقيقات أم لأب أم لأم.
والمحارم من الرضاع نظير المحارم من النسب، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « يحرمَ من الرضاع ما يَحرمُ من النسب». متفق عليه.
والمحارم بالمصاهرة أربعة :
1 ـ أبناء زوج المرأة وأبناء أبنائه وأبناء بناته وإن نزلوا.
2 ـ آباء زوج المرأة وأجداده من قِبَل الأب أو من قِبَل الأم وإن عَلَوا.(4/219)
3 ـ أزواج بنات المرأة وأزواج بنات أبنائها وأزواج بنات بناتها وإن نزلن.
وهذه الأنواع الثلاثة تثبت المحرمية فيهم بمجرد العقد الصحيح على الزوجة، وإن فارقها قبل الخلوةِ والدخولِ.
4 ـ أزواج أمهات المرأة وأزواج جداتها وإن علوا، سواء من قِبَل الأب أو من قِبَل الأم، لكن لا تثبت المحرمية في هؤلاء إلا بالوطء، وهو الجماع في نكاح صحيح، فلو تزوج امرأةً ثم فارقها قبل الجماعِ لم يكن مَحرماً لبناتها وإن نزلن.
فإن لم يكن الإنسان مستطيعاً بماله فلا حج عليه، وإن كان مستطيعاً بماله عاجزاً ببدنه؛ نظرنا.
فإن كان عجزاً يُرجى زواله كمرض يُرجى أن يزول، انتظر حتى يزول، ثم يُؤدي الحج بنفسه.
وإن كان عجزا لا يُرجى زواله، كالكبر والمرض المُزمن الذي لا يُرجى برؤه، فإنه يُنيب عنه من يقوم بأداء الفريضة عنه لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم قالت : « يا رسول الله إن أبي أدركته فريضةُ الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، قال : « حجي عنه» رواه الجماعة.
هذه شروط الحج التي لا بد من توافرها لوجوبه.
واعتبارها مطابقٌ للحكمة والرحمة والعدل {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
مناسك الحج و العمرة
الفصل الثالث : في المواقيت وأنواع الأنساك
محمد بن صالح العثيمين
المواقيت نوعان : زمانية ومكانية.
فالزمانية للحج خاصة، أما العمرة فليس لها زمن معين لقوله تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الأَلْبَبِ} وهي ثلاثةٌ شوال وذو القعدة وذو الحجة.(4/220)
وأما المكانية فهي خمسة، وقّتها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ففي « الصحيحين» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : « وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأهل المدينة ذا الحُليفة، ولأهل الشام الجُحفة، ولأهل نجد قَرن المنازل، ولأهل اليمن يَلَملَم، فهنّ لهنّ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهنّ فمَهِلُّه من أهلِه، وكذلك حتى أهل مكة يُهلُّون منها».
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم وقّت لأهل العراق ( ذات عِرْق ) رواه أبو داود والنسائي.
فالأول : ذو الحليفة ويسمى ( أبيار علي ) بينه وبين مكة نحو عشر مراحل، وهو ميقات أهل المدينة ومن مرّ به من غيرهم.
الثاني : الجحفة، وهي قرية قديمة بينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل، وقد خربت فصار الناس يُحرمون من رابغ بدلاً عنها وهي ميقات أهل الشام ومن مر بها من غيرهم إن لم يمروا بذي الحليفة قبلها، فإن مروا بها لزمهم الإحرام منها.
الثالث : قرن المنازل؛ ويسمى ( السيل ) وبينه وبين مكة نحو مرحلتين، وهو ميقات أهل نجد ومن مر به من غيرهم.
الرابع : يلملم وهو جبل أو مكان بتهامة، بينه وبين مكة نحو مرحلتين، ويسمى ( السعدية ) وهو ميقات أهل اليمن ومن مر به من غيرهم.
الخامس : ذات عرق، ويسمى عند أهل نجد ( الضريبة ) بينها وبين مكة مرحلتان، وهي لأهل العراق ومن مر بها من غيرهم.
وَمَن كان أقربَ إلى مكة من هذه المواقيت فميقاته مكانه فَيُحرم منه، حتى أهل مكة يحرِمون من مكة، إلا في العمرة فيحرم من كان في الحَرَم من أدنى الحلّ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لعبدالرحمن بن أبي بكر : « اخْرُج بأُختِك ـ يعني عائشة لما طلبت منه العمرة ـ من الحَرَم فَلتُهِل بعمرة» متفق عليه.(4/221)
ومن كان طريقه يميناً أو شمالاً من هذه المواقيت فإنه يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، فإن لم يُحاذِ ميقاتاً مثل أهل سواكنَ في السودان ومن يمر من طريقهم فإنهم يحرمون من جُدّة.
ولا يجوز لمن مر بهذه المواقيت وهو يريد الحج أو العمرة أن يتجاوزها إلا محرماً، وعلى هذا فإذا كان في الطائرة وهو يُريد الحج أو العمرة، وجب عليه الإحرام إذا حاذى الميقات من فوقه، فيتأهب ويلبس ثياب الإحرام قبل محاذاة الميقات، فإذا حاذاه عقد نية الإحرام فوراً.
ولا يجوز له تأخيره إلى الهبوط في جُدّة، لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالى، وقد قال سبحانه : {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً }، {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ }، {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.(4/222)
ومن مَرّ بالمواقيت وهو لا يريد حَجّاً ولا عمرة، ثم بدا له بعد ذلك أن يعتمر أو يحج فإنه يُحرم من المكان الذي عزم فيه على ذلك لأن في « الصحيحين» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في ذكر المواقيت قال : ومن كان دون ذلك فَمِن حيث أنشأ، وإذا مرّ بهذه المواقيت وهو لا يريد الحج ولا العمرة وإنما يريد مكة لغرض آخر كطلب علم، أو زيارة قريب، أو علاج مرض، أو تجارة أو نحو ذلك فإنه لا يجب عليه الإحرام إذا كان قد أدى الفريضة، لحديث ابن عباس السابق وفيه : « هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة»، فإن مفهومه أن من لا يريدهما لا يجب عليه الإحرام.
وإرادة الحج والعمرة غير واجبة على من أدى فريضتهما، وهما لا يجبان في العُمرِ إلا مرة واحدة، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم حين سُئل هل يجب الحج كل عام ؟ قال : « الحج مرة فما زاد فهو تطوع».
والعمرة كالحج لا تجب إلا مرة في العمر.
لكن الأولى لمن مر بالميقات أن لا يدع الإحرام بعمرة أو حج إن كان في أشهرهِ، وإن كان قد أدى الفريضة ليحصل له بذلك الأجر، ويخرج من الخلاف في وجوب الإحرام عليه.
أنواع الأنساك ثلاثة
الأول : التمتع بالعمرة إلى الحج، وهو أن يُحرم في أشهر الحج بالعمرة وحدها، ثم يفرغ منها بطواف السعي وتقصير، ويحل من إحرامه، ثم يحرم بالحج في وقته من ذلك العام.
الثاني : القران؛ وهو أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً، أو يُحرم بالعمرة أولاً ثم يُدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها فإذا وصل إلى مكة طاف طواف القدوم، وسعى بين الصفا والمروة للعمرة والحج سعياً واحداً، ثم استمرّ على إحرامه حتى يُحل منه يوم العيد.
ويجوز أن يؤخر السعي عن طواف القدوم إلى ما بعد طواف الحج، لا سيما إذا كان وصوله إلى مكة متأخراً وخاف فوات الحج إذا اشتغل بالسعي.(4/223)
الثالث : الإفراد؛ وهو أن يُحرم بالحج مفرداً، فإذا وصل مكة طاف طواف القدوم، وسعى للحج، واستمر على إحرامه حتى يحل منه يوم العيد.
ويجوز أن يؤخر السعي إلى ما بعد طواف الحج كالقارن.
وبهذا تبين أن عمل المُفرد والقارن سواء، إلا أن القارن عليه الهديُ لحصول النُّسُكين له دون المفرد.
وأفضل هذه الأنواع التمتع، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر به أصحابه وحثهم عليه، بل أمرهم أن يُحولوا نية الحج إلى العمرة من أجل التمتع.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سُئل عن متعةِ الحج ؟ فقال : « أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال النبي صلى الله عليه وسلّم : « اجعلوا إهلالكم بالحج عُمرةً إلا من قَلّد الهدي» فَطُفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب ) رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه قال : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم مُهلين بالحج، معنا النساء والولدان، فلما قدمنا مكة طُفنا بالبيت والصفا والمروة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم : « من لم يكن معه هديٌ فَليحلُل»، قال : قلنا : أي الحل ؟! قال : « الحلُّ كله». قال : فأتينا النساء، ولبسنا الثياب ومَسَسنا الطيب، فلما كان يومُ التروية أهللنا بالحج» رواه مسلم.
وفي رواية له قال : « قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : « قد علمتُم أني أتقاكم لله، وأصدقكم وأبرُّكم، ولولا هَديي لأحللت كما تُحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهديَ، فَحِلُّوا». فَحللنا وسَمِعنا وأطعنا».(4/224)
فهذا صريح في تفضيل التمتع على غيره من الأنساك لقوله صلى الله عليه وسلّم : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسُق الهديَ»، ولم يمنعه من الحِلِّ إلا سوقُ الهدي، ولأنّ التمتُّع أيسر على الحاج، حيث يتمتع بالتحلل بين الحج والعمرة، وهذا هو الذي يُوافق مُرادَ الله عزّ وجل حيث قال سبحانه : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }، وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: « بُعِثتُ بالحنيفية السمحة».
هذا وقد يُحرم الحاج بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، ثم لا يتمكن من إتمامها قبل الوقوف بعرفة، ففي هذه الحال يدخل الحج على العمرة قبل الشروع في طوافها ويصير قارناً، ولذلك مثالان :
المثال الأول : امرأةٌ أحرمت بالعمرة متمتعة بها إلى الحج، فحاضت أو نَفِست قبل أن تطوف، ولم تَطهر قبل وقت الوقوف بعرفة، فإنها تُحرم بالحج وتصير قارنة، وتفعل ما يفعله الحاج، غير أنها لا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر وتغتسل.
المثال الثاني : شخص أحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، فلم يتمكن من الدخول إلى مكة قبل وقت الوقوف بعرفة، فإنه يُدخِلُ الحج على العمرة ويصير قارناً لتعذُّر إكمال العمرة منه.
مناسك الحج و العمرة
الفصل الرابع : فيما يجب به الهدي
محمد بن صالح العثيمين
من الأنساك، وما صفة الهدي
سبق في الفصل الثالث أن الأنساك ثلاثة : التمتع والقِران والإفراد، والذي يجب به الهديُ هو التمتع والقِران.
والمتمتع : هو مَن أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم حَلّ منها وأحرم بالحج في عامِه، فلو أحرم بالعمرة قبل دخول شهر شوال، وبقي في مكة ثم حج في عامه فلا هدي عليه لأنه ليس بمتمتع، حيث كان إحرامه بالعمرة قبل دخول أشهر الحج.(4/225)
ولو أحرم بالعمرة بعد دخول شوال وحج من العام الثاني، فلا هدي عليه أيضاً لأن العمرة في عامٍ والحج في عام آخر.
ولو أحرم بالعمرة في أشهر الحج، وحل منها ثم رجع إلى بلده وعاد منه مُحرماً بالحج وحده لم يكن متمتعاً لأنه أفرد الحج بسفر مستقل.
وأما القِران : فهو أن يُحرم بالعمرة والحج معاً، أو يُحرم بالعمرة أولاً ثم يُدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها كما سبق.
ولا يجب الهدي على المتمتع والقارن إلا بشرط أن لا يكونا من حاضري المسجد الحرام، أي : لا يكونا من سكان مكة أو الحرم، فإن كانوا من سكان مكة أو الحرم فلا هدي عليهم لقوله تعالى : {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
ويلزم الهدي أهل جُدّة إذا أحرموا بتمتع أو قِران، لأنهم ليسوا من حاضري المسجد الحرام.
ومَن كان مِن سُكان مكة ثم سافر إلى غيرها لطلب علم أو غيره، ثم رجع إليها متمتعاً أو قارناً فلا هدي عليه لأن العبرة بمحل إقامته ومسكنه وهو مكة.
أما إذا كان من أهل مكة ولكن انتقل للسكنى في غيرها ثم رجع إليها متمتعاً أو قارناً فإنه يلزمه الهدي، لأنه حينئذ ليس من حاضري المسجد الحرام.(4/226)
ومتى عَدِمَ المتمتع والقارن الهدي أو ثمنه بحيث لا يكونُ معه من المال إلا ما يحتاجه لنفقته ورجوعه فإنه يسقط عنه الهدي، ويلزمه الصوم؛ لقوله تعالى : {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
ويجوز أن يصوم الأيام الثلاثة في أيام التشريق؛ وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، لقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهم : « لم يُرَخّص في أيام التشريق أن يُصمنَ إلا لمن لم يجد الهدي» رواه البخاري.
ويجوز أن يصومها قبل ذلك، بعد الإحرام بالعمرة إذا كان يعرف من نفسه أنه لا يستطيع الهدي، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»، فمن صام الثلاثة في العمرة فقد صامها في الحج.
لكن لا يصوم هذه الأيام يوم العيد لحديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم « نهى عن صوم يومين : يوم الفطر ويوم النحر» متفق عليه.
ويجوز أن يصوم هذه الثلاثة متوالية ومتفرقة، ولكن لا يؤخرها عن أيام التشريق. وأما السبعة الباقية فيصومها إذا رجع إلى أهله إن شاء متوالية، وإن شاء متفرقة، لأن الله سبحانه أوجبها ولم يشرط أنها متتابعة.
مسائل تتعلق بالهدي(4/227)
المسألة الأولى : في بيان نوع الهدي.
المسألة الثانية : فيما يجبُ أو ينبغي أن يتوافر فيه.
المسألة الثالثة : في مكان ذبحه.
المسألة الرابعة : في وقت ذبحه.
المسألة الخامسة : في كيفية الذبح المشروع.
المسألة السادسة : في كيفية توزيعه.
فأما نوع الهدي : فهو من الإبل أو البقر أو الغنم الضأن والمعز لقوله تعالى : {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الاٌّنْعَمِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} .
وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم.
وتجزىء الواحدة من الغنم في الهدي عن شخص واحد.
وتُجزىء الواحدة من الإبل أو البقر عن سبعة أشخاص لحديث جابر رضي الله عنه قال : « أَمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن نشتركَ في الإبل والبقر، كلُّ سبعةٍ منا في بَدَنة» متفق عليه.
وأما ما يجبُ أن يتوافر فيه :
فيجب أن يتوافر فيه شيئان :
1 ـ بلوغ السن الواجب وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة في المعز، وستة أشهر في الضأن، فما دون ذلك لا يُجزىء لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « لا تذبحوا إلا مُسنة إلا أن يَعسر عليكم فتذبحوا جذعةً من الضأن» رواه الجماعةُ إلا البخاري.
2 ـ السلامة من العيوب الأربعة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلّم باتقائها وهي :
ـ العوراء البيِّن عورها والعمياء أشد فلا تُجزىء.
ـ المريضة البيِّن مرضها بجرب أو غيره.
ـ العرجاء البيِّن ضلعها، والزمنى التي لا تمشي، ومقطوعة إحدى القوائم أشدُّ.
ـ الهزيلة التي لا مُخَّ فيها.(4/228)
لما روى مالك في « الموطأ» عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئل : ماذا يُتقى من الضحايا، فأشار بيده وقال : أربعاً، وكان البراء يُشيُر بيده ويقولُ : يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، العرجاء البيِّن ضلعها، والعوراء البيِّن عَورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعجفاء التي لا تُنقى.
فأما العيوب التي دون ذلك كعيب الأذن والقرن فإنها تُكره، ولا تمنع الإجزاء على القولِ الراجح.
وأما ما ينبغي أن يتوافر في الهدي، فينبغي أن يتوافر فيه السمن والقوة وكبر الجسم وجمال المنظر، فكلما كان أطيب فهو أحب إلى الله عز وجل، وإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
وأما مكان ذبح الهدي : ففي منى، ويجوز في مكة وفي بقية الحرَم، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « كل فجاج مكة منحرٌ وطريقٌ» رواه أبو داود.
وقال الشافعي رحمه الله : الحرَم كله منحر؛ حيث نحر منه أجزأه في الحج والعمرة.
وعلى هذا فإذا كان ذبحُ الهدي بمكة أَفيد وأنفع للفقراء فإنه يذبح في مكة، إما في يوم العيد، أو في الأيام الثلاثة بعده.
ومَنْ ذبح الهدي خارج حدود الحرم في عرفة أو غيرها من الحِلِّ لم يُجزِئه على المشهور.
وأما وقت الذبح : فهو يوم العيد إذا مضى قدر فعل الصلاة بعد ارتفاع الشمس قدرَ رُمحٍ إلى آخرِ أيام التشريق، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم نحر هديه ضحى يوم العيد، ويُروى عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال : « كل أيام التشريق ذبح».
فلا يجوز تقديم ذبح هدي التمتع والقران على يوم العيد، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يذبح قبل يوم العيد وقال : « خُذوا عني مناسككم»، وكذلك لا يجوز تأخير الذبح عن أيام التشريق لخروج ذلك عن أيام النحر.
ويجوز الذبح في هذه الأيام الأربعة ليلاً ونهاراً، ولكن النهار أفضل.
وأما كيفية ذبح الهدي : فالسنة نَحرُ الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، فإن لم يتيسر نحرها قائمةً فباركة.(4/229)
والسنة في غير الإبل الذبحُ مُضجعة على جنبها.
والفرق بين النحر والذبح أن النحر في أسفل الرقبة مما يلي الصدر، والذبح في أعلاها مما يلي الرأس.
ولا بد في النحر والذبح من إنهار الدم بقطع الودجين لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « ما أنهر الدم وذُكرَ اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سِناً أو ظُفراً» متفق عليه.
وإنهارُ الدم يكون بقطع الودَجين؛ وهما العرقان الغليظان المُحيطان بالحُلقوم، وتمام ذلك بقطع الحُلقوم والمرىء أيضاً.
ولا بد من قول الذابح : « بسم الله» عند الذبح أو النحر، فلا تُؤكل الذبيحة إذا لم يذكر اسم الله عليها، لقوله تعالى : {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }، ولا تُجزىء عن الهدي حينئذٍ لأنها ميتةٌ لا يحلُّ أكلها.
وأما كيفية توزيع الهدي : فقد قال الله تعالى : {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ }، ( وأمر النبي صلى الله عليه وسلّم في حجته من كل بدنة بقطعة فجُمعت في قدر فطبخت، فأكل من لحمها وشرب من مرقها ) رواه مسلم.
فالسنة أن يأكل من هديه ويُطعم منه غيره، ولا يكفي أن يذبح الهدي ويرمي به بدون أن يتصدق منه وينتفع به، لأن هذا إضاعةٌ للمال، ولا يحصل به الإطعام الذي أمر الله به، إلا أن يكونَ الفقراء حوله فيذبحه ثم يُسلمه لهم، فحينئذ يبرأ منه.
فعلى الحاجِّ أن يعتني بهديه من جميع هذه النواحي ليكون هدياً مقبولاً مقرباً له إلى الله عز وجل، ونافعاً لعباد الله.(4/230)
واعلم أن إيجاب الهدي على المتمتع والقارن، أو الصيام عند العدم، ليس غُرماً على الحاج، ولا تعذيباً له بلا فائدة، وإنما هو من تمام النسك وكماله، ومن رحمة الله وإحسانه، حيث شرع لعباده ما به كمال عبادتهم وتقرُّبهم إلى ربهم، وزيادة أجرهم، ورفعةُ درجاتهم، والنفقة فيه مخلوفةٌ، والسعي فيه مشكور، فهو نعمة من الله تعالى يستحق عليها الشكر بذبح الهدي، أو القيام ببدله، ولهذا كان الدم فيه دم شُكران لا دم جبران، فيأكل منه الحاج ويهدي ويتصدق.
وكثيرٌ من الناس لا تخطُرُ ببالهم هذه الفائدة العظيمة، ولا يحسبون لها حساباً، فتجدهم يتهربون من وجوب الهدي، ويسعون لإسقاطه بكل وسيلة، حتى إن منهم من يأتي بالحج مفرداً من أجل أن لا يجب عليهم الهدي أو الصيام، فيَحرمون أنفسهم أجر التمتع وأجرَ الهدي أو بدلَه، والله المستعان.
مناسك الحج و العمرة
الفصل الخامس : في محظورات الإحرام
محمد بن صالح العثيمين
محظورات الإحرام : ما يُمنع منه المُحرم بحج أو عمرة وهي ثلاثة أقسام :
قسمٌ محرّمٌ على الذكور والإناث.
قسمٌ محرّمٌ على الذكور فقط.
قسمٌ محرّمٌ على الإناث فقط.
فأما المُحَرَّمُ على الذكور والإناث فهو :(4/231)
1 ـ إزالةُ شعر الرأس بحلق أو غيره لقوله تعالى : {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }، وألحق جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى شعرَ بقية الجسم بشعر الرأس، وعلى هذا فلا يجوز للمحرمِ أن يُزيل أي شعر كان من بدنه.
وقد بيّن الله سبحانه وتعالى فدية حلق الرأس بقوله : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.(4/232)
وأوضح النبي صلى الله عليه وسلّم أن الصيام مقداره ثلاثة أيام، وأن الصدقة مقدارُها ثلاثة آصع من الطعام لستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك شاة، والمراد شاة تبلغ السن المعتبر في الهدي، وتكونُ سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء.
ويُسمّي العلماء هذه الفدية فدية الأذى لقوله تعالى : {أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
2 ـ تقليم الأظافر أو قلعُها أو قصُّها قياساً على حلق الشعر؛ على المشهور عند أهل العلم.
ولا فرق بين أظفار اليدين والرجلين، لكن لو انكسر ظُفُرهُ وتأذى به فلا بأسَ أن يقص القدر المؤذي منه، ولا فدية عليه.
3 ـ استعمال الطيب بعد الإحرام في ثوبه أو بدنه أو غيرهما مما يتصل به لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في المُحرِم : « لا يلبس ثوباً مسه زعفران ولا ورس»، وقال في المُحرم الذي وقَصَتْهُ راحلته وهو واقف بعرفة : « لا تُقربوه طيباً» وعلل ذلك بكونه يُبعث يوم القيامة مُلبياً. والحديثان صحيحان.
فدل هذا على أن المُحرِم ممنوع من قُربان الطيب.
ولا يجوز للمحرم شمُّ الطيب عمداً ولا خلط قهوته بالزعفران الذي يُؤثر في طعم القهوة أو رائحتها، ولا خَلطُ الشاي بماء الورد ونحوه مما يظهر فيه طعمه أو ريحه.(4/233)
ولا يستعمل الصابون المُمَسك إذا ظهرت فيه رائحة الطيب، وأما الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه فلا يضُرُّ بقاؤه بعد الإحرام لقول عائشة رضي الله عنها : « كنت أنظرُ إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو مُحرم» متفق عليه.
4 ـ عقد النكاح لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب» رواه مسلم.
فلا يجوز للمُحرم أن يتزوج امرأةً ولا أن يعقدَ لها النكاحَ بولايةٍ ولا بوكالةٍ، ولا يخطبُ امرأةً حتى يُحِلَّ من إحرامه.
ولا تُزوَّج المرأةُ وهي محرمةٌ. وعقدُ النكاح حالَ الإحرام فاسدٌ غير صحيح، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « مَن عمل عملاً ليس عليه أمُرنا فهو رد».
5 ـ المباشرةُ لشهوةٍ بتقبيل أو لمسٍّ أو ضمٍّ أو نحوه لقوله تعالى : {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الأَلْبَبِ}.
ويدخل في الرّفث مقدمات الجماع كالتقبيل والغمز والمُداعبة لشهوة.
فلا يحل للمحرم أن يُقبّل زوجَته لشهوة، أو يمسها لشهوة، أو يغمزها لشهوة، أو يداعبها لشهوة.
ولا يحلُّ لها أن تمكنه من ذلك وهي مُحرمة.
ولا يحل النظر لشهوة أيضاً لأنه يستمتع به كالمباشرة.
6 ـ الجماع لقوله تعالى : {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الأَلْبَبِ}.
والرفث الجماع ومقدماته، والجماع أشد محظورات الإحرام تأثيراً على الحج وله حالان :
الحال الأولى : أن يكون قبلَ التحللِ الأول فيترتب عليه شيئان :(4/234)
أ ـ وجوب الفدية وهي بَدنَة أو بقرة تُجزىء في الأضحية يذبحها ويُفرقها كلها على الفقراء، ولا يأكل منها شيئاً.
ب ـ فساد الحج الذي حصل فيه الجماع، لكن يلزم إتمامه وقضاؤه من السنة القادمة بدون تأخير.
قال مالك في « الموطأ» : بلغني أن عمر وعلياً وأبا هريرة سُئلوا عن رجلٍ أصاب أهله وهو مُحرم ؟ فقالوا : يَنفذان لوجههما حتى يقضيا حَجهما، ثم عليهما حجٌّ قابل والهدي.
قال : وقال عليٌّ : وإذا أهلا بالحج من عامٍ قابلٍ تفرقا حتى يقضيا حَجّهما.
ولا يفسدُ النُّسُكُ في باقي المحظورات.
الحال الثانية : أن يكونَ الجماع بعد التحلل الأول، أي بعد رمي جمرةِ العقبة والحلق، وقبل طواف الإفاضة، فالحج صحيح، لكن يلزمه شيئان على المشهور من المذهب :
أ ـ فديةٌ شاة يذبحها ويُفرقها جميعاً على الفقراء، ولا يأكل منها شيئاً.
ب ـ أن يخرج إلى الحل، أي : إلى ما وراء حدود الحرم فَيُجدد إحرامه، ويلبس إزراً ورداءً ليطوف للإفاضة مُحرماً.
7 ـ من محظورات الإحرام : قتل الصيد، والصيد : كل حيوان بري حلال متوحش طبعاً كالظباء والأرانب والحمام، لقوله تعالى : {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }، وقوله : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَلِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} فلا يجوز للمُحْرِم اصطياد الصيد المذكور، ولا قتلُه بمباشرةٍ أو تسبب أو إعانةٍ على قتلهِ بدلالةٍ أو إشارةٍ أو مناولةِ سلاحٍ أو نحو ذلك.(4/235)
وأما الأكل منه فهو أقسامٌ ثلاثةٌ :
الأول : ما قتله المُحرمُ أو شاركَ في قتله فأكله حرامٌ على المحرم وغيره.
الثاني : ما صاده حلالٌ بإعانة المُحرم، مثل أن يدله المُحرم على الصيد، أو يناوله آلةَ الصيد، فهو حرامٌ على المُحرمِ دون غيره.
الثالث : ما صاده الحلالُ للمحرمِ، فهو حرامٌ على المُحرِمِ دون غيره، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « صيد البرِّ لكم حلالٌ ما لم تَصيدوه أو يُصَد لكم».
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أنه صاد حماراً وحشيًّا، وكان أبو قتادة غيرَ محرمٍ وأصحابه مُحرمين، فأكلوا منه، ثم شكوا في أكلهم، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلّم ؟ فقال : « هل أشار إليه إنسانٌ أو أمره بشيء» ؟ قالوا : لا، قال : « فكلوه».
وإذا قتل المُحرمُ الصيد متعمداً فعليه جزاؤه، لقوله تعالى : {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَلِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.
فإذا قتلَ حمامة مثلاً فمثلها الشاة فَيُخير بين أن يذبح الشاة ويُفرقها على الفقراء فديةً عن الحمامة، وبين أن يُقومها ويُخرج ما يقابل القيمة طعاماً للمساكين، لكل مسكين نصف صاع، وبين أن يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً.
وأما قطع الشجر فليس حراماً على المُحرم من أجل الإحرام، لأنه لا تأثير للإحرام فيه، وإنما يَحرمُ على من كان داخل حدود الحرَمِ سواءٌ أكان محرِماً أم غيرَ محرم، وعلى هذا يجوز قطع الشجر في عرفة للمُحرِم وغير المُحرِم، ويحرَّم في مزدلفة ومنى على المحرم وغير المحرم لأن عرفة خارجُ حدودِ الحرم، ومزدلفة ومنى داخل حدودِ الحرمِ.
فهذه المحظورات السبعة حرامٌ على الرجال والنساء.(4/236)
ويختص الرجال بمحظورين حرامٌ عليهم دونَ النساء وهما :
1 ـ تغطية الرأس، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم في المُحرِم الذي وقصته راحلته بعرفة : « اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تُخَمِّروا رأسَه ـ أي لا تُغطوه ـ»، متفق عليه.
فلا يجوز للرجل أن يُغطي رأسَه بما يلاصقه كالعمامة ـ والقُبع والطاقية والغُترة ونحوها، فأما غير الملاصق كالشمسية وسقف السيارة والخيمة ونحوها فلا بأسَ به لقول أم حصين رضي الله عنها : « حجَجنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلالٌ وأسامة أحدُهما يقود راحلته والاخر رافعٌ ثوبه على رأس النبي صلى الله عليه وسلّم يُظلله من الشمس» رواه مسلم.
وفي رواية : « يستره من الحرّ حتى رمى جمرة العقبة».
ولا بأس أن يحمل متاعه على رأسه وإن تغطى بعض الرأس لأن ذلك لا يُقصد به الستر غالباً. ولا بأسَ أن يغوص في الماء ولو تغطى رأسه بالماء.
2 ـ مما يختص به الرجال من محظورات الإحرام لُبس المخيط، وهو أن يلبس ما يلبس عادةً على الهيئة المُعتادة، سواء كان شاملاً للجسم كله، كالبرنس والقميص، أو لجزء منه كالسراويل والفنايل والخفاف والجوارب وشراب اليدين والرجلين، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئل : ما يلبس المُحرِم من الثياب ؟ قال : « لا يلبسُ القميص ولا العمامة ولا البرانس ولا السراويل ولا الخفاف ولا ثوباً مسّه زعفرانٌ ولا ورس» متفق عليه.
لكن إذا لم يجد الإزار ولا ثَمنه لبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين ولا ثَمنهما لبس الخفين ولا شيء عليه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يخطب بعرفات يقول : « من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خُفين» متفق عليه.
ولا بأس أن يلف القميص على جسمه بدون لبس.
ولا بأس أن يجعل العباءة رداءً بحيث لا يلبسها كالعادة.(4/237)
ولا بأس أن يلبس رداءً أو إزاراً مُرقعاً.
ولا بأس أن يعقد على إزاره خيطاً أو نحوه.
ولا بأس أن يلبس الخاتم وساعة اليد ونظارةَ العين وسماعة الأُذن، ويُعلق القِربَة ووعاء النفقة في عنقه.
ولا بأس أن يعقد رداءه عند الحاجة مثل أن يخاف سقوطه، لأن هذه الأمور لم يرد فيها منعٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلّم، وليست في معنى المنصوص عليه، بل لقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلّم عما يلبس المُحرم ؟ فقال : « لا يلبس القيمص ولا العمامة ولا البرانس ولا السراويل ولا الخفاف».
فإجابته صلى الله عليه وسلّم بما لا يُلْبسُ عن السؤالِ عما يُلْبسُ دليلٌ على أن كل ما عدا هذه المذكوراتِ فإنه يَلْبسهُ المُحرِم.
وقد أجازَ النبي صلى الله عليه وسلّم للمُحرم أن يلبس الخفين إذا عدم النعلين لاحتياجه إلى وقاية رجليه، فمثل ذلك لبس نظارة العين لاحتياج لابسها إلى حفظ عينيه.
وهذان المحظوران خاصان بالرجال، أما المرأة فلها أن تغطي رأسها، ولها أن تلبس في الإحرام ما شاءت من الثياب، غير أن لا تتبرج بالزينة، ولا تلبس القفازين، وهما شراب اليدين، ولا تنتقب ولا تُغطي وجهها إلا أن يمر الرجال قريباً منها فتغطي وجهها حيئنذٍ، لأنه لا يجوزُ كشفُ الوجه للرجال الأجانب أي غير المحارم.
ويجوز للرجال والنساء تغيير ثياب الإحرام إلى غيرها مما لا يمتنعُ عليهما لُبسه حال الإحرام.
وإذا فعل المُحرم شيئاً من المحظورات السابقة من الجماع أو قتلِ الصيد أو غيرهما فله ثلاث حالاتٍ :(4/238)
الأولى : أن يكون ناسياً أو جاهلاً أو مُكرَهاً أو نائماً، فلا شيء عليه، لا إثم ولا فدية ولا فساد نسك، لقوله تعالى : {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ }، وقوله : {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }، وقوله : {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَنِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
فإذا انتفى حُكم الكفر عمن أُكره عليه، فما دونه من الذنوب أولى.
وهذه نصوصٌ عامةٌ في محظورات الإحرام وغيرها، تفيدُ رفع الحكم عمن كان معذوراً بها.(4/239)
وقال الله تعالى في خُصوص المحظورات في الصيد : {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَلِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }، فقيَّد وجوب الجزاء بكون القاتل متعمداً، والتعمد وصف مناسب للعقوبة والضمان، فوجب اعتباره وتعليق الحكم به وإن لم يكن متعمداً فلا جزاء عليه ولا إثم، لكن متى زال العذر فعلم الجاهل، وذكر الناسي، واستيقظ النائم، وزال الإكراه وجب عليه التخلي عن المحظور فوراً.
فإن استمر عليه مع زوال العذر كان آثماً، وعليه ما يترتب على فعله من الفدية وغيرها.
مثال ذلك أن يُغطي المُحرمُ رأسه وهو نائم، فلا شيء عليه ما دام نائماً، فإذا استيقظ لزمه كشف رأسه فوراً، فإن استمر في تغطيته مع علمه بوجوب كشفه كان آثما، وعليه ما يترتب على ذلك.(4/240)
الثانية : أن يفعل المحظور عمداً لكن لِعُذرٍ يبيحُه، فعليه ما يترتب على فعل المحظور ولا إثم عليه لقوله تعالى : {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
الثالثة : أن يفعل المحظور عَمداً بلا عُذرٍ يبيحه، فعليه ما يترتب على فعله مع الإثم.
أقسام المحظورات باعتبار الفدية :
تنقسم محظورات الإحرام باعتبار الفدية إلى أربعة أقسام :
أولاً : ما لا فدية فيه، وهو عقدُ النكاح.
ثانياً : ما فديته بدنة، وهو الجماع في الحج قبل التحلل الأول.
ثالثاً : ما فديته جزاؤه أو ما يقوم مقامَه، وهو قتل الصيد.
رابعاً : ما فديته صيامٌ أو صدقةٌ أو نُسكٌ حَسَب البيان السابق في فدية الأذى، وهو حلقُ الرأس.
وأَلْحَقَ به العلماء بقيةَ المحظورات سوى الثلاثة السابقة.
مناسك الحج و العمرة(4/241)
الفصل السادس : في صفة العمرة
محمد بن صالح العثيمين
العمرةُ إحرامٌ وطوافٌ وسعيٌ وحلقٌ أو تقصيرٌ.
فأما الإحرامُ فهو نية الدخول في النسك والتلبس به. والسنة لمريده أن يغتسل كما يغتسل للجنابة، ويتطيب بأطيب ما يجد في رأسه ولحيته بدهن عودٍ أو غيره، ولا يضرهُ بقاؤه بعد الإحرامِ لما في « الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يُحرم تطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص المسكِ في رأسِه ولحيته بعد ذلك».
والاغتسال عند الإحرام سُنَّةٌ في حق الرجال والنساء، حتى المرأة الحائض والنفساء، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر أسماء بنت عُميس حين ولدت محمد بن أبي بكر في ذي الحليفة في حَجّة الوداع أمرها فقال : « اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي» رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه.
ثم بعد الاغتسال والتطيب يلبس ثياب الإحرام، وهي للرجال إزارٌ ورداء، وأما المرأة فتلبس ما شاءت من الثياب غير أن لا تتبرج بزينة، ولا تنتقب ولا تلبس القفازين وتغطي وجهها عند الرجال غير المحارم.
ثم يُصلي غير الحائض والنفساء صلاةَ الفريضة إن كان في وقت فريضة، وإلا صلى ركعتين ينوي بهما سُنَّة الوضوء.
فإذا فرغ من الصلاة أحرمَ، وقالَ لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
هذه تلبية النبي صلى الله عليه وسلّم، وربما زاد : لبيك إله الحق لبيك.
والسنة للرجال رفع الصوت بالتلبية لحديث السائب ابن خلاد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يَرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية» أخرجه الخمسة.
ولأن رفع الصوت بها إظهارٌ لشعائر الله وإعلانٌ بالتوحيد.
وأما المرأة فلا ترفع صوتها بالتلبية ولا غيرها من الذكر لأن المطلوب في حقها التستر.(4/242)
ومعنى قول الملبي : لبيك اللهم لبيك، أي : إجابةً لك يا رب، وإقامةً على طاعتك، لأن الله سبحانه دعا عباده إلى الحج على لسان الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام : {وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الاٌّنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ}.
وإذا كان من يريد الإحرام خائفاً من عائق يمنعه من إتمام نُسكهِ؛ من مرض أو غيره، فإنه يُسن أن يشترط عن نية الإحرام، فيقول عند عقده : « إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني»، أي : إن منعني مانعٌ من إتمام نُسكي من مرض أو تأخرٍ أو غيرهما، فإني أحلُّ بذلك من إحرامي، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم دخل على ضباعة بنت الزبير فقال : « لعلك أردت الحج ؟» فقالت : والله ما أجدني إلا وَجعة، قال : « حجي واشترطي، وقولي : اللهم مَحلي حيث حَبَستني، وقال : إن لك على ربك ما استثنيتِ» حديث صحيح.
وأما من لا يخاف من عائق يمنعه من إتمام نُسكه فلا ينبغي له أن يشترط، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم أحرم ولم يشترط، وقال : « لتأخذوا عني مناسككم»، ولم يأمر بالاشتراط كل أحدٍ أمراً عاماً، وإنما أمرَ به ضُباعة بنت الزبير لوجود المرض بها، والخوفِ من عدم إتمام نُسكها.
وينبغي للمُحرم أن يُكثر من التلبية لأنها الشعارُ القولي للنُسك خصوصاً عند تغير الأحوال والأزمان، مثل أن يعلو مرتفعاً، أو ينزل منخفضاً، أو يُقبل ليلٌ، أو نهار، أو يهمَّ بمحظور أو مُحرَمّ أو نحو ذلك.
ويستمر في التلبية في العمرة من الإحرام إلى أن يشرعَ في الطواف وفي الحج من الإحرام إلى أن يرمي جمرة العقبة يومَ العيد.(4/243)
فإذا قَرُب من مكة سُنّ أن يغتسل لدخولها إن تيسر له، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يغتسل عند دخولها.
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا التي بالبطحاء، وإذا خرج خرَج من الثَّنيَّةِ السُّفلى» متفق عليه.
فإذا تيسر للحاج الدخول من حيث دخل النبي صلى الله عليه وسلّم والخروج من حيث خرج فهو أفضل.
فإذا وصل المسجد الحرامَ قدم رِجْلَه اليمنى لدخوله، وقال : بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذُ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبُسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.
ويدخل بخشوع وخضوع وتعظيم لله عز وجل، مُستحضراً بذلك نعمةَ الله عليه بتيسير الوصولِ إلى بيته الحرام.
ثم يتقدم إلى البيت مُتّجهاً نحوَ الحَجَرِ الأسود ليبتدىء الطوافَ، ولا يقول : نويت الطواف لأنه لم يَرِد عن النبي صلى الله عليه وسلّم.
والنيةُ محلُّها القلبُ.
فيستلم الحجرَ الأسودَ بيده اليمنى ويُقَبّله إن تيسّر له ذلك، يفعلُ ذلك تعظيماً لله عز وجل، واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلّم لا اعتقاداً أنّ الحجرَ ينفعُ أو يُضرُّ، فإنما ذلك لله عز وجل.
وعن أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب رضي الله عنه أن كان يُقَبّل الحجَر ويقول : « إني لأعلم أنك حَجَر لا تضُرُّ ولا تنفعُ، ولولا أني رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم يقبّلك ما قبّلتك» رواه الجماعة.
فإن لم يتيسر له التقبيل، استلمه بيده وقبّلها، ففي « الصحيحين» من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه استلم الحجَرَ بيدهِ ثم قبّل يده، وقال : ما تركتُه منذ رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلّم يفعله.(4/244)
فإن لم يتيسر له استلامه بيده فلا يُزاحم، لأن الزحامَ يؤذيه، ويؤذي غيره، وربما حصل به الضرر، ويُذهب الخشوع، ويَخرج بالطواف عما شرع من أجله من التعبُّد لله، وربما حصل به لغوٌ وجدالٌ، ومقاتلةٌ.
ويكفي أن يُشير إليه بيده ولو من بعيد، وفي « البخاري» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم طاف بالبيت على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه.
وفي روايةٍ : أشار إليه بشيء كانَ عنده وكبّر.
ثم يأخذُ ذات اليمين، ويجعلُ البيتَ على يساره، فإذا وصل الركنَ اليماني استلمه إن تيسّر له بدون تقبيلٍ فإن لم يتيسر له فلا يزاحم.
ولا يستلم من البيت سوى الحجر الأسود والركن اليماني؛ لأنهما كانا على قواعد إبراهيم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يستلم سواهما.
وروى الإمام أحمد عن مُجاهد عن ابن عباس أنه طاف مع مُعاوية بالبيت، فجعل مُعاوية يستلم الأركان كلها، فقال ابن عباس : لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم يستلمهما ؟ فقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجوراً. فقال ابن عباس : « لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» فقال معاوية : صدقتَ.
ويقول بين الركن اليماني والحجَر الأسود : {رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاٌّخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاٌّخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
وكلّما مرَّ بالحجر الأسود فعل ما سبق وكبر ويقول في بقية طوافهِ ما أحبّ مِنْ ذكرٍ ودُعاء وقراءةٍ، فإنما جُعل الطواف بالبيتِ وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامةِ ذكر الله.
والسنةُ للرجل في هذا الطواف ـ أعني الطواف أول ما يَقدِمُ ـ أن يضطبعَ في جميع طوافهِ ويرملَ في الأشواطِ الثلاثةِ الأولى منه، دون الأربعةِ الباقيةِ.(4/245)
فأمّا الاضطباع فهو أن يُبرز كتفَه الأيمنَ، فيجعلَ وسطَ ردائهِ تحتَ إبطهِ وطرفيهِ على كتفهِ الأيسر.
وأما الرَّمَلُ فهو : إسراعُ المشي مع مُقاربة الخُطا.
والطواف سبعةُ أشواط، يبتدىء من الحجر الأسود وينتهي به.
ولا يصحُّ الطوافُ من داخل الحِجْرِ.
فإذا أتم سبعةَ أشواط، تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }، ثم صلى ركعتين خلفَه قريباً منه إن تيسَّر، وإلا فبعيداً، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة : {قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ} وفي الثانية بعد الفاتحة : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه إن تيسر له، وإلا فلا يشير إليه.
ثم يخرج إلى المسعى ليسعى، فإذا دنا من الصفا قرأ : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }، ولا يقرؤها في غير هذا الموضع.
ثم يرقى على الصفا حتى يرى الكعبة، فيستقبلها ويرفع يديه فيحمدَ الله ويدعو بما شاء أن يدعو، وكان من دُعاء النبي صلى الله عليه وسلّم هنا : « لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده أنجزَ وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده»، يُكررّ ذلك ثلاثَ مراتٍ، ويدعو بينها.
ثم ينزلُ من الصفا إلى المروة ماشياً حتى يصلَ إلى العمود الأخضر؛ فإذا وصَلَه، أسرع إسراعاً شديداً بِقَدْرِ ما يستطيع إن تيسر له بلا أذية، حتى يصلَ العمودَ الأخضر الثاني، ثم يمشي على عادته حتى يصلَ المروةَ، فيرقى عليها ويستقبلَ القِبلةَ، ويرفعَ يديه ويقولَ ما قاله على الصفا.(4/246)
ثم ينزلُ من المروة إلى الصفا يمشي في موضعِ مشيه، ويُسِرعُ في موضع إسراعه، فيرقى على الصفا، ويستقبلُ القِبلَة ويرفع يديه ويقولُ مثلَ ما سبق في أول مرة، ويقولُ في بقية سعيه ما أحب من ذكرٍ وقراءةٍ ودعاء.
والصعود على الصفا والمروة، والسعي الشديد بين العَلَمين، كلها سُنَّةٌ وليست بواجبٍ.
فإذا أتمَّ سعيَه سبعةَ أشواطٍ، من الصفا إلى المروة شوطٌ، ومن المروةِ إلى الصفا شوطٌ آخر، حلق رأسه إن كان رجلاً أو قصره، والحلقُ أفضلُ إلا أن يكون مُتمتعاً والحجُّ قريب لا يمكن أن ينبتَ شعرُه قبلَه، فالتقصير أفضل، ليبقى الشعرُ فيحلقَه في الحج، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر أصحابه حين قَدِموا صبيحة رابعةٍ ذي الحجة أن يتحللوا بالتقصير.
وأما المرأة فتُقَصر رأسها بكل حال، ولا تحلق، فتقصر من كل قَرنٍ أُنملة.
ويجب أن يكونَ الحلقُ شاملاً لجميع الرأس؛ لقولهِ تعالى : {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَفُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً }، ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم حلق جميعَ رأسهِ، وقال : « لتأخذوا عني مناسككم».
وكذلك التقصير يعمُّ به جميع الرأس.
وبهذه الأعمال تمت عمرته وحل منها حِلاً كاملاً، يُبيح له جميعَ محظوراتِ الأحرامِ.
خلاصة أعمال العمرة
1 ـ الاغتسال كما يغتسل للجنابة والتطيب.
2 ـ لبس ثياب الإحرام، إزار ورداء للرجل، وللمرأة ما شاءت من الثياب المباحة.
3 ـ التلبية والاستمرارُ فيها إلى الطواف.
4 ـ الطواف بالبيت سبعة أشواط ابتداءً من الحجرِ الأسود وانتهاءً به.
5 ـ صلاةُ ركعتين خلفَ المقام.
6 ـ السعي بين الصفا والمروةِ سبعةَ أشواطٍ ابتداءً بالصفا وانتهاءً بالمروة.
7 ـ الحلقُ أو التقصيرُ للرجال، والتقصيرُ للنساء.
مناسك الحج و العمرة
الفصل السابع : في صفة الحج
محمد بن صالح العثيمين(4/247)
الإحرامُ بالحجّ : إذا كان ضُحى يومِ التروية ـ وهو اليومُ الثامنُ من ذي الحجة ـ أحرم من يريد الحجَّ بالحجِّ من مكانه الذي هو نازلٌ فيه.
ولا يُسَنّ أن يذهبَ إلى المسجد الحرام أو غيره من المساجد فَيُحرم منه، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا عن أصحابه فيما نعلم.
ففي « الصحيحين» من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لهم : « أقيموا حلالاً حتى إذا كان يومُ التروية فأهلوا بالحج... الحديث».
ولمسلمٍ عنه رضي الله عنه قال : « أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم لما أحللنا أن نُحرِم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح» وإنما أهلوا من الأبطح لأنه مكان نزولهم.
ويفعل عند إحرامه بالحج كما فعل عند إحرامه بالعمرة، فيغتسل ويتطيب ويصلي سنة الوضوء، ويُهل بالحج بعدها، وصفة الإهلال والتلبية بالحج كصفتهما في العمرة، إلا أنه في الحج يقول : لبيك حجاً، بدل : لبيك عمرة، ويشترطُ أن مَحلِّي حيث حبستني، إن كان خائفاً من عائق يمنعه من إتمام نسكه، وإلا فلا يشترط.
الخروج إلى منى :
ثم يخرج إلى منى فيُصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً من غير جمع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم فعل كذلك.
وفي « صحيح مسلم» عن جابر رضي الله عنه قال : « فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب النبي صلى الله عليه وسلّم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر».
وفي « صحيح البخاري» من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمنى ركعتين وأبو بكر وعمر وعثمان صَدْراً من خلافته، ولم يكن صلى الله عليه وسلّم يجمع في منى بين الصلاتين في الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء، ولو فعل ذلك لنُقلَ كما نُقل جمعه في عرفة ومزدلفة.(4/248)
ويقصر أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يُصلي بالناس في حجة الوداع في هذه المشاعر ومعه أهل مكة، ولم يأمرهم بالإتمام، ولو كان الإتمام واجباً عليهم لأمرهم به كما أمرهم به عام الفتح حين قال لهم : « أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر».
لكن حيث امتد عمران مكة فشمل منى وصارت كأنها حي من أحيائها فإن أهل مكة لا يقصرون فيها.
الوقوف بعرفة :
فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع سارَ من منى إلى عرفة فنزل بنَمِرَة إلى الزوال إن تَيسر له، وإلا فلا حرج عليه؛ لأن النزول بنمرة سنةٌ لا واجب.
فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين، يجمع بينهما جمعَ تقديم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ففي « صحيح مسلم» من حديث جابر رضي الله عنه قال : وأمر ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ـ بقُبة من شعر تُضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِلَت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً.
ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غَرَبت الشمسُ « الحديث».
والقصر والجمع في عرفة لأهل مكة وغيرهم.
وإنما كان الجمع جمع تقديم ليتفرغ الناس للدعاء، ويجتمعوا على إمامهم، ثم يتفرقوا على منازلهم، فالسنة للحاج أن يتفرغ في آخر يوم عرفة للدعاء والذكر والقراءة ويحرص على الأذكار والأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلّم، فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها فيقول :
ـ اللَّهُمّ لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، اللَّهُمّ لك صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي وإليك ربِّ مآبي ولك رب تُراثي.
ـ اللَّهُمّ إني أعوذُ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر.(4/249)
ـ اللَّهُمّ إني أعوذ بك من شر ما تَجيء به الريحُ.
ـ اللَّهُمّ إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلمُ سِرّي وعلانيتي، لا يخفى عليك شيءٌ من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك إبتهال المذنب الذليل، وأدعوكَ دعاءَ من خَضَعت لك رقبته وفاضت لك عيناه، وذلّ لك جسده، ورَغم لك أنفه.
ـ اللَّهُمّ لا تجعلني بدعائك ربِّ شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسؤولين ويا خيرَ المعطين.
ـ اللَّهُمّ اجعل في قلبي نوراً، وفي سَمعي نوراً وفي بصري نوراً.
ـ اللَّهُمّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري، اللَّهُمّ إني أعوذ بك من شرِّ ما يلج في الليل، وشَرِّ ما يلجُ في النهار، وشرِّ ما تهبُّ به الرياحُ، وشرِّ بوائق الدهر.
ـ اللَّهُمّ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقِنا عذابَ النار.
ـ اللَّهُمّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم.
ـ اللَّهُمّ إني أعوذ بك من جهد البلاء، ومن دَرك الشقاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتةِ الأعداء.
ـ اللَّهُمّ إني أعوذ بك من الهمّ والحَزن، والعجز والكسل، والجُبن والبُخل، وضِلَعِ الدينِ وغَلبة الرجال، وأعوذُ بك من أن أُرَدَّ إلى أرذلِ العُمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا.
ـ اللَّهُمّ إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، ومن شرِّ فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر.
ـ اللَّهُمّ اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبَرَد، ونقِّ قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب.
فالدعاء يومَ عرفة خيرُ الدعاء.
قال النبي صلى الله عليه وسلّم : « خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له المُلكُ وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير».(4/250)
وإذا لم يُحط بالأدعية الواردة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم، دعا بما يعرفُ من الأدعية المباحة. فإذا حصل له مَللٌ، وأراد أن يستجم بالتحدث مع رفقته بالأحاديث النافعة، أو مُدارسة القرآن، أو قراءة ما تيسر من الكُتب المفيدة، خُصوصاً ما يتعلق بكرم الله تعالى وجزيل هباته، ليقوي جانب الرجاء في هذا اليوم، كان حَسنا ثم يعود إلى الدعاء والتضرع إلى الله، ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء.
وينبغي أن يكون حال الدعاء مستقبلاً القبلة، وإن كان الجبل خلفه أو يمينه أو شماله، لأن السنة استقبال القبلة، ويرفع يديه، فإن كان في إحداهما مانعٌ رفع السليمة، لحديث أُسامة بن زيد رضي الله عنه قال : « كنت رِدفَ النبي صلى الله عليه وسلّم بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خِطامها فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافعٌ الأخرى» رواه النسائي.
ويُظهر الافتقار والحاجة إلى الله عز وجل، ويُلح في الدعاء ولا يستبطىء الإجابة.
ولا يعتدي في دعائه بأن يسأل ما لا يجوز شرعاً، أو ما لا يُمكن قَدَراً، فقد قال الله تعالى : {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. وليتجنب أكل الحرام فإنه من أكبر موانع الإجابة، ففي « صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً... الحديث». وفيه، « ثم ذكر الرجل يطيل السفرَ أشعثَ أغبر يمدُّ يديه إلى السماء : يا رب يا رب ومطعمهُ حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذي بالحرام فأنى يُستجاب لذلك».
فقد استبعد النبي صلى الله عليه وسلّم إجابة من يتغذى بالحرام ويلبس الحرام مع توفر أسباب القَبول في حَقه وذلك لأنه يتغذى بالحرام.(4/251)
وإذا تيسر له أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلّم عند الصخرات فهو أفضل، وإلا وقف فيما تيسر له من عرفة، فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « نحرتُ ههنا، ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم، ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ههنا وجَمعٌ ـ يعني مزدلفة ـ كلها موقف» رواه أحمد ومسلم.
ويجب على الواقف بعرفة أن يتأكد من حدودها، وقد نُصبت عليها علامات يجدها من يتطلبها، فإن كثيراً من الحجاج يتهاونون بهذا فيقفون خارج حدود عرفة جهلاً منهم، وتقليداً لغيرهم، وهؤلاء الذين وقفوا خارج حدود عرفة ليس لهم حج؛ لأن الحج عرفة، لما روى عبدالرحمن بن يَعمر : « أن أُناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو واقفٌ بعرفة فسألوه فأمر مُنادياً ينادي : الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك أيام منى ثلاثةَ أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، وأردف رجلاً ينادي بهن» رواه الخمسة.
فتجب العناية بذلك، وطلب علامات الحدود حتى يتيقن أنه داخل حدودها.
ومن وقف بعرفة نهاراً وجبَ عليه البقاءُ إلى غروب الشمس، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم وقف إلى الغروب، وقال : « لتأخذوا عني مناسككم» ولأن الدفع قبل الغروب من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بمخالفتها.
ويَمتد وقتُ الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر يوم العيد، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « من جاء ليلة جمعٍ قبل طلوع الفجر فقد أدركَ».
فإن طلع الفجر يوم العيد قبل أن يقف بعرفة فقد فاته الحج.(4/252)
فإن كان قد اشترط في ابتداء إحرامه إن حبسني حابس فمَحلِّي حيث حَبَستني تحلل من إحرامه ولا شيء عليه، وإن لم يكن اشترط فإنه يتحلل بعمرة فيذهب إلى الكعبة، ويطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق، وإن كان معه هدي ذبحه، فإذا كان العام القادم قضى الحج الذي فاته، وأهدى هدياً، فإن لم يجد صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، لما روى مالك في « الموطأ» أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبا أيوب وهبّار بن الأسود حين فاتهما الحج فأتيا يوم النحر أن يُحِلا بعمرةٍ ثم يرجعا حلالاً ثم يَحجا عاماً قابلاً ويهديا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
المبيت بمزدلفة :
ثم بعد الغروب يدفع الواقف بعرفة إلى مزدلفة فَيُصلي بها المغرب والعشاء؛ يُصلي المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين.
وفي « الصحيحين» عن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : « دفع النبي صلى الله عليه وسلّم من عرفة فنزل الشِّعب، فبال ثم توضأ ولم يُسبِغ الوضوء، فقلت : يا رسول الله الصلاة ! قال : « الصلاة أمامك» فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أُقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كلُّ إنسانٍ بعيره في منزله ثم أُقيمت العشاء فصلاها».
فالسنة للحاج أن لا يُصلي المغرب والعشاء إلا بمزدلفة اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلّم، إلا أن يخشى خروج وقت العشاء بمنتصف الليل فإنه يجب عليه أن يُصلي قبل خروج الوقت في أي مكانٍ كان.
ويبيت بمزدلفة، ولا يُحيي الليل بصلاة ولا بغيرها، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يفعل ذلك.
وفي « صحيح البخاري» من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : جمع النبي صلى الله عليه وسلّم بين المغرب والعشاء بِجَمعٍ ولم يُسَبح بينهما شيئاً ولا على إثر كل واحدة منهما.(4/253)
وفي « صحيح مسلم» من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذانٍ واحد وإقامتين، ولم يُسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر.
ويجوز للضعفة من رجال ونساء أن يدفعوا من مزدلفة بليل في آخره.
ففي « صحيح مسلم» عن ابن عباس رضي الله عنهما بعث بي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسَحَرٍ من جَمعٍ في ثِقَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وفي « الصحيحين» من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يُقَّدِّمُ ضَعفةَ أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يدفعون، فمنهم من يَقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رَمَوا الجمرة، وكان ابن عمر يقول : أرخَصَ في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وأما مَن ليس ضعيفاً ولا تابعاً لضعيف، فإنه يبقى بمزدلفة حتى يُصلي الفجر اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وفي « صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها قالت : « استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة المزدلفة تدفع قَبله وقبل حَطمة الناس وكانت امرأة ثَبِطَةً، فأَذِنَ لها وحَبَسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه ولأن أكون استأذنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما استأذنت سَودةُ فأكون أدفعُ بإذنه أحبّ إلي من مَفروحٍ به».
وفي رواية أنها قالت : « فليتني كنتُ استأذنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما استأذنته سودة».
فإذا صلى الفجر أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وهلّله ودعا بما أحب حتى يسفر جداً.
وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « وقفتُ ههنا وجمعٌ كلها موقف».
السيرُ إلى منى والنزول فيها :
ينصرف الحجاج المقيمون بمزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس عند الانتهاء من الدعاء والذكر، فإذا وصلوا إلى منى عملوا ما يأتي :(4/254)
1 ـ رمي جمرة العقبة وهي الجمرة الكبرى التي تلي مكة في منتهى منى، فيلقطُ سبع حصيات مثل حصا الخَذفِ، أكبر من الحمص قليلاً، ثم يرمي بهن الجمرة، واحدةً بعد واحدةٍ، ويرمي من بطن الوادي إن تيسر له فيجعل الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه، لحديثِ ابن مسعود رضي الله عنه « أنه انتهى إلى الجمرة الكُبرى فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبع وقال : هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورةُ البقرة» متفق عليه.
ويُكبر مع كل حصاةٍ فيقول : الله أكبر.
ولا يجوزُ الرمي بحصاة كبيرة ولا بالخفاف والنعال ونحوها.
ويَرمي خاشعاً خاضعاً مُكبراً الله عز وجل، ولا يفعل ما يفعله كثيرٌ من الجهال من الصياح واللغط والسب والشتم؛ فإن رَمي الجمار من شعائر الله : {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : « إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمارِ لإقامة ذكر الله».
ولا يندفع إلى الجمرة بعنف وقوة، فيؤذي إخوانه المسلمين أو يضرهم.
2 ـ ثم بعد رمي الجمرة يذبح الهدي إن كان معه هدي، أو يشتريه فيذبحه.
وقد تقدم بيان نوع الهدي الواجب وصفته ومكان ذبحه وزمانه وكيفية الذبح، فَليُلاحَظ.
3 ـ ثم بعد ذبحِ الهدي يحلق رأسه إن كان رجلاً، أو يقصّره، والحلق أفضل، لأن الله قدمه فقال : {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَفُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} ولأنه فِعلُ النبي صلى الله عليه وسلّم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلّم أتى منى، فأتى الجمرة، فرماها ثم أتى منزله بمنى ونَحَرَ ثم قال للحلاق : خُذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يُعطيه الناس» رواه مسلم.(4/255)
ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم دعا للمُحَلقين بالرحمة والمغفرة ثلاثاً وللمُقَصرين مرة، ولأن الحلق أبلغ تَعظيماً لله عز وجل حيث يُلقي به جميعَ شعرِ رأسِه.
ويجب أن يكون الحلق أو التقصير شاملاً لجميع الرأس لقوله تعالى : {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَفُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}.
والفعل المضاف إلى الرأس يشمل جميعه، ولأن حلق بعض الرأس دون بعض منهي عنه شرعاً لما في « الصحيحين» عن نافع عن ابن عُمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن القَزع، فقيل لنافع : ما القزعُ ؟ قال : أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضاً، وإذا كان القزعُ منهياً عنه لم يصحَّ أن يكون قُربة إلى الله، ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم حَلَق جميع رأسه تعبداً لله عز وجل وقال : « لِتَأخذوا عني مناسككم».
وأما المرأة فتقصر من أطراف شعرها بقدر أُنملة فقط.
فإذا فعل ما سبق حَلَّ له جميع محظورات الإحرام ما عدا النساء فيحل له الطيب واللباس وقص الشعر والأظافر وغيرها من المحظورات ما عدا النساء.
والسنة أن يتطيب لهذا الحِلِّ، لقول عائشة رضي الله عنها : « كنت أُطيب النبي صلى الله عليه وسلّم لإحرامه قبل أن يُحرم ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت». متفق عليه واللفظ لمسلم.
وفي لفظ له : « كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن يُحرم ويومَ النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيبٍ فيه مِسكٌ».
4 ـ الطواف بالبيت وهو طواف الزيارة والإفاضة لقوله تعالى : {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
وفي « صحيح مسلم» عن جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ثم ركب صلى الله عليه وسلّم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر... الحديث.(4/256)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : حَجَجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأفضنا يومَ النحرِ... الحديث متفق عليه.
وإذا كان مُتمتعا أتى بالسعي بعد الطواف، لأن سعيه الأول كان للعمرة، فلزمه الإتيان بسعي الحج.
وفي « الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : « فطاف الذين كانوا أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلُّوا ثم طافوا طوافاً آخرَ بعد أن رجعوا من مِنى لحجهم، وأما الذين جَمَعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً».
وفي « صحيح مسلم» عنها أنها قالت : ما أتم الله حج امرىء ولا عُمرته لم يطف بين الصفا والمروة وذكره البخاري تعليقاً.
وفي « صحيح البخاري» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « ثم أَمَرَنا ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ـ عشية التروية أن نُهِلَّ بالحج، فإذا فَرغنا من المناسك جِئنا فَطُفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وقد تم حَجُّنا وعلينا الهدي» ذكره البخاري في : ( باب ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ).
وإذا كان مفرداً أو قارناً فإن كان قد سعى بعد طواف القدوم لم يُعِدِ السعي مرة أخرى لقول جابر رضي الله عنه : « لم يَطفُ النبي صلى الله عليه وسلّم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافَه الأول» رواه مسلم.
وإن كان لم يَسْعَ وجب عليه السعي لأنه لا يتمُّ الحج إلا به كما سبق عن عائشة رضي الله عنها.
وإذا طاف طواف الإفاضة وسعى للحج بعده أو قبله إن كان مُفرداً أو قارناً فقد حلّ التحلل الثاني، وحلَّ له جميع المحظورات؛ لما في « الصحيحين» عن ابن عمر رضي الله عنهما في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « ونحر هَديَه يومَ النحر وأفاضَ فطافَ بالبيت ثم حلَّ من كل شيء حُرِمَ منه».
والأفضل أن يأتي بهذه الأعمال يومَ العيد مُرتبة كما يلي :
1 ـ رمي جمرة العقبة.
2 ـ ذبح الهدي.
3 ـ الحلق أو التقصير.(4/257)
4 ـ الطواف ثم السعي إن كان متمتعاً أو كان مُفرداً أو قارناً ولم يَسعَ مع طواف القدوم.
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم رتبها هكذا وقال : « لتأخذوا عني مناسككم».
فإن قدّم بعضها على بعض فلا بأس لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قيلَ له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال : « لا حرج» متفق عليه.
وللبخاري عنه قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلّم يُسأل يومَ النحر بمنى ؟ فيقول : « لا حرج» فسأله رجلٌ فقال : حلقتُ قبل أن أذبحَ، قال : « اذبح ولا حرج» وقال : رميت بعد ما أمسيت قال : « لا حرج».
وفي « صحيح مسلم» من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما : « أن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئل عن تقديم الحلقِ على الرمي، وعن تقديم الذبح على الرمي، وعن تقديم الإفاضة على الرمي، فقال : « ارمِ ولا حرج»، قال : فما رأيته سُئل يومئذٍ عن شيء، إلا قال : « افعلوا ولا حَرَجَ».
وإذا لم يتيسر له الطواف يومَ العيد جاز تأخيره، والأَولى أن لا يتجاوزَ به أيامَ التشريق إلا من عُذرٍ كمرضٍ وحيضٍ ونفاسٍ.
الرجوعُ إلى منى للمبيت ورَميُ الجمار :
يرجع الحاج يوم العيد بعد الطواف والسعي إلى منى، فيمكثُ فيها بقيةَ يوم العيد وأيام التشريق ولياليها، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يمكث فيها هذه الأيام والليالي، ويلزمه المبيت في منى ليلةَ الحادي عشر وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر إن تأخر، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم باتَ فيها. وقال : « لتأخذوا عني مناسككم».
ويجوز ترك المبيت لعذرٍ يتعلق بمصلحة الحج أو الحجاج؛ لما في « الصحيحين» من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلّم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فَأَذِنَ له.(4/258)
وعن عاصم بن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى... الحديث. رواه الخمسة وصححه الترمذي.
ويرمي الجمرات الثلاث في كل يومٍ من أيام التشريق كل واحدة بسبع حصيات مُتعاقبات، يكبر مع كل حصاة ويرميها بعد الزوال.
فيرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم يتقدم فيسهّل فيقومُ مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو وهو رافعٌ يديه.
ثم يرمي الجمرة الوسطى، ثم يأخذُ ذات الشمال فيسهّل فيقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو وهو رافعٌ يديه.
ثم يرمي جمرةَ العقبةِ، ثم ينصرف ولا يقفُ عندها.
هكذا رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يفعل كذلك.
وإذا لم يتيسر له طول القيام بين الجمار، وقَفَ بقدر ما يتيسر له ليحصل إحياء هذه السنة التي تركها أكثرُ الناس، إما جهلاً أو تهاوناً بهذه السنة.
ولا ينبغي ترك هذا الوقوف فتضيع السنة، فإن السنة كلما أُضيعت كان فعلها أوكد لحصول فضيلة العمل ونَشِر السنة بين الناس.
والرمي في هذه الأيام ـ أعني أيام التشريق ـ لا يجوز إلا بعد زوال الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يَرمِ إلا بعد الزوال، وقد قال : « لتأخذوا عني مناسككم» : فعن جابر رضي الله عنه قال : « رمى النبي صلى الله عليه وسلّم الجمرة يوم النحر ضُحىً، وأما بعد فإذا زالت الشمس» رواه مسلم.
وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون.
ففي « صحيح البخاري» أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما سُئل : متى أرمي الجمار ؟ قال : كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا.(4/259)
وإذا رمى الجمارَ في اليوم الثاني عشر فقد انتهى من واجب الحج فهو بالخيار إن شاء بقي في منى لليوم الثالث عشر ورمى الجمار بعد الزوال، وإن شاء نفر منها لقوله تعالى : {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
والتأخرُ أفضلُ لأنه فعلُ النبي صلى الله عليه وسلّم، ولأنه أكثر عملاً حيث يحصل له المبيت ليلة الثالث عشر، ورمي الجمار من يومه.
لكن إذا غربت الشمس في اليوم الثاني عشر قبل نفره من منى فلا يتعجل حينئذٍ لأن الله سبحانه قال : {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فقيّد التعجل في اليومين، ولم يُطلق فإذا انتهت اليومان فقد انتهى وقتُ التعجل، واليوم ينتهي بغروب شمسه.
وفي « الموطأ» عن نافع أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول : من غَرَبت له الشمس من أواسط أيام التشريق وهو بمنى فلا يَنفر حتى يرمي الجمار من الغد، لكن إذا كان تأخره إلى الغروب بغير اختياره مثل أن يتأهب للنفر ويشد رحله فيتأخر خروجه من منى بسبب زحام السيارات أو نحو ذلك فإنه ينفرُ ولا شيء عليه ولو غربت الشمس قبل أن يخرج من منى.
الاستنابة في الرمي :(4/260)
رمي الجمار نسك من مناسك الحج، وجزءٌ من أجزائه، فيجب على الحاج أن يقومَ به بنفسه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، سواءٌ كان حجه فريضة أم نافلة، لقوله تعالى : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
فالحج والعمرة إذا دخل فيهما الإنسان وجب عليه إتمامهما وإن كانا نفلاً. ولا يجوز للحاج أن يُوكل مَنْ يرمي عنه إلا إذا كان عاجزاً عن الرمي بنفسه لمرضٍ أو كِبَر أو صِغَر أو نحوها، فيوكّل من يثق بعلمه ودينه فيرمي عنه سواء لقَطَ المُوَكل الحصا وسلمها للوكيل، أو لقطها الوكيلُ ورمى بها عن موكله.
وكيفية الرمي في الوكالة أن يَرمي الوكيل عن نفسه أولاً سبعَ حَصيات، ثم يَرمي عن موكله بعد ذلك، فَيُعينه بالنيةِ.
ولا بأس أن يَرمي عن نفسه وعمن وكله في موقفٍ واحدٍ، فلا يلزمه أن يكمل الثلاث عن نفسه، ثم يرجع عن موكله، لعدم الدليل على وجوب ذلك.
طواف الوداع :
إذا نَفَرَ الحاج من منى وانتهت جميع أعمال الحج، وأراد السفر إلى بلده فإنه لا يخرجُ حتى يطوف بالبيت للوداع سبعةَ أشواط، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم طاف للوداع وكان قد قال : « لتأخذوا عني مناسككم».(4/261)
ويجبُ أن يكون هذا الطوافُ آخر شيء يفعلهُ بمكة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : « كان الناس ينصرفون في كلِّ وجهٍ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : « لا ينفرنِّ أحدٌ حتى يكون آخرَ عهده بالبيت» رواه مسلم.
فلا يجوز البقاء بعده بمكة، ولا التشاغل بشيء إلا ما يتعلق بأغراض السفر وحوائجه؛ كشد الرحل وانتظار الرفقة، أو انتظار السيارة، إذا كان قد وَعَدَهم صَاحبها في وقتٍ معين فتأخر عنه، ونحو ذلك.
فإن أقام لغير ما ذُكر وَجَبَ عليه إعادة الطواف ليكون آخرَ عهده بالبيتِ.
ولا يجب طواف الوداع على الحائض والنُّفساء لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : « أُمِرَ الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض» متفق عليه.
وفي « صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها قالت : حاضت صفية بنت حُيَيّ بعدما أفاضت، قالت عائشة : فَذَكرت حَيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : « أحابستنا هي ؟» فقلت : يا رسول الله إنها قد كانت أفاضَت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « فَلتنفر». والنفساء كالحائض لأن الطواف لا يصح منها.
مجمل أعمال الحج
عمل اليوم الأول وهو اليوم الثامن :
1 ـ يُحرمُ بالحج من مكانه فيغتسل ويتطيب ويلبس ثيابَ الإحرام ويقول : لبَّيْك حجاً، لبيك اللهم لبيك، لبَّيْك لا شريك لك لبَّيْك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
2 ـ يتوجه إلى منى فيبقى فيها إلى طُلوعِ الشمسِ في اليوم التاسع، ويُصلي فيها الظهر من اليوم الثامن، والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كل صلاة في وقتها، ويقصُر الرباعية.
عمل اليوم الثاني وهو اليوم التاسع :
1 ـ يتوجه بعد طلوع الشمس إلى عرفة، ويُصلي الظهر والعصر قصراً وجمعَ تقديمٍ، وينزل قبل الزوال بنمرة إن تيسر له.
2 ـ يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء مستقبل القبلةِ رافعاً يديه إلى غُروب الشمس.(4/262)
3 ـ يتوجه بعد غروب الشمس إلى مُزدلفة فَيُصلي فيها المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين، ويبيتُ فيها حتى يطلع الفجر.
4 ـ يُصلي الفجر بعد طلوع الفجر، ثم يتفرغ للذكر والدعاء حتى يُسفرَ جداً.
5 ـ يتوجه قبل طلوع الشمس إلى منى.
عمل اليوم الثالث وهو يوم العيد :
1 ـ إذا وصل إلى منى، ذهب إلى جمرة العقبة، فرماها بسبع حَصَياتٍ مُتعاقبات، واحدةً بعد الأخرى، يكبر مع كل حصاة.
2 ـ يذبحُ هَديه إن كان له هديٌ.
3 ـ يحلق رأسه أو يُقصره. ويتحلل بذلك التحلُّلَ الأولَ فيلبس ثيابه ويتطيب وتحِلُّ له جميع محظورات الإحرام سوى النساء.
4 ـ ينزل إلى مكة فيطوف بالبيت طواف الإفاضة، وهو طوافُ الحج، ويسعى بين الصفا والمروة للحج، إن كان متمتعاً، وكذلك إن كان غير متمتع ولم يكن سعى مع طواف القدوم.
وبهذا يَحل التحلل الثاني، ويَحل له جميع محظورات الإحرام حتى النساء.
5 ـ يرجع إلى منى فيبيت فيها ليلة الحادي عشر.
عمل اليوم الرابع وهو الحادي عشر :
1 ـ يَرمي الجمرات الثلاث، الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، كل واحدة بسبع حصيات متعاقبات يُكبر مع كل حصاة، يرميهن بعد الزوال ولا يجوز قبله. ويلاحظ الوقوف للدعاء بعد الجمرة الأولى والوسطى.
2 ـ يبيت في منى ليلة الثاني عشر.
عمل اليوم الخامس وهو الثاني عشر :
1 ـ يرمي الجمرات الثلاث كما رماهُنَّ في اليوم الرابع.
2 ـ ينفر من منى قبل غروب الشمس إن أراد التعجل، أو يبيت فيها إن أراد التأخر.
عمل اليوم السادس وهو الثالث عشر :
هذا اليوم خاص بمن تأخر ويعمل فيه :
1 ـ يرمي الجمرات الثلاث كما سبق في اليومين قَبلَه.
2 ـ يَنفر من منى بعد ذلك.
وآخر الأعمال طواف الوداع عند سفره، والله أعلم.
مناسك الحج و العمرة
الفصل الثامن : الواجبات في الحج
محمد بن صالح العثيمين
الواجبات في الحج قسمان : قسمٌ لا يصحُّ الحجُّ بدونها، وقسمٌ يصح الحج بدونها.
فالتي لا يصح بدونها تُسمى الأركان، وهي :(4/263)
1 ـ الإحرام وهو نية الدخول في الحج لقول الرسول صلى الله عليه وسلّم: « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى»، ووقته من دخول شهر شوال لقول الله تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الأَلْبَبِ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الأَلْبَبِ }، وأول هذه الأشهر شوال، وآخرها آخر ذي الحجة.
وأمكنة الأحرام المُعينة خمسة وهي :
* ذو الحليفة ( وتسمى أبيار علي ) لأهل المدينة.
* الجحفة ( وهي قرية قرب رابغ ) وقد خَربت، فجعل الإحرام من ( رابغ ) بدلاً عنها لأهل الشام.
* يلملم ( وهو جبل أو مكان في طريق اليمن إلى مكة ) لأهل اليمن، وتُسمى ( السعدية ).
* قرن المنازل ( ويسمى السيل ) لأهل نجد.
* وذات عرق ( وتسمى الضريبة ) لأهل العراق.
من مر بهذه المواقيت فهي ميقات له وإن لم يكن من أهلها.
2 ـ الوقوف بعرفة لقول الله تعالى : {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ }، ولقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك».(4/264)
ووقته من زوال الشمس من اليوم التاسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من اليوم العاشر، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم وقف بعد زوال الشمس وقال : « من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك».
وقيل : يبتدىء وقته من طلوع الفجر من اليوم التاسع، ومكانه عرفة كلها لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « وقفت ههنا وعرفة كلها موقف».
3 ـ الطواف بالبيت لقوله تعالى : {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }، ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال حين أخبر بأن صفية حاضتَ : « أحابستنا هي ؟» فقالوا : يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة ! قال : « فلتنفر إذن»، فقوله : أحابستنا هي ؟ دليلٌ على أن طواف الإفاضة لا بد منه وإلا لَمَا كان سبباً لحبسهم، ولهذا لما أُخبر بأنها طافت طواف الإفاضة رخص لها في الخروج.
ووقته بعد الوقوفِ بعرفة ومزدلفة لقوله تعالى : {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }، ولا يكون قضاء التفث ووفاء النذور إلا بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة.(4/265)
4 ـ السعي بين الصفا والمروة لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما : ثم أَمرنا ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ـ عشية التروية أن نُهل بالحج، فإذا فَرَغنا من المناسك جِئنا فَطُفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وقد تم حجنا. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها : « يجزىء عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك». وقالت عائشة رضي الله عنها : ما أتم الله حج امرىء ولا عُمرته لم يطف بين الصفا والمروة.
ووقته للمتمتع بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة وطواف الإفاضة، فإن قدّمه عليه فلا حرج، لا سيما إن كان ناسياً أو جاهلاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم سأله رجلٌ : سعيت قبل أن أطوف ؟ قال : « لا حرج».
وأما القارن والمفرد فلهما السعي بعد طواف القدوم.
فهذه الأربعة : الإحرامُ، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة لا يصح الحج بدونها.
وأما الواجبات التي يصح الحج بدونها فتسمى اصطلاحاً بـ ( الواجبات ) وهي :
1 ـ أن يكون الإحرام من الميقات المُعتبر شرعاً، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « يُهل أهل المدينة من ذي الحليفة...» إلى آخر الحديث. وهو خَبَرٌ بمعنى الأمر، بدليل الرواية الثانية عن ابن عمر رضي الله عنهما حين سُئل : من أين يجوز أن أعتمر ؟ قال : فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأهل نجد قرناً... إلى آخره.
والروايتان في « البخاري» عن ابن عمر رضي الله عنهما.(4/266)
2 ـ استمرار الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس يوم التاسع من ذي الحجة، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم وقف إلى الغروب وقال : « لتأخذوا عني مناسككم»، ولأن في الدفع قبل الغروب مشابهة لأهل الجاهلية، فإنهم كانوا يَدفعون قبل غروب الشمس.
3 ـ المبيت بمزدلفة ليلة عيد النحر، لقوله تعالى : {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ }، ووقته إلى صلاة الفجر، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم لعروة بن مضرس رضي الله عنه : « من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه».
ويجوز الدفع في آخر الليل إلى منى للضعفة من النساء والصبيان ممن يشق عليهم زحام الناس ليرموا الجمرة قبل وصول الناس إلى منى؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يُقدّم ضعفة أهله فمنهم من يَقدُم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يَقدُم بعد ذلك، فإذا قَدمُوا رَموا الجمرة، وكان يقول : أَرخَصَ في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ( تنتظر حتى يغيب القمر ثم ترتحل إلى منى فترمي الجمرة، ثم ترجع فتصلي الصبح في منزلها، وتقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أذن للظُعُنِ ) أخرجهما البخاري في « صحيحه». ومزدلفة كلها موقف، ويجب على الحاج أن يتأكد من حدودها لئلا ينزل خارجاً عنها.
4 ـ رمي جمرة العقبة يوم العيد، ورمي الجمرتين الأُخريين معها في أيام التشريق في أوقاتها، لقوله تعالى : {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
والأيام المعدودات : أيام التشريق.(4/267)
ورمي الجمار من ذكر الله تعالى لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « إنما جُعل الطواف بالبيت، وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله».
5 ـ الحلق أو التقصير للرجال، والتقصير فقط للنساء، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير».
6 ـ المبيت بمنى ليلتين، ليلة إحدى عشرة وليلة اثنتي عشرة لمن تعجل، فإن تأخر فليلةَ ثلاثَ عشرة أيضاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم بات بها، وقال : « لتأخذوا عني مناسككم».
وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه استأذن من النبي صلى الله عليه وسلّم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له.
وفي لفظ : فرخص له.
والتعبير بالرخصة دليل على وجوب المبيت لغير عذر.
فهذه الأمور الستة واجبة في الحج، لكن الحج يصح بدونها.
وفي تركها عند الجمهور من العلماء فدية شاة أو سُبع بدنة أو سُبع بقرة تُذبح في مكة وتُعطى فقراء أهلها، والله أعلم.
فأما طواف الوداع فهو واجب على كل من خرج من الحجاج من مكة إلى بلده، لقول ابن عباس رضي الله عنهما : « أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفف عن الحائض».
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه طاف بالبيت حين خُروجه من مكة في حَجة الوداع.
مناسك الحج و العمرة
الفصل التاسع : أخطاء يرتكبها بعض الحجاج
محمد بن صالح العثيمين
قال الله تعالى : {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاٌّخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.
وقال تعالى : {فََامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
وقال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.(4/268)
وقال تعالى : {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}.
وقال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }.
فكل ما خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلّم وطريقته فهو باطل وضلال مردود على فاعله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم : « من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ»، أي : مردود على صاحبه، غير مقبول منه.
