كراهية الأوروبيين للإسلام
مؤامرة في ألفها الثاني
يوسف بعدراني
جميع حقوق الطبع والترجمة والنشر
محفوظة للمؤلف
يوسف بعدراني
1421هـ - 2000
…
الفهرس
المقدمة …… 4 -14
فرض كراهية الإسلام على الأوروبيين …… 15-65
خوف الغرب وإرهاب المسلمين
وقود الكراهية … 66-81
حالة كراهية الإسلام …… 82 -107
وداعية… 108……
مقدمة في الكراهية
يربط كثير من الناس بين الصدق والتكنولوجيا كأن التكنولوجيا سد بوجه الكذب، أو أنها تساعد في إثبات الصدق. كما يربط كثير من الناس بين السعادة وتغير رقم في التقويم الزمني، كأن السعادة تتعلق بدورة أرضٍ أو قمر. لم يكن عند الرومان مثل تكنولوجيا اليوم، لكنهم نجحوا جداً في كذبهم أو في فرض كذبهم قروناً كثيرة. مسيحيو كنيسة الرومان لم يؤمنوا بدورة أرضٍ أو قمر، عاشوا أجيالاً في شقاء لم تعرف البشرية له مثيلاً. ذاك لأن الصدق يتعلق بقيم، فإن انعدمت هذه القيم انعدم طبيعياً وجود الصدق، وإن وجد صدق مع انعدام القيم، فهو ليؤيد كذباً، ولهذا يكون في موضعه كذباً لا صدقاً. كذا السعادة لا تتعلق برقم أو قاعدة علمية أو سلوكية، لأن السعادة حالة حياتية دائمة تنتج عن قناعة عقلية بوجهة نظر محددة في الحياة.(1/1)
أكاذيبُ عصر التكنولوجيا لا تُعد و لا تُحصر بينما أكاذيب عصر الرومان محدودة محصورة، لهذا يتوقُ كثير من وثنيي اليوم لو يعود عصر الرومان ويزول عصر تكنولوجيا أمريكا. عقول هؤلاء لم تعد تستطيع استيعاب حجم أكاذيب التكنولوجيا، وتنوءُ أعناقهم حدَّ الالتواء بسبب كثرة هذه الأكاذيب. يتمنون عودة عصر الرومان لأنه، في اعتقادهم بسبب جهالتهم حجم الكذب الروماني، أن كذب الرومان كان أقل من كذب دول الناتو! هؤلاء يخلطون بين كثرة الأكاذيب وحجم الأكذوبة، معظمهم ينوءُ من ثِقل الأكاذيب دون البحث في حجمها. القاعدة العلمية تجزم أن لا علاقة للعدد بالثقل إلا في ذات النوع. التفاحة أخف من تفاحات ثلاث، لكن موزة أثقل من ألف حبة قمح. المتعبون من كذب اليوم، في إنهاكهم، لا يستطيعون التمييز بين ثقلٍ وأثقال. الثقل هو الوزن الضاغط أو القوة الضاغطة، هو الذي يقرر القوة المناوئة اللازمة لاحتماله. الأثقال في نوعها أو عددها لا تؤثر في الاحتمال إلا من خلال ثقلها.
عدم التمييز في علاقة الاحتمال بالثقل والأثقال هو الذي يوجد الخلط بين علاقة الشقاء و الألم بالكذب و الأكاذيب. بؤس الإنسان وشقاؤه يتعلقان ببعد الكذب، الذي هو حجمه وأثره ومداه. لا يتعلقان بكثرته في القول و الحدث. كثرة الكذب تحدث الضياع وليس الشقاء. شقاء الكذب غير ضياع الكذب. شقاء الكذب هو شقاء الإنسان الذي يحس أو يعلم يقينا أنهم يكذبون عليه. ضياعُ الكذب هو عجز الإنسان عن معرفة الحقيقة التي يحس أو يعلم يقينا أنه لا يمسك بها، لأنهم يمنعونه بكثرة الأكاذيب من تبيانها. الشقاء هو ألم العيش والضياع هو جهل قصد العيش. في الشقاء ألم وأمل بينما في الضياع ألم وقنوط. الفارق بين مزيج الألم والأمل ومزيج الألم والقنوط هو الفارق بين الحي والميت!(1/2)
مزيجُ الألم والأمل يحتم البحث عن قرار، الألم والقنوط يمنع البحث عن قرارٍ هو إرادة عمل. قرار الألم انتقام. قرار الأمل سعادة. مزيج الألم والأمل يحدد نوع القرار أنه قرار الحياة، يحدد نوع الحياة أنها حياة في سعادة. هكذا، يمنع الأمل نتيجة الألم الذي هو الانتقام، ولا يمنع الألم نتيجة الضياع الذي هو الإحباط. إنسان الألم والأمل يطفو، لا يغرق. إنسان الضياع يغرق، لا يطفو.
في عصر الناتو، عصر التكنولوجيا، أو عصر استفراد سيدة دول الناتو بقبيلة الصرب يعاني وثنيو أوروبا من كثرة الكذب. معاناتهم تمثلت في عدم مبالاتهم بقصف بلاد قبيلة الصرب. عدم مبالاتهم لم تنبع من كراهيتهم لهذه القبيلة بسبب جرائم رجالاتها ووحشيتهم في قتل المسلمين في البوسنة وكوسوفا. وليست بسبب غدرهم ونحرهم للعجائز والنساء والأطفال المسلمين. فليس عند وثنيي أوروبا أي شفقة أو احترام لأي حق من حقوق المسلمين بالعيش في كوسوفا أو البوسنة أو العراق أو كشمير. ولا في أي مكان، ولا حتى أن يستقلوا في استغلال خيرات بلادهم. عدم اكتراث الجرمان والفرنجة والأسبان والرومان، أهل إيطاليا اليوم، وغيرهم من الأعراق القبائل الأوروبية، ليس كراهية للصرب. بل ينبع من حيرة في فهم حقيقة الوضع لا نشرة الأخبار المصورة عن الوضع.(1/3)
كثرة الكذب تشمل بطبيعتها تنوع الأكاذيب. الكذب في جنسه يتنوع، فلا بد في كثرته أن تكون طبيعتها من جنسه متنوعة. تنوع الأكاذيب وكثرتها غير التفاخر بالكذب. تغاير التفاخر عن موضوع كثرة الكذب وجنسه هو مفارقة في قصد الكذب. فالكذب في كثرته قصدُ التضليل، والكذب في نوعه قصد إخفاء الحقيقة الذي هو غير التضليل عن الحقيقة. تفاخر الكذب قصده إحداث الصدع في العقل. الصدع في العقل يمنع التفكير في الكذب. التضليل يجر المفكر في بحثٍ عن الحقيقة بغير معطياتها، لذلك المضلِّل يستنفذ طاقة المضلَّل في غير جدوى. إخفاء الحقيقة لا يلغي دلائلها لكنه يحصر معرفتها بخبراء دلائلها، الذين يبقون قلة قليلة جداً في خضم لا تؤثر فيه. كشجرةٍ في جرداءٍ لا يشبع’ ثمرها أهلها. المتفاخر بالكذب يصدع العقل لأن التفكير بسبب التفاخر، أي بمعناه، يؤدي إلى ألم العقل. شرط التفاخر بالكذب أن يُعرف أنه كذب و إلا يكون تفاخراً بمجهول، أو بصدق، أو بجدية. تحديد صفة التفاخر تقتضي معرفته بوضوح للعامة ولس للخاصة. كمن يتفاخر بصفة من صفاته عليه إبراز هذه الصفة. المتفاخر بالكذب لا يدَّعي أنه كذاب ولا يُتَّهم أنه كذاب، لأن تفاخره ليس قولاً بكذب بل قولاً لا يرتبط بواقع، كذبه يكون بمجابهة الواقع لقوله لا بمخالفة الواقع لقوله ولا للكذب فيه الذي لا يحتاج إلى بحثٍ كما في كذب إخفاء الحقيقة.(1/4)
التفاخر بالكذب في الحرب المسرحية لإنقاذ مسلمي كوسوفا بتهجيرهم هرباً من وقوع قنابل طائرات الأطلسي على رؤوسهم بدل منازلهم، قامت به ألمانيا. أعلنت دولة قبيلة الجرمان أعظم قبائل أوروبا شأنا في الزِّرع(1) والضرع(2) أنها تعارض التدخل البري. الحقيقة الواضحة في اتفاق قطبي الصراع في موضوع يوغوسلافيا إنكليز بريطانيا ورعاة أمريكا عدم الدخول في حرب برية. حرب صربيا أو حرب كوسوفا قامت باتفاق محدد في عمقه وسقفه وبعده بين دولتين فقط من دول الاعتداء على بلاد المسلمين كوسوفا، وتهجير أهلها وقتل نسائها وأطفالها. بريطانيا وأمريكا وحدهما المعنيتان في الصراع على صربيا وليس ضد صربيا كما يوهِمون. حاجة ألمانيا لإعلان عدم قبولها غير وارد، لأنه ليس موضوعا يؤثر فيه رأي ألمانيا. يعني أنها تسجل موقفا من غير وجود منبر للموقف، هذا تفاخر بكذب.
نستوقفُ القارئ في أمثلة التفاخر بالكذب، وفي الحديث عن مسرحية حرب صربيا، والكذب في كل ما قيل عن أسبابها وأهدافها وحتى عن إنسانيتها. لأن الحديث عن إنسانية هذه الحرب، أو مبرراتها الإنسانية، حديث ليس في سبب التطرق إلى موضوع الكذب ابتداءً، ولا في حديثٍ يجب أن يرقى إلى أهداف الكاذبين الكبار لا إلى أسباب الكذب أو غاياته. فالحديث عن كذبهم في إنسانيتهم لا يكشف حقيقة المؤامرة. غاية العمل تفضحُ المؤامرةَ لا تحدد نهايتها ، ولا نجاحها، لكنها تحدد مسارها.
في عالم اليوم، عالم سيطرة الفكر الأوروبي المتجمع من منبوذات الفكر الإنساني في مراحله ، يكثر الكذب ويتأصل حتى يستحيل اكتشافه. كذب الأوروبيين اليوم كثيرُ الضرر جليلُ الخطر في الشعوب الحية والميتة. كشفُ هذا الكذب لا يجدي إذا لم تقم دولة في فكرها العقدي كشفه، وفي فكرها السياسي هدمه. في عالم اليوم نتأثر بأكاذيب الأوروبيين الحاضرة فينا وهي وإن كانت كثيرة إلا أنها قسمان:
__________
(1) نسبة إلى قوة البأس
(2) نسبة إلى وفرة غناهم.(1/5)
القسم الأول: هو الأهم والأخطر ومحصور في جنس الأوروبيين أنفسهم. هو الكذب الذي يفرض حكام الأوروبيين على رعاياهم تصديقه. في الماضي السحيق كانت طريقة فرضه طريقة ثيودوس إمبراطور روما. فرَضَ قتل كل من لا يستبدل مسيحية الإمبراطور دينا بديل وثنيته، في عام 438م كان أكثر من نصف سكان الإمبراطورية لا يجدون حاجة لاستبدال وثنيتهم بمسيحية الدولة. أرنست رينان من زاويته فيلسوفاً مبرراً تمسك الأوروبيين بوثنياتهم بعد
المسيحية وحتى بعد اعتناقها. تبريره رغم سطحيته، لأن السبب الحقيقي أعمق مما اكتشف، فيه مغزى. تبريره يقول إن الأوروبيين لم يجدوا فرقاً يستحق ترك وأخذ، أو تبديل وثنية بمسيحية. مغزى تبريره فيه استهزاء إن لم يكن احتقار لكل التراث الأوروبي خلال فترة عهد المسيحية في أوروبا. أن كل أقوال وأعمال وأفكار هذه المئات من السنين فُرِضَت على الأوروبي في صدقها وموضوعها وهدفها. لا بالضرورة، ولا بالمبرر كما في الواقع صادقة في جزيئاتها أو كلياتها.
القسم الثاني: كذب الأوروبيين على غيرهم وبالتحديد على المسلمين منذ ابتداء وجود المسلمين في كيان الدولة كياناً دولياً يدعو الأوروبيين، كما يدعو كافة البشر، لاعتناق الإسلام ديناً، أو العيش في نظام حكم الإسلام، وحتى اليوم.(1/6)
هذا الكتاب ليس في موضوع كذب حكام أوروبا على الأوروبيين. وليس في موضوع كذب حكام أوروبا على المسلمين. إنه في موضوع كذب حكام أوروبا على الأوروبيين وعلى المسلمين في خدعة واحدة. خدعة لا يستطيع التفكير بها شيطان إنسي. خدعةٌ يعجز عنها شيطان جهنمي. خدعة تفوق قدرات الأبالسة مجتمعين. خدعة في أبعادها وأعمالها يحتكر الحاكم الوثني الذي تحوَّل إلى مسيحي بصيرةَ صياغتها وفرضها. خدعةٌ عامة في الأوروبيين مسيحيين في حكم الكنيسة أو كارهين للكنيسة والمسيحية بعد عزلها من مقاعد الحكم. خدعة عامة في المسلمين وهم مؤمنين في دولة الخلافة أو تاركين إسلامهم بعد هدم دولتهم، دولة الإسلام. خدعة عامة في الجنسين كانت الأولى في تاريخ علاقة الأوروبيين المسيحيين بالمسلمين أهل التوحيد.(1/7)
خدعةُ حكام أوروبا الكبرى في شعوبهم المسيحية والمسلمين هي سَوقُ الأوروبيين في مسيرة كراهية الإسلام والمسلمين. بدأت مسيحية في مظهرها بسبب تسخير جميع رهبان الكنيسة في مختلف رتبهم الكهنوتية، من أقواها في فرض غفران الرب إلى أضعفها في منح غفران الذنب. نقول تسخيرها لأنها لم تكن منها مباشرة في ابتكار الخدعة حتى لو كانت مباشرة منها في التنفيذ. لأن هذه الخدعة من جنس الخدع التي لا تتأتى إلا من فكرِ حكم. من رؤيةٍ في الحكم، أو من هدفٍ في خطةِ حكم. لا تأتي خدعة كهذه من فكر كهنوتي، ولا من فكر مخابراتي، ولا من فكر تنظيمي أو إداري، ولا من سياسة دفاعية أو هجومية. إن فكر الحكم جنس من الأفكار ينفصل في تكوينه إيجاداً عن جميع أجناس الأفكار الأخرى. فجميع مُتعلَّقاتِه خاصة به، وما ينتج عنه لا ينتج عن غيره. لأنه وحده الفكر الذي يتعلق بسبب وجود الحكم وارتباطه بسبب الحياة ومصير الحاكم أو النظام. و إذا نتجت هذه الخدعة عن حاكم وهو من رتبة كهنوتية مسيحية فهي تنتج عن فكر الحكم الذي عنده وليس من الفكر الكهنوتي الذي سخره لوصوله إلى الحكم. فالفكر الكهنوتي-إذا صح تسميته فكراً - لا يمكن أن ينتج عنه هكذا فكر أو عمل. بدأت مسيحية في مظهرها وتستمر مع الثورة على المسيحية، وتقوى في حكم الديمقراطية وحكام أوروبا الديمقراطيين. وهو الدليل العملي الدامغ أن مؤامرة فرض كراهية الإسلام على الأوروبيين لم تكن من كهنوت الكنيسة بل كانت من حكام سخَّروا الكنيسة. الواقع الذي نعيشه، أوروبيين ومسلمين، في دوامة هذه الكراهية من غربيِّ الشرق ، أنها كانت في خدعة الأوروبيين وليس المسيحيين الأوروبيين . الأوروبي اليوم، مسيحياً أو تاركاً للمسيحية متنكراً لها، يكره الإسلام بالمستوى نفسه. كراهية الأوروبي للإسلام لا تنبع من فكر وثني، أو فكر مسيحي، أو فكر ديمقراطي ثقافي تعليمي. هكذا كراهية تنبع عبر عصور، تتوارثها أجيالُ قبائل وشعوب وأمم في(1/8)
قرنٍ تِلو قرن، كراهية تنبع من تراث حضاري يقوم عليه حكم. الدليل القاطع هو الشهادة التي ينطق بها الواقع، لا تختفي آثاره، لا تذوي ثمراته ولا تمحى دلائله.
لقد طال زمن مسيرة الأوروبي(1) يقضي حياته كلها يفتش عن مسلم يقتله بعد أن عجز عن إفناء أمة المسلمين. وطال زمن حياة الأوروبي في تخصيص المسلم بكراهيته وعدائه. بعد أن عجز حكام أوروبا عن إفناء المسلمين تحوَّلوا إلى عزلهم مجموعات يسهل عليهم نهب ثرواتها. حان زمن البحث العقلي في الأوروبي في سبب كراهيته للإسلام والمسلمين. بعد كل هذه القرون من الكراهية والاستعداء الأوروبي للمسلمين لم يتحول المسلمون إلى كارهين للأوروبيين مسيحيين ديمقراطيين أو كارهين للمسيحية. أدوات التكنولوجيا وسيط مهم، فعال ومؤثر في نشر كذب الأوروبيين. الأكاديميون السطحيون وأذناب الفكر الأوروبي في امتداده الشرقي يقولون إن التكنولوجيا الحديثة سلاح ذو حدين. هل يصدق عاقل، أن الأوروبيين يمكن أن يمكنوا المسلمين من سلاح ذي حدين يستطيع في حده الأيمن أن يقهر الأوروبي في روحه أو عقله في حضارته، أو وجوده في غناه و خداعه؟ هل يمكن لهذه التكنولوجيا أن تنير ظلاما أو أن تهدي إلى حقيقة ؟ الكل يعلم أنها وسائط للأقوى لا للحق أو الباطل. حكمُ أوروبا اليوم حكمُ امتدادٍ لحكم أوروبا الماضي، يبدِّل قِناعه حيث يحتاج أو يلزم. مسيحيا ديمقراطيا، إرهابيا غادرا، متسامحا، رحيما، بكل ما يحتاجه ذلك من نفاقٍ و خداع، حسب قاعدة ديمقراطية اليوم "الغاية تبرر الواسطة" التي كان يعمل بها الرومان قبل المسيحية، كما و هم مسيحيون. فالمسيحية جعلت هذه القاعدة قاعدة مقدسة مستوحاة من الروح القدس باعتماد قول بولس : "فصرت لليهودي كيهودي… وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس….وللذين بلا
__________
(1) حيثما وردت هذه الكلمة فإنها تشمل شعوب أوروبا وفلولهم المنبوذة التي نفوها إلى المستعمرات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية عبر المحيط.(1/9)
ناموس كأنني بلا ناموس." (1كورنثوس:9: 20-22)
لماذا يكره الأوروبي؟ أوروبي الديمقراطية أو المسيحية ، أوروبي اليمين أو اليسار ، أوروبي أوروبا أو أمريكا، أوروبي الغرب والشرق، أوروبي أوروبا أو مستعمراتها، شيبها وشبابها، رجالا ونساء لماذا يكرهون الإسلام والمسلمين؟ كيف بدأت هذه الكراهية ؟ لماذا وُجدت هذه الكراهية ؟ هل وُجدت أم أوجدوها ؟ لماذا أوجدوها ؟ أجوبتها تخفى على الأوروبي كما على المسلم. أجوبتها سبب هذا الكتاب.(1/10)
كشفُ سر مؤامرة الحكومات الأوروبية على الأوروبيين في إيهامهم بمبررات كراهية الإسلام والمسلمين ليس غاية هذا الكتاب كما يبدو من إعلان سببه. هذا الكشف لن يغير قناعة الحكومات الديمقراطية بوجوب استمرار ثقافة كراهية الإسلام والمسلمين، وتبنيها وتكريسها قاعدة عامة في الحكم و تثبيتها تراثا حضاريا دائما في ثقافة الفرنسي والألماني والداني. غاية هذا الكتاب ليس إنقاذ الروماني والإسباني والنورديين من بؤس الحياة في كراهية، فحتى يحصل هذا يلزم أن تكون إمكانيات الناشر أكبر من إمكانيات جميع الحكومات الأوروبية بمؤسسات الكراهية فيها من مجلس نواب وشيوخ، من صحف ومجلات، جامعات ومعاهد أبحاث، أجهزة إعلام، أحزاب ومنظمات، مفكرين وأساتذة، سياسيين وقضاة، فلاسفة وإعلاميين جميعهم في طاعة الحكومة في غرس وتعميم ثقافة كراهية الإسلام والمسلمين. لكن إمكانيات الناشر ليست أكبر من إمكانيات الحكومة الأوروبية المتعددة الجنسيات والجيوش، ليست بمستواها حتى وليست أضعف منها. غايةُ هذا الكتاب ليس مزاحمة الحكم في أوروبا في السيطرة على عقل الأوروبي. وليست من أجل كشف خطة الأحزاب السياسية في وهمِ الحاجةِ إلى كراهية الإسلام والمسلمين. ليست غاية الكتاب استقطاب ملايين الأوروبيين في معرفة مدى خداع حكامهم لهم في الماضي والحاضر. هذه الغايات وغيرها نتمنى تحقيقها لكنها تحتاج إلى إدارة أكبر من مجموع إمكانيات مؤسسات الحكم في أوروبا، وهو أمر يستحيل وجوده أو إيجاده. لذلك لا نطمح أن يكون هذا الكتاب سبب زوال كراهية الأوروبيين للمسلمين. ولا سبب إزالة حب الأوروبيين لقتل المسلمين. ولا سبب تغيير قناعة الأوروبيين بوجوب نهب ثروات المسلمين. ليس هذا سبب الكتاب لأنه عمل دولة تقوم على الإسلام وليس عمل كاتبٍ أو باحثٍ أو مفكرٍ مسلماً عربياً أو مسلماً أوروبياً. وهو، في غياب هكذا دولة، مسؤولية المفكرين الفلاسفة ورجالات المجتمع الأوروبي أولا. إذ، زوال(1/11)
هذه الكراهية لا يؤثِّر في حالة مسلمي اليوم،كما لم يؤثر وجودها في حالة مسلمي الماضي. زوال هذه الكراهية هو لإنقاذِ إنسان أوروبا من نفسه.
الكراهية أبشع أمراض النفس بخبثها في التأثير على السلوك. خضوعُ إنسان أوروبا و خنوعه في الانقياد لأهوائه في إشباع رغبات ميوله وغرائزه هو استمرارٌ للعيش الوثني الذي كان يعيشه في حكم الرومان. واستمرارٌ للعيش المسيحي في حكم الرومان وورثتهم الكنيسة والنبلاء عندما فرضوا عليه تقديس الكراهية للإسلام والمسلمين. وكما هو يحيا في تضليل ساسته الذين ينفِّذون مخططات في اصطناع مبررات جرمية وفكرية لإيقاد الشعلة الشيطانية في النفس الأوروبية، ذكورا وإناثا، دائما وأبدا.
غايةُ الكتاب غير غاية الكاتب. أصلُ البحث يجب أن يكون في غاية الكتاب لا في غاية الكاتب. إذِ للكتاب غايات لا متناهية. لا تنتهي في الزمن ولا تنتهي في جنس، لا تنتهي في لغةٍ ولا تنتهي في جغرافيا. فطالما هناك من يقتل ويشرد مسلمي كوسوفا بحجة الدفاع عن المسلمين والمقهورين، ويقصف صخور الصرب وأحراجها بحجة ظلمهم للمسلمين. يقصفُ المسلمين في العراق بحجة إنقاذ المسلمين في الكويت، يقتل المسلمين في العراق بحصار التجويع والأمراض بحجة الأمن القومي الأوروبي، يقتل المسلمين في فلسطين بحجة السلام، سيكون لهذا الكتاب غاية يحققها.(1/12)
غايةُ الكاتب غير غاية الكتاب، لأن غاية الكاتب فردية، محصورةٌ في بيع نسخة من الكتاب لواحدٍ أو أكثر. فالكِتاب، كما في العصور الغابرة، يحتاج قلماً ودواةَ حِبْر، يحتاجُ إلى قرطاسٍ وضوءِ شمعة، قنديلٍ أو ضوءُ مِصباح. وأهم من هذا يحتاج إلى كهفٍ قريبٍ فيه داجنٍ وحلوب، لكن ليس في إيطاليا أو السويد! الكاتب يرفض مقولة الرأسمالية "إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب"، في إيطاليا و السويد يمنعون صيد الذئاب حتى التي يخاف منها جنس الكاتب. في زمنٍ غاب منه وعنه ضوءُ شمعةِ الحقيقةِ ماذا تكون فيه غاية إنسانِ هذا الزمن؟ ندريه أو نجهله؟ نقوله أو نسكت عنه؟ جوابه ليس غاية هذا الكتاب.
في قراءةِ هذا الكتاب بتمعنٍ و بصيرةٍ سيكتشف القارئ أنه إلى جانب غايةِ المؤلِّف في جمع مالٍ يكفيه أجرة الهاتف والغاز والسيارة والكهرباء والماء. و بدل الضرائب في قعوده ومشيه، و تكاليف ترحاله بين المعمَّرات، وأثمان لباسه و طعامه. ونفقات المحافظة على فَراشَةِ الأوركيد عبر القارات، و مصاريف صيانةِ أقنيةِ الحياةِ في جسده، هناك غايات مباشرة تطفو في دفق الكلام. وهناك غايات غير مباشرة تختزنها أسطر هادئة في فهم المعاني. مع غاياتٍ ثابتة بمعان منفصلة بفقرات مستقلة، وغايات متنقلةٍ في صعودِ الفكر ووتيرةِ الخطاب.
غايةُ الكتاب أو غايةُ الكاتب لا يجوز أن تكون موضوع مقدمة كتاب:
كراهية الأوروبيين للإسلام: مؤامرة في ألفها الثاني.(1/13)
موضوعُ المقدمة هو كما يجب أن يكون في طبيعته، إيقاظ طبيعة الفهم في الأوروبي. طبيعةُ الفهم هو طريقةُ الفهم السليم التي تتواجد في طبيعة الإنسان، مع ولادته قبل إفسادها بالمعلومات الكاذبة، المضلِّلة أو المجتزأة. الرومان، أباطرةُ وثنية أوروبا الوحيدين في التاريخ كبتوا طبيعةَ الفهم في الأوروبي طوال حكمهم كآلهةٍ فوق أوروبا. الرومان، أباطرةُ مسيحيةِ الرومان الوحيدين في التاريخ، بكنيستهم ورهبانهم، وجنودِ صليبهم، فتكوا بطبيعة الفهم وطريقة الفهم السليم في الأوروبي طوال تقديسِ الأوروبي لطاعة الحاكم المسيحي ورجال الحكم الديمقراطي في أوروبا، عباقرةُ الخداع والتضليل، منذ أن حكموا يفسدون هذه الطبيعة! إيقاظ طبيعة الفهم في الأوروبي، موضوع هذه المقدمة أو موضوع هذا الكتاب لا يكون بالتعادل مع قوى التضليل والكذب في إمكانياتها وجيوشها ومعاهدها وتكنولوجيتها. إيقاظ طبيعة الفهم في الأوروبي تتعلق بإيقاظ الشعور بل الإحساس الطبيعي في الأوروبي أنه إنسان في ولادته وفي موته وأنه من الطبيعي جدا أن يكون إنساناً في حياته، لا كارهاً. الإنسان الكاره في دوامِ وجودٍ ينبذُ بمعنى يطردُ طبيعةَ الإنسان من عقله ونفسه. يتحول معدنه بالكراهية إلى معدنِ الشياطين، لأن الكراهيةَ شعلة شيطانية.(1/14)
شعلةُ الشيطان شعلةٌ من نار استوقدها الشيطان لنفسه من نار جهنم. الأوروبي الوثني كان يعرف شعلةَ الشيطان الجهنمية ويخشاها. الأوروبي المسيحي استمر في الخوف من الشعلة الشيطانية. الأوروبي الديمقراطي إن فقد الإحساس بها يتذكرها، عندها تراه يتفاخرُ بها حتى لا يخشاها. وإن لم يفقد الإحساس بها تراهُ يتوهَّم محاربتها. في طبيعة الأوروبي، في كل مراحل وجوده، وثنيا، مسيحيا، ديمقراطيا، أنه يحتاط من الشعلة الشيطانية. شعلة جهنم، أن يمتلئ قلبُ الإنسان كراهية، يخالف طبيعة الإنسان ومنه الأوروبي. بخلاف بقية أجناس البشر، أسيادهُ رهبانا ونبلاء، فرضوا أن يحيا بها قرونا، لكنها لم تحرق قابلية إحياءِ طبيعة الفهم أو الفهم السليم في الأوروبي. قتلُ فردٍ كما تم قتل يوليوس قيصر وكما تم قتل عمر بن الخطاب ممكن، أما قتل طبيعةٍ من طبائع الإنسان فلا يمكن، يمكن التلاعب بها خداعاً لا إلغاؤها .(1/15)
الأوروبي يتحرَّقُ شوْقا إلى إنسانيةٍ يعيشُ بدونها، لأنها لا تعيشُ حوله. يفتشُ عنها في كل ناحية من نواحي حياته، لا يرى لها أثرا. فائدةُ هذا الكتاب أنه يثير إنسانية القارئ في ذاته، ذاتِ الإنسان هي موطن الإنسانية في الوجود. إذا لم توجد في ذاتِ الفرد لا توجد في غيره. الفرد الذي لا يكتشف ذاتيته ويتعرف إلى إنسانيته في ذاته، لا يمكن أن يكتشف إنسانيةً حوله. عند جاره، شقيقه، صديقه، حتى ولا في أبيه أو شقيقته. فإذا أحس قارئنا، بينما يقرأ هذا الكتاب، أنه يقرأه متبصِّرا بحقائق شهادته، وقد انتفى من عقله وجسده جهله بسبب كراهية المسلمين. وإذا، توصل في استنتاجه إلى وجوب استمرار عدائه للمسلمين. أو، إذا تخلى بقناعة تامة عن كل كراهية فيه للمسلمين، واكتشف أنه يجهل حقائق الإسلام، وأن جهله هذا هو نتيجة خطة في تجهيله وليس فعل إرادةٍ منه. عندها، يكون قد تحرك فيه شعورٌ ذاتي بوجوب انطلاقته في الحياة من بدءٍ جديد. عندها، تكون فيه، إنسانية مازال فيها بقية حياة. عندها، يكون هذا الكتاب قد بدأ في تحقيق فائدته. هذه الفائدة لا تعود للكاتب ولا للجار، فائدة الحياة بإنسانيةٍ ذاتيةٍ ثروةُ الحياة للفرد بعينه، وإن عمَّت جيرانه ومدينته وأفراد عائلته.(1/16)
في التراث الفكري الأوروبي الروماني، الوثني منه أو الديمقراطي، تراث الحاضر تراتيلَ فكرية متوارَثة. تناقلت بالمعنى نفسه لكن بِصيغٍ كلاميةٍ ترتبط بغايات حضارية، لذلك نجد بعض الصيغ الكلامية للأفكار تتغير وبعضها يستمر. نحن نسميها تراتيلَ فكرية وليس قواعدَ فكرية لأنها أفكار تنتج من ظُلمةِ العقول لا من معرفتها، تصدر عن جهل لا عن فكر. هي أفكار من غير قاعدة فكرية، هي أفكار وهمية لا حقيقية. توحي بصورة حياتية في ظل الحقيقة لا في مسرحها. ظلُّ الحقيقة هو وهمُ الوجود للشيء، نتخيله لكن لا يمكن لنا أن نعيشه. لأنه فكر لا ينتج عن واقعٍ ولا يوجِد واقعاً ولا يؤثر بواقع. فكرٌ وجوده في لفظه، في معناه، في مناسبته وفي غايته. من هذه التراتيل ترنيمة. " بين الكره والحب خيط رفيع" ترديدةٌ فكرية شعرية فلسفية أوروبية شائعة حتى في الأغنية الأمريكية. إذا كان الفاصل بين الكراهية والحب خيط رفيع وليس سداً حصيناً، كيف يستمر الخيط الرفيع من منع الأوروبي طوال ألف عام من الانتقال من يسار الخيط إلى يمينه؟ كيف يستمر الخيط الرفيع في منع الأوروبي من محبة الإسلام والمسلمين بدل كراهيتهم؟ هو ذا الفكرُ الأوروبي الذي ينتج عن جهلٍ لا عن فكر، وهو ذا الفكرُ الوهم، ظلُّ الفكر الذي ينمو في ظلال الحقيقة. في التراث الفكري الأوروبي الحاضر خليط عجيب من الأكاذيب المباشرة والأفكار الخبيثة المضلِّلة التي استمرت في وجودها مع ألوهية الإمبراطور ومسيحيةِ طاعته وألوهيةِ الفرد في عصر الفلسفة الديمقراطية. خاصة بعد إصرارٍ أمريكي على تسفيه قيم هذا التراث والاستهزاء بأصوله التاريخية وقواعده الفكرية. لا تفتيتاً لهذا التراث، أو لاستبداله. بل لهدم الشخصية الأوروبية المتماسكة بوجه الهيمنة الأمريكية المباشرة، وتضييع الأوروبي في غاية الحاضر الذي يريدونه له منفصلاً عن تراثه وحضارته.(1/17)
الكره والحب مظهر غريزي في طفوِ مشاعره. الطفوُ المشاعري إما أن يصدُر عن قناعة فِكرية أو بإثارة عاطفة. إثارة العاطفة ترتبط بظرف معيّن، لذلك يسهل التخلص منها إما بتغيير الظرف أو العوامل أو بإشباعها بعمل تتلاشى بتحقيقه. لذلك المظاهر الغريزية مؤقتة ظرفية بغضّ النظر عن كونها حبٌّ أو كره. أما المشاعر التي تصدر عن قناعة فكرية فهذه ترتبط بفكر وتستمر باستمرار هذا الفكر، تقوى وتضعف بدرجة وضوح الفكر ومدى الاقتناع به. في ضوء هذه المعرفة لمصادر الكره والحب يجب أن نحاول فهم سبب كره الأوروبي للإسلام، هل هو عاطفي أم فكري؟ وإذا كان لا هذا ولا هذا، فأين يكون السبب وهو ليس في ذاته ولا من ذاته، وأين هو في مصدره، أو ينبوع طاقته الشيطانية المتأججة؟
كراهية الأوروبي للإسلام لو كانت مزاجية، بمعنى عاطفية، لوجب أن يتنقل الأوروبي بين محب وكاره. لا يمكنه العيش طوال أيامه ولياليه بنفس العاطفة في زخمها وحاجتها وإشباعها. لأن ذلك لا يتعلق بقرار أو إرادة أو قدرة، إنه يتعلق بطبيعة، طبيعة الإنسان ومنه طبيعة العاطفة. فهم‘ هذا يتعلق بفهم هذه الطبيعة في الإنسان كما هي لا كما في آثارها. أثبت الأوروبي طوال وجوده خاضعاً لألوهية الحاكم والكاهن، وخاضعاً لألوهية نظام الحكم أو خاضعاً لألوهية ذاته أنه إنسان في طبيعته. في طبيعة إنسانيته كان كارهاً دائماً للإسلام والمسلمين مما ينفي عن هذه الكراهية أنها فورة عاطفةٍ تنطفئ بالإشباع أو تغيُّر الظروف التي أثارتها.(1/18)
في الفهم السليم الباقي أن كراهية الأوروبي للإسلام فكرية، بمعنى ترتبط بقناعة، لو كان الأمر كذلك لكان يجب أن تذوي هذه الكراهية مع أول انتقال للأوروبي من قناعةٍ إلى قناعة. أو لزالت هذه الكراهية مع استبدال الأوروبي لقناعته. هذا في التجاوب الطبيعي مع تأثير القناعات في الإنسان. لكن قبل أو بعد هذه الطبيعة لا بد للقناعة الفكرية التي تحرِّك حباً أو كرهاً، بمعنى تثير عاطفة، أن تكون هذه القناعة واضحة الفكر في علاقتها الحضارية وفي غايتها الزمنية. وإن لم تكن كذلك لا تكون قناعة عقلية تستطيع تحريك عاطفة مثل الكراهية والحب، ولانتفى الوصول إلى هذا المستوى في مبحث كره الأوروبي للإسلام وامتناعه عن حب الإسلام والمسلمين. وهو يفرض العودة بالفهم إلى علاقة الكره و الحب بالحاجة وعوامل الإثارة التي انتهينا منها بانتفائها سبباً لهذه الكراهية الأوروبية الدائمة للإسلام. وبسبب هذا الانتفاء وصلنا إلى المبحث الثاني في سبب وجود الكره وعدم وجود الحب.
كثيرون من الأوروبيين(1)
__________
(1) نذكر أنه حيثما وردت أوروبية أو أوروبيين تعني الشعوب الوثنية أساساً وتحولت مسيحية بقوّة الفرّاعة المسيحية، وديمقراطية التأليه الفردي كما هو في سواد اليوم. ويلحق بها من ينهل من معين تراثها مثل شعوب أمريكا وأستراليا وغيرها.(1/19)
، كما كثيرون من المسلمين، فتشوا في مسيحية تراث الأوروبي، كما في تراث ديمقراطية الأوروبي عن هذه القناعة الفكرية التي تفرض كراهية الأوروبيين للإسلام والمسلمين. أحداً لم يدَّعِ بحق أنه اكتشف هذه القناعة. التفتيش عن هذه القناعة يستمر منذ عشرات العقود، أي منذ قرون قليلة. كثيرون ادّعوا أنهم اكتشفوا هذه القناعة لكن ادعاؤهم ليس بحق. حقُّ الادعاءِ هو برهانه. القولُ بدون برهانٍ هو زعم لا قول. القولُ يرتبط بحقيقة، الزعمُ يرتبط بقدرةٍ على اغتصاب الحقيقة، الزعم قولٌ نرفضه بطبيعتنا كبشر أولاً. نرفضه كبشر مسلمون أولاً أيضاً، كذا يلزم الأوروبي أن يرفض الزعم بطبيعة الإنسان فيه أولاً، حتى وإن كان ليس مسلماً. غير المسلم وإن كان يتجرّد من كثير من طبائع الإنسان إلا أنه يبقى أن عليه أن يتمسك بكثير من طبيعة الإنسان فيه. فكراهية الكذب طبيعة في الإنسان ولو لم يكن مسلماً. وكرامةُ الإنسان في احترام الحجة في القول طبيعة في الإنسان قبل الإسلام، وإلا كيف يمكن أن يتحول إنسان بغير إسلام إلى الإسلام ليصبح إنساناً مسلماً؟(1/20)
شرطُ القناعة الفكرية التي توقِد عاطفةً أن تكون واضحة الفكر في علاقتها الحضارية وفي غايتها الزمنية، إذا انعدم وجود هذه العلاقة بين الفكر العقدي والغاية الآنيّة انعدم تأثير القناعة في إيقاد حقد الأوروبي. والارتباط بين القناعة والعلاقة حتمي لا اختياري، دائم و ليس مؤقت، إذا انعدم وجود القناعة توقّف الكره، كما العلة و المعلول يدوران معاً. جميع مكتشفات الفلاسفة الأوروبيين تتحدث عن قناعات لا توقد كرهاً، وإذا أوقدته أو فيها إمكانية إيقاده فهي في إمكانيتها مؤقتة بفترة، محدودة بغاية تذوي بتحقيق غايتها. جميعها لا تنطبق عليها مواصفات القناعة الفكرية التي تحرك عاطفة دائمة، خاصة في الكره. جميعها لا تكشف حقيقة السبب، لأن شرط القناعة الفكرية أن تتعلق بسبب، فإن لم تتعلق بسبب كانت هراءً فكرياً، فكراً من خيالات الفكر. هراء الفكر هو من فضلات الفكر، كما هو فكر الخيال، كما للجسد فضلات كذا للفكر فضلات. فكرُ الخيال غير حلم الخيال، حلمُ الخيال يحفز للعمل، فكر الخيال يثبط الهمم. حلم الخيال عمل بأمل، فكر الخيال عمل بإحباط. في الأول عمل في غاية، في الثاني عمل في هباء. مكتشفات المفكرين الأوروبيين أولاً والمسلمين الذين درجوا بطريقة الفهم الأوروبي لم تكن أكثر فكراً من خيالات الفكر. جميعها لا تقنع الأوروبي في حجتها، حتى ولا المسلم الذي يتلهّف لمعرفة السبب لهذا العداء والاستعداء.(1/21)
في رحابِ الأرض مسلمون في كل مكان، في جوارهم مسيحيون معهم يتعايشون. في شرقنا، شرقِ بلادٍ شعوبُها تحيا بكراهية الإسلام، معنا مسيحيون منذ قرون. الإسلامُ يمنع كراهية الإنسان لدينه، لأنه يمنع فرضَ الإسلام ديناً على أي كافرٍ من أي جنس، ولأنه حصر حق الهداية والاهتداء كما سلطةُ الحساب على الإيمان والكفر بالله وحده. المسلمُ لا يكره بطبيعته ومن لم تكن هذه طبيعته يفترض إسلامه لا يعيشه. مسيحيُّ شرقِنا، شرق أوروبا، لم يتحدث عنا يوماً في التاريخ أننا نكرهه، لم ينتقد يوماً كراهيتنا له. مثلُهُ كمثَلِ جارِ المسلمين في فسيح الأرض، كوكبنا في الحياة والموت. نحنُ، مسلمو الأرض لم نشتك من كراهية مسيحيّ الشرق المبارك، مهبطِ الوحي، منزلِ الرسالات، مثوى الأنبياء والصالحين حتى يرث اللهُ الأرض. ولم نشتك كراهيةَ مسيحيٍّ يجاورنا إن لم يكن أوروبياً في جنسه أو متلبساً فساد تراثه كمَثَل الأسترالي أو النيوزيلندي أو الأمريكي.
كيف تكون كراهية الأوروبي للإسلام كراهيةً مسيحيةً وأكثر من نصف مسيحيي الأرض يجاوروننا بدون كراهية الأوروبي؟
هل تكون كراهية الأوروبي لنا كراهية ديمقراطيين لمسلمين؟ لا يمكن، فقد بدأت كراهية الأوروبيين قبل الديمقراطيين بقرون، بدأت في عصور الظلام، عصور الإيمان المسيحي في أوروبا، عصورِ حكم منع العقل من الفهم. هل كانت كراهية الأوروبي للإسلام بسبب علاقة مجاورة أوروبا لشرق الأنبياء، لو كانت العلاقة جغرافية أو شعوبية، كيف تكون هذه الكراهية أوروبيةً لكل المسلمين لا فرقَ بين مَن هم من شرقها أو من جنسهم؟(1/22)
كراهيةُ الأوروبي للإسلام ليست من قناعة فكرية عنده، كثيرون يعلنون ذلك وهم بكرهوننا بدون سبب يعرفونه، ولا من عاطفة، أو شعوبية. بل من قناعة فكريةٍ في آلهة الحكم الأوروبي عندما كانوا مسيحيين واستمرت وهم آلهةُ حكمٍ ديمقراطي. فرضوا الكراهية عليه وهو مسيحي يقدّس إذلالَ إنسانيته في طاعة الكاهن والحاكم. كما يفرضون عليه الكراهية وهو ديمقراطي يقدّسُ تفاهةَ إنسانيته في طاعة النظام.
بيروت في 26 جمادى الآخرة 1420 هجرية الموافق 10/10/2000 يوسف بعدراني
فرض كراهية الإسلام
على الأوروبيين
كراهية حكام أوروبا قديماً وحديثاً للإسلام كانت وما زالت لغزاً بدون حل، ولولا أن هذه الكراهية بلغت أقصى درجات الحدَّة التي تستطيعها النفس الخبيثة في الإنسان الشاذ الذي يجعل مصالحه مصدراً، منه تنشأ قِيَمُهُ وأولوياتُهُ في الحياة، لما توارث المفكرون جيلاً بعد جيل مسؤولية البحث في حل هذا اللغز.
كراهية حكام أوروبا للإسلام ليست كراهية إنسان لإنسان، ولا كراهية كفر لإيمان، ولا من جنس كراهية الشيطان للمتقين، ولا كراهية فقير لغني، ولا من جنس كراهية العدو للعدو كما توهَّم المفكرون والباحثون في سبب هذه الكراهية. لقد ضاعوا في حقيقة هذه الكراهية لأنهم صدَّقوا أنها كراهية إنسانية، من الكراهيات التي تختلف أسباب تفجرها في الإنسان. تعاملوا مع كراهية حكام أوروبا للإسلام، قديماً وحديثاً، على أنه كره إنسان لإنسان بغض النظر عن أسبابه. لكن الواقع كان دائماً يثبت أن عمق الكره الأوروبي للإسلام، وطول مدته، وحدَّته، يناقض أي بحث فلسفي، ويرد نتائج أي بحث فكري في تعليل سبب كراهية حكام أوروبا عبر التاريخ للإسلام.(1/23)
كراهية الأوروبيين عموماً للإسلام لا يمكن فهمها، كذلك. حقيقة سبب كراهية الأوروبيين للإسلام تكمن في فهم حقيقة سبب كراهية حكام أوروبا للإسلام. الأوروبيون لا يدرون لماذا يكرهون الإسلام. قديماً وحديثاً، كان الأوروبي وما زال، يحتار لماذا يكره الإسلام إلى هذا الحد. لماذا لم يكره البوذية، لماذا لم يتعلم كراهية الرومان أو الكنيسة وقد تحرر منها وما زال يتذكر آلامها!. يتساءل الأوروبي دوماً لماذا لا يكره الشيطان كما يكره المسلم، لماذا يتعلم الفكر الشيطاني ولا يتعلم الفكر الإسلامي، لماذا لا يكره الفكر الشيطاني ويكره الإسلام فكراً فكراً، دون أن يعي أي فكر فيه أو منه؟
حكام أوروبا نجحوا في زرع الكراهية في قلوب الأوروبيين للإسلام ليس لمقاتلة المسلمين كما يُظنُّ ويقول به المؤرخون، إذ بالواقع كانت الحروب لترسيخ ذلك الكره. حرب حكام أوروبا غير المبرَّرة تبريراً يقنع به العقل وإن كُتبت حوله آلاف المجلدات لتزوير حقيقته، كانت حرباً لترسيخ كراهية الأوروبيين للإسلام فلا يسمعون صوته أبداً، ومن لا يسمع صوت الإسلام لا يؤمن به أبداً. حكام أوروبا فرضوا على الأوروبيين بالسيف والسوط، والإهانة والتشريد، والسجن والقتل، كراهية الإسلام أولاً والقسم على عدم سماع صوته، وكراهية المسلم حتى قتله قبل أن ينطق بحجته. كراهية الإسلام والمسلمين فرضها ملوك أوروبا وحكام الأوروبيين جيلاً بعد جيل وقرناً تلو قرن بدون تبرير، دون حدود في عمق الكراهية، ودون حدود في أفق زمنها.(1/24)
نجح حكام أوروبا في مكرهم الدائم قياصرة، أباطرة، ملوكاً، أمراءَ ورؤساءَ، قديماً وحديثاً، في تغطية السبب الحقيقي لكراهيتهم للإسلام بتحويل النتيجة إلى سبب. نتيجة تلك الكراهية التي فرضوها على شعوب أوروبا بالسيف نجد أن الأوروبي المسيحي تحوَّل إلى كارهٍ عدوٍّ للمسلم أينما كان، وفرض الحكام، كل حاكم في بلده، وكل حاكم تلو حاكم، توارث الكره للمسلمين عبر الأزمنة، فلم تمر فترة في تاريخ الإسلام إلا والأوروبي المسيحي يكره المسلم. وما الأزمنة والفترات التي يعدِّدها السطحيون أنها فترات وئامٍ وسفارات إلا فترات خداع يخدع بها حكام أوروبا المسلمين بأنهم قبلوا بالتجاور مع المسلمين، أرادوها فترات إعادة شحن النفوس الأوروبية المسيحية المريضة بهرطقة الإيمان، وتجميع المعنويات في الشعوب المحبَطة بمسيحيتها التي انتقلت من أمة رومانية وثنية تعبد الإمبراطور الروماني إلهاً ومن يمثله من الأصنام، إلى أمم أوروبية كل أمة منها تعبد الملك إلهاً ومن يمثله من النبلاء والكهان. كراهية الأوروبيين للمسلمين نتيجة وليست سبباً، تحويل النتيجة إلى سبب مكرٌ ودهاءٌ بخبث شيطاني ينبع من ذات مؤامرة السناتو الروماني في سبب مؤامرته في حبك وثنيات شعوب الإمبراطورية الرومانية بنسيج جديد يوحِّدها، مسيحية يستعبد بها الإمبراطور كافة شعوب الإمبراطورية أبداً. مسيحية تحوِّل الشعوب المقهورَة، المحتلَّة، المستعبَدَة، إلى أمة مسيحية تحفظ تحقيق الحلم الروماني بإلغاء وجود شعور كراهية المغلوب من شعوب الإمبراطورية بإلغاء سببه. التوحد الديني في دين يسمح بكل الوثنيات أن تشترك فيه في عملية فكرية تصهر جميع أنواع الضلال الوثني يتعالى عنها الإمبراطور الذي لا تجد غيره إلهاً جديراً بالطاعة العملية على الأرض. هدف المسيحية هو في سبب إيجادها جعل طاعة القيصر أمراً دينياً مقدساً هدفٌ استمر مع وجود المسيحية، وانتشر معها في البقاع التي انتشرت وطغت فيها، هدفٌ(1/25)
توارثه الحكام، وتناقلوه بتداول الحكم بين أكابر مجرمي الأوروبيين.
