مقدمة الطبعة السادسة يمتاز العصر الحاضر بسعة المعرفة، ويقظة الوعى، وكثرة وسائل الإعلام التى تغزو العقل العادى، وتزود رجل الشارع بما يحتاج إليه، وفوق ما يحتاج إليه من جديد وقديم... وقد ساءنى أن الإنسان المسلم لا يعلم عن دينه إلا القليل، وأن المادة الثقافية التى تقدم إليه مشوبة بعناصر ضارة، بل كان الغش الثقافى هو الطابع السائد، أو العملة المتداولة.. وهذه حال لا يجوز قبولها أو الغض من عقباها، فالهجوم على الإسلام شديد، وخصومه يمتازون بالدهاء و المراوغة، وكثيرا ما يلجئون إلى التزوير والدعوى... وفقر الثقافة كفقر الدم دليل ضعف وذبول، ونذير ضياع وهزيمة...! وقد سمعت تعريفا للخطابة يقول: إنها لون من الإقناع الظاهر، والاستدلال العابر، فقلت: ربما صح ذلك مع أهل الغفلة والسذاجة، أما فى عصر تصدر فيه الصحف كل يوم أو أسبوع، وتصدر سلاسل من الدوريات المفعمة بالدقيق والجليل فى شئون الحياة كلها، فإن الخطابة فى المساجد والأندية يجب أن تعتمد على علم غزير، وحوار ذكى، وفهم عميق.. وتماشيا مع طبيعة الإسلام أولا، ومع طبيعة هذا العصر ثانيا، ألفت هذا الكتاب "ليس من الإسلام "، لأمكن القارىء المسلم أن يحيط علما بأصول لابد منها، وفروع لا غناء عنها تتصل بالدين الذى يعتنقه. وقد بذلت وسعى فى البعد عن المصطلحات الفنية، كما اجتهدت فى التقريب والتوضيح وكان همى إبعاد الزوائد الضارة التى أضافها المسلمون إلى دينهم، وليست منه، وتعليقهم بما نسوه من الحقائق ذات بال، كما كان همى ضبط المعارف الدينية فى حدود أحجامها الصحيحة، فلا نقص ولا ضم، ولا انكماش ولا تهور، حسبنا كتاب الله وسنة رسوله. وقد سرنى أن تصدر الطبعة السادسة من هذا الكتاب، آملاً أن تزيد المؤمنين بصيرة بما أوتوا من حق، وأن تزيدهم بعدا عما ملأ الحياة البشرية من زيغ. "وأفوض أمرى إلى الله، إن الله بصير بالعباد". محمد الغزالى
ص _007(1/1)
مقدمة الطبعة الأولى فى هذا الكتاب أبحاث فقهية، جرت التقاليد على دراستها فى المعاهد خاصة ولأصحاب ثقافة دينية عالية. وقد رأيت أن أضفى على هذه الأبحاث الطابع العام، وأن أنزل بها إلى جماهير القراء. وأن أحررها ـ جهد الطاقة ـ من الاصطلاحات الفنية، ولو تجوزت قليلاً فى التعبير والعرض، ما دمت أرعى الأمانة فى سوق الحقائق المجردة. والذى دفعنى إلى ذلك هو التفاوت البعيد فى وعى القراء الآن. إنهم يطالعون معارف غنية فى شئون الحياة من تغذية، وطب، واقتصاد، وفلسفة، وأدب، وقد استطاعت الصحف والكتب أن تقرب منهم أمورا ظلت إلى أمد قصير وقفاً على طوائف المتخصصين. فلماذا تقل حظوظ الجمهور من المعارف الإسلامية العميقة؟! وإلى متى يبقون فقراء فى فهم الحكم الدينية لما يرونه من أحكام؟! وليس هذا الكتاب شرحا لأسرار الشريعة وإنما هو تنبيه إلى إضافات غريبة دخلت عليها وليست منها. وقد اقتضانى سوق هذه المبتدعات أن أرسم خطوطا عامة لجوهر الإسلام وتوجيهاته الصائبة فى نواحى العقائد والعبادات والعادات. كما أن تخليص اللباب الأصيل من الزيادات التى اشتبكت به اقتضانى أن أخوض بحوثا لها مكانها فى أصول الفقه. وإذا كان "رجل الشارع " يستغرب هذا النوع من الكتابات العامة، فخير له أن يوطن النفس على قبولها، حتى يعرف دينه على بصر، ويهجر الخرافات الدينية عن فقه... لقد أصبحت لدى الجمهور معارف طبية وقانونية وفلكية كثيرة، كان المألوف قديما أن تكون حكرا على الفنيين. ص _008(1/2)
لكن اتساع آفاق الثقافة رفع من أمامها العوائق، ويسرها لمن شاء. ونحن نريد أن نقرب من الجماهير المسلمين ألوانا من العلم حرموا منها، وينبغى أن تكون بينهم شائعة متداولة.. إن التعليم الرحب الممدود أفضل طريق لخدمة الإسلام وإعزاز أمته. فلنرفع مستوى الفقه العام، لندفع نهضتنا إلى الأمام... وسوف يغضب من هذا الكتاب بعض الجامدين الذين لا قدم لهم فى علوم الدين. وسوف يرونه امتدادا لجهاد أئمة طال كفاحهم فى إيقاظ العقل الإسلامى، ماتوا جميعا ولم يروا من النجاح إلا يسيرا...!! ليكن، فما علينا من بأس، إننا ننصف الحقيقة، ليعمل بها أفراد، إن عجزت عن العمل بها جماعات. محمد الغزالى ص _009(1/3)
1- الشريعة الإسلامية.. أهداف ومناهج * سماحة وحب: شرائع الله لعباده مبناها الرحمة الشاملة، لا مكان فيها لإعنات أو إجحاف. قد يقسو الأب على أولاده أو يجهل أو يحيف. وقد يلحقه من طبيعة البشرية ما يشوب تأديبه لهم بالأثرة، والغرض. أما رب العالمين ف!نه يشرع لعباده ما يعود عليهم بالخير المحض، وما يكفل مصلحتهم الصرف. فحنوه عليهم مقرون بالغنى المطلق عنهم. وهداياته لهم دائرة كلها على ما يصون محياهم ويرفع مستواهم... إن الإنسان بدأ نفخة من روح الله. فالحفاظ على هذا النسب الشريف، والإبقاء على هذه الصلة الرفيعة هما سر القوانين التى تضبط سلوك الإنسان، وتعصمه عن الدنايا، وتلزمه التقوى، وترشحه آخر الأمر، لجنة عرضها السموات والأرض..!! يريد الله للناس أن يخلفوه فى أرضه، وأن يحيوا فيها علماء راسخين، وأن يجعلوا منها مهادا حسنا لمعرفته وإنفاذ أمره. وما معرفته وإنفاذ أمره إلا منهاج الرشد والنفع لهم، والضمان الأول والأخير لمصالحهم. ولو ترك الناس لأهوائهم لتدلوا إلى الحضيض، ولعاشوا بعيدا عن شرائع الله فى درك تسوده الوحشة والريبة، والمظالم والظلمات. قال ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد فى المعاش والمعاد. وهى عدل كلها، ورحمة كلها، مصالح كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث. فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل . ص _010(1/4)
فالشريعة عدل الله فى عباده، ورحمته بين خلقه، وظله فى أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسله أتم دلالة وأصدقها.. ". * * * والحق أن فكرة الناس عن شرائع الله تحتاج إلى تصحيح طويل. فجمهورهم يحسبها شواظا من الغضب، يلسع بصرامته، ويروع بجهامته، ويحسب أن أصولها وفروعها مبهمة الفهم، تتلقى بالقبول مخافة الكفر، إذا اعترضها عقل..! وهذا خطأ كبير. فالدين نفحة من رحمة الله ينبغى استقبالها بالبشاشة التى تستقبل بها النعم. ودعك من أفكار القاصرين المتزمتين الذين يقتربون من حقائق الأديان كما يقترب الذباب من الحلوى. إن الدين حق وجمال! ألا تسمع قوله تعالى : ( تلك آيات القرآن وكتاب مبين * هدى وبشرى للمؤمنين) والهدى لا يكون بباطل، والبشرى لا تكون بقبيح. وقال عز وجل: ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) والأديان كلها من عند الله على هذه الوتيرة الواضحة المحببة : ( فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين). إن ما احتوته الشريعة من رفق ويسر، يجعل حاجة البشر إليها حاجة العليل إلى الدواء، والعانى إلى الرحمة. إن الله ليشرح أكناف العطف والمواساة والبركة التى حددت طبيعة النبوة العامة فى قوله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). ص _011(1/5)
كما يشرح أهداف القرآن الكبرى وسعادة الآخذين بها فى قوله: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا). * * * لا تقليد: وللإسلام أهداف إنسانية رفيعة، نحب أن نومئ إلى بعضها هنا. فتحرير العقل أساس الإيمان المحترم، والعقيدة المقبولة. وقل فى الناس من يُرزق العقل الحر، العقل الذى يتحرك فلا تثقله الموروثات الخاطئة... أترى القطار السريع كيف يقطع المسافات البعيدة، وركابه جلوس فى عرباته لا ينتقلون قدما؟ كذلك التقليد الجامد، ينتقل بأصحابه إلى آراء ومذاهب ما كانوا ليعتنقوها لولا أنهم ولدوا فيها وإن هذا التقليد ليذهب بأصحابه بعيدا بعيدا، وهم فى وعى أو فى غيبوبة حتى يستقر بهم فى نهايته العتيدة، فإذا هم يجددون ما خلفه الأسلاف من أخلاق ومعتقدات، ويتحمسون لها كأنها وليدة كسبهم العقلى وتفكيرهم الخاص : (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون). وضلال الأجيال الغفيرة ، جاء من هذا الجمود. الجمود الذى تتحجر به الألباب وتتبلد فيه العواطف. وتتحول به الأناسى إلى عجماوات بُله، تنادى فلا تلتفت ولا تكترث لأنها تضيق بما لم تألف، وتجحد ما لم تعرف: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون). إن إيمان التقليد لا خير فيه عند علماء الإسلام. ص _012(1/6)
والعقل البشرى يجب عليه أن يجوب آفاق السموات والأرض، باحثا دراسا ، لكى يعرف الله والعالم. وإلا فهو غافل عن وظيفته الأولى. وكل ما يتولد عن تحرير العقل من نتائج قريبة أو بعيدة. وكل ما يؤدى إلى تحرير العقل من الوسائل صعبة أو ذلول. فهو من أصول الإسلام ومراميه. ولعل القارئ الحديث يدهش إذا علم أن الفكرة السائدة فى الفقه الإسلامى أن: "العقل أساس النقل "، وأن ما يشيده الوحى من تعاليم إنما يقوم على مهاد من العقل المجرد والتفكير السليم... * * * * التسامى: ومن أهداف الإسلام إصلاح النفس وإيجاد الضمير المهذب الذى يحمل على تقوى الله فى السر والعلانية. إن الهوى الكامن فى الأعماق لا يعدم متنفسه فى أى عمل. وصور السلوك البشرى لا يمكن ضبطها. فمن العبث الاتجاه إلى الأعمال الظاهرة ومحاولة صوغها فى قوالب معينة، أو إلزامها حدودا خاصة. مع الغفلة عن مصادر هذه الأعمال وأسبابها الخفية. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " التقوى ههنا. التقوى ههنا. التقوى ههنا "... يشير إلى صدره. والحق أنه يستحيل قيام حضارة صحيحة على قلوب عليلة، وأنه ما لم تستقم الضمائر وتصف النيات فلن يكبح جماح البشر شىء. وفى طباع الناس ركام هائل من شهوات النفس والبدن، وهى ـ لو غلغلت النظر ـ وقود السعى اللاغب المشتعل على ظهر هذه الأرض : وإنما أنفس الأناس سباع يتفارسن جهرة واغتيالا وما أكثر ما تجن هذه الشهوات. فتنضح على الحياة من طيشها وغلوها ما تستحق به الاستئصال. ص _013(1/7)
(وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا). فلا غرو أن يتضمن الإسلام جملة طائلة من العقائد والعبادات والأحكام والآداب، تخضد هذا الشر وتحول عرامه إلى ما هو أجدى. وفى القرآن والسنة آلاف التوجيهات إلى هذه الغاية الشريفة. ولولا أن النفوس بحاجة إلى المزيد من هذه الصور المؤسسة والمؤكدة ما ترادفت كذلك فى دين الله. وأحسب أن الأمة الإسلامية ظلت قروناً طويلة ـ نتيجة هذه التربية ـ أقرب مجتمعات الدنيا إلى الأدب والتعاون والتحاب ، وإن اضطربت سياسة الحكم فيها. والموازنة بين أحوال المسلمين العامة طوال القرون الوسطى، وبين مجتمعات اليهود والنصارى تبين للدارس المحايد، وإن أثر الإسلام فى طبع أتباعه على الهدى والتقى والعفاف لا يقاربه أثر آخر. إنهم ـ يوم انهزموا لضعفهم المادى والأدبى أمام صليبية القرون الوسطى ـ كانوا أنظف سيرة، وأنصع صحيفة من خصومهم. قال كاتب غربى يصف هذه الحروب: " إن الصليبين ارتكبوا جرائم وفظائع جعلت الدنيا تهتز فزعا من هولها. كانوا يقتلون الأطفال فى أحضان أمهاتهم وينثرون أشلاءهم فى الهواء. وقد جمعت هذه الحملات بين المتعصبين الذين يعتقدون فى قداسة جهادهم، وبين نفر انهمكوا فى الدعارة ونسوا بيت المقدس، وراحوا يمثلون مناظر صاخبة من هتك الأعراض إلى النهب والقتل. وكانت جميع هذه الفظائع تترك آثارا فاضحة على فعالهم أينما رحلوا ". ولم يفقد المسلمون اتزانهم بازاء هذه الأحداث الشنعاء. فقد ظلوا على خلُق رفيع يصفه كاتب غربى آخر فيقول : "إن كثيرا من المسيحيين الذين غادروا "بيت المقدس " ـ بعد انتصار صلاح الدين ـ رحلوا إلى " أنطاكية ". ص _014(1/8)
غير أن أميرها الصليبى "بوهميند" لم يحرمهم من الضيافة فقط، بل سلبهم أموالهم... فى حين كان هؤلاء البائسون أينما ساروا فى بلاد المسلمين يلقون ضروب العطف والكرم ". إن هذه المقابلة تريك مبلغ "الارتقاء النفسى" الذى انطبع عليه المسلمون فجعلهم ـ وهم فى أسوأ الظروف ـ حراصا على خلال الشرف والتقوى. وصفحة أخرى من مسلك خصومهم تكشف! لك عن هذه الحقيقة جلية نقية. ففى الصراع بينهم وبين الصهيونية العالمية يرسم اليهود سياستهم لكسب المعركة بهذا الأسلوب الدنىء.... يندسون هنا وهناك ليختلوا الشعوب عن فضائلها ويغروها بالفسق والتمرد. وشعارهم- كما يعلنون: " القوة والرياء " فليس يُكتب الفوز فى السياسةِ إلا للقوة. ولا سيما إذا كانت كامنة بين المناقب اللازمة لرجال الحكم. "فيقتضى الأمر إذن أن نتخذ العنف مبدأ، والمكر والنفاق قاعدة! وهذا الشر هو الذى يؤدى بنا إلى الخير (!) لذلك لا ينبغى أن نحجم عن الرشوة والخداع والخيانة فى سبيل بلوغ مآربنا. والسياسة تقتضى بالإقدام دون تردد على اغتصاب أملاك الغير إذا كان فيها ما يؤمن خضوعه وطاعته لنا ". إن استحواذ رذيلة ما على النفس يعرضها لأخطر المزالق، ويتدرج بها، وبأمر الجماعة معها، إلى مصير أسود. قال "روسو" فى كتابه "إميل" : " لقد لاحظت أن الأحداث الذين يتبعون الفحشاء تقسو قلوبهم وتذهب شفقتهم، ويعتريهم فى أمزجتهم شره يفقدهم التماسك، ويغريهم بالشهوات، ويسلبهم مشاعر الحنان والعطف، وقد يضحون بآبائهم وأمهاتهم، بل يضحون بالكون كله فى سبيل ما يشتهون... ". وهذا الذى يقوله "روسو" وصف صادق لمن نسوا الله وجحدوا دينه وشبوا فى ظلمات الإلحاد والفوضى : (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالو الجحيم). ص _015(1/9)
وبقدر ما يفقد الناس من عناصر الإيمان الحق. وبقدر ما يقل فى نفوسهم من توقير الله يكون ولعهم بالأهواء ولعبهم بالفضائل، ولو كانوا منتسبين إلى رسالة من رسالات السماء. والطاقة التى أودعها الإسلام فى أفئدة المؤمنين به تركت فيهم مواريث رائعة من اتقاء الدنايا وتحامى السيئات. ويحزننا أن نعترف بأن المسلمين فى العصر الأخير قد فقدوا كثيرا من خصائص التدين الصحيح، وأن السلامة النفسية التى تمتع المسلمون بها قديما أخذت تتلاشى رويدا. * * * * الجزاء حق: ومن أهداف الإسلام تجسيد اليوم الآخر، واحتسابه حقيقة فوق الشكوك. وجعل الاستعداد له آية الرشد ودليل الحصافة.. فكما يحس ساكن " القاهرة" بأن هناك بلادا اسمها " أمريكا " يستطيع السفر إليها عند تهيؤ الفرص المعينة. فكذلك يجب أن يحس بأن هناك عالما آخر سوف ينتقل إليه حتما، وسوف يعيش فيه طويلا جدا.. والناس يشغلهم حاضرهم عما وراء، ويستغرق انتباههم عالم الشهادة فيكادون يجحدون عالم الغيب. ومع أنهم يرون الموت يعدو كل ساعة على الحياة ويبتذل جدها وينتهك ساحتها فهم غارون ذاهلون. حتى قال الحسن: " ما رأيت حقا أشبه بباطل من الموت...... ". فليس عجبا أن يكثر الإسلام من صور النعيم والجحيم فى العالم الآخر، وأن يسترسل فى وصف هذه المعالم، ليشعر كل حى بأن مستقبله الموطد ليس على ظهر هذه الأرض... ومن السخف أن يحسب هذا مخدرا لتحمل مظالم العتاة فى سكون. ف!ن الإسلام- مع وصفه المسهب لأفراح الجنة وأحزان النار- بين أن الموت فى كفاح الطاغين أقصر طريق إلى الفردوس الأعلى. وأن الصبر على إذلالهم مزلقة إلى النار، وبئس القرار. ص _016(1/10)
ومادية الثواب والعقاب حق، ليست تخييلا ولا تمثيلا. ذلك أن البشر خلق ممتاز- بطبيعته- عن الشياطين والملائكة. وإحساسهم بالشقاوة والسعادة تشترك فيه أرواحهم وأبدانهم على سواء. كانوا كذلك فى الدنيا، فلماذا يخرجون على طبيعتهم فى الآخرة؟ إن الإنسان فى نظر الإسلام كائن قائم بذاته ومشخصاته، لا فكاك بين العناصر التى تخفق منها. ولا مجال لتقسيم طبيعته إلى مادة لا صلة لها بالروح، وإلى روح لا صلة له بالمادة. وجهود الفلسفة فى هذا المضمار لا تعنينا، ولا يحتكم إليها فى شئون الدين. هناك شباب يسكتون أصوات الشهوة فى أجسادهم إذا نزعت إلى حرام ويفتحون إلى همس الإيمان وهو يحدوهم إلى الطهر والعصمة، أفليس من العدالة فى الجزاء أن ينالوا عوضا كاملا، أو عوضا يربو على هذا الحرمان؟ ولماذا ينزل البعض بقدر المكافأة التى تغرى هؤلاء بالعفة- مع شتى الدوافع الأخرى- حين يجىء فيها: (…وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزاء بما كانوا يعملون * لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما). إن الدار الآخرة حق، والأجزية المعدة فيها مادية روحية، لأن الإنسان كذلك مادة وروح!. المجتمع الإسلامى يقوم على الاستعداد الدائم لهذه الدار. ويوجب على الأفراد كافة أن يرتبوا حياتهم اليومية على ذلك الأساس. * * * * أخوة ومساواة: من أهداف الإسلام توثيق العلائق بين أجيال البشر وإقامتها بين الأولين والآخرين، والأقربين والأبعدين ، على الأخوة العامة. الأخوة التى لا تتعصب لوطن ولا تتحيز لجنس، ولا تتنكر للون. الأخوة التى تجهل كل نسبة عدا النسبة لآدم. ص _017(1/11)
وتنكر كل فضائل عدا فضل الكفاية والأمانة. وتنظر إلى عباد الله فلا تلمح إلا سلوكهم ومواهبهم، ولا تكترث أدنى اكتراث لما وراء ذلك من اختلاف الوجوه والألسنة والأصول. الأخوة التى جعلت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يقول لأمته : " إن أمِّرَ عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا ". هذه الأخوة كما غرسها الإسلام وكم تفرعت فى شعوبه لا نظير لها فى أرجاء العالمين. نعم.. لقد تقع بدوات متفرقة من غمز الأحساب ، وطعن الأنساب. وأى معصية لم تجد من يواقعها؟. لكن هذه الغمزات والطعنات لم تمس القاعدة المقررة فى تشريعها ولا فى تنفيذها. فاستطاع " العبيد" فى فترات طويلة من تاريخ الإسلام أن يكونوا ملوكا، تجبى إليهم ثمرات كل شىء. واستطاعوا- فى ظلال الأخوة المساوية بين أجناس البشرـ أن يؤسسوا دولاً متماسكة موصولة السلطة. وأنت ترى " المتنبى" الشاعر العربى المتكبر يدع سيف الدولة فى الشام إلى كافور فى مصر، قاصدا رفده قائلاً فى مدحه : قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا ورأى كافور أن الشاعر صاحب أطماع بعيدة، فلم يشأ أن ينيط به ضيعة أو ولاية، واكتفى فى وصله بالجوائز المعتادة فقال المتنبى يستحثه: أبا المسك هل فى الكأس فضل أناله فإنى أغنى منذ حين وتشرب!! ورفض كافور أن يستجيب لآمال الشاعر العربى الذى جاءه، ينشد الغنى والعز، فقال المتنبى يهجوه: من علَّم الأسود المخصى مكرمة آباؤه البيض أم أجداده السود؟ لاتشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد وهذه من المتنبى شتائم رجل موتور، وسائل محروم، وليست تقاليد أمة ولا سياسة دولة، ومن قبل ذلك ومن بعده تسنم الموالى أرقى المناصب فما قعد بهم لون ولا أعجزهم حسب ولا جنس. ص _018(1/12)
أما الذى يحدث الآن فى العالم الجديد، حيث بلغت حضارة الغرب القمة وآتت أنضج ثمارها، فشأن آخر يروع سرده وتسود له وجوه. قال "هارى هايورك " فى كتابه "تحرير الزنوج ": "لقد انتهى الرق بوصفه امتلاكا للعبيد. ولكنه لا يزال! باقيا بوصفه نظاما طبقيا. وإنما يقصد به اليوم إلى إبقاء الملونين فى مركز أدنى من ذلك الذى يتمتع به البيض، ثم يُتوسل إلى ترسيخه بطرائق مختلفة. هى حينا، أحكام قتل ينزلها الجمهور الأرعن فى الزنجى ، بمعزل عن السلطة الحاكمة. وهى حينا تشريعات مجحفة وإجراءات قانونية ظالمة". وهى حينا تشريعات مجحفة ما أنزل الله بها من سلطان. قال الكاتب الأمريكى "ألبرت ا. كان " (1): " فى ميسور المرء أن يكون فكرة عن حالة الزنوج فى الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية إذا ما علم أن اضطهاد الملونين هو فى الواقع جزء من سياسة الدولة، تنص عليه الدساتير المحلية فى كثير من الولايات. وإليك هذه الفقرات من دستور ولاية "مسيسبى": " الفصل الثامن فى التربية والتعليم (207): " يراعى فى هذا الحقل أن يُفصل أطفال البيض عن أطفال الزنوج فتكون لكل فريق مدارسه الخاصة"!! " الفصل العاشر فى الإصلاحيات والسجون (225): "للمجلس التشريعى أن يهيئ الأسباب الآيلة إلى فصل المساجين البيض عن المساجين السود جهد الطاقة والإمكان ". " الفصل الرابع عشر- أحكام عامة (263): "إن زواج شخص أبيض من شخص زنجى أو خلاسى، أو شخص ثُمْنُ (2) الدم الذى فى عروقه دم زنجى يعد غير شرعى وباطلا ". ومن أعجب ما فى قوانين ولاية "مسيسبى" النص التالى: ص _019(1/13)
"كل من يطبع أو ينشر أو يوزع منشورات مطبوعة أو مضروبة على الآلة الكاتبة أو مخطوطة باليد تحض الجمهور على إقرار المساواة الاجتماعية والتزاوج بين البيض والسود، أو تقدم إليه حججا واقتراحات فى هذه السبيل يعتبر عمله قباحة يعاقب عليها القانون، ويحكم عليه بغرامة لا تتجاوز خمسمائة دولار، أو السجن مدة لا تتجاوز ستة أشهر أو بالعقوبتين معا"!! وفى وثيقة قدمت سنة 1948 إلى الأممِّ المتحدة تحت عنوان " نداء إلى العالم" نصت الجمعية الوطنية لترقية الشعب الملون: على أن تشريعات مماثلة لتشريعات ولاية مسيسبى مطبق أيضا فى فرجينيا وكارولينا الشمالية وجورجيا وفلوريدا... إلخ. ويقضى القانون فى ولايات كثيرة بعزل المسافرين البيض عن المسافرين السود فى عربات السكك الحديدية والسيارات، وبفصل المرضى البيض عن المرضى السود فى المستشفيات ومصحات الأمراض العقلية والسجون والمصانع ". بل بلغ من هوس الفصل بين الجنسين أن الكتب المدرسية الخاصة بالطلاب الزنوج توضع بمعزل عن الكتب الخاصة بالطلاب البيض! وأنه لا يجوز للزنوج أن يدخلوا أو يخرجوا من الأبواب نفسها التى يدخل منها البيض ويخرجون. وفى تقرير نشره الأستاذ "براون " عن أحول المعيشة فى الأحياء الزنجية قال: "إن تعبيد الطرق، وإنارة الشوارع، ومد أنابيب الأقذار، وحماية الشرطة تنتهى كلها حيث يبدأ القسم الزنجى من المدينة". وليس يوجد فى كثير من المناطق مستشفى يستطيع الزنجى أن يطرق بابه! وقد بلغت نسبة الإصابات بالسل بين المواطنين الزنوج سنة 1947 خمسة أضعاف نسبتها بين البيض، وبلغت سبعة أضعاف فى بعض البلاد! وبلغت نسبة الوفيات بين الأمهات الزنجيات اللاتى وضعن أحمالهن ضعف نسبتها بين الواضعات البيض، وسجلت نسبة الوفيات بين الأطفال الزنوج ارتفاعا قدره 70% عما عليه بين الأطفال البيض. إن الكنيسة لم تعجز فقط عن مكافحة هذا الحيف، بل شاركت فى إقراره، وأسهمت فى عاره: دخل أحد مواطنى جمهورية(1/14)
"بناما" الأتقياء إلى كنيسة كاثوليكية فى واشنطون، وفيما هو مستغرق فى صلاته، سعى إليه أحد القسس وقدم إليه قصاصة من ورق مكتوبا عليها عنوان كنيسة كاثوليكية! ص _020