وإن بعض المسلمين ـ هداهم الله ووفقهم ـ يفعلون أشياء في كثير من العبادات غير مبنية على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلّم، ولا سيما في الحج الذي يَكثر فيه المقدمون على الفُتيا بدون علم، ويُسارعون فيها حتى صار مقامُ الفتيا مَتجراً عند بعض الناس للسمعة والظهور، فحصل بذلك من الضلال والإضلال ما حصل.
والواجب على المسلم أن لا يُقدِمَ على الفُتيا إلا بعلمٍ يواجه به الله عز وجل، لأنه في مقام المُبلغ عن الله تعالى القائل عنه، فليتذكر عند الفُتيا قوله تعالى في نبيه صلى الله عليه وسلّم : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاٌّقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَجِزِينَ }، وقوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
وأكثر الأخطاء من الحجاج ناتجة عن هذا ـ أعني عن الفُتيا بغير علم ـ وعن تقليد العامة بعضهم بعضاً دون برهان.
ونحن نُبين بعون الله تعالى السنة في بعض الأعمال التي يَكثُر فيها الخطأ، مع التنبيه على الأخطاء، سائلين الله أن يُوفقنا للحق، وأن ينفع بذلك إخواننا المسلمين إنه جوادٌ كريمٌ.
الإحرام والأخطاء فيه(4/269)
ثبت في « الصحيحين» وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجُحفة ولأهل نجد قرنَ المنازل، ولأهل اليمن يَلمْلَم، وقال : « فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة».
وعن عائشة رضي الله عنها « أن النبي صلى الله عليه وسلّم وقّت لأهل العراق ذات عرق» رواه أبو داود والنسائي.
وثبت في « الصحيحين» أيضاً من حديث عبدالله بن عُمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « يُهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويُهل أهلُ الشام من الجحفة، ويُهل أهلُ نجد من قرن...» الحديث.
فهذه المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلّم حدود شرعية توقيفيَّة موروثةٌ عن الشارع، لا يَحلُّ لأحدٍ تغييرها أو التعدي فيها، أو تجاوزها بدون إحرام لمن أراد الحج أو العمرة، فإن هذا من تعدي حدود الله، وقد قال الله تعالى : {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ }، ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما : يُهل أهل المدينة ويُهل أهل الشام ويُهل أهل نجد، وهذا خبرٌ بمعنى الأمر، ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما : فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والإهلالُ : رفع الصوتِ بالتلبية، ولا يكونُ إلا بعد عقدِ الإحرامِ.
فالإحرامُ من هذه المواقيت واجبٌ على من أراد الحج أو العُمرةَ إذا مرَّ بها أو حاذاها، سواءُ أتى من طريق البرِّ أو البحر أو الجوِّ.
فإن كان من طريق البر نزل فيها إن مر بها أو فيما حاذاها إن لم يمر بها، وأتى بما ينبغي أن يأتي به عند الإحرام، من الاغتسال وتطييب بدنهِ ولُبس ثياب إحرامه، ثم يُحرم قبل مغادرته.(4/270)
وإن كان من طريق البحر، فإن كانت الباخرة تقف عند محاذاة الميقات اغتسل وتطيب ولبس ثياب إحرامه حال وقوفها، ثم أحرم قبل سيرها، وإن كانت لا تقف عند محاذاة الميقات اغتسل وتطيب ولبس ثياب إحرامه قبل أن تُحاذيه، ثم يُحرم إذا حاذَته.
وإن كان من طريق الجو، اغتسل عند ركوب الطائرة، وتطيب، ولبس ثوب إحرامه قبل مُحاذاة الميقات، ثم أحرم قُبيلَ مُحاذاته، ولا ينتظرُ حتى يُحاذيه، لأن الطائرة تمر به سريعةً فلا تُعطي فرصةً، وإن أحرَم قبلَه احتياطاً فلا بأس.
والخطأ الذي يرتكبه بعض الناس أنهم يمرون من فوق الميقات في الطائرة أو من فوق محاذاته ثم يُؤخرون الإحرام حتى ينزلوا في مطار جدة فَيُحرمون منها، وهذا مخالفٌ لأمر النبي صلى الله عليه وسلّم وتعدٍّ لحدود الله تعالى.
وفي « صحيح البخاري» عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : لما فتح هذان المِصران ـ يعني البصرة والكوفة ـ أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا : يا أمير المؤمنين إن النبي صلى الله عليه وسلّم حدَّ لأهل نجد قرناً، وإنه جَورٌ عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتي قَرناً شقّ علينا، قال : فانظروا إلى حَذوها من طريقكم.
فجعل أمير المؤمنين أحدُ الخلفاء الراشدين ميقات من لم يمر بالميقات إذا حاذاه، ومَنْ حاذاه جواً فهو كمن حاذاه برّاً، ولا فرق.
فإن وقع الإنسان في هذا الخطأ، فنزل جُدّةَ قبل أن يُحرم فعليه أن يَرجع إلى الميقات الذي حاذاه في الطائرة فَيُحرم منه، فإن لم يفعل وأحرم من جدة فعليه عند أكثر العلماء فدية يذبحها في مكة ويُفرقها كلها على الفقراء فيها، ولا يأكل منها، ولا يُهدي منها لغنيٍّ لأنها بمنزلة الكفارة.
الطوافُ والأخطاء الفعلية فيه(4/271)
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه ابتدأ الطواف من الحجَرِ الأسود في الركن اليماني الشرقي من البيت، وأنه طاف بجميع البيت من وراء الحجر، وأنه رَمَلَ في الأشواط الثلاثة الأولى فقط في الطواف أولَ ما قَدِمَ مكة، وأنه كان في طوافه يستلم الحجر الأسود ويُقبله، واستلمه بيده وقبلها، واستلمه بمحجن كان معه وقبل المحجن وهو راكبٌ على بعيره، وطاف على بعيره فجعل يُشير إلى الركن ـ يعني الحجَر ـ كلما مر به.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلّم أنه كان يستلم الركن اليماني.
واختلاف الصفات في استلام الحجَرِ إنما كان ـ والله أعلم ـ حَسَبَ السهولة، فما سَهُل عليه منها فعله، وكلُّ ما فعله من الاستلام والتقبيل والإشارة إنما هو تعبد لله تعالى، وتعظيم له، لا اعتقادَ أن الحجَر ينفعُ أو يضر.
وفي « الصحيحين» عن عمر رضي الله عنه أنه كان يُقبّل الحجَر ويقول : « إني لأعلمُ أنك حجَر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلّم يُقبّلك ما قبّلتك».
الأخطاء التي تقعُ من بعض الحُجَّاجِ
1 ـ ابتداء الطواف قبل الحجر الأسود، أي : بينه وبين الركن اليماني، وهذا من الغلو في الدين الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يُشبه من بعض الوجوه تقدم رمضان بيومٍ أو يومين، وقد ثبت النهي عنه.
وادعاء بعض الحجاج أنه يفعل ذلك احتياطاً غير مقبول منه، فالاحتياط الحقيقي النافع هو اتباع الشريعة، وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله.
2 ـ طوافهم عند الزحام من داخل الحجر، بحيث يدخل من باب الحِجر إلى الباب المُقابل، ويدَع بقية الحِجر عن يمينه، وهذا خطأٌ عظيم لا يصحُّ الطواف إذا فعله، لأن الحقيقة أنه لم يَطُف بالبيتِ، وإنما طاف ببعضِه.
3 ـ الرَّملُ في جميعِ الأشواط السبعة.(4/272)
4 ـ المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحجَرِ لتقبيله، حتى إنه يؤدي في بعض الأحيان إلى المُقاتلة والمشاتمة، فيحصل من التضارب والأقوال المنكرة ما لا يليق بهذا العمل، ولا بهذا المكان في مسجد الله الحرام، وتحت ظل بيته، فينقصُ بذلك الطواف، بل النسك كله، لقوله تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الأَلْبَبِ}.
وهذه المزاحمة تُذهِبُ الخشوع وتُنسي ذكرَ الله تعالى، وهما من أعظمِ المقصود في الطواف.
5 ـ اعتقادهم أن الحجَرَ الأسودَ نافع بذاته، ولذلك تجدهم إذا استلموه مَسَحوا بأيديهم على بقية أجسامهم، أو مسحوا بها على أطفالهم الذين معهم !!.
وكلُّ هذا جهل وضلالٌ، فالنفع والضرر من الله وحده، وقد سبق قول أمير المؤمنين عُمر رضي الله عنه : « إني لأعلمُ أنك حَجَرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يُقبلك ما قبّلتك».
6 ـ استلامهم ـ أعني بعض الحجاج ـ لجميع أركان الكعبة، ورُبما استلموا جميع جدران الكعبة، وتمسحوا بها، وهذا جهل وضلال، فإن الاستلام عبادةٌ وتعظيم لله عز وجل، فيجب الوقوف فيها على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يستلم النبي صلى الله عليه وسلّم من البيت سوى الركنين اليمانيين ( الحجر الأسود وهو في الركن اليماني الشرقي من الكعبة، والركن اليماني الغربي ).(4/273)
وفي « مسند الإمام أحمد» عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه طاف مع معاوية رضي الله عنه، فجعل معاوية يستلم الأركان كلها، قال ابن عباس : لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستلمهما ؟ فقال معاوية : ليس شيءٌ من البيت مهجوراً. فقال ابن عباس : لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة. فقال معاوية : صدقت.
الطواف والأخطاء القولية فيه
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يُكَبر الله تعالى كلما أتى على الحجر الأسود. وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود : {رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاٌّخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
وقال : إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله.
والخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين في هذا، تخصيص كل شوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره، حتى إنه إذا أتم الشوط قبل تمام الدعاء قطعه ولو لم يَبق عليه إلا كلمةٌ واحدة، ليأتي بالدعاء الجديد للشوط الذي يليه، وإذا أتم الدعاء قبل تمام الشوط سكت.
ولم يَرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم في الطواف دعاءٌ مُخصص لكل شوط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وليس فيه ـ يعني الطواف ـ ذكرٌ محدود عن النبي صلى الله عليه وسلّم، لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثيرٌ من الناس من دعاء مُعين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصلَ له.
وعلى هذا فيدعو الطائفُ بما أحب من خيري الدنيا والاخرة، ويذكر الله تعالى بأي ذكرٍ مشروع من تسبيح أو تحميد أو تهليل أو تكبير أو قراءة قرآن.(4/274)
ومن الخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين أن يأخذَ هذه الأدعية المكتوبة فيدعو بها وهو لا يعرف معناها، وربما يكون فيها أخطاءٌ من الطابع أو الناسخ تَقلبُ المعنى رأساً على عَقِبٍ، وتجعل الدعاء للطائف دعاءً عليه، فيدعو على نفسه من حيث لا يشعر، وقد سمعنا من هذا العَجَبَ العجاب.
ولو دعا الطائف ربه بما يريده ويعرفه، فيقصد معناه لكان خيراً له وأنفع، ولرسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثرَ تأسياً وأتبع.
ومن الخطأ الذي يرتكبه بعضُ الطائفين أن يجتمع جماعةٌ على قائد يطوف بهم ويُلقِّنهم الدعاء بصوت مرتفع فيتبعه الجماعة بصوتٍ واحد، فتعلوا الأصوات، وتحصل الفوضى، ويتشوش بقية الطائفين، فلا يدرون ما يقولون، وفي هذا إذهابٌ للخشوعِ، وإيذاءٌ لعباد الله في هذا المكان الامن.
وقد خَرَجَ النبي صلى الله عليه وسلّم على الناس وهم يُصلون ويجهرون بالقراءة، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « كلكم يُناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعضٍ في القرآن» رواه مالكٌ في « الموطأ»، قال ابن عبدالبر : وهو حديثٌ صحيح.
ويا حبذا لو أن هذا القائد إذا أقبل بهم على الكعبة وقف بهم وقال : إفعلوا كذا، قولوا كذا، ادعوا بما تُحبون، وصار يمشي معهم في المطاف حتى لا يخطىء منهم أحد، فطافوا بخشوع وطمأنينة، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، وتضرعاً وخُفية بما يحبونه، وما يعرفون معناه ويقصدونه، وسَلِمَ الناسُ من أذاهم.
الركعتان بعد الطواف والخطأ فيهما
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه لما فرغ من الطواف تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }، فصلى ركعتين، والمقام بينه وبين الكعبة، وقرأ في الركعة الأولى الفاتحة وقل يا أيها الكافرون، وفي الركعة الثانية الفاتحة وقل هو الله أحد.(4/275)
والخطأ الذي يفعله بعض الناس هنا ظنهم أنه لا بد أن تكون صلاة الركعتين قريباً من المقام، فيزدحمون على ذلك، ويُؤذون الطائفين في أيام الموسم، ويُعوقون سير طوافهم، وهذا الظن خطأ، فالركعتان بعد الطواف تُجزيان في أي مكان من المسجد، ويُمكن المصلي أن يجعل المقام بينه وبين الكعبة، وإن كان بعيداً عنه، فيُصلي في الصحن أو في رُواق المسجد، ويسلم من الأذية فلا يُؤذي ولا يُؤذى، وتحصلُ له الصلاة بخشوع وطمأنينة.
ويا حبذا لو أن القائمين على المسجد الحرام منعوا من يؤذون الطائفين بالصلاة خلف المقام قريباً منه، وبَيَّنوا لهم أن هذا ليس بشرط للركعتين بعد الطواف.
ومن الخطأ أن بعض الذين يُصلون خلف المقام يُصلون عدة ركعاتٍ كثيرة بدون سبب، مع حاجة الناس الذين فَرغوا من الطواف إلى مكانهم.
ومن الخطأ أن بعض الطائفين إذا فرغ من الركعتين وقف بهم قائدهم يدعو بهم بصوتٍ مرتفع فيُشوشون على المُصلين خلف المقام، فيَعتدون عليهم، وقد قال الله تعالى : {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
صعود الصفا والمروة والدعاء فوقهما
والسعي بين العلمين والخطأ في ذلك(4/276)
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه حين دنا من الصفا قرأ : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } ، ثم رقى عليه حتى رأى الكعبة فاستقبل القِبلَةَ ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو، فوحد الله وكبره وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجزَ وعدَه، ونَصر عبده، وهَزَم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك فقال مثل هذا ثلاث مراتٍ، ثم نزل ماشياً فلما انصبت قدماه في بطن الوادي وهو ما بين العلمين الأخضرين سعى حتى إذا تجاوزهما مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا.
والخطأ الذي يفعله بعض الساعين هنا أنهم إذا صعدوا الصفا والمروة استقبلوا الكعبة فكبروا ثلاث تكبيراتٍ يرفعون أيديهم ويومئون بها كما يفعلون في الصلاة، ثم ينزلون، وهذا خلاف ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم، فإما أن يفعلوا السنة كما جاءت إن تيسر لهم، وإما أن يدعوا ذلك ولا يُحدثوا فعلاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلّم.
ومن الخطأ الذي يفعله بعض الساعين أنهم يَسعون من الصفا إلى المروة، أعني أنهم يشتدون في المشي ما بين الصفا والمروة كله، وهذا خلاف السنة، فإن السعي فيما بين العلمين فقط، والمشي في بقية المسعى، وأكثرُ ما يقع ذلك إما جهلاً من فاعله، أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من السعي، والله المستعان.(4/277)
ومن الخطأ أن بعض النساء يَسعين بين العلمين، أي يُسرعن في المشي بينهما كما يفعل الرجال، والمرأة لا تسعى، وإنما تمشي المشيةَ المعتادة، لقول ابن عمر رضي الله عنهما : ليس على النساء رَمَلٌ بالبيت ولا بين الصفا والمروة.
ومن الخطأ أن بعض الساعين يقرأ قوله تعالى : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} كلما أقبلوا على الصفا أو على المروة، والسنة أن يقرأها إذا أقبل على الصفا في أول شوطٍ فقط.
ومن الخطأ أنّ بعضَ الساعين يُخصص لكل شوطٍ دعاءً معيناً، وهذا لا أصل له.
الوقوف بعرفة والخطأ فيه
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه مكثَ يوم عرفة بنمرة حتى زالت الشمس، ثم ركب، ثم نزلَ في بطن وادي عُرنة، فصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمعَ تقديم، بأذانٍ واحد وإقامتين، ثم ركب حتى أتى موقفه فوقف، وقال : « وقفت هاهنا وعرفة كُلُّها موقف»، فلم يزل واقفاً مستقبلَ القِبلة رافعاً يديه يذكرُ الله ويدعوه حتى غربت الشمسُ وغاب قرصُها فدفع إلى مزدلفة.
ومن الأخطاء التي يرتكبها بعضُ الحجاج في الوقوف:
1 ـ أنهم ينزلون خارج حدود عرفة، ويبقون في منازلهم حتى تغرب الشمس، ثم ينصرفون منها إلى مزدلفة من غير أن يقفوا بعرفة، وهذا خطأٌ عظيم يفوت به الحج، فإن الوقوف بعرفة ركنٌ لا يصحُّ الحج إلا به، فمن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف فلا حج له، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « الحج عرفة من جاء ليلة جمعٍ قبل طلوع الفجر فقد أدرك».
وسبب هذا الخطأ الفادح أن الناس يغتر بعضهم ببعض، لأن بعضهم ينزل قبل أن يَصِلها ولا يتفقد علاماتها، فيفوت على نفسه الحج ويغرُّ غيره.(4/278)
ويا حبذا لو أن القائمين على الحج أعلنوا للناس بوسيلة تبلغ جميعهم، وبلغات متعددة، وعهدوا إلى المطوفين بتحذير الحجاج من ذلك، ليكون الناس على بصيرة من أمرهم، ويؤدوا حجهم على الوجه الذي تبرأ به الذمة.
2 ـ أنهم ينصرفون من عرفة قبل غروب الشمس، وهذا حرامٌ لأنه خلافُ سنة النبي صلى الله عليه وسلّم، حيث وقف إلى أن غربت الشمس وغاب قرصها، ولأن الانصراف من عرفة قبل الغروب عملُ أهل الجاهلية.
3 ـ أنهم يستقبلون الجبل ـ جبل عرفة ـ عند الدعاء، ولو كانت القِبلة خلف ظهورهم أو على أيمانهم أو شمائلهم، وهذا خلافُ السنة، فإن السنة استقبال القبلة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم.
رمي الجمرات والخطأ فيه
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه رمى جمرة العقبة وهي الجمرة القصوى التي تلي مكة بسبع حصيات، ضُحى يوم النحر، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصا الخذَفِ أي فوق الحمص قليلاً.
وفي « سنن النسائي» من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما ـ وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلّم من مزدلفة إلى منى ـ قال : فهبط ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلّم ـ محسراً وقال : عليكم بحصا الخذف الذي تُرمى به الجمرة، قال : والنبي صلى الله عليه وسلّم يشير بيده كما يخذفُ الإنسان.
وفي « مسند الإمام أحمد» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يحيى : لا يدري عوفٌ عبدالله أو الفضل : قال : « قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم غداةَ العقبة وهو واقف على راحلته : هاتِ القُطْ لي، قال فلقطت له حصيات هن حصا الخذف، فوضعهن في يده فقال : « بأمثال هؤلاء» مرتين، وقال بيده فأشار يحيى أنه رفعها وقال : « إياكم والغلو فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين».(4/279)
وعن أُم سليمان بن عمرو بن الأحوص رضي الله عنها قالت : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر، وهو يقولُ : « يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضاً، وإذا رميتم الجمرة فارموها بمثل حصا الخذفِ» رواه أحمد.
وفي « صحيح البخاري» عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يُكبر على إثر كل حصاةٍ ثم يتقدم حتى يسهلَ فيقومَ مستقبلَ القِبلة فيقومَ طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذُ ذات الشمالِ فيسهل ويقومُ مستقبل القبلة فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفعُ يديه، ثم يرمي جمرة العقبة من بَطنِ الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرفُ فيقولُ : هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يفعله.
وروى أحمد وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكرِ الله».
والأخطاء التي يفعلها بعضُ الحجاج هي :
1 ـ اعتقادهم أنه لا بد ـ من أخذِ الحصا من مزدلفة فيتعبون أنفسهم بلقطها في الليل واستصحابها في أيام منى حتى إن الواحد منهم إذا أضاعَ حصاةً حزِنَ حُزناً كبيراً، وطلب من رفقته أن يتبرعوا له بفضلِ ما معهم من حصا مزدلفة.
وقد عُلم مما سبق أنه لا أصل لذلك عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وأنه أمر ابن عباس رضي الله عنهما بِلَقْطِ الحصا له وهو واقفٌ على راحلته، والظاهر أن هذا الوقوف كان عند الجمرة، إذ لم يُحفظ عنه أنه وقف بعد مسيرهِ من مزدلفة قبل ذلك، ولأن هذا وقت الحاجة إليه فلم يكن ليأمرَ بلقطها قبله لعدم الفائدة فيه وتكلف حمله.
2 ـ اعتقادهم أنهم برميهم الجمار يرمون الشيطانَ، ولهذا يُطلقون اسم الشياطين على الجِمارِ، فيقولون : رمينا الشيطان الكبير أو الصغير أو رمينا أبا الشياطين يَعنون به الجمرة الكبرى جمرة العقبة، ونحو ذلك من العبارات التي لا تليق بهذه المشاعر.(4/280)
وتراهم أيضاً يرمون الحصا بشدة وعنف وصراخ وسب وشتم لهذه الشياطين على زعمهم حتى شاهدنا من يصعد فوقها يبطش بها ضرباً بالنعل والحصا الكبار بغضب وانفعال ! والحصا تصيبه من الناس، وهو لا يزداد إلا غضباً وعنفاً في الضرب، والناس حوله يضحكون ويقهقهون كأن المشهد مشهد مسرحية هزليّة ! شاهدنا هذا قبل أن تُبنى الجسورُ وترتفع أنصابُ الجمرات، وكلُّ هذا مبنيٌّ على هذه العقيدة أن الحجاج يرمون شياطين، وليس لها أصلٌ صحيحٌ يعتمد عليه.
وقد علمتَ مما سبقَ الحكمةَ في مشروعيةَ رمي الجمار، وأنه إنما شرع لإقامة ذكر الله عز وجل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم يكبر على إثرِ كل حصاة.
3 ـ رميهم الجمرات بحصا كبيرةِ. وبالحذاء ( النعل )، والخفاف ( الجزمات )، والأخشاب !! وهذا خطأٌ كبير مخالف لما شرعه النبي صلى الله عليه وسلّم لأُمته بفعله وأمره، حيث رمى صلى الله عليه وسلّم بمثل حصا الخذف، وأمر أُمته أن يرموا بمثله، وحذرهم من الغلو في الدين، وسبب هذا الخطأ الكبير ما سبق من اعتقادهم أنهم يرمون شياطين.
4 ـ تقدمهم إلى الجمرات بعنفٍ وشدةٍ، لا يخشعون لله تعالى، ولا يَرحمون عباد الله، فيحصلُ بفعلهم هذا من الأذية للمسلمين والإضرار بهم، والمشاتمة والمضاربة ما يقلب هذه العبادة وهذا المشعر إلى مشهد مشاتمة ومقاتلة، ويخرجها عما شُرعت من أجله، وعما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم.
ففي « المسند» عن قُدامة بن عبدالله بن عمار قال : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم يوم النحر يرمي جمرة العقبة على ناقةٍ صهباء، لا ضرب ولا طرد ولا : إليكَ إليكَ» رواه الترمذي وقال : حسنٌ صحيح.
5 ـ تركهم الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولى والثانية في أيام التشريق، وقد علمَت أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقفُ بعد رميها مستقبل القبلة، رافعاً يديه يدعو دعاءً طويلاً.(4/281)
وسبب ترك الناس لهذا الوقوف الجهل بالسنة، أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من العبادة.
ويا حبذا لو أن الحاج تعلم أحكام الحج قبل أن يحج، ليعبد الله تعالى على بصيرة، ويحقق متابعة النبي صلى الله عليه وسلّم.
ولو أن شخصاً أراد أن يُسافر إلى بلدٍ لرأيته يسألُ عن طريقها حتى يصل إليها عن دلالةٍ، فكيف بمن أراد أن يَسلُك الطريق الموصلة إلى الله تعالى، وإلى جنته، أفليس من الجدير به أن يسأل عنها قبل أن يسلُكها ليصل إلى المقصود !؟
6 ـ رميهم الحصا جميعاً بكفٍّ واحدة، وهذا خطأ فاحشٌ، وقد قال أهل العلم إنه إذا رمى بكفٍّ واحدةٍ أكثرَ من حصاةٍ لم يُحتَسب له سوى حصاةٍ واحدة.
فالواجب أن يرمي الحصا واحدة فواحدةً، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم.
7 ـ زيادتهم دعواتٍ عند الرمي لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلّم، مثل قولهم : اللهم اجعلها رضا للرحمن، وغَضَباً للشيطان، وربما قال ذلك وتركَ التكبير الواردَ عن النبي صلى الله عليه وسلّم.
والأولى الاقتصار على الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلّم من غير زيادةٍ ولا نقصٍ.(4/282)
8 ـ تهاونهم برمي الجمار بأنفسهم فتراهم يُوَكّلون من يرمي عنهم مع قُدرَتهِم على الرمي ليُسقطوا عن أنفسهم مُعاناةَ الزحامِ ومشقةَ العمل، وهذا مخالفٌ لما أمر الله تعالى به من إتمام الحج، حيث يقول سبحانه : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }، فالواجب على القادر على الرمي أن يُباشره بنفسه، ويصبر على المشقة والتعب فإن الحج نوعٌ من الجهاد، لا بد فيه من الكُلفة والمشقة.
فليتق الحاج ربه، وليتم نُسكه، كما أمره الله تعالى به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
طواف الوداع والأخطاء فيه
ثبت في « الصحيحين» عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : « أُمر الناس أن يكونَ آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض».
وفي لفظٍ لمسلم عنه قال : « كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « لا ينفرنَّ أحدٌ حتى يكون آخرَ عهده بالبيتِ».
ورواه أبو داود بلفظ : « حتى يكونَ آخرَ عهده الطوافُ بالبيت».
وفي « الصحيحين» عن أُم سلمة رضي الله عنهاقالت : « شكوتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أني أشتكي، فقال : « طُوفي من وراء الناس وأنتِ راكبةٌ»، فَطُفتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يُصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور».(4/283)
وللنسائي عنها أنها قالت : « يا رسول الله، والله ما طُفتُ طوافَ الخروجِ فقال : « إذا أُقيمت الصلاةُ فطوفي على بعيرك من وراء الناس».
وفي « صحيح البخاري» عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رَقدَةً بالمُحَصب ثم ركب إلى البيت فطاف به.
وفي « الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها أن صفية رضي الله عنها حاضت بعد طوافِ الإفاضة فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « أحابِسَتُنا هي ؟» قالوا : إنها قد أفاضت وطافت بالبيت، قال : « فلتنفر إذن».
وفي « الموطأ» عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال : « لا يَصدُرن أحدٌ من الحج حتى يطوف بالبيت، فإن آخرَ النسكِ الطوافُ بالبيت».
وفيه عن يحيى بن سعيد أنّ عمرَ رضي الله عنه رَدّ رجلاً مِن مرِّ الظهران لم يكن وَدّع البيتَ حتى ودّع.
والخطأ الذي يرتكبه بعضُ الناس هنا :
1 ـ نزولهم من منى يوم النفر قبل رمي الجمرات، فيطوفوا للوداع ثم يَرجعوا إلى منى فيرموا الجمرات، ثم يُسافروا إلى بلادهم من هناك.
وهذا لا يجوز، لأنه مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلّم أن يكون آخرَ عهدِ الحاجّ بالبيت، فإن من رمى بعد طواف الوداع فقد جعل آخرَ عهده بالجمار لا بالبيتِ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يَطُف للوداع إلا عند خروجه حين استكمل جميعَ مناسكِ الحج، وقد قال : « خُذوا عني مناسككم».
وأثرُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه صريحٌ في أن الطواف بالبيت آخرُ النسك، فمن طافَ للوداع ثم رمى بعده فطوافه غيرُ مجزىء لوقوعه في غير مَحَلِّه، فيجبُ عليه إعادتُه بعد الرمي، فإن لم يُعد كان حُكمُه حُكم مَن تركه.(4/284)
2 ـ مُكثهم بمكة بعد طواف الوداع، فلا يكونُ آخرَ عهدهم بالبيت وهذا خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلّم، وبينه لأُمته بفعله، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم أمرَ أن يكون آخرَ عهدِ الحاج بالبيت، ولم يَطُف للوداع إلا عند خروجه، وهكذا فعل أصحابه، ولكن رخّص أهلُ العلم في الإقامةِ بعد طوافِ الوداع للحاجةِ إذا كانت عارضةً، كما لو أُقيمت الصلاة بعد طوافه للوداع فصلاها، أو حضرت جنازةٌ فصلى عليها أو كان له حاجةٌ تتعلق بسفره كشراء متاعٍ وانتظار رفقةٍ ونحو ذلك. فمن أقام بعد طواف الوداع إقامةً غيرَ مرخصٍ فيها وجبت عليه إعادتهُ.
3 ـ خروجهم من المسجد بعد طواف الوداعٍ على أقفيتهم يزعمون بذلك تعظيم الكعبة، وهذا خلافُ السنة، بل هو من البدع التي حذَّرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال فيها : « كل بدعةٍ ضلالة».
والبدعة : كل ما أُحدث من عقيدة أو عبادةٍ على خلافِ ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم وخُلفاؤه الراشدون، فهل يظنُّ هذا الراجعُ على قفاه تعظيماً للكعبة على زعمهِ أنه أشدُّ تعظيما لها من رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم، أو يظنّ أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن يعلمُ أنّ في ذلك تعظيماً لها، لا هو ولا خُلفاؤه الراشدون ؟!!
4 ـ التفاتهم إلى الكعبة عند باب المسجد بعد انتهائهم من طواف الوداع ودعاؤهم هناك كالمودعين للكعبة، وهذا من البدع لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولا عن خُلفائه الراشدين، وكل ما قُصد به التعبُّد لله تعالى وهو مما لم يَردْ به الشرعُ فهو باطلٌ مردودٌ على صاحبه، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَد»، أي : مردودٌ على صاحبه.(4/285)
فالواجب على المؤمن بالله ورسوله أن يكونَ في عباداته مُتبعاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيها لينال بذلك محبة الله ومغفرته، كما قال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
واتباعُ النبي صلى الله عليه وسلّم كما يكونُ في مفعولاته يكونُ كذلك في متروكاته.
فمتى وُجد مقتضى الفعل في عهده ولم يفعله كان ذلك دليلاً على أن السنة والشريعة تركه، فلا يجوز إحداثهُ في دين الله تعالى، ولو أحبه الإنسان وهواه.
قال الله تعالى : {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَتُ وَالاٌّرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».
نسألُ الله أن يهدينا صراطَه المستقيم، وأن لا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهبَ لنا منه رحمةً إنه هو الوهاب.
مناسك الحج و العمرة
الفصل العاشر : في زيارة المسجد النبوي
محمد بن صالح العثيمين
زيارة المسجد النبوي من الأمور المشروعة المستحبة، فهو ثاني المساجد الثلاثة التي تُشد الرحال إليها للصلاة فيها والعبادة.
ففي « الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « صلاةٌ في مسجدي خيرٌ من ألفِ صلاةٍ فيما سواه إلا المسجدَ الحرامَ» رواه الجماعة.
زاد الإمام أحمدُ من حديث عبدالله بن الزبير : « وصلاة في المسجد الحرامِ أفضلُ من مئةِ صلاةِ في هذا».(4/286)
وعن ميمونةَ زوجِ النبي صلى الله عليه وسلّم قالت : « إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم يقول : « صلاةٌ فيه ـ يعني مسجد رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم ـ أفضلُ من ألفِ صلاةٍ فيما سواهُ من المساجدِ إلا مسجدَ الكعبة» رواه مسلم.
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياضِ الجنة، ومنبري على حَوضي» رواه البخاري.
فَيُسن للحاج وغيرهِ زيارةُ مسجدِ النبي صلى الله عليه وسلّم والصلاةُ فيه قبل الحج أو بعده، وليست هذه الزيارة من شروط الحج ولا أركانه ولا واجباته، ولا تعلُّق لها به.
فإذا دخل المسجد قدّم رِجلَه اليُمنى، وقال : بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللَّهُمّ اغفر لي ذنُوبي وافتح لي أبواب رحمتِك، أعوذُ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.
ثم يُصَلي ركعتين تحية المسجد لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « وإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يُصلي ركعتين» متفق عليه.
وفي « الصحيحين» من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال : وأصبح رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم قادماً، وكان إذا قَدِمَ من سفرٍ بدأ بالمسجدِ فيركعُ فيه ركعتين.
وعن جابرٍ رضي الله عنه قال : كنتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم في سفرٍ فلّما قدمنا المدينة قال : « اُدخُل فَصَلِّ ركعتين» رواه البخاري.
وينبغي أن يتحرى الصلاة في الروضة إن تيسر له من أجل فضيلتها، وإن لم يتيسر له صلى في أي جهةٍ من المسجد تتيسر له، وهذا في غير صلاةِ الجماعة، أما في صلاة الجماعة فليُحافظ على الصف الأول الذي يلي الإمام لأنه أفضل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلّم : « خير صفوف الرجال أولها»، وقوله صلى الله عليه وسلّم : « لو يعلمُ الناس ما في النداء والصفِّ الأولِ ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» متفق عليه.
زيارةُ قبر النبي صلى الله عليه وسلّم(4/287)
وقبري صاحبيه رضي الله عنهما
بعد أن يُصلي في المسجد النبوي أول قدومه ما شاء الله أن يُصلي، يذهبُ للسلام عن النبي صلى الله عليه وسلّم وصاحبيه أبي بكر وعُمر رضي الله عنهما.
1 ـ فيقفُ أمامَ قبر النبي صلى الله عليه وسلّم مُستقبلاً للقبر مُستدبراً للقبلةِ، فيقولُ : السلامُ عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته، وإن زاد شيئاً مناسباً فلا بأس مثل أن يقول : السلامُ عليكَ يا خليل الله وأمينه على وحيه، وخيرتَه من خلقِهِ، أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونَصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده.
وإن أقتصر على الأول فَحَسَنٌ.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سلم يقول : السلامُ عليك يا رسول الله، السلامُ عليك يا أبا بكر، السلامُ عليك يا أَبَتِ، ثم ينصرفُ.
2 ـ ثم يخطو خطوةً عن يمينه ليكون أمام أبي بكر رضي الله عنه فيقول : السلام عليك يا أبا بكر، السلامُ عليك يا خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أُمته، رضي الله عنك وجزاك عن أُمة محمدٍ خيراً.
3 ـ ثم يخطو خطوةً عن يمينهِ ليكونَ أمام عُمَرَ رضي الله عنه فيقول : السلامُ عليك يا عمر، السلام عليك يا أمير المؤمنين، رضي الله عنك وجزاكَ عن أُمّة محمدٍ خيراً.
وليكن سلامُهُ على النبي صلى الله عليه وسلّم وصاحبيه بأدبٍ، وخفض صوت، فإن رفع الصوت في المساجد منهيٌّ عنه، لا سيما في مسجد رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم، وعند قبره.
وفي « صحيح البخاري» عن السائب بن يزيد قال : كنت قائما أو نائماً في المسجد فَحصبني رجلٌ فنظرتُ فإذا عُمر بن الخطاب فقال : اذهب فأتني بهذين، فجئتهُ بهما فقال : مَن أنتما ؟ قالا : من أهلِ الطائفِ، قال : لو كنتُما من أهل البلد لأوجعتكما جَلداً، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم.(4/288)
ولا ينبغي إطالة الوقوف والدعاء عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلّم وقبري صاحبيه، فقد كرهه مالكٌ وقال : هو بدعةٌ لم يفعلها السلف، ولن يُصلح آخِرَ هذه الأمةِ إلا ما أصلح أولها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وكره مالكٌ لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، بل كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون فيه خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهم يقولون في الصلاة : السلامُ عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته، ثم إذا قَضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلامِ لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل.
قال : وكان أصحابه خيرَ القرون، وهم أعلمُ الأمة بسنتِهِ، وأطوعُ الأمة لأمره.
قلت : وأقواهم في تعظيمه ومحبته، وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهبُ أحدٌ منهم إلى قبره، لا من داخل الحجرة ولا من خارجها، وكانت الحُجرة في زمانهم يُدخَلُ إليها من الباب إلى أن بُني الحائط الاخرُ، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه، لا لسلامٍ، ولا لصلاةٍ عليه، ولا لدعاء لأنفُسهم، ولا لسؤالٍ عن حديثٍ أو علم !
ولم يكن أحدٌ من الصحابة رضوان الله عليهم يأتيه ويسألهُ عن بعض ما تنازعوا فيه، كما أنهم أيضاً لم يطمع الشيطان فيهم فيقولُ : اطلبوا منه أن يأتي لكم بالمطر، ولا أن يستنصر لكم، ولا أن يستغفرَ كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم، وأن يستنصَر لهم.
قال : وكان الصحابةُ إذا أراد أحدٌ أن يدعُوَ لنفسه، استقبل القبلة ودعا في مسجده كما كانوا يفعلون في حياته، لا يقصدون الدعاء عند الحجرة، ولا يدخل أحدهم إلى القبر.(4/289)
قال : وكانوا يَقدُمون من الأسفارِ للاجتماعِ بالخلفاء الراشدين وغير ذلك، فَيُصلون في مسجده، ويُسَلّمون عليه في الصلاة، وعند دخولهم المسجدَ والخروج منه، ولا يأتون القبرَ؛ إذ كان هذا عندهم مما لم يأمرهم به. ولكن ابن عمر كان يأتيه فَيُسلّم عليه وعلى صاحبيه عند قدومهِ من السفر، وقد يكون فَعله غير ابن عمر أيضاً ولم يكن جمهورُ الصحابة يفعلون كما فَعَلَ ابنُ عمر رضي الله عنهما.
ولا يتمسح بجدار الحجرة، ولا يقبله، فإن ذلك إن فعله عبادةً لله وتعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فهو بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ، وقد أنكر ابن عباس رضي الله عنهما على مُعاوية رضي الله عنه مَسحَ الركنينِ الشامي والغربي من الكعبة، مع أن جنسَ ذلك مشروعٌ في الركنين اليمانيين. وليس تعظيمُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومحبته بمسح جدران حُجرةٍ لم تُبْنَ إلا بعد عهده بقرونٍ، وإنما محبته وتعظيمه باتباعهِ ظاهراً وباطناً، وعدمِ الابتداع في دينه ما لم يشرعه.
قال الله تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وأمّا إن كان مسحُ جدار الحجرة وتقبيله مُجرد عاطفةٍ أو عبثٍ فهو سفهٌ وضلالٌ لا فائدةَ فيه، بل فيه ضررٌ وتغريرٌ للجهال.(4/290)
ولا يدعو رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم بجلبِ منفعةٍ له، أو دفعِ مضرةٍ، فإن ذلك من الشركِ، قال الله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَخِرِينَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَخِرِينَ سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَخِرِينَ }، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً الْمَسَجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً }، وأمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يعلنَ لأُمته بأنه لا يملكُ لنفسهِ نفعاً ولا ضَرّاً، فقال تعالى : {قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }، وإذا كان لا يملكُ ذلك لنفسه، فلا يمكن أن يملكَه لغيره.
وَأَمَره سبحانه أن يُعلن لأمتهِ أنّه لا يملكُ مثل ذلك لهم، فقال تعالى : {قُلْ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً}.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لما نزلت : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاٌّقْرَبِينَ} قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : « يا فاطمة ابنة محمد، يا صفية بنتَ عبدالمطلب، يا بني عبدالمطلب لا أملكُ لكم من الله شيئاً، سَلُوني من مالي ما شئتم» رواه مسلم.
ولا يَطلب من النبي صلى الله عليه وسلّم أن يدعو له، أو يستغفرَ له، فإن ذلك قد انقطع بموتهِ صلى الله عليه وسلّم، لِما ثبت عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال : « إذا مات ابن آدمَ انقطع عمله».(4/291)
فأما قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً تَوَّاباً رَّحِيماً} فهذا في حياته، فليس فيها دليلٌ على طلب الاستغفار منه بعد موته؛ فإن الله قال: {إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} ولم يَقُلْ : إذا ظلموا أنفسهم، وإذ ظرفٌ للماضي لا للمستقبل، فهي في قومٍ كانوا في عهدِ النبي صلى الله عليه وسلّم، فلا تكون لمن بعده.
فهذا ما ينبغي في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم، وقبري صاحبيه والسلام عليهم.
وينبغي أن يزورَ مقبرةَ البقيع، فَيُسلّم على مَن فيها من الصحابة والتابعين، مثل عُثمان بن عَفان رضي الله عنه، فيقفُ أمامه ويُسلم عليه فيقول : السلام عليك يا عثمان بن عفان، السلامُ عليك يا أميرَ المؤمنين، رضي الله عنك وجزاك عن أُمة محمدٍ خيراً.
وإذا دخلَ المقبرة فَليقُلْ ما علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلّم أُمّته كما في « صحيح مسلم» عن بُريدة رضي الله عنه قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلّم يُعَلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول : السلامُ عليكم أهلَ الديارِ من المُؤمنين والمُسلمين، وإنّا إنْ شاءَ الله بكم لَلاحقون، نسألُ الله لنا ولكم العافية».(4/292)
وفيه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان النبي صلى الله عليه وسلّم يخرجُ من آخرِ الليل إلى البقيعِ، فيقولُ : « السلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وأتاكم ما تُوْعدون غداً مُؤجّلون، وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون، اللّهم اغفرْ لأهلِ بقيع الغرقدِ».
وإنْ أحبّ أن يخرجَ إلى أُحُدٍ ويزورَ الشهداءَ هناك فَيُسلّم عليهم ويدعو لهم ويتذكر ما حَصل في تلك الغزوةِ من الحكَمِ والأسرارِ فَحَسَنُ.
وينبغي أن يَخْرُجَ إلى مسجدِ قُباء، فيُصلّي فيه لقوله تعالى : {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}.
وفي « صحيح البخاري» عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلّم يأتي مسجد قُباء كلَّ سبتٍ ماشياً وراكباً، وكان ابن عمر يفعلهُ»، وفي رواية : « فَيُصلّي فيه ركعتين».
وروى النسائي عن سهل بن حُنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « مَنْ خرج حتى يأتي هذا المسجدَ ـ مسجد قباء ـ فصلّى فيه كان له عدلُ عمرةٍ».
وإذا انصرف إلى بلاده وأقبلَ عليها قال : آيبونَ تائبون عابِدون لربّنا حامدون. حتى يَقدُمَ كما كان النبي صلى الله عليه وسلّم يفعل ذلك.
وليحمدِ الحاجُّ الذي يسّر الله له الحجَّ وزيارة المدينة، ليحمدِ الله على ذلك، وليقم بشكرهِ، ويستقم على أمره، فاعلاً ما أمرَ الله به ورسولُه، تاركاً ما نهى الله عنه ورسولُه، ليكونَ من عبادِ الله الصالحين، وأوليائهِ المتقين.
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيوةِ الدُّنْيَا وَفِى الاٌّخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.(4/293)
والحمدُ لله رَبّ العالمين، وصلّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
مناسك الحج و العمرة
أسئلة وأجوبة في بعض مسائل الحج
محمد بن صالح العثيمين
س 1 : امرأةٌ حاضت ولم تطُف طوافَ الإفاضةِ وتسكن خارجَ المملكة، وحان وقتُ مغادرتها المملكة، ولا تستطيعُ التأخر، ويستحيل عودتها المملكة مرةً أخرى، فما الحكم ؟
ج 1 : إذا كان الأمرُ كما ذُكر، امرأةٌ لم تطف طوافَ الإفاضةِ، وحاضت ويتعذّر أن تبقى في مكة أو أن ترجعَ إليها لو سافرتْ قبلَ أن تطوف، ففي هذه الحالِ يجوزُ لها أن تستعمل واحداً من أمرين : فإما أن تستعمل إبراً توقفُ هذا الدمَ وتطوفُ، وإما أن تتلجم بلجامٍ يمنعُ من سيلانِ الدم إلى المسجد، وتطوفُ للضرورة، وهذا القولُ الذي ذكرناه هو القولُ الراجحُ، والذي اختارَه شيخ الإسلام ابن تيمية، وخلافُ ذلك واحدٌ من أمرين، إما أن تبقى على ما بقي من إحرامها بحيث لا تُحل لزوجها، وإما أن تُعتبر مُحصرة تذبح هدياً وتحلُّ من إحرامها.(4/294)
وفي هذه الحالِ لا تُعتَبُر هذه الحجةُ حجا لأنها لم تكملها، وكلا الأمرين صَعبٌ، الأمرُ الأولُ وهو بقاؤها على ما بقي من إحرامها، والأمرُ الثاني الذي يُفوِّت عليها حجَّها، فكان القولُ الراجحُ هو ما ذهب إليه شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مثل هذه الحالِ للضرورة، وقد قال الله تعالى : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَهِيمَ هُوَ سَمَّكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }، وقال : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
أما إذا كانت المرأة يُمكنها أن تسافر ثم ترجعَ إذا طَهُرت فلا حَرَج عليها أن تُسافرَ، فإذا طَهُرت رَجَعت فطافت طوافَ الحج.
وفي هذه المدة لا تحلّ لزوجها لأنها لم تحلّ التحلُّلَ الثاني.
س 2 : حاجٌّ من خارجِ المملكة، لا يعلمُ عن ظروفِ السفرِ وترتيباتِ التذاكر والطائرات، وسأل في بلده هل يمكنه الحجز الساعة الرابعة عصراً من يوم ( 13/12/1405 هـ ) ؟ قيل : يمكن ذلك، فحجز على هذا الموعد، ثم أدركه المبيت بمنى ليلةَ الثالث عشر، فهل يجوزُ له أن يرمي صباحاً ثم ينفرَ، علماً أنه لو تأخر بعد الزوال لفات السفر، وترتب عليه مشقةٌ كبيرةٌ، ومخالفةٌ لأولي الأمر ؟
ج 2 : لا يجوز له أن يرمي قبل الزوال، ولكن يُمكن أن نُسقطَ عنه الرميَ في هذه الحالِ للضرورة، ونقولُ له : يلزمك فديةٌ تذبحُها في منى أو في مكّة أو تُوكِل من يذبحُها عنك، وتوزّع على الفقراء، وتطوفُ طَوَافَ الوداع وتمشي.(4/295)
ونقولُ : أمّا قولك إذا كان الجواب بعدم الجواز أليس هناك رأيٌ يجيزُ الرمي قبل الزوال ؟ فالجواب : هناك رأيٌ يجيزُ الرمي قبل الزوال، ولكنه ليسَ بصحيح، والصوابُ أن الرمي قبل الزوال لا يجوزُ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : « خُذوا عني مناسككم»، ولم يَرْمِ صلى الله عليه وسلّم إلا بعد الزوال.
فإن قال قائلٌ : رميُ النبي صلى الله عليه وسلّم بعد الزوال مجرد فعل، ومجرّد الفعل لا يدل على الوجوب، قلنا : هذا صحيحٌ أنه مجرد فعل، ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب، أما كونه مجرد فعلٍ فلأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يأمر بأن يكون الرمي بعد الزوال، ولا نهى عن الرمي قبل الزوال.
وأما كونُ الفعل لا يدلُّ على الوجوبِ، فنَعم لا يدلُّ على الوجوب لأن الوجوب لا يكون إلا بأمرٍ بالفعل أو نهي عن التركِ.
ولكن نقول : هذا الفعل دلت القرينة على أنه للوجوب، ووجه ذلك أن كون الرسول صلى الله عليه وسلّم يؤخر الرمي حتى تزول الشمس يدل على الوجوب، إذ لو كان الرمي قبل الزوال جائزاً لكان النبي صلى الله عليه وسلّم يفعله، لأنه أيسر على العباد وأسهلُ والنبي صلى الله عليه وسلّم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فكونُه صلى الله عليه وسلّم لم يختر الأيسر هنا وهو الرمي قبل الزوال يدلُّ على إنه إثمٌ.
والوجه الثاني مما يدل على أن هذا الفعل للوجوب : كونُ الرسول صلى الله عليه وسلّم يرمي فور زوال الشمس قبل أن يُصلي الظهر، فكأنه يترقب الزوال بفارغِ الصبر ليبادرَ بالرمي، ولهذا أخّر صلاةَ الظهرِ مع أنَّ الأفضلَ تقديمها في أول الوقت، كل ذلك من أجل أن يرمي بعد الزوال مُباشرةً.
س 3 : رجلٌ سمع أنه يجوزُ السعي قبل الطواف فسعى ثم طاف في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر، فقيل له : إن ذلك خاصُّ بيوم العيد، فما الحُكم ؟(4/296)
ج 3 : الصوابُ أنه لا فرق بين يوم العيد وغيره في أنه يجوزُ تقديم السعي على الطواف في الحج، حتى لو كان بعدَ يوم العيد لعموم الحديث، حيث قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلّم : سعيتُ قبل أنْ أَطوفَ قال : « لا حرج». وإذا كان الحديثُ عاماً فإنه لا فرقَ بين أن يكونَ ذلك في يوم العيد أو فيما بعده.
س 4 : إذا طاف مَن عليه سعيٌ، ثم خرج ولم يَسعَ، وأُخبر بعد خمسةٍ أيام بأن عليه سعياً، فهل يجوزُ أن يسعى فقط ولا يطوفُ قبله ؟
ج 4 : إذا طاف الإنسانُ معتقداً أنه لا سعي عليه ثم خرج، ثم بعد ذلك بأيام أُخبر بأن عليه سعياً، فإنه يأتي للسعي فقط ولا حاجةَ إلى إعادةِ الطواف، وذلك لأنه لا يُشترط الموالاة بين الطواف والسعي، حتى لو فُرض أن الرجلَ ترك ذلك عمداً، أي أخر السعي عن الطواف عَمْداً، فلا حَرَجَ عليه، ولكن الأفضلَ أن يكون السعي مُوالياً للطواف.
س 5 : حاجٌّ قَدِمَ متمتعاً، فلما طاف وسعى لَبِسَ ملابسه العادية، ولم يُقصر أو يحلق، وسأل بعد الحج وأُخبر أنه أخطأ، فكيف يفعل وقد ذهب الحج بعد وقت العمرةِ ؟
ج 5 : هذا الرجل يُعتبر تاركاً لواجب من واجبات العمرة، وهو التقصير، وعليه عند أهل العلم أن يذبحَ فديةً في مكة ويُوزعها على فقراء مكة وهو باقٍ على تمتعه فيلزمه هدي التمتع أيضاً.
س 6 : ما حكم الحلق أو التقصير بالنسبة للعمرة ؟
ج 6 : الحلق أو التقصير بالنسبة للعمرة واجبٌ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قَدِمَ إلى مكة في حَجة الوداع وطاف وسعى، أَمَرَ كلَّ من لم يسق الهديَ أن يقصر، ثم يحل، والأصل في الأمر الوجوب، ويدل لذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمرَهم حين أحصروا في غزوةِ الحديبيةِ، أن يحلقوا حتى إنه صلى الله عليه وسلّم غَضِبَ حين تَوانَوْا في ذلك.(4/297)
وأما : هل الأفضل في العمرة التقصير أو الحَلق ؟ فالأفضل الحلقُ، إلا للمتمتع الذي قَدِمَ مُتأخراً فإن الأفضل في حقه التقصير من أجل أن يتوفر الحلقُ للحجِّ.
س 7 : حاجٌّ رمى جمرة العقبة من جهة الشرق، ولم يسقط الحجرُ في الحوض، فما العمل وهو في اليوم الثالث عشر، وهل يلزمه إعادة الرمي في أيام التشريق ؟
ج 7 : لا يلزمه إعادة الرمي كله، وإنما يلزمه إعادة الرمي الذي أخطأ فيه فقط، وعلى هذا يعيدُ رمي جمرة العقبة فقط، ويرميها على الصواب، ولا يجزئه الرمي الذي رماه من جهة الشرق لأنه في هذه الحال لا يسقط في الحوض الذي هو موضع الرمي، ولهذا لو رماها من الجسر من الناحية الشرقية أجزأ لأنه يسقطُ في الحوض.
س 8 : متى ينتهي رمي جمرة العقبة أداءً ؟ ومتى ينتهي قضاءً ؟
ج 8 : أما رمي جمرة العقبة يومَ العيد فإنه ينتهي بطلوعِ الفجرِ من اليوم الحادي عشَر، ويبتدىءُ من آخِرِ الليل من ليلةِ النحرِ للضُّعفاء ونحوهم من الذين لا يستطيعون مزاحمة الناسِ.
وأما رميُها في أيام التشريق فهي كرمي الجمرتين اللَّتَين معها، يبتدىءُ الرمي من الزوال، وينتهي بطلوع الفجر من الليلةِ التي تلي اليومَ، إلا إذا كان في آخرِ أيام التشريق، فإن الليل لا رميَ فيه، وهو ليلةُ الرابع عشر، لأن أيام التشريق انتهت بغروب شمسها، والرمي في النهار أفضلُ، إلا أنه في هذه الأوقات مع كثرة الحجيج وغَشَمِهم، وعدم مبالاةِ بعضهم ببعضٍ إذا خاف على نفسه من الهلاك أو الضررِ أو المشقّة الشديدةِ فإنّه يرمي ليلاً ولا حرجَ عليه، كما أنه لو رمى ليلاً بدون أن يخاف هذا، فلا حرجَ عليه، ولكن الأفضلَ أن يُراعي الاحتياطَ، ولا يَرمي ليلاً إلا عند الحاجة إليه.
وأما قوله : قضاءً، فإنها تكون قضاءً إذا طلع الفجرُ من اليوم التالي في أيام التشريق ولم يَرمِها.(4/298)
س 9 : إذا لم تُصِب جمرةٌ من الجمار السبع المرمى، أو جمرتان، ومضى يومٌ أو يومان، فهل يلزمُه إعادةُ هذه الجمرة أو الجمرتين ؟ وإذا لزمه فهل يعيدُ ما بعدَها من الرمي ؟
ج 9 : إذا بقي عليه رميُ جمرةٍ أو جمرتين من الجمرات، أو على الأوضح حصاة أو حصاتين من إحدى الجمراتِ، فإن الفقهاء يقولون إذا كان من آخر جمرة فإنه يُكملها، أي يُكملُ هذا الذي نقص فقط، ولا يلزمهُ رمي ما قبلها، وإن كان من غير آخر جمرة فإنه يُكمل الناقص، ويَرمي ما بعدها.
والصوابُ عندي أنه يُكمل النقصَ مُطْلَقاً، ولا يلزمهُ إعادةُ رمي ما بعدها؛ وذلك لأن الترتيب يَسقُطُ بالجهل أو بالنسيان، وهذا الرجلُ قد رمى الثانيةَ وهو لا يعتقدُ أن عليه شيئاً مما قبلها، فهو بين الجهلِ والنسيانِ، وحينئذٍ نقولُ له : ما نَقَصَ من الحصا فارمهِ ولا يجبُ عليك رَميُ ما بعدَها.
وقبلَ إنهاء الجوابِ أُحبُّ أن أنبّه إلى أنَّ المرمى مجتمعُ الحصا، وليس العمود المنصوب للدلالة عليه، فلو رمى في الحوضِ ولم يُصِب العمودَ بشيء من الحصيات فَرَميه صحيحٌ، والله أعلم.
س 10 : إذا خَرج الحاج من منى قبلَ غروب الشمس يومَ الثاني عشر بنية التعجل، ولديه عملٌ في منى سيعودُ له بعد الغروب، فهل يُعتبر مُتعجلاً ؟
ج 10 : نعم؛ يُعتبر متعجلاً لأنه أنهى الحج، ونية رجوعه إلى منى لعملِه فيها لا يمنعُ التعجل، لأنه إنما نوى الرجوعَ للعملِ المنُوطِ به لا للنسك.
س 11 : مَن أحرم بالحج من الميقات، ثم سار إلى أَنْ قَرُب من مكة فَمنَعه مركزُ التفتيش لأنه لم يحمل بطاقة الحج، فما الحكم ؟(4/299)
ج 11 : الحُكَمُ في هذه الحالِ أنه يكون مُحْصِراً حين تعذر عليه الدخولُ، فيذبح هَدياً في مكان الإحصارِ، ويحلّ، ثم إن كانت هذه الحجةُ هي الفريضة، أدّاها فيما بعدُ بالخطاب الأوَل لا قضاءً، وإن كانت غَيَر الفريضةِ فإنه لا شيء عليه، على القول الراجحِ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يأمر الذين أُحصروا في غزوةِ الحديبيةِ أن يَقضُوا تلك العمرةَ التي أُحْصِرُوا عنها، وليس في كتابِ الله، ولا في سُنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم وجوبُ القضاء على من أُحْصرَ؛ قال تعالى : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }، ولم يذكر شيئاً سوى ذلك.
وعمرةُ القضاء سُميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قاضى قُريشاً، أي عاهدهم عليها، وليس من القضاء الذي هو استدراكُ ما فات، والله أعلمُ.
س 12 : إذا دخل الافاقيُّ بملابسه العادية، بمكة حتى يتحايل على الدولة لعدم الحج، ثم أحرم من مكة، فهل يجوز حجُّه، وما الذي يلزمُهُ ؟
ج 12 : أما حجُّه فيصحُّ، وأما فعله فحرامٌ، حرامٌ من وجهين : أحدُهما تعدّي حدودِ الله سبحانه وتعالى بِتركِ الإحرامِ من الميقاتِ.
والثاني : مخالفته أمرَ ولاةِ الأمور الذين أُمرنا بطاعتهم في غير معصيةِ الله.(4/300)
وعلى هذا يلزمهُ أن يتوبَ إلى الله ويستغفره مما وقع، وعليه فديةٌ يذبحها في مكة ويُوزعها على الفقراء لتركهِ الإحرامَ من الميقاتِ، على ما قاله أهلُ العلم من وجوب الفدية على من تركَ واجباً من واجباتِ الحج أو العمرة.
س 13 : سمعتُ أن الُمتمتع إذا رجعَ إلى بلدهِ انقطَعَ تمتعه، فهل يجوز له أن يَحجَّ مُفرداً ولا دَمَ عليه ؟
ج 13 : نعم إذا رجع المتمتع إلى بلده، ثم أنشأ سفراً للحج من بلده فهو مفردٌ، وذلك لانقطاع ما بين العُمرة والحج برجوعه إلى أهله فإنشاؤه السفرَ معناه أنه أنشأ سفراً جديداً للحج، وحينئذٍ يكونُ حجُّه إفراداً، فلا يجبُ عليه هديُ التمتع، لكن لو فعل ذلك تحيُّلاً على إسقاطه فإنه لا يسقطُ عنه، لأن التحيُّل على إسقاطِ الواجبِ لا يَقتَضي إسقاطه، كما أن التحيلَ على المحرَّمِ لا يَقتضي حِلَّه.
س 14 : إذا قَدِمَ المسلمُ إلى مكة قبل أشهر الحج بنية الحجِّ، ثم اعتمر وبقي إلى الحجِّ فحجَّ، فهل حَجُّهُ يُعتبر تمتُّعاً أم إفراداً ؟
ج 14 : حَجُّهُ يُعتبر إفراداً، لأن التمتع هو أن يُحرمَ بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغَ منها، ثم يُحرم بالحج من عامه.
وأما من أحرمَ بالعمرة قبلَ أشهر الحج وبقي في مكة حتى حجّ، فإنه يكونُ مفرداً، إلا إذا قَرَنَ، بأن يحرم بالحجّ والعمرة جميعاً، فيكون قارناً، وإنما اختصَّ التمتعُ بمن أحرمَ بالعمرة في أشهر الحج لأنه لما دخلت أشهرُ الحج كان الإحرامُ بالحجّ فيها أخصَّ من الإحرامِ بالعمرة، فخفّف الله تعالى عن العباد، وأذِنَ لهم، بل أحبَّ أن يجعلوا عُمرَةً ليتمتعوا بها إلى الحجِّ.
س 15 : حملةٌ خَرجَت من عرفةَ بعد الغروب، فضلُّوا الطريقَ فتوجهوا إلى مكة، ثم ردَّتهم الشرطةُ إلى مُزدلفةَ، فلما أقبلوا عليها توقفوا، وصلَّوا المغربَ والعشاءَ في الساعة الواحدة ليلاً، ثم دَخَلُوا المزدلفةَ أذانَ الفجرِ فصلَّوا فيها الفجر ثم خَرَجُوا، فهل عليهم شيءٌ في ذلك أَمْ لا ؟(4/301)
ج 15 : هؤلاء لا شيءَ عليهم لأنهم أدركوا صلاةَ الفجرِ في مُزدلفةَ حين دخلوها وقتَ أذانِ الفجرِ، وصلّوا الفجر فيها بِغَلَسٍ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : « مَنْ شَهِدَ صلاتنا هذه ووقفَ معنا حتى نَدْفَعَ، وقد وقف قبل ذلك بعرفةَ ليلاً أو نهاراً فقد تم حجُّه وقضى تَفَثَه»، ولكن هؤلاء أخطأوا حين أخّروا الصلاةَ إلى ما بعد مُنتصفِ الليل، لأن وقتَ صلاة العشاء إلى نصفِ الليل، كما ثبت ذلك في « صحيح مسلم» من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلّم فلا يحلُّ تأخيرها عن مُنتصف الليل.
س 16 : معلومٌ أن حَلقَ الرأسِ من محظوراتِ الإحرامِ، فكيفَ يجوزُ البدءُ به في التحلُّل يومَ العيد، لأن العلماءَ يقولون : إن التحلُّل بفعلِ اثنين من ثلاثِ، ويَذكرون منها الحلقَ، وعلى هذا فإنّ الحاجَّ يجوزُ أن يبدأ به ؟
ج 16 : نعم يجوزُ البدءُ به لأنّ حلقَه عند الإحلالِ للنُّسك، فيكون غير مُحرِمٍ، بل يكونُ نُسكاً مأموراً به، وإذا كان مأموراً به فإن فعله لا يُعَدُّ إثماً ولا وقوعاً في محظورٍ.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سُئل عن الحلقِ قبل النحرِ وقبل الرمي، فقال : « لا حَرَج».
وكون الشيء مأموراً به أو محظوراً إنما يُتلقى من الشرع : ألا ترى إلى السجودِ لغير الله تعالى كان شِرْكاً، ولما أمر الله به الملائكةَ أن يسجدُوا لادم كان سجودُهم له طاعةً.(4/302)
ثم ألم تَرَ إلى قتلِ النفسِ، لا سيّما الأولادَ كان من الكبائرِ العظيمةِ، فلما أمر الله تعالى نبيَّه إبراهيم أن يقتلَ ابنه إسماعيلَ كان طاعةً نال بها إبراهيمُ مرتبةً عظيمةً، ولكن الله تعالى برحمتهِ خفّف عنه وعن ابنهِ وقال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ لِلْجَبِينِ * وَنَدَيْنَهُ أَن يإِبْرَهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَالرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
س 17 : متى ينتهي زمنُ ذبحِ هدي التمتع ؟ وهل هناك خلافٌ وآراءٌ في تحديد الزمن ؟
ج 17 : ينتهي زمنُ الذبحِ لهدي التمتُّع بغروبِ الشمسِ من اليومِ الثالث عشر من ذي الحجة ويبتدىء إذا مضى قَدرُ صلاةِ العيد من يومِ العيد بعد ارتفاعِ الشمسِ قدرَ رمحٍ.
وأما : هل هناك خلافٌ ؟ فنعم فيه خلافٌ في ابتدائه وانتهائه، ولكن الراجحَ ما ذكرناه، والله أعلم.
س 18 : ما حُكمُ من بات في منى إلى الساعة الثانية عشرةَ ليلاً، ثم دخل مكةَ ولم يَعُد حتى طلوع الفجر ؟
ج 18 : إذا كانت الساعةُ الثانيةَ عشرةَ ليلاً هي منتصف الليل في منى، فإنه لا بأسَ أن يخرجَ منها بعدها.
وإن كان الأفضلُ أن يبقى في منى ليلاً ونهاراً، وإن كانت الساعةُ الثانية عشرةَ قبل منتصفِ الليل فإنه لا يخرجُ، لأن المبيت في منى يشترطُ أن يكون مُعظَمَ الليل على ما ذكره فُقهاؤنا رحمهم الله تعالى.
س 19 : يُقال : إنه لا يجوزُ الرمي بجمرةٍ قد رُمي بها، فهل هذا صحيح ؟ وما الدليلُ عليه ؟(4/303)
ج 19 : هذا ليس بصحيحٍ، لأن الذين استدلُّوا بأنه لا يُرمَى بجمرةٍ قد رُمي بها، علّلوا ذلك بعللٍ ثلاث : قالوا إنها ـ أي الجمرةُ التي رُمي بها ـ كالماء المستعمل في طهارة واجبةٍ، والماء المستعمل في الطهارةِ الواجبة يكونَ طاهراً غيرَ مُطَهِّر، وإنها كالعبدِ إذا أُعتق فإنه لا يُعتَق بعد ذلك في كفّارة أو غيرها، وإنه يلزمُ من القولِ بالجوازِ أن يَرمِيَ جميعُ الحجيجِ بحجرٍ واحدٍ، فترمي أنتَ هذا الحجَرَ، ثم تأخذهُ وترمي، ثم تأخُذُه وترمي حتى تُكملَ السبعَ، ثم يجيءُ الثاني فيأخُذُهُ فيرمي حتّى يُكمل السبع، فهذه ثلاثُ عللٍ وكلُّها عند التأمُّل عليلةٌ جداً.
أما التعليلُ الأول : فإنّما نقولُ بمنع الحكمِ في الأصلِ، وهو أنّ الماءَ المستعملُ في طهارة واجبةٍ يكون طاهراً غيرَ مُطَهِّر لأنّه لا دليلَ على ذلك، ولا يُمكن نقلُ الماء عن وصفهِ الأصلِّي، وهو الطهوريّة إلا بدليلٍ.
وعلى هذا فالماء المستعملُ في طهارةٍ واجبةٍ طهورٌ مُطهِّرٌ، فإذا انتفى حُكمُ الأصلِ المقيس عليه، انتفى حكمُ الفرعِ.
وأما التعليل الثاني : وهو قياسُ الحصاةِ المرمي بها على العبد المُعتَق، فهو قياسٌ مع الفارقِ، فإن العبدَ إذا أُعتق كان حُرًّا لا عبداً، فلم يكن محلاً للعتقِ، بخلافِ الحجر إذا رُمي به فإنه يبقى حَجَراً بعد الرمي به، فلم يَنْتَفِ المعنى الذي كان من أجله صالحاً للرمي به، ولهذا لو أن هذا العبد الذي أُعتق استرقَّ مرةً أخرى بسبب شرعيٍّ جاز أن يُعتَقَ مرة ثانية.
وأما التعليلُ الثالث : وهو أنه يَلزَمُ من ذلك أن يقتصر الحجَّاج على حصاةٍ واحدةٍ، فنقولُ : إن أمكن ذلك فليكن ولكن هذا غيرُ مُمكنٍ، ولن يعدلَ إليه أحدٌ مع توفّر الحصا.
وبناءً على ذلك، فإنه إذا سَقَطَت من يدك حصاةٌ أو أكثر حولَ الجمراتِ فَخُذْ بَدَلهُا مما عندك، وارْمِ به سواءٌ غَلَبَ على ظنِّك أنه قد رُمي بها أم لا.(4/304)
س 20 : إذا قَصَّرَ الحاجُّ والمُعتَمِرُ من جانبي رأسهِ ثم حَلَّ إحرامهُ وهو لم يُعَمّم الرأس فما الحكمُ ؟
ج 20 : الحكمُ إن كان في الحجِّ وقد طاف ورمى، فإنَّه يبقى في ثيابهِ، ويُكمل حلقَ رأسِه أو تقصيره، وإن كان في عُمرةٍ فعليه أن يخلعَ ثيابه ويعودَ إلى ثيابِ الإحرامِ ثم يحلقَ أو يُقَصِّرَ تقصيراً تاماً يعمُّ جميعَ الرأسِ وهو مُحْرِم، أي وهو لابسٌ ثيابَ الإحرام.
س 21 : هل يجوزُ للحاجِّ أن يُقَدِّم سعي الحجِّ عن طوافِ الإفاضة ؟
ج 21 : إن كان الحاجُّ مُفرِداً أو قارناً، فإنه يجوزُ أن يُقَدّم السعيَ على طوافِ الإفاضةِ، فيأتي به بعد طوافِ القدوم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم، وأصحابُه الذين ساقوا الهديَ.
أما إن كان متمتعاً، فإن عليه سعيين : الأول عند قدومِه إلى مكة، وهو للعُمرة، والثاني في الحجّ.
والأفضلُ أن يكون بعد طوافِ الإفاضةِ، لأن السعيَ تابعٌ للطوافِ، فإن قدّمه على الطوافِ فلا حَرَجَ على القول الراجحِ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئل فقيل له : سعيتُ قبل أن أطوف ؟! قال : « لا حَرَج». فالحاجُّ يفعلُ يومَ العيد خمسةَ أنساكٍ مُرَتّبَةً : رميُ جمرة العَقبة، ثم النّحر، ثم الحلْق أو التقصير، ثم الطَّواف بالبيت، ثم السَّعي بين الصفا والمروة، إلا أنْ يكونَ قارناً أو مُفْرداً سعى بعد طوافِ القدومِ فإنّه لا يُعيد السعيَ، والأفضلُ أن يُرَتّبها على ما ذكرنا، وإن قَدّم بعضَها على بعضٍ، لا سّيما مع الحاجةِ فلا حَرَج، وهذا من رحمةِ الله تعالى وتيسيرهِ، فلله الحمد رب العالمين.(4/305)
المنهج لمريد العمرة و الحج
مقدمة
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً، أما بعد:
فإن الحج من أفضل العبادات وأجل الطاعات؛ لأنه أحد أركان الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، والتي لا يستقيم دين العبد إلا بها.
ولما كانت العبادة لا يستقيم التقرب بها إلى الله ولا تكون مقبولة إلا بأمرين:
أحدهما: الإخلاص لله عز جل بأن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، لا يقصد بها رياء ولا سمعة.
الثاني: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيها قولاً وفعلاً، والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن تحقيقه إلا بمعرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كان لابد لمن أراد تحقيق الاتباع أن يتعلم سنته صلى الله عليه وسلم بأن يتلقاها من أهل العلم بها، إما بطريق المكاتبة أو بطريق المشافهة، وكان من واجب أهل العلم الذين ورثوا النبي صلى الله عليه وسلم وخلفوه في أمته أن يطبقوا عباداتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم على ما علموه من سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأن يبلغوا ذلك إلى الأمة ويدعوهم إليه؛ ليتحقق لهم ميراث النبي صلى الله عليه وسلم علماً وعملاً وتبليغاً ودعوة، وليكونوا من الرابحين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
وهذه خلاصة فيما يتعلق بمناسك الحج والعمرة مشيت فيها على ما أعرفه من نصوص الكتاب والسنة راجياً من الله تعالى أن تكون خالصة له نافعة لعباده.
المنهج لمريد العمرة و الحج
آداب السفر
محمد بن صالح العثيمين(4/306)
ينبغي لمن خرج إلى الحج أو غيره من العبادات أن يستحضر نية التقرب إلى الله تعالى في جميع أحواله؛ لتكون أقواله وأفعاله ونفقاته مقربة له إلى الله تعالى، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. وينبغي أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة مثل الكرم والسماحة والشهامة والانبساط إلى رفقته وإعانتهم بالمال والبدن وإدخال السرور عليهم، هذا بالإضافة إلى قيامه بما أوجب الله عليه من العبادات واجتناب المحرمات.
وينبغي أن يكثر من النفقة ومتاع السفر، ويستصحب فوق حاجته من ذلك احتياطاً لما يعرض من الحاجات.
وينبغي أن يقول عند سفره وفي سفره ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
1- إذا وضع رجله على مركوبه قال: بسم الله. فإذا استقر عليه فليذكر نعمة الله على عباده بتيسير المركوبات المتنوعة ثم ليقل: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطوعنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، الله إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل والولد.
2- التكبير إذا صعد مكاناً علواً، والتسبيح إذا هبط مكاناً منخفضاً.
3- إذا نزل منزلاً فليقل: أعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق، فإن من قالها لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله الذي قالها فيه.
المنهج لمريد العمرة و الحج
آداب السفر
محمد بن صالح العثيمين(4/307)
ينبغي لمن خرج إلى الحج أو غيره من العبادات أن يستحضر نية التقرب إلى الله تعالى في جميع أحواله؛ لتكون أقواله وأفعاله ونفقاته مقربة له إلى الله تعالى، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. وينبغي أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة مثل الكرم والسماحة والشهامة والانبساط إلى رفقته وإعانتهم بالمال والبدن وإدخال السرور عليهم، هذا بالإضافة إلى قيامه بما أوجب الله عليه من العبادات واجتناب المحرمات.
وينبغي أن يكثر من النفقة ومتاع السفر، ويستصحب فوق حاجته من ذلك احتياطاً لما يعرض من الحاجات.
وينبغي أن يقول عند سفره وفي سفره ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
1- إذا وضع رجله على مركوبه قال: بسم الله. فإذا استقر عليه فليذكر نعمة الله على عباده بتيسير المركوبات المتنوعة ثم ليقل: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطوعنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، الله إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل والولد.
2- التكبير إذا صعد مكاناً علواً، والتسبيح إذا هبط مكاناً منخفضاً.
3- إذا نزل منزلاً فليقل: أعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق، فإن من قالها لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله الذي قالها فيه.
المنهج لمريد العمرة و الحج
صلاة المسافر
محمد بن صالح العثيمين
دين الإسلام دين اليسر والسهولة لا حرج فيه ولا مشقة، وكلما وجدت المشقة فتح الله لليسر أبواباً، قال الله تعالى: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين يسر"(1) وقال أهل العلم رحمهم الله: المشقة تجلب التيسير".
ولما كان السفر مظنة المشقة غالباً خففت أحكامه، فمن ذلك:(4/308)
1- جواز التيمم للمسافر إذا لم يجد الماء أو كان معه من الماء ما يحتاجه لأكله وشربه، لكن متى غلب على ظنه أنه يصل على الماء قبل خروج الوقت المختار فالأفضل تأخير الصلاة حتى يصل إلى الماء ليتطهر به.
2- إن المشروع في حق المسافر أن يقصر الصلاة الرباعية فيجعلها ركعتين من حين يخرج من بلده إلى أن يرجع إليه ولو طالت المدة؛ لما ثبت في صحيح البخاري(2) عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عام الفتح تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة".
لكن إذا صلى المسافر خلف إمام يصلي أربعاً فإنه يصلي أربعاً تبعاً لإمامه سواء أدرك الإمام من أول الصلاة أو في أثنائها، فإذا سلم الإمام أتى بتمام الأربع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه"(3). وعموم قوله: "فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا"(1). وسئل ابن عباس رضي الله عنهما: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً إذا ائتم بمقيم، فقال: "تلك السنة".
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً، وإذا صلى وحده صلى ركعتين. "يعني في السفر" .
3- إن المشروع في حق المسافر أن يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء إذا احتاج إلى الجمع، مثل أن يكون مستمراً في سيره، والأفضل حينئذ أن يفعل ما هو الأرفق به من جمع التقديم أو التأخير.
أما إذا كان غير محتاج إلى الجمع فإنه لا يجمع، مثاله أن يكون نازلاً في محل لا يريد أن يرتحل منه إلا بعد دخول وقت الصلاة الثانية، فهذا لا يجمع بل يصلي كل فرض في وقته؛ لأنه لا حاجة به إلى الجمع.
المنهج لمريد العمرة و الحج
المواقيت
محمد بن صالح العثيمين
المواقيت هي الأمكنة التي عينها النبي صلى الله عليه وسلم ليحرم منها من أراد الحج أو العمرة، والمواقيت خمسة:(4/309)
الأول: ذو الحليفة ويسمى (أبيارعلي) ويسميه بعض الناس (الحساء) وبينه وبين مكة نحو عشر مراحل، وهو ميقات أهل المدينة ومن مر به من غيرهم.
الثاني: الجعفة وهي قريبة قديمة بينها وبين مكة نحو خمس مراحل، وقد خرجت فصار الناس يحرمون بدلها من رابغ، وهي ميقات أهل الشام ومن مر بها من غيرهم.
الثالث: يلملم وهو جبل أو مكان بتهامة بينه ويبن مكة نحو مرحلتين، وهو ميقات أهل اليمن ومن مر به من غيرهم.
الرابع: قرن المنازل ويسمى (السيل) بينه وبين مكة نحو مرحلتين، وهو ميقات أهل نجد ومن مر به من غيرهم.
الخامس: ذات عرق ويسمى (الضريبة) بينها وبين مكة مرحلتان، وهي ميقات أهل العراق ومن مر بها من غيرهم.
ومن كان أقرب إلى مكة من هذه المواقيت فإن ميقاته مكانه فيحرم منه حتى أهل مكة من مكة، ومن كان طريقه يميناً أو شمالاً من هذه المواقيت فإنه يحرم حين يحاذي أقرب المواقيت إليه، ومن كان في طائرة فإنه يحرم إذا حاذى الميقات من فوق، فيتأهب ويلبس ثياب الإحرام قبل محاذاة الميقات، فإذا حاذاه نوى الإحرام في الحال، ولا يجوز تأخيره، هذا وبعض الناس يكون في الطائرة وهو يريد الحج أو العمرة فيحاذي الميقات ولا يحرم منه بل يؤخر إحرامه حتى ينزل في المطار، وهذا لا يجوز؛ لأنه من تعدي حدود الله تعالى. نعم لو مر بالميقات وهو لا يريد الحج ولا العمرة ولكنه بعد ذلك نوى الحج أو العمرة فإنه يحرم من مكان نيته ولا شيء عليه.(4/310)
ومن مر بهذه المواقيت وهو لا يريد الحج ولا العمرة وإنما يريد مكة لزيارة قريب أو تجارة أو طلب علم أو علاج أو غيرها من الأغراض فإن لا يجب عليه الإحرام؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت ثم قال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج أو العمرة"(1)، فعلق الحكم بمن يريد الحج أو العمرة، فمفهومه أن من لا يريد الحج والعمرة لا يجب عليه الإحرام منها، وإرادة الحج أو العمرة غير واجبة على من أدى الفرض، والحج لا يجب في العمر إلا مرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج مرة فما زاد فهو تطوع"(2) لكن الأولى ألا يحرم نفسه من التطوع بالنسك ليحصل له الأجر لسهولة الإحرام في هذا الوقت، ولله الحمد والمنة.
المنهج لمريد العمرة و الحج
أنواع الأنساك
محمد بن صالح العثيمين
الأنساك ثلاثة: تمتع، وإفراد، وقران.
فالتمتع أن يحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، فإذا وصل مكة طاف وسعى للعمرة وحلق أو قصر، فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج وحده وأتى بجميع أفعاله.
والإفراد أن يحرم بالحج وحده، فإذا وصل مكة طاف للقدوم ثم سعى للحج، ولا يحلق ولا يقصر، ولا يحل من إحرامه بل يبقى محرماً حتى يحل بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد، وإن أخر سعى الحج إلى ما بعد طواف الحج فلا بأس.(4/311)
والقران أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً، أو يحرم بالعمرة أولاً ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها، وعمل القارن كعمل المفرد سواء،إلا أن القارن عليه هدي والمفرد لا هدي عليه، وأفضل هذه الأنواع الثلاثة التمتع وهو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وحثهم عليه حتى لو أحرم الإنسان قارناً أو مفرداً فإنه يتأكد عليه أن يقلب إحرامه إلى عمرة ليصير متمتعاً ولو بعد أن طاف وسعى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف وسعى عام حجة الوداع ومعه أصحابه أمر كل من ليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويقصر ويحل وقال: "لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به"(1).
هذا وقد يحرم الإنسان بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج ثم لا يتمكن من إتمام العمرة قبل الوقوف بعرفة؛ ففي هذه الحال يدخل الحج على العمرة ويصير قارناً، ولنمثل لذلك بمثالين:
المثال الأول: امرأة أحرمت بالعمرة متمتعة بها إلى الحج فحاضت أو نفست قبل أن تطوف ولم تطهر حتى جاء وقت الوقوف بعرفة؛ فإنها في هذه الحال تنوي إدخال الحج على العمرة وتكون قارنة، فتستمر في إحرامها وتفعل ما يفعله الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر وتغتسل.
المثال الثاني: إنسان أحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج فحصل له عائق يمنعه من الدخول إلى مكة قبل يوم عرفة، فإنه ينوي إدخال الحج على العمرة ويكون قارناً، فيستمر في إحرامه ويفعل ما يفعله الحاج.
المنهج لمريد العمرة و الحج
أنواع الأنساك
محمد بن صالح العثيمين
الأنساك ثلاثة: تمتع، وإفراد، وقران.
فالتمتع أن يحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، فإذا وصل مكة طاف وسعى للعمرة وحلق أو قصر، فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج وحده وأتى بجميع أفعاله.(4/312)
والإفراد أن يحرم بالحج وحده، فإذا وصل مكة طاف للقدوم ثم سعى للحج، ولا يحلق ولا يقصر، ولا يحل من إحرامه بل يبقى محرماً حتى يحل بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد، وإن أخر سعى الحج إلى ما بعد طواف الحج فلا بأس.