تداول الأيام بين الحكام أزالت القيصر وشتَّتَت التوحد في الأمة الرومانية وقامت الشعوب أمماً وتكاثر الحكام الآلهة كلٌّ في ظلمه وجبروته يحكم قطيعاً من الأوروبيين. جميع الحكام حرصوا على قواعد مؤامرة تجييش الأوروبيين بكراهية الإسلام وكراهية المسلمين. جميع حكام أوروبا وهم متفرقون يتقاتلون مسيحيون مع مسيحيين في بلادهم كانوا يبعثون جيشاً موحَّداً من جميع المسيحيين الأعداء ليقتلوا المسلمين، لسبب واحد: حتى لا تخبو مشاعر كراهية الإسلام في نفوس الأوروبيين. لم يُعامَل الأوروبي يوماً في التاريخ وفي الحاضر على أنه إنسان، عبر التاريخ، كان يُعامَل على أنه ثور، حيوان مُنتج، يُساطُ فيطيع. واليوم، عبودية الأوروبي في أجلى مظاهرها التاريخية، مؤامرة اليوم منعته من الإحساس بحقيقته حتى فقد الإحساس بعبوديته، وظلمه، وتفاهته. حقيقة عبودية الأوروبي اليوم أن المؤامرة في عبوديته ألغت وجوده الإنساني في الواقع بجعله وجوداً إنسانياً في وهم الواقع. ولكن كراهيته للإسلام لم تخبُ، ومؤامرة الحكام في الإبقاء على النتيجة سبباً لم تنكشف. نجاح الحكام، عصراً بعد عصر، في إحكام الغطاء على الحقيقة التاريخية في سبب كراهيتهم للإسلام، ونفخها في شعوب العبيد للسلطة كراهية مسيحيين لمسلمين أبقى ويُبقي تفجير ذلك الحقد وتلك الكراهية في أيدي الحكام أبداً.
حقيقةُ المؤامرة في واقعها أنها مؤامرةٌ على الأوروبيين وليست على المسلمين كما يُظن عبر التاريخ والكتب والأبحاث والمؤامرات والحروب ووحشيَّة الأوروبي عبر التاريخ في قتله للمسلمين. حقيقة المؤامرة أنها في واقعها مؤامرة على الأوروبيين لا يُمكن أن تُفهم إلا بالتمسك الدائم بحقيقتين في التاريخ.
الأولى: واقع الأوروبي قبل المسيحية أنه كان وثنياً مفروضاً عليه تأليه الحاكم.(1/26)
الثانية: واقع الأوروبي بعد المسيحية أنه كان مسيحياً مفروضاً عليه تقديس الطاعة لل
حاكم.
المسيحية وحَّدت الأوروبيين في وثنية عبادة صنم لا ينطق وعبادة حامي صنم ينطق عنه. في البداية كان الحامي واحداً: إمبراطور الرومان.
لمّا فهم أكابر مجرمي قبائل أوروبا مؤامرة الإمبراطور تلقَّفوها وقام كل من يستطيع التفوق على غيره بالجريمة والغدر والخديعة على أنه صاحب الحق في حماية الصنم، أو صاحب قدرة على حماية الصنم، لم يقل ممن يحميه، ولم يقل لماذا يحتاج الصنم الجديد إلى من يحميه. لم يقل، لأنه كان يعلم أنه يكذب. يقول ليكذب لا يقول ليثبت. الناس لم يسألوا، لأن بينهم وبين المنتصر في معركة حماية الصنم جيشاً. جيش المنتصر في جريمته أحط الناس في عبودية الحامي الجديد للصنم الجديد. المنتصر، الذي أطل برأسه بعد انهيار الإمبراطور الروماني إله المسيحيين الناطق الحي، كان بديلاً صغيراً في قبيلته وجغرافيته، محدوداً في قوته وموارده. بمقارنة موارده مع غيره كان يحدَّد مستوى ألوهته المقتطعة من الإمبراطور: ملكاً، دوقاً، أميراً أو غيره. بذا، تحولت أو تفسَّخت حتى لا نقول تقمَّصت ألوهة القيصر في طبقة من حثالة المجرمين في كل شعب أوروبي بعد أن تكاثرت القبائل لتصبح شعوباً بعد أن تفرَّقت البطون وتباعدت الأفخاذ. المنتصر الذي اغتصب سلطة من الإمبراطور أو مقاطعة من مقاطعاته بالواقع اقتطع جزءاً من كل، فإذا كان الإمبراطور إلهاً وسلطته إلهية فالمجرم المغتصب المنتصر يتحوَّل طبيعياً ليكون من معدن السلطة التي حصل عليها، دون إعلان وتبرير كان المجرم المنتصر يصبح إلهاً يفرض ألوهته بتقديس شعبه لطاعته. وكان أول أعمال ألوهته الجديدة إعلانه نفسه حامياً للصنم المصلوب وقسمه أن كل شيء يعمله يكون لخدمة الصنم أولاً لا الناس. وبالتالي يكون هو الوحيد الذي يقرر كيف يُخدم ويُحمى ويُسعَد صنم الشعب!(1/27)
في الحقيقة التاريخية الأولى عن تأليه الناس للحاكم واقع قد دال عليه الزمن ولم يعد أحد يناقش فيه أو يتأثر به، ولا يقدِّم البرهان فيه أي حجة ولا يثير حماساً. فالوثنية في أوروبا ـ في وهم الأوروبيين ـ زالت بحلول المسيحية.
في الحقيقة التاريخية الثانية عن تأليه الناس للحاكم في المسيحية ديانة الرومان الجديدة أيضاً قد دال عليه الزمن، ولم يعد أحد يناقش فيه أو يتأثر به. فالمسيحية في أوروبا ـ في وهم الأوروبيين ـ زالت بحلول الديمقراطية.
إذا سلمنا، نحن المسلمين، وصدَّقنا أولاً أن الوثنية التي سادت في وثنيات قبل المسيحية زالت وحلَّت محلَّها المسيحية. وصدَّقنا ثانياً أن المسيحية زالت وحلَّت محلَّها الديمقراطية فالواقع يصدمنا: لماذا تعاظمت كراهية الأوروبي للإسلام لماذا يستمر كل حاكمِ قطيعٍ أوروبي في قتل المسلمين؟ لماذا تهيج مشاعر الأوروبيين ضد الإسلام والمسلمين في سرعة البرق؟ لماذا يكره الأوروبيون المسلمين في عقولهم وقلوبهم؟ لماذا يستمر الحكام بنظامهم الديمقراطي في منع الأوروبيين من فهم الإسلام؟ لماذا بعد قرنين ونيف من حلول الديمقراطية ديانة وثنية جماعية بدل المسيحية ديانة الوثنية الفردية؟ أم أن القول الأصح حلول الديمقراطية ديانة وثنية فردية جديدة بدل المسيحية ديانة الوثنية الجماعية. أيهما أكثر صواباً وأقوى حجة هو موضوع منفصل عن جواب لماذات المسلمين في سبب استمرار كراهية أوروبا للإسلام. ولا يخفف أو يزيل صدمة المسلمين، ولا يفسِّر سبب استمرار كراهية ديمقراطيي أوروبا وأمريكا للمسلمين والإسلام بنفس الحدَّة التي كان يكرهنا بها المسيحيون، وحتى أكثر مما يكرهنا وثنيو خرافات الهنود واليابان ووثنيو الفراغ ملحدي كل زمان.(1/28)
إنهم يكرهوننا بلا شك. في الواقع يكرهوننا بمشاعر المسيحيين. المسيحية ما زالت متأصلة. يكذبون عندما يقولون إن الديمقراطية حلت محل المسيحية. الغبي وحده الذي لا يستطيع التفريق بين استبدال الحاكم لِقناعه المسيحي صنماً مصلوباً بِقِناع ديمقراطي، وبين حلول الديمقراطية محل المسيحية. حال الغبي هذا كحال الغبي الذي لم يستطع التفريق بين تبديل الإمبراطور قِناعه بصنم جوبيتر بِقِناعِ مسيحٍ صنمٍ مصلوب، وبين حلول المسيحية محل الوثنيات. الغبي، مسيحياً أوروبياً أو ديمقراطياً أوروبياً لا يدري لماذا يستمر الحقد فيه على المسلمين، ولا يدري رغم عدم التزامه المسيحي لماذا يتوارث كراهية المسلمين ويغلظ عقله حتى عن محاولة فهم الإسلام. الغبي الأوروبي لا يدري لماذا عقيدته الديمقراطية ونظامه الديمقراطي، ولماذا حكامه الديمقراطيون وثقافته الديمقراطية أبقت على شعلة كراهية المسلمين والإسلام ناراً تتأجج في قلبه وعقله، رغم ثورته على المسيحية ـ في خياله ـ ورغم تبديله المسيحية بالديمقراطية ـ في أحلامه ـ فكراً وطريقة عيش.
الغبي رجل حلَّ في الغباء. الغباء ثقافة فكرية يفرضها حكام أوروبا كلٌّ في شعبه وعلى شعبه. فرضوا أن لا يكون هناك غبي أوروبي بل أوروبيون أغبياء فيهم ومنهم استثناء يديرون فيهم وعليهم لعبة تثقيفهم ثقافة الغباء.
ثقافة الغباء في الأوروبيين بدأت عندما بدأ السناتو خطته في تحويل مئات الوثنيات إلى وثنية واحدة، وعندما بدأ خطته الفكرية في تحويل الوثنيين في وثنيات إلى وثنيين في وثنية، وترسخت أبدياً إلى اليوم عندما فرض المسيحية بديلاً جديداً لتعدد الوثنيات وتفرق الوثنيين. وما الثورة الديمقراطية على المسيحية إلا كالثورة الرومانية على وثنياتها. هل غيَّرت الثورة الرومانية المسيحية على الوثنية واقع الألوهية في الغرب؟(1/29)
يميل الباحثون ميلة واحدة يمنةً، ويميل النقاد الذين يفتشون عن الحقيقة ميلة واحدة يسرةً. كلهم يكتبون ويقارنون ويفتشون في تجرّد وتقيد بمثاليات وخُلُقِيّات لم تجرِ به أبحاثٌ أخرى في تاريخ كفار الجنس البشري.
نزاهة الباحثين والنقاد في واقع الألوهة في أوروبا، أو في هل غيَّرت ثورة الإمبراطور الروماني الوثني على الوثنيات وفرضه المسيحية لتوحيد الوثنيين بالسيف والذبح والصلب واقع هذه الألوهة، نزاهة لا تشوبها شائبة. حيادهم في جدية البحث عن الحقيقة وتجرّدهم في فهم القرائن يذهل العقول. عمق أبحاثهم وتشعب انتقادهم يدل على شغفٍ وحبٍّ للحقيقة لولاه لما كان يمكن لأحد منهم أن يستمر في بحثه لما في أبحاثهم من اكتشافات تُؤلم وتصدُم وتُحبِط. آلاف الأبحاث والمقالات الانتقادية، وآلاف الشروحات مع وضد الانتقادات في عشراتِ وعشراتِ آلاف الكتب.
هل وصلوا إلى الحقيقة؟
أو:
هل ضاعوا في الحقيقة؟
الباحثون كلهم افترقوا يمنة أو يسرة: فرقتين متناقضتين:
فرقة تقول إن المسيحية غيرت واقع الألوهة في الغرب.
فرقة تقول إن المسيحية لم تغيِّر واقع الألوهة في الغرب.
الفرقة التي فارقت يمنةً تقول إن المسيحية منعت عبادة الأصنام.
الفرقة التي فارقت يسرة تقول إن المسيحية منعت عبادة غير الصنم على الصليب.
فرقة تقول إن المسيحية دين جديد.
فرقة تقول إن المسيحية خليط من كل الأديان سابقتها.
واحدة تقول إنه دين الرحمة والإنسانية.
واحدة تقول إنه دين الهمجية والوحشية.
أو تقول إن المسيحية دين سماوي.
بينما الأخرى تقول إنه دين أرضي صاغته وألَّفته يد إنسان.
المسيحية؛
دين الهمجية والوحشية أو دين الرحمة والإنسانية، دين الخديعة والتزوير أم دين سماوي، دين الشياطين أم دينٌ روحي، وثنية جديدة أم وثنية قديمة، هل هذا هو موضوع البحث أم هو بحث في غير الموضوع؟(1/30)
غفلتهم عن حقيقة المسيحية أنها مؤامرة رومانية لترسيخ دعائم إمبراطورية رومانية أبدياً غفلة أم تغافل؟
الموضوع الحقيقة؛ هل غيرت أوامر السناتو بفرض المسيحية واقع حال الأوروبي في عبوديته، في حريته، في طريقة عيشه، في بؤسه، في سعادته، في ثرائه، في فقره، في فكره، في أحلامه، في حياته أو في موته! لماذا لم تغيِّر؟ لأنها لم تغيِّر واقع الألوهية! الثورة المسيحية أو الأصح فرضُ المسيحيةِ فَرَضَ تغيير حال الإمبراطور من إله يحمي صنم جوبيتر في معبده إلى حامي صنم المسيح في معبده. حقيقة الموضوع أن الإمبراطور بقي في نظرهم إلهاً يحكم بهواه ليرضي المسيح بعد أن كان إلهاً يحكم بهواه ليرضي جوبيتر. واقع الألوهية في الغرب لم يتغير بفرض المسيحية بل جاءت المسيحية في أهمِّ نصوصها الأولى تقدِّس الحاكم، تثبِّته، تطيعه، تحميه، تكرِّسه من نسل الآلهة، تقدِّس حقه الإلهي في بركة الإله، تجعل طاعته واجباً مقدساً في أساس المسيحية. في أوائل ديانته التي صاغها في أوائل رسائله يقول مؤسس المسيحية بولس في رسالته إلى أهل رومية الإصحاح الثالث عشر: 1 ـ 3 ما نصه: لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله.. حتى إن مَن يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله. والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة، فإن الحكام ليسوا خوفاً للأعمال الصالحة بل للشريرة.] أي تقديس للحاكم أكثر من هذا التقديس؟ الحاكم عند بولس ليس الحاكم المسيحي بل الحاكم الوثني والأخص الحاكم الإله الروماني. هو كان يدعو في بلاد الرومان ويخاطب رعايا الرومان فهو لم يدعُ إلى طاعة حاكم لاحق بل إلى طاعة الحاكم القائم. ولم يدعُ إلى طاعة حاكم مسيحي فلم يكن هناك حديث عن حاكم مسيحي، وهذا سرُّه المخفي أنه جاء بدعوته المسيحية يكرِّس ألوهة الحاكم الروماني وثنياً غير مسيحي حتى يسهل تكريس ألوهته مسيحياً حاكماً. وفي نفس الرسالة في 4 ـ 5 يقول:(1/31)
فإذا كنت تريد ألا تخاف السلطان افعل الصلاح فيكون لك مدح فيه لأنه خادم الله للصلاح، لكن إذا فعلت الشر فخف لأنه لا يحمل السيف عبثاً، بل هو خادم الله منتقم من الذي يفعل الشر.] هل كان في زمن قول بولس هذا الكلام أشرُّ وأظلم من حكم الرومان؟ ما معنى الصلاح في هذا الكلام غير طاعة الحاكم الوثني الروماني! هذه رسالة تبشير فيما يزعمون أنه دين جديد، بينما في تفسيرها العملي رسالة تبشير بدين خضوع مطلق للحاكم الروماني، هذه الرسالة وحدها إثبات يكفي برهانها لدمغ بولس أنه مربوط بحبل طرفه بيد سلطة رومانية تحركه كيف تشاء، تنفخ فيه الهواء لينطق بما تريد. كيف مرَّ البحاثة والنقاد والفلاسفة بهذا القول ولم يأخذوه إثباتاً على أن المسيحية كلها مؤامرة فكرية من حبك الرومان؟ إنهم بحثوا في معنى القول وأسهبوا في شرحه أنه دعوة إلى المسالمة، وأنها تتعلق بالصيغة الروحية للتبشير المسيحي، وأنها من جنس من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، وأنها إثبات عن الرحمة عند المسيحيين. لم يفهموا هذا القول بمدلوله، لم يربطوا القول بهدف القول، لم يدركوا مقاصد الفكر في الألفاظ، فهموا النص ولم يفهموا معناه، أو أدركوا معناه ولم يعقلوا غايته، فصلوا بين اللفظ وفكره، أو بحثوا وانتقدوا وكفروا بمعنى اللفظ فأشبعوا عطش الكراهية للمسيحية في نفوسهم، واكتفوا بنشوة إثبات الحجة على الخطأ والفساد في الفكر المسيحي. الكراهية عاطفة ككل العواطف في الإنسان، إن كان السعي لإشباعها، عميت بصيرة العقل عن رؤية مسالك الدرب في السعي، همهم كان إقامة الحجة على صوابية كراهيتهم، وعلى خطأ المسيحية، وعلى فشل المسيحية، وعلى جرائم المسيحية، وعلى أن المسيحية أوهام وتدجيل ووثنية. ماذا يقدم أو يؤخِّر ذلك في وجود المسيحية، ماذا يؤثر في ارتداد المسيحيين عن مسيحيتهم، بماذا يضعف سطوة الكاهن على المسيحي؟(1/32)
كذا في قول بطرس الخرافة الذي أوهموا المسيحيين بوجوده، بطرس الذي كان في التاريخ النصراني أنه موجود، كان حوارياً من أصحاب عيسى عليه السلام وكان يرى في بولس عدواً للنصرانية ولتلامذة عيسى نبي الله، فكان شديد الضراوة في محاربة بولس والتبرؤ من دعوته المسيحية التي تقول بالإله المتجسد في إنسان وهي فكرة الوثنية الغنوصية. لطمس عداوة بطرس اخترع بولس بطرساً جديداً بعد موت بطرس الحواري المؤمن بعيسى نبياً عبداً مرسلاً من الله الخالق الواحد الأحد، وساعد الرومان دعوة بولس بمزاملته لبطرس بطمس خبر موت أو قتلهم بطرس الحواري أحد الإثني عشر من تلامذة نبي الله عيسى. وهكذا هناك بطرس الحقيقي الذي لم يكذب على الله ولم يقدِّس عيسى ولم ينطق بكفر وهناك بطرس الخرافة التي استمدت قوتها من بطرس الذي قتله الرومان سراً ولم يكشف التاريخ أين وكيف. وبينما حياة بطرس الحواري تلميذ عيسى شخصية حقيقية إذ سجل التاريخ أحداثاً وأقوالاً ترتبط به، نجد حياة بطرس الخرافة ليست شخصية حقيقية فكل الأحداث والأقوال التي ترتبط بها تلصق به ولا ترتبط به، وكل ما يقال عن بطرس الخرافة ليس فيه إثبات على العلاقة بين الشخص والقول أو بين الشخص والفعل، هناك فراغ بين بطرس الخرافة والزعم أنه قال أو فعل. لا بل إن الوقائع الملصقة ببطرس الخرافة تثبت أن شخصيته شخصية مزورةُ الوجود لم تكن أبداً موجودة. يقول بطرس الخرافة وهو الذي عينوه بعد مئات السنين قديساً، وكان لا بد من ذلك لإعطاء أقواله إثباتاً وأحقية: اخضعوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب، إن كان للملك فكمن هو فوق الكل، أو للولاة فكمرسلين منه للانتقام من فاعل الشر، وللمدح لفاعلي الخير، أكرموا الجميع، أحبوا الاخوة، خافوا الله، أكرموا الملك] رسالة بطرس الأولى: الإصحاح الثاني: 11 ـ 17، الذي ينظر في هذا المقطع وينظر في المقطع السابق الوارد عن بولس يدرك فوراً أن هذا ليس كلام رجلين بل كلام رجل واحد،(1/33)
فإن تغاضينا عن الأسلوب الواحد والنص الواحد والمعنى الواحد فإن الرسالة بالمعنى لا يمكن التغاضي عنها، فهي رسالةُ خُطَّةٍ لا رسالة خطاب مكتوب أو مقروء، بل هدف عمل، وغاية خطة، ورسالة المعنى في الخطاب. وهذا يفرض أن وراء الرسالة الواحدة في الخطابين جهةً واحدة، وعقلاً واحداً، وإدارة واحدة.
هذا الفكر في المسيحية هو فكر أساسي في المسيحية وقد استوجب على مر العصور توضيحه وتثبيته، ففي كتابات ترتوليان كما جاءت في اقتباس جان توشار في كتابه تاريخ الفكر السياسي جاء عن ترتوليان هذا النص: الإمبراطور هو لنا أكثر مما هو لأي إنسان آخر، لأن إلهنا هو الذي أقامه ولهذا وجب علينا أن ندعمه، فالسلطة الإمبراطورية مستمدة من الله، وإن كانت لا تشارك في فضائل الألوهية لأنها مخلوقة، فالله خلقها لتنفيذ مشيئته... نحترم في الأباطرة حكم الله الذي أقامه لحكم الشعوب، فنحن نعلم أنهم بإرادة الله يمسكون بالسلطة.] أيضاً هذا القول قيل في حق أباطرة الرومان الوثنيين آلهة زمانهم الذين كانوا يعلنون أن حقهم الإلهي كان من صنم جوبيتر أو من يختار الإمبراطور من عديد الأصنام أن يكون حاميه. لكن، لا يجب الضياع في ظاهر هذا القول أو في معناه أو في حيرة تناقضه مع ما كان يجب أن يكون عليه القول، بل لا بد من التمسك في فهم مدلول معاني هذه الكتابات حتى لا نضيع كما ضاع الباحثون والنقاد عن هدف الفهم في حقيقة المسيحية المؤامرة الرومانية التاريخية على الجنس البشري. ولا يجب أيضاً أن نلتفت إلى مناقضتها لقول منسوب إلى مسيحهم في أناجيلهم معبراً عن ازدرائه واحتقاره وتبرئه من أهل السلطة بقولهم إنه قال: مملكتي في السماء.] ما معنى أو ما مدلول معنى قول المبشر ترتوليان: الإمبراطور هو لنا أكثر مما هو لأي إنسان آخر] في ضوء واقع ترتوليان أنه يدعو لدين جديد يخالف دين الإمبراطور؟ ليس في مدلول هذا اللفظ إلا مدلول واحد أن ترتوليان كان يدعو لدين جديد بأمر من(1/34)
الإمبراطور وبموافقة منه ومباركته وحمايته له. وما معنى أو مدلول معنى قوله: لأن إلهنا هو الذي أقامه] في ضوء إعلان الإمبراطور أن الإله جوبيتر هو الذي أقامه؟ أيضاً ليس في مدلول هذا اللفظ إلا مدلول واحد هو أن ترتوليان في حقيقة الواقع لم يكن يرى فرقاً بين جوبيتر والمسيح إلا بتغيير التسمية لإثارة رغبة التغيير حتى يكون في التغيير تحقيق هدف الخطة في توحيد جميع الوثنيين. كذلك في قوله: فالسلطة الإمبراطورية مستمدة من الله] ألم يكن مفروضاً على جميع شعوب الإمبراطورية الرومانية على اختلاف وثنياتهم أن يعتقدوا أن السلطة الإمبراطورية مستمدة من الآلهة صنماً كانت أم أصناماً؟ أليس ذلك تثبيتاً وترسيخاً للعقيدة الوثنية الرومانية المفروضة على كافة الشعوب؟ أليست إعلاناً عن استمرار حق الإمبراطور الإلهي مع انتشار المسيحية؟ وهكذا يلزم أن تفسر جميع أقاويله على أنها أقوال كهان جوبيتر وكهان أبولون وكهان يونو وكهان وينوس وكهان مينروة. وقوله: نحترم في الأباطرة حكم الله الذي أقامه لحكم الشعوب] هو نفسه في مدلوله كمراسيم السناتوس الروماني بتأليه الإمبراطور أي بإعلانه إلهاً لتكريمه بعد موته كما فعل بمرسوم إعلان يوليوس قيصر إلهاً بعد موته بسنتين، وبمرسوم إعلان أوغسطس قيصر إلهاً في حياته ورُفع صنمه في جميع الهياكل وفي جميع البلاد ورُتِّلت التراتيل باسمه إلى جانب تراتيل الأصنام الأخرى واعتبرت يوم مولده مقدساً واسمه مقدساً، وبعدها أمر بعبادة آبائه على أنهم آلهة طالما هو إله، وأعلن شقيقته أوكتافية وزوجته ليفيا آلهة بمساواتهما مع عذارى آلهة الموقد العائلي الروماني ورُفعت صورهما وتماثيلهما في الهياكل. السناتوس والشعب الروماني وشعوب الإمبراطورية جمعاء، وكلهم وثنيون كانوا يحترمون في الأباطرة حكم الله، وحكم الله هنا تعني اختيار الله لهم ليكونوا أباطرة وهذا يناقض الواقع. فمعظم، إن لم يكن جميع، أباطرة الرومان وصلوا إما(1/35)
بالقوة أو بالغدر أو بالرشوة أو بالزنى بالإمبراطورة أو باللواط مع الإمبراطور. فأي إله يكون من يختار إمبراطوراً بهذه السبل؟ وأي دين يقر باحترام قدسية هكذا إمبراطور، وأي مبشر يدعو لتقديس حق هكذا إمبراطور؟ ولِمَ يصر ترتوليان المبشر المسيحي العظيم بل فيلسوف المسيحية الكبير أن يستعمل لقب الإمبراطور الذي هو عنوان الوثنية والإجرام والنهب في تاريخ البشرية إبان وجود ترتوليان؟ لماذا لم يستعمل غير هذا اللفظ المقيت في قلب الجنس البشري؟ ليس إلا لسبب واحد هو أن الإمبراطور كان سيده، حاميه في رسالته، إلهه في واقعه.(1/36)
تمدُّدُ الرومان في البداية وتوسع الإمبراطورية الرومانية قام على مبدأ واحد طوال وجودها، قاعدة إفناء الجيوش والقبائل التي تحيط بحدودها لضم بلادهم إلى نفوذها وسلطتها وإدارتها. ومن لم يقتلوا يكونون عبيداً للإمبراطور يوزعهم على مؤيديه في طول البلاد وعرضها. لم يعرف تاريخ البشرية استبداداً وظلماً أكثر قسوة وجبروتاً وبطشاً من حكم الرومان الذي امتد مئات السنين. لا يمكن الاتفاق على عمر الإمبراطورية الرومانية لأن بعض المؤرخين ينعيها عندما انتقلت سلطة الاستبداد والظلم والقتل إلى الكنيسة، إذ بعد أن قسَّم الإمبراطور تيودوسيوس في عام 395 الإمبراطورية الرومانية قسمين بين ابنيه غربية عاصمتها روما يكون عليها ابنه أركاديوس بعد موته الذي كان في عام 408، وشرقية يكون عليها إمبراطوراً ابنه الثاني هونوريوس. غزا البربر روما عام 476م وحطموا سلطة إمبراطورها أبدياً فاستغلت الكنيسة في روما غياب الحاكم القوي وأعلنت أنها صاحبة الحق في الحكم، وبذلك ورثت سلطان الاستبداد والظلم والبطش. بعض المؤرخين ينهي وجود الإمبراطورية الرومانية بهذا الحدث، ولكنا نرى أن حكم الكنيسة كان استمراراً لنفس نمط الحكم الاستبدادي الإمبراطوري الذي كانت الكنيسة تبرر ظلمه وبطشه، فلا شيء في التاريخ تبدل حتى يقال إن عهداً في الاستبداد انتهى وبدأ عهد جديد في الظلم. انتقال السلطة كان تداول بين أيدي أهل الظلم أنفسهم وفي إطار المسيحية نفسها فلم يطرأ جديد لا في أهل الحكم ولا في إطار الحكم ولا في طريقة الحكم ولا حتى في تبرير الاستبداد والظلم والبطش، فالكنيسة كانت مسخَّرة وأصبحت تسخِّر مباشرة.(1/37)
في رسالة بولس ـ الذي تعتبره الكنيسة قديساً ـ إلى أهل رومية يقول: فالحاكم المستبد لا يحمل السيف عبثاً، إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر]. متى كان طغيان وإجرام فرعون ونيرون وتيبيريوس وأورليان ودقلديانوس وقسطنطين وتيودوسيوس عمل طاعة لله، هل تيبيريوس إمبراطور الرومان الذي وافق على قتل مسيح بولس خادم الله في جريمته؟ هل يُعقل أن يعتبر المسيحي قسطنطين الذي أمر بفض مجمع نيقيه الذي انعقد لأول مرة بحضور ألفين وثمانية وأربعين كاهناً من مختلف الرتب الكنسية لأنهم خالفوه في الرأي، فقتل معظمهم وشرد المترددين منهم وأعاد عقده بالقلة التي وافقت معه، أنه عمل يخدم إلههم؟ هل جرائم تيودوسيوس عام 395 عندما أنشأ محاكم التفتيش وقتلَ بمجرد الشبهة بمخالفته مئات الآلاف من المسيحيين خدمة لإلههم؟ هل بطش جمعية الصليب المقدس التي أمر الإمبراطور بإنشائها في تورينو قبيل عام 350 لتقتل جميع الوثنيين بالإبادة خدمة لإلههم؟ لماذا لم يسأل المسيحيون إلههم وهو موجود بينهم صنماً في كنيستهم أو حياً في قلوبهم: إذا كنت إلهاً فلماذا لم تَهْدِهِمْ بدل أن تأمرنا بقتلهم؟ أم أن المسيحي يُقرُّ بقول بولس إن الحاكم مسيحياً أو وثنياً هو إله لا يُسأل عما يفعل؟ وهل قتل وتشريد محاكم التفتيش في إسبانيا، بأمر الحاكم الإله وبأمر الكنيسة، مئات الألوف من المسيحيين من رحمة الإله أم من استبداد وظلم وبطش الحاكم الوثني وتبرير الكنيسة له في جريمته؟ ألا يتساءل المسيحي في قرار الديوان الكنسي الصادر في عام 1568 بإدانة جميع شعوب الأراضي المنخفضة في أوروبا الشمالية والحكم عليهم بالإعدام فقامت جيوش الحكم المسيحي بقتل السكان رجالاً ونساءً وأطفالاً، عن سبب هذا القرار وحقيقة النفسية والعقلية والعقيدة التي أمرت بذلك أنها نفسية وعقلية وعقيدة وثنية مسيحية إذ لا يعقل لإنسان يصدق أنه إنسان أن يفعل ذلك، وأنه لا يمكن أن يفعل ذلك إلا وثني(1/38)
تحجَّر قلبه على احتقار الصنم الذي يعبده؟
كيف يفهم المسيحي ويبقى مسيحياً بعد أن يعلم أن شارل التاسع ملك الفرنجة دعا مخالفيه بآراءٍ مسيحية إلى باريس في عام 572 ليكونوا ضيوفاً عليه ليناقشهم ويتبادل الرأي المسيحي معهم بالحجة ليتوافقوا على رأي واحد يخدم المسيحية فيصدقوه، ثم في الليل يغدر بهم قبل التحاور وإثبات الاختلاف القاطع فتجري دماؤهم سواقي في أزقة باريس؟ ويفخر تاريخ المجرم شارل التاسع بتهنئة كاهن روما له حامل نفس لقب كاهن روما الوثني قبل المسيحية وحتى قبل مولد المسيح بمئات السنين «الحبر الأعظم»؟ كيف يعلم المسيحي أن المسيحيين كانوا يعرضون على المسلمين بلداً بعد بلد في إسبانيا أن يستسلموا فيحافظوا على أرواحهم ونسائهم وأطفالهم فيصدِّق المسلمون فيستسلموا، وبعد الاستسلام تُبقر بطون النساء ويُذبح الرجال في أعناقهم ويداس الأطفال بأرجل الخيول ويبقى مسيحياً في ملَّة الغدرالاوروبي؟ كيف يبقى المسيحي مسيحياً بعد أن يقرأ في كتاب الفاتيكان «المسيحية عقيدة وعمل» الذي نشره الفاتيكان سنة 1968 أي بعد ألف وتسعمائة وعشرة أعوام من ذوبان بولس في التاريخ في صفحة 50 ما نصه: كان القديس بولس منذ بدء المسيحية ينصح لحديثي الإيمان أن يحتفظوا بما كانوا عليه من أحوال قبل إيمانهم بيسوع]؟ ألا يفهم أنه نفسه حفيد وثني لا مسيحي ولو سمى بولسُ جدَّه مسيحياً؟ ألا يرى أنه لا توجد مسيحية كما يتوهَّم وجودها؟ ألا يتذكر أن بولس مؤسس المسيحية هو الذي كان يقول هذا القول لجده؟ ألا يلحظ خلفية ديانته؟ ألا يتعرَّف إلى أصل المسيحية؟ ألا يشعر أو يفكِّر في أصله المسيحي؟(1/39)
المؤرخون والباحثون يحصرون سبب قتل المسيحيين للمسيحيين أنه خلاف عقيدي، هل من طبيعة الإنسان أن يقتل إنساناً آخر لأنه يختلف معه في الرأي؟ كثيرون يجيبون نعم، ويعطون البراهين على حروب الشعوب الوثنية عبر التاريخ أنها كانت لاختلاف عقائدهم. الحقيقة الواقعية في التاريخ أو في حروب التاريخ تنقض قولهم، وحتى لا نخوض في الحروب الصغيرة لنقض قولهم سنأخذ أضخم وأطول وأهول حرب وثنية حصلت في تاريخ الجنس البشري قبل تعميم الرومان لوثنيتهم الجديدة بقوة القتل بالسيف والرمح والفأس. أطول وأهول الحروب الوثنية افتعلها الرومان منذ العام 500 ق.م. وحتى عام 323 م عندما أعلن قسطنطين أنه رأى رؤية في المنام أوجبت عليه أن يتحوَّل من وثني يعبد صنم جوبيتر إلى مسيحي يعبد ويركع لصنم المسيح. طوال ثمانمئة عام قضاها الرومان في قتل غيرهم. لماذا؟ المؤرخون والباحثون المتخصصون يجمعون على أن الرومان كانوا متسامحين مع جميع الوثنيات، ويجمعون أن روما كانت بكثرة هياكل أصنام الوثنيين وتعددها أشبه بعاصمة كل الوثنيات، ويجمعون أن الرومان لم يخوضوا حرباً واحدة من آلاف الحروب التي خاضوها من أجل القضاء على وثنيةٍ مخالفة لوثنيتهم، ويجمعون أن الرومان لم يفرضوا وثنيتهم على أحد. الحرب الوحيدة التي خاضوها ضد وثنية التضحية البشرية وثنية الكلت في شعوب بريتانيا وأيرلندة، فهذه هي الحرب الوحيدة التي خاضوها ليمنعوا الوثنيين أجداد إنكليز اليوم من ممارسة التضحية البشرية. نفوس الرومان على فظاعة وحشية قلوبهم تقزَّزت من فجور التفحش في أمة الكلت فحاربوهم ليمنعوهم من ممارسة هذه الفظاعة التي لم يقوَ الرومان على احتمالها. انتصر الرومان ولكنهم لم يفرضوا وثنيتهم عليهم.(1/40)
الحقيقة التاريخية أن الرومان لم يحاربوا الوثنيين الآخرين لإلغاء وثنية وفرض وثنيتهم، والحقيقة التاريخية أن الرومان كانوا يحاربون الجيوش التي تقف في توسيع حدود سيطرتهم لنهب خيرات البلاد الأخرى واستعباد الناس. لم يحاربوا يوماً حرباً وثنية، حتى عندما احتلوا فلسطين لم يفرضوا على يهود أن يتحولوا إلى وثنية أخرى ويتركوا وثنية أحبارهم. بل أقروهم وصادقوهم وأفرزوا لهم قوة عسكرية أسموها شرطة الهيكل تحت إمرة كاهن الهيكل لتحميه وتأتمر بتنفيذ أحكامه التوراتية المحرَّفة. وهذه الحقيقة التي يُجمع عليها المؤرخون حقيقة في مجامع المصادر التاريخية في كل اللغات وعند كل الشعوب، وهي تنقض قول كل باحث أو مؤرخ استدل بأدلة لم يفهمها على حقيقتها. الحقيقة التاريخية أن حروب الوثنيين كانت لتوسيع رقعة سيطرتهم. إذن لا يصح دليلاً أن همجية القتل المسيحي للمسيحي كانت امتداداً للحروب العقدية في التاريخ الوثني، لأن ذلك لم يحصل حقيقة في الحروب الوثنية وإن كان ذريعة معلنة في كثير من الحروب لتأليب النفوس وتعبئتها للقتال. إلا أنها لم تكن ذريعة حقيقية بل ذريعةً خديعة للنفوس.
الحرب العقدية الوحيدة التي عرفها الجنس البشري هي حرب المسلمين للكفار أي لغيرهم من البشر. وهي الحرب الوحيدة التي كان فيها قواعد للحرب وقواعد للقتل. حرب المسلمين لم تكن لتوسيع الحدود لنهب خيرات البلاد، ولم تكن لاستعباد الناس، ولم تكن لفرض الإسلام ديناً، بل لتطبيق نظام الإسلام في علاقات الناس، ولتطبيق معالجات الإسلام في الخلافات الناشئة عن تلك العلاقات، كانت لفرض العدل وإحقاق الحق بين الناس بقوة الدولة.(1/41)
حرب المسيحيين للمسيحيين لم تكن حرباً على خلاف أن المسيح طبيعة واحدة ومشيئةٌ واحدة أو أن المسيح طبيعتان ومشيئتان، هذا السبب المعلن الذي صدقه المؤرخون والباحثون وافترقوا في تأييد هذا أو ذاك، وتاهوا في آلاف الشواهد والأحداث التي حصروا فهمها بتصديقهم المسبق للذريعة المعلنة فضاعوا وتاهوا عن ملاحظة أن الذريعة خديعة لتغطية حقيقة سبب الحرب التي لا علاقة لها بالمسيحية بل بالغاية التي من أجلها وُجدت المسيحية.
متى، يقول إن مسيحه قال: قد سمعتم أنه قيل للأولين لا تقتل فإن مَنْ قتلَ يستوجب الدينونة، أما أنا فأقول لكم إن كل من غضب على أخيه يستوجب الدينونة (متى 5: 21). في هذا القول يُبطِل مسيح متى شريعة يهود المحرَّفة التي تسمح بالقتل ويجزم أن من يقتل يستحق الإدانة أي يكون ارتكب جريمة القتل. ثم يمعن في تحريم القتل بتحريم الغضب الذي هو من مقدمات القتل الأساسية، ويجعل الإدانة واجبةً واقعةً على الذي يجوز مقدِّمةً محتملة للقتل. فبأيِّ مسيحية غدرَ شارل التاسع بالمسيحيين في باريس وأجرى دماءهم سيلاً نجساً في أزقة وسواقي المدينة وهم ضيوفٌ عنده وفي أمانِهِ وعهدِهِ بحمايتهم؟ وبأيِّ مسيحيةٍ قتل قسطنطين المئات وسجن وشرد المئات مِمَّن خالفوه الرأي في مجمع نيقيه أول مجمع كنسي لاهوتي يجتمع بأمر الإمبراطور الذي كان وثنياً وتحول مسيحياً بالطريقة نفسها التي تحوَّل فيها الوثني شاؤول إلى مسيحيٍ بولس؟(1/42)
متَّى، نفسه، في كتابه ذاته، يقول عن مسيحه عينه إنه قال: قد سمعتم أنه قيل أحِبَّ قريبك وابغض عدوك، أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى من يبغضكم. وصلُّوا لأجل مَنْ يعنَتُكُم ويضطهدكم لتكونوا بني أبيكم الذي في السموات، لأنه يُطلِع شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين (متى 5: 43 ـ 45) حرَّم الغضب مقدِّمة القتل، وحرَّم ـ مسيحهم ـ البغض تربة الشر، حتى بغض الأعداء وأمر بحب الأعداء وجعل ذلك شرط العبودية لله، إذ كلمة ابن في ذلك الزمن الذي كتب فيه متى كانت تعني العبد، وكلمة ابن الله كانت تعني عبد الله. ولكن سبب إيجاد المسيحية وهدف صياغتها أوجب تحوير وتحريف وتزوير معناها بالذي يعنونه. قرار الديوان الكنسي عام 1568 بقتل المسيحيين في بلاد الأرض المنخفضة من أوروبا كان قراراً، بأيِّ مسيحية؟ مسيحية متى في إنجيله تحرِّم ذلك، مسيحية الحبر الأعظم في الكنيسة تحرِّم ذلك، مسيحية التثليث تحرِّم ذلك، مسيحية الصنم المصلوب تحرِّم ذلك! مسيحية الإمبراطور وحده تسمح بذلك، وحدها مسيحية الرومان تسمح بذلك. لا يمكن فهم سبب إباحة ذلك إلا بربطه بسبب إيجاد الرومان للمسيحية، ورعاية نموها، وتبني الإمبراطور لها، وفرض تعميمها على جميع شعوب الإمبراطورية. عندما جاء جنود الرومان، نزولاً عند إلحاح كاهن هيكل يهود كايافاس ـ CAIAPHAS المارق عن دين موسى سلام الله عليه، لاعتقال عبد الله ونبيه عيسى، كان قائد العسكر الروماني شاهراً سيفه فلما وقف في حضرته قال له النبي عيسى كما يدَّعي مرقص في كتابه: رد سيفك إلى مكانه لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون (متى: 26: 52 وما بعدها). نحن نعلم بالبرهان العقلي أن عيسى كان عبداً نبياً مرسلاً من الله، ونؤمن عقدياً أنه جاء بالديانة النصرانية، ونفهم يقيناً واقع مؤامرة سلطات الحكم الروماني بإيجاد المسيحية وترئيس عيسى عليها باسم المسيح، وصياغة أفكار مسيحية(1/43)
مسيحهم الذي صنعوه صنماً إلهاً، طوال عشرات العقود من الزمن بعد رفع الله لعيسى من الأرض، من الأفكار والافتراضات التي تزخر بها وثنيات روما والإغريق والشرق. مرقص أحد الذين كتبوا تاريخ المسيح الذي أوهم بولس الناس به، هل نسيت الكنيسة هذا القول لمسيحهم عندما أمرت محاكم التفتيش الكنسية بقتل مئات الآلاف من المسيحيين لمجرد الشبهة في مخالفتها الرأي في حالة مفترضة افتراضاً في المسيح الذي زعم بولس أنه هبط عليه دون أي دليل؟ الكنيسة اختارت أربعة كتب تاريخية وسمَّت كلاًّ منها إنجيلاً من بين آلاف الكتب التي عُرضت عليها وقُدِّمت من كتّابٍ مسيحيين، الكنيسة هي التي فرضت أن هذه الكتب على ما فيها من تناقض واختلاف أنها مقدَّسة عندها، قبل ذلك لم يعتبر أحدٌ أنها كتب مقدَّسة بل كتب تاريخية من تأليف أشخاص. في هذه الكتب يروون عن عيسى، فقط لإعطاء مصداقية لما يزعمونه عن المسيح الذي لا علاقة له بالمسيح عيسى، إذا كانت الكنيسة تعتبر هذه الأناجيل مقدسةً فعلاً فكيف تتجرأ على مناقضة قول في أقدس لحظات مسيحيتهم، لحظة القبض على (يسوع)؟ أليس من المفترض أن يكون مشهد القبض على إلههم أكثر المواقف أثراً في نفس أي مسيحي، وقوله في ذلك الموقف أكثر المواقف تأثيراً في مواقف الكنيسة؟ جاء الجند للقبض على (يسوع) الذي جعلوه فيما بعد إلهاً في صنم ليقتلوه وهو أهم حادث في تاريخ مسيحيتهم فيقول بسماحة مذهلة لا حاجة إلى شهر السيف يكفي أن تشيروا علي بالمشي معكم لملاقاة حتفي. في مواجهة جريمة قتله لا يرد، لا يعارض، لا يفاوض، يسلم نفسه، أما الكنيسة فمجرد الشبهة بمخالفة فرد أو مئات الآلاف لرأي تبنَّته بالتصويت لا بحجة دليله ولا بقوة برهانه، بل بطريقة التصويت نفسها على إباحة اللواط في برلمان الإنكليز، أو طريقة التصويت على إباحة عبادة الشيطان في أمريكا، أو طريقة إباحة الزنا في فرنسا، بنفس الطريقة أقرت الكنيسة رأياً تبنَّته وفرضته مقدساً.(1/44)
كل من أراد مناقشته أو إعادة النظر فيه لأنه يخالف ما تعلموه عبر عشرات ومئات السنين، أمرت الكنيسةُ بقتله! كيف يفسِّر مسيحيُّ اليوم، إذا كان عاقلاً راشداً عدلاً سبب جريمة الكنيسة بقتل آلاف وملايين المسيحيين الذين خالفوها الرأي؟ قد يظن البعض بعد حيرة طويلة في السبب أن الكنيسة نسيت موقف (يسوع) في الانقياد للجنود الذين أخذوه ليقتلوه، لكن هذا ظنٌ موهوم للخروج بالكنيسة من مأزقها حتى لا يكفر بها، إذ كيف يكفر بها ولا يملك بديلاً عنها يتمسك به ينقذه يوم الدينونة. الذي يوجِدُ الأعذار للكنيسة التي كفرت حتى بما اعتبرته وأمرت به أن يكون مقدساً ليس إنساناً عاقلاً راشداً عدلاً، لذلك لن نتوقف للرد عليه. بعضٌ آخر، بعد حيرةٍ أطول في عقله، قد يصل إلى الظن أن الكنيسة خالفت نصوصها المقدسة، وبسبب ما كتب رجالاتها عن اعترافات أسياد الكنيسة عن مخالفتهم للنصوص المقدسة وما أدى إليه من سوء تصرف في بعض الأحيان، وفي بعض القضايا، صدَّق هذا المحتار أن الكنيسة نادمة، وصدَّق أنها أخطأت فوصل للاقتناع أن سبب جرائم الكنيسة التي لا تُحصى ولا يمكن حصرها ولا حتى بآلاف المجلدات كان مخالفة للنص المقدس الذي هو أساساً من صنعها. تائه حائرٌ في واقع علاقة الحياة بالموت، ضائع خائف من انقطاع حياته عن بعثه يوم الوقوف بين يدي الله الخالق ليحاسبه على كفره وإيمانه، خائف من عذاب الله أضاع عقله في خوفه، يفترض كما يظن عَبَدَةُ جوبيتر أن إلهه سينقذه من عذاب الله في الحياة الآخرة فيزداد تمسكاً بشبكة العنكبوت التي وقع فيها. ظنُّ هذا أوهَنُ من ظنِّ الأول، كلاهما يلتمِسُ لنفسه عذراً من إنكار قدسية الكنيسة والارتقاء إلى مستوى مسؤولية الشهادة بالحق. الذي يمنع المسيحي أينما كان من إنكارٍ مطلق للكنيسة لأن كل الخيارات البديلة للمسيحية، وكل الأفكار التي بمتناول يده أن يفهمها، هي بدائل وثنية يعتقد أنه يحتقرها في ذاته ولكنه يحتقرها بقوله لا(1/45)
في ذاته، لهذا لا يلحظ أنه يعيش في ذاته وثنية ليست أقل هولاً ولا أكثر سخافة من تلك الوثنيات التي يحتقرها.