وحين سئل القس عن السبب الذى من أجله ارتكب هذا التصرف أجاب: "إن فى المدينة كنائس خاصة بالزنوج يستطيع هذا المرء الأسود أن يقف فيها بين يدى ربه ". وفى "كارولينا " الجنوبية سنة 1948 تحدى القس الزنجى "آرتشى وبر" الإنذارات الموجهة إليه بضرورة عدم التصويت فى الانتخابات الأولية فانقض عليه نفر من المواطنين البيض يدوسونه بنعالهم، ويجلدونه بسياطهم ويطعنونه بمداهم، ثم لم يتركوه إلا بعد أن فارق الحياة. وقد جرى ذلك كله على مرأى ومسمع من شرطيين اثنين لم يحركا ساكنا، وكأن الأمر لا يعنيهما فى قليل أو كثير! وفى "جورجيا" فى السنة نفسها اغتال جماعة من البيض "روبرت مالارد" عندما كان عائدا هو وزوجته وطفله وصديقان آخران من أداء الصلاة فى الكنيسة. قد أهملت السلطات الأخذ بشهادة السيدة أرملته والزنجيين اللذين شهدا الحادث. ولما صدر قانون الولاء- لحماية الدولة من أصحاب الميول المتطرفة- كان يكفى لطرد الموظف من خدمة الحكومة أن يعرف عنه عطف على الزنوج أو الفقراء. وإليك ثلاثة أسئلة من بين الأسئلة التى يوجهها المحققون إلى الموظف المتهم: ا- هنالك شك فى أنك تكن عطفا على الفئات المحرومة. هل هذا صحيح؟ 2- ما شعورك تجاه عزل الزنوج وفصلهم عن المواطنين البيض؟ 3- هل دعوت أنت وزوجتك فى يوم ما زنجيا إلى بيتك؟ والرد بالإيجاب على هذه الأسئلة، يعنى أن الموظف خصم للدولة يجب إبعاده عن مناصبها". * * * شتان بين أولئك الرقيق التعساء فى الحضارة الجديدة، وبين أسلافهم الذين عزوا فى أرض الإسلام، ولم ينلهم- على تقلب تاريخه- بعض ما يعانيه السود من البيض فى العالم الجديد. إن التسوية بين الأجناس فى ظل أخوة صادقة وإهدار فروق اللون فى جنب أصول الوحدة المشتركة، هى التى تجعل(1/15)
المصريين مثلا يحنون إلى توحيد وادى النيل، وما يدور فى خواطرهم شىء عن سواد و بياض . ص _021
بل إن الرجل الأبيض يقف فى الصلاة وراء إمام أسود اللون، قدمه فى محراب الإمامة علمه وفضله. وما ذلك إلا أثر الإسلام ونضج تعاليمه المتوارثة! * * * * الحدود: ومن أهداف الإسلام دعم الفضائل وقمع الرذائل فى أرجاء المجتمع، بعد أخذ الأفراد بضروب التربية حتى يفعلوا الخير، ويتركوا الشر من تلقاء أنفسهم... والإسلام- فى إنكاره الشديد على الجرائم الخلقية و إرصاده العقوبات الصادرة لمن يقترفونها ليس بدعا من الديانات السابقة. فإن الله غيور على الناس، وغيرته- سبحانه وتعالى- هى التى جعلته يبعث أنبياءه، بما ينفى الريبة بين عباده. والشدة التى تتسم بها عقوبات السرقة والزنا، ليست الوسيلة الفذة لحماية الأعراض والأموال، وحمل النفوس على احترامهما... فإن صيانة الحقوق العامة تستند أولا إلى الإيمان والعبادة والخلق. وما تجدى أقسى الحدود فى رفع أمة اهتزت فيها الضمائر واضطربت العقائد... بيد أن الجرائم تبدأ كالأمراض تغيرا عارضا فى البدن قد تنشئه جراثيم غير مرئية. ثم يستفحل خطرها حتى تهدد الحياة، ويخشاها الصحيح والعليل معا : العليل على نفسه، والصحيح على ما يلحقه من عدوى وبلاء وتبعات... كذلك العصيان والخروج على حدود الله... إن الزلل لا يستغرب على طبائع البشر، والزلل فى المجتمع النقى ينكمش ويتلاشى، كما تختفى الأقذار فى بيئة تستمتع بجو مشمس، ورياح متجددة. و أما الزلل فى بيئة تقره وترحب به وتختلق لوقوعه المعاذير، فهو يتحول إجراما ووقاحة . والإسلام شديد الحرص على مطاردة الخطأ إذا استعلن. وما يعده- أو يتوعد به على الأصح- من تجلد وقتل هو لإبقاء البيئة العامة محصنة ، لا يتطور الشر فيها من لمم محقور إلى إثم محظور . ص _022(1/16)
والحقيقة التى لا نتحرج من المصارحة بها: أن الخلاف بين الإسلام وبين المذاهب المحدثة فى السياسة والاجتماع ، ليس على مبدأ إقامة الحدود السماوية. بل على مبدأ آخر!! هل المتع الجنسية الناشئة عن الاختلاط المطلق محظورة؟.. ثم هل الوقاع الحيوانى بين الفتيان والفتيات جريمة يجب أن تُمنع. وأن نسد السبل إليها؟؟ هل السُّكر نقيصة تُسقط مروءة الشخص وتجعله طريد القانون، كشارب الحشيش والأفيون، مثلا؟ إن الخلاف على هذا، وإن تخليص الأمة من شارات الفسق قد لا تعوز فيه إقامة الحدود المرهوبة، قدر ما تعوز فيه العقيدة، بأن هذا حرام وهذا حلال... * * * * إعاشة النعماء : من أهداف الأولى تهذيب الأثرة التى يولد الإنسان بها، وجعل نظرته أرحب من ضيقها، وسيرته أرقى من شحها. وإفهامه أن الحياة لم توجد له وحده كما أنه لم يوجد فى الحياة وحده... وشعور الإنسان بحقوق الآخرين عندما يحس بحق نفسه، هو العاصم النبيل من لوثات الجشع والتطاول، وحماقات الغرور والادعاء. والقرآن الكريم يحاكم المرء إلى هذا الشعور عندما يطلب منه البر باليتامى، فمن يدرى؟ لعله يترك ذرية تفتقر إلى القسط والمرحمة ! فهل يسره أن يضيعوا؟ (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) . إن ا لأثرة كالنار، تزداد اشتعالا كلما ازداد وقودها، والناس تُسكرهم النعم المتاحة والرغبات المجابة والأموال الدافقة، فينسون حق الله فيما أعطى ونصيب عباده مما أوتوا، وتأبى عليهم أثرتهم السكرى، إلا أن يُفسدوا فى الأرض ويُقطعوا أرحامهم. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المرتع الوبىء. وقال: " إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض " قيل: وما بركات الأرض؟ قال: "زهرة الدنيا"! فقال له رجل: هل يأتى الخير بالشر؟ فصمت النبى صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه ينزل ص _023(1/17)
عليه (أى يجيئه الوحى) ثم جعل يمسح عن جبينه فقال: " أين السائل؟ " قال: أنا. قال: " لا يأتى إلا بالخير! إن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم، إلا آكلة الخضرة، أكلت حتى امتدت حاصرتها، ثم استقبلت الشمس فاجترت وثلطت وبالت. ثم عادت فأكلت. وإن هذا المال خضرة حلوة. مَن أخذه بحقه ووضعه فى حقه فنِعْمَ المعونة هو… ومَن أخذه بغير حقه كان كالذى يأكل ولا يشبع ". من السوائم بهم تغريهم خضرة الربيع الندى فهى تقبل عليها بعدما يبست أكبادها فى فصول الجفاف إقبال النهم اللهفان، وليس لها من طبيعتها الجاهلة إلا أن تستلذ المطعم السهل فهى تأكل وتلتهم، ثم تأكل وتلتهم، ثم تستزيد وتختزن، ثم لا تزال هكذا حتى تزحم كرشها مما أمامها حتى تنفق. وكم من دابة أهلكها أن قُرِّبَ الطعام منها، ومُكنِّت منه. وكم من أناس أعجبتهم زهرة الحياة الدنيا فسبت أعينهم وأفئدتهم، وامتدت لها أيديهم، وتفتحت شهيتهم، فما زالوا يتناولون منها حتى اكتظوا، وما زالت أثرتهم تلح عليهم بالمزيد حتى لحقوا بالدواب النافقة فهلكوا. إن التشبع من الدنيا على هذا النحو الأحمق خسران مبين. واختزان الأموال! عند ذويها كإمساك الأطعمة فى الجوف. والفضلات التى تحبس فى بطون أصحابها، تتحول سموما مبيدة. وهذا الحديث ضُربَ للحياة المعتدلة : سائمة اقتصدت فى مرعاها، واجترت ما أكلت، وتخلصت مما بقى فى بدنها. أما الدواب التى يدركها الجزارون فهى تلك التى تتعطل أعضاؤها لطول ما شرهت، إنهم ينتفعون بلحمها بعد ما تعذر الانتفاع بحياتها...!! أرأيت هذه الأموال المصادرة بعد ما كفَّ عنها أصحابها؟ إنهم بشموا بها فحوِّلت عنهم إلى قن لا يشكو بطنة… بل إلى من يشكون المسغبة. وهكذا يعالج كل مَن أغراه ربيع الحياة فأمسك الفضل من ماله ولم يمسك الفضل من قوله. والقاعدة التى وضعها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن هذا المال خضرة حلوة، مَن أصابه بحقه بورك له(1/18)
فيه. ورُبَّ متخوض فيما شاءت له نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار " . ص _024
إن الحملة الهائلة التى شنها الإسلام على كزازة اليد، وقسوة القلب، وشح النفس لا يُعرف لها شبيه فيما أثر عنه من تعاليم. وقد كان من نتائجها أن البذل العام صار سجية فى المسلمين ليكونوا عند قول الله غز وجل: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . وفى أحلك العصور أدت هذه السخية وظيفتها الرحيمة فآست الجراح وخففت البأساء والضراء، وصنعت للجماهير ما لم تصنعه فى عصرنا هذا "الاشتراكية العامة " و" الاشتراكية الوطنية.. ". ماذا يتصور الناس عندما يذكر عهد المماليك فى مصر؟ وماذا يقولون إذا قيس هذا العهد بما وصلت إليه الخدمة الاجتماعية فى إنجلترا أو روسيا؟ إننا ندع الإجابة على هذا التساؤل للوثيقة التاريخية التى أثبتت فيها "حجة وقف مستشفى قلاوون " فقد جاء فى هذه "الحجة" ما يلى : "أنشئ هذا "البيمارستان " لمداواة مرضى المسلمين الرجال والنساء، من المثرين والفقراء المحتاجين، بالقاهرة وضواحيها، من المقيمين بها، والواردين عليها، على اختلاف أجناسهم وتباين أمراضهم وأوصابهم. يدخلون جموعا ووحدانا، وشيئا وشبانا، ويقيم به المرضى الفقراء من الرجال والنساء لمداواتهم لحين برئهم وشفائهم، ويصرف ما هو مُعد فيه للمداواة ويُفرَّق على البعيد والقريب، والأهل والغريب، من غير اشتراط لعوض من الأعواض. " ويصرف الناظر من ريع هذا الوقف، ما تدعو حاجة المرضى إليه من شرر جريد أو خشب، على ما يراه مصلحة، أو لحف محشة قطنا، وطراريح محشوة بالقطن، فيه لكل مريض من الفرش والسرر على حسب حاله، وما يقتضيه مرضه، عاملا فى حق كل منهم بتقوى الله وطاعته، باذلا جهده وغاية نصحه فهم رعيته، وكل راع مسئول عن رعيته. ويباشر المطبخ بهذا "البيمارستان " ما يُطهى للمرضى من دجاج وفراريج ولحم،(1/19)
ويجعل لكل مريض ما طبخ له فى "زبدية لما خاصة به من غير مشاركة لمريض آخر، ويغطيها ويوصلها لكل مريض إلى أن يتكامل إطعامهم ويستوفى كل منهم غداءه، وعشاءه، وما وصف له بكرة وعشيا...!! ص _025
ويصرف الناظر من ريع هذا الوقف لمن ينصبه من الأطباء المسلمين الذين يباشرون المرضى مجتمعين ومتناوبين، ويسألون عن أحوالهم وما يَجِّدُ لكل منهم، من زيادة مرض أو نقص، ويكتبون ما يصلح لكل مريض من شراب وغذاء أو غيره فى "دستور ورق " ويلتزمون المبيت فى كل ليلة بـ "البيمارستان " مجتمعين ومتناوبين ويباشرون المداواة ويتلطفون فيها. ومَن كان مريضا فى بيته - وهو فقير- كان للناظر أن يصرف إليه ما يحتاجه من الأشربة والأدوية والمعاجين وغيرها، مع عدم التضييق فى الصرف... " إلخ. هذه "حُجَّة مستشفى قلاوون " التى أملتها الروح الإسلامية من سبعة قرون، وكانت "أوروبا " وقتئذ- أقطارًا لا تعرف غير قوانين الغاب...! هل تقدم أرقى الأحزاب "الاشتراكية" منهاجًا أزكى من هذا ، وأبر بالمرضى والبائسين؟ إن ذلك سر اكتفاء المسلمين بدينهم واستغنائهم عن المذاهب الأخرى، واختفاء التوجيه الإسلامى فى جنبات الغرب هو وحده الذى أباح للنزعات اليسارية أن توجد وأن تمضى قُدُمًا فى نشر مبادئها على حساب الدين كله... * * * * الجهاد: ومن أهداف الإسلام حرب السلطات الطاغية والفتن المضللة حتى تتوطد فى الأرض حرية الضمير والعقل، فلا يذل حق، ولا يهون إيمان.. وذلك هو الجهاد الصحيح. والجهاد صدٌّ للإرهاب أو علاجه الكاسر لشوكته، الماحق لسطوته. فاستعمال القوة فى البطش والتعدى إرهاب. ومصادرة هذه القوة حتى يأمن الناس وتقر العدالة ويهدأ الروع جهاد هجوم لمستعمرين على أقطار الشرق لانتهابها واسترقاق أهلها إرهاب. ومكافحة هذا الهجوم بكل ما وقع فى اليد جهاد... إن الجهاد المثمر يحول الخير من علوم نظرية، ومسالك فردية، إلى حقائق ثابتة، وتقاليد عامة، ومناهج منظَّمة. ص _026(1/20)
وإلى جيل يحتضن فكرة لتتلقفها عنه أجيال ومن ثمَّ اهتم الإسلام به لعظم الفائدة المرجوة منه ولسعة الدائرة التى يصنعها للحق. ولاشك أن الاتجاه له أعظم أجرا عند الله من إقبال المرء على خاصة نفسه ولو قضى دهره يصوم النهار ويقوم الليل. روى أحمد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لكل أمة رهبانية.. ورهبانية هذه الأمة الجهاد فى سبيل الله ". ورُوىَ أن رجلا جاء أبا سعيد الخدرى وقال : أوصنى، فقال: "سألتَ عما سألتُ عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قبلك.. أوصيك بتقوى الله فإنها رأس كل شىء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه ذكر لك فى السماء ونور لك فى الأرض.. ". والدولة التى يقيمها الإسلام لا صلة لها بالعلو فى الأرض، ولا مكان فيها لتمجيد أشخاص أو تحقيق أهواء. إنها وسيلة لبلوغ أهداف ذكرنا آنفا بعضها وفصَّلنا بقيتها فى رسائل أخرى.. * * * * القرآن ثم السنة : والمصدر الأول لتعليم الإسلام هو القرآن الكريم، وهو من المصادر الأخرى بمنزلة الجذع من فروع الشجرة وثمارها.. وفى الحديث : " فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ". وأنت ترى فى الأنظمة العامة التى تحكم الجماعات دساتير أصلية. ثم قوانين إدارية وجنائية وشخصية وتجارية. ثم لوائح وقرارات ومذكرات تفسيرية.. إلخ. والمفروض فى الدساتير أنها مجمع القواعد الخطيرة فى الحكم والتشريع والتنفيذ، وأنها تضم أمهات المسائل التى ينبغى النص عليها ولا تترك للتقديرات المختلفة. وأن ما عداها يرتكز عليها ويستمد حرمته منها. ص _027(1/21)
ولذلك لا يمكن أن يحتوى على ما يخالفها نصا أو روحا. فإذا وُجِدَ هذا المخالف ألغى من تلقاء نفسه. كذلك كتاب الله، هو قطب الإسلام، ومنبع شرائعه، والدستور الذى يقتعد الصدارة فيما يضم من توجيه وأدب، ووصايا وأحكام. وقد تضمن أصول الإسلام. ومنه تؤخذ الصور العامة لما يرضاه الله لعباده فى شئون حياتهم، ومناحى تفكيرهم، ومعالم سلوكهم. والمسلمون ـ للأسف ـ لا يقدرون الكتاب العزيز حق قدره. ولا يعلقون بصائرهم وأبصارهم بمعانيه وأهدافه كما ينبغى. ودعك من تجويد التلاوة كما يفعل أصحاب الأصوات، ومن التأثر الموقوت الذى تلمح مظاهره على بعض الأجسام، فإن هذا وذاك لا يدلان على شىء ذى بال.. إن القرآن هو الهداية الأولى للناس، الهداية التى صدرت عن الله محصية قواعد الحق وضمانات النجاة، فآيات هذا القرآن تحتوى على معالم الصراط المستقيم مثلما تحتوى آفاق الكون على أسرار العلم وقواه المذخرة للخلق.. ولو عقل البشر لوقفوا بإزاء كل سورة، بل كل حرف، يستنبئونه اليقين، ويتعرفون منه كيف يوثقون صلاتهم برب العالمين... إن كلام الله فوق كل كلام. واستقباله بمشاعر الحفاوة والجد والاستقصاء أمر واجب. أو هو ـ فى الحقيقة ـ أعود شىء بالنفع على الناس. وكلما زاد الارتباط به وثقا زاد رسوخ القدم على طريق الخير والبر... والعجب لأقوام يقدِّمون على كلام الله وأحكامه كلامًا آخر وأحكامًا أخرى. (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا) . إن مقتضى الإيمان بالله هو إدمان التأمل فى كتابه التماسًا للنفع المحقق واقتطافا للثمار الطيبة فى العاجلة والآجلة معًا. ص _028(1/22)
والمؤمن بالقرآن الكريم يستحيل أن يُرجِّح على دلالته دلالة، أو أن يشرك مع توجيهه هَديًا. ذلك أنَّ القرآن يعلو ولا يُعلى عليه، وأنه يحكم على سائر الأدلة الأخرى، ولا يحكم شىء منها عليه. ويستحيل ـ بداهة ـ أن يكون فى مصادر التشريع الأخرى ما يعارضه أو يسير فى مجرى يغاير اتجاهه. ولو وُجدَ شىء من ذلك.. فهو دخيل على دين الله، وطبيعة السُّنَّة والقياس والاصطلاح، وما شابه ذلك.. طبيعة الفروع مع الأصل، أو الأعضاء من الرأس. إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبلِّغ عن الله ويوضِّح مراده، ويكمل الأحكام فى الصور الجزئية الكثيرة التى ليس من شأن الدستور العام أن يتعرض لها. فالقرآن مثلا عرض للبيع ـ وهو أشيع المعاملات ـ فذكر من أحكامه مالا يتجاوز أصابع اليد عدًا. أما السُّنَّة ففيها بضع مئات من الأحاديث التى تُفَّصل وتشَعِّب... وللسُّنَة ـ عدا هذا النطاق التشريعى ـ ميدان أوسع، وينبغى أن نطيل التأمل فيه. هب هيئة ما طلعت على الناس بمنهاج مبين فى كتاب محدود وأرادت أن تكافح لتعميمه وسياسة المجتمع به، ماذا تفعل؟ إنها قد تصدر صحيفة لتكون لسان حالها، وتكرس فيها جهودا كبيرة لنشر آرائها واجتذاب الجمهور إليها. هذا اللسان الناطق باسم الهيئة، والمعبِّر الرسمى عن وجهة نظرها، له مكانته التى لا ريب فيها. وما يذيعه بين الحين والحين تؤخذ الهيئة به ويُعد بيانًا دقيقًا عن موقفها ووظيفة الصحيفة الرسمية لهيئة ما، أنها تصوِّر حكمها على الحوادث المتجددة وتنتهز المناسبات الحكيمة لتزكية برامجها والإشادة بما حوت من إصلاح. وهى تلون ـ حسب الأيام والأشخاص ـ ما تعرضه من مبادئ. فقد تقول للطلاب كلامًا غير الذى تقوله للعمال، وتُحدِّث الأجانب بما لا تحدث به المواطنين. وقد يفهم البعض منهاج الهيئة على أنحاء خاطئة فتفيض هى فى شرح المقصود منه، وترد الأوهام عما قامت للدفاع عنه . ص _029(1/23)
وهذا التغيير والتفسير يتبع تغير الأحوال والأقوام وما تقتضيه الملابسات المختلفة من توجيهات مناسبة... ولا موضع ألبتة بأن هناك تعارضا أو تفاوتًا بين منهاج الهيئة وما تنشره صحيفتها الرسمية. ذلك ـ على ضرب من التجوز ـ عمل السُّنَّة مع الكتاب. ولقد ظل فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتحدث ثلاثة وعشرين عاما، ويسوس الأمة بسيرته فيها، بروزه على سواء للأصدقاء والخصوم، وعمله الدائب لهداية الناس لا يخفى منه شىء. وليسي المهم أن نعرف ما حدَّث به حسب، ولكن المهم أن نعرف كيف ومتى، ومَن حدَّث ؟؟؟ وإن هذه الظروف تعين إعانة حاسمة، على فقه السُّنَّة فقهًا صحيحًا. * * * * * أمثلة لقاعدة : ـ عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله، أى العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: "الحال المرتحل "! قال: وما الحال المرتحل؟ قال: " الذى يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حلَّ ارتحل ". ـ وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: سألت النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أى العمل أحبُّ إلى الله ؟ قال: "الصلاة على وقتها". قلت: ثم أى؟ قال: "بر الوالدين " قلت: "ثم أى؟ قال : "الجهاد فى سبيل الله ". قال ابن مسعود: حدثنى بهن، ولو استزدته لزادنى. .. ـ وعن أبى هريرة أن أبا ذر رضى الله عنه سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أى العمل أفضل؟ قال "إيمان بالله ورسوله " قيل : ثم ماذا ؟ قال: "جهاد فى سبيل الله " قيل: ثم ماذا ؟ قال: "حج مبرور". ـ وعن أبى موسى الأشعرى: قالوا: يا رسول الله، أى الإسلام أفضل ؟ قال: "مَن سلم المسلمون من لسانه ويده ". ـ وعن عبد الله بن عمر أن رجلا سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أى الإسلام خير؟ قال: " تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " . ص _030(1/24)
هذه إجابات شتى حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد يكون متجهًا إلى رعاية أحوال المخاطبين، فيبرز من العبادات والآداب ما يراه أليق بحياتهم وما يراهم أمس إليه حاجة. ويسكت عن غيره، لا تهوينًا من شأنه، فقد يسكت عن أركان عظيمة القدر فى الدين تكلفت ببيانها آيات القرآن أو سُنن أخرى. والذى يُستفاد من هذه الإجابات أنه لا يجوز أخذ حديث ما على أنه الإيمان كله. كما أنه لا يجوز الغفلة عن الملابسات التى سيق فيها الحديث فإنها تلقى ضوءًا كاشفا على المراد منه. وكما راعت السُّنَّن أحوال المخاطبين، وقد تراعى الأحوال العامة للجماعة. فعند كَلَب الكفار وضرواتهم على بلادنا، يكون الجهاد أفضل من الحج. وعند اشتداد الأزمات وكثرة البائسين، تكون الصدقة أفضل من الصلاة. وعندما يظهر قصور أمتنا فى ميدان الاحتراف والتصنيع، يكون الاشتغال بالكيمياء والحديد أحبُّ إلى الله من حراثة الأرض ورعاية الغنم... إن فهم القرآن لا يتم إلا بمعرفة السُّنَّة، وفهم السُّنَّة لا يصح إلا بمعرفة المناسبات الحكيمة التى سيق من أجلها التوجيه النبوى. وإذا لم تكن لدينا إحاطة شاملة بالأزمنة والأمكنة والوقائع التى أرسلت فيها هذه الأحاديث، فقد تكون فى الإحاطة بجملة السنن عوض يسد هذا النقص. فإنك أمام كثرة المرويات وتعدد معانيها لا ترى بداً من تنسيقها وترتيبها ووضع كل حديث بإزاء ما يوافقه من أحوال. ولقد بلغنى أن هناك مؤلفات فى "أسباب الحديث " طُبعت فى الشام على غرار "أسباب النزول " التى امتلأت بها كتب التفسير، ونحن نأسف لبُعد هذه المؤلفات عن متناولنا، فإن إشاعتها ضرورة لخدمة السُّنَّة وصد الهجامين عليها... وهذا الذى ذكرناه فى فهم السُّنَّة وصلتها بالكتاب، لم نأت بجديد فيه.. إنما هو علم الأئمة الأولين، وإدراكهم الصحيح لحقائق هذا الدين. * * * وظيفة السنة: لقد كنتُ عندما أحب الاستشهاد بالكتاب والسُّنَّة فى موضوع ما.. ألاحظ هذه الحقيقة(1/25)
وأجد طائفة كبيرة من الأحاديث تطابق فى معانيها وأهدافها ما تضمن القرآن ص _031
الكريم من معان وأهداف، وأن هذه الأحاديث قد تقرر المعنى نفسه، الذى احتوته الآية، أو تقرر معنى آخر، يدور فى فلكه وينتظم معه فى اتجاه واحد، وإن بدا للعين المجردة أن الصلة بينهما بعيدة. فمن القبيل الأول ـ مثلاً ـ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت ". فإن هذا المعنى لا يخرج عن قول الله عز وجل : (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) وسرد الأمثلة التى من هذا النحو يطول. ومن القبيل الثانى ـ مثلا ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم " نهى أن يشرب فى آنية الذهب والفضة وأن يؤكل فيها، ونهى عن لبس الحرير وأن يُجلس عليه". فإن هذا الحكم الذى جاءت به السُّنَّة مشتق من تحريم القرآن للترف واعتباره المترفين أعداء كل إصلاح، وخصوم كل نبوة، وعوامل للهدم فى كل أمة: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) . والنهى عن اتخاذ القبور مساجد ـ وقد جاءت به السُّنَّة ـ هو فى الحقيقة حماية حاسمة للتوحيد الذى ضل عنه النصارى بما اتخذوا من معابد على قديسيهم حتى احتج مشركو مكة بذلك وهم يعارضون الرسول صلى الله عليه وسلم : (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) والسُّنَّة التى تكون بهذه المثابة فى تقرير غايات القرآن المرسومة أو المفهومة. أو التى تفصّل مجمله وتوضِّح مشكله... تأخذ قسطًا كبيرا من عناية المسلمين، ومنزلتها من أدلة الأحكام الشرعية معروفة... وهناك سُنن أخرى تخصص أحكامًا عامة فى القرآن. ففى قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين). بيَّنت السُّنَّة أن القاتل لا حظ له فى الميراث. ص _032(1/26)
وفى قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم). بيَّنت السُّنَّة أن هناك مباحين فى كل من هذه المحرمات : " أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد، والكبد والطحال ". وفى قوله عز وجل. (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما). بيَّنت السُّنَّة أن ليس كل سارق يقطع. إذ لا قطع فيما دون النصاب المقرر، ولا قطع على جائع ينشد طعامه، ولا على مغصوب يسترد ما أخذ منه.. فإذا ثبت القطع، ففى اليمين، وعند الرسغ، كما بيَّنت السُّنَّة.. وقد جاءت السُّنَّة بأحكام يسَّرت بعض العزائم التى أمر الكتاب العزيز بها. فالقرآن مثلا يأمر بغسل القدمين ويعد ذلك ركنًا فى الوضوء... وتنظيف الرجلين أمر لابد منه فى صحة الصلاة. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا أدخل قدميه طاهرتين فى خفيه أو جوربيه، فليس بضرورى أن يعيد غسلهما كلما أراد الوضوء. وبحسبه أن يمسح على ظاهرهما ـ فوق الحذاء أو الجورب ـ إشارة إلى الركن الذى لحقته الرخصة. * * * * وهذا الذى صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به ليس هوى جنح إليه : (ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى). إنما هو إرشاد الله له، وهو عمل يتسق مع قاعدة الإسلام الأولى من السماحة والتيسير وليس فيه أى تناقض مع تعاليم القرآن. ونستطيع أن نقول: إنه ليست هناك سُّنَّة تعارض حكما قرآنيا ما، بل إنه من المستحيل أن يوجد حديث يعارض أحكام القرآن الخاصة، أو قواعده العامة. ثم إن الحديث الواحد لا نأخذه على حدة عند الاستدلال. بل يجب أن نأخذ جميع ص _033(1/27)