والقران أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً، أو يحرم بالعمرة أولاً ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها، وعمل القارن كعمل المفرد سواء،إلا أن القارن عليه هدي والمفرد لا هدي عليه، وأفضل هذه الأنواع الثلاثة التمتع وهو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وحثهم عليه حتى لو أحرم الإنسان قارناً أو مفرداً فإنه يتأكد عليه أن يقلب إحرامه إلى عمرة ليصير متمتعاً ولو بعد أن طاف وسعى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف وسعى عام حجة الوداع ومعه أصحابه أمر كل من ليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويقصر ويحل وقال: "لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به"(1).
هذا وقد يحرم الإنسان بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج ثم لا يتمكن من إتمام العمرة قبل الوقوف بعرفة؛ ففي هذه الحال يدخل الحج على العمرة ويصير قارناً، ولنمثل لذلك بمثالين:
المثال الأول: امرأة أحرمت بالعمرة متمتعة بها إلى الحج فحاضت أو نفست قبل أن تطوف ولم تطهر حتى جاء وقت الوقوف بعرفة؛ فإنها في هذه الحال تنوي إدخال الحج على العمرة وتكون قارنة، فتستمر في إحرامها وتفعل ما يفعله الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر وتغتسل.
المثال الثاني: إنسان أحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج فحصل له عائق يمنعه من الدخول إلى مكة قبل يوم عرفة، فإنه ينوي إدخال الحج على العمرة ويكون قارناً، فيستمر في إحرامه ويفعل ما يفعله الحاج.
المنهج لمريد العمرة و الحج
صفة العمرة
محمد بن صالح العثيمين(4/313)
إذا أراد أن يحرم بالعمرة فالمشروع أن يتجرد من ثيابه، ويغتسل كما يغتسل للجنابة، ويتطيب بأطيب ما يجد من دهن عود أو غيره في رأسه ولحيته، ولا يضره بقاء ذلك بعد الإحرام لما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص المسك في رأسه ولحيته بعد ذلك".
والاغتسال عند الإحرام سنة في حق الرجال والنساء حتى النفساء والحائض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس حين نفست أن تغتسل عند إحرامها وتستثفر بثوب وتحرم(1).. ثم بعد الاغتسال والتطيب يلبس ثياب الإحرام، ثم يصلي – غير الحائض والنفساء – الفريضة إن كان في وقت فريضة وإلا صلى ركعتين ينوي بهما سنة الوضوء، فإذا فرغ من الصلاة أحرم وقال: لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. يرفع الرجل صوته بذلك، والمرأة تقوله بقدر ما يسمع من بجنبها.
وإذا كان من يريد الإحرام خائفاً من عائق يعوقه عن إتمام نسكه فإنه ينبغي أن يشترط عند الإحرام فيقول عند عقده: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني أي منعني مانع عن إتمام نسكي من مرض أو تأخر أو غيرهما فإني أحل من إحرامي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ضباعة بنت الزبير حين أرادت الإحرام وهي مريضة أن تشترط وقال: "إن لك على ربك ما استثنيت"(2)، فمتى اشترط وحصل له ما يمنعه من إتمام نسكه فإنه يحل ولا شيء عليه.
وأما من لا يخاف من عائق يعوقه عن إتمام نسكه فإنه لا ينبغي له أن يشترط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط، ولم يأمر بالاشتراط كل أحد، وإنما أمر به ضباعة بنت الزبير لوجود المرض بها.
وينبغي للمحرم أن يكثر من التلبية خصوصاً عند تغير الأحوال والأزمان مثل أن يعلو مرتفعاً، أو ينزل منخفضاً، أو يقبل الليل أو النهار، وأن يسأل الله بعدها رضوانه والجنة، ويستعيذ برحمته من النار.(4/314)
والتلبية مشروعة في العمرة من الإحرام إلى أن يبتدئ بالطواف، وفي الحج من الإحرام إلى أن يبتدئ برمي جمرة العقبة يوم العيد.
وينبغي إذا قرب من مكة أن يغتسل لدخولها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل عند دخوله، فإذا دخل المسجد الحرام قدم رجله اليمنى وقال: "بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" ثم يتقدم إلى الحجر الأسود ليبتدئ الطواف فيستلم الحجر بيده اليمنى ويقبله، فإن لم يتيسر تقبيله قبل يده إن استلمه بها، فإن لم يتيسر استلامه بيده فإنه يستقبل الحجر ويشير إليه بيده إشارة ولا يقبلها، والأفضل ألا يزاحم فيؤذي الناس ويتأذى بهم لما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر: "يا عمر، إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر".
ويقول عند استلام الحجر: بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يأخذ ذات اليمين ويجعل البيت عن يساره، فإذا بلغ الركن اليماني استلمه من غير تقبيل، فإن لم يتيسر فلا يزاحم عليه ويقول بينه وبين الحجر الأسود: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وكلما مر بالحجر الأسود كبر ويقول في بقية طوافه ما أحب من ذكر ودعاء وقراءة القرآن، فإنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله.
وفي هذا الطواف أعني الطواف أول ما يقدم ينبغي للرجل أن يفعل شيئين:(4/315)
أحدهما: الاضطباع من ابتداء الطواف إلى انتهائه، وصفة الاضطباع أن يجعل وسط ردائه داخل إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر، فإذا فرغ من الطواف أعاد رداءه إلى حالته قبل الطواف؛ لأن الاضطباع محله الطواف فقط.
الثاني: الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، والرمل إسراع المشي مع مقاربة الخطوات، وأما الأشواط الأربعة الباقية فليس فيها رمل وإنما يمشي كعادته.
فإذا أتم الطواف سبعة أشواط تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً) ثم صلى ركعتين خلفه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وفي الثانية: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) بعد الفاتحة.
فإذا فرغ من صلاة الركعتين رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه إن تيسر له.
ثم يخرج إلى المسعى فإذا دنا من الصفا قرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه) ثم يرقى على الصفا حتى يرى الكعبة فيستقبلها ويرفع يديه فيحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم هنا: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، يكرر ذلك ثلاث مرات ويدعو بين ذلك".(4/316)
ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشياً، فإذا بلغ العلم الأخضر ركض ركضاً شديداً بقدر ما يستطيع ولا يؤذي، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسعى حتى ترى ركبتاه من شدة السعي يدور به إزاره، وفي لفظ: وأن مئزره ليدور من شدة السعي. فإذا بلغ العلم الأخضر الثاني مشى كعادته حتى يصل إلى المروة فيرقى عليها، ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول ما قاله على الصفا، ثم ينزل من المروة إلى الصفا فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، فإذا وصل الصفا فعل كما فعل أول مرة، وهكذا المروة حتى يكمل سبعة أشواط، ذهابه من الصفا إلى المروة شوط، ورجوعه من المروة إلى الصفا شوط آخر، ويقول في سعيه ما أحب من ذكر ودعاء وقراءة.
فإذا أتم سعيه سبعة أشواط حلق رأسه إن كان رجلاً، وإن كانت امرأة فإنها تقصر من كل قدر أنملة.
ويجب أن يكون الحلق شاملاً لجميع الرأس، وكذلك التقصير يعم به جميع جهات الرأس، والحلق أفضل من التقصير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة، إلا أن يكون وقت الحج قريباً بحيث لا يتسع لنبات شعر الرأس؛ فإن الأفضل التقصير ليبقى الرأس للحلق في الحج بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه في حجة الوداع أن يقصروا للعمرة؛ لأن قدومهم كان صبيحة الرابع من ذي الحجة.
وبهذه الأعمال تمت العمرة فتكون العمرة: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، ثم بعد ذلك يحل منها إحلالاً كاملاً ويفعل كما يفعله المحلون من اللباس والطيب وإتيان النساء وغير ذلك.
المنهج لمريد العمرة و الحج
صفة الحج
محمد بن صالح العثيمين(4/317)
إذا كان يوم التروية وهو يوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج ضحى من مكانه الذي أراد الحج منه، ويفعل عند إحرامه بالعمرة من الغسل والطيب والصلاة، فينوي الإحرام بالحج ويلبي، وصفة التلبية في الحج كصفة التلبية في العمرة إلا أنه يقول هنا: لبيك حجاً بدل قوله لبيك عمرة. وإن كان خائفاً من عائق يمنعه من إتمام حجه اشترط فقال: "وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" وإن لم يكن خائفاً لم يشترط.
ثم يخرج إلى منى فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً من غير جمع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر بمنى ولا يجمع، والقصر كما هو معلوم جعل الصلاة الرباعية ركعتين، ويقصر أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس في حجة الوداع ومعه أهل مكة ولم يأمرهم بالإتمام، ولو كان واجباً عليهم لأمرهم به كما أمرهم به عام الفتح.
فإذا طلعت الشمس يوم عرفة سار من منى إلى عرفة فنزل بنمرة إلى الزوال إن تيسر له وإلا فلا حرج؛ لأن النزول بنمرة سنة. فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر على ركعتين يجمع بينهما جمع تقديم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ليطول وقت الوقوف والدعاء.
ثم يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، ويدعو بما أحب رافعاً يديه مستقبلاً القبلة ولو كان الجبل خلفه؛ لأن السنة استقبال القبلة لا الجبل، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم عند الجبل وقال: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة"(1).
وكان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف العظيم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".(4/318)
فإن حصل له ملل وأراد أن يستجم بالتحدث مع أصحابه بالأحاديث النافعة أو قراءة ما تيسر من الكتب المفيدة خصوصاً فيما يتعلق بكرم الله وجزيل هباته ليقوى جانب الرجاء في ذلك اليوم كان ذلك حسناً، ثم يعود إلى التضرع إلى الله ودعائه، ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء، فإن خير الدعاء دعاء يوم عرفة.
فإذا غربت الشمس سار إلى مزدلفة. فإذا وصلها صلى المغرب والعشاء جمعاً إلا أن يصل مزدلفة قبل العشاء الآخرة فإنه يصلي المغرب في وقتها، ثم ينتظر حتى يدخل وقت العشاء الآخرة فيصليها في وقتها، هذا ما أراه في هذه المسألة. وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه "أنه أتى المزدلفة حين الأذان بالتعمة أو قريباً من ذلك، فأمر برجلا ً فأذن وأقام ثم صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أمر رجلا ً فأذن وأقام ثم صلى العشاء ركعتين" وفي رواية: "فصلى الصلاتين كل صلاة وحدها بأذان وإقامة والعشاء بينهما".
لكن إن كان محتاجاً إلى الجمع لتعب أو قلة ماء أو غيرهما فلا بأس بالجمع وإن لم يدخل وقت العشاء، وإن كان يخشى ألا يصل مزدلفة إلا بعد نصف الليل فإنه يصلي ولو قبل الوصول إلى مزدلفة، ولا يجوز أن يؤخر الصلاة إلى ما بعد نصف الليل.
ويبيت بمزدلفة، فإذا تبين الفجر صلى الفجر مبكراً بأذان وإقامة، ثم قصد المشعر الحرام فوحد الله وكبره ودعا بما أحب حتى يسفر جداً، وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "وقفت هاهنا وجمع كلها موقف"(1) ويكون حال اذكر والدعاء مستقبلاً القبلة رافعاً يديه.(4/319)
فإذا أسفر جداً دفع قبل أن تطلع الشمس إلى منى ويسرع في وادي محسر، فإذا وصل إلى منى رمى جمرة العقبة وهي الأخيرة مما يلي مكة بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، كل واحدة بقدر نواة التمر تقريباً، يكبر مع كل حصاة. فإذا فرغ ذبح هديه ثم حلق رأسه إن كان ذكراً، وأما المرأة فحقها التقصير دون الحلق، ثم ينزل لمكة فيطوف ويسعى للحج.
والسنة أن يتطيب إذا أراد النزول إلى مكة للطواف بعد الرمي والحلق؛ قول عائشة رضي الله عنها: "كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت"(2).
ثم بعد الطواف والسعي يرجع إلى منى فيبيت بها ليلتي اليوم الحادي عشر والثاني عشر، ويرمي الجمرات الثلاث إذا زالت الشمس في اليومين والأفضل أن يذهب للرمي ماشياً وإن ركب فلا بأس، فيرمي الجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات عن مكة وهي التي تلي مسجد الخيف بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، ويكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم قليلاً ويدعو دعاء طويلاً بما أحب، فإن شق عليه طول الوقوف والدعاء دعا بما يسهل عليه ولو قليلاً ليحصل السنة.
ثم يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم يأخذ ذات الشمال فيقف مستقبلاً القبلة رافعاً يديه ويدعو دعاء طويلاً إن تيسر عليه وإلا وقف بقدر ما يتيسر، ولا ينبغي أن يترك الوقوف للدعاء لأنه سنة، وكثير من الناس يهمله إما جهلاً أو تهاوناً، وكلما أضيعت السنة كان فعلها ونشرها بين الناس أؤكد لئلا تترك وتموت.
ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات يكبر مع كل حصاة ثم ينصرف ولا يدعو بعدها.(4/320)
فإذا أتم رمي الجمار في اليوم الثاني عشر، فإن شاء تعجل ونزل من منى، وإن شاء تأخر فبات بها ليلة الثالث عشر ورمى الجمار الثلاث بعد الزوال كما سبق، والتأخر أفضل، ولا يجب إلا أن تغرب الشمس من اليوم الثاني عشر وهو بمنى فإنه يلزمه التأخر حتى يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال، ولكن لو غربت عليه الشمس بمنى في اليوم الثاني عشر بغير اختياره مثل أن يكون قد ارتحل وركب لكن تأخر بسبب زحام السيارات ونحوه؛ فإنه لا يلزمه التأخر؛ لأن تأخره إلى الغروب بغير اختياره.
فإذا أراد الخروج من مكة إلى بلده لم يخرج حتى يطوف للوداع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت"(1) وفي رواية: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض"(2) فالحائض والنفساء ليس عليهما وداع، ولا ينبغي أن يقفا عند باب المسجد الحرام للوداع لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجعل طواف الوداع آخر عهده بالبيت إذا أراد أن يرتحل للسفر، فإن بقي بعد الوداع لانتظار رفقة أو تحميل رحله أو اشترى حاجة في طريقه فلا حرج عليه، ولا يعيد الطواف إلا أن ينوي تأجيل سفره مثل أن يريد السفر في أول النهار فيطوف للوداع، ثم يؤجل السفر إلى آخر النهار مثلاً، فإنه يلزمه إعادة الطواف ليكون آخر عهده بالبيت.
المنهج لمريد العمرة و الحج
زيارة المسجد النبوي
محمد بن صالح العثيمين
إذا أحب الحاج أن يزور المسجد النبوي قبل الحج أو بعده فلينو زيارة المسجد النبوي لا زيارة القبر، فإن شد الرحال على وجه التعبد لا يكون لزيارة القبور، وإنما يكون للمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى كما في الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"(1).(4/321)
فإذا وصل المسجد النبوي قدم رجله اليمنى لدخوله وقال: "بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" ثم يصلي ما شاء. والأولى أن تكون صلاته في الروضة وهي ما بين منبر النبي صلى الله وحجرته التي فيها قبره؛ لأن ما بينهما روضة من رياض الجنة، فإذا صلى وأراد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقف أمامه بأدب ووقار وليقل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أشهد أنك رسول الله حقاً، وأنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده، فجزاك الله عن أمتك أفضل ما جزى نبيا عن أمته.
ثم يأخذ ذات اليمين قليلاً فيسلم على أبي بكر الصديق ويترضى عنه.
ثم يأخذ ذات اليمين قليلاً أيضاً فيسلم على عمر بن الخطاب ويترضى عنه، وإن دعا له ولأبي بكر رضي الله عنهما بدعاء مناسب فحسب.
ولا يجوز لأحد أن يتقرب إلى الله بمسح الحجرة النبوية أو الطواف بها ولا يستقبلها حال الدعاء بل يستقبل القبلة؛ لأن التقرب إلى الله لا يكون إلا بما شرعه ورسوله، والعبادات مبناها على الاتباع لا على الابتداع.
والمرأة لا تزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا قبر غيره؛ لأن النبي صلى الله لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، لكن تصلي وتسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهي في مكانها، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان كانت، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" وقال: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام"(1).(4/322)
وينبغي للرجل خاصة أن يزور البقيع وهي مقبرة المدينة فيقول: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم"(2).
وإن أحب أن يأتي أحداً ويتذكر ما جرى للنبي صلى الله وأصحابه في تلك الغزوة من جهاد وابتلاء وتمحيص وشهادة ثم يسلم على الشهداء هناك مثل حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس بذلك، فإن هذا قد يكون من السير في الأرض المأمور به، والله أعلم.
المنهج لمريد العمرة و الحج
الفوائد
محمد بن صالح العثيمين
هذه فوائد تتعلق بالمناسك تدعو الحاجة إلى بيانها ومعرفتها:
الفائدة الأولى في آداب الحج والعمرة
قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة: 197). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الطواف بالبيت والصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله"(1).
فينبغي للعبد أن يقوم بشعائر الحج على سبيل التعظيم والإجلال والمحبة والخضوع لله رب العالمين، فيؤديها بسكينة ووقار واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وينبغي أن يشغل هذه المشاعر العظيمة بالذكر والتكبير والتسبيح والتحميد والاستغفار؛ لأنه في عبادة من حين أن يشرع في الإحرام حتى يحل منه، فليس الحج نزهة للهو واللعب يتمتع به الإنسان كما شاء من غير حد كما يشاهد بعض الناس يستصحب من آلات اللهو والغناء ما يصده عن ذكر الله ويوقعه في معصية الله، وترى بعض الناس يفرط في اللعب والضحك والاستهزاء بالخلق وغير ذلك من الأعمال المنكرة كأنما شرع الحج للمرح واللعب.(4/323)
ويجب على الحاج وغيره أن يحافظ على ما أوجبه الله عليه من الصلاة جماعة في أوقاتها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وينبغي أن يحرص على نفع المسلمين والإحسان إليهم بالإرشاد والمعونة عند الحاجة، وأن يرحم ضعيفهم خصوصاً في مواضع الرحمة كمواضع الزحام ونحوها، فإن رحمة الخلق جالبة لرحمة الخالق، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
ويتجنب الرفث والفسوق والعصيان والجدال لغير نصرة الحق أما الجدال من أجل نصرة الحق فهذا واجب في موضعه. ويتجنب الاعتداء على الخلق وإيذاءهم؛ فيتجنب الغيبة والنميمة والسب والشتم والضرب والنظر إلى النساء الأجانب، فإن هذا حرام في الإحرام وخارج الإحرام، فيتأكد تحريمه حال الإحرام.
وليتجنب ما يحدثه كثير من الناس من الكلام الذي لا يليق بالمشاعر كقول بعضهم إذا رمى الجمرات رمينا الشيطان، وربما شتم المشعر أو ضربه بنعل ونحوه مما ينافي الخضوع والعبادة ويناقض المقصود برمي الجمار وهو إقامة ذكر الله عز وجل.
الفائدة الثانية في محظورات الإحرام
محظورات الإحرام هي التي يمنع منها المحرم بحج أو بعمرة بسبب الإحرام وهي ثلاثة أقسام:
قسم يحرم على الذكور والإناث، وقسم يحرم على الذكور دون الإناث، وقسم يحرم على الإناث دون الذكور.
فأما الذي يحرم على الذكور والإناث فمنه ما يأتي:
1- إزالة الشعر من الرأس بحلق أو غيره وكذلك إزالته من بقية الجسد على المشهور، لكن لو نزل بعينيه شعر يتأذى منه ولم يندفع أذاه إلا بقلعه فله قلعه ولا شيء عليه، ويجوز للمحرم أن يحك رأسه بيده برفق، فإن سقط منه شعر بلا تعمد فلا شيء عليه.
2- تقليم الأظافر من اليدين أو الرجلين إلا إذا انكسر ظفره وتأذى به فلا بأس أن يقص المؤذي منه فقط، ولا شيء عليه.(4/324)
3- استعمال الطيب بعد الإحرام في الثوب أو البدن أو غيرهما، أما الطيب الذي تطيب به قبل الإحرام فإنه لا يضر بقاؤه بعد الإحرام؛ لأن الممنوع في الإحرام ابتداء الطيب دون استدامته، ولا يجوز للمحرم أن يشرب قهوة فيها زعفران؛ لأن الزعفران من الطيب إلا إذا كان قد ذهب طعمه وريحه بالطبخ ولم يبق إلا مجرد اللون فلا بأس.
4- النظر والمباشرة لشهوة.
5- لبس القفازين وهما (شراب) اليدين.
6- قتل الصيد وهو الحيوان الحلال البري المتوحش مثل الظباء والأرانب والحمام والجراد، فأما صيد البحر فحلال فيجوز للمحرم صيد السمك من البحر، وكذلك يجوز له الحيوان الأهلي كالدجاج.
وإذا انفرش الجراد في طريقه ولم يكن طريق غيرها فوطئ شيئاً منه من غير قصد فلا شيء عليه؛ لأنه لم يقصد قتله ولا يمكنه التحرز منه.
وإما قطع الشجر فليس حراماً على المحرم؛ لأنه لا تأثير للإحرام فيه، وإنما يحرم على من كان داخل أميال الحرم سواء كان محرماً أو غير محرم، وعلى هذا فيجوز قطع الشجر في عرفة ولا يجوز في منى ومزدلفة؛ لأن عرفة خارج الأميال، ومنى ومزدلفة داخل الأميال. ولو أصاب شجرة وهو يمشي من غير قصد فلا شيء عليه، ولا يحرم قطع الأشجار الميتة.
وأما الذي يحرم على الذكور دون الإناث فهو شيئان:
1- لبس المخيط وهو أن يلبس الثياب ونحوها على صفة لباسها في العادة كالقميص (والفنيلة) والسروال ونحوها، فلا يجوز للذكر لبس هذه الأشياء على الوجه المعتاد. أما إذا لبسها على غير الوجه المعتاد فلا بأس بذلك مثل أن يجعل القميص رداء، أو يرتدي بالعباءة جاعلاً أعلاها أسفلها فلا بأس بذلك كله، ولا بأس أن يلبس رداءً مرقعاً أو إزاراً مرقعاً أو موصولاً.(4/325)
و يجوز لبس السبتة وساعة اليد ونظارة العين وعقد ردائه وزره بمشبك ونحوه؛ لأن هذه الأشياء لم يرد فيها منع عن النبي صلى الله عليه وسلم وليست في معنى المنصوص على منعه، بل قد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يلبس المحرم فقال: "لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس والخفاف"(1)، فإجابته صلى الله عليه وسلم بما لا يلبس عن السؤال عما يلبس دليل على أن كل ما عدا هذه المذكورات فإنه مما يلبسه المحرم، وأجاز صلى الله عليه وسلم للمحرم أن يلبس الخفين إذا عدم النعلين لاحتياجه إلى وقاية رجليه، فمثله نظارات العين لاحتياج لابسها إلى وقاية عينيه، وأجاز الفقهاء على المشهور من المذهب لباس الخاتم للرجل المحرم.
ويجوز للمحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار ولا ثمنه، وأن يلبس الخفين إذا لم يجد النعلين ولا ثمنهما لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يخطب بعرفات: "من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل"(1).
2- تغطية رأسه بملاصق كالعمامة والغترة والطاقية وشبهها، فأما غير المتصل كالخيمة والشمسية وسقف السيارة فلا بأس به؛ لأن المحرم ستر الرأس دون الاستظلال، وفي حديث أم الحصين الأحمسية قال: "حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به راحلته، والآخر رافعاً ثوبه على رأس النبي صلى الله عليه وسلم يظلله من الشمس" وفي رواية: "يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة"، رواه أحمد ومسلم(2)، وهذا كان في يوم العيد قبل التحلل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمار في غير يوم العيد ماشياً لا راكباً.
ويجوز للمحرم أن يحمل المتاع على رأسه إذا لم يكن قصده ستر الرأس، ويجوز له أيضاً أن يغوص في الماء ولو تغطى رأسه بالماء.(4/326)
وأما الذي يحرم على النساء دون الذكور فهو النقاب وهو أن تستر وجهها بشيء وتفتح لعينيها ما تنظر به، ومن العلماء من قال لا يجوز أن تغطي وجهها لا بنقاب ولا غيره إلا أن يمر الرجال قريباً منها؛ فإنه يلزمها أن تغطي وجهها ولا فدية عليها سواء مسه الغطاء أم لا.
وفاعل المحظورات السابقة له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يفعل المحظور بلا عذر ولا حاجة، فهذا آثم وعليه الفدية.
الحالة الثانية: أن يفعل المحظور لحاجة إلى ذلك مثل أن يحتاج إلى لبس القميص لدفع برد يخاف منه الضرر؛ فيجوز أن يفعل ذلك وعليه فديته كما جرى لكعب بن عجرة رضي الله عنه حين حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من رأسه على وجهه؛ فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه ويفدي(3).
الحالة الثالثة: أن يفعل المحظور وهو معذور إما جاهلاً أو ناسياً أو نائماً أو مكرهاً فلا إثم عليه ولا فدية لقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (الأحزاب: 5). وقال تعالى:(رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: 286). فقال الله تعالى: قد فعلت. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه(1)"، وهذه نصوص عامة في محظورات الإحرام وغيرها تفيد رفع المؤاخذة عن المعذور بالجهل والنسيان والإكراه، وقال تعالى في خصوص الصيد الذي هو أحد محظورات الإحرام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (المائدة: 95). فقيد وجوب الجزاء بكون القاتل متعمداً، والتعمد وصف مناسب للعقوبة والضمان، فوجب اعتباره تعليق الحكم به، وإن لم يكن متعمداً فلا جزاء عليه ولا إثم.(4/327)
لكن متى زال العذر فعلم الجاهل وتذكر الناسي واستيقظ النائم وزال الإكراه فإنه يجب التخلي عن المحظور فوراً، فإن استمر عليه مع زوال العذر فهو آثم وعليه الفدية، مثال ذلك أن يغطي الذكر رأسه وهو نائم فإنه ما دام نائماً فلا شيء عليه، فإذا استيقظ لزمه كشف رأسه فوراً، فإن استمر في تغطيته مع علمه بوجوب كشفه فعليه الفدية.
ومقدار الفدية في المحظورات التي ذكرناها كما يأتي:
1- في إزالة الشعر والظفر والطيب والمباشرة لشهوة ولبس القفازين ولبس الذكر المخيط وتغطية رأسه وانتقاب المرأة الفدية في هذه الأشياء في كل واحد منها إما ذبح شاة، وإما إطعام ستة مساكين، وإما صيام ثلاثة أيام يختار ما يشاء من هذه الأمور الثلاثة، فإن اختار ذبح الشاة فإنه يذبح ذكراً أو أنثى من الضان أو الماعز مما يجزئ في الأضحية، أو ما يقوم مقامه من سبع بدنة أو سبع بقرة، ويفرق جميع اللحم على الفقراء ولا يأكل منه شيئاً، وإن اختار إطعام المساكين فإنه يدفع لكل مسكين نصف صاع مما يطعم من تمر أو بر أو غيرهما، وإن اختار الصيام فإنه يصوم الأيام الثلاثة إن شاء متوالية وإن شاء متفرقة.
2- في جزاء الصيد فإن كان للصيد مثل، خير بين ثلاثة أشياء:
إما ذبح المثل وتفريق جميع لحمه على فقراء مكة، وإما أن ينظر كم يساوي هذا المثل ويخرج ما يقابل قيمته طعاماً يفرق على المساكين لكل مسكين نصف صاع، وإما أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً. فإن لم يكن للصيد مثل خير بين شيئين: إما أن ينظر كم قيمة الصيد المقتول ويخرج ما يقابلها طعاماً يفرقه على المساكين لكل مسكين نصف صاع، وإما أن يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً.
مثال الذي له مثل من النعم الحمام ومثيلها الشاة فنقول لمن قتل حمامة: أنت بالخيار إن شئت فاذبح شاة، وإن شئت فانظر كم قيمة الشاة وأخرج ما يقابلها من الطعام لفقراء الحرم لكل واحد نصف صاع، وإن شئت فصم عن إطعام كل مسكين يوماً.(4/328)
ومثال الصيد الذي لا مثل له الجراد فنقول لمن قتل جراداً متعمداً: إن شئت فانظر كم قيمة الجراد وأخرج ما يقابلها من الطعام لمساكين الحرم لكل مسكين نصف صاع، وإن شئت فصم عن إطعام كل مسكين يوماً.
الفائدة الثالثة في إحرام الصغير
الصغير الذي لم يبلغ لا يجب عليه الحج، لكن لو حج فله أجر الحج ويعيده إذا بلغ، وينبغي لمن يتولى أمره من أب أو أم أو غيرهما أن يحرم به وثواب النسك يكون للصبي ولوليه أجر على ذلك لما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت صبياً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال" "نعم ولك أجر".
وإذا كان الصبي مميزاً وهو الذي يفهم ما يقال له فإنه ينوي الإحرام بنفسه فيقول له وليه: أنو الإحرام بكذا، ويأمره أن يفعل ما يقدر عليه من أعمال الحج مثل الوقوف بعرفة والمبيت بمنى ومزدلفة، وأما ما يعجز عن فعله كرمي الجمار فإن وليه ينوب عنه فيه أو غيره بإذنه إلا الطواف والسعي فإنه إذا عجز عنهما يحمل ويقال له: أنو الطواف أو السعي. وفي هذه الحال يجوز لحامله أن ينوي الطواف والسعي عن نفسه أيضاً والصبي عن نفسه فيحصل الطواف والسعي للجميع؛ لأن كلا منهما حصل منه نية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"(1).
وإذا كان الصبي غير مميز فإن وليه ينوي له الإحرام ويرمي عنه ويحضره مشاعر الحج وعرفة ومزدلفة ومنى يطوف ويسعى به، ولا يصح في هذه الحال أن ينوي الطواف والسعي لنفسه وهو يطوف ويسعى بالصبي؛ لأن الصبي هنا لم يحصل منه نية ولا عمل وإنما النية من حامله فلا يصح عمل واحد بنيتين لشخصين بخلاف ما إذا كان الصبي مميز لأنه حصل منه نية والأعمال بالنيات، هذا ما ظهر لي، وعليه فيطوف الولي ويسعى أولاً عن نفسه، ثم يطوف ويسعى بالصبي أو يسلمه إلى ثقة يطوف ويسعى به.(4/329)
وإحكام إحرام الصغير كأحكام إحرام الكبير؛ لأن النبي صلى لله عليه وسلم أثبت أن له حجاً فإذا ثبت الحج ثبتت أحكامه ولوازمه، وعلى هذا فإذا كان الصغير ذكراً جنب ما يجتنبه الرجل الكبير، وإن كانت أنثى جنبت ما تجتنبه المرأة الكبيرة، لكن عند الصغير بمنزلة خطأ الكبير، فإذا فعل بنفسه شيئاً من محظورات الإحرام فلا فدية عليه ولا على وليه.
الفائدة الرابعة في الاستنابة في الحج
إذا وجب الحج على شخص فإن كان قادراً على الحج بنفسه وجب عليه أن يحج، وإن كان عاجزاً عن الحج بنفسه فإن كان يرجو زوال عجزه كمريض يرجو الشفاء فإنه يؤخر الحج حتى يستطيع، فإن مات قبل ذلك حج عنه من تركته ولا إثم عليه.
وإن كان الذي وجب عليه الحج عاجزاً عجزاً لا يرجو زواله كالكبير والمريض الميؤوس منه ومن لا يستطيع الركوب فإنه يوكل من يحج عنه؛ لما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع".
ويجوز أن يكون الرجل وكيلاً عن المرأة والمرأة عن الرجل.
وإذا كان الوكيل قد وجب عليه الحج ولم يحج عن نفسه فإنه لا يحج عن غيره بل يبدأ بنفسه أولاً لحديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، رواه أبو داود وابن ماجة(1).
والأولى أن يصرح الوكيل بذكر موكله فيقول: لبيك عن فلان، وإن كانت أنثى قال: لبيك عن أم فلان أو عن بنت فلان، وإن نوى بقلبه ولم يذكر الاسم فلا بأس، وإن نسي اسم الموكل نوى بقلبه عمن وكله وإن لم يستحضر اسمه والله تعالى يعلمه ولا يخفى عليه.(4/330)
ويجب على الوكيل أن يتقي الله تعالى ويحرص على تكميل النسك لأنه مؤتمن على ذلك، فيحرص على فعل ما يجب وترك ما يحرم، ويكمل ما استطاع من المكملات للنسك ومسنوناته.
الفائدة الخامسة في تبديل ثياب الإحرام
يجوز للمحرم بحج أو عمرة رجلاً كان أو أنثى تبديل ثياب الإحرام التي أحرم بها ولبس ثياب غيرها إذا كانت الثياب الثانية مما يجوز للمحرم لباسه، كما يجوز للمحرم أيضاً أن يلبس النعلين بعد الإحرام وإن كان حين عقده حافياً.
الفائدة السادسة في محل ركعتي الطواف
السنة لمن فرغ من الطواف أن يصلي ركعتي الطواف خلف المقام، فإن كان المحل القريب من المقام واسعاً فذاك وإلا فصلاهما ولو بعيداً، ويجعل المقام بينه وبين الكعبة فيصدق عليه أنه صلى خلف المقام، واتبع في ذلك هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي أنه صلى الله عليه وسلم جعل المقام بينه وبين البيت.
الفائدة السابعة في الموالاة في السعي وبينه وبين الطواف
الأفضل أن يكون السعي موالياً للطواف، فإن أخره عنه كثيراً فلا بأس مثل أن يطوف أول النهار ويسعى آخره، أو يطوف في الليل ويسعى بعد ذلك في النهار، ويجوز لمن تعب في السعي أن يجلس ويستريح ثم يكمل سعيه ماشياً أو على عربة ونحوها.
وإذا أقيمت الصلاة وهو يسعى دخل في الصلاة، فإذا سلم أتم سعيه من المكان الذي انتهى إليه قبل إقامة الصلاة.
وكذلك لو أقيمت وهو يطوف أو حضرت جنازة فإنه يصلي، فإذا فرغ أتم طوافه من مكانه الذي انتهى إليه قبل الصلاة، ولا حاجة إلى إعادة الشوط الذي قطعه على القول الراجح عندي؛ لأنه إذا كان القطع للصلاة معفواً عنه فلا دليل على بطلان أول الشوط.
الفائدة الثامنة في الشك في عدد الطواف أو السعي(4/331)
إذا شك الطائف في عدد الطواف، فإن كان كثير الشكوك مثل من به وسواس فإنه لا يلتفت إلى هذه الشك، وإن لم يكن كثير الشكوك فإن كان شكه بعد أن أتم الطواف فإنه لا يلتفت إلى هذا الشك أيضاً إلا أن يتيقن أنه ناقص فيكمل ما نقص. وإن كان الشك في أثناء الطواف مثل أن يشك هل الشوط الذي هو فيه الثالث أو الرابع مثلاً فإن ترجح عنده أحد الأمرين عمل بالراجح عنده، وإن لم يترجح عنده شيء عمل باليقين وهو الأقل.
ففي المثال المذكور إن ترجح عنده الثلاثة جعلها ثلاثة وأتى بأربعة، وإن ترجحت عنده الأربعة جعلها أربعة وأتى بثلاثة، وإن لم يترجح عنده شيء جعلها ثلاثة لأنها اليقين وأتى بأربعة.
وحكم الشك في عدد السعي كحكم الشك في عدد الطواف في كل ما تقدم.
الفائدة التاسعة في الوقوف بعرفة
سبق أن الأفضل للحاج أن يحرم بالحج يوم الثامن من ذي الحجة ثم يخرج إلى منى فيمكث فيها بقية يومه، ويبيت ليلة التاسع ثم يذهب إلى عرفة ضحى، وهذا على سبيل الفضيلة فلو خرج إلى عرفة من غير أن يذهب قبلها إلى منى فقد ترك الأفضل ولكن لا إثم عليه.
ويجب على الواقف بعرفة أن يتأكد من حدودها، فإن بعض الحجاج يقفون خارج حدودها إما جهلاً وإما تقليداً لغيرهم، وهؤلاء الذين وقفوا خارج حدود عرفة لا حج لهم لأنهم لم يقفوا بعرفة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"(1) وفي أي مكان وقف من عرفة فإنه يجزئه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف"(2).
ولا يجوز لمن وقف بعرفة أن يدفع من حدودها حتى تغرب الشمس يوم عرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف إلى الغروب وقال: "خذوا عني مناسككم"(3).(4/332)
ويمتد وقت الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر يوم العيد، فمن طلع عليه الفجر يوم العيد ولم يقف بعرفة فقد فاته الحج، فإن كان قد اشترط في ابتداء الإحرام إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني تحلل من إحرامه ولا شيء عليه، وإن لم يكن اشترط وفاته الوقوف فإنه يتحلل بعمرة فيذهب إلى البيت ويطوف ويسعى ويحلق، وإذا كان معه هدي ذبحه، فإذا كانت السنة الثانية قضى الحج الذي فاته وأهدى هدياً فإن لم يجد هدياً صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
الفائدة العاشرة في الدفع من مزدلفة
لا يجوز للقوي أن يدفع من مزدلفة حتى يصلى الفجر يوم العيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها ليلة العيد ولم يدفع منها حتى صلى الفجر وقال: "خذوا عني مناسككم"(4). وفي صحيح مسلم(5) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل حطمة الناس وكانت امرأة ثبطة – أي ثقيلة – فأذن لها فخرجت قبل دفعه، وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه" وفي رواية: "وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فأصلي الصبح بمنى فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس".
وأما الضعيف الذي يشق عليه مزاحمة الناس عند الجمرة فإن له أن يدفع قبل الفجر إذا غاب القمر، ويرمي الجمرة قبل الناس، وفي صحيح مسلم عن أسماء "أنها كانت ترتقب غيوب القمر وتسأل مولاها هل غاب القمر. فإذا قال نعم قالت: ارحل بي. قال: فارتحلنا حتى رمت الجمرة ثم صلت (يعني الفجر) في منزلها فقلت لها: أي هنتاه – أي يا هذه – لقد غلسنا. قالت: كلا أي بني إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للظعن".(4/333)
ومن كان من أهل هؤلاء الضعفاء الذين يجوز لهم الدفع من مزدلفة قبل الفجر فإنه يجوز أن يدفع معهم قبل الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ابن عباس رضي الله عنهما في ضعفة أهله صلى الله عليه وسلم من مزدلفة بليل. فإن كان ضعيفاً رمى الجمرة معهم إذا وصل إلى منى؛ لأنه لا يستطيع المزاحمة، أما إن كان يستطيع زحام الناس فإنه يؤخر الرمي حتى تطلع الشمس لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أي بني لا ترموا حتى تطلع الشمس". [رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن ماجة].
فنخلص أن الدفع من مزدلفة ورمي جمرة العقبة يوم العيد يكونان على النحو التالي:
الأول: من كان قوياً لا ضعيف معه فإنه لا يدفع من مزدلفة حتى يصلي الفجر، ولا يرمي الجمرة حتى تطلع الشمس؛ لأن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي فعله وكان يقول: "خذوا عني مناسككم" ولم يرخص لأحد من ذوي القوة في الدفع من مزدلفة قبل الفجر أو رمي الجمرة قبل طلوع الشمس.
الثاني: من كان قوياً وفي صحبته أهل ضعفاء فإنه يدفع معهم آخر الليل إن شاء، ويرمي الضعيف الجمرة إذا وصل منى، وأما القوي فلا يرميها حتى تطلع الشمس لأنه لا عذر له.
الثالث: الضعيف فيجوز له الدفع من مزدلفة آخر الليل إذا غاب القمر، ويرمي الجمرة إذا وصل إلى منى.
ومن لم يصل إلى مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر ليلة العيد وأدرك الصلاة فيها وكان قد وقف بعرفة قبل الفجر فحجه صحيح لحديث عروة بن مضرس وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد صلاتنا هذه – يعني الفجر – ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك نهاراً أو ليلاً فقد تم حجه وقضى تفثه". [رواه الخمسة وصححه الترمذي والحاكم].(4/334)
وظاهر هذا الحديث أنه لا دم عليه وذلك لأنه أدرك جزءاً من وقت الوقوف بمزدلفة وذكر الله تعالى عند المشعر الحرام بما أداه من صلاة الفجر فكان حجه تاماً، ولو كان عليه دم لبينه النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
الفائدة الحادية عشر فيما يتعلق بالرمي
1- في الحصى الذي يرمي به يكون بين الحمص والبندق لا كبيراً جداً ولا صغيراً جداً، ويلقط الحصى من منى أو مزدلفة أو غيرهما كل يوم بيومه، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لقط الحصى من مزدلفة، ولا أنه لقط حصى الأيام كلها وجمعها، ولا أمر صلى الله عليه وسلم أحداً بذلك من أصحابه فيما أعلم.
2- لا يجب في الرمي أن تضرب الحصاة نفس العمود الشاخص، بل الواجب أن تستقر في نفس الحوض الذي هو مجمع الحصا، فلو ضربت العمود ولم تسقط في الحوض وجب عليه أن يرمي بدلها، ولو سقطت في الحوض واستقرت به أجزأت وإن لم تضرب العمود.
3- لو نسي حصاة من إحدى الجمار فلم يرم إلا بست حصيات ولم يذكر حتى وصل إلى محله فإنه يرجع ويرمي الحصاة التي نسيها ولا حرج عليه، وإن غربت الشمس قبل أن يتذكر فإنه يؤخرها إلى اليوم الثاني، فإذا زالت الشمس رمى الحصاة التي نسيها قبل كل شيء، ثم رمى الجمار لليوم الحاضر.
الفائدة الثانية عشر في التحلل الأول والثاني
إذا رمى الحاج جمرة العقبة يوم العيد وحلق رأسه أو قصره حل التحلل الأول وجاز له جميع محظورات الإحرام من الطيب واللباس وأخذ الشعور والأظافر وغير ذلك إلا النساء، فإنه لا يجوز له أن يباشر زوجته أو ينظر إليها لشهوة حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، فإذا طاف وسعى حل التحلل الثاني وجاز له جميع محظورات الإحرام حتى النساء لكن ما دام داخل الأميال فإنه لا يحل له الصيد ولا قطع الشجر والحشيش الأخضر لأجل الحرم لا لأجل الإحرام؛ لأن الإحرام قد تحلل منه.
الفائدة الثالثة عشر في التوكيل في رمي الجمار(4/335)
لا يجوز لمن قدر على رمي الجمار بنفسه أن يوكل من يرمي عنه سواء كان حجه فرضاً أم نفلاً؛ لأن نفل الحج يلزم من شرع فيه إتمامه. وأما من يشق عليه الرمي بنفسه كالمريض والكبير والمرأة الحامل ونحوهم فإنه يجوز أن يوكل من يرمي عنه سواء كان حجه فرضاً أم نفلاً، وسواء لقط الحصى وأعطاها الوكيل أو لقطها الوكيل بنفسه فكل ذلك جائز.
ويبدأ الوكيل بالرمي عن نفسه ثم عن موكله لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك"(1) وقوله: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"(2). ويجوز أن يرمي عن نفسه ثم عن موكله في موقف واحد. فيرمي الجمرة الأولى بسبع عن نفسه ثم بسبع عن موكله وهكذا الثانية والثالثة كما يفيده ظاهر الحديث المروي عن جابر قال: "حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم"، رواه أحمد وابن ماجة وظاهره أنهم يفعلون ذلك في موقف واحد إذ لو كانوا يكملون الثلاث عن أنفسهم ثم يرجعون من أولها عن الصبيان لنقل ذلك والله أعلم.
الفائدة الرابعة عشرة في أنساك يوم العيد
يفعل الحاج يوم العيد أربعة أنساك مرتبة كما يلي:
الأول: رمي جمرة العقبة.
الثاني: ذبح الهدي إن كان له هدي.
الثالث: الحلق أو التقصير.
الرابع: الطواف بالبيت.
وأما السعي فإن كان متمتعاً سعى للحج، وإن كان قارناً أو مفرداً فإن كان سعى بعد طواف القدوم كفاه سعيه الأول وإلا سعى بعد هذا الطواف، أعني طواف الحج.(4/336)
والمشروع أن يرتبها على هذا الترتيب، فإن قدم بعضها على بعض بأن ذبح قبل الرمي، أو حلق قبل الذبح، أو طاف قبل الحلق، فإن كان جاهلاً أو ناسياً فلا حرج عليه، وإن كان متعمداً عالماً فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أنه لا حرج عليه أيضاً لما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن حلق قبل أن يذبح ونحوه فقال: لا حرج. وعنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسال يوم النحر بمنى فيقول لا حرج. فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج. وقال: رميت بعدما أمسيت، قال: لا حرج". وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لا حرج". وسئل عمن زار (أي طاف طواف الزيارة) قبل أن يرمي أو ذبح قبل أن يرمي فقال: "لا حرج" رواه البخاري(1). وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: "فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج"(2). وإن أخر الذبح إلى نزوله إلى مكة فلا باس لكن لا يؤخره عن أيام التشريق، وإن أخر الطواف أو السعي عن يوم العيد فلا بأس لكن لا يؤخرهما عن شهر ذي الحجة إلا من عذر مثل أن يحدث للمرأة نفاس قبل أن تطوف فتؤخر الطواف حتى تطهر ولو بعد شهر ذي الحجة فلا حرج عليها ولا فدية.
الفائدة الخامسة عشر في وقت الرمي والترتيب بين الجمار(4/337)
سبق لك أن وقت الرمي يوم العيد للقادر بعد طلوع الشمس، ولمن يشق عليه مزاحمة الناس من آخر الليل ليلة العيد، وأما وقت الرمي في أيام التشريق فإنه من زوال الشمس فلا رمي قبل الزوال لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما رمى في أيام التشريق إلا بعد الزوال وقال: "خذوا عني مناسككم"(1). ويستمر وقت الرمي في يوم العيد وما بعده إلى غروب الشمس فلا يرمي في الليل، ويرى بعض العلماء أنه إذا فات الرمي في النهار فله أن يرمي في الليل إلا ليلة أربعة عشرة لانتهاء أيام منى بغروب الشمس من اليوم الثالث عشر، والقول الأول أحوط، وعليه فلو فاته رمي يوم فإنه يرمي في اليوم الذي بعده إذا زالت الشمس يبدأ برمي اليوم الذي فاته فإذا أكمله رمى لليوم الحاضر(2).
والترتيب بين الجمار الثلاث واجب، فيرمي أولاً الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، فلوا بدأ برمي جمرة العقبة ثم الوسطى أو بالوسطى، فإن كان متعمداً عالماً وجب عليه إعادة الوسطى ثم جمرة العقبة، وإن كان جاهلاً أو ناسياً أجزأه ولا شيء عليه.
الفائدة السادسة عشرة في المبيت بمنى
المبيت بمنى ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر واجب، والواجب المبيت معظم الليل سواء من أول الليل أو من آخره، فلو نزل إلى مكة أول الليل ثم رجع قبل نصف الليل أو نزل إلى مكة بعد نصف الليل من منى فلا حرج عليه لأنه قد أتى بالواجب.
ويجب أن يتأكد من حدود منى حتى لا يبيت خارجاً عنها وحدها من الشرق وادي محسر، ومن الغرب جمرة العقبة وليس الوادي والجمرة من منى. أما الجبال المحيطة بمنى فإن وجوهها مما يلي منى منها فيجوز المبيت بها، وليحذر الحاج من المبيت في وادي محسر أو من وراء جمرة العقبة، لأن ذلك خارج عن حدود منى، فمن بات به لم يجزئه المبيت.
الفائدة السابعة عشرة في طواف الوداع(4/338)
سبق أن طواف الوداع واجب عند الخروج من مكة على كل حاج ومعتمر إلا الحائض أو النفساء، لكن إن طهرتا قبل مفارقة بنيان مكة فإنه يلزمهما، وإذا ودع ثم خرج من مكة وأقام يوماً أو أكثر لم يلزمه إعادة الطواف ولو كانت إقامته في موضع قريب من مكة.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تم بقلم مؤلفه في 7 شعبان سنة 1387هـ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وانتهى تصحيحه ضحى يوم الخميس لثلاثة عشر خلت من رمضان لعام 1387هـ وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
---
(1) رواه الترمزى، كتاب الحج رقم 902).
(1) رواه البخاري، كتاب الحج رقم (1542) ومسلم، كتاب الحج رقم (1177).
(1) رواه البخاري، كتاب جزاء الصيد رقم (1841) ومسلم، كتاب الحج رقم (1178).
(2) رواه مسلم، كتاب الحج رقم (1298) وأحمد (6/402).
(3) رواه البخاري، كتاب المحصر رقم (1814 وما بعده) ومسلم، كتاب الحج رقم (1201).
(1) ابن ماجة كتاب الطلاق رقم (2043).
(1) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي رقم (1) ومسلم، كتاب الجهاد رقم (1907).
(1) رواه أبو داود، كتاب المناسك رقم (1811) وابن ماجة، كتاب المناسك رقم (2903).
(1) رواه أبو داود، كتاب المناسك رقم (1949) والترمزي، كتاب الحج رقم (889) والنسائي، كتاب مناسك الحج رقم (3044) وابن ماجة، كتاب المناسك رقم (3015).
(2) سبق تخريجه ص26.
(3) سبق تخريجه ص17.
(4) سبق تخريجه ص17.
(5) مسلم، كتاب الحج رقم (1296).
(1) رواه مسلم، كتاب الزكاة رقم (997).
(2) سبق تخريجه ص 48.
(1) البخاري، كتاب الحج رقم (1721 – 1723، 1734) ومسلم، كتاب الحج رقم (1307).
(2) رواه البخاري، كتاب الحج رقم (1736) ومسلم، كتاب الحج رقم (1306).
(1) سبق تخريجه ص17.(4/339)
(2) ذكر فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى في رسالته "صفة الحج" "الأفضل للإنسان أن يرمي الجمرات في النهار، فإن كان يخشى من الزحام فلا بأس أن يرميها ليلاً، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت ابتداء الرمي ولم يوقت انتهاءه، فدل هذا على أن الأمر في ذلك واسع".
---
(1) رواه البخاري ، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة رقم (1189) ومسلم ، كتاب الحج رقم (1397).
(1) رواه النسائي، كتاب السهو رقم (1282) وأحمد (1/387).
(2) رواه مسلم ، كتاب الجنائز رقم ( 974، 975) والنسائي كتاب الجنائز رقم ( 2039 ، 2040) وأحمد (5/353).
---
(1) رواه مسلم، كتاب الحج رقم (1218).
(1) رواه مسلم، كتاب الحج رقم (1218).
(2) رواه البخاري، كتاب الحج رقم (1539) ومسلم، كتاب الحج رقم (1189).
(1) رواه مسلم، كتاب الحج رقم (1327).
(2) رواه البخاري، كتاب الحج رقم (1755) ومسلم، كتاب الحج رقم (1328).
---
(1) رواه مسلم، كتاب الحج رقم (1218).
(2) رواه البخاري، كتاب النكاح رقم (5089) ومسلم، كتاب الحج رقم (1207) والنسائي، كتاب مناسك الحج رقم (2766).
---
(1) رواه البخاري، كتاب الحج رقم (1568).
---
(1) رواه البخاري، كتاب الحج رقم (1568).
---
(1) رواه البخاري، كتاب الحج رقم (1526) ومسلم، كتاب الحج رقم (1181).
(2) رواه أبو داود، كتاب المناسك رقم (1721) والنسائي، كتاب مناسك الحج رقم (2620) وابن ماجة، كتاب المناسك رقم (2886).
---
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان رقم (39) بلفظ "إن الدين يسر".
(2) صحيح البخاري، كتاب التقصير رقم (1080) وفي المغازي رقم (4298).
(3) رواه البخاري، كتاب الأذان رقم (722) ومسلم، كتاب الصلاة رقم (417).
(1) رواه البخاري، كتاب الأذان رقم (635) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم (603).(4/340)
أخطاء يرتكبها بعض الحجاج
المقدمة
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه ومن أهتدي بهديه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فقد قال الله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) .
وقال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(لأعراف: من الآية158) .
وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31) .
وقال تعالى:(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل:79) .وقال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس:32) .
فكل ما خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته فهو باطل وضلال مردود على فاعله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ([1]).
أي مردود على صاحبه غير مقبول منه .(4/341)
وأن بعض المسلمين هداهم الله ووفقهم يفعلون أشياء في كثير من العبادات غير مبنية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا سيما في الحج الذي كثر فيه المقدمون على الفتيا بدون علم ، وسارعوا فيها حتى صار مقام الفتيا متجراً عند بعض الناس للسمعة والظهور ، فحصل بذلك من الضلال والإضلال ما حصل ، والواجب على المسلم ألا يقدم على الفتيا إلا بعلم يواجه به الله عز وجل لأنه في مقام المبلغ عن الله تعالى القائل عنه ، فليتذكر عند الفتيا قوله في نبيه صلى الله عليه وسلم : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيل* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (الحاقة44:47) .
وقوله تعالي: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33) .
وأكثر الأخطاء من الحجاج ناتجة عن هذا ـ أعني عن الفتيا بغير علم ـ وعن تقليد العامة بعضهم بعضاً دون برهان . ونحن نبين بعون الله تعالى السنة في بعض الأعمال التي يكثر فيها الخطأ مع التنبيه على الأخطاء ، سائلين من الله أن يوفقنا ، وأن ينفع بذلك إخواننا المسلمين إنه جواد كريم .
---
([1] ) رواه مسلم ، كتاب الأقضية رقم ( 1718).
أخطاء يرتكبها بعض الحجاج
أخطاء يرتكبها بعض الحجاج
محمد بن صالح العثيمين
الإحرام والأخطاء فيه
ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة من ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ، وقال ( فهن لهن ولمن أتي عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة ).(4/342)
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق .{ رواه أبو داوود والنسائي }.
وثبت في الصحيحين أيضاً في حديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، ويهل أهل الشام من الجحفة ، ويهل أهل نجد من قرن ) { الحديث}.
فهذه المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم حدود شرعية توقيفية موروثة عن الشارع لا يحل لأحد تغييرها أو التعدي فيها ، أو تجاوزها بدون إحرام لمن أراد الحج والعمرة ، فإن هذا من تعدي حدود الله وقد قال الله تعالى :( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: من الآية229). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( يهل أهل المدينة ، ويهل أهل الشام ، ويهل أهل نجد) وهذا خبر بمعني الأمر .
والإهلال : رفع الصوت بالتلبية ، ولا يكون إلا بعد عقد الإحرام .فالإحرام من هذه المواقيت واجب على من أراد الحج أو العمرة إذا مر بها أو حاذاها سواء أتي من طريق البر أو البحر أو الجو .
فإن كان من طريق البر نزل فيها إن مر بها أو فيما حاذاها إن لم يمر بها ، وأتي بما ينبغي أن يأتي به عند الإحرام من الاغتسال وتطييب بدنه ولبس ثياب إحرامه ، ثم يحرم قبل مغادرته .
وإن كان من طريق البحر فإن كانت الباخرة تقف عند محاذات الميقات اغتسل وتطيب ولبس ثياب إحرامه حال وقوفها ، ثم أحرم قبل سيرها ، وإن كانت لا تقف عند محاذات الميقات اغتسل وتطيب ولبس ثياب إحرامه قبل أن تحاذيه ثم يحرم إذا حاذته .
وإن كان من طريق الجو اغتسل عند ركوب الطائرة وتطيب ولبس ثوب إحرامه قبل محاذات الميقات ، ثم أحرم قبيل محاذاته ، ولا ينتظر حتى يحاذيه ؛ لأن الطائرة تمر به سريعة فلا تعطي فرصة ، وإن أحرم قبله احتياطا فلا بأس لأنه لا يضره .(4/343)
والخطأ الذي يرتكبه بعض الناس أنهم يمرون من فوق الميقات في الطائرة أو من فوق محاذاته ثم يؤخرون الإحرام حتى ينزلوا في مطار جدة وهذا مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتعدِّ لحدود الله تعالى .
وفي صحيح البخاري عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما فُتح هذان المصران ـ يعني البصرة والكوفة ـ أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا : ( يا أمير المؤمنين ، إن النبي صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً وإنه جورٌ عن طريقنا ، وإن أردنا أن نأتي قرناً شق علينا قال : فانظروا على حذوها من طريقكم ) فجعل أمير المؤمنين أحد الخلفاء الراشدين ميقات من لم يمر بالميقات إذا حاذاه ، ومن حاذاه جواً فهو كمن حاذاه براً لا فرق .
فإذا وقع الإنسان في هذا الخطأ فنزل جدة قبل أن يحرم فعليه أن يرجع إلى الميقات الذي حاذاه في الطائرة فيحرم منه ، فإن لم يفعل وأحرم من جدة فعليه عند اكثر العلماء فدية يذبحها في مكة ويفرقها كلها على الفقراء فيها ، ولا يأكل منها ولا يهدي منها لغني لأنها بمنزلة الكفارة .
الطواف والأخطاء
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أبتدأ الطواف من الحجر الأسود في الركن اليماني الشرقي من البيت ، وانه طاف بجميع البيت من وراء الحجر . وأنه رمل في الأشواط الثلاثة الأولي فقط في الطواف أول ما قدم مكة .
وانه كان في طوافه يستلم الحجر الأسود ويقبله واستلمه بيده وقبلها ، واستلمه بمحجن كان معه وقبل المحجن وهو راكب على بعيره فجعل يشير على الركن يعني الحجر كلما مر به .وثبت عنه انه كان يستلم الركن اليماني .(4/344)
واختلاف الصفات في استلام الحجر إنما كان ـ والله أعلم ـ حسب السهولة ، فما سهل عليه منها فعله ، وكل ما فعله من الاستلام والتقبيل والإشارة إنما هو تعبد لله وتعظيم له لا اعتقاد أن الحجر ينفع أو يضر ، وفي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقبل الحجر ويقول : ( إني لأعلم انك لا تضر ولا تنفع ، ولولا أنى رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ) .
والأخطاء التي تقع من بعض الحجاج :
1. ابتداء الطواف من قبل الحجر أي من بينه وبين الركن اليماني ، وهذا من الغلو في الدين الذي نهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يشبه من بعض الوجوه تقدم رمضان بيوم أو يومين ، وقد ثبت النهي عنه .وادعاء بعض الحجاج انه يفعل ذلك احتياطاً غير مقبول منه ، فالاحتياط الحقيقي النافع هو اتباع الشريعة وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله .
2. طوافهم عند الزحام بالجزء المسقوف من الكعبة فقط بحيث يدخل من باب الحجر إلى الباب المقابل ويدع بقية الحجر عن يمينه ، وهذا خطأ عظيم لا يصح الطواف بفعله ، لأن الحقيقة انه لم يطف بالبيت وإنما طاف ببعضه .
3. الرمل في جميع الأشواط السبعة .
4. المزاحمة الشديدة للوصول للحجر لتقبيله حتى انه يؤدي في بعض الأحيان إلى المقاتلة والمشاتمة ، فيحصل من التضارب والأقوال المنكرة ما لا يليق في مسجد الله الحرام وتحت ظل بيته ، فينقص بذلك الطواف بل النسك كله ، لقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ )(البقرة: من الآية197) . وهذه المزاحمة تذهب الخشوع وتنسي ذكر الله تعالى ، وهما من أعظم المقصود في الطواف .(4/345)
5. اعتقادهم أن الحجر نافع بذاته ، ولذلك تجدهم إذا استلموه مسحوا بأيديهم على بقية أجسامهم أو مسحوا بها على أطفالهم الذين معهم ، وكل هذا جهل وضلال ، فالنفع والضرر من الله وحده ، وقد سبق قول أمير المؤمنين عمر : ( إني لأعلم انك لا تضر ولا تنفع ، ولولا أنى رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ) .
6. استلامهم ـ أعني بعض الحجاج ـ لجميع أركان الكعبة وربما استلموا جميع جدران الكعبة وتمسحوا بها ، وهذا جهل وضلال ، فإن الاستلام عبادة وتعظيم لله عز وجل فيجب الوقوف فيها على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يستلم النبي صلى الله عليه وسلم من البيت سوي الركنين اليمانيين ( الحجر الأسود وهو في الركن اليماني الشرقي من الكعبة ، والركن اليماني الغربي ) ، وفي مسند الإمام أحمد عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه طاف مع معاوية رضي الله عنه فجعل معاوية يستلم الأركان كلها فقال ابن عباس : لم تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما ؟ فقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجورا . فقال ابن عباس : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة . فقال معاوية : صدقت .
الطواف والأخطاء القولية
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر الله تعالى كلما أتى على الحجر الأسود . وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود : ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(البقرة: من الآية201) .وقال: ( إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ) ([1]) .
والخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين في هذا تخصيص كل شوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره ، حتى أنه إذا أتم الشوط قبل إتمام الدعاء قطعه ولو لم يبق عليه إلا كلمة واحدة ؛ ليأتي بالدعاء الجديد للشوط الذي يليه ، وإذا أتم الدعاء قبل تمام الشوط سكت .(4/346)
ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف دعاء مخصص لكل شوط . قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : وليس فيه ـ يعني الطواف ـ ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه ، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية ، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا اصل له .
وعلى هذا فيدعو الطائف بما احب من خيري الدنيا والآخرة ، ويذكر الله تعالى بأي ذكر مشروع من تسبيح أو تحميد أو تهليل |أو تكبير أو قراءة قرآن .
ومن الخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين أن يأخذ من هذه الأدعية المكتوبة فيدعو بها وهو لا يعرف معناها ، وربما يكون فيها أخطاء من الطابع أو الناسخ تقلب المعني رأسا على عقب ، وتجعل الدعاء للطائف دعاء عليه ، فيدعو على نفسه من حيث لا يشعر . وقد سمعنا من هذا العجب العجاب . ولو دعا الطائف ربه بما يريده ويعرفه فيقصد معناه لكان خيراً له وأنفع ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر تأسياً وأتباعاً .
ومن الخطا الذي يرتكبه بعض الطائفين أن يجتمع جماعة على قائد يطوف بهم ويلقنهم الدعاء بصوت مرتفع ، فيتبعه الجماعة بصوت واحد فتعلوا الأصوات وتحصل الفوضى ، ويتشوش بقية الطائفين فلا يدرون ما يقولون ؛ وفي هذا إذهاب للخشوع وإيذاء لعباد الله تعالى في هذا المكان الآمن ، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن ) رواه مالك في الموطأ .
ويا حبذا لو أن هذا القائد إذا اقبل بهم على الكعبة وقف بهم وقال افعلوا كذا ، قولوا كذا ، ادعوا بما تحبون ، وصار يمشي معهم في المطاف حتى لا يخطئ منهم أحد فطافوا بخشوع وطمأنينة يدعون ربهم خوفاً وطمعاً بما يحبونه وبما يعرفون معناه ويقصدونه ، وسلم الناس من أذاهم .
الركعتان بعد الطواف والخطأ فيهما(4/347)
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه لما فرغ من الطواف تقدم على مقام إبراهيم فقرأ : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً )(البقرة: من الآية125). فصلي ركعتين والمقام بينه وبين الكعبة ، وقرأ في الركعة الأولى الفاتحة و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) (الكافرون:1) وفي الثانية الفاتحة و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص:1) .
والخطأ الذي يفعله بعض الناس هنا ظنهم أنه لا بد أن تكون صلاة الركعتين قريباً من المقام ، فيزدحمون على ذلك ويؤذون الطائفين في أيام الموسم ، ويعوقون سير طوافهم ، وهذا الظن خطأ فالركعتان بعد الطواف تجزئان في أي مكان من المسجد ، ويمكن أن يجعل المقام بينه وبين الكعبة وإن كان بعيداً عنه فيصلي في الصحن أو في رواق المسجد ، ويسلم من الأذية ، فلا يؤذِي ولا يؤذ َي ، وتحصل له الصلاة بخشوع وطمأنينة .
ويا حبذا لو أن القائمين على المسجد الحرام منعوا من يؤذون الطائفين بالصلاة خلف المقام قريباً منه ، وبينوا لهم أن هذا ليس بشرط للركعتين بعد الطواف .
ومن الخطأ أن بعض الذين يصلون خلف المقام يصلون عدة ركعات كثيرة بدون سبب مع حاجة الناس الذين فرغوا من الطواف إلى مكانهم .
ومن الخطأ أن بعض الطائفين إذا فرغ من الركعتين وقف بهم قائدهم يدعو بهم بصوت مرتفع ، فيشوشون على المصلين خلف المقام فيعتدون عليهم، وقد قال الله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (لأعراف:55) .
صعود الصفا والمروة والدعاء فوقهما والسعي بين العلمين والخطأ في ذلك(4/348)
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه حين دنا من الصفا قرأ : (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ )(البقرة: من الآية158) ثم رقي عليه حتى رأي الكعبة فاستقبل القبلة ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو ، فوحد الله وكبره وقال : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ) ،ثم دعا بين ذلك فقال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل ماشياً فلما انصبت قدماه في بطن الوادي وهو ما بين العلمين الأخضرين سعي حتى إذا تجاوزهما مشي حتى إذا أتى المروة ، ففعل على المروة ما فعل على الصفا .
والخطا الذي يفعله بعض الساعين هنا إذا صعدوا الصفا والمروة استقبلوا الكعبة فكبروا ثلاث تكبيرات يرفعون أيديهم ويومئون بها كما يفعلون في الصلاة ثم ينزلون ، وهذا خلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، فإما أن يفعلوا السنة كما جاءت إن تيسر لهم ، وإما أن يدعوا ذلك ولا يحدثوا فعلاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن الخطا الذي يفعله بعض الساعين أنهم يسعون من الصفا إلى المروة ، أعني أنهم يشتدون في المشي ما بين الصفا والمروة كله ، وهذا خلاف السنة ، فإن السعي ما بين العلمين فقط والمشي في بقية المسعى ، واكثر ما يقع ذلك إما جهلاً من فاعله أو محبةً كثير من الناس للعجلة والتخلص من السعي والله المستعان .
الوقوف بعرفة والخطأ فيه
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مكث يوم عرفة بنمرة حتى زالت الشمس ، ثم ركب ثم نزل فصلي الظهر والعصر ركعتين جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين ، ثم ركب حتى أتى موقفه فوقف وقال : ( وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ) ([2]) . فلم يزل واقفاً مستقبل القبلة رافعاً يديه يذكر الله ويدعوه حتى غربت الشمس وغاب قرصها فدفع إلى مزدلفة .
والأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج :(4/349)
1. انهم ينزلون خارج حدود عرفة ويبقون في منازلهم حتى تغرب الشمس ثم ينصرفون منها إلى مزدلفة من غير أن يقفوا بعرفة ، وهذا خطأ عظيم يفوت به الحج ، فإن الوقوف بعرفة ركن لا يصح الحج إلا به ، فمن لم يقف بعرفة وقت الوقوف فلا حج له لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك ) ([3]) . وسبب هذا الخطا الفادح أن الناس يغتر بعضهم ببعض ؛ لأن بعضهم ينزل قبل أن يصلها ولا يتفقد علاماتها ؛ فيفوت على نفسه الحج ويغر غيره ، ويا حبذا لو أن القائمين على الحج أعلنوا للناس بوسيلة تبلغ جميعهم وبلغات متعددة ، وعهدوا على المطوفين بتحذير الحجاج من ذلك ليكون الناس على بصيرة من أمرهم ويؤدوا حجهم على الوجه الأكمل الذي تبرا به الذمة .
2. انهم ينصرفون من عرفة قبل غروب الشمس ، وهذا حرام لأنه خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث وقف إلى أن غربت الشمس وغاب قرصها ، ولأن الانصراف من عرفة قبل الغروب عمل أهل الجاهلية .
3. إنهم يستقبلون الجبل جبل عرفة عند الدعاء ولو كانت القبلة خلف ظهورهم أو على أيمانهم أو شمائلهم ، وهذا خلاف السنة ، فإن السنة استقبال القبلة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
رمي الجمرات والخطأ فيه(4/350)
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمي جمرة العقبة وهي الجمرة القصوى التي تلي مكة بسبع حصيات ضحي يوم النحر ، يكبر مع كل حصاة . كل حصاة منها مثل حصا الخذف أو فوق الحمص قليلاً ، وفي سنن النسائي من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما ـ وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم من مزدلفة على مني ـ قال: فهبط ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ محسراً وقال : ( عليكم بحصا الخذف الذي ترمي به الجمرة ) قال : والنبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يخذف الإنسان ، وفي مسند الإمام احمد عن ابن عباس رضي الله عنهما ـ قال يحي : لا يدري عوف عبد الله أو الفضل ـ قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو واقف على راحلته : ( هات القط لي ) . فقال ( بأمثال هؤلاء ) مرتين وقال بيده . فأشار يحي انه رفعها وقال : ( إياكم والغلو فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ).
وعن أم سليمان بن عمرو بن الاحوص رضي الله عنها قالت : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر وهو يقول : ( يا أيها الناس ، لا يقتل بعضكم بعضا ، وإذا رميتم الجمرة فارموها بمثل حصا الخذف) رواه احمد .وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة ، ثم يتقدم حتى يسهل فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الوسطي ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ، ثم ينصرف فيقول هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله .وروي أحمد وأبو داوود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ).
والأخطاء التي يفعلها بعض الحجاج هي :(4/351)
1. اعتقادهم أنه لا بد من اخذ الحصا من مزدلفة ، فيتبعون أنفسهم بلقطها في الليل واستصحابها في أيام مني أن الواحد منهم إذا ضاع حصاه حزن حزناً كبيراً ، وطلب من رفقته أن يتبرعوا له بفضل ما معهم من حصا مزدلفة .. وقد علم مما سبق أنه لا أصل لذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وانه أمر ابن عباس رضي الله عنهما بلقط الحصا له وهو واقف على راحلته ، والظاهر أن هذا الوقف كان عند الجمرة إذ لم يحفظ عنه أنه وقف بعد مسيره من مزدلفة قبل ذلك ، ولأن هذا وقت الحاجة إليه فلم يكن ليأمر بلقطها قبله لعدم الفائدة فيه وتكلف حمله .
2. اعتقادهم أنهم برميهم الجمار يرمون الشيطان ، ولهذا يطلقون اسم الشياطين على الجمار فيقولون : رمينا الشيطان الكبير أو الصغير أو رمينا أبا الشياطين يعنون به الجمرة الكبرى جمرة العقبة ، ونحو ذلك من العبارات التي لا تليق بهذه المشاعر ، وتراهم أيضا يرمون الحصاة بشدة وعنف وصراخ وسب وشتم لهذه الشياطين على زعمهم ، حتى شاهدنا من يصعد فوقها يبطش بها ضرباً بالنعل والحصى الكبار بغضب وانفعال والحصا تصيبه من الناس وهو لا يزداد إلا غضباً وعنفاً في الضرب، والناس حوله يضحكون ويقهقهون كان المشهد مشهد مسرحيه هزلية ، شاهدنا هذا قبل أن تبني الجسور وترتفع أنصاب الجمرات . وكل هذا مبني على هذه العقيدة أن الحجاج يرمون شياطين ، وليس لها اصل صحيح يعتمد عليه ، وقد علمت مما سبق الحكمة في مشروعية رمي الجمار ، لإقامة ذكر الله عز وجل ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على أثر كل حصاة .
3. رميهم الجمرات بحصى كبيرة وبالحذاء ( النعل ) والخفاف ( الجزمات ) والأخشاب ، وهذا خطا كبير مخالف لما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بفعله وأمره حيث رمي صلى الله عليه وسلم بمثل حصا الخذف ، وأمر أمته أن يرموا بمثله ، وحذرهم من الغلو في الدين . وسبب هذا الخطا الكبير ما سبق اعتقادهم أنهم يرمون الشيطان .(4/352)
4. تقدمهم إلى الجمرات بعنف وشدة لا يخشعون لله تعالى ، ولا يرحمون عباد الله ، فيحصل بفعلهم هذا الأذية للمسلمين والإضرار بهم والمشاتمة والمضاربة ما يقلب هذه العبادة وهذا المشعر إلى مشهد مشاتمة ومقاتله ، ويخرجها عما شرعت من أجله ، وعما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم. ففي المسند عن قدامه بن عبد الله بن عمار قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر يرمي جمرة العقبة على ناقة صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك { رواه الترمذي وقال : حسن صحيح} .
5. تركهم الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولي والثانية في أيام التشريق، وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف بعد رميهما مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو دعاءً طويلاً ، وسبب ترك الناس لهذا الوقوف الجهل بالسنة أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من العبادة. ويا حبذا لو أن الحاج تعلم أحكام الحج قبل أن يحج ليعبد الله تعالى على بصيرة ويحقق متابعة النبي صلى الله عليه وسلم . ولو أن شخصاًُ أراد أن يسافر إلى بلد لرأيته يسأل عن طريقها حتى يصل إليها عن دلالة ، فكيف بمن أراد أن يسلك الطريق الموصلة على الله تعالى وإلى جنته ، أفليس من الجدير به أن يسأل عنها قبل أن يسلكها ليصل على المقصود ؟ !
6. رميهم الحصي جميعاً بكف واحدة وهذا خطأ فاحش وقد قال آهل العلم انه إذا رمي بكف واحدة اكثر من حصاة لم يحتسب سوى حصاة واحدة ، فالواجب أن يرمي الحصا واحدة فواحدة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
7. زيادتهم دعوات عند الرمي لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قولهم : اللهم اجعلها رضاً للرحمن وغضباً للشيطان ، وربما قال ذلك وترك التكبير الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الأولي الاقتصار على الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص .(4/353)
8. تهاونهم برمي الجمار بأنفسهم تراهم يوكلون من يرمي عنهم مع قدرتهم على الرمي ليسقطوا عن أنفسهم معاناة الزحام ومشقة العمل ، وهذا مخالف لما أمر الله تعالى به من إتمام الحج حيث يقول سبحانه : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)(البقرة: من الآية196) فالواجب على القادر على الرمي أن يباشره بنفسه ويصبر على المشقة والتعب ، فإن الحج نوع من الجهاد لا بد فيه من الكلفة والمشقة فليتق الحاج ربه وليتم نسكه كما أمره الله تعالى به ما استطاع إلى ذلك سبيلا
طواف الوداع والأخطاء فيه
ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما انه قال : ( أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفف عن الحائض) وفي لفظ لمسلم عنه قال : ( كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) رواه أبو داوود بلفظ : ( حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت ) وفي الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : شكوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أني اشتكي فقال : ( طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ) فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ :(وَالطُّورِ*وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ) (الطور:1-2) وللنسائي عنها أنها قالت : ( يا رسول الله ، والله ما طفت طواف الخروج فقال : إذا أقيمت الصلاة فطوفي على بعيرك من وراء الناس) .(4/354)
وفي صحيح البخاري عن انس ابن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم رقد رقدةً بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن صفية رضي الله عنها حاضت بعد طواف الإفاضة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أحابستنا هي؟) قالوا : إنها قد افاضت وطافت بالبيت قال : فلتنفر إذاً . وفي الموطأ عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال : ( لا يصدرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت فإن آخر النسك الطواف بالبيت ) وفيه عن يحي بن سعيد أن عمر رضي الله عنه رد رجلاً من مر الظهران لم يكن ودع البيت حتى ودع .
والخطا الذي يرتكبه بعض الحجاج هنا :
1. نزولهم من مني يوم النفر قبل رمي الجمرات فيطوفوا للوداع ثم يرجعوا إلى مني فيرموا الجمرات ، ثم يسافروا إلى بلادهم من هناك وهذا لا يجوز لأنه مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون آخر عهد الحجاج بالبيت ، فإن من رمي بعد طواف الوداع فقد جعل آخر عهده بالجمار لا بالبيت ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف للوداع إلا عند خروجه حين استكمل جميع مناسك الحج ، وقد قال : ( خذوا عني مناسككم ) ([4]) .
وأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه صريح في أن الطواف بالبيت آخر النسك .فمن طاف للوداع ثم رمي بعده فطوافه غير مجزئ لوقوعه في غير محله ، فيجب عليه إعادته بعد الرمي ، فإن لم يعد كان حكمه حكم من تركه.(4/355)
2. مكثهم بمكة بعد طواف الوداع فلا يكون آخر عهدهم بالبيت ، وهذا خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وبينه لأمته بفعله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يكون آخر عهد الحجاج بالبيت ، ولم يطف للوداع إلا عند خروجه وهكذا فعل أصحابه ، ولكن رخص أهل العلم الإقامة بعد الوداع للحاجة إذا كانت عارضة كبيرة كما لو أقيمت الصلاة بعد طوافه للوداع فصلاها أو حضرت جنازة فصلي عليها ، أو كان له حاجة تتعلق بسفره كشراء متاع وانتظار رفقة ونحو ذلك فمن أقام بعد طواف للوداع إقامة غير مرخص فيها وجبت عليه إعادته.
3. خروجهم من المسجد بعد طواف الوداع على أقفيتهم يزعمون بذلك تعظيم الكعبة ، وهذا خلاف السنة بل هو من البدع التي حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيها:( كل بدعة ضلالة ) والبدعة كل ما احدث من عقيدة أو عبادة على خلاف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون ، فهل يظن هذا الراجع على قفاه تعظيماً للكعبة على زعمه انه أشد تعظيماً لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم أن في ذلك تعظيم لها لا هو ولا خلفاؤه الراشدون ؟!
4. التفاتهم للكعبة عند باب المسجد بعد انتهائهم من طواف الوداع ودعاؤهم هناك كالمودعين للكعبة ، وهذا من البدع لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفاؤه الراشدين ، وكل ما قصد به التعبد لله تعالى وهو مما لم يرد به الشرع فهو باطل مردود على صاحبه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم :(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ([5]) . أي مردود على صاحبه .(4/356)
فالواجب على المؤمن بالله ورسوله أن يكون في عبادته متبعاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لينال بذلك محبة الله ومغفرته كما قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31) واتباع النبي صلى الله عليه وسلم كما يكون في مفعولاته يكون كذلك في متروكاته ، فمتي وجد مقتضي الفعل في عهده ولم يفعله كان ذلك دليلاً على أن السنة والشريعة تركه ، فلا يجوز إحداثه في دين الله تعالى ولو أحبه الإنسان وهواه ، قال الله تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ)(المؤمنون: من الآية71) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) .نسأل الله أن يهدينا إلى صراطه المستقيم ، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب .
والحمد لله رب العالمين ،وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
تم تحريره في 19 شعبان 1398هـ بقلم الفقير إلى الله تعالى : محمد الصالح العثيمين غفر الله له ولوالديه وللمسلمين .
---
([1] ) رواه الترمذي ، كتاب الحج رقم (902).
([2] ) رواه مسلم ، كتاب الحج رقم (1218).
([3] ) رواه أبو داوود ، كتاب المناسك رقم (1949) والترمذي ، كتاب الحج رقم (889) والنسائي ، كتاب مناسك الحج رقم ( 3044) وابن ماجه ، كتاب المناسك رقم ( 3015).
([4] ) ر واه مسلم ، كتاب الحج رقم (1297) وأبو داوود ، كتاب مناسك الحج رقم (1970) بلفظ آخر.
([5] ) رواه البخاري ، كتاب الصلح رقم (2697)ومسلم ، كتاب الأقضية رقم (1718).(4/357)
صحيح البخاري(4/358)
(
[ كتاب الحج ]
لفضيلة الشيخ العلامة الإمام
أبي عبد الله محمد بن صالح العثيمين
" رحمه الله "
( 1347هـ ـ 1421 هـ )
قام بإعدادها
مجموعة من طلاب العلم
غفر الله لهم ولوالديهم ولمشايخهم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإنا نقدم لإخواننا طلاب العلم تعليق فضيلة الشيخ /
محمد بن صالح العثيمين
رحمه الله
على عدة كتب من صحيح الإمام أبي عبد الله البخاري " رحمه الله" ، وهي كتاب الحج ، وكتاب العمرة ، وكتاب المحصر ، وكتاب جزاء الصيد ، وكتاب فضائل المدينة . ولم يتمه رحمه الله إذ وقف فيه على باب (من رغب عن المدينة) في السادس والعشرين من شهر صفر من عام واحد وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة . وقد بدأ الشيخ رحمة الله عليه بهذا التعليق في الرابع والعشرين من شهر شعبان من العام العشرين بعد الأربعمائة والألف من الهجرة .
نسأل الله أن يجزي شيخنا خيراً ، وأن يغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
كتاب الحج (1)
__________
(1) قبل أن ندخل في مواضيع الأحاديث نحب أن نُعطي قواعد :
أولاً : الحج ركن من أركان الإسلام ، والدليل : متى فُرض الحج ؟ في السنة التاسعة ، ما الدليل ؟ قوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } وهذه الآية نزلت في السنة التاسعة ؛ لأن صدر آل عمران كله نزل في السنة التاسعة .
قال بعض الناس إنه فُرض في السنة السابعة ، ما دليلهم ؟
طالب: دليلهم قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله }
الشيخ: وهل هذا الاستدلال صحيح ؟
الطالب: غير صحيح .
الشيخ: غير صحيح ، ما وجهه ؟
الطالب: وجهه هذا أمرٌ للإتمام وليس أمرٌ للابتداء .
الشيخ: نعم ، ويؤيد ذلك أن فتح مكة كان في السنة الثامنة ؟
طالب: السنة الثامنة ، وليس من الحكمة أن يُفرض الحج ومكة لا يزال يسيطر عليها المشركون .