البديل الوحيد لتخبط المسيحي هو البديل الوحيد لكل وثنيات الدنيا، مفكِّروا أوروبا عملوا لكي يكون البديل للأوروبي في إحباطه في مسيحيته هو الديمقراطية. اليوم، يرى الأوروبي أنه محبطٌ في طريقة العيش الديمقراطي، مفكِّرو أوروبا بعد أن انقرضت منها طبقة الفلاسفة بجفاف تربة العقل من السقاية الشيطانية بدأوا يفلسفون الإحباط في الأوروبي حتى لا يروا إخفاقهم ولا يعترفوا بجهلهم. يستمرون في شعوذة القول لأنهم لا يرون البديل. جربوا، وسمحوا للناس، وأثاروا الأجيال جيلاً بعد جيل لتجربة كل الوثنيات علَّهم يلحظوا بصيصاً في أملٍ بإنقاذ الأوروبي من كبوته الفكرية. يأس الأوروبي من الكنيسة وكفره بالمسيحية مَنَعاهُ من ملاحظة المؤامرة عليه بالديمقراطية حتى لا يتمرد على السيطرة عليه وعلى نظام ترويضه حيواناً داجناً في عمله ومسكنه، اليوم لا يوجد في الأفق إمكان صياغة مؤامرة جديدة تنقله من واقعٍ في عبوديةٍ إلى واقع آخر في العبودية، حيرة الأوروبي ليست حيرة فرد بل حيرة الجنس البشري. بديل الإحباط في المسيحية هو بديل الإحباط في الديمقراطية، وهو بديل الإحباط في كل وثنية، وفي كل ضياع، وفي كل كفر. بديل الأوروبي في أيديولوجيته اليوم ممنوعٌ عليه أن يفكر فيه، تماماً كما كان ممنوعاً عليه أن يفكِّر في بديل مسيحيته: إسلام القرآن. تربى في السجن المسيحي على كره الإسلام، ويتربى في سجن طاقة غرائزه، سجن الديمقراطية، على كره الإسلام. الكنيسة لم تسمح له أن يتعرف أو يفهم الإسلام حتى لا تكون الكنيسةُ سجناً بلا سجناء كما أصبحت في بلاد الإسلام هياكل جوفاء. أنظمة الحكم الديمقراطي لا تسمح للأوروبي أن يتعرف إلى الإسلام حتى لا يلحظ لهثه الدائم في الحياة الديمقراطية في خدعة الشبع من الجشع الغريزي.(1/46)
كيف يمكن أن يفهم الأوروبي سبب قتل الكنيسة للمسيحيين، أو سبب قتل المسيحيين الكاثوليك للمسيحيين البروتستانت وكل فريق لا يقل وثنية عن الآخر، ولا يقل تمسكاً بالباطل، يتفاخر بجهله، ويتكابر في عميته، ويتبارى في وحشيته ضد مسيحية الآخر كلما سنحت له الفرصة، إذا لم يهتدِ إلى حقيقة المسيحية في وجودها وطريقتها وغايتها؟ بالأمسِ لم يكن حراً في سلوك طريق الهداية لمعرفة حقيقة المسيحية، كان عبداً يُساط في انقيادٍ للعيش جاهلاً مسخَّراً في عقله وماله وعمره، لعل أحفاده أوروبيي اليوم يجدون له عذراً. اليوم، في ظل ديمقراطية التضليل، ماذا يمنع أوروبيي اليوم من السعي لمعرفة المسيحية في حقيقتها بتجرد ونزاهة، بَعْدَ، كما يعلنون، أنْ طُمِسَتْ في القلوب والعقول؟ لم تجرِ في أوروبا بعد عزل الكنيسة عن دور حكم الناس محاولة لفهم حقيقة المسيحية. جميع المحاولات التي جرت كانت موجهة في انتقاد سخافة الأفكار المسيحية وفساد عقائد المسيحية. أو محاولات جرت في بيان جرائم الكنيسة وجشع بطاركتها وقسوة قلوب أحبارها وخداع كهنتها. أهل الديمقراطية، حكامها، فلاسفتها ومفكِّروها، المخطِّطون والمشرفون على ثورات الديمقراطية منعوا أي محاولة ولو فردية في قرية منزوية أن تبدأ. فهم حقيقة المسيحية اليوم ما زال ممنوعاً، حتى اليوم لا يوجد أوروبيٌ واحد تجرأ وقام وأعلن حقيقة التاريخ في مسيحية الكنيسة التي استعبدت الأوروبيين ما يقارب خمسة عشر قرناً، بعدَ ما يقرب من مائتي عام من تحرر الأوروبي من سطوة الظلم الكنسي يمتنع الأوروبي عن فهم حقيقة سبب قتل جده وأبيه، هل يمتنع أم يمنعونه؟ لا يهمنا في شيء أن نثبت أنهم، حكام الديمقراطية، يمنعونه من فهم سبب قتل الكنيسة لجده المسيحي، المهم أن يفهم الأوروبي أنه حتى اليوم لا يفهم السبب، وأن الأسباب المعلنة والتي كتبوا في إثباتها مئات وآلاف الكتب أسباب تمويهية حتى يستحيل عليه أن يتبيَّن حقيقة سبب مقتل جده(1/47)
المسيحي. لأنه لا يمكنه أن يفهم حقيقة السبب إلا بربطه في حقيقة المسيحية ابتداءً وغاية. والخطر على الديمقراطية، ونظام العيش الديمقراطي، والأيديولوجية الديمقراطية في عقول الأوروبيين، كل الخطر أن يربط الأوروبي فهمه لحقيقة المسيحية بالثورة الديمقراطية، عندها فقط يهتدي إلى حقيقة الديمقراطية وثورتها أنها مؤامرة عليه نقلته من واقعٍ في جهل إلى جهلٍ في واقع، ومن واقع في ضياع إلى ضياع في الحياة، ومن واقعِ خنوعٍ في عبوديةٍ إلى عبودية في نظام!
حتى يفهم الأوروبي سبب ظلم الكنيسة لأجداده، وجشع الكهان في اغتصاب إنسانية الأوروبي بتعطيل عقله، ووحشية البطاركة والأحبار في قتل أتباع غير كنيستهم، لا بد أن يفهم حقيقة المسيحية في سببها وغايتها. هذه الحقيقة هي بالواقع التاريخي للبشرية المؤامرة الأولى على الجنس البشري. نقول إنها مؤامرة تاريخية من حيث إن مؤامرة الرومان المتجسدة بالدعوة للمسيحية استمرت من بداية القرن الرابع الميلادي وحتى بداية القرن الثامن عشر ما يقرب من ألف وأربعمائة سنة، حيث استوجبت ظروف الزمن إعادة صياغة مؤامرة استعباد الأوروبي بتعطيل عقله كلياً. فبعد أن منعت المسيحية عقل الإنسان الأوروبي من ممارسة قدرته الطبيعية في فهم المسيحية طوال مئات السنين بقوة الفأس الكنسي الذي كان يجول لقطع الأعناق التي تتعالى حنجرتها في السؤال، وحِدَّة السيف الكنسي الذي يصول في جزِّ الرؤوس التي تجرأت في طلب فهم المسيحية، جاءت ثورة التحرر من جبروت الكنيسة في قهرها للنفوس بصياغة جديدة لتعطيل العقل في الأوروبي كلياً بإطلاق غرائزه ورغباته لتطغى على براهين العقل وحيثيات التفكير، وذلك بتسخير العقل في إشباع الغرائز والجوعات بديلاً عن عمله الطبيعي في تنظيم إشباعها مباشرةً، أو تخفيف حِدَّتها في طلب الإشباع بموازنة أسباب الإثارة فيها أو لها.(1/48)
أصل المسيحية أنها مؤامرة على جنس البشر في مدى السيطرة الرومانية، لأن قوة الرومان زمن صياغتهم للمسيحية كانت أقوى قوة عسكرية في الجنس البشري. صحيح أنهم كانوا يخسرون حرباً، ولكنها كانت هزيمة جيش من جيوش الرومان، وصحيح أن الفرس كانوا سداً في توسعهم في الشرق إلا أنه لم يكن مقارنة بين موارد القوة في الإمبراطورية الرومانية مع موارد القوة في الفرس، كان الرومان يحاربون الفرس بجيش من جيوشهم وليس بكل جيوشهم. وفي مؤامرة الرومان على شعوب الإمبراطورية بالمسيحية كانوا يأملون أن تكون المسيحيةُ هي الشرك الذي يوقِعُ الفرس في تبعية الرومان. فشل الرومان في نجاح مؤامرتهم في الفرس لم يكن بسبب ذكاء الفرس بل بسبب غباء الرومان. ذلك أن الرومان فرضوا إيمان الناس بالمسيحية بالمكر والخداع والدس، منذ تحول شاؤول الخسيس في شرطة الرومان بإمرة كاهن الهيكل الصدوقي من يهود إلى بولس الذي هبط عليه إله المعرفة، لغاية إعلان قسطنطين إله الرومان تحوله إلى إمبراطور المسيحيين الأول بسبب هبوط إله المعرفة أيضاً عليه، كما هبط على شاؤول عميل الرومان وأجيرهم على إطلاق مؤامرتهم. وقد استمرت فترة المكر والخداع والدس في تمرير المؤامرة الرومانية هذه في نشر المسيحية ما يقرب من مئتين وخمسة وسبعين عاماً، أي منذ ما يقرب من سنة 50 ميلادية، سنة تحول شاؤول الخسيس إلى بولس المسيحي، وحتى سنة 325 ميلادية سنة تحول الإمبراطور إلهاً وثنياً إلى إلهٍ مسيحي. ذلك كان مرحلة الدس الروماني في صياغة المسيحية التي كانت منذ البداية تُعرف بمسيحية بولس لفصلها عن نصرانية المسيح، وكان ذلك الفصل بسبب قوة إيمان تلامذة عيسى عليه السلام وعنادهم على التبرؤ من ديانة بولس وبراءتهم من كفره، ووثنيته، وتحالفه مع الرومان. تلك كانت المرحلة الأولى في الممارسة أما في مجالها فكان محصوراً في القسم الغربي من شرق الإمبراطورية بسبب وقوف الحواريين سداً في وجه بولس منذ(1/49)
البداية ما منع أتباعه تقليدياً من إمكانية تجاوزهم للعمل في بلاد الفرس. خاصة وأن دعاة المسيحية صُبِغوا منذ اليوم الأول أنهم عملاء السلطة الرومانية ما كان يعني الموت المحتم إذا قُبِضَ عليه في بلاد الفرس. وكان من شأن المرحلة الأولى في الممارسة والمجال أن فُرِضَ الحائل التاريخي بين المسيحية والشرق أبدياً. ولست أرى سبباً في ذلك الخطأ التاريخي إلا عناد الرومان في الاستعجال في السير بالمؤامرة مهما كانت العواقب التي كان الرومان يعتمدون على حلِّها في حال تعقدها المستعصي على تغيير الظروف بالقوة العسكرية. إذ، قليل من قادة الرومان أمثال أوغسطوس الذي كان يرى في تلافي الحاجة إلى الحسم العسكري، حيث أمكنَ، بعداً أعمق في التاريخ. غيرنا، قد يقول إنه غباء، من يقول ذلك يغفل شراسة صراع الحواريين تلامذة النبي عيسى رضوان الله عليهم في محاربة كفر بولس بدين النبي عيسى ووقوفهم المستميت بوجه محاولاته لطمس تعاليم عيسى وتحريفها وتبديلها بمعارف غنوصية، وثنية، وهلينيَّة. كذلك، من يقول بغباء الرومان بدل استعجالهم للسير بالمؤامرة اعتماداً على الحل العسكري في النهاية، يغفل حقيقة احتقار يهود لبولس ودعوته التي هي ضد تعاليمهم أيضاً وأثر ذلك الاحتقار في صدود مجاوريهم من الأمم الوثنية في عدم التجاوب مع بولس أولاً والدعاة من بعده عبر الزمن.(1/50)
المرحلة الثانية بدأت في السنة التالية لترائي الإله المسيحي على الإله الوثني قسطنطين بالأمر الأول بالقتل الجماعي لمخالفيه ـ والأصح القول بقولهم القتل الجماعي لمخالفي الكاهن الذي عينه الإمبراطور لسوق المسيحيين في عبادة الطاعة للإمبراطور ـ في مجمع نيقيه الذي عارض اقتراحه الأول بالتثليث وأصروا أن قد كان الأب إذ لم يكن الابن وأن الأب وحده الله. فأمر أمره المسيحي الأول في عام 325 ميلادية بنفي وتشريد وصلب وقتل أو تقطيع تسعين بالمئة من المجتمعين ولم يسمح بالبقاء إلا للذين خضعوا لمشيئته في إقرار التثليث المبهم وعددهم يقارب المئتين من أصل 2048 كاهناً وداعياً ومبشِّراً مسيحياً، معظمهم لم يفهم بوضوح حقيقة الفكر التآمري في المسيحية الرومانية فأخذوها أخذاً وثنياً مسيحياً لا مسيحياً رومانياً، فاختلط عليهم الأمر وتاهوا عن البعد الروماني في المؤامرة المسيحية. وهكذا استمرت هذه المرحلة فيما عُرِف فيما بعد بالكنيسة الكاثوليكية حتى زوال سلطتها، مرحلة قتل وتشريد ونفي كل مخالف استمرت من أول إمبراطور مسيحي وانتقلت إلى أول كاهن مسيحي روماني حاكم وحتى عزل الكنيسة وجزاريها عن السلطة المباشرة.(1/51)
هذا العمل الأول، فهمه، يلقي الضوء على فهم سبب مبادرة الرومان في مؤامرتهم المسيحية. واقع الخلاف في مجمع نيقيه هو غير حقيقة الخلاف. واقعه لا يستوجب هذا القتل الجماعي إذ الخلاف بقي محصوراً بين وثنيين وفي أفكار وثنية وكلها أفكار افتراضية وليست أفكاراً واقعية. آريوس، المخالف، لم يعترض على ألوهة الصنم ولا على عبادة الصنم، ولم يعترض على أبوة الأب ولا على ألوهة الابن، ولا على فكرة الأب والابن، ولا على فكرة التناسخ الإلهي، آريوس كان في كل هذا وثنياً ولكنه وقد كان باراً محباً لأبيه رأى أن الإله الابن لا بد أن يكون باراً بأبيه الإله، لأن البر فضيلة طبيعية في الإنسان وفي رأيه كل فضيلة طبيعية في الإنسان هي امتدادٌ أو جزءٌ من طبيعة إلهية. لذلك، يستحيل عند إله آريوس أن لا يكون باراً بأبيه. ولما كان البر يلزم أن يكون مظهره في أهم المظاهر وجد آريوس أن الابن يجب أن لا يجلس حيث يجلس أبوه، أو يزاحمه كرسي الألوهية التي بسبب تفاهته لم يرَ كما رأى الإمبراطور أنها تتسع لاثنين! فما كان منه ـ من آريوس ـ إلا أن أصر على أن الابن البار ـ وهو المسيح الصنم ـ يأخذ من أبيه الألوهة ويطيع أباه الإله ويرضى أن يبقى صنماً بدون سلطة الألوهة ما دام أبوه حياً. آريوس في صنميَّة إلهه لم يكن أكثر سخفاً من وثنية الألوهة التي أراد الإمبراطور فرضها على كهان المسيحية في مجمع نيقيه. لم يستوجب الخلاف النظري قتل القوي للضعيف، أو قتل صاحب السلاح لعديم السلاح، ولا يستوجب قتل كاهن فكيف بعشرات مئات الكهنة. فلا بد أن حقيقة سبب القتل غير واقع سبب القتل.(1/52)
الحدث نفسه، حدث مجمع نيقيه، حدثُ موضوعِ الخلاف، حدث المجزرة، كله حدثٌ واحد يُظهر أن الموضوع لا يتعلق في بحث ألوهة صنم بل في ما كانت عليه القضية في الواقع. القضية في واقعها قضية طاعة الإمبراطور، أو عبودية الطاعة للإمبراطور أن تكون جزءاً من عقيدة الدين المسيحي أو لا، آريوس لم يشكك بألوهية الابن بل كرَّسها ولذلك رآهُ عنواناً لبر الابن بأبيه، لم يستطع أن يرى إلهه ابناً عاقاً يزاحمُ أباه. هل يجوز لكاهن أن يكون له رأي غير رأي الإله الإمبراطور؟ في رأي الإنجيل وفي رأي بولس: لا، لا يجوز، إذ الرأي الأول والآخر صاحب الحق الإلهي الحاكم! آريوس، لعنه الإمبراطور كما لعنه الله بكفره، وجده الإمبراطور مذنباً بجريمة الكفر في قدسية الطاعة للإمبراطور وليس مجرماً في عدم طاعة الإمبراطور. آريوس، على تفاهته، كان مقتنعاً أن المجمع هو مجلس نقاش وبحث حقيقي، لم يرَ أبعد من أفق منخره، صدَّق أنه يمكن له كما كان لبولس سلطة إقرار صفة من صفات الفضيلة على إلهه. لم يرَ أنه أول عملٍ يقوم به الحاكم المسيحي الأول لإثبات وإقرار سلطته على الكنيسة والكهان وإلباس سلطته اللقب المقدس إمبراطور الكنيسة أي سيدها الأوحد أبدياً. لم يرَ ـ آريوس ـ أن المجمع هو لإعلان قدسية الإمبراطور وحقه المطلق في صياغة شكل الإله ودوره وسلطته. الأبله ـ آريوس ـ ظن أو صدَّق أن المجمع يُعقد بأمر الإمبراطور لتبادل الآراء في حقيقة الإله الذي اشتغل الرومان ما يقرب من ثلاثمائة عام في إقناع الناس بحقيقة المسيح الذي كانوا يعدِّلون في صياغة ألوهيته كلما اقتضت ظروف مراعاة شروط الوثنيين الجدد في ما يجب أن يكون عليه الإله المشترك، إذ فكرة المسيح الإله الابن من إله أب فكرة مشتركة كانت سائدة في جميع الوثنيات، وإن كانت فكرة الإيمان بألوهيته الهابطة أنها وحدها تُنقذ من الجهل والعذاب وتغفر ذنوب جميع المعاصي فكرة غنوصية خالصة.(1/53)
القضية في مجمع نيقيه أن الإمبراطور قسطنطين كان يعتبر موقعه سليل الأباطرة الذين أوجدوا المسيحَ إلهاً، فهو في حقيقة التاريخ وريث الإمبراطور صانع المسيح الإله الابن المصلوب، وصانع رواية الإله الابن العاق وخرافة الابن المخلوق في الأزل من الأب. أبله الكهان آريوس أراد أن يكون إلهاً مثل الإمبراطور، يصنعُ إلهاً! عارض صنيع الإمبراطور صنم الإله الابن العاق وبَدَّلَهُ بصنم الإله الابن البار! لم يغير في الصنم أو يقترح تعديلاً في عدد أصابع قدم الصنم التي أبقى عليها خمساً، أو تقصير قطعة القماش التي تغطي عورة الصنم إذ كانت قطعة القماش التي تغطي عورة الرجل بالغة الأهمية عند الأباطرة الرومان، لأنها كانت تمثل إخفاء لذكورة الرجل أنها في رجولة أو أنوثة، كان اللوطي منهم أكثر حرصاً على ستر عورته حتى لا تُرى حقيقته، وكان الرجل منهم أكثر اهتماماً على ستر عورته حتى لا يُعرف بذكورته بدل شجاعته، فقد كانوا يقدِّرون الشجاعة أكثر من الذكورة. القضية في مجمع نيقيه قضية إقرار من هو صاحب القرار الإلهي في الإمبراطورية، فإن طغت سلطة الكهان على سلطة الإمبراطور سقطت ألوهة الإمبراطور بين أرجل الكهان، وإن ثبت الحق الإمبراطوري بقي الكهان بين قدمي الإمبراطور. كان من الطبيعي أن يخنع كهان الكنيسة في طاعة أحكام الإنجيل وتعاليم شاؤول الذي غيَّر اسمه إلى بولس ويرضون بقدسية ألوهية الإمبراطور. أول مجمع للكهان في تاريخ المسيحية رفض الانصياع في ذل الخنوع للإمبراطور كما فرضته كل أناجيلهم، وكما فرضه بولس في كل تعاليمه. كهان نيقيه أرادوا أنفسهم صانعين لإلهٍ بار. لم ترضَ نفوسهم النجسة بإلهٍ ابنٍ عاق، إذ كيف يستطيع ابنٌ إلهٌ عاقٌ أن يطهِّر الرِّجس في نفوسهم، كانوا يعلمون أنهم أنجاس فأرادوا صنع مطهِّرٍ لهم. وقد وقفوا في ذلك الموقف يستمدون قوتهم من عراقة آريوس في مهد التثليث الإلهي، بل أحد أهم مراكز التثليث في الأمم الوثنية: مصر(1/54)
الفرعونية. آريوس، وثنياً من مصر، كان دائم التفكير بثلاثية آلهة فراعنة مصر، كان يرى فيها خلطاً، ويرى فيها عجباً، ويرى فيها تناقضاً. لما أدرك ثلاثية بولس في مسيحيته التاريخية لَحَظَ فيها تناقضاً خليطاً عجيباً فأراد تصحيحه حتى لا تصير المسيحية إلى ما صارت إليه ثلاثية الفراعنة من زوال بفعل عواملها الذاتية. لما أعلن تصحيحه عارضهُ مَنْ حولَهُ، عندها، تذكَّر سَحَرَةَ فرعون وإفلاسهم في حضرة الحقيقة. سَحَرَةُ فرعون لما رأوا ما فعل موسى أدركوا حقيقة موسى أنه على يديه أجرى الله مثلاً على قدرته، قدرة الله تجلَّت في كشف خداع السحرة، سبحانه ما أرحمه، لم يبطش بهم بل أجرى الحقيقة في عيونهم وعيون نظّارهم. لم يكن أمام السحرة الخيار بعد أن كُشِفَ عنهم حجابُ ستر الحقيقة إلا أن يروا الحقيقة. في غمزةِ الخاطر خرُّوا ساجدين حمداً لله أن كشف عن عقولهم حُجُبَ الوهم والخديعة، هم كانوا يصدقون ما يرون وهماً أنهم صنعوه، الله سبحانه أراهم أنهم لم يصنعوا شيئاً، أراهم أنهم يتوهمون صنعاً. كسحرة فرعون ظنَّ نفسه، أنه كُشِفت له حقيقة الابن المصلوب إلهاً باراً وليس إلهاً عاقاً. كسَحَرَةِ فرعون أراد التمرد على ألوهة القول في أمر الإمبراطور. توهَّم رؤيا فانتصب عنفوانه في السير بها مستمداً قوة في الاقتداء في أبرار موسى الذين هُم مِنه أبرياء، أولئك رضوان الله عليهم سجدوا لله لما رأوا برهان ربهم، هذا أراد تغييراً في معدن إلهه باراً بدل عاقاً! آريوس كان من الشرق الحافل بتتالي أنبياء الله، وبتراث البر الذي كانوا يدعون إليه سلام الله عليهم أجمعين، كانوا يدعون إلى البر بعهد الله في توحيد طاعته، وعهد آدم في توحيد عبادته سبحانه، وعهد الإنسان، كل إنسان، بالوفاء بعهد الوفاء لله على أنعمه ببر الله في كل قول وعمل كما يأمر الله به مع كل نبي. البرُّ تراث عميق الجذور في أهل الشرق، أهل مدائن الأنبياء. لم يستطع آريوس أن يتنكّر(1/55)
لأصل كل الفضائل في ديانات الله: البر بعهد الله ومنه البر بالوالدين. آثر أن يتشبَّه بالذين آمنوا في حضرة فرعون دون أن يلحظ أن أولئك آمنوا بالله الحق، انتقلوا من كفر فرعون إلى إيمان توحيد الطاعة لله، وأنه لم ينتقل من كفر إلى كفر حتى، بل غرق في الكفر إلى قعرٍ أذل: بدل أن يكون كافراً يلحق بحاشية الإمبراطور مرفوع الرأس بين أترابه من رجال الكنيسة عبيد الطاعة لقسطنطين، اختار أن يكون مقطوع الرأس كافراً ينتظر قيام الساعة التي يُقذفُ بها في سعير الجحيم مع الذين قتلوه وتآمروا على تغيير وتزوير وتحريف دين عيسى عليه السلام.(1/56)
واقع الحدث في مجمع نيقيه وقضية مجمع نيقيه لا يستوجبان هذا القتل والنفي والإذلال والحرمان الذي تبعه. وثنيون يقولون إن الابن إلهٌ قبل أن يولد وآخرون وثنيون يقولون إن الابن إلهٌ بعد أن وُلد، أو ابنُ إلهٍ يكون إلهاً في غياب أبيه أو بعد موت أبيه. وثنيون يقولون إن الابن عاقٌ يحكم بوجود أبيه وآخرون وثنيون يقولون بل الابن بارٌ لا يتجرأ على التطاول على سلطة أبيه ودوره. هذا تنافس على تمجيد الابن، هذا تفاخر في صفات الابن، هذا ترسيخ لوثنية الأب، وتأكيد لصنمية الاثنين، ومغالاةٌ في طمس حقيقة الألوهية في الوجود، هذا تطاول على الألوهية بإخضاعها لما يريده الإنسان لها، وإذلال لها بفرض مشيئة الإنسان على تشكيلها، هل الإله يشكِّل المخلوق الإنسان أم الإنسان يصوغ شكل الإله الخالق؟ هذا استعباد للإله، تحقيرٌ له وتسفيه! هذا يعني أن الإنسان هو الذي أوجدَ الإله المزعوم أباً كان أو صنماً! هل المسيحيون بولس ولوقا ومرقص هم الذين أوجدوا هكذا إله يُختلف على حقيقته وشكله ودوره؟ لِمَ لَمْ يحدِّدوا هُم حقيقة وشكل ودور وأصل الإله الذي قالوا للناس عنه إنه إله؟ هل كانوا هم يجهلون أصل إلههم؟ هل كانوا هم يجهلون كيف يجب أن يكون دور المسيح إلههم؟ وكانوا يجهلون علاقة الابن بأبيه؟ هل أرادوه حقاً ابناً عاقاً بأبيه كما جعلوه ابناً عاقاً بأمه؟ لماذا كانوا لا يفرِّقون بين البر والعقوق؟ لماذا لم يلحظوا أنه من المهين المذل أن يكون إلههم عاقاً؟ لماذا أرادوا وأصروا أن تكون صفة الإله الابن أنه عاقٌ بأمه أولاً ثم بأبيه؟ لماذا عجزوا عن معرفة دور الأب في الوجود منفصلاً عن دور الابن؟ لماذا عجزوا عن توزيع الصلاحيات عليهما؟ لِمَ أعطوا كل سلطات الألوهة للابن؟ لِمَ جعلوا صنماً للابن وحده؟ لماذا يركعون لصنم الابن وحده؟ لماذا لا يركعون لذكر الأب إذا عجزوا عن إيجاد صنمٍ له؟ لماذا في تقديسهم للابن إلههم يأكلون لحمه ويشربون دمه، هل لأنهم(1/57)
يعلمون أنه إله بالوهم لا بالحقيقة؟ هل لأنهم يعلمون أنهم هم أوجدوا هذا الابن ولذلك هم قادرون على إفنائه بالتهامه رمزاً واستحضاره صنماً في كل حين؟ ماذا أرادوا غير تسفيه الإنسان في عقله، وتحقيره في وجوده، وتسخيره في حياته؟
الواقع والقضية غير الحقيقة في سبب القتل والتشريد والحرمان الذي فرضه قسطنطين على المسيحيين الكهان أعاظم علماء لاهوت وناسوت بولس ولوقا. سبب إيجاد الرومان للمسيحية هو سبب القتل والتشريد كما أن العكس صحيح، سبب جريمة قسطنطين هو سبب المسيحية.
الرومان لم يستطيعوا تحويل الشعوب المُستَعمرَة إلى شعوب رومانية لسببين:
الأول: أن مساواة المغلوبين المستعبَدين بالمنتصرين الأسياد كان يمكن أن يُبطل مبرر وجود الإمبراطورية الرومانية في الأساس.
الثاني: أن الشعوب المقهورة كانت ترفض باستمرارٍ رومانيتَها حتى بالخضوع بالقوة.
تاريخ الإمبراطورية الرومانية في مسرح الزمن تاريخ حروب، وقضاءٌ على ثورات، وإبادة قبائل وشعوب وَمَواطن. تاريخ عصابة من اللصوص، تسرق، فإن عورِضت أو جوبهت قتلت ودمَّرت وسحقت. منعُها من السرقة كان معصية للإمبراطور، جحوداً بنعمته أن لم يُقتَل قبل أن يُسرَق، وكفراً بألوهته أنه يُبقي الحيَّ حياً في عبوديته. قوتها اعتمدت على منع أحد من سرقتها، واستمرار زيادة قوتها اعتمد على قدرتها في سرقة غيرها، لم تكن يوماً أكثر من أمة من اللصوص.(1/58)
الرومان، كانوا يحلمون أن يسرقوا دون معارضة المسروق منه. لم يهتدوا إلى هيكلة الأمم المتحدة التي تفرض على السارق أن يرضى بسرقته وليس أن لا يعارض سرقته. كانوا، أبالسة أيامهم، يحلمون بعالم في وَهْمٍ تخيلوه أن تكون فيه أرواح الناس، أجسادهم وممتلكاتهم، تُقدَّم طائعةً في ذلّة لتكريس سموِّهم وتعاليهم. حاجة الرومان إلى وقف قتل غيرهم لم تكن رحمة بغيرهم بل رحمة بذاتهم. القتل لم يكن هدفاً رومانياً تماماً كما القتل ليس هدفاً لجيوش الأمم المتحدة وتماماً كما لم يكن لجيوش الإنكليز وجيوش الفرنسيين عندما احتلت بلاد المسلمين. السرقة، النهب كان سبب القتل عند الرومان كما هو في جيوش اليوم، قتل الرومان كقتلِ اليوم، هو قتلٌ لمن يمنع أسياد القوة: رومان، إنكليز، أمريكان، من السرقة.(1/59)
الرومان، بعد قرون من القتل من أجل السرقة أدركوا أن قتلهم غيرهم للسرقة يسرق منهم روح الإنسان. الإنكليز والفرنسيون والأسبان والهولنديون وعصابات عرقية أخرى مثل البرتغاليين والعرق الجديد الذي عُرِف بالإيطاليين لم تسنح لهم فرصة الإحساس أو الاهتداء إلى حقيقة موت روح الإنسان فيهم، ليس لعدم وجود مقياس معرفة موت الروح في ثقافتهم بقدر ما هو لانشغالهم بالتزاحم على سرقة ما كانت تسرقه الإمبراطورية الرومانية وحدها. حتى برزت أمريكا اليوم، منذ خمسين عاماً، بعد أن فرضت نفسها الدولة الكبرى وريثة الحق في شرعية لصوصية الإمبراطورية الرومانية بفلسفة تفصل بين السرقة والقتل بتحويل السرقة إلى نظام سياسي يلف علاقات جميع الدول وشعوبها. فلسفتها تقترح أنها تؤدي إلى عدم نجاح المقهور الذي يُسرَق في عقله وماله ودينه كل يوم في سرقة روح الإنسان من سارقه! فلسفة النظام الأمريكي للعالم تعتمد على أن سبب نجاح المقهور في عقيدته وحريته ورزقه في سرقة روح الغاصب أن الغاصب كان يعتمد القتل سبباً في غصبه. أما إذا كان غصباً بقوة نظام وفرض علاقة وخداع مقاله فإن المغصوب ليس لديه حجة سلاحاً، ولو وَجَدَ لما وَجَدَ مغتصباً مسلَّحاً بل شبحاً: أسطرٍ على ورق. خطتها تفترض أن المُغتَصَب يعجز عن سرقة روح الغاصب، لأن الغاصب ضائع في نظام الغصب الجديد. فقد تحول من فرد رئيس دولة إلى فرد في نظام أمة، الغاصب في النظام العالمي الجديد ضائع بين الملفات واللجان وأزقة مباني الأمم المتحدة.(1/60)
قبل استعماريِّي اليوم، الرومان أرادوا مثل جميع الدول الاستعمارية خطة يسرقون بها شعوب العالم تمنع الشعوب المنهوبة من التأثير في روح الرومان وسرقتها. خطتهم كانت أذكى من خطة اليوم، نجحوا حيث أخفقت. خطتهم كانت تقضي بتوحيد عقيدة الشعوب التي تنهبها، توحيد عقائد الشعوب الوثنية في عقيدة شاملة تهضم كل الوثنيات وتصهرها في عقيدة دينية واحدة تلغي فوارق الأعراق وتطمس على العقول لتمنعها من التمييز بين الغاصب والمُغتَصَب، وتسدُّ منافذ الإحساس بالقهر والاستعباد والتسلط على النفوس والعقول والأرزاق.
سبب إيجاد الرومان للمسيحية هو توحيد شعوب الإمبراطورية بدين جديد يمنع الإحساس بظلم الرومان، ويُبَدِّلوا سرقة الرومان لخيرات الشعوب بمبادرة الشعوب لتقديم خيراتها إلى الرومان آلهة الدين الجديد بلباس حُماتِه. وبذلك تحوَّل قتل الروماني لغيره من قتل للاستيلاء إلى قتل للتقديس! ومن هنا كان القتل في مسيحية الدولة الرومانية ووريثتها الكنيسة المسيحية قتلاً مقدساً. القتل للتقديس كان واقعه عند الرومان قتل من يعترض على أنه مِلكُ القيصر عقلاً وروحاً ومالاً، تماماً كما كان القتل المقدَّس عند الكنيسة قتل من يعترض على تسليم عقله وروحه وماله للكاهن!(1/61)
خطة الرومان في تحقيق هدفهم بتوحيد شعوب الإمبراطورية في عقيدة دينية تستعبدهم وتستغلهم في عقولهم وأرواحهم وأرزاقهم كانت حاذقة بارعةً خارقة الذكاء. توحيد الشعوب في ديانة من صنع المطبخ الشيطاني في قصر الشيطان الإمبراطوري، طريقة شيطانية خارقة ـ تشابه معاهدة التجارة العالمية اليوم ـ لتحقيق هدف الرومان بتوحيد الطاعة لهم! وأي طاعة؟ طاعة مقدسة، ليس للإمبراطور وحده بل لجنوده وموظفيه كهنته. توحيد الشعوب لم يكن هدفاً بل توحيد الشعوب في الطاعة للرومان، تحويل طاعة الشعوب من طاعةٍ في عبودية إلى طاعةٍ في عبودية مقدَّسة حتى يتوقف نزف التمرد النفسي في الشعوب المقهورة، ويتوقف نزف الثورات المتنقلة في شعوب عبيد الإمبراطورية.(1/62)
الحلمُ الكبير، حُلُمُ الرومان لم يعمِ بصيرتهم ـ كما يعمي حلم الأمريكان بصيرتهم ـ عن وجوب مطالبة الشعوب للرومان بالقبول أن يتحولوا من أسيادٍ آلهة بالقوة إلى أسيادٍ آلهة بالتقديس! لم يفرضوا مسيحيتهم قبل أن يجعلوا لها أنصاراً، لم يظهروا أنهم أصحاب مؤامرة بولس نبي المسيحية على عيسى نبي النصرانية، تركوا فكرة الديانة الجديدة تنمو نمواً طبيعياً، أرادوها مخلوقاً طبيعياً يكبر ويتكاثر بذاته. قذفوا بعميلهم شاؤول، اقتبسوا فكرة الوحي من الله على عيسى، حوَّلوا الوحي الإلهي إلى إله، ألبسوا الوحي غنوصية، حوَّلوه إلى إلهٍ للمعرفة، أهبطوه على شاؤول، غيَّروه إلى بولس، أعلنوه نبياً للمسيحية، حموه لأنه خليفة عيسى الذي قتلوه! تركوا بولس يترعرع في لباسه المسيحي. بولس كان أضعف من الفكرة الهدف، بولس أخطأ بدمج الفكرة المسيحية بهدف الرومان، كاد يكشف سر الخطة، فشل أن يكون بمستوى الهدف، استعجاله ألَّبَ الناس عليه، ناسُ ذلك الزمن الذي كان يُفتَرَضُ أنه ينطلق منهم كانوا إما يهوداً أو نصارى أتباع تلامذة عيسى النبي عليه سلام الله رَبِّهِ وإلهه الأوحد. اليهود، عرفوه عميلاً للرومان، جاسوساً على النصارى، وثنياً في عبادة الطاغوت الروماني. منعوه من مكالمتهم ومن الكتابة إليهم، اعتزلوه بداية ثم طردوه بالكلية لاحقاً من معبدهم، لحقوا به حسداً من عند أنفسهم أن شرَّه المستطير يبدو في الأفق أقوى من شرِّهم في الحاضر. النصارى حاوروه فاكتشفوا كفره بعيسى ونصرانية عيسى. واكتشفوا مؤامرته في سرقة عيسى ونصرانية عيسى، في سرقة المسيح من عيسى وتحريف نصرانية عيسى، واكتشفوا مؤامرته في التلبيس على عيسى في النصرانية والتلبيس على النصرانية في عيسى. اعتزلوه، ثم لاحقوه في محطاته في الأمم ليبينوا زيفه، ويعلنوا براءة عيسى منه، وبراءة النصرانية منه، وبراءتهم منه. أفسدوا عليه دوره، أفشلوه في دعوته، ألَّبوا حتى الوثنيين عليه. لما أدرك(1/63)
الرومان أن النصارى سيصيبون من مسيحية بولس مقتلاً عزلوه، أخفوه، محوه من الوجود! بولس، فهم الخطة الرومانية ووعى هدف الرومان في خطة المسيحية ولكنه لم يستوعب طريقة الرومان في تحقيق هدف الخطة. ليس هذا غباء فيه، أو منه، بل برهانٌ أنه لم يكن صاحب مسيحيته، لا صاحب الخطة ولا صاحب الهدف، بل مأمورٌ بهدفٍ وخطةٍ في فكره. صاحب الفكرة وحده يستوعب الخطة والهدف والطريقة، صاحب الفكرة وحده يلاحظُ الخلل في المسيرة، يرى المطب من بُعدٍ بعيد، يحتاط للفشل القاتل بطيئاً أو مفاجئاً. يصحِّح المسار دون تردد أو إشفاق، دون حساب لثمن أو أرواح، بحزم القرار وهدوء الزمن. ذاك كان قرار الرومان بعزل بولس الذي كاد، بجهله، أن يصيب خطة الرومان مقتلاً. وذاك كان قرار الرومان بقتل وتشريد ألف وثمانمائة كاهن ولاهوتي عارضوا في مجمع نيقيه لأنهم توهَّموا أن المسيحية دينٌ لهم أو منهم.
سبب القتل، قتل الحاكم المسيحي للمسيحيين، هو سبب إيجاد المسيحية، بل سبب إيجاد الرومان للمسيحية. الرومان أوجدوا المسيحية ليوحِّدوا الشعوب في صيغة العبودية المقدسة للرومان. فأي معارضة من مسيحيين لحامي إله المسيحيين يعني التمرد على سبب إيجاد المسيحية، لذلك كان القتل فردياً، جماعياً ودائمياً في التاريخ المسيحي بدون رحمة، لأنه مقدَّس، بل إن معارضة أو مخالفة الإمبراطور أو جابي الإمبراطور أو خسيسه هي ضرب لأقدس مقدسات المسيحية، وهدم لأساس بنيانها، وتضييع لسبب وجودها. وهذا وحده يفسر جميع أسباب الحروب المسيحية والقتل النظامي للمسيحيين الذين صدَّقوا الكذاب وفي سذاجتهم صدَّقوا أن الخدعة حقيقة.(1/64)
المسيحية مكيدة الرومان الكبرى في التاريخ لإيقاع شعوب الإمبراطورية الرومانية في شباك الرق الأبدية لم تقع فيها إلا الشعوب الأوروبية التي ما زالت تائهة في سبب وجودها في الحياة، خدعة لم تنطلِ عليهم بسهولة. فقد قاوموها طوال ما يقرب من ثلاثة قرون حتى قرر الإمبراطور الإله قسطنطين أنه آن الأوان ليعلن أن الإله أو ابن الإله كما يسمونه قد هبط عليه ونصره وطلب منه أن يكون حامِيَهُ، فلم يستطع الإمبراطور الإله الوثني، وهو المفترض أن يكون شهماً، إلا أن يوافق على أن يحمي المسيح المصلوب عندهم أبداً. عندها، لحق به من حاشيته وأتباعه من كان في نفسه يحتقر وثنيته ويريد الخلاص منها، أما أكثرية الناس المطلقة في شعوب الإمبراطورية فبقيت وثنية. لم يفرض على الشعوب أن تتحول إلى المسيحية بل عمد إلى إجراءين بارزين سار عليهما جميع الأباطرة من بعده طوال مئة وعشرة أعوام حتى مجيء الإمبراطور ثيودوس في سنة 438. الإجراء الأول بناء كيان خاص للمسيحيين في الإمبراطورية، عمد إلى بناء الكنائس وإعفاء رجالها من الكهان من الضرائب، وتنمية إدارة المحاكم، وإقرار الأحد عطلة رسمية. الإجراء الثاني التركيز على تحديد المسيحية وقتل المسيحي الذي يخالف الديانة المسيحية التي يصوغها الإمبراطور، دون أن يتعرَّض بالقتل لمن لا يؤمن بمسيحيةِ الإمبراطور. عجباً، أن لا يتوقف المؤرخون عند هذين الإجراءين، ولا يفهمهما أو يفسرهما أحد! الإجراء الأول هو إجراء تشكيل عصابة فكرية قوية حول الإمبراطور وليس إجراء نشر ديانة جديدة، والإجراء الثاني تولي الإمبراطور مباشرةً وبنفسه صياغة العقيدة المسيحية التي يستولي بها على عقول وقلوب وأرواح وأجساد وأموال المسيحيين. كلاهما ليس لإيجاد مؤمنين، الأول صناعة حبل قوي بل سلسلة حديدية لربط المؤمنين بها، والثاني لتفريخ مؤمنين بما يأمرهم بالإيمان به، صيغة لإيجاد مسيحيين للإمبراطور لا للمسيح الوهم، وليس للإيمان الخدعة.(1/65)
ثيودوس أصدر قانون المسيحية أو الموت في عام 438، وهكذا فرض مسيحية قسطنطين لا مسيحية بولس ولا مسيحية مرقص وأشباهه، وتحوَّل الوثنيون إلى مسيحيين. وبقي الحال أن الإمبراطور إله المسيحيين الحي حامي الإله الذي مات وأبقوه مصلوباً حتى مجيء الإسلام. لم يحتجِ الإمبراطور إلى خدعة لإثبات قداسته فقد استمر الاعتقاد بقدسية الإمبراطور منذ مجزرة قسطنطين في كهان مجمع نيقيه الأول. لم تجرِ في المسيحيين العملية الفكرية في أحقية الإمبراطور بالتقديس فقد كان ذلك في صلب طقوسهم؛ التثليث، عبادة صنم مصلوب، أكل الخبز أنه أكلٌ لألوهة الصنم بديل الابن، شرب الخمر أنه شرب لدم الابن المعلَّق أبداً. لم يتجرأ أحدٌ على التساؤل كيف يكون إمبراطورنا مقدساً في الوثنية ويبقى مقدساً في المسيحية، ولا تساءل أحدٌ ما الفرق بين تقديسنا في الوثنية وبين تقديسنا ونحن في المسيحية، فهم لم يلحظوا فرقاً يلفت نظرهم فكيف يُثير فكرهم! قنعوا أنهم ما زالوا على ما كانوا عليه.(1/66)
قرار ثيودوس أن يعطي الناس حرية الاختيار بين الحياة في عبودية المسيحية أو الموت على ما هم عليه من عبادة صنم غير المسيح كان جديراً أن يثير فكر الذي دخل في المسيحية دون أن يُخيَّر بين المسيحية والموت. لولا، أن المسيحية تمنع عليه التفكير في أساسها فكيف في تحريفها وإجراءات التعسف باسمها. قانون ثيودوس كان يجب أن يُنير للمسيحي حقيقة كبرى في حياته، فالقانون الذي يحدد حرية الحياة أنها حرية الحياة بالمسيحية أو الموت بدونها، يعني أن المسيحية التي دخل فيها طوعاً إنما دخل فيها مخدوعاً، إذ لو كان فيها حقيقةٌ لِمَ تكون خيار الحياة والموت؟ لِمَ تُفرض أنها خيار الحياة الوحيد، لماذا لا يتركون الناس يؤمنون بها كما آمَنَ بها؟ لو سأل ذلك لأجاب نفسه: لأن أسياد المسيحية كانوا يعلمون أن جموع الأمم الوثنية لن تصدِّقهم كما صدقتهم، وأنهم يعلمون ما لم أعلمه أن أسياد المسيحية مجرمون وقد كشفوا عن وجههم بهذا القانون، وأنهم كانوا يعلمون أن القول الحنون في المسيحية قولُ مخادعٍ يخدعُ مخدوعَه لإدخاله مخدعَه ليرتكب الفاحشة فيه. فلمّا لم ينفع الخداع برزت أنيابه لتفتك قتلاً في الذي رفض التجاوب الأعمى والتجاوب المهذَّب مع خداع المخادع.
قانون الإمبراطور ثيودوس الصادر في عام 438 م بعد هبوط الإله، الذي يخرج من جسده المصلوب صنماً والناس نيام، على جسد الإمبراطور قسطنطين بمئة وأربعة عشر عاماً يَقسِمُ المسيحيين منذ ذلك اليوم وحتى يتحوّلوا بقناعتهم إلى حجة الحقيقة بالإسلام إلى قسمين:
الأول: المسيحيون الذين دخلوا في المسيحية قبل قانون ثيودوس الذي أعطى الناس الحرية المطلقة في البقاء أحياءً مسيحيين أو ترك الحياة غير مسيحيين، وهذا القسم ينقسم على نفسه فئتين:
الفئة الأولى التي دخلت في المسيحية قبل دخول الإله بطريقة الرؤية في جسد قسطنطين الوثني النجس إمبراطور الرومان في عام 324 م أو 323 م.(1/67)
الفئة الثانية التي دخلت في المسيحية بعد تطهُّر الوثني النجس جسد الإمبراطور بحلول الرؤية الإلهية فيه.
هاتان الفئتان يختلف معدن المسيحية فيهما، فالفئة الأولى هي الفئة البسيطة الساذجة البلهاء في الشعوب، دخلت في المسيحية لأن نفسها تتوق إلى الخلاص من شرورها، وصدَّقت أن الكاهن إذا مسحها تُغفَرُ ذنوبه رابطاً بين مسحة هذا الكاهن ومسحة عيسى النبي الذي كان يمسح فيشفي بإذن ربه، في فوران رغبة هذا البسيط الساذج بغفران الله لذنوبه نسي أن عيسى أكرمه الله بنعمة الشفاء بمسحة من يده هو لا علاقة له بهذا الكاهن الذي يعبد النبي بدل أن يعبد ربَّ النبي، فصدَّق أن كل ماسحٍ بيده يشفي ولم يحصر المسح بشفاء المرض، بل صدَّق أن المسح كما يشفي الجسد يشفي الروح، ومن هنا صدق أن مسحة الكاهن وهي إشارته بالصليب أو بإشارة الصليب، تمحو الآثام وتغسل الشرور والمفاسد التي يرتكبها الإنسان.
أما الفئة الثانية فهي الفئة التي يرتبط وجودها في المجتمع بسلطان الإمبراطور، وهي الفئة التي تتسلسل فيها العلاقة والمصالح من أصحاب أعلى المراكز بين يدي الإمبراطور إلى أدنى مستويات العامة التي ترتبط مباشرة مع رجال الإمبراطور حتى أتباع الأتباع. هذه الفئة الطامعة بدوام النعم، وهي في كل مجتمع الفئة الخسيسة في الناس، المتزلفين، لصوصٌ بالنفوذ، طمسوا منابع كل فضيلة فُطِرَ عليها الإنسان. كانوا في ركاب الإمبراطور وهو على غير المسيحية، وبقوا في ركابه وهو مسيحي، لم يتغيَّروا، بقوا على ما كانوا عليه عبدةَ منافع الإمبراطور.(1/68)
الثاني: المسيحيون الذين دخلوا في المسيحية والسيفُ ذبابتُه في حنجرتهم، إما يثقبها أو يعلنوا إيمانهم أن المصلوب ابن إله، هذا هو القِسم المقهور الذي تخلى عن وثنيته الأولى كرهاً، دخل في المسيحية دون اعتقاد بها كما فعل البسيط الساذج الأبله في الفئة الأولى من المسيحيين الذين دخلوا في المسيحية دون التفريق بين مسحة عيسى ومسحة الكاهن، أو التفريق بين المرض والشر ومسحة الشفاء ومسحة غفران الذنوب. وهذا القسم المسيحي المقهور لم يدخل المسيحية طمعاً بمنافع كما فعل المتملقون الخسيسون سماسرة الفاحشة في الخداع والرشوة والابتزاز، جمهور الفئة الثانية في مسيحيي قسطنطين. بل هذا القسم هم المسيحيون الذين دخلوا في المسيحية كرهاً، دخلوا في المسيحية وهم يكرهون المسيحية، وهم يكرهون المسيحيين الذين أدخلوهم قهراً بقوة القانون، لم يقتنعوا يوماً بالمسيحية ديناً إلهياً، بل دين خضوعٍ للإمبراطور وبعد إزالته للكنيسة التي صك لها نفوذها في حياته تحت إمرته، وفي موته تحكم بجاهِه كما كان في جبروته وغطرسته يظلم ويفتك.
أليس في المسيحية من دخل فيها مؤمناً بها؟ قد يكون، لكن ليس في التاريخ شاهدٌ على ذلك، وليس في الواقع برهانٌ أنه يمكن أن يؤمن بها إنسان بطريقة الفهم العقلي، وليس فيها ـ أي بالمسيحية ـ حجةٌ لها توافق مقياس القناعة في حقائق الأفكار. ففي حقائق التاريخ ووقائعه التي تتبناها الكنيسة في أقوالها وكتاباتها وأحداثها أن مسيحيي التاريخ كانوا إما بسطاء صدقوا أقوال بولس ومرقص قبل قسطنطين، وإما منتفعين ينافقون في طاعة الإمبراطور يتنقلون في رغباته فتحولوا بعد تحوله إلى مسيحيين دون قناعة بأقوال بولس ولوقا، وإما مقهورين كارهين للمسيحية يحتقرون أقوال بولس ويوحنا ومتى.(1/69)
حقيقة التاريخ الكبرى أن ليس في أصل المسيحيين مؤمنون بها عقلاً، وهي كحقيقة المسيحية الكبرى التي أثبتتها المسيحية في كتبها أنه يستحيل الإيمان بالمسيحية عقلاً، وأنه يستحيل أن يكون مؤمنون بالمسيحية عقلاً، لا في بدايتها، ولا بعد أن أعاد قسطنطين صياغتها، ولا بعد أن فرضها ثيودوس وحتى موت كل مسيحي وإنسان.