الأحاديث التى وردت فى موضوع واحد ثم نلحقها بما يؤيدها ويتصل بها من الكتاب الكريم، ولن نعدم هذه الصلة. أما الاستدلال هكذا خبط عشواء بما يقع تحت أبصارنا من حديث قد نجهل الظروف التى قيل فيها والمدى الذى يعمل فيه فهو ضلال عانى المسلمون قديمًا مغبته ويعانون الآن أضراره. وأضع أمام القارئ سلسلة من الأحاديث مرتبة ترتيبا تصاعديا حسب الأزمنة التى قيلت فيها ليتصور القارئ أى تخبط يقع فيه المسلم لو اقتطع الأحاديث الأولى أو أحدها من هذه السلسلة وزعم أن العمل عليها!! وتجاهل ما بعدها: 1- "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار". 2- " عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسِّس الإسلام، من ترك واحدة منها فهو كافر حلال الدم : شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان ". 3- " ثلاثة أحلف عليهن.. لا يجعل الله من له سهم فى الإسلام كمن لا سهم له، وسهم الإسلام ثلاثة : الصلاة، والصوم، والزكاة". 4- " بنى الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ". 5- " والذى نفسى بيده- ثلاثا- ما من عبد يصلى الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع، إلا فُتحت له أبواب الجنة ". 6- " الإسلام ثمانية أسهم : الإيمان سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهى عن المنكر سهم، والجهاد فى سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له ".... إلخ. وبديهى أن الحديث الأول قيل قبل إنزال الفرائض، وأن الثانى قيل قبل تشريع الزكاة، والثالث قيل قبل فرض الحج.. وهكذا تقوم السُّنَّة بخدمة المقاصد التى يوضحها القرآن. وللقرآن وحده المرتبة الأولى فى بيان حقائق الدين كاملة وفى إحصاء أصوله الثابتة على اختلاف الأمكنة والأزمنة . ص _034(1/28)
وبديهى كذلك أدن الحديث الأول لا يرد غيره من الأحاديث، وبالتالى لا يستطيع ـ وليس له ـ أن يرد آيات القرآن فى شىء من التشريعات. فليعلم ذلك من تضطرب فى فهم الإسلام عقولهم ويظنون أن مرجع ذلك إلى تعارض النصوص، والحقيقة أنه فى الحماقة التى تملأ هذه الرءوس. ولعلماء المسلمين القدامى ـ من كرام الأئمة ـ نظرات صائبة فى طرائق الاستدلال، ولأفهامهم فى الكتاب والسُّنَّة روعة يستجليها من يتتبع تاريخ التشريع الإسلامى فى عصوره الزاهرة. ونحن فيما سبق إنما نشرح طرفا مما قرروا. * * * * السنة حق: إذا صَحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بشىء أو نهى عن شىء فإن طاعته فيه واجبة، وهى من طاعة الله. وما يجوز لمؤمن أن يستبيح لنفسه التجاوز عن أمر للرسول فيه حكم: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) . (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) . والمسلمون متفقون على اتباع السُّنَّة بوصفها المصدر الثانى للإسلام بعد القرآن الكريم. لكن السنن الواردة تتفاوت ثبوتا ودلالة تفاوتا لا محل هنا لذكره. وقد وُضعت لضبط ذلك مقاييس عقلية جيدة، يرجع إليها فى مظانها من شاء وللناقد البصير، أن يتكلم فى حديث ما من ناحيتى متنه وسنده، وأن يرده لأسباب علمية يبديها. والمجال الفنى لهذا الموضوع رحب ممهَّد، خاضها العلماء الأقدمون وتركوا فيه آثار ضخمة... لكن المؤسف أن بعض القاصرين ـ ممن لا سهم له فى معرفة الإسلام ـ أخذ يهجم على السُّنَّة بحمق، ويردها جملة وتفصيلا. ص _035(1/29)
وقد يسرع إلى تكذيب حديث يقال له، لا شىء، إلا لأنه لم يرقه، أو لم يفقهه. وتكذيب السُّنَّة على طول الخط احتجاجا بأن القرآن حوى كل شىء بدعة جسيمة الخطر. فإن الله عز وجل ترك لرسوله السنن العملية يبينها ويوضحها. وقد ثبتت هذه بالتواتر الذى ثبت به القرآن فكيف تُجحد؟ بل كيف تُجحد وحدها ويُعترف بالقرآن؟ وكيف نصلى ونصوم ونحج ونزكى ونقيم الحدود، وهذه كلها ما أدركت تفاصيلها إلا من السُّنَّة؟ وإن إنكار المتواتر من السنن العلمية خروج عن الإسلام وإنكار المروى من السنن الآحاد ـ لمحض الهوى ـ عصيان مخوف العاقبة... والواجب أن ندرس السُّنَّة دراسة حسنة، وأن ننتفع فى ديننا بما ضمت من حكم آداب وعظات... وإن الولع بالتكذيب لا إنصاف فيه ولا رُشد. وقد تعقبت طائفة من منكرى السنن فلم أر لدى أكثرهم شيئا يستحق الاحترام العلمى. قالوا: إن السلف اهتموا بالأسانيد وحبسوا نشاطهم فى وزن رجالها، ولم يهتموا بالمتون، أو يصرفوا جهدا مذكورا فى تمحيصها.. وهذا خطأ. فإن الاهتمام بالسند لم يقصد لذاته وإنما قُصد منه الحكم على المتن نفسه. ثم إن صحة الحديث لا تجئ من عدالة رواته فحسب، بل تجئ أيضا من انسجامه مع ما ثبت يقينا من حقائق الدين الأخرى، فأى شذوذ فيه، أو علة قادحة يخرجه من نطاق الحديث الصحيح... على أن اتهام حديث ما بالبطلان مع وجود سند صحيح له، لا يجوز أن يدور مع الهوى ، بل ينبغى أن يخضع لقواعد فنية محترمة. هذا ما التزمه الأئمة الأولون، وما نرى نحن ضرورة التزامه. ذكر بعضهم حديث: " الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام " . ص _036(1/30)
فقال: إن الواقع يكذبه، وإن صححه البخارى. ويظهر أنه فهم من " كل داء " سائر العلل التى يُصاب الناس بها. وهذا فهم باطل، ولو كان ذلك مراد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان هناك موضع للأحاديث الكثيرة الأخرى التى تصف أدوية أخرى لعلل شتى. والواقع "أن كل داء" لا تعنى إلا بعض أمراض البرد، فهى مثل قول القرآن الكريم فى وصف الريح التى أرسلت على "عاد": (تدمر كل شىء بأمر ربها) (1)، فـ "كل شىء" هو ما عمرت به مساكن القبيلة الظالمة فحسب. وهذا الحديث، ولو أن مسلما مات دون أن يعلم به ما نقص إيمانه ذرة. إن أبا بكر وعمر كليهما، لم يعلما بالحديث الصحيح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذى قال فيه : " أمرت أن أقاتل الناس (يعنى وثنى الجزيرة) حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دمائهم وأموالهم بحق الإسلام وحسابهم على الله ". فإن الحديث الذى حفظاه ليس فيه: " إقام الصلاة وإيتاء الزكاة". ولو علم عمر بهذا النص الزائد ما اعترض على أبى بكر فى قتاله مانعى الزكاة. ولو علم به أبو بكر ما استدل على رأيه بالقياس والاستنباط. ولكن فقه الشيخين فى الكتاب العزيز، وحسن استفادتهما مما يعلمان من سُّنَّة أغنى وكفى.. ولم يضرهما ما يجهلان من روايات أخرى. بيدَ أن الطعن ـ هكذا خبط عشواء ـ فى الأسانيد والمتون كما يصنع البعض ليس القصد منه إهدار حديث بعينه، بل إهدار السُّنَّة كلها، ووضع الأحكام التى جاءت عن طريقها فى محل الريبة والازدراء. وهذا ـ فوق أنه غمط للحقيقة المجردة ـ يُعرضِّ الإسلام كله للضياع. إن دواوين السُّنَّة وثائق تاريخية من أحكم ما عرفت الدنيا. ويمكننا أن نقول: إن الكتب المقدسة لدى بعض الأمم ما تزيد فى قيمتها التاريخية عن أحاديث دوَّنها علماؤنا وحكموا على طائفة منها بالضعف، وطائفة أخرى بالوضع!؟ ص _037(1/31)
والسُّنَّة ـ لكثرة ما عرضت له من تفاصيل ـ تضمنت أحكاما كثيرة، والأحكام قيود توضع على تصرفات الناس، والقيد عندما يجىء فى مكانه الذى يناسبه ويلائمه، لا يكون هناك معنى للتبرم به والإنكار عليه. إنما ينشأ الاعتراض من سوء استعمال هذه القيود لأنها ـ والحالة هذه ـ سوف توصد أبوابا يجب أن تفتح، وتضيِّق حدودا يجب أن تنفسح، وتحظر حركات يجب أن تأخذ مداها دون حرج. وأكثر الظلم الذى وقع على السُّنَّة أصابها من أن حديثا من الأحاديث قُدِّر له أن يعمل فى نطاق معيَّن، فجاء بعض القاصرين وحرَّفه عن موضعه بالتعميم والإطلاق. ولعل التخوف على الإسلام من الغباء فى فهم السُّنَّة هو سر ما رواه الحارث الأعور قال: مررت فى المسجد فإذا الناس يخوضون فى الأحاديث، فدخلت على علىٍّ رضى الله عنه فقلت : يا أمير المؤمنين، ألا ترى أن الناس قد خاضوا فى الأحاديث؟ قال: وقد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أما إنى قد سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "ألا إنها ستكون فتنة "! فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله. فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم. هو الذى لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضى عجائبه. هو الذى لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : (إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد) من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدىَّ إلى صراط مستقيم ". خذها إليك يا أعور. وقد وّهن العلماء راوى الحديث ـ الحارث الأعور ـ ولكن متنه تضمن حقائق ثمينة. وعلىُّ رضى الله عنه لا ينكر السُّنَّة.. كيف؟ وأحكامه ومروياته التى تقوم عليها فوق الحصر. وإنما ينكر أن تتناولها الأذهان الكليلة فترد نهارها ليلا، كما ينكر(1/32)
أن يقل شغل الأمة بالقرآن الكريم، فتذهل بذلك عن الأصل الركين والعماد المتين. ص _038
أما أن تتجه الهمم إلى كتاب الله وتستعين على فهمه وإبلاغ هداياته وإنفاذ أحكامه بأحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذلك هو المنهج السديد. * * * * * اختلاف مقبول فى فهم السُّنَّة : هل يغير المنكر بالقوة إذا وقع من حكومة مستقرة؟ الآثار الواردة فى هذا الشأن كثيرة تستحق طول التأمل. والذى يتابع أقوال العلماء فيها يرى أن أغلبهم يكره الخلاف، ويتريث فى المشاقة، ولا يفتى بالمقاومة المسلحة إلا بعد شروط يصعب تحقيقها. ولعل سر هذا التوجس أن المسلمين فى صدر تاريخهم إنما أتوا من كثرة الشغب، واستباحة الخروج على الخلافة لأتفه سبب، وإعطاء قصار النظر حق الحكم على أعمال لا يفقهون مداها، مما جعل سياسة الدولة العليا يعبث بها العوام، وجعل دماء الخلفاء الراشدين فى متناول الطغام. وآثار الخروج الطائش على الحكومة القائمة، وما خلفه فى جسم الدولة من فتوق، وما بذله الحكام من إطفاء الثورات المشتعلة هنا وهناك من جهود، كل ذلك كان من أهم العلل فى وقف المد الإسلامى وشغل المسلمين بعضهم ببعض عن التفرغ لرسالتهم الكبرى. وذاك هو الذى جعل النظر يختلف فيما يقع فيه الحكام من أخطاء وخطايا، فترى رجلا ـ كأبى حامد الغزالى ـ يفتى فيما يرتكبه الحاكم من منكر فيقول : " أما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان. فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر.... "!! وأما الإنكار على الحاكم بالقلب، أو انتقاده باللسان فهو يجيزه إن لم يتطور إلى فتنة عامة تضار بها الدولة أكثر مما يضار بها فرد. وبلغ التطير ببعض الفقهاء أن جعل الصبر على جور الحاكم من شُعب الإيمان! وهذا كلام سقيم، وأخذه على إطلاقه كان ذريعة لتنويم الشعوب على ما ينزل بها من ضيم، حتى بلغ فسوق الملوك والحكام فى بلاد المسلمين حدا لا يطاق. إن الفتوى(1/33)
بالتمرد على الحاكم أو الاستكانة له تحتاج إلى بصر حديد، والحقيقة تضيع دائما بين الإفراط والتفريط... وقد جاء فى السُّنَّة المطهرة حشد من التعاليم ينظم معاملة الحاكم، ومتى يُخاصم ومتى يصادق . ص _039
والأحاديث الواردة فى هذا الموضوع تحتاج إلى حسن التوجيه، وإلا فالجهل بها أفضل من السفه فى إعمالها. هبكَ أعطيت خادمك جملة مفاتيح لحجرات البيت، فجاء عجلا يعالج الباب بأول مفتاح وقع فى يده، فإذا استعصى عليه ذهب إلى باب آخر بمفتاح آخر لا يناسبه، ثم انتقل عنه إلى باب آخر أعمل فيه مفتاحا ليس له كذلك. إنه يعود إليك آخر الأمر ولم ينفتح فى وجهه باب. وربما قال لك: إن هذه المفاتيح غلط!! والمفاتيح لا غلط فيها، إنما الغلط فى طريقة استعمالها، فإذا وقعت فى يد الخبير وضع كل مفتاح فى مكانه العتيد، وأداره بيسر، ففتح له. كذلك الحديث الصحيح فى وضعه الصحيح. إن الحاكم والسوقة سواء أمام حدود الله، وليس يُباح لأحدهما ما يُحرم على الآخر. والحاكم الذى يخون أمانة منصبه عاص لله يقينا، والتخلص منه أجدر بدين الله ودين الناس معًا. فإذا أمكن إقصاؤه بمغارم خفيفة، فالنكول عن ذلك جريمة، وإلا فإن تغيير المنكر إذا أدى إلى مفسدة أشد فإبقائه أولى. ويمكن ترتيب الأحاديث الواردة على هذا النحو. ودفع ما بينها من تعارض فى الظاهر. فليست مهانة الحاكم الجائر مباحة فى كل وقت، ولا مهاجمته- لطرده من منصبه- مقبولة النتائج فى كل حين... ومن العلماء من اعتمد على روح الإسلام العامة، وعلى تعاليمه الكثيرة فى محاربة الظلم ومقاومة الغاشمين. فرفض أحاديث المهادنة، أو ادعى أنها منسوخة، وأوجب على المسلم ألا يستكين لبغى، وأن يعالج الحاكم إذا ألَمَّ بمعصية حتى يحجزه عن مساخط الله مهما تجشم فى ذلك. ونحن نسوق كلام ابن حزم فى تصوير هذا الرأى ودفاعه عنه، معلقين عليه بما نراه أدنى إلى الحق، فى أحكام الإسلام... ص _040(1/34)
وأيا ما كان الأمر فـ "ابن حزم " إمام مجتهد له مذهبه وله فقهه. ويعنينا من سوق رأيه مفصلا كشف ما لدى فقهائنا من حرية علمية واسعة ومن عناية دقيقة بفقه السُّنَّة، وتقدير حسن للمرويات الواردة. قال ابن حزم- منددا بمن يرون الخضوع للسلطان وإن جار: "احتجت الطائفة المذكورة أولا بأحاديث فيها: أنقاتلهم يا رسول الله؟ قال: " لا. ما صلوا ". وفى بعضها: " إلا أن تروا كفراً بواحًا عندكم فيه من الله برهان ". وفى بعضها: " وجوب الصبر وإن ضرب ظهر أحدنا وأخذ ماله ". وفى بعضها: " فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فاطرح ثوبك على وجهك وقل: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار) . وفى بعضها: " كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ". وبقوله تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين) . "كل هذا لا حُجة لهم فيه لما قد تقصيناه غاية التقصى خبرا خبراً بأسانيدها ومعانيها فى كتابنا المرسوم بـ " الاتصال إلى فهم معرفة الخصال ". "ونذكر منه- إن شاء الله ههنا – جملا كافية وبالله تعالى نتأيد : أما أمره - صلى الله عليه وسلم- بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر، فإنما ذلك- بلا شك- إذا تولى الإمام ذلك بحق، وهذا مالا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له، وإن امتنع المحكوم من ذلك بل إن امتنع من ضرب رقبته- إن وجب عليه- فهو فاسق عاص لله تعالى وأما إن كان ذلك بباطل، فمعاذ الله أن يأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصبر على ذلك برهان هذا قول الله عز وجل : (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) . وقد علمنا أن كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يخالف كلام ربه تعالى. قال الله عز وجل : (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى). ص _041(1/35)
وقال الله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). فصحَّ أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وحى عند الله عز و جل لا اختلاف ولا تعارض ولا تناقض. فإذا كان هذا كذلك فبيقين لا شك فيه يدرى كل مسلم أن أخذ مال مسلم أو ذمى بغير حق وضرب ظهره بغير حق، إثم وعدوان وحرام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ". فإذن لا شك فى هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين، فالمسلم ماله للأخذ ظلما، وظهره للضرب ظلما، وهو يقدر على الامتناع من ذلك- بأى وجه أمكنه- معاون لظالمه على الإثم والعدوان، وهذا حرام لنص القرآن وأما سائر الأحاديث التى ذكرنا وقصة ابنى آدم فلا حجة فى شىء منها. أما قصة ابنى آدم فتلك شريعة أخرى غير شريعتنا. قال! الله عز وجل: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا). وأما الأحاديث فقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.. ليس وراء ذلك من الإيمان شىء ". وصَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا طاعة فى معصية، إنما الطاعة فى الطاعة، وعلى أحدكم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية، فأن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ". وأنه عليه الصلاة والسلام قال : " من قتل دون ماله فهو شهيد، والمقتول دون دينه شهيد، والمقتول دون مظلمة شهيد ". وقال عليه الصلاة والسلام : " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعذاب من عنده ". فكان ظاهر هذه الأخبار معرضا للآخر! فصَحَّ أن إحدى هاتين الجملتين ناسخة للأخرى لا يمكن غير ذلك فوجب النظر فى أيهما هو الناسخ؟ ص _042(1/36)
فوجدنا تلك الأحاديث التى منها النهى عن القتال موافقة لمعهود الأصل، ولما كانت الحال عليه فى أول الإسلام وكانت هذه الأحاديث الأخرى واردة بشريعة زائدة وهى القتال. هذا ما لا شك فيه، فقد صح نسخ معنى تلك الأحاديث ورفع حكمها حين نطقه عليه الصلاة والسلام بهذه الأخر بلا شك. فمن المحال المحرم أن يؤخذ بالمنسوخ ويُترك الناسخ، وأن يُؤخذ بالشك ويُترك اليقين ". * * * نقول: لا يُسلَّم لابن حزم القول بالنسخ، إذ لا يُصار إليه إلا عند تعذر الجمع بين الأحاديث التى يتوهم فيها التعارض، والجمع هنا ممكن ابتداءً. إن تغيير المنكر على درجاته كلها لا يعنى التمرد العام، وكذلك دفاع المرء عن حقه إلى الموت. والأمر قريب مما قاله " الغزالى " من أن الفتن المسلحة مهولة العواقب. وأن إباحتها لكل ناقم لا يقول به قانون مشروع ولا موضوع. والأحاديث الأولى- فى نظرنا محكمة- ويجب العمل بها من إحداث شغب تنهار به الدولة أمام أعدائها!.. إن للمقاومة ظروفا توجبها، وللمسالمة ظروفا توجبها، والأحاديث الواردة بالأمرين تتوزع على الحالتين فى يسر وصدق. ثم إن الأحاديث التى يراها "ابن حزم " منسوخة ليس لديه دليل على تأخر ناسخها من الناحية التاريخية. بل إن بعضها قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فى أخريات حياته فلا يُعقل نسخه. ثم قال ابن حزم: "وبرهان آخر وهو أن الله عز وجل قال :( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) ص _043(1/37)
لم يختلف مسلمان فى أن هذه الآية التى فيها فرض قتال الفئة الباغية محكمة غير منسوخة، فصح أنها الحاكمة فى تلك الأحاديث، فما كان موافقا لهذه الآية فهو الناسخ الثابت، وما كان مخالفا لها فهو المنسوخ المرفوع. وقد ادعى قوم أن هذه الآية وهذه الأحاديث فى قتال اللصوص دون السلطان. وهذا باطل متيقن لأنه بلا برهان، وما يعجز مدع أن يدعى فى تلك الأحاديث أنها فى قوم دون قوم، وفى زمان دون زمان. والدعوى دون برهان لا تصح. وتخصيص النصوص بالدعوى لا يجوز لأنه قول على الله تعالى بلا علم. وقد جاء عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن سائلا سأله عمن طلب ماله بغير حق فقال عليه الصلاة والسلام: " لا تعطه "، قال: فإن قاتلنى؟ قال: "قاتله "، قال: فإن قتلته؟ قال: "إلى النار" فإن قتلنى؟ قال: "فأنت فى الجنة"... أو كلاما هذا معناه. وصحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : " المسلم أخو المسلم، لا يسلمه ولا يظلمه ". وقد صحَّ أنه عليه الصلاة والسلام قال فى الزكاة: " من سألها على وجهها فليعطها، ومن سألها على غير وجهها فلا يُعطها ". وهذا خبر ثابت رويناه عن طريق الثقات عن أنس بن مالك عن أبى بكر الصديق عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وهذا يُبطل تأويل من تأول أحاديث القتال عن المال على اللصوص، فاللصوص لا يطلبون الزكاة وإنما يطلبها السلطان، فاقتصر عليه الصلاة والسلام. على رفض العطاء إذا سألها على غير ما أمر به عليه الصلاة والسلام. ولو اجتمع أهل الحق ما قاواهم أهل الباطل، نسأل الله المعونة والتوفيق ". ثم انتهى ابن حزم إلى القول بأن: "الواجب إن وقع شىء من الجور ـ وإن قل ـ أن يكلَّم الإمام فى ذلك ويُمنع منه. فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه. وهو إمام كما كان، لا يحل خلعه. ص _044(1/38)
فإن امتنع من إنفاذ شىء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق. لقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). ولا يجوز تضييع شىء من واجبات الشرائع، وبالله تعالى التوفيق ". ونحن نوافق ابن حزم فى ضرورة المحافظة على شرائع الإسلام، والقيام على تنفيذها بحرص ودقة. بيد أن الخلاف معه فى أنجع الوسائل إلى ذلك، هل يجب خلع الحاكم إذا اقترف الآثام - التى أحصاها ابن حزم- ورفض أن يقتص منه؟ أو بتعبير آخر، هل إذا استحق الخلع بسوء سياسته حل إسقاطه مهما تبع ذلك من فوضى وهرج؟ إن الأمر يحتاج إلى حكمة واتزان. فلا الأمة تصلح بالثوران الطائش، ولا هى تصلح بقبول الضيم وهوان الشأن. * * * القياس: الكتاب والسُّنَّة هى المصادر الأولى والأخيرة للعقائد والعبادات. فليس لشخص من الأشخاص، ولا مجمع من المجامع أن يضيف إلى العقائد والعبادات التى جاءت عن الله ورسوله شيئا، دق أو جل. فهى بهذا متناهية محدودة. أما المعاملات فلها شأن آخر، ذلك أن أحكام الفقه الإسلامى تتجاوز الآيات والأحاديث إلى مصادر تشريعية أخرى أرشد الإسلام إليها ووضعها فى أيدينا لنواجه بها سير الزمن، وتطور الحياة واختلاف الوقائع.. وفى مقدمة هذه المصادر: "القياس " وجمهرة العلماء تقول به، وتستخدمه فى استنباط أحكام لم ترد على لسان الشارع... والقياس: نقل الحكم من مسألة للشارع فيها نص إلى مسألة أخرى مساوية لها بسبب اتحاد علَّة الحكم فيهما. ص _045(1/39)
فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يحل لإنسان أن يخطب على خطبة أخيه، ولا أن يبتاع على بيع أخيه " أمكننا أن نقيس على ذلك. ولا أن يستأجر على استئجار أخيه، لتساوى هذه الصور كلها فى أنها اعتداء على حق الغير.. والكتاب والسُّنَّة يُحرمَّان كل مُسْكر من الأشربة ، فأى مادة تصنع بالعقول ما تصنع الخمر فهى محرمة لاستوائها مع سائر المسكرات فى علة الخطر... وهكذا. وأكثر أئمة الفقه على أن القياس حُجة مشروعة، وأن نتائجه تتلقى بالقبول والتسليم، ولهم على ذلك أدلة منقولة ومعقولة نلخص هنا أهمها: ا- فمن القرآن قول الله عز وجل: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) . ورد المختلف فيه إلى كتاب الله، وسُّنَّة رسوله يصدق على تطبيق قواعد الشرع العامة كما يصدق على إنفاذ الأحكام الجزئية. ويصدق كذلك على نقل الحكم من النظير إلى النظير. فإن القائس لا يأتى بحكم من عنده ، وإنما يعدى حكم الشارع إلى أمور أشبهت مسائل بُتَّ فيها من قبل. 2- وقال الله عز وجل : (فاعتبروا يا أولي الأبصار). بعد ما قص علينا مهالك الفاسقين وقال: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) وجه الاستدلال! بالآيات أن الله تعالى يقول: قيسوا أنفسكم بهؤلاء، إنكم إن فعلتم مثلهم حل بكم ما حل بهم. قال الأستاذ عبد الوهاب خلاف: " ولا يقال إن ذلك فى أحكام حسية، وأجزية دنيوية فهى خاصة بها، إذ مفهوم الآيات أن سنن الله مطردة فى كونه، وأن نعمه ونقمه وسائر أحكامه هى نتائج لمقدمات أدت إليها، ومسببات لأسباب ترتبت عليها.. وما القياس إلا سير على السنن الإلهى، وترتيب المسبب على سببه فى أى محل وجد فيه. ص _046(1/40)
3- عندما قال منكرو البعث : ( من يحيي العظام وهي رميم). أبطل الله عز وجل شبهتهم بدليل يعتمد على القياس إذ قال لنبيه: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) فقاس جواز الإعادة على وقوع الابتداء. 4- وجاء فى السُّنَّة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: "كيف تقضى إذا عرض لك قضاء" قال: أقضى بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد رأيى ولا آلو... فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدره- رضًا بإجابته- وقال: "الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله.. ". والقياس لا يعدو أن يكون ضربا من الاجتهاد بالرأى، أى الاستقصاء فى تحرى الحقيقة. قال الأستاذ خلاف: "قد ثبت فى صحاح السُّنَّة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى كثير من الوقائع التى لم يوحَ إليه بحكمها- استدل عليها بطريق القياس. وفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- فى هذا الأمر العام، تشريع لأمته، ولم يقم دليل على اختصاصه به. ورد أن فتاة قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن أبى أدركته فريضة الحج شيخا زمنا لا يستطيع أن يحج، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته كان ينفعه ذلك؟ " قالت: نعم. فقال: " فدين الله أحق بالقضاء". وورد أن عمر سأل الرسول-صلى الله عليه وسلم-عن قُبلة الصائم من غير إنزال، فقال له الرسول-صلى الله عليه وسلم-: "أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم " ؟ قال عمر: قلت : لا بأس بذلك! قال : "فمه "- أى حسبك هذا . . فقاس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-القبلة بغير إنزال على المضمضة بالماء فى أنها لا تفطر الصائم. وورد أن رجلا من "فزارة" أنكر ولده لما جاءت به امرأته أسود اللون، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم- : "هل لك من إبل "؟ قال: نعم. قال: "ما ألوانها"؟ قال!: حمر، قال: "هل فيها من أورق "؟ قال: نعم! قال: "فمن أين "؟ قال:(1/41)
لعله نزعه عرق. فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "وهذا- يعنى ولده الأسود- لعله نزعه عِرق... " . ص _047
5- وأفعال الصحابة تدل على أنهم يحتجون بالقياس ويقرون أحكامه ويصرفون أمورهم على ضوئه. إن الخليفة الأول رشحه لتولى الحكم بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قياس حسن. فإن اختياره إماما يُصلى بالناس عندما مرض النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل الصحابة يقولون: رضيه رسول! الله لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟ فقاسوا رياسة الدولة على إمامة الصلاة... وقال على رضى الله عنه: يعرف الحق بالمقايسة عند أولى الألباب. وجاء فى "عهد" عمر بن الخطاب لأبى موسى الأشعرى: "... ثم الفهم فيما أدلى إليك مما ليس فى قرآن ولا سُّنَّة. قايس بين الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ثم اعمد- فيما ترى- إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ". * * * * مجال القياس: إن منطق الفطرة والعقل يوجب علينا احترام القياس فى أدلة الشريعة. إذ كيف يقبح أمر ما لظهور مضرة فيه، ولا يقبح آخر تحققت فيه هذه المضرة نفسها؟ ثم أن الوقائع التى أفتى الشارع فيها بعينها محصورة، فهل تنحصر الشريعة فى حدود هذه الأحكام لينتفع بها فى مجال أوسع؟ على إن القياس- كما أسلفنا القول- يستخدم فى دائرة المعاملات فى المسائل التى يمكن للعقل أن يتعرف عللها ويدلى برأى فيها. أما العبادات، فعمادها النص وحده، إذ لا اجتهاد فيما استأثر الشارع بحكمته، كركعات الصلاة، وأيام الصيام، وأشواط الطواف، وأنواع الكفارات، وأنصبة الزكاة، وعقوبات الزنا والقذف، ورمى الجمار. قال "أبو حامد الغزالى" رحمه الله فى "الإحياء": ".. وأما رمى الجمار فليقصد الرامى به الانقياد للأمر، إظهارا للرق والعبودية، وانتهاضًا لمجرد الامتثال، من غير حظ للنفس والعقل فى ذلك. ثم ليقصد به التشبه بإبراهيم عليه السلام، حيث عرض له إبليس- لعنه الله تعالى- فى ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة، أو يفتنه بمعصية. فأمر الله(1/42)
عز وجل أن يرميه بالحجارة طردًا له، وقطعًا لأمله. ص _048
فإن خطر لك : أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه، وأما أنا فليس يعرض لى الشيطان!؟ فاعلم أن الخاطر من الشيطان، وأنه هو الذى ألقاه فى قلبك ليفتر عزمك فى الرمى ، ويخيل إليك أنه لا فائدة فيه، وأته يضاهى اللعب فلِمَ تشتغل به؟ فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير فى الرمى، فبذلك ترغم أنف الشيطان. واعلم أنك فى الظاهر ترمى الحصا فى العقبة، وفى الحقيقة ترمى به وجه الشيطان وتقصم به ظهره. إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى تعظيمًا له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس فيه ". ثم إن القياس يلجأ إليه عند فقدان النصوص، فلا يصار إليه عند وجود كتاب أو سُّنَّة. ومما تمهد تعرف أن مقادير العبادات وهيئاتها جامدة، لا تتضخم مع الزمن، بل إن الزيادة فيها- كالنقص منها- اعتداء مردود. وقد درج العلماء على إبقاء مراسيم العبادة ثابتة داخل الإطار الذى جاءت به. وعُّوا أى تغير يُقحم عليها ابتداعًا مذمومًا، لا يقدم عليه إلا متنطع... أما المعاملات- فعلى العكس- لقد أدت القواعد العامة والأقيسة وظيفتها التى أريدت لها. فأخذت تصوغ للناس فى كل عصر ما يحتاجه أهله فى ميدان الفتوى والتشريع والتنفيذ. وبذلك تضخم الفقه الإسلامى ، و اتسعت شطآنه، وظهرت فيه شتى الآراء والمذاهب والاتجاهات. وصلة هذه الآفاق الجديدة فى الفقه، بحقيقة الإسلام نفسه، هى صلة الشجرة الحافلة بأصلها الحى، أو صلة السلع المستهلكة بالآلة الخالقة المنتجة. وإذا تصورنا أن آلة الطباعة كبرت لأنها أخرجت ألوف الكتب، صَحَّ أن يُقال : إن الإسلام زاد على أصله، أو تضخم مع الزمن لأن فقهه أربى كثيرا على ما كان فى عهد الرسول والصحابة!! ص _049(1/43)
كذلك يزعم بعض المستشرقين الذين يتكلمون عن الإسلام وجذور التعصب الصليبى ضاربة فى أعماقهم. فهم- للأسف- لا يعرفونه وحيًا من السماء. وإنما هو- بزعمهم- جهد أرضى بدأ محدودًا ثم نما... والرجل الذى يدخل ميدان بحث حر وهو يرى أن النصرانية أو اليهودية دين، وأن الإسلام تلفيق، هو أكذب خلق الله فيما يدعيه من حرية عقلية وحياد فكرى. وقد عرض الدكتور "محمد يوسف موسى" لهذه النظرية الخاطئة نحو نمو الفقه الإسلامى فقال- فى رسالة عن فقه الصحابة والتابعين- يرد هذه المزاعم: "وللمستشرقين نظرتهم فى هذا التطور وأسبابه ومداه، فهم يزيدون فى أسبابه إذ يجعلون منها مالا يتطلبه الأمر، ولا يتفق ونظرتنا نحن باعتبارنا مسلمين، كما يجعلونه عاملا حتى لما لا يمكن أن يناله التطور مثل "العبادات " وما يتصل بها. إن ((جولدتسهير"- وهو أحد المستشرقين الذين لهم قدم راسخة فى الدراسات الإسلامية- يجعل من أسباب تطور الفقه- الذى بدأ مباشرة بعد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بناء عن الحاجات الضرورية فى الحياة العامة-: "أن الإسلام فى كل العلاقات لم يأت إلى العالم بطريقة كاملة "- كذلك يزعم أخزاه الله..!! وذلك مستبعد من دين يؤكد كتابه فى أكثر من آية أن النبى كان رسول الله للعالمين وللناس كافة، لا فرق بين عرب وغير عرب، ولا بين بيض وسود...! وبهذا كان النبى خاتم الأنبياء حقا، كما كانت رسالته خاتمة الرسالات الإلهية، وبها صلح للعالم على اختلاف أجناسه فيما مضى، كما يصلح لها ما بقى من الزمان ". * * * * عبادات ومعاملات: " على أنه فيما يختص بهذا المستشرق، يجب أن نقف قليلا عند قوله: "إن الحياة الفقهية الإسلامية- سواء فى ذلك ما يتعلق بالدين أو الدنيا- أصبحت خاضعة للتقنين ". هل يريد بهذا أن سُّنَّة التطور جرت على العبادات كما جرت بلا ريب على المعاملات؟ ص _050(1/44)
نعتقد أن هذا ما يريده بخاصة وهو يتكلم عن تطور الفقه تطورا عاما فيما يتعلق بالدين أو الدنيا. إنه حين يرى أن " العبادات قد نالها التطور" يكون قد جانب الحق والتاريخ. فإن العبادات بمختلف ضروبها لم تتطور ألبتة منذ عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى اليوم ولن تتطور أبد الآبدين على النحو الذى جرى على المعاملات. بمعنى أن يَجدَّ منها- أو من أحكامها- ما لم يكن موجودا أيام الرسولـ صلى الله عليه وسلم ـ . " ذلك بأن الشريعة- القرآن، والسُّنَّة معًا- قد حددت كل شعيرة منها بما لا يتحمل شيئا من الاجتهاد الذى هو سبيل التطور. واختلافات الفقهاء فى بعض صورها وأشكالها يرجع إلى أفهام فى القرآن أو الاستناد إلى بعض ما جاء عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ". كذلك يذكر فى موضح آخر: "إنه فى بلاد الشام، ومصر، وفارس: كان الناس يوفقون بين تقاليد وعادات هذه البلاد ذوات الثقافات المختلفة، وبين هذه القوانين الجديدة. وبالجملة، فإن الحياة الفقيهة الإسلامية، سواء فى ذلك ما يتعلق بالدين أو ما يتعلق بالدنيا، أصبحت خاضعة للتقنين، والقرآن نفسه لم يعط من الأحكام إلا القليل، ولا يمكن أن تكون أحكامه شاملة لهذه العلاقات غير المنتظرة كلها مما جاء عن الفتوى. فقد كان مقصورا على حالات العرب الساذجة، ومعنيا بها، بحيث لا يكفى لهذا الوضع الجديد". * * * * مناقشة هذه النظرية: "إنه غير صحيح ما ينفيه من أن الإسلام "جاء إلى العالم بطريقة كاملة، وأن القرآن كان مقصورا على حالات العرب الساذجة ومعنيًا بها، بحيث لا يكفى لهذا الوضع الجديد". إن الإسلام- والتاريخ يؤيد ما نقول، ولكن نطاق البحث هنا لا يتسع لإيراد الدلائل الواقعة- جاء إلى العالم بطريقة كاملة فى المعاش والمعاد، وقانون شامل لأمور الدين والدنيا، إلا أن ذلك فى المبادئ والأصول وهو ما يطلب من كل قانون عام ونظام شامل. ص _051(1/45)
أى أنه يحتوى على الكليات، ويترك التفاصيل والجزئيات للقائمين بالفهم والتنفيذ، مستلهمين دائمًا روح الدين وأهداف الشريعة. " ومن ثم يكون هذا القانون الإلهى قابلا للتطبيق فى كل حال متى تعمقناه وعرفنا كيف نستوحيه، ونستنبط منه ما ليس منصوصا عليه. وبذلك يبدو غير صحيح أن القرآن كان مقصورا على حالات العرب الساذجة. ولا بأس فى أن يختلف الفقهاء فى فهم نص ما، أو قبول حديث عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذلك مجال اجتهاد واسع. على أن اشتمال القرآن والسُّنَّة النبوية على كل أحكام العبادات ونحوها مما نسميه اليوم "الأحوال الشخصية" تم فى تحديد وتفصيل لا غاية وراءهما. وعدم اشتمال القرآن إلا على القليل من أحكام المعاملات، وعدم كفاية ما ورد فيها عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لاستغراق ما تفد به الحياة ـ نقول: إن هذه الظاهرة لها دلالتها الخطيرة، ومغزاها الكبير. إن فى ذلك ـ على ما نرى ـ تقييدا لنا فيما يتصل بالعبادات ونحوها، وبما ورد فى الأصلين المقدسين للشريعة : "القرآن والسُّنَّة ". وهذا ضرورى بلا ريب إذا لاحظنا أن من أحكام العبادات ما هو تعبدى لا مجال للعقل الإنسانى فيه. فلابد إذن من الرجوع لهذين المصدرين، وفيهما فى هذه النواحى كل الغناء. أما المعاملات فهى أمور دنيوية، وأحكامها تساير ما يكون من أحداث وعلاقات لا تزال تَجدُّ وتتتابع وتتغير فى هذه الدنيا التى يقول فيها الرسول عليه صلوات الله وسلامه: " أنتم أعلم بأمور دنياكم ". وهذا معناه إذن لنا بالاجتهاد فيها، ما دمنا نسير دائما فى فلك القرآن المحكم وسنة الرسول الذى لا ينطق عن الهوى". لقد أثبتنا فى هذه الصفحات تعليقات الدكتور محمد يوسف موسى على كلام المستشرق المجرى " جولدتسهير".. على أن هذا المستشرق توسع فى أكاذيبه على الإسلام وسلك مسلكا يثير الدهشة فى هجومه على ديننا . ص _052(1/46)
بل انفرد بمنهج من الإفك موغل فى الشرود والتهجم! مما جعلنا نصنِّف كتابًا خاصا فى الرد عليه وعلى من لف لفه أسميناه "دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين ". والواقع أن هناك عصابة من المتاجرين بالبحث العلمى يجب تناولها بصرامة حسما لشرها، وفضحا للقوى الاستعمارية التى تختبئ خلفها. * * * الإجماع: "اختلاف الأفهام " فى حكم ما أفر محتمل. فإذا تقرر الحكم - مرتكزًا على نقل ثابت - وارتفعت الاحتمالات التى قد تنصب لاعتراضه، ووقع الاتفاق من أهل الذكر على قبوله. فمعنى ذلك أن الحكم حق، وأن الأمة أجمعت عليه، وأن على سائر المسلمين الأخذ به دون توقف. وذلك ضرب من طاعة أولى الأمر التى أوصى القرآن الكريم بها، والتى قد تتسع دائرتها لشئون أخرى تتصل بالإجماع. قال الشيخ محمد عبده : إنه فكر فى هذه المسألة من زمن بعيد. فانتهى به الفكر إلى أن: "المراد من أولى الأمر: جماعة أهل الحل والعقد المسلمين. وهم الأمراء، والحكام، والعلماء، والقواد، وبقية الرؤساء الذين يرجع إليهم الناس فى الحاجات والمصالح العامة. فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم وجب أن يُطاعوا فيه، بشرط: - أن يكونوا منا. - وألا يخالفوا أمر الله ولا سُّنَّة رسوله التى عرفت بالتواتر. - وأن يكونوا مختارين فى بحثهم الأمر واتفاقهم عليه. - وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة. وهو ما لأولى الأمر سلطة فيه ووقوف عليه. وأما العبادات والمعتقدات، فلا يتعلق بها أمر أهل الحل والعقد، بل هى مما يؤخذ من الله ورسوله فحسب، ليس لأحد رأى فيها. ص _053(1/47)
فالعامة تتبع الخاصة، والواحد يتبع الجماعة فيما اتفقت عليه من أحكام تتصل بالكتاب والسُّنَّة، وفيما أجمعت عليه من مصالح الأمة". * * * وقد عرف العلماء الإجماع بأنه "اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى عصر ما على حكم شرعى". وكلام الأستاذ "محمد عبده " فيه ضميمة أخرى إلى هذا المراد نأخذ بها كذلك وإن لم يتعرض لها العلماء فى معنى الإجماع الذى عرفوه. ذلك أن وجوب طاعة الأئمة والانتظام فى سلك الجماعات العامة من قواعد الإسلام. وقد أمر الله عز وجل به فى آيات : (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم). (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا). ومنزلة الأمة الإسلامية كبيرة عند الله، وإعزازه لها يبعد معه أن تضل فى فهم أو تزل فى حكم. واتفاقها على غير ما يجب ـ وفيها العلماء الراسخون ـ يكاد يمتنع وقوعه. كيف والله يقول فيها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) . ويقول: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) . أى أن الله جعل المسلمين حُجة على الناس فى قبول أقوالهم، كما جعل الرسول حُجة على المسلمين فى قبولهم قوله. وبديهى أن المقصود بالمسلمين ليس هم الذين لا يحسنون صنعا ولا قولا. بل هم أهل العلم والتقى، والخبراء المعدلون فى فقه الكتاب والسُّنَّة. وهؤلاء ـ وحدهم ـ هم الذين نأخذ بتوجيههم، ونتقيد بإجماعهم، ونرى الخروج عن قديهم مزلقة إلى الانفلات عن الإسلام نفسه. ص _0 ص(1/48)
وقد جاء فى السُّنَّة تزكية لإجماع الأمة، باعتباره الحق الملزم. وهذه الآثار تقضى على النزعات الانفرادية، وتقضى على الشذوذ فى الفكر والسلوك، وتجعل الأمة صفا موحدًا فى الخدمة ما آل إليها من مواريث السُّنَّة والكتاب. فقد تظاهرت الروايات عن رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعصمة هذه الأمة من الخطأ، ووردت بألفاظ مختلفة على ألسنة الثقات. مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا تجتمع أمتى على خطأ ". و" لا تجتمع أمتى على الضلالة "- أو"على ضلالة". و" سألت ربى ألا تجتمع أمتى على الضلالة فأعطانيه " ـ وروى: "على خطأ.. ". و" يد الله على الجماعة ". و" عليكم بالسواد الأعظم ". و" من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع رِبقة الإسلام من عنقه ". و" لا تزال طائفة من أمتى على حق حتى يأتى أمر الله ". و" ستفترق أمتى كذا وكذا فرقة، كلها فى النار إلا فرقة واحدة"، قيل: ومن تلك الفرقة؟ قال : "هى الجماعة". * * * "وقد خالفت فئة من المسلمين فى عد الإجماع من أدلة الأحكام، ومنهم "النظام" الذى نظر إلى صحة الحكم من ناحية دليله، المنقول أو المعقول، دون اعتداد بما وراءه. ولذلك عرَّف الإجماع بأنه: "كل قول قامت حجته حتى قول الواحد... وهذا الرأى لا يقدح عندى فى "الإجماع " كدليل. لأنه لا إجماع على أمر وهنت حجته، بل هو يضم إلى الأحكام ـ المجمع عليها ـ أحكاما أخرى، قد تكون دونها". ص _055(1/49)
والحق أن الإجماع حجة صحيحة، وجمهور العلماء قد اعتمد ذلك. قال الشيخ على عبد الرازق: " الواقع أنهم يتحدثون عن الإجماع كأنه حقيقة واقعة، ويذكرون أمثلة منه فى مناسبات ومواضع متفرقة. ومن أمثلتهم التى يضربونها للإجماع الثابت ما يقول الآمدى من اتفاق جميع المسلمين- فضلا عن أهل الحل والعقد، الذين لا يحصر عددهم- على وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان، ووجوب الزكاة والحج. وغير ذلك من الأحكام التى لم يكن طريق العلم بها الضرورة. ومن ذلك ما قاله صاحب "مسلم الثبوت " فى تقديم القاطع على المظنون : فإنهم شاهدوا جميع المجتهدين من الصحابة والتابعين فى كل عصر يقدمون القاطع، وعُلم بالتجربة أن واحدًا منهم لم يرجع. فعُلم أن اتفاقهم وقع عليه من غير ريبة. وكذا فى أمر الخلافة، عُلم بالمشاهدة بيعة كل واحد من الصحابة الذين كانوا بالمدينة، ولم يرجعوا عن البيعة أبدا، حتى جاء من كان خارج المدينة فبايع- يعنى خلافة أبو بكر رضى الله عنه. ثم تابع من فى النواحى والأطراف، فوقع العلم بأنهم أجمعوا". ومن أمثلة ما انعقد عليه الإجماع إجماعهم على أجرة الحمَّام، وناصب الحباب على الطريق، وأجرة الحلاق، وأخذ الخراج، وبطلان زواج المسلمة من غير المسلم، وتوريث الجدات السدس، وحرمان الأحفاد من الميراث مع وجود آبائهم.. وعلى أمور أخرى كثيرة. ونقل صاحب "التحرير" عن أبى إسحاق الإسفرايينى أنه قال : "نحن نعلم أن مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة". "وبهذا يرد قول الملاحدة : إن هذا الدين كثير الاختلاف، ولو كان حقا ما اختلفوا.. فنقول: أخطأتم، بل مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة. ثم لها من الفروع التى يقع الاتفاق منها وعليها أكثر من مائة ألف مسألة. ويبقى قدر ألف مسألة هى مدار الاجتهاد والخلاف ". ص _056(1/50)
والواقع أن متابعة الإجماع فى الأمور التى وقع الاتفاق عليها أولى بالعقلاء وأدنى إلى وحدة الأمة. ثم هو توجيه لنشاطها الذهنى إلى ميادين أحق بالبحث الحر وأبرز لهمم الأفراد وذكائهم.. - ما قيمة الخلاف فى أمور غيبية؟ - وما جدوى شق العصا فى شئون العبادات؟ - وما معنى الشذوذ فى فهم نص أجمع الأئمة على معنى واحد أو معانى محدودة له؟ إن ذلك- مع كونه خطأ- لا يثمر إلا بلبلة الأذهان وتوهين القوى. أما أن ينشط امرؤ ذكى إلى كشف عظيم فى الأمور الكونية والشئون العادية، ويهتدى فى ذلك إلى ما لم يهتد إليه الأولون، فذاك ما لا بأس به ولا حرج فيه. بل ذلك ما قصَّر فيه المسلمون، وليت كل واحد منهم تمثل فى آفاق الحياة بقول الشاعر: وانى وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل قرأت كتابًا لأحد المهندسين يفسِّر فيه حقيقة الصلاة تفسيرًا لم يعرفه المسلمون طوال أربعة عشر قرنًا. فعجبت لهذا الحمق فى خرق الإجماع. وقلت: أما يجد هذا المخترع مجالا لذكائه فى ميدان الهندسة ليتقدم فيه بدل أن يشغل نفسه ويشغلنا معه بهذه التوافه؟؟.. * * * لا اختلاف فى مصادر الدين: مصادر الإسلام وأدلة أحكامه، ومثابة علمائه، وسياج أعلامه هى ما ذكرنا آنفا.. والأمة الإسلامية على اتساع الرقعة وامتداد التاريخ لا تعرف غير هذه المصادر، ولا تعترف إلا بها. وقد يقع خلاف فى العنوان لا فى الموضوع حول حجية القياس والإجماع. وهو خلاف يسير، يثير انزعاجا، ولا يخلف لجاجا. ص _057(1/51)
ذلك أن الأحكام التى أثبتها القياس مثلا ـ عند من يقولون به ـ أثبتها نظر آخر فى أدلة الكتاب والسُّنَّة عند من ينكرونه. ومن ثئم قلنا: إن الخلاف إذا نشب ففى التسمية لا فى الحقيقة، ولا مشاحة فى الاصطلاح. والذين ينكرون الإجماع لا يتوهمون أن الرأى يمكن أن ينشىء من عند نفسه حكما، لا سناد له من نصوص الدين. ثم يروجه ويسنده بالاتفاق العام... إن هذا خطأ. فإن الإجماع لا طاقة له على ذلك. والناس مهما كثروا، ليسوا منشأ حكم شرعى. وقد تبيَّن لك أن الإجماع لابد فيه من الاعتماد على كتاب أو سُّنَّة. وثمرته رفع الجدال فى الحقيقة فاستقر فهمها واستقام أمرها باتفاق أولى الأمر والنهى على ذلك. * * * بقى أن نزيل وهما قد يعلق بأفهام القاصرين: وهو أن الشيعة لهم مصادر أخرى يفهمون منها الدين ويخالفون بها جمهور المسلمين. وهذا شطط بالغ . فإن الشيعة- وهم نحو ثمانين مليونا من المسلمين- لا يفترقون عن الجمهور فى اعتماد الأصول التى شرحناها. وبعد ما سكنت فتن النزاع على الخلافة، والشقاق حول شخص الخليفة أصبح من العبث بقاء هذا التفرق. وأصبح كلام الشيعة لا يزيد عن كلام أى مذهب إسلامى آخر فى فقه الأصول والفروع. وإليك البيان منقولا عن كتاب "مع الشيعة الإمامية" للأستاذ العلامة "محمد جواد مغنية". ومنه تعرف رأيه فى الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس. ص _058(1/52)