الشيخ: نعم تمام، ولهذا صدوا النبي صلى الله عليه وسلم عن العمرة .
ثانياً : الحج له شروط ، والشروط ـ كما يُعلم من الشريعة الإسلامية ـ الشروط هي عبارة عن ضبط الواجبات والتكليفات ؛ لأنه لو بقيت التكليفات بلا شروط صار فوضى ، فالشروط في الواقع من تمام الشريعة . وقول بعض المُحْدَثين : ( إن هذه الشروط والأركان والواجبات المفصلة هذه بدعة ) فنقول : ليست ببدعة ، هذه وسائل لضبط الشريعة وتقريبها للمكلفين ، وكونها شروطاً أو واجبات أو أركاناً ، هذا أيضاً من انضباط الشرع نفسه حتى لا يبقى الناس في فوضى ، لذلك أثبت العلماء ـ رحمهم الله ـ بما يكاد يكون إجماعاً قبل هؤلاء المُحْدَثين بإثبات الشروط والأركان والواجبات، وإن كانوا يختلفون هذا شرط أو ركن أو واجب ، هذا شيء آخر ، المهم المبدأ موجود ، ولا ينبغي أن نعترض على سنة العلماء ، ولا ينبغي أن نعترض على أمر يجعل الله تعالى فيه تسهيلاً لحفظ الشريعة وإتقانها وانضباطها .
الحج له شروط منها:
الشرط الأول : الإسلام ، وهذا شرط في جميع العبادات ، كل العبادات لابد فيها من الإسلام ؛ لأنه إذا لم يكن مسلماً فليس مقبولاً عند الله عز وجل قال الله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } وقال عز وجل: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله } مع أن نفقاتهم نفعها متعدي ومع ذلك لا تُقبل .
الإسلام شرط في جميع العبادات ، حتى في الوضوء ؟ حتى في الوضوء ، فلو أن كافراً توضأ ثم منّ الله عليه فأسلم قلنا لابد أن تُعيد الوضوء إذا أردت الصلاة ؛ لأن وضوءك الأول وقع وأنت في حال الكفر فلا يصلح .
الشرط الثاني: العقل ، فالمجنون لا حج عليه ، وهذا شرط في جميع العبادات ما عدا الزكاة ، فالزكاة ليس من شرطها العقل ؛ لأن وجوبها في المال، كما قال تعالى: { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } وقال عز وجل : { خذ من أموالهم صدقة } ، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ بن جبل : (( أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترجع على فقرائهم )) ولأن الفقير لا تتعلق نفسه بالفاعل تتعلق بالمال ، سيقول الفقراء : أين نصيبنا من هذا المال ؟ فلذلك لا يشترط في وجوب الزكاة العقل .
الشرط الثالث: البلوغ، وهذا شرط للوجوب وليس شرطاً للصحة ، أما كونه شرطاً للوجوب فللحديث المشهور الذي تلقاه الناس بالقبول : (( رُفع القلم عن ثلاثة )) وذكر منهم الصبي حتى يكبر . وأما كونه ليس شرطاً للصحة فلحديث ابن عباس رضي الله عنهما في المرأة التي رفعت الصبي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقالت : يا رسول الله ألهذا حج؟ قال : (( نعم ولك أجر )) إذاً من شرط وجوب الحج ماذا ؟ البلوغ ، طيب البلوغ يحصل بواحد من أمور ثلاثة : تمام خمس عشرة سنة ، والثاني إنبات شعر العانة ، وهو الشعر الخشن الذي يكون حول القُبل ، والثالث إنزال المني بشهوة ، هذه ثلاثة ، تزيد المرأة بالرابع وهو الحيض فمتى حاضت ولو لم يكن لها إلا تسع سنوات فهي بالغة .
الشرط الرابع : الحرية ، وهذا شرط في كل عبادة اشترط فيها التملك، تملك المال ، فالزكاة مثلاً لا تجب على العبد لأنه ليس له مال ، والحج لا يجب على العبد لأنه ليس له مال ولأن العبد مشغول بخدمة سيده ، فلو ألزمنا عليه الحج للزم من ذلك إما تأثيمه وإما تأثيم سيده ، إما تأثيمه إن حج بلا إذن سيده ، وإما تأثيم سيده إن منعه . فلهذا نقول لا حج عليه حتى يسلم هو من الإثم وكذلك سيده .
فإن قال قائل : أرأيتم لو أن سيده أذن له وأعطاه المال ، أو أذن له وهو في مكة وأمكنه أن يحج على قدميه ، هل يلزمه الحج أو لا ؟ المشهور من المذهب لا ، حتى لو أذن له سيده ولو أعطاه المال يحج به ، أو كان لا يحتاج إليه وهو في مكة فإنه لا يجب عليه الحج ؛ لأن الحرية وصف لابد من ثبوته في وجوب الحج . والصحيح أنه يجب عليه الحج في هذا الحال ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، فالآن هذا قادر والله عز وجل يقول : { من استطاع إليه سبيلاً } وهذا مستطيع . فسيده يقول أهلاً وسهلاً أنا أساعدك . فماذا يكون بعد ذلك ؟
الشرط الخامس : الاستطاعة ، وقد ذكرها الله تعالى في قوله : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } ونص الله عز وجل على الاستطاعة في الحج مع أن هذا شرط في جميع الواجبات ؛ لأن الحج غالباً يكون فيه مشقة ، الغالب يكون فيه مشقة لأن أكثر الناس خارج مكة وبعيدون عن مكة فتلحقهم المشقة لاسيما في الزمن الأول لما كان الناس يحجون على أقدامهم أو على إبلهم مشقة ، فلهذا نص الله تعالى على الاستطاعة مع أنها شرط في جميع الواجبات . والاستطاعة نوعان :
استطاعة بالمال فقط ، أو بالبدن فقط ، أو بهما جميعاً ، فهي ثلاثة أقسام . إذا كان عنده استطاعة بماله وبدنه مع بقية الشروط وجب عليه الحج ولا إشكال ، إذا كان عنده استطاعة بماله دون بدنه ، هو يبذل بماله لكن ما يبذل ببدنه سقط عنه الوجوب البدني لأنه ما يستطيع ووجب عليه بذل المال ، فيُقيم من يحج عنه ويعتمر . وإذا كان عاجزاً بماله قادراً ببدنه يجب عليه ؟ قادر ببدنه قريب أو بعيد إنسان شجاع قوي يجب أو لا يجب ؟ الله المستعان ، أين أنتم ؟ أين فقهكم ؟! { من استطاع إليه سبيلا } هل هذا مستطيع أو لا ؟ إنسان قوي شجاع إذا رآه الذئب هرب منه وإذا رآه الواحد من الناس هرب ، ما يخاف على نفسه هو قوي ، يجب عليه أو ما يجب ؟ يجب يا أخوان يجب { من استطاع إليه سبيلاً } لو كان في الكويت أو وراء الكويت بعد يجب ؛ لأن عندنا آية من كلام الله عز وجل ما هي من كلام فلان وفلان { من استطاع إليه سبيلاً } واضح ؟
طيب إذا كان غير قادر لا بماله ولا ببدنه إيش ؟ يسقط عنه ما فيه إشكال ؛ لأن الله اشترط للوجوب الاستطاعة . وهل الاستطاعة الشرعية شرط للوجوب أو شرط للأداء ؟ انتبه هل الاستطاعة الشرعية شرط للوجوب أو شرط للأداء ؟ مثال ذلك : امرأة غنية قادرة ببدنها لكن لم تجد محرماً ، هي الآن قادرة قدرة حسية لكنها شرعاً غير قادرة لماذا ؟ لأنها ما لها محرم ، وهي ممنوعة شرعاً من السفر ، فهل يجب عليها أن تحج أو لا يجب ؟ نقول : أما ببدنها فلا يجب وأما بنائبها فيجب لأنها قادرة ، ولكن المذهب عند الحنابلة أن ذلك شرط للوجوب . وعلى هذا فيشترط لوجوب الحج القدرة الشرعية والحسية ، وبذلك نُطمئن أخواتنا اللاتي يتكدرن ويحزن إذا لم يكن عندهن محرم ونقول أبشرن لو لقيتن الله بلا حج فليس عليكن شيء ، لماذا ؟ لأن الحج لا يجب عليهن ، كما أن الفقير إذا لقي ربه وهو لم يزكي هل عليه شيء ؟ ما عليه لأنه ما عنده مال . فالحمد لله على نعمه ، يعني ينبغي أننا نُطمئن النساء لأن بعض النساء تحزن حزناً شديداً حتى إن بعضهن تعصي الله وتحج بلا محرم . سبحان الله كيف تتقرب إلى الله بمعصيته ؟ هذا غلط عظيم وسفه . فهذه شروط وجوب الحج ، قال الناظم في هذه الشروط :
الحج والعمرة واجبان في العمر مرة بلا توان
بشرط إسلام كذا حرية عقل بلوغ قدرة جلية
وقوله : ( بلا توان ) يعني يجب على الفور أن يؤدي الحج ، انتبهوا هذه نقطة مهمة أيضاً ، هل إذا قدر الإنسان على الحج يجب عليه أن يحج فوراً أو هو على التراخي ؟ اختلف العلماء في هذه المسألة ، فمنهم من قال على التراخي لأن العمر كله وقت للحج . فكما إن الإنسان في الصلاة له أن يصلي في أول الوقت وفي آخر الوقت ، هؤلاء يقولون الحج لا يجب في العمر إلا مرة إذاً فالعمر كله وقت له . وأيضاً يقولون : إن الله فرض الحج في السنة السادسة أو السابعة ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا في العاشرة . لكن هذا القول ضعيف ، أما من حيث الدليل فقد عرفتم أن الدليل يدل على أن الحج إنما فُرض في السنة التاسعة ، ولكن حتى على هذا القول يقولون : عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يحج في السنة التاسعة أخره إلى العاشرة . فنقول : إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخر الحج لمصلحة عظيمة تفوت لو حج ولا يفوت الحج لو أخره ، وهي استقبال الوفود الذين يفدون إلى المدينة مسلمين ليتعلموا أحكام دينهم من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وأيضاً في تلك السنة ـ السنة التاسعة ـ كان في الحجاج خليط من المشركين ؛ لأن فتح مكة قبل ذلك بسنة فحج كثير من المشركين ، فأراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يكون حجه إيش؟ خالصاً للمؤمنين ، ولذلك في ذلك العام عام تسع أذَّن المؤذن يعني أعلن المُعلن أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عرياناً .
والصواب هو أن الحج واجب على الفور من حين أن تتم شروط الوجوب ، وقد عرفتم بطلان استدلالهم بالآية: { وأتموا الحج والعمرة لله } وعرفتم بطلان استدلالهم بتأخير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الحج عن السنة التاسعة . أما قولهم : إن الحج لا يجب في العمر إلا مرة فالعمر كله وقته فيجوز في أوله وآخره . فيقال : من الذي يضمن أن تبقى قدرة الإنسان على الحج ؟ أليس ممكن أي يُمرض ، ويمكن أن يُسلب المال ، ويمكن أن تكون الطريق مخوفة ، ويمكن أن يموت ، كل هذا ممكن ، فكيف يؤخر ما أوجب الله عليه بعد أن أنعم الله عليه بتوفر الشروط ؟ فالصواب إذاً أنه يجب على الفور .
فإذا قال قائل : الحج عرفنا أنه ركن من أركان الإسلام لكن ما هي الحكمة وما هو الذي يفيد القلب من هذا الحج ؟ قلنا : الحكمة تعظيم الله عز وجل بتعظيم أعظم بيت في الأرض وهو الكعبة كما قال عز وجل: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين } وتعظيم الأماكن من تعظيم الساكن، ومعلوم أن الله فوق كل شيء لكن على حد قول الشاعر: أمر على الديار ديار ليلى ـ وضمير أمر يعود على مجنون ليلى ـ يقول :
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار
مجنون .. يمشي على الجدار يقبله والجدار الثاني يقبله والجدار الثالث والرابع .
.......................... أقبل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار
المهم أن في الوفود على بيت الله عز وجل تعظيم لله تعالى لا يخفى ، وبالنسبة لنا اتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتأس به ، ونعم الأسوة صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا لما قبَّل عمر الحجر قال : والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك . لله در عمر ، حتى لا يقع في قلب أحد تعظيم الأحجار وتعظيم الآثار كما ابتُليت به الأمة في الوقت الحاضر إلا من عصم الله ومعلوم أنه لولا أن الله شرع لنا أن تعبد له بهذه العبادة وأن نتأسى برسوله صلى الله عليه وسلم فيها ما ذهبنا إليها . وإلا فقد يقول قائل : ما الفائدة من أن تأخذ سبع حصيات وترميها في مكان معين ؟ الفائدة التعبد لله قبل كل شيء والتأسي برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله )) هذا هو الحكمة ولذلك تجد الناس إذا أتوا هذه المشاعر العظيمة بإخلاص لله وتأسٍ برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يزداد إيمانهم واسأل الناس من قبل تجد طعماً لذيذاً في الحج، في الوقت الحاضر الحج جهاد وتبين صدق الحديث وهو متبين من قبل (( عليهن جهاد لا قتال فيه )) الآن الذين مثلاً يطوفون تجد الواحد قلبه مشغول بإيش ؟ بالحياة والموت ، هل يخرج سالماً أو لا ؟ فيفقد الطمأنينة والخشوع الذي كان من قبل ولكن يجب أن يوطن الإنسان نفسه على أنه في عبادة وأن هذه المشقة التي تأتيه في العبادة ما هي إلا رفعة لدرجاته وتكفير لسيئاته والأجر على قدر المشقة ، وكما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعائشة : (( أجرك على قدر نصبك )) .
كذلك في رمي الجمرات رامي الجمرات هو بين الحياة والموت وبين الأذية والتأذي لكن ماذا يصنع ؟ لولا أنه يعتقد أن هذا عبادة لله عز وجل واتباع لرسول الله ما فعل ، لكن في الأول ـ أنا أثرت البقية ـ تجد الناس في طمأنينة يعني أدركنا الناس يذهبون للجمرات أما في المطاف فالمطاف أقل من هذا في الأول ومع ذلك لا يمتلئ تقدر تقبل الحجر الأسود في كل شوط في أيام الحج في الموسم ، في الجمرات تجد الناس قليلين جداً يعني ننزل عند مسجد الخيف في خيمتنا وتجد الخيمة الثانية بعيدة عنا والثالثة بعيدة ، وفي نفس منى أكوام من الحطب يعني ما في كهرباء ، حطب أكوام كأنك في أسواق الحطب ، ونحن في مسجد الخيف نشاهد الناس يرمون الجمرات ما في بناء ولا سيارات ولا زحام ولا شيء ، يذهب الإنسان في طمأنينة وهدوء وتكبير وتلبية قبل جمرة العقبة ، ويجد يعني سبحان الله طعماً لذيذاً للحج .
لكن كما قلت لكم إن تعب الناس اليوم مع الاحتساب يزدادون به أجراً؛ لأنه كلما كانت المشقة في العبادة على وجه لا يمكن دفعها صار الأجر أكبر أما إذا كان يمكن دفعها لا مثل ما يفعل بعض الناس مثلاً يكون الجو بارداً والماء بارداً وتقول له سخن الماء قال : لا من الرباط إسباغ الوضوء في السبرات .. الله أكبر ، الله يقول: { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } وإذا أنعم الله عليك فتمتع بنعمه ، نعم الشيء الذي لابد منه يأتي بغير قصد هذا يؤجر الإنسان عليه أما أن يتقصد العذاب فلا.
أيضاً من حِكَم الحج أنه جامع بين العبادة البدنية مع مشقتها والعبادة المالية أحياناً ما هو دائماً ؛ لأن الذين يحجون من مكة لا يتكلفون مالاً ليس عليهم هدي ويأكلون الطعام العادي يأكلونه في مكة في المشاعر ما في كلفة يعني ما في مال زيادة ، لكن نفس المشقة البدنية والتعب القلبي لاشك أن هذا فيه امتحان للعبد ؛ لأن الله عز وجل يمتحن العبد بكثرة المشقات إذا كان صادقاً في إيمانه وإخلاصه ومحبته لملاقاة ربه على وجه يرضيه يتحمل ، والعكس بالعكس ، فلتمام الامتحان جعل الله العبادات الخمس مختلفة: بدنية محضة، ومالية محضة ، ومركبة منهما أحياناً ، ثم العبادة إما فعل وإما ترك ، الصوم ترك المحبوب ، والزكاة بذل المحبوب ، كل هذا ليبتلي الله العبد هل يعبد هواه أو يعبد مولاه ؟ على حسب ما يصدر منه .
ومن منافع الحج أن الناس يتعارفون ويتآلفون ، وإن كان هذا مع الأسف بالنسبة للوقت الحاضر قليل جداً ، وإلا لو اُستُغل هذا المجتمع وهذا الجمع فيما ينفع المسلمين لكان لهذا أثر عظيم ، لكن المشكلة الآن المسلمون لغاتهم مختلفة أم لا ؟ تعجز أن تُعبر بما في نفسك لواحد لا يعرف لغتك لا تستطيع ، كيف توصل معلوماتك إلى هذا ؟ يمكن أن يقال يوصل بالمترجم، المترجم إذا كان بلية إيش نسوي ؟ مشكل ، أُحدثكم عن نفسي أننا نتكلم في مسجد المطار في جدة ، نتكلم كلام يعني غالبه في التوحيد وأركان الإسلام وجاءني رجل وقال : كلامك طيب . ولا أحب أن أقول من أي جهة هو لكن هو من أفريقيا بس ما نقدر نقول شيئاً ، قال : كلامك هذا طيب زين أتأذن لي أن أترجمه ؟ أنا شفت هيئته يعني هيئة إنسان يعني محترم قلت : طيب لا بأس ، فجعلت أتكلم وهو يترجم نهينا ما شاء الله فدخل رجل آخر من الشارع من خارج المسجد فقال لي : ما هذا المترجم الذي عندك ؟ قلت : هذا جزاه الله خيراً تبرع . قال : لا ، إنه يترجم ضد كلامك أنت تقول توحيد وهو يقول شرك . سبحان الله من نصدق هذا الآن ، نصدق الأول أو الثاني ؟ فقلت إذاً خلاص بطلنا الذي بيعرف العربية فالحمد لله ، والذي ما يعرفها هو الذي جنى على نفسه وتركنا الترجمة .
فأقول يعني إن هذا المجتمع العظيم لو كان الناس لهم مترجمون يتصلون بهؤلاء الأجانب ولاسيما الكبراء كالعلماء لكان الخير كثير .
أيضاً يمنع هذه المنفعة العظيمة أن من الناس من هو متعصب لمذهبه سواء فيما يتعلق بالتوحيد أو فيما يتعلق بالأعمال تجده متعصباً جداً لمذهبه ما يقبل ، وهذه مشكلة الآن يعاني منها الناس الدعاة ، يقابل هذا أن من الدعاة من هو صلب جداً جداًَ ، ولا يبالي أن يقول هذا كافر اتركه في نار جهنم، أو يدعو بالحكمة ، ومن الناس من هو لين لكن ليس عنده علم يُغلب. فهي مشكلة .
في مرة من المرات ولا بأس أن نذكر ما نُشنف به آذانكم ، في مرة من المرات جاءنا فريقان وهم أيضاً من الغرب ، جاءنا فريقان يكفر بعضهم بعضاً ، وأتوا إلى مدير رجال التوعية وكلمهم وجاء بهم لي ، إيش عندكم ؟ قال : كل واحد يُكفر الثاني ويلعنه والعياذ بالله . لماذا ؟ واحد منهم إذا قام في الصلاة يُرسل اليدين ، طائفة تُرسل يديها والثانية لا تُرسل تُمسك ، قال : هذا كافر . ليش ؟ قال : النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( من رغب عن سنتي فليس مني )) وهذا رغب عن سنة الرسول . والآخرون قالوا مثله . هذا مشكل ، الجهل ، لكن الحمد لله يعني بعد البحث والمناقشة وقلنا إن هذه المسألة يسيرة لا توجب التكفير حتى لو تركها الإنسان عمداً .
المهم قصدي بهذا إن الناس متعصبون ، فالتعصب هذا مُشكل وإلا لكان الحج مؤتمر عظيم للمسلمين ، قال الله تعالى : { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } لكن الحمد لله أنتم وأمثالكم فيكم بركة ، يمكن تدعون الناس في الحج من قُدر له أن يحج بالتي هي أحسن وباللين وباللطف ، تقصدون بذلك الأجر لنفسكم والأجر لهؤلاء المساكين الذين ليس عندهم من يرشدهم ، ويحصل بهذا خيرٌ كثير والحمد لله .
سؤال : يا شيخ بارك الله فيك ، بالنسبة للدعوة مثلاً في مكة هل يتكلم الإنسان على مناسك الحج أو يخصص الدعوة في التوحيد خاصة ؟
الجواب : أرى أن يُكلم الناس في الحج ، ومناسك الحج فيها التوحيد ، حديث جابر رضي الله عنه ماذا قال ؟ قال : حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك . فيأتي ضمناً لأنك تعرف الآن هناك دعوة سيئة أو دعاية على أن من دعا إلى التوحيد فهو وهابي ، ما يعرفون أن هذا مذهب السلف ، والوهابية عند كثير من عوام المسلمين في الخارج مذهب ممقوت ؛ لأنهم ما يدرون .
سؤال : هل العمرة واجبة على أهل مكة ؟
الجواب : العمرة ظاهر النصوص أنها واجبة على كل أحد ، لكن كثيراً من العلماء يقولون : أهل مكة لا عمرة لهم لأنه لم يُعهد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يخرجون من مكة إلى الحل ويأتون بالعمرة ، والأظهر أنها واجبة على كل أحد .
سؤال : أثابك الله ، يكون عند الإنسان أبناء أو أخوان قد وصلوا لسن البلوغ يريد أن يحج ويؤدي الفرض ، لكن يا شيخ غالباً ما يكون الشباب في هذا العمر بعيدين عن معرفة الحج والإحساس به ولهذا تجد أن أغلبهم يُقلدون من معهم ولهذا إذا كبر الواحد منهم قال أريد أن أحج أنا حججت لكن ما أعرف كيف حججت ذاك العام ، وهذا قريب بما أحسسنا به نحن في أول حجة للإنسان ، فهل نؤخره سنة أو سنتين حتى يرسخ عقل الواحد منهم ويتعلم الحج ويكون حجه هذا بحرص منه ؟
الجواب : والله إنشاء الله هذا لا بأس به لأن هذا تأخير لمصلحة العبادة فأرجوا أن لا يكون به بأس إن شاء الله ، مع أن الأمر كما ذكرت أكثر الناس الآن بالنسبة للحج خاصة ما كأنه عبادة كأنه بس أعمال تُفعل ، ولهذا تجدهم لا يهتمون بمسألة الأذية للغير ولا بمسألة الخشوع ، حتى في مخيماتهم في منى مثلاً لو دخلت عليهم وجدتهم كأنهم في نزهة ، لكن ما ذكرته أرجو أن لا يكون فيه بأس إذا كان التأخير من أجل إيش ؟ من أجل مصلحة العبادة . ثم هناك شيء آخر يخفف الموضوع أن هؤلاء الغالب ما عندهم مال ليس عندهم مال فالحج ليس واجباً عليهم ، ووليهم لا يلزمه أن يحججهم ، فهمت ؟ هذا أيضاً مما يخفف المسألة .
سؤال : يا شيخ بارك الله فيكم ، هل يجب على المرأة أن تبيع من حليها لتدفع نفقة الحج لها ولمحرمها ؟
الجواب : لا .. يقول هل يجب على المرأة أن تبيع من حليها لتحج به؟ نقول لا يجب ، اللهم إلا الزائد الذي لم تجرِ العادة بتجملها به فهو كطالب العلم الذي عنده كتب يحتاجها وعنده كتب أخرى إما مكررة أو لا يحتاجها .
سؤال : عفا الله عنك يا شيخ، هل يجوز للشيخ الكبير الذي أتى للحج ويجد مشقة في الطواف والسعي أن يستنيب من يقوم بأعمال الحج عنه ؟
الجواب : يجب عليه أن يحج بنفسه لأن هذه مشكلة ، الطواف الحمد لله الآن في عربات يركبها الإنسان ويُدف وإن لم يحصل له في الأسفل ففي فوق ، عرفت ؟ وكذلك يقال في السعي ، والرمي يوكل ، وهذا خير من كونه يستنيب في كل النُسك . أما الاستنابة في النفل فهذه موضع شك بالنسبة لي أنا ، وموضع منع في إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ، يقول : النفل ما فيه نيابة لأن النيابة إنما حصلت في الفريضة أما النفل فمن استطاع فليحج ومن لم يستطع فلا ينيب ، أفهمت ؟ ولهذا نرى أن الإنسان الذي يريد أن ينيب أحداً في النافلة أن لا يفعل ، بل يتلمس أحداً من الناس لم يحج الفريضة ويعينه فيها ، ومن أعان غازياً فقد غزا .
سؤال : يقولون خاصة بعد تناقل الفضائيات لصور الحج إلى آخره في العالم فبعض النصارى يثيرون شبهة على المسلمين في بعض الأماكن أنكم تدَّعون التوحيد بينما تطوفون حول حجارة .. إلى آخره ؟
الجواب : الحمد كل إنسان عنده باطل لابد أن يثير شبهة ، نقول : نحن ما طفنا حول الكعبة إلا بأمر الله ، وإذا طفنا بالكعبة وهي أحجار بأمر الله صار هذا غاية العبادة ؛ لأن الغالب أن النفس ما تنقاد إلا لشيء تلمس فائدته حسياً وهذا من الناحية الحسية ما فيه فائدة ، لكن من الناحية المعنوية ومصلحته للقلب والنفس والسلوك أمر واقع ، فنقول لهم نحن لم نطف حول الكعبة ولا بين الصفا والمروة ولا خرجنا للمشاعر إلا بأمر الله ، لكن أنتم أين لكم الأمر من الله ؟ وكذلك نقول للقبوريين ، الآن القبوريون الذين يدعون الإسلام وهم يطوفون على القبور يقولون مثل هذه الشبهة ، الجواب سهل والحمد لله .
سؤال : من ليس عنده استطاعة شرعية كالمرأة التي ليس عندها محرم هل يجب عليها الحج في مالها أو لا ؟
الجواب : لا يجب عليها أبداً لا في مالها ولا في بدنها ، إذا قلنا بأن الاستطاعة الشرعية شرط للوجوب ما ,جب عليها .
السائل : وهل هو الصحيح ؟
الجواب : والله هذا هو الظاهر عندي .
سؤال : أحسن الله إليك ، أمثال هؤلاء الذين يأتون إذا بدأت معهم في مناسك الحج أو الصلاة غالبهم يعني يقبلون بعد ذلك دعوتك للتوحيد ، لكن بعض الدعاة يشددون يقولون إنك إذا بدأت بمناسك الحج قبل التوحيد خالفت منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال : (( ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله )) ؟
الجواب : أحسنت ، هذه شبهة وليست بحجة ، إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن لقوم مشركين يعرفون أنهم على شرك ، لكن هؤلاء القوم الصوفية وما أشبههم يعتقدون أنهم مسلمون على دين ، فكيف نذهب لنهج ما يعتقدون أنه هو الدين ، بينهما فرق ، يعني الكلام لو كنا نريد أن ندعو قوماً مشركين ، ما نقول تعالوا صلوا لأنهم لو صلوا ما نفعهم، لكن نحن ندعوا قوماً يقولون أنهم مسلمون ، فهل نأتي بشيء بارد على قلوبهم يمكنهم أن يحبونه ويألفونه ثم بعد ذلك نتكلم فيما هم عليه من الضلال أو نطب طباً على ما هم عليه مثلاً ؟ في ظني أن هذا أولى أننا نُحدثهم بما يتفق معهم ، واضح ؟ هذا جواب على من ذكر ؟
سؤال : إذا كانت المرأة ليس لها إلا محرماً واحداً ورفض أن يحج معها هل يأثم أو لا يأثم ؟
الجواب : لا .. ما يأثم { ولا تزر وازرة وزر أخرى } يسقط عن المرأة لكن لها مثلاً أن تقريه بالماء لأن نفقته عليها ، فإذا كانت تستطيع تعطيه النفقة ويحج بها .
سؤال : أحسن الله إليك يا شيخ ، إذا حج شخص ووالده ليس راضٍ عنه فهل يحج ؟
الجواب : فريضة أو نافلة ؟
السائل : نافلة .
الجواب : هذه تنبني على مسألة متى تجب طاعة الوالد ، هل تجب في كل شيء أو لا ؟ فنقول إذا نهاه والده عن الحج النافلة إذا كان والده يحتاج إليه فيجب عليه أن لا يحج يبقى عند والده وإذا كان لا يحتاج إليه نظرنا أيضاً ، هل هو يخاف عليه ، على الولد في عرضه أو في شيء آخر ؟ يعني خوفاً حقيقياً لا وهمياً فيجب عليه طاعة أبيه ، أما إذا كان بعض الناس لا يريد أن يذهب والدهم مع الشباب الصالحين ، أو يخاف عليه خوفاً وهمياً فله أن يحج بلا إذن ، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا تجب طاعة الوالدين إلا فيما فيه نفع لهما بدون ضرر للغير ، وهذه قاعدة طيبة ، ما فيه نفع وليس فيه ضرر .
سؤال : يا شيخ أحسن الله إليك ، بعض العوام يرمي الجمرات لكن لا يقيم ذكر الله أحسن الله إليكم ، إنما يرميها باللعن والسب للجمرات يعتقد هذه الجمرات شيطان فيلعنه ويسبه إلى أن ينتهي من الجمرات ؟
الجواب : هذا من الجهل .
السائل : هل ينعقد هذا الرمي ؟
الجواب : الرمي صحيح لأنه حصل رمي الجمرات ، لكن هذه العقيدة باطلة وإلا سمعنا من يرمي ويشتم ويقول أنت الذي فرقت بيني وبين زوجتي وما أشبه ذلك من الكلام السخيف ، ورأيت بعيني قبل الزحام الشديد هذا قبل سنوات رجلاً وامرأة في وسط الحوض حوض جمرة العقبة والناس يرمون الحوض ويرمون الرجل والمرأة ، لكنه صادق وكأني به يقول :
هل أنت إلا إصبع دميتي وفي سبيل الله ما لقيتي
يرمونه وهو ساكت ، سبحان الله .ا.هـ.
ش1 ـ وجه ب :
ذكرنا الشروط والضوابط ، وتكلمنا أيضاً عن الآية الكريمة لكن الحج كغيره من العبادات له شروط وضوابط ، هذه الشروط والموانع هذه دليل على حكمة الله عز وجل في الشرع ، وأن الشرع على أتم نظام وأكمله ، لو كانت المسألة فوضى ما في شروط ولا في موانع لاختلف الناس لكن لابد من شروط تضبط الشرائع والشعائر ، من شروط الحج ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الأحاديث .(4/359)
1ـ بَاب وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )
1417 حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عنهمَا قَالَ كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَشْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.(1)
__________
(1) قوله : ( كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ) الفضل بن عباس أخو عبد الله بن عباس لكن عبد الله أفضل منه وأعلم منه وأنفع منه للأمة ، وأردفه النبي صلى الله عليه وسلم من سيره من مزدلفة إلى منى يوم العيد . وتأمل الحكمة العظيمة في تصرف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، في دفعه من عرفة من أردف ؟ أردف مولى من الموالي ما أردف من كبراء الصحابة ، مولى من الموالي وصغير أيضاً أسامة ، في دفعه من مزدلفة إلى منى أردف الفضل بن عباس رضي الله عنه ، يعني من أصغر آل البيت ما أردف العباس ولا أردف أحد آخر ، ليتبين أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يريد الفخر وإنما هو متواضع حتى إنه حج على جمل رث ، يعني ما هو مفخم مزخرف ، ولا طرد بين يديه ولا إليك إليك ولا ضرب ، هكذا قال الراوي ( لا ضرب ) يعني ما أحد يُضرب حتى يتجاوز الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحد يطرد كوخر وخر .. لا ، ولا إليك إليك ، يمشي مع الناس عليه الصلاة والسلام ، وهذا من تواضعه ، ولذلك امتلأت القلوب بمحبته عليه الصلاة والسلام .
المهم أن الفضل كان ردفه ، جاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه . ظاهر الحديث أن المرأة كاشفة ؛ لأنه ينظر إليها وتنظر إليه ، كونه ينظر إليها معروف ، يعني الرجل كاشف وجهه ويُعرف أن بصره منصرف إلى كذا ، لكن لا يمكن أن نعلم أنها تنظر إليه إلا إذا كانت كاشفة ، وهي لم تكون منتقبة لأن الانتقاب على النساء في الإحرام مُحرم ، إذاً هي كاشفة الوجه تنظر إلى هذا الرجل . وكان الفضل وسيماً يعني جميلاً ، والمرأة مع الرجال كالرجل مع النساء ، النساء تسلب عقول الرجال ( ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم مثلكن ) والمرأة كذلك يتعلق قلبها بالجميل أكثر فهي تنظر إليه وينظر إليها ، فصرف النبي عليه وعلى آله وسلم وجه الفضل إلى الجانب الآخر خوفاً من الفتنة ، فسألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقالت : يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الرحل . وفريضة الله على عباده بالحج متى ؟ السنة التاسعة ، أدركته شيخاً كبيراً ، كلمة شيخ وكبير هنا مترادفتان ، يعني معناهما واحد ، الشيخ يُطلق على كبير السن وعلى واسع العلم وعلى كثير المال وعلى من يُفخم ، فهي استدركت أنها قالت شيخاً ، وقالت : إنه كبير لا يثبت على الراحلة ـ من كبره ـ أفأحج عنه ؟ قال : (( نعم )) وذلك في حجة الوداع .
( افأحج عنه ) هذه المرة أو في المرات الأخرى ؟ في المرات الأخرى ؛ لأنها لم تقل افأجعل حجي له ، بل قالت أفأحج عنه ، يعني حجة أخرى لأنها الآن متلبسة بحجة لها ، قال : (( نعم )) وهذا جواب يغني عن إعادة السؤال ، أي أنه يغني عن قوله نعم حجي ، قال : ( وذلك في حجة الوداع ) حجة الوداع هي في السنة العاشرة من الهجرة ، ولم يحج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد الهجرة حجة سواها ، وسُميت حجة الوداع لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تكلم بكلام يدل على أن هذه آخر حجة حيث كان يقول : (( لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )) فسُميت بحجة الوداع ، أما قبل الهجرة فكان يحج فيما يظهر ، وقد ورد في الترمذي أنه حج مرة واحدة لكن الذي يظهر أنها أكثر ؛ لأنه كان يخرج إلى القبائل في الحج ويدعوهم إلى الله عز وجل .
في هذا الحديث فوائد منها :
جواز الإرداف على الدابة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أردف الفضل . لكن بشرط أن لا يشق هذا عليها أي على الدابة ، فإن شق عليها كان ذلك حراماً ؛ لأنه تعذيب لها .
ومنها : جواز إرداف الأقل شأناً وجاهاً مع وجود من هو أفضل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أردف الفضل مع وجود كبراء أكبر من الفضل .
ومنها : أن صوت المرأة ليس بعورة ؛ لأنها تكلمت وعندها الفضل وربما غيره أيضاً ، لكن نحن ليس أمامنا إلا الفضل ، بل دل القرآن على أن صوتها ليس بعورة في قوله تعالى :{ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } وهذا يدل على أن جواز أصل القول .
ومن فوائد هذا الحديث وجوب إزالة المنكر باليد مع القدرة ، وقد جاء في الحديث أن من لم يقدر باليد فليغير بإيش ؟ باللسان ، فإن لم يستطع فبالقلب . وجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صرف وجه الفضل إلى الشق الآخر .
ومنها جواز كشف المرأة وجهها إذا لم يكن فتنة ؛ لأن المرأة كاشفة ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تغطي الوجه بل صرف وجه الفضل خوفاً من الفتنة ، هكذا استدل من يرى جواز كشف الوجه . والحقيقة أن هذا الحديث من الأحاديث المشكلة والواجب على الإنسان الذي يتقي الله ربه إذا وجدت نصوص مشكلة أن يحملها على الغير مشكل على الواضح ، فإن هذه طريقة الراسخين في العلم ، قال الله عز وجل :{ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } يعني مرجع الكتاب { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } واضح يا جماعة؟ وهذا كما هو في الآيات الكريمة في القرآن الكريم هو أيضاً في الأحاديث توجد أحاديث مشكلة فيجب حملها على الواضح المحكم . والحكمة من أن الله عز وجل يجعل بعض النصوص مشكلة الحكمة الامتحان ليعلم سبحانه وتعالى من يريد الفتنة ممن يريد الحق كما قال عز وجل : { فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } لماذا ؟ لابتغاء يعني طلب ، طلباً للفتنة وطلباً لتأويله أي تنزيله على غير ما أراد الله ، فالله الحكمة عز وجل فيما جعله في نصوص الشريعة حتى يتبين من يريد الحق ممن يريد الفتنة .
على كل حال الحديث هذا فيه شبهة لا شك ، ولكن الغريب أن النووي رحمه الله استدل به تحريم كشف المرأة وجهها ، قال هذا دليل على التحريم لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يمكن الفضل من النظر غليها بل صرفه . لكن يرد على هذا أن يُقال : لماذا لم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغطي وجهها ، لماذا صرف وجه الفضل ولم يأمرها أن تغطي وجهها ؟ فيقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم له أساليب في الدعوة إلى الله عز وجل ، هذه امرأة حاجة كاشفة وجهها لأن النقاب محرم تسأل عن دينها ، فلم يحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يجابهها بتغيير المنكر بل صرف وجه الفضل إلى الوجه الآخر ، وهذا في نظر النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة أهون من أن يُخجل هذه المرأة ويقول غطي وجهك . فإن قال قائل : سلمنا لكم ذلك لكن المرأة ستواجه رجال آخرين ؟ نقول : من قال هذا لا يلزم ، قد تكون امرأة جلدة قوية وتكون في أول الناس فيكون الذي يلي الناس إيش ؟ يكون ظهرها ولا فيه شيء . وعلى كل حال فهذا بلا شك أنه من المتشابه ولكن المتشابه يُرد إلى المحكم .
قال بعض أخواننا من العلماء المعاصرين : إن الفضل ليس ينظر على وجهها إنما ينظر إلى هيئة الجسم وتركيبه ، فيقال : هذا قد يُسلم لكن المشكل أنها هي تنظر إليه ، من الجائز أن الرجل ينظر إلى هيئة جسم المرأة وتركيبه والنساء يختلفن ، أليس كذلك ؟ بعضهن ما شاء الله كأنها سبع ما تحب أن تنظر إليها ، على كل حال هذا المسلم بالنسبة للفضل ، يعني دليل على أنه يمكن أن الفضل رضي الله عنه ينظر إلى جسمها ، لكن المشكل أنها تنظر إليه إيش نقول فيها ؟ ما يمكن أن يتخيل فيقول أنها تنظر إليه من وراء الخمار ، من يعرف حدقة العين من وراء الخمار أنها تنظر إلى جهة ما ؟ فإن ادعوا مثل ذلك قلنا إذاً الخمار لا يغطي خفيف لا يحصل به التغطية .
آخر ما أقول في هذا الحديث أنه من المتشابه والواجب الرجوع إلى المحكم من الأدلة القرآنية والنبوية والنظرية الدالة على وجوب تغطية المرأة وجهها ، ولنا في هذا رسالة صغيرة ، لكنها صغيرة الحجم كبيرة المعنى والحمد لله من أحب أن يرجع إليها فليرجع .
في هذا الحديث من الفوائد أن العاجز عن السعي إلى الحج ببدنه مع قدرته المالية لا يسقط عنه الحج ، لقولها : ( إن فريضة الله على عباده في الحج ) ولو لم يكن فريضة على هذا الشيخ لقال النبي صلى الله عليه وسلم إن أباك ليس عليه حج ، لكنه أقرها على أن الحج فريضة عليه . ولهذا قال العلماء رحمهم الله : إن القدرة البدنية ليست شرطاً للوجوب لكنها شرط للأداء . هل بين الوجوب والأداء فرق ؟ نعم ، إذا قلنا شرط للوجوب معناه أن العاجز ببدنه ولو كان عنده اموال كثيرة لا حج عليه ، وإذا قلنا شرط للأداء قلنا : الذي عنده أموال ولكنه يعجز ببدنه يجب عليه أن ينيب من يحج عنه ولا يجب عليه الأداء لعدم قدرته عليه .
ومن فوائد هذا الحديث : جواز نيابة الإنسان الرجل ، واضح ؟ طيب، فإن قال قائل : هل يجوز أن ينيب غير الفروع فيحج عن من ليس بينه وبينه صلة ؟ الجواب : القول الراجح نعم ، وأنه لا يُشترط لصحة النيابة في الحج أن يكون من فروع المنيب ، دليلها : أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه ذلك بقضاء الدين ، وقضاء الدين يجوز من الفروع ومن غيرهم ، من القريب ومن البعيد . وأما قول من قال إنه لا يصلح من غير فروع الإنسان واستدل بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم )) فقد أبعد النجعة ؛ لأن قول إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم ، يعني فكلوا منه ؛ لأنهم من كسبكم فكسبهم أيضاً كسب لكم ، هذا معنى الحديث . وقد جاء في السنن على غير شرط البخاري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سمع رجلاً يقول : لبيك عن شبرمة ، قال : (( من شبرمة )) يقول له للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، قال : أخ لي أو قريب ، قال : (( أحججت عن نفسك )) قال : لا ، قال : (( حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )) وهذا أخ أو قريب.
ومن فوائد هذا الحديث أن عدم الثبوت على الراحلة عذر لعدم الأداء لقولها : ( لا يثبت على الراحلة ) ، طيب فإن قيل : إذا كان هذا الإنسان إذا ركب في السيارة أُغمي عليه أو صار كالمغمي عليه لكنه يثبت يبقى في مكانه فهل يسقط عنه الحج ؟ فالجواب : نعم لأن الإغماء على الشخص أو شبه الإغماء ليس مجرد أن يصحو الإنسان يذهب عنه كل شيء ، إذا صحا الإنسان من إغمائه فسيتأثر بدنه وينحل ويتعب ويبقى مدة على حسب شبابه وشيخوخته لم يسترد قوته ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } ويوجد أناس بهذه الطريقة من حين ما يركب السيارة وتشغل خلاص ينسى الدنيا على أن يصل إلى البلد ، مثل هذا ما يجب عليه الحج بلا شك ، لا يجب عليه إيش ؟ أداءً .
انتهى الوقت نأخذ خمس دقائق تكون قرضى إن شاء الله إلى الليلة القادمة ، تعرفون القرضى ؟ القرضى إلى الليلة القادمة إن شاء الله يعني بمعنى إن شاء الله نبدأ بالسؤال قبل الدرس إن شاء الله .
سبق حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة المرأة وذكرنا من فوائده أنه يجوز أن تحج المرأة عن الرجل ، وهل يجوز أن يحج الرجل عن المرأة ؟ الجواب : نعم من باب أولى ، ولكن الحج عن العاجز في الفريضة هو ما دل عليه الحديث ولا نزاع في هذا ، لكن الحج عن العاجز في النفل هل يجوز أو لا يجوز ؟ اختلف العلماء في هذا ، منهم من قال إنه جائز قياساً على الفريضة ، ومنهم من قال إنه لا يجوز لأن الأصل أن لا ينوب أحد عن أحد في عبادة ، وإذا كان هذا هو الأصل فإننا نقتصر على ما ورد بعينه ولا نتجاوزه . وهذا عندي أقرب ؛ لأنه مثلاً إذا قلنا بأنه يجوز أن ينوب الإنسان على الحي القادر معناه أنه فوَّتنا على هذا المستنيب فوَّتنا عليه طعم العبادة ، تجد هذا الإنسان ذهب يحج وهذا في لهوه وسهوه ولا كأنه يتعبد ، إذاً ما هي الفائدة ؟ فالقول بالنفي في النفل له وجه قوي . طيب لو كان ميتاً وأردنا أن ننيب عنه أحد في الحج ؟ هذا يجوز لأن الميت لا يستطيع أن يأتي بالحج ببدنه .(4/360)
2ـ بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ( يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) ( فِجَاجًا ) الطُّرُقُ الْوَاسِعَةُ(1)
__________
(1) قال الله تعالى : { يَأْتُوكَ رِجَالاً } جواب لشرط حذفه البخاري رحمه الله وهو قوله : { وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً } جواب الأمر يأتوك جواب للأمر الذي حذفه البخاري رحمه الله ، وجواب الأمر يكون مجذوماً ، إذا كان كذلك فنقول المعنى : أعلم الناس بوجوب الحج وادعهم إلى ذلك يأتوك ، أي الناس ، رجالاً ، يعني ونساءً وحُذف النساء أو إيش ؟ لا .. رجالاً يعني على أرجلهم كما قال الله تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} ، { وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ} يعني ويأتوك على كل ضامر ، أي على كل ناقة ضامر ، الضامر هي التي قبل أكلها لكنها قوية وبطنها قد ضمرت {يَأْتِينَ} أي يقدمن { مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ} أي بعيد ، وهذا هو الذي حصل تجد المسلمين يأتون إلى الحج من أبعد ما يكون ، من أقصى شرق آسيا وكذلك من أفريقيا وغيرها ، لكن تغيرت الوسيلة الآن ، الوسيلة بدل أن يأتوك على كل ضامر ، وعلى كل طائر ، وكان في الأول وعلى كل سفينة . الآن الذي يأتي بالطائرات أضعاف الذين يأتون بالسفن وبالسيارات ، واسأل مطار جدة كيف يأتين ؟ عالم ، طائرات سبحان الله ، الطائرة الواحدة تقول هذه قرية تحمل أربعمائة وخمسين راكب بعفشهم ومتاعهم وكل ما يحتاجون ، أربعمائة وخمسين راكب في سفرة واحدة !! إذاً يأتوك الآن على إيش ؟ على كل طائر ، وهذا من نعمة الله عز وجل . تيسير المواصلات والاتصالات لا شك إنه رحمة من الله عز وجل ، ولكن اعلم أن كل ما في الدنيا لا يمكن أن يكون رحمة من كل وجه بل لا بد أن يكون هناك نواقص لأن الدنيا أصلاً دار دنيا ، دنيا من إيش ؟ من الدنو ما فيها شيء كامل ، وفي هذا يقول الشاعر :
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نُساء ويوم نُسر
هكذا حتى يأخذ الله عز وجل العباد بالبلاء والرهب ، يقول عز وجل : { لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} منافع جمع ، صيغة إيش ؟ صيغة منتهى الجموع يعني منافع كثيرة دينية ودنيوية ، واسأل التجار ماذا يحصلون عليه من الأرباح في مواسم الحج ، لا الذي يقدمون بسلعهم إلى مكة ولا أهل مكة الذين يبيعون على الحجاج . أما المنافع الدينية فلو اُستغل الحج كما ينبغي لوجدت فيه منافع كبرى ، لتعلم الجاهل من العالم وعرف المسلمون بعضهم بعضاً وحصل خير كثير ، أنك تمر بالشارع وفيه مثلاً من أفريقيا ومن آسيا ومن أوروبا ما كأنهم أخوان مسلمين هدفهم واحد ... لا خلوا هذا .. هذا من أوروبا ما علينا منه .. خلي هذا من شرق آسيا ما علينا منه .. غلط هذا، يعني لو أن الناس استعملوا مواسم الحج فيما أراد الله عز وجل لحصل بهذا خير كثير .(4/361)
1418 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِي الله عنهمَا قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ قَائِمَةً.(1)
__________
(1) عندي نسخة : ( فين تستوي به ) هذه مسألة الإهلال ، الإهلال يعني التلبية بالحج ، هل يلبي الإنسان بالحج من حين أن يُحرم ، يعني حين أن يغتسل ويلبس ملابس الإحرام ؟ أو حين أن يصلي ؟ أو إذا استوى على بعيره ؟ في هذا خلاف بين أهل العلم ، منهم من قال إذا استوى على بعيره، ومنهم من قال إذا كان في ذي الحليفة إذا استوى على البيداء ، لن في حديث جابر يقول : ( حتى إذا استوى في راحلته على البيداء أهل بالتوحيد) ومنهم من قال من حين أن يُحرم أو يصلي . والأيسر للإنسان أن يُحرم إذا استوت به ناقته ، إذا استوى على بعيره أو إذا استوى على إيش ؟ على سيارته ، لأن هذا أرفق به إذ قد يطرأ عليه بعد الاغتسال ولبس ثوب الإحرام يطرأ عليه أشياء ممنوعة في الإحرام ويتمنى أنه لم يُحرم ، ولنفرض أنه نسي أن يتطيب وعقد الإحرام من حين أن اغتسل ولبس ثوب الإحرام ونسي أن يتطيب ، الآن يمكن أن يتطيب أو لا ؟ لا يمكن ، ليش ؟ لأنه عقد النية ، لكن لو أخّر التلبية حتى ركب تمكن من ذلك .
ذهب بعض أهل العلم رحمهم الله إلى الجمع بين الثلاث روايات بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أهل حين صلى فأدركه قوم وقالوا أهل دبر الصلاة ، وأهل حين ركب فسمعه قوم فقالوا أهل حين استوى على راحلته ، وأهل على البيداء فأدركه قوم فقالوا : حتى إذا استوت راحلته على البيداء أهل بالتوحيد . فيكون هذا الاختلاف ليس اختلافاً لفعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن اختلاف لمن أدركه من الرواة . وهذا جمع حسن ، لكن كما قلت لكم ... والحديث ورد فيه عن ابن عباس لكنه ضعيف ، يعني هذا الجمع ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أنه ضعيف ، وعلى هذا فالذي أرى أن يُحرم الإنسان بأن يعقد النية إذا استوى على راحلته . في الطائرة مثلاً كيف يحرم ؟ مستوٍ على الراحلة من قبل ، نقول : البس ثياب الإحرام وتأهب حتى إذا قربت من الميقات فأحرم ولا تنتظر حتى تحاذي الميقات لأنك إذا حاذيته فالطائرة في لحظة تبعد عنه فتأهب من قبل ، والاحتياط خير من الفوات ، يعني كونك تحتاط ويقال إنك أحرمت قبل الميقات بخمس دقائق مثلاً أولى من أن يفوتك ولو بدقيقة واحدة
بعض الناس يأتي يسأل يقول إن إحرامه أي ثياب الإحرام الإزار والرداء في الشنطة مع العفش ولا يتمكن منه وهو في الطائرة فماذا يصنع؟ بعض الناس يقول خلاص إذا وصلت إلى جدة نزلت واشتريت إحرام وأحرمت . وعلى القول بوجوب الإحرام من الميقات يكون هذا الرجل ترك واجباً فيلزمه دم يذبح في مكة ويوزع على فقرائها ، لكن نقول لست محتاجاً إلى هذا ، اخلع القميص ويبقى عندك السروال إذا كان عليك سروال ، السروال عند فقد الإزار جائز ما فيه شيء وقميصك الذي عليك اجعله رداءك ، إذا كان عليك غترة يمكن إذا كانت الغترة يعني ثخينة أن تجعلها إزاراً وأن تجعل القميص رداءك ولا فيها الحمد لله يعني ما فيه حرج ولا فيه إشكال ، لكن أكثر الناس جهال ما يعرفون كيف يتصرفون .
وهل يُسن للإحرام صلاة بمعنى أنك إذا أردت أن تُحرم فصلي ثم أحرم ؟ في هذا خلاف بين العلماء ، منهم من قال : إن الإحرام له صلاة مخصوصة يسن للإنسان أن يصلي أولاً ثم يحرم ثانياً بعد الصلاة . واستدلوا بما أخرجه النسائي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أهل دبر صلاة . لكن الحديث لا دليل فيه لأن دبر صلاة أي صلاة هي ؟ قد تكون فريضة وهي كذلك هي فريضة ، والراجح أنه ليس للإحرام صلاة تخصه لكن إن كان في وقت نافلة كما لو كان في الضحى صلي ركعتين للضحى ثم أحرم ، إن صلى من أجل سنة الوضوء صلى سنة الوضوء ثم أحرم هذه حيلة لا شك ، لكن هل نقول إن هذه الحيلة مشروعة أم نقول ما دام أن الرجل ليس من عادته أن يصلي الضحى وصلى الضحى الآن لأجل الإحرام إذاً جعلنا للإحرام صلاة تخصه ، كذلك ليس من عادته أن يصلي ركعتين بعد الوضوء وصلى معناه الذي حمله على الصلاة هو الإحرام ، لكن مع ذلك أقول لعل هذه الصلاة ينفعه الله بها أنه ما دام وجد سبب شرعي لهذه الصلاة وهو الوضوء أو الضحى فليفعل إن كان هذا نافعاً نفعه وإن لم يكن نافعاً فإنه لا يضره .(4/362)
1419 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ أنه سَمِعَ عَطَاءً يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِي الله عنهمَا أَنَّ إِهْلالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله عنهمْ(1)
__________
(1) هذا حديث جابر ، يقول : ( أن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته ) على إيش ؟ في صحيح مسلم ( على البيداء ) ولم يذكر ( حين استوى على راحلته ) وبينهما فرق (استوى على راحلته ) يعني استقر عليها وقامت ، استوت به الراحلة يعني هي التي استوت وعلت على البيداء . ماذا قال الشارح ؟
تعليق من فتح الباري :
ثم ذكر المصنف حديث ابن عمر في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته وحديث جابر نحوه، وسيأتي الكلام عليه بعد أبواب وغرضه منه الرد على من زعم أن الحج ماشياً أفضل لتقديمه في الذكر عن الراكب ، فبين أنه لو كان أفضل لفعله النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أنه لم يُحرم حتى استوت به راحلته، ذكر ذلك ابن المنير في الحاشية، وقال غيره : مناسبة الحديث للآية أن ذا الحليفة فج عميق والركوب مناسب لقوله : { وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ } وقال الإسماعيلي : ليس في الحديثين شيء مما ترجم الباب به. ورُد بأن فيهما الإشارة إلى أن الركوب أفضل فيؤخذ منه جواز المشي .
الشيخ : على كل حال سمعتم الحديث هذا ، والأقرب أنه إذا استوى على راحلته .
سؤال : عفا الله عنك يا شيخ ، البيداء نحن نستعملها إذا كانت الأرض مستوية وصارت واسعة نقول لها بيداء ؟
الجواب : بيداء ولكن إذا صارت مرتفعة قليلاً ؟ نقرن بين لغتكم ولغة العرب ، طيب تُراجع .
سؤال : إذا كان في الطائرة ليس معه إحرام هل نقول : على وجه الوجوب إن كان عالماً أن يلبس الإزار من الغترة أو مثل ذلك ؟
الجواب : إي .. إذا كان يريد الإحرام يجب .
سؤال : ما يتأثر الإنسان نفسياً إذا نزل أمام الناس بسروال؟
الجواب : أبداً الناس بارك الله فيك في الإحرام الحمد لله نفوسهم مطمئنة .
السائل : أقول حقيقة هذه إذا نزل أمام الناس بسروال مثلاً لعل يصير شيء في صدره مثلاً ؟
الجواب : لا .. ما فيه شيء .
السائل : الحقيقة هذا الموقف صعب ؟
الجواب : أبداً ما هو صعب ، جربنا هذا ، لكن ما هو على هذا الوجه بالضبط ، الإنسان يمشي بإزار فقط .. عليه السروال ولفه على أعلى صدره .
السائل : ..............؟
الجواب : يعني يبقى على سرواله ؟ ما أظنه يقوله .
سؤال : ............؟
الجواب : لا ما هي مسألة فدية ، لكن إذا قلنا يحظر ما معناه إن الواحد يخير بين فعل المحظور والفدية ... والله الناس يختلفون ، ما أظن إذا وضع إحرامه وجاء من الطيارة ومطلع ، لاسيما إذا كان ذا هيئة ، لأنه معلوم أن ذا الهيئة ما يمكن أن يفعل هذا إلا إنه محرم .
سؤال : يا شيخ ، من لبس الإحرام وانتظر للميقات وسائق الطيارة مر بالميقات ولم يخبره وهو بنيته ولابس الإحرام ؟
الجواب : يحرم من حين بلغه ذلك وتكون الفدية على الطيار ما لم ينو الدخول في النسك .
السائل : ما نوى الدخول في النسك إلا بعد ما فات على الميقات ؟
الجواب : لماذا ما يحتاط ؟ لماذا ما يتعلم ؟
السائل : يقولون إنها تقديرية في هذه الطيارات ، النية ؟
الجواب : والله أما الذي يذهب من القصيم يرى المدينة من تحته .
على كل حال المسألة هذه إيجاب الهدي في ترك الواجب ، أصلاً فيها شيء، في النفس منها شيء ، أنا أرى أن يحتاط فإن كانت واجبة فقد أدى ما عليه وإلا فهي تطوع .(4/363)
3 ـ بَاب الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ
وَقَالَ أَبَانُ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَالرَّحْمَنِ فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ وَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله عنه شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ .
1420 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ.
1421 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ فَقَالَ يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ فَاعْتَمَرَتْ.
4 ـ بَاب فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ(4/364)
1422 حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنه قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ(1)
1423 حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ أَخْبَرَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلا نُجَاهِدُ قَالَ لا لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ(2)
__________
(1) يوجد انقطاع في الشرح من بداية (بَاب الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ) حتى نهاية هذا الحديث من (بَاب فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ) .
(2) قوله : (( أفضل الجهاد حج مبرور )) هل المراد أفضل الجهاد بالنسبة للنساء أو عموماً ؟ أفضله بالنسبة للنساء إي نعم ، ولهذا جاء في حديث آخر قال : (( عليكن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة )) ماذا في الشرح ؟
تعليق من فتح الباري :
قال : ( نرى الجهاد أفضل العمل ) وهو بفتح النون أي نعتقد ونعلم وذلك لكثرة ما يسمع من فضائله في الكتاب والسنة وقد رواه جرير عن صهيب عند النسائي بلفظ : ( فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل من الجهاد ) قوله : ( لكن أفضل الجهاد ) اُختلف في ضبط ( لكن ) فالأكثر بضم الكاف خطاب للنسوة . قال القابسي : وهو الذي تميل إليه نفسي . وفي رواية الحموي ( لكن ) بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها بلفظ الاستدراك والأول أكثر فائدة لأنه يشتمل على إثبات فضل الحج وعلى جواب سؤالها عن الجهاد وسماه جهادا لما فيه من مجاهدة النفس وسيأتي بقية الكلام في أواخر كتاب الحج في باب حج النساء إن شاء الله والمحتاج إليه هنا كونه جعل الحج أفضل الجهاد .
الشيخ : الحج المبرور جهاد بالنسبة للنساء ، ( لكِن ) في هذه الرواية التي أشرنا إليها ( لكُن أفضل الجهاد ) .(4/365)
1424 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ أَبُو الْحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ(1)
__________
(1) من حج لله ) اللام هذه للإخلاص يعني حجا قصد به وجه الله عز وجل ( فلم يرفث ) أي لم يباشر ، كما قال عز وجل : { فَلاَ رَفَثَ } والمراد به الجماع ومقدماته ( ولم يفسق ) أي لم يعص الله سواء كانت المعصية فيما بينه وبين ربه أو فيما بينه وبين الخلق ، فإذا اجتمع الإخلاص واجتناب المحرمات الخاصة بالإحرام وهو إيش ؟ الرفث ، فحينئذ يرجع (كيوم ولدته أمه ) يوم : بالفتح أو بالكسر ؟ أنا مشكولة عندي بالكسر والأفصح الفتح ( كيومَ ولدته أمه ) لأن ( يوم ) وشبهها إذا أُضيفت إلى مبني فالأولى بنائها على الفتح ، ( كيوم ولدته أمه ) يعني ليس عليه ذنوب كما أن الجنين إذا ولد ليس عليه ذنوب فكذلك هذا ، وظاهر الحديث الكبائر والصغائر وهذه مسألة اختلف فيها العلماء هل الأحاديث المطلقة هذه تشمل الكبائر والصغائر أو يُقال أنها مقيدة بما إذا اجتُنبت الكبائر ؟ هذا الأخير أنها مقيدة ، وهو رأي الجمهور . وقالوا : إذا كانت الصلوات الخمس والجمعة على الجمعة لا تُكفر إلا باجتناب الكبائر مع أنها أفضل من الحج فالحج من باب أولى .
سؤال : أراد الحج وصار بلا مال قبل الإحرام سُرق ما عنده من المال فلم يستطع الحج ، هل يُكتب له أجر الحج ، وهل تسقط عنه هذه الفريضة إذا لم يجد مالاً ؟
الجواب : أما يكتب له أجر الحج فهذا مردود إلى الله عز وجل ، لقوله تعالى : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ } وأما سقوط الحج عنه فهو يسقط عنه هذه السنة لأنه ليس عنده مال ، فإن أتى الله له بمال وجب عليه أن يحج .
سؤال : وصف الحج بأنه أحد الجهادين هل يُفسر بأنه عام للنساء والرجال ؟
الجواب : هو لا شك أن الحج نوع من الجهاد ، ولهذا قال الله تعالى : {وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ثم قال: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وذهب بعض أهل العلم إلى جواز إعطاء الزكاة فقيراً لم يحج وقالوا : إن هذا من الجهاد في سبيل الله.
تعليق من العيني:
قوله ( لكن ) في رواية الأكثرين بضم الكاف والنون لجماعة النساء خطاباً لهن ، وقال القابسي : هذا هو الذي تميل إليه نفسي. وفي رواية الحموي (لكن) بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها بلفظ الاستدراك قلت : فعلى هذه الرواية اسم ( لكن ) هو قوله ( أفضل الجهاد ) بالنصب ، وخبرها هو قوله ( حج مبرور ) والمستدرك منه مستفاد من السياق تقديره : ليس لكُن الجهاد ولكن أفضل الجهاد في حققن .
الشيخ : يعني يريد أن يقول لا لكن ، هذا بعيد ، تحريف ، قال ( لا ) يعني ليس عليكن جهاد ، ثم قال ( لكُن أفضل الجهاد حج مبرور ) ويكون على هذا التقدير ( لكُن ) خبر مقدم و ( أفضل الجهاد) مبتدأ مؤخر و ( حج مبرور ) خبر مبتدأ محذوف والتقدير : هو حج مبرور .
تعليق :
وتقديره : ليس لكُن جهاد ولكن أفضل الجهاد في حقكن حج مبرور ، وعلى الرواية الأولى ( أفضل الجهاد ) مرفوع على الابتداء وخبره هو قوله : ( لكن ) تقديره : أفضل الجهاد لكُن حج مبرور . وفي لفظ النسائي: ( ألا نخرج لنجاهد معك فإني لا أرى في القرآن العظيم أفضل من الجهاد ، فقال : لكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت حج مبرور) . وفي رواية ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها : قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة . وعنده أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها : قال النبي صلى الله عليه وسلم : الحج جهاد كل ضعيف . وفي رواية النسائي رحمه الله بسند لا بأس به عن أبي هريرة رضي الله عنه : جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة الحج والعمرة . وإنما قيل للحج جهاد لأنه يجاهد في نفسه بالكف عن شهواتها والشيطان ودفع المشركين عن البيت باجتماع المسلمين إليه من كل ناحية.
الشيخ : وفيه مشقة بدنية ومشقة مالية فهو يشبه الجهاد .(4/366)
5 ـ بَاب فَرْضِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
1425 حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَتَى عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِي الله عنهمَا فِي مَنْزِلِهِ وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ فَسَأَلْتُهُ مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ قَالَ فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَلأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ(1)
__________
(1) هذا لفظ نادر مهم ( فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجد قرناً ) وإلا هي في روايات كثيرة : (يُهلُ أهل المدينة من ذي الحليفة) قال العلماء : ( يُهلُ ) خبر بمعنى الأمر ، وهذا اللفظ الذي معنا صريح بأن الإهلال من هذه المواقيت فرض ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجد قرن ) قرن : هذا يسمى قرن المنازل والآن يسمى السيل الكبير (ولأهل المدينة ذا الحليفة) ذا الحليفة : هي المكان المعروف الآن ، وسُميت بذلك لأن فيها حلفا شجر معروف كثير فسمي ذا الحليفة ، الآن يُسمى أديار علي ، ثالثاً ( ولأهل الشام الجحفة ) الجحفة : قرية مشهورة معروفة وقتها النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الشام ولكنها خربت ودمرت وصار الناس يحرمون من رابغ بدلاً عنها ، ورابغ أبعد منها يسيراً عن مكة ، فمن أحرم من رابغ فقد أحرم من الجحفة وزيادة .
هذه المواقيت وقتها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تُفتح الشام وهذا يدل على أن الشام ستُفتح وسوف يحج أهلها ، ولهذا أشار ابن عبد القوي رحمه الله في ( داليته الفقهية ) منظومة كبيرة بأن تعيينها من معجزات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنه عينها قبل أن تُفتح هذه البلاد .
سؤال : أحسن الله إليك يا شيخ ، الجحفة هي التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم بانتقال حمى المدينة إليها ؟
الجواب : نعم ....
السائل : هل كان قبل التعيين أم بعده ؟
الجواب : الظاهر إنه قبل ؛ لأن المدينة انتقلت الحمى منها في وقت قصير .
السائل : من حج وحدث منه فسق أو عصيان ماذا عليه حتى يطهر حجه ؟
الجواب : عليه التوبة ، وإذا كان الفسوق فيما يتعلق بمحظورات الإحرام فعليه ما في المحظورات من واجب كالجزاء في الصيد والفدية في حلق الرأس وما أشبه ذلك .
سؤال : كيف يكون من الزاد التقوى يا شيخ ؟
الجواب : نعم هي زاد ، خير اللباس لباس التقوى ، وخير الزاد زاد التقوى . الزاد لباس الباطن واللباس لباس الظاهر .(4/367)
الشريط الثاني ـ وجه أ :
6 ـ بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى )
1426 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عنهمَا قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلا .
7 ـ بَاب مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ(4/368)
1427 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ(1)
__________
(1) ظاهر كلام البخاري رحمه الله أن أهل مكة يهلون من مكة للحج والعمرة ؛ لأنه ذكر الترجمة ثم ساق الحديث حتى أهل مكة من مكة ، ولكن هذا فيه نظر فإن أهل مكة لا يمكن أن يحرموا من مكة ؛ لأنهم إذا أحرموا من مكة لن يعدو عملهم هذا إلا أن يكونوا طافوا وسعوا بدون نسك ، والعمرة مأخوذة من الزيارة والإنسان الذي في بلده لا يُقال أنه زائر ولهذا لما أرادت عائشة أن تُحرم بعمرة أمرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تخرج إلى التنعيم مع أن ذلك كان في الليل وكان فيه شيء من المشقة ، ولم يقل أحرمي من مكانك من المحصب ، وهذا دليل على أنه لا عمرة من مكة وإنما من أراد العمرة يخرج إلى الحل ويُحرم من الحل .
وقوله : ( ممن أراد الحج والعمرة ) فيه دليل على أن من يُرد الحج والعمرة لم يلزمه أن يُهل من هذه المواقيت ، مثل أن يذهب إلى مكة لتجارة أو لزيارة قريب أو لعياذة مريض أو ما أشبه ذلك فهذا لا يلزمه الإحرام من الميقات؛ لأنه لم يُرد الحج والعمرة . فإن قال قائل وهل يلزمه أن يريد الحج والعمرة؟ قلنا الجواب إن كان قد أدى الفريضة لم تلزمه إرادة الحج والعمرة الدليل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( الحج مرة فما زاد فهو تطوع )) فإن كان لم يؤد الفريضة وجب أن يُحرم وإن أدى الفريضة فالإحرام سنة . لا شك أنه ينبغي للإنسان أن يدخل إلى مكة بإحرام .
سؤال : أشكل عليّ الرواية المرسلة ، هل قصد البخاري ترجيح الموصول أو المرسل ؟
الجواب : لا .. المرسل ، لكن أراد أن يرجح المرفوع المتصل يعني، لكن أراد أن يبين أن الرواة اختلفوا فيه .
سؤال : الجحفة الآن يبدو لي أن فيها مسجد فهل نأمر الناس ألا يحرموا إلا منها؟
الجواب : هذا يرجع إلى وزارة الشؤون الإسلامية ليس لي .
السائل : ألا يرجع إلى الحال ؟
الجواب : هذا يرجع إليهم .
سؤال: بارك الله فيك، هل يقال إن الذين يخرجون للحج والعمرة على أن قصده أن لا يخرجون للميقات الأفاقي أنه ذكر أولاً الأفاقين ثم أعقبهم بأهل مكة، ما يحمل البخاري على أنهم لا يلزمون بالخروج إلى المواقيت؟
الجواب : الحديث صريح (( حتى أهل مكة من مكة )) لو لم تكن هذه الجملة لقلنا أنه أراد بذلك أن من كان دون المواقيت فمن حيث أنشأ .(4/369)
8 ـ بَاب مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلا يُهِلُّوا قَبْلَ ذِي الْحُلَيْفَةِ
1428 حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي الله عنهمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ قَالَ عَبْدُاللَّهِ وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ(1)
__________
(1) ميقات أهل المدينة ذي الحليفة وهي مكان معروف ، وسُميت بهذا لكثرة هذه الشجرة فيها وهي شجرة الحلفاء . وقول البخاري رحمه الله : (ولا يُهلوا قبل ذي الحليفة) كأنه يميل إلى الكراهة أو التحريم أي تحريم الإهلال قبل الميقات ، وذلك لأن الإنسان إذا أهل قبل الميقات فهو الذي يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين أي تقدم على حدود الرسول عليه الصلاة والسلام . ولا شك أن الأفضل ألا يُحرم إلا من الميقات وأن أدنى ما نقول في الإحرام قبل الميقات أنه مكروه ، لكن إذا كان الإنسان يُحرم قبل الميقات احتياطاً فلا حرج ، وهذا يحتاج الإنسان إليه فيما إذا كان راكباً في الطائرة فإنه لو أخّر إحرامه حتى يحاذي الميقات فالطائرة سريعة ربما تتجاوز الميقات قبل أن ينوي ، وربما يأخذه النوم فيفوته الإحرام من الميقات ، فمثل هذا لا بأس أن يُحرم قبل محاذاة الميقات لدعاء الحاجة لذلك.
وقوله : ( يُهل أهل المدينة ) خبر بمعنى الأمر ، وقد ورد صريحاً في حديث ابن عمر الأمر في الإهلال من هذه المواقيت ( وأهل الشام من الجحفة ) الجحفة : قرية كانت قديمة ومسكونة ، ولما دعا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن ينقل الله حمى المدينة إلى الجحفة ونزلت الحمى فيها نزح عنها أهلها وجعل الناس بدلاً من الجحفة رابغاً ، ورابغ أبعد قليلاً من الجحفة عن مكة ، فمن أحرم من رابغ فقد أحرم من الجحفة وزيادة . والآن عُمرت الجحفة وجُعل لها خط مسفلت يذهب الناس إليها ، فمن أحرم من الجحفة فقد أحرم من الميقات الأصلي .
الثالث : قال ( وأهل نجد من قرن ) يعني يحرم الناس من قرن أي قرن المنازل ، ويُسمى الآن السيل ، وهو معروف يُحرم منه أهل نجد .
والرابع : ( قال عبد الله وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يهل أهل اليمن من يلملم ) وهو مكان أو جبل أو وادي معروف في طريق اليمن ويُسمى السعدية . وكلها والحمد لله معروفة الآن وعينها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تُفتح بعض البلاد التي عُينت لها إشارة إلى أن هذه البلاد سوف تُفتح . ولهذا قال ابن عبد القوي رحمه الله في منظومته الفقهية ، قال : وتعيينها ـ أو قال ـ
وتحديدها من معجزات نبينا لتعيينها من قبل فتح المعدد
يعني أنه من آيات الرسول عليه الصلاة والسلام أنه عيَّن هذه الأماكن لأهل هذه البلاد مع أنها لم تُفتح إشارة إلى أنها سوف تُفتح وسوف يحجون. هذه المواقيت لم يبين فيها هل هي لأهلها مُطلقاً أو لأهلها ومن مر عليهم في حديث ابن عمر ، لكن في حديث ابن عباس الآتي ما يدل على ذلك .
تعليق من فتح الباري ج: 3 ص: 387 :
قوله : ( باب ميقات أهل المدينة ولا يهلون قبل ذي الحليفة ) قد تقدمت الإشارة إلى هذا في باب فرض المواقيت واستنبط المصنف من إيراد الخبر بصيغة الخبر مع إرادة الأمر تعين ذلك ، وأيضا فلم ينقل عن أحد ممن حج مع النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرم قبل ذي الحليفة ولولا تعين الميقات لبادروا إليه لأنه يكون أشق فيكون أكثر أجرا ، وقد تقدم شرح المتن في الذي قبله .
سؤال : أشكل عليّ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن تُنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة ، مع أن المشروع الدعاء بالعافية المُطلقة ؟
الجواب : الله أعلم بما أراد الرسول ، بعض العلماء يقول : إن أهلها كانوا كفاراً . ولكن حتى هذا الدعاء ما هو مطلوب ، فيُقال هذا أمر لا نعلم علته والله أعلم بما أراد الرسول .
سؤال : أحسن الله إليكم ، إذا أحرم بالطائرة وهو لا يدري هل هو تجاوز الميقات أم لا ، يعني في شك ؟
الجواب : الأصل هو عدم التجاوز لكن لماذا لا يحتاط ويحرم مبكراً حتى ولو تقدم خمس دقائق ما يضر ما دام احتياطاً .
سؤال : ما العلة في امتناع بعض أهل العلم عن تسمية ذا الحليفة أبيار علي ؟
الجواب : بقي شيء أهم من سؤالك وهو كيف كان هذا التفاوت بين المواقيت ؟ أو التفاوت العظيم بين ذي الحليفة وبقية المواقيت ؟ والعلة والله أعلم أن تتقارب خصائص الحرمين ؛ لأن الإحرام من خصائص أي الحرمين ؟ حرم مكة ، وذو الحليفة قريبة من خصائص حرم المدينة ، فالظاهر والله أعلم أنه صار بعيداً عن مكة ليكون قريباً من المدينة فتكون خصائص الحرمين متقاربة ، أما بقية المواقيت فهي متقاربة ، يعني إن اختلفت تختلف ساعات .
وأما تسميتها بأبيار علي فقد قيل إن علي بن أبي طالب حفر أبياراً هناك فسُميت به كما سُمي التنعيم مساجد عائشة مع أنها لم تبني مسجداً هناك لكنها أحرمت من هناك فسميت مساجد عائشة .
سؤال : ما في بأس إذا نقل هذا الاسم ؟
الجواب : التسمية عرفية ما فيها شيء ، لكن بالنسبة لطلبة العلم ينبغي لهم أن يبينوا المواقيت بالألقاب التي وردت .(4/370)
9 ـ بَاب مُهَلِّ أَهْلِ الشَّامِ
1429 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عنهمَا قَالَ : وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَكَذَاكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا(1)
__________
(1) هذا الحديث فيه زيادة عن ما سبق وهو التصريح بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقت لأهل اليمن يلملم ، وفيه أيضاً مما زاد أن هذه المواقيت لأهل هذه البلدان ولمن أتى عليهن من غير أهل هذه البلدان ، ولا يخفى أن في هذا تيسيراً على المُكلف ، وإلا لقلنا أن المدني إذا جاء من طريق نجد وجب عليه أن يذهب إلى ذي الحليفة ولقلنا إذا جاء من نجد أحد ماراً بذي الحليفة وجب عليه أن يُحرم من قرن ، وفي هذا لا شك مشقة ، ولذلك كان من أتى على هذه المواقيت من غير أهل هذه البلاد يُحرم منها تيسيراً على المُكلف .
ولكن هل إحرامه منها رخصة أو عزيمة ؟ أكثر العلماء على أنها عزيمة وأنه لا يجوز أن يتجاوز الميقات إلا مُحرماً وإن لم يكن من أهلها ، وهذا هو ظاهر الحديث . وقيل إنه رخصة وأن الإنسان لو أخّر الإحرام إلى ميقاته الأصلي فلا حرج . وهذا مذهب مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . وينبني على هذا مسألة مهمة وهي أن الإنسان لو ذهب في الطائرة من القصيم يريد الحج أو العمرة ، ثم لم يُحرم من محاذات ذي الحليفة حتى وصل إلى جدة ، فعلى قول من يقول إن التوقيت لمن مر عليهن من غير عزيمة نقول : إذا أردت أن تُحرم الآن ترجع إلى ذي الحليفة ، وعلى قول من يقول إنها رخصة وأنه يجوز أن لا يحرم من الميقات الأصلي نقول اذهب إلى قرن ، وهذا فرق واضح . ولكن ظاهر النص أنه فرض وليس برخصة أن من مر بهذه المواقيت وهو يريد الحج أو العمرة لابد أن يُحرم .
ومن فوائد هذا الحديث أنه لا يلزم كل من مر بهذه المواقيت أن يُحرم منها إذا كان لا يريد الحج أو العمرة ، لقوله : ( ممن يريد الحج أو العمرة) فإذا قال قائل : كلمة ( ممن يريد ) لا تدل على عدم الوجوب إذا دل النص على الوجوب لأنك تقول للشخص : إذا أردت أن تُصلي فتوضأ . هل نقول إن الصلاة تحت الإرادة إن شاء صلى وإن شاء لم يصلي ؟ لا .. فالجواب : أن نقول لا دليل على وجوب تكرار الحج والعمرة بل الدليل يدل على أنه مرة واحدة ، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قال : (( إن الله فرض عليكم الحج )) قام الأقرع بن حابس ، وقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ قال : (( الحج مرة فما زاد فهو تطوع )) وهذا نص صريح ، وعلى هذا فلا نُلزم عباد الله بما لم يلزمهم ، فمن ذهب على مكة لتجارة أو طلب علم أو زيارة مريض أو عيادة مريض أو أي شغل وهو قد أدى الفريضة فإن شاء أحرم وإن شاء لم يُحرم سواء طال عهده بمكة أو قصر .
وأما قول العوام إذا كان بينه وبين نسكه الأول أكثر من أربعين يوماً وجب عليه أن يُحرم وما كان دون ذلك فلا يجب . فلا أصل له ، الصواب الذي تطمئن إليه النفس هو أن من أدى الفريضة فإنه لا يلزمه أن يُحرم ولو مر بالمواقيت ، والحديث هنا صريح : ( لمن يريد الحج والعمرة ) والواو هنا بمعنى أو ، يعني أو العمرة ، وليس المعنى ممن يريد القران ؛ لأنه لو أخذنا بظاهرها لكان المعنى ممن يريدهما جميعاً ، وليس كذلك بل من يريد الحج أو العمرة .
ومن فوائد هذا الحديث أن من كان دون المواقيت ، يعني أقرب إلى مكة من المواقيت فإنه يُحرم من مكانه ولا يلزمه أن يذهب إلى الميقات ، وهذا من التيسير ، ومثل ذلك من تجاوز الميقات لا يريد الحج ولا العمرة ثم بدا له بعد ذلك أن يحج ويعتمر ، نقول أحرم من حيث بدا لك ، لأنه في بعض روايات الحديث : (( فمن حيث أنشأ )) ومعلوم أن الإنسان قبل النية لم يُنشئ ، فإذا قُدر أن شخصاً تجاوز الميقات ميقات ذي الحليفة حتى وصل إلى جدة وهو لا يريد الحج ولا العمرة ، ثم بدا له أن يحج أو يعتمر فإنه يحرم من إيش ؟ من مكانه من حيث أنشأ .
فإذا قال قائل : إذا مر الإنسان بهذه المواقيت يريد أهله وهو عازم على أن يحج عامه أو يعتمر ؟ مثاله : رجل من أهل جدة مر بذي الحليفة في شعبان وهو يريد أن يعتمر في رمضان ، هل يلزمه أن يُحرم أو لا يلزمه ؟ فالجواب : لا يلزمه ؛ لأن الرجل ذهب إلى أهله لكنه ناوٍ أن يعتمر في رمضان ، وكذلك لو كان بعد رمضان ذهب إلى أهله وهو يريد أن يحج هذا العام لا يلزمه أن يُحرم ؛ لأنه يريد أهله وإذا جاء وقت الحج أحرم به .
ومن فوائد هذا الحديث أن ظاهره أن أهل مكة يُحرمون بالعمرة من مكة ، وقد أخذ به بعض العلماء ، ولكنه قول ضعيف والصواب أنه لابد أن يخرج أهل مكة إلى أدنى الحل ، إما عرفة أو التنعيم أو من الجهة الغربية . المهم لابد أن يخرجوا إلى الحل ، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر عائشة أن تخرج إلى التنعيم ولم يأذن لها أن تُحرم من مكة . فإذا قال قائل ـ وقد قيل ـ : إن عائشة آفاقية . قلنا لا فرق بين الآفاقي وغيره ، والدليل على هذا أن الصحابة الذين حلوا من عمرتهم من أين أحرموا بالحج ؟ من مكة ، ولم يقل لهم الرسول عليه الصلاة والسلام أنتم لستم من أهل مكة فاخرجوا إلى التنعيم ، ثم ما معنى العمرة ؟ العمرة هي الزيارة ، وإذا كانت هي الزيارة فلا بد أن يكون الزائر من غير بيت المزور ، فإذا كنت تريد أن تعتمر والعمرة محلها الحرم فلا بد أن تأتي من خارج الحرم .