صاغ الإمبراطور مسيحية على مقاس مقامه، رداءً على كتفيه يزيد طوله عن قدميه، يليق بسلطانه في الوثنيين قبل المسيحية، إذا نطق فنطقه مسيحي مقدس، وإذا أمر باغتصاب حق فاغتصابه مسيحي مقدس، وإذا فارت فيه رغبة في قتل أو بطش فتلك رغبة مسيحية مقدسة. كان إلهاً في الوثنيين يفرض ألوهيته، أما في المسيحية فتقديس طاعته جزء من صلاة الإيمان بالمسيح المصلوب. بهذا الواقع الصريح في مسيحية رداء قسطنطين عميت بصيرته عن رؤية حقيقة الزمن أنه لا يقبل حَبَلاً كاذباً، وأن مخاض الحَبَلِ الكاذب يقتل. لم يخطر على بال المنافق أول قاتلٍ في التاريخ للمسيحيين باسم المسيح أنَّ غبياً سيولد إمبراطوراً لا يرضى أن يكون إلهاً ابناً لأبيه بل سيفرض في المسيحية أنه إلهٌ يلد آلهة!(1/70)
الإمبراطور ثيودوسيوس صدَّق أن تقديس المسيحيين لطاعته يعني أنه الإله الحقيقي لهم، فالإله المصلوب ليس أكثر من صنمٍ صنعه فَخَّار، أو نجار، أو نحات. لذا، لم يصدق أن الصنم على الصليب هو الإله الابن. لكنه كان يعتقد أن سلطانه إلهي، يفتش عن الإله الأب لا يجده، ويفتش عن الإله الابن ليجدهُ صنماً فينكره. بدأ يفكر، ويربطه بالواقع، ليكتشف حقيقة الإله الأب والإله الابن. فهم أن التقديس الذي كان غاية المؤامرة الرومانية في إيجاد المسيحية، هو تقديس الطاعة للإمبراطور بأن تكون عبودية النفس لغيرها رغبة تنبع من الذات، وإشباعها في التذلل لغيرها يكون عملاً مقدساً، وفهم أن تقديس الطاعة هذا يفرض غاية المؤامرة الرومانية في المسيحية توحيد الأعراق البشرية في طاعة الإمبراطور، لذلك لم يجد في عقله ونفسه مشكلة أو مانعاً في أن يعلن ويفرض اكتشافه لحقيقة الإله الأب وحقيقة الإله الابن. قناعته كانت أن الإمبراطور في تقديس الكنيسة لطاعته يكون هو الإله الفعلي للمسيحية وليس الصنم المعلق في الكنيسة الذي يسرق من الإمبراطور اللقب الرسمي فقط، وطالما أن الإمبراطور يولد له أولاد فهو يكون إلهاً أباً أو أباً إلهاً، فالإله الأب الذي لا يعرف المسيحيون عنه شيئاً لأن المسيحية لم تتحدث عنه في شيء هُوَ هُوَ، أو كما صرخ في جوفه أنا أنا. طأطأ رأسه فَثَقُلَ على جسده، أسنده على كفيه ونظر بين رجليه، وبوقار الذي يكتشف حقيقة أكبر من حجمه هَمَسَ في أُذُنَيْ روحه أنه الإله الأب لأركاديوس وهونوريوس. هنيهة صمت في كونه، يستجمع فيها حقيقة الألوهة في صلبه وذريته لينتصب بعدها صارخاً في جمجمة القديس قسطنطين قاتل القديسين وكتبة أناجيل المسيحية أنه الإله الأب وأن ابنه الإله الابن وأن الصنم المصلوب يسرق الاسم من ابنه. لما استفاق من رحلة الخاطر في قداسته وجد في مخدعه أن له ابنين وليس ابناً واحداً، لم يجد في ذلك مشكلة مع المسيحية التي تقول بإلهٍ(1/71)
ابنٍ واحد، فطالما أن ابن الإمبراطور الإله الأب يجب أن يكون إلهاً ابناً إمبراطوراً فلتقسم إمبراطورية الأب إمبراطوريتين لأركاديوس الإله الابن إمبراطورية الشرق، ولهونوريوس الإله الابن إمبراطورية الغرب، أمر بانشطار الألوهية الرومانية المسيحية لأول وآخر مرة في تاريخ الرومان في عام 395م. ولما مات الإله الأب رجل التاريخ في القضاء على الإمبراطورية الرومانية أصبح في المسيحية للمسيحيين إلهٌ أبٌ في الغرب مركزه روما وإلهٌ أبٌ في الشرق مركزه القسطنطينية وعادت الحَيْرة في معرفة حقيقة الإله الابن وبدأ الخلاف على مكان الإله الابن وعلى دوره وطبيعته. وتحوَّل ذلك الخلاف إلى مبرر التاريخ في تكريس جريمة قسطنطين مسيرةً مقدسة في قتل المسيحيين المختلفين على دور وطبيعة ومكان المسيح الإله الابن: حياً أم ميتاً، إنساناً أم صنماً، باراً أم عاقاً؟(1/72)
تقديس الطاعة للإمبراطور كان مفروضاً على شعوب الإمبراطورية فرضاً، توحيد الشعوب في طاعة الإمبراطور المقدس كان مفروضاً عليها فرضاً، سبب المسيحية التي صاغها الرومان هو تحويل هذا الفرض إلى قناعةٍ من صُلب الديانة، خيانتها خيانة لِقُدس الديانة! وقد مارست السلطات فرض هذا التقديس في جميع المسيحيين وفي كل العهود، عهد الإمبراطور وعهد الكنيسة التي غدرت بالنظام الإمبراطوري عندما سنحت لها فرصة ضعفٍ في الإمبراطور. وهذا السبب، الذي طمسه الأباطرة الرومان آلهة شعوب الإمبراطورية في المسيحية كما قبل المسيحية في فراغ التسمية فكان أخبث سر إمبراطوري في التاريخ، والذي طمسه الكرادلة وأساقفتها وأبواتها أباطرة الكنيسة والأصنام التي تجري فيها حياة روح القدس فكان أقدس سر كنسي في التاريخ، والذي به انفصل هنري الثامن عن سلطة آباء روما. وبسببه أعلن كل قوي نفسه ملكاً مسيحياً قاطع طرق في الأرض، وبسببه كانت القسوة الشيطانية في نفسية المسيحي لقتل غيره واستباحة كل الوسائل الشيطانية للانتصار على غيره. وهو السبب السر الذي من أجله توحَّد ملوك أوروبا مرة واحدة في تاريخ أوروبا، عندما علموا أن الإسلام دينٌ جديد يحرِّمُ طاعة الإنسان للحاكم ويفرض طاعة الإنسان لرب الحاكم، وأن الحاكم عبدٌ في طاعة الله وليس مقدساً بديلاً، وأن الصنم لا يغفر الذنوب ولا خادم الصنم يغفر الذنوب حاكماً كان أم بطريقاً، وأن قدسية الإنسان حاكماً أو كاهناً أساس الوثنية في الوجود، وأن الحاكم الذي يفرض تقديس الطاعة له هو سارق الله الذي يسرق منه حقه سبحانه في تقديس الناس لطاعته وحده هو من أهل النار والعذاب، الملعون من الرحمة الإلهية.(1/73)
الإسلام، منذ بدايته دعا إلى توحيد الطاعة لله وحده، وتقديس الطاعة لله وحده، وأن الغفران بيده سبحانه وحده، وحرَّم وجود الوسيط بينه وبين الناس وأمر بقتل من يدَّعي ذلك، ومنع وجود البديل عنه سبحانه بين الناس وأمر بقتل من يدعي ذلك، وفرضَ على الحاكم أن يحكم بأمر الله وحده وأمر بقتل من يحكم بأمر هواه، ولعن الذي يطلب من الناس طاعته بديل طاعة الله وأمر بإزاحته، ووصف الذي يبيح ويحرِّم أنه شيطان يجب محاكمته؛ منذ البداية كشف الإسلام قناع التلبيس على عقول المسيحيين وكشف حقيقة المؤامرة على الأوروبي المسيحي، منذ البداية تنبَّه الحكامُ جلادو الموت في الأوروبيين، آلهةُ الكنيسة في أوروبا خطر أن يوقِد الإسلامُ جذوة الإنسان في قطعان أوروبا الرومانية والجرمانية، الفرنجة والسكسون، الولش والأنغلوش، وغجر الدويتش والفلامش، والأسبان والبرتغال. خافوا هديَ الله في دين الإسلام أن يحيا المسلم حياة إنسان لا كما يحيا الأوروبي في المسيحية، خافوا فرضَ الله على الحاكم أن يكون إنساناً في طاعة حكم الله لا جلاداً يقطع الأعناق التي تعلو أكتاف الأوروبيين، خافوا أمر الله للحاكم أن يكون رحوماً في طاعة الله لا مفترساً في معصيته. سفّاحو التاريخ، ملوك المسيحية في قتل واستعباد الأوروبيين مئات السنين كرهوا الإسلام لما علموا أنه يحرِّمُ على الأوروبيين تقديس الطاعة لهم، وأمروا بكراهيته لما علموا أن الإسلام يحرِّم وجودهم، وأعلنوا عداءهم الأبدي لأن الإسلام يوحِّد الألوهة في الله الواحد ويوحِّد الناس في طاعة الله لا في طاعة حاكم، ويمنع تداول الألوهة بين الناس حاكماً أو كاهناً، ويمنع وجود الإبريق الذي يسكب ألوهة في خمر مقدس تضيع به العقول وتنعدم به البصيرة؛ من تلك المعرفة بالإسلام فرض حكامُ أوروبا على الأوروبيين أن ينهشوا المسلم بأنيابهم ومخالبهم حيثما يجدونه في الأرض غدراً به نائماً هنيئاً، أو خاشعاً في صلاته، أو راضياً من(1/74)
رزقه يأكل، أو فرحاً في طاعة الله يسعى. ومن خوفهم سماعَ الأوروبي لكلمة واحدة من مسلم فرضَ حكام أوروبا وكهنتها، آلهة الناس والكنيسة، على الأوروبي أن يقتل المسلم قبل أن ينطق المسلم مُقبلاً كان أو مدبراً، ناطقاً أو أخرسَ، محارباً أو تاجراً. منعوا أي علاقة بين الأوروبي والمسلم حتى لا يقارنَ الأوروبي تقديسه لطاعة الحاكم بتقديس المسلم لطاعة الله، حتى لا يقارن سبب الطاعة لله في الإسلام بسبب الطاعة للحاكم والكاهن في المسيحية، وحتى لا يتعرَّف إلى الحياة في طاعة الله ومقارنته حياته في طاعة الكذاب على الله.(1/75)
سبب كراهية المسيحيين للإسلام هو سبب عداوة حكام وكهان المسيحية، سبب الحكام والكهان هو هدمُ الإسلام لسور التدجيل في استعباد الأوروبيين، الإسلام يقضي على ألوهة الحاكم المسيحي ويمنع الكاهن من حماية الحاكم جلاد الأوروبي بسيف الكنيسة المسيحي أو سوطها الكهنوتي. سبب كراهية المسيحيين للإسلام، سببٌ موهومٌ سكبوه في نفس الأوروبي كما يسكبون في جسده ألوهة في خمر. لذلك، أسباب كراهية الأوروبي للإسلام كراهية معلّلة بأسباب موهومةٌ في عقله لأنها مسكوبة فيه لا نابعة منه. ولذلك، أسباب كراهية الأوروبيين للإسلام غير أسباب كراهية حكام الأوروبيين للإسلام. أسباب الحكام سرية غير معلنة، لم يعلن الحاكم جلاد الأوروبيين في المسيحية سبب كراهيته هو للإسلام، الأسباب التي أعلنها هي أسباب وجوب غرس كراهية الإسلام في نفوس الأوروبيين، لا أسباب كراهيته هو كحاكم مسيحي للإسلام. لو أخبر سبب كراهيته للإسلام لافتضحت مؤامرته في مسيحيي أوروبا وتحوَّلوا عن المسيحية للإسلام وذابت ألوهته في لهث الشيطان. الأسباب التي فرضها سبباً في نفوس المسيحيين أسبابٌ لتوقد سعير الكراهية للإسلام، فكراهية المسيحي الأوروبي نتيجة ليست في الحقيقة سبباً، نتيجة لكراهية الحاكم أولاً وهو الذي أوهَمَ الأوروبي بأسباب حتى تكون الكراهية للإسلام تنبع من نفس الأوروبي، فلو كانت أمراً لقلَّب الأمر بينه وفي نفسه ولكان في ذلك خطر فوران الكراهية وخبوت نارها، بينما في أن تكون قناعة تكون في ذاتها وقوداً منه تستمر بالكراهية.
لماذا، أو كيف لم يفرِّق الأوروبي بين سبب الكراهية عند الحاكم وسبب الكراهية التي غرسها الحاكم في الأوروبي؟
كيف، أو لماذا لم يتعرَّف الأوروبي إلى سبب الكراهية التي أمر بها الحاكم المسيحي أو كاهنه أن تُغرَسَ في قلب الأوروبي على أنها نتيجة؟ إذ لم يكن لدى المسيحي سبب لكراهية الإسلام.(1/76)
السبب، أو الجواب على هذين السؤالين الكبيرين في تاريخ المسيحي الأوروبي وفي واقع حياة الأوروبي الحالي، هو في المسيحية ذاتها، في أناجيل قصتها، في لاهوت كُهّان الإمبراطور، وقرارات مجامع كهنوت كنيسة الملك. في صلب المسيحية أنه لا يمكن الإيمان بالمسيحية بطريق القناعة العقلية، أن المسيحية يستحيل التفكير بقبول العقل بها، فالمسيحية تُؤخذ دون تفكير، دون بحث في أقوالها، دون فهمٍ لتعاليمها أو عقيدتها. لذلك فئة المسيحيين الأولى قبل عصر قسطنطين كانت الفئة البسيطة الساذجة التي تنعدم فيها طبيعياً القدرة على التفكير، غيرنا يسميهم بُلهاء الناس، الكنيسةُ نفسها على لسان كهنتها تسميهم بسطاء الناس، المنبوذون في المجتمع، البؤساء، لكنها تُحجم عن وصفهم كما وصفهم غيرها أنهم البلهاء، لكن كل أوصاف الكنيسة للذين آمنوا بالمسيحية قبل فرض قسطنطين لها أنها دينٌ إمبراطوري، تعني أنهم بلهاء الوثنيين. فالأوروبي المسيحي وهو مأمور في دينه بتعطيل عقله ودوره في فهم أهم أمور الحياة: كيف يفكر بأمرٍ إلهي وهو ممنوع عليه أن يفكر في وجود الإله؟(1/77)
سببُ كراهية الحاكم المقدَّس في المسيحية يعرفه المسلمون بداهة، فالإسلام يفرض طاعة حكم الله فقط ويمنع طاعة الحاكم إذا حكم بغير حكم الله، والحاكم في الإسلام شرطُ وجودِه وبقائِه الحكمُ بأمر الله، فليس في الإسلام تقديس للحاكم، ولا طاعة للحاكم إلا أن يكون منفِّذاً لحكم الله. فلو سمح الحاكم المسيحي الذي يحكم بهواه للأوروبيين أن يعلموا أنهم إذا أسلموا عليهم أن يرفضوا تقديس الطاعة لحكامهم الذين يستعبدونهم ويسخرون الكنيسة لتطويعهم وسوقهم في حياة البؤس والقهر والاغتصاب الفكري والعاطفي الذي كانوا يمارسونه فيهم، لكان في ذلك زوال حكم بل زوال وجود المسيحي حاكماً ظالماً قاتلاً سارقاً. سببُ سياسة حكام المسيحية في تربية النفوس الأوروبية على كراهية الإسلام حتى لا يروا في عبوديتهم منقذاً للخلاص بأجسادهم وأرواحهم من حكامهم وكهانهم. سبب كراهية الأوروبيين للإسلام هو أن يكون الحاكم مسيحياً أو يزول، سببٌ يتعلق بوجود الحاكم أساساً واستمراره في امتلاك الأوروبي جسداً، روحاً، عقلاً وممتلكات.
كراهية الأوروبي للإسلام نتيجة وليست سبباً، السبب مصلحة حكام المسيحية في بقاء الأوروبي في جهلٍ عن حقيقة الألوهة التي يثبتها الإسلام، والتي لو عرفها الأوروبي لتخلى عن تقديس الطاعة للحاكم، وبذا يزول الحاكم.(1/78)
هذا كان سبب الكراهية الأول في مسيحيي أوروبا، وهذا هو سبب الكراهية الأول لدى ديمقراطيي أوروبا. فالديمقراطية ليست ضد المسيحية، وليست ضد عقلية الحكم المسيحي، بل هي فكرٌ ينبع من جذور الفكر المسيحي نفسها. الديمقراطية هي الوجه الآخر للعملة، وجهها الأول في أوروبا كان المسيحية، ووجهها الثاني بعد أن بال الزمن على وجهها الأول هو الديمقراطية. ولأن الديمقراطية صيغة بديلة عن المسيحية في تطويع الأوروبي فطريقتها في تزوير الحقائق لا تختلف، وهدفها في فرض تقديس الطاعة للحاكم بَدَّلُوهُ بفرض تقديس الطاعة للنظام، لهذا توارث الحاكم في الديمقراطية سبب كراهيته للإسلام من الحاكم بالمسيحية، ولهذا فرضه على الأوروبي، حشا عقله بالتضليل في مسيرة العيش ذليلَ غرائزه، ومَلأَ قلبه ببغض حقائق الوجود في الحياة حتى لا يبصر حقيقة التقديس في الإسلام، ولا يفقه سبب الحياة في الإسلام، ولا يسمع بأذنيه حتى حجة الإسلام في الإيمان، ولا يعي بعقله برهان الإسلام في القرآن. لأن الأوروبي اليوم، كما في الأمس، لو وعى بعقله برهان الإسلام في القرآن أو برهان القرآن في الإسلام لما بقي بالأمس مسيحياً يوماً واحداً، ولما بقي ذليلَ غرائزه في الديمقراطية ـ مسيحية اليوم ـ يوماً واحداً.(1/79)
فرضُ كراهية الإسلام على الأوروبي المسيحي طوال ألف عام من قبل الحبر الأعظم كاهن هيكل الإمبراطور وخسيسه قائد جيوشه، كان حتى لا يتعرَّف المسيحي إلى سبب شقائه وظلم المسيحية له في عيشه وفكره أنه هو سبب إيجاد المسيحية ابتداء. حتى لا يتعرَّف إلى أن تقديس الطاعة للحاكم ـ سبب إيجاد المسيحية مؤامرة سياسية ـ هو سبب ظلمةِ حياته، وحتى لا يرى سبب هذه الظلمة، وهي شقاء العيش في عتمة الفكر، أنه لإبقائه مسيحياً. فلو سُمِح له بالتفكير في المسيحية، وربط المسيحية في شقاءِ واقعه، وربط شقاءه في تقديس مقدسات المسيحية وأُولاها طاعة الحاكم وخسيسه وكاهنه، ولاحظ الكفر في هذا التقديس، لما بقي راضياً بعبودية الشقاء المقدَّس يوماً من مئات آلاف تلك الأيام. ولو سمحوا للأوروبي المسيحي بالتفكير ذات يوم في التاريخ لقارن بين قدسية الطاعة لله وقدسية الطاعة للحاكم، واهتدى إلى المفارقة بين قدسية الطاعة لله وقدسية الطاعة لحامي صنم مصلوب في مسيحية مبتورة، بدايتها بدون نهاية، حياتها بدون بداية، نهايتها بدون حياة.
حفاظاً على تكريس تقديس الطاعة للحاكم، سبب إيجاد المسيحية مؤامرة سياسية أساساً، فرضوا كراهية الإسلام في المسيحي. قبل الإسلام لم يكن في الحاكم وكنيسته خوفٌ من نورٍ في حقيقة، أو خوفٌ من حقيقة في فكر، أو خوف من فكر في برهان، أو من برهان في دين، أو من دين في قرآن، أو من قرآن في كتاب يتنزَّل وحياً على نبي يثبت عبوديته لله ويدعو إلى توحيد الألوهية في الله، وتحديد تقديس الطاعة أنه لله وحده، وتساوي البشر حاكماً ومحكوماً في الطاعة لله، وفي عقوبة معصية حكم الله، وفي يوم حساب الله، وأنه لا إنسان يكون وسيطاً عند الله لا في الدنيا ولا يوم الدينونة، يوم إيفاء الديون لصاحب حقًّ مقهور من مغتصبٍ قادر، إلا في دعاء يأذنُ الله به.(1/80)
قبل نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلّم لم يكن هناك دينٌ يهدي إلى الحق، يحرِّكُ العقل والحواسَّ لمعرفة حقيقة الوجود في الحياة، دينٌ يمنع توارث الإيمان، يفرض الإيمان بالبحث الفكري، بالقناعة بأساس الدين القرآن أنه وحيٌ منزَّلٌ من عند الله بواسطة ملَكٍ اسمه جبريل يتلوه في قلب النبي، ويُفقِّهُ به عقل النبي، ويجريه على لسان النبي محمد آخر المرسلين والأنبياء. ويفرض البحث العقلي في ثبوت نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلّم وعبوديته لله، ويفرض البحث العقلي في برهان وجود الله، وبرهان عدم خضوعه لحواس الإنسان، وبرهان عدم مشابهته لشيء في الوجود، وبرهان العجز في البحث في طبيعته غير برهان البحث في إثبات وجوده.(1/81)
قتل الإمبراطور جاليريوس للنصارى تهيئة لتحول الإمبراطور اللاحق قسطنطين الذي قام بتصفية آخر فلولهم التي حصروها في فخِّ مؤتمر نيقيه، ومرسوم ثيودوس الإمبراطوري بالحياة للمسيحي والموت للوثني الذي يرفض التحوَّل في وثنيته إلى المسيحية الجديدة في عام 438، واستمرار الإجراء القسطنطيني بقتل كل إنسان يخالف في مسيحيته مسيحية الإمبراطور، وتوارث الكنيسة بشخص كاهنها الأعظم صلاحية الإمبراطور بقتل مخالفيها بأي فكر مسيحي، كان التهيئة المثلى في بناء السد بين مسيحيي أوروبا والإسلام الذي جاء لاحقاً. بسبب قوة الإسلام الفكرية التي هي قوة دامغةٌ، قاهرة لكل زيف وباطل، خافت الكنيسة من حتمية زوال المسيحية. كان لا بد من مصاحبة إجراء القتل الدائم بإجراء أقوى من القتل، فالخطر ساحقٌ ماحقٌ لا يتعلق بأفراد أو جماعات بل بكيان وعقيدته، بالمسيحية وسببها، بالوجود السياسي لطغمة الظلم والتضليل. بالتفكير التآمري الذي أوجد المسيحية مؤامرة سياسية على الأوروبيين، استنبطت عقول أبالسة الظلم في الأوروبيين وجوب فرض الكره للإسلام في قلوب مسيحييهم. فرضوه كما فرضوا المسيحية ابتداءً بمنع العقل من التفكير بالإسلام وحقيقته في برهانه، ومنع الأوروبي من إجراء العملية الفكرية في أفكار الإسلام وحجتها. وفرضوه بإذكاء كراهية المهزوم للمنتصر، وفرضوه بمشاعر خوف الضعيف في القوي، وفرضوه كما فرضوا المسيحية لاحقاً بقتل من يخالفهم مسيحياً في قتل من لا يشاركهم كراهية الإسلام.(1/82)
الكراهية، حائط نفسي من معدن الحقد ينبع من نفثٍ شيطاني سام يمنع العقل من عمله الطبيعي في التفكير في حقائق المقاصد وبرهان الفكر. كراهية الإسلام التي نجح جلادو المسيحية في الأوروبيين في فرضها على النفس الأوروبية التي توالدت بقبول الظلم والعبودية المقدسة في طاعة الحاكم والكنيسة التي أوجدها درعاً له، منعت الأوروبي من ملاحظة الفكر الإسلامي الذي أرعب الكنيسة وحكامها كهاناً وأمراء. فكرة من أفكار الإسلام كانت أكثر إرهاباً للكنيسة من جيوش المسلمين، قاعدة فكرية في التعرف للإسلام، في بحثه في الذات الإنسانية، في وجوب خضوع العقل والنفس له في حجته، في كيفية الإيمان به أنه لا يكون إلا إيماناً بحرية العقل في التصديق ببرهانه، وحرية النفس في الاطمئنان إلى هديه، في قول آيته في القرآن الكريم: {لا إكراه في الدين قد تبيَّن الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} [سورة البقرة، الآية: 256] فالإسلام؛ عقيدة دينٍ لا يُؤخذُ إلا عن يقين، واليقين هو القناعة بالحجة التي تُنير الخطأ فتلفظه النفس، واليقين هو التصديق بالبرهان الذي يبينُ الباطل فيزهق تلقائياً فيذوي ويتلاشى من العقل، واليقين هو الذي لا تطمئن النفس إلا بالتجاوب معه، والخضوع له، والعمل به.(1/83)
هذه الحرية في الدخول بالإسلام أو عدم الدخول في الإيمان به ليست عفوية في الإسلام بل مقصودة لأنها أساسٌ في أخذه وأساسٌ في الالتزام بأحكامه، فطريقة الالتزام بأحكامه ذاتية أولاً فهي تعتمد على مخافة المؤمن من عقاب الله في الآخرة والقناعة بالسعي لنوال رضوانه في الدنيا للدخول برحمته تعالى إلى الجنة بدل النار. لذلك، حرية القرار للإنسان بالإيمان بالإسلام أو الكفر به قرارٌ يتعلق بحياته قانعاً هنيئاً وفي مصيره في جنة أو نار، فالخيار لا يتعلق بالإسلام بل بالإنسان. والحرية ليست حرية هوى بل حرية في القرار، والتي لا تكون إلا بالتزام قواعد الفهم والعقل حتى لا يكون للإنسان عذر في أنه لم يستعمل عقله أو لم يُفرض عليه أن يستعمل عقله، فالقرار لا يمكن أن يؤخذ إلا بالعملية العقلية وأما قرار الهوى فهو طيشُ غريزةٍ جريمة يرتكبها الفرد يغتصب بها حياته، ويعطل عقله في سببه ودوره، ويورد نفسه فشلها في الدنيا وجحيمها في الآخرة.(1/84)
طريقة الإسلام للإيمان به هي في عرضه كما جاء من الله مباشرة كتاباً كاملاً لجميع شؤون الحياة، وكما جاء وحياً من الله على لسان رسول الله أو في عمله أو في سكوته دون اعتبار لأي حالة زمنية أو عرقية أو عرفية، فالإسلام هو كما جاء إن خالف واقعاً أو وافقه في زمن أو عرق أو عرف. طريقة صريحة كطريقة عرض أي حقيقة في أي موضوع أو جماعة أو زمن، إلا أنها طريقة مفروضة وليس في أخذها أو تركها في الإسلام خيار، أن تكون طريقة إيمان الفرد بالله الواحد، وأن القرآن كتابه الأوحد الذي ينسخ بقية الأديان، وأن رسوله محمداً صلى الله عليه وسلّم آخر رسله ونبوَّتهُ تلغي دور بقية الأنبياء والرسل سلام الله عليهم أجمعين، أمرٌ فرضٌ شرعي وتغييره بفرض الإيمان كُرهاً، ولو بالترهيب دون القتل، جريمة شرعية ومعصية لله صاحب الأمر كله يوم الحساب. هذه الطريقة تناقض طريقة المسيحية في انتشارها. فلو حصلت المقارنة بين طريقة الإسلام في نشره وطريقة المسيحية في نشرها لوقع العجب!(1/85)
عجبُ المسيحية في سببها؛ سببُ الحاجة إليها الذي فرض سبب طريقة نشرها بطريقة المكر والخداع عندما لا يكون في يد رجالها سيف أو مدفع كما أرساها بولس في تعاليمه التبشيرية وقواعد المسيحية الأساسية عندما كان أول مسيحي بل أول رسول غنوصي باطني يدعو إلى المسيحية ـ وأظنه الوحيد الذي يدعونه رسولاً عن إله المعرفة الذي هبط عليه وحده ـ، والمكر والخداع في دوام قتل السلطة الحاكمة قبل تحول قسطنطين لخصوم المسيحية من النصارى الذين يشكلون حجة بيان زيف المسيحية بحجة أنهم مسيحيون. والقتل والتشريد الدائم في من يرفض الخضوع لسبب المسيحية في الوجود؛ تقديس الطاعة للحاكم. لو وقعت المقارنة بين طريقة نشر الإسلام التي فرضها الله على كل مسلم، وبين طريقة نشر المسيحية التي أوجدها بولس والسلطة الرومانية، التي أوجدت بولس ورعته في دور قاتل النصارى ورسول المسيحية ومؤسسها، لبان بسهولة سبب المسيحية من مجرد مقارنة طريقة نشرها بطريقة نشر الإسلام. إذ، طريقة نشر الفكر أيّ فكر تتعلق إما بسبب الفكر أو بغاية العمل، فإن تعلقت طريقة نشر الفكر بسببه استباح كل أمرٍ مباحاً أو محرَّماً، فاحشة أو فضيلة، كذباً أو صدقاً، مكراً أو قتلاً. فطريقة نشر المسيحية مثلاً كانت طبيعية عندما أرسى قواعدها بولس "بناموس أو بدون ناموس"، وحياة في مسيحية بولس أو موتاً في غير مسيحيته عندما أرست قواعدها السلطات الرومانية التي واكبت مسيرة المسيحية من البداية، لأن طريقتها تعلقت بتحقيق غايةَ سببها. كذا، طريقة نشر الإسلام تكون طبيعية في فرض حرية التفكير بالإسلام قبولاً به تصديقاً عقلياً بما جاء في حجته أو رفضاً له بغَلَبَةِ هوى نفسٍ على فهم، لأنَّ الإسلام فكرة وطريقة؛ مبدأٌ طريقته من جنس فكرته. فكرته أفكارٌ في الوجود، ومفاهيم تضبط قواعد الفهم في معنى حقيقة الوجود في الحياة، وتحدد مسيرة الهوى النفسي في إشباع الجوعات والرغبات، ونظام سلوك فرد في ذاته،(1/86)
وجماعة في أمّة، وأمة في كون، وعدلٌ في فرض الواجبات وإحقاقُ حقٍ في رفع الخلافات، وطريقة من جنسه في تنفيذ أحكامه ومن أحكامه نشره والدعوة له. فغاية طريقة نشره تتعلق بالفكرة لا بسببها، سبب الإسلام هداية الناس إلى سعادة الدنيا وجنَّةِ الآخرة، أما الفكرة فهي الهداية فقط. الفكرة تتعلق بفحواها ومحتواها لا بسببها، فالفكرة التي تتعلق بسببها ظرفية بحاجة السبب إليها، ومزاجية بحسب حاجة واضع السبب لها، ومحدودة بالجماعة التي وقع السبب فيها، فدوامها مصطنع وواقعها محدود. بينما فكرة الحياة دائمة في الزمن وشاملة في الحاجات وعامة في الجماعات. طريقة الإسلام في نشره لا تتعلق بظرف ولا بحاجة ولا بجماعة، فكرة للعيش في الحياة فلا يمكن أن يكون منبت طريقتها من مثل منبت طريقة المسيحية، أو الرأسمالية الديمقراطية، أو الديمقراطية الاشتراكية، أو أفكار المؤامرات الكبرى في التاريخ التي تشابه هذه وإن كانت تصغُر عنها. لذلك، نجد طريقة الإسلام في الإيمان به طريقة عرض أفكار الهداية إلى الحق الذي فيه وموافقته طبيعة الإنسان ونظام الوجود بالبرهان الساطع الذي تخضع له العقول، وتهنأ به القلوب، وتطمئن النفس بالعمل به والعيش في تجنّب محارمه وإتيان فرائضه. فغاية الإسلام أن يقنع الفرد بخيار الجنة، فإن قنع بهذا الخيار التزم أحكامه، وإن لم يقنع بهذا الخيار يكون سائراً بخياره إلى مصير الهلاك في عذاب الله. فلو فرضت شريعة الإسلام خيار الإيمان فرضاً لاستوجب أن يكون بالقتل كما فرضته المسيحية، ولو فرضته كذلك لانفصلت طريقة الإيمان به عن فكرته ولما عاد إسلاماً فكرة عامة للبشر، سببها هداية الناس إلى سعادة الدنيا وجنة الآخرة، ولبطلت حاجة أي إنسان لها ولتحولت إلى وثنية من الوثنيات المعهودة.(1/87)
معركة الإيمان والكفر الفاصلة في التاريخ، معركة اليرموك، التي انتصر فيها بضعة آلاف من المسلمين على ما يزيد على عشرات الآلاف في جيش المسيحيين، المسلمون بقيادة أبي عبيدة بن الجرَّاح، والمسيحيون بقيادة إمبراطورهم هرقل. بعد هذه الموقعة في سنة 15هـ/637م اجتاحت جيوش المسلمين بآلاف قليلة جميع البلاد التي كانت تحت إمرة المسيحيين، حتى قلب آسيا الصغرى معقل الإمبراطورية المسيحية آنذاك. لكن ذلك لم يكن الحدثَ المفاجأةَ في التاريخ. الحدثُ المذهل في الواقع أن جميع السكان المسيحيين في هذه البلاد تركوا مسيحيتهم فجأة دون فرضٍ من قادة المسلمين، ودون إكراه ولو أقل إكراه، بل دون أن يطلب قادة الجيوش المنتصرة منهم أن يتحوَّلوا إلى مسلمين. لأنه في أساس الإسلام أن لا إكراه في الدين، وفي أساس الدعوة إلى الإسلام أن الإسلام رُشدٌ يهتدي إليه من يبحث عن الرشاد، فأي فكر فيه أو منه كما أي عمل يلتزم أحكامه يبينُ الغيَّ الذي يقابله، ويفضح الضلال الذي يعاديه. جميع مسيحيي هذه البلاد تحوَّلوا إلى الإسلام وتركوا مسيحيتهم عندما سمعوا أفكار الإسلام وهم بمعظمهم لا يتكلمون العربية، من مجرد مقارنة فكرٍ إسلامي واحد بجميع أفكار مسيحيتهم، ومن مجرد تطبيق حكم إسلامي واحد عليهم ومقارنته بجميع أحكام الكنيسة فيهم. هذا هو الحدث في حقيقة المواجهة بين الإسلام والمسيحية الذي يطمسونه في أبحاثهم وسبب كراهيتهم للمسلمين، وليس انتصار جيش على جيش كما يزعمون ويلفِّقون قصداً.
حقيقة الذهول في الغرب المسيحي الأوروبي، في هيكله الكنسي المتسلِّط على الأوروبي، هو قوة الفكر الإسلامي وتفاهة الفكر المسيحي وليس شجاعة الجندي المسلم وجبن الجندي المسيحي، وليس قضية الجندي المسلم وإفلاس الجندي المسيحي من القضية. لكنهم، طمسوا حقيقة سبب الذهول لأنه أساس سبب خديعتهم للأوروبي في فرض كراهية الإسلام عليه.(1/88)
حقيقة الذهول من سبب تحول المسيحيين إلى مسلمين دون فرضِ ذلك من المسلمين المنتصرين، ومن غير أي إكراهٍ لأي مسيحي، بل حتى بدون طلبٍ من المسلمين، حالةٌ أوجبت العمل للخطة في تغيير مسرح الواقع من مواجهة إيمان بكفر، ومن مواجهة جيش بجيش، إلى مواجهة قوة بكراهية الحقد الشيطانية. وحدها الكراهيةُ، برأي الكنيسة، وفي الواقع الصحيح، تمنع العقل من العمل، وتعطّل عملية الفهم في الإنسان. لم يعد يهمُّ الكنيسةُ أن تنتصر جيوش المسلمين أو تنتصر جيوش المسيحيين، أن يكتسح المسلمون أوروبا أصبح شيئاً مسلَّماً به. القضية، قضية الكنيسة، أصبحت أن لا يتحوَّل المسيحيون الباقون إلى مسلمين! مسيحيو هرقل وبلاده تحوَّلوا إلى مسلمين بين عشية وضحاها لأن نفوسهم تتوق إلى معرفة الحقيقة في الدين، إلى عبادة الله الحق. لأن نفوسهم لم تكن معبَّأة بالحقد على المسلمين والكراهية للإسلام، الكنيسة والإمبراطور لم يكونا قد توصلا بعد إلى هذه المعادلة الشيطانية في تعبئة القلوب بهذا النفث الشيطاني! عقلهم لم يكن كمسيحيين قد تعطَّل بسبب الحقد والكراهية التي مارستها الكنيسة فيما بعد بالأوروبيين الهدف الأساس في إيجاد المسيحية مؤامرة رومانية سياسية في استعباد الأوروبيين بفرض هذه العبودية وقبولها أنها مقدسة! صحيح أن المسيحية فرضت تعطيل العقل في المسيحية، لكن ذلك يبقى تعطيل العقل في القبول بالمسيحية وليس تعطيلاً بالممارسة، بينما فرض تعطيل العقل بالكراهية والحقد هو تعطيلٌ له بالممارسة وهو أخطرُ وأذلُّ للإنسان الأوروبي.(1/89)
المسلمون ينتصرون، لكن الكنيسة بدل تجميع الجيوش في جيش واحد لصد المسلمين ودحرهم تبرزُ فجأة بدعوة تحرير موطن عيسى الذي منه سرقوا المسيح، ويتولى تطويع الناس في الجيوش كهنة الكنيسة، يخطبون في الشوارع يُثيرون مشاعر المسيحيين في كل مدينة وقرية، ينزل رهبانها من صوامعهم ينبذون نسكهم في الشوارع بحجة أن استرجاع بيت المقدس وبيت لحم أهم من عبادتهم للصنم في الصومعة. الرهبان والكهان يصومون في الأسواق بسبب أنَّ الطعام عليهم حرام حتى يطعم الناس جنود الصليب، ويشقون ثيابهم بسبب أن الدفء عليهم حرام حتى يجهز الناس جنود الصنم المصلوب. جيش الصليب وجيش الصنم المصلوب بقي يحارب المسلمين مئات السنين بعد استسلام الحامية المسيحية في فلسطين، لكن عويل الكهنة والرهبان في الشوارع لإثارة الناس في مقاتلة المسلمين لم يحصل! جيش الإمبراطور المسيحي في حربه طوال مئات السنين وهو في مواجهة دائمة مع الفرس لم يتظاهر حتى أنه جيش الصليب أو جيش الصنم المصلوب دون أن يتحرك كهان الكنيسة ورهبان الصوامع في إثارة الناس على وثنيي مترا ومزدك! متى ينزلُ الراهبُ من صومعته؟ متى يترك المؤمن نسكه؟ فقط في حالةٍ واحدة: عندما يكون يمثل دوراً في صومعته وعندما يكون مخادعاً في نسكه!
جيش الصليب أو جيش الصنم المصلوب لا يحركونه لمقاتلة الجيوش الإسلامية على حدودهم بل بعيداً جداً عن حدود القتال، ليس لتحقيق انتصارٍ في قلب بلاد المسلمين كما قد يُظن، وليس لضرب الجيوش من خلفها، بل لتحقيق غاية أبعد أثراً في نفوس الأوروبيين المسيحيين؛ حتى تحصل معاناة النفس في المسيحيين. حتى تأخذ دعوة الكراهية والحقد دورة المخاض العسير في غرسها في النفوس المسيحية، حتى تتواصل الحروب وتطول، وفي انتصارها يبين فائدة الكراهية والحقد على الإسلام والمسلمين أنه سبيل النصر، وفي انهزامها يأخذ الألم مداه في الزمن ويتأصل الحقد وتتعمق الكراهية بالنفس المريضة بإحباط الفشل.(1/90)
جيوش ملوك المسيحية في أوروبا كانت جيوش ملوك مُتعادين كان توحُّدها في الجيش الصليبي توحداً حول قضية سياسية لا حول صنم مصلوب. الصنم المصلوب كان سبب اختلافهم وتفرقهم، كلٌّ منهم يريد أن يكون حاميه الأوحد، كل يريد أن يحتكر قدرته على الغفران، كل يريد أن يستغله في قتل غيره. لو كان السبب في توحد جيوش الصليبيين لماذا لم تتوحد قبل الحروب الصليبية؟ لماذا لم تتوحد في الحروب الصليبية؟ لو كانت حربهم من أجل الصنم المصلوب لوجب أن تتوحد قبل أن تنطلق، توحيد الجيوش في مقاتلة المسلمين في حقيقته تجميع الجيوش وليس توحيدها والفارق بين الاثنين كبير. تجميع الجيوش يكون بتوحيد الدعوة في إيجادها، أما توحيدها فهو في توحيد قيادتها. دعوة الرهبان والكهان في الشوارع عمَّت جميع الممالك في أوروبا، لم يكن بقصد تكثير سواد جيش الصليبيين، فقد كان ذلك يمكن أن يحصل كما كانت عليه العادة في أنظمة ذلك الزمن، بأمر الملك! نزول الرهبان من أديرتهم وترك الكهان لكنائسهم لم يكن بقصد تعبئة الجيوش فهذه أسخف حجج الطمس على حقيقة الحروب الصليبية، وأتفه حجج الادعاء أنها كانت لاسترداد مهد المسيح. دعوة استرداد مهد المسيح لم يكن الملك بحاجة إليها لتعبئة الجيوش، بل إشراك ومشاركة كل عائلة في جهد العناء الفكري والنفسي والمادي لزرع الألم في النفوس والعقول حتى ينتج عنه كراهية الإسلام كان قصد الرهبان والكهان. كراهية الإسلام لا يمكن أن تُفرض، فأفكار الإسلام هي وحدها الأفكار التي تتوافق مع النفس البشرية، لذلك لا يمكن أن ترفضها النفس الإنسانية إلا في حالة تعطيل مقاييس القبول والرفض للفكر. مقاييس النفس في قبول الفكر أو رفضه هي مقاييس العقل في الخطأ والصواب، فطرة الإنسان بما خلقها الله عليه تمتنع عن رفض أفكار الإسلام، عقل الإنسان إذا فكر بمعطيات التفكير يمتنع عليه أن يرفض الاقتناع بأفكار الإسلام وأحكام القرآن. تخريب النفس بالتلاعب بقواعدها(1/91)
وحده يسمح للنفس برفض الإسلام، تعطيل مقاييس العقل في الخطأ والصواب وحده يُفقد العقل دوره، سقاية النفس من ماء الكراهية والحقد وحده يفرض تعطيل دور العقل أبدياً بنزع مقاييس الخطأ والصواب من عمليته، وبذلك تتحوَّل الكراهية إلى سد يرفض الإسلام ويتحوَّل الموقف إلى كراهية الإسلام صدوداً مفروضاً يحجب نوره ويمنع فهم عقيدته وأفكاره وتذوق أحكامه.
الحرب الصليبية لم تكن لاستعادة الأراضي المقدسة فهذه من أكبر أكاذيب الكنيسة وملوك المسيحية في التاريخ على الأوروبيين، لو كان ذلك صحيحاً: لماذا سلموها ليهود الرذيلة في الجنس البشري بعد أن استولوا عليها بعد القضاء على الخلافة الإسلامية؟ لماذا أسكنوها يهود الإجرام في قتل أنبيائهم وصلب مسيح المسيحيين الأوروبيين؟ يكاد العقل لا يصدِّق مدى سذاجة الأوروبيين في تصديق كذب حكامهم عليهم مدى التاريخ، حتى الأبالسة تعجب من مدى سهولة كذب الحاكم الإنكليزي والفرنسي والإيطالي والإسباني والألماني على شعبه دون أن يعي شعبه كذب حاكمه عليه.
الحروب الصليبية كانت مؤامرة لإيجاد الواقع الذي منه تنبت الكراهية للإسلام، وفيه تتعمَّق في نفسية الأوروبي، وعليه تنتفخ قلوب الأوروبيين حتى الموت، ومن سقايته تتوالى الأجيال في الحقد على الإسلام والمسلمين. وقد بقي الأوروبي في عهد الحكم الكنسي المتسلط، وما زال في عهد حكم الديمقراطية المُضلِّلة يولد على كراهية الإسلام ولو كان أبواه كافرين كارهين للمسيحية والكنيسة.
تجميع الجيوش من مختلف الأجناس العرقية في أوروبا لم يكن بقصد إيجاد جيش قوي، ولم يكن بقصد توحيد جهد عسكري بوجه المسلمين، ولم يكن بقصد وقف انتشار الإسلام، بل بقصدِ إدخال جميع أعراق وأجناس الأوروبيين في مؤامرة زرع الكراهية والحقد على الإسلام وجبل قلوبهم بهذا النجس الشيطاني فلا يطهرون منه أبداً! لهذا كانت الدعوة إلى تجميع الجيوش وليست إلى توحيدها في جيش.(1/92)
حتى اليوم ما زالت مؤامرة فرض كراهية الإسلام والحقد على المسلمين، مؤامرة الحروب الصليبية يستمر حكام أوروبا في انتهاجها وتربية أجيالهم عليها. فالمتخرج من الجامعة في أي حقل من حقول المعرفة يكره الإسلام ويحقد على المسلمين، والمتخرج من غير الجامعة فناناً، عاملاً، عاقلاً أو معاقاً، امرأة أو رجلاً يكره الإسلام. الحروب الصليبية، لو كانت مرحلة لانقضى عهدها، ولو كانت عملاً لزال أثره، ولو كانت مهمةً لزال هدفها. تبقى حية بسببها لا بمرحلتها ولا بعملها ولا بمهمتها! سببها، نقل الصراع من عسكري ينتصر فيه المسلمون، ومن فكري يكتسح فيه المسلمون إلى عاطفي يتجيِّش بالحقد والكراهية مشاعر شيطانية لا تتحسَّسُ بها نفوس المسلمين، لا تعرفها، لا تقبل بها عقولهم، لا يسمح بها دينهم. بهذا السد الجدار وحده يمكن وقف تفاعل الأوروبي، بالمنع المادي في عهد الكنيسة والمنع المعنوي في يومنا، مع الإسلام. فأي مجال لتعامل العقل الأوروبي مع الإسلام كان ممنوعاً في عهد الكنيسة وأصبح مستحيلاً في عهد الديمقراطية. ألا يعجب الأوروبي من الظروف التي منعته حتى اليوم من ممارسة العملية العقلية في حقيقة الإسلام؟ ألا يتساءل لماذا لم يمارسها جده وأبوه؟ أو أخوه أو ابنه؟ أو جاره؟ أو صديقته؟ فلينظر هل تسمح له وقائع عيشه بالتعجب أو التساؤل في حقيقة الإسلام؟ أو تسمح له في فهم سبب امتناعه عن فهم الإسلام؟ هل يجرؤ على معرفة سبب كراهيته للإسلام، أو يجرؤ على المحاولة في غسل قلبه من حقده على الإسلام؟ إذا تجرأ الأوروبي وقبل التحدي وانتصب شامخاً يريد أن يتبرأ من جميع مشاعر كراهية الإسلام هل يعرف كيف يفعل ذلك بعد أن نجحوا في تعطيل عقله بقبول المسيحية، وفي خدعة الحروب الصليبية، وفي تصديق الديمقراطية أنها نقيض المسيحية، وفي أنه يعيش في عصر الحرية؟(1/93)
نعلمُ أنه لا يستطيع، ثقافة اليوم تشتِّتُ الأوروبي في عقله كل يوم، تهزمه في معركة الوجود في كل إعلام، تمنعه في كل كتاب من رؤية الحقيقة في أي أمر، تضلِّله عن مسار الحياة الطبيعي في كل مخاطبة. حتى مفكروه وفلاسفته ساذجون، يتوهمون فيوهِمون، أو مُضَلَّلون فيُضَلِّلون! صاموئيل هنتنتغتون مُضلِّلٌ لأنه مُضَلَّل أم مُضَلِّلٌ بقصد؟ ماذا يهم، أو يقدِّم ويؤخِّر إذا كان تضليل صاموئيل هنتينغتون من جهلٍ في انعدام رؤية في الحياة أم كان بقصد تضييع الأوروبي والأمريكي عن رؤية الحقِّ والحقيقة في التاريخ والحياة والوجود؟ هو، لا نقصده بشخصه بل قمة ورائداً في فلسفةِ وفكر الديمقراطية والحرية لبوس خطة إفساد عقل الأوروبي والأمريكي، ومطية تضليله في كل أمرٍ من أمور الحياة. لعل صاموئيل هنتينغتون أبرزهم في نبل القصد ونزاهة الفكر وسلامة الطوية، لكن يبقى نبله ونزاهته وحسن طويته من جنس فساد الفكر الذي به نجح الرومان في صياغة فكر المؤامرة السياسية الرومانية في المسيحية، ومن جنس فساد فكر الديمقراطية وتضليلها للمفكر فيها والقائل بها والمستمع إليها. إن التضليل في القول إن الحروب الصليبية سببٌ في كراهية المسيحيين للإسلام ليس فكراً ابتداءً من فيلسوفهم هنتينغتون حتى نحاسبه عليه ونلومه به، فهو فكرٌ متناقل بين مئات الكتاب والمفكرين، لكن عتبنا أن يقوله مثل هنتينغتون الذي يجب أن يأبى الغوص في جهالة غيره إلا أن يكون مكتشفاً لحقيقةٍ في مطمور ذلك الجهل، لا حوضاً يشرب منه. لكنا لا ننزِّهه عن امتلاء قلبه وعقله بالحقد والكراهية للإسلام، مثله مثل أي أمريكي وأوروبي يتثقف بهذا الفكر اليومي بتوجيه النظام الديمقراطي الحاكم في كل بلد، وما نعيبه عليه أن يُنتج أو يقبل فكراً، أو أن يُثبت مقولة ولو من عند غيره، يتبناها، وهو لا يدري أنها جزء من مؤامرة الخبث الكنسي في إيجاد وتجذير الحقد والكراهية للإسلام في نفس كل مسيحي!(1/94)
كانت الحال بين المسلمين في دولة الخلافة ودول أوروبا أنهم في حرب دائمة، وجرت الأمور أن المسلمين هم دائماً غالبون، ينتصرون. في انتصارهم، كما في حربهم، لم يقتلوا شيخاً أو امرأة أو طفلاً أو رجالاً لا يتحركون بقتال. هم، مسيحيو أوروبا، وصفوا انتصار المسلمين أنه أرحم انتصار في التاريخ، نحن لم نذبح سكان أي بلدة استسلم أهلها أو انكسر جيش الدفاع عنها، لم نقتل امرأة تستغيث خوفاً على نفسها وطفلها، أو تبكي تسترحم لأمها أو العاجز أبيها، أو ترتعد حباً لرضيعها أو جنينها أن تبقره في بطنها رمح حاقد كاره. هذه، كانت عادة جند الصليب، جيوش الصليبية كانت تعتبر ذلك تقديساً مفروضاً من الملك والكنيسة والصنم المصلوب، أن يقتلوا المرأة المسلمة منتحبة أو صامتة، مقبلة أو مدبرة، وأمها والعاجز أباها، مرضعة كانت أم حاملاً.(1/95)
نتذكر احتفال المسيحيين بقيادة غودفري دوق لورين من أحفاد الصليبي شارلمان، بعد أن حاصروا القدس بأربعين ألف صليبي ولم يكن يزيد عدد حاميتها عن ألف جندي مسلم، سقطت. احتفال المسيحيين الذي استمر أسبوعاً يكتب عنه المؤرخ المسيحي ابن العبري: لبث الإفرنج في البلد (القدس) أسبوعاً يقتلون المسلمين] ووصفه مسيحي من قواد الحملة: كانت جنودنا وخيولنا تخوض حتى السيقان في نهر الدم] واستعاد أمجاد جرائم هذه المجزرة الفرد جيبون بقول المتبرئ منها: خدام رب المسيحيين رأوا حينئذ تمجيده وتكريمه، فذبحوا سبعين ألف مسلم من أهل القدس، من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، قرباناً للرب] التضحية البشرية عند الكلت كانت تقتصر على فرد من الوثنيين بقتله يرضى الصنم، أما صنم المسيحيين فأكثر شراهة أرادوه! ذبح ونحر سبعين ألف امرأة مسلمة مع أبيها العاجز وأمها وطفلها ورضيعها وجنينها، بطلب من الصنم! أم: لإرضاء الصنم المصلوب! هل يُعقل أن يصدِّق أوروبيُّ اليوم أن المسيح الصنم يمكن أن يكون طلب ذلك؟ أو هل يصدِّق فرنسيُّ اليوم وإنكليزهُ وألمانيهُ أن الصنم المسيح يستطيع أن يرضى أو يرفض ذلك؟ الحبر الأعظم، كاهن روما أمر أن تكون رايةُ الصليبيين في ذبحِ ونحرِ وبَقْرِ المسلمين: هكذا يريد الرب، أي: ديوس لوفولت].(1/96)
غدرُ قلب الوحش المفترس، ملك إنكلتره ريتشارد بمسلمي عكا، متحالفاً مع عدوه فيليب أوغست ملك فرنسا. بعد معاناة من الحصار الشديد ويأسٍ من فتح عكا عمد إلى طبيعته الإنكليزية الصافية، الغدر بالابن والزوجة والشريك والجار والحليف، الغدر في أساسه غدر بالوعد، واليمين، والعهد. عرض على الحامية في عكا الاستسلام والخروج آمنين وخروج من يريد من المسلمين معهم، ومَن يبقى في المدينة عكا يحيا آمناً سالماً من أي أذى في حياته: في جسده، في رزقه، وفي دينه وعلى دنياه، في عهد وحمى جيش إنكلتره جيش ريتشارد قلب المتوحِّش ملك الصليبيين الأول. رضي قائد الحامية إنقاذ أرواح ثلاثة آلاف مجاهد ومسلمي عكا من حراب وسيوف عشرات آلاف مقاتل مسيحي، ووثق بعهد الإنكليز والفرنسيين ومعاهدتهم، وهكذا دخل المسيحيون عكا وصدَّق المسلمون ووضعوا خوفهم وسلاحهم. تفاعل الكراهية كغليان القِدر لا يتوقف ونار الحقد تتأجج، لم يستطع قبول مسلمين أحياء وهو يستطيع قتلهم أمر بسيفه وبدأ بنفسه قتلاً في النساء والأطفال والرجال الذين صدَّقوا أن مسيحياً لا يغدر بعهد، بوعد ولا بمعاهدة! لما تعب أمر جنده بقتل من يجدونه مسلماً!(1/97)
ألم الغدر الإنكليزي والفرنسي، ألمنا من قتل الإنكليز والفرنسيين والألمان للمسلمين في القدس في سنة 1191م والغدر بالمسلمين في عكا عام 1192م لا يطيش صوابنا في بحثه عن ربط سبب القتل والغدر بسبب الحملة الصليبية التي ابتدأت عام 1099م. لو كان سبب الحملات الصليبية احتلال القدس وعكا لماذا إبادة المسلمين بعد الانتصار أو الاستجابة للسلام بعهد ومعاهدة؟ ولماذا قتل المسلمين العزَّل في الخيام والمراعي أو المسافرين في البراري؟ ولو كانت الحرب الصليبية لاحتلال بلاد المسلمين المقدَّسة عند الأوروبيين، لماذا الغدر بمعاهدة المسيحيين وهو وصمة عار أبدي للمسيحية في كل تقديس وقداس وصلاة، وذلةٌ للمسيحيين بطناً بعد بطن؟ لأن إبادة المسلمين كانت القصد، لأن القتل الظالم هو السبيل الوحيد لقتل العقل في الأوروبي، لأن قتل الغدر هو طريق إذلال القلب المسيحي في فظاعة جريمة يكره بها ضحيته، لا يكره المسيحي المسلم إلا بعد أن تجفَّ فيه آخر نقطةٍ من معين الفضيلة! قتل الصليبي المسيحي قتل سياسي لا عسكري لتحقيق هدفٍ عسكري بل قتل سياسي لتحقيق هدفٍ سياسي. هدف الملوك المسيحيين في ألمانيا وإنكلتره وفرنسا وغيرها كان هدفاً سياسياً في الفرنسيين والإنكليز والجرمان وبقية الأوروبيين، في شعوبهم لا في المسلمين، الهدف كان تفريغ نفس المسيحي الأوروبي من كل فضيلة حتى تمتلئ وتفيض كراهيةً للإسلام وحقداً على المسلمين أبد الدهر!