ـ التمسك بالقرآن: " إن الإمامية أشد الناس تمسكا بالقرآن، ومحافظة عليه، وتعظيما له، ومنه يستقون عقيدتهم وأحكامهم، وبه يدفعون شبهات المبطلين، وأقوال المتحذلقين. فهو عندهم المعجزة الكبرى، والمقياس الصحيح للحق والهداية. وقد رووا أن أئمتهم أمروهم أن يعرضوا ما ينقل عنهم على القرآن، فإن خالفه فهو كذب وافتراء وزخرف وباطل يجب ضربه فى عرض الجدار". ـ لا تحريف فى القرآن: " ويستحيل أن تنال من القرآن الكريم يد التحريف بالزيادة أو بالنقصان للآية التاسعة من سورة الحجر: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). وآية فُصِّلت: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد). ونُسبَ إلى الإمامية ـ افتراءً وتنكيلا ـ نقصان آيات من آى القرآن. مع أن علماءهم المتقدمين والمتأخرين الذين هم الحجة والعمدة قد صرحوا بأن القرآن هو ما فى أيدى الناس لا غير". ـ أقسام الحديث: " وقسَّم الشيعة الحديث إلى قسمين: متواتر، وآحاد. والمتواتر: أن ينقله جماعة بلغوا من الكثرة حدا يمنع اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب. وهذا النوع من الحديث حجة يجب التعامل به. "أما حديث الآحاد فهو: ما لا ينتهى إلى حد التواتر، سواء أكان الراوى واحدًا أم أكثر. وينقسم حديث الآحاد إلى أربعة أقسام: ص _059(1/53)
ا- صحيح: وهو ما إذا كان الراوى إماميا ثبتت عدالته بالطريق الصحيح. 2- الحسن: وهو ما إذا كان الراوى إماميا ممدوحا، ولم ينص أحد على ذمه أو عدالته. 3- الموثق: وهو إذا كان الراوى مسلما غير شيعى ولكنه ثقة أمين فى النقل. 4- الضعيف: وهو غير الأنواع المتقدمة. كما لو كان الراوى غير مسلم، أو مسلفا فاسفا، أو مجهولط الحال، أو لم يذكر فى سند الحديث جميع رواته ". ـ العمل بالحديث: "وقد أوجبوا العمل بالحديث الصحيح، والحسن، والموثق لقوة السند، والإعراض عن الضعيف السند. ولكنهم قالوا: إن الضعيف يصبح قويا إذا اشتهر العمل به بين الفقهاء القدامى. لأن أخذهم بالضعيف- مع علمنا بورعهم وحرصهم على الدين وقربهم من الصدر الأول- يكشف عن وجود قرينة فى الواقع، اطلع أولئك الفقهاء عليها، وخفيت علينا نحن. ومن شأن هذه القرينة أن تجبر هذا الحديث وتدل على صدقه فى نفسه مع قطع النظر عن الراوى. كما أن القوى يصبح ضعيفا إذا أهمله الفقهاء القدامى. فإن عدم علمهم به مع أنه منهم على مرأى ومسمع يكشف عن وجود قرينة تستدعى الإعراض عن هذا الحديث بالخصوص، وإن كان الراوى له صادقًا. ومن علامات وضع الحديث عند الشيعة، أن يكون مخالفا لنص القرآن الكريم. أو لما ثبت فى السُّنَّة النبوية أو العقل، أو كان ركيكا غير فصيح. أو يكون الحديث إخبارا عن أمر هام تتوافر الدواعى لنقله. ومع ذلك لم ينقله إلا واحد، أو يكون الراوى مناصراً للحاكم الجائز". ـ الإجماع: نشأ الإجماع عند المسلمين فى المدينة المنورة، وبعد الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وبين الصحابة خاصة. ففى عهد الرسول معلوم أنه لا مرجع سواه فى الأمور الدينية. ص _060(1/54)
وفى عهد الصحابة لا فقه ولا فقهاء إلا فى المدينة أو منها. فكان من السهل معرفة آراء المجمعين من ذوى القول، لقتلهم، والعلم بمكانهم ومكانتهم. وبعد أن اتسعت البلاد الإسلامية وصار فى كل بلد حلقات للدرس، وأقطاب للشرع أصبح الحصول على الإجماع متعذرا أو متعسرا، خاصة وأن التأليف والتدوين لم يكن معروفًا ولا مألوفا فى الصدر الأول. وللإجماع عند الشيعة أقسام عديدة، ولكل قسم فروع. ونلخص الكلام- هنا- عن أهم الأقسام التى تصلح أصلا للشرع ودليلا للفقيه. وينقسم الإجماع باعتبار الزمان إلى ثلاثة أقسام: 1ـ إجماع الصحابة: إجماع الصحابة بأن تتفق كلمة الأصحاب جميعًا على حكم شرعى، وقد أوجب أهل السُّنَّة طو الشيعة الأخذ بهذا الإجماع واعتباره أصلا من أصول الشريعة. ولكنهم اختلفوا فى الدليل الدال على اعتباره ولزوم الأخذ به. فقال الشيعة: هو حُجة، لوجود الإمام مع الصحابة. فقال أهل السُّنَّة : هو حُجة، لحديث: "لا تجتمع أمتى على ضلالة". وعلى أى الأحوال، فإن النتيجة واحدة، وهى ضرورة العمل بإجماع الأصحاب عند جميع المذاهب. ـ اجتهاد أحد الصحابة: أجمعت المذاهب الأربعة على العمل بقول أحد الصحابة إذا لم يقم على خلافه دليل من الكتاب أو السُّنَّة النبوية لأنه أعلم بمراد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفضل رفقته له، ومشاهدته لعصر التنزيل. فاجتهاده يُقدَّم على اجتهاد المتأخر عنه. وذهب الغزالى، والآمدى، والشوكانى: إلى أن قول الصحابى ليس بحُجة، لأن الصحابة أنفسهم اتفقوا على مخالفة كل واحد منهم للآخر فى الاجتهاد. وإذا كان قول الصحابى غير حُجة عند الصحابة أنفسهم، فكيف يكون حُجة بالقياس إلى غيرهم؟ وهذا الرأى يتفق مع ما عليه الشيعة فتوًى ودليلا. ص _061(1/55)
2- إجماع العلماء فى عصر غير عصر الصحابة: اتفاق العلماء فى الأمكنة والبلدان الإسلامية فى عصر غير عصر الصحابة والخلفاء الراشدين- له مكانته عند الشيعة وهو ملزم للأمة. أما الإجماع الإقليمى (أى الاتفاق الخاص) كإجماع أهل العراق أو أهل الحجاز، فليس موضوعًا للبحث، لأنه ليس إجماعًا فى واقع الأمر. 3- إجماع العلماء فى جميع الأعصار والأمصار: إذا أجمع علماء المذاهب الإسلامية فى جميع الأعصار والأمصار من عصر الرسول الأعظم إلى يومنا هذا على أمر فلا يسوغ مخالفتهم بحال!. بل يصبح الحكم ضرورة دينية حتمية، ومَن يخالفه يخرج عن الأصول الإسلامية. أما إذا أجمع علماء مذهب، فإنه يكون الحكم ضرورة مذهبية. ومَن يخالفه يخرج عن الأصول المذهبية، لا الإسلامية. * * * * دليل العقل: على المجتهد أن يستخرج أحكامه- قبل كل شىء- من أحد الأدلة الثلاثة: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع. فمع وجود واحد منها لا يبقى مجال لدليل العقل. وإذا فُقدت جميعها لجأ الفقيه إلى الدليل الرابع. وكان هذا الدليل فى الصدر الأول "فكرة المصلحة" التى تختلف باختلاف الأنظار والآراء. فلم يكن الأصحاب يعرفون اصطلاحات: القياس، والبراءة، والاستصحاب، وما إلى ذلك من الأصول التى عُرفت بعد عصر الصحابة. بل كان الصحابى إذا عرضت له مسألة اجتهد برأيه على أساس المصلحة وروح الإسلام، غير مقتد بضابط خاص أو قاعدة معينة. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها هذه الفتوى للخليفة الثانى عمر بن الخطاب رضى الله عنه : ص _062(1/56)
روى مالك أن الضحاك بن قيس ساق خليجا له، فأراد أن يمر فى أرض محمد بن مسلمة فأبى، فقال له : تمنعنى ، وهو لك منفعة! تسقى منه ولا يضرك.. فأبى محمد. فكلَّم فيه الضحاك عمر بن الخطاب. فأمر عمر محمدا أن يُخلى سبيله. فقال محمد: لا. فقال له عمر: لا تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك. فقال محمد: لا. فقال له عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك. وبعد عصر الصحابة تركز الاجتهاد على أصول خاصة، وقواعد معيَّنة. وقد اختلفت كلمة المذاهب الإسلامية فى تعيين هذا الدليل الرابع. * * * * مذاهب أهل السنة والدليل الرابع: قال الحنفية والمالكية: هو القياس، والاستحسان، والاستصلاح. وقال الشافعية: هو القياس فحسب ، ولا يعتمد على الاستحسان ولا على الاستصلاح. وقال الحنابلة: هو القياس والاستصلاح. والقياس هو إلحاق أمر غير منصوص عليه بآخر منصوص عليه، إلحاقه به فى الحكم الشرعى، لاتحاد بينهما فى العلة. مثلا.. نصَّ الشرع على أن الجدة لأم ترث، ولم ينص على الجدة لأب. فتورث الجدة لأب قياسا على الجدة لأم لأن كلتيهما جدة. وهذا أشبه شىء بقياس المساواة. والشيعة ينكرون القياس. وهم فى ذلك كفقهاء أهل الظاهر من أهل السُّنَّة. ولابن حزم هجوم عنيف على القياس والآخذين به، وإنكار القياس أو إقراره ملحظ علمى لا يخدش الاعتقاد. ص _063(1/57)
وسبق أن قلنا: إن الخلاف فى أمره يرجع إلى العنوان لا إلى الموضوع. ولا بأس إن نقلنا كلامًا آخر للشيخ محمد تقى القمى من علماء الشيعة فى إيران تناول فيه: * مصادر الأحكام عند الإمامية: فقال: "مصادر ا لأحكام عند الإمامية أربعة: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والعقل، أو الأدلة العقلية". ـ الكتاب: "من أكبر نِعَم الله على المسلمين، أنهم لا يختلفون فى كتابهم. فالمسلم فى أقصى المغرب لا يختلف كتابه عن المسلم فى أقصى المشرق. والمصاحف فى بلاد العرب هى نفسها فى كل بلد آخر، لا تختلف فى آية، ولا خط، ولا رسم حرف. فإن كتبت كلمة "رحمت " بتاء مفتوحة، ألفيت ذلك فى كل مصحف بأى أرض من بلاد المسلمين. لا فرق بين عربى وعجمى، أو سُنِّى وشيعى. وفوق هذا الاتفاق الكامل الشامل فى كتاب الله، يجمع المسلمون على أن كتابهم هو حبل الله المتين، وأحد الثقلين، والأصل الأول للشريعة". ـ السنة: "لا يختلف الشيعى عن السٌّنِّى فى الأخذ بسٌّنَّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم). بل يتفق المسلمون جميعًا على أنها المصدر الثانى للشريعة. ولا خلاف بين مسلم وآخر فى قول الرسول وفعله وتقريره سُنَّة لابد من الأخذ بها. إلا أن هناك فرقا بين مَن كان فى عصر الرسالة يسمع عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وبين مَن يصل إليه الحديث الشريف بواسطة أو وسائط. ومن هنا جاءت مسألة الاستيثاق من صحة الرواية، واختلفت الأنظار. أى أن الاختلاف فى تقدير الطريق الموصل، وليس فى السُّنَّة نفسها. وهذا ما حدث بين السُّنَّة والشيعة فى بعض الأحايين. ص _064(1/58)
فالنزاع صغروى لا فى الكبرى. فإن ما جاء به النبى لا خلاف فى الأخذ به. وإنما الكلام فى مواضع الخلاف ينصب على أن الحديث الفرد المروى: هل صدر عن الرسول أو لا؟ وإذا كان ينقل عن أئمة المذاهب فى بعض المسائل روايتان، أو روايات مع قرب عهدهم بنا نسبيا، وإذا كان الإمام على- وهو عند الشيعة الإمام المنصوص، وعند أهل السُّنَّة إمام يُقتدى به- ينقل عنه فى المسائل الخلافية روايتان مختلفتان: إحداهما أخذ بها أهل السُّنَّة، والأخرى أخذت بها الشيعة. وإذا كنا نطلب الاستيثاق فى أقوال الأئمة وما يروى عنهم، فطبيعى أن الأمر بالنسبة للسُّنَّة النبوية يحتاج إلى دقة واستيثاق أكثر. إن كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تشريع وهو المشرع الوحيد للمسلمين. حلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة. والوصول إلى نص عبارته- بحيث يُعرف إن كان حديثه مطلقا أو مقيدا، عاما أو خاصا- يتطلب إلمام الراوى بفنون التعبير، حتى لا يترك قرينة أو خصوصية لها تأثير فى بيان الحكم. فلا خلاف إذن فى أن السُّنَّة هى الأصل الثانى من أصول التشريع، إنما الخلاف فى ثبوت مروى أو عدم ثبوته. وهذا ليس خاصا بأهل السُّنَّة والشيعة، وإنما يوجد بين مذاهب أهل السُّنَّة بعضها وبعض. فكم من مروى ثبت عند الشافعى ولم يثبت عند غيره. ومع أن الجمهور يأخذون برواية أى صحابى. ص _065(1/59)
والشيعة تشترط أن تكون الرواية عن طريق أئمة أهل البيت، ولأسباب عدة: منها اعتقادهم أنهم أعرف الناس بالسُّنَّة، فإن النتيجة فى أكثر الأحيان لا تختلف. فهذه هى الصلاة لم يرد عنها فى القرآن تفصيلات. وكل ما جاء من ذلك كان عن طريق السُّنَّة ونقل ما فعله الرسول فى صلاته، ومع هذا فإنا نرى الخلاف فيها بين الفريقين يسيرا على كثرة ما فيها من الأركان والفروع، وكذلك الحج وغيره ". ـ الإجماع: " أما الإجماع فهو أصل من أصول التشريع عند الإمامية كما هو عند غيرهم، ويُذكر بعد الكتاب والسُّنَّة كأصل ثالث. وإن إجماع العلماء على حكم يكشف فى الحقيقة عن حُجة قائمة فيه: هى النص من المعصوم. ويورث عادة القطع بأن هذا العدد من العلماء المجتهدين مع ورعهم فى الفتوى، لولا هذه الحُجة ما أجمعوا على رأى واحد. فإذن هناك حُجة، وحجية الإجماع ترجع إليها، والإجماع يكشف عنها". ومضى فضيلته يتكلم عن الدليل الرابع. وهو عندهم العقل. ولا مجال هنا لشرح ما لدى القوم من قضاياه وفروعه. * * * وأرى بعد ذلك الاستعراض، أن مسافة الخلف من الطائفتين قصيرة، وأن الحريص على حقيقة الإسلام ووحدة أمته يستطيع أن يقطع هذه المسافة بخطا سراع. وأن استبقاء الجفاء بين أهل السُّنَّة والشيعة لا يعتمد على دين أو عقل. ص _066(1/60)
2- اختراع فى الدين إن العالم البصير بأصول الإسلام وفروعه لن يخطئه إدراك ما انضاف إلى هذا الدين، من محدثات ليست منه، شابت صفاءه، ونفَّرت منه، وأساءت إلى حقيقته وصورته جميعا. وهذه الزيادات التى ابتدعها الناس، وضموها إلى ما شرعه الله لعباده، تبعث على وجوه من التأمل. لماذا يأتى الإنسان بجديد من عنده ، يخلطه بالدين ليكون له ما للدين من قداسة!؟ لنقص رآه فى التعاليم التى أنزلها الله إن كان ذلك هو الباعث على الابتداع فهو حمق كبير. ذلك أن الله تعالى قال فى كتابه: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). فمَن زعم أن فى تعاليم الإسلام قصورًا أو نقصًا، يجعلها بحاجة إلى زيادة حتى تصلح لتهذيب النفوس، وإسعاد الجماعات، فهو جَهول كفور. وأغلب الظن أن جمهور المبتدعين يستحدث ما يراه غلوا منه فى الدين لا اتهاما له بالنقص. والغلو- فى أمر ما- مزلقة إلى الخروج منه. وكم من مبالغة ضاعت فيها الحقيقة وثبت بها الباطل. غالى النصارى فأشركوا، وغالى غيرهم فحَّرم الحلال. فنزل فى الأولين قول الله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) ص _067(1/61)
ونزل فى غيرهم: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ) ثم أمر الله عباده الصالحين أن يلتزموا طريقًا واحدة لا يحيدون عنها قيد أنملة. فإنهم لو حادوا عنها زاغوا، ورمتهم النوى فى مطارح بعيدة (وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) . وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أحاديث كثيرة بضرورة التمسك بسُّنته واتباع نهجه. روى مسلم عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فى خطبته: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". وعن عبد الله بن مسعود ـ يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هما اثنتان: الكلام، والهدى ، فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدى هدى محمد. غير أنكم ستحدثون ويحدث لكم، فكل محدثة ضلالة، وكل ضلالة فى النار". وصور هذا الإحداث الذميم تتفاوت ضآلة وضخامة، ويتفاوت كذلك ما ينشأ عنها من عوج وضرر. وقد تربص العلماء بالتافه منها ينكرونه، حتى لا تكون الاستهانة به والغض من شأنه باباً إلى الابتداع الواسع فى العقائد والأحكام والعبادات والأخلاق "ومعظم النار من مستصغر الشرر". رُوى أن رجلا عطس بجانب عبد الله بن عمر فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ! فقال عبد الله بن عمر: ما هكذا علَّمنا رسول الله أن نقول إذا عطسنا، بل علمنا أن نقول: الحمد لله. فابن عمر أبى السكوت على زيادة لا يرى البعض بها بأسًا، ورأى من واجبه أن يرشد الرجل إلى الوقوف على حدود السُّنَّة الواردة، فلا يقصر عنها ولا يزيد عليها. ولو فتح الباب فى هذه الزيادة، لاستحدث المتنطعون مقالات طويلة فيما يقول العاطس ، ومقالات أطول فى تشميته، ثم يتطرق الاستحداث من هذه الشئون اليسيرة إلى شئون أجَلَّ. ص _068(1/62)
والمبتدع فى الدين يعطى نفسه منزلة ليست له. فإن المشرع الفرد لعباده جميعًا، هو الله عز وجل. فكيف يجىء أحد- مهما كانت نيِّته ومنزلته- ليضم إلى أحكام الله أحكامًا من عند نفسه. ويقول: هذا حسن ينبغى فعله ويقبح تركه فى أمر ما أنزله الله ولا استته نبيه!؟ (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم). إن هذه النزعة إلى الألوهية يعدو بها الإنسان قدره ويجاوز حده. ولذلك اعتبر الرضا بها والسير معها اختلاف أرباب مع الله، يحلون ما حرم ويحرمون ما أحل. روى الثعلبى عن عدى بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى عنقى صليب من ذهب، قال: يا عدى.. اطرح عنك هذا الوثن. وسمعته يقرأ فى سورة براءة : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله). فقلت: يا رسول الله.. لم يكونوا يعبدونهم! فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فيحرمونه، ويحلون ما حرم الله فيستحلونه "؟ فقلت: بلى. قال: "ذلك عبادتهم". قال الألوسى: والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة، الذين تركوا كتاب الله وسُّنَّة نبيه لكلام علمائهم ورؤسائهم. والحق أحق بالاتباع، فمتى ظهر وجب على المسلم اتباعه.. ولا شك أن التزيد على الدين ميل مع الهوى، وأن ترك الاتباع الدقيق جور عن الطريق: ( فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون). والذين يختلقون هذه المحدثات يحملون وزر ضلالهم الخاص، وتضليل الذين ينخدعون بهم ويستجيبون لهم. وفى الحديث: " من سنَّ سُنَّة سيئة كان عليه وزرها ووزر مَن عمل بها " . ص _069(1/63)
وقال الله عز وجل: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ..) لكل عبادة شعب من القلب تنزل به وتستقر فيه، ولها جهد يتعلق بها ويبذل فى أدائها. ولن يكون للمرء قلبان، ولا يمكن أن تهبط عليه قوى غير ما أعد له وطبع فيه. ومن ثم فهو لا محالة بين وضعين: إما أن يتجه بقلبه وقواه إلى السُنَّة، وإما أن يتجه بهما إلى البدعة. وأى نشاط فى هذين النهجين فهو على حساب الآخر. والذين يشتغلون بالمحدثات ويتهاوون عليها يضيعون من حقائق الإسلام الصحيح، ومن فرائضه المحكمة بقدر ما عناهم من خرافات واستهواهم من بدع. فليس خطر البدعة أنها وسخ يشوب وجه الحقيقة فحسب. بل هى مرض يفقد الدين عافيته وينقص قلبه وأطرافه. ولذلك قال ابن مسعود: الاقتصاد فى السُنَّة خير من الاجتهاد فى البدعة، وقال: ما أحدث الناس بدعة إلا أضاعوا مثلها من السُنَّة.. وروى أبو داود عن معاذ بن جبل أنه قال يوما: إن من ورائكم فتتا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر. فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعونى وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعى حتى أبتدع لهم غيره!! فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق وكلمة "معاذ" هذه تفسر لنا كيف أن بعض أهل الدين- وخصوصا المتصوفة- ركبوا أورادًا وأذكارا للعامة، كما يركب الطبيب الجاهل أدوية سيئة، فيقبل عليها المفتونون بصلاح رؤسائهم، ويضيعون أوقاتهم سدى فى أعمال ما طلبها الله فى فريضة أو نافلة. وعلى قدر ما ينشغلون به فى هذه الأذكار المبتدعة ينسون من مطالب الإسلام الحقة ما يشفى نفوسهم ويرفع رءوسهم. ص _070(1/64)
أخرج أبو داود أن رجلا أرسل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر فكتب إليه : "أما بعد، أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد فى أمره، واتباع سُنَّة نبيه، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سُنَّته وكفوا مؤنته. فعليك بلزوم السُنَّة فهى لك- بإذن الله- عصمة. ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها. فإن السُنَّة إنما سَنَّها مَن قد علم ما فى خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق (يعنى التقعر). فارض لنفسك ما رضى به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر قد كفوا... ولهم- على كشف الأمور- كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى"... وهؤلاء الذين عناهم عمر بن عبد العزيز، هم صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المستمسكون بهديه، المقتفون أثره دون ميل أو جور. ويوجد عند بعض الناس شغف بالابتكار والتجديد. وهذا أمر يقره الإسلام ويحتفى به. بيد أن ملكة الاختراع لها ميدان تستطيع الانطلاق فيه ولا حجر عليها، لديها شئون الدنيا وآفاق الحياة تعالجها، وتفترض فيها، وتبتدع ما شاءت. وقد استغل الأجانب ملكاتهم فى هذه الأنحاء، فأجادوا وأفادوا. أما نحن فبدل أن نجمد على شئون الدين ونخترع فى شئون الدنيا، قلبنا الآية، فاخترعنا فى شئون الدين ما لا معنى له، وجمدنا فى شئون الدنيا. فطار الناس بين الأرض والسماء وما زلنا ندب على الثرى ماذا لو اتبعنا فيما أنزل الله، وابتدعنا فيما وكل إلى عقولنا وجهودنا أليس ذلك أرعى لديننا وأجدى على حياتنا لا يجوز إذن لامرئ- مهما رسخ علمه ونضجت تجربته- أن يستحسن عملا من الأعمال فيضفى عليه طابع الدين، ويروجه بين الناس على أنه من عند رب العالمين، ويوهم الأغرار بأن فعله مثوبة وتركه تقصير. ص _071(1/65)
إن هذا هو الافتراء بعينه، مهما كانت نية المستحسن، ومهما كانت طبيعة العمل الذى أضافه... وقد وردت آثار، أساء البعض فهمها، إذ ظن أنها تعطيه حق تحسين أفعال معينة، وترغيب الناس فى إتيانها، بوصفها قربات مشروعة. من ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " مَن سَنَّ سُنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.. ". ومنه أيضا ما نسب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ". والحديث الأولى من رواية الإمام مسلم، وهو لا يفيد- بتاتا- أن الاختراع فى الدين جائز. إذ ليست هناك سُنَّة حسنة إلا ولها من كتاب الله وسُنَّة رسوله معتمد. وهذا الحديث يشبه قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى حديث آخر : "من دعا إلى هدى فله أجره وأجر من عمل به لا ينقص من أجورهم شيئا.. ". وقوله: " الدال على الخير كفاعله ". فالهدى المدعو إليه : هو السُنَّة الحسنة.. هو الخير الذى يرضاه الله لعباده. وليس من الهدى أن تستدرك على الله شيئا فاته! أو على رسوله أمرا نسيه! نعم، هناك إرشادات يتسع نطاق تنفيذها، وتتعدد صور إقامتها، وتتجدد على مر العصور طرائق الأخذ بها. ومثل هذا النوع من الإرشاد مجال لتسابق الهمم، وإبداع الوسائل. وليس يوصف بأنه اختراع فى الدين، أو خروج على سننه القويمة، ولو لم يفعله السلف المقتدى بهم، لأن طبيعة عصرهم لا تتطلبه أو لا تلائمه. فالسُنَّة الحسنة- بعد ما تمهد- يجب أن تكون وحيا من الله، أو هديا لنبيه، أو عملا يمشى فى هذا المنهج، ويستقى من ذلك النبع. أما كلمة: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " فليست من حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعنها من كلام عبد الله بن مسعود. ولهذا الصحابى الجليل منزلة فى الفقه، تجعلنا نحتفى بما يقول. ص _072(1/66)
