بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، مُعِزّ مَن أطاعه، ومُذَلّ مَن عصَاه، والصلاة والسلام على أشرف أنبيائه، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أخي الشاب:
هل تسمح لي أن أقف أمامك لحظات؟
أوجِّه لك عتاب حبٍّ ونصيحة مشفقٍ، يخشى عليك من الدَرَكَات، ويحب لك دخول الجنَّات.
عن تميم الداري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدين النصيحة.. ثلاثًا» [أخرجه مسلم].
وأنت غارقٌ في بحر الدنيا!
وأسيرٌ في سجن الهوى!
وراقدٌ في سبات عميق!
وغافلٌ عن يوم قريب!
فما هذا الغَرَق؟
وما هذا الأسر؟
وما هذا الرقاد؟
وما هذه الغفلة؟
أخي الحبيب:
لا تغتر بزينة وحلاوة ونضارة الدنيا، فهي دنيا غرارة، مهما تجمَّلت وتحسَّنت، وما هي إلا معبرٌ للآخرة وممر، وليس دار مقام ولا مستقر.
قال الله تعالى: { يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [فاطر: 5].
عن المستورد بن شداد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ينظر بم يرجع» [أخرجه مسلم] (اليمِّ: البحر).
هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركمو مني ابتسام ... فقولي مضحك والفعل مبكي
وهذه الدنيا متقلبة، فسرورها أحزان، وإقبالها إدبار، وآخرها الموت.
قال علي - رضي الله عنه - : مثل الدنيا مثل الحية، ليِّن مسها، قاتِل سمها.
فأعرِض عمَّا أعجبك منها، لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها، لما أيقنت من فراقها، وكن أحذر ما تكون لها، وأنت آنس ما تكون بها، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور، أشخصه عنها مكروه، وإن سكن منها إلى إيناس، أزاله عنها إيحاش.(1/1)
وقال بعض البلغاء: الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، فإن نعيمها ينتقل، وأحوالها تتبدل، ولذَّاتها تفنى، وتبعاتها تبقى، ومن هنا ينكشف لنا الستار عن حقيقة الدنيا.
فيا أخي الشاب:
اسمع – يا رعاك الله -:
مالي أراك قد جعلت هذه الدنيا دار قرار، وكأنك ستعيش فيها أبد الآبدين، ودهر الداهرين.
ترك للصلوات!
تشبه بالكافرين!
شرب للخمور!
وقوع في اللواط والزنا!
سفر للخارج!
معاكسات لمحارم المسلمين!
تفحيط بالسيارات!
عفوًا أخي:
إنني أقولها لك بكل صراحة، وبأعلى نبرات صوتي، أفِق أخي الحبيب، فالأجل قريب.
سارع إلى الجنة:
الجنة هي دار الموحدين، والجزاء العظيم، والثواب الجزيل، الذي أعدَّه الله لأوليائه، وأهل طاعته، وهي نعيمٌ كامل لا يشوبه نقص، ولا يعكِّر صفوه كدرٌ، وهي سلعة الله الغالية؛ لأنها السعادة الأبديَّة، وثمنها الإيمان بالله، وطاعته في الدنيا.
قال ابن تيمية رحمه الله: مَن أراد السعادة الأبدية، فليلزم عتبة العبودية.
قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج: 23].
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا» [أخرجه البخاري].(1/2)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يُجْعَل بين الجنة والنار، ثم يُذْبح، ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة، لا موت، ويا أهل النار، لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم» [أخرجه البخاري].
يقول سعيد بن المسيب رحمه الله: ليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة: سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ.
ويقول يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: ترك الدنيا شديد، وترك الجنة أشد منه، وإن مهر الجنة ترك الدنيا.
الله أكبر، ما أعظمها من جنة.
فيا أخي المبارك:
هل تريد الجنة وما أعدَّه الله لعباده الطائعين لها؟
هل تريد أن تزداد حُسنًا وجمالاً في الجنة؟
هل تريد زوجة أو زوجات في الجنة؟
هل تريد أن تشرب من أنهار الجنة؟
هل تريد أن تتسوق في الجنة؟
هل تريد خادمًا في الجنة؟
بل هل تريد أن تنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى في الجنة؟
عليك بنفض غبار الغفلة والكسل، والسعي للجد والعمل.
فما أروعها من لحظات، إذا قيل لك: أدخل الجنات، تستنشق عبير النسمات، وترتمي بأحضان الحوريات.