كتب الخليفة عمر بن الخطاب إلى المسيحيين عهداً بعد فتح القدس ليس من حاجة إلى ذلك بل لطمأنة أهلها المسيحيين إلى وجودهم، كتب إلى أسقفها سفرنيوس:
بسم الله الرحمن الرحيم(1/98)
هذا ما أعطى عبد الله، أمير المؤمنين، أهل إيلياء (القدس) من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم.. وكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها.. لا تُسكن كنائسهم، ولا تهدم.. ولا يُنتقصُ منها، ولا من غيرها. ولا من صليبهم.. ولا من شيء من أموالهم.. ولا يُكرهونَ على دينهم.. ولا يضار أحد منهم..] كان ذلك في عام 637م 15 هجرية قبل خمسمئة وخمسين عاماً تقريباً من غدر الإنكليز والفرنسيين والألمان وبقية الأوروبيين بعهودهم مع المسلمين وقتلهم بطريقة الإبادة الجماعية بعد تسليم المسلمين سلاحهم.
كيف استطاعت أجيال المسلمين التزام عهد الخليفة عمر بن الخطاب طوال خمسة قرون ونصف، ولم يستطع المسيحيون التزام عهدهم خمسة أيام ونصف؟ في دين الإسلام المسلمون يلتزمون حكم الله في أفعالهم أولاً وقبل أي انفعال، الله يقول في القرآن الكريم: {مَنْ أَوْفى بعهده من الله} ويقول أيضاً في القرآن العظيم: {بلى من أوفى بعهده واتقى، فإن الله يحب المتقين} وعلى لسان الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم: «لا إيمان لمن لا أمانة له. ولا دين لمن لا عهد له» ومرة ثانية يقول صلى الله عليه وسلّم: «أيما رجل أمَّن رجلاً على دمه ثم قتله، فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول كافراً». ومرة ثالثة يقول صلى الله عليه وسلّم: «من ظلم معاهداً، أو انتقصه حقه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة».(1/99)
استعاد المسلمون بيت المقدس إيلياء بقيادة يوسف بن أيوب الذي أراد الله أن يكون صلاح الدين به. وكان شرط قيمة الفدية عن الشخص تتراوح بحسب وضع الشخص أقلها دينار وأكثرها عشرة دنانير. افتدى الأغنياء أنفسهم بسهولة وخرجوا بجميع ما يملكون من عربات محملة بذهبهم ومالهم إلى حيث يريدون، إذ الفدية ضريبة خروج من أمانِ الإسلام، دون أن يلتفت غنيٌّ إلى فقير ويفديه. إلا أن عجبَ هذا يصغرُ أمام العجب من فعلةِ أسقف المسيحيين بَطْريقِ بيت المقدس هرقل إذِ افتدى نفسه ببضعة دنانير وخرج يتبعه رتل لا ينتهي من عربات حمل بها نفائس وكنوزاً لا تقدر من الجواهر والمال والمتاع والأواني الملكية دون أن يفتدي أسرَ مسيحي واحد بدينار وقد قدِّرت حمولته بآلاف آلاف الدنانير! حنق عليه قواد صلاح الدين يوسف بن أيوب وأشاروا أن يصادروا أمواله ويوزعوها على المسيحيين في القدس ليفتدوا بها أنفسهم ويستعينوا بما يبقى معهم على عودتهم إلى بلدانهم في أوروبا، لكنه يرحمنا ويرحمه الله يرد على أصحابه: كلا، لا أغدر به] وعندما طلبوا منه هدم كنيسة المسيحيين، كنيسة القيامة قائلين: إذا هُدمت انقطعت عنها وفود الزوار، أما إذا استمرت بها العمارة استمرت الزيارة] أيضاً ـ يغفر الله له ولنا ـ يرد على أصحابه: عندما فتح عمر بيت المقدس أقرهم على المكان ولم يهدم البنيان] بعد افتداء أغنياء المسيحيين لأنفسهم بقي الفقراء:(1/100)
أطلق سراح رجالهم، وأعفى الأرامل واليتامى والشيوخ، ونقل النساء بحراسة جنده إلى حيث شئن، ووزَّع المال والطعام على المحتاجين جميعاً وضرب لهم الخيام حتى لا يتذللوا في سؤال المسلمين لإطعامهم بعد أن تخلى عنهم بَطْريقُ المسيحية وهرب بمالهم، ودفع نفقة البواخر لعودة المسيحيين إلى مدنهم وقراهم في أوروبا بعد أن أبى أصحاب السفن وربابنتها نقلهم بغير أجر! يذكر المؤرخ شامب دور هذه الأعمال ويقول عنها: هكذا هو مسلك العرب والمسلمين، إبان الحرب وبعد الانتصار، إزاء الصليبيين.. موقف إنساني كريم] أما جيبون ففي أسلوبه يكتب: السلام الذي ساد بين المسلمين والمسيحيين.. إنما كان مؤسساً على تسامح الإسلام] أي من طرف واحد طرف المسلمين، وفي ظرفٍ واحد عندما كان المسلمون ينتصرون!(1/101)
خطة غرس كراهية الإسلام والحقد على المسلمين تستمر في تاريخ السلطة المسيحية السياسية في الأوروبيين وفي تاريخ السلطة الكنسية، لويس التاسع ملك فرنسا يهاجم مصر في عام 1249 فيُهزم ويُؤسَر. يعفو عنه المسلمون فيزداد حقده وتآمره على المسلمين. يبعث إلى مارد الصين هولاكو بالهدايا والرهبان يُغريه بِ بلاد المسلمين وثرواتهم أنها له! ولزوجته المسيحية الأميرة دوكس، ولقائده الأكبر كتبوكا، والنسطوريين من مستشاريه أمثال داود ومرقص، ويوغرهم بكل مكر وكذب وتضليل أنها لقمة سائغة لكل بطّاش ذي بأس. يستجيب هولاكو ويزحف إلى بلاد المسلمين، يجوبها يقتل، يدمر، يحرق البيوت بأجسادها وكتبها، بقي يقتل في المسلمين ليلاً ونهاراً عشر سنين قبل أن يسحق جيشَهُ المسلمون بقيادة «قُطز» أميرهم ويقتلوا كتبوكا قائد المغول الأكبر بعد هلاك هولاكو. في وصف مجزرة هولاكو في قتل المسلمين التي لا تفوقها في التاريخ إلا مجزرة قتل المسيحيين للمسلمين في إسبانيا والبرتغال، يكتب الأسقف دي مسينيل أحد كبار المبشرين بالمسيحية في التاريخ، وصفاً في واقعه يكرس مؤامرة زرع الكراهية والحقد على المسلمين والإسلام وإن كان في ظاهره أنه ينبع من مؤامرة الكراهية للإسلام، يقول: كانت الحملة المغولية ضد الإسلام والعرب حملة صليبية حقيقية بالمعنى الكامل لهذا الوصف، حملة مسيحية، نسطورية.. تعلق بها أمل الغرب في القضاء على خصومه العرب والمسلمين.]
ملك المسيحية يفرح عندما يقتل المسلمين بعد أن يستسلموا، المسيحيون يفرحون عندما يقتلون المسلمين بعد أن يعاهدوهم على الأمان ويسلموا سلاحهم، الحبر الأعظم يقول إن هذا الغدر هو رغبة المصلوب ومطلوب الصنم، وعندما يقتل الوثنيُّ غيرُ المسيحي المسلمين يفرح الكهان والرهبان والمبشرون أنها هذه هي الحرب الصليبية الحقيقية!(1/102)
إني أستبشر، بكل هذه المعطيات التي تفرض اليأس من قدرة الأوروبي على رؤية حجم المؤامرة عليه في عقله وقلبه، أن في هذه المعطيات نوراً جديداً يسطع يعيد أملاً بعد قرونٍ من انعدام ذلك، في أن يكتشف الأوروبي في ذاته ومن أجل ذاته أنَّ كراهية الإسلام لم يكن لها مبرِّر غير حرص حكامه جلاديه، وكهنة المسيحية الذين خدعوه في كل قول وعمل وفكر، على أن لا يرى حقيقة قول الإسلام في الإنسان والحياة والموت، ومنها قوله في الحاكم أنه ليس إلهاً وفي الكاهن أنه كذاب لا يغفر، منافق لا يتكلم عن الله. وبعد زوال الحاكم المسيحي والكاهن الدجال لم يعد مبرِّر على الإطلاق لكراهية الإسلام والصدِّ عنه وكراهية المسلمين والاستمرار في قتلهم كما يفعل حكام الديمقراطية اليوم!
مقارنة طريقة الدعوة إلى الإسلام مع طريقة المكر والقتل في التبشير بالمسيحية عملية عقلية، لو سمح بها كهنة دهاليز الدياميس لوقعت الواقعة الكبرى في الأوروبيين. المقارنة بين الحجة والبرهان في الإسلام والخداع والقتل في فرض المسيحية كان يجب أن تُحدِث الهزَّة الفكرية في الأوروبي، في مجتمع روما، في مجتمع الجرمان، والفرنجة، والأنغلوش، والأسبان والجماعات الأوروبية الأخرى من آرشيين، فلام، دانيين، ولش، إغريق وغيرهم. تحرُّك العقل في أي موضوع كان ممنوعاً في المسيحية، خوفُ السلطة الكنسية من تفكير الأوروبي خوفُ حياةٍ أو موت، لأن الفهم يقتل التصديق المسيحي في النفس أوروبية كانت أم آسيوية أو أفريقية، مهما كانت تلك النفس مريضة سقيمة الفهم إلا أن تكون معدومته. لهذا لم تحصل المقارنة ليس بالصدفة بل ببناء جدار الكراهية في نفوس الأوروبيين وفرضُ وَهْمِ الحقيقة قولهم الدائم: الغرب مسيحي أو أوروبا مسيحية والشرق إسلامي.(1/103)
قولٌ باطل ينقضه الواقع، إذ لو كانت أوروبا مسيحية كيف ثارت على المسيحية وعزلتها وعزلت كهانها عن واقع الحياة في عيشهم، لو كان قولاً صحيحاً ماذا نقول اليوم، أنغيِّرهُ ليكون: الأوروبي كافر والشرق مسلم. هذا القول صحيح ينطبق على الأوروبي في حياته في خضوعه للمسيحية وفي حياته في خضوعه للرأسمالية الديمقراطية. ولكنه قولٌ وإن كان صحيحاً في وصفه إلا أنه ليس صحيحاً في واقعه. فوصف الأوروبي أنه كافر وهو مسيحي وكافر وهو ديمقراطي صحيح ولكنه وصف ما فرضوه عليه لا وصف ما اختاره هو، فالأوروبي لم يُسمح له عبر التاريخ مرة واحدة أن يكون حراً في اختيار واقعه، لم يعطَ حرية التفكير في اختيار واقعه في الحياة، اليوم في الديمقراطية يقولون عنه إنه عنده حرية التفكير وهو يردد عنهم أنه عنده حرية التفكير، يخدعونه بالكذب والإيهام أنه يمكنه أن يفكر، معطيات تفكيره صناعتهم. فالأوروبي الذي يفكر بمعطيات التفكير التي تهيؤه له سلطات النظام التي توجهه هل يمكن أن يتوصل إلى نتائج في تفكيره من غير جنس تلك المعطيات؟ كان يحيا في عبودية الفرض والمنع الفكري في حياته مسيحياً، واليوم يحيا الأوروبي في انقياد أعمى لسيل المعطيات الفكرية التي يزودونه بها طوال حياته ويحشون به رأسه منذ الرضاعة. لذلك، صحيح القول في حالة واقع الأوروبي الدائمة في المسيحية والديمقراطية؛ أن الأوروبي مُعطَّل العقل، ممنوع عليه حرية التفكير في واقعه؛ أن أوروبا ذليلة العبودية والشرق في حرية الإسلام. فهذا الوصف وحده الذي يطابق واقع حياة الأوروبي في المسيحية وفي الديمقراطية وواقع حياة المسلم في ظل دولة الخلافة دولة الإسلام التي كانت تطبِّق نظام الإسلام بين الناس وفي علاقاتها، وبدون دولة الخلافة التي أزالتها مؤامرة الأنغلوش والألمان والفرنجة وروسيا.(1/104)
سبب فرض الكنيسة كراهية الإسلام على الأوروبيين هو نفس سبب فرض سلطات الحكم الرأسمالي الديمقراطي أو الاشتراكي الديمقراطي في أوروبا كراهية الإسلام على الأوروبيين اليوم. الكنيسة كانت تعرف يقيناً قوة فكر الإسلام وحجته وبرهانه الذي لا يرد، تماماً كما تعلم حكومات دول أوروبا اليوم أن فكر الإسلام هو الفكر الوحيد بديل فساد الفكر الديمقراطي الذي أثبت عفونته الواقعية. خوف الكنيسة من الإسلام كان خوفاً فكرياً لا عسكرياً، خوف الكنيسة هو الذي فرض غرس الكراهية للإسلام في نفوس الأوروبيين لتعطيل دور العقل في المقارنة. إجراء الكراهية كان لمنع المقارنة الفكرية في العقل الأوروبي، تماماً كما تستمر به سلطات الحكم الأوروبي اليوم.(1/105)
هنتينغتون(1) مفكِّرٌ في عتمة الحقائق التاريخية يفهم خوف الأوروبيين كما أفهموه إياه كَذَبَةُ التاريخ في حقائقه ومخادعو اليوم في واقعه، يعزو خوف الغرب من الإسلام لعاملين: تاريخي بسبب الحروب الصليبية، والحركات الإسلامية القائمة على كراهية الغرب، هنتينغتون، مثلهُ كمثل آلاف المفكرين الذين سبقوه يستحم في دلو غيره، يفكر في ضياع، يهتدي إلى الواقع في نتيجته فيطيش صوابه بعد عناء البحث، يفقد سيطرته على الموضوع الذي يبحث فيه بدون رؤية في التاريخ أو الواقع، يقنع بما قاله غيره فيعيد اجتراره لما مضغه غيره. هنتينغتون، ليس له بصيرة يميِّزُ بها بين السبب والنتيجة، ولو كان عنده رؤية في التاريخ لما كان يمكن أن تعمى بصيرته عن طبيعة السبب وطبيعة النتيجة،فكيف يفهم التاريخ إن لم يكن مفكراً في حقائق التاريخ. كَذَبَةُ التاريخ، أمراءُ الكنيسة فرضوا على الأوروبيين حرب المسلمين لتأصيل الكراهية في نفوسهم، الكنيسة فرضت كراهية الإسلام على الأوروبي إجراءً وقائياً خوفاً من زوال وجودها، خوف الكنيسة من فكر الإسلام هو الذي أوجب تعطيل العقل في الأوروبي حتى لا يجري المقارنة بين خداع المسيحية ومكرها به وحجة الإسلام ورحمتها به. فالحروب الصليبية كانت نتيجة وليست سبباً، وهذا خطأ كل باحثٍ لا يربط بين حقيقة المؤامرة السياسية في المسيحية الرومانية على الأوروبيين وأحداث هذه المؤامرة، فاعتبار حدث في المؤامرة أنه أساس هو الذي يُعمي البصيرة عن فهم أي حدث سياسي في التاريخ أو الواقع.
__________
(1) . (1) صاموئيل هنينغتون مؤلف كتاب صدام الحضارات.1(1/106)
كذا في قوله في العامل الثاني لسبب الخوف الغربي من الإسلام أنه الحركات الإسلامية الأصولية القائمة على كراهية الغرب، يدل على جهله المطلق الكامل بواقع هذه الحركات أولاً، والواقع السياسي في الدول التي تعمل فيه هذه الحركات ثانياً. وهو يدل على جهله المطلق بالتيارات السياسية الدولية التي أوجدت وتسيِّر هذه الحركات لأهداف وأغراض أبعد بكثير من الأعمال التي تقوم بها هذه الحركات. ولو لم يكن يفكر في وهم الواقع لأدرك الدور الخبيث الذي تقوم به معظم هذه الحركات التي جعلوها حتى في عبقريته رُعباً يخيف، فكيف في تصور بسطاء الناس وعامتهم في أمريكا وأوروبا!
هنتينغتون، بيدهام(1)، فوكوياما(2)، غارودي(3)، تشومسكي(4)، نيكسون(5)، وغيرهم من عباقرة المفكِّرين في زمن الجدب الفكري لجم عقولهم تحديد غاية الفكر قبل
________________________________________
بريان بيدهام كاتب كتاب الإسلام والغرب الذي نشرته مجلة الإيكونوميست عام1994.
فرانسيس فوكوياما كاتب كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير عام1993.
روجيه غارودي أسلم إسلاماً فلسفياً لكنه لم يستوعب العقيدة الإسلامية وبالتالي وجهة نظر الإسلام في الحياة، لذلك بقي ضائعاً يخلط بين فكر إسلامي وغربي من منظار الحب المسيحي الكاذب.
نعوم تشومسكي كاتب كتاب ردع الديمقراطية1992.
رئيس سابق لأمريكا كاتب كتاب أمريكا والفرصة التاريخية 1992.
إجراء البحث الفكري، فالموضوع المحدد سلفاً هو الذي يحدد البحث الفكري في(1/107)
اتجاهه وحيثياته، فهذه الممارسة الفكرية يستحيل أن تنتج حقيقة فكرية بل تنتج مبرراً فكرياً وليس حتى فكراً. فالمفكر في تبرير أو حيثيات يفتِّش وليس يفكِّر، والذي يفتش يجد مبرراً ولكنه لا ينتج فكراً. إذ المفكر يفكر في معطيات يبحث بها عن فهم وليس في موضوع أو واقع كيف يبرره ويثبته ويطوِّره كما فعل هؤلاء ويجري على منوالهم جميع (مفكري) الثقافة الغربية ومنهم العشرات والمئات والآلاف ممن يدَّعون أنهم مفكرون "إسلاميون" أو "مسلمون". هؤلاء، والمسلمون منهم أعمتهم حقيقة خوف الغرب عندما كان الغرب مسيحياً، أسلافهم المفكرون كذلك أعمتهم الحقيقة عن فهم سببها. لكن عواقب عدم فهم مفكري اليوم لهذه الحقيقة التاريخية هي غير عواقب عدم فهم مفكري زمن البطش المسيحي بالأوروبيين. إذ فهم الخوف الكنسي من الإسلام الذي أوجب على الحكم المسيحي الكنسي المتسلِّط على الأوروبيين فَرْضَ كراهية الإسلام جرى في غير واقع اليوم، واقع الخوف الذي فرض الكراهية وقع في عصرٍ كان للإسلام فيه دولة الخلافة، فكيف يقارَنُ واقع اليوم بواقع زال؟ حتى لو فهم هؤلاء المفكرون حقيقة التاريخ في كراهية الأوروبيين للإسلام أنه كرهٌ فرضته السلطات المسيحية فرضاً بسبب خوفها من إحداث المقارنة الفكرية بين الإسلام في عرض أفكاره والمسيحية في فرض أفكارها، كيف يتحدثون عن هذا الخوف ـ خوفُ اليوم ـ أنه حقيقة وليس خدعة؟ هل تراهم يفهمون أنه خدعة وليس حقيقة؟ جزماً، نقول، إنهم يعتقدون أن خوف اليوم حقيقة وليس خدعة، لأنهم مفكرون يفتشون عن حيثيات وليسوا مفكرين في معطيات يبحثون بها عن الحقيقة في الواقع، إنهم يفكرون في تقوية وتثبيت واقعهم وليس في حقائق واقعهم، وشتان بين فكر هذا وفكر ذاك، وبين سبب هذا وسبب ذلك؛ فذاك تفكير في حياة وهذا تفكير في تسلّط. كيف يقاس خوف الأمس على خوف اليوم؟(1/108)
خوف الغرب كان له عند العصابة المسيحية ما يبرره، هل يتماثل حكم الديمقراطية اليوم في الغرب الرأسمالي مع حكم العصابة المسيحية التي خدعت الأوروبي في المسيحية وفرضت عليه بالقتل قبول المسيحية بديل وثنيته؟ لا يمكن أن يستمر خوف المسيحي ويتحول إلى خوفٍ في الأوروبي الديمقراطي المعاصر إلا إذا كانت سلطة الحكم الديمقراطي الرأسمالي اليوم عصابة ديمقراطية تخدع الشعب في كل بلد أوروبي وأمريكي في ديمقراطية عيشه وتفرض عليه بالتشريد والنبذ قبول الديمقراطية بديل القهر المسيحي! هل هذا هو الواقع الذي يفهمه ويقتنع به هؤلاء المفكرون؟ نحن، نعرف يقيناً أن هذا الواقع هو الحقيقة في الواقع، ولكننا أيضاً نعلم جزماً أنهم لا يدركون أن هذا هو الواقع الحقيقي الذي يعملون على تثبيته وتقوية استمراره، ولا ندعوهم إلى التعرف إليه، ولا نبيِّن كيف يمكن أن يتعرَّفوا إليه، فهم قد صدئت عقولهم على التمرس في فهم الباطل وتبريره وليس في فهم الحقيقة واعتناقها، فالفكر عندهم بفائدته لواقعه وليس بقدرته على تغيير الباطل بالواقع. استمرار خوفِ سلطات الحكم في أوروبا ومفكري الديمقراطية في الغرب يعني أن مؤامرة عصابة المسيحية على الأوروبي مستمرة، ولكنهم ينكرون أنهم عصابة تسلُّط وريثة التسلط المسيحي، إذاً الخوف المعلن في غياب وجود دولة الإسلام في الحياة، أو في غياب وجود حياة على أساس الإسلام، لأن حياة الإسلام تكون كما هي الحياة في كل مبدأ، في وجود سلطة حكم تقوم على الإسلام، في غياب هكذا كيان ممَّ يخافون؟ من فكر بدون سلطة تطبِّقه!(1/109)
إنَّ خوف سلطات الحكم الديمقراطي في عالم الغرب من الإسلام المجرَّد من السلطة هو غير خوف سلطة الحكم المسيحي من الإسلام بسلطة تطبق أحكامه في علاقات الناس وحل نزاعاتهم، وتنظِّم علاقات المسلمين مع غيرهم بأحكام الإسلام، وتحمله دعوة إلى البشر كافة للعيش في عدالة حكمه. خوفُ هؤلاء خوف خدعة يخدعون بها الأوروبي حتى يستمر في كراهية الإسلام وقبوله بمنع عقله من التعرف على حقيقة الإسلام، وقبوله أن تكون سلطة الحكم فيه، ومنها إعلامه، وجامعاته، مصدر المعلومات الوحيد عن الإسلام. سببه وغايته ليس موضوعنا في هذا الكتاب بل جزء من موضوع الساعة: خدعة الغرب الكبرى الثانية في التاريخ، خدعة بل مؤامرة الديمقراطية الرأسمالية بعد مؤامرة المسيحية، حيث يستمر إخضاع الأوروبي في تقديس الطاعة للنظام بدل تقديس الطاعة للحاكم في المسيحية، وما الفرق في مسيرة الخضوع والتسليم إلا في صحوة من سكرةٍ للدخول في غيبوبةِ سكرةٍ أخرى.
……
خوف الغرب وإرهاب المسلمين
………وقود الكراهية
استمرار الأوروبي في كراهية الإسلام هدفٌ أساسٌ في خطة جميع أنظمة الحكم السياسي في دول أوروبا. ليس هدفاً ثانياً أو ثانوياً. لذلك نجده مبدأً في السياسة الخارجية، ومبدأً في مناهج التدريس والبرامج الإعلامية، ومصدراً في الأفكار الثقافية وجزءاً من الأخبار والتحاليل السياسية يومياً ودورياً. تعميق الكراهية في نفس الأوروبي ضد الإسلام هدفٌ أساسٌ في السياسة الخارجية لألمانيا كما هو لأمريكا أو أي دولة أخرى. هذا الهدف يحتاج إلى خطة عملٍ في مجالين:
المجال الأول: عقل الأوروبي
المجال الثاني: بلاد المسلمين(1/110)
في المجال الأول تنفذ أجهزة الحكم خطتها عبر دائرتين: الأولى مراكز الفكر ومصادره وهي الجامعات، دور النشر للكتب، المحاضرات، الندوات الفكرية الخاصة بالأوروبيين والمشتركة مع المسلمين، المنابر الإسلامية التي اصطنعوها والعقليات الإسلامية التافهة في الجمعيات والأحزاب والشخصيات التي تسمح لها بالعمل في أراضيها، ترعاها وتمدح إخلاصها في إعطاء الصورة «المشرِّفة» و«الصادقة» للإسلام كما تحتاجه الخطة في حكم جرمانيا. في تنفيذ خطتها بمقارنة رقيِّ التفكير في المثقف الجرماني وهو غير مسلم، وانحطاطِ التفكير في المثقف المسلم ولو كان جرمانياً.
الثانية دوائر الإعلام وبرامجه وفي الصحف، المجلات، الإذاعات، التلفزيون، وكالات الأنباء، المسارح والأفلام السينمائية.
في كل دائرةٍ ولكل مركز أو وسيلة خطط وبرامج لا تُعد ولا تنتهي. خططٌ دائمة دوام الحياة في مجتمع جرمانيا، أمريكا أو البرتغال. خططٌ جزءٌ لا يتجزأ في تكامل الخطة السياسية، الثقافية، الفكرية والأدبية. جزء أساسٌ في ثقافة الحاضر صانع المستقبل. جزءٌ أساس في ثقافة تراثِ الجيل القادم كما صاغوا ثقافة الجيل السابق تراث ثقافة الحاضر.(1/111)
في المجال الثاني السيطرة السياسية والفكرية المطلقة على عقول المسلمين. وذلك باصطناع لعبة سياسية يظن الناس أنها لعبتهم، واصطناع أفكار إسلامهم يظن الناس أنه إسلام. تحقيق هذا كان سهلاً في إدارته ولكنه كان عسيراً في تعميم نجاحه. الغرب في كتابة هذه الأسطر يسيطر سيطرةً مباشرة كاملة مطلقة على جميع القرارات السياسية والمصادرِ الفكرية التثقيفية في بلاد المسلمين. سيطرته على القرارات السياسية ليست لأن الحاكم عميل لأمريكا أو بريطانيا وفي بعض بلاد المسلمين في إفريقيا لفرنسا، بل لأنه يسيطر على اللعبة السياسية في البلد. اللعبة السياسية أو المسرح السياسي أركانه أو شخصياته هم القوى والشخصيات التي في الحكم، القوى المؤيدة للحكم والقوى المعارضة للحكم. شخصياتُ المعارضة في بلاد المسلمين لا تقل خيانة للأمة، ليست أقل ولاءً وإخلاصاً للغرب. دورُ المعارضة للحكم في بلاد المسلمين هو تسهيل تنفيذ خطط الغرب أو الدولة التي تمثل الغرب في إدارة البلد المسلم. مثالٌ على هذا الدور للمعارضة السياسية في خيانة الأمة نأخذ حالة من الحالات التي تبين بوضوحٍ دورها في تسهيل خطة أمريكا وبريطانيا والغرب كافة في تقسيم بلد من بلاد المسلمين إندونيسيا.(1/112)
أمريكا فرضت على "سوكارنو" تعيين جاسوسها "سوهارتو" قائداً للجيش لأنها كانت تخطط لتسليم قيادة إندونيسيا إلى "سوهارتو". ليس لمعصية "سوكارنو" لأمريكا أو لتمرده، فقد نجحت أمريكا في إزالةِ أي أثر أو بقيةٍ من إخلاص لربه وشعبه في نفسه. لكن، زعامة "سوكارنو" قامت على إخلاصه في مقاومة الاستعمار الأوروبي ومقاومة النفوذ الأمريكي في سيطرته على إندونيسيا، وقام المسلمون بمساندته في ذلك. عندما استسلم "سوكارنو" للضغوط الأمريكية وتحوَّل إلى عميل لها لم يتضح ذلك سريعاً للعامة وبقيت زعامته ترتبط بكفاحه. لذلك اقتضت الخطة الأمريكية إذلاله لإذلالِ توجهه السابق. عندما جيء بسوهارتو جاء بصورة القوي العسكري البطل وليس كما خرج فأراً ذليلاً جباناً. طوالَ حكمه سمح لحزب "نهضة العلماء" أن يصبح تعداد أعضائه 30مليوناً، وحزب "المحمدية" أن يصبح تعداد أعضائه 36مليوناً تحت سمعه وبصره. فجأة يظهر هذان الحزبان أنهما معارضان بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الخنوع في الخضوع لسوكارنو وسوهارتو. فجأة اكتشفا أنه خائن كافرٌ لصّ. لم يقولا عميلٌ لمن، ولا كافرٌ بماذا. فجأة يتظاهرون مع غيرهم ممن لا يعرفون إسلاما ولا يطالبون بإسلام، يخربون ويحرقون. يدافع الجيش عن الأرواح البريئة والممتلكات العامة والخاصة التي لا علاقة لها بنجاح المظاهرة أو فشلها، وهذه بداية ونهاية مهمة الجيش وقوى الأمن الوحيدة في إندونيسيا إلى جانب حماية عصابة الحكم التي ثبت بعزلها خيانتها للأمة وكفرها بدين الأمة. تتوالى المهزلة في المسرح السياسي الدولي فتتهم أمريكا الجيش بقتل الأبرياء والتعدّي على الحرّيات العامة ودوس المبادئ والحريات الديمقراطية! فجأة يصدر الأمر بالخيار الوحيد لسوهارتو. الخيار الوحيد كان المحاكمة على السرقة أو الاستقالة والاحتفاظ بالسرقات.(1/113)
"سوهارتو" عندما كان يحكم بسلطة مطلقة في خيانة المسلمين وخيانة الله ورسوله والمؤمنين، ويسرق ثروات المسلمين كان يسرق بمعرفة أمريكا ودول الغرب وصحافته وإعلامه. أهم من هذا كان يسرق بمعرفة ضباط جيشه وزعماء حزب "المحمدية" و"نهضة العلماء". لم يعترض أي ضابط ولا أي معارض ولا أية دولة غربية. هذا يفسر أن حملة المعارضة لم تكن لضرب سوهارتو، بل لضرب دور الجيش في أنه المحافظ على وحدة إندونيسيا، بتحويله إلى قطٍّ يهرب من نباح الكلب. القط، جيش إندونيسيا بين عشية وضحاها أصبح يتبرّأ من دوره في حماية الأمن الداخلي، ودوره في منع قتل الأبرياء وحرق الممتلكات حتى تلك التي ليست للمسلمين. كل ذلك حتى يمتنع كلياً أن يكون له دور ولو لفظي في منع تقسيم إندونيسيا. عندما تحققت غاية منع الجيش بالفرض المعنوي والإعلامي من القدرة على التحرك بوجه خطة تقسيم إندونيسيا انكفأت أحزاب المعارضة الرئيسية عن المطالبة بالديمقراطية والإسلام ووقف الفساد والرشوة وتفشي الرذيلة. كأنما غاية وجود هذين الحزبين المسلِمَيْن وهما الحزبان الرئيسان أن يكونا الرصيد الاحتياطي للشيطان عندما تحتاج اللعبة السياسية للتهويل بقوتهما، فهما الأقوياء. أو الحزبان التافهان الضعيفان ذوا القوة المهمّشة عندما لا يكون لمحرِّك اللعبة السياسية حاجة إليهما. تيمور الشرقية تفصلها أمريكا وبريطانيا دون أن يحرك حزب 'المحمدية' وأعضاؤه الملايين مظاهرة من مئات الأشخاص. وينام حزب 'نهضة العلماء' بأعضائه الثلاثين مليوناً كالزوج ينام على عتبة باب مخدع الزوجية التي تمارس فيه زوجته الخيانة الزوجية.(1/114)
لا شك أن مخطط تقسيم إندونيسيا إذا ما احتاج إلى مزيد من فوضى الشارع ومزيد من خنوع الجيش لتبرير عدم تدخله في الوقوف بوجه مؤامرة تقطيعِ أواصر المسلمين في إندونيسيا، سيبرز فجأة دور جديد لحزب "المحمدية" وحزب "نهضة العلماء" في إندونيسيا ليكونوا أداة في تنفيذ الانفصال. من يدري لعل اللعبة تفرض أن يقوم كل حزب بالاستقلال بدولة انفصالية يتولى أمرها منفرداً بدون مشاركة من آخر، بحجة أن ذلك بداية خطة توحيد إندونيسيا، أو بداية حكم إسلامي في إندونيسيا!
أو لعل تنفيذ خطة تقسيم إندونيسيا توكل إلى ابنة بطل الاستقلال حتى لا يكون مبرر لمعترضٍ على التقطيع. مسرحية اللعبة السياسية في إعادة صياغة الحكم الجديد في رداء الخيانة يجمع الزعامات "الإسلامية" والمرتدين عن الإسلام بحجة محاربة الفساد ومحاكمة الفاسد لإثبات نزاهة الحكم الجديد في استغلال رغبة الشعب في محاربة الفساد يعلن الرئيس "المسلم" ونائبة الرئيس المرتدة أنهم سيقضون على وحدة إندونيسيا بتحويلها اتحادية اليوم حتى يسهل تقطيعها إلى دويلات غداً. هذا مَثل في أمر واحدٍ في بلد واحد، لأمثلة في واقعها تتجددُ في حبكها لا في مؤداها، في كل بلد في كل يوم. لذلك لن نخوض في تفصيلاتها في بلاد المسلمين بل نبحث بإيجاز وانتقاء بعض الخطوط العريضة للعمل في إفساد المسلمين في بلاد المسلمين.(1/115)
1-أن يتحول المسلمون عن اعتبار نتاج الفكر الأوروبي أنه فكرٌ كافر. الفكرُ الكافر هو غير فكر الكافر. الفكر الكافر هو الفكر الذي ينبع من كفر. كل فكر يحتاج إلى ينبوع ينبع منه، إلى مصدرٍ فكري يصدر عنه. كل مصدر لفكر يتعلق بعقلية الإنسان ونفسيته، يحدِّد غايته في الحياة وقِيَمَهِ. يؤثر على سلوكه وعلى مقياس الخطأ والصواب في الفعل والقول، وعلى تحديد الخير والشر في العمل والنتيجة. كل فكر حياتي يصدر من غير كتاب الله القرآن الكريم وسنّة رسوله هو فكرُ كفرٍ بدين الإسلام. هذه قاعدة أساسية لِقبول الإسلام ديناً. مَنْ لا يؤمن ويتمسك بها يخرج من دين الإسلام ولو كان عالماً يدعو للإسلام من على منبر الرذيلة والدس تلفزيون ... الفضائية أو الفضائيات. هذه الحقيقة في الإسلام يعرفها الساسة والمفكرون والمثقفون الإنكليز والجرمان خاصة والأوروبيون عامة. يطبقونها في برنامج تمييع الفكر الإسلامي.
2-تمييع الفكر هو عملية إزالة معالم الفكر وحدوده. تمييع الفكر يكون بمهاجمة الفكر على جبهتين:
الجبهة الأولى تكون بتغيير معاني أحكام الإسلام، تحريفُ مقاصد أحكام الإسلام وتسويغُ تعطيل أحكام الإسلام. وذلك بإصدار أفكار مباشرة بمعانٍ جديدة، مبتكرة، مستقلة عن أي دليل شرعي. بالتركيز على مقاصد الوثنيين في أعمالهم لتحل محل مقاصد الأحكام في الإسلام، وإيهام المسلمين أنهم في أحسن حالٍ إذا خضعوا لقهرهم وغلبتهم بجيوش منهم، ورضوا، لعجزهم، بغير نظامِ الله أن يسوسهم حكامهم.(1/116)
هذا التغيير للمعاني، والتحريف للمقاصد وتسويغ التعطيل للأحكام يزيل معالم الإسلام الرئيسة ويهدم الحدود بين أفكار الإسلام وأفكارِ الكفر التي هي أفكارُ غير الإسلام. إلا أن هذا الأسلوب مكشوف في طريقته وغايته لذلك جوبه من قِبل كثيرٍ من المسلمين. حتى تولَّت أمريكا قيادة العالم وجعلت الهجوم المباشر على أفكار الإسلام وتفكيكها في وحدتها ومعانيها ومقاصدها قضيتها الأولى في حملتها الفكرية وقيادتها الفكرية. في هذه الخطة فرضت على كل نظام حكمٍ في بلاد المسلمين أن يجنِّد «علماءَه» في الخطة المباشرة لضرب أفكار الإسلام. وبسبب موافقةِ هذه الغاية لخطط بريطانيا في ترسيخ نفوذها في بلاد المسلمين أو حماية ذلك النفوذ فقد فرضت على جميع أنظمة الحكم التي تخضع لها أو تديرها حسب الدستور وشروط الاستقلال التعاونَ في تنفيذ هذه الخطة.
بدأت أمريكا هذه الحملة العالمية لهدم أفكار الإسلام بتكليف عبد الناصر بتبني هذه الخطة. لكن سرعان ما أدركت عجز «علماء» المسلمين في إنجاح هذه الخطة بسبب خضوعهم وارتباطهم بردّات الفعل المحلية. لذلك عمدت إلى إيجاد منابر عالمية للإسلام تستطيع أن تنفث عبرها أفكاراً من غير الإسلام على أنها أفكاراً إسلامية، دون أن تتأثر بردات الفعل المحلية أو الإقليمية. وهذا اقتضى إبراز «علماء» عالميون يستطيعون التصريح والدعوة لأي كفرٍ على أنه إسلام في غياب ندٍّ لهم في عالميتهم. واقتضى إيجاد مراكز لمعظم الأحزاب الإسلامية التي تسير في ركاب فكر الغرب، وفي دعم الخطة الجديدة بجهل من هذه الأحزاب أو بوعي منها، في معظم دول الغرب.(1/117)
عنوانُ هذا البحث «وقود كراهية الإسلام» لا يسمح بالدخول في تفصيلات أسماء المنابر العالمية للإسلام، ولا أسماء «العلماء» العالميين للإسلام. كذلك الأحزاب أو الجمعيات الإسلامية التي ترعى دول أوروبا وجودها على أراضيها وحماية شخصياتها، تسهيل أعمالها ومراعاة ماليتها، تخصيصها بالتعاون والإشهار، مشاركة ندواتها وفتح المنابر الإعلامية لها. وإن كانت هذه المنابر والأحزاب و«العلماء» يمكن تسخيرهم في أي وقت في برنامجٍ يستهلكها في «وقود كراهية الإسلام»، فهذا أمر جانبي جداً في غاية وجود هذه الأحزاب.(1/118)
الجبهة الثانية هو خطة خلط أفكار الإسلام بأفكار غير الإسلام، أفكار الكفر. هذه الخطة حققت نجاحا باهرا في عملها . اعتمدت هذه الخطة في تحريف الإسلام على استغلال عدم وضوح قواعد شرعية معينة في أذهان المسلمين. في الإسلام قواعد شرعية نتجت عن أحكام معينة كان سببها تسهيل فهم الحكم لعامة المسلمين في حادثة معينة. فهذه القواعد ترتبط بحكم معين وظرف معين وهي ليست قواعد للاجتهاد. ولا يجوز لأحد أن يتخذها مصدرا للاجتهاد ، بل إن اعتمادها مصدرا للاجتهاد يؤدي بالعالِم أو المجتهد أن يكون فاسقا عن أمر ربه. ولا يجوز إخراجُ حكم هذه القواعد من طبيعتها ولا من سببها أو قصدها. لكن، والعمل هو دسٌّ وتحريف فقد كان سهلا على "علماء" تمييع الإسلام في الإذاعات والصحف والتلفزيونات المحلية والفضائية العالمية وخاصة تلك التي يمتلكها نظام الحكم أو زبانيته. ما أعطى زخماً لِ"علماء" السلاطين والمفكرين 'الإسلاميين' والأحزاب ‘الإسلامية’ في الداخل في تكثيف نشاطها في إفساد الفكر الإسلامي. فسادُ النوع يبطل صلاحية النوع لعمله، فصلاح الشيء يكون في قدرته على تحقيق فائدته، فإن عجز الدواء عن تحقيق الشفاء لا يكون شفاءً للداء. فساد النوع يكون بذهاب مفعول مادته، أما فساد الفكر فيكون في إضافة فكر من غير جنسه إليه يُبطِل مفعوله في الفرد والحياة. في بحث نوع فكر الإسلام ثلاث خصائص:
1- أ نها من القرآن أو السنة أو إجماع الصحابة أو القياس في جنسه.
2- أنها الأفكار الوحيدة التي يحق للمسلم اعتناقها والتزامها.
- 3 تفرض تحقيق المقاصد بها لا بغيرها.(1/119)
كان ضرورياً التلاعب في هذه الخصائص حتى ينجح الغرب في إيجاد ينابيع جديدةٍ غير إسلامية تنتج أفكاراً "إسلامية". مثالاً على تلك الأعمال تغيير مفهوم "الإجماع" كمصدر للإسلام. الإجماع بحقيقته كان "إجماع الصحابة" وحدهم، لا إجماع المسلمين ولا إجماع العلماء. فحوَّلوه ليكون إجماع المسلمين، رغم ما هم عليه من تخلف وجهل الغالبية العظمى وغلبتهم في قرارهم وأجسادهم وأوطانهم، مصدراً لأحكام الشرع. كذلك في أن يكون إجماع "العلماء - علماء السلاطين" رغم ذِلَّتِهم في خنوعِهم للحاكم بغير ما أنزل الله. ورغم فساد طريقة تلقيهم معارف الإسلام، وفساد طريقة دعوتهم للإسلام، وغياب الإسلام كوجهة نظر في الحياة بها وحدها يلزم التعامل مع أمور الحياة والحكم والحرب. وسطحيتهم في فهم الفكر القيادي الذي يلزم المسلم كحامل دعوة لنشر الإسلام في طريقة تطبيقه، وانعدام القدرة عندهم على التفريق بين فكر إسلامي وغير إسلامي في مجال العلم والثقافة، والحضارة والمدنية، والرعاية السياسية المعيشية والصناعية، والتجارة الداخلية والخارجية، والسياسة الخارجية والعسكرية للأمة الإسلامية. ولا حتى في التفريق بين فكر إسلامي وغير إسلامي فيما يتعلق حتى بعالمية الإسلام وخصوصية الإسلام. سطحية 'العلماء'، عجزهم أو جهلهم ليس بالضرورة فيهم لكنه ظاهر واضح في كل ما يقولونه أو يصدر عنهم حتى يؤلفوا إسلاماً جديداً سطحياً بدون عمق يصوغ عقلية الإنسان. عاجزاً عن معالجة وقائع الحياة الملازمة للإنسان في طبيعته ومجتمعه. "إسلاماً" جاهلاً بحقيقة الوجود والمصير في سببه وغايته.(1/120)
3- أحكام الإسلام تتوافق مع طبيعة الإنسان في فطرته حقيقة أثبتها الإسلام في كل حكم وشهد به جميع الذين التزموا أحكامه. حتى المفكرون والمؤرخون الأوروبيون الذين لا يؤمنون بالإسلام ديناً لأنهم لم يطلعوا على حجته، وليس كراهية له ولا عداءً للمسلمين، جميعهم يقرّ بهذه الحقيقة في الإسلام. لا ينكرها إلا المستشرق الذي كان يبحث في مجاري حقده والجهر في كراهيته مُستتراً بحجة البحث عن الحقيقة التي مات وهو يتساءل أأضعتها أم أضاعتني؟
توافقُ الإسلام مع طبيعة الإنسان هو غير توافق طبيعة الإنسان مع أحكام الإسلام عند المفكر الأوروبي. المفكر المسلم لا يرى اختلاف الواقع في صيغة الحقيقتين أو القولين. المفكرُ المسلم يعلم طبيعة الإنسان لأنه يعلم طبيعة حقائق هذه الطبيعة في جِبِلَّتها التي خلقه الله عليها. المفكر الغربي يعتمد على معرفة هذه الطبيعة من "علماء" النفس وعلى رأسهم "فرويد" الذي أثبت علماء اليوم تحريفه وجهله وخطأه في كل ما كتبه وأرساه من قواعدٍ لفهم طبيعة السلوك ومؤثِّراته. جهل المفكر الغربي لا يمكن معالجته لأنه ليس انحرافاً في فهمٍ بل جهل في بداية الفهم. إنهم ينظرون إلى طبيعة الإنسان أنها مجموعة غرائز تحتاج إلى إشباع. هذه حقيقة ولكنها ليست كل الحقيقة في هذه الطبيعة. هم من هذا الجزء من الحقيقة ينتقلون للبحث في تيسير إشباع هذه الغرائز. جميعُ فلسفتهم الفكرية والاقتصادية وجميع أعمالهم الحياتية تدور حول موضوع واحد هو إشباع الغرائز، وعلى غاية واحدة هي تحقيق الإشباع.(1/121)
حقيقةُ طبيعة الإنسان أن غرائزه جزء من طبيعته وليست طبيعته. فالغرائز طبيعة في الإنسان حقيقة كغيرها من الحقائق في طبيعة الإنسان. الغرائز جزء من طبيعة الإنسان كما التفكير جزء من طبيعة الإنسان إلا أن يقولوا التفكير غريزة من غرائز الإنسان، عندها يثبتون أنهم أجهل مما نعلمُ في عمق جهلهم. عندها يلزم تغيير البحث في إثبات أن التفكير طبيعة بخصائص غير خصائص الغريزة، وهو غير موضوعنا "وقود كراهية الإسلام". الغرائز جزء من طبيعة الإنسان كما الحاجات العضوية جزءٌ من طبيعة الإنسان، إلا أن يقولوا إن الحاجة هي غريزة من غرائز الإنسان، عندها يثبتون أنهم بعدم التفريق لا يفهمون الفارق بين أسباب التعاسة وحالة الموت، عندها يثبتون أنهم لا يفهمون معنى ما يقولون ولا يفهمون ما يعلمون. عندها يلزم تغيير البحث في إثبات أن سبب الشقاء غير حالة الموت وهو غير موضوعنا "وقود كراهية الإسلام".