فإذا قال قائل : إذاً كيف تقولون إن أهل مكة يحرمون بالحج من مكة؟ قلنا : نقول هذا لأنهم سوف يقدمون من الحل للطواف والسعي ، أين الحل ؟ عرفة . فلا ينتقد هذا التعليل . والصواب عندي المتعين أنه لا يجوز لأحد في مكة أن يُحرم بالعمرة من مكة ؛ لأن حقيقته إذا أحرم من مكة حقيقته أنه طاف وسعى وقصر فقط ولم يأت بعمرة .
ومن فوائد هذا الحديث قوله : ( أهل مكة ) هل يقاس على أهل مكة من كان من غير أهل مكة ولكنه في مكة ؟ الجواب : نعم ، بل هذا لا قياس فيه في الواقع ، جاء به النص ، فإن الصحابة الذين حلوا من عمرتهم في حجة الوداع كلهم أحرم من أين ؟ من الأبطح في مكة .(4/371)
10 ـ بَاب مُهَل أَهْل نَجْدٍ
1430 حَدَّثَنَا عَليٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالمٍ عَنْ أَبِيهِ وَقَّتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَال أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالمِ بْنِ عَبْدِاللهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِي الله عَنْهم سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ يَقُول مُهَل أَهْل المَدِينَةِ ذُو الحُليْفَةِ وَمُهَل أَهْل الشَّامِ مَهْيَعَةُ وَهِيَ الجُحْفَةُ وَأَهْل نَجْدٍ قَرْنٌ قَال ابْنُ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وَسَلمَ قَال وَلمْ أَسْمَعْهُ وَمُهَل أَهْل اليَمَنِ يَلمْلمُ(1)
11 ـ بَاب مُهَل مَنْ كَانَ دُونَ المَوَاقِيتِ
__________
(1) سبق هذا ، يعني الحديث اختلف في اللفظ فقط وإلا المعنى واحد وروى ابن عمر رضي الله عنه أنه نسب توقيت يلملم لأهل اليمن إلى شخص آخر بلغه بذلك . وهذا كقوله في سنة الفجر لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الرواتب التي ذكرها ، قال : وحدثتني حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الفجر ركعتين خفيفتين وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها .(4/372)
1431 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وَسَلمَ وَقَّتَ لأَهْل المَدِينَةِ ذَا الحُليْفَةِ وَلأَهْل الشَّامِ الجُحْفَةَ وَلأَهْل اليَمَنِ يَلمْلمَ وَلأَهْل نَجْدٍ قَرْنًا فَهُنَّ لهُنَّ وَلمَنْ أَتَى عَليْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلهِنَّ مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلهِ حَتَّى إِنَّ أَهْل مَكَّةَ يُهِلونَ مِنْهَا(1)
12 ـ بَاب مُهَل أَهْل اليَمَنِ
1432 حَدَّثَنَا مُعَلى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وَسَلمَ وَقَّتَ لأَهْل المَدِينَةِ ذَا الحُليْفَةِ وَلأَهْل الشَّامِ الجُحْفَةَ وَلأَهْل نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِل وَلأَهْل اليَمَنِ يَلمْلمَ هُنَّ لأَهْلهِنَّ وَلكُل آتٍ أَتَى عَليْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْل مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ .
13 ـ بَاب ذَاتُ عِرْقٍ لأهْل العِرَاقِ
__________
(1) وسبق أن هذا بالنسبة لأهل مكة في الحج أما في العمرة فلا بد أن يخرجوا إلى الحل ، أما عرفة وإما التنعيم وإما الجعرانة وإما الحديبية .(4/373)
1433 حَدَّثَنِي عَليُّ بْنُ مُسْلمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا قَال لمَّا فُتِحَ هَذَانِ المِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالوا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ حَدَّ لأَهْل نَجْدٍ قَرْنًا وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَليْنَا قَال فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ فَحَدَّ لهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ(1)
__________
(1) قوله : ( المصران ) يريد بهما الكوفة والبصرة ، فهما مدينتان لكن يسميان مصرين ، وقوله : ( جور عن طريقنا ) يعني مائل عن طريقنا ويشق علينا أن نذهب إليه ، فقال : ( انظروا إلى حذوها من طريقكم ) لكن ما المراد بالحذو ؟ المراد المساواة ، وهل المراد المساواة بخط مستقيم أو بخط منحني ؟ بمعنى أن نجعل بيننا وبين مكة كما بين قرن المنازل ومكة ؟ ما فهمتم .. يعني بينهما فرق ، إذا قلنا خط مستقيم ربما تكون عرق أبعد من قرن المنازل ، وإذا قلنا خط لابد أن يميل قليلاً من أجل أن يكون المسافة بين ذات عرق وبين مكة كالمسافة بين مكة وقرن المنازل . هذا هو الظاهر ، والأول محتمل بلا شك .
سؤال : أحسن الله إليكم ، بعض الحجاج يأتون من المغرب وينزلون بجدة ثم يذهبون إلى المدينة ثم يحلون من ميقات أهل المدينة ، يجوز هذا يا شيخ ؟
الجواب : صحيح ، يعني بعض الحجاج يقدمون إلى جدة وهم يريدون المدينة ثم إذا رجعوا أحرموا من ذي الحليفة ، هذا لا بأس فيه ولا إشكال فيه لكن لو منعوا من الذهاب إلى المدينة كما يقع أحياناً فمن أين يحرمون ؟ هل نقول يجب أن يذهبوا إلى الميقات وأدنى المواقيت إليهم رابغ أو يحرمون من جدة ؟ فالجواب : أنهم يحرمون من جدة ؛ لأنهم إنما أنشؤوا إرادة الحج من جدة، وكانوا في الأول قد مروا بالميقات عن طريق السفر .
سؤال : جزاك الله خيراً وبارك الله فيك ، بعضهم يأتي بنية العمرة يعني يُحرم في الطائرة ، فإذا وصل إلى جدة ألزموه بالذهاب إلى المدينة ، فماذا عليه ؟
الجواب : يبقى على إحرامه ، ما دام عقد الإحرام في الطائرة ثم قيل له لا بد أن تذهب إلى المدينة يذهب على إحرامه .
السائل : إذا فسخ ؟
الجواب : لا .. ما ينفسخ ، إذا فسخه فهو باق على إحرامه ، ثم إذا رجع يحرم من الميقات من ذي الحليفة . إن تحلل ما بين جدة إلى المدينة وخروجه إلى ذي الحليفة . أما مسألة الوجوب الدم ما يجب عليه دم لأنه جاهل .
سؤال : عفا الله عنك يا شيخ ، بالنسبة للغسل للنساء ، في الوقت هذا ما يستطيع يعني ........؟
الجواب : ما فيه بحث الغسل ؟
السائل : هذا في الإحرام .... ؟
الجواب : إي بس نحن في المواقيت لم نصل بعد للغسل ، انتظر جزاك الله خيراً . ا.هـ.
في هذا أثر عمر رضي الله عنه إثبات القياس ؛ لأن قوله : ( حذوها من طريقكم ) يعني قيسوا هذا على هذا ، وقيل أن الإنسان إذا أتى بالطائرة لابد أن يُحرم إذا حاذى الميقات الذي تحته ، لابد . وقد وقع لشيخ الإسلام رحمه الله في كتابه أظنه كتاب ( السراج ) حين ذكر عن الدجالين الذين تحملهم الشياطين إلى مكة وذكر من جملة أخطائهم أنهم يمرون من فوق المواقيت ولا يُحرمون . سبحان الله ، أنطق الله هذا الرجل قبل أن توجد طائرات ؛ لأن الشياطين تمر بهم من عند الميقات ويقول : ولا يحرمون ، وكان عليهم أن يحرموا إن كانوا صادقين .
سؤال : من كان في داخل الميقات هل يلزمه أن يحرم من بيته او له الفسحة إلى أن يخرج منه ؟
الجواب : له أن يحرم من كل جدة ، لكن الأفضل من بيته لا شك ، من حيث أنشأ ، وكذا عند الميقات ما لك مكان معين ، يعني كل الفسحة التي حول الميقات كلها مكان للإحرام ؛ لأنه ما لك مكان فيها معين ، لكن في جدة عندك بيت الأحسن ألا تتجاوز البيت إلا وأنت محرم ، فهمت الفرق؟
سؤال : أشكل عليّ قولنا إنه إذا مُنع من المدينة ....؟
الجواب : ( أشكل علينا قولنا ) من الذي قاله غيرك ؟!
السائل : ..... أنه إذا مُنع من المدينة يرجع فيحرم من جدة ؟
الجواب : ما هو بيرجع ، هو هناك في جدة .
السائل : لا يا شيخ ، في الطريق ، مُنع من الطريق ؟
الجواب : طيب يعني بعد ما خرج من جده ؟ فليحرم من مكانه الذي مُنع منه ما دام إنه نوى العمرة خلاص ، أو الحج يُحرم من مكانه ، يحرم من حيث أنشأ . احفظ : من حيث أنشأ .
سؤال : في مسألة ما تطرقنا لها وهي إذا كان على الإنسان دين هل يحج أم لا بد أن يستأذن صاحب الدين ؟
الجواب : الذي عليه دين ما يستطيع ولا أحد يستاذن حتى لو أُذن له إلا إذا كان الدين مؤجلاً وهو واثق من نفسه أنه سوف يقضيه إذا حل أجله فيحج ، وإلا ما الفائدة إنه يسمح للك ؟ لو سمح لك ما أسقط عنك شيئاً .
سؤال : أحسن الله إليك ، الصوفية يحجون ويقولون كلاماً فيما بينهم : نحن نحج لكننا نقصد القبر ؟
الجواب : القبر ، قبر من ؟
السائل : قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب : هل هم راحوا المدينة ؟
السائل : راحوا المدينة ، لكن يقولون نحن نحج وفي حال الإحرام نقصد القبر ، هل ينعقد الحج هذا ؟
الجواب : أعوذ بالله ، والله ما أعرف ، تحتاج إلى تأمل ، إذا كانوا ما أرادوا بالحج إلا الوصول للقبر فلا حج لهم .
السائل : طيب يا شيخ أحسن الله إليك ، بعضهم يلبسون الإحرام في المدينة .....؟
الجواب : من أين أتى ، يعني من أي جهة ؟ يعني العلماء يقولون : إن الذي يأتي من سواكن في قبالة جدة يحرم من جدة ؛ لأن جدة إذا رأيتها في الخارطة رأيت أنها داخلة في البحر ، رابغ داخلة إلى مكة أقرب ، وكذلك يلملم ، فإذا جاء رأساً إلى جدة يحرم من جدة .
السائل : هو يحرم من جدة يا شيخ أحسن الله إليكم ويحج ثم يروح المدينة ويلبس لها إحرام ؟
الجواب : إحرام للمدينة ؟! طيب يقول لبيك إيش ؟
السائل : ما يقول لبيك، هي زيارة هذه يتقصدون بعض الأشياء وكُتب في جيوبهم ؟
الجواب : لماذا لا تعلموهم جزاك الله خيراً ، لا .. لا تيأس لا تيأس ، وإلا صحيح فعلاً بعض العوام بعض الحجاج يرون زيارة المدينة أهم من الكعبة ، أهم من زيارة الكعبة .
السائل : يصرحون بهذا يقولون نحن نقصد المدينة أولاً ...
الجواب : اللهم عافنا .. الله يهديهم .. الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين .(4/374)
14 ـ بَاب
1434 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ أَنَاخَ بِالبَطْحَاءِ بِذِي الحُليْفَةِ فَصَلى بِهَا وَكَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا يَفْعَل ذَلكَ(1)
15 ـ بَاب خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ عَلى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ
__________
(1) بسم الله الرحمن الرحيم ، سبق لنا أن البخاري رحمه الله إذا قال : ( باب ) ولم يذكر العنوان فإنه بمنزلة قول المؤلفين : ( فصل ) فانتبهوا لهذا الاصطلاح .
وفي هذا الحديث حرص ابن عمر رضي الله عنهما على تحري الأماكن التي ينزل بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويصلي بها ، حتى إنه رضي الله عنه يتحرى الأمكنة التي نزل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها فبال فيها ، لكن هذا الأصل ـ يقول شيخ الإسلام رحمه الله ـ قد خالفه بقية الصحابة ، وقالوا إنه لا أسوة إلا في العبادة فقط وأن ما يفعله على سبيل الجبلة فهذا لا يُقتدى به . يعني مثلاً الإنسان علم أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل فبال في مجيئه من عرفة إلى مزدلفة في أثناء الطريق ، هل نقول : يسن أن ننزل فنبول في المكان هذا ؟ ابن عمر يفعل هذا رضي الله عنه ويتحراه ، لكن الأصل الذي عند الصحابة رضي الله عنهم عند أكثر الصحابة وعليه أكثر العلماء أن هذا ليس مما يُتأسى به فيه .(4/375)
1435 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِاللهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ وَيَدْخُل مِنْ طَرِيقِ المُعَرَّسِ وَأَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلى مَكَّةَ يُصَلي فِي مسْجِدِ الشَّجَرَةِ وَإِذَا رَجَعَ صَلى بِذِي الحُليْفَةِ بِبَطْنِ الوَادِي وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ(1)
__________
(1) انظر الشرح .
تعليق من فتح الباري ج: 3 ص: 391 :
قوله : ( باب خروج النبي صلى الله عليه وسلم على طريق الشجرة ) قال عياض هو موضع معروف على طريق من أراد الذهاب إلى مكة من المدينة كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منه إلى ذي الحليفة فيبيت بها وإذا رجع بات بها أيضا ودخل على طريق المعرس بفتح الراء المثقلة وبالمهملتين وهو مكان معروف أيضا وكل من الشجرة والمعرس على ستة أميال من المدينة لكن المعرس أقرب وسيأتي في الباب الذي بعده مزيد بيان في ذلك .
قال ابن بطال كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كما يفعل في العيد يذهب من طريق ويرجع من أخرى ، وقد تقدم القول في حكمة ذلك مبسوطا وقد قال بعضهم : إن نزوله هناك لم يكن قصدا وإنما كان اتفاقا . حكاه إسماعيل القاضي في أحكامه عن محمد بن الحسن بالإجماع ، والصحيح أنه كان قصدا ؛ لئلا يدخل المدينة ليلا ، ويدل عليه قوله : ( وبات حتى يصبح) ولمعنى فيه وهو التبرك به كما سيأتي في الباب الذي بعده ، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من حديث الباب في أواخر أبواب المساجد وسياقه هناك أبسط من هذا.
الشيخ : أما كونه يقصد أن يبيت ثم يدخل نهاراً فلا إشكال فيه ، لكن كونه يبيت في هذا المكان هل هو مقصود أو وقع اتفاقاً ؟ هذا يحتاج إلى دليل لكن لا مانع إن الإنسان يبيت فيه على الأقل ليُحرك محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه حيث يستشعر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بات هنا .
سؤال : هل نأخذ من الحديث أنه يُكره السفر بالليل ؟
الجواب : لا .. لكن يُكره طروق أهله ليلاً إلا أن يخبرهم من قبل .
سؤال : عفا الله عنك ، في الحقيقة يحتمل أن الوادي محل الوادي بأنه محل سيل نظيف يعني ، لكن مسلك الشجرة يا شيخ هو الذي فيه إشكال ...
الجواب : والله ما نستطيع أن نقول شيئاً لم نره ولا حتى ما نعرفه الآن ، والشجرة أحياناً إذا كانت على شفر الوادي يكون الذي تحتها نظيف .
السائل : قول ابن حجر : ( ولمعنى فيه والتبرك به ) ؟
الجواب : سوف يأتي الباب وتشوفوه .(4/376)
16ـ بَاب قَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ العَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ
1436 حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الوَليدُ وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ التِّنِّيسِيُّ قَالا حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَال حَدَّثَنِي يَحْيَى قَال حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا يَقُول إِنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْه يَقُول سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وَسَلمَ بِوَادِي العَقِيقِ يَقُول أَتَانِي الليْلةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَال صَل فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ وَقُل عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ(1)
1437 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْل بْنُ سُليْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَال حَدَّثَنِي سَالمُ بْنُ عَبْدِاللهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِي الله عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ أَنَّهُ رُئِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسٍ بِذِي الحُليْفَةِ بِبَطْنِ الوَادِي قِيل لهُ إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالمٌ يَتَوَخَّى بِالمُنَاخِ الذِي كَانَ عَبْدُاللهِ يُنِيخُ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُول الله صلى الله عليه وَسَلمَ وَهُوَ أَسْفَل مِنَ المَسْجِدِ الذِي بِبَطْنِ الوَادِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلكَ(2)
17 ـ بَاب غَسْل الخَلوقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَابِ
__________
(1) هذه البركة أنه واد مبارك ، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم المبيت فيه .
(2) كل هذا يحتاج إلى معرفة الأمكنة هذه والوقوف عليها .(4/377)
قَال أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلى أَخْبَرَهُ أَنَّ يَعْلى قَال لعُمَرَ رَضِي الله عَنْه أَرِنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وَسَلمَ حِينَ يُوحَى إِليْهِ قَال فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ بِالجِعْرَانَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَال يَا رَسُول اللهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ سَاعَةً فَجَاءَهُ الوَحْيُ فَأَشَارَ عُمَرُ رَضِي الله عَنْه إِلى يَعْلى فَجَاءَ يَعْلى وَعَلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ ثَوْبٌ قَدْ أُظِل بِهِ فَأَدْخَل رَأْسَهُ فَإِذَا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ مُحْمَرُّ الوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَال أَيْنَ الذِي سَأَل عَنِ العُمْرَةِ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَال اغْسِل الطِّيبَ الذِي بِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَانْزِعْ عَنْكَ الجُبَّةَ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ قُلتُ لعَطَاءٍ أَرَادَ الإِنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِل ثَلاثَ مَرَّاتٍ قَال نَعَمْ(1)
__________
(1) ش2 وجه أ :
قوله : ( باب غسل الخلوق ) الخلوق : هو الطيب ، يعني يكون من أنواع . وفي هذا الحديث دليل على شدة ما يأتي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين نزول الوحي عليه تحقيقاً لقوله تعالى : إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ولقد نزل عليه الوحي وهو على فخذ حذيفة ، يقول : ( حتى كاد يرز فخذي ) عليه الصلاة والسلام قد وضع رأسه عليه ، وهذا مما أمره الله به أن يصبر عليه قال : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ تَنزِيلاً W فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ .
وفيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتوقف في الأمر الذي لم يبلغه فيه الوحي وليس محلاً للاجتهاد ، فما بالك بنا ؟ نحن نُفتي وكما يقول العوام : ( قطها و........... ) يفتي ولا يبالي ، فكأنما ينزل عليه الوحي ، والواجب التثبت والتأني لأن المفتي مُعبر عن الله عز وجل ، يقول هذا شرع الله .
وفيه أيضاً دليل على أن الإنسان إذا أحرم وبه طيب فإنه يجب أن يغسله لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات )) . وفيه اعتبار التثليث في إزالته ، أي في إزالة الطيب ، حتى لو زال في أول مرة فكرره ثلاث مرات امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وفيه أيضاً دليل على أن من أحرم بإحرام فيه طيب فإنه ينزعه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( وانزع عنك الجبة )) لأنها فيها طيب ، واقتصار بعض العلماء رحمهم الله على كراهة تطييب الرداء ، يعني رداء الإحرام ، فيه نظر ، والصواب أنه حرام . أما بعد أن يُحرم فهو ظاهر وأما قبل أن يُحرم فلأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( لا تلبسوا ثوباً مسه زعفران ولا ورس )) . فالصواب أن تطييب الإحرام قبل عقد النية ثم لبسه حرام على الإنسان حتى يغسله .
وفيه أيضاً من فوائده أن العمرة كالحج يُصنع فيها ما يُصنع في الحج حيث قال : (( اصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك )) لكن يستثنى من ذلك ما وقع عليه إجماع في أنه لا يُفعل في العمرة كالوقوف في عرفة والمبيت في مزدلفة والمكث في منى ورمي الجمرات ، فإن هذا لا يُفعل في العمرة بالاتفاق بإجماع المسلمين ، ويبقى الطواف والسعي والحلق أو التقصير ومحظورات الإحرام، تتساوى فيه العمرة والحج . وفيه أيضاً دليل على وجوب طواف الوداع للعمرة لعموم قوله : ((كما تصنع في حجتك )) فلا يجوز للإنسان إذا اعتمر أن يخرج من مكة إلا بوداع ، لكن من طاف وسعى وقصر ومشى اُكتفي بطوافه الذي طافه . وقد ترجم البخاري رحمه الله على هذا فقال : ( باب المعتمر يُجزئه الطواف عن الوداع ) واحتج بفعل عائشة رضي الله عنها فإنها أتت بعمرة ليلة الحصبة أتت بعمرة ثم سارت إلى المدينة . وأما قول بعضهم : إنه لا يجب للعمرة طواف وداع لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يأمر به إلا في الحج . فيقال : هذا من الأشياء التي تجدد حكمها ، نعم لو فُرض أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر بعد حجه ولم يطف الوداع لكان في هذا دليل ، أما أنه لم يقله إلا في حجة الوداع فيقال الجواب عن هذا أنه من باب ما تجدد إيجابه .
هل يمكن أن نقيس إزالة النجاسة على إزالة الطيب في الإحرام ؟ بمعنى أن نقول لا بد من ثلاث غسلات في إزالة النجاسة ؟ هو الغالب أن النجاسة لا تزول إلا بثلاث لكن لو فُرض أنها زالت بأقل فإن المكان يطهر لأن لدينا قاعدة في إزالة النجاسة وهي : أن النجاسة عين خبيثة متى زالت بأي مزيل زال حكمها . ولهذا يسأل كثير من الناس عن غسل الثياب والأكوات بالبخار هل تطهر أو لا تطهر ؟ نقول تطهر ما دام الوسخ زال والنجاسة زالت ، فهذا هو المطلوب ؛ لأن إزالة النجاسة لا تجب بالماء بل بكل ما يزيلها . فالنعل مثلاً إذا تنجست يطهرها التراب ، وزيل المرأة الذي تجره على أمكنة قذرة يطهره الذي بعدها ، والاستجمار يكفي عن الاستنجاء بالماء ، بل كل ما زالت عين النجاسة فهي طاهر ، حتى لو فُرض أن النجاسة وقعت على الأرض ثم زال أثرها ، أثر البول معروف إذا وقع على الأرض يكون له لون ، لكن بالرياح والشمس ذهب اللون ، فنقول المكان طهر الآن وإن لم يكن بالماء ، ولا يرد على هذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن يصب على بول الأعرابي الذي بال في المسجد ذنوباً من الماء ؛ لأن هذا أسرع في إزالة النجاسة ، صب الماء عليه أسرع والناس محتاجون للمسجد فلا نقل انتظروا حتى يزول بالشمس والريح .
سؤال : الماء الذي ينزل من الفريون هل له حكم الماء المطلق ؟
الجواب : إي نعم هو ماء ، بخار تكثف ونزل ، توضأ منه ، لكن من يجد ماء فريون يتوضأ منه ، على كل حال توضأ منه .
سؤال : أرأيت الطيب يكون بخاخ يستعمل في ملابس الإحرام ولا يوجد لها أثر بعد دقيقة أو دقيقتين ؟
الجواب : إن بقيت الرائحة لا يلبسها حتى يغسلها ، وإن لم تبقى كما قلت دقيقة أو دقيقتان ما صار شيء .
سؤال : يا شيخ عفا الله عنك ، أكثر الأخوة يعتمرون في رمضان في العشر الأواخر وكذلك يعتكفون ففي ليلة العيد ينصرفون بدون وداع ؟
الجواب : ينصرفون إلى بلادهم ؟
السائل : نعم إلى بلادهم أو إلا مثلاً مناطق في السعودية بدون وداع.
الجواب : لكن ما أتوا بالعمرة .
السائل : أتوا بالعمرة .
الجواب : أتوا بالعمرة ؟ لا .. يجب أن يطوفوا الوداع . إلا إذا ... لأن بعض العلماء لا يرى وجوب طواف الوداع للعمرة إلا على سبيل الاحتياط ، فإذا كانوا مقلدين لهؤلاء فليس عليهم شيء .
سؤال : هل عليهم شيء ؟ أنا شخصياً فعلت هذا .
الجواب : معتقداً ماذا ؟
السائل : أنني ما يجب عليّ شيء .
الجواب : الحمد لله مادام معتقد ، فلأنك تسمع من العلماء من يقول لا يجب .
سؤال : لو أن الشيخ الكبير الذي يخالف النص ، كيف يصير لنا نعمل بها نحن العوام ؟
الجواب : لا .. إذا خالف النص ، لكن المشكل الآن إن العامي لا يعرف النص من غير النص . على كل حال هذا شيء يرجع إلى اطمئنان العامي للفتوى ، الفتوى ربما لو أفتى بها الإنسان ما اطمأن لها العامي ما يأخذها ، وتجد نفس الفتوى يفتي بها من يثق به ويأخذ بها .
سؤال : المشكلة يا شيخ إن العامي لو إنه عالم يفتي بشيء يخالف الدليل أن العوام ما يأخذون منه .
الجواب : لا .. لا .. الأمر واسع إن شاء الله .
سؤال : هل في الحديث دليل على أن العلم لا يأتي إلا بتعب وشدة ؟
الجواب : لا .. هذا يقول هل في الحديث دليل على أن العلم لا يأتي إلا بتعب وشدة ؟ لا ما في دليل ، هذه مسألة خاصة بالوحي حين نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعتبر سؤالك هذا سرقة ليش ؟
السائل : ماذا عليّ ؟
الجواب : لا ما عليك ألا تعود .(4/378)
18 ـ بَاب الطِّيبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ
وَمَا يَلبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّل وَيَدَّهِنَ
وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا يَشَمُّ المُحْرِمُ الرَّيْحَانَ وَيَنْظُرُ فِي المِرْآةِ وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُل الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَقَال عَطَاءٌ يَتَخَتَّمُ وَيَلبَسُ الهِمْيَانَ وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ وَلمْ تَرَ عَائِشَةُ رَضِي الله عَنْهَا بِالتُّبَّانِ بَأْسًا للذِينَ يَرْحَلونَ هَوْدَجَهَا(1)
__________
(1) هذه من الآثار ، أولا الطيب للإحرام لا شك أنه سنة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يتطيب عند إحرامه ويبقى الطيب ، قالت عائشة : ( كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم ) في هذه الحال يا جماعة إذا بقي الطيب على رأسه ويُنظر إلى وبيصه لمعانه وأراد يتوضأ لابد أن يمسح الرأس ، وإذا مسح الرأس لا بد أن يعلق الطيب في يده ، فهل نقول : إنه يفعل ويفدي ؟ لأنه تطيب تعمد التطيب ، أو نقول إنه لا يمسح رأسه ويتيمم ، أو نقول يمسح ولو علق الطيب بيده لأنه لم يتعمد الطيب ابتداءً ؟ الثالث : أنه لابد لكن لا يتعمد أن يفرك رأسه جداً حتى يلصق أكثر . وهذا والحمد لله دليله فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يُرى وبيص المسك في مفارقه ويغتسل ويكون برأسه هكذا .. وهو محرم .
( وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ويدهن ) معلوم أن المحرم إذا أراد أن يحرم يلبس الإزار والرداء ، هذا هو المشهور حتى يبقى الحجيج كلهم على لباس واحد ( ويترجل ويدهن ) يترجل : يعني يسرح الشعر ، ويدهن : يدهنه لكن بشيء ليس فيه طيب أو بشيء فيه طيب ؟ حتى لو كان فيه طيب ، الرسول كان يتطيب في رأسه ولحيته عليه الصلاة والسلام .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( يشم المحرم الريحان ) وهذه المسألة مختلف فيها ، هل يجوز للمحرم أن يشم الطيب أو لا ؟ بعضهم قال إنه لا يجوز مطلقاً ، وبعضهم قال يجوز مطلقاً ، وبعضهم فصَّل قال إن احتاج إلى ذلك كرجل وقف عند عطار وأراد أن يشتري منه طيباً فله أن يشمه ليعرف الطِيب الطَيِّب من الرديء . وهذا القول وسط لأنه أولاً تركه أحوط لا شك لأن الطيب إذا شمه الإنسان يجد نشوة وفرحاً وتحركاً في بدنه لكن إذا احتاج إلى ذلك فلا حرج . أما ظاهر المعروف عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يشمه ولا حرج عليه .
( وينظر في المرآة ) لماذا ؟ يصلح ما كان عنده من شعر ويتجمل (ويتداوى بما يأكل الزيت والسمن ) يعني له أيضاً أن يأكل الطعام الطيب وكذلك الأدوية ؛ لأن هذا ليس من محظورات الإحرام والأصل الحل والإباحة .
(وَقَال عَطَاءٌ يَتَخَتَّمُ وَيَلبَسُ الهِمْيَانَ) يتختم يعني يلبس الخاتم ، ( ويلبس الهميان ) الهميان هو الشنطة التي يجعل فيها الإنسان النفقة ويحزمها على بطنه ، يعني لا بأس بها ، وإذا رجعنا إلى الوقت الحاضر قلنا الساعة في اليد كالتختم تماماً ، وعلى هذا فيجوز للمحرم أن يلبس ساعة اليد ولا حرج فيها . ونحن نأخذ من حديث ابن عمر ( ما يلبس المحرم ، قال : لا يلبس كذا وكذا ... ) معناه ما عدا ذلك يلبسه . وعطاء هو شيخ أهل مكة وهو أعلم الناس بالمناسك لأنه في مكة ويعرف كثيراً من أحكام المناسك وهو مرجع في هذا الباب .
وقال : ( وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ ) يعني حزم بثوب والمراد بالثوب هنا القطعة من القماش ، يعني وعليه لا حرج أن يربط الإنسان على بطنه شيئاً وهو محرم ( وَلمْ تَرَ عَائِشَةُ رَضِي الله عَنْهَا بِالتُّبَّانِ بَأْسًا للذِينَ يَرْحَلونَ هَوْدَجَهَا ) التبان : هو سروال قصير يستر العورة وما قرب منها من الفخذ ، عائشة لا ترى في هذا بأساً كأنها تريد أن تحمل من لم يجد إزاراً فلبس السراويل أنها السراويل المعتادة الطويلة وأن هذا فلا بأس به . هذا رأيه رضي الله عنه ولكن الذي يظهر أنه لا يجوز أن يلبس الإنسان التبان إلا عند الضرورة ، إذا اضطر إلى هذا فلا بأس ، ويمكن الضرورة للتبان فيما إذا كان من الناس الذين تتسلخ جنوب أفخادهم مع المشي ، لأن بعض الناس يكون إذا مشى وليس عليه سراويل تتسلخ جنوب فخذهم ، فهذا ضرورة يلبس .
وإذا جاز للضرورة فهل يلزمه فدية أو لا ؟ أجيبوا ؟ على قولين لننظر القاعدة أن المحرم إذا احتاج إلى فعل شيء من المحظورات فله فعله ويفدي، كما فعل كعب بن عجرة رضي الله عنه حين أصابه الأذى في رأسه فحلق وفدى ، ولكن مسألة اللباس أولاً في لباس المخيط أو في لباس القميص أو السراويل هل فيه فدية ؟ أجيبوا يا جماعة ؟ نقول لا ليس فيه فدية ، من قال إن هذا اللباس فيه فدية ، من قال هذا ؟ والله تبارك وتعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا ويقول جل وعلا : وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً فأين في الكتاب أو السنة أن من لبس قميصاً وهو محرم أو سراويل وهو محرم فعليه فدية ؟ أو تطيب وهو محرم فعليه فدية ، أين هذا ؟ ما فيه ، بعضهم قاسه على حلق الرأس وقال الجمع بينهما أو العلة الجامعة أن في كل منهما ترفهاً . فيقال : من قال إن علة منع الحلق هو الترفه ، من قال هذا ؟ فالذي يظهر أن علة المنع في حلق الرأس للمُحرم هو أن يبقى ليتم به النسك ؛ لأن شعر الرأس يتعلق به إيش ؟ نسك يتعلق به نسك إما حلق أو تقصير ، وإذا حلقه سقط هذا النسك وغيره لا يساويه ، ثم نقول أليس يجوز للمحرم أن يدهن ، أليس يجوز أن يغتسل ، أليس يجوز أن يزيل الوسخ ، أليس يجوز أن يبقى في خيمة مكندشة ؟ مكندشة يعني إيش ؟ ذات كوندشان ، كل هذا جائز وفيه ترفه ، فالقول بأن علة تحريم حلق الرأس هو الترفه قول لا دليل عليه ولا ينضبط . فالذي نرى أنه لا فدية في جميع المحظورات إلا ما دل عليه الشرع لأنه لا يمكنا أن نلزم عباد الله شيئاً لم يلزمهم الله عز وجل . لكن إن قال قائل : من باب تربية الناس واحترامهم للشعائر ألا يحسن أن نلزمهم والفدية قليلة والحمد لله الفدية هي صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو إيش؟ أو إكسائه ؛ لأن جميع محظورات الإحرام تنقسم إلى أربعة أقسام :
القسم الأول : لا فدية فيه حتى على المذهب وهو عقد النكاح .
والقسم الثاني : فديته جزاؤه وهو الصيد .
والقسم الثالث : فديته التخيير بين ثلاثة أشياء وهو فدية حلق الرأس .
والقسم الرابع : ما لم يُذكر فيه فدية قالوا يُلحق بفدية الرأس فتكون فديته على التخيير ، يدخل في ذلك تقليم الأظفار على القول بأنها من المحظورات، ويدخل في ذلك المباشرة بغير الجماع .
بقي الخامس الجماع فديته إيش ؟ بدنة .(4/379)
1438 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَال كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ قَال مَا تَصْنَعُ بِقَوْلهِ حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قَالتْ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ(1)
__________
(1) يعني كأنه يُنكر الادهان بالزيت فبين له أن ذلك ليس بمنكر فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد الإحرام يُرى وبيص المسك في مفارقه ، وبيصه يعني لمعانه وبريقه ، ولهذا أخذ العلماء رحمهم الله من هذه السنة أن الاستدامة أقوى من الابتداء ، ولهذا تجوز الاستدامة في الطيب في الإحرام ولا يجوز ابتداؤها ، ويجوز أن يراجع الرجل زوجته المطلقة وهو محرم ولا يجوز أن يتزوج ، لماذا ؟ الاستدامة أقوى من الابتداء ، ويجوز أن يستمر ملك الصيد بعد الإحرام ولا يجوز الصيد حال الإحرام ، ولها أمثلة المهم أن بقاء أثر الطيب بعد الإحرام لا يضر .
فإن قال قائل : يلزم من هذا عن كان في الرأس كما في حديث عائشة أن يمسه الإنسان عند مس الرأس . فالجواب : وإن لزم ذلك فإنه لا يضر لأن هذا المحرم لم يبتدئ استعمال الطيب وإنما بقي الطيب الذي تطيب به عند الإحرام وهو لا بد أن يمسح رأسه إذا توضأ ، نعم لو تعمد أن يمس رأسه والطيب له وبيص فيه فهذا لا يجوز لكن إذا توضأ لابد أن يمسه .
وفي هذا الحديث دليل على استدلال السلف الصالح بسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الفعلية وأنه لا يمكن أن يقال لعل هذا خاص به ؛ لأن الأصل عدم الخصوصية. فما دام السلف الصالح والأئمة يحتجون بفعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دون أن يورد الاحتمال أنه خاص به .
وفيه أيضاً بيان أن الإنسان الذي يتخذ شعر الرأس فإنه يجعل له مفارق : واحد مع الوسط ليفرق الناصية لليمين واليسار ، والثاني أعلى الرأس عرضاً من الأذن إلى الأذن من أجل أن يفرق بين شعر الناصية الذي يتجه إلى الوجه وشعر القفا الذي يتجه إلى الرقبة .
لكن هذا بالنسبة لنا يختص بالنساء فهل نقول إن الرجل يفعل ويُفرق هذا التفريق الذي لا يكون إلا للنساء في عرفنا أو نقول ما دام هذا التفريق اختص بالنساء الآن فإنه لا يفعله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء ، وهذا أمر عادي ليس أمر عبادي حتى نقول نبقى عليه ، يعني ليس من أمور العبادة بل من الأمور العادية ؟ وعليه نقول إذا أراد أن يفرق فليفرق أحد الطرفين إما الناصية وإما أعلى الرأس ؛ لئلا يتشبه بالنساء .(4/380)
1439 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالكٌ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ القَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ قَالتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ لإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلحِلهِ قَبْل أَنْ يَطُوفَ بِالبَيْتِ (1)
19 ـ بَاب مَنْ أَهَل مُلبِّدًا
__________
(1) قوله : ( زوج النبي ) كيف زوج ؟ مذكر هذا ؟ هي زوج أو زوجة ؟ أسأل هي زوج أو زوجة ؟ هي زوجة لكن اللغة الفصحى زوج للرجل والمرأة ، إلا أن الفرائضيين رحمهم الله اصطلحوا على أن يسموا الأنثى زوجة والذكر زوج لئلا يشتبه الحكم عند قسمة الميراث ، فلو قال هذا تارك عن زوج وبنت وعم . فهو عند الفرائضيين المرأة لا تكن زوجاً ولو كان يراد بها الرجل مات عن زوجته . وهذا لا شك أنه اصطلاح جيد وفيه التبيان والتوضيح .
طيب فيه أيضاً في الحديث دليل على العلاقة الزوجية التامة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعائشة حيث تباشر تطييبه ، ولا شك أن هذا يدل على كمال المودة والصلة بينهما . لو قال قائل لعل معنى قولها (أطيب) أن أُحضر الطيب له وهو يتطيب بنفسه . فالجواب : هذا خلاف ظاهر اللفظ ولا داعي إليه .
وفيه أيضاً دليل على أن التحلل لا يكون إلا بعد الرمي والحلق ، وجه ذلك قولها : ( لحله قبل أن يطوف بالبيت ) فجعلت الذي يلي الحل هو الطواف بالبيت ، ولم تقل لحله قبل أن يحلق ، قالت ( قبل أن يطوف بالبيت) وهذا القول هو الصحيح من أقوال العلماء . ومن العلماء من يقول يتحلل إذا رمي جمرة العقبة . وهذه فيها خلاف ولكلٍ وجهة وسيأتي إن شاء الله الكلام عليها ، لكن القول الراجح أنه لا حل إلا بعد الرمي والحلق .(4/381)
1440 حَدَّثَنَا أَصْبَغُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِي الله عَنْه قَال سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ يُهِل مُلبِّدًا(1)
20 ـ بَاب الإِهْلال عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الحُليْفَةِ
__________
(1) يهل ملبداً رأسه ، قال العلماء : والتلبيد أن يوضع الصمغ ونحوه على الرأس لئلا ينتشر ، ويلزم منه أن يكون الرأس مستتراً بهذا المُلبد عليه. وعلى هذا فنقول : إذا وضعت المرأة على رأسها الحناء فلها أن تمسح على الحناء في الوضوء ولا مدة له ولا يضر هذا لأن الحنة متصلة بالرأس ولأن فرضة الرأس في الطهارة هو المسح ، فهو مخفف فيه أي في تطهير الرأس . وهذا يسأل عنه الناس كثيراً المرأة تضع على رأسها الحناء ويبقى ملبداً فهل تمسح عليه أو لابد أن تغسله حتى يزول ؟ نقول : لا .. لا يلزمها أنت تغسله حتى يزول بل لها أن يبقى حتى ينتهي مراده .
سؤال : ما يستخدمه الإنسان من الصبغة ، المشطة ؟
الجواب : من هذا الجنس ، المشطة هذه اصطلاحات جديدة الظاهر أنها صبغة معينة يصبغ بها الرأس ويكون لها قشرة .
سؤال : جزاك الله خيراً ، بالنسبة للحناء هل تمسح على الخرقة التي تغطي بها شعرها أم تباشر الحنة بيديها ؟
الجواب : الخرقة منفصلة ولا تدخل في الخمار الذي يجوز المسح عليه فتنزعها وتمسح .
سؤال : في بعض المجتمعات فرقة الشعر بالنسبة للرجل والمرأة من عادتهم في فرق الرأس ؟
الجواب : هذا يسمونه المشطة المائلة ، بعض العلماء المعاصرين يرى أن هذا داخل في الحديث الصحيح : (( صنفان من أهل النار لم أرهما)) وذكر أحدهما : (( نساء كاسيات عاريات مميلات مائلات )) ولا شك أن هذا القول له وجهة نظر .
سؤال : للنساء والرجال ؟
الجواب : إي للرجال والنساء ، الرجال أشد بعد .(4/382)
1441 حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ عَبْدِاللهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ سَمِعْتُ سَالمَ بْنَ عَبْدِاللهِ قَال سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا . و حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْلمَةَ عَنْ مَالكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالمِ بْنِ عَبْدِاللهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُول مَا أَهَل رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ إِلا مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الحُليْفَةِ(1)
__________
(1) اقرأ من الشرح .
تعليق من فتح الباري ج: 3 ص: 400 :
قوله : ( باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة ) أي لمن حج من المدينة أورد فيه حديث سالم أيضا عن أبيه في ذلك من وجهين وساقه بلفظ مالك وأما لفظ سفيان فأخرجه الحميدي في مسنده بلفظ هذه البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد مسجد ذي الحليفة وأخرجه مسلم من طريق حاتم بن إسماعيل عن موسى بن عقبة بلفظ كان ابن عمر إذا قيل له الإحرام من البيداء قال البيداء التي تكذبون فيها الخ . إلا أنه قال من ثم الشجرة حين قام به بعيره وسيأتي للمصنف بعد أبواب ترجمة من أهل حين استوت به راحلته وأخرج فيه من طريق صالح بن كيسان عن نافع عن ابن عمر قال أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة وكان ابن عمر ينكر على رواية ابن عباس الآتية بعد بابين بلفظ ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل وقد أزال الإشكال ما رواه أبو داود والحاكم من طريق سعيد بن جبير قلت لابن عباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله فذكر الحديث وفيه فلما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين أوجب من مجلسه فأهل بالحج حين فرغ منها فسمع منه قوم فحفظوه ثم ركب فلما استقلت به راحلته أهل وأدرك ذلك منه قوم لم يشهدوه في المرة الأولى فسمعوه حين ذاك فقالوا إنما أهل حين استقلت به راحلته ثم مضى فلما علا شرف البيداء أهل وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه فنقل كل أحد ما سمع وإنما كان إهلاله في مصلاه وأيم الله ثم أهل ثانيا وثالثا وأخرجه الحاكم من وجه آخر من طريق عطاء عن ابن عباس نحوه دون القصة فعلى هذا فكان إنكار ابن عمر على من يخص الإهلال بالقيام على شرف البيداء وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك وإنما الخلاف في الأفضل .
فائدة : البيداء هذه فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي . قاله أبو عبيد البكري وغيره .
الشيخ : هذا الجمع لا شك أنه جمع حسن ؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا ، منهم من قال أهل في مصلاه حين صلى ، ومنهم من قال حين قامت به ناقته ، ومنهم من قال حين استوت به على البيداء يعني بعد ما مشي . وهذا الجمع الذي ذكره ابن عباس رضي الله عنهما جمع حسن بلا شك . وعلى هذا فبأي هذه الأقاويل نأخذ ؟ بالأول أنه أهل من مصلاه .(4/383)
21 ـ بَاب مَا لا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ
1442 حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا أَنَّ رَجُلا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلا الْعَمَائِمَ وَلا السَّرَاوِيلَاتِ وَلا الْبَرَانِسَ وَلا الْخِفَافَ إِلا أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ وَلا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ(1)
__________
(1) قال المؤلف رحمه الله : ( باب ما لا يلبس المحرم من الثياب ) ولم يقل ما يلبس بل قال ( ما لا يلبس ) وإنما قال هذا اتباعاً للحديث ، والحديث سُئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ما يلبس المحرم ، يعني عن الذي يلبس ، فأجاب بما لا يلبس ، فيُفهم منه أنه يلبس ما عدا ذلك فإن قيل : لماذا عدل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جوابه عن مطابقة السؤال ؟ لأنه كان المتوقع أنه لما سُئل قال : يلبس كذا وكذا ، فلماذا عدل ؟ فالجواب : لأن ما لا يلبس أقل مما يُلبس وأقرب إلى الحصر ، وهذا من البلاغة أن يُجاب الإنسان بما لا يتوقع إشارة إلى أنه كان ينبغي له أن يسأل إيش ؟ عن ما لا يلبس لا عن ما يلبس .
أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بجواب مفصل فقال : (( لا يلبس القمص )) وهي المخيطة على قدر البدن كالثياب التي علينا الآن ، الثاني : (( لا يلبس العمائم )) العمائم التي تُدار على الرأس ، والمراد ما يُلبس على الرأس من عمائم أو طاقية أو غترة أو ما أشبه ذلك ، الثالث : ((السراويلات)) مفردها سراويل ، يعني السراويل ما هي بجمع كما يظن بعض الناس ، السراويل مفرد ، ألك سراويل ؟ الأخ لك سراويل ، كم ؟ يعني أنت تفهم من كلامي ألك سراويل ، تفهم أن أسألك عن سروال واحد أو عن جماعة ؟ هذه هي ، الآن أكثر الناس يظنون السراويل أنها جمع ولهذا قال إنسان لآخر يُحدثه بعت على فلان سراويل ماذا يفهم ؟ جماعة ، ولكنه ليس كذلك ، السراويل واحد ، أفهمت يا يحيى ؟ سراويل واحد أو جماعة ؟ واحد . ولهذا قال ابن مالك رحمه الله في الألفية التي أرجو الله تعالى أن تدركوا حفظها عن ظهر قلب ، قال : ( ولسراويل بهذا الجمع ) يعني صيغة منتهى الجموع ( شبه اقتضى عموم المنع ) وإلا هو مفرد لكن شابه الجمع.
ش3 ـ الوجه أ :
وقيل إنه يجوز لغة أن تقول سروال أو سروالاً ، وهذا على لغة العامية عندنا واضح . طيب إذا السراويلات إذا قال إنسان كيف جمعها وهي مجموعة أولاً ؟ نقول : لا هي أول لم تجمع . السراويل معروفة هي ما يُخاط على قدر الرجلين بعزل كل واحدة عن الأخرى ، وإنما قلنا هذا لئلا يرد علينا الإزار فإن الإزار وإن خيط ليس بسروال حتى لو خط الإزار وجعلت له تكة ، تعرفون التكة ؟ الحبل الذي يربط به وجُعلت على الجوانب مخابي جيوب . فلا حرج لأنه لازال اسمه إزار .
(( ولا البرانس )) البرانس يقولون إنها ثياب واسعة ولها ما يغطي الرأس متصلاً بها ، وأكثر من يلبسها المغاربة . يا سبحان الله كأن النبي عليه الصلاة والسلام يشاهدهم ، الظاهر أنهم في ذلك الوقت ما كانوا موجودين . الثاني : (( ولا الخفاف )) الخفاف ما يُلبس على الرجل ساتراً لها ، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( إلا أحد لا يجد )) إلا أحد : بدل من الضمير في قوله ( لا يلبس ) ولهذا جاءت مرفوعة (( إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين )) طيب والنعلين ؟ وإذا وجد النعلين يلبسهما أو لا ؟ يلبسهما على أنهما غير منهي عنهما (( وليقطعهما )) يعني يقطع الخفين (( أسفل من الكعبين )) يعني أنزل ، وكلمة ( أسفل من الكعبين ) يشمل ما إذا لم يكن لهما جدار فوق على العقب أو كان لهما ، المهم أن يكون نازلاً عن الكعبين هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم . ثم أردف قائلاً : (( ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران أو ورس )) الزعفران طيب معروف والورس قيل أنه نبت في اليمن له رائحة طيبة فيكسب الثوب لوناً ورائحة فيكون شبيهاً بإيش ؟ بالزعفران .
في هذا الحديث فوائد منها : أن الأحاديث النبوية تنقسم إلى قسمين : قسم لها سبب ، وقسم لا سبب له . من الأسباب السؤال ، ومن فوائده أن الله عز وجل يقيد لشريعته من يسأل عن شيء لم يكن يتحدث عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم . ومن فوائده أنه يدل على كمال الشريعة وأنه ما من شيء تحتاج الأمة إليه إلا وقع بيانه إما ابتداء وإما لسبب .
ومنها الإشارة إلى أن ما يلبسه المحرم أكثر مما لا يلبسه ، وجه ذلك أن الرجل سأل عن الذي يُلبس فأُجيب بما لا يُلبس . ومنها أنه ينبغي لنا ونحن نُحدث الناس بألسنتنا أو بأقلامنا أن لا نتجاوز السنة اللفظ النبوي . هذه خمسة معروفة محصورة ولهذا لما تكلم بعض التابعين وأول من تكلم في ذلك إبراهيم النخعي رحمه الله فقال : المخيط حرام على المُحرم . صار هذا اللفظ فيه اشتباه ، فيه تضييق لجهة وفيه اشتباه .
أولاً : النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر المخيط إطلاقاً فما بالنا نُشرع ونقول لا تلبس المخيط .
ثانياً : أن هذا التعبير يقتضي أنك لا تلبس الإزار إذا كان فيه خياط ، وهذا صحيح أو لا صحيح ؟ أسألكم الآن الإزار يجوز لبسه وهو مخيط ؟ يجوز ، لكن لو أخذنا ظاهر العبارة ما يجوز . أيضاً يوجب إيهام في النعلين المخروزة ، وما أكثر السؤال عن هذا ، يقول : هل يجوز للمحرم أن يلبس النعلين المخروزات ؟ ليش ما يجوز ؟ قال لأنه مخيط .
زاد بعض الناس ، قال : لا يلبس المخيط ولا المحيط . إيش المحيط ؟ الخاتم ! لا يلبسه . المهم أدعوكم إلى اتباع لفظ النص لأنكم مسؤولون عن هذا وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ولا نضيق على عباد الله نقول البس الإزار ولو فيه ألف رقعة ، وكذلك الرداء .
طيب نمشي مع الحديث ( لا يلبس القميص ) القميص لا يُلبس على أي حال كان حتى لو فُرض أنه ليس فيه أدنى خيط ؛ لأنه لو نُسج نسيجاً ما فيه خياطة هل يُلبس أو لا يُلبس ؟ لا يُلبس ، ولو أخذنا بكلمة المخيط لقلنا هذا يُلبس لأنه ما فيه خياطة ، ولكن لا .. القميص بجميع أنواعه لا يُلبس . يُشبهه الكوت لأنه قميص لكنه قصير ، الفانيلة كذلك قميص كثير فلا تُلبس هذه الأشياء .
من فوائد هذا الحديث أن الإنسان لو لف على صدره ثوباً دون أن يلبسه لبساً جائز أو غير جائز ؟ جائز ، لماذا ؟ لأنه يقول : ( لا يلبس ) هذا ما لبسه هذا تلفت فيه . وبناء على ذلك لو أن الإنسان في الطائرة وكان إزاره ورداؤه في الشنطة مع العفش ويعرف أنه سيحاذي الميقات فماذا يصنع ورداؤه وإزاره في جوف الطائرة ؟ نقول اخلع الثوب وتلفلف فيه والسروال يبقى لأنك لم تجد إزاراً ، واضح ؟ إذا قال : أخشى من الناس إذا رأوا هذا قاموا ينظرون إليّ . فالجواب : وليكن ذلك أنت إذا فعلت هذا شرعت لأخوانك المسلمين ما يخفى عليهم ، وكثيراً ما يقع السؤال أن إزاره ورادءه في داخل الطائرة وأخَّر الإحرام حتى وصل إلى جدة لأنه لا يدري. فيقال له الحمد لله الأمر سهل اخلع القميص وتلفلف فيه وتُبقي السروال . طيب الغترة ؟ الغترة ما هو لازم اخلعها ويبقى رأسك مكشوفاً ، واضح ؟ فإذا قال قائل : لماذا لا تقولون يلزمه أن يخلع السروال وأن يتلفلف إزاره بالغترة ؟ فالجواب : أولاً : إن بعض الغتر خفيف ما يستر العورة ، ثانياً : أنها ليست واسعة بحيث يديرها مرتين أو ثلاثة ، وإذا كان كذلك فإنه يُخشى أن تبدو عورته ؛ لأن الغترة معروفة ما تلم على شيء كثير ، ما أدري إذا كان عبد الله الشريف ، ما تكلم عليه ، على كل حال نقول : الحمد لله هذا مُيسر .
طيب وإذا لبس السراويل بدل الإزار هل عليه فدية ؟ فالجواب : لا .. ليس عليه فدية لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر أن عليه فدية ، وهذا من الرخصة والحمد لله .
( ولا يلبس العمائم ) العمائم لا يلبسها ولا يلبس كذلك ما كان بمعناها مثل الطاقية والغترة والقبعة لا يلبسها ، بل إن الرأس له خاصية غير بقية البدن وهو أنه لا يُغطى بأي شيء ، دليل هذا قصة الرجل الذي وقصته ناقته في عرفة فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( لا تُخمروا رأسه )) يعني لا تغطوها . إذاً الرأس فيها حديثان :
الحديث الأول أن لا يلبس الإنسان ما اُعتيد لبسه على الرأس وهو العمامة ، هذا الذي في الحديث العمامة وما شابهها .
الثاني أن لا يُغطى ولو لم تجر العادة بلبسه ، أن لا يُغطى بشيء ولو لم تجر العادة بلبسه ، فإن قال قائل : ما تقولون فيما لو حمل عفشه على رأسه ـ والمراد بالعفش المتاع ـ هل يجوز أو لا يجوز؟ منهم من قال لا يجوز، ومنهم من قال يجوز ، ومنهم من فصل قال إن قصد الستر فهو غير جائز لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( إنما الأعمال بالنيات )) ومثال ذلك إنسان معه علاقية صغيرة يحملها بيده بدون مشقة ووضعها على رأسه ، هل يحتاج على وضعها على الرأس ؟ لا يحتاج ، إذاً إنما قصد تغطية الرأس وهذا لا يجوز ، إذاً حمل المتاع على الرأس لا يضر لأنه لا يقصد به التغطية غالباً وقد جرت العادة به .
طيب تغطية الرأس بغير ملاصق ، نقول هذا نوعان :
النوع الأول : ما لم يكن متصلاً بالمحرم بل هو ثابت في الأرض فهذا جائز بالإجماع ، مثل الخيمة الشجرة يضع عليها كساءً وما أشبه ذلك . هذا لا أحد يخالف فيه لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ضُربت له قبة بنمرة وهو ذاهب إلى عرفة مُحرماً وبقي فيها .
الثاني : أن يكون متصلاً بالمحرم لكن لاحظوا أنه منفصل عن الرأس، متصل بالمحرم لكنه منفصل عن الرأس ، مثل الشمسية والسيارة أو رجل مثلاً معه عصا بيديه وفوقه رداء يحمله على رأسه عن الشمس . فهذه للعلماء فيها قولان : القول الأول أن ذلك ليس بجائز ، وعلى هذا فجميع السيارات الجيمس لا يجوز للمحرمين أن يركبوا فيها إذا كانوا رجالاً إلا أن يكشفوا سطحها ، وهذا هو المشهور من المذهب ، مذهب الحنابلة يرحمهم الله ، لكنه قول ضعيف ، والصحيح أنه لا بأس به .
مثل ذلك أيضاً الشمسية ، المشهور من مذهب الحنابلة أن ذلك غير جائز لأنه اتصل بالمحرم ، ولكن الصحيح خلاف ذلك وأنها جائزة ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُظلل في طريقه من مزدلفة إلى منى صباح العيد ، وهذا يدل على إيش؟ على الجواز . ثم هل هذا تغطية رأس؟ التظليل للرأس هل هو تغطية ؟ لا .. ليس تغطية لأن الرأس ظاهر ما غُطي . فالصواب جوازها . فصارت الأقسام كم ؟ ثلاثة : الملاصق ولا إشكال في منعه ، وغير الملاصق وهو متصل بالمحرم وهو موضع خلاف، وغير ملاصق لكنه منفصل عن المحرم كالخيمة والشجرة وما أشبه ذلك فلا بأس بها بالاتفاق .
سؤال : إذا وصل الحدود السعودية ما ما في ةقت ، ثانياً أنه إذا ركب الطيارة ما يعرف الوقت وما يعرف متى الوصول للمحل؟
الجواب : هذا لبداية إحرامك ، هذا أحسن شيء تلبس الإزار في بيتك بعد ما تغتسل ثم تلبس فوقه الثياب المعتادة ، وإذا كنت في الطائرة قوم حسب العادة والطيران المعتاد أنه خمس وثلاثين دقيقة أو أربعين دقيقة تكون قد حاذيت الميقات ، ذا الحليفة ، فأنت إذا مرت نصف ساعة مثلاً اخلع الثياب والبس الرداء . على أن المضيفين جزاهم الله خيراً ينبهون قبل ثلث ساعة أو عشر دقائق ، فإذا خفت من هذا كله الحمد لله أحرم من حين ما تركب ولا حرج .
سؤال : أحسن الله إليكم ، لبس الفروة بغير إدخال اليدين فيها ؟
الجواب : في مثل هذه القضية هذا ما يجوز لأنها تُلبس على هذا الوجه أحياناً أما لو لبسها وجعل الأكمام أسفل فلا بأس .
سؤال : أحسن الله إليك ، كيف نجمع بين أن السنة أن الإنسان يتطيب قبل الإحرام وبين ما ترجمه المؤلف في باب غسل الخلوق ثلاث مرات ، مع أنه يعني العادة إنه يتطيب بيده ؟
الجواب : هذا لأن الخلوق مر علينا .. لأنه كان في إحرامه ، ربما يصيب لكنه نقول أصلاً لا تلبس الثياب التي فيها طيب، وسيأتيك بعد قليل .
طيب لبس أيضاً السراويلات ، وهو معروف السراويل وسبق أن عائشة رضي الله عنها كانت تُرخص لخدمها بلباس التبان ، وهو سروال قصير ، والصحيح أنه لا يجوز ، وجه ما ذهبت به عائشة أن هذه لا تُسمى سراويل ولكن ظاهر النص العموم وأنه لا فرق بين كون السروال قصير الكمين أو طويل الكمين . ( ولا البرانس ) البرانس هي ثياب واسعة لها شيء يتصل بها يُغطى بها الرأس ، ونص عليها لأنه لا يُطلق عليها اسم القميص فنص عليها لئلا تشتبه . طيب المشلح تُشبه القميص أو تُشبه البرانس ؟ الظاهر أنها للبرانس أقرب لكن لو أنه قلب المشلح وتلفلف به فلا بأس لأنه لا يُعد لابساً له .
( ولا الخفاف ) معروف ( إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين ) اللام في مقابلة ( فليلبس ) للإباحة ؛ لأنها في مقالة للمنع ، وإلا فلا يجب على المحرم أن يلبس لا نعلين ولا خفين ، لكن لما ذكر منع الخفين ذكر الإباحة في هذه الحال ، وقوله : ( من لم يجد نعلين ) يعني لا يجدهما أو لا يجد ثمنهما ؛ لأنه قد يجد النعلين في الأسواق عند المحرم لكن ليس معه ثمن هذا لم يجدها ، أو أنه معه ثمن لكنه لم يجد شيئاً عند المحرم عند الميقات (فليلبس الخفين ) قال : ( وليقطعهما أسفل من الكعبين ) اللام في قوله (فليقطعهما ) للأمر ، وهذا الأمر للوجوب ليس كالأمر في قوله (فليلبس) الأمر في قوله ( فليلبس ) لإيش ؟ ... ( فليقطع ) للوجوب .
إذا قال قائل : لماذا لم تجعلونها لغير الوجوب ؟ قلنا : لأن قطعهما إفساد لهما وإفساد الأموال مُحرم ولا يُمكن أن يُنتهك المحرم إلا بإيش ؟ إلا بواجب . وبناءً على هذه القاعدة استدل بعض العلماء على وجوب الختان لهذه القاعدة ، وقال : الأصل أن قطع شيء من بني آدم إيش ؟ محرم ، فلا يستباح المحرم إلا بواجب . على كل حال هذه القاعدة لا بأس بها .
( وليقطعهما أسفل من الكعبين ) لأنه إذا قطعهما أسفل من الكعبين لم يكونا خفين على الإطلاق ، بمعنى لا يقال خُفين بل يُقال خفان مقطوعان .
الآن نحن شرحنا الحديث أظن ، طيب الفوائد :
من فوائد هذا الحديث : تحريم لبس البرانس وما شابهها والخفاف إلا في هذه الصورة .
ومن فوائده أنه إذا جاز لبس الخفين لعدم النعلين وجب قطعهما أسفل من الكعبين ، هكذا دل عليه حديث ابن عمر ، لكن حديث ابن عمر رضي الله عنهما كان في المدينة قبل أن يسافر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة. ورد حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في عرفة وقال : (( من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ولم يجد إزاراً فليلبس السراويل )) في عرفة ولم يذكر القطع ، ومعلوم أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما بعد حديث ابن عمر ، صحيح هذا ؟ ليش بعده ؟ لأن هذا قبل أن يسافر وهذا بعد أن سافر . ومعلوم أيضاً أن الحاضرين في عرفة أكثر من الحاضرين في المدينة وأنه لا يُمكن سماع جميعهم قوله وليقطعهما في هذه المدة الوجيزة . وعلى هذا فيكون حديث عبد الله بن عمر منسوخاً بحديث عبد الله بن عباس ؛ لأنه آخر الأمرين . فإن قال قائل : لماذا لا تقولون بحمل المطلق على المقيد ؟ أي حمل حديث ابن عباس على حديث ابن عمر ، كما يجري العادة أن المُطلق يُحمل على المُقيد . فالجواب : أنه لا يُمكن الحمل هنا ؛ لأن حديث ابن عباس متأخر والحاضرون لهذه الخطبة أكثر بكثير والناس سينقلون حديث ابن عباس أكثر من الذين نقلوا حديث ابن عمر لأنهم كل الحجاج ، فلا يمكن أن يكون القطع واجباً ثم لا يُذكر مع دعاء الحاجة إليه في خطبة عرفة . وهذا هو القول الراجح أنه إذا جاز لبس الخفين لعدم النعلين لم يجب القطع .
ومن فوائد هذا الحديث تحريم لبس الثياب المطيبة ، فلو طيب الإنسان إحرامه قبل أن يُحرم ، يعني ثوب الإحرام قبل أن يُحرم قلنا حرام عليك أن تلبسه بعد الإحرام ، واضح ؟ لأنه يمكن أن تغسله ، يغسله ثم يلبسه . وأما قول بعض أهل العلم رحمهم الله إنه يُكره تطييب ثوب الإحرام ويجوز لبسه بعد ذلك . ففيه نظر فالحديث صريح والحديث في سياق الثياب التي لا تُلبس .
ومن فوائد هذا الحديث جواز صبغ الثياب بالورس في غير الإحرام ؛ لأن الأصل في الثياب هو إيش ؟ هو الحل ، فإذا مُنع عن شيء منها في حال معينة بقيت الأحوال الأخرى على الأصل وهو الحل . لكن قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الثوب الأحمر بالنسبة للرجال ، الأحمر الخالص الذي ليس فيه بياض ولا سواد ولا شيء من الألوان ، فإن قال أحدكم أليس قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مكة وعليه حلة حمراء ؟ فالجواب : أن هذا اللون المخطط فيها لون أحمر وليست كلها حمراء . وهذا عليه الناس يقولون عليه شماغ أحمر عليه شماغ أسود ، والشماغ ما هو كله أحمر ولا كله أسود .
ومن فوائد هذا الحديث أيضاً تحريم استعمال الزعفران للمحرم ، بمعنى أنه لا يجوز أن يتطيب به ولا بالورس الطيب هذا ، فهل يُقال إن شُرب القهوة التي فيها الزعفران بالنسبة للمحرم حرام أو نقول إذا ذهبت الريح جازت ؟ الجواب الثاني ، يعني إذا طُبخت القهوة التي فيها زعفران حتى ذهب ريح الزعفران نهائياً فإنه يجوز أن يشربها لأنها أصبحت غير طيب ، بمعنى تحولت إلى شراب غير مُطيب .
من فوائد الحديث أنه ينبغي للإنسان المفتي أن يُقلل من الألفاظ ما استطاع ؛ لأن ذلك أقرب إلى الفهم وأقرب إلى الحفظ . وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكر ما لا يلبسه المحرم مع أن السؤال على الذي يلبسه ، فاختصر القول في الفتوى لا تطول خصوصاً إذا كان الذي يستفتيك عامياً لا تطول ، لو استفتاك عامي قل : والله المسألة فيها خلاف ، نعم سؤالك إيش كذا وكذا ، هذه مسألة فيها شيء وقول ، فقال الإمام أحمد كذا ، وقال فلان كذا ، وقال فلان كذا ، وقال فلان كذا ، وبعضهم فصل باعتبار حال السائل ، وبعضهم فصل باعتبار الركب ، وبعضهم فصل باعتبار المكان . يروح ما عنده شيء أبداً ويشوش أكثر .
العامي لا تذكر عنده أقوال ، قل هذا حرام هذا حلال ، فيما دلت السنة، ما أجمع الكتاب والسنة على تحليله وعلى تحريمه . نعم لو فُرض أنه قد شاع في البلد قول خلاف الصواب عندك فهنا إذا أفتيته بما ترى أنه صواب فقل : وقال بعض العلماء كذا وكذا ولكن الراجح ما ذكرت لك . لماذا؟ حتى لا يشوش عليه القول الثاني المشتهر في البلد ؛ لأن كثير من العوام إذا سأل العالم وأفتاه بما عنده ثم جلس في مجلس وسمع فتوى خلافها يبقى شاكاً في فتوى العالم ، فإذا أشار إلى أن هناك خلافاً ولكن الراجح ما ذكر زال الإشكال . وهذه كلها من آداب الإفتاء .
إذاً نأخذ من هذا الحديث أنه ينبغي للمفتي أن يُقرب الفتوى للسائل فيقلل الألفاظ ما دام يحصل بها المقصود .
طيب هنا مسائل : ما تقولون في لبس الخاتم ، جائز ؟ جائز لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الخاتم ، ولم يُذكر أنه كان يضعه عند الإحرام ، وقد نص الفقهاء على جواز لبس الخاتم . لبس السوار جائز أو غير جائز ؟ أما بالنسبة للمرأة فلا يرد عليها هذا السؤال ؛ لأن المرأة لا يحرم عليها هذا اللباس ، بالنسبة للرجل لا يرد لأن الرجل لا يجوز أن يلبس سوار امرأة لكن هنا شيء يشبه السوار وهو الساعة هل يلبسها المحرم أو لا يلبسها ؟ أول ما خرجت هذه الساعات التي تُجعل في اليد حرمها بعض العلماء وما أجازوا للمحرم أن يبلسها ، وهو واضح على قول من يقول إنه يحرم على المحرم لبس المخيط والمحيط . ثم تناقل العلماء رحمهم الله هذه المسألة تراجعوا فيها فقال بعضهم إنها حلال ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لا يلبس كذا ، وهذا ليس مما حذر منه الرسول ، فتكون السنة دالة على الجواز .
ولقد قدموا الحجاج في سنة من السنوات إلى هنا وقالوا لنا إن الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله يرى إن لبس الساعة حرام ولبس النظارات حرام . تعجبت الشيخ عبد العزيز رحمه الله معروف ليس من الجامدين على المذهب ، فكتبت له كتاباً وقلت له إن الحجاج قدموا إلينا وذكروا عنكم كذا وكذا ، فكتب إليّ كتاباًً قال : وما آفة الأخبار إلا رواتها ونحن لا نقول بهذا وإنما قلنا نظراً للاختلاف الاحتياط أن الإنسان لا يلبسها ، الاحتياط ألا يلبسها الإنسان . هذا من زمان. العامي هو يعرف الاحتياط وغير الاحتياط؟ ما يعرف ، العامي ما قيل في ذهنه هو صواب ليس الأعوج من كل شيء . ولكن لا بأس أن العالم يقول بالاحتياط كما يُفتي به الإمام أحمد وغيره في الشيء الذي لا يرى أنه مباح .
طيب نظارة العين لباس ، ولهذا نقول الناس يلبس نظارة ، هل تحرم على المُحرم أو لا ؟ السؤال ليحيى ويش هي نظارة العين ؟ مثل هذه على كل حال نظارة العين يقولون إنها لباس ، طيب النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا يبلس كذا ، هل هي من هذا ؟ لا .. إذاً لا بأس بها ولا نقول الاحتياط تركها بل نقول الاحتياط هو ما دل عليه الكتاب والسنة . طيب سماعة الأذن ماذا تقولون فيها ؟ في من الناس ـ الله يعافينا وإياكم ـ له سماعة داخل الأذن ترفع الأصوات عنده ، تجوز أو لا تجوز ؟ تجوز ، سماعة الأذن هل هذا الحديث دل عليها أو لا ؟ دل عليها ، وجه الدلالة أن الممنوع ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فما عدا ذلك فهو حلال .
وهذا من بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الممنوع لأجل أن يقول لأمته كل ما سوى ذلك فهو حلال والحمد لله ، فلا ينبغي للإنسان أن يُضيق على عباد الله ما وسع الله عليهم ، وأنت إذا أخطأت في التوسعة أهون مما إذا أخطأت في التضييق ، أليس كذلك يا جماعة ؟ لأن التوسعة مناسبة لروح الدين الإسلامي . لهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لأن أُخطئ ـ يعني في العقوبة التعزيرية ـ لأن أُخطئ في العفو أحب إلي مما لو أُخطئ في العقوبة . فما دام الأمر واسع يسر على الناس ما استطعت حتى يأخذ الناس الدين عن انشراح صدر وعن طمأنينة قلب ، أما أن تضيق عليهم شيئاً لم يضيقه الله ولا رسوله ، ونحن نعلم أن الله لم يضيق على عباده { ما جعل عليكم في الدين من حرج } احرص على التوسعة ، أما أن تضيق يعني سمعنا واحداً يُفتي الناس بمنى كلما جاءه إنسان وقال له إني أمشي وجزت رجلي ... صغير صغير ... قال : عليك دم . كلما جاءه إنسان قال عليك دم . والله لو أخذوا بهذا القول لبقيت أودية منى كلها دماء تسيل . هذا غلط ، مع أن الناس الآن يفتون مثلاً في الطيب وفي لبس القميص وما أشبه ذلك بأن عليه دم عليه دم ، وهذا غلط ، ويش الذي عليه ؟ إذا قلت يوجب الفدية ويش عليه ؟ فدية أذى يُخير بين صيام ستة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو ذبح شاة .
سؤال : ذكرت أنه لا يجوز شرب القهوة المطيبة بالزعفران ؟
الجواب : هذه تعرفها أنت ؟
السائل : لا .. ما أعرفها .
الجواب : الحكم على الشيء فرع عن تصوره .
السائل : ما أظن أحد يقول إنه يطيب فمه بشرب القهوة بالزعفران ونحن نستخدم الصابون المطيب ، إيش الفرق بين الصابون المطيب والقهوة بالزعفران .
الجواب : الظاهر إنك إما أنك ما تشم أو ما تعرف الزعفران ، تعرفه؟ هل له رائحة الطيب أو لا ؟
السائل : تذهب رائحته بالطبخ ؟
الجواب : لا .. بالطبخ ما يبقى لكن أحياناً يذرون الطيب على القهوة بدون أن يفوحوها فتبقى رائحته ، والصابون المطيب ما يجوز لكن نقول الرائحة التي في الصابون ليست طيباً ، هذا هو الفرق ، وإلا لو ثبت إنها طيب قلنا لا يجوز ، عرفت ؟ ما تعرف ، طيب أين سكنك ؟ خلاص لا بد تجيبوا له قلة قهوة من الزعفران إن شاء الله حتى يشوف ، ولكن تجيبوا المطبوخ الذي ذهب رائحته ، جيب من الذي انتهت ذروا عليها وخليه يشوف ، بعد ما أدري يجيه زكام أو لا ، أخاف ما تشم الليلة .
?????
بسم الله الرحمن الرحيم ، قبل أن نبدأ نبين الآن محظورات الإحرام ، معروفة عند الفقهاء ولا حاجة لتعدادها لكن هذه المحظورات تنقسم إلى أربعة أقسام :
الأول : قسم لا فدية فيه أصلاً .
والثاني : ما فيه جزاء ، يعني ليس فدية معينة بل جزاء .
والثالث : ما فديته بدنة .
والرابع : ما فديته التخيير بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة .
هذه أقسام محظورات الإحرام ، أما ما لا فدية فيه فهو عقد النكاح ، عقد النكاح محرم لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ، ولكن يقول الفقهاء إنه لا فدية فيه ، وما فديته جزاؤه الصيد ، قال الله تعالى : { ومن قتله منكم متعمداً فجزاؤه مثل ما قتل من النعم } أي فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم ، وما فديته بدنة الجماع في الحج قبل التحلل الأول ، وما فديته التخيير بقية المحظورات وتُسمى هذه الفدية فدية الأذى أخذاً من قول الله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } فاضبطوا هذه الضوابط حتى تعرفوها . لو قيل هل على هذا التقسيم دليل ؟ نقول فيه تفصيل : أما عقد النكاح الذي ليس فيه فدية فعليه دليل وهو أن الأصل براءة الذمة والسنة دلت على أنه محرم ولكنها لم تأت له بفدية ، هذا هو، إذا هذا دليلة عدم أو وجود؟ عدم. ما فديته جزاء ثبت في القرآن والسنة. ما فديته البدنة هذا لم يرد في الكتاب والسنة ولكن الصحابة رضي الله عنهم يكادون يجمعون على ذلك وهو الجماع في الحج قبل التحلل الأول. الرابع ما فديته التخيير هل فيه دليل ؟ نقول أما حلق الرأس ففيه دليل بنص القرآن { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } بقية المحظورات التي فيها هذه الفدية بالقياس على حلق الرأس . وهذا القياس فيه نظر ، وجه النظر : أن حلق الرأس إنما حرُم لأنه يتعلق به نُسك فإن الحلق واجب من واجبات الحج ولو حلقه المحرم لأسقط هذا الواجب ، فلذلك أمر الله تعالى أو أوجب الله عز وجل الفدية فيه ، وهذا مُسلم { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } ما قيس على ذلك ففيه نظر ؛ لأنه لا يتعلق به نُسك . والتعليل بأن حلق الرأس إنما حرُم لأنه ترفه تعليل عليل لأن الترفه في الإحرام ليس حراماً ، أليس المحرم يغتسل ؟ يغتسل ويلبس ثياب الإحرام الجميلة ويجوز أن يبقى في الحجرة المكيفة ويسير في السيارات المكيفة ويجلس في الخيام الناعمة ، وهذا كله ترف فمن قال إن العلة ترف يحتاج إلى أن يثبت هذا ، ثم بعض المحظورات التي ألحقوها بحلق الرأس فيها ترف ظاهر وما فيها ترف ، فالعلة منتقدة .
ولهذا نقول : إنه لا فدية إلا فيما جاء في القرآن أو السنة ، وإلا فليس لنا الحق أن نُلزم عباد الله بإضاعة شيء من أموالهم أو بإنفاق شيء من أموالهم بلا دليل ، وكما ترون هذا تعليل قوي لا مناص منه ، فكما أنه لا يجوز أن نُسقط ما أوجب الله من جزاء الصيد مثلاً فلا يجوز أن نُلزم بما لم يُلزم الله به في مثل لبس القميص والعمامة وما أشبه ذلك . لكن لو قال قائل : ما دام جمهور العلماء على هذا وفيه حماية لهذه المحظورات من أن يتجرأ عليها الحجاج أليس القول به متجهاً ؟ الجواب : بلى القول به متجهاً ، والشرع قد يُتلف المال تعزيراً ، فالغال من الغنيمة يُحرق رحله وما معه ، وكاتم الضالة يُلزم بدفع قيمتها مرتين تنكيلاً له ، ومن سرق ثمراً أو كثراً ضوعفت عليه القيمة ، فالتعزير بالمال أو حماية المحرمات بالمال أمر جاءت به السنة . فلنا أن نقول للناس من فعل شيئاً من هذه المحظورات فعليه فدية ، وكذلك في عقد النكاح الفدية ما لم يكن إجماع على عدمها فالإجماع مسلم وإلا فبدون الإجماع نقول لا فرق بينه وبين المحظورات ، فنحن نتكلم عن هذه المسألة مسألة الفدية في المحظورات من وجهين :
الوجه الأول : من الناحية النظرية . إذا تكلمنا فيها من الناحية النظرية فلا نرى بإيجابها دليلاً إلا بما جاء به الدليل ، أما من الناحية التربوية وحماية الحجاج من انتهاك المحظورات ولاسيما أن أكثر العلماء على هذا الأصل فإنه يسوغ لنا أن نُفتي الناس بوجوب الفدية ، والحمد لله الفدية ما هي صعبة ، صيام ثلاثة أيام متفرقة أو متتابعة في مكة أو في بلده ، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع هذا أيضاً سهل ، كم يكون عنده صاع كم ؟ ثلاثة أصواع سهلة ، ذبح شاة يعني ما فيها صعوبة . لكن أنت إذا قلت للعامي عليك فدية هيبته إنه يفعل المحظورات ولو هي قليلة ، لكن لو تقول له ما عليك إلا التوبة والاستغفار ملأ لك أجواء مكة وجدة والطائف استغفاراً ولكن لا تأخذ منه قرش أو لا ؟
ش 3 ـ وجه ب :
ولهذا لما عثر عامي من العوام وتدمت إصبعه وسلمت النعلة قال الحمد لله إشوّي ولا بالنعلة . لأن النعل عنده أغلى من البدن ، البدن يمشي ويطيل لكن المال مشكل .
على كل حال ما دام في هذا مصلحة وحماية للمحظورات وتهييب للعوام فإنه يسوغ القول به ، وإذا أحب الإنسان أن يحتاط لنفسه وأن لا يقول على الله ما لم ير أنه من شريعة الله فليقل إيش ؟ قال العلماء عليك كذا وكذا. وأرجو أنه بهذه العبارة يسأل من اتبعه لأنه عزاه إلى غيره من أجل هذه المصلحة العظيمة .
وهكذا يقال في ترك الواجب من واجبات الحج والعمرة ، الفقهاء يرون أنه يجب عليه دم ولا فيه تخيير ، فإن لم يجد صام عشرة أيام . ونحن نقول : لا دليل على هذا ، ثم لا دليل على أنه إذا لم يجد فعليه صيام عشرة أيام . غاية ما في ذلك حديث ابن عباس : ( من نسى شيئاً من نسكه أو تركه فليهرق دماً ) . زعم أن بعض العلماء أن مثل هذا القول عن ابن عباس لا مجال للاجتهاد فيه . وعندي أن فيه نظراً وللاجتهاد فيه مجال وهو أن ابن عباس رضي الله عنهما رأى أن حلق الرأس الذي فيه إسقاط واجب فيه فدية لكن على التخيير ، فيكون إذاً ترك الواجب كفعل المحذور الذي يكون فيه إسقاط الواجب فيجب فيه دم . فللرأي فيه مجال ، ومع ذلك ابن عباس رضي الله عنهما يقول : ( شيئاً من نسكه ) وشيئاً نكرة في سياق الشرط ، ولو أخذنا بعمومها لقلنا على الإنسان دم إذا ترك الإشارة إلى الحجر وإذا ترك الهرولة عن عمد الرمل يعني وإذا ترك الاضطباع وما أشبه ذلك ، وما علمت أحداً يقول بهذا أن عليه دم . لكن كما قلت لكم كل شيء يكون به حماية الشعائر ولم يخالف الإجماع بل وافق الأكثر فإنه ينبغي إيش ؟ الأخذ به أو على الأقل الإفتاء به . وهذه من السياسة في تربية العالم للأمة .
مر عليّ أن أحد التابعين سأله ابنه عن مسألة من المسائل نسيتها لأني بطيء العهد بها فأفتاه ، فكأن الابن تصاعب هذا ، فقال : إن لم تفعل وإلا أفتيتك بقول فلان أشد من هذا القول . شوف كيف ؟ تربية ، مع أنه لما أفتاه بالقول الأول يعتقد أنه صواب ، لكن أراد أن يلزم ابنه بالقول الثاني الذي هو أشد إذا لم يفعل .
وربما يكون لهذا شاهد من فعل أمير المؤمنين رضي الله عنه ، الرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً فقال أنت طالق ثلاثاً أو أنت طالق أنت طالق أنت طالق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر فله أن يراجع ، حق شرعي له أن يراجع لأنها لا تبين زوجته بهذا ، فلما كثر الطلاق الثلاث في عهد عمر قال : ( أرى الناس قد تسارعوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ) أمضاه عليهم منع الرجل من حق ثابت له في السنة النبوية والسنة البكرية والسنة العمرية أولاً ، منعه من هذا الحق الثابت له من أجل أن لا يتجرأ الناس على الطلاق ثلاث .
فهذه مسائل ينبغي للعالم والمفتي أن ينتبه لها ، والحمد لله مدح الله عز وجل الربانيين وبين أنهم هم الأحق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . قال العلماء : الربانيين هم الذين يربون الأمة بالعلم . وهذا منهم ، فلذلك فيما أرى أن إيجاب شيء لم يوجبه الله ورسوله لا يجوز ، لكن إذا كان فيه مصلحة فإنه يسوغ القول به لاسيما إذا كان إيش ؟ إذا كان هو قول الجمهور جمهور العلماء .