ومن المتيقن أن ابن مسعود لا يقصد بهذه الكلمة إعطاء الأمة حق الزيادة فى كتابها أو النقص منه. بل إن ابن مسعود- عليه الرضوان- كان أشد الصحابة حساسية بمسارب الهوى فى السلوك العام. ولذلك وقف للبدع بالمرصاد، يطارد منها ما هان وما جل، ويسارع إلى المحدثات وهى وليدة- لما تشتد- فيقتلها فى مهدها. فمن السخف تصيد كلمته هذه للاستدلال بها على جواز الابتداع فى الدين. ولعل المراد منها تزكية ما ينعقد عليه إجماع الصحابة ومتبعيهم بإحسان على رجاء أن الحق المقبول عند الله لن يفوت عامتهم. أو المراد بها ما يخدم به الإسلام، وتحقق به غاياته الكبرى من رسائل لم توضع لها فى الشريعة ضوابط معينة. أو لعله يعنى الشئون العادية التى لا نظر- من ناحية الدين- إلا إلى النيات التى تلابسها. * * * إن قبول الزيادة فى الدين- بدعوى أنها حسنة- كقبول الحذف من تعاليمه بدعوى أنها رديئة، أو غير مسايرة للتطور، وكلا الأمرين ضلالة. فما يقبل من أحد أن يهدر شيئا شرعه الله، كما لا يُقبل من أحد أن يشرع شيئا سكت الله عنه. وفى الحديث: " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها". قال مالك بن أنس: مَن استحسن بدعة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة. وقال الشافعى : لو رأيت صاحب بدعة يمشى على الهواء ما قبلته. قال: مَن حسَّن فقد شرع . وقال: ما حدث- مخالفا كتابا أو سُنَّة أو أثرا أو إجماعًا- فهو بدعة ضلالة. وقال وكيع : لأن أزنى أخف علىَّ من أسأل مبتدعا.. ص _073(1/67)
وذلك أن الأديان لم تعجز عن أداء رسالتها بسبب عصيان الناس لها، قدر ما عجزت عن ذلك بسبب العبث فى نصوصها، والميل بها مع الهوى، ودس الأباطيل عليها، ليعتنقها الناس عن غرور وغفلة. وقد صان الله القرآن الكريم، فلم يلحقه تحريف أو تبديل. وصان السُنَّة فقيَّض لها من النُّقاد الخلصاء، من رد عنها المفتريات، وباعد عنها كيد الوضاعين. وصان الإسلام كله، إذ نَصَب له فى كل جيل حراسًا يحمون حقيقته من الخرافة، ومعدنه النقى من الأخلاط الدخيلة. وقد بادت ديانات قديمة، إذ حرفت الأهواء أصولها، وأبقت منها ما يحمل اسمها، ولا يمتُّ إليها بصلة.. أما الإسلام. فمهما شاعت البدع فى أمته، فإن الكشف عن سوآتها يلاحقها من العلماء الراسخين. وبذلك يتمحض الحق، وينقمع الباطل. فلو قدِّرت لهذا الباطل حياة فإنه يحيا مغموصًا مزريا عليه. ولقد رأى الأئمة أن واجبهم الأول تمسيك الناس بحقائق الإسلام مجردة، كما وردت عن مبلغها الأول صلوات الله وسلامه عليه. قال ابن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يقبض. وقبضه أن يذهب بأصحابه، عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدرى متى يفتقر إلى ما عنده؟ إنكم ستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وإياكم والتعمق. وعليكم بالعتيق (1). وقال عمرو بن يحيى: سمعت أبى يحدِّث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد. فجاءنا أبو موسى الأشعرى فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج . ص _074(1/68)
فلما خرج قمنا إليه جميعا. فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إنى رأيت فى المسجد آنفا أمراً نكرته! ولم أر- والحمد لله- إلا خيرا.. قال: فما هو؟ قال: إن عشمت فستراه!! قال: رأيتُ فى المسجد قومًا حلقًا جلوسا ينتظرون الصلاة. فى كل حلقة رجل. وفى أيديهم حصى. فيقول: كبِّروا مائة… فيكبِّرون مائة. فيقول: هللوا مائة! فيهللون مائة! ويقول: سبِّحوا مائة، فيسبِّحون مائة. قال: فماذا قلَت لهم؟ قال!: ما قلتُ لهم شيئا انتظار رأيك وانتظار أمرك!! قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم؟ وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم شىء؟ ثم مضى ومضينا معه.. حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فتوقف عليها. فقال : ما هذا الذى أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شىء. ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع ما هلكتكم، صحابة نبيكم متوفرون، وهذه ثيابه لم تُبْل، وآنيته لم تُكسر، والذى نفسى بيده: إنكم لعلى ملِّة هى أهدى من ملِّة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة قالوا: والله- يا أبا عبد الرحمن- ما أردنا إلا الخير! قال: وكم من مريد للخير لم يصبه؟! إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حدثنا أن قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدرى لعل أكثرهم منكم. ثم تولى عنهم... فقال عمرو بن سلمة : رأيت عامة أولئك الحلق يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج!. وقال عبد الله بن مسعود أيضا: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم. * * * إن عبد الله كره هذه الزيادات التى لم يألفها على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ورمق فى صورها المحدثة ما رابه. رمق فيها بذرة الغلو التى نمت فى نفوس هؤلاء المتقعرين فى ذكر الله حتى تأدت بهم إلى التطرف فى الحكم، واتهام المؤمنين بالكفر. ص _075(1/69)
فقاتلتهم الجماعة وهم خوارج على أمرها- حتى تخلصت من شوكتهم، وإن لم تخلص من فكرتهم. ورمق فيهم بذرة الاختراع التى حوَّلت مجالس الذكر فيما بعد إلى ساحات يرقص فيها الرعاع، ويتواجدون بدعوى أن حضرة القدس جذبتهم... والبدع لا يُستكثر فى صدها هذا الصوت القاسى. فإن العوام سرعان ما يدعون الحق الصراح والدين الخالص، ليقبلوا على هذه الشوائب وكأنها ضالتهم المنشودة. وإنك لتستغرب إذ ترى هذه الشوائب الدخيلة يتطوَّر بها الجهل والإلف والتعصب حتى تحسب هى الدين، ويحسب غيرها الهوى! واسمع عمر بن عبد العزيز وهو يعانى الشدائد من محاربة البدع ـ يقول: إنى أعالج أمرا فنى عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمى، وهاجر عليه الأعرابى حتى حسبوه دينا، لا يرون الحق غيره... فإن كان هذا تطور البدع فى عهد عمر بن عبد العزيز، فكيف بما بعده؟ * * * ما هى البدعة؟ عرف العلماء البدعة بأنها: "طريقة فى الدين مخترعة، تضاهى الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، أو يقصد بالسلوك عليها المبالغة فى التعبد لله ". والاختراع: الإتيان بجديد، ليس للناس به عهد.. فعلماء الغرب الذين توصلوا إلى إحداث الطائرة والقاطرة والراديو مخترعون، لأنهم جاءوا بما لا يعرفه الأوائل، واختراعهم فى هذا المجال محمود. أما الذين يخترعون أعمالا أو أقوالا. ويزوقونها للناس حتى يحسبوها دينا- فهم المبتدعون الذين جاءوا من عند أنفسهم بما لم ينزِّل الله، ولم يُعلِّم نبيه. فأصل الابتداع خلق ما ليس له مثال سابق ولا دليل قائم. ومنه سُمِّى الله عز وجل ص _076(1/70)
"البديع " لأنه اخترع هذا العالم الفخم الضخم غير مسبوق إليه بشىء يشبهه: (بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون). والذى يخترع شيئا ما ـ يجعله دينا ـ يجب أن يسبك خديعته ببطلان، يخيل للرائى أن باطله حق. ومن ثم فهو يحرص على مضاهاة الشريعة فى المظهر. وإن خالفها فى الجوهر. وما أشبه مروجى البدع بمزيفى النقود. إن عصابات التزييف تجتهد ـ إذا زوَّرت أوراقا مالية ـ أن تضفى عليها من الألوان والتقاسيم، ما يجعلها قريبة من الأصل، حتى تنطلى على السذج. وعندما تزيف الدراهم أو الدنانير لا ترى حرجا من استجلاب قدر من المعدن النفيس، إلى أقدار من المعادن الدنيئة، ثم تصوغ خلطها فى الأشكال والنقوش التى تضاهى النقد الصحيح، حتى يلبس به المزيف ويروج. وقد كان أئمة الإسلام الأولون حراصا على تتبع البدع ومصادرتها، حرص الحكومات المعاصرة على إتلاف النقد المزيف، وعقاب المجرمين الذين يصنعونه وينشرونه. وسنادهم فى هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "، وقوله كذلك: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ". وكلا الحديثين حرب على البدع: الأول على اختراعها، والآخر على إقرارها ومتابعتها. ولو أن المحدثات فى دين الله لاقت عُشر المقاومة التى يلقاها تزييف النقد لبقى جوهر الإسلام نقيا زكيا، يرغب فيه ويستمسك به. ولكن المؤسف أن الناس أهمهم أمر معاشهم، فصانوه جهدهم مما يعكره. أما شأن الدين فكان أنزل قدرا مما ينبغى له، فراجت البدع، وكاد الحق يذوب خلالها ويتلاشى... وحرص أعداء الإسلام على التمكين لهذه البدع وإظهارها للأعين الجاهلة كأنها الدين كله. ومن ثم تنصرف عنه الأذواق السليمة والفطر الخالصة. وإنك لتلمح الشر المبيَّت للإسلام وأهله، مما نشرته صحيفة " التيمس " أخيرا، إذ قالت- تحت عنوان "الاستعمار والإسلام ": " يتقدم الإسلام بخطى سريعة، فى غرب ص _077(1/71)
أفريقيا، حتى إن بعثات التبشير والأوروبيين على السواء ليبدون قلقا شديدا، مما يترتب على انتشار الإسلام فى المنطقة كلها. وكان الاعتقاد قديما أن الإسلام هو دين شعوب الصحراء! وقد يتجه نحو الخضر، ولكن يبدو أن سير الأمور يدل على أن دائرة الإسلام تتسع. وما كان أحد ليصدق أنه يستطيع اختراق المناطق الاستوائية، وأن يصل إلى الجنوب كما حدث فى "سيراليون " و"الساحل العاجى" و"ساحل الذهب " و"داهومى ". ويخشى رجال الإدارة على الأخص من أن انتشار الإسلام فى هذه البقاع يتبعه اتصالات بالقاهرة وبالعالم العربى. ويختلف المفكرون الغربيون فى اتجاههم الفكرى نحو مستقبل الإسلام فى إفريقيا. فمن قائل: إن تقدم الإسلام لن يضر المصالح الاستعمارية، ما دام يسير فى الخطوط التى رسمها المستعمر. بينما يرى آخرون ضرورة الحد من تقدم الإسلام عن طريق نشر البدع والخرافات فيه، حتى يكون هذا بمثابة حائل يقف أمام ضغط الإسلام المتزايد". أرأيت كيف تقوم البدع حجر عثرة أمام الإسلام، وكيف توهن قوته، وتمزق دولته!؟ والخاصة البارزة فى هذه البدع، أنها أشبه ما تكون بالغش التجارى. الغش الذى يشوب مختلف الأصناف بمواد رديئة، ثم يدفعها إلى الأسواق على أنها أصناف لا عيب فيها... فالذى يريد إقحام شىء على الإسلام لا يختلق أمرا ظاهر النبو مكشوف العار، ثم يزعم أنه دين. بل إنه يحتال على بدعته بلون من التلبيس، حتى يجعلها مضاهية للشريعة أو متصلة بقواعدها ونصوصها، اتصالا باطلا... ألا ترى إلى المشركين لما أرادوا تسويغ عبادة الأصنام كيف زعموا أنها وسائط إلى الله تعالى !؟ ولما كانوا بالكعبة عرايا كيف احتجوا لذلك بأنهم لا يبغون الطواف بملابس عصوا الله فيها!؟ ص _078(1/72)
وأظهر ما تكون البدع فى قسم "العبادات " لا مانع من تسربها إلى جملة التعاليم التى جاء بها الإسلام. إذ الإسلام- كما هو ثابت من نصوصه- عقائد وعبادات وأخلاق، وسياسات، وشرائع شخصية ومدنية وجنائية... إلخ. والغلو فى التقرب إلى الله أول ما يتجه إلى صور الطاعة المعروفة بالزيادة والتكلف. وقد يتجه كذلك إلى تعاليم الإسلام الأخرى، فيضع من تقاليد والقوانين ما يريد ليجعله دينا، وهو ليس إلا الهوى المبين. وعلى هذا فإن الابتداع يشمل العادات والعبادات جميعا. لكن الاختراع فى قسم العادات- إذا لم يكن مضاهيا للدين ولا متخذا سُنَّته وغايته- فليس من قبيل البدع، بل ينظر إليه فى ضوء الشريعة التى وضعت للمصالح العامة موازين دقيقة... ومعنى هذا أن التجديد والابتكار مقرران فى ميدان العادات، داخل النطاق الذى رسمنا. أما فى ميدان العبادات، فإن الاتباع المحض هو الأصل، والاختراع الذى هو جرثومة الابتداع جور وضلال. وقد تسأل: أهناك فرق بين الاختراع فى العادات ، والاختراع فى العبادات؟ والجواب: إن الطاعات التى رسمها الشارع لها أشكال ونصوص محددة، ولا مكان لاختلاق صور جديدة فيها. أما الشئون التى تندرج فى قواعد عامة أو تتصل بشئون الدنيا، فإن الشارع لا يكترث بأشكالها وأطوارها، وإنما يعنى بالمعانى التى تقارنها. والغايات التى تنتهى إليها فحسب. فإضافة صلاة جديدة إلى الصلوات الموقوتة، أو ركعة زائدة على الركعات المعدودة، أمر يُرفض بتة. أما إذا أوجب الإسلام الطهارة من الأحداث، فمد الناس مجارى للفضلات تحت الأرض، ونسَّقوا مواسير المياه ، وقربوا هذه وتلك من المساجد على غير ما كان السلف الأولون يعهدون، فأمر لا صلة له بطبيعة الابتداع الذميم. ص _079(1/73)
إن البدعة ـ على التعريف الذى شرحنا ـ لا صلة لها بشئون الدنيا، ولا مكان لإقحامها فيما يجب على البشر إحسانه وتجديده، من أحوال الحياة ووجوه المعايش المتكاثرة، كما أن البدعة شىء آخر غير المعصية... المعصية مخالفة نص أو تعطيل قاعدة، مع بقاء كليهما قائما واضحا على ما جاءت به الشريعة المحكمة. أما البدعة فهى إفساد للنص والقاعدة جميعا. إذ هى خروج بالخطاب الإلهى عن حقيقته العليا، بإشرابه نوازع الهوى وإمالته عن الصراط السوى. والعاصى يخالف أمر الله، وهو يدرى ما أمر الله! وقد يتقرب إليه عاجلا أو آجلا. أما المبتدع فقد اضطربت فى ذهنه معانى الدين فهو يتقرب إلى الله بما لم يشرع، وقد ينفذ له ما لم يفرضه ولم يأذن به. وربما تحولت المعصية إلى بدعة إذا جعلت دينا! فإن التأكل بالقرآن حرام، لمخالفته قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا تأكلوا به ". فإذا جعل ذلك دينا واستؤجر القراء لتشييع الموتى، قربى به إلى الله فذلك إثم مركب من عصيان وابتداع!! ويرى بعض العلماء أن البدعة كل ما جَدَّ بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مخالفات ومحدثات. سواء فى المعاصى التى نَفَّر منها الشارع، أو المخترعات التى لفقها الجُهال والمغرضون، لتكون دينا وليست من الدين فى شىء... وهذا الإطلاق بعيد عن الدقة... وأبعد منه من يجعل البدعة تسع كل المحدثات التى وقعت بعد رسول الله من عادات أو عبادات، فى الخير أو الشر، ما يحمد منها وما يعاب... والتعريف الأول ارتضاه الإمام الشاطبى. ودرس ـ على ضوئه ـ المحدثات الذميمة دراسة أصلية جيدة، فى كتابه "الاعتصام ". ص _080(1/74)
أما إطلاق البدع على كل جديد فى دين الله ودنيا الناس، فأمر أقرب إلى معانى اللغة منه إلى مصطلحات الشريعة... وقد جنح إليه القرافى وعز الدين عبد السلام . ولكن ذلك لا يسلَّم لهما، وإن كان الأمر فى نهايته يصل إلى إنكار الإضافات المدسوسة على الإسلام كلها. إذ لا خلاف بين العلماء على ذلك. وإن اختلف تحديدهم لمدلول كلمة "بدعة". * * * * بين البدعة والمصلحة المرسلة: قال الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف فى كتابه " علم أصول الفقه " : "ومَن استقرأ آيات الأحكام فى القرآن يتبين أن أحكامه تفصيلية فى العبادات وما يلحق بها من الأحوال الشخصية كالمواريث. لأن أكثر أحكام هذا النوع تعبدى لا مجال للعقل فيه، ولا يتطور بتطور البيئات. وأما فيما عدا العبادات والأحوال الشخصية من الأحكام المدنية والجنائية والدستورية والدولية والاقتصادية، فأحكامه فيها - على الأغلب - قواعد عامة، ومبادئ أساسية، ولم يتعرض فيها لتفصيلات جزئية إلا فى النادر، لأن هذه الأحكام تتطور بتطور البيئات والمصالح. وقد اقتصر القرآن فيها على القواعد العامة المبادئ الأساسية ليكون ولاة الأمر فى كل عصر فى سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها حسب مصالحهم وفى حدود أسس القرآن العامة من غير اصطدام بحكم جزئى". وقال نجم الدين الطوفى : " وإنما اعتبرنا المصلحة فى المعاملات ونحوها، دون العبادات وشبهها، ولأن العبادات حق للشارع، خاص به. ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا، وزمانا ومكانا إلا من جهته، فيأتى به العبد على ما رسم له. ولأن غلام أحدنا لا يعد مطيعا خادما إلا امتثل ما رسم سيده، وفعل ما يعلم أنه يرضيه. ص _081(1/75)
فكذلك ههنا، ولذلك لما تعبدت الفلاسفة بعقولهم، ورفضوا الشرع أسخطوا الله عز وجل، وضلوا وأضلوا. هذا بخلاف حقوق المكلفين، فإنها أحكام سياسية شرعية، وضعت لمصالحهم، وهذه المصالح هى المعتبرة وعلى تحصيلها المعول ". وفى هذا يقول "عز الدين بن عبد السلام " المصرى الشافعى: "ومن تتبع مقاصد الشرع فى جلب المصالح ودرء المفاسد، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها. وإن لم يكن فيها إجماع، ولا نص، ولا قياس خاص. فإن فهم الشرع يوجب ذلك ". من هذه الأقوال تعلم أن الموقف من تشاريع العبادات، غير الموقف من تشاريع المعاملات. فالأولى تكفل الشارع بحقيقتها وصورها، وزمانها، ومكانها، وكمها، وكيفها، وأطلق وقيَّد وأجمل وفصل، عن حكمة عليا لا محل للاجتهاد فيها، وليس علينا إلا تلقيها بالقبول الصرف. ويجب أن تكون هذه العبادات ـ من عصر صاحب الرسالة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ـ نسقا واحدا لا خلاف بين الأولين والآخرين فى الأخذ به والتقيد التام ببداياته ونهاياته... أما التشاريع الأخرى فمحورها الذى تدور عليه هو المصلحة العامة. والنصوص المحفوظة والقواعد المشروعة متظاهرة كلها على بلوغ هذه الغاية. والطرق التى تدرك بها هذه المصالح لا يمكن ضبطها على اختلاف الأجناس والأجيال. وقد يوصل للمصلحة الواحدة من طرق مختلفة، فتعد مشروعة كلها. وكون المعاملات كلها مبنية على المصالح المعقولة، لا يغض من شأن النصوص التى تعرضت لأصولها أو فروعها. فهذه النصوص أشبه بالدعائم المثبتة فى الأرض، على أبعاد شتى، يصل المرء ص _082(1/76)
بينهما بالبناء الذى يحب، والأسلوب الذى يختار، وإن كان لابد من الاعتماد عليها والاعتراف بها... إن اتساع الدائرة التى يعمل فيها العقل ـ إلى جانب النص فى فقه المعاملات ـ جعل البعض يتبع المسلك نفسه فى دائرة العبادات. وهذا خطأ مبين! فمبنى العبادات ـ كما رأيت ـ على الاتباع المجرد. أما ما عداها فله شأن آخر. وما تجد فيه لا يصح أن يسمى ابتداعا، يحمد أو يعاب... إن المحافظة على "الكليات الخمس " قدر مشترك بين شرائع السماء وقوانين الأرض. وإن كانت هداية الله فى ذلك أحكم وأسلم... والكليات الخمس هى الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال. والمحافظة عليها تستمد من أدلة كثيرة، لا محل هنا لشرحها. وقد لا تكون هناك أدلة معيَّنة على هذه المحافظة، فيكون مجرد حماية هذه الخمس أو واحد منها دليلا يحترمه الشارع ويأخذ به. خذ ـ مثلا ـ جمع القرآن كله فى مصحف، إن ذلك ولو لم يرد أمر به فهو من حفظ الشريعة وإقامة الدين. وكذلك تأليف الكتب فى شرح العقيدة ورد شبه الملاحدة. وهذا النوع من الأعمال التى تدفع إليها أهداف الإسلام العامة، بل التى يدفع إليها الرأى الحصيف ـ ولو لم يقل به دين ـ هو ما أسماه بعضهم بـ "المصالح المرسلة". وهى مصالح ـ كما رأيت ـ وليدة تفكير حسن فى معاش الناس ومعادهم. وأخطأ من سمَّى هذه الأعمال بدعا حسنة، أو بدعا واجبة. ظنا منه أن عدم وقوعها فى عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينظمها فى سلك المحدثات، وأن اقتضاء العقل لها واستبانة الخير فيها يبعدانها عن نطاق المحدثات المذمومة شرعا. هذا ـ فى الحقيقة ـ ذهول عن معنى الابتداع المكروه، وخلط بين ما شرع فى العبادات، وما شرع فى المعاملات. ص _083(1/77)
إن البدع تقع فى التعبدات التى لا مجال للاجتهاد أو لإعمال الرأى فيها. أما المصالح المرسلة فميدانها المعاملات القائمة على التفكر، ورعاية الصالح العام. وشتان بين الأمرين. ثم إن البدع التى اخترعها جهلة العباد قصدوها لذاتها ليتقربوا إلى الله كما يزعمون. أما المصالح المرسلة فهى وسائل ينشد بها المحافظة على ما يعقبها من حقوق عامة لجمهور الأمة. ليس إذن كل ما يستجد ـ على مر الأيام ـ يسلك فى باب البدع ويتوقع عليه العقاب. الأمثلة الكثيرة للقاعدة الواحدة لا مدخل لها فى باب البدع، وكذلك النظائر التى يربطها قانون معتن، أو يجمعها شبه قريب أو بعيد.. ما دامت القاعدة الضابطة أو المشابهة المشتركة قد اعتبرها الشارع وأقر أصلها. فالنتائج المترتبة على كل قياس صحيح، يجب قبولها، ولا مساغ لوصفها بالبدعة. ومن هذا القبيل، الأعمال الدائرة على رعاية مصلحة أقرها الكتاب والسنة. والأعمال المتغايرة أو المتفاوتة التى يشملها أمر عام، ولم تحدد صورتها سنن ثابتة، يقول عز وجل : (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ) . ويقول: (وتعاونوا على البر والتقوى). ففعل الخير، والتعاون على البر والتقوى، أوامر لا خرفي من استحداث صور شتى لإنفاذها. ومهما تجددت هذه الصور واتسعت، فلا مكان للطعن فيها أو الاعتراض عليها!! ويقول الله تبارك وتعالى :( وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) . ص _084(1/78)
فأنواع القتال ووسائله وميادينه، لا حصر لها. وضروب الابتكار التى تقع فيها، لا صلة لها البتة، بالابتداع الذميم. بل هى استجابة محضة، للأمر الإلهى... إلا أن النصوص العامة لا يُحتج بها، فى اختلاق صور تصادم ما رسم له النبى صلى الله عليه وسلم أساليب معينة. فإذا قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا) فإن الأمر بكثرة الذكر، وإدامة التسبيح، لا يعطى أحدا من الناس حق إضافة ركعة إلى الصلاة، أو تشريع أذان لصلاة العيد، أو تأليف ورد يفرض على الأمة التزامه، أو ما قارب ذلك. فإن هذه العبادات صبت فى قوالبها الأخيرة. وليس يُسمح لإنسان مهما علا شأنه أن يتزيد عليها جديدا. أما إنفاذ الأمر الواحد فى الشئون العامة بصور شتى، ألفها السلف، أو لم يألفوها، فلا شىء فيه. وكذلك تطبيق القانون الواحد على شئون كثيرة. ثم إن حفظ ا لأموال، وصيانة الحقوق، وتدبير المصالح: من مقاصد الشريعة الأولى.. وعندما يرى الحاكم أن توفير الأمن بين الناس يتقاضاه فرض غرامات معينة، أو إقامة ضمانات لم يكن لها فى عهد الرسول الكريم مثال سابق، فمن واجبه أن يفعل ذلك، ولا يسمى مبتدعا. ومن ذلك إقامة الصحابة لحد الخمر، بعد إبلاغه ثمانين جلدة. ومنه تضمين الصناع ما يتلفون من أمتعة الجمهور. ومنه قتل الشركاء فى جريمة القتل جميعا فيقتص للواحد ممن تمالئوا عليه، ولو كانوا مائة. ومنه اختراع عقوبة الحبس.. وهذه كلها أمور عالجها الصحابة والتابعون دون نكير. ص _085(1/79)
وأطلق عليها البعض "المصالح المرسلة" كما أسلفنا. والعنوان لا يهمنا، وإنما يهمنا الموضوع. فإن مما لا يختلف عليه العقلاء: أن هناك مقاصد عامة للدين فُهمت من نصوصه وتوجيهاته الكثيرة.. وهذه الأهداف العامة الثابتة يمكن أن تخدمها وتوصل إليها وسائل حرة متجددة متغايرة. وما دامت الغايات المقصودة هى ما يراد قيامه، فإن السبيل المؤدية إليها لا تلزم صورة واحدة، ولسنا مكلفين بهذا الالتزام. أمر الله بالعدل والإحسان، وإيتاء ذى القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغى.. فما يؤدى إلى تقرير الفضائل الأولى، وتغيير الرذائل الأخيرة، فهو من الوسائل المتمشية مع التطور، الخاضعة لظروف الزمان والمكان، وليس من قبيل الابتداع ا لحرام.. ومن ثم نستطيع أن نقبل فى نظام القضاء ـ مثلا ـ وضع " النيابة العامة " واعتبارها الأمينة على إقامة الدعوى، والحفيظة على حق المجتمع. وأن نقبل كذلك ترتيب المحاكم وتسلسلها على النحو القائم الآن، وإن كان ذلك غير معروف فى الصدر الأول.. فإن إيجاد ضمانات كثيرة للفصل فى خصومات الناس ـ فصلا يصيب الحق أو يقاربه ـ لا يدخل في نطاق الابتداع. إن الابتداع المحرم يعمل عمله المريب فى دائرة التعبدات المحضة حيث لا مجال لفكر أو اجتهاد. أما دائرة المعاملات المرنة التى لم يرسم الشارع لها حدودا بينة يجب اتباعها، فإن الابتكار فى أسباب الخير والفلاح، هو ـ فى حقيقته ـ ضرب من العمل الداخل فى القاعدة المعرفة " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ". * حدود الاتباع: إذا تحرينا الدقة فى التزام ما جاء به الشارع، وجب ألا نترك شيئا فعله أو نفعل شيئا تركه. فالسنة تتناول الإيجاب والسلب معا، أى أن هناك سننا فعلية وأخرى تركية. ص _086(1/80)