مفكرو الإسلام يفهمون في حقيقة طبيعة الإنسان أن الغرائز جزء من هذه الطبيعة وليست الطبيعة. في هذا الفهم يدركون أن البحث في هذه الغرائز موضوع يتعلق في نظام إشباع. نظام الجزء غير نظام الكل. نظام الجزء يجب أن يتوافق مع نظام جيرانه، يجب أن يتكامل مع نظام بقيّته. جزءُ الطبيعة ليس منفصلاً ولا كاملاً. جزء الطبيعة يتكامل في طبيعته. يتكامل في غيره لا مع غيره. نظام جزء الطبيعة كجزء الطبيعة في طبيعته يحتاج إلى التكامل. لا يستطيع الاستقلال. نظامُ الإشباع طريقة في تنظيم الإشباع للحياة ليس في إشباعٍ يستقل عن سبب الحياة. تسخيرُ الحياة بطاقاتها لإشباع الغرائز غير تسخيرِ إشباع الغرائز في خطة الحياة لتحقيق غاية الإنسان في الحياة.(1/122)
عند المفكر المسلم توافق الإسلام مع طبيعة الإنسان هو نفسه توافق طبيعة الإنسان مع أحكام الإسلام. لأن إيمان الإسلام يفرض أفكار الإسلام أفكاراَ وحيدة في مصدرها فريدة في غايتها متميزة بطريقتها التي هي الطريقة الوحيدة لسعادة الحياة. لا يحلُّ لمسلم اعتناقَ والتزام غير أفكار الإسلام، فإن كانت لا تتوافق مع طبيعة الإنسان فكيف يستطيع المسلم التزامها؟ طبيعة الإنسان في غرائزه وغيرها لا تتغير، وسيلة الإشباع تتغير لا طبيعة الإشباع ولا طريقة الإشباع. إذا لم تتوافق طبيعة الإنسان التي خلقها الله مع أحكام الإسلام، كيف يكون الإسلام حكم الله؟
فكرُ المفكر الغربي الذي يحاول تعليمه للمسلمين فيه أمران:
الأول أنه فكر ينتج عن سوء فهمٍ لطبيعة الإنسان فهو مخالف لطبيعة الإنسان في نظامه ونتائجه الحتمية.
الثاني أنه بسبب سوء فهمه لطبيعة الإنسان، ومخالفة نظامه لطبيعة الإشباع في غرائز الإنسان، فهو حتماً يخالف الإسلام. بل يناقضه في أفكار فهمه، أفكار نظامه وأفكار تبرير نتائجه.(1/123)
دول الغرب تفرض على المسلمين أن يتخلّوا عن خاصية الإسلام في تحقيق منافعه. لا تتحقق نتائج التزام الإسلام إلا باعتناق أفكار الإسلام وحدها. أما إذا حصل اعتناق أفكار الإسلام مع أفكارٍ من غير الإسلام فلا تكون العقلية إسلامية بل عقلية محشوّة من نفايات وغير نفايات. أفكارٌ سليمة وأفكار فاسدة. عندها يكون إنسان من غير طينة الإسلام، أفعاله لو التزم أحكام الإسلام في كثير منها لا تُقبل نتيجة الشرط الأهم في الإسلام بعد التمسك بمصادر الشرع وحدها. تعميم ثقافة إفساد الخاصية الثانية في الإسلام يؤدي بالمسلم الذي ينقاد لجهله في نقدها ومعرفة زيفها إلى أن يكون حثالة الجنس البشري في تصرفاته. هم بعد أن يتثقف ثقافتهم ويتحوّل إلى حثالةٍ يُبرِزونه أنه المثل الحي المنحط للإسلام. تحويلُ المسلمين إلى مجموعة بشرية منحطةٍ ليس هدفه إبقاء المسلمين في الغيبوبةٍ العقلية التي يفرضونها عليه بسبب امتلاكهم وسيطرتهم على أجهزة الحكم والتثقيف والإعلام ومصادر الأفكار فقط. هدفه الأول أيضاً إيجاد الواقع الذي تنفر منه حتى النفس الوثنية الأوروبية مهما بلغت في فساد أفكارها وشقاء رجالها ونسائها. خطة خبيثة في تخويف الأوروبي من السقوط للعيش في واقع "الإسلام". نعترف بهذا الواقع لكن من يستطيع أن يعترف أنه واقع مصطنع غير طبيعي في الإسلام؟ من يستطيع أن يثبت لمئات الملايين من الأوروبيين أن هذا واقع يناقض واقع الإسلام؟(1/124)
4- على طريقة تحريف معنى الإجماع سار علماء الدسِّ في تحريف كل قاعدة شرعية حتى فرضوا على المسلمين الخنوع في حياة الإحباط الذي يعيشونه في ذلِّ معصية الله وسلطان الكفر. وتحولوا إلى فئة قبلت ترك الإسلام "لأهل العلم" وفئة محبطة في جهلها إسلام نبيِّها. بهذا القبول والإحباط تحول المسلمون إلى مجموعة بشرية تجترّ الفكر الغربي، تقلِّده في زيه وفجوره وضلاله. لكنها في هذا الانحطاط ما زالت تصدِّق أن "قوَّادها" أو رؤساءها يعملون لإنهاضها وإنقاذها وإحيائها. هذه الحال التي عليها مسلمو الحاضر تحقق للغرب هدفين نهائيين لا هدف بعدهما. جميع الأهداف التي حققها الغرب من احتلال بلاد المسلمين وقتلهم، نهب خيرات بلادهم، تقسيمها تمزيقاً، وربطها سياسياً واقتصادياً، وتفتيت وحدة الأمة الإسلامية، وفصم الشخصية الإسلامية، والسيطرة على العقلية الجماعية والفردية. لم يكن أي منها هدفاً نهائياً، جميعها أهداف في السياق.
الهدف الرئيس الأول أن يتخلى المسلمين طوعاً وليس كرهاً عن الإسلام. وهذا يعني في هدف الغرب تخلي المسلمين عن اعتبار الإسلام أنه مبدأ الحياة كلها، أفكار الحياة وأعمال الحياة وغايةُ الحياة، ويعني تخلي المسلمين عن كون الإسلام أنه نظام حكم كامل متكامل في السياسة والحرب والاقتصاد والمجتمع. ويعني تخلي المسلمين عن حكم الإسلام أنه يفرض حمل الدعوة لغير المسلمين بالتطبيق العملي للإسلام في كافة مجالاته وأحكامه.(1/125)
الهدف الرئيس الثاني إيجاد المفارقة المعيشية المدنية الهائلة في مستواها بين أوروبا وبلاد المسلمين أينما كانت في الشرق أو الغرب. حتى، في هذا الفارق، ينظر الأوروبي في عمق الهوة الواقعية بينه وبين المسلمين. في نظرته إلى حالة مسلمي القوميات، مسلمي "الجهاد" مسلمي "الجبهة" وما لا ينتهي من التسميات حتى التي تتناقض مع الإسلام مثل: وطنيون مسلمون، ديمقراطيون مسلمون، اشتراكيون ومسلمون، حتى قوميون ومسلمون، ينتابه الرعب من الوقوع في هذا الجحيم الحياتي. في خوفه يأخذ قرار التمني بالبقاء في موقعه في التشبث بموقعه، يضطر تسلسل التفاعل النفسي أن يغالي في تقويم ما هو عليه حتى يحتقروا من هم في وديان الحياة مسلمي الثورة العربية، والثورة التركية، مسلمي ثورة الخطابي وثورة الشريف حسين ومسلمي محمد علي جناح وغيرها من "الثورات" أقلها 'الناصرية'، والجزائرية والسودانية وليس من آخر لها حتى مع البوسنية ، الطالبانيه والشيشانية.(1/126)
خوفٌ واحتقارٌ في نفس واحدةٍ فأين الثالث الذي ينقذها من تدميرها الذاتي بتضارب مشاعر الخوف والاحتقار؟ لا بد من ثالث يصهرهما لتخرج منها النفس بِ طاقةٍ جديدة فينقذها من الانهزام الذي يؤدي إليه الخوف والاحتقار مجتمعين. فلسفةُ المسيحية تعتمد على اجتماع الثلاثة. ثالثُ الخوف والاحتقار مسيحيا يجب أن يلغي أثرهما. الثالث يجعل من الآخرين أُقنومَين فيه. فلسفةُ المسيحية تفرض أو تفترض أن الأول أبو الثاني والثالث روحُ الثاني يتوحدان لينتجا الثالث الذي نراه أو الذي لا يعرفونه إلا معلقاً منحوتاً في صخرٍ أو من خشب. رغم الروح التي فيه أبديا كما يقولون عنه. في دراسة النفس البشرية ثنائي الخوف والاحتقار كثنائي الألوهة في المسيحية. يحتاجان إلى ثالث يصهرهما في نتاج يكون مقدساً في المسيحية ومكرَّساً في النفس البشرية. ثالثُ الخوف والاحتقار هو الكراهية التي تتلبسُ روح الأوروبي مسيحياً كان أو جرمانياً أو إنكليزياً، فرنسياً، إيطالياً، دانياً أو حتى من رعاة البقر والأسبان أو السلاف.
كراهية الأوروبيين للإسلام تحتاج إلى حقل نفسي تنبتُ منه وتترعرع فيه. تغذية هذا الحقل عملية لازمة دائمة. تربةُ حقلِ الماضي غير تربة حقل الحاضر، سببُ خوف الماضي غير سبب خوف الحاضر. طبعاً لم يكن في الماضي سبب حقيقي للخوف. سبب الماضي كان وهماً، فرضوا تصديقه على الأوروبي حتى يحيا فيه. طبعاً ليس في الحاضر سبب حقيقي للخوف. سبب الحاضر وهمٌ فرضوا تصديقه على الأوروبي حتى يحيا فيه أيضاً.(1/127)
كراهية الأوروبي للإسلام تحتاج إلى معطياتٍ متجددة في الازدراء والخوف. في مسرح الازدراء تكاد معطياته أن تكون اليوم بمستوى التجدد التلقائي رغم أنها مصطنعة. يكفي أن ننظر في "إسلام" الترابي حتى نعرف سبب ازدراء الأوروبي للإسلام. كذلك النظر في "إسلام" أربكان أو "إسلام" حكام باكستان، أو "إسلام" طالبان وغيرهم مما لا يعد من حركات وزعامات وحكام وعلماءَ كهنوت يصوغون "إسلاماً" لا يقتنع حتى الوثني أنه من الله وتأباه نفسه لأنه يمنعها من الاقتناع بطهارةَ الفطرة وسلامة الحس وسداد الرأي.
ثقافات "إسلاميي" الحاضر لا تزيد في عمقها عن سماكة قشرةِ التفاحة للب التفاحة. هي ليست إلا قشرة ليست من جنس اللب. المؤمنون يرفضونهم. الوثني يحتقرهم مهما قصرت لحاهم. كذلك المسيحي والأوروبي. احتقارهم يولّد فينا شفقة من حالهم. إشفاقنا يحتم علينا ، بفرضٍ من الله، أن ندعو لهم بالهداية والاستقامة والتوبة. الله وحده ينذرهم بوعيده إن لم يتخلوا عن محاربته بعلمهم أو بجهلهم. أما إن ماتوا على ما هم عليه من نفاقٍ في دين الله فإن الله يلعنهم.
احتقارُ الوثني الأوروبي مع قليلٍ من الخوف الجديد على تراكمِ الخوف القديم يتحول تلقائياً إلى كراهية. ليس بفرض من الحاكم ولا من الجامعة ولا من وسائط الإعلام. هؤلاء؛ الجامعة، الإعلام أو الحاكم يحافظ على قدرته في تفجير طاقات الأوروبي ساعة يريد بأي فتيل، مهما صغر حجمه أو تضاءلت ناره، يستطيع أن يشن حرباً على المسلمين. كراهية الأوروبيين للإسلام لم يوجدها حكام الأوروبيين حتى يسهل عليهم شن حرب على المسلمين. كراهيةُ الأوروبيين أوجدها الحكام، وأوجدَ الحقل الذي تنبت منه، حتى لا يستطيع الأوروبي أن يتحول إلى مسلم مهما اقتنع بأفكار الإسلام، أو أفكار حجته وأيديولوجيته بمعنى وجهة نظره في الحياة.(1/128)
5- تحصين كراهية الأوروبي للإسلام تكون بتغذية دائمةٍ لخوف الأوروبي من الإسلام واحتقاره للمسلمين في واقع عيشهم وتراثِ حاضرهم، لذلك يقوم حكام المسلمين وساستهم ومفكروهم وأحزابهم وإعلامهم و"علماؤهم" بصياغة تراثٍ إسلامي معاصر جديرٍ باحتقار الأوروبي. فالتراث الفكري الحاضر في بلاد المسلمين هو بحق وبشهادةِ القرآن والسنة وإجماعِ الصحابة تراثُ التحريفِ للإسلام، ليكون إسلاماً يتوافق مع كفر الديمقراطية وكفر الاشتراكية وكفر القومية. بل أكثرُ من موافقة هؤلاء جميعاً تراثاً يتوافق حتى مع الوثنيات الغابرة والحاضرة. فِكرُ "علماء" الفضائيات، وهم أشهر علماء الحاضر إسلامٌ لا ينهض بالمسلمين ولا حتى يوقِظهم من سُباتهم. هل هناك إسلامٌ لا يوخِز تائهاً أو لا يرشِد حائراً، أو لا يرتقي بالإنسان؟ لا. إسلامُ أحزابٍ تشرِّعها أنظمة تحكم بغير الإسلام، هل يكون إسلاماً؟ لا. لماذا لا يحرك إسلامُ "الكهنوت" وإسلامُ خطباء المساجد ساكناً في أطراف الأمة؟ بعضٌ يقول إنه إسلامٌ ناقص، آخرون يقولون إنه إسلام مختلط كاختلاط نساء اليوم بالرجال. يعنون إسلاماً خليطاً بكفر. الجميع يعلم أنه ليس إسلاماً في غايته ولا في طريقته ولا في ربطه بواقعه. ببساطة الحقيقةِ نقول إن أي فِكرٍ من غير إسلام محمد صلى الله عليه وسلم ليس إسلاماً، فكراً باطلاً فاسداً مهما نعتوه وبأي اسم سموه كائنا من كان قائله. فالقول الفصل في تحديد فكرٍ أنه إسلاميّ أو غير إسلامي يكون ببيان دليله الشرعي من القرآن والسنة وإجماع الصحابة والقياس بالجنس نفسه.(1/129)
الأوروبي يدرك أن تراث ثقافةَ مسلمي اليوم ليس تراثاً إسلامياً، يدرك تفاهته وفساده وتحريفه للإسلام. الأوروبي يدرك أن هذا التراث الجديد تفرضه حكومات الغرب على المسلمين يؤلفه "علماء" و"مفكرون" مسلمون لاسترضاء الأوروبي والتزلّف إليه رغمَ جهل الأوروبي بحقيقة معنى الحياة. لأن الأوروبي يدرك أنه يجهل حقيقة الحياة. عند الأوروبي معنى للحياة ولكنه معنى لا يرتبط ببرهان الحقيقة. لا يرتبط لأنه معنى بدون برهان. هو يدرك أن معنى الحياة عنده ليس له برهان في الحقيقة. عنده تعليل لمعنى الحياة أو تفسيرٌ له لكن ليس برهاناً. حتى لا يضيع في الحياة يكتفي بالتعليل ويجعله في مقام البرهان. الكنيسةُ خدعته في دينه وأذلته في عقله. الديمقراطيةُ خدعته في عقله وأذلته في روحه. هو خدعَ روحه وأذلَّ نفسه حتى يستمر بالعيش جاهلاً بقواعد التفتيشِ عن الحقيقة. مع جهله يوجد على هذه الأرض من يتزلف إليه! هو يزداد ازدراءً للمتزلفين ويزداد كراهية.
6- تعميق الازدراء في نفس الأوروبي يحتاج إلى أمثلة حيةٍ في تطبيق الإسلام في كياناتِ دول. كما أن برامج تنفيس رغبة المسلمين لإقامة دولة الإسلام دولة الخلافة يحتاج إلى إقامة كياناتٍ إسلاميةٍ مهما كانت هزلية في تطبيقها للإسلام. لهذا كانت حاجة الغرب في إقامة كيانات دولٍ تسمى إسلامية حاجةً مزدوجة الأهداف.(1/130)
الحاجةُ الأولى هو وجود الواقع الحي للإسلام. الغرب يعلم أنه لا يوجد إسلام دون كيان حكم، ولا يكون داعيةً لإسلامٍ من يدعو إلى إسلام ولا تقترن دعوته بالعمل لإقامة كيانٍ يحكم بالإسلام. ساسةُ الغرب يعلمون أنه لا يكون مسلماً مؤمناً من يقوم بجميع فرائض الإسلام ومندوباته، ويتمسك بجميع خُلُقيات الإسلام ويتصدّق بجميع أمواله، ويبني مئات المساجد ويوزع آلاف المصاحف ، لكنه يتخلى عن الجهر بعدائه للكفر، والعمل لإقامة دولة الخلافةِ لتطبيق أحكام الإسلام في الداخل والخارج في علاقة الدولة بغيرها، في معاهداتها، في تجارتها، في حمل الدعوة الإسلامية بالحكمة والموعظةِ الحسنة.
بريطانيا في كراهيتها للإسلام تعمى بصيرتها بسبب خوفها العميق بقناعة تامة أن لا كيان حكم في هذه الدنيا يستطيع زعزعةَ الوجود الدولي لبريطانيا كدولة عظمى إلا الدولة الإسلاميةَ دولة الخلافة. لهذا لم تُقِم أو تسمح بقيام كيان ولو كياناً كرتونياً تافهاً باسم الإسلام. لكنها سيطرت على أكثر الأحزاب والحركات والجمعيات الإسلامية والصوفيين، لتهديد الحاكم بهم في خطة تقسيم القوى وتوزيع الأدوار لشل قدرة أي حكم على العمل ساعة يلزمها ذلك. وكاحتياطي لإقامة كيان إسلامي تافه إذا اقتضت الظروف ذلك في علاجها الأخير.(1/131)
أمريكا رأت أن اقتلاع نفوذ بريطانيا لتحل محله لا يمكن أن يتحقق إلا بإثارة مشاعر المسلمين الدفينة في أعماقهم، وتفجيرها بإثارة الرغبة في التخلص من الهيمنة الغربية التي تتمثل في احتكار بريطانيا لها. لذلك خططت لانقلاب "الضباط الأحرار" في بيت السفير الأمريكي في مصر، حمت ضباطه قبل الانقلاب وبعده. دفعت ثمن مصر للإنكليز يومها غالياً، مالاً، تكنولوجيا ومناورات سياسية مرهقة وخطيرة. كانت تريد أن يقوم عبد الناصر بتحريك المسلمين ضد الهيمنة الغربية المتمثلة ببريطانيا. لكن بعد أن اجتمع دالاس بعبد الناصر أدرك أن عبد الناصر لا يصلح زعيماً إسلامياً. في تقويمه أن عبد الناصر جيد كزعيمِ غوغاء، رجلٌ لا يستطيع أن يمتلك فكراً. لم يجد في عقلية عبد الناصر تربةً فكرية، لا تربة خصبةً ولا تربة جدباء. التربةُ الجدباء يمكن معالجتها، أما انعدامُ التربة فلا يمكن معالجته. لذلك أمر بتغيير دور عبد الناصر من زعيمٍ إسلامي إلى زعيمِ غوغاء، زعيم غوغائيين مخلصين في عصبيتهم لعشيرتهم، وطنهم، وفي ارتقائهم متحمسون لقوميتهم. الغوغاءُ هم الفئة الذين يتحمسون دون فكر، ينقادون بغلبة الرغبة على قناعة الحجة، يتفانون بإشباع عواطفهم الجماعية بدون وعي في غاية الإشباع أو وضوحٍ في كيفية الإشباع. الزعيم الغوغائي هو الزعيم الذي يثير الحماس الجماهيري الذي يطغى على العقل ويمنع الفهم. ليس في قوله فكر ولا في عمله ارتباطُ فكرِ بغاية، غايته ترتبط في قوله وفي عمله لا بفكر القولِ ولا بفكر العمل. سر القيادة الغوغائية، أو ميزتها أنه يسهل بها على القيادة الغوغائية أن تخدع شعبها، وعلى القائد الغوغائي أن يخون تطلعات الشعب وآماله التي عقدها عليه.(1/132)
لما فشلت أمريكا في اقتلاع نفوذ بريطانيا في أي بلد عربي بالطرح الفكري القومي عمدت إلى الإسلام في إيران وباكستان. في إيران عجزت عن إقناع الجيش للإطاحة بالشاه عميلِ الإنكليز فأطاحت بالشاه والجيش بتفجير المشاعر الإسلامية، ونجحت في أخذ إيران من الإنكليز بواسطة إثارة مشاعر المسلمين الدفينة في الرغبة بالتخلص من الهيمنة عليهم. وقد أعمت هذه المشاعر وعي المسلمين في كل بقاع الأرض عن حقيقة الصراع. أما في باكستان فقد استطاعت أن تسيطر على الجيش وبعد ذلك جعلت الجيش يقبض على الحكم مع المحافظة على اللعبة السياسية في تصارع السياسيين، لكن أياً من السياسيين لم يعد يؤثر في إدارة الحكم. ولإيجاد قاعدة للحكم لا للسياسيين جعلت الحكم "إسلامياً" وأقامت حزبا "إسلامياً" ليتولى حكم "الدولة الإسلامية" المزعومة بحماية الجيش الذي تديره أمريكا مباشرة. في هذا التوجه وبغير ظروف إيران والخطة في باكستان احتاجت أمريكا مؤقتاً إلى قِناعٍ إسلامي لنفوذها المضطرب في السودان. جيشُ السودان لم تستطع بواسطته أن تأخذ أمريكا الحكم بعد، استطاعت أن تسيطر على الحكم سيطرة عصابة. القوى السياسية في السودان معظمها حتى اليوم تديرها بريطانيا بينما أمريكا تناوِر معها أو عليها لتمرير الوقت لأنها لا تستطيع تنفيذ خطة لواقعٍ لا تسيطر عليه. القوى العلمانية بقيادة المهدي ليست لأمريكا، والقوى الختمية بقيادة الميرغني متذبذبة، والقوى الإسلامية بقيادة الترابي ليست لأمريكا. الحقيقة أن ليس لأمريكا قوى في السودان غير خضوع بعض الضباط لها في تطويعِ الجيش ليكون أداة في يدها. لذلك كانت حاجتها إلى "إسلام" ولو كان بمثل "عمامة" الترابي يكون لها حجة بدل أن يكون عليها. ومبرراً لضرب الإسلام بسبب فشله في عباءة الترابي.
الحاجة الأولى في إيجاد هذه الكيانات كان إيجاد الواقع الإسلامي الذي يزداد به الغربي نفوراً من الإسلام واستعلاءً على المسلمين.(1/133)
الحاجة الثانية كانت في أن تفشل هذه الكيانات "الإسلامية" فيكون فشلها إثباتاً لعجز الإسلام في إدارة علاقات الناس. فشلُ "الإسلام" في باكستان وإيران والسودان يريدونه فشلاً يغتال إيمان المسلمين أن الإسلام دينٌ لا تقوم له قائمة إلا بوجود دولةٍ تحكم بشرع الله. فشلُ "إسلام" باكستان، إيران والسودان يريدونه غمامةً تُمطِر يأساً من صلاح أحكام الإسلام لإدارة اقتصاد مجتمع هذا العصر، أو تنظيم العلاقات الخارجيةِ لدولة هذا العصر، أو القدرة على استمرار حكم الإسلام مع تكنولوجيا هذا العصر، فشلُ "إسلام" هذه الدول "الإسلامية" لا بد أن يؤدي إلى تفشي الإحباط في فئات الأمة الإسلامية لتقنع بالعيش في مستنقع الحياة.(1/134)
7- فصلُ القصدِ الشرعي عن القصد المادي. في الإسلام، أي في طبيعته أنه نظام شاملٌ للحياة وعلاقاتها ومعالجاتها ومقاصدها. شمولُ الإسلام ليس مجازاً وليس في العموميات. في شموله تفصيل لكل علاقةٍ ومعالجةٍ وقصد. فلسفةُ الإسلام تقوم على ضمِّ القصد الشرعي في العمل إلى القصد المادي وهو القصد الفردي في العمل الذي يقوم به الفرد لتحقيق منفعة له. القصد الشرعي في أي عمل هو قصدُ نظام الإسلام كله، وكل أمر تعلَّق بمباحٍ وحرام. قصدُ الشرع هو في التفريق بين من يقوم بعمله حسب الكيفية الشرعية لأنه يسعى لنيل رضوان الله، وبين الذي يقوم بعمله كما يراه هو أو تتطلّبه المنفعة من العمل دون اعتبارٍ للكيفية الشرعية التي يمكن أن يتوافق معها أو يغايرها. التزام الإنسان في أعماله بالكيفية الشرعية هو تحقيق القصد الشرعي لأن الله أنزل الأحكام للعمل بها. تحقيق الإنسان للفائدة من ممارسته هو تحقيق نتيجة العمل الذي يحتاجه هو أي منفعة العمل. الجمعُ بين القصد الشرعي وقصد العمل في الإسلام عبادة لله. لذلك قصدُ الحياة عند المسلم هو عبادة الله. وقد جاءت تسمية هذا الجمع أنها عبادةً من الله، كما أنزلها في القرآن الكريم. لم تأت نتيجة بحثٍ فلسفي أو فكري وإن كان البحث الفكري الراقي يثبتها ويبرهن عليها. وهو أساس فلسفة الإسلام مزج المادة بالروح الذي يقوم عليها التزام تقوى الله حين القيام بأعباء الحياة. هذا المزجُ خاصية في الإسلام لم تعرف البشرية لها مثيلاً في أي نظام حياتي منذ وجودها. وهي خاصيةٌ إذا انعدم وجودها في فكر وممارسة المسلمين يذهب الإسلام من حياتهم ويخرجون هم من الإسلام. لأن أحكام الإسلام تتعلق بكيفية الأعمال فمن تخلى عن كيفية الإسلام في العمل لا يكون مسلماً.(1/135)
فلسفةُ الإسلام هذه تتناقض كلية مع قاعدة "الغاية تبرر الواسطة" التي تفرض الفلسفة الغربية ممارستها بحيث لا يستطيع الفرد في أي موقع العيش دون ممارستها. ونراه في سياسة أنظمة الحكم الغربي سمةً واضحة في كل فكرِ خطةٍ وإجراء. وهذه القاعدة منقولة عن المسيحية التي كرستها عندما أمرت بتقديس قولِ بولس رسول المسيحية عندما يقول: "فصرت لليهودي كيهودي… وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس….وللذين بلا ناموس كأنني بلا ناموس. .. وكنت للكل كل شيء حتى أكسب على أي حال". " {1كورنثوس:9: 20-22}
هذه القاعدة تفرض على الذي يقتنع بها التخلي عن كل أحكام الشرع، شرع الإسلام، ولو التزم الكيفية الشرعية لحاجة تحقيق منفعة العمل. لأن كل الأحكام الشرعية المتعلقة بتنظيم العلاقات والأعمال وتحقيق المقاصد تفرض قناعة الإيمان بالكيفية التي يلتزمها لأنها فرضٌ من الله. هذا تفسير القاعدة الشرعية التي تقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فهي محصورة بقناعة المسلم وممارسته أنه حين يقوم بالعمل يقوم به بكيفيَّته الشرعية خوفاً من عقاب الله، وطمعاً في ثوابه في تحقيق مقصودِه في منفعة العمل. إلى جانب معناها أن هناك أعمالاً خاصة مثل العبادات والنوافل التي يتقرّب بها المسلم إلى الله لا يقبلها الله إلا إذا سبقتها النية الملازمة للعمل، فهي جزء من صفة العبادة والنافلة فلا تعتبر عبادة أو نافلة حين لا تقترن بنية تأديتها خالصة لله تعالى.(1/136)
فصلُ تحقيق مقاصدِ الأعمال عن القصد الشرعي يحوّل المسلمين إلى ما هم عليه اليوم من مثلٍ فاسدٍ للإسلام. خضوع المسلمين لفكر نظام الحكم الذي يطبّق عليهم ويفرض تحقيق المقاصد بغير كيفية أحكام الإسلام هو الذي يحول دون ارتقاء المسلمين وخروجهم من هذا الدرك الأسفل في انحطاطهم. في موقعهم هذا الذي يفرض عليهم البقاء فيه بما هم عليه من جهلٍ في أفكار الإسلام أولاً. وبما هم عليه من تركٍ لأحكام الله ثانياً. وبغلبتهم بجيش النظام الذي يفرض عليهم القناعة بالعيش في هذا الدرك الأسفل أو الموت لمن يحاول الخلاص منه بالقول أو الممارسة، يكون موقع المسلمين في انحطاط اليوم فيه جميع خصائص الموقع الدائم. هذا الموقع المادي المحسوس للمسلمين بغضّ النظر عن أسبابه وظروفه ومن يفرضه وكيف يفرضه الحاكم المحلّي أو الدولي، هو الموقع الملائم واللازم في خطط أنظمة الحكم الغربي. على هذا الموقع تسمح أنظمة الحكم الغربي لشعوبها أن تنظر وتعتبر، وتتخذ الدول والشعوب والأفراد إجراءات عدم الوقوع في هذا الدَّرك الأسفل. بتعميق مشاعر الازدراء لواقع المسلمين، والخوف من الوقوع في سحق هبوط المسلمين تزداد كراهية المسلمين في نفس الأوروبي. وهكذا تعمى بصيرته عن رؤية أية حقيقة في هذا الوجود، ويمتنع عليه معرفة أي فكر يتعلق بسعادة وجوده.
حالة كراهية الإسلام
حالتان:(1/137)
الأولى استمرار بقاء المسلمين في الحضيض السحيق الذي يكون المثل الحي للواقع الذي يسقط للعيش فيه كل جرماني ، إنغليشي، فرنسي حتى الإيطالي أو الإسباني وأي من الأجناس الأخرى إذا تحوَّل للإسلام. إظهار حالة انحطاط المسلمين تستوجب قيام الدول الأوروبية بتنفيذ خطط بمقومات المهازلِ المسرحية الأدبية لإنقاذ المسلمين من هذا الانحطاط. إيجاد الوعي في الرأي العام الأوروبي، ومنه الأمريكي، على انحطاط المسلمين يستوجب وضع مشاريع مساعدةِ المسلمين في انحطاطهم. هذه المشاريع ليست لإنقاذ المسلمين من الحضيض السحيق أو لوقف تدحرجهم المستمر، بل لمساعدة المسلمين في استمرار انحدارهم إلى أسفل. غاية هذه المشاريع إثارة الشفقة، شفقة الأوروبي، على إنسان بلغ من التخلف الفكري أن أصبح عاجزاً عقلياً عن أي أمر. هذا التقديم للمعاق عقلياً أنه بحاجة إلى مساعدة مُبرَّرة للقيام بمشاريع محسوسة تُطرح فكرياً، سياسياً، إعلامياً لتناقشها المؤسسات المختلفة ويُشرَك فيها الرأي العام في مختلف منابره له غايتان: الغاية الأولى أنه يوجِد الواقع المحسوس المؤلم في انحطاط المسلمين. هذا الألم يتفرَّع في النفس البشرية في ساقيتين، الساقية اليمنى: الشفقة، وتروي تربة الخير في الإنسان. أي عمل يُشبعها ويُبطل مفعولها. الساقية اليسرى: الاحتقار، وهي تروي تربة الخوف لكن مصدرها لا ينضب لأنه يستمر بوجود الواقع المؤلم، لا بإشباع الخوف. بهذا تذوي الشفقة ويبقى الازدراء في النفس يمنعها من التفاعل مع أي فكر إسلامي.(1/138)
الغاية الثانية استمرارُ الخوف، نحن نقول أنه خوفان: خوف فكري، وخوف غريزي.غيرنا يقول أنه خوف ثلاثي المَوطِن: خوف فكري، خوف غريزي، وخوف نفسي. الثالث، عند غيرنا، يبرّر في رأينا، بينما عندهم، يبرهن على وجود الثالث. الثالث أقنوم يضيِّعونه في إدراكهم الواعي لكن سرعان ما يثبتونه في إدراك اللاوعيهم. خوفُ الألم من انحطاط المسلمين ترسِّخه المشاريع الفكرية والمادية التي تطرحها حكومات أوروبا للمناقشة في برلماناتها، إعلامها ومؤتمراتها. تُبرز الواقع الذي يقارن بين رقيّ الأوروبي والتخلُّف الإسلامي، وتوازِن بين خوف الأوروبي من الوقوع في فكر المسلمين والحاجة إلى مشاريع تكرِّس الفصل بين رقيِّهم وتخلُّف المسلمين. مشاريع أوروبا لمساعدة المسلمين مهما تنوَّعت في جنسها ومسمَّياتها وحجمها، وتعدَّدت في برامجها وحقولها ونتائجها، ليس لها غير هدف أساسي واحد: إزالة العوائق التي تعيق استمرار المسلمين في انحدارهم لإيجاد الواقع الذي يراه الأوروبي فيزداد هروباً من أي فكر إسلامي. هكذا، يصدأ عقلُ وقلبُ كل فردٍ في أوروبا عن التفاعل مع أوكسجين الحياة: فكر الإسلام. بذلك يبقى الأوروبي عدواً للإسلام بفعله وعدواً للمسلم في عقله وقلبه.(1/139)
مشاريع وقود كراهية الأوروبي للإسلام لا تستمر إلا بتعاون القوى السياسية في بلاد المسلمين. لا تنجح إلا باستمرار تطوير المناهج التربوية والثقافية الإعلامية في بلاد المسلمين. لا تنضج ثمارها إلا بوجود قيادات إسلامية في الحكم أو المعارضة تصبغُ الانحدار والانحطاط والفشل الدائم أنه إسلامي. هذا في الحالة الأولى في وقود شعلة الكراهية وقد أعطينا أمثلة في خطوطها العريضة محلياً وعالمياً بما يناسب المقام وليس الموضوع. لكن هذا وحده وإن كان يكفي، عقلياً ونفسياً، لترسيخ كراهية الإسلام في النفس البريئة أو النفس الخبيثة. كما في النفس الراقية أو المنحطة والنفس الأوروبية لا فرق بين مسيحيِّها ووثنيِّها. لا يكفي بمعنى لا يقنع حكام أوروبا أنه يكفي للاطمئنان إلى استمرار عيش الأوروبي في غيبوبةٍ عقلية مفروضة عليه. يعلمون أن نهجهم في إثارة مظاهر الغرائز - وليس الغرائز - يُبطل دور العقل في الرؤية لا في التفكير. نهجهم يتلاعب في دور العقل لا بفاعلية العقل. سياسيو ومفكرو أوروبا يدركون أثر التفريق بين دور العقل وفاعليته. العامة، الذين يكرهون الإسلام، يضيعون في بحثه ولو فصَّلناه.(1/140)
في تلاعبهم في دور العقل يخشون صحوةَ مفكر منهم لا يخشون مفكر من المسلمين. مفكر منهم يعي على التلاعب في دور العقل وليس مفكرٍ منهم لا يفرِّق بين دور العقل وفاعليته. لذلك، مهما أسلمَ من المفكرين الغربيين الذين يفكرون في الإسلام بفاعلية العقل إنما يؤمنون بإسلام دون قيادته الفكرية. إسلامُ مسلمي اليوم، في انحطاطهم وانحدارهم المستمر، إسلامٌ من فكرٍ دون عمل، أو إسلامٌ في عمل دون فكر. كلاهما، إسلامٌ بلا القيادة الفكرية في الإسلام. القيادةُ الفكريةُ تفرض اقتران الفكر بالعمل، وتفرض اقترانَ مصدر الفكر بنتيجة العمل، وتفرض ارتباط نتيجة العمل بغاية الحياة بمظهرها الفردي في الإنسان، وفي مظهرها الجماعي في الكون. لذلك إسلام غارودي ومثله من أذكياء الغرب لا يؤثر في الأوروبي. ولا إسلام هوفمان ومثله من رجال الصحوة الفكرية في أوروبا لا يؤثر في الأوروبي، لأن صحوتهم يحصرونها في فهم أفكار وسلوك، يخالفون بها قواعد ونظريات، يُبقي صحوتهم حبيسةَ جدران فرديتهم. لا يفرِّقون في بحثهم ودعوتهم بين الفكر الذي يتعلق بقاعدة فكريةٍ والذي يتعلق بقاعدة الأفكار. إسلامُهم لا يفرّق بين إسلامِ المبدأ الفكري السياسي وإسلام الدين. لذلك يتحوّلون إلى مفكرين مسلمين ولا ينتقلون ليصبحوا مفكرين في القيادة الفكرية الإسلامية.(1/141)
حكامُ الغرب، كما أوضحوا لكل المسلمين، لا يخشون إلا صحوة مفكر يفهم الإسلام أنه مبدأُ كل فكر وعمل. يفهم الإسلام أنه مبدأ فكري سياسي شرطُ الإيمان به أن يتكتل المؤمنون به تكتلاً فكرياً سياسياً به، عليه وله. لا قيمة لأفكاره وأحكامه ووجهة نظره في الحياة دون كيانٍ يحكم بدستوره وقانونه. صحوة مفكر يتحوّل بفكر الإسلام المتعلق بفكر القيادة الفكرية للإنسان إلى تكتل سياسي حتى لا يبقى فكرُ الصحوة حبيسَ فرد يموت بموته. تكتل سياسي يرثُ فكر المبدأ السياسي لا نمط العمل، إذ نمط العمل يتعلق بالواقع لا بالفكر. الصحوة التي كان يخشاها الغرب صحوةُ المفكر في فكر القيادة الفكرية في الإسلام. فكرُ الفرد غير فكر القيادة الفكرية في الفرد. فكرُ القيادة الفكرية يخرج من الفرد بطبيعته، لا يمتّ إلى صاحبه الذي أطلقه، ولا إلى مُعتقِدِه الذي آمن به. لا يرتبط بأحد، لأن موطنه قلب الإنسان الذي يهتدي إليه. لذلك يلزم فكر المبدأ السياسي الذي يقوم على فكر القيادة الفكرية أن يكون له قيادة عمل ومجال عمل. فإذا وُجِد فكر القيادة الفكرية ومنه قيادة عمل وله مجال عمل فقد وُجد الحزب السياسي الذي يستطيع قيادة المسلمين في نهضتهم. فكر هذا الحزب من حجَّة عقيدة الإسلام لأن برهان فكره يتعلق ببرهان الوجود، وحقيقة فكره التي هي وقائع أفكاره تتعلق بحقيقة الوجود التي هي أيضاً وقائع الوجود. إنما هذا الحزب لا ينتصر في قيادة المسلمين لردع الغرب في قهرهم للمسلمين وفرض حكمهم بالكفر. حكمهم بغير ما أنزل الله أو بتحريف ما أنزل الله، لمجرّد وجود الفكر لديه أو مجرد إخلاص القيادة لفكر الحزب، بل بمدى وعيه على فكر القيادة الفكرية التي يتبناها بوعي على العمل الذي يحتاجه الفكر. انتصار الفكر، يدركه أصحاب الفكر، ليكون بارتباط الأسباب بالمسببات. الانتصار له مقومات لا يتم بدونها، هذا في فكر الإسلام كما في فكر الغرب.(1/142)
غربِ بلاد المسلمين، غرب شعبِ العرب، حكوماتُ شعوب أوروبا ببرامجها تعبِّئ صدور الأوروبيين بكراهية للإسلام بطريقة النفخ الإعلامي الذي يُثير، لا بطريقة الحجة المقنعة. سبب ذلك أن ليس في موضوع كراهية الأوروبيين للإسلام حجة. كيفما قلَّب الإنسان حيثيات كراهية الأوروبي للإسلام لا يجد غير تلفيقات، أكاذيب تصطنع حججاً حتى مجرد طرح فكرة الخلافة التي ينادي بها حزب التحرير لا تشكل حجة في حد ذاتها. البرنامج السياسي في حكم الأوروبيين بدأ خطته في غرس كراهية الإسلام في النفس الوثنية وحتى المسيحية تسعةَ قرونٍ قبل وجود حزبِ التحرير بثقافة الفكر الإسلامي الذي يتبناه. حزبُ التحرير، حتى اليوم، رغم كونه الحزب الوحيد في بلاد المسلمين الذي يقوم على فكر المبدأ السياسي للإسلام ليس بحجمٍ يُخيف الغرب حتى يستنفر قواه في إثارة كراهية الأوروبيين للإسلام. حتى اليوم، يكاد لا يوجد ذكرٌ عام له في أوروبا، وفي بلاد المسلمين تمنعه أجهزة حكم ما يسمى اليمين المتطرِّف كما تمنعه أجهزة ما يسمى اليسار المتطرف. كما تحاربه جميع أحزاب الكفر والإسلام الذي تجيزه الدولة، وتحاربه جميع أحزاب الكفر والإسلام التي تعارض الحكم لتكون رصيداً احتياطياً لخيانة المسلمين وإعادة إخضاعهم بالخداع والتضليل في مسيرة هجر القرآن. تبني فكر القيادة الفكرية في الإسلام وهي فكرُ الإسلام المتعلق بالحياة وطريقته في الدعوة لهذه القيادة مبرِّرٌ لتحريك طبيعة العقل في نفس الإنسان المسلمة والكافرةِ حتى لو كانت أوروبية. النفس في الأوروبي مهما حاولت الثقافة التضليلية في إيهام الأوروبي أنه مجموعة غرائز وأن مهمته الأساسية في الحياة إشباع هذه الغرائز، وأنه يلزمه أن يكون أحطَّ من الحيوانات في طريقة إشباعه. أو أنه في أرقى أساليب إشباع غريزته أن يكون القرد والكلب والخنزير مثله الأعلى الذي يقتدي به. هذه النفس في الأوروبي مهما انحطَّت في إشباع غرائزها عن فطرة(1/143)
الإنسان فيها، تبقى نفس مصطنعة، تتصنّع الانحطاط والحيوانية وكراهية تنبع من نفسية مصّاصي الدماء. هذه مشاعر تنبت من أحاسيس في غياب العقل. تبقى فيها قابلية أن تعود نفساً إنسانية إذا ما أعيد إحياءُ طبيعة فطرة الإنسان فيها. وفي ذكر وتعداد أسباب كراهية الإسلام ومبرراته عند الأوروبي لا يعددون، فيما يذكرون ويفصِّلون، أن دعوة حزب التحرير لإقامة دولة الخلافةِ على أساس مبدأ الإسلام في عقيدته ونظام حكمه وطريقته، سبباً من أسباب الكراهية.
إنهم منذ البداية المطمورة في التاريخ يحتاطون لقيام تكتل فكري سياسي على أساس الإسلام. لذلك كان همهم منذ أن احتلوا بلاد المسلمين إنشاء الأحزاب والتكتلات الإسلامية التي تقوم على أفكار إسلامية مبهمة، أو على أفكار إسلامية فرعية. شجعوا قيام أحزاب وجمعيات تقوم على عمل وليس على فكر، على فكرٍ خاص لا فكر عام. أقاموا أحزاباً تدعو إلى إسلام بدون فكر، تقاوم شخصَهم لا فكرهم ولا كفرهم. كثَّروا الأحزاب والجمعيات بين المسلمين، قسموها قسمين. أحزاب تقوم ضداً للإسلام بعقيدته وأحزاب ضداً للإسلام بطريقته. جميعها، بكثرة منابرها وعلوِّ ضجيجها في الموالاة والمعارضة، تمنع بروزَ داعيةٍ بحق أو سماعِ حجةٍ في قول. هُم، منذ زمن سحيقٍ في بُعده احتاطوا لقيام حزب مبدئي. هم، في طمأنينةٍ لأن أحزاب معارضة الحكم جيشهم الكافي بالمرصاد لمنع عودة الإسلام للحياة، ومنع عودة الحياة للإسلام. أجهزة الحكم بمؤسساته الديمقراطية وجيوشه التي تقهر المسلمين ليل نهار في منعهم من التفكير في إسلام الحياة والموت، ليست، في رأيهم وحساباتهم، تقوى على الوقوف بوجه فكر الحياة والموت الذي يدعو إليه الإسلام ويتبناه في ثقافة الفكر الإسلامي. وحدها أحزاب المعارضة الإسلامية التي استولدوها من حبائل الشيطان قادرة على الوقوف في منع إقامة الخلافة، بطريقة استقطاب طاقات المسلمين وتشتيتها في قولِ وعملِ الهباء.(1/144)
هذه كلها خطط في تأصيل انحطاط المسلمين، وفي السيطرة على جميع المقومات التي تمنع توقف استمرار هبوط المسلمين الوجودي لتسخيره في إيقاد الشعلة الشيطانية التي تتفوّق على الجذوة الإنسانية في نفس الفرنجة والجرمان وجيرانهم. هذه خطط في إيجاد حالة واحدة. خطط في أن يكون المسلمون في الحضيض الفكري، الحضيض المدني، والحضيض المعنوي الذي يحتقره الأوروبي في مقاييسه الفكرية، العلمية والمادية. من احتقاره يخشاها في جوفه حيث وضع قلبه. القلب في مكانه الطبيعي لا يخشى. فقط في غير بيئته حيث يتعطل دوره أو يتبدل يمكن أن يخشى. هذه الحالة، وإن نجدها قد تأصلت سمة في المسلمين. ونجد فيها أسباباً طاغية لاطمئنان الغرب إلى مصادرته لجذور العقل وجذوة المشاعر في المسلمين. وسيطرته المطلقة على طاقات الرجولة والأنوثة وعوامل الإنجاب وضرورات الشذوذ في المسلمين، كان دائماً يرى وجوب قيام حالة أخرى لتأصيل كراهية الأوروبي للإسلام بإخافته الدائمة من سفك دمه. حالة إرهاب الإسلام، حالة العيش في ترقب الموت بسبب غدرِ مسلم له.(1/145)
الحالة الثانية هي إيجاد الواقع الدائم الذي يُخيف الدويتش والفرانك والسكسون ولإغريق والرومان والمسعورين الذين تبعوهم في التاريخ من الأجناس الأوروبية الأخرى ممن لم يعد لهم شأن في حاضر الزمن. يُخيفهم في أجسادهم لا في عقولهم، بإثارة غريزة الجسد التي تُعطِّل دور العقل. الخوف مظهر من مظاهر غريزة النوع، ليس غريزة بذاته كما يعلن فلاسفة أوروبا. الخوف الجسدي وهو الخوف الغريزي غير الخوف العقلي أو المعنوي. خوف الغريزة يكون بالحرص على الجسد. مظهر الخوف الغريزي يكون باتخاذ إجراءات تحمي الجسد بكامل أعضائه وتفاصيله. خوف الجسد يبعث في أروقة النفس جيشين: جيشاً لحمايته بفرض إجراءات الاحتياط وجيشاً آخر ليبطش بالمعتدي. هذا الاستنفار لجيوش النفس البشرية يلغي وجود العقل في النفس رغم وجوده عضوياً في جمجمة الجسد. هذا الاستنفار يلزمه استنزاف التعبئة في جميع طاقات الأعصاب العاملة في الواقع الدموي أو التواصل الكهربائي. فيه، في هذا الاستنفار، يتحوَّل الدماغ إلى عضو كما في بداية تاريخه في ولادة الجسد. كما في مرحلة ما قبل مفاجأة البلوغ. عضو غير مؤثر في قرار القتل. لذلك جرائم الدون – دون سن البلوغ – لها عقوبات مخفَّفة عن تلك التي يرتكبها الراشدون. في الحقيقة أن في حياة النصف الأولى للجسد حافتين: حافة البلوغ وحافة الرشاد. لكن الحافة الأولى تتعلق بكمال العضو بينما الحافة الثانية تتعلق بدور العضو. عندما نتكلم عن الدماغ أنه عضو فإن هذا يفرض الحديث عن كمال نموه. عدم اكتمال نموه يعني استبعاد البحث في صوابية نتائجه، أو قواعد أدائه، أو أحكام دوره. ويعني وجوب العفو المسبق عن كثير من أفعاله، وشروره وجرائمه. يعني تحويل الدماغ إلى مادة تمتص منها أعصاب الهلع سيولة الارتواء.(1/146)
الخوف الغريزي، الخوف الجسدي، حالة ارتجاج في الجسد ليس في النفس. نحن نخالف فهم "فلاسفة" أوروبا الذين لا يُفرِّقون بين ارتجاج الجسد وارتجاج النفس. عندنا، ارتجاج الجسد في أسبابه وطاقاته وغاياته يخالف ارتجاج النفس في كلها. ارتجاج الجسد هو في بساطةٍ انفلاتُ أعضاء الجسد في قيود ارتباط النفس بالعقل. لذلك، هي عملية انقلاب على النفس ومصادرة جميع طاقاتها تلك التي يسيِّرها العقل، أو تلك التي يطمسها العقل في مستوعبات خليوية يختزنها. ليستثيرها عندما يرى حاجة في حماية الجسد بمزيدٍ من الطاقة التي لا يحصل عليها إلا عبر القنوات النفسية.