أما المحظورات فمنها ما ورد علينا في حديث ابن عمر : لبس الأشياء الخمسة كله من المحظورات . الطيب ابتداءً إيش ؟ من المحظورات ، شم الطيب سبق لنا أنه لا باس به وهو القول الراجح لاسيما عند الحاجة كرجل يريد أن يشتري طيباُ فوقف عند العطار فجعل يشم القارورات لينظر أيها أطيب ، فالصواب أنه لا بأس به ؛ لأن المحرم لم يتلبس به .
سؤال : عفا الله عنك يا شيخ ، الدليل على أن فعل المحظور الذي فيه فدية خص الرأس بالخصوص ، اقتصر على الرأس ، مع أن يا شيخ من تفيد الحصر على الدليل ؟
الجواب : من تفيد الحصر بس الليلة هذه تفيد الحصر بس الليلة هذه .
السائل : الرأس يا شيخ ؟
الجواب : إي نعم صحيح هذا سؤال أو تقرير ؟
السائل : سؤال يا شيخ ، لكن الآن أقول أستفهم .
الجواب : لا .. قصدي هل تقرر ما قلنا وتؤكده أو تسأل ؟
السائل : أقول إن الذي قلته في الأول هو الذي يدور في خاطري
الجواب : الحمد لله جزاك الله خيراً .
السائل : لأنه خص الرأس بالخصوص ما قال في المحظورات كلها .
الجواب : تمام ، صدقت هذا استدلال طيب .
سؤال : بارك الله فيك ، أشكل عليّ مسألة الزعفران إذا شُرب في القهوة ، ومثله الآن يوجد بعض المشروبات مثل ماء الورد الذي يوضع في المشروبات ؟
الجواب : ومثله أيضاً .............
السائل : لكن يا شيخ أحسن الله إليكم الذي ورد فيه النهي التطييب ، والشرب أو وضعه في الأكل لا يُسمى تطييباً ؟
الجواب : لكن يسمى استعمال مطيب ، ثم هذا الطيب الذي يعلق بالشفتين وإذا كان الإنسان له شارب يعلق بالشارب .
السائل : لو إن واحد مصه مصاً ؟
الجواب : الله المستعان هذه محل نظر ، يعني مثلاً لو أن واحداً جاء بلي وأدخله حتى استقر في المعدة ثم صب من فوقه قهوة فيها زعفران فهذا محل نظر ، هل نقول إن الرجل لم يُطيب كما قال وليد في البارحة ؟ أو نقول هذا تكلف ؟ وأحسن من هذا نقطع الذي أدخله ولا يعود إليه .
سؤال : تركه من باب الاحتياط أو أنه لا يجوز ؟
الجواب : والله أنا أرى أنه صريح ما يجوز أبداً وإلا إذا طُبخت حتى زالت الرائحة .
سؤال : غفر الله لك يا شيخ ، عندي إشكال في إيجاب الفدية في باقي المحظورات غير الرأس من وجهين يا شيخ حفظك الله :
الأول : أن العلم الشرعي يراد تطبيقه في الواقع ، ونحن نرى نظرياً أن هذه المحظورات ليست محظورات ؟
الجواب : لا .. هي محظورات ما فيه إشكال ، المحظور معلوم لكن هل كله فيه فدية ؟ هذا هو موضوع الخلاف . عقد النكاح محظور ومع ذلك ليس فيه فدية عند الفقهاء .
السائل : أقصد غيره مما لا نرى أن فيه محظور ؟
الجواب : إي نعم ، غيره نثبت .
سؤال : يا شيخ إننا نرى أصلاً نظراً أنه لا يوجب فيها فدية فلماذا نوجبها؟
الجواب : كما قلت لك حماية للمحرمات ، وذكرنا مثال عمر رضي الله عنه ، لأنه يشبهه ، لأن الناس لو قيل لهم عليكم التوبة والاستغفار سهل عليهم الأمر وصار هذا يلبس ثوباً جميلاً وهذا يلبس بشت زين ، وصار الناس في الحج كأنهم في يوم العيد كلٌ يتجمل بما شاء .
السائل : إن كان محظوراً نقول محظور لكن ليس فيه فدية .
الجواب : لا .. الفدية أنا قلت لا .. تردع العوام ، بعض العوام لا يهمهم ، إذا سألوا عن شيء نقول عليكم التوبة قالوا بس التوبة ! قال استعن بالله ، وإذا قلنا عليك كذا وكذا ................
سؤال : أحسن الله إليك ، ترك الواجب يا شيخ هو أشد من ارتكاب المحظور ؟
الجواب : لا .. يختلف ، هو من جهة جملة العبادة لا شك ؛ لأن ترك الواجب تختل به البنية بنية العبادة وذات العبادة بخلاف المحظور ، لكن قد يكون فعل المحظور أشد ، مثلاً إذا وطأ في الحج قبل التحلل الأول ترتب عليه الإثم وفساد النسك والفدية ووجوب القضاء والمضي فيه . لكن لو ترك واجباً قلنا عليك الدم وبس .
سؤال : يا شيخ ، إذا ارتكب محظوراً نسياناً أو مُكرهاً ليس عليه شيء ، ولو ترك واجباً ؟
الجواب : يعني الواجبات من مركبات العبادة من هيئة العبادة ، بعض العوام مساكين يظنون أن الإنسان مُخير بين فعل الواجب وبين الفدية ، بين ترك الواجب أو فعل الواجب والفدية ، وهذا غلط ما هو بالخيار ؛ لأن الواجب فعل الواجب لكن لو فات الإنسان بدون تعمد فعليه الفدية على رأي الجمهور . يقول البعض وافق شخصاً في الدوادمي آخر نهار العيد حاجاً من بلد قريب من السعودية ، قال الله يعزيه الله يخلف عليك أنت إن شاء الله على نيتك فاتك الحاج، قال : لا .. أنا حجيت أو ... ، قال لا .. أنا حجيت. كيف حجيت ؟ الحج عرفة ووقفت في عرفة . طيب والباقي عليك ؟ قال الباقي كله وصيت صاحبي يذبح عن كل واجب شاة ! يظن أنه مخير . هذا الرجل وقف بعرفة ثم طاف طواف الإفاضة وسعى يوم العيد ومشى .يا رجل ؟ قال : لنا عن نسائنا شهر الآن ، مساكين إي نعم .
بالنسبة لإتيان المحظورات نقول فاعل المحظور ينقسم أيضاً على ثلاثة أقسام :
الأول : أن يفعله متعمداً بلا عذر ولا حاجة ، فهذا عليه ما سمعتم .
الثاني : أن يفعله متعمداً لحاجة إليه ، فهذا لا إثم عليه لكن عليه الفدية كمن حلق رأسه من أذى فعليه الفدية .
الثالث : أن يفعله ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فهذا لا إثم عليه ولا فدية . كل المحظورات هذه ، والأدلة والحمد لله واضحة .
سؤال : يا شيخ أحسن الله إليك ، عائشة رضي الله عنها كانت ترحل على هودج هل يصح هذا دليلاً على جواز تغطية الرأس للمرأة ؟
الجواب : إي ما يخالف ، المرأة تغطي رأسها .
السائل : والرجل كذلك يكون في السيارة .......؟
الجواب : لا .. الرجل ما يجوز أن يغطي رأسه . الفقهاء ناصين أنه ما يجوز أن الرجل يركب الهودج .
سؤال : بارك الله فيك ، الذي يقرأ في كلام السلف الصالح من الصحابة والتابعين يرى أنهم يقولون لفظة الإهلال ، والعلماء يقولون الإحرام ؟
الجواب : كيف الإهلال ؟
السائل : مثلاً الحديث : أهَلَّ النبي صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب : إي أهَلَّ يعني لبى ، الإهلال يعني رفع الصوت بالتلبية .
سؤال : يا شيخ بارك الله فيك ، ما حكم وضع كمامات على الفم للمحرم ؟
الجواب : لا بأس به .
السائل : والقطن في الأذن ؟
الجواب : لا بأس به أيضاً ؛ لأن حديث ابن عباس : (( لا تخمروا رأسه ولا وجهه )) الزيادة هذه ذكر كثير من العلماء إنها شاذة ، فمن صححها قال لا يُغطى الوجه ، ومن قال إنها شاذة لم يعمل بها .
سؤال : أحسن الله إليكم ، قلتم لمنع الناس من المحظورات إذا رأى المفتي من نفسه أو من المستفتي أنه ليس مهملاً إنما وقع جهلاً أو غير الجهل والنسيان ........؟
الجواب : لا .. ليس له ذلك لأنه لو أفتاه وجاء شخص آخر حاله كحاله وأفتاه بلزوم الفدية نقول له ليس إيش الفرق بيني وبين زيد ؟
السائل : للعلة يا شيخ ؟
الجواب : لا .. العلة خفية هذه ما هي بواضحة .
سؤال : حديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، بعض العلماء يقول ( الخلفاء ) هذه عامة ، فلماذا لا تقولون السنة المتبعة هي سنة جميع الخلفاء وتحملوها على لفظ الحديث عام فلماذا تخصصون هذه السنة في خليفة واحد ؟
الجواب : لم نخصها بخليفة واحد .
السائل : لماذا تخصصون السنة على فعل خليفة واحد ؟
الجواب : لم نخصصها بخليفة واحد الرسول ما أراد بهذا الجمع أن يجتمعوا عليها ، أراد سنتهم أي سنة الواحد منهم ، ما أراد لا بد أن يجتمعوا عليها .
سؤال : هناك بعض القبعات تكون مثل العصابة عرضها على قدر الإصبع .....؟
الجواب : هذا سير ؟ ما يجوز ، لا يجوز تغطية الرأس لا بسير ولا بطاقية ولا شماغ ولا شيء .
سؤال : أشكل عليّ أن الإنسان لا يلزمه أن يلبس الإحرام وهو مُطيب فكيف يجوز له أن يضعه على بدنه وإذا وضعه على بدنه ولبس الإحرام سيصبه من الطيب ؟
الجواب : أشكل عليك ؟
السائل : أحد الأخوة نقل لي أنكم تقولون إن الإنسان لا يتطيب إلا في رأسه ولحيته فقط ؟
الجواب : ما دامت السنة جاءت بالفرق فيكفي ، السنة تأتي بالفرق بين تطييب البدن وتطييب الثياب ، لكن إذا قُدر أنه بعد أن لبس الرداء ووضعه على كتفه لابد أن يمس لحيته وفيها طيب هذا لايضر .
السائل : يجوز له أن يتطيب في جميع البدن ؟
الجواب : إي نعم .
سؤال : على قول جمع ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم لبى ثلاث مرات ، ما الحكمة من ذلك ؟
الجواب : إيش الحكمة ؟ أصلاً التلبية تُكرر من حين لبى الإنسان إلى أن يبتدئ الطواف في العمرة أو يرمي جمرة العقبة .
سؤال : الحجاج في الخيام إذا كان العدد كبير البعض ما يستطيع أن ينام في إضاءة فيغطي وجهه ؟
الجواب : إذا غطى الوجه فلا بأس ، يغطي وجهه فقط .
السائل : ولو جاء الغطاء على رأسه ؟
الجواب : إذا جاء في حال النوم ما يضر لأنه نائم فليس عليه حرج لكن أنا أشك في أنه يغطي الوجه بدون رأسه .
السائل : بعضهم يضع الإحرام نفسه نفس الرداء .
الجواب : إي لكن ما يغطي الرأس . طيب ما يمكن يحط نظارة سوداء ؟! ... ما يمكن .
السائل : في قماشات الآن يا شيخ مثل الكمامة .
الجواب : في ظني إذا غطى وجهه بغير منديل سيغطي الرأس ، والمنديل أيضاً أي حركه تزول.
سؤال : من احتاج تغطية الرأس مدة طويلة فماذا عليه ؟
الجواب : إذا قلنا بالقول الذي ليس فيه فدية فليس عليه فدية ، جائز أن يغطي رأسه ولا فدية عليه كما ذكرنا لكن المفتى به أن عليه فدية أذى .
السائل : واحدة ؟
الجواب : إي واحدة . ما دام إنه يفدي لهذه العلة ، أما لو برئ وقد فدى برأت ثم احتاج مرة ثانية فعليه فدية ثانية وإن لم يفد عن الأولى كفاه فدية واحدة عن الثنتين لأن الموجب واحد .
سؤال : أثابكم الله إذا فعل محظورين ولم يفدي في الأول هل يفدي ؟
الجواب : إذا كانا من جنس الأول كفاه فدية واحدة ، وإن اختلفا كالجماع مثلاً والطيب فلكل فديته .
سؤال : عفا الله عنك يا شيخ ، تغطية الرأس عند الحاجة كثل من عنده مرض في رأسه أو مطر أو برد ؟
الجواب : الحاجة تختلف ، يعني إما برد أو وجع أو شمس ، المهم أن يضطر يغطي رأسه .
السائل : من احتاج يا شيخ يغطي رأسه لحاجة تختلف يا شيخ ، ضرورية وغير ضرورية ؟
الجواب : لا .. الحاجة غير ضرورية .
سؤال : إن أصاب الطيب بيده من الكعبة أثناء الطواف هل نأمره بالخروج ليغسل يديه ثلاثاً ؟
الجواب : لا .. أحسن شيء نقول له امسح الطيب في كسوة الكعبة .
السائل : حديث يعلى بن أمية ما يدل على وجوب الغسل ؟
الجواب : لا .. بس هذا عن عمد وربما تختلف الأطياب بعضها يكفيه المسح ، وبعضها لا بد أن يُغسل ، تختلف .
سؤال : إذا كان الشخص في حال النوم غطى رأسه هل يخلى أم يُرفع عنه اللحاف ؟
الجواب : ارفعه عنه لأن هذا من باب التعاون على البر والتقوى ، مثل ما لو رأيت صائماً يأكل ويشرب ناسياً ذكره .
سؤال : يا شيخ أحسن الله إليك ، انتشر بين الواعظين يقولون إذا حج الإنسان بمال حرام حين يقول لبيك اللهم لبيك يناديه مناد أن لا لبيك ولا سعديك وحجك هذا مردود عليك ؟
الجواب: فيه حديث لكنه ضعيف. والصواب أن الحج صحيح مع الإثم
?????
طيب إذا كان يحتاج على إتيان محظور فعله وعليه الفدية واستدل بالقرآن في قصة حلق الرأس ، لكن لو احتاج إلى أكل وبين يديه غزال هل يجوز أن يذبح الغزال ليُنقذ حياته أو لا يجوز ؟ نعم يجوز لأن الإنسان إذا اضطر إلى المحرم جاز له ، طيب إذا جاز هل عليه جزاؤها أو لا ؟ من العلماء من يقول عليه جزاؤها لأنه إنما صادها لنفسه فعليه الجزاء ، ومنهم من يقول لا جزاء عليه لأن الله أحلها فصارت الآن لا حرمة لها . وهذا أقرب على الصواب والأول أحوط .
طيب إنسان عنده أرنب حية وأرنب ميتة وهو محرم فماذا يصنع هل يأكل الميتة أو يأكل الحية ؟ الصحيح أنه يأكل الحية ، وبعض العلماء يقول يأكل الميتة خصوصاً عند من يرى أنه إذا أكل الحية وجب عليه الفدية أو واجب عليه الجزاء ، ولكن الصحيح أنه يأكل الحية . طيب إنسان عنده أرنب حية وأرنب ميتة وهرة حية أيهما يأكل؟ الأرنب الحية صح ، بارك الله فيكم .(4/384)
21 ـ بَاب الرُّكُوبِ وَالارْتِدَافِ فِي الحَجِّ
1443 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ الأَيْليِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ عَبْدِاللهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا أَنَّ أُسَامَةَ رضي الله عنه كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ مِنْ عَرَفَةَ إِلى المُزْدَلفَةِ ثُمَّ أَرْدَفَ الفَضْل مِنَ المزْدَلفَةِ إِلى مِنًى قَال فَكِلاهُمَا قَال لمْ يَزَل النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ يُلبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ(1)
__________
(1) قال المؤلف رحمه الله : ( باب الركوب والارتداف في الحج ) كأنه يرى والله أعلم إلى أن المشي أفضل ، الحج ماشياً أفضل ، والمسألة فيها خلاف بين العلماء هل الأفضل أن يحج راكباً أو الأفضل أن يحج ماشياً ؟ وهذا الخلاف في زمنهم رحمه الله الذي يركب الإنسان فيه براحة وينزل براحة وكذلك في المشي ، لكن في وقتنا الحاضر أيهما أصعب المشي أو الركوب ؟ أحياناً الركوب ، أحياناً يدفع الناس من عرفة إلى مزدلفة لا يصلونها إلا الصباح وهذا وقع قبل خمس سنوات ، الآن والحمد لله خفت لأن الحكومة وفقها الله فتحت طرقاً كثيرة . فهنا الركوب أصعب وأحياناً بالعكس ، فهل نقول الأفضل الركوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج راكباً أو الأفضل المشي لأن الإنسان حر في نفسه ويتصرف كما شاء ؟ نرى أن الركوب والمشي في حد ذاته ليس بينهما تفوات لكن الكلام على راحة الحاج فما كان أيسر له وأقوم لعبادته فهو أفضل .
وقوله : ( الارتداف ) أيضاً الارتداف على الدابة في الحج وغيره إذا كانت تطيق هذا فلا بأس به فقد ردف معاذ بن جبل رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على حمار ، وهذه قصة في الحج أردف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسامة بن زيد مولى من الموالي من عرفة إلى مزدلفة ، وأردف من ؟ الفضل بن عباس وهو من صغار أهل البيت حين دفع من مزدلفة إلى منى ، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام ، لم يُردف كبار القوم مع أن كل واحد يتمنى أن يكون رديفه لكن من تواضعه أردف في الأول مولى من الموالي وفي الثاني صغير من الصغار . وقد كان عليه الصلاة والسلام لا يُقال بين يديه إليك إليك ولا طرد ولا ضرب ، وحج على جمل غث صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا أدرك الناس كيف حج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .(4/385)
22 ـ بَاب مَا يَلبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَالأَرْدِيَةِ وَالأُزُرِ
وَلبِسَتْ عَائِشَةُ رضي الله عَنْهَا الثِّيَابَ المُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَقَالتْ لا تَلثَّمْ وَلا تَتَبَرْقَعْ وَلا تَلبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ وَلا زَعْفَرَانٍ . وَقَال جَابِرٌ لا أَرَى المُعَصْفَرَ طِيبًا وَلمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالحُليِّ وَالثَّوْبِ الأَسْوَدِ وَالمُوَرَّدِ وَالخُفِّ للمَرْأَةِ وَقَال إِبْرَاهِيمُ لا بَأْسَ أَنْ يُبْدِل ثِيَابَهُ(1)
__________
(1) كل هذا آثار واضحة ، من أين يكون قول إبراهيم النخعي رحمه الله لا بأس أن يبدل المحرم ثيابه سواء لوسخ أو لتمزق أو لغير ذلك . وما اشتهر عند العامة أن المحرم لا يُغير الثياب سواء كان رجلاً أو امرأة فلا أصل له ، ما دام الإنسان غيّر الثوب الأول إلى ثوب آخر يجوز لبسه في الإحرام فلا حرج .(4/386)
1444 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُليْمَانَ قَال حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَال أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا قَال انْطَلقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ مِنَ المَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّل وَادَّهَنَ وَلبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الأَرْدِيَةِ وَالأُزُرِ تُلبَسُ إِلا المُزَعْفَرَةَ التِي تَرْدَعُ عَلى الجِلدِ (1) فَأَصْبَحَ بِذِي الحُليْفَةِ رَكِبَ رَاحِلتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلى البَيْدَاءِ أَهَل هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقَلدَ بَدَنَتَهُ(2) وَذَلكَ لخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ(3)
__________
(1) قوله : ( ولم ينه عن شيء من الأردية والأزر ) يدل هذا على أن الإزار وإن خيط بدلاً من أن يُلف خيط فإنه يجوز؛ لأنه لا زال يُسمى إزاراً، ولا دليل على المنع، وكما أسلفنا لكم أن قول إنه يتجنب لبس المخيط ليس بصحيح؛ لأنه أُثر عن إبراهيم النخعي رحمه الله وليس بمضطرد .
(2) قلد بدنته ) قلدها يعني جعل عليها قلادة تدل على أنها هدي ، هذه القلادة يقيدون فيها النعال المتقطعة آذان القرب البالية وما أشبه ذلك ، إشارة إلى أن هذه هدي للفقراء ، والتقليد هذا سنة لما فيه من إظهار الشعائر حتى تمر هذه الإبل وهي قد عُرف أنها هدي .
(3) وذلك لخمس بقين من ذي القعدة ) متى تكون ؟
طالب : خمس وعشرين .
الشيخ : لكن بأي يوم ؟ الجمعة تسع من ذي الحجة ، هو خرج من المدينة يوم السبت عليه الصلاة والسلام .(4/387)
فَقَدِمَ مَكَّةَ لأَرْبَعِ ليَالٍ خَلوْنَ مِنْ ذِي الحَجَّةِ(1) فَطَافَ بِالبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ وَلمْ يَحِل مِنْ أَجْل بُدْنِهِ لأَنَّهُ قَلدَهَا ثُمَّ نَزَل بِأَعْلى مَكَّةَ عِنْدَ الحَجُونِ وَهُوَ مُهِلٌّ بِالحَجِّ وَلمْ يَقْرَبِ الكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ(2) وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ(3) ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ ثُمَّ يَحِلُّوا وَذَلكَ لمَنْ لمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلدَهَا وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِيَ لهُ حَلالٌ وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ(4)
__________
(1) القعدة ) الأفصح الفتح ، و( الحجة ) الأفصح الكسر ، ويجوز كسرهما ورفعهما ولكن الكلام على الأفصح . متى الرابع من ذي الحجة ؟ يوم الأحد ، صار مسيره تسعة أيام صلى الله عليه وسلم .
(2) عند الحجون ) معروف الآن تسمى عند العامة هي الحجول باللام وتسمى الأبطح ، نزل هناك ، يقول رضي الله عنه : ( ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة ) ففيه دليل على أنه ينبغي للحاج أن لا يطوف بالكعبة إلا طواف النسك فقط تأسياً بمن ؟ برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولمصلحة أخرى وهي إخلاء المطاف لمن احتاج إليه من القادمين . وهكذا يقال أيضاً في العمرة إذا كثر الناس فالأفضل أن لا يُكرر الطواف يقتصر على طواف النسك فقط .
(3) قوله : ( بين الصفا والمروة ) أفاد أنه لا يجب صعود الصفا ولا المروة ؛ لأن البينية بين الشيئين تقتضي خروجهما عن المسافة ، وهو كذلك لا يجب الصعود لا على الصفا ولا على المروة ولكن الأفضل الصعود حتى يرى الكعبة كما جاءت به السنة .
(4) قال : ( ثم يقصروا رءوسهم ) أمر بالتقصير هنا مع أن الحلق أفضل وذلك من أجل أن يبقى الحلق للحج ؛ لأنهم قدموا في اليوم الرابع ، لو حلقوا رءوسهم ما بقي شيء للحج . وعليه فيقال : الأفضل في العمرة الحلق إلا المتمتع إذا قدم متأخراً فالأفضل أن يُقصر لأجل أن يبقى للحج . ويؤخذ من هذا فائدة عظيمة وهو أن ترك الفاضل لما هو أفضل منه جائز ، ومن ذلك لو نذر الإنسان أن يصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم صلى في المسجد الحرام يجوز أو لا يجوز ؟ يجوز .(4/388)
23 ـ بَاب مَنْ بَاتَ بِذِي الحُليْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ
قَالهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ
1445 حَدَّثَنِي عَبْدُاللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه قَال صَلى النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ بِالمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الحُليْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الحُليْفَةِ فَلمَّا رَكِبَ رَاحِلتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَل(1)
1446 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُالوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وَسَلمَ صَلى الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَصَلى العَصْرَ بِذِي الحُليْفَةِ رَكْعَتَيْنِ قَال وَأَحْسِبُهُ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ(2)
24 ـ بَاب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإِهْلال
__________
(1) تعليق من فتح الباري ج: 3 ص: 407 :
قوله حدثني بن المنكدر كذا رواه الحفاظ من أصحاب بن جريج عنه وخالفهم عيسى بن يونس فقال عن بن جريج عن الزهري عن أنس وهي رواية شاذة . قوله وبذي الحليفة ركعتين فيه مشروعية قصر الصلاة لمن خرج من بيوت البلد وبات خارجا عنها ولو لم يستمر سفره واحتج به أهل الظاهر في قصر الصلاة في السفر القصير ولا حجة فيه لأنه كابتداء سفر لا المنتهى وقد تقدم البحث في ذلك في أبواب قصر الصلاة وتقدم الخلاف في ابتداء إهلاله صلى الله عليه وسلم قريبا .
الشيخ : لهذا يبدو أنه صلى الظهر يوم السبت في المدينة ثم خرج وصلى العصر ركعتين ، هذا ما يظهر لي ولكن يحتاج إلى المراجعة .
(2) هو قد جزم في السياق الأول بأنه بات حتى أصبح .(4/389)
1447 حَدَّثَنَا سُليْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال صَلى النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ بِالمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالعَصْرَ بِذِي الحُليْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا(1)
__________
(1) بهما ) أي بالحج والعمرة . وفي هذا دليل على أن الإنسان يرفع صوته عالياً بالتلبية وأنه يسمي نسكه فيقول لبيك عمرة إن كان في عمرة أو لبيك حجاً إن كان في حج أو لبيك حجاً وعمرة إن كان في حج وعمرة . ومن المؤسف أنه تمر بك القوافل الكثيرة لا تسمع أحداً يلبي مع العلم أنه من الشعائر وإذا لبيت فإنه لا يسمع تلبيتك شجر ولا حجر إلا شهد لك . فأحثكم أنتم طلاب العلم على رفع الصوت بالتلبية وأن تبينوا للناس أن هذا من السنة التي كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعلها وأصحابه يفعلونها ويقرهم .
سؤال : بارك الله فيك ، تسمية النسك يعني المعتاد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ، فكيف يدخل هذا فيها ؟
الجواب : إذا انتويت تقول لبيك عمرة .
السائل : وإذا تكرر ؟
الجواب : نعم كررها كما تكرر التلبية .
سؤال : المتمتع إذا حلق ماذا يفعل يوم العاشر ؟
الجواب : حلق للعاشر ؟
السائل : لا .. حلق للعمرة والأفضل أنه يُقصر ، فإذا حلق ؟
الجواب : الأفضل للمتع أن يُقصر فإذا حلق يحلق يوم العيد .
السائل : يوم العيد ما يجد شيئاً .
الجواب : لكن فيه لا بد أنه ينبت ، الشعر تراه يتبين خلال يوم وليلة ، فهمت ؟ يكفي أن يمر الموسى على هذا ، صحيح الأصلع الذي ما له شعر أصلاً ماذا يفعل عند الحلق ؟ قال بعض العلماء : يمر الموسى على رأسه . وإيش يقعد يكشع الرأس ، أو يعتبر هذا القول من الأقوال الغريبة ، ما الفائدة ؟ قالوا : وعلى ذلك يُحرك الأخرس لسانه عند القراءة بالفاتحة . الأخرس ما يتكلم ، يقولون هذا يُحرك لسانه وشفتيه . وإيش الفائدة من هذا؟ المهم أن بعض العلماء رحمهم الله يقول أقوالاً تكون بعيدة من الصواب .
ش4 ـ وجه أ :
سؤال : أحسن الله إليك يا شيخ ، الدليل على تكرار الإهلال بنوع النسك مع التلبية ؟
الجواب : هذا الحديث حديث أنس .
السائل : الحديث الذي في التلبية أنه ما يسمعه شجر ولا حجر إلا شهد له يؤخذ من هذا على أن المشي أفضل من الركوب لأن السيارة تمر بسرعة في الوقت الحاضر ؟
الجواب : لا .. إذا صارت السيارة مفتوحة أشد صوتاً ، جرب هذا إن شاء الله ، وإن حججت هذه السنة علمنا بالنتيجة ، السيارة تروح أبعد من ما يروح الماشي .(4/390)
25 ـ بَاب التَّلبِيَةِ
1448 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا أَنَّ تَلبِيَةَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ لبَّيْكَ اللهُمَّ لبَّيْكَ لبَّيْكَ لا شَرِيكَ لكَ لبَّيْكَ إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لكَ وَالمُلكَ لا شَرِيكَ لكَ(1)
__________
(1) طيب الآن التلبية تعرفون معناها ولا حاجة لتفسيرها ؟ ( لبيك ) بمعنى إجابة لك ، والمراد بالتثنية هنا التكرار لا حقيقة التثنية فيقول أجبت إجابة بعد إجابة ، وقوله ( اللهم ) يعني يا الله ( لبيك ) تكرار لكن تكرار لفائدة وهو تكرار إجابة الله عز وجل ( لبيك لا شريك لك لبيك ) هذا فيه الإخلاص لله عز وجل وأنك تلبي لله لا لغرض آخر ( إن الحمد والنعمة ) (إِن) وقيل (أَن) ، والصواب (إِن) ، لأن (إِن) أعم إذا أن المفتوحة يكون التقدير لبيك لأن النعمة لك ، وإذا كسرت صارت (إن) استنادية فتكون أعم ( إن الحمد والنعمة لك والملك ) الحمد : يعني الوصف الجميل مع المحبة والتعظيم ، وقوله ( النعمة ) يشمل نعمة الدين والدنيا ومنها أن الله أنعم عليك بإيصالك إلى هذه الأماكن الشريفة ، ( والملك ) يعم كل ما في السماوات والأرض كل الملك لله عز وجل ، وقوله ( لك والملك لا شريك لك ) كقوله في الأول ( لبيك لا شريك لك ) لكن في الأول من باب توحيد الألوهية والثاني من باب توحيد الربوبية ، ولهذا سمى جابر رضي الله عنه هذا بالتوحيد فقال رضي الله عنه : ( أهل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالتوحيد لبيك اللهم لبيك ) .(4/391)
1449 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا قَالتْ إِنِّي لأَعْلمُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ يُلبِّي لبَّيْكَ اللهُمَّ لبَّيْكَ لبَّيْكَ لا شَرِيكَ لكَ لبَّيْكَ إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لكَ تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ . وَقَال شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا سُليْمَانُ سَمِعْتُ خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا(1)
26 ـ بَاب التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْل الإِهْلال
عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلى الدَّابَّةِ
__________
(1) هذا كحديث ابن عمر إلا أنه فيه نقص كقوله هنا مثلاً ( لا شريك لك ) .(4/392)
1450 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيل حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال صَلى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ وَنَحْنُ مَعَهُ بِالمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالعَصْرَ بِذِي الحُليْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلى البَيْدَاءِ حَمِدَ اللهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ ثُمَّ أَهَل بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَل النَّاسُ بِهِمَا فَلمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالحَجِّ قَال وَنَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا وَذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ بِالمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلحَيْنِ قَال أبو عَبْد اللهِ قَال بَعْضُهُمْ هَذَا عَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ(1)
__________
(1) بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا الحديث فيه زيادة على التلبية أنه بين يد التلبية يسبح الله تبارك وتعالى ويُكبر ثم يُهل فيقول : سبحان الله ، الله أكبر ، لبيك اللهم لبيك . وسبق هل يُلبي من حين أن يصلي إذا كان يصلي ، أو إذا استوى على راحلته ، أو إذا استوى على البيداء بالنسبة لذي الحليفة ؟ وقلنا الراجح أنه يلبي من حين ما يغتسل ويصلي إذا كان هناك صلاة ثم يلبي ، ويليه أن يلبي إذا ركب ، وأما الانتظار إلى البيداء فقد وردت الأحاديث الصحيحة بأنه يلبي قبل ذلك . فأنت من حين ما تُحرم لب.
وفي هذا الحديث عدة مسائل ذكرها الراوي ، منها :
أنه أهلَّ بحج وعمرة ، أي قارناً ، قال الإمام أحمد رحمه الله : ( لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً والمتعة أحب إلي ) والأحاديث الواردة في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم مختلفة في اللفظ لكنها متفقة في المعنى ، وقد جمع بينها العلماء رحمهم الله قالوا : فالأحاديث التي فيها أنه أفرد يعني أنه فَعَل فِعْل المفرد لم يأت بعمرة مستقلة بينها وبين حجه إحلال . ومن قال إنه تمتع أراد أنه أجزأه ما يُجزئ المتمتع من العمرة والحج في سفر واحد. ومن قال إنه كان قارناً فهذا هو الواقع أنه كان قارناً كما قال الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة : ( لا أشك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حج قارناً والمتعة أحب إلي ) .
والمتعة أن يُحرم أولاً بالعمرة ثم يُحل منها إحلالاً كاملاً ثم يُحرم بالحج يوم التروية . وورد في حديث أنس بقوله : ( فَلمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالحَجِّ ) ومراده بالناس هنا الذين لم يسوقوا الهدي وأما الذين ساقوا الهدي فإنهم لم يحلوا ، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( لولا أنني معي الهدي لأحللت معكم )) .
ومن فوائد الحديث أيضاً أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نحر بدنات بيده قياماً ولم يبين عددها ، لكن في صحيح مسلم من حديث جابر أن عددها كان ثلاثاً وستين بعيراً وكان الذي أهداه مائة فنحر ثلاثاً وستين بعيراً وأعطى علي أبي طالب ونحر الباقي . قال أهل العلم : وفي هذا أمر نفيسه وهو أنه كانت الإبل التي نحرها بقدر سنين عمره عليه الصلاة والسلام ؛ لأن عمره كان ثلاثاً وستين سنة .
وقوله ( قياماً ) هذا هو الأفضل في الإبل أن تُنحر قياماً ، فإن لم يُحسن كما هو حال غالب الجزارين ذبحها باركة مقيدة .
وقوله ( ذبح النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة كبشين أملحين ) يعني هذا في عيد الأضحى .(4/393)
27 ـ بَاب مَنْ أَهَل حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلتُهُ
1451 حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَال أَخْبَرَنِي صَالحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا قَال أَهَل النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلتُهُ قَائِمَةً
28 ـ بَاب الإِهْلال مُسْتَقْبِل القِبْلةِ
وَقَال أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُالوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ قَال كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهمَا إِذَا صَلى بِالغَدَاةِ بِذِي الحُليْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلتِهِ فَرُحِلتْ ثُمَّ رَكِبَ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَل القِبْلةَ قَائِمًا ثُمَّ يُلبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الحَرَمَ ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِذَا صَلى الغَدَاةَ اغْتَسَل وَزَعَمَ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ فَعَل ذَلكَ تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ فِي الغَسْل(1)
__________
(1) قوله رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لا يوجب بهذا جميع ما سبق ؛ لأنه من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يزل يلبي حتى رمي الجمرة يوم العيد وأنه لم يقطع التلبية لأنه كان قارناً . وأما استقبال القبلة قائماً فهذا يحتاج إلى كلام في الشرح
تعليق من فتح الباري ج: 3 ص: 413 :
قوله باب الإهلال مستقبل القبلة زاد المستملي الغداة بذي الحليفة وسيأتي شرحه . قوله إذا صلى بالغداة أي صلى الصبح بوقت الغداة وللكشميهني إذا صلى الغداة أي الصبح قوله فرحلت بتخفيف الحاء قوله استقبل القبلة قائما أي مستويا على ناقته أو وصفه بالقيام لقيام ناقته وقد وقع في الرواية الثانية بلفظ فإذا استوات به راحلته قائمة وفهم الداودي من قوله استقبل القبلة قائما أي في الصلاة فقال في السياق تقديم وتأخير فكأنه قال أمر براحلته فرحلت ثم استقبل القبلة قائما أي فصلى صلاة الإحرام ثم ركب حكاه بن التين قال وإن كان ما في الأصل محفوظا فلعله لقرب إهلاله من الصلاة انتهى ولا حاجة إلى دعوى التقديم والتأخير بل صلاة الإحرام لم تذكر هنا والاستقبلال إنما وقع بعد الركوب وقد رواه بن ماجه وأبو عوانة في صحيحه من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ كان إذا أدخل رجله في الغرز واستوت به ناقته قائما أهل قوله ثم يمسك الظاهر أنه أراد يمسك عن التلبية وكأنه أراد بالحرم المسجد والمراد بالإمساك عن التلبية التشاغل بغيرها من الطواف وغيره لا تركها أصلا وسيأتي نقل الخلاف في ذلك وأن ابن عمر كان لا يلبي في طوافه كما رواه بن خزيمة في صحيحه من طريق عطاء قال كان ابن عمر يدع التلبية إذا دخل الحرم ويراجعها بعد ما يقضي طوافه بين الصفا والمروة وأخرج نحوه من طريق القاسم بن محمد عن ابن عمر قال الكرماني ويحتمل أن يكون مراده بالحرم منى يعني فيوافق الجمهور في استمرار التلبية حتى يرمي جمرة العقبة لكن يشكل عليه قوله في رواية إسماعيل بن علية إذا دخل أدنى الحرم والأولى أن المراد بالحرم ظاهره لقوله بعد ذلك حتى إذا جاء ذا طوى فجعل غاية الإمساك الوصول إلى ذي طوى والظاهر أيضا أن المراد بالإمساك ترك تكرار التلبية ومواظبتها ورفع الصوت بها الذي يفعل في أول الإحرام لا ترك التلبية رأسا والله أعلم .
قوله ذا طوى بضم الطاء وبفتحها وقيدها الأصيلي بكسرها واد معروف بقرب مكة ويعرف اليوم ببئر الزاهر وهو مقصور منون وقد لا ينون ونقل الكرماني أن في بعض الروايات حتى إذا حاذى طوى بحاء مهملة بغير همز وفتح الذال قال والأول هو الصحيح لأن اسم الموضع ذو طوى لا طوى فقط قوله وزعم هو من إطلاق الزعم على القول الصحيح وسيأتي من رواية بن علية عن أيوب بلفظ ويحدث قوله تابعه إسماعيل هو بن علية قوله عن أيوب في الغسل أي وغيره لكن مقصود الترجمة لأن هذه المتابعة وصلها المصنف كما سيأتي بعد أبواب عن يعقوب بن إبراهيم حدثنا بن علية به ولم يقتصر فيه على الغسل بل ذكره كله إلا القصة الأولى وأوله كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية والباقي مثله ولهذه النكتة أورد المصنف طريق فليح عن نافع المقتصرة على القصة الأولى بزيادة ذكر الدهن الذي ليست له رائحة طيبة ولم يقع في رواية فليح التصريح باستقبال القبلة لكنه من لازم الموجه إلى مكة في ذلك الموضع أن يستقبل القبلة وقد صرح بالاستقبال في الرواية الأولى وهما حديث واحد وإنما احتاج إلى رواية فليح للنكتة التي بينتها والله أعلم وبهذا التقرير يندفع اعتراض الإسماعيلي عليه في إيراده حديث فليح وأنه ليس فيه للاستقبال ذكر قال المهلب استقبال القبلة بالتلبية هو المناسب لأنها إجابة لدعوة إبراهيم ولأن المجيب لا يصلح له أن يولي المجاب ظهره بل يستقبله قال وإنما كان بن عمر يدهن ليمنع بذلك القمل عن شعره ويجتنب ما له رائحة طيبة صيانة للإحرام .
الشيخ : المشكل يكون إذا أراد يلبي أن يستقبل القبلة ، هل نقول إذا أردت أن تُحرك اتجه إلى القبلة ويكون هذا مشروعاً أو نقول هي مصادفة لأن الذي يتجه إلى مكة من أي مكان يكون مستقبل القبلة ؟ فإذا استوت به راحلته وأراد ينطلق فقد استقبل القبلة ، وهذه لم أعلمها مكتوبة عند الفقهاء .(4/394)
1452 حَدَّثَنَا سُليْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا فُليْحٌ عَنْ نَافِعٍ قَال كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهمَا إِذَا أَرَادَ الخُرُوجَ إِلى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ ليْسَ لهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدَ ذِي الحُليْفَةِ فَيُصَلي ثُمَّ يَرْكَبُ وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ ثُمَّ قَال هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وَسَلمَ يَفْعَلُ(1)
29 ـ بَاب التَّلبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الوَادِي
1453 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى قَال حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَال كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا فَذَكَرُوا الدَّجَّال أَنَّهُ قَال مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ لمْ أَسْمَعْهُ وَلكِنَّهُ قَال أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِليْهِ إِذِ انْحَدَرَ فِي الوَادِي يُلبِّي(2)
__________
(1) يعني ولم يذكر صفاته .
(2) وادي ذي الحليفة أو وادي إيش ؟ اقرأ في الفتح .
تعليق من فتح الباري ج: 3 ص: 414 :
قوله باب التلبية إذا انحدر في الوادي أورد فيه حديث بن عباس أما موسى كأني أنظر إليه إذا انحدر إلى الوادي يلبي وفيه قصة وسيأتي بهذا الإسناد بأتم من هذا السياق في كتاب اللباس وقوله أما موسى كأني أنظر إليه قال المهلب هذا وهم من بعض رواته لأنه لم يأت أثر ولا خبر أن موسى حي وأنه سيحج وإنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوي ويدل عليه قوله في الحديث الآخر ليهلن ابن مريم بفج الروحاء انتهى وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم فسيأتي في اللباس بالإسناد المذكور بزيادة ذكر إبراهيم فيه أفيقال أن الراوي غلط فزاده وقد أخرج مسلم الحديث من طريق أبي العالية عن ابن عباس بلفظ كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا أصبعيه في اليسرى مارا بهذا الوادي وله جؤار إلى الله بالتلبية قاله لما مر بوادي الأزرق واستفيد منه تسمية الوادي وهو خلف أمج بينه وبين مكة ميل واحد وأمج بفتح الهمزة والميم وبالجيم قرية ذات مزارع هناك وفي هذا الحديث أيضا ذكر يونس .
الشيخ : الدجال فإنه لا يدخل مكة والمدينة كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة ، وهو أيضاً مكتوب بين عينيه كافر يقرأه المؤمن وإن كان جاهلاً في القراءة ، ويخفى على المنافق وإن كان يعرف القراءة .(4/395)
29 ـ بَاب كَيْفَ تُهِلُّ الحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ
أَهَلَّ تَكَلمَ بِهِ وَاسْتَهْللنَا وَأَهْللنَا الهِلال كُلُّهُ مِنَ الظُّهُورِ وَاسْتَهَل المَطَرُ خَرَجَ مِنَ السَّحَابِ ( وَمَا أُهِل لغَيْرِ اللهِ بِهِ ) وَهُوَ مِنِ اسْتِهْلال الصَّبِيِّ
1454 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْلمَةَ حَدَّثَنَا مَالكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ قَالتْ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فَأَهْللنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَليُهِل بِالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ ثُمَّ لا يَحِل حَتَّى يَحِل مِنْهُمَا جَمِيعًا فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلمْ أَطُفْ بِالبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ فَشَكَوْتُ ذَلكَ إِلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ فَقَال انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلي بِالحَجِّ وَدَعِي العُمْرَةَ فَفَعَلتُ فَلمَّا قَضَيْنَا الحَجَّ أَرْسَلنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إِلى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ فَقَال هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ قَالتْ فَطَافَ الذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالعُمْرَةِ بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى وَأَمَّا الذِينَ جَمَعُوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا(1)
__________
(1) في هذا الحديث من الفوائد أن الحائض إذا قدمت مكة وهي حائض لا تطوف ولا تسعى ؛ لأنها رضي الله عنها قالت : ( لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ) .
وفيه دليل على ما ذكر الفقهاء رحمهم الله من أن السعي لا يصح إلا بعد طواف نسك ، وإلا لقدمت السعي لأن السعي يجوز للحائض . وفيه أيضاً دليل على أن القارن لا يحل إلا يوم النحر ، يحل من العمرة والحج جميعاً . وفيه أيضاً دليل على القول الراجح أن المتمتع لا يكفيه سعي واحد بل لا بد من طوافين وسعيين : طواف وسعي للعمرة ، وطواف وسعي للحج ، لقولها رضي الله عنها : ( فَطَافَ الذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالعُمْرَةِ بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى وَأَمَّا الذِينَ جَمَعُوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا ) تريد بذلك السعي لأن الذين جمعوا بين العمرة والحج طافوا طوافين طواف القدوم وطواف الإفاضة ، لكن مرادها بالطواف هنا يعني بين الصفا والمروة .(4/396)
30 ـ بَاب مَنْ أَهَل فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ
كَإِهْلال النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ
قَالهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ
1455 حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَال عَطَاءٌ قَال جَابِرٌ رضي الله عنه أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ عَليًّا رضي الله عنه أَنْ يُقِيمَ عَلى إِحْرَامِهِ وَذَكَرَ قَوْل سُرَاقَةَ.(1)
__________
(1) كان علي رضي الله عنه قد أهل بما أهل به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فبقي على إحرامه قارناً ، وأما أبو موسى فأمره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يجعل إحرامه بالحج عمرة لأنه لم يسق الهدي .
وفيه دليل على سعة النسك وأنه يصح الإحرام بالشيء المجهول ؛ لأنك إذا قلت أحرمت بما أحرم به فلان فهو مجهول لا تدري أكان أحرم بعمرة أم بحج وعمرة ، لكن الحج واسع في النية .
طيب ، هل من قال الآن : أحرمت بما أحرم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هل يصح أو لا يصح ؟ البخاري رحمه الله قال : ( من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كإهلال النبي ) فهل هذا القيد من البخاري يدل على أن الإنسان لو قال : أحرمت بما أحرم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، اليوم هل يصح أو لا يصح ؟ ظاهر كلام البخاري أنه لا يصح ، ولكن الظاهر أنه يصح ؛ لأن مراد القائل قوة التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيقول أحرمت بما أحرم به النبي . فنقول له : إن كنت عالماً فمعنى قولك هذا أنك أحرمت قارناً وإن كنت جاهلاً فتُعلم فيُقال إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان قارناً . شوف الترجمة ، قيد البخاري هذا فيه إشكال .
تعليق من فتح الباري ج3 ص 416 :
قوله : ( باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم ) أي فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فجاز الإحرام على الإبهام ، لكن لا يلزم منه جواز تعليقه إلا على فعل من يتحقق أنه يعرفه كما وقع في حديثي الباب ، وأما مطلق الإحرام على الإبهام فهو جائز ثم يصرفه المحرم لما شاء لكونه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ذلك وهذا قول الجمهور . وعن المالكية لا يصح الإحرام على الإبهام وهو قول الكوفيين .
الشيخ : يعني أصحاب أبي حنيفة رحمه الله .
متابعة التعليق : قال ابن المنير : وكأنه مذهب البخاري لأنه أشار بالترجمة إلى أن ذلك خاص بذلك الزمن ؛ لأن عليا وأبا موسى لم يكن عندهما أصل يرجعان إليه في كيفية الإحرام فأحالاه على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما الآن فقد استقرت الأحكام وعرفت مراتب الإحرام فلا يصح ذلك والله أعلم . وكأنه أخذ الإشارة من تقييده بزمن النبي صلى الله عليه وسلم .
الشيخ : هذا الفتح أو العيني ؟
القارئ : هذا فتح الباري ، العيني غير هذا .
الشيخ : نعم إيش يقول ؟
القارئ : يقول : أي هذا باب في بيان من أهل أي أحرم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأشار بهذا إلى جواز الإحرام على الإبهام ثم يصرفه المحرم لما شاء لكون ذلك وقع في زمنه صلى الله عليه وسلم ولم ينه عن ذلك . وقيل : كأن البخاري لما لم ير إحرام التقييد ولا الإحرام المطلق ثم يعين بعد ذلك أشار بهذه الترجمة بقوله : ( باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلاله ) إلى أن هذا خاص بذلك الزمن فليس لأحد أن يُحرم بما أحرم به فلان بل لابد أن يُعين العبادة التي يراها ودعت الحاجة إلى إطلاق والحوالة على إحرامه صلى الله عليه وسلم لأن علياً وأبا موسى لم يكن عندهما أصل يرجعان إليه في كيفية الإحرام فأحالا على النبي صلى الله عليه وسلم . فأما الآن وقد استقرت الأحكام وعُرفت مراتب وكيفيات الإحرام . ا.هـ.
قلت : هذا الذي قاله سلمناه في بعضه ولم نسلم في قوله : كأن البخاري لم ير إحرام التقييد ولا الإحرام المطلق أشار بهذه الترجمة إلى أن هذا خاص بهذا الزمن ؛ لأنه ذكر في الترجمة مطلقاً من أهل بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن أين تأتي هذه الإشارة إلى ما ذكره ؟ فالترجمة ساكتة عن ذلك ولا يُعلم رأي البخاري في هذا الحكم ما هو فافهم .
الشيخ : الظاهر أن كلام ابن حجر أصح ، ووجهه أنه إذا كان الإنسان جاهلاً لا يدري أي الأنساك أفضل فعلقه بما أحرم به فلان لأنه يثق به ، وهذا له وجه لكن لو أن أحداً قال : أحرمت بما أحرم به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فهل هذا صحيح ؟ نقول : أما إن كان عالماً بما أحرم به فكأنه قال أحرمت قارناً ، وإن لم يكن عالماً فلمحبته للتأسي قال هذا ويسأل كيف كان حج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم . طيب وإذا سأل وقيل كان قارناً فهل يبقى على أنه قارن ؟ لا .. نقول : اجعله متعة إلا أن تكون قد سقت الهدي ، إن كنت قد سقت الهدي فاستمر في قرانك وإلا فاجعله عمرة لتصير متمتعاً .
سؤال : عفا الله عنك يا شيخ ، المتمتع بالعمرة إلى الحج له أحكام والقارن له أحكام ؟
الجواب : على كل حال نقول : إذا قال أحرمت بما أحرم به فلان قلنا صحيح ، واسأل فلان بماذا أحرم ، إن كان أحرم بعمرة متمتعاً فصحيح ، إن قال أحرمت قارناً أو مفرداً قلنا لهذا الذي قال أحرمت بما أحرم به فلان قلنا له اجعلها عمرة ؛ لأن أبا موسى رضي الله عنه كان مع علي بن أبي طالب ومع ذلك قال أحرمت بما أحرم به النبي ، فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( اجعلها عمرة )) لأنه لم يسق الهدي ، أما علي فكان قد ساق الهدي لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشركه في هديه .
سؤال : إذاعلق إهلاله راح الحج كله ،وأنا لا أدري ماذا صنع هو ؟
الجواب : الحمد لله له أن يصرفها إلى ما يشاء ، إذا لم يعلم حال الرجل الذي علق إحرامه بصفة إحرامه فيصرفه لما شاء .(4/397)
1456 حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَليٍّ الخَلالُ الهُذَليُّ حَدَّثَنَا عَبْدُالصَّمَدِ حَدَّثَنَا سَليمُ بْنُ حَيَّانَ قَال سَمِعْتُ مَرْوَانَ الأَصْفَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه قَال قَدِمَ عَليٌّ رضي الله عنه عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ مِنَ اليَمَنِ فَقَال بِمَا أَهْللتَ قَال بِمَا أَهَل بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ فَقَال لوْلا أَنَّ مَعِي الهَدْيَ لأَحْللتُ ، وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَال لهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ بِمَا أَهْللتَ يَا عَليُّ قَال بِمَا أَهَل بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ قَال فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ.(4/398)
1457 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَال بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ إِلى قَوْمٍ بِاليَمَنِ فَجِئْتُ وَهُوَ بِالبَطْحَاءِ فَقَال بِمَا أَهْللتَ قُلتُ أَهْللتُ كَإِهْلال النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ قَال هَل مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ قُلتُ لا فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْللتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي أَوْ غَسَلتْ رَأْسِي فَقَدِمَ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَال إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ قَال اللهُ ( وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ ) وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ فَإِنَّهُ لمْ يَحِل حَتَّى نَحَرَ الهَدْيَ.(1)
__________
(1) قوله رضي الله عنه : ( فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي ) هذا مشتبه هل هي محرم أو غير محرم ، فماذا نعمل ؟ نحملها على المحكم وأنه كان محرماً لها ؛ لأنه لا يجوز لإنسان أن يمكن امرأة غير محرم أن تمشط رأسه .
وفيه أيضاً قوله : ( فَقَدِمَ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَال إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ قَال اللهُ تعالى : { وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ } وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ فَإِنَّهُ لمْ يَحِل حَتَّى نَحَرَ الهَدْيَ ) يريد رضي الله عنه منع المتعة ، وكان رضي الله عنه يمنع الناس من المتعة بحجة أنه لو تمتع الناس بعمرة تامة ثم أحرموا بالحج في اليوم الثامن اقتصروا على هذا العمل وقالوا حصل لنا عمرة وحج والحمد لله نبقى في بيوتنا ، فرأى رضي الله عنه أن يمنع الناس من المتعة من أجل أن يأتوا بعمرة في غير أشهر الحج فيكون البيت دائماً معموراً بالعمار ، لكن قوله رضي الله عنه مرجوح ، بماذا ؟ بسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويقال في الاستدلال بالآية : { وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ } أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بيَّن بالسنة كيف إتمامها ، فإتمام الحج والعمرة إذا كان قارناً أن يتمتع ويفسخ القرآن إلا إذا كان معه هدي ولا ينافي الآية الكريمة ؛ لأن الذي يأتي بعمرة أولاً ثم بحج ثانياً أتم الحج وأتم العمرة . وأما قوله : (وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ فَإِنَّهُ لمْ يَحِل حَتَّى نَحَرَ الهَدْيَ ) فنعم ، إذا كان الإنسان معه هدي لا يمكن أن يحل .(4/399)
31 ـ بَاب قَوْل اللهِ تَعَالى ( الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَال فِي الحَجِّ )
وَقَوْلهِ ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلةِ قُل هِيَ مَوَاقِيتُ للنَّاسِ وَالحَجِّ )
وَقَال ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهمَا أَشْهُرُ الحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو القَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الحَجَّةِ وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لا يُحْرِمَ بِالحَجِّ إِلا فِي أَشْهُرِ الحَجِّ وَكَرِهَ عُثْمَانُ رضي الله عنه أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ .(4/400)
1458 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَال حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الحَنَفِيُّ حَدَّثَنَا أَفْلحُ بْنُ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ القَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا قَالتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ وَليَاليَ الحَجِّ وَحُرُمِ الحَجِّ فَنَزَلنَا بِسَرِفَ قَالتْ فَخَرَجَ إِلى أَصْحَابِهِ فَقَال مَنْ لمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلهَا عُمْرَةً فَليَفْعَل وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْيُ فَلا قَالتْ فَالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لهَا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالتْ فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا أَهْل قُوَّةٍ وَكَانَ مَعَهُمُ الهَدْيُ فَلمْ يَقْدِرُوا عَلى العُمْرَةِ قَالتْ فَدَخَل عَليَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ وَأَنَا أَبْكِي فَقَال مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهُ قُلتُ سَمِعْتُ قَوْلكَ لأَصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ العُمْرَةَ قَال وَمَا شَأْنُكِ قُلتُ لا أُصَلي قَال فَلا يَضِيرُكِ إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ كَتَبَ اللهُ عَليْكِ مَا كَتَبَ عَليْهِنَّ فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا قَالتْ فَخَرَجْنَا فِي حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى فَطَهَرْتُ ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى فَأَفَضْتُ بِالبَيْتِ قَالتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ فِي النَّفْرِ الآخِرِ حَتَّى نَزَل المُحَصَّبَ وَنَزَلنَا مَعَهُ فَدَعَا عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَقَال اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الحَرَمِ فَلتُهِل بِعُمْرَةٍ ثُمَّ افْرُغَا ثُمَّ ائْتِيَا هَا هُنَا فَإِنِّي أَنْظُرُكُمَا حَتَّى تَأْتِيَانِي قَالتْ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ وَفَرَغْتُ مِنَ الطَّوَافِ ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ فَقَال هَل فَرَغْتُمْ فَقُلتُ نَعَمْ فَآذَنَ(4/401)
بِالرَّحِيل فِي أَصْحَابِهِ فَارْتَحَل النَّاسُ فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلى المَدِينَةِ . ضَيْرِ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ ضَيْرًا وَيُقَالُ ضَارَ يَضُورُ ضَوْرًا وَضَرَّ يَضُرُّ ضَرًّا(1)
__________
(1) شوف الآثار التي في الترجمة .
تعليق من فتح الباري ج: 3 ص: 419 :
قوله : ( باب قول الله تعالى الحج أشهر معلومات إلى قوله في الحج وقوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) قال العلماء : تقدير قوله : { الحج أشهر معلومات } أي الحج حج أشهر معلومات أو أشهر الحج أو وقت الحج أشهر معلومات فحُذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه . وقال الواحدي : يمكن حمله على غير إضمار وهي أن الأشهر جُعلت نفس الحج اتساعا لكون الحج يقع فيها كقولهم ليل نائم . وقال الشيخ أبو إسحاق في المهذب : المراد وقت إحرام الحج لأن الحج لا يحتاج إلى أشهر فدل على أن المراد وقت الإحرام به . وأجمع العلماء على أن المراد بأشهر الحج ثلاثة أولها شوال ولكن اختلفوا هل هي ثلاثة بكاملها ، وهو قول مالك ونقل عن الإملاء للشافعي أو شهران وبعض الثالث وهو قول الباقين ثم اختلفوا فقال ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وآخرون عشر ليال من ذي الحجة .
وهل يدخل يوم النحر أو لا ؟ قال أبو حنيفة وأحمد نعم ، وقال الشافعي في المشهور المصحح عنه لا وقال بعض أتباعه تسع من ذي الحجة ولا يصح في يوم النحر ولا في ليلته وهو شاذ ، واختلف العلماء أيضا في اعتبار هذه الأشهر هل هو على الشرط أو الاستحباب ؟ فقال ابن عمر وابن عباس وجابر وغيرهم من الصحابة والتابعين هو شرط فلا يصح الإحرام بالحج إلا فيها وهو قول الشافعي ، وسيأتي استدلال ابن عباس لذلك في هذا الباب ، واستدل بعضهم بالقياس على الوقوف وبالقياس على إحرام الصلاة وليس بواضح ؛ لأن الصحيح عند الشافعية أن من أحرم بالحج في غير أشهره انقلب عمرة تجزئه عن عمرة الفرض وأما الصلاة فلو أحرم قبل الوقت انقلب نفلا بشرط أن يكون ظاناً دخول الوقت لا عالما فاختلفا من وجهين .
قوله : ( وقال بن عمر رضي الله عنهما أشهر الحج ... إلخ ) وصله الطبري والدارقطني من طريق ورقاء عن عبد الله بن دينار عنه قال : (الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ) وروى البيهقي من طريق عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مثله والإسنادان صحيحان ، وأما ما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : ( من اعتمر في أشهر الحج شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة قبل الحج فقد استمتع ) فلعله تجوز في إطلاق ذي الحجة جمعاً بين الروايتين والله أعلم .
ش4 ـ وجه ب :
قوله : ( وقال ابن عباس وصله ابن خزيمة والحاكم والدارقطني من طريق الحاكم عن مقسم عنه قال لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج ) ورواه بن جرير من وجه آخر عن ابن عباس قال : ( لا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج ) قوله : ( وكره عثمان رضي الله عنه أن يحرم من خراسان أو كرمان ) وصله سعيد بن منصور : ( حدثنا هشيم حدثنا يونس بن عبيد أخبرنا الحسن هو البصري أن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه ) وقال عبد الرزاق : ( أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال أحرم عبد الله بن عامر من خراسان فقدم على عثمان فلامه وقال غزوت وهان عليك نسكك ) وروى أحمد بن سيار في تاريخ مرو من طريق داود بن أبي هند قال : ( لما فتح عبد الله بن عامر خراسان قال لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي هذا محرما فأحرم من نيسابور فلما قدم على عثمان لامه على ما صنع ) وهذه أسانيد يقوي بعضها بعضا وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق محمد بن إسحاق أن ذلك كان في السنة التي قُتل فيها عثمان . ومناسبة هذا الأثر للذي قبله أن بين خراسان ومكة أكثر أشهر الحج فيستلزم أن يكون أحرم أشهر الحج فكره ذلك عثمان ، وإلا فظاهره يتعلق بكراهة الإحرام قبل الميقات فيكون من متعلق الميقات المكاني لا الزماني .
ثم أورد المصنف في الباب حديث عائشة في قصة عمرتها وسيأتي الكلام عليه مستوفى في الباب الذي بعده .
الشيخ : أقرب ما يقال قول مالك رحمه الله أنها ثلاثة أشهر وليس المعنى أنه يمكن أن يؤتى الحج بعد عرفة ، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( الحج عرفة )) لكن المراد أنه يجوز أن يؤخر أفعال النسك التي لم تُقيد بوقت معين إلى آخر الشهر ، فمثلاً الطواف طواف الإفاضة ليس مخصوصاً بوقت معين فلك أن تؤخره إلى آخر الشهر ولا يجب أن تؤخره إلى ما بعده إلا بعذر كامرأة نفساء مثلاً لا تستطيع أن تطوف . كذلك السعي لك أن تؤخره إلى آخر الشهر شهر ذي الحجة ، كذلك الحلق لك أن تؤخره إلى آخر ذي الحجة ، وأما الرمي والمبيت فهو مُقيد بزمن معين فيختص به .
ولا يستقيم القول بأنه إلى العاشر من ذي الحجة لأنه مشكل ؛ لأن بعد عاشر ذي الحجة تقع أعمال من الحج من أعمال النسك كالرمي والمبيت ولا يصح الإحرام بالحج من بعد عرفة على كل الأقوال، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( الحج عرفة )).
وقوله : (ضَيْرِ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ ضَيْرًا وَيُقَالُ ضَارَ يَضُورُ ضَوْرًا وَضَرَّ يَضُرُّ ضَرًّا ) هذا يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم : (( فلا يضير)) ، وفي هذا الحديث حسن خُلق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع أهله وتسلية الإنسان بما يكون مع غيره لأن الإنسان يتسلى إذا وقع الضر عليه وعلى غيره ، وإلى هذا يشير قوله تبارك وتعالى : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } مع أنه في الدنيا ينفع يهون عليه الأمر . وأيضاً المعذب في النار ـ آجارنا الله وإياكم منها ـ يرى أنه لا أحد أشد من تعذيبه ، ولو رأى أن أحداً أشد من تعذيبه لهان عليه الأمر .
سؤال : ما هو الصواب في أن من أهل بالحج قبل أشهر الحج ؟
الجواب : أحرم، يعني أحرم بالحج ؟ الأقرب قول الشافعي رحمه الله أنه لا يصح الإحرام بالحج قبل اشهر الحج وأنه لو فعل انقلب عمرة .
سؤال : قول عائشة رضي الله عنها لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم ( ما يبكيك ) لم تقل له أنا حائض ؟
الجواب : على كل حال الرواية اختلفوا فيها ، لكن إذا ذكر الإنسان شيئاً من لوازم شيء آخر اكتفى به ، وما زال الناس حتى إلى اليوم هذا تُسأل المرأة مثلاً لماذا ما صمتي ؟ تقول لا أُصلي ، فيُعرف . فإذا ذكر الإنسان الشيء الذي من لوازم غيره اكتفى به .
سؤال : هذا رجل ـ أثابك الله يا شيخ ـ أحرم بالعمرة لوالده ثم عندما قربت أيام الحج أحرم بالحج لنفسه على أن يكون مفرداً في حجه ؟
الجواب : أدخل حج نفسه على حج أبيه ؟
السائل : الأولى عمرة لوالده لكن في أشهر الحج ، ثم أحرم بالحج ونوى الإفراد ؟
الجواب : إذا أحرم الإنسان بالعمرة في أشهر الحج عن شخص ثم أحرم في نفس السنة لنفسه بالحج فهو متمتع ، ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله : ولا يُعتبر في التمتع وقوع النسكين عن واحد ، فلو اعتمر عن شخص وحج عن آخر فهو متمتع . انتبه لذلك لأن العبرة لتمتعه بين العمرة والحج سواء كان النسكان لنفسه أو لآخر أو أحدهما لنفسه والثاني لآخر .(4/402)
32 ـ بَاب التَّمَتُّعِ وَالإِقْرَانِ وَالإِفْرَادِ بِالحَجِّ وَفَسْخِ الحَجِّ
لمَنْ لمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ
1459 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ وَلا نُرَى إِلا أَنَّهُ الحَجُّ فَلمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالبَيْتِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ مَنْ لمْ يَكُنْ سَاقَ الهَدْيَ أَنْ يَحِل فَحَل مَنْ لمْ يَكُنْ سَاقَ الهَدْيَ وَنِسَاؤُهُ لمْ يَسُقْنَ فَأَحْللنَ قَالتْ عَائِشَةُ رضي الله عَنْهَا فَحِضْتُ فَلمْ أَطُفْ بِالبَيْتِ فَلمَّا كَانَتْ ليْلةُ الحَصْبَةِ (1) قَالتْ يَا رَسُول اللهِ يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ قَال وَمَا طُفْتِ ليَاليَ قَدِمْنَا مَكَّةَ قُلتُ لا قَال فَاذْهَبِي مَعَ أَخِيكِ إِلى التَّنْعِيمِ فَأَهِلي بِعُمْرَةٍ ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا قَالتْ صَفِيَّةُ مَا أُرَانِي إِلا حَابِسَتَهُمْ قَال عَقْرَى حَلقَى أَوَ مَا طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ قَالتْ قُلتُ بَلى قَال لا بَأْسَ انْفِرِي قَالتْ عَائِشَةُ رضي الله عَنْهَا فَلقِيَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَليْهَا أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا (2)
__________
(1) ليلة الحصبة في ليلة الرابع عشر من شهر ذي الحجة وسميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نزل فيها بالمحصب وهو مكان معروف فسُميت ليلة الحصبة .
(2) هذا شك ، سياق الحديث يعارض المعروف من أن عائشة رضي الله عنها حاضت بسرف وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دخل عليها وهي تبكي وأمرها أن تُدخل الحج على العمرة وتكون قارنة . قم أنها فيها أيضاً من الشيء الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن حالها بعد قدومها مكة هل طافت أو لا ؟ ومثل هذا لا يخفى عليه غالباً ، ففيه إشكال .(4/403)
1460 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالكٌ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَل بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَل بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَل بِالحَجِّ وَأَهَل رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ بِالحَجِّ فَأَمَّا مَنْ أَهَل بِالحَجِّ أَوْ جَمَعَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ(1)
__________
(1) هذا واضح هذا أقسام النسك ثلاثة: إحرام بالعمرة، إحرام بالحج، إحرام بهما جميعاً . ولكن قولها رضي الله عنها : ( أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ) يُحمل على أنه ابتدأ الإحرام بالحج ثم قيل له قل حجاً وعمرة فقرنهما بعد أن أحرم بالحج ، وهذا جائز على مذهب بعض أهل العلم أن يُدخل العمرة على الحج ، كما أنه يجوز بالاتفاق أن يُدخل الحج على العمرة . وعلى هذا فيكون صفة القران على هذا القول الذي هو ظاهر حديث عائشة يكون صفة القران كم ؟ ثلاث صفات :
الصفة الأولى : أن يحرم بهما جميعاً ، يقول لبيك عمرة وحج .
والثانية : أن يُحرم أولاً بالحج ثم يُدخل العمرة عليه ليصير متمتعاً . وهذا انفسخ الحج .
والثالثة : أن يُحرم أولاً بالعمرة ثم يُدخل الحج عليها ، وهذا ما فعلته عائشة رضي الله عليها .
الرابع من أقسام النسك : أن يحرم أولاً بالحج ثم يدخل العمرة عليه ويبقى في إحرامه يعني لا يتحلل ، وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله وجماعة من العلماء .(4/404)
1461 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الحَكَمِ عَنْ عَليِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ قَال شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَليًّا رضي الله عنهمَا وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ المُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَلمَّا رَأَى عَليٌّ أَهَل بِهِمَا لبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ قَال مَا كُنْتُ لأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ لقَوْل أَحَدٍ(1)
__________
(1) لكن قول علي رضي الله عنه ليس بحجة لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أهل بحج وعمرة ولم يتمتع حيث كان معه الهدي ، ولا شك أن من كان معه الهدي الأفضل أن يكون قارناً وأما من ليس معه هدي فالأفضل أن يكون متمتعاً ، وأما نهي عثمان رضي الله عنه عن المتعة فكما أسلفت أنه رضي الله عنه وعمر وأبا بكر نهوا عن ذلك من أجل أن يعمر البيت الحرام بالزائرين لأن الناس في ذلك الوقت إذا كان تهيأ لهم أن يأتوا بعمرة وحج في سفر واحد كان سهلاً عليهم ، وإذا أُنشئ السفر من بلاد بعيدة على الإبل ففيه صعوبة ، فخاف هؤلاء الخلفاء أن يتهاون الناس في زيارة البيت . ولكن لا شك أن الأولى ما دلت عليه السنة وهو الأمر بالمتعة وأن الأفضل أن يتمتع الإنسان على كل حال إلا إذا ساق الهدي فالأفضل القران.(4/405)
1462 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيل حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا قَال كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ العُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الفُجُورِ فِي الأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ المُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ إِذَا بَرَأ الدَّبَرْ وَعَفَا الأَثَرْ وَانْسَلخَ صَفَرْ حَلتِ العُمْرَةُ لمَنِ اعْتَمَرْ(1)
قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلينَ بِالحَجِّ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا يَا رَسُول اللهِ أَيُّ الحِل قَال حِلٌّ كُلُّهُ(2)
__________
(1) هذا استنتاج باطل ( إذا برأ الدبر ) يعني دبر الإبل الذي يكون بسبب التحميل عليها تكون جروح على ظهورها ، يكون إذا برأ الدبر ، ومتى يبرأ ؟ بعد أشهر أو شهر أو شهرين . الثاني يقول : ( إذا برأ الدبر وعفا الأثر ) عفا الأثر يعني انمحى ، والمراد أثر الإبل ؛ لأنه كان في الأول هناك ما يسمونه بالطرق والجواب من آثار خفاف الإبل وحوافر الحمير والخيل . والثالث : ( وانسلخ صفر ) المراد صفر محرم ، انسلخ محرم ( حلت العمرة لمن اعتمر ) فيقال هذا كلام باطل والعمرة تحل في أشهر الحج وقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم للتمتع بالحج .
(2) يعني هو حل كله حتى أوردوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إيراداً وقالوا : يا رسول الله نخرج إلى منى وذكر أحدنا يقطر منياً ؟ ماذا أُريد بهذا ؟ جماع الإماء ، كيف نجامع بين العمرة والحج ونخرج إلى منى وذكر أحدنا يقطر منياً ؟ قال : (( افعلوا ما أمرتكم به )) وهذا يدل على أن الحل بين العمرة والحج للتمتع حلٌ كامل تحل به النساء ويحل به الطيب واللباس وكل المحظورات .
سؤال : أحسن الله إليكم ، أمره عليه الصلاة والسلام الصحابة بالحل هل يقال هو أمر للإباحة أو أمر للوجوب ؟
الجواب : لعلك تقول هل يقال إنه أمر سنة أو وجوب ، الصحيح أنه أمر سنة ، ولكنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يجب على الصحابة أن ينفذوا ؛ لأن مجاهرة الصحابة بمخالفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها فساد كبير ، فيقول من بعدهم : إذا كان الصحابة خالفوا الرسول فكيف لا نخالف ؟ ثم إن فعلهم لهذا تطبيق لهذه السنة عملياً ، والتطبيق العملي قد يكون أبلغ من المثال القولي ، وهذا الذي ذكرته الآن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، هل فسخ الحج إلى العمر بالتمتع هل هو واجب أو سنة أو فيه تفصيل ؟ أكثر العلماء على أنه سنة ، وأعني بأكثر العلماء الذين يجوزون الفسخ ؛ لأن من العلماء من منع الفسخ وقال لا يمكن أن يفسخ الإنسان حجه إلى عمرة أبداً . لكن هذا القول ضعيف جداً ولا معول عليه . ومنهم من قال هو سنة مطلقاً . ومنهم من قال هو واجب مطلقاً . ومنهم من فصَّل قال : هو واجب في حق الصحابة رضي الله عنهم من أجل تثبيت السنة وتطبيقها .
ولا يخفى علينا جميعاً أن هناك فرقاً بين أن يعصي الإنسان أوامر أبيه مجابهةً وبين أن يعصي ذلك في وقت آخر ، بينهما فرق عظيم . فالصواب ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله أن ذلك واجب في حق الصحابة رضي الله عنهم سنة في حق غيرهم . ولهذا قال أبو ذر رضي الله عنه ، قال : إنها ليست عامة ولكنها لنا خاصة. يعني الصحابة ، ومراده بذلك الوجوب ، أفهمت ؟(4/406)
1463 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَال قَدِمْتُ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ فَأَمَرَهُ بِالحِل .
1464 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَال حَدَّثَنِي مَالكٌ ح ، وحَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنهمْ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ أَنَّهَا قَالتْ يَا رَسُول اللهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلمْ تَحْلل أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَال إِنِّي لبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلدْتُ هَدْيِي فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ(1)
__________
(1) وهكذا من ساق الهدي لا يمكن أن يجعلها عمرة يجب أن يبقى على إحرامه إلى يوم العيد . وقوله : ( لبدت رأسي ) إنما لبده لطول المدة لأنه لن يقصره ولن يحلقه إلا يوم العيد وهو قدم في اليوم الرابع ، بقي على العيد كم ؟ ستة أيام ، وهو قد خرج في آخر ذي القعدة فلبد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأسه لأجل أن لا يحتاج إلى حلق أو إلى تقصير .(4/407)
1465 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ قَال تَمَتَّعْتُ فَنَهَانِي نَاسٌ فَسَأَلتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا فَأَمَرَنِي فَرَأَيْتُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ رَجُلاً يَقُولُ لي حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلةٌ فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَال سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ فَقَال لي أَقِمْ عِنْدِي فَأَجْعَل لكَ سَهْمًا مِنْ مَالي قَال شُعْبَةُ فَقُلتُ لمَ فَقَال للرُّؤْيَا التِي رَأَيْتُ(1)
__________
(1) في هذا دليل على أن ما أفتاه به عبد الله بن عباس هو الصواب لأنه رأى في المنام أن رجلاً دعا له بقبولها ، ولو كانت غير صواب لكانت مردودة لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) . وفي هذا دليل على مكافأة من بشرك بما يسرك ؛ لأن ابن عباس كافأه بأن يقيم عنده فيجعل له سهماً من ماله ، وفيه دليل على أن الرؤيا قد تكون ضرب أمثال وقد تكون باللازم بلازم الشيء وقد تكون بالصريح ، وهذه التي حصلت لهذه الرجل باللازم لأن من لازم القبول أن يكون العمل صحيحاً .
سؤال : قوله عليه الصلاة والسلام : (( إِنِّي لبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلدْتُ هَدْيِي فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ )) هل يقال للقارن إنه ما يحل حتى ينحر ؟
الجواب : إذا ساق الهدي ، إي نعم نقول هذا .
السائل : لو طاف ورمى الجمرة ما يحل ؟
الجواب : ظاهر الحديث إنه ما يحل ، أفهمت ؟ هذا ظاهر الحديث أنه لا يحصل التحلل برمي جمرة العقبة يوم العيد والحلق وأنه لا بد من النحر إذا كان قد ساق الهدي . وهذا القول ليس ببعيد أنه إذا ساق الهدي ينتظر حتى ينحره ، وقد يُرد بهذه الآية : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } لكن أكثر العلماء على أن الحكم واحد فيمن ساق الهدي وغيره أنه إذا رمى وحلق حل .(4/408)
1466 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ قَال قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فَدَخَلنَا قَبْل التَّرْوِيَةِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ فَقَال لي أُنَاسٌ مِنْ أَهْل مَكَّةَ تَصِيرُ الآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً فَدَخَلتُ عَلى عَطَاءٍ أَسْتَفْتِيهِ فَقَال حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللهِ رضي الله عنهمَا أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ يَوْمَ سَاقَ البُدْنَ مَعَهُ وَقَدْ أَهَلُّوا بِالحَجِّ مُفْرَدًا فَقَال لهُمْ أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ البَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ وَقَصِّرُوا ثُمَّ أَقِيمُوا حَلالا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالحَجِّ وَاجْعَلُوا التِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً فَقَالُوا كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الحَجَّ فَقَال افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ فَلوْلا أَنِّي سُقْتُ الهَدْيَ لفَعَلتُ مِثْل الذِي أَمَرْتُكُمْ وَلكِنْ لا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلهُ فَفَعَلُوا . قَال أبو عَبْد اللهِ أَبُو شِهَابٍ ليْسَ لهُ مُسْنَدٌ إِلا هَذَا(1)
__________
(1) هذا فيه من الفوائد بيان ضرر المفتين بغير علم حيث قالوا : إن حجتك حجة مكية ، يعني ليست متمتعاً ، فدخل على عطاء رحمه الله وهو من أفقه الناس في علم المناسك وسأله فذكر هذا الحديث .
وفيه جواز الاستفهام من العالم إذا أبان علماً لقولهم رضي الله عنهم : ( كيف نجعلها بمتعة وقد سمينا الحج ) يعني أحرمنا بالحج ، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( افعلوا ما أمرتكم )) وهذا مما يؤيد وجوب التمتع على الصحابة رضي الله عنهم الذين وجههم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالأمر (( فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم )) وفي هذا دليل على أن سوق الهدي يمنع من الحل لقول الله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } (( ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله )) ففعلوا .(4/409)
1467 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ قَال اخْتَلفَ عَليٌّ وَعُثْمَانُ رضي الله عنهمَا وَهُمَا بِعُسْفَانَ فِي المُتْعَةِ فَقَال عَليٌّ مَا تُرِيدُ إِلا أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ فَلمَّا رَأَى ذَلكَ عَليٌّ أَهَل بِهِمَا جَمِيعًا(1)
__________
(1) في هذا دليل على أن اختلاف الكبار في العلم والمرتبة ، يجري بينهما اختلاف ولكن هذا لا يؤثر اختلافاً في القلوب ، خلاف ما كان عليه بعض الناس اليوم تجده إذا خالفه صاحبه في شيء من الأشياء ثأر في قلبه عليه وهذا من نزغات الشيطان ، والواجب أن أخاك إذا خالفك في شيء أن تناقشه وتنظر ما عنده فقد يكون عنده من العلم ما ليس عندك ، ثم إذا توصلتم إلى اتفاق فهذا المطلوب . يعني اتفقت معه على اتفقا في الرأي فهذا المطلوب وإلا فلكل رأي وفي هذه الحال لا يقال إنكما اختلفتما لأن كلاً منكما سلك طريقاً ظنه الحق فليعذر كل واحد منكما الآخر .
سؤال : بارك الله فيكم ، اختلاف القلوب هل هذا يكون مع اختلاف المنهج ، يعني منهج معروف لاسيما إذا عُرف أن الشخص المخالف أنه عنده علم وعنده ورع لكن خالف منهج السلف مثلاً ؟
الجواب : تعصب ؟
السائل : لا .. ما ندري هو خالف .. لكن يظهر أنه صاحب علم وأنه صاحب ورع ؟
الجواب : لا شك أن هذا لا يؤدي إلى اختلاف القلوب ، لكن إذا عُلم أنه صاحب مبدأ وصاحب حزب ويريد أن يُفرق الأمة بتحزبه فهذا يكرهه الإنسان لا لأنه خالف لكن لمنهجه ومبدأه .
سؤال : هل نقابله البشاشة والقبول أو نهجره ؟
الجواب : هذا حسب الحال إن رأيت أنك إذا بششت في وجهه وأكرمته لان قلبه ورجع إلى الحق فافعل وإلا فاهجره .
سؤال : عفا الله عنك ، الصحابة رضي الله عنهم ليس بينهم ضغينة في القلوب ؟
الجواب : وهذا هو الواجب ، الواجب إذا عرفت أن صاحبك يريد الحق وخالفك في رأيك أن تحبه لا أن تكرهه ؛ لأنه مما يدل على ورعه أنه خالفك لأجل الحق ولم يداهنك .
سؤال: ما موقف طالب العلم من العلماء الذين يختلفون في المسائل؟
الجواب : هذا سبق الكلام عليه وقلنا إن الإنسان يقلد من يرى أنه أقرب إلى الصواب لكثرة علمه وأمانته وثقته .(4/410)
33 ـ بَاب مَنْ لبَّى بِالحَجِّ وَسَمَّاهُ
1468 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ قَال سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللهِ رضي الله عنهمَا قَال قَدِمْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ وَنَحْنُ نَقُولُ لبَّيْكَ اللهُمَّ لبَّيْكَ بِالحَجِّ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ فَجَعَلنَاهَا عُمْرَةً(1)
__________
(1) في هذا دليل على أن الإنسان يسمي نسكه في حال التلبية ، إن كان في عمرة قال لبيك اللهم عمرة، وإن كان في حج قال لبيك اللهم حجاً، وإن كان في حج وعمرة قال لبيك اللهم حجاً وعمرة ، لكن هل يكرر هذا مع تكرار التلبية أو أحياناً وأحياناً ؟ الأمر في هذا واسع فيما أرى إن كرر مع كل تلبية فهذا خير وإن صار يقول ذلك أحياناً فالأمر واسع .
طيب ، فإذا قال قائل : أليس الله تعالى يقول : { وأتموا الحج والعمرة والعمرة لله } وهذا أحرم بالحج ، كيف نقول حوله إلى عمرة ؟ نقول : هذا من كمال الحج ؛ لأنك إذا كنت محرماً بالحج ماذا يحصل لك من نسك ؟ حج فقط ، لكن إذا حولته إلى عمرة حصل لك عمرة وحج . هذه واحدة .