يا خاطب الحور الحِسان وطالبًا
لوصالهن بجنة الحيوان
لو كنت تدري مِن خطبت ومن طلبـ
ـت بذلت ما تحوي من الأثمان
أو كنت تدري أين مسكنها جعلتـ
ـت السعي منك لها على الأجفان
ولقد وصفت طريق مسكنها فإن
رمت الوصال فلا تكن بالواني
أسرع وحث السير جهدك إنما
مسراك هذا ساعة لزمان
فاعشق وحدث بالوصال النفس وابـ
ـذل مهرها ما دمت ذا إمكان
انتهز الفرصة:
أما تعلم أن الموت.. يأتي بغتة؟
أما تعلم أن القضية إما نار وإما جنة؟
الموت لا شك آت فاستعد له
إن اللبيب بذكر الموت مشغول
فكيف يلهو بعيش أو يلذ به
من التراب على عينيه مجعول
فتصوَّر أنك الآن في القبر، الذي هو أول منازِل الآخرة، قد انقطعت عن كل الأحباب والأصحاب!(1/3)
ماذا سينفعك في هذه اللحظات؟
أيفيدك ترك الصلوات، والزنا، والخمر، والمعاكسات،... الخ.
فوالله الذي نفسي بيده، إنه لا يفيدك في هذه اللحظات إلا العمل الصالح...
أداء الصلوات المفروضة، قراءة القرآن الكريم، الصدقات، صلة الرحم، بر الوالدين.
إذًا: ماذا تنتظر أخي الشاب؟
تنتظر هاذم اللذات، ومفرِّق الجماعات، وميتم البنين والبنات، يهجم عليك، وأنت متلبِّس، بألوان من الذنوب والمعاصي، ويختم لك بخاتمة سيئة.
فكم من شاب يموت وبيده كأس الخمر؟
وكم من شاب يموت وهو مع غانية؟
وكم من شاب يموت وهو يسمع الأغاني المحرَّمة؟
فأين أنت من أرباب الخاتمة الحسنة (جعلني الله وإياك منهم)، الذين يُختَم لهم بالخيرات، والأعمال الصالحات؟
فمنهم مَن يقول وهو يردِّد الشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله)!
ومنهم من يموت وهو ساجد لله تعالى!
ومنهم من يموت وهو تالٍ للقرآن الكريم!
وكم.. وكم.. وكم!
فهؤلاء يُبعثون إلى الله وهم على هذه الأعمال الطيبة.
فهنيئًا لهم، وشتَّان بين الثرى والثُريَّا.
أخي الحبيب:
أما تحب أن تكون مثل أرباب هذه السفينة الطيبة، ويُختم شريط حياتك، بأعمال صالحات، لرب الأرض والسموات.
{ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنعام: 81].
فاجلس مع نفسك في جوٍّ هادئ، بعيد عن ضوضاء وضجيج الحياة، واختر لنفسك لطريق السوي، طريق الانصياع لأوامر الله، وارفع شعاره في الآفاق يرفرف عاليًا.
وجرب حياة النور والإيمان، حياة الاطمئنان، حياة القرآن، حياة مجالسة الصالحين.
فستجد أنها الحياة، لا يُفّوِّتها على نفسه إلا خاسر وهالِك؛ بل اسأل مَن عاش الحياة الطيبة، كيف حياتك الآن؟
بشرى عاجلة:
يا مَن عدى ثم اعتدى ثم اقترف
ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في تنزيله
إن ينتهوا يُغْفَر لهم ما قد سلف(1/4)
يقول الله عز وجل للمذنبين والعاصين من عباده، وهو يفتح لهم باب الأمل من بعد اليأس والقنوط: { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) } [المائدة: 39].
ويقول تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) } [طه: 82].
فالله أكبر، ما أعظم الله من إله! ما أعظمه من غفور! ما أعظمه من رحيم!
بل الأعظم من ذلك أن العبد إذا تاب يكون له من الله مبشرات عظمى منها:
1- فرحة الله بالتائب والنائب له: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» [متفق عليه].
2- تبديل السيئات السابقة إلى حسنات: قال تعالى: { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان: 70].
3- قبول التوبة إن كانت منبثقة من قلب خالص لوجه الله الكريم، قال تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [التوبة: 104].
فيا أخي الشاب:
أُناشدك إن كان في قلبك إيمان، بالتوبة النصوح، والرجوع إلى الله الذي خلقك، ورزقك، وربَّاك، وأنعم عليك.
ولا تكن من المحرومين من رحمة الله، ولطفه بعباده الطائعين له.
فهيا بنا، هيا بنا، نطرق باب التوبة، ونعلنها صراحة، إننا تائبون إليك يا الله.
هيا إلى المساجد، هيا إلى القرآن.
قال أبو بكر الواسطي رحمه الله: التأني في كل شيء حسن إلا في ثلاث خِصال: عند وقت الصلاة، وعند دفن الميت، وعند التوبة عند المعصية.(1/5)
ويقول ابن عباس - رضي الله عنه - : التوبة النصوح: الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإضمار أن لا يعود إليه أبدًا.
يا ربّ قد أذنبت فاقبل توبتي
مَن يغفر الذنب العظيم سواك
اللهم تب على التائبين، وارحم أنين المستغفرين واهد شباب المسلمين، يا رب العالمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
أسامة بن زيد الخيبري
ozaid@al-islam.com
* * *(1/6)