النفس، عندما ترتبط بالإدراك والفهم في دورها الطبيعي وفي رقي الإنسان. ليس في رقي إنسان اليوم، إنسان أوروبا ومِنه إنسان أمريكا. رقي هذا ليس أكثر من انحطاط إنسان روما والكلت ووثنيي الجرمان والسكسون والأنغلوش والفرنجة ونواطير الطواحين ولصوص الجنس البشري. رقي الإنسان في طبيعته لا يسمى ارتقاءً إلا إذا التزم قواعد الطاعة لله. رقي الإنسان لا يكون إلا بالتزام المسلم أحكام العقل والنفس في استخراج طاقة غريزة في جسد الإنسان. المسلم في طبيعته إنسان يرتقي في طريقة فهمه وفي إشباع ميوله ليجعل من دور العقل وغاية النفس في توحُّدهما تربة إخصابٍ للطاقة الفوَّارة اللازمة لشتى الميول والرغبات، إنسانية كانت أو حيوانية في إنسان. ليجعل توحُّدهما في طاعة الله نظاماً شاملاً للإشباع في جميع مراحل الوجود الفردي في برزخ الحياة. ليجعل توحُّدهما، توحُّد العقل وهو دور الدماغ في الفهم، والنفس وهو دور الغريزة أو مظاهر الغريزة في التطلب وتنامي الرغبة في الإشباع حتى تتكامل في ميل فحاجة.(1/147)
في توحُّد الفهم بقناعةٍ أو قناعةٍ بفهمٍ مع ميول النفس أو رغبات الغرائز في مظاهرها تتكوَّن شخصيةُ الفرد التي فيها وحدها وفقط في حالة التوحد هذه تتواجد السعادة. لذلك، السعادة عندنا تكمن في طبيعة الفهم وطبيعة إشباع الرغبات. الفهم يتعلق بقواعد عمل الدماغ، وإشباع الرغبات يتعلق بنظامِ إشباعٍ يُقنِع الفرد بفهمٍ حسب قواعد عمل الدماغ. لذلك، ليس في الإسلام موضوع كبت غريزة حتى نلجأ إلى علم النفس لمعالجته. وليس في الإسلام موضوع إطلاق غريزة حتى نلجأ إلى إيجاد قوانين تبيحه. كذلك في شروط السعادة، لأن السعادة تكمن في إشباعٍ حسب نظامِ إشباعٍ اقتنع به العقل بحسب قواعد الفهم لا بحسب طغيان الرغبة.(1/148)
في السعادة ليس هناك موضوع خضوع الغريزة للعقل، ولا موضوع خضوع العقل للغريزة. كذلك في الإسلام لا توجد هذه المواضيع. لأن الحياة في نظام الإسلام لا تكون إلا في سعادة. بينما هذه المواضيع لا تنشأ إلا في حياة الشقاء. موضوع السعادة هو ممارسة الإشباع حسب نظامِ إشباعٍ يُعرَضُ على العقل للاقتناع به حسب قواعد الفهم، لا بقوة الرغبة. موضوع السعادة ليس بإخضاع إشباع الرغبات إلى نظامٍ يضعه العقل. ليس في الفرد، في فطرته، إذا تُرك على طبيعته، عقلٌ ضد رغبة. في طبيعة الإنسان رغبةٌ تحتاج إلى نظام لا تملكه. وفي طبيعة الإنسان عقل يعمل بقواعد مفروضة عليه، لكنه بهذه القواعد يستطيع أن يقنع بفكرٍ أو يرفضه، لا يستطيع إيجاد فكرٍ إنشاءً ابتداءً فكيف بإيجاد نظام إشباع رغبةٍ أو رغبات. وليس في الإنسان رغبةٌ ضد عقل. فالرغبة لا تعلم بوجود عقل، ولا تحتاج في إشباعها إلى عقل. فكيف تكون الرغبة ضد مجهولٍ في وجوده. السعادة في شرطها وقاعدتها ارتباط الإشباع بنظام لا يُفرض على العقل ولا يكون صادراً عن العقل، فقط يقتنع العقل به. اقتناع العقل لا يكون كما قد يتبادر للساذجين بحرية العقل في الفرد بقبوله أو رفضه. اقتناع العقل يكون باستيفاء النظام – نظام الإشباع – لشروط قواعد الفهم. لأن توافر هذه الشروط يشمل قواعد الخطأ والصواب التي يقنعُ العقل بها وتطمئن بها النفس. العقل ليس فيه القدرة على القبول والرفض، قواعد العقل بمعنى قواعد الفهم هي التي تقرر الخطأ والصواب لا عملية الفهم. قواعد الفهم هي عناصر الفهم بينما عملية الفهم تتعلق أو تؤثر بنتائج الفهم.(1/149)
لن ننساق في بحث موضوع العقل أو موضوع الميول، ولا موضوع السعادة ونظام إشباع الرغبات فهذه ليست بذاتها موضوعاً في هذا الكتاب. لكنها تتعلق في مصادر الخوف، في أسبابه وفي تفاعلاته التسلسلية. فبعد البحث في ترسيخ الخوف العقلي من الإسلام في الأوروبي، وهو الخوف الذي يمنع العقل من فهم الإسلام بحسب قواعد الفهم. وأيضاً هو الخوف الذي يفرض كراهية الإسلام واحتقار المسلمين، لكنه ليس الخوف الذي يوقد الرغبة في قتل المسلمين. خوف الغريزة هو الذي يستوطن شرارة الجريمة في الإنسان.
خوف الغريزة، وهو خوف الجسد، وحده فيه احتمال قرار قتل الخصم للنجاة أو قرار الهروب للنجاة. لكن، خوف الغريزة في الإنسان بعد خوف العقل أو مع خوف العقل الذي أوجد كراهية في النفس لا يحتمل غير قرار واحد: قرار قتل الخصم. لذلك، في الحالة الثانية وفي إيجاد الواقع الذي يُخيف الأوروبي الذي لم يعرف في طول تاريخه كيف يفكر أو لماذا يفكر، ولا كيف يسعد أو بماذا يسعد، ولا لماذا يحيا أو كيف يحيا، لا بد من أعمال غير أعمال الحالة الأولى. حتى يكون إنسان أوروبا اليوم كما كان في الأمس القريب والبعيد، ليس أكثر من حيوانٍ يفترس مسلماً ليس لنهبه فقط بل لإماتته. وحتى يبقى أوروبي اليوم، ومثله أمريكيه، لا يستطيع أن يفهم إنسانيته إلا على طريقة فهم الحيوان، الذي ما زال في اعتقاده أنه منه جاء. وفي أحسن أفكاره أنه مثل الحيوان يجب أن يعيش، دون قصدٍ في معرفة سبب الحياة فيه ومفارقتها لسبب الحياة في الحيوان الذي يقول إنه جدّه.(1/150)
أكثر حالات الجزع تكون في طغيان الخوف على رباطة الجأش. رِباطة الجأش هي تحكم العقل في زمام النفس في كلام توضيحي علبةُ الحجة على النزوة، وهي الحالة الطبيعية في حياة الإنسان. إلا أنه في طبيعة الإنسان حالات يمكن أن تتغير فيها القواعد النفسية الطبيعية بغلبة الشذوذ في السلوك. لكنه لا يحصل إلا بالتلاعب بقواعد النفس البشرية كما يمكن اليوم التلاعب بالجينات. الفارق أن التلاعب بالجينات تلاعب عضوي، بينما التلاعب بالقواعد النفسية لا يتم إلا بالخداع العقلي. في الإنسان العقل يسيطر على الميول النفسية، هذا في طبيعة الإنسان وليس في شذوذ طبيعته. عندما تضعف سيطرة العقل على الميول يحصل الانفصام في الشخصية وهو شذوذ أي اضطراب في الطبيعة. لذلك كان التلاعب العقلي الذي قامت به سلطة الحكم في الأوروبي بغطاءٍ كنسي لاهوتي مسيحي طوال ألف وخمسمائة عام خطيراً. خطورته لم تتوقف بانتهاء عصور الظلام أو زوال الحكم المسيحي كما يسمونه. خطورته أنه فرض على مفكري الثورة على الكنيسة الإمعان في تضليل الأوروبي. فبعد أن فرضت الحكومة الكنسية على الوثني الأوروبي الخاضع لحكمها قَتْلَ المسلمين قتل إبادة، جاءت الحكومات الديمقراطية، وريثة نجاح الثورة على الكنيسة، تفرض على المسيحي الأوروبي والملحد قناعة وجوب قتل المسلمين قتل إبادة. فرض هذه القناعة لا يمكن أن يتم باستمرار انفصام الشخصية الأوروبية، فقامت الفلسفة الأوروبية الحديثة بالتلاعب بقواعد الطبيعة في النفس الفرنسية والجرمانية ومن يلحق بهما بلعق نجاستهما الفكرية. هذا التلاعب بقواعد النفس استلزم إثارة الخوف الغريزي في الأوروبي. وهو الذي فرض حاجة الحكم في أوروبا إلى اصطناع واقع الإرهاب الإسلامي. فكان أن قامت أجهزة المخابرات في كل دولة بالتعاون لإيجاد حركات إرهابية "إسلامية". وإيجاد إرهابيين "إسلاميين"، مهما كان هذا الإرهاب تافهاً في أعماله وفاشلاً في نتائجه. فالحاجة ليست في(1/151)
تحقيق قتل المسلم الإرهابي المسلم – ويسمونه مسلماً ولو كان ممن لا يصلي ويشرب الخمر – للأوروبي، بل الحاجة إلى إيجاد المسوِّغ في تعميم مبررات إثارة الخوف الغريزي.
فالخطط في التعميم الجماعي لإثارة عاطفة ما في الأمة يختصر في يوم أو يومين جهد سنين من العمل الرصين. فبعد إثارة الخوف الجماعي من المسلمين بسبب قتل "إرهابي مسلم" أو "إرهابيين مسلمين" لفرنسي أو ألماني أو إنغليشي او غيره، يسهل ترسيخ الحقد على المسلمين جميعاً وعموماً. الحقد لا يرتوي ويذوي إلا بالقتل، بالموت الجسدي للمسلم. وبما أن الحكومة الإنكليزية أو الأميركية أو الفرنسية أو غيرها لم تنجح في الإفناء الجسدي التام للمسلمين، رغم مطالبة كثير من سياسييهم، مفكريهم وعسكرييهم بهذه التصفية فإن الحقد يتحوَّل إلى حالة نفسية دائمة تظهر في تعامل أي أوروبي مع أي مسلم. حالة الحقد الدائم في النفس الخبيثة الأوروبية على المسلم هي الحالة الدائمة التي يريدها الحاكم الألماني للألماني بأن يعيش بها ويورِثها ابنه وابنته. بغض النظر عن الحزب الحاكم مسيحياً برئاسة المرتشي هلموت كول أو اشتراكياً برئاسة المخادع غيرهارد شرويدر. وبغض النظر عن كونه أميراً زانياً في قصر أو رئيساً زانياً خائناً لزوجته كاذباً في قسمه في بيت.(1/152)
الخوف، الخوف الغريزي، الجزع: تعابير استعملناها ليس اعتباطاً بل انتقاءً لا يمكن لأي منها أن يغيَّر. صحيح أن شعور الخوف عام فيها، لكن كل كلمة تعبر عن خوف ينبع من مظهر مختلف من مظاهر الغريزة في الإنسان. الخوف هو الخوف الذي ينشأ عن قناعة فكرية في العجز. لا يتعلق بحساب الإمكانيات والأدوات للغلبة. هو الخرف الذي يكون مصدره في جذوره معرفة الفرد لحقيقة حجم قدراته في ذاته. هذه المعرفة لا بد أن ترتبط بمعرفة أخرى في حقيقة دور هذه القدرات – قدراته – في طبيعتها لا في تخطيطه. مزيج معرفة الأولى والثانية يجب أن ينير واقع حقيقة المعرفة الثالثة. معرفة علاقة القدرات ودورها في طبيعتها بسبب الحياة ووجوده فرداً إنساناً، عائلة ومجتمعاً في هذا الكون. في كلام أدبي هذا الخوف هو خوف الفرد في حالة ما وراء الموت وليس في حالة ما وراء الحياة. ولا يصل إنسان إلى هذه الخوف إلا إذا وصل في بحثه العقدي إلى أعلى مستويات الفكر الإنساني المفروض على كل فرد كان يمشي أو ما زال يتنفس أو يمكن أن يولَد. ليس فكراً خاصاً بمتعلم أو من عنده فسحةٌ في عيشه أو قادرٍ على الهذيان بفلسفة. جنسُ هذا الخوف فيه أمران بمعنى ينتج عنه قرارٌ وأمل. القرار والأمل ليس موضوعنا حتى نبحث فيه لكن لا يجتمعان إلا ويقترنان بعمل. خوف فكر ما وراء الموت غير فكرِ ما وراء الحياة. خوفُ فكرِ ما وراء الموت يتعلق بحياة أو بغير حياة لكنه يجري في عروق الفرد الحي بغضِّ النظر في أيٍّ من عروقه، ودون البحث في منابع هذه العروق وفي مصبِّها. من طبيعة هذا الفكر أو خوف هذا الفكر أن يصبغ بمعنى يؤثر على حياة الفرد بمعنى سلوكه الحياتي تأثيراً ظاهراً وليس خفياً أو مستتراً. لذلك خوف هذا الفكر هو جزء من وجهة نظر الإنسان في الحياة، أي جزءٌ من أيديولوجيته.(1/153)
نحن، مسلمي الأمس، مؤمني اليوم، أحياء بعد غد نتمنى لو كان خوف الجرمان والفرنجة السكسون والرومان والأيبيريين والإنغليش والصرب والسلاف والأثينيين جيران المقدونيين وغيرهم من شعوب البلاد المنحطَّة والمتجمدة في تعصبها ضد المسلمين وحقدها عليهم مثل مخلوقات النرويج والسويد والدانمارك وهولندا وبلجيكا وجزر ما بين المحيطين من الجليد الشمالي إلى البركان في جنوبها. نتمنى لو كان خوفهم من فكرٍ أيديولوجي ينبع من وجهة نظرهم في الحياة. لا يمكن أن ينبع من فكر أيديولوجي مهما كان باطلاً فاسداً تافهاً مثل الفكر الأيديولوجي الأوروبي الذي يفصل بين واقع الحياة وما وراء الحياة في وجودها مخلوقة أو غير مخلوقة. وفي مصيرها ما وراء الموت مسؤولة أو غير مسؤولة. لا يمكن أن ينتج عنه خوف لا يرتوي إلا بقتل الآخر؛ المسلم، أخي وأختي وأنا! هذا التأبيد ليس جزافاً بل بحسب عناصر الفكر الحضاري في منشئه وفي عقيدته وفي غايته وفي طريقته. خوف الفكر الحضاري خوفٌ لا يحتم القتل بل لا يؤدي إلى القتل لهذا لم يقتل المسلمون خلال حكمهم ألفاً وثلاثمائة عام إنساناً واحداً لأنه يخالفهم في أيديولوجيته رغم خوفهم من الكفار جميعاً. لم يقتلوا مسيحياً ولا بوذياً ولا رأسمالياً ديمقراطياً واشتراكيا رغم كفرهم وحقدهم وقتلهم المسلمين. كون الأوروبيين قتلوا وأبادوا المسلمين حيثما استطاعوا ذلك – كونهم أصحاب إيديولوجية مبتورة النصف الأعلى غير متكاملة في مسيحية رومانية أو ديمقراطية رأسمالية – يجب أن لا يخدع بصيرتنا أن كراهيتهم للإسلام لها علاقة بفلسفتهم الفكرية حتى ولو نادى بها الفلاسفة. أو أن قتلهم للمسلمين له علاقة بعقيدة مبدأ الديمقراطية ولو نادى به وعمل له ساستهم وحكامهم الديمقراطيون. كذلك لا يعني أن هذا الحقد والقتل عبر التاريخ ينبع من طقوسهم المسيحية في عبادة صنم مصلوب وأكل الألوهة وشرب الدم الإلهي وغفران الكهان. أو أن له علاقة بالفكرة(1/154)
الإلحادية، بفكرة وحدة الوجود، فكرة صدفة الوجود، فكرة النشوء والتطور. أو إنه من حيرتهم في تقديس الصليب الذي صنعه يهود لصلب "مسيحهم" أو تقديس يهود الذين صلبوا "مسيحهم". أو من حيرتهم في تقديس مسيح "الكاهن" أو إنكاره. أو من حيرتهم في تقديس كاهن "المسيح" أو في احتقاره. الحيرة تمنع القتل. الحقد والقتل يحتاج إلى قرار، في طبيعة الإنسان أنه لا ينبع من حيرة يحتاج إلى تربة مغايرة لا مشابهة.
صراع الحضارات ليس سبيله الإبادة وإن كان في حتمياته عداء وخوف وحروب فيها قتل وتشريد. عندما أباد المسيحيون الإنكليز والفرنسيين والأسبان والبرتغال سكان أمريكا لم يكن بسبب خلاف أو عداء أو خوف حضارياً إطلاقاً. ليس بقولنا بل بقولهم في سجلاتهم وتاريخهم وتصوير حروبهم، وتفصيل خداعهم وتقارير مكرهم وذكريات أكابر ساستهم وأساتذة فكرهم وقساوسة حملاتهم. جميعهم أجمعوا أنهم أبادوهم دون حاجة. نهب ثروات أهل البلاد لا يحتاج إلى إبادة، صحيح أنهم أبادوهم لينهبوهم لكن هذه الحقيقة تخالف الحاجة وهي تحقيق هدف النهب. تخالف بمعنى تثبت أن الخلاف الحضاري لم يكن سبب إبادة سكان أميركا اليوم بلاد الأنغلو سكسون واللاتين. كذلك، صراع الحضارات في جميع أشكاله لم يدفع بالمسلمين يوماً إبان سيادتهم على الأرض إلى إبادة واحد أو مليون في قرية أو دسكرة أو مدينة. فكيف بشعب أو أمة بكاملها كما فعل المسيحيون في إبادة ثلاثين مليون مسلم في إسبانيا. وكما فعل أكابر المسيحيين في كل بلدٍ مسلمٍ أهله وفي كل فردٍ تغلبوا عليه طوال وجود هذا الصراع. حتى بدون هذا الصراع كما هي حال اليوم لا يوجد صراع بين إسلام وكفر ومنه الديمقراطية أو الاشتراكية أو القومية. سنوات والمسيحيون يقتلون المسلمين في البوسنة والهرسك في منع دولي بقرار من جميع الدول في منظمة الأمم المتحدة من تسليح مسلمي البوسنة والهرسك للدفاع عن أنفسهم. حتى الدول التي عارضت القرار شاركت فيه والتزمته(1/155)
رغم أن جموع سكانها من المسلمين بحجة عدم الخروج عن التوافق الدولي في إبادة المسلمين وهم بدون أسلحة. جميع حكام الأرض وقفوا يراقبون قتل الإنكليز والفرنسيين والألمان والصرب والكروات للمسلمين وهم محاصَرون بدون طعام أو سلاح. جميعهم أعلنوا السلام وأصبحوا أبطال سلام، بما فيهم أمريكا، بعد أن أفنوا كل من استطاعوا إفناءه أو لزمهم إفناؤه.
عندما نقول لا يوجد اليوم صراع حضارات بين كفر الفكر الديمقراطي وشذوذ فكر الفلسفة الغربية وبين الإسلام ليس مجازاً بل في حقيقة الواقع. حضارة الغرب تقوم عليها كيانات حكم بما يلزمها من جماعات وصناعات ومؤسسات. حضارة الإسلام كانت، ليس لها في الحاضر كيان حكم حتى ولا يسمح بتذكرها أو قراءتها أو الحديث عنها. وليس لها حضور حتى في ذهن المسلمين فكيف بسلوكهم ونهجهم وطريقة تفكيرهم وتدبير أمور حياتهم. الصراع يحتاج إلى أدوات من منابر إعلام وقوى مادية من اقتصاد ونقد وجيوش. كيان الحكم القائم اليوم في أي بلد مثله مثل الجميع، يدعي الديمقراطية. نحن نصدق ذلك لأننا نعلم حقيقة شذوذ فكر الحضارة الديمقراطية كما يعرفه الذين يحاولون ترقيع هذا الشذوذ وإصلاحه. نصدقه لأن فكر المبدأ الرأسمالي الديمقراطي يقوم في كيان حكمه على رجال يتفوقون على جميع أفراد مجتمعهم بالكذب والخداع والتضليل. ففي طبيعة الفكر الحضاري للديمقراطية شذوذ وفي ممارسة العيش بالفكر الحضاري الديمقراطي شذوذ. نحن نصدق كل من يقول إنه ديمقراطي بقدر معرفتنا بشذوذ جهله لا بشذوذ علمه. بقدر معرفتنا لكذبه لا في صدقه. نصدّق الجميع أنهم ديمقراطيون لأننا نعلم يقيناً أن الفكر الديمقراطي يستوعب كل الكذب وجميع الكذابين.(1/156)
في الفكر الكنسي الذي نشأ متأخراً عن الفكر المسيحي حتى إذا أمسك بقيادة الفكر المسيحي ألغى دوره وجعل الفكر الكنسي أساس المسيحية بدل الحقيقة التاريخية. يقولون إن الكاهن بمعنى الكنيسة نجحت في اصطناع إله ونجحت في دورها بحماية هذا الإله فكيف لا يكون لها القدرة على منح الغفران نيابة عن الإله. الشيء الطبيعي أن يكون للكنيسة حق منح الغفران لعصاة الكنيسة أو الحاكم الذي وراء الكنيسة. لذلك نرى شذوذ الحقد في النفس الوثنية ما قبل المسيحية أضعف في قوة شذوذها من شذوذ الحقد في النفس الإنسانية التي اعتنقت المسيحية. النفس الإنسانية بدون المسيحية ليس لها من يغفر لها ويطهرها قبل الموت. خشيتها في فطرتها من الموت كان يمنعها من الشطط بدون حدود في غيِّها وحقدها على غيرها. المسيحي لا يعبأ في الشطط كذباً، معصية، حقداً وقتلاً، فعلى ناصية كل حي كنيسة تنتظره لتغفر له معصيته وتباركه في شذوذه وإذا قتل مسلماً أو نكث عهداً مع مسلم فهو قديس.
في الفكر الديمقراطي أن الكنيسة صنعت إلهاً، ثورة الشعب أطاحت بحكم الكنيسة إذاً الشعب أقوى من إله الكنيسة، إذاً ممثل الشعب أقوى من إله الكنيسة وأقوى من كاهن الكنيسة فهو لا يحتاج إلى مغفرة. من هنا كان آلهة الديمقراطية أكابر الكذابين في المجتمع الغربي. ليس بقولنا بل بدراسة سيرة حياة قادة السياسة في بريطانيا وفرنسا وأمريكا بلدان الزعامة الغربية وإن كانت فرنسا تحولت إلى ذيل أمريكي في عهد ميتران وشيراك، وبريطانيا ما زالت تدّعي أنها عظمى بطريقة مكر العشقية بسيدتها.(1/157)
عناصر الصراع؛ منابره وأدواته متوافرة للحضارة الغربية. عناصر الصراع بمنابره وأدواته غير متوافرة للحضارة الإسلامية. صراع الديمقراطية مع الإسلام كصراع دون كيشوت مع ألواح دواليب طواحين أسبانيا. ضربة سيف في هواء. هذا في حقيقة الواقع لا في واقع مسرح الدمى. حقيقة الواقع أنْ ليس هناك مبرر لخوف أيديولوجي من المسلمين ولا يقال في هذا المقام إن خوف الأوروبي الحضاري ليس من المسلمين لأنهم يعلمون أنهم نجحوا في إبعاد المسلمين عن الإسلام بل من فكر الحضارة الإسلامية. لا يقال هذا الكلام لأن الرد عليه من الواقع في حقيقتين:
أن الأوروبي من أكثر الناس عشقاً للفكر. حتى ليكاد يكون لكل شاذّة فكرية أنصارٌ ومصدقون. صحيح أن الأوروبي لا يعرف معنى الفكر ولهذا لا يفصل بين الفكر والمعلومات ولا يفصل بين الفكر وطريقة التفكير ولا بين فكر الحقيقة وخيال فكر الحقيقة. لكن هذا يبقى جهلاً في الفكر في شروطه وفي مقاييسه لا علاقة له بشغف الأوروبي بالفكر والإخلاص لقناعته، واتباعه في حجته. وقد أثبت الأوروبي الحديث ضياعه في التفكير لا هروبه من التفكير. وأثبت إخلاصه في التفكير لا نفاقه في التفكير اللهم إلا الإنكليزي. وأثبت مثابرته على التفكير دون خوف في حجم التفكير. هذه النفسية في الأوروبي في ممارستها يستحيل عليها أن تخاف من أي فكر إسلامي أو غير إسلامي. عندما يقال "أي فكر" فهذا يشمل الفكر الذي له حجة تثبته والفكر الذي ليس له حجة تثبته.(1/158)
صحيح أن الفكر الذي ليس له حجة لا يسمى فكراً، لكن في عصر عرفات زعيماً قائداً لتحرير فلسطين أصبح فكراً بقوة الطائرات الأميركية التي دمرت بيوت المسلمين في كوسوفا بحجة تدمير القوة العسكرية الصربية من أجل السلام. كما النفسية الأوروبية في صفائها لا تخاف من الفكر الإسلامي كذلك العقلية الأوروبية لا تخاف من البحث في أفكار الإسلام. كذلك سلطات الحكم في الإنكليز والأوروبيين لا تخاف من أن يبحث الأوروبي عن الإسلام. لأنها تعلم أن الأوروبي لا يملك مقياس صحة الفكر حتى يكتشف صحة الفكر الإسلامي. ولأنها تعلم أيضاً أن الأوروبي فقد منظار التمييز بين فكر في حجة وفكر بدون حجة. فالأوروبي كمسلم اليوم بينه وبين فكر أيديولوجية الإسلام سيل جارف من أفكار إسلامية متناثرة مبعثرة يمنع تجميعها غياب الرباط العقدي منها وليس بينها.
شرط الفكر الحضاري أن يرتبط بعقيدة الأفكار التي هي قاعدتها كلها. إذا أخذنا أفكار أي حضارة دون ربطها بوجهة النظر في الحياة التي صاغتها العقيدة وهي ما أصبح مصطلحها أيديولوجية الفكر فإنها حين فهمها – أي فهم الأفكار – يكون فهمها منفصلاً عن قصدها. إذا انفصل فهم الفكر عن فهم مقصده يكون فكراً ميتاً لا حياة فيع وغالباً ما يكون فكراً سخرياً. لأن الفكر الميت هو الفكر الذي لا روح فيه، هو الفكر الذي لا يرتبط بجذوره وبذلك لا يرتبط بفلسفة نبت منها. فارتباط الفكر بفلسفته هو روحه وهو الذي يحدد قصده. دراسة الفكر المنتجة المؤثرة في العقل توجب دراسة الفكر من خلال فلسفته – فلسفة فكر المبدأ الفكري – وإلا تكون دراسة سطحية غير مجدية مهما كانت مستفيضة لا تخرج عن كونها طقطقةً فكرية أو ثرثرةً قولية.(1/159)
هذا في أحسن أحوال البحث في أفكار الإسلام وهو تعترضه سدود مفروضة على الأوروبي يكاد يستحيل افتراضها أو تجاوزها. حتى هذا المستوى الذي لا يمكن أن يؤدي بالأوروبي إلى الاقتناع إلا في الحالات النادرة وهي حالات فردية منزوية لا يسمحون أن يكون بمتناول الجميع. الواقع أن بحث الأوروبي في الإسلام ليس له مصادر متيسرة إلا من خلال أقنية الدراسة التي تطبق على المجتمع. ومن خلال المصادر المتوفرة للمجتمع. جميعها يرتبط بمناهج الثقافة ومراكزها ومنابر الإعلام الجماعي ورجاله، ولا يوجد مصدر آخر يتوافر للأوروبي. أما ما يحتجُّ به من توافر مراكز إسلامية ودعاة وجمعيات إسلامية ومدارس إسلامية في الغرب فهذا أسخف من أن يستحق رده. نرد المحتجين بهذا إلى وجوب أن يتعرفوا إلى حقيقة واقع هذه المراكز فهي تنطق بتفاهاتها وخبث دورها وارتداد نتائج أعمالها في غير الرجاء منها.
2-ليس لفكر حضارة الإسلام منبر. الإسلام مبدأ فكري للإنسان أي لجنس البشر أجمعين. المبدأ الفكري هو عقيدة ونظام معالجات لجميع شؤون الحياة ينبثق من هذه العقيدة. العقيدة هي الفكرة الكلية عن الحياة، عما قبلها وما بعدها. وهذا يعني فكرة كلية عن وجود الإنسان لأنه قصد البحث، وعن بدء الحياة التي هي الحقبة الزمنية لوجود الحياة، وعن تكوين الكون الذي يعيش فيه الإنسان. نقول الكون وليس الأرض فقط لأن وجود الأرض، مهبط الإنسان، يرتبط بأنظمة علاقة الأرض بغيرها. ثم عن علاقة الوجود الحياتي بمصيره في الموت. لأن مظهر الحياة في كل شيء فردي وليس جماعياً يفرض أن مصير الحياة الجماعي مثل مصير الأصل الذي هو فردي. أفكار علة الوجود الحاضر وعلاقته بماضيه ومستقبله جميعها تشكل وجهة نظر خاصة في الحياة أي أيديولوجية فكرية محددة. إذا اقتصرت هذه الأيديولوجية على هذه الأفكار تكون فكرة نظرية مبتورة لا تؤثر في سلوك الإنسان لا بل إذا اعتقدها تقوده في ضياع وحيرةٍ طوال حياته.(1/160)
حتى تكون هذه الأفكار مؤثرة في حياة الإنسان لا بد أن ينبثق منها نظام يسيِّر حياة الإنسان بمعنى ينظم إشباع حاجاته وغرائزه وينظم علاقاته. يعالج اضطراب هذه العلاقات وفيه حلول المشاكل أو معالجاتها التي تنتج عن هذه العلاقات. هذا المعنى للمبدأ الفكري الإنساني ينطبق على الرأسمالية الديمقراطية ولهذا يمكن تسميتها المبدأ الرأسمالي الديمقراطي. كذلك ينطبق على الإسلام ولهذا يمكن تسميته المبدأ الإسلامي. من هنا كانت للرأسمالية الديمقراطية حضارة وكان للإسلام حضارة. فنظام الحكم الذي ينبثق من العقيدة في تطبيقه توجدُ الحضارة أما بدون تطبيقه فلا توجد حضارة للمبدأ في واقع الزمن. لهذا كان للإسلام حضارة وليس له في الحاضر العملي حضارة مؤثرة في الواقع. حضارة الإسلام التي يتحدثون عنها حضارة سابقة. الذي يخافونه ويمنعون عودته هو عودة تلك الحضارة بمعنى عودة المسلمين إلى تطبيق نظام الحكم الإسلامي المنبثق من عقيدة الإسلام.(1/161)
في هذا الزمن الذي نعيشه لا يوجد كيان يحكم بنظام الإسلام. لا يوجد حتى شبه كيان إسلامي بمعنى خيال كيان. لا يوجد حتى سوء تطبيق للإسلام في أي كيان. كل ما هو موجود تضليل عن الإسلام وتشويه له يجري بحسب خطة متقنة التدبير والتنفيذ من قبل دول الغرب لإنجاح خططهم في إبعاد المسلمين عن الإسلام. ومن أجل تجهيل المسلمين بإسلامهم. في هذا الواقع لا يوجد منبر لوجود الحضارة الإسلامية. ليس لفكر حضارة الإسلام واقع. ليس لنظام الإسلام كيان دولة. ليس لمبدأ الإسلام سلطة تطبق أحكامه في تنظيم علاقات الناس ومعالجة مشاكلهم. ليس له قوة تحمي تطبيقه أو تنفذ أحكامه. ليس له كيان في الوجود يقوم عليه ويدعو له. كيف يصارع الحضارة الغربية أو كيف يكون في الواقع صراع حضاري بين الديمقراطية والإسلام بينما للديمقراطية منبر وليس للإسلام منبر؟ بل للديمقراطية منابر وجيوش لا تعد، منها جيوش ممن يُفترض أنهم مسلمين، وليس للإسلام منبر واحد ولا جيش واحد!(1/162)
غياب كيان حكم إسلامي لا يعني غياب الصراع بين الإيمان بالله والكفر بالله. ولا يعني أن الإسلام لم يعد فكراً حضارياً. بل هو فكر يدعو إلى عودة الحضارة الإسلامية للحياة، أو عودة الحياة إلى الحضارة الإسلامية. فكر الحضارة الإسلامية جزء من مبدأ الإسلام، بل هو عقيدة الإسلام، لذلك لا يمكن أن يندثر أو يطمس في النفوس. وما تتعرض له الأمة الإسلامية من طمس لفكرها الحضاري لم تتعرض له أمة في تاريخ البشرية منذ أن وجدت. لهذا قضية الإسلام اليوم هي إقامة الصرح الحضاري الإسلامي الذي لا يكون إلا بإقامة كيان حكم يحكم بالإسلام، وليس بإقامة أكبر مسرح احتفالي في الألفية الثالثة قي تقويمٍ يغاير تقويم المسلمين. وليس في خصخصة المرافق العامة في بلاد المسلمين. وليس في تشريع القوانين التي تبيح الفاحشة وتعممها في بيوت المسلمين. وليس في التسليم باحتلال بلاد المسلمين وتوقيع معاهدات سلام مع عدو كافر اغتصب بلداً من بلاد المسلمين. وليس في تنفيذ خطط قتل المسلمين بحجة الخضوع للقرارات الدولية والعجز عن مخالفتها. وليس في الإكثار من طبع نسخ من القرآن الكريم. ولا تكون في بناء مساجد لا يُسمح فيها حتى بقول كلمة ترتبط بفكر الإسلام الحضاري الذي هو أفكار الإسلام التي تدعو لإقامة حكم الله في الأرض.(1/163)
صراعُ الحضاراتِ من وجهة نظر الغرب يعني فقط عدم السماح للمسلمين بالتزام أحكام دينهم. أحكام الإسلام تفرض على المسلم اعتناق فكر حضارة الإسلام والعمل لإقامة كيان تتمثل فيه أفكار الحضارة الإسلامية. الغرب يرى أن كل أو أي مسلم يهتدي إلى فكر الإسلام الحضاري عدو للغرب. المسلم الذي يحمل الفكر الحضاري الإسلامي للناس يَعُدّ نفسه حامل رسالة هداية ورحمة لغيره من الناس. كيف نفسر عداءهم وتهيؤهم الدائم لقتلنا مع رأفتنا الدائمة بهم عبر التاريخ أنه صراع من نفس الخلفية؟ كيف نسمي صمتنا في قتلهم الجسدي لنا في كل يوم بالطائرات والمدافع والرصاص في كل بلد من بلادنا، مع عجزنا المطلق، صراع حضارات؟
هل يتوهمون صراعاً؟ لا. هل يكذبون على أنفسهم؟ لا. هل يضلِّلون شعوبهم؟ نعم. هل يضللوننا؟ نعم. سبب تضليل الحكام الأوروبيين لشعوبهم في كذبةِ صراع الحضارات حتى تستمر تعبئة النفس الأوروبية بالخوف من الإسلام وكراهية المسلمين أعدائِهم وأعداء حضارتهم. سببُ تضليل المسلمين حتى يزداد المسلمون بُعداً عن الإسلام ويزداد حكام المسلمين إنكاراً للإسلام وتنكراً له بل عداءً له. حتى يمتنع أي مسلم عن التمسك بفكر الإسلام الحضاري. يُخيفون المسلمين بفتح معركة صراع الحضارات حتى يستمر المسلمون بالسكوت عن موت حضارتهم ويرضوا بأنظمة الحكم التي تمنع عودة الحضارة الإسلامية. حتى يكون حبس وقتل أي مسلم يدعو إلى الفكر الحضاري الإسلامي شأناً قانونياً لأنه يخالف قانون منع عودة الإسلام للحياة أو عودة الحياة للإسلام.(1/164)
صراعُ الحضارات مقولةٌ فيها تضليل بالمعنى اللفظي لا بالممارسة العملية. في الممارسة العملية هو يعني فرض الحضارة الغربية على المسلمين، وكل مسلم يكتشف أن هذا ضد كلِّ آية من آيات القرآن الكريم فهو عدو للغرب يصارعه صراعاً حضارياً. بغض النظر عن كونه لا يمتلك طائرة ولا مدفعاً. ولو لا يمتلك قلم رصاصٍ يكتب به أفكاره أو يتعلم به الحساب. صراع الحضارات في مفهومها الغربي تستهزئ بالعقل الأوروبي أكثر مما تستهزئ بعقل المسلم. المسلم قد يعلم حقيقة معناها ويخشى التصدي لها أو يعجز عن التصدي لها. الأوروبي يستحيل عليه أن يهتدي إلى حقيقة التضليل في هذه الدعوة. هو في حقيقته عاجز عن اكتشاف أي تضليلٍ حكومي، فلسفي أو فكري في حياته. اقتنع منذ زمن، أن همَّه الأساسي في الحياة، بمعنى رسالته في الحياة، أن يفني حياته في السعي لإشباع غرائزه. إذا أعجبه فعل كلب تصرف مثله. إذا لم يكن للقرد هدف في الحياة فلماذا يكون له هدف؟ كيف ينظم النمل وكره يقوم هو بتنظيم مجتمعه – وكره.(1/165)
الهلعُ، أو الخوف الغريزي، غير الخوف الفكري الذي يصدر عن بحث عقلي في واقع حاضر أو قد يحصل وقد انتهينا من بحثه. واقتنعنا أنه لا يبرر عداء الأوروبي للإسلام ولا كراهيته للمسلمين. الهلعُ نوع آخر من الخوف. يختلف في مبرراته وفي رداتِ فعله. الخوف الغريزي هو ما فُطِر عليه الإنسان من الخوف منه. هو جزء من طبيعة الإنسان ليس طارئاً عليه. مثل الخوف من الاحتراق أو الوقوع من مكان عالٍ أو مواجهة قطيع من الذئاب أو الانحباسِ في الماء. أمثال هذه مما يضر أو يقتل طبيعة الحياة في الإنسان. أيضاً، من الخوف الغريزي ما يضر بمظاهر الغريزة من مثل الإفلاس الذي يمنع إشباع حب التملك الذي هو أحد مظاهر غريزة البقاء. ومثل التشهير العلني الذي يناقض إشباع حب الجاه، ومثل منع المسلم من نصح الحاكم أو التعاطي بشؤون الرعاية العامة التي هي الأمور السياسية، وحماية عِرضِه من زوجة وأولاد وأمٍ وأخوات ومثلهم، فهذه كلها من مظاهر إشباع غريزة البقاء أو التدين أو النوع. هذا الخوف يتعلق بطبيعة الإنسان أولاً والأفكار التي ترسَّخت في ذهنه عن هذه الطبيعة. لذلك هي ليست – أي الخوف الغريزي – رد فعل غريزي بل تصرف ينتج عن قناعة عقلية بنوعية التصرف. فهو تصرف أرقى من تصرف الرجع الغريزي. ومنه الخوف من المحذور وهو من قبيل الحَزَن. الحَزَنُ هو الخوف الذي يفرض حماية الغرائز في إشباعها في تقلبات الظروف. لذلك الحَزَن هو الخوف من احتمالات في اضطراب إشباع الغرائز. ليس خوف من ظرف يواجهه. هل خوف الأوروبي من الإسلام يندرج أو يمكن أن يكون خوفاً غريزياً؟ هل عداء الأوروبي للمسلمين نتيجة خوف غريزي؟ هل كراهيته للإسلام حدَّ إقفال عقله عنه، وكراهيته للمسلمين حد قتلهم يبرره خوفٌ غريزي؟ هل هو من الحَزَن؟ الساسة، سياسيوهم، رعاتُهم يقولون نعم. مفكروهم، فلاسفتهم، كهنتهم يقولون نعم. هل نعم هذه يوجد ما يبررها واقعيا أو هي جزء من مؤامرة فرض كراهية الإسلام(1/166)
والمسلمين على الأوروبي؟ قبل البحث في الرد على الكذب في «نعم» هذه ننتقل إلى الخوف الثالث باختصار حتى نشمله في البحث.
الجزعُ، خوفٌ غير الخوف وغير الهلع. هو الخوف الذي ينتاب الإنسان من رجعٍ غريزي دون تفكير. يجابهه الإنسان بردِّ فعلٍ غريزي دون تفكير. هو آني ظرفي ومفاجئ. يزول بزوال ظرفه. كأن يقفز على الإنسان قط دون مبرر ودون مقدمات. مثلاً يكون القط هارباً مذعوراً من ملاحقته ومن هروبه أن يتسلل ويتسلق ويقفز. لكن في سرعة جريه تسبق رغبته من النجاة حسابَ المسافات. ففي قفزه قد يقع على إنسان أو قد يعترضه إنسان أو قد يمرقُ بمحاذاته بسرعة الهروب. ملامسةُ القط الفجائية أو مروقه بمجاورة الإنسان فجأة من خارج شبكة اللاقطِ الحسي للإنسان يُخيفه. ومثل أن يكون الإنسان سائراً باطمئنان يهاجمه آخر بمشعل من نار يحاول حرقه. أو أن يكون الإنسان في بيته فيُقذف بالحجارة ويُطلق عليه الرصاص. أو في شارع من سوهو تحوطه عصبة من الشاذين في نزواته. أو مثل رجل أكرمه الله بلون بشرة سوداء يجد نفسه في مدرسة أو منتزه رواد ممن أكرمهم الله ببشرة بيضاء يرمقونه بنظرات تشبه نظرات الحيوانات المفترسة. هذه وأمثالها توجد خوفاً مؤقتاً إذ خوفها يزول بزوال الشذوذ من الواقع لأنه لا يتأتى في ظروف عادية أو من أسباب عادية. هو خوف ينشأ من غير منشأ الخوفِ الفكري أو الهلع والحَزَن، خوف ينشأ من أي غريزة بحسب المظهر الذي نشأت عنه.(1/167)
هذا البحث الموجز في الخوف ليس لبحث الخوف بل لبحث مصادر الخوف لأن التعرف إلى مصادر الخوف يسمح لنا بمعنى يفرض علينا طريقة معالجة الخوف الناشئ. فالخوف الذي ينشا عن غريزة التدين تكون معالجته في فهم كيفية إشباع غريزة التدين.(1) بينما الخوف الذي يتعلق أو الذي ينشأ عن غريزة البقاء تكون معالجته في فهم سبب الحياة لا في إشباع الغريزة التي تطالب بالحياة وحماية مظاهرها.(2) أما غريزة النوع فمعالجة خوفها لا تكون في فهم كيفية إشباع الغريزة، ولا في فهم سبب الحياة بل في فهم طاقتها في قدراتها واحتمالها.(3)
__________
(1) من طبيعة هذا الخوف أن يخبو بقدر زيادة إشباع غريزة التدين، فكلما التزم الإنسان طاعة خالقه الله ازداد اطمئنانه إلى رحمة الله. فهو يتحرك باتجاه عكس الإشباع. لهذا نقول إنه يرتبط بغريزة التدين لأنه يرتبط في إشباعها أو عدم إشباعها في صعوده أو في خموده.
(2) هذا الخوف يتعلق في فورانه وهبوطه بفكر الحياة لا في إشباع مظاهر غريزة البقاء، لأن هذا الفكر يتحكم بطريقة إشباع المظاهر وحدود هذا الإشباع. وكلما انحطَّ فكر الحياة ضعفت سيطرة الفكر على طريقة الإشباع وحدوده ما يؤدي إلى تنامي الخوف بدون مبرر.
(3) لأنه خوف يتعلق بوجود الذات وحمايتها وتواصلها واستمرارها، فهو خوف على ذات النوع لا على إشباع رغبات أو فهم سبب الوجود.(1/168)
معرفةُ مواطنِ الخوف أو مصادره تُنير طريقة الجزم بحقيقة الخوف الأوروبية، هل هو وهمٌ أوهموهُ به بمعنى هل هو خوفٌ لا واقع يبرره؟ أو أنه وهم أوهموه به بمعنى هل هو خوف لا مصدرَ له أي لا ينتج عن أي غريزة؟ أو أنه خوف أوهموه به لا مبرر له في الواقع ولا في المصدر؟ وحدهُ الأوروبي يستطيع إثباتَ ذلك لنفسه. على عاتقه في فرديَّتِه تقع مسؤولية هذه المهمة لأنها ترتبط بسبب وجوده في ذاته وفي سبب موته فريداً وفي وجهةِ خروجه بعد بوابة قبره. من أجله وحده، وفقط من أجله تكون فائدة بذل جهده في بيئته الفكرية السليمة، سعادته. أو تكون نتيجته دوام عيشه، في ذاته، في فراغ الحياة، حياة فارغة المحتوى، لا مبرِّر لوجوده، حائرٌ في مصيره، يجهدُ في يومه وليله حتى ينسى موته. يعيش راقداً طوال حياته هارباً، في كل أعماله وأفكاره، من الموت الذي يعلم عنه الكثير من حقائقه. يعلم عنه كيف يفنى فيه جسده، وكيف ينبتُ منه الدودُ والحشرات والبكتيريا التي ما كانت لتولد من خارج أحشائه. تعمى بصيرته عن ربط انبثاقِ الدود والحشراتِ والبكتيريا من جوفه بانبثاقِه من جوف أمه. لا يتذكر معجزةَ الخلق لأن معجزة الفناءِ تُربكه، تعطِّل عقله! ليس لأنه لا يفهمها في عمقِها بل لأنه لا يستوعبُ ارتباطها بسببها! عميته، عتمةُ حياته، انغلاق بصيرته في موته، ليس عمىً في رؤيةٍ بل عمىً في عقلِ الرؤية!(1/169)
حقائقُ الفهمِ في أسباب الخوف لا تسمح للأوروبي ومنه الأمريكي بقتل المسلم لأنها كلها لا تثير حقدها على المسلم. قواعدُ عمل غريزة التدين، غريزة حب البقاء وغريزة النوع لا تحرِّض على قتل المسلم ولا على الحقد عليه وكراهيته. لأن فكر الإسلام ووجود المسلم لا يؤثر في إثارتها أو كبتها. عقليةُ الأوروبي – مهما فقدت من عناصر العقلية السليمة ورغم خَطَلَها الفكري – لا تستطيع بما هي عليه إنتاج هذا الحقد فكيف بفرضه على النفسية الفردية في الشخص الأوروبي. نفسيةُ الأوروبي – على ما هي عليه من ضياع ورغم انحطاطها – لا تستطيع احتمال فرض الكراهية فكيف بتحويله إلى حقد. مصدر كراهية الأوروبي للإسلام بالبحث الفكري المستنير، بالبحث الفكري العميق وبالبحث الفكري السطحي ليس من طبيعة عقليةِ الإنسان ولا من طبيعة نفسيةِ الإنسان إيجاده أو القدرة على احتماله في استمراره.