ومن الابتداع الذميم أن نتزيد على ما ورد، بإضافة جديد إليه، أو نملأ فراغا ـ لم يرد فيه شىء ـ فنتحرك من تلقاء أنفسنا حيث سكت الشارع... هذا وذاك ليسا من الإسلام، فالفاعل لما ترك الشارع، كالتارك لما فعل. قد أبنا آنفا أن الوسائل المتجددة بطبيعتها لا تدخل فى هذا النطاق. فالحرب بالمدفع ليست ابتداعا، ولا تسمى فعلا لما ترك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل هى من قبيل "ما لا يتم الواجب إلا به ". إنما الكلام فى المقاصد الثابتة، والطاعات المحددة. فإن ما تركه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع وجود المقتضى، وانتفاء المانع، فتركه سنة وفعله بدعة... والمسلمون اليوم تواضعوا على التجمع فى أعقاب الوفيات، يستمعون إلى القرآن من بعض الحفظة فى سرادقات تقام، وتقدم فيها الأشربة، وتتم فيها التعزية. ولا شك أن قصد الثواب وابتغاء الرحمة كانا موجودين فى السلف الأول. ومع ذلك فلم يحدث مثل ما نرى بعد موت صحابى جليل، والموتى كثيرون وطلب الرحمة لهم قائم، وليس هنالك عائق من نصب خيمة، وسماع تلاوة، وتبادل عزاء. هذه العادة الشائعة بدعة، لأن الشارع لم يأذن بها، ولم يلجأ إليها مع وجود المقتضى وانتفاء المانع. ولو حسبنا ذلك تقصيرا فى مرضاة الله، وفى تشييع الراحلين بما يعرضهم لرحمة الله، لكان ذلك ظن السوء بصاحب الرسالة وحوارييه الأقربين، وهيهات أن نكون مثلهم أوقريبا منهم. وربما قلت إن عمر رضى الله عنه جمع الناس على قارئ واحد فى قيام رمضان، ولم يقع على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بل الثابت أن النبى عليه الصلاة والسلام رغب عن قيام الناس معه، وأنه لما أحس اقتداءهم به، أخفى عنهم صلاته. وهذا صحيح. ولكن السر فى صنيع عمر، ذهاب التخوف الذى جعل الرسول يؤثر الانفراد بقيام الليل. فإنه صلوات الله وسلامه عليه، لما رأى حرص الأمة على الاقتداء به فى التهجد والسهر، خشى أن يفرض عليها قيام الليل فتعجز عنه. ص _087(1/81)
فلما مات النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانقضى الوحى، وذهب التوهم المحذور، انتفى المانع مع بقاء المقتضى، ولم ير عمر حرجا فى إقامة الجماعات لصلاة التراويح. على أن عمر رضى الله عنه من الخلفاء الراشدين المتبوعين، بأمر النبى نفسه، فسننه حزء من هدى الإسلام، والاستمساك بها لون من متابعة النبى عليه الصلاة والسلام، أليست طاعة لأمره؟ إن ما تركه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع توافر الدواعى لفعله، وانتفاء الموانع منه، لا يمكن أن يكون دينا قويما، وصراطا مستقيما، وإلا ما تركه. أما ما تركه لعدم حضور مقتضيه ـ وقد شرع من القواعد العامة ما يدفع إليه إذا اكتملت أسبابه ـ فبينه وبين البدعة بون بعيد، بل إن فعله تمشٍّ مع أصول الإسلام. ترك النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ مثلا ـ التلفظ بالنية عند أداء العبادات فعُلم من هذا أن الترك سنة والفعل بدعة. لكن النبى لم يستعمل الأقيسة والقضايا المنطقية بشكلها الفنى الذى صنعه أرسطو وغيره ـ فى جدال خصومه. فإذا استعملناها ـ نحن ـ لتطور البيئات وشيوع الفلسفات فليس فى ذلك خرفي، بل هو دفاع عن الدين بالأسلوب الملائم. فإن مخاطبة الأميين غير مخاطبة أهل الكتاب الأولين، غير مخاطبة العقليين المتحررين. إن المحظور الذى نخشاه على تعاليم الإسلام، هو ما أقبل الناس على فعله مع أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تركه قصدا، وأهمله إهمالا، وسكت عنه أصحابه الراشدون، وهم أولى بأدائه لو كان فيه خير، أو كانت به إلى الله قربة. والحق أن نشاط العامة فى فعل ما تركه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضرب من شرود القوى المتحركة عن طريق الإنتاج السليم والسلوك القويم. فلو أن الذين يتواثبون فى حفل من أحفال الرقص الدينى ـ المسماة ذكرا ـ اقتيدوا إلى مباراة كرة قدم لكان ذلك أجدى عليهم، وعلى الدنيا، وعلى الدين تجميعا!! ثم لماذا نتكلف ما أعفانا الله منه؟ أو نتعلق بما سكت عنه؟ قال عليه الصلاة والسلام :(1/82)
" إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم ـ غير نسيان ـ فلا تبحثوا عنها". ص _088
قال "ابن القيم " فى أعلام الموقعين : "أما نقلهم لتركه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو نوعان، وكلاهما سنه: - أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله، كالغسل والصلاة فى شهداء أحد، والأذان والإقامة فى صلاة العيد، والتسبيح بين الصلاتين فى حال الجمع بينهما. - وثانيهما: عدم نقلهم لما لو فعله لتوافرت هممهم ودواعيهم ـ كلهم أو أحدهم ـ على نقله. .. فحيث لم ينقله أحدهم، ولا حدث به فى مجمع قط، عُلم أنه لم يكن، كتركه التلفظ بالنية عند دخوله فى الصلاة، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه بعد الصبح والعصر، أو فى جميع الأوقات "... إلخ. ثم بين "ابن القيم " أن تركه سنة، كما أن فعله سنة. فإذا استحببنا فعل ما تركه، كان نظير استحبابنا ترك ما فعله، ولا فرق. وأيد "الشاطبى" هذه القاعدة فى كتابه " الاعتصام ". فقد يتساءل البعض : أليس فى سكوت الشارع عن شىء ما، ما يجيز لنا فعل هذا الشىء أو تركه؟ أجاب الشاطبى على هذا التساؤل فقال: " إن هنا أصلا لهذه المسألة، وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم فى مسألة ما أو تركه لأمر ما على ضربين: ضرب سكت عنه الشارع لعدم المقتضى له، كالحوادث النازلة بعد وفاة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وقوعها، وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها، وأدائها على ما تبين فى الكليات التى كمل بها الدين. وإلى هذا الضرب ترجع جميع المسائل التى نظر فيها السلف الصالح، كتضمين الصناع، وتوريث الجد مع الأخوة، وعول الفرائض، وجمع المصحف، وتدوين الشرائع، مما لم تمس الحاجة إلى تقريره فى زمانه صلى الله عليه وسلم. وهذا الضرب ينظر فيه المجتهدون عند وجود سببه، فالسكوت عنه ليس بحكم يقتضى جواز الترك. - والضرب الثانى: أن(1/83)
يسكت الشارع عن الحكم الخاص، أو يترك أمرا من الأمور، وموجبه المقتضى له قائم، وسببه فى زمان الوحى موجود، ولم يحدد فيه الشارع أمرا على ما كان من الدين. ص _089
فهذا القسم ـ بخصوصه ـ هو البدعة المذمومة شرعا". ثم قال: "ووجه كونه بدعة، أن السكوت عنه ـ مع قيام مقتض لفعله ـ إجماع من كل ساكت: أنه لا تنبغى الزيادة على ما كان. .. فلو كان لائقا شرعا لفعلوه، فهم أحق بإدراكه، والسبق إلى العمل به... ". وهذا الرأى هو ما انتهى إليه فقهاء الأئمة، وما يجب على الأمة أن تلتزمه وتقف عند حدوده. * ** ** * * البدع.. حقيقية وإضافية: قلنا: إن الابتداع مضاهاة للشريعة، مبعثها الغلو والتزيد الباطل. وآثار هذا التلبيس تتفاوت تفاوتا كبيرا، ومن ثم انقسمت البدع أقساما شتى. فما خالف الدين شكلا وموضوعا، وشرد عن منهجه الواضح شرودا بعيدا، غير ما ضمت إلى الدين بصلة وأخذ من تعاليمه بسبب. ولهذا قسم العلماء البدعة إلى حقيقة وإضافية. فالطواف بأضرحة الموتى ـ وهو مضاهاة للطواف بالكعبة ـ بدعة حقيقية. فإن الشارع أذن بزيارة الهالكين للاتعاظ بمصايرهم وكسرا لسورة الغرور بالحياة التى تطغى كثيرا من الناس. أما تسنيم القبور، وضرب القباب عليها، وتقديس رفاتها، وشد الرحال إليها، ثم التطواف بها، مثنى وئلاث ورباع، قربى إلى الله، فهذه بدعة حقيقية لا ريب فيها. ولو دعى أولئك المقبورون وتعلقت بهم القلوب، تنتظر الإجابة لكان شركا وعصيانا.. وكل ما يخترعه الجهال من طقوس واهية الصلة بشرائع الإسلام وآدابه، فهى من قبيل هذا الابتداع الحقيقى، كتبتل الرهبان، وتزمتهم، وعزوفهم عن الحلال الطيب، زيادة فى عبادة الله، وكرفض النصوص والأقيسة الجلية اكتفاء بما يمليه التفكير الخاص، والرأى المجرد، وتوهما بأن العقل ـ دون استعانة بوحى ـ يستطيع الوصول إلى مرضاة الله. وعلى الجملة، فإن البدعة الحقيقية هى التى لم يدل عليها دليل من كتاب أو سنة أو إجماع، أو لم(1/84)
يشهد لها فهم معتبر يصلها بأصول الإسلام. ص _090
فإن الذى يفشو فيهم ويجد بينهم مرتعا خصبا، ما يسمى بالبدع الإضافية وهى أمور تعتورها اعتبارات مختلفة، تجعلها سنة من وجه، وبدعة من وجه آخر. فإذا نظرت إليها من ناحية، وجدتها تستند إلى قاعدة سليمة، أو نص معين. وإذا نظرت إليها من ناحية أخرى رأيت عنصر الاختراع واضحا فيها، من الأحوال المحدثة التى تكتنفها. محتم الصلاة مثلا بالتسبيح والتحميد والتكبير لم يختلف العلماء فى ندبه للأحاديث الصحيحة التى وردت به. وكان الرسول وصحابته يختتمون صلواتهم فرادى مسرين. حتى جاء من نظم هذه الأذكار ورأى أن يقوم أحد المصلين بجمع الناس عليها على نحو يربط أهل المسجد به. ثم تأدى ذلك إلى أن أصبح المنوط به هذا الختم ينعم صوته بالذكر والدعاء، وجمهور المصلين يتابع ويؤمن ثم ينصرف. فختم الصلاة نفسه سنة. لكن هذه الهيئة الجديدة لأدائه بدعة. والطاعنون فيها يرون الوقوف عند الأدلة المأثورة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . والآخذون بها يحسبون ذلك نوعا من التعاون المشترك على إقامة سنة قد يهملها الناس منفردين. وقريب من ذلك أيضا قراءة سورة الكهف قبل صلاة الجمعة. فالمعروف عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن أصحابه: أنهم كانوا يسعون لأداء فريضة الجمعة. فإذا بلغوا المسجد دخلوا صامتين وجلسوا خاشعين، لا يغيِّر من سكينتهم ووقارهم شىء حتى يستمعوا إلى الخطبة ويؤدوا الصلاة. ولم يجئ أثر البتة يجعل قراءة سورة الكهف من الشعائر المرتبطة بصلاة الجمعة، كما يفعل الناس اليوم. غير أنه وردت "سنن ضعاف " تستحب قراءة هذه السورة، وسور أخرى يوم الجمعة أو ليلتها. روى "الحاكم " عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين " . ص _091(1/85)
وذكرت رواية أخرى: "ليلة الجمعة". ولو غضضنا النظر عما قيل فى هذه الأحاديث الضعيفة. وقبلناها فى موضوعها، ما كان إنفاذها يعنى جمع الناس على قارئ لها بهذه الصورة الجازمة.. فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفاءه الراشدين وجماهير الأمة، ظلوا قرونا عديدة يقيمون الجمعة، مجردة من قراءات سابقة أو لاحقة. وفعل ما فعله النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وترك ما تركه، هو السنة الحرية بالنظر. والمسلمون اليوم يجعلون قراءة "سورة الكهف " قبل الجمعة، وظيفة تربط لها المرتبات، وتتخير لها الأصوات، وبالتالى تتصيد لها الفتوى!! ومن البدع الإضافية إلحاق الصلاة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأذان، حتى إن العامة يحسبونها جزءا من الأذان نفسه. والأذان كلمات محفوظة حددتها النصوص الواردة. وكان على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه وجماهير السلف مجردا من أية إضافة. أما الصلاة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسنة أخرى، لها صيغها، ومواطنها، وأحكامها. والمسلمون إذا سمعوا الأذان نُدب لهم أن يرددوا كلماته، وأن يصلوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأن يسألوا الله له الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود.. وقد جاء من اخترع للصلوات على رسول الله صيغا غريبة، وضمها لألفاظ الأذان، كى يجمعها فى الأداء نسق واحد. فكان هذا الاستحداث دخيلا على أسلوب هذه الشعيرة. وانضم إلى ذلك حرص المؤذنين على التطريب والتمايل وهم يدعون الناس إلى الله. فتحولت سنة الأذان إلى لحن هزيل، بعد ما كانت نداءً جادًا مهيبًا. ومن هذه الأمثلة ندرك أن البدع الإضافية أعمال أخذ أغلبها من تعاليم الشريعة الثابتة، أو المتوهمة، ثم طرأت عليها تصرفات وأوضاع خرجت بها عن حدودها العتيدة. ص _092(1/86)
وتعاليم الإسلام كأجهزة الجسم ومشاعره وسماته.. فلو أخذت رجلا فوضعتها مكان يد، أو أذنا مكان أنف، فقد أسأت وإن لم تأت بجديد من خارج الجسم. وخلاصة ما ذكره "الشاطبى" عن البدعة الإضافية: أن لها ناحيتين: "أولاهما: متعلقها من الأدلة، فلا تكون من جهة هذه الجهة بدعة. والأخرى: اختلافها معها فى الهيئة والترتيب والموضع، مما يجعلها تشبه الابتداع الحقيقى. فلما كانت لم تخلص لأحد الطرفين استحقت هذه التسمية "البدعة الإضافية". إن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، أما من جهة الكيفيات والأحوال والتفاصيل فلا. قد تكون مستندة إلى شُبهة عارضة، أو لا تكون مستندة إلى شىء ما. وذلك ما يقدح فيها، فإن سائر التعبدات لا تقبل إلا من مصدرها الأصيل وهو الشارع فحسب. ويجب أن نؤكد هنا: أن تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم للنصوص العامة بسنته العملية لا يقبل تعقيبا بزيادة ما فى أصل أو هيئة. سئل "ابن حجر" عن الصلاة والسلام عقب الأذان بالطريقة المعروفة؟ فقال: الأصل سنة، و الكيفية بدعة. ولا يُقبل الاستدلال بالآية: (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما). لتسويغ هذا الابتداع. فلن نكون أدرى من النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته بطريقة الأداء المطلوب. وقد اخترع العوام صلاة فى رجب، وأخرى فى شعبان يؤدونهما بنيات مخصوصة. وتساهل بعض العلماء فى تجويز هذه الصلوات باعتبار أن الصلاة مطلقا ليست أمرا نُكرا. فقال النووى ـ منددا بهم : "بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان ". ص _093(1/87)
ثم قال: " ولا تغتر بذكرهما فى كتاب " قوت القلوب " و"إحياء العلوم ". وليس لأحد أن يستدل على شرعيتهما بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "الصلاة خير موضوع "، فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه. وقد صحَّ النهى عن الصلاة فى الأوقات المكروهة. فانتهاز عموم النص للنفاذ منه إلى تغيير عبادة أو إحداث طاعة، أو تلوين قُربة بلون خاص، ذلك كله يخالف هدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ومن هنا عَدَّ العلماء من البدع الإضافية الأذان داخل المسجد يوم الجمعة. فالأذان فى ذاته مشروع، وبالنظر إلى مكانه مبتدع. وكذلك رفع الصوت بالذكر والقرآن أمام الجنائز، فإن ذكر الله وقراءة كتابه من الدين، ولكن لا بهذا الأسلوب، ولا فى هذا الموضع. وكذلك صيام السابع والعشرين من رجب، والخامس عشر من شعبان. فأصل الصوم عبادة، وتخصيص هذه الأيام بدعة. وظاهر أن المستمسكين بهذه البدع يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا، وإن كانوا يزعمون أن عملهم كله حسن لا سوء فيه، وذلك جهلا منهم بمواقع السنة، وجمود على ما لُقِّنُوه من ذوى الجهالة والهوى. ولعل ما يستدعى العجب فى سيرة هؤلاء إسراعهم فى اتهام من يُعلمهم الدين الحق. فإذا جرد الأذان مما لحقه ليعود به إلى عصر السلف وسنة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالوا فيمن يحاول ذلك : يكره رسول الله. قال الأستاذ العدوى: "وأنت تعلم أن من ينكر البدع المذكورة إنما ينكرها بالاعتبار الثانى وهو جهة الابتداع. فما يقوله بعض الناس من أن فلانا ينكر الدعاء أو الذكر، أو الصلاة على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو تلاوة القرآن، فهو كلام نشأ عن جهل بالدين، وجهل بما يعنيه المنكر، أو هو كلام يراد منه التشهير بالداعى إلى السنة". قال: "وقد أخبرنى أحد أصدقائى أن أحد الشيوخ كان إذا أراد التنكيل بصاحبه الذى يعلم الناس الدين، دعا العوام وقال لهم: ماذا تقولون فى الصلاة على النبى؟ فيقولون: هى من الدين! فيقول(1/88)
: إن فلانا ينكرها... ص _094
وماذا تقولون فى الاستغفار وقراءة القرآن؟ فيقولون: الاستغفار عبادة، كذا قراءة القرآن!! فيقول لهم: إن فلانا ينكرهما. ... فلما سئل الشيخ: كيف تقول ذلك وأنت تعلم ما يعنى!؟ قال: أريد تنفير العامة، حتى لا يسمعوا له نصيحة أخرى... ومثل هذا المفتى يجمع إلى ضلالة الابتداع إثم رمى الناس بالبُهتان ". * * * * *البدع فى العبادات والعادات: العبادات التى كلفنا بها أمور جاءنا العلم بها من قتل الشارع وحده. فلو لم ينزل بها وحى ما اهتدينا إليها، ولا قمنا بها على هذا النحو الرتيب المبين الذى فضله الشارع.. فالصلوات الخمس وأعداد ركعاتها، وأوقات إقامتها، وهيئات أدائها، تلك كلها أمور انفرد الدين بتشريعها. وهى وسائر المتعبدات الأخرى لا مدخل للعقل فى افتراضها هكذا كما أو كيفا. وقد ندرك وجه الحكمة فى كثير من الطاعات المطلوبة، أو نتعرف النتائج الحسنة لفعلها كما أمر الله، إلا أن ذلك لا يعنى استقلال العقل بالحكم والنظر فى الأمور العبادية جملة وتفصيلا. بل مرد ذلك النقل المجرد عن عالم الغيم والشهادة.. أما الشئون العادية فلها وضع آخر فى الحياة، إذ للعقل والتجربة مجالات واسعة فيها. إنها موجودة قبل مجىء الدين، وقد تسير بعيدة عن هديه، وقد تلزم الحدود والآداب التى يسنها لها، ويوصى المؤمنين بالتزامها. فالمسلمون والكفار يأكلون ويشربون ويتناكحون، ويتعاملون بالبيع والشراء والإجارة، ويضعون نظما شتى لحراسة الأمن وتنظيم العمران وسياسة الدولة...الخ. وأمثال هذه الشئون العادية، وإن خالفت العبادة المحضة فى طبيعة التشريع، إلا أن الله لم يدع الناس يخبطون فيها حسبما يمليه الرأى والهوى. بل أنزلت آيات كثيرة لإرشادنا فى هذه الأمور ـ كذلك ـ إلى ما يصون المصالح ويمنع الأضرار. ص _095(1/89)
والإسلام نفسه دين شامل لنواح عديدة. فكل ما يدع أثرا ذا بال فى زكاة النفس وسلامة المجتمع، فقد تعرض له ونصح فيه، وأرصد له طائفة من النصوص والقواعد. ولو أن دائرة الدين وقفت عند مراسيم العبادات التى لا اجتهاد للعقل بإزائها، وتركت الإنسان بعدئذ حرا فى التشريع لشئونه العادية، لكان طريقا مبتسرا إلى الكمال، قاصرا على تحصين الأفراد والجماعات من غوائل الحيف والخبط والعدوان. إن الفضائل الجليلة لا تكونها المحاريب قدر ما تكونها المعاملات الدقيقة والتقاليد السامية. فلا غرو إذا استن الإسلام للشئون العادية قوانين شتى، وجعل إنفاذها من تقوى القلوب، مثل إنفاذ أوامره بالركوع والسجود. ونحن نجد فى كتاب الله وسنة رسوله آلاف النصوص المنظمة لهذه الشئون العادية، لا يجرؤ أحد على الغض من قيمتها، كقسيم للشئون العبادية التى جاءت بتعاليمها نصوص أخرى. خذ مثلا الزواج. فهو من الشئون العادية التى يباشرها الناس على اختلاف نحلهم. لكن الإسلام شرع له قوانين خاصة لا يصح ـ دينا ـ إلا بها، فلابد من إيجاب وقبول ومهر وشهود، ولا تنكح امرأة في عدتها، ولا تنكح مطلقها ثلاثا، ولا يجوز لمسلمة أن تنكح من يخالفها دينا، وإن صح للمسلم أن يتزوج اليهوديات والنصرانيات. وهناك محارم لا يصح نكاحهن بتة ، وللاتصال الجنسى آداب فصلها الإسلام فى المعاشرة الزوجية لا يجوز إهمالها. والبيع ـ مثلا ـ من العاديات التى يشتغل أهل الأرض طرا بها. لكن الإسلام وضع للمبايعات شروطا وخلالا، لا يخرج المسلم عنها. فلابد من أهلية المتعاقدين للتصرف. وكون المبيع طاهرا منتفعا به، مملوكا للبائع، مقدور التسليم. هناك تعاليم لمنع الغرر والاحتكار والربا والغش، ترسم للتجارة الإسلامية سبيلا نظيفة عادلة.. والناس ـ بطبيعتهم ـ يأكلون ويشربون ويكتسبون. وقد جاء الإسلام إلى هذه الأمور العادية، فحرم ألوانا خاصة من الطعام والشراب واللباس. ص _096(1/90)
وكرر القرآن الكريم ما حرمه من الأطعمة عدة مرات، وحاج فيها المشركين وأهل الكتاب الأولين.. وأطول آية فى القرآن أنزلها فى الدَّيْن وكتابته والإشهاد عليه. وقد اعتمد الأئمة فى التشريع والتفريع لهذه الأمور العادية على النصوص الواردة، والقواعد العامة، باعتبار أن صيانة المصلحة هى الغاية منها فى الجملة. وربما اتفق النظر المجرد مع الشرع الكريم فى كثير من أحكام المعاملات الشائعة. وقد رأيت نصوصا فى القانون المدنى القديم، عدلت فى القانون الجديد إلى ما رآه الواضعون أدنى إلى المصلحة. فلاحظت أن المواد القديمة ترافق مذهب أحد الفقهاء المجتهدين، وأن الجديدة توافق مذهب مجتهد آخر.. وليس هناك من فارق إلا أن الفقهاء المسلمين ـ بدوافع من إيمانهم بالله وابتغائهم لرضاه، وفقههم فى شريعته، وتحريهم نفع الناس بها ـ كانوا يُحكِّمون هذه الشئون العادية ويُوجِّهونها وفق تعاليم الإسلام. أما رجال القانون العام فإرضاء الله واحترام دينه ليسا فى حسابهم... إن مزج العاديات بمعنى التدين، جزء من طبيعة ديننا كما رأيت. فهل يدخل الابتداع فى العاديات كما يدخل فى العباديات؟ قال الشاطبى ما معناه : "ثبت فى الأصول الشرعية أنه لابد فى كل عادى شائبة التعبد. لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل ـ من المأمور به أو المنهى عنه ـ فهو المراد بالتعبدى. وما عُقل معناه وعُرفت مصلحته أو مفسدته، فهو المراد بالعادى. فالطهارات والصلوات، والصيام والحج، كلها تعبديات. والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عاديات. لأن أحكامها معقولة المعنى، ثم لابد فيها من التعبد، إذ هى مقيدة بأمور شرعية. لا خيرة للمكلف فيها و سواء أكانت اقتضاء أم تخييرا. فإن التخيير فى التعبديات إلزام، كما أن الاقتضاء إلزام. حسبما تقرر برهانه فى كتاب " الموافقات ". ص _097(1/91)
إذا كان الأمر كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين فى معنى التعبد. فإن جاء الابتداع فى الأمور العاديات من ذلك الوجه صح دخوله فى العاديات كالعباديات. وإلا فلا... وهذ النكتة هى التى يدور عليها حكم الباب... ". أى أن لشئون الحياة المعتادة ناحيتين: أولاهما: متجددة منطلقة تخضع للتطور والتغيير. وهذه لا يضع الإسلام لها قيودا، ولا يبالى فيها باتباع أو ابتداع. بل يصح أن يساق فيها النص المحفوظ : " أنتم أعلم بشئون دنياكم ". وهذه الناحية ليست موضع بحثنا وقصارى ما نوصى به أن يقبل المسلم عليها وهو حاضر القلب حسن النية. فإن الرجل إذا كان صاحب مقل أعلى استفاد من كل شىء فى تحقيق غايته. ولو أن المسلم أراد ـ بأى عمل يعالجه ـ مرضاة الله، لتحول كل شىء فى يديه إلى عبادة، ولكان طعامه ومنامه وملاعبته زوجته عبادة، فضلا عن قيامه بأعباء وظيفته أن كان موظفا، وأعمال تجارته وزراعته إن كان تاجرا أو فلاحا. فإن هذه الشئون العادية البحتة يحيلها القصد النبيل إلى خلال برٍّ وخصال خير، كأنما هى صلاة وجهاد. ذلك مع بقائها فى جوهرها حرة من القيود، لا تضبطها وسيلة معينة ولا صورة محدودة، بل ينقلها الاختراع والإجادة من حسن إلى أحسن.. أما أخراهما: فما يرسمه الشارع من حدود تضيق أو تتسع ـ حسبما يراه أدنى إلى الصالح العام ـ علينا أن نتقيد به، وأن نلتزم المأثور فيه. إن هذه الناحية النقلية يجب ألا نخالفها بمعصية، وألا نفسدها بابتداع. والدين لم يتدخل فى المعاملات المعتادة، تجارية كانت، أو اجتماعية، أو جنائية، أو سياسية، لإعنات الناس. بل إن القدر الذى تدخل فيه هو لرفع العنت، وسد مسالك الشيطان، وحماية الجمهور من ميوعة التشريع الوضعى، وخضوعه فى أحيان كثيرة للنزوات الخاصة. ص _098(1/92)