ثانياً : إذا قال قائل : وإذا كان محرماً بحج وعمرة قارناً أتقولون إنه يحوله إلى عمرة ليصير متمتعاً ؟ فالجواب : نقول نعم . فإذا قال هذا إذاً ما استفاد شيئاً لأن حجه وعمرته قد أتى بهما بنية واحدة ؟ فالجواب : لكن التمتع يحصل على عمرة كاملة وعلى حج كامل ، وأما القارن فإن فعله كفعل المفرد تماماً لا يزيد . يؤخذ من هذا أن انتقال الإنسان من الفاضل إلى المفضول ولو كان الفاضل واجباً فإنه لا حرج إذا انتقل إليه من جنسه ، ولهذا لو أنه أحرم بحج مفرداً ثم لما رأى الزحام وشدة الحج حوله إلى عمرة ليتحلل ، هل يجوز أو لا يجوز ؟ لا يجوز لأن هذا تحيل على إبطال النسك الذي شرع فيه لا إلى ما هو أفضل منه .
ولهذا قيَّد الفقهاء هذه المسألة فقالوا : يسن لقارن ومفرد أن يجعلا ذلك عمرة ليصيرا متمتعين . بهذا القيد ( ليصيرا متمتعين ) أما إذا حوله إلى عمرة ليطوف ويسعى ويحلق أو يقصر ثم ينصرف إلى أهله فهذا لا يجوز. فصار تحويل الإقران والإفراد إلى تمتع من إتمام الحج والعمرة لأن الرجل انتقل من فاضل إلى أفضل .(4/411)
34 ـ بَاب التَّمَتُّعِ عَلى عَهْدِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ
1469 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيل حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَال حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ عَنْ عِمْرَانَ رضي الله عنه قَال تَمَتَّعْنَا عَلى عَهْدِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ فَنَزَل القُرْآنُ قَال رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ(1)
35 ـ بَاب قَوْل اللهِ تَعَالى : ( ذَلكَ لمَنْ لمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ )
__________
(1) قيل إنه عمر رضي الله عنه ( قال برأيه ما شاء ) وهو أنه كان ينهى عن التمتع ، وسر نهيه من أجل أن يكون البيت معموراً في كل السنة فتكون العمرة في وقت آخر غير أشهر الحج ، والمتمتع متى تكون عمرته؟ في أشهر الحج وفي سفر واحد ، فرأى رضي الله عنه أن يمنع التمتع ونهى عنه ، وهذا عكس رأي ابن عباس ، ابن عباس رضي الله عنه يرى وجوب التمتع ، بل قال : إن الرجل إذا طاف وسعى وقصَّر حل شاء أو أبى . لكن رأيه رضي الله عنه في قوله : ( شاء أم أبى ) فيه نظر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة ولم يقل انقلب إحرامكم عمرة ولو كان ينقلب عمرة شاء أو أبى لم يكن لأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بجعلها عمرة ولم يكن لغضبه عليهم حين تأخروا لم يكن له معنى .
فالصواب أن تحويل الحج المفرد أو الحج المقرون بالعمرة إلى تمتع أفضل فقط ، وأما الوجوب ففيه نظر .(4/412)
وَقَال أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ البَصْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ البَرَّاءُ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا أَنَّهُ سُئِل عَنْ مُتْعَةِ الحَجِّ فَقَال أَهَل المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَأَهْللنَا فَلمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ اجْعَلُوا إِهْلالكُمْ بِالحَجِّ عُمْرَةً إِلا مَنْ قَلدَ الهَدْيَ فَطُفْنَا بِالبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلبِسْنَا الثِّيَابَ وَقَال مَنْ قَلدَ الهَدْيَ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لهُ ( حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلهُ ) ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِل بِالحَجِّ فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ المَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَليْنَا الهَدْيُ كَمَا قَال اللهُ تَعَالى ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ) إِلى أَمْصَارِكُمُ الشَّاةُ تَجْزِي فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالى أَنْزَلهُ فِي كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وَسَلمَ وَأَبَاحَهُ للنَّاسِ غَيْرَ أَهْل مَكَّةَ قَال اللهُ ( ذَلكَ لمَنْ لمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ ) وَأَشْهُرُ الحَجِّ التِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالى فِي كِتَابهِ شَوَّالٌ وَذُو القَعْدَةِ وَذُو الحَجَّةِ فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الأَشْهُرِ فَعَليْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ وَالرَّفَثُ الجِمَاعُ وَالفُسُوقُ المَعَاصِي وَالجِدَالُ المِرَاءُ(1)
__________
(1) هذا من أجمع السياقات في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، ولنتكلم عليه ، قال الله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تلك عشرة كاملة ذَلكَ لمَنْ لمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ } المشار إليه هل هو وجوب الهدي أو هو التمتع ؟ في هذا قولان للعلماء ، فقيل إنه الهدي أو بدله ، وعلى هذا فيكون لأهل مكة تمتع ، وقيل إنه عائد على التمتع ووجوب الهدي فرع منه ، وعلى هذا فليس على أهل مكة تمتع . وهذا هو الصواب أن أهل مكة ليس لهم تمتع لكن لو فُرض أن المكي قدم من المدينة إلى مكة فهنا يمكن أن يتمتع فيُحرم بالعمرة من ذي الحليفة وإذا أتى مكة طاف وسعى وقصر ويُحرم بالحج يوم التروية وليس عليه هديه ؛ لأنه من حاضري المسجد الحرام . أما أن يخرج من مكة ويأتي بعمرة ثم يقول أنا متمتع فلا ، وقد استدل بهذا الحديث من قال : إن أهل مكة لا عمرة لهم ولا تصح منهم العمرة لأن العمرة هي الزيارة ، والزيارة لابد أن تكون من مكان غير المزور فلا بد أن يأتي بها من الحل ، ولم يُعهد في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الرجل من أهل مكة يخرج إلى الحل ويأتي بعمرة إلا قصة عائشة وقد عرفتم ما فيها .
وفيه أيضاً يقول : ( أَهَل المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلمَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَأَهْللنَا ) قوله المهاجرون والأنصار هذا من باب التوكيد على الإجماع لأن المهاجرون الذين هاجروا من مكة إلى المدينة إلى الله ولرسوله ، والأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ، وأزواج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معروفات .
( فَلمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ اجْعَلُوا إِهْلالكُمْ بِالحَجِّ عُمْرَةً إِلا مَنْ قَلدَ الهَدْيَ ) يعني ساقه مقلداً إياه ، والمهم السوق بالقطيع ، بمعنى لو أنه ساق الهديه ولم يقلده فإنه يمتنع أن يحل ، ( فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لهُ حتى يبلغ لمحله ) وفي قول : ( { حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلهُ } ) .
في هذا الحديث والذي قبله دليل على أن قوله صلى الله عليه وسلم : (( فلا أحل حتى أنحر )) أي حتى يبلغ الهدي محله ، وعليه فيحل إذا رمى وحلق وإن لم ينحر .
( ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِل بِالحَجِّ ) سمى ذلك عشية التروية ، أولاً التروية : معنى التروية يعني تروية الماء ، وكانو في ذلك الوقت يترون الماء من منابعهم إلى منى من أجل شرب الحجاج ، ويسمى ذلك اليوم يوم الثامن من ذي الحجة يوم التروية ، والتاسع يوم عرفة ، والعاشر يوم النحر ، والحادي عشر يوم القر لأن الناس قارين في منى لا أحد ينفر ، والثاني عشر يوم النفر الأول ، والثالث عشر يوم النفر الثاني ، هذه الأيام الخمسة كل واحد له اسم . وقوله : ( عشية التروية ) ظاهره أنه أمرهم أن يحرموا بعد الزوال لأن العشي يكون بعد الزوال ، والأمر ليس كذلك فإن الناس يحرمون بالحج يوم التروية قبل الزوال ويخرجون إلى منى ويصلون فيها الظهر لكن أطلق على ما قبل الزوال عشية لقربه من الزوال .
ش5 ـ وجه أ :
يقول : (عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِل بِالحَجِّ فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ المَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَليْنَا الهَدْيُ ) وهذا صريح في وجوب السعي للمتمتع بمعنى أن المتمتع يلزمه طوافان وسعيان ، الطواف الأول والسعي الأول للعمرة ، والطواف الثاني والسعي للحج ، وهذا هو المتعين ؛ لأن العمرة منفصلة عن الحج تماماً بينها وبين الحج حل تام . وأما قول شيخ الإسلام رحمه الله : إن المتمتع يكفيه سعي واحد السعي الأول فقول ضعيف غير سديد ، وما دام النص رقي يستدل على وجوب السعي في الحج فلا عبرة بقول أحد كائن من كان .
يقول : (فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَليْنَا الهَدْيُ كَمَا قَال اللهُ تَعَالى : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } ) طيب صيام ثلاثة أيام في الحج متى ؟ قال أهل العلم : يبتدئ صيام الثلاثة من أول يوم يحرم بالعمرة من حين العمرة إلى أيام التشريق ولا يؤخر عن أيام التشريق ، فمثلاً لو أحرم بالعمرة في عشرين من ذي القعدة وهو متمتع يجوز أن يصوم الثلاثة في ذي القعدة ؟ نعم يجوز . فإن قال قائل : إن الله تعالى قال : { فِي الحَجِّ } وهذا إلى الآن ما شرع في الحج ؟ فالجواب على هذا من أحد وجهين أو منهما جميعاً : أولاً أن العمرة عمرة متمتع داخلة في الحج لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( دخلت العمرة في الحج )) ، وثانياً : أن قوله في الحج أي في سفر الحج وسفر الحج يبتدئ قبل أن يتلبس به . فإن قال قائل : على قولك هذا على هذا التقدير تُجَوِّز أن يصوم الثلاثة في سفره من بلده إلى مكة قبل أن يصل الميقات ؟ فالجواب : لا أُجوِّز ، لماذا ؟ لأن السبب لم يوجد فلو صام الإنسان قبل أن يُحرم بالعمرة فقد صام قبل وجود سبب الصوم، وتقدير الشيء قبل سببه لاغي كما لو أراد الإنسان أن يحلف على شيء وقدم الكفارة قبل أن يحنث أيجزئه ؟ لا يجزئه . إذاً يبتدئ وقت صيام الثلاثة من وقت إحرامه بالعمرة .
وقوله : { إذا رجعتم } قال ابن عباس رضي الله عنهما : إلى أمصاركم ، والآية مطلقة { إذا رجعتم } ، هل المراد إذا رجعتم من الحج بمعنى أتممت أفعاله ولو كنتم في مكة أو المراد إذا رجعتم إلى أهليكم ؟ الأفضل إلى أهليكم ، الأفضل أن لا يصوم السبعة إلا إذا وصل إلى أهله لأن بذلك يكون تمام الرخصة ، وإن صامها بعد فراغ جميع أفعال الحج ولو في مكة فلا حرج .
قال : ( الشَّاةُ تَجْزِي ) سبع البدنة والبقرة يجزئ أو لا ؟ يجزئ ، فإذاً الهدي في قوله تعالى : { ما استيسر من الهدي } يشمل الشاة الواحدة أو سبع البدنة أو سبع البقرة .( فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ ) يعني جمعوا بين الحج والعمرة في عام واحد ، بل أخص من هذا في سفر واحد . ( فَإِنَّ اللهَ تَعَالى أَنْزَلهُ فِي كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وَسَلمَ وَأَبَاحَهُ للنَّاسِ غَيْرَ أَهْل مَكَّةَ ) ثم استدل بقوله : { ذَلكَ لمَنْ لمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ } الآية واضحة والاستدلال واضح .
قال رضي الله عنه : ( وَأَشْهُرُ الحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو القَعْدَةِ وَذُو الحَجَّةِ ) قاله ابن عباس الذي يُلقب بترجمان القرآن . وقد سبق إن هذا هو القول الراجح أن أشهر الحج ثلاثة شوال وذو الحجة وذو القعدة ، لكن متى يُفعل الحج هل يفعل من أول شوال إلى آخر ذي الحجة ؟ لا لأنه وقت معين فلا يتعدى الوقت لكن هذه محله. (فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الأَشْهُرِ فَعَليْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ). أو هدي ليس للتخيير ولكنها للتنويع ، دم إن وجد ، أو صوم إن لم يجد ، إن لم يجد ماذا ؟ إن لم يجد هدي أو لم يجد الدراهم ؟ هذا أو هذا ، إذا كان الإنسان عنده دراهم لكن ما وجد شاة لأن ليس في السوق شيء يصوم ، إذا كان السوق مملوءاً بالمواشي لكن ليس معه دراهم يصوم أيضاً. ولهذا حذف الله عز وجل المفعول في قوله : { فمن لم يجد } إشارة إلى العموم أي لم يجد الهدي أو ثمنه . شوف الترجمة في الشرح .
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( باب قول الله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } ) أي تفسير قوله وذلك في الآية إشارة إلى التمتع ؛ لأنه سبق فيها { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } إلى أن قال : {ذلك} واختلف السلف في المراد بحاضري المسجد فقال نافع والأعرج : هم أهل مكة بعينها ، وهو قول مالك واختاره الطحاوي ورجحه .
الشيخ : مكة فقط إن صغيرة فهي صغيرة وإن واسعة فهي واسعة ، وعلى هذا فما خرج عن حدود مكة ولو كان داخل الحرم أي داخل حدود الحرم فليس من حاضري المسجد الحرام .
متابعة التعليق :
وقال طاوس وطائفة : هم أهل الحرم وهو الظاهر .
الشيخ : أهل الحرم يعني ما كان داخل حدود الحرم وتسمى الأميال ، فهذا من حرم المسجد الحرام ولو كان خارج مكة ، وما وراءه ليس من حاضري المسجد الحرام . طيب التنعيم الآن متصل بمكة تماماً والبيوت متصلة إلى خارج الحرم إلى الحل ، فهل نقول إن الذي في التنعيم خارج الحرم من أهل المسجد الحرام أو لا ؟ على الخلاف ، إن قلنا حاضري المسجد الحرام أهل مكة قلنا مكة لو تصل إلى الطائف يعني لو تعدت الحل فمن كان فيها فهو من حاضر المسجد الحرام ، وإذا قلنا إنهم أهل الحرم صار الذين في التنعيم خارج حدود الحرم ليسوا من حاضر المسجد الحرام.
متابعة التعليق : وقال مكحول : من كان منزله دون المواقيت ، وهو قول الشافعي في القديم ، وقال في الجديد : من كان من مكة على دون مسافة القصر ، ووافقه أحمد .
الشيخ : الآن عندنا قولين أخيران :
الأول يقول : حاضر المسجد الحرام من كان دون المواقيت ، وعلى هذا فأهل البدو من حاضر المسجد الحرام ، وكل من كان دون ذي الحليفة من طريق المدينة فهم من حاضر المسجد الحرام .
القول الرابع : من كان بينه وبين مكة مسافة القصر يعني يومين ، ما دون ذلك فهو من حاضر المسجد الحرام وما وراء ذلك فليس من حاضر المسجد الحرام .
وأقرب الأقوال القولان الأولان إما أن نقول هم أهل مكة سواء اتسعت مكة أو تقلصت أو نقول ممن كان داخل حدود الحرم ، والمسألة عندي متعادلة بالنسبة للأدلة ؛ لأنك إذا نظرت أو تأملت من كان داخل الأميال لكن خارج مكة قلت هذا حاضر المسجد الحرام لأنه في حدوده فيكون من حاضره ، وإذا تأملت أن المقصود هو أن يأتي الإنسان إلى مكة من خارج مكة قلت الأولى أن نجعل حاضري المسجد الحرام هم أهل مكة ، فالمسألة عندي متعادلة وفي هذا يُفتي الإنسان بما يرى أنه أحوط .
متابعة التعليق : وقال مالك أهل مكة ومن حولها سوى أهل المناهل كعسفان وسوى أهل منى وعرفة .
الشيخ : أما أهل عرفة خارج حدود الحرم وخارج مكة أيضاً ، أما أهل منى فهم داخل حدود الحرم لكن هل هم خارج مكة ؟ في وقتنا الحاضر قد تقول إنهم ليسوا خارج مكة لأن المباني متصلة ، فيكون أهل منى من حاضري المسجد الحرام بلا شك .
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( التي ذكر الله ) أي بعد آية التمتع حيث قال الحج أشهر معلومات وقد تقدم نقل الخلاف في ذي الحجة هل هو بكماله أو بعضه ؟
الشيخ : طيب ما تقولون في رجل أحرم بالعمرة آخر يوم من رمضان وأتمها أول يوم من شوال ، هل يكون متمتعاً أو لا ؟ ليس متمتعاً لأنه لابد أن يأتي بالعمرة من أولها إلى آخرها بعد دخول شهر شوال .
متابعة التعليق : وأجمع العلماء على أن المراد بأشهر الحج ثلاثة أولها شوال ولكن اختلفوا هل هي ثلاثة بكاملها وهو قول مالك ونقل عن الإملاي للشافعي أو شهران وبعض الثالث وهو قول الباقين ثم اختلفوا فقال ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وآخرون عشر ليال من ذي الحجة ، وهل يدخل يوم النحر أو لا ؟ قال أبو حنيفة وأحمد نعم ، وقال الشافعي في المشهور المصحح عنه لا ، وقال بعض أتباعه تسع من ذي الحجة ولا يصح في يوم النحر ولا في ليلته وهو شاذ . واختلف العلماء أيضا في اعتبار هذه الأشهر هل هو على الشرط أو الاستحباب فقال ابن عمر وابن عباس وجابر وغيرهم من الصحابة والتابعين هو شرط فلا يصح الإحرام بالحج إلا فيها وهو قول الشافعي ، وسيأتي استدلال ابن عباس لذلك في هذا الباب . واستدل بعضهم بالقياس على الوقوف وبالقياس على إحرام الصلاة وليس بواضح ؛ لأن الصحيح عند الشافعية أن من أحرم بالحج في غير أشهره انقلب عمرة تجزئه عن عمرة الفرض وأما الصلاة فإن أحرم قبل الوقت انقلب نفلا بشرط أن يكون ظانا دخول الوقت لا عالما فاختلفا من وجهين .
الشيخ : القول بأنه لا يجزئ الإحرام بالحج قبل أشهره قول قوي جداً لأنه حصر { الحج أشهر معلومات } فمن قال في آخر رمضان لبيك اللهم حجاً . قلنا هذا عمرة ولا يمكن أن تحرم بالحج قبل أشهره كما أنه لا يمكن أن تحرم بالصلاة قبل دخول وقتها .
سؤال : إذا نظرنا لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية ؟
الجواب : يعني أنك ترجح حاضري المسجد الحرام من كان داخل حدود الحرم .
السائل : أنا ودي هذا لكن ..........؟
الجواب : أنت ودك ما يخالف .
السائل : لكن هل هذا مما يرجح هذا ؟
الجواب : نعم هذا من أسباب الترجيح لا شك .
سؤال : أحسن الله إليك ، من ساق الهدي ليس له أن يفسخ إلى العمرة ، والذي أخذ معه الدراهم ليشتري الهدي هناك هل يعتبر أنه ساق الهدي ؟
الجواب : إي نعم إذا ساقها يعني وضع الدراهم على الأرض وقال لها برجله هيا، إيش تقول ؟ ماذا تقول ؟
السائل : ما يكون .
الجواب : لا يكون .. هذه ما هي مشكلة ، المشكل بعض الناس الآن يعطي شركات دراهم للهدي الراجحي أو غير الراجحي ، فهل يقال إنه ساق الهدي ؟ الجواب : لا .. لكن وكل من يذبح الهدي عنه فقط .
سؤال : النية هل هي التكلم بالتلبية ؟
الجواب : كيف ؟
السائل : هل النية تُعقد قبل التلبية أو هم مقترنان ؟
الجواب : النية تكفي عن التلبية لكن التلبية أفضل لا شك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قيل له صلي بهذا الوادي المبارك وقل عمرة وحجاً .
السائل : يقول سراً ؟
الجواب : لا .. يلبي يرفع صوته بها .
سؤال : تكفي إذا قالها سراً ؟
الجواب : إذا نوى يكفي ، النية تكفي على القول الراجح ، ومذهب الظاهرية لا يكفي لابد من التلبية وجعلوا التلبية بمنزلة تكبيرة الإحرام .
سؤال : بالنسبة للذي لم يعتمر في حياته ثم أراد الحج هل نقول يجب عليك أن تأتي بعمرة قبل أن تحج ؟
الجواب : لا .. ما يجب إلا إذا قلنا بأن العمرة على الفور كما هو المشهور ، نقول يجب أن تبدأ بالعمرة أو تجعل قران .
سؤال : إذا قلنا إنه ليس في حق أهل مكة التمتع ، يشكل علي أمر النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة بفسخ الحج إلى عمرة هل هو خاص بالأفاقين أو عام .
الجواب : إي هو في الأفاقين لأن أهل مكة أصلاً ما أحرموا إلا يوم ثمانية .
سؤال : لو قال قائل ما هو الدليل على أن المتمتع يوم التروية يحرم بالحج قبل الزوال ؟
الجواب : الدليل حديث جابر صرح بهذا ، حديث جابر صريح ، وأحسن سياق انساق في الحج حديث جابر ، قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر .
سؤال : القارن من أهل مكة هل له أن يحرم من مكة أو يخرج إلى الحل ؟
الجواب : لا .. من مكة .
سؤال : الذي وكل من يشتري له الهدي في مكة وأُخبر أن الهدي اُشتري له قبل أن يذهب من هنا إلى مكة ، هل هو متمتع ؟
الجواب : إي متمتع ما في إشكال متمتع ، مشتري لكن ما سيق ، هل سيق ؟ يشتريه ويضعه في حوش .
سؤال : تقليد الهدي هل هو خاص بالإبل أم يشمل الغنم والبقر ؟
الجواب : لا .. يشمل كل الثلاثة ، لكن الإبل تمتاز بأنها تُشعر .
سؤال : من لا يملك الهدي هل الأفضل له أن يفرد أم يقرن بعمرة ويصوم ... ؟
الجواب: الأفضل أن يتمتع ويصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع(4/413)
36 ـ بَاب الاغْتِسَال عِنْدَ دُخُول مَكَّةَ
1470 حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُليَّةَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ قَال كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهمَا إِذَا دَخَل أَدْنَى الحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلبِيَةِ ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طِوًى ثُمَّ يُصَلي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وَسَلمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلكَ(1)
37 ـ بَاب دُخُول مَكَّةَ نَهَارًا أَوْ ليْلا
بَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ بِذِي طِوًى حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ دَخَل مَكَّةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهمَا يَفْعَلُهُ.
1471 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِاللهِ قَال حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا قَال بَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وَسَلمَ بِذِي طُوًى حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ دَخَل مَكَّةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهمَا يَفْعَلُهُ(2)
38 ـ بَاب مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ
__________
(1) قوله رضي الله عنه : ( كَانَ يَفْعَلُ ذَلكَ ) يعني الاغتسال لا الإمساك عن التلبية ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ، وفيه دليل يعني في سياق الحديث أن الإشارة قد ترجع إلى بعض المشار إليه ، وإلا لو أخذنا بظاهرها لقلنا إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقطع التلبية إذا دخل الحرم .
(2) يقولون إن ذا طوى هي بئر مطوية ، وتسمى الآن في مكة الزاهر ، حي الزاهر . عندك تكرار ؟
القارئ : يقول : بذي طوى بضم الطاء وفتحها .
الشيخ : فقط .
القارئ : موجودة ومكتوب عليها لوحة بئر طوى .(4/414)
1472 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ قَال حَدَّثَنِي مَعْنٌ قَال حَدَّثَنِي مَالكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهما قَال كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ العُليَا وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلى(1)
39 ـ بَاب مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ
1473 حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ البَصْرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِاللهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهما أَنَّ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ دَخَل مَكَّةَ مِنْ كَدَا مِنَ الثَّنِيَّةِ العُليَا التِي بِالبَطْحَاءِ وَخَرَجَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلى قَال أبو عَبْد اللهِ كَانَ يُقَالُ هُوَ مُسَدَّدٌ كَاسْمِهِ قَال أبو عَبْد اللهِ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ لوْ أَنَّ مُسَدَّدًا أَتَيْتُهُ فِي بَيْتِهِ فَحَدَّثْتُهُ لاسْتَحَقَّ ذَلكَ وَمَا أُبَالي كُتُبِي كَانَتْ عِنْدِي أَوْ عِنْدَ مُسَدَّدٍ(2)
__________
(1) وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المخالفة كما خالف الطريق في صلاة العيد إظهاراً للشعائر وليشهد له الطريقان يوم القيامة بأنه مر بهما في طاعة الله عز وجل . والعليا هي الثنية ريع الحجون وهي مشهورة معروفة، كما قال الشاعر :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسْمُر بمكة سامرٌ
وأما السفلى فهي التي من طريق الجعر ، ويقال : كَدا وكُدا أو كُدي فافتح وادخل وضم واخرج ، مناسبة تماماً ، الإنسان إذا بغى يدخل يفتح ويقال كدى ، وإذا انصرف يغلق الباب فيضم ، يعني إذا أشكل عليك انتبه لهذا المعنى .
(2) الله أكبر ، ثناء عظيم .(4/415)
1474 حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى قَالا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ لمَّا جَاءَ إِلى مَكَّةَ دَخَل مِنْ أَعْلاهَا وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلهَا .
1475 حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ المَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ دَخَل عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَا وَخَرَجَ مِنْ كُدًا مِنْ أَعْلى مَكَّةَ(1)
1476 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ دَخَل عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَا أَعْلى مَكَّةَ قَال هِشَامٌ وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلى كِلتَيْهِمَا مِنْ كَدَا وَكُدًا وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَا وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلى مَنْزِلهِ .
__________
(1) بينهما فرق واضح ، الأول كدا بالمد والفتح ، والثانية كُدى بالضم والقصر ، هي مناسبة أيضاً القصر كأن المسافر قصر إقامته في مكة أو ما أشبه ذلك .
سؤال : دخول الرسول صلى الله عليه وسلم وخروجه من مكة هل يعتبر سنة يا شيخ أو يعتبر غير مقصود ؟
الجواب : هذا الذي قلنا لأنه فعل ذلك كما خالف في يوم العيد لإظهار الشعائر ، ولكن يبقى أن يقال : هل هذا متيسر في الوقت الحاضر ؟ ما هو متيسر إلا من جاء على قدميه يمكن ، أما من جاء على سيارة فتعرفون أن السيارات الآن لها اتجاه منظم لراحة الناس فلا بد من السير على هذا الاتجاه ، وحينئذٍ يقال إنك إذا سرت على هذا الاتجاه بناءً على النظام الذي سنه ولي الأمر فأنت مطيع لله عز وجل بهذا فلك أجر على اتباع النظام .(4/416)
1477 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ عَبْدِالوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ دَخَل النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَا مِنْ أَعْلى مَكَّةَ وَكَانَ عُرْوَةُ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَا وَكَانَ أَقْرَبَهُمَا إِلى مَنْزِلهِ .
1478 حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ دَخَل النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَا وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ مِنْهُمَا كِليْهِمَا وَكَانَ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَا أَقْرَبِهِمَا إِلى مَنْزِلهِ قَال أبو عَبْد اللهِ كَدَا وَكُدًا مَوْضِعَانِ(1)
__________
(1) شوف الفتح ما تكلم على الحكم ، يعني فعل عروة ؟
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( من كدا ) بفتح الكاف والمد ، قال أبو عبيد : لا يصرف وهذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلا مقبرة أهل مكة وهي التي يقال لها الحجون بفتح المهملة وضم الجيم ، وكانت صعبة المرتقى فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الأزرقي ، ثم سُهل في عصرنا هذا منها سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضع ، ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمانمائة ، وكل عقبة في جبل أو طريق عال فيه تسمى ثنية .
قوله : ( الثنية السفلى ) ذكر في ثاني حديثي الباب وخرج من كُدا وهو بضم الكاف مقصور وهي عند باب شبيكة بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان وكان بناء هذا الباب عليها في القرن السابع .
الشيخ : الحكم لعله في الباب الذي قبله ( من أين يدخل ) . هو عادة يستنبط الأحكام في آخر .
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( وكانت أقربهما إلى منزله ) فيه اعتذار هشام لأبيه لكونه روى الحديث وخالفه ؛ لأنه رأى أن ذلك ليس بحتم لازم وكان ربما فعله وكثيرا ما يفعل غيره بقصد التيسير ، قال عياض والقرطبي وغيرهما اختلف في ضبط كَدا وكُدا فالأكثر على أن العليا بالفتح والمد والسفلى بالضم والقصر ، وقيل بالعكس ، قال النووي وهو غلط ، قالوا واختلف في المعنى الذي لأجله خالف صلى الله عليه وسلم بين طريقيه فقيل ليتبرك به كل من في طريقه فذكر شيئا مما تقدم في العيد وقد استوعبت ما قيل فيه هناك وبعضه لا يتأتى اعتباره هنا والله أعلم . وقيل الحكمة في ذلك المناسبة بجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان وعكسه الإشارة إلى فراقه ، وقيل لأن إبراهيم لما دخل مكة دخل منها ، وقيل لأنه صلى الله عليه وسلم خرج منها مختفيا في الهجرة فأراد أن يدخلها ظاهرا عاليا ، وقيل لأن من جاء من تلك الجهة كان مستقبلا للبيت . ويحتمل أن يكون ذلك لكونه دخل منها يوم الفتح فاستمر على ذلك والسبب في ذلك قول أبي سفيان بن حرب للعباس لا أسلم حتى أرى الخيل تطلع من كدا فقلت ما هذا قال شيء طلع بقلبي وأن الله لا يطلع الخيل هناك أبدا . قال العباس فذكرت أبا سفيان بذلك لما دخل .
الشيخ : ما أشار إلى أنه أسهل للدخول والخروج .(4/417)
40 ـ بَاب فَضْل مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا
وَقَوْلهِ تَعَالى : ( وَإِذْ جَعَلنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلى وَعَهِدْنَا إِلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ للطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَل هَذَا بَلدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ قَال وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَليلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَليمُ رَبَّنَا وَاجْعَلنَا مُسْلمَيْنِ لكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلمَةً لكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَليْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )(1)
__________
(1) قوله : ( بَاب فَضْل مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا ، وَقَوْلهِ تَعَالى : { وَإِذْ جَعَلنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْنًا ... } ) أي اذكر ( إذ جعلنا البيت ) أي صيرناه (مثابة للناس) يثوبون إليه ( وأمناً ) يأمنون فيه ؛ لأن هذا البيت فيه إقامة المناسك، ولولا إلقاء الأمن عليه لكان فيه الفوضى والنزاع والقتال ، لاسيما في وقتنا هذا أمم مختلفة في أجناسها وأحوالها وعاداتها ولكن الله تعالى جعله آمناً .
{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلى } قيل إن المراد بمقام إبراهيم كل موضع وقف فيه فيشمل عرفة ومزدلفة ومنى ، وقالوا المراد بالمصلى هنا الدعاء لأن الصلاة في اللغة الدعاء . ولا شك أن أول ما يدخل في ذلك هو المقام المعروف وأول ما يدخل في معنى المصلى الصلاة { وَعَهِدْنَا إِلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل } أي أوصيناهما { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ للطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } الطائف بدأ به أولاً لأن الطواف لا يمكن إلا في هذا المكان ، ( العاكفين ) ثنى به لأن الاعتكاف لا يمكن إلا في المساجد ، (الركع السجود ) أخره لأن الركوع والسجود يكون في كل الأرض ((جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )) فبدأ بالأخص فالأخص .
ويُذكر أن ملكاً من الملوك نذر أن يقوم بعبادة لله عز وجل لا يشاركه فيه أحد من البشر ، واستفتى العلماء قال أفتوني في هذا النذر ، قالوا : كيف نفتيك ؟ إن كنت تصلي فربما تصادف ناس يصلون، إن صمت كذلك، إن تصدقت كذلك ، فقال أحد العلماء : أخلوا له المطاف ، يعني امنعوا الناس من الطواف وخلوه يطوف هو وحينئذٍ يوفي بنذره . صحيح هذا أو غير صحيح ؟ صحيح لأن ما في مكان يطاف به إلا هذا ، وربما يكون هذا الملك قد وقع في قلبه هذا أو لا يكون الله أعلم لكن هذا حل واضح .
بدأ بالطائفين لأنه أخص ما يكون عند هذا المسجد ، العاكفين على جميع المساجد ، الركع السجود على الأرض كلها، ثم قال عز وجل : { وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَل هَذَا بَلدًا آمِنًا ) وفي الآية الثانية : { هَذَا البَلدَ آمِنًا } والثانية تدل على أنه قام هذا البد وتكون ، ( آمناً ) وصفه البلد بالأمن ليأمن كل من فيه فالبلد نفسه آمن وما فيه آمن حتى الأعجم بمعنى حتى البهائم العجم ، حتى الأشجار ، حتى اللقطة الضائعة آمنة لأنها لا تحل إلا لمنشد . فاستجاب الله دعاءه .
{ وَارْزُقْ أَهْلهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ } ارزق أهله أي أعطهم من الثمرات ، ولا يلزم من هذا أن تكون الثمرات في نفس مكة ، يُجبى إليه كل شيء ، ولكن إبراهيم علية الصلاة والسلام قيَّد قال : {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ } وهذا من تمام أدبه صلى الله عليه وسلم لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما سأل الإمامة في أول الآيات : { قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي } فقيد الله الإجابة فقال : { لا ينال عهدي الظالمين } يعني أجعل من ذريتك إماماً لكن بشرط ألا يكون ظالماً . في الدعاء الثاني تأدب إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال : { وَارْزُقْ أَهْلهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ } لكن الله قال: { وَمَنْ كَفَرَ } فصارت إجابة الله في السؤال الثاني أعم وإجابة الله في السؤال الأول أخص. { قال وَمَنْ كَفَرَ } فهذا الواقع أهل الجاهلية كلهم كفار إلا من شاء الله ومع ذلك هذا البلد آمن ومرزوق أهله من الثمرات ، لكن الكافر قال فيه : { فَأُمَتِّعُهُ قَليلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ } أعوذ بالله ، وعلى هذا فيمكن أن يكون الكفار في مكة يرزقون كما يُرزق المسلمون ولكن مآلهم إلى النار . بعد هذا يعني هذه الشريعة الإسلامية مُنع الكافر من دخول الحرم قال الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } .
ثم قال : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ } يعني اذكر يا محمد لهذه الأمة { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } سبحان الله القرآن في غاية البلاغة { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } لم يقل عز وجل وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت ، إشارة إلى أن مشاركة إسماعيل تبع ما هي أصل ، والأصل إبراهيم عليه الصلاة والسلام . {القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} في كلمة القواعد من البيت إشارة إلى عمل هندسي وهو أنه يجب أن يكون للبناء إذا أُريد بقاؤه قواعد تثبته ما يُبنى على سطح الأرض { رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَليمُ } هما يرفعان القواعد ويقولان هذا { رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَليمُ } لأن الله إذا لم يتقبل من العبد صار عمله خساراً وصار سعيه تعباً . ولهذا ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائماً قبول العمل . وقول : { إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَليمُ } أي المجيب كقوله تعالى : { إن ربي لسميع الدعاء } والعليم ذو العلم الواسع . { رَبَّنَا وَاجْعَلنَا مُسْلمَيْنِ لكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا } الله أكبر ، إبراهيم وإسماعيل يسألان الله عز وجل أن يجعلهما مسلمين له عز وجل لأن الإسلام له سبحانه وتعالى هو العزة والكرامة والعلو والرفعة ، واجعل من ذريتنا {أُمَّةً مُسْلمَةً لكَ } وحصل والحمد لله كان من ذرية إبراهيم وإسماعيل هذا النبي الكريم وهذه الأمة المسلمة { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلمَةً لكَ } وهل المراد من ذرية أمة مسلمة لك يعني العرب فقط الذين هم بني إسماعيل أم من ذريتنا أمة مسلمة لك العرب في الأصالة وغيرهم بالتبع ؟ هذا هو المتعين ، وفي هذا إشارة إلى أنه لا يحمل أحد هذا الدين مثلما يحمله العرب بنو إسماعيل وإن كان يوجد من غيرهم من يحمله لكن الأصل العرب ، لا شك في هذا ، وإلا فقد حمله غيرهم كما قال الله تبارك وتعالى : { وآخرين من دونهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم } على أحد التفاسير .
يقول : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أرنا يعني بينها لنا حتى نراها ، والمناسك جمع منسك وهو مكان النسك أي العبادة ، وأراهم الله عز وجل ذلك : عرفة ، مزدلفة ، منى ، مكة ، أراهم الله ذلك { وَتُبْ عَليْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } أي تب علينا توفيقاً أو تب علينا تجاوزاً أو الأمران ؟ الأمران كما قال الله عز وجل : { ثم تاب عليهم ليتوبوا } هذه تاب عليهم أي توبة توفيق ، والمراد بقوله : { تُبْ عَليْنَا } توبة التوفيق يعني وفقنا للتوبة التي هي توبة التوفيق وللتوبة التي هي توبة التجاوز { إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وهذا لا يخفى أنه من باب التوسل بأسماء الله تعالى المناسبة للدعاء .
سؤال : ...............؟
الجواب : الأنساك ثلاثة أنواع : إفراد وقران وتمتع وأن أفضلها التمتع إلا من ساق الهدي فالأفضل القران ، بل يتعين القران لأنه لا يمكن أن يحل كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم . وما هو الذي فيه الهدي من هذه الثلاثة ؟ التمتع بنص القرآن والقران على رأي أكثر العلماء ، ولكنه ليس كالتمتع في وجوب الدم كما قال الإمام أحمد رحمه الله بأنه ليس مثله لكنه يجب الهدي . والذي ليس فيه هدي الإفراد ، وسبق لنا أن القول الراجح أن المتمتع عليه طوافان وسعيان : طواف وسعي للعمرة وطواف وسعي للحج ، وأما القول بإجزاء سعي واحد ضعيف ؛ لأن حديث عائشة وابن عباس صريح في هذا والمعنى يقتضي ذلك لأن العمرة منفردة عن الحج تماماً مستقلة وبينهما حلٌ كامل ، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( دخلت العمرة في الحج )) فمراده أن الصحابة لما سموا الحج وأحرموا بالحج ثم أمرهم أ يجعلوها عمرة أشكل عليهم فقال : (( دخلت العمرة في الحج )) يعني أنها ليست بعيدة منه حتى تستنكروا هذا الشيء .(4/418)
ش5 ـ وجه ب :
1479 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَال أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَال أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَال سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللهِ رَضِي الله عَنْها قَال لمَّا بُنِيَتِ الكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ وَعَبَّاسٌ يَنْقُلانِ الحِجَارَةَ فَقَال العَبَّاسُ للنَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ اجْعَل إِزَارَكَ عَلى رَقَبَتِكَ فَخَرَّ إِلى الأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلى السَّمَاءِ فَقَال أَرِنِي إِزَارِي فَشَدَّهُ عَليْهِ(1)
__________
(1) في هذا دليل على أن أحجار الكعبة أحجار عادية من مكة وأما الحجر الأسود فقيل إنه حجر عادي وقيل إنه نزل من الجنة أشد بياضاً من اللبن وأنه سودته خطايا بني آدم ، فإن صح هذا فليس بغريب وإن لم يصح فالأصل أن الأحجار الأرضية بعضها من بعض ولا نجزم بشيء إلا بيقين في مثل هذه الأمور العظيمة الهامة .
وفيه حياء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، شدة حيائه حتى أنه لما جعل إزاره على كتفه من أجل أن يهون عليه نقل الحجارة خر عليه الصلاة والسلام إلى الأرض ، لم يتحمل هذا ، وكانوا في الجاهلية لا يهتمون كثيراً بستر العورة ولهذا يطوفون عراة ليس عليهم شيء والمرأة الحيية التي فيها الحياء كامل تجعل يدها على فرجها وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله . إذا كانت يدها صغيرة فيبدوا منه كثيرٌ ، وإن كانت كبيرة لا يبدو منه ، الله أعلم ، المهم أنها تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أُحله
تمشي أمام الناس عارية وتقول لا أحله ؟! كل الناس بينظر، هذا من جهلهم . وجه مناسبة هذا الحديث للباب أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شارك في بناء الكعبة .(4/419)
1480 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْلمَةَ عَنْ مَالكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالمِ بْنِ عَبْدِاللهِ أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَاللهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْه زَوْجِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنَّ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال لهَا أَلمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لمَّا بَنَوُا الكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقُلتُ يَا رَسُول اللهِ أَلا تَرُدُّهَا عَلى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ قَال لوْلا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالكُفْرِ لفَعَلتُ فَقَال عَبْدُاللهِ رَضِي الله عَنْه لئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِي الله عَنْهَا سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ مَا أُرَى رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ تَرَكَ اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللذَيْنِ يَليَانِ الحِجْرَ إِلا أَنَّ البَيْتَ لمْ يُتَمَّمْ عَلى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ(1)
__________
(1) هذا واضح أن قريشاً لما أرادوا بناء الكعبة قصرت بهم النفقة لم يستطيعوا أن يبنوها كاملة على قواعد إبراهيم فرأوا أن يُخرجوا بعضها وحجروها من أجل أن يتم الطواف على الكعبة في الأصل وتركوا الجانب اليمين لأن فيه الحج فصار حد الكعبة في قواعد إبراهيم من جهة اليمن هو حدها الآن ، من جهة الشام حدها دون الحجر . والحجر قيل إنه كله من الكعبة قيل إن أكثره من الكعبة ، وهو المشهور عن العلماء أن أكثره من الكعبة نحو ستة أذرع أو نحوها .
ويقول : عائشة رضي الله عنها عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها على قواعد إبراهيم ولكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكر مانعاً وهو خوف الفتنة لأن قومها ـ أي قريشاً ـ كانوا حديثي عهد بكفر ، فلو هدمها ثم أعادها على قواعد إبراهيم وهي من بنائهم حصل بذلك فتنة ، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح إذا لم تتعين المصالح ، وهنا ليست متعينة لأنهم والحمد لله جعلوا هذا الحجر .
وفي هذا الحديث دليل على ترك الأفضل إلى المفضول خوفاً من المفسدة ، وهذه قاعدة عظيمة قعدها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهي مأخوذة من قوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } فنهى عن سب آلهتهم مع أنها جديرة بالسب خوفاً من أن يسبوا من هو منزه عن السب وهو الله عز وجل .
وفي هذا دليل على إضافة الشيء إلى سببه دون ذكر الله عز وجل ((لوْلا حِدْثَانُ قَوْمِكِ)) ما قال لولا الله ثم ، وهذا نسبة صحيحة ، إذا نسب الإنسان الشيء إلى سببه الصحيح دون ذكر الله عز وجل فهو حق وصحيح وجائز ، وها هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في عمه أبي طالب ، قال : (( لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار )) مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم سبب وليس هو المنجي له أن يكون في الدرك الأسفل . وفي هذا دليل على كذب ما اشتهر عند العوام أن هذا الحجر حجر إسماعيل ، إسماعيل بنى الكعبة على قواعد أصلية ، وهذا مما أخرجه قريش ، حتى غالى بعضهم وقال : إن إسماعيل دُفن تحت الميزاب يعني أن قبره في هذا الحجر ، وهذا أكذب وأكذب وأشد خطراً على الأمة ؛ لأن العوام إذا اعتقدوا هذا وصاروا يصلون في هذا المكان اعتقدوا أنهم يصلون على القبر ، وهذا خطير ، ولذلك يجب على طلبة العلم أن يبينوا للناس مثل هذه الأشياء، حتى لو قال لك يا فلان أنا والله طفت من دون حجر إسماعيل. صحح كلامه أولاً ثم أجيبه في ذلك . والتصحيح قبل الجواب هو دأب الرسل عليهم الصلاة والسلام . يوسف لما سأله الرجلان عن الرؤيا التي رآها كل واحد منهما ذكر التوحيد قبل أن يجيبهما ، دعاهما إلى التوحيد قبل أن يجيبهما ، وهذه مسألة هامة أيضاً أنه إذا جاء إنسان يسألك فاعلم أنه جاء مفتقراً إليك سيقبل ما فيك فابدأه أولاً بنصيحة إذا كان على وجه يجب الإنكار عليه ، إذا كان متلبساً إلى شيء يجب إنكاره ؛ لأنه محتاج الآن وقابل للموعظة .
وفي هذا صحة استنباط عبد الله بن عمر رضي الله عنه حيث قال : ما أرى ترك استلام الركنين الشامي والغربي إلا أنهما ليسا على قواعد إبراهيم . وهذا استنتاج صحيح .
سؤال : أحسن الله إليكم ، الذي طاف البيت وفي شوط واحد من الأشواط طاف من خارج الحجر هل يصح طوافه ؟
الجواب : شوط واحد فقط ؟ يكون طاف سبعة أشواط إلا ست فما رأيك ؟
السائل : رأيي غير تام .
الجواب : ولهذا تجد المسألة واضحة ، فإن كان طواف الوداع فعليه دم ، وإن كان طواف الإفاضة فهو الآن لم يحل التحلل الثاني ، وإن كان طواف القدوم فالأمر سهل لأنه إذا حج بعده صار قارناً حيث أدخل الحج على العمرة قبل الطواف . أفهمت الآن ؟ صارت ثلاثة أحوال إن كان طواف الوداع فعليه دم ، وإن كان طواف القدوم صار قارناً حيث أدخل الحج على العمرة قبل طوافها لأن هذا الطواف لا يُعتد به ، وإن كان طواف الإفاضة فهو لا يزال الآن على ما بقي من إحرامه فعليه أن يتجنب وأن لا يتزوج إن لم يكن له زوجة حتى يرجع إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة .
سؤال : يا شيخ بارك الله فيكم ، قوله : (( قواعد إبراهيم )) هل يُفهم من هذا أن إبراهيم هو أول من بنى الكعبة ؟
الجواب : هذا فيه قولان : القول الأول : أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أول من بنى الكعبة ، وهذا ظاهر القرآن ، والقول الثاني : أنه جدد البناء ، والأول أقرب . وأما قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( فهو حرام كحرمة الله منذ خلق السموات والأرض )) فالمراد : الله كتب حرمته في اللوح المحفوظ .
سؤال : بارك الله فيك ، درء المفاسد مقدم على جلب المصالح إذا لم تكن متعينة فكيف هذا ؟
الجواب : إي نعم ، يعني مثلاً إذا كانت هذه المصلحة متعينة كالصلاة مثلاً ما يمكن نقول تتركها محاباة لقوم لأنك لو صليت أمامهم حصل في هذا مفسدة .(4/420)
1481 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قَالتْ سَأَلتُ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ عَنِ الجَدْرِ أَمِنَ البَيْتِ هُوَ قَال نَعَمْ قُلتُ فَمَا لهُمْ لمْ يُدْخِلُوهُ فِي البَيْتِ قَال إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ قُلتُ فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا قَال فَعَل ذَلكَ قَوْمُكِ ليُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وَلوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالجَاهِليَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِل الجَدْرَ فِي البَيْتِ وَأَنْ أُلصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ(1)
__________
(1) ظاهر هذا الحديث أن جميع الحجب من البيت ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما سألته عائشة أمن البيت ؟ قال : (( نعم )) فنحتاج إلى بيانه في الشرح .
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( عن الجدر ) بفتح الجيم وسكون المهملة كذا للأكثر وكذا هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه وفي رواية المستملي ( الجدار ) قال الخليل : الجدر لغة في الجدار . اهـ. ووهم من ضبطه بضمها لأن المراد الحجر ، ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن أبي الأحوص شيخ مسدد فيه ( الجدر أو الحجر ) بالشك ولأبي عوانة من طريق شيبان عن الأشعث (الحجر) بغير شك . قوله : ( أمن البيت هو قال نعم ) هذا ظاهره أن الحجر كله من البيت ، وكذا قوله في الطريق الثانية ( أن أُدخل الجدر في البيت ) وبذلك كان يفتي ابن عباس كما رواه عبد الرزاق عن أبيه عن مرثد بن شرحبيل قال سمعت ابن عباس يقول لو وليت من البيت ما ولى ابن الزبير لأدخلت الحجر كله في البيت فلم يطاف به إن لم يكن من البيت.
وروى الترمذي والنسائي من طريق علقمة عن أمه عن عائشة قالت : كنت أحب أن أصلي في البيت فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني الحجر فقال صلي فيه فإنما هو قطعة من البيت ولكن قومك استقصروه حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت . ونحوه لأبي داود من طريق صفية بنت شيبة عن عائشة ولأبي عوانة من طريق قتادة عن عروة عن عائشة ولأحمد من طريق سعيد بن جبير عن عائشة وفيه أنها أرسلت إلى شيبة الحجبي ليفتح لها البيت بالليل فقال ما فتحناه في جاهلية ولا إسلام بليل . وهذه الروايات كلها مطلقة وقد جاءت روايات أصح منها مقيدة منها لمسلم من طريق أبي قزعة عن الحارث بن عبد الله عن عائشة في حديث الباب : ( حتى أزيد فيه من الحجر ) وله من وجه آخر عن الحارث عنها : ( فإن بدا لقومك أن يبنوه بعدي فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع ) وله من طريق سعيد بن ميناء عن عبد الله بن الزبير عن عائشة في هذا الحديث : ( وزدت فيها من الحجر ستة أذرع ) وسيأتي في آخر الطريق الرابعة قول يزيد بن رومان الذي رواه عن عروة أنه أراه لجرير بن حازم فحزره ستة أذرع أو نحوها . ولسفيان بن عيينة في جامعه عن داود بن شابور عن مجاهد أن ابن الزبير زاد فيها ستة أذرع مما يلي الحجر وله عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن الزبير ستة أذرع وشبر وهكذا ذكر الشافعي عن عدد لقيهم من أهل العلم من قريش كما أخرجه البيهقي في المعرفة عنه . وهذه الروايات كلها تجتمع على أنها فوق الستة ودون السبعة ، وأما رواية عطاء عند مسلم عن عائشة مرفوعا لكنت أدخل فيها من الحجر خمسة أذرع فهي شاذة والرواية السابقة أرجح لما فيها من الزيادة عن الثقات الحفاظ ثم ظهر لي لرواية عطاء وجه وهو أنه أريد بها ما عدا الفرجة التي بين الركن والحجر فتجتمع مع الروايات الأخرى فإن الذي عدا الفرجة أربعة أذرع وشيء ولهذا وقع عند الفاكهي من حديث أبي عمرو بن عدي بن الحمراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة في هذه القصة : ( ولأدخلت فيها من الحجر أربعة أذرع ) فيحمل هذا على إلغاء الكسر ورواية عطاء على جبره ويجمع بين الروايات كلها بذلك ولم أر من سبقني إلى ذلك وسأذكر ثمرة هذا البحث في آخر الكلام على هذا الحديث .
الشيخ : من ثمرات هذا البحث شيء مهم أن الإنسان لو استقبل طرف الحجر مما يلي الشام ، فإن قلنا إن الحجر كله من البيت فاستقباله صحيح ، وإن قلنا إنه ليس من البيت إلا ستة أذرع وشيء فاستقباله غير صحيح ، واضح ؟ واضح .
طيب الآن إذا نظرنا إلى البلاط الموضوع وجدنا أنه دون ذلك متجه إلى نصف البناء القائم ولهذا تجد الذي يصلي حسب اتجاه البلاط تكون الكعبة قريباً عن يمينه إذا كان قريباً من الكعبة ، رأينا ذلك ، ورأينا الذي يكون في الصف الثاني أقرب من الإمام الذي يكون في الصف الأول لأنها تنحني ، فجعلوا قلب البناية القائمة جعلوه هو نقطة الاستقبال وعلى فيكون الحجر كله عن اليمين فيكون في هذا ترك شيء من الكعبة لا يُستقبل . وقد نُبه المسؤولون لكن بعد أن فات الأوان على هذا الذي يعتبره بعض الناس خطئاً لكنه فات الأوان والأمر إن شاء الله واسع وكلما اتسعت الدائرة هان الانحراف . الآن نراجع آخر البحث الذي وعد به رحمه الله .
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( ستة أذرع أو نحوها ) قد ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الطريق الثانية وأنها أرجح الروايات وأن الجمع بين المختلف منها ممكن كما تقدم وهو أولى من دعوى الاضطراب والطعن في الروايات المقيدة لأجل الاضطراب كما جنح إليه ابن الصلاح وتبعه النووي لأن شرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه بحيث يتعذر الترجيح أو الجمع ولم يتعذر ذلك هنا فيتعين حمل المطلق على المقيد كما هي قاعدة مذهبهما ويؤيده أن الأحاديث المطلقة والمقيدة متواردة على سبب واحد وهو أن قريشا قصروا عن بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأن ابن الزبير أعاده على بناء إبراهيم وأن الحجاج أعاده على بناء قريش ولم تأت رواية قط صريحة أن جميع الحجر من بناء إبراهيم في البيت .
قال المحب الطبري في شرح التنبيه له والأصح أن القدر الذي في الحجر من البيت قدر سبعة أذرع والرواية التي جاء فيها أن الحجر من البيت مطلقة فيحمل المطلق على المقيد فإن إطلاق اسم الكل على البعض سائغ مجازا وإنما قال النووي ذلك نصرة لما رجحه من أن جميع الحجر من البيت وعمدته في ذلك أن الشافعي نص على إيجاب الطواف خارج الحجر ونقل ابن عبد البر الاتفاق عليه ونقل غيره أنه لا يعرف في الأحاديث المرفوعة ولا عن أحد من الصحابة ومن بعدهم أنه طاف من داخل الحجر وكان عملا مستمرا ، ومقتضاه أن يكون جميع الحجر من البيت .
الشيخ : هذا التقييد فيه نظر لأن إيجاب الطواف من وراء الحجر إلزام للناس بما لا يلزم ؛ لأن الطواف إنما يكون بالبيت ، فالزائد لماذا يلزم الناس به لولا أنه من البيت ؟ اللهم إلا أن يكون تغير البناء بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فنعم ، وإلا فقد يقال : لماذا لم يضعوا طرف الحجر أو جدار الحجر مما يلي الشام على حد الكعبة ؟
متابعة التعليق : وهذا متعقب فإنه لا يلزم من إيجاب الطواف من ورائه أن يكون كله من البيت فقد نص الشافعي أيضا كما ذكره البيهقي في المعرفة أن الذي في الحجر من البيت نحو من ستة أذرع ونقله عن عدة من أهل العلم من قريش لقيهم كما تقدم . فعلى هذا فلعله رأى إيجاب الطواف من وراء الحجر احتياطا وأما العمل فلا حجة فيه على الإيجاب فلعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده فعلوه استحبابا للراحة من تسور الحجر لاسيما والرجال والنساء يطوفون جميعا فلا يؤمن من المرأة التكشف .
الشيخ : تخفيفاً لئلا يتسوروا الحجر ؟ أسهل من هذا إيش ؟ أن يُهدم الزائد ويُجعل على حد الكعبة الأصلية ، ومن يتصور أن أحداً يطوف وإذا انتهى إلى حد الكعبة الأول قفز مع الجدار ، ما أحد يتصور هذا .
متابعة التعليق : فلعلهم أرادوا حسم هذه المادة وأما ما نقله المهلب عن ابن أبي زيد أن حائط الحجر لم يكن مبنيا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى كان عمر فبناه ووسعه قطعا للشك وأن الطواف قبل ذلك كان حول البيت ففيه نظر ، وقد أشار المهلب إلى أن عمدته في ذلك ما سيأتي في باب بنيان الكعبة في أوائل السيرة النبوية بلفظ لم يكن حول البيت حائط كانوا يصلون حول البيت حتى كان عمر فبنى حوله حائطا جدره قصيرة فبناه ابن الزبير .ا.هـ. وهذا إنما هو في حائط المسجد لا في الحجر فدخل الوهم على قائله من هنا .
ولم يزل الحجر موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح به كثير من الأحاديث الصحيحة نعم في الحكم بفساد طواف من دخل الحجر وخلى بينه وبين البيت سبعة أذرع نظر وقد قال بصحته جماعة من الشافعية كإمام الحرمين ومن المالكية كأبي الحسن اللخمي وذكر الأزرقي أن عرض ما بين الميزاب ومنتهى الحجر سبعة عشر ذراعا وثلث ذراع منها عرض جدار الحجر ذراعان وثلث وفي بطن الحجر خمسة عشر ذراعا فعلى هذا فنصف الحجر ليس من البيت فلا يفسد طواف من طاف دونه والله أعلم .
وأما قول المهلب إن الفضاء لا يسمى بيتا وإنما البيت البنيان لأن شخصا لو حلف لا يدخل بيتا فانهدم ذلك البيت فلا يحنث بدخوله فليس بواضح فإن المشروع من الطواف ما شرع للخليل بالاتفاق فعلينا أن نطوف حيث طاف ولا يسقط ذلك بانهدام حرم البيت لأن العبادات لا يسقط المقدور عليها منها بفوات المعجوز عنه فحرمة البقعة ثابتة ولو فقد الجدار وأما اليمين فمتعلقة بالعرف ويؤيده ما قلناه أنه لو انهدم مسجد فنقلت حجارته إلى موضع آخر بقيت حرمة المسجد بالبقعة التي كان بها ولا حرمة لتلك الحجارة المنقولة إلى غير مسجد فدل على أن البقعة أصل للجدار بخلاف العكس أشار إلى ذلك ابن المنير في الحاشية .
وفي حديث بناء الكعبة من الفوائد غير ما تقدم ما ترجم عليه المصنف في العلم وهو ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس والمراد بالاختيار في عبارته المستحب وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة وأنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة ، وحديث الرجل مع أهله في الأمور العامة وحرص الصحابة على امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وسلم .
الشيخ : حديث الرجل مع أهله في الأمور العامة لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تحدث إلى عائشة في هذا الأمر العام .
المهم أن نقول الطواف لابد أن يكون بجميع الحجر ، لا إشكال في هذا لأنه أمر يسير ، وأما الرجل لو قفز وطاف على جدار الحجر لا يصح طوافه. وأما الصلاة فإنا نقول : نعمل فيها باحتياط ونقول : استقبال الحجر من الناحية الشمالية يعني استقبال طرفه غير صحيح احتياطاً ، فنحتاط للطواف ونحتاط للاستقبال .
سؤال : إذا كان الحجر كله من البيت فلا يصير من جهة الشام ركنان مثل الجهة الثانية لأن الحجر نصف دائرة فكيف يكون ؟
الجواب : هو السبب في هذا أنه لو جعلوه مربعاً يعني له زاوية لاستلمه الناس ولم يتفطنوا إلى أنه على غير قواعد إبراهيم ، هذه الزيادة هذه من أجل أن لا يتمسح الناس به .
سؤال : استلام الحجر الأسود والركن اليماني هل يستلم من الجزء المخصوص الذي يسمى الحجر الأسود أو كل الركن ؟
الجواب : يعني من فوق ومن تحت قصدك ؟ أما الحجر واضح إنه الحجر الأسود الذي عليه الطوق .
السائل : الطوق هذا لما جُعل ؟
الجواب : الظاهر أصلاً إنه جُعل لحفظ الحجر وتثبيته .(4/421)
1482 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيل حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قَالتْ قَال لي رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ لوْلا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالكُفْرِ لنَقَضْتُ البَيْتَ ثُمَّ لبَنَيْتُهُ عَلى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عَليْهِ السَّلام فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ وَجَعَلتُ لهُ خَلفًا قَال أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ خَلفًا يَعْنِي بَابًا .
1483 حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال لهَا يَا عَائِشَةُ لوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِليَّةٍ لأَمَرْتُ بِالبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلزَقْتُهُ بِالأَرْضِ وَجَعَلتُ لهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ فَذَلكَ الذِي حَمَل ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِي الله عَنْها عَلى هَدْمِهِ قَال يَزِيدُ وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَل فِيهِ مِنَ الحِجْرِ وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإِبِل قَال جَرِيرٌ فَقُلتُ لهُ أَيْنَ مَوْضِعُهُ قَال أُرِيكَهُ الآنَ فَدَخَلتُ مَعَهُ الحِجْرَ فَأَشَارَ إِلى مَكَانٍ فَقَال هَا هُنَا قَال جَرِيرٌ فَحَزَرْتُ مِنَ الحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا(1)
__________
(1) هذا صريح في أن قواعد إبراهيم دون استكمال الحجر المطوق ، وعلى هذا يمكن أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم أن البيت الواقع الآن على الأكثر ، لأن ستة أذرع ونحوها أكثر من الباقي .
ابن الزبير رضي الله عنه حينما تولى على الحجاز وعاصمة ولايته مكة أخذ بحديث خالته ، فهدم البيت وبناه على قواعد إبراهيم وأتى بالناس حين هدمه وقال : اشهدوا على القواعد الأصلية ، وجعل له بابين شرقياً وغربياً . ثم لما تولى بنو أمية بعد قتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما هدموا ما بناه وأعادوه إلى ما هو عليه الآن . وهذا هو والحمد لله عين المصلحة ؛ لأن الكعبة لو بقيت كما بناها ابن الزبير لحصل في ذلك ضرر وهو أن الناس يدخلون فيها مع هذا الباب إلى الباب الآخر وهي ـ أي الكعبة ـ مقفلة ما فيها فُرَج ولا شيء ، ويحصل في هذا من الاختناق والمزاحمة ما هو ظاهر . الآن والحمد لله لها بابان باب شرقي وباب غربي وهو ما بينها وبين الحجر ، فمن أراد أن يصلي في الكعبة يدخل من أحد البابين ويصلي في الحجر مما يلي الكعبة . ولهذا كان الواقع والحمد لله هو ، يعني كانت المصلحة فيما حصل . ولما تولى أحد الخلفاء من بني أمية ـ وأظنه هارون الرشيد ـ استشار مالكاً رحمه الله أيرد البيت إلى ما بناه ابن الزبير أو لا ؟ فأشار عليه مالك أن لا يفعل وقال له : لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك كلما جاء ملك غيره ، فصار الخير في الواقع والحمد لله .(4/422)
41 ـ بَاب فَضْل الحَرَمِ
وَقَوْلهِ تَعَالى ( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلدَةِ الذِي حَرَّمَهَا وَلهُ كُل شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلمِينَ ) وَقَوْلهِ جَل ذِكْرُهُ ( أَوَلمْ نُمَكِّنْ لهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِليْهِ ثَمَرَاتُ كُل شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ )(1)
1484 حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ عَبْدِاللهِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِالحَمِيدِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْها قَال قَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِنَّ هَذَا البَلدَ حَرَّمَهُ اللهُ لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلا يَلتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا(2)
__________
(1) قول الله تعالى : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلدَةِ الذِي حَرَّمَهَا } يعني جعلها حرماً آمناً { وَلهُ كُل شَيْءٍ } هذه الجملة من أحسن ما يكون ؛ لأنه لما قال : { أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلدَةِ الذِي حَرَّمَهَا } قد يفهم فاهم أن ملك الله مقتصر عليها ، فقال : { وَلهُ كُل شَيْءٍ } وهذا يسموه في البلاغة الاحتراس .
{ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلمِينَ } وَقَوْلهِ جَل ذِكْرُهُ : { أَوَلمْ نُمَكِّنْ لهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِليْهِ ثَمَرَاتُ كُل شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لدُنَّا } نمكن لهم أي نهيئ لهم على وجه التمكين ، ( حرماً آمناً ) هو ما كان داخل حدود الحرم المعروفة ، ( يُجبى إليه ) أي يُساق إليه ( ثَمَرَاتُ كُل شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لدُنَّا ) وهذا بيان امتنان الله عز وجل على قريش بهذا الحرم الآمن حتى إن الرجل في الجاهلية الجهلاء لو وجد قاتل أبيه في الحرم لم يقتله لاحترامه عندهم .
(2) واضح ما يحتاج تعليق .(4/423)
42 ـ بَاب تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا
وَأَنَّ النَّاسَ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ سَوَاءٌ خَاصَّةً لقَوْلهِ تَعَالى ( إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل اللهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الذِي جَعَلنَاهُ للنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلحَادٍ بِظُلمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَليمٍ ) البَادِي الطَّارِي ( مَعْكُوفًا ) مَحْبُوسًا(1)
__________
(1) يريد بهذا رحمه الله { سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ } أي المقيم الذي لا يخرج منه كالمحبوس يعني هو يرى أن المقيم كالمحبوس ، وأما البادي فهو الطاري ويسمى عند الفقهاء الآفاقي نسبة إلى الآفاق . هذه المسألة في الواقع اختلف فيها العلماء ( توريث دور مكة وبيعها وشرائها وأن الناس في المسجد الحرام سواء خاصة ) يعني بالمسجد الذي هو المسجد ، ( توريثها ) يعني أنها تورث ، ( بيعها وشراؤها ) بناء على أنها تُملك ، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله ، فمنهم من قال : إنه لا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا تأجيرها لقوله تعالى : { سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ } ، ومنهم من قال : يجوز بيعها وشراؤها وتأجيرها لأنه إذا ثبت التوريث ثبت الملك وإذا ثبت الملك صار شاملاً لملك العين وملك الانتفاع ، ومنهم من فصَّل قال : أما ملكها وبيعها وشراؤها عيناً فلا بأس به فهو ثابت ، وأما تأجيرها فلا يجوز، وأما من عنده فضل مساكن في مكة يجب عليه فتحها للحجاج فلا يختص به وعللوا ذلك بأن مكة حرم كالمساجد . وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يجري فيها ملك العين من بيع وشراء وهبة وتوريث وغير ذلك ولا يجري فيها ملك المنفعة بل يكون صاحب البيت أحق به من غيره وإذا استغنى عنه وجب فتحه للناس يسكنونه بدون أجره .
لكن العمل الآن على أنه ملكٌ تام يملك فيه المالك العين والمنفعة ، ولهذا يجري فيه التبايع ويجري فيه التأجير والرهن والارتهان والإيقاف وغير هذا . انظر الخلاف في الشرح .
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها وأن الناس في المسجد الحرام سواء خاصة لقوله تعالى : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء ... } الآية ) أشار بهذه الترجمة إلى تضعيف حديث علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن . أخرجه ابن ماجه ، وفي إسناده انقطاع وإرسال ، وقال بظاهره ابن عمر ومجاهد وعطاء قال عبد الرزاق عن ابن جريج كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم فأخبرني أن عمر نهى أن تبوب دور مكة لأنها ينزل الحاج في عرصاتها ، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو واعتذر عن ذلك لعمر .
وروى الطحاوي من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد أنه قال : مكة مباح لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها وروى . عبد الرزاق من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر : لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها . وبه قال الثوري وأبي حنيفة وخالفه صاحبه أبو يوسف واختلف عن محمد ، وبالجواز قال الجمهور واختاره الطحاوي .
ويجاب عن حديث علقمة على تقدير صحته بحمله على ما سيجمع به ما اختلف عن عمر في ذلك واحتج الشافعي بحديث أسامة الذي أورده البخاري في هذا الباب قال الشافعي : فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه وبقوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح : (( من دخل در أبي سفيان فهو آمن )) فأضاف الدار إليه . واحتج ابن خزيمة بقوله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } فنسب الله الديار إليهم كما نسب الأموال إليهم ولو كانت الديار ليست بملك لهم لما كانوا مظلومين في الإخراج من دور ليست بملك لهم .
قال ولو كانت الدور التي باعها عقيل لا تملك لكان جعفر وعلي أولى بها إذ كانا مسلمين دونه . وسيأتي في البيوع أثر عمر أنه اشترى دارا للسجن بمكة ولا يعارض ما جاء عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه كان ينهى أن تغلق دور مكة في زمن الحاج أخرجه عبد بن حميد ، وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد إن عمر قال : يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث شاء .
وقد تقدم من وجه آخر عن عمر فيجمع بينهما بكراهة الكراء رفقا بالوفود ، ولا يلزم من ذلك منع البيع والشراء وإلى هذا جنح الإمام أحمد وآخرون . واُختلف عن مالك في ذلك قال القاضي إسماعيل ظاهر القرآن يدل على أن المراد به المسجد الذي يكون فيه النسك والصلاة لا سائر دور مكة ، وقال الأبهري : لم يختلف قول مالك وأصحابه في أن مكة فتحت عنوة واختلفوا هل مَنَّ بها على أهلها لعظم حرمتها أو أُقرت للمسلمين ومن ثم جاء الاختلاف في بيع دورها والكراء ، والراجح عند من قال أنها فتحت عنوة أن النبي صلى الله عليه وسلم مَنَّ بها على أهلها فخالفت حكم غيرها من البلاد في ذلك ذكره السهيلي وغيره .
وليس الاختلاف في ذلك ناشئاً عن هذه المسألة فقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله هنا المسجد الحرام هل هو الحرم كله أو مكان الصلاة فقط، واختلفوا أيضا هل المراد بقوله سواء في الأمن والاحترام أو فيما هو أعم من ذلك وبواسطة ذلك نشأ الاختلاف المذكور أيضا . قال ابن خزيمة : لو كان المراد بقوله تعالى : { سواء العاكف فيه والباد } جميع الحرم وأن اسم المسجد الحرام واقع على جميع الحرم لما جاز حفر بئر ولا قبر ولا التغوط ولا البول ولا إلقاء الجيف والنتن .
الشيخ : ليس هذا من لازم القول ، يقول لو قلنا بهذا ما كان لأحد أن يبول في مكة ولا يتغوط لأنها مسجد !
متابعة التعليق : قال ولا نعلم عالما منع من ذلك ولا كره لحائض ولا لجنب دخول الحرم ولا الجماع فيه ولو كان كذلك لجاز الاعتكاف في دور مكة وحوانيتها ولا يقول بذلك أحد والله أعلم .
قلت : والقول بأن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله ورد عن ابن عباس وعطاء ومجاهد أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم والأسانيد بذلك كلها إليهم ضعيفة وسنذكر في باب فتح مكة من المغازي الراجح من الخلاف في فتحها صلحا أو عنوة إن شاء الله تعالى .
الشيخ : ما ذكر كلام شيخ الإسلام رحمه الله إلا أن ذكره أثر عمر أنه أمر بأن لا يكون عليها أبواب أيام الحج يؤيد ما قاله الشيخ رحمه الله .(4/424)
1485 حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَال أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَليِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِي الله عَنْهما أَنَّهُ قَال يَا رَسُول اللهِ أَيْنَ تَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ فَقَال وَهَل تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالبٍ هُوَ وَطَالبٌ وَلمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلا عَليٌّ رَضِي الله عَنْهما شَيْئًا لأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلمَيْنِ وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالبٌ كَافِرَيْنِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِي الله عَنْه يَقُولُ لا يَرِثُ المُؤْمِنُ الكَافِرَ(1)
قَال ابْنُ شِهَابٍ وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْل اللهِ تَعَالى ( إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيل اللهِ وَالذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْليَاءُ بَعْضٍ ) الآيَةَ(2)
43 ـ بَاب نُزُول النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ مَكَّةَ
1486 حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَال حَدَّثَنِي أَبُو سَلمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه قَال قَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلى الكُفْرِ(3)
__________
(1) يقوله معللاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور )) وإلا فالحديث ثابت : (( لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم )) .
(2) يعني يتأولونه ينزلونه على اختلاف الذين لا ميراث بينهم .
(3) اقرأ الشرح في الفتح .
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة ) أي موضع نزوله ووقع هنا في نسخة الصغاني قال أبو عبد الله : ( نسبت الدور إلى عقيل وتورث الدور وتباع وتشترى ) قلت والمحل اللائق بهذه الزيادة الباب الذي قبله لما تقدم تقريره والله أعلم .
قوله : ( حين أراد قدوم مكة ) بيَّن في الرواية التي بعدها أن ذلك كان حين رجوعه من منى ، قوله : ( إن شاء الله تعالى ) هو على سبيل التبرك والامتثال للآية .
الشيخ : قوله من التبرك ، خطأ بل هو للتعليل ولو شاء الله تعالى ما حصل لهم نزول ، وقد قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } .(4/425)
1487 حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الوَليدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَال حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه قَال قَال النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ مِنَ الغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ بِمِنًى نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلى الكُفْرِ يَعْنِي بذَلكَ المُحَصَّبَ وَذَلكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالفَتْ عَلى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِالمُطَّلبِ أَوْ بَنِي المُطَّلبِ أَنْ لا يُنَاكِحُوهُمْ وَلا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلمُوا إِليْهِمُ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ .
وَقَال سَلامَةُ عَنْ عُقَيْلٍ وَيَحْيَى بْنُ الضَّحَّاكِ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ وَقَالا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلبِ قَال أبو عَبْد اللهِ بَنِي المُطَّلبِ أَشْبَهُ(1)
__________
(1) هذا التقاسم يعني التحالف ، تحالفهم مع بعضهم ، لكن أراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يُبدل شعائر الكفر بشعائر الإسلام فينزل في هذا المكان الذي تقاسمت فيه قريش يعني تحالفت على مهاجرة بني هاشم وبني عبد المطلب ، يقول : ( وبنو المطلب أشبه ) . واحد أو بعضه متصل بالثاني ؟
سؤال : هل نزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعد خروجه من منى؟
الجواب : لا .. لا .. بعد أن خرج النبي صلى الله عليه وسلم من منى نزل بالمحصب .
السائل : المحصب بين مكة ومنى الآن ؟
الجواب : إي نعم في ذلك الوقت بين مكة ومنى ، الآن في وسط مكة ولا يمكن أن يُنزل فيه الآن ، على أن النزول في المحصب بعد النفر من منى مختلف فيه ، فقيل إنه سنة ، وقالت عائشة إنما نزله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أسهل لخروجه .
سؤال : هل يجوز استلام الركن بدون طواف ؟
الجواب : والله ما أعرف الآن إلا أن استلام الركن يعني الحجر الأسود من مستحبات الطواف فقط ، يعني حتى الآن ما بلغني ولم أصل إلى أن استلامه مطلقاً سنة .
سؤال : أحسن الله إليكم ، يعني ( إن شاء الله ) متى يكون للتبرك ؟
الجواب : في شيء محقق ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور : (( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )) وهذه المسألة في الشيء المحقق إذا ورد التعليق بالمشيئة فقيل إنها للتبرك ، وقيل إنها للتعليل ، وقيل إنها شرط للوصف لا لأصل الفعل ، فمثلاً ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) نقول للتبرك ، أو إنها للتحقيق وأن ذلك واقع بمشيئة الله ، أو أن المعنى وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يعني في الموت على الإيمان . ومن ذلك إذا قال الإنسان أنا مؤمن إن شاء الله . هل يجوز أو لا يجوز ؟ اختلف في هذا العلماء ، منهم من قال إنه لا يجوز وأن الإنسان إذا قال أنا مؤمن إن شاء الله فهو كافر . بناءً على أن التعليق للشك والتردد ، ونحن نقول : إنه إذا قال أنا مؤمن إن شاء الله فعلى حسب النية إن كان متردداً ، إن كان الذي حمله على ذلك التردد والشك فلا إشكال أنه كافر ؛ لأن الإيمان يجب أن يكون جزماً ، وإن كان قصده أنا مؤمن إن شاء الله يعني بمشيئة الله فهذا حق يعني لا إيمان إلا بمشيئة الله . وإن قال أن مؤمن إن شاء الله تبركاً لا تعليلاً فهذا أيضاً لا بأس به .
فصارت ثلاثة أقسام : إن قالها تردداً فهو كافر ، إن قالها تبركاً فهو جائز ، إن قالها تعليلاً فهو أن إيمانه وقع بمشيئة الله فهو أيضاً جائز .
طيب ، هل تُقال في الأمور المحققة ؟ مثل إنسان صلى وسلم ، فقلت له أصليت ؟ قال إن شاء الله . فهذا إن أراد الفعل فهو لغو ، وإن أراد الثواب فهو حق . طيب إنسان أعطيته خبزة فأكلها ، قلت أكلت الخبزة ؟ قال إن شاء الله . يحتاج إلى هذا ؟ لا يحتاج ، هذا لغو ، وما أشبه ذلك . المهم أن التعليق بالمشيئة له أحكام مختلفة .(4/426)
44 ـ بَاب قَوْل اللهِ تَعَالى : { وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَل هَذَا البَلدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْللنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا ليُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَل أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِليْهِمْ } الآيَةَ (1)
__________
(1) ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيات فقط وكأنه لم يكن حديث على شرطه . ( بَاب قَوْل اللهِ تَعَالى : { وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَل هَذَا البَلدَ آمِنًا } أي واذكر إذ قال ، وإبراهيم هو الخليل عليه الصلاة والسلام إمام الحنفاء { رَبِّ اجْعَل هَذَا البَلدَ } وهذا دعاء بعد أن تم البلد {هَذَا البَلدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ } ، { وَاجْنُبْنِي } أي اجعلني أبتعد أنا وبني عن عبادة الأصنام ، والأصنام : كل ما عبد من دون الله فهو صنم سواء كان حجر أو شجر أو قمر أو شمس أو غير ذلك .
وقوله : {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ } هل أجاب الله دعاءه ؟ نقول : أما من جهة بنيه من صلبه فقد أجاب الله دعاءه وأما ذريته من بعد ذلك فإن منهم من عبد الأصنام ، فقريش تعبد الأصنام ، والله عز وجل حكيم يجيب بعض الدعوات دون بعض ويجيب في الدعوة الواحدة بعضها دون بعض .
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْللنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } يعني الأصنام أضلت أي صارت سبباً لضلال كثير من الناس { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } لأنه ابتدأ بهديه { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وهذه دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعوة رؤوفة رحيمة لم يقل من عصاني فأنزل به بأسك ، قال : {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ليس على المعصية إلا إذا كانت المعصية دون الشرك فإن الله قد يغفرها أما الشرك فلا يُغفر ، ولكن الدعاء بالمغفرة للمشرك يعني أن يوفق للإسلام والتوحيد فيُغفر له { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ... } إلى آخرها ، { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ } أي جعلتهم يسكنون { مِنْ ذُرِّيَّتِي } من هنا للتبعيض والمراد بهم إسماعيل وبنوه ، وأما إسحق وبنوه ففي الشام { مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ... } نعم بوادي لأن مكة شرفها الله وادي بين الجبال { غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } يعني لا يُزرع { عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ } وهذا فضل للبيت أنه محرم يعني تحريم تعظيم فهو بمعنى محترم وقوله : { رَبَّنَا ليُقِيمُوا الصَّلاةَ } يعني أني أسكنتهم بهذا ليقيموا الصلاة ، وفيه دليل على أهمية الصلاة ولاسيما في مكة عند بيت الله الحرام { فَاجْعَل أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِليْهِمْ } اجعل بمعنى صيِّر و ( أفئدة ) مفعولها الأول ومفعولها الثاني : ( تهوي إليهم ) أي تميل إليهم . قال : { أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ } ولم يقل أفئدة الناس لأن الحج لا يجب على كل أحد إنما يجب على من كان قادراً .
قال بعض العلماء : لو قال أفئدة الناس تهوي إليهم وأجابه الله لوجب على جميع الناس أن يحجوا ، وفي هذا من المشقة ما هو ظاهر ، لكن الله ألهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يقول : { مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِليْهِمْ } وهذا هو الواقع فما من مسلم مؤمن إلا وقلبه يميل إلى البيت الحرام ويود أن يحج كل عام ويعتمر كل شهر ، وهذا شيء ألقاه الله عز وجل في قلوب العباد ليس لأحد فيه صُنع . { وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } أي أعطهم من الثمرات لعلهم يشكرون . وقد أجاب الله تعالى دعوته فجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ورزقهم من الثمرات كما قال عز وجل : { أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يُجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون } .
سؤال : يا شيخ بارك الله فيكم ، قول إبراهيم عليه السلام : {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } هل هذا خوف حقيقي أم هو من باب التمثيل للغير ؟
الجواب : لا .. هذا خوف حقيقي ، ولهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال : باب الخوف من الشرك ، ثم ذكر الآية ، ثم ذكر في المسائل أنه إذا كان إبراهيم الخليل إمام الحنفاء يخاف من الشرك فما بالك بمن دونه ؟ ومن المعلوم أنه من لم يعصمه الله فلا عاصم له . فيؤخذ من هذا ما أشار إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنه يجب على الإنسان أن يخاف من الشرك ، يخاف من الرياء ، يخاف من العجب ، وما أشبه ذلك من أنواع الشرك. قد يقول قائل: إن قوله ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) إن قوله أن نعبد الأصنام عائد على بنيه فقط لأنهم هم الذين يتصور منهم أن يعبدوا الأصنام . ويقال : إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع كونه إمام الحنفاء وإمام الموحدين لا يأمن من الشرك كل إنسان لا يأمن
سؤال : أحسن الله إليكم ، قوله ( اجنبني ) يفسره بعضهم اجعلني في جانب وعبادة الأصنام في جانب ؟
الجواب : نعم ، هذه هي .
السائل : ومثله قوله سبحانه : { ومن يحاد الله ورسوله } قال الله ورسوله في جانب وعبادة الأصنام في جانب } ؟
الجواب : لا .. ومن عصى الله ورسوله في جانب لأن من يحاد الله ورسوله أعم من كونها شرك .