السلوكُ الإنساني في رقيِّه وانحطاطه يرتبط بتلبية حاجة. الحاجة إما تنتج عن قناعة عقلية أو عن رغبة غريزية. كراهية الإسلام وقتل المسلمين لا تنتج عن قناعة عقلية في الأوروبي لأنه في المحاجَّةِ الفكرية معه يتنكَّر أنه يكره الإسلام أو أنه يريد إبادة المسلمين حتى المستشرق الفرنسي كيمون عندما سُئل عن حقيقة اقتراحه بكيفية إبادة المسلمين جسدياً اعترف بأنه كان يهلوس في خلوته ولم يكن يقصد أن يخاطب بها عاقلاً.(1)
__________
(1) أثبتت دراسة كتاباته أنه مر بفترات اختلال عقلي.(1/170)
أثبتنا في الحالة الأولى كيف فرض آلهة حكم الأوروبي قناعةً عقليةً ينتج عنها كراهية الأوروبي للإسلام، وأنه ما كان يمكن فرض تلك القناعة إلا بتعطيل دور العقل. وفي مقدمة بحث الحالة الثانية أثبتنا أن قواعد إثارة غرائز الإنسان وأعمالِ إشباعها لا تستطيع استيعاب هذه الكراهية حدَّ التصفية الجسدية لوجود المسلم. يبقى أن نبحث في الأعمال التي تفصل بين قواعد الإثارة وأعمال الإشباع. إذ الحالة الطبيعة أن يرتبط الإشباع بالإثارة فإذا انفصل الإشباع عن عامل الإثارة يبقى العاملُ في الإثارة مؤثراً لأنه لا يخمدُ إلا بالإشباع. ويبقى السعي للإشباع عملاً مستمراً لا يتوقف لأنه في انفصاله عن عامل الإثارة فَقَدَ هدفاً له أو غايةً يحققها. وأي عمل للإشباع لا تتحقق غايته لا تنطفئ حاجته لتحقيق هدف، ولا تذبل حيويته للسعي في إشباع. لهذا نجد الأوروبي كهلاً وقد فقد معظم طاقاته الغريزية يستمر في كراهية الإسلام وحقده على المسلمين حد قتلهم. بتمام الزخم الذي كان يكره فيه ويحقد علينا ويقتلنا وهو أو وهي في سن الثلاثين. أيضاً بتمام الحماس عندما كان يتعلم كراهيتنا وحقده علينا من سن السادسة حتى الثلاثين، لهذا أيضاً نجد الأوروبيين ومنه الأمريكي، لا يشبع من نهمٍ حتى إنه يضطر أن يسعى لإشباع مظاهر غرائزه بشذوذ يحتقره حتى الوثنيون وشذّاذ البشر. هم لا يرون في شذوذِهم غرابةً بل يقولون إنه من طبيعة الإنسان. هذا صحيح، لكنه من شذوذٍ في طبيعه وليس من طبيعةٍ في طبيعه. إرهاب المسلمين أو الإرهاب الإسلامي كيفما سموه، هو الذي به يفصلون قواعد الإثارة عن عمل الإشباع. لكن لأن هذا الفصل مستحيلٌ في طبيعة الغريزة لأنه لا يتعلق بالجينات بل يتعلق بالنظام، عمدوا إلى الاحتيال على الإشباع بخداعه في تسخير طاقته.(1/171)
قواعدُ الإثارةِ في الغريزة عند الإنسان الذي يرتقي في إنسانيته إلى ما يجب أن تكون عليه يلزمها أن ترتبط بمفاهيم فكرية سبق ان اقتنع بها العقل. عند الإنسان المنحط لا يلزمه هذا الارتباط لأنه يكون تخلى عن تميزه عن سائر المخلوقات، أي تخلى عن إنسانيته رغم سيره وجلوسه وكتابته باليمين وقتله باليمين واليسار. لكن في الإنسان الراقي والمنحط يرتبط الإشباع بعامل إلا في الأوروبي وفي موضوع كراهيته للإسلام وقتله للمسلم لا يرتبط الإشباع بعامل. عاملُ الإثارةِ ليس مطلقَ عاملٍ لأنه في طبيعته يرتبط بمظهر من مظاهر الغريزة، فهو قاعدةٌ في الإثارة تنتج عن طبيعة الغريزة. أي إنسانٍ هو هذا الأوروبي إذا لم يكن إنساناً راقياً في إشباع غرائزه، وليس إنساناً منحطاً في ربط الإشباع بعامل الإثارة؟ أيكون إنساناً مريضاً بتصديق وهم أوهموه به؟
في قانون الثأر أن القاتل يقتله أهل المقتول. في قانون الدولة الرأسمالية الديمقراطية أن القاتل يقتله القضاء، يعني نظام الحكم نيابة عن أهل القتيل. من أين جاء قانون إذا قتل "مسلم" فرنسياً غدراً تهبُّ الأمة الفرنسية بأجمعها بسياسييها وقوادها ومفكريها تطالب بقتل جميع المسلمين؟ وإذا قتل "مسلم" جرمانياً غدراً يجتمع الجرمان على كراهية المسلمين؟ وإذا قتل "مسلم" أمريكياً غدراً تجتمع جميع أمم أوروبا على الحقد الأبدي على المسلمين؟
إرهاب المسلمين أو الإرهاب الإسلامي حتى يمكن جعله سبباً للكراهية والحقد والقتل الأوروبي يجب أن يكون له واقع دائم في الزمن. يجب أن يكون له كادرات حقيقية في التنظيم. يجب أن يكون له برنامج فكري يشمل قناعات وأهدافاً تجذب بعض الناس إليها. في هذا الإطار يمكن فرضه عامل إثارةٍ في نفس الأوروبي يحتاج إلى إشباع بدل حقيقته أنه حادثٌ طارئ يكفيه رد فعل.(1/172)
في تناول صحافتهم للحركات الإرهابية "الإسلامية" مقالات لا تُعد لكثرتها ولا تُقاسُ فائدتها بمحتواها لأنها خالية المحتوى بل طولها وتكرارها يحقق فائدتها في الأوروبي. في المثل: التكرار يعلم الحمار. هكذا يعلمون الأوروبي كراهية الإسلام والحقد على المسلمين. لو أخذنا أي مقالة في أي صحيفة ترجموها إلى أي لغة من لغاتِ قبائلِ أكلةِ الخنزير الأوروبيين، نجدها هي نفسها التي صدرت في لغة أخرى أو في أعوام سابقة. مما تناولته الصحف الأوروبية، قمنا بتلخيص محتواها لحصر الأهداف التي حققتها الأحزاب أو الحركات "الإرهابية" التي يصنِّفونها كذلك، ويجزمون أنها المبرر لكراهية أوروبيي اليوم للإسلام وسبب خطة الحكم الأوروبي المعاصر في تعبئة قلوب الأوروبيين بوجوب قتل المسلمين. كذلك قمنا بدراسة الموقف الدولي السياسي وتيارات سياسةِ الدول العظمى لمعرفة مدى ارتباطِ أو استقلاليةِ هذه الحركات الإرهابية "الإسلامية". هكذا دراسة لا بد أن تشمل كيفية نشوءِ هذه الحركات، حقيقة ارتباطات واتجاهات مؤسسيها، أفكارهم الأساسية في: مبرر نشوء الحركة، ثقافة الحركة، الفكر النظامي الذي به يتكتل المنتمون. ثم المصادر الحقيقة للتمويل، الغطاء الأمني الذي يتيح لها القيام بأعمالها، الأهداف التي تحققت على يديها في أرض الواقع، مصيرها.
ليس هذا الكتاب في تفصيل خيانة الحركات الإرهابية "الإسلامية" ولا في خيانة الأحزاب والجبهات غير الإرهابية، أو تلك التي انساقت في استعمال السلاح، ولا في خيانة الحركات الإسلامية الموالية لأنظمة الكفر أو خيانة الأحزاب المعارضة لكتاب الله القرآن الكريم وسنَّة الرسول صلوات الله عليه وآله. إذ لا علاقة لهذا التفصيل بموضوع كراهية الأوروبيين، أو خطة الحكومات الأوروبية في فرض هذه الكراهية على قلوب الأوروبيين إلا بمدى حاجة الحكومات الأوروبية لهذه الحركات الإرهابية لإيجاد المسرح الذي عليه تجري المسرحية الهزلية.(1/173)
دراسة أي حركة مسلحة "إسلامية" في جميع نواحي الدراسة: الفكرية، التنظيمية، الأهدافُ مرتبطةً بطريقة العمل، التمويلية، الأهداف التي تحققت من العمل وأخيراً المصير الذي آلت إليه الحركة. جميعها تُثبت أن كل واحدة من هذه الحركات نشأت بتدبير جهازٍ من أجهزة الاستخبارات الدولية، معظمها نشأ برعاية جهازٍ دولي غربي واحد. جميعُ هذه الحركات كانت لتحقيق أحد هدفين: الهدف الأول: أن ينجح التنظيم المسلح بأخذ الحكم ليقتلع نفوذَ دولة غربية محدَّدة وربط الحكم الجديد بالدولة العظمى الأخرى. الهدف الآخر: أن يكون التنظيم المسلح منبراً يخرج إليه ويتطلع إليه جميع الذين تُحدِّثهم أنفسهم بنصرة دين الله. بذلك تخرج جميع القوى الإسلامية من أوكارها إلى العلنِ حتى يعرف النظامُ حجمهم ويقرر خطة التعامل معهم بالقتل أو السجن أو التخويف. ومن أجل فرض إجراءات أكثرَ عداءً لدين الله على المجتمع والأمة.(1/174)
في الهدف الأول يكون المسلمون مسخَّرين في صراع بين دولة مُستعمِرة للبلد ودولة تريد أن تستعمر البلد. في الهدف الثاني تقوم الدولة المستعمِرة أي صاحبة النفوذ في البلد بهذا الإجراء لحماية الحكم العميل لها بتطهير البلد من كل معارض باسم الإسلام. من الواضح أن الهدفين لا يتعلقان بفرض كراهية الأوروبيين للإسلام، ولا يجب أن يكون في تحقيقهما أي علاقة، غير أننا نجد أن كل حركة مسلمة في أي بلد تتعرض جسدياً لأوروبيين لأن قتل أوروبي أو أكثر يساعد الدولة الغربية صاحبة النفوذ في البلد الإسلامي حيث يجري "الإرهاب"، في تأليب طاقات الدول الأوروبية في تثبيت دعائم حكم عميلٍ لها وحدها. هذا من ناحية أما في الأساس فإن هذا يساعدها أولاً في رص صفوف المواطنين كبناء متماسك بوجه الإسلام حتى لا يقرءوه ولا يسمعوه ويكتفوا بما يعرض عليهم ليشاهدوه. أما الأعمال الإرهابية التي تقع في أوروبا ولا تحقق الهدف الأول أو الهدف الآخر فإن لكل حادثة سبباً وغاية منفصلة عن الأخرى لكن كل منها للوصول إلى صفقة أو تحقيق معادلة سياسية جديدة. مثلاً الأعمال الإرهابية التي وقعت في فرنسا واختلف المحللون في أنها من صنع الحكومة الجزائرية أو جبهة الإنقاذ المسلح. بينما الحقيقة أنها من تخطيط جهاز مخابرات الدولة الأوروبية صاحبة النفوذ في الجزائر التي أرادت أن تضغط على أجهزة الحكم الفرنسي بتهديد مصالحها وأمنها، من أجل عدم وقوف فرنسا مع السياسة الأمريكية التي تدعم جبهة الإنقاذ وتعارض سياسة الحكم في الوقوف بوجه الضغط الأمريكي للسيطرة على الجزائر. وعندما خضعت فرنسا لتغيير سياستها حتى تحافظ على مصالحها الحيوية في الجزائر، وتحافظ على أرواح الفرنسيين وأمنها الداخلي توقفت بكبسة زر أعمال الإرهاب "الإسلامي" في فرنسا. لكن في سياق استغلاله قامت أجهزة الحكومة الفرنسية الفكرية، السياسية، الثقافية والإعلامية بكل ما يمكن أن تقوم به لترسيخ كراهية(1/175)
الأوروبيين للإسلام ورفع استعدادهم النفسي لقتل المسلمين ساعة ترى الحكومة الفرنسية ضرورة لذلك. طبعاً، دائماً، بالتشاور مع دول مجلس الاتحاد الأوروبي حتى يحصل تعميم الكراهية والحقد، وإضفاء صفة قدسيةٍ للكراهية وإلزاميةٍ قانونية.
أما في المصير فإن هناك مصيراً مشتركاً بين جميع الحركات الإرهابية "الإسلامية" والحركات "الإسلامية" غير الإرهابية. جميعها كما في نشوئها وصعودها تنشأ تبعاً لحاجة سياسية وتصعد من أجل استقطاب طاقة جماهيرية بقصد استهلاكها، كذلك تهبط وتذوي. جميع الصحف الأوروبية عندما تتحدث عن الحركات "الإسلامية" الإرهابية عندما تصل إلى البحث في نتيجة ما وصلت إليه الحركات الإرهابية وغير الإرهابية تسخرُ من ضآلة الأثر الذي تركته في المجال السياسي. فصعود حركة وهبوطها هو نفسه قصدٌ في وجودها، لأن استمرار وجود الفاشل في المسرح السياسي يجعله دليلاً على سخافة فكر الإسلام لا على سخافة الحركة فقط. لذلك، سخرية الصحافة الغربية من هذه الحركات وبيان زيف هذه الحركات رغم أنها عميلة لدول غربية يحقق قصداً بالغ الأهمية. قوة الاستهزاء بواقع حي أكثر تأثيراً من الاستهزاء بفكر غير مقروء. فهذه الحركات الإرهابية توجِد الواقع الذي يُثبِّت الأوروبي على كراهيته. والحركات غير الإرهابية تثبِّت الواقع الذي يزدريه الأوروبي وقد سبق بحث هذا الشق وما التذكير به هنا إلا لربطه بالواقع الذي يوقد كراهية الأوروبي عاماً بعد عام أو عقداً بعد عقد.(1/176)
الإرهاب "الإسلامي" من مثل إرهاب منظمة التحرير الفلسطينية الذي أصبح تاريخاً. أو إرهاب الجهاد "الإسلامي" – مصر التي أيضاً أصبحت تاريخاً بعد خيانة القيادة للقاعدة أو بعد اتهام القاعدة للقيادة. إذا أعادوا إليها حياة بقيادة جدية فلعمل ووقت. "حماس" فلسطين. أسماء حركات من الجزائر منها الذي له وجود ومنها الذي يفترضون أو يفرض الحكم وجودها. أسماء كثيرة أخرى لا فائدة من ذكرها. أسماء نفخوا فيها هالة لا تستحق حتى ذكر اسمها. أسماء حركات ما زالت تعمل. حركات أو أفراد رفعت أمريكا مستوى خطرهم عليها فوق أي مستوى وصل إليه خطر روسيا على أمريكا أو خطر الصين والفييتكونغ وكوريا الشمالية مجتمعين. حركات إرهابية تدعمها أنظمة حكم عميلة للغرب بشكل علني، أو حركات تعارض نظام حكم في عقر داره لا تتحرك الدولة لقمعه. جميعها، جميع هذه الحركات في أسباب وجودها أنها لعمل معين. في غايتها أن حيويتها تنطفئ بتحقيق الغاية الآنية من وجودها ولو بقيت بين المعروضات في واجهة "تحف" النظام. حركات يسخرها الغرب عبر نظام الحكم الذي تعمل فيه أو النظام الذي يرعاها وهي تعمل ضد غيره من عملاء الغرب لسبب حتى هو يجهله. حتى ولو كان ضد النظام الذي تعمل في أراضيه في استهلاك طاقتها غاية يحققها الغرب، وفي استمرار وجودها مع ذبول طاقتها غاية تخدم مخططات الغرب في تحقيق الكثير من الغايات.(1/177)
جميع حركات الإرهاب "الإسلامي" خالية من وجهة نظر الإسلام أي من أيديولوجية الإسلام. جميع أفكارها أفكار ولو إسلامية لكنها لا ترتبط بثقافة فكرية إسلامية متكاملة. أفكارها ولو إسلامية مبعثرة متناثرة لأنها أفكار إسلامية غير مرتبطة بالقيادة الفكرية للأفكار. فالأفكار كالأفراد مهما وصل تعدادهم بدون قيادة مسؤولة يكونون تبعاً لأي راعٍ يسوقوهم كما هو حال تعداد المسلمين لهم. الفرق كبير بين قيادة لهم وقيادة عليهم. كذا الأفكار لا بد من فكر أساسي تجتمع عليه الأفكار وتتوافد حوله وتنبثق منه. فإذا قامت حركة "إسلامية" إرهابية أو غير إرهابية بتبني أفكار إسلامية دون تبني القيادة الفكرية الإسلامية فإنه من العار نعتها "إسلامية"، وبرهان عليها أنها عميلة في وجودها لضرب الفكر الإسلامي الأساسي، وهذا هو الهدف الأول والأخير من إيجاد أو السماح بوجود حركات إسلامية بأفكار إسلامية مبعثرة. أو أنه الهدف من إيجاد هكذا حركات لتكون مسبة وعاراً يُلبِسونه مبدأ الإسلام الفكري حتى يتبرأ المسلمون من الفكر الإسلامي المبدئي في سياق تبرئهم من فكر هذه الحركات. غير أن كثرة هذه الحركات الخائنة لدين الإسلام لها هدف في كثرتها غير هدف وجودها. هدف نظام الحكم في كثرتها هو أن تكون أنياب الحكم في نهش الحزب المبدئي الإسلامي الذي يقوم على الفكر الأساسي، فكر أيديولوجية الإسلام. فتكون هذه الحركات مانعاً لتجاوب المسلمين مع الحزب المبدئي.(1/178)
لم توجد حركة استطاع الغرب أن يصف أعمالها أنها "إرهابية" أكثر من حركة تحرير فلسطين "فتح". وما ينطبق في وصف الحالة الذي وصلت إليه هذه الحالة في واقعها ودورها، ينطبق على جميع الحركات الإرهابية الأخرى التي لا يوجد مقاربة لمقارنتها بها. ويكفي مقارنة ما كانت تقوله هذه الحركة في بدايتها بما تقوله اليوم لنتعرف إلى حقيقة أهداف المخطط الأوروبي في إيجادها أساساً ورعاية مسيرتها الإرهابية الفاشلة، المحزنة، المخزية المليئة بالأحداث الخيانية للقضية التي تبنتها وعليها ومن أجلها قامت. كما يكفي مقارنة الحضن الذي نشأت هذه المنظمة منه لنعرف حقيقة الحضن الذي هي فيه اليوم. كذلك في مقارنة أعمالها السابقة بأعمالها الحالية. أما بمقارنة تهديداتها السابقة في إنجازاتها الحالية فإننا نتعرَّف على حقيقة هدف الغرب في إيجاد هذه المنظمة وموقفها في مخطط تثبيت إسرائيل كياناً يهودياً دائماً في بلاد المسلمين بحماية أهل البلد ذاته الذي اغتصبوه. لم يسبق في التاريخ أن اغتصبت فئة من البشر أرض أمة فرضت على شعب الأرض أن يحميها. لم يحصل في التاريخ أن قامت منظمة لتحرير الأرض المغتَصَبةِ من أهل الشعب المغلوب لتصبح الجيش الذي يحمي المُغتصِب من الشعب المقهور في غلبته. لم يحصل في التاريخ أن قامت حركة إرهابية ضد الغرب وخاصة يهود الغرب، وقتلوا من الغرب ويهود الغرب، ثم يتحولون بإخراج تفاوضي وتوقيع معاهدات فيها كل الاعتراف بشرعية المنظمة لتمثيل الشعب المقهور في فرض التعبُّد والطاعة للمغتصب يهودي الغرب.(1/179)
أمريكا استطاعت قهر ألمانيا وإيطاليا واليابان في حرب واحدة وهم الثلاثة مجتمعون. بريطانيا استطاعت هزيمة فرنسا واحتلال عشرات أضعاف مساحتها. فرنسا، ذليلة التاريخ رغم غدرها الدائم بغيرها من المسيحيين، مع بريطانيا وأمريكا وألمانيا قاهرة أوروبا كلها مرتين، لم يستطيعوا الوقوف بوجه الإرهاب "الإسلامي" المتمثل بالمنظمات التي كانت تريد "تحرير فلسطين". عليهم جميعاً انتصرت منظمة التحرير لتفرض نفسها بجيشها المسلم حامياً ليهود الغرب والشرق الذي وطنه الإنكليز أرض فلسطين! بعد أن نجحت أوروبا بإزالة دولة الإسلام، دولة الخلافة في اسطنبول.
إرهاب هذه المنظمة في حقيقته ليس "إسلامياً" بل إنكليزياً فرنسياً ألمانياً أمريكياً نظامياً أوروبياً على المسلمين حتى يخضعوا لزعامة هذه المنظمة في إنهاء قضية فلسطين. إرهاباً أوروبياً على المسلمين حتى يقبل المسلمون تكريس قضية احتلال الإنكليز لفلسطين وتحويلها إلى وطن يهودي أنها قضية أهل فلسطين وليس قضية الأمة الإسلامية التي منها أهل فلسطين. إرهاب المنظمة الدولي كان إرهاباً على أهل فلسطين حتى يقبلوا بشرعية تمثيل المنظمة لهم بالتوقيع على تنازل المسلمين أهل فلسطين عن بلاد المسلمين فلسطين. إرهاب المنظمة "الإسلامي" كان حتى يستطيع الغرب الخضوع لقوة المسلمين في هذه المنظمة "الجهادية". بطولة شباب هذه المنظمة لتكون مهمة تشريع وجود إسرائيل وحمايته الأبدية من أبطال المسلمين لا من عامتهم، من قادة الرأي والكفاح فيهم لا من بسطائهم لإيجاد طبقة تحكم المسلمين في فلسطين طبقاً لمعاهدات في الخيانة لم يعرف تاريخ الجنس البشري لها مثيلاً.(1/180)
هذه المنظمة مثل واحد في حقيقة أهداف حركة إرهابية "إسلامية" رغم تبرئها من الإسلام في كل أقوالها وأفكارها وأعمالها وأهدافها ومصيرها ونتائج "كفاحها". لا بل رغم عدائها للإسلام والمسلمين. هذا الإرهاب الجهادي "الإسلامي" كانت دول الغرب قاطبة تتوافق عليه وتشرف عليه وتساعده بكل ما يحتاجه لتحقيق الهدف من عمله في خداع الميلمبن لقبول عملائه ليكونوا أبطالاً قادةً للمسلمين. وكانت المعارضة الغربية إخراجاً إعلامياً لتثبيت قادة الإرهاب "الإسلامي" الفلسطيني زعماء التفاوض مع الغرب للاعتراف بإسرائيل، وتكريس كيانها، والتعهد بحماية يهود من غضب المسلمين، وبذل أرواح المسلمين في الدفاع عن يهود إسرائيل الإنكليز.
ما يصدق عن حقيقة هذه المنظمة الإرهابية يصدق عن جميع الحركات الإرهابية الأخرى بغض النظر عن موطنها وحجمها. جميعها كانت تكبر بطريقة النفخ لأن وجود ما كان يرتبط بتحقيق هدف. الوجود الذي يرتبط بتحقيق هدف غير الوجود الذي يرتبط بمسيرة. الوجود لهدف يندثر، الوجود في مسيرة يتواصل لا يفنى. جميع حركات الإرهاب "الإسلامي" رعى قيامها وتغاضى عن أعمالها جهاز مخابرات محلي بإدارة جهاز مخابرات دولي. هذا كان في الجزائر كما في أفغانستان وفي مصر كما في السودان ومع "الجهاد" في كل مكان.(1/181)
هذا البحث في كراهية الأوروبيين للإسلام لا في الحركات الإرهابية "الإسلامية". لذلك لن نسترسل في بحث خيانة الحركات الإرهابية للإسلام، ولا في ارتباط هذه الحركات بجهاز المخابرات الإنكليزي أو الأميركي. موضوع الحركات الإرهابية في هذا البحث هو علاقتها بتحقيق خطة الغرب العامة الدائمة في إيجاد وَهْمِ العدو الذي يقتل الأوروبي بدافع حقد ووحشية وانحطاط "المسلمين". وليس الموضوعُ البحثَ في قضيتها، فكرها وطريقتها. ولا في بحث خيانتها لقضيتها، للإسلام والمسلمين. وليس في تعدادها وكثرتها وظروفها. ولا في ارتباطها الإنكليزي أو الأميركي أو بمن يمثلهما في حكم بلدٍ قبل الثورة او بعد الثورة، في جمهوريةٍ، أو ملكيةٍ أو مشيخة أو حركة. الموضوع دورُها في ان تكون الواقع الحي الدائم لكراهية الأوروبي. كما الحركات "الإسلامية" التافهة بدون إرهاب تكون الواقع الحي الدائم لاحتقار الأوروبيين لِ "المسلمين" وإسلامهم. كلٌّ له دور في تضليل الأوروبي عن الإسلام، بل في منعه عن حتى محاولة فهم الإسلام.
الكراهيةُ مثلُ الاحتقار يمنع دور العقل في الفهم. منعُ عقلِ الأوروبي من محاولة فهم الإسلام هو سبب وجود جميع حركات الإرهاب "الإسلامي" في دول الغرب وبلاد المسلمين. وهو سبب وجود جميع الحركات "الإسلامية" غير الإرهابية مثل الخيرية، الاجتماعية، الخُلُقية، الفكرية والسياسية في دول الغرب وبلاد المسلمين. باستثناء الحزب السياسي الذي يقوم على مبدأ الإسلام أي على جميع أحكام الإسلام بطريقة الإسلام في نشر هديه ولا نعلم بأن هناك أكثر من حركة واحدة تقوم على هذا.(1/182)
جميع الحركات "الإسلامية" إرهابية أو غير إرهابية تبرر تعاملها مع الطاغوت – جهاز الحكم بغير ما أنزل الله – أنها بحاجة إلى تغطية. هي تعترف أنها تتعامل مع الشيطان نفسه عدو الله. تبرر تعاونها أنها ضعيفة تحتاج إلى قوة. تتعامل مع الشيطان لتستمد منه قوة حتى إذا قويت تغدر به! قمت بزيارة إلى جحر الشيطان قصر الحاكم في أحد البلاد. عرضت عليه ما يقولون وكيف يطمئن إلى هكذا عبيد ويحتاط من ثورة هؤلاء. لم يستغرب، لم يهزأ، بكل رصانة وطمأنينة أجابني وهو يُشهِد الله على قوله إنه يعلِّمهم هذا القول، بل يقنعهم به حتى يستطيعوا إقناع غيرهم به. إذ خداع المسلمين بجعلهم يصدّقون الوَهْمَ هو السبيل الوحيد لإبقائهم أحياءً بدون إسلام. وهو السبيل الوحيد ليموتوا على غير الإسلام الذي يظنونه إسلاماً.(1/183)
فرضُ كراهية الأوروبي للإسلام والمسلمين غاية فرضِ ازدراء حالة المسلمين المنحطة، سبب فرض الانحطاط في حياة المسلمين. حتى تتشوّه صورة الإسلام في الحاضر رغم انفصال الواقع عن الإسلام. فرضوا على حكام المسلمين أن لا يكون هناك علاقة منظمة بين الرعية وموظفي الحكومة، جميع علاقات الرعية بأي جهاز حكومي تقوم على قهر الرعية في كرامتها، وظلمها في حقوقها. منعوا تنظيم المصالح والمنافع بين الرعية وموظفي الحكومة لتكون جميع علاقات المصالح والمنافع علاقة رشوة وابتزاز. منعوا أجهزة الحكم من تقديم خدمات تخلو من الخديعة والغش للرعية، حتى يعمَّ الفساد في القول والخُلق. منعوا تطبيق أي قانون بالمنافع العامة حتى يعمَّ الكذب في المجتمع. السياسيون موالون ومعارضون يمارسون خيانةَ الناس في كل قضية وقناعة حتى تتحول علاقاتُ الناس إلى علاقاتِ غدرٍ وخيانة. لم يتركوا رذيلةً في خُلق، قولٍ وعمل إلا فرضوها على المسلمين. حتى الفاحشةَ أقاموا لها مؤتمراً في بلاد المسلمين. حتى الشذوذ بالفاحشة أقرها مؤتمر السكان والتنمية في بلاد المسلمين قانوناً يفرض ممارسة الإنجابِ خارج الزواج، ويفرض الشذوذ الجنسي ممارسةً في الواقع يحميه القانون وتدعو إليه برامج الإعلام بحجة التخفيف من تزايد المسلمين. لا يوجد بوائقَ في جنس الإنسان إلا وأقاموا له جمعية أو حزباً يدعو إليها باسم التحرر والحرية. لم يتركوا نقيصةً ولا عيباً محرماً في دين الله إلا وأفسدوا به المسلمين، وعمَّموه على العالِم والجاهل، وعلموه لكبير المسلمين وصعلوكهم. لم يفرِّقوا بين عالم في شرع وبين عالم في طب أفسدوا جميع العلماء. لم يميزوا بين طالب في صف وبين من في صف ضابط، أفسدوا جميع شباب الأمة، جيل ما قبلنا، جيلنا وجيل ما بعدنا. حرصاً على إيجاد مسلم كذاب، فاسد، غادر يقارنه الأوروبي بصدقه واستقامته ووفائه. عندها يطمئنون إلى ازدراء الأوروبي لواقع المسلمين الذي صنعوه للأوروبي من(1/184)
خلاله يدرس الإسلام فيكرهه. به يثقون في رجاحة عقل الأوروبي أنه سيتعاطى مع فكر الإسلام كما يتعاطى مع مسلم الفساد والرشوة والخديعةِ باحتقار وكراهية.
الواقع المنحط الذي يفرضه الأوروبي على المسلمين فرضاً مباشراً هو لمنع المسلمين أن يكونوا مؤمنين. شرط الإيمان العمل بأحكام الإسلام. منع العمل بأحكام الإسلام هو منعٌ من الإيمان. بذلك يتحوّل الإسلام عند بشرٍ بدون وعي على الإيمان إلى عصبية للناس، يتعصبون له بدون ممارسة له. هؤلاء البشر، يمنعون من حيث يدرون ودون دراية، إيجاد كيان يقوم على وجهة نظر الإسلام في الوجود. لم يعد الغرب يحتاج إلى جيوشه حتى يمنع المسلمين من إقامة كيان للإسلام. كيانات الإسلام التي أقامها المسلمون في باكستان، إيران، أفغانستان وغيرها تستجدي إرضاء كفار أوروبا، تتوسل إلى مشاركة حضارة الكفر، ثقافته وتراثه. تتذلّل في طلب عونه ونصحه ورعايته. ليس لضعفٍ أو لجهل، ولا لفقر في المال أو العقل، بل لإيجاد الواقع الذي يحتقره الأوروبي وينأى بنفسه عنه. أوجدوا كيانات يوهِمون بها مسلمي ثقافة الغرب المفروضة على المسلمين أنها كيانات لدينهم، على إسلامهم تقوم، ومن أجلهم. فإذا رفض أوروبي فهم الإسلام من خلال واقع المسلمين في ليبيا وأراد فهمه من واقع المسلم في باكستان صعقت المفاجأة عقله. فهم الإسلام ممنوع، يكاد يكون، على الأوروبي من دراسة مصادر الإسلام. وإذا تيسر فللدراسة كما يدرس العالم حركات العنكبوت، لا تحوله الدراسة إلى عنكبوت. أو للمقارنة، كما مقارنة الإباحية مع المسيحية لا تغير الإباحي إلى مسيحي. أو للنقد، فنفسية الناقد نفسية الضد وهي ضارة بصاحبها أكثر مما هي ضارة بالموضوع. الناقد فيه قرار الامتناع قبل عملية الفهم. كيف تجري عملية الفهم إذا سبقها قرار الامتناع عن الاقتناع، هي الكيفية التي تمنع الأوروبي من اعتناق الإسلام عندما يتعلم الإسلام. التعلم غير التفكير. الأوروبي يتعلم الإسلام(1/185)
لا يفكر في الإسلام. كيف يستطيع الأوروبي أن يفكر وليس عنده معطيات التفكير في سبب حياته وموته؟
الغربُ الأوروبي لم يعد يخشى إقامة كيان إسلامي بواسطة المسلمين الذين تعلموا إسلاماً صاغَهُ لهم خاصة. فيه كل قواعد الضلال، وكل أفكار التضليل عن دين الله، وفيه جميع المخالفات لأحكام الله. فهو الإسلام الذي يسمح به في مناهج مدارس الدين، في خطب المنابر وممارسة الأتقياء والعلماء والصوفيين. أما منعه لإقامة كيان "إسلامي" في الجزائر وتركيا رغم المطالبة الشعبية العارمة، فالمعارضة لم تكن معارضة "إسلام" أربكان أو مدني. بل كانت معارضة استبدال نفوذ دولة كبرى بنفوذ دولة أكبر استطاعت تحريك مسلمين بقيادة عملاء لها ليكونوا مطية للاستئثار بالنفوذ في سياسة تركيا والجزائر واقتلاع نفوذ الإنكليز أصحاب السيادة في قوى الحكم . لكن الغرب أثبت أنه يسيطر على جيش المسلمين لمنع إقامة كيانٍ "إسلامي" كما يسيطر على الشعب في منع إقامة كيان "إسلامي". فالسيطرة الأوروبية مطلقة عامة في قوى الحكم، قوى الشعب، وقوى الجيش، لا يوجد قوة على مسرح العمل العام ليست منظمة في عقليتها أولاً، في كيانها ثانياً، وفي قيادتها أولاً وآخراً. هكذا يتحكمون في صياغة الواقع الذي يعيش فيه المسلمون. فأينما تطلّع الأوروبي في بلاد المسلمين، إن كان حكم البلد، ديمقراطياً، جيشياً أو إسلامياً يرى نفس مظاهر الانحطاط الذي يكرهه. ويرى نفس مستوى الجهل الذي يحتقره. ويرى نفس الفساد الذي يزدريه. كلها وقائع تثير في نفسه كراهية الإسلام وليس إسلام هؤلاء. لأنهم بالصوت والصورة أقنعوه أن هذا هو إسلام المسلمين. لم يعد يستطيع أحد التفريق بين إسلام القرآن وإسلام طالبان. هل يستطيع الإنسان حتى مسلماً أن يميز بين إسلام فضيلة الشيخ وإسلام قائد الجيش، أو بين إسلام السلام وإسلام الحرب، أو بين إسلام الخيانة وإسلام الحكم، أو بين إسلام الرعاية وإسلام الغدر؟(1/186)
"مسلمو" الفساد والخديعة والانحطاط سياج حماية للأوروبي من الوقوع في فخ المسلمين الذي يقولون إن المسلمين نصبوه شِركاً لتحويل الأوروبي إلى مسلم. انحطاطُ المسلمين حالة تحمي الأوروبي في عقله بمنعه من التفكير في أفكار الإسلام وأحكامه ومقاصده، لأنهم يظنون أن الإسلام جاء ليخدع الإنسان في إنسانيته. ترسيخ احتقار الأوروبي لواقع المسلمين هو ترسيخ لكراهية الأوروبيين للإسلام، هكذا يبقى الأوروبي، في حسابهم، يعيش هارباً من نور الإسلام. المؤامرة، مؤامرة فرض انحطاط المسلمين ذَنَبُها الأول في بلاد المسلمين وذَنَبُها الثاني في عقل الأوروبي.
وداعية
... صراع الحضارات هو صراع حضارات الماضي بوسائل اليوم. فسادُ فكرِ اليوم ليس أكثر فساداً من فكر الماضي أو أقل، لأن الفساد لا يكون بالمقارنة بل بالمصدر والنوع والنتيجة. مقاييس الفساد لا تتعلق بتاريخٍ أو كثرةٍ أو قوةٍ بل بموافقتها لطبيعة الإنسان في نفسيته وعقليته وعلاقاته. فسادُ فكرِ اليوم الغربي لا يفارق فساد فكرِ الماضي وإن كان في بيئة مغايرة.
ضلال فكر الغرب ليس صدفةً، ليس سذاجةً وليس قصداً. لأول مرة يكون الفكر الفاسد نتيجةً. ليس صدفةً، سذاجةً أو قصداً. ضلال فكر الرأسمالية الغربية نِتاجُ ثقافة وفهم واستنباط.
الثقافةُ معلوماتٌ، الفهمُ طريقةُ التفكيرِ، الاستنباط نِتاج فكري من قاعدة فكرية يغني تراث الحاضر الفكري. امتداد حضارة الماضي في حاضر اليوم هو في ثقافة الماضي.
ثقافة الماضي هي معلومات الغرب.
ثقافة كراهية الأوروبي للإسلام جزء من حضارة المسيحية ثقافةِ ماضي الحاضر.
معلومات ثقافة كراهية الأوروبي الحاضر للإسلام هي ثقافة المسيحية في كراهية الإسلام.
الوثنية معلومات الاستنباط المسيحي.
كراهية الوثني يصوغها تراثه الفكري.
كراهية المسيحي طبيعة وثنية.(1/187)
كراهية الأوروبي للإسلام من كراهية المسيحي في تراثه الوثني. لماذا يمتنع الأوروبي عن البحث في سبب كراهيته للإسلام؟ لعل بصيرته تعمى عن رؤيته لحقيقة ضياعه في الحياة والموت.
لماذا يرضى أن يبقى أسير كراهية مستمرة منذ ألف عام بينما يلاحظ أن عقله وراء التجدد في كل يوم؟ لعل سعيه في إشباعِ نهمٍ في مال أو جنس يفقده الإحساسَ بحقيقة معنى الوجود أنه وجود بسعادة أو وجود بشقاء.
أوروبي اليوم، أو أميركيه، يولد ويعيش في غباء ثقافة الكراهية. كراهيته في تراثه الثقافي، غباءٌ يمنعه من فهم الإسلام، أو التفكير فيه والاهتداء إليه واعتناقه. هذا قصدُ ثقافةِ كراهية الأوروبي للإسلام. وقصد الغباء في ثقافة أمريكي اليوم وذيله الأوروبي.
وداعيتنا... فيها حقيقة جازمة – لا شك أن قارئنا يوافقنا - أن الكراهية، أحط مشاعر الغريزة في الإنسان والحيوان وأخطرها، لأنها سبب الجريمة والقتل الفردي والجماعي ، طوال تاريخهم كبشر، دون مسوِّغ. الكراهية سبب لا يفسر للجريمةِ أحطِّ أعمال الإنسان. الكراهية أحطُّ مشاعر الإنسان تؤدي إلى أحطِّ أعمال الإنسان، تتملك الشخصيةَ الأوروبيةَ منذ ألف عام. أوروبيُّ اليومِ مع أراذل الأوروبيين العابرين، أو منبوذي أوروبا إلى مستعمراتهم الجديدة جزر الهادئ والأطلسي تسيطر على عقله أحطُّ مشاعر. أمريكيُّ اليوم متحرراً من عقدة إذلال الأوروبي له يتخبط في كراهيته من إرثه الأوروبي.
سيطرة المشاعر المنحطة على عقل الإنسان تفقده إدراك مقاييس القيم. مقاييس القيم تهدي إلى حقائق المعرفة، القيم وحدها ترتقي بالإنسان لا تهديه. ارتقاء الإنسان غَيْرُ اهتدائه، ارتقاؤه نسبي لا مطلق لأنه يرتبط بفكره الأساسي. إهتداؤه يكون إلى الحقائق في المعرفة، لذلك ارتقاء المهتدي هو من غير جنس ارتقاء القِيَم.(1/188)
قِيَمُ الأوروبي من عقلٍ تسيطر عليه كراهية الإسلام، أحطُّ مشاعر الفرد وأخطر مشاعر الجماعة. قِيَمُ الأمريكي من عملٍ في جريمةٍ غيرِ مسوَّغةٍ في الماضي أو الحاضر، أحطُّ أعمالِ الإنسان منذ وجوده من نسل آدم كما نعتقد. أحطُّ أعمالِ الإنسان منذ وجوده من نسل الدود والقرود والذئاب كما يعتقدون. قِيَمُ الأوروبي قِيَمٌ بالنسبة إلى انحطاطه في مشاعره وأعماله لا بالنسبة لمقاييس القِيَمِ التي أورثَها آدمُ لنسله.
إشفاقنا أن يحيا إنسان في كراهية، رسالتنا أن يحيا إنسان بقيم ترتبط بمقاييسها لا بانحطاط مشاعر. هل يستمر إنسان أوروبا في كراهيتنا فلا يحس بإشفاقنا ولا يسمع رسالتنا؟ أن يحس بإشفاقنا عليه في جهله وضياعه وكراهيته، وأن يعي رسالتنا في الحياة، حياته إنسان اليوم، غاية في هذا الكتاب.
حوار الشرق والغرب أو حوار الغرب والشرق، حوار الأديان، وهو حوار المسيحيين مع مسلمين يخادعون الله في إسلامهم وينافقون المسلمين في نيتهم وهدفهم ونشاطهم. حوارهم مع من صنعوهم من خونة المسلمين علماء وفقهاء وزعماء يعدون له أهدافاً كثيرة مما هو في نشراتهم ومداولاتهم. لكنهم جميعاً يخفون أمرين هما الهدف الرئيس لمشروع الحوار وهنا تكمن خيانة المسلمين المشاركين، الأول: ان الحوار بين الكفر والإيمان يجري ضمن إطار محدد سلفاً، هو حصر البحث ضمن موضوع إزالة الخلافات التي تعترض التعايش المشترك بين الإسلام وأوروبا ضمن القيم والأنظمة والأوضاع القائمة.(1/189)
الثاني: هذا الحوار يسدل ستارين الأول على بصيرة الأوروبي يمنعه بسماكة جديدة من فهم الإسلام. لأنه يعلم ان قبول المسلمين بهذا الحوار يعني سلفاً تخليهم عن جميع أحكام دينهم المتعلقة في علاقة الإسلام بالكفر. وهذه العلاقة تشمل نظام الحكم في الإسلام والنظام الاقتصادي في الإسلام والنظام الاجتماعي في الإسلام. كما تشمل نظام العلاقة الخارجية للكيان في دولة الخلافة، ونظام الجهاد الذي هو قانون الحرب والسلم الإلهي. وهذا الواقع يزيد في ازدراء الأوروبي للمسلمين وهو ما يزيده تصميماً على إغلاق عقله بوجه أية محاولة لطرق أنسجة عقله. الستار الثاني يسدل على بصيرة المسلم فيمنعه من رؤية كراهية الأوروبي للمسلم، وإن كان يستمر بالإحساس بها. الفرق بين الرؤية والإحساس أن الرؤية تثير الفهم بينما الإحساس وحده يُربك الفهم. هذا الستار يمنع المسلم من ان يرتد في صده عن الفهم إلى ذاته مما يبقيه في حالة الارتباك المستمرة في حقيقة علاقة الإسلام بالكفر الأوروبي.
يستحيل التعايش بين كاره ومكروه، لماذا يخدعون الكاره الأوروبي والمسلم المكروه بفكرة التعايش المشترك؟ جوابه أيضاً غاية في هذا الكتاب.(1/190)
التعايش المشترك في طياته حتى لا نقول في أساسه بعد ان بينا أساسه أنه يفرض على كل مشترك ان يتخلى عن الأعمال التي تمنعه من التعايش مع المشترك الآخر. في الممارسة العملية ان المسلمين تخلوا عن جميع الأعمال التي تبعدهم عن الكفر. هم في عيشهم يحتكمون إلى نظام كفر، نظام حكم بغير ما انزل الله. في مدارسهم يتعلمون أفكار الكفر، أفكاراً غير أفكار الإسلام منذ نعومة أظفارهم. في صحافتهم وإذاعاتهم وإعلامهم يدعون إلى أفكار الكفر، أفكار ضد أفكار الإسلام، يصوغون إسلاماً يخدعون به المسلمين. لا نقول إن المسلمين كفروا بل نقول عن المسلمين يعيشون قاطبة في أنظمة حكم غير نظام الحكم في الإسلام. جميعهم يعيشون في أنظمة حكم كافرة بالله ورسوله وقرآنه، خاصة تلك الأنظمة التي تدعي إسلاماً أكثر مكراً وخداعاً ونفاقاً لله ورسوله والمسلمين، لكن الأوروبي لم يرض بالتخلي عن أقل مبررات الكراهية. يرفض السماح لمسلمة تستر عورتها ان تعيش معه. ليس هناك حتى قانون يمنع ستر العورة. لكنه بحجة مخالفة ستر العورة للعرف العام الذي يسمح كشف العورة ولا يفرض كشفها.
فكرة التحرر من الالتزام الديني يفرضونها علينا بينما يفرضون على الأوروبي التعصب الديني، لماذا؟ فكرة التحرر الفكري من قواعد الإسلام يفرضونها علينا بينتما يمارسون على الأوروبي أحقر ممارسات التزمت الفكري، لماذا؟ جوابه غاية في هذا الكتاب.
هذا ليس لطبقة من طبقات أجناس الأوروبيين، ليس لعرق جرماني أو إنكليزي، ليس لمثقفين أو عامة. إنه مقاربة مع إنسان مخدوع في فهمه، مضلل في حاضره، تائه مثل أسد في عراء من الأرض. لا يميز الإنسان عرقه السلافي أو الروماني. يميّز الإنسان فهمه للحياة والموت وغايته في الحياة أو الموت ومصيره في الحياة أو الموت.(1/191)
كتابنا هذا، قول مكتوب لكل أوروبي وثني أو غير وثني، مسيحي يعلم انه وثني أو مسيحي يقول أنه ديمقراطي. له نقول إنك تعلم اليوم أننا نعلم أنك تكرهنا بفلسفة وخطة وممارسة، وأنك تكرهنا دون أن تفكر بسب كراهيتك ولا بغايتها ولا بواقعها. فيه بيان أن العداوة غير الكراهية. العداوة تغيض في مصادر الكراهية، ولا نتحدث عن عداوتك للمسلمين إنه موضوع آخر في مسرح آخر من طيات النفس البشرية التي حرموك منها. في تاريخ الأوروبي الوثني، في تجدده المسيحي وفي تجدده الديمقراطي ما زال محروماً من النفس البشرية. هيكلك البشري الذي تراه في المرآة، يخدعك انك إنسان في هيكله. إنسان الكراهية، أوروبي اليوم، يخدع نفسه في إطفاء ظمأه. يسكب الخمرة في جوفه لا ليطفئ حرقة الكراهية للمسلمين التي تفقأ بطنه، بل لينسى كراهيته لنفسه التي نشأت خارج هيكل الإنسانية الذي يراه في المرآة. تذكيرنا للأوروبي أنه في هيكل الإنسان مثلنا أما في تضييعه لنفسية الإنسان واستبدالها ممارسة في نفث الكره الشيطاني ليس إنساناً مثلنا، كما أراده الله. تذكيرنا ربما يكون وخزاً في عقل الأوروبي يتنبه به إلى طريقة البحث والتفتيش عن نفسية الإنسان التي طردها من هيكله في التاريخ. أو التي هربت من لهيب كراهية أرادت أن تحرقها. هذا، تفتيش الأوروبي عن نفسية الإنسان غاية في هذا الكتاب.
أرضُ التاريخ، صخورُ الأرض، رمالُ الصحراء، أوراقُ الشجر، نسورُ الأعالي، جماجمُ الموتى، صحائفُ البشر، تاريخُ الخير والشر مذ هبط وحي الله بالإسلام أنَّ المسلم لا يقتل مسلما أو غير مسلم. أنَّ المسلم لا يغدر، لا يبغي ولا يظلم. أنَّ المسلم يدعو للإسلام بحجة وبرهان سعياً يحتسب ثوابه لآخرته، وليس اكتساباً لمنفعة في حياته. حقيقةٌ منقوشة في ذاكرة الإنسانية ليس ادعاءً من المسلمين. رحمةُ المسلمين حقيقة منقوشة في تاريخ الأوروبيين اكثر منها مُسَطَّرة في صحائف المسلمين.
يوسف بعدراني
المراجع(1/192)
1 ... رسائل بولس ... بولس بعد شاؤول
2 ... أعمال الرسل ... لوقا
3 ... الأناجيل الأربعة ... لوقا، مرقس، يوحنا، متى
4 ... تاريخ الكنيسة ... الكاهن جان كومبي - دار المشرق
5 ... أوغسطس قيصر و خلفاؤه ... الدكتور أسد رستم - الجامعة اللبنانية
6 ... حرب الكنائس ... الدكتور أسد رستم - الجامعة اللبنانية
7 ... الطاغية ... د.عبد الفتاح إمام - عالم المعرفة
8 ... الوثنية و المسيحية ... الكسندر كرافتشوك- دار الحصاد
9 ... الإسلام بين الشرق و الغرب ... علي عزت بيكوفيتش - مجلة النور
10 ... المسيحية ... د. أحمد شلبي - مكتبة النهضة المصرية
11 ... اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وزوالها ... إدوارد جيبون- دار الكتاب العربي
12 ... المسيحية و السيف ... المطران برتولوميي - لاس كازاس
13 ... العقائد الوثنية في المسيحية ... محمد طاهر التنير / بيروت
14 ... أسرار الفاتيكان ... ليوبولد ليدل - دار التضامن
15 ... الإسلام و المسيحية ... أليكسي جورافسكي - عالم المعرفة
16 ... بولس و تحريف المسيحية ... هيم ماكبي
17 ... الأبطال و عبادة البطولة ... كارليل
18 ... أديان العالم الكبرى ... وليام باتون
19 ... تطور الفكر السياسي ... جورج سباين - دار المعارف بمصر
20 ... تاريخ الفلسفة الغربية ... برتراند راسل: ت/ د. زكي نجيب محمود
21 ... تاريخ الفكر السياسي ... جان جاك شوفالييه
22 ... علم النفس و الديانة الغربية ... كارل غوستاف يونغ
23 ... المفاتيح الوثنية للمسيحية ... أندريه نايتون
24 ... الأسرار الوثنية في عصر النهضة ... ادغار ويند
25 ... صليبية إلى الأبد ... عبد الفتاح عبد الصمد- مكتبة العرفان
26 ... ماهية الحروب الصليبية ... قاسم عبده قاسم - عالم المعرفة(1/193)