سؤال : عفا الله عنك يا شيخ ، هل صحيح أنه كلما ازداد العبد الطاعة ازداد خوفاً ، وكلما ازداد غفلة زاد أمناً ؟
الجواب : صدقت ، يقولون : من كان بالله أعرف كان منه أخوف ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى السحاب مقبلاً جعل يُقبل ويُدبر ويتغير وجهه حتى تُمطر ، ولما قالت له عائشة يا رسول الله كيف هذا ؟ قال : (( يا عائشة وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب )) لقد عُذب قوم بالريح وهم عاد ، لما أجدبت أرضهم وجاء هذا الهواء العاصف يحمل من الرمال والأتربة ما جعله أسود كأنه سحاب عظيم قالوا { هذا عارض ممطرنا } فقال الله تعالى : { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها } وقال الحسن ـ فيما أظن أنه الحسن ـ : ما أمن النفاق إلا منافق وما خاف النفاق إلا مؤمن . اللهم أعذنا من النفاق والشرك .(4/427)
45 ـ بَاب قَوْل اللهِ تَعَالى ( جَعَل اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا للنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ وَالهَدْيَ وَالقَلائِدَ ذَلكَ لتَعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ )(1)
__________
(1) قال الله تعالى : { جَعَل اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا للنَّاسِ } (الكعبة) اسم و (البيت) كذلك اسم ، (الحرام) وصف ، الحرام يعني ذا الحرمة والتعظيم ، (قياماً للناس) في دينهم ودنياهم ، فهو قياماً للناس في دينهم يؤدون فيه المناسك التي هي أحد أركان الإسلام الحج ، وفي دنياهم ما يحصل فيه من الرزق والمكاسب ، كما قال الله عز وجل : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } أي تجارة وتكسباً كما قال عز وجل في الجمعة إذا قُضيت الصلاة : { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } فهو قيام للناس في دينهم ودنياهم . كذلك أيضاً (الشهر الحرام) والشهر الحرام واحد يراد به الجنس ، يعني الأشهر الحرم ، وهي يا يحيى الأشهر الحرم ما هي ؟
الطالب : ذو القعدة وذو الحجة والذي قبل ذو القعدة .
الشيخ : لا .. شوال الذي قبل ذو القعدة لكنه ليس منها ، هو من أشهر الحج لكن ليس من الأشهر الحرم . ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، هذه الأشهر الحرم يحرم فيها القتال ، حتى الكفار لا يجوز أن تقاتلهم في هذه الأشهر إلا إن اعتدوا عليك .
واختلف العلماء رحمهم الله هل نُسخ تحريم القتال فيها أو لا ؟ والصحيح أنه لم يُنسخ وأنه لا يجوز قتال الكفار فيها ابتداءً إلا إن ابتدءوا بالقتال أو كان امتداداً لحرب سابقة. طيب ، الشهر الحرام قلت إنه مفرد والمراد الجنس ، إذاً يشمل الأربعة كلهم : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، جعلها الله تعالى قياماً للناس ، لأن الناس في هذه الأشهر الحرم يأمنون حتى في الجاهلية ، يمر الرجل بعدوه في الفلاة في هذه الأشهر لا يقتله، أشهر محترمة معظمة. إذاً تكون قياماً للناس بأي شيء ؟ بالأمن الذي يتمكنون به من السفر للتجارة وغير التجارة .
والهدي قياماً للناس أيضاً ( الهدي والقلائد ) الهدي معروف ، والقلائد ما يُقلد به الهدي جعله الله قياماً للناس ، كيف ذلك ؟ بالنسبة للفقراء الذين ينتفعون به ، واضح أو ما هو بواضح ؟ واضح يأكلون وينعمون ، بالنسبة للأغنياء واضح أيضاً ؛ لأنه يتحرك السوق ، سوق المواشي والبهائم فيكون في ذلك قيام للناس .
ثم قال عز وجل : { ذَلكَ لتَعْلمُوا } يعني بلغناكم ذلك لتعلموا { أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ } يعلم عز وجل ما في السماوات وما في الأرض من دقيق وجلي وظاهر وخف حتى ما يخفيه الإنسان في قلبه ، قال الله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } بل يعلم عز وجل ما تؤول إليه حالك وأنت لا تعلم كما قال عز وجل : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت} طيب ، وهل هناك علم وراء السماوات والأرض ؟ نعم ، ولهذا قال : {وأن الله بكل شيء عليم } هذا تعميم بعد تخصيص ، السماوات والأرض بالنسبة لكل شيء بعض من كل ، فيكون قوله : { وأن الله بكل شيء عليم} من باب عطف إيش يا أخ ؟ .. ما تعرف ؟ أنت أمامي الآن من أقرب الناس إليَّ ، إذا قلت جاء محمد والطلبة ؟
الطالب : من باب عطف الخاص على العام .
الشيخ : لا .
الطالب : العام على الخاص .
الشيخ : لا .. قلت الخاص على العام ، قلت : لا .. يعني أنت قلت من باب عطف العام على الخاص الظاهر هكذا من دون علم . أيهم أعم إذا قلت جاء محمد وهو من الطلبة ، والطلبة ، أيهما أعم ؟ الثاني ، إذاً { وأن الله بكل شيء عليم } أعم من قوله : { ما في السماوات والأرض } .
سؤال : عفا الله عنك يا شيخ ، قال الله تعالى : { جَعَل اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قياماً للناس } هذا خاص بالكعبة من دون الحرم كله أو يعم كل الحرم ؟
الجواب : لأن الحرم تبع لها .(4/428)
1488 حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ عَبْدِاللهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ(1)
__________
(1) قوله : ( يُخرب الكعبة ) أي يهدمها وينقضها حجراً حجراً ( ذو السويقتين ) تصغير ساقين ، يعني أنه رجل له ساق ضعيفة هزيلة ، وقوله : ( من الحبشة ) بيان لأصل هذا الرجل أنه من الحبشة ومعه جنوده ينقضها حجراً حجراً ، كل واحد منهم يمد الحجر لصاحبه حتى يرميه في البحر . إذاً فهم جنود كثيرة يتمدون الأحجار من مكة إلى جدة .
فإن قال قائل : كيف يمكن الله عز وجل هؤلاء من نقض الكعبة حجراً حجراً ولم يمكن أصحاب الفيل من هدمها ؟ فالجواب : لأن الأمر ظاهر ، هدم الكعبة في وقت الفيل ليس من الحكمة لأنه سيُبعث من هذا المكان مكان الكعبة نبي يقوم به الإسلام وتُحج به الكعبة وتُعظم فيه الكعبة ، فلذلك حماها الله عز وجل لأنه يعلم سبحانه وتعالى أنها ستُعمر ، أما تسليط ذي السويقتين فلأن أهل مكة يمتهنونها ولا يبقى في قلوبهم حرمة لها ويكون الحج إليها كالحج إلى الآثار لا لعبادة الرحمن ، فإذا وصلت الحال بهذا البيت المعظم إلى هذه الإهانة صار بقاؤه بينهم إهانة له ، فسُلط عليه ذو السويقتين . كما أن القرآن الكريم كلام الله عز وجل إذا أعرض الناس عنه إعراضاً كلياً نُزع من المصاحف والصدور أصبح الناس وليس في المصاحف حرف من القرآن وليس في الصدور حرف من القرآن ، لماذا ؟ لأنهم امتهنوه وهو أعظم من أن يبقى بين قوم يمتهنونه . ولهذا يجب على طلبة العلم الآن أن يحموا هذا القرآن العظيم بقدر ما يستطيعون لئلا يُمتهن فيُنزع ، وهذا معنى قول السلف في القرآن : منه ـ أي من الله ـ بدا وإليه يعود .
سؤال : أحسن الله إليكم ، شخص مستطيع بماله وبدنه لكنه كل سنة يقول أحج السنة القادمة بخلاً وتهاوناً ومات على هذه الحال ، هل يجب على ورثته أن يحجوا عنه بماله ؟
الجواب : أما المشهور عند أكثر العلماء فهو يجب أن يُحج عنه من ماله لأن الحج دين في ذمته ، وأما على ما اختاره ابن القيم رحمه الله وهو قوي جداً فإنه لا يُحج عنه ، لماذا ؟ لأنه أخره عمداً ، وذكر رحمه الله أن قواعد الشريعة تقتضي هذا أنه لا يُحج عنه ، فإن قيل هذا ينتقد عليكم في الزكاة لو أخرها تهاوناً حتى مات فيجب إخراجها . فالجواب أن الزكاة يتعلق بها حق آدمي لها طلاب فلا تسقط تُخرج للآدمي لمستحقها والميت يعامل معاملة من لم يُخرجها .
سؤال : بارك الله فيك ، هل نفهم من الآية الأولى استغفار إبراهيم عليه السلام للمشركين أنه يجوز لنا الاستغفار لهم بنية الهداية ؟
الجواب : هذه الآية نسخها قول الله عز وجل : { ما كان للنبي والذين آمنوا يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } لكن ادعو الله لهم بالهداية .
سؤال : ما مدى صحة ما يذكرونه في ضابط السلامة من الشرك الأصغر بقولهم : أن تعبد الله وكأن أحداً ليس على وجه أرض الله من عباد الله يراك ؟
الجواب : كيف ؟
السائل : اعبد الله على أرض الله وكأنه ليس أحد من خلق الله يراك ليسلم من الشرك الأصغر إذا قام بعبادة الله ؟
الجواب : لا .. هذا الإحسان يقصدون أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
السائل : من أجل أن يسلم من الشرك الأصغر يستشعر هذا المعنى ؟
الجواب : لا .. اعبد الله وإن كان عندك الناس كلهم وإذا كنت إماماً في العلم فاعبد الله ليراك الناس فيقتدوا بك .
السائل : هم لا يقصدون أن يختفي عن الناس وإنما يستشعر أنه ليس أحد من الخلق يراه فيخلص العبادة لله ؟
الجواب : لا .. غلط ، كيف يستشعر والناس جنبه ؟ لكن نعم يعبده يقول إني أنا سأعبد الله سواء عندي أحد أو ما عندي أحد .(4/429)
1489 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا الليْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا ح .
وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَال أَخْبَرَنِي عَبْدُاللهِ هُوَ ابْنُ المُبَارَكِ قَال أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قَالتْ كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْل أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الكَعْبَةُ فَلمَّا فَرَضَ اللهُ رَمَضَانَ قَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَليَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَليَتْرُكْهُ(1)
__________
(1) الشاهد من هذا قوله : ( كان يوماً تستر فيه الكعبة ) تعظيماً لها واحتراماً لها لئلا تتلوث بالأمطار والرياح وما أشبه ذلك .(4/430)
1490 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنِ الحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال ليُحَجَّنَّ البَيْتُ وَليُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ . تَابَعَهُ أَبَانُ وَعِمْرَانُ عَنْ قَتَادَةَ وَقَال عَبْدُالرَّحْمَنِ عَنْ شُعْبَةَ قَال لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُحَجَّ البَيْتُ وَالأَوَّلُ أَكْثَرُ سَمِعَ قَتَادَةُ عَبْدَاللهِ وَعَبْدُاللهِ أَبَا سَعِيدٍ (1)
__________
(1) هذا فيه الحديث الأول قال : ( ليُحَجَّنَّ البَيْتُ وَليُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ) خروج يأجوج ومأجوج يكون بعد الدجال وهو من آخر علامات الساعة الكبرى ، ويأجوج ومأجوج قبيلتان عظيمتان كثيرتان من بني آدم ، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما حدَّث أن الله تعالى يقول لآدم يوم القيامة : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك ، فيقول : أخرج من ذريتك بعث النار . قال : يا رب وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعين . من بني آدم كلهم إلى النار والباقي في الجنة. فعظم هذا على الصحابة وقالوا : يا رسول الله أين هذا الواحد ؟ فقال : ((أبشروا إنكم في أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج )) .
يأجوج ومأجوج في عهد ذي القرنين كانوا في الشرق ، في شرق آسيا، وطلب منه من دونهم أن يجعل بينهم وبينهم سداً فأجاب وقال : {آتوني زبر الحديد } وأتوا به { فلما ساوى بين الصدفين } أي بين الجبلين جمعوا حديداً عظيماً حتى ساوى الجبلين ، قال : {انفخوا } يعني انفخوا عليه بالنار ، وهذا يقتضي حطباً عظيماً ، فلما جعله ناراً قال : { آتوني أُفرغ عليه قطراً } يعني نحاساً ، هذا الحديث المجمع العظيم الذي ساوى بين الصدفين صار ناراً ثم أُفرغ عليه النحاس المذاب ؛ لأن قوله : { أُفرغ عليه } معناه أنه ذائب حتى يتخلل هذا الحديد ويكون قوياً . قال الله عز وجل : { فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً } أن يظهروه يعني يصعدوا فوقه ويأتون إلى هؤلاء القوم { وما استطاعوا له نقباً } إذاً لا يمكنهم التجاوز لا من فوق ولا من النقب .
ولكن استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة محمراً وجهه وهو يقول : (( لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فُتح اليوم من سد يأجوج ومأجوج مثل هذه هكذا )) وأشار بأصبعه السبابة والإبهام . إذاً شرهم وفسادهم قد انفتح بهذا القدر من عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
هؤلاء القوم يُبعثون البعث الأخير ويخرجون إلى الناس بعد قتل الدجال ، فيوحي الله عز وجل إلى عيسى وهو في ذلك الوقت موجود : (( إني قد أخرجت عباداً لا يدان لأحد بقتالهم )) يعني مأجوج ومأجوج ، يعني ما أحد يقدرهم لأنهم كثير جداً (( فحرز عبادي إلى الطور )) يعني اجعلهم يحترزون إلى الجبل ، فصعد الجبل وحُصر هو ومن معه من المؤمنين ، ثم إن الله تعالى بلطفه أنزل على هؤلاء ـ يأجوح ومأجوج ـ النغف في رقابهم ، دودة تأكل المخ فأصبحوا صرعى في ليلة واحدة ـ سبحان الله ـ حتى أنتن بهم الهواء فرغب عيسى عليه السلام ومن معه إلى الله أن يسد هذا النتن ، فقيل إن الله بعث طيوراً تحمل الرجل ، الطير الواحد يحمل الرجل ويلقيه في البحر . وهذه رواية ، رواية أخرى أن الله بعث عليهم أمطاراً عظيمة اجتثتهم وألقتهم في البحر . ولا منافاة يمكن أن يكون هذا وهذا .
( سيُحج هذا البيت بعد خروج يأجوج ومأجوج ) يحجه عيسى ومن معه ، يحجون البيت الحرام بعد خروج يأجوج ومأجوج ، وأما قوله : ( لا تقوم الساعة حتى لا يُحج البيت ) يقول البخاري رحمه الله والأول أكثر . ولكن عندي أنه لا حاجة للترجيح ، لماذا ؟ لإمكان الجمع ، يعني بعد أن يحج عيسى عليه الصلاة والسلام والمؤمنون معه يموتون ثم بعد ذلك لا يُحج البيت لأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق . نشوف هذا البحث من البخاري .
ش6 ـ وجه ب :
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت ) وصله الحاكم من طريق أحمد بن حنبل عنه قال البخاري : ( والأول أكثر ) أي لاتفاق من تقدم ذكره على هذا اللفظ ، وانفراد شعبة بما يخالفهم وإنما قال ذلك لأن ظاهرهما التعارض ؛ لأن المفهوم من الأول أن البيت يحج بعد أشراط الساعة ومن الثاني أنه لا يحج بعدها ، ولكن يمكن الجمع بين الحديثين فإنه لا يلزم من حج الناس بعد خروج يأجوج ومأجوج أن يمتنع الحج في وقت ما عند قرب ظهور الساعة ، ويظهر والله أعلم أن المراد بقوله : ( ليحجن البيت ) أي مكان البيت لما سيأتي بعد باب أن الحبشة إذا خربوه لم يعمر بعد ذلك .
الشيخ : هذا إذا ثبت أن تخريب الحبشة قبل يأجوج ومأجوج ، لكن يحتاج إلى دليل قاطع .
سؤال : يقول الله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً } هل يأجوج ومأجوج لهم نبي ؟
الجواب : نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام .
السائل : هل بلغهم ؟
الجواب : ما ندري هل بلغهم أو لا، لكنهم مفسدين في الأرض.
سؤال : بارك الله فكم ، ما هي آخر العلامات التي تدل على خروج الساعة ؟
الجواب : ما أدري ، ما ظهر لي ترتيب العلامات إلا الدجال ويأجوج ومأجوج ، هذا الحديث فيها صريح ، وإلا طلوع الشمس من مغربها مثلاً ولا يبقى في الأرض مؤمن وما أشبه ذلك ما ظهر لي فيها ترتيب .
السائل : يعيش بعض الناس بعد آخر العلامات أم لا تكون مباشرة ؟
الجواب : لا .. تأتي بغتة لا شك والناس غافلون عنها .(4/431)
46 ـ بَاب كِسْوَةِ الكَعْبَةِ
1491 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ عَبْدِالوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالدُ بْنُ الحَارِثِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَال جِئْتُ إِلى شَيْبَةَ ح .
وحَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَال جَلسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلى الكُرْسِيِّ فِي الكَعْبَةِ فَقَال لقَدْ جَلسَ هَذَا المَجْلسَ عُمَرُ رَضِي الله عَنْه فَقَال لقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إِلا قَسَمْتُهُ قُلتُ إِنَّ صَاحِبَيْكَ لمْ يَفْعَلا قَال هُمَا المَرْءَانِ أَقْتَدِي بِهِمَا(1)
__________
(1) عمر رضي الله عنه رأى أن هذه المعلق في الكعبة من الذهب والفضة يُقسم بين المسلمين ، يعني أولى به بيت المال ، يقول إنه هم بهذا ، وعمر رضي الله عنه هو الخليفة إذا هم بشيء من يمنعه ؟ لا أحد يمنعه ، فقال له أبو واصل : ( إن صاحبيك لم يفعلا ) يعني بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، فقال : ( هما المرءان أقتدي بهما ) فامتنع رضي الله عنه . اقرأ الشرح .
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( باب كسوة الكعبة ) أي حكمها في التصرف فيها ونحو ذلك .
الشيخ : ما ذكر أول من كساها ؟
القارئ : قال : فصل في بدء كسوة الكعبة .
الشيخ : اقرأ .
متابعة التعليق من فتح الباري :
قوله حدثنا سفيان هو الثوري في الطريقين وإنما قدم الأولى مع نزولها لتصريح سفيان بالتحديث فيها وأما ابن عيينة فلم يسمعه من واصل بل رواه عن الثوري عنه أخرجه ابن خزيمة من طريقه .
قوله جلست مع شيبة هو ابن عثمان بن طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الله بن عبد الدار بن قصي العبدري الحجبي بفتح المهملة والجيم ثم موحدة نسبة إلى حجب الكعبة يكنى أبا عثمان ، قوله على الكرسي في رواية عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الشيباني عند ابن ماجه والطبراني بهذا السند بعث معي رجل بدراهم هدية إلى البيت فدخلت البيت وشيبة جالس على كرسي فناولته إياها فقال لك هذه فقلت لا ولو كانت لي لم آتك بها قال أما إن قلت ذلك فقد جلس عمر بن الخطاب مجلسك الذي أنت فيه فذكره قوله فيها أي الكعبة قوله صفراء ولا بيضاء أي ذهبا ولا فضة قال القرطبي غلط من ظن أن المراد بذلك حلية الكعبة وإنما أراد الكنز الذي بها وهو ما كان يهدى إليها فيدخر ما يزيد عن الحاجة وأما الحلي فمحبسه عليها كالقناديل فلا يجوز صرفها في غيرها وقال ابن الجوزي كانوا في الجاهلية يهدون إلى الكعبة المال تعظيما لها فيجتمع فيها قوله إلا قسمته أي المال وفي رواية عمر بن شبة في كتاب مكة عن قبيصة شيخ البخاري فيه إلا قسمتها وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عند المصنف في الاعتصام إلا قسمتها بين المسلمين وعند الإسماعيلي من هذا الوجه لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين ومثله في رواية المحاربي المذكورة ، قوله قلت إن صاحبيك لم يفعلا في رواية بن المهدي المذكورة قلت ما أنت بفاعل قال لم قلت لم يفعله صاحباك وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه وكذا المحاربي قال ولم ذاك قلت لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى مكانه وأبو بكر وهما أحوج منك إلى المال فلم يحركاه .
قوله : هما المرءان تثنية مرء بفتح الميم ويجوز ضمها والراء ساكنة على كل حال بعدها همزة أي الرجلان ، قوله اقتدى بهما في رواية عمر بن شبة تكرير قوله المرءان اقتدى بهما وفي رواية ابن مهدي في الاعتصام يقتدي بهما على البناء للمجهول وفي رواية الإسماعيلي والمحاربي فقام كما هو وخرج ودار نحو هذه القصة بين عمر أيضا وأبي بن كعب أخرجه عبد الرزاق وعمر بن شبة من طريق الحسن أن عمر أراد أن يأخذ كنز الكعبة فينفقه في سبيل الله فقال له أبي بن كعب قد سبقك صاحباك فلو كان فضلا لفعلاه لفظ عمر بن شبة وفي رواية عبد الرزاق فقال له أبي بن كعب والله ما ذاك لك قال ولم قال أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن بطال أراد عمر لكثرته إنفاقه في منافع المسلمين ثم لما ذُكر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض له أمسك وإنما تركا ذلك والله أعلم لأن ما جعل في الكعبة وسبل لها يجري مجرى الأوقاف فلا يجوز تغييره عن وجهه وفي ذلك تعظيم الإسلام وترهيب العدو .
قلت أما التعليل الأول فليس بظاهر من الحديث بل يحتمل أن يكون تركه صلى الله عليه وسلم لذلك رعاية لقلوب قريش كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ويؤيده ما وقع عند مسلم في بعض طرق حديث عائشة في بناء الكعبة لأنفقت كنز الكعبة ولفظه لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض الحديث فهذا التعليل هو المعتمد ، وحكى الفاكهي في كتاب مكة أنه صلى الله عليه وسلم وجد فيها يوم الفتح ستين أوقية فقيل له لو استعنت بها على حربك فلم يحركه وعلى هذا فإنفاقه جائز كما جاز لابن الزبير بناؤها على قواعد إبراهيم لزوال سبب الامتناع ولولا قوله في الحديث في سبيل الله لأمكن أن يحمل الإنفاق على ما يتعلق بها فيرجع إلى أن حكمه حكم التحبيس ويمكن أن يحمل قوله في سبيل الله على ذلك لأن عمارة الكعبة يصدق عليه أنه في سبيل الله . واستدل التقي السبكي بحديث الباب على جواز تعليق قناديل الذهب والفضة في الكعبة ومسجد المدينة فقال هذا الحديث عمدة في مال الكعبة وهو ما يهدى إليها أو ينذر لها قال وأما قول الرافعي لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة ولا تعليق قناديلها فيها حكى الوجهين في ذلك أحدهما الجواز تعظيما كما في المصحف والآخر المنع إذ لم ينقل من فعل السلف فهذا مشكل لأن للكعبة من التعظيم ما ليس لبقية المساجد بدليل تجويز سترها بالحرير والديباج وفي جواز ستر المساجد بذلك خلاف .
ثم تمسك للجواز بما وقع في أيام الوليد بن عبد الملك من تذهيبه سقوف المسجد النبوي قال ولم ينكر ذلك عمر بن عبد العزيز ولا أزاله في خلافته ثم استدل للجواز بأن تحريم استعمال الذهب والفضة إنما هو فيما يتعلق بالأواني المعدة للأكل والشرب ونحوهما قال وليس في تحلية المساجد بالقناديل الذهب شيء من ذلك .
وقد قال الغزالي من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن فإنه لم يثبت في الذهب إلا تحريمه على الأمة فيما ينسب للذهب وهذا بخلافه فيبقى على أصل الحل ما لم ينته إلى الإسراف انتهى ، وتعقب بأن تجويز ستر الكعبة بالديباج قام الإجماع عليه وأما التحلية بالذهب والفضة فلم ينقل عن فعل من يقتدي به والوليد لا حجة في فعله وترك عمر بن عبد العزيز النكير أو الإزالة يحتمل عدة معان فلعله كان لا يقدر على الإنكار خوفا من سطوة الوليد ولعله لم يزلها لأنه لا يتحصل منها شيء ولاسيما إن كان الوليد جعل في الكعبة صفائح فلعله رأى أن تركها أولى لأنها صارت في حكم المال الموقوف فكأنه أحفظ لها من غيره وربما أدى قلعه إلى إزعاج بناء الكعبة فتركه ومع هذه الاحتمالات لا يصلح الاستدلال بذلك للجواز .
وقوله إن الحرام من الذهب إنما هو استعماله في الأكل والشرب إلخ هو متعقب بأن استعمال كل شيء بحسبه واستعمال قناديل الذهب هو تعليقها للزينة وأما استعمالها للإيقاد فممكن على بعد وتمسكه بما قاله الغزالي يشكل عليه بأن الغزالي قيده بما إذا لم ينته إلى الإسراف والقنديل الواحد من الذهب يكتب تحلية عدة مصاحف وقد أنكر السبكي على الرافعي تمسكه في المنع بكون ذلك لم ينقل عن السلف وجوابه أن الرافعي تمسك بذلك مضموما إلى شيء آخر وهو أنه قد صح النهي عن استعمال الحرير والذهب فلما استعمل السلف الحرير في الكعبة دون الذهب مع عنايتهم بها وتعظيمها دل على أنه بقي عندهم على عموم النهي وقد نقل الشيخ الموفق الإجماع على تحريم استعمال أواني الذهب والقناديل من الأواني بلا شك واستعمال كل شيء بحسبه والله أعلم .
فصل في معرفة بدء كسوة البيت : روى الفاكهي من طريق عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه أنه سمعه يقول زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب أسعد وكان أول من كسا البيت الوصائل ورواه الواقدي عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عنه ومن وجه آخر عن عمر موقوفا وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال بلغنا أن تبعا أول من كسا الكعبة الوصائل فسترت بها قال وزعم بعض علمائنا أن أول من كسا الكعبة إسماعيل عليه السلام وحكى الزبير بن بكار عن بعض علمائهم أن عدنان أول من وضع أنصاب الحرم وأول من كسا الكعبة أو كسيت في زمنه وحكى البلاذري أن أول من كساها الأنطاع عدنان بن أد ، وروى الواقدي أيضا عن إبراهيم بن أبي ربيعة قال كُسي البيت في الجاهلية الأنطاع ثم كساه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية ثم كساه عمر وعثمان القباطي ثم كساه الحجاج الديباج وروى الفاكهي بإسناد حسن عن سعيد بن المسيب قال لما كان عام الفتح أتت امرأة تجمر الكعبة فاحترقت ثيابها وكانت كسوة المشركين فكساها المسلمون بعد ذلك وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن حسن هو ابن صالح عن ليث هو ابن أبي سليم قال كانت كسوة الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم المسوح والأنطاع ليث ضعيف والحديث معضل .
وقال أبو بكر أيضا حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عجوز من أهل مكة قالت أصيب ابن عثمان وأنا بنت أربع عشرة سنة قالت ولقد رأيت البيت وما عليه كسوة إلا ما يكسوه الناس الكساء الأحمر يطرح عليه والثوب الأبيض وقال ابن إسحاق بلغني أن البيت لم يكسى في عهد أبي بكر ولا عمر يعني لم يجدد له كسوة وروى الفاكهي بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يكسو بدنه القباطي والحبرات يوم يقلدها فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان فناطها على الكعبة زاد في رواية صحيحة أيضا فلما كست الأمراء الكعبة جللها القباطي ثم تصدق بها .
وهذا يدل على أن الأمر كان مطلقا للناس ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه قالت سألت عائشة أنكسو الكعبة قالت الأمراء يكفونكم .
الشيخ : قوله : ( الأمراء يكفونكم ) في هذا دليل على أن الأمور العامة لا يتولاها أفراد الناس إنما يُرجع فيها إلى ولاة الأمور ؛ لأننا لو قلنا يتولاها الناس لحصلت فوضى كل إنسان يريد أن يكون هو المتقدم ، فالأمور العامة لا توكل إلى أفراد الناس إنما يتولاها من يلي الأمر العام .
متابعة التعليق من فتح الباري :
فحصلنا في أول من كساها مطلقا على ثلاثة أقوال إسماعيل وعدنان وتبع وهو أسعد المذكور في الرواية الأولى ولا تعارض بين ما روي عنه أنه كساها الأنطاع والوصائل لأن الأزرقي حكى في كتاب مكة أي تبعا أُرى في المنام أن يكسو الكعبة فكساها الأنطاع ثم أري أن يكسوها فكساها الوصائل وهو ثياب حبرة من عصب اليمن ثم كساها الناس بعده في الجاهلية ، ويجمع بين الأقوال الثلاثة إن كانت ثابتة بأن إسماعيل أول من كساها مطلقا وأما تبع فأول من كساها ما ذكر وأما عدنان فلعله أول من كساها بعد إسماعيل .
وسيأتي في أوائل غزوة الفتح ما يشعر أنها كانت تكسى في رمضان وحصلنا في أول من كساها الديباج على ستة أقوال خالد أو نتيلة أو معاوية أو يزيد أو ابن الزبير أو الحجاج ويجمع بينها بأن كسوة خالد ونتيلة لم تشملها كلها وإنما كان فيما كساها شيء من الديباج وأما معاوية فلعله كساها في آخر خلافته فصادف ذلك خلافة ابنه يزيد وأما ابن الزبير فكأنه كساها ذلك بعد تجديد عمارتها فأوليته بذلك الاعتبار لكن لم يداوم على كسوتها الديباج فلما كساها الحجاج بأمر عبد الملك استمر ذلك فكأنه أول من داوم على كسوتها الديباج في كل سنة .
وقول ابن جريج أول من كساها ذلك عبد الملك يوافق القول الأخير فإن الحجاج إنما كساها بأمر عبد الملك وقول ابن إسحاق إن أبا بكر وعمر لم يكسيا الكعبة فيه نظر لما تقدم عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن عمر كان ينزعها كل سنة لكن يعارض ذلك ما حكاه الفاكهي عن بعض المكيين أن شيبة بن عثمان استأذن معاوية في تجريد الكعبة فأذن له فكان أول من جردها من الخلفاء وكانت كسوتها قبل ذلك تطرح عليها شيئا فوق شيء .
وقد تقدم سؤال شيبة لعائشة أنها تجتمع عندهم فتكثر وذكر الأزرقي أن أول من ظاهر الكعبة بين كسوتين عثمان بن عفان وذكر الفاكهي أن أول من كساها الديباج الأبيض المأمون بن الرشيد واستمر بعده وكسيت في أيام الفاطميين الديباج الأبيض وكساها محمد بن سبكتكين ديباجا أصفر وكساها الناصر العباسي ديباجا أخضر ثم كساها ديباجا أسود فاستمر إلى الآن ولم تزل الملوك يتداولون كسوتها إلى أن وقف عليها الصالح إسماعيل بن الناصر في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة قرية من نواحي القاهرة يقال لها بياسوس كان اشترى الثلثين منها من وكيل بيت المال ثم وقفها كلها على هذه الجهة فاستمر ولم تزل تكسى من هذا الوقف إلى سلطنة الملك المؤيد شيخ سلطان العصر فكساها من عنده سنة لضعف وقفها ثم فوض أمرها إلى بعض أمنائه وهو القاضي زين الدين عبد الباسط بسط الله له في رزقه وعمره فبالغ في تحسينها بحيث يعجز الواصف عن صفة حسنها جزاه الله على ذلك أفضل المجازاة .
وحاول ملك الشرق شاه روخ في سلطنة الأشرف برسباي أن يأذن له في كسوة الكعبة فامتنع فعاد راسله أن يأذن له أن يكسوها من داخلها فقط فأبى فعاد راسله أن يرسل الكسوة إليه ويرسلها إلى الكعبة ويكسوها ولو يوما واحدا واعتذر بأنه نذر أن يكسوها ويريد الوفاء بنذره فاستفتى أهل العصر فتوقفت عن الجواب وأشرت إلى أنه إن خشي منه الفتنة فيجاب دفعا للضرر وتسرع جماعة إلى عدم الجواز ولم يستندوا إلى طائل بل إلى موافقة هوى السلطان ومات الأشرف على ذلك .
الشيخ : الله أكبر، أمم، تلك أمة قد خلت، ملوك، خلفاء. قيض الله لهذا البيت من يكرمه ويعظمه ويتسابقون إلى ذلك . اللهم زده تشريفاً وتعظيماً .
سؤال : تزيين الذهب في المصاحف لكن بعض المصاحف تصل أسعارها إلى أسعار مرتفعة جداً ذلك لوضع فيها زينة ، والمصاحف هذه عادة ما يُقرأ فيها ، يعني تُتخذ حلية وما شابه ذلك ؟
الجواب : هذا نتيجة الإسراف لأنه يسرف فيها من الذهب على جلدتها وعلى هوامشها ، وهذه النتيجة لأنهم لا يريدون أن يقرءوا فيها فتتلف عليهم فيبقونها تحف .
سؤال : أحسن الله إليكم يا شيخ ، بعض الأشياء من حاجات المساجد توقف في المساجد فمع الزمن تبلى قد تباع بسعر المستعمل ، فإذا بيعت كيف تُصرف بعد هذا هل تباع ويرد ثمنها للمسجد نفسه ؟
الجواب : إي نعم تباع ويُشترى بدلها في مكانها ، يُشترى شيء يكون بدلها في مكانها .
سؤال : هل من هجر القرآن هجر طلاب العلم لتفسير القرآن ؟
الجواب : قوله تعالى : { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } يشمل هجر اللفظ وهجر المعنى وهجر العمل ، قد يكون الإنسان يتلوه ليلاً ونهاراً في كل آن ويكون هاجره لأنه لم يعمل به ، وقد يكون يقرأه لفظاً ولكنه لا يفهمه معنى فيكون هجراً ؛ لأن الله تعالى قال : {كتاب أنزلناه إليك مباركاً ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } فإذا لم يكن تدبر ولا تذكر فهذا هجر .(4/432)
47 ـ بَاب هَدْمِ الكَعْبَةِ
قَالتْ عَائِشَةُ رَضِي الله عَنْهَا قَال النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ(1)
1492 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَليٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ بْنُ الأَخْنَسِ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُليْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهما عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلعُهَا حَجَرًا حَجَرًا(2)
1493 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا الليْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه قَال قَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ.
48 ـ بَاب مَا ذُكِرَ فِي الحَجَرِ الأَسْوَدِ
__________
(1) هؤلاء القوم يأتون من جهة الشمال يريدون غزو الكعبة حتى إذا كانوا في بيداء من الأرض خسف الله بهم ، حماية للكعبة أن يكون فيها قتال بعد القتال الأول الذي أُحل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
(2) يعني كأنه ينظر إليه ، وهذا مما أوحى الله تعالى إليه من صفة هذا الرجل ( أفحج ) يعني بعيد ما بين الفخذين ، وثانياً ( أسود ) يعني أسود اللون ، وسبق أنه ذو السويقتين .(4/433)
1494 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ رَضِي الله عَنْه أَنَّهُ جَاءَ إِلى الحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلهُ فَقَال إِنِّي أَعْلمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ وَلوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلتُكَ(1)
__________
(1) هذا الحديث هو الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وفيه دليل على أن تقبيل الحجر مجرد اتباع ليس للتبرك به خلافاً لما يظنه كثير من العامة ، حتى إن بعضهم يقف ومعه صبيه فيمسح الحجر ثم يمسح بيده على صبيه يتبرك به ، بل بعضهم حتى في الركن اليماني ، وهذا غلط فتقبيل الحجر واستلام الحجر مجرد اتباع ، ولهذا قال عمر ما قال : ( إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ) يعني لا تضر من عارضك ولا تنفع من وافقك ، ولكن اتباع للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم . قال : ( لولا أن رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ) . الترجمة فيها شيء في الحديث ؟
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( باب ما ذكر في الحجر الأسود ) أورد فيه حديث عمر في تقبيل الحجر ، وقوله : (لا تضر ولا تنفع ) وكأنه لم يثبت عنده فيه على شرطه شيء غير ذلك ، وقد وردت فيه أحاديث منها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : ( إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاء ما بين المشرق والمغرب ) أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان وفي إسناده رجاء أبو يحيى وهو ضعيف ، قال الترمذي حديث غريب ويروي عن عبد الله بن عمرو موقوفا وقال ابن أبي حاتم عن أبيه وقفه أشبه والذي رفعه ليس بقوي .
الشيخ : يعني هذا الحديث ضعيف لا يصح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهذا الرجل الذي فيه ، وإذا صح موقوفاً عن عبد الله بن عمرو ، فعبد الله بن عمرو عند المحدثين ممن أخذ عن بني إسرائيل ، وعليه فلا يكون مثل هذا في حكم المرفوع . فالحمد لله .
متابعة التعليق : ومنها حديث ابن عباس مرفوعا نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم أخرجه الترمذي وصححه وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها وقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مختصرا ولفظه الحجر الأسود من الجنة وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط وفي صحيح ابن خزيمة أيضا عن ابن عباس مرفوعا إن لهذا الحجر لسانا وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق . وصححه أيضا ابن حبان والحاكم وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضا .
الشيخ : هذا أيضاً لا يُستبعد ؛ لأن الله تعالى قال في الأرض عموماً : { يومئذٍ تُحدث أخبارها } .
سؤال : أحسن الله إليكم ، يلزم من ها كان حجراً أبيض ثم تغير الاسم الحجر الأسود ؟
الجواب : لكن متى اسود ؟ سودته خطايا بني آدم من زمان .
السائل : أشكل علي نسميه الحجر الأسود وقد كان أبيض ؟
الجواب : في ذلك الوقت قبل أن يسود نسميه الحجر الأبيض ، الآن نسميه الحجر الأسود ، والعجيب أن بعض الجهلة لا يسميه الحجر الأسود يسميه الحجر الأسعد ، وهذا غلط ، الصحابة يسمونه الحجر الأسود وأنتم أشد تعظيماً له من الصحابة ؟ نقول الأسود ولا فيه مانع ، حتى هو بنفسه لو قارنت بين أحجار الكعبة التي بُنيت بها وجدته أسود .
سؤال : عفا الله عنك يا شيخ ، لو كان نازل من الجنة لنظرنا في المعنى إنه لا ينافي كلام عمر ؛ لأنه له حرمة في نفسه ولا ينفع إلا بإذن الله؟
الجواب : إي نعم لا شك ، لكن هل نؤمن ونعتقد بأنه نزل من الجنة ؟ هذا هو محل البحث .
سؤال : الجيش الذي يأتي لغزو الكعبة ألا يكون هو الجيش الذي يخرج لقتال المهدي من الشام فيُخسف به ويبقى منه رجل لأنه سيخرج يبايع عند الكعبة ؟
الجواب : الله أعلم .
السائل : لأنه سيبايع عند الكعبة ؟
الجواب : الحديث مطلق ومثل هذه المطلقات ما يستطيع بها الإنسان الحكم على أي شيء ، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون في أمته كذابون ثلاثون كلهم يدعي أنه نبي ، ما نستطيع أن نقول إنه فلان أو فلان وفلان وبهم تم العدد ، الأشياء هذه الأحسن تبقى مطلقة .(4/434)
49 ـ بَاب إِغْلاقِ البَيْتِ وَيُصَلي فِي أَيِّ نَوَاحِي البَيْتِ شَاءَ
1495 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا الليْثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَال دَخَل رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ البَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلحَةَ فَأَغْلقُوا عَليْهِمْ فَلمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّل مَنْ وَلجَ فَلقِيتُ بِلالا فَسَأَلتُهُ هَل صَلى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال نَعَمْ بَيْنَ العَمُودَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ(1)
__________
(1) قوله رحمه الله : ( باب إغلاق البيت ويصلي في أي نواحي البيت شاء ) أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن إغلاق المساجد والكعبة والمساجد للحاجة لا بأس به ، ولا يُقال إن هذا من منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه ؛ لأن هذا لمصلحة أو لحاجة أو لضرورة أحياناً فلا حرج . وقوله : ( ويصلي في أي نواحي البيت شاء ) يعني يصلي داخل البيت في أي نواحيه سواء في الشمال في الجنوب في الشرق في الغرب ، ولكن إلى أين يتجه ؟ يتجه إلى أقرب الجدران إليه ، فمثلاً إذا كان في الجانب الشمالي يتجه إلى الجدار الشمالي ، وإذا كان في الجنوب إلى الجدار الجنوبي ، وإن عكس وصار في الجنوب واتجه إلى الشمال فلا بأس لأنه ولى وجهه شطر المسجد الحرام لكن هذا فيه نوع من إساءة الأدب ؛ لأن الأقرب أولى بالمراعاة من الأبعد .
وظاهر كلام البخاري أنه لا بأس أن يتوجه إلى باب الكعبة ، وهذا محل خلاف ، يعني هل إذا كنت في داخل الكعبة واتجهت إلى الباب هل يُجزئ أو لا ؟ فمن العلماء من قال لا يجزئ ؛ لأن الذي بين يديه فضاء ، ومنهم من قال إنه يجزئ واستدل لذلك بأن الصلاة تجوز في جبل أبي قبيس وهو عال فوق الكعبة لكنه متجه لهواها هوى الكعبة ، قالوا وهذا مثله . والقياس فيه شيء من النظر ؛ لأنه يقال الذي على الجبل ليس له مكان سوى هذا لكن هذا الذي في وسط الكعبة كيف يتجه إلى الباب وهو فضاء ويدع الجدار ؟ شوف الترجمة إيش يقول عليه .
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( باب إغلاق البيت ويصلي في أي نواحي البيت شاء ) أورد فيه حديث ابن عمر عن بلال في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة بين العمودين وتعقب بأنه يغاير الترجمة من جهة أنها تدل على التخيير والفعل المذكور يدل على التعيين وأجيب بأنه حمل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموضع بعينه على سبيل الاتفاق لا على سبيل القصد لزيادة فضل في ذلك المكان على غيره ويحتمل أن يكون مراده أن ذلك الفعل ليس حتما وإنما كانت الصلاة في تلك البقعة التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من غيرها ويؤيده ما سيأتي في الباب الذي يليه من تصريح ابن عمر بنص الترجمة مع كونه كان يقصد المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه لفضله .
وكأن المصنف أشار بهذه الترجمة إلى أن الحكمة في إغلاق الباب حينئذ وهو أولى من دعوى ابن بطال الحكمة فيه لئلا يظن الناس أن ذلك سنة وهو مع ضعفه منتقض بأنه لو أراد إخفاء ذلك ما اطلع عليه بلال ومن كان معه وإثبات الحكم بذلك يكفي فيه فعل الواحد وقد تقدم بسط هذا في باب الغلق للكعبة من كتاب الصلاة وظاهر الترجمة أنه يشترط للصلاة في جميع الجوانب إغلاق الباب ليصير مستقبلا في حال الصلاة غير الفضاء والمحكي عن الحنفية الجواز مطلقا وعن الشافعية وجه مثله لكن يشترط أن يكون للباب عتبة بأي قدر كانت ووجه يشترط أن يكون قدر قامة المصلي ووجه يشترط أن يكون قدر مؤخر الرحل وهو المصحح عندهم وفي الصلاة فوق ظهر الكعبة نظير هذا الخلاف والله أعلم .
وأما قول بعض الشارحين إن قوله ويصلي في أي نواحي البيت شاء يعكر على الشافعية فيما إذا كان البيت مفتوحا ففيه نظر لأنه جعله حيث يغلق الباب وبعد الغلق لا توقف عندهم في الصحة .
الشيخ : وفي هذا الحديث تواضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث أغلق على نفسه ومعه أسامة وبلال أما عثمان بن طلحة فهذا لأنه من سدنة البيت ، أسامة بن زيد مولى ، وبلال مولى أيضاً ، أما قصد المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهذا ينبني على أن ما فعله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اتفاقاً هل يُستن به فيه أو لا ؟ فابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه يرى أنه يُستن به فيه ، ولكن ابن عمر رضي الله عنه خالف في فعله هذا سائر الصحابة ، فالصحابة يرون أن ما وقع اتفاقاً بلا قصد ليس بمشروع ، ولا شك أن هذا هو الصواب ، ولكن محبة القلب للنبي صلى الله عليه وسلم تؤدي إلى أن الإنسان يقتدي به حتى في هذا العمل لا تعبداً ولكن من أجل إيش ؟ قوة المحبة ، وهذا مًسلم .
ولهذا لو قال لنا قائل : هل تتبع الدباء في الطعام هل هو سنة أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشتهيه ويتتبعه ؟ الجواب هو الثاني ، لكن لو أن إنساناً من شدة محبته للرسول صلى الله عليه وسلم رأى أن يتأسى به حتى في هذه الحال لا تعبداً فلا حرج ، وتكون العبادة في هذا الحال هي عبادة المحبة لا عبادة التأسي بالفعل . انتبه لهذا الفرق لأن كثيراً من الناس يختلط عليهم الأمر ، فنقول : ما فعله اتفاقاً أو لشهوة نفسية فقط هذا ليس بسنة ، ولكن من كان محباً للرسول صلى الله عليه وسلم محبة تامة وأحب أن يتأسى به في هذا لا تعبداً ولكن من قوة المحبة فهذا إيش ؟ لا بأس به ويثاب على المحبة لا على التأسي .
ش7 ـ وجه أ :
سؤال : المحبة في مسألة تتبعه صلى الله عليه وسلم في الصلاة ..؟
الجواب : لا فرق يعني في المكان الذي يصلي فيه .
سؤال : عفا الله عنك يا شيخ ، الذي يظهر من فعل ابن عمر رضي الله عنهما أنه فعل هذا والصحابة رضي الله عنهم لم يحرصوا على ما حرص عليه ، فهو فعله من باب السنة ؟
الجواب : جزاك الله خيراً ، لكن شيخ الإسلام رحمه الله نص على أن ابن عمر خالف أصل جموع الصحابة في هذا ، ويمكن أن يقال ـ أنا قلت ـ إن ابن عمر لا يفعله تعبداً ولكن لقوة محبته وزيادة محبته يفعل هذا ، فيقال: ليس هو أشد محبة للرسول من أبي بكر. على كل حال فيها احتمال .(4/435)
50 ـ بَاب الصَّلاةِ فِي الكَعْبَةِ
1496 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهما أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَل الكَعْبَةَ مَشَى قِبَل الوَجْهِ حِينَ يَدْخُلُ وَيَجْعَلُ البَابَ قِبَل الظَّهْرِ يَمْشِي حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِدَارِ الذِي قِبَل وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلاثِ أَذْرُعٍ فَيُصَلي يَتَوَخَّى المَكَانَ الذِي أَخْبَرَهُ بِلالٌ أَنَّ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ صَلى فِيهِ وَليْسَ عَلى أَحَدٍ بَأْسٌ أَنْ يُصَليَ فِي أَيِّ نَوَاحِي البَيْتِ شَاءَ .
51 ـ بَاب مَنْ لمْ يَدْخُل الكَعْبَةَ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهما يَحُجُّ كَثِيرًا وَلا يَدْخُلُ
1497 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالدُ بْنُ عَبْدِاللهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالدٍ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَال اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَطَافَ بِالبَيْتِ وَصَلى خَلفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَقَال لهُ رَجُلٌ أَدَخَل رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ الكَعْبَةَ قَال لا(1)
__________
(1) قوله : ( وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ ) يعني يحجبه عن الناس لئلا يتزاحموا عليه فيشوشوا عليه صلاته ، ولا يمكن أن نقول إن في هذا حجة لأولئك القوم الذين يتحجرون على من يصلون من جماعتهم خلف المقام لأن الفرق ظاهر ، الناس يتزاحمون على إيش في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ووقتنا الحاضر الناس يتزاحمون على الطواف ، يعني المطاف مملوء فلا يحل لأحد أن يعوق الناس ويبقى حجراً على صاحبه .
سؤال : أحسن الله إليكم ، في الحديث الذي قبل هذا قوله : ( وَليْسَ عَلى أَحَدٍ بَأْسٌ أَنْ يُصَليَ فِي أَيِّ نَوَاحِي البَيْتِ شَاءَ ) هذا كلام من ؟
الجواب : هذا كلام نافع .
سؤال : بارك الله فيكم ، هل يُسن للإنسان أن يتقصد الصلاة داخل الكعبة في حجر الكعبة ؟
الجواب : يعني هذه من السنة يكفي الحجر .
سؤال : يا شيخ حفظك الله ، من صلى الآن في الحجر من البيت وكان ظهره للبيت كان وجهه إلى الجهة الأخرى الشمالية للجهة الأخرى ؟
الجواب : ما يصح ؛ لأن الجهة الشمالية جدارها خارج الكعبة .
السائل : قلنا ستة أذرع من الحجر من البيت ؟
الجواب : هذه الستة أذرع ليس عليها جدار ؛ لأن الجدار من ورائه فيكون توجه إلى غير الكعبة، على أن هذا مسألة فرضية وإلا من يفعل هذا؟ أعتقد أني لو رأيت أحداً يفعل هذا لأمسكت بيديه وذهبنا به هذا جنون .
سؤال : من أراد أن يخبر الناس أن هذا من البيت لأن الناس الآن تعتقد إن الكعبة هي المبنية ؟
الجواب : ما يخالف ، ما يضر اعتقادهم إن الكعبة هي المبنية ولا يتوجهوا لغير الجهة الصحيحة .(4/436)
52 ـ بَاب مَنْ كَبَّرَ فِي نَوَاحِي الكَعْبَةِ
1498 حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُالوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهما قَال إِنَّ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ لمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُل البَيْتَ وَفِيهِ الآلهَةُ فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل فِي أَيْدِيهِمَا الأَزْلامُ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَاتَلهُمُ اللهُ أَمَا وَاللهِ لقَدْ عَلمُوا أَنَّهُمَا لمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ فَدَخَل البَيْتَ فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ وَلمْ يُصَل فِيهِ(1)
53 ـ بَاب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَل(2)
__________
(1) في هذا دليل على أنه يجوز أن يدخل البيت ولا يصلي فيه ، وفيه أيضاً تعظيم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لله تبارك وتعالى حيث لم يدخل والأصنام في الكعبة ، وفيه أنه لما دخل الكعبة بعد أن أُخرجت الأصنام أنه كبَّر الله وعظمه وأن الله تعالى أكبر من كل شيء .
سؤال : بارك الله فيك ، هل نقول من دخل الكعبة يسن له أن يكبر إذا دخل ؟
الجواب : لا .. إلا إذا كان لسبب مثل لو أُزيل منها صنم أو نحو ذلك يكبر هذا طيب ، والدليل على هذا أنه في قصة أسامة بن زيد وبلال لم يكبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
(2) الرمل هو سرعة المشي مع مقاربة الخطى بمعنى أن لا تمد الخطوة ، طبيعية لكن أسرع ، وليس المراد به هز الأكتاف كما نشاهد من بعض الحجاج والمعتمرين تجده هكذا هكذا .. لا يسرع ولا شيء يهز كتفه فقط ، هذا ليس بمشروع وإذا رأيت أحداً يفعله فانصحه .(4/437)
1499 حَدَّثَنَا سُليْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهما قَال قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ وَأَصْحَابُهُ فَقَال المُشْرِكُونَ إِنَّهُ يَقْدَمُ عَليْكُمْ وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَلمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلهَا إِلا الإِبْقَاءُ عَليْهِمْ (1)
__________
(1) هذا ابتداء الرمي ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما اعتمر عمرة القضية التي جرى عليها الصلح في الحديبية اجتمعت قريش يريدون أن يشمتوا في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه اجتمعوا من الناحية الشمالية ، وقال بعضهم لبعض يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب ، معنى وهنتهم أي أضعفتهم ، لأن المدينة شرفها الله اشتهرت بالحمى حتى دعا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه أن ينقلها منها إلى الجحفة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة إلا ما بين الركن اليماني والحجر الأسود فإنهم يمشون مشياً عادياً لأنهم في هذه الناحية لا تشاهدهم قريش ، والمقصود من الرمل في تلك السنة هو إغاظة المشركين ، هذا هو السبب . فإذا قال قائل : إذا زال هذا السبب فهل تزول مشروعية الرمل ؟ فالجواب : لا .. لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجة الوداع أمرهم أن يرملوا كل الأشواط حتى ما بين الركنين ، وهذا الأخير ـ أعني الرمل ما بين الركنين ـ هو الذي زال سببه لأن حكمه في الأول أن يُمشى فيه مشياً معتاداً من أجل أن قريش لا يشاهدونهم ، فزال هذا السبب ، فأُمروا أن يكملوا الأشواط الثلاثة من الركن إلى الركن ، فصارت هذه المسألة مركبة من شيئين : شيء بقي الرمل ، وشيء آخر نُسخ هو مشي ما بين الركنين .
السبب لأن مشي ما بين الركنين قد زال سببه أما مشروعية الرمل في الأشواط كلها فسببه لم يزل حقيقة لم يزل ؛ لأن هذا يُذكر المسلمين بالقوة وأن يروا عدوهم أنهم أقوياء ، لولا هذا الرمل ما ذكرنا قصة الرمل في عمرة القضية ولا خطر على البال . فحقيقة الأمر أن السبب باقٍ وهو أن يتذكر المسلمون القوة والجلد والشجاعة .
سؤال : جزاك الله خيراً ، الركعتين بعد الطواف هل هي مقصودة لذاتها أو تجزئ عنها غيرها ؟
الجواب : الظاهر إنها مقصودة لذاتها فلو كانت وقت صلاة وأُقيمة الصلاة صلى الفريضة ثم صلى ركعتين .
سؤال : الرمل يا شيخ أحسن الله إليك لو هناك زحام في المطاف هل يقال يرمل ولو في مكانه مثلاً ؟
الجواب : كيف يرمل وهو في زحام ؟
السائل : وهو في مكانه مثلاً ؟
الجواب : كيف في مكانه ؟
السائل : وهو يمشي ؟
الجواب : الرمل سرعة المشي . يعني معناه أنه يبعد لكي يرمل ؟
السائل : لا يا شيخ وهو في مكانه قد يكون في .......
الجواب : قم أرنا كيف ، قم أمرتك أن تقوم أرنا كيف يرمل وهو في مكانه .
السائل : يعني هو أمامه مثلاً شيء بسيط ولكن الذي أمامه يمشي عادي فهو يرمل مكانه هكذا ....
الجواب : صار حجل ، يحجل هذا ، هذا لا يصلح ، لازم من السرعة لكن لو فرضنا أن في المطاف فجوات أحياناً يستطيع الرمي وأحياناً لا يستطيع ، الأقرب ما يستطيع ولكن لو فُرض أنه لو أبعد عن الكعبة لاستطاع الرمل ولو دنا لم يستطع فما الحكم ؟ قال العلماء : يرمل ولو بعيداً وعللوا هذا بأن المحافظة على فضل يتعلق بذات العبادة أولى من المحافظة على شيء يتعلق بزمانها أو مكانها . وهذه قاعدة نافعة يدل لها أن الإنسان لو دخل وقت الصلاة وهو في حاجة إلى بول أو غائط فهل الأولى أن يصلي الصلاة في وقتها لأنه الأفضل أو أن الأفضل أن يذهب ويقضي حاجته ثم يقبل على صلاته ؟ الثاني ، فهنا المحافظة على ذات العبادة أولى من المحافظة على زمنها .
على مكانها : مثلاًَ إنسان دخل الوقت وهو في مكان كله موشم كله نقوش لو صلى لالتهى بهذه النقوش ، ولكنه إذا خرج من هذا المكان وجد مكاناً ليس فيه ما يلهيه أيهما أولى أن يصلي في المكان الذي فيه ما يلهيه أو أن يخرج ؟ أن يخرج .(4/438)
54 ـ بَاب اسْتِلامِ الحَجَرِ الأَسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ
أَوَّل مَا يَطُوفُ وَيَرْمُلُ ثَلاثًا
1500 حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الفَرَجِ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِي الله عَنْه قَال رَأَيْتُ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ أَوَّل مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ(1)
55 ـ بَاب الرَّمَل فِي الحَجِّ وَالعُمْرَةِ
__________
(1) شوف الترجمة .
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوف ويرمل ثلاثا ) أورد فيه حديث ابن عمر في ذلك وهو مطابق للترجمة من غير مزيد وقوله ( يخب ) بفتح أوله وضم الخاء المعجمة بعدها موحدة أي يسرع في مشيه ، والخبب بفتح المعجمة والموحدة بعدها موحدة أخرى العدو السريع ، يقال خبت الدابة إذا أسرعت وراوحت بين قدميها ، وهذا يشعر بترادف الرمل والخبب عند هذا القائل وقوله : ( أول ) منصوب على الظرف وقوله : ( من السبع ) بفتح أوله أي السبع طوفات وظاهره أن الرمل يستوعب الطوفة وهو مغاير لحديث ابن عباس الذي قبله لأنه صريح في عدم الاستيعاب وسيأتي القول فيه في الباب الذي بعده في الكلام على حديث عمر إن شاء الله تعالى .
الشيخ : ظاهر كلام البخاري رحمه الله أنه ( أول ما يطوف ) يعني أول ... هل المراد أول طواف يطوفه أو أول ما يبتدئ الطواف ؟ فيه احتمال ، وعلى الاحتمال الثاني يكون استلام الحجر في أول شيء ولو .... لكن الظاهر خلاف ذلك ولكن معنى قوله رحمه الله ( أول ما يكون ) يعني أول طواف يطوفه ، فيكون الاستلام في كل الأشواط ، وفي قوله ( أول ما يطوف ) دليل على أن الاستلام في أول الشوط . وبناء على ذلك إذا انتهى من السبعة فإنه لا يستلم ولا يشير ولا يُكبر ؛ لأنه انتهى الشوط والاستلام والتكبير في أول الشوط .(4/439)
1501 حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا فُليْحٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهما قَال سَعَى النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ ثَلاثَةَ أَشْوَاطٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً فِي الحَجِّ وَالعُمْرَةِ تَابَعَهُ الليْثُ قَال حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهما عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ .
1502 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَال أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ ابْنَ الخَطَّابِ رَضِي الله عَنْه قَال للرُّكْنِ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَعْلمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ وَلوْلا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ اسْتَلمَكَ مَا اسْتَلمْتُكَ فَاسْتَلمَهُ ثُمَّ قَال فَمَا لنَا وَللرَّمَل إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ المُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلكَهُمُ اللهُ ثُمَّ قَال شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَلا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ(1)
__________
(1) فعل عمر رضي الله عنه لا يقال إنه متناقض بل هو جواب عن سؤال قد يرد على النفوس وهو أن الرمل لمراءات المشركين ومراغمتهم وقد زال هذا ، فأراد أن يبين رحمه الله أننا نتمسك بالسنة وإن زال السبب الأول حيث فعله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد ذلك في حجة الوداع . وفي هذا دليل على أن اتباع النص مقدم على القياس وعلى العلة لأن النص هو المعتمد .(4/440)
1503 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِاللهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهما قَال مَا تَرَكْتُ اسْتِلامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِي شِدَّةٍ وَلا رَخَاءٍ مُنْذُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَسْتَلمُهُمَا قُلتُ لنَافِعٍ أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ قَال إِنَّمَا كَانَ يَمْشِي ليَكُونَ أَيْسَرَ لاسْتِلامِهِ(1)
56 ـ بَاب اسْتِلامِ الرُّكْنِ بِالمِحْجَنِ
1504 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالحٍ وَيَحْيَى بْنُ سُليْمَانَ قَالا حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَال أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ عَبْدِاللهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهما قَال طَافَ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ عَلى بَعِيرٍ يَسْتَلمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ تَابَعَهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ(2)
__________
(1) لأن هناك زحام وهو مصمم على أن يستلم لا يمكن أن يرمل ، وفعل ابن عمر رضي الله عنه شاذ منه وإلا فإن الصواب اتباع السنة في هذا وهو أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا لم يتمكن من استلامه بيسر يستلمه بمحجن ويقبل المحجن ، فإن لم يمكن أشار إليه ، الصواب خلاف رأي ابن عمر في هذه المسألة أي في المزاحمة على استلام الحجر .
(2) يُحمل هذا على أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شق عليه أن يطوف ماشياً أو أنه أراد أن يُري الناس كيف يطوفون ، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء هل يجوز الطواف راكباً لغير عذر أو لا يجوز ؟ فمنهم من أجازه واستدل بهذا الحديث ومنهم من منعه وقال الأصل أن الإنسان يفعل النسك بنفسه وهو إذا كان على البعير لا يتحرك ، الذي يتحرك ويمشي هو البعير . ولننظر إلى الشرح في هذه المسألة .
القارئ : الركوب ؟
الشيخ : نعم الركوب .
القارئ : سيأتي بعد خمسة عشر باب .
الشيخ : طيب ، عد خمسة عشر باباً .
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( باب المريض يطوف راكبا ) أورد فيه حديث ابن عباس وحديث أم سلمة .
حديث ابن عباس : ( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهما أَنَّ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ طَافَ بِالبَيْتِ وَهُوَ عَلى بَعِيرٍ كُلمَا أَتَى عَلى الرُّكْنِ أَشَارَ إِليْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ ) .
حديث أم سلمة : ( قَالتْ شَكَوْتُ إِلى رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَال طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يُصَلي إِلى جَنْبِ البَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ) .
الشيخ : هذا في صلاة الفجر بعد طواف الوداع ورحل إلى المدينة .
متابعة التعليق : أورد فيه حديث ابن عباس وحديث أم سلمة والثاني ظاهر فيما ترجم له لقولها فيه إني أشتكي وقد تقدم الكلام عليهما في باب إدخال البعير المسجد للعلة في أواخر أبواب المساجد وأن المصنف حمل سبب طوافه صلى الله عليه وسلم راكبا على أنه كان عن شكوى وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس أيضا بلفظ ( قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته ) ووقع في حديث جابر عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس وليسألوه ، فيحتمل أن يكون فعل ذلك للأمرين وحينئذ لا دلالة فيه على جواز الطواف راكبا لغير عذر ، وكلام الفقهاء يقتضي الجواز إلا أن المشي أولى والركوب مكروه تنزيها ، والذي يترجح المنع لأن طوافه صلى الله عليه وسلم وكذا أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد ، ووقع في حديث أم سلمة طوفي من وراء الناس وهذا يقتضي منع الطواف في المطاف وإذا حوط المسجد أمتنع داخله إذ لا يؤمن التلويث فلا يجوز بعد التحويط بخلاف ما قبله فإنه كان لا يحرم التلويث كما في السعي ، وعلى هذا فلا فرق في الركوب إذا ساغ بين البعير والفرس والحمار .
الشيخ : والحمار ؟ خطأ عظيم ، الفرس نعم لأن روثه وبوله طاهر والحمار نجس ، ولا يؤمن أبداً أن يروث أو يبول ، فجمع الحمار مع الفرس والبعير غلط .
متابعة التعليق : وأما طواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا فللحاجة إلى أخذ المناسك عنه ولذلك عده بعض من جمع خصائصه فيها واحتمل أيضاً أن تكون راحلته عُصمت من التلويث حينئذ كرامة له .
الشيخ : عُصمت ؟! عجائب ! هذا احتمال بعيد .
فلا يقاس غيره عليه ، وأبعد من استدل به على طهارة بول البعير وبعره وقد تقدم حديث ابن عباس قبل أبواب .
الشيخ : قوله ( أبعد ) رحمه الله هذا بناء على مذهب الشافعي رحمه الله أن البول والروث من الحيوان نجس ، وهو ضعيف بلا شك ؛ لن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها ولم يأمرهم بالتخلي عن البول . فالصواب أن بول وروث كل ما يؤكل لحمه طاهر ، وما لا يؤكل لحمه فبوله نجس إلا ما يشق التحرز منه مثل الذباب ، الذبابة لها بول أليس كذلك ؟ لها بول لا شك ، واضح ، وقد قيل إنها إذا بالت على أبيض صار أسود وإذا بالت على أبيض صار أسود.
طالب : بيض هذا ؟
الشيخ : لا لا .. ما هو بيض ، ليس بيضاً فلا ندري عن هذا هل هو صحيح أو لا لكنه يُعفى عنها لمشقة التحرز منها ، وعفا بعض العلماء عن بعر الفار إذا كثر وقال إن التحرز منه شاق ، وبعر الفار نجس في الأصل لأن الفار نجس لا يؤكل . لكن أحياناً ـ ولاسيما فيما سبق ـ لما كانت البيوت مفتوحة تجد الفار يكون له جعة على الكتب وتلوث الكتب ، لكن الحمد لله الآن خف لأن البيوت صارت محصنة .
المهم الذي يظهر لي أنه لا يجوز الركوب في الطواف سواء على بعير أو على الأكتاف أو في العربيات إلا إذا كان هناك حاجة ، الحاجة : كمرض الإنسان وكبره والزحام الشديد الذي لا يتحمله ، لأن مع الزحام بعض الناس يتحمله وبعض الناس لا يتحمله ، فالمهم إذا كان لعذر فلا بأس وإذا لم يكن لعذر فلا يجوز ؛ لأن الراكب حقيقة لم يطف ولم يتحرك ، الذي طاف هو البعير .
سؤال : أحسن الله إليكم ، علة الرمل قلنا غير موجودة الآن وهي إظهار القوة ، بعض الناس يقول في الوقت الحاضر الكفار يشاهدون المسلمين بواسطة القنوات فالعلة باقية ، هل القول هذا وجيه ؟
الجواب : هل الكفار الآن يهتمون بالمسلمين ؟ أجب ؟
السائل : لا .
الجواب : أبداً ولا يهمهم شيء حتى لو أظهروا القوة ما يهمهم شيء ؛ لأن كثيراً من حكام المسلمين لا يقومون بالواجب في معاداة المشركين وفي إراءتهم القوة أبداً ، بل بعضهم واضح إنه تبع الكفار . على كل حال إذا رجعنا إلى الأصل قلنا ما قاله عمر رضي الله عنه : شيء فعله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا بد لنا من فعله .
سؤال : معلوم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن يكون البيت على اليسار ، وأحياناً يكون الإنسان في طوافه إما لكون النساء معه أو يكون يحمل العربة التي يُحمل فيها الكبار فيلتفت ويجعل البيت على يمينه ، ومادام المسألة ليست فيها عمد فلماذا يقال ببطلان طواف هذا ؟
الجواب : يقال ببطلانه لأن هذا هو الذي جرى عليه المسلمون وهو فعل مجمع عليه ولا خالف فيه أحد فلابد من هذا ، لكن هل مثلاً لو أن الإنسان انحرف قليلاً لإصلاح شيء أو مثلاً للالتفات إلى صاحبه هل نقول إن هذا الشوط يُلغى أو نقول لا يُلغى لأن الانحراف يسير والزمن قليل والحاجة قد تدعو إلى ذلك ، أحياناً مع الزحام قد لا تستطيع أن تتجه اتجاهاً ثانياً ، فهذا أرجو أن لا يكون فيه بأس إذا كان قليلاً الانحراف قليل والزمن قليل نرجو أن لا يكون فيه بأس أن يجعلها خلف ظهر أو أمام وجهه أو عن يمينه .
سؤال: من طاف وهو حامل شخصاً هل يجزئ الطواف عن الاثنين ؟
الجواب : لا يجزئ عن الاثنين إلا إذا كان المحمول مميزاً يقال له انو الطواف فينوي ، أما الغير مميز لا يمكن أن يكون طواف واحداً على نيتين.
سؤال : يا شيخ أحسن الله إليك ، من كان يرمل عادة .... ومع سيره فإنه يقارب الخطى ويسير بسرعة ، هل ينوي في بعض الطواف أنه يرمل في الأشواط الثلاثة وفي الباقي أن هذا عادته أم يجزئ فعله هذا وهو يمشي ؟
الجواب : أفهمتم سؤاله ؟ هذا سؤال معقد كلهم الآن لو سألتهم ما فهموا مرادك .
طالب : لا .. واضح يا شيخ لأنه ما نوى الرمل في الثلاث الأوائل .
الجواب : هذا معناه ؟ يعني كأنه يسرع بغير اختياره ؟ هذا ينوي في الأشواط الثلاثة أنه يرمل ، مثل الأحدب إذا جاء الركوع ينوي إنه راكع إذا ما نوى ما يكون راكع . إنما الأعمال بالنيات يكون هذا على العادة .
سؤال : يا شيخ بارك الله فيك ، الحيوانات التي لا يؤكل لحمها ويصعب التحرز منها هل كونها روثها نجس يعتبر غير نجس مطلقاً مثل الكلاب مثلاً ؟
الجواب : لا .. لا .. الكلب وحتى الهر ، الهر بوله وروثه نجس مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال إنها طاهر إنها من الطوافين عليكم ، البول والروث من كل ما لا يؤكل هذا نجس ، هذا هو الأصل ، لكن إذا كان يسيراً يشق التحرز منه هذا هو محل الخلاف ، فبعضهم عفا عن هذا وقال إن هذا أمر لا يمكن التحرز منه .
سؤال : يا شيخ بارك الله فيكم ، بالنسبة لبعض العوام أحياناً يطوف بالبيت ما يعرف يدعو بالدعاء الوارد ، شخص يأخذ كتاب ويقرأ على هؤلاء ويؤمنون ، هل يجوز هذا يا شيخ ؟
الجواب : وهم يعرف إيش معناه ؟
السائل : بس العوام الذين معه لا يعرفون شيء .
الجواب : ما يجوز ، لابد أن يعلمهم المعنى ، يبدأ يدعو اللهم كذا وكذا أتفهم المعنى ـ يقول للعامي ـ قال له إيش معناه ؟ قال معناه كذا وكذا مشتق من كذا . عرفت ؟
السائل : صعب يا شيخ .
الجواب : صعب ! هذا يدعو بما لا يدري ؟
السائل : الحجاج العجم الذين يأتون ما يدرون ؟
الجواب : هذا هو البلاء ولذلك نقول : لو أن الحجاج وجهوا إلى أن يقال لهم مثلاً عند ابتداء الطواف : الآن يبتدئ الطواف وقل ما شئت ما تريد بلغتك أنت أو باللغة العربية أو ما تريد . لكان أحسن وأنفع ، لكن يأخذ الكتاب وكأنه قرآن يتعبد بتلاوته فقط . عرفت ؟
سؤال : يا شيخ ، بعضهم في الرمل ضبطه بأنه يجري بحيث تكون أحد رجليه في الأرض ؟
الجواب : حتى لو يمشي المشي المعتاد لا يمكن نقل القدم إلى مكان آخر إلا بارتفاع عن الأرض .
السائل : يكون الثاني موجود .
الجواب : إي ما يخالف ، ولو كان هكذا ، الحين إن شاء الله تعالى نروح في الشارع وأرنا ، بالنسبة للطيب بالنسبة للحجاج لا شيء عليهم لأنهم جهال ، لكن بالنسبة لهذا الذي يستلم هذا أرى أنها لا تطيب أما المواضع التي لا تستلم فليطيبها ويكون الذي استلمها استلامه غير مشروع أصلاً . إذا كان فيه طيب يتأكد إنه يعلق بيده أما مجرد رائحة فلا بأس .
في مسألة نود أن نبينها : الطواف والسعي لابد فيهما من نية ، أليس كذلك ؟ ولا أحد يطوف أو يسعى إلا بنية ، كما قال بعض العلماء : لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف ما لا يُطاف ، لكن تعيين الطواف والسعي هل يشترط أن ينوي أنه يطوف للعمرة أو أنه يطوف للحج أو يسعى للعمرة أو يسعى للحج ؟ المشهور من كلام العلماء أنه لابد من التعيين وأنه إذا نسى وطاف وسعى ولم يختر بباله أنها للعمرة أو للحج وجب عليه إعادة الطواف والسعي ؛ لأن لابد أن يُعين ، وقال كثير من العلماء أو أكثر العلماء أنه لا يُشترط التعيين ، وقالوا إن الطواف والسعي بالنسبة للنسك عموماً كالركوع والسجود في الصلاة فكما أن الإنسان في الركوع والسجود لا يجدد النية خاصة فكذلك هذا جزء من النسك . وهذا الحقيقة في سعة للناس ـ القول الثاني ـ لأن كثيراً ما ينسى الإنسان يجيء نعم دخل بنية الطواف لكن غفل عن كونه للحج أو للعمرة . فعلى هذا القول إذا نسي الإنسان أن يعين فإن طوافه صحيح وسعيه صحيح .
في حديث ( أنه يأتي عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب ) فيه دليل على أن المشركين يحبون ضعف المسلمين وعدم قوتهم ، وهذا أمر لا يحتاج إلى إقامة دليل ، كما أنهم يودون من المسلمين أن يكفروا { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً } ، { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم } .
وسبق لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطوف على بعيره في حجة الوداع أي الأطوفة ؟ القدوم ما طاف على بعيره ، الظاهر أنه في طواف الإفاضة ؛ لأن طواف الوداع صلى بهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاة الفجر بعد الطواف ، وظاهره أن الراحلة ليست معه .(4/441)
57 ـ بَاب مَنْ لمْ يَسْتَلمْ إِلا الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَال وَمَنْ يَتَّقِي شَيْئًا مِنَ البَيْتِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلمُ الأَرْكَانَ فَقَال لهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهما إِنَّهُ لا يُسْتَلمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ فَقَال ليْسَ شَيْءٌ مِنَ البَيْتِ مَهْجُورًا وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِي الله عَنْهما يَسْتَلمُهُنَّ كُلهُنَّ.
1505 حَدَّثَنَا أَبُو الوَليدِ حَدَّثَنَا ليْثٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالمِ بْنِ عَبْدِاللهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِي الله عَنْهما قَال لمْ أَرَ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَسْتَلمُ مِنَ البَيْتِ إِلا الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ(1)
58 ـ بَاب تَقْبِيل الحَجَرِ
__________
(1) الحديث لم يتم سياقه عند البخاري وذلك لأن ابن عباس لما قال له معاوية رضي الله عنه ( ليس شيء من البيت مهجوراً ) قال له عبد الله بن عباس : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، وما رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يستلم إلا الركنين اليمانين ) فرجع معاوية إلى قول ابن عباس .
وسبق لنا أن الحكمة في أنهما لا يستلمان أنهما ليسا على قواعد إبراهيم ، و الظاهر منه أن تقويس الحجر كان أخيراً ؛ لأنه لو بقي زاويتين لاستلمهما الناس ، فإذا كان هكذا مقوساً فلا شيء يُستلم ويكون هذا من باب الاحتراز عن ما لا ينبغي أن يُفعل ، وإن كان سيطول المطاف على الطائفين لكن لمصلحة ، انتبه لهذا الظاهر أنه والله أعلم أنهم اختاروا أن يكون مقوساً لئلا يكون له أركان فتُستلم .(4/442)
1506 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلمَ عَنْ أَبِيهِ قَال رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِي الله عَنْه قَبَّل الحَجَرَ وَقَال لوْلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَبَّلكَ مَا قَبَّلتُكَ .
1507 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ قَال سَأَل رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهما عَنِ اسْتِلامِ الحَجَرِ فَقَال رَأَيْتُ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَسْتَلمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَال قُلتُ أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ أَرَأَيْتَ إِنْ غُلبْتُ قَال اجْعَل أَرَأَيْتَ بِاليَمَنِ رَأَيْتُ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَسْتَلمُهُ وَيُقَبِّلُهُ(1)
__________
(1) أهل اليمن عندهم يعني إيرادات ، وهذا نص صريح في أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يستلم الحجر ويقبله ، والاستلام هو المسح باليمن اليمنى ، والتقبيل معروف وضع الشفتين على الحجر . وقول القائل : ( أرأيت ) كأن ابن عمر رضي الله عنه لشدة محبته للتمسك بالسنة وبخه هذا التوبيخ وقال له : ( أرأيت اجعلها في اليمن ) وأنت الآن في مكة ما في أرأيت ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل هذا فإن تيسر لك فافعل وإن لم يتيسر فلا حرج .
سؤال : يا شيخ بارك الله فيكم ، التقبيل لو تيسر في كل شوط ؟
الجواب : نعم إذا تيسر مع الاستلام .
سؤال : يا شيخ حفظك الله ، هل يُشرع للنساء التقبيل خصوصاً في الزحام ؟
الجواب : المرأة لا ينبغي لها أن تقرب من الحجر في أوقاتنا هذه ؛ لأنه لا يمكن تصل للحجر إلا بزحام شديد .
سؤال : عفا الله عنك يا شيخ ، إذا حافظنا على الحدود لمكة والمشاعر ، مثل حدود الكعبة وحدود عرفة وحدود منى وحدود مزدلفة ، كيف يكون عندنا شك في الحدود التي وضعها إبراهيم وأقرها محمد صلى الله عليه وسلم وتعدت ........ محل الأميال ..........؟
الجواب : من قال هذا ، أبداً نثق يعني بيتك إذا صار واسعاً ويعضه داخل الأميال وبعضه خارج الأميال صار هذا بعضه حرم وبعضه حل . نعم قلنا مكة لكن ما قلنا إنها حرم ، مكة لو تصل إلى الطائف هي مكة ، والحرم كما ذكرت محدد من زمن إبراهيم إلى زمننا هذا والحمد لله . الآن الذي بالتنعيم خارج الحرم ما هم حل مع أن البناء متصل .
ش7 ـ وجه ب :(4/443)
59 ـ بَاب مَنْ أَشَارَ إِلى الرُّكْنِ إِذَا أَتَى عَليْهِ
1508 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُالوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهما قَال طَافَ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ بِالبَيْتِ عَلى بَعِيرٍ كُلمَا أَتَى عَلى الرُّكْنِ أَشَارَ إِليْهِ(1)
60 ـ بَاب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ
1509 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالدُ بْنُ عَبْدِاللهِ حَدَّثَنَا خَالدٌ الحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهما قَال طَافَ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ بِالبَيْتِ عَلى بَعِيرٍ كُلمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِليْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ خَالدٍ الحَذَّاءِ(2)
__________
(1) قوله : ( كلما أتى على الركن ) يدل على أن الركن اليماني لا يشار إليه ، فالركن اليماني ليس في التقبيل وليس فيه الإشارة عند العجز عن الاستلام ، ما فيه إلا استلام إن تيسر وبدون تكبير ، وإن لم يتيسر يمشي الإنسان على عادته .
(2) شوف الترجمة .
تعليق من فتح الباري :
قوله : ( باب التكبير عند الركن ) أورد فيه حديث بن عباس المذكور وزاد ( أشار إليه بشيء كان عنده وكبر ) والمراد بالشيء المحجن الذي تقدم في الرواية الماضية قبل بابين وفيه استحباب التكبير عند الركن الأسود في كل طوفة . قوله : ( تابعه إبراهيم بن طهمان عن خالد ) يعني في التكبير وأشار بذلك إلى أن رواية عبد الوهاب عن خالد المذكورة في الباب الذي قبله الخالية عن التكبير لا تقدح في زيادة خالد بن عبد الله لمتابعة إبراهيم ، وقد وصل طريق إبراهيم في كتاب الطلاق ، وسيأتي الكلام في طواف المريض راكبا في بابه إن شاء الله تعالى .
سؤال : بالنسبة للإشارة إلى الحجر الأسود هل يلزم الوقوف ؟
الجواب : ما يلزم ، لكن ورد حديث عن عمر لكن فيه ضعف أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له إن وجدت فرجة فاستلمه وإلا فلا تزاحم . استقبله وكّبِّر .
سؤال : يا شيخ ، بالنسبة للمشير قد يغير اتجاهه ؟
الجواب : إي لابد من استقبال الحجر سواء وقفت أو وأنت ماشي .
سؤال : في بعض الأحيان عندما يرى الإنسان في الطواف البدع التي تحصل يكون في قلبه احتقار لهؤلاء وقد تشمئز نفسه وقد يأتي إليه العجب ، فهل الاحتقار يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم )) ؟
الجواب : أولاً يجب عليك أن تعلم أن المخالفين للشريعة لك فيهم نظران : النظر الأول نظر شرعي فتلومهم وتُنكر عليهم ، والثاني نظر قدري فترحمهم وترق عليهم وتحمد الله أنه عافاك مما ابتلاهم به ؛ لأن هذا حقيقة رجل مثلاً كهل قوي يأتي ببدع عظيمة ترق له ، مسكين هذا اُبتلي بهذه البلوى ، ولهذا لنا نظران في كل معصية بدعة قلبية أو فعلية أو قولية لنا نظران : النظر الأول شرعي نُنكر ، والنظر الثاني قدري نرحم ، ولكن القدري لا يزاحم الشرعي ، الشرعي مُقدم ، ولهذا لما قال الإمام الشافعي رحمه الله : حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال ويُطاف بهم في العشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام. هذا كلام الشافعي في أهل الكلام ، قال شيخ الإسلام : وهم مستحقون لما قاله الشافعي ـ يعني هذا التعذير ـ ولكنك إذا نظرت إليهم بعين القدر رحمتهم ورققت لهم . وهذا هو العدل أما أن تتخذهم سخرية بشيء اُبتلوا به بالجهل أو التقصير فهذا لا ينبغي ، وربما يصيبك ما جاء في الأثر : من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله .
سؤال : ذكرنا البارحة في كون النبي صلى الله عليه وسلم يطوف على الدابة وحمانا هذا على التعليم أن النبي صلى الله عليه وسلم يُعلم الناس ، والعلماء لهم قول في هذه المسألة ، ما هو ضابط المنع يا شيخ ؟
الجواب : المانع أنك إذا صرت على بعير لم تتطف في الواقع ولزمك حرج .
السائل : الدابة تطوف .
الجواب: الدابة هي التي تتحرك، له احتمالات سنأتيها في فتح الباري.(4/444)