وقد تقول: فما موضع الابتداع والحالة هذه؟ إن الناس يتزيدون فى العادات وصورها الواردة، مبالغة منهم فى التقرب من الله ـ على ما يزعمون ـ فكيف يبتدعون فى الشئون العادية، ودور الشارع فيها تنظيم أمور مدنية بحتة؟ والجواب: إن الناس قد يبرزون بعض المصالح الخاصة. كأنها توصيات إلهية، ويجعلون من الإعانة فيها عبادة لله، حتى يضمنوا بقاءها باسم الله ، إذا لم يمكن إبقاؤها باسم المصلحة. خذ مثلا النظام الملكى فى أمة من الأمم، إن حرص الملوك على بقائه يحملهم على حياطته باسم الله ورسوله. ومن ثم تورث قيادة الأمة كما تورث التركات. وتؤخذ لذلك بيعة تعتبر المسارعة فيها قربى إلى الله، والنكوص عنها هدفا للإسلام. ووراثة المناصب لا يقول بها دين. فكيف تكون قانونا من قوانينه !؟ هذا مثل للابتداع المحرم فى الشئون العادية كما قرره العلماء. كذلك فرض الضرائب وإنفاذ حصيلتها فى الأهواء الفردية بعد جمعها من الجمهور باعتبارها طاعة لله ورسوله وأولى الأمر. إن التخييل على العامة بأن ذلك دين يؤخذون به، كما يؤخذون بالتكاليف الشرعية الأخرى، هو الأساس فى تسميته بدعة. فإذا سألت: ماذا يسمى لو لم يقع هذا التخييل الخادع؟ قلنا: ينظر إليه على ضوء ما ثبت من النصوص وتمهد من القواعد. فإن خالفها فهى معصية، وإلا فهو من الشئون العادية المتجددة التى لا دخل للدين فيها. وحينئذ نستطيع القول بأن فرض الضرائب للأهواء الخاصة، لون من السرقة أو الغصب، وفرضها لمصلحة الجمهور لا شىء فيه. ونستطيع أن نقول كذلك: إنه لو حلا لأمة أن تقيم نظام حكمها على أساس ملكى ص _099(1/93)
كما فى إنجلترا ـ تكون المصلحة المجردة هى المهيمنة عليه، فلا يعتبر مؤيده طائعا لله، ولا جاحده عاصيا لله، كان ذلك من قبيل الشئون العادية التى لا يعترضها الإسلام. قال الأستاذ العدوى : "ويشبه ذلك ـ الابتداع فى العادات ـ زخرفة المساجد بألوان تفرق قلوب المصلين، وبأبسطة فيها من أنواع النقش ما يشغل المصلى. وكذا تعليق الثريات الباهظة الأثمان. إذ إن كثيرا من الناس يعتقد أنها من قبيل ترفيع بيوت الله. حتى يعد الإنفاق فى ذلك إنفاقا فى سبيل الله تعالى فإنها- بهذا الاعتبار- تصير بدعا مذمومة. وأما تنظيم المساجد بتشييد بنائها ورفعه رفعا مناسبا، وتنظيف جدرانها وتلوينها بلون لا يحل بين المصلى وربه. وفرشها بالفرش التى لا تعدو حد الاقتصاد والتوسط، فهذا ليس من محل الخلاف، وإنما هو عمارة للمساجد، ينفق فيه قن آمن بالله واليوم الآخر". وجملة القول: إن الابتداع، إن دخل فى الأمور العادية. فإنما يدخلها من جهة ما فيها من معنى التعبد. فرجع الأمر إلى أن الابتداع المذموم لا يكون فى العادى المحض. ومن ذلك تعرف حكم الابتداع فى الأكل والشرب والمشى والنوم. فهذه كلها أمور عادية، وقد دخلها التعبد وقيدها الشارع بأمور لا مناص منها، كنهى اللابس عن إطالة الثوب عُجبا، والأمر بالتسمية عند الأكل والشرب، والنهى عن الإسراف فيهما، والنهى عن نوم الإنسان عاريا على السطح... إلخ. فالأمور المذكورة عادية، وإن دخلها الابتداع فلا يدخلها من جهة أنها عادية، وإنما يدخلها من الجهة التى قررها الشارع فيها. فإذا خولف بها الوجه المشروع، واعتبر ذلك دينا يتقرب به إلى الله تعالى- كانت بدعا من هذه الجهة، بل هى معصية وابتداع : معصية لمخالفتها رسم الشارع، وابتداع للتعبد بهذه المخالفة. ص _100(1/94)
* هل فى الشئون العادية سُنن ؟ إذا تدخل الدين فى شئون الحياة المعتادة، فهو يدخل بقدر، وفى الحدود التى يراها كفيلة بصيانة الأخلاق وحفظ المصالح، وهو لا يستهدف من وراء تدخله الحَجْر على حرية الابتكار أو الحد من النشاط الإنسانى فى آفاق الدنيا. كلا.. كلا. هل القوانين المدنية التى شرعت وطبقت فى محاكم الشرق والغرب قصد بها غل العقل غن الحركة، أو كبت الإرادة عن التطلع هنا وهناك؟؟ وهل التقاليد الاجتماعية التى تراعى الآن فى المآدب والزيارات والدعوات وأمثال ذلك، قصد منها تسيير الحياة فى منهج قاس من التزمت والقهر؟؟ إن تدخل الإسلام فى هذه الشئون يشبه من وجوه كثيرة هذه القوانين والتقاليد التى تلقاها الناس بالرضا والقبول. وأحاديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى آداب الطعام مثلا تشبه ما تواضع عليه الخاصة الآن فى آداب المائدة، فسبيل هذه سبيل تلك..!! إلا أن بعض المسلمين أخطأ فى فهم العلاقة بين الدين وهذه العبادات. فمنهم من ظن كل جديد منها بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُعد ابتداعا، وتوقف فى قبوله! ومنهم من تأول بعض العاديات التى فعلها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنها دين، واستحب الاستمساك بها تعبدا، أو تقربا إلى الله.. والفريقان مخطئان، فإن ما استحدثه الناس من عاديات لم تكن على عهد الرسول وصحابته، لا يجوز رفضها ولا وصفها بما ينفر منها. فهى ليست بدعا بالمعنى الذى يحارب شرعا. ونذكر على سبيل المثال ما قيل: إن أول ما أحدث بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربعة أشياء : اتخاذ المناخل، والشبع، وغسل الأيدى بالأشنان بعد الطعام، والأكل على الموائد. ولا ندرى علة حصر المحدثات العادية فى هذه الأربع، ولا سر التخوف منها. قال أبو حامد الغزالى ـ ردا على هذا القول : ص _101(1/95)
"لسنا نقول: إن الأكل على المائدة منهى عنه نهى كراهة أو تحريم، إذ لم يثبت فيه نهى. وما يقال إنه ابتدع بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فليس كل ما ابتدع منهيا عنه، بل المنهى عنه بدعة تضاد سُنَّة ثابتة، أو ترفع أمرا من الشرع مع بقاء عليه ! بل ابتداع قد يجب فى بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب. ليس فى المائدة إلا رفع الطعام عن الأرض لتيسير الأكل. ومثل ذلك لا كراهية فيه. وهذه الأربع التى جمعت على أنها بدعة ليست متساوية، فالأشنان حسن، لما فيه من النظافة، وهو من الغسل المستحب، بل الأشنان أتم فى التنظيف. وكانوا لا يستعملونه لعدم اعتيادهم له، أو عدم تيسيره. وأما المناخل: فالمقصود منها تطييب الطعام، وهو مباح، ما لم ينته إلى التنعيم المفرط. وأما الشبع، فهو أشد هذه الأربعة، فهو يهيج الشهوات، ويحرك الأدواء فى البدن". * * * والحق أن هذا الدفاع من أبى حامد معلول، وإن صحت الغاية. لأنه اعترف بوجهة النظر التى تسمى التجديد فى العاديات ابتداعا، ثم وزنه بما ينشأ عنه من نتائج حسنة أو سيئة. ورأينا رفض هذه التسمية ابتداع ، فإن حد البدعة المفسدة لدين الله قد بيناه. ويرى أبو حامد : أن الأكل على الأرض أفضل من الأكل على المائدة، تأسيا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذى لم يأكل على خوان. وعندى أن الحالتين سواء، وأن كلتيهما من قبيل العاديات التى لا تدخلها شائبة تعبد. وسبيل التقرب إلى الله بعيدة عن هذه الشئون جميعا. ولو كان فى الآكل على المائدة ما يشين، لورد عنه نهى، ولو كان فى الأكل على الأرض ما يطيب لجاء به أمر. وهنا نسأل: هل العاديات التى فعلها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعتبر دينا، يبر فاعلها ويأثم تاركها؟ إن للعلماء تفصيلا فى هذا الأمر ينبغى أن نذكره. ص _102(1/96)
لقد اتفقوا على أن ما فعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى حدود طبيعته البشرية الخاصة، فإن الأمة لا صلة لها به، ولا تكفف باتباعه فيه. قد علمت أن خالد بن الوليد أكل ضبا، عاف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناوله، لأنه لم يألف أن يطعمه فى أرض قومه. وخالد ـ فى هذا التصرف ـ لم يرتكب شيئا يعاب به. أما ما فعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعيدا عن نطاق وظيفته، من حيث إنه يبلغ عن الله، ويعلم الناس ، ويقرر أحكام السماء، فالتحقيق أن الناس- كذلك- غير مكلفين بفعل ما فعل، وترك ما ترك. وقبل أن نسرد أقوال العلماء، ونحب أن نشير إلى أن العاطفة الجياشة بالحب قد تكون لها مسالك تلتزمها وحدها، ولا يلزم الله بها أحدا من خلقه. فما روى من أن " عبد الله بن عمر" كان يتحرى الطرق التى يسير فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيسير فيها، والأماكن التى تخلى فيها فيقعد بها ـ ولو لم تكن له حاجة، فهذا ـ من ابن عمر ـ لزوم ما لا يلزم. وجمهور الصحابة لم يلتفت لهذه الأعمال، ولم ير فى الأخذ بها أدنى قربة إلى الله! ويشبه عبد الله ين عمر فى هذا الصنيع "معاوية بن قرة" وأبوه رضوان الله عليهم أجمعين. فقد روى ابن حبان عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: أتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى رهط من مزينة فبايعناه وإنه لمطلق الأزرار. قال راوى الحديث: فما رأيت معاوية ولا ابنه قط- فى شتاء ولا صيف- إلا مطلقى الأزرار . ولم يقل أحد : إن إطلاق الأزرار سُنَّة، والتزام ذلك من بعض الصحابة لا يلزمنا بشىء. واختلف العلماء على أقوال متضاربة فيما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولم يظهر فيه قصد التقرب إلى الله، ما يكون موقفنا منه؟ قال بعضهم: يُندب فعله. ص _103(1/97)
وقال آخرون: بل يباح الفعل والترك. وأغرق من قال: يجب الفعل! وتوقف آخرون عن الحكم.. وعندى أن الحق ما ذهب إليه الآمدى فى الأحكام، وأيده العدوى فى رسالته الدقيقة عن السُنَّن والبدع من " أن محض الفعل لا يدل على أن الفعل قربة. بل يدل على أنه ليس بمحرم فقط ". وأما كونه قربة على الخصوص. فذلك شىء آخر. فإن الصحابة رضوان الله عليهم- وهم أعلم الناس بالدين، وأحرص الناس على اتباع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى كل ما يقرب إلى الله كانوا يشاهدون من النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفعالا، ولما لم يظهر لهم فيها قصد القربة لم يتخذوها دينا يتعبدون به، ويدعون الناس إليه، ولذلك أمثلة كثيرة: ا- أن النبى حينما كان مهاجرا إلى المدينة أخذ طريق الساحل، لأنه أبعد عن العدو. ولو كان مجرد الفعل يدل على القربة لاقتضى أن كل مسافر من مكة إلى المدينة يسن له أن يسلك طريق الساحل، وإن كان بعيدا! ولم يقل بذلك أحد من الصحابة، فدل ذلك على أنه ليس بسُنَّة من سُنن الدين. 2- أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ اختفى هو وصاحبه فى الغار عن أعدائه المشركين، ومكث به أياما، يعبد الله حتى تمكن من السفر. ولو كان محض الفعل يفيد الندب، لذهبت الصحابة إلى ذلك الغار لتعبد الله فيه كما كان النبى يفعل. وحيث لم ينقل لنا أن أحدا من الصحابة كان يذهب إلى الغار ليتعبد فيه، علم أن العبادة فى الغار- خاصة- ليست مقصودة، وأن الفعل المجرد لا يفيد القربة. 3- روى عن أنس رضى الله عنه قال: " كان لنعلى رسول الله قُبالان " . (رواه الخمسة إلا مسلما) على هذا الوصف كان حذاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فهل يكون لبس هذا الصنف من الأحذية سنة من سنن الدين، من لم يلبسه يكون تاركا لسنة؟ أم أن هذا لا يقول به أحد..؟ ص _104(1/98)
4- ثبت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما عسكر فى أقرب ماء إلى منطقة "بدر" جاءه الحباب ابن المنذر يقول: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأى والحرب والمكيدة"!! فغيَّر الحباب المنزل إلى موقع أصوب، وقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ له: "لقد أشرت بالرأى" وعمل برأيه والقصة تشير إلى أن من أعمال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يقوم على الاجتهاد الخاص، ولا أثر للوحى فيه. ومثل هذه الأعمال لا يجب على المسلمين أن يتقيدوا بها، بل يديرون فيها الرأى، ويفعلون ما يرونه الحق. وقد أقر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه هذه الخطة وسار عليها " . ولا شك أن إقحام الشئون العادية البحتة فى نطاق الدين إضرار بدين الله ودنيا الناس جميعا. فأما أنه إضرار بالدين فلأنه يوسع دائرة العبادات التى يُتقرب بها توسعة مدارها الوهم المجرد. وافتراض معنى القربة فيما لا يتقرب إلى الله بمثله. والخبراء بالإسلام يعرفون أن ناحيتى البلاغ والبيان فى سيرة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشحونتان بما يزكى النفوس ويوقظ الهمم، وأن فيهما ما لا مجال معه لتزيد. بل أحسب أن التزيد- بالاتباع فى العاديات- ليس إلا تغطية لقصور الرجل فى القيام بالواجبات الأصيلة المنوطة به. فترى من أعياه اقتفاء أثر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى تزكية النفس وجهاد العدو، يترك هذه السُنَّة المحكمة، ليجعل من محبة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للحلوى- مثلا- سُنَّة يترجم بها عن شديد حبه لرسوله الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتمسكه بآثاره !! ذلك مع هذه العاديات التى فعلها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قد تكون خضوعا لمطالب البيئة التى يعيش فيها. أى أنها أفعال تعم المسلمين والمشركين من سكان المنطقة الحارة وحدها. ص _105(1/99)
فإذا استحسن الثياب البيض لاتقاء الحرارة، وإذا أرخى من غطاء رأسه على مؤخرته ما يقيه وهج الشمس، فهل يستن لسكان المناطق الباردة أن يلبسوا الأبيض من الثياب، وأن يرخوا عذبات على أقفيهم لأن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل ذلك؟! الحق أن هذه العاديات ـ فعلية كانت أو قولية ـ ليست من رسالة الإسلام. وأما أن دنيا الناس تُضار بهذا الفهم، فلأن الأمور الدنيوية تقوم على التطور، ويلحقها من الاجتهاد الحر ما يمسها بالنقص أو الزيادة أو الإهمال!! والحكم على جزء منها بأنه دين، حكم عليه بالجمود على أوضاع معينة ! وهذا شلل فكرى وعمرانى خطير النتائج. ولعل تأخر المسلمين فى بعض الميادين يرجع إلى أنهم فرضوا قيودا شتى على أنفسهم باسم الإسلام. فعاشوا فى سجن هذه القيود المزعومة، لا يستطيعون حراكا، على حين انطلق غيرهم لا يعوقه شىء. وفى الوقت الذى احترموا فيه هذه القيود الباطلة، أفلتوا من قيود الكمال الروحى والذهنى التى هى لُباب الدين. ومن هنا وهت صلتهم بالدين، ووهت صلتهم بالدنيا، وهُزموا فى الميدانين معا.. هذا.. ونختم الموضوع ببحث جامع للشيخ محمود شلتوت لخص وجهة النظر العلمية، وعرضها فى دقة وإيجاز، قال : " عرفنا من تاريخ الأديان والشرائع أن التحريف الابتداعى قد أصابها من جهات ثلاث : ( أ ) من جهة العقيدة، حيث دخل الشرك، وعبادة غير الله، ودعاؤه ، والاستعانة به واللجوء إليه. (ب) من جهة العبادة، حيث دخل التغيير فى كيفية أداء العبادة أو الزيادة عليها، والنقص منها. (جـ) من جهة الحلال والحرام، حيث حلل الحرام، واحتيل على تحريم الحلال. ص _106(1/100)
والمستقرئ للمداخل الملابسة للبدعة يجد أن منها ما يؤدى إلى الابتداع ابتداع، ومنها ما يساعد على انتشار الأمر المبتدع بعد الوقوع فى العمل به. ونوضح الأمرين كليهما على النحو التالى: * أسباب الابتداع: والابتداع يرجع إلى أسباب ثلاثة: ا- الجهل بمصادر الأحكام، أو الجهل بوسائل فهمها من تلك المصادر. 2- متابعة الهوى فى استنباط الأحكام. 3- إحسان الظن بالعقل فى الشرعيات. ولنتناول كلا من هذه الأسباب بإيجاز كالآتى: ا- أما عن السبب الأول: فنحب- قبل الكلام عن مداخل الخلل الناشئة عن هذا السبب بشقيه- أن نقرر ما يأتى: (أ) أن مصادر الأحكام الشرعية- كما هو معلوم- هى كتاب الله تعالى، وسُنَّة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وما ألحق بهما من: الإجماع ، والقياس. (ب) أن الأصل العام لجميع هذه المصادر الذى يحكم على سائرها ، هو كتاب الله تعالى، وتليه السُنَّة ، ثم الإجماع ، فالقياس. إبر) أن القياس لا يُرجع إليه فى أحكام العبادات، لأن من أركانه أن يكون الحكم فى الأصل معلولا بمعنى يوجد فى غيره، ومبنى العبادة على التعبد المحض الابتلاء الخالص. أما مداخل الخلل الناشئة عن السبب الأولى بشقيه، ترجع إلى أمور أربعة: (أ) الجهل بأساليب اللغة العربية. (ب) الجهل بالسُنَّة . (جـ) الجهل بمرتبة القياس. (د) الجهل بمحل القياس. (أ) أما الجهل بأساليب اللغة العربية، فقد نشأ عنه أن فُهمت بعض النصوص على غير وجهها، مما كان سببا فى إحداث ما لم يعرفه الأولون، ومن ذلك: ا- ما يزعمه البعض من أن المحرم من الخنزير لحمه دون شحمه، أخذا من أن القرآن حرم اللحم فقط ، وهو ابتداع نشأ من الجهل بأن كلمة "اللحم " فى اللغة العربية تطلق على الشحم دون العكس. ص _107(1/101)
2- قول بعض المتكلمين: أن لله "جنبا " أخذا من قوله تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ). وهو ابتداع نشأ من الجهل بأن العرب لا تعرف "الجنب " فى مثل هذا التركيب بمعنى العضو المعروف، ولكنها حين تقول: هذا يصغر فى جنب ذاك، تريد: بالإضافة إليه، ذلك لأنه لا يتصور وقوع التفريط فى "جنب الله " بمعنى العضو المعروف. الأمر الذى يوجب التأويل فى المراد من الجنب، بأن يكون المراد به الجانب. وفى هذا المقام يقول الإمام الرازى فى تفسيره: " الجنب سمى جنبا، لأنه جانب من جوانب الشىء ، والشىء الذى يكون من لوازم الشىء وتوابعه يكون كأنه جانب من جوانبه، فلما حصلت هذه المشابهة بين الجنب الذى هو العضو، وبين ما يكون لازما للشىء تابعا له ـ لا جرم من إطلاق الجنب على الحق والأمر بالطاعة، قال الشاعر: أما تتقين الله فى جنب وامق له كبد حرى عليك تقطع؟ " 3- قول بعض الناس: أن حديث: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا على" يطلب الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم من المؤذن عقب الأذان. ولم يطلب منه أن تكون بغير كيفية الأذان- وهى الجهر- فدل على مشروعيتها بالكيفية المعروفة. ووجهوا دلالة الحديث على طلبها من المؤذن بأن الخطاب فى قوله صلى الله عليه وسلم : "صلوا على" لجميع المسلمين، والمؤذن داخل فيهم. أو بأن قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا سمعتم " يتناول المؤذن، لأنه يسمع نفسه. فهذه جملة من الأمثلة يتضح منها كيف يقع الابتداع من جهة الجهل باللغة العربية، مفردات وأساليب. وقد أجمع الأولون على أن معرفة ما يتوقف عليه فهم الكتاب والسُنَّة من خصائص اللغة العربية شرط أساسى فى جواز الاجتهاد ومعالجة النصوص الشرعية والاقتراب منها. (ب) وأما الجهل بالسُنَّة ، فهو يشمل: 1ـ الجهل بالأحاديث الصحيحة . 2ـ الجهل بمكان السُنَّة من التشريع. ص _108(1/102)
وقد يترتب على الأول إهدار الأحكام التى صحت بها أحاديث، كما يترتب على الثانى إهدار الأحاديث الصحيحة، وعدم الأخذ بها، فتحل مكانها بدع لا يشهد لها أصل من تشريع. وقد نبه على ذلك حديث : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكنه يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ". وجاء فيه أيضا حديث: " ما من نبى بعثه الله فى أمة إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون سُنَّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ". (جـ) وأما الجهل بمرتبة القياس فى مصادر التشريع، وهى التأخر عن السُنَّة ، فقد ترتب عليه أن قاس قوم مع وجود سُنَّة ثابتة، وأبوا أن يرجعوا إليها، فوقعوا فى البدعة. والمتتبع لآراء الفقهاء يجد كثيرا من الأمثلة لهذا النوع، وأقربها ما قاله البعض من قياس المؤذن على المستمع فى الصلاة على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقب الأذان مع وجود السُنَّة التَرْكية، التى هى مقدمة ـ بالطبع ـ على القياس. هذا بالإضافة إلى أن حديث : "إذا سمعتم المؤذن " يدل بأسلوبه على اختصاص المستمعين بالصلاة عقب الأذان. ( د ) وأما الجهل بمحل القياس فى التشريع، فقد نشأ عنه أيضا أن قاس الناس! من متأخرى الفقهاء فى العبادات، وأثبتوا فى الدين ما لم ترو به سُنَّة، ولا نُقل به عمل، مع توافر الحاجة إلى عمله وعدم المانع منه. ومن ذلك بدعة إسقاط الصلاة، قياسا على فدية الصوم التى ورد بها النص، ولم يقفوا عند هذا الحكم بالجواز، بل توسعوا فشرعوا لها من الحيل ما يجعلها صورة لا روح فيها ولا أثر لها. والابتداع هنا من أغرب أنواع الابتداع ، ويجدر بنا أن نسمى موضوعه : "البدعة المركبة" فهو ابتداع(1/103)
لأصل الحكم، ثم احتيال لإسقاط تكاليف الحكم المبتدع ، ثم اعتبار الأمرين ـ البدعة والاحتيال فى إسقاطها ـ من الدين، وأنهما يسقطان الفرض، ويخرجان من عهدة التكليف، ويترتب عليهما ثواب الله الذى أعده للذين آمنوا وعملوا الصالحات. ص _109
2- وأما عن السبب الثانى من أسباب الابتداع: وهو متابعة الهوى فى استنباط الأحكام، فيأتى من أن الناظر فى الأدلة قد يكون ممن تملكهم الأهواء فتدفعه إلى تقرير الحكم الذى يحقق غرضه، ثم يأخذ فى تلمس الدليل الذى يعتمد عليه ويجادل به. وهذا الواقع يجعل الهوى ـ أصلا ـ تُحمل عليه الأدلة ويُحكم به عليه ، مما هو قلب لقضية التشريع ، وإفساد لغرض الشارع من نصب الأدلة ، فالأصل أن تؤخذ الأحكام من الأدلة ، لا أن تُقرر الأحكام ثم تُتصيد لها الأدلة. ومتابعة الهوى هى أصل الزيغ عن صراط الله المستقيم ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله). وقد جاء فى الصحيح : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ". والابتداع الناشئ عن هذا السبب يكثر من أرباب المطامع فى خدمة الملوك والرؤساء والحصول على الدنيا وحطامها. ولعل أكثر الحيل ـ التى تراها منسوبة إلى الدين، والدين منها برئ ـ ترجع إلى هذا السبب، ولا يبعد أن يكون من ذلك الأذان السلطانى ونحوه من البدع التى لم نرها إلا فى صلاة الملوك والسلاطين، وكذلك بدع المحمل، وبدع الاجتماع لإحياء بعض الليالى بصفة رسمية، وغير ذلك مما يغلب أن يكون رغبة لملك أو مشورة لمقرب إليه. ثم توارثتها الأجيال- جيلا بعد جيل- حتى عمَّت الجماهير، وصارت عندهم دينا ينكرون على من أنكره. والواقع أن متابعة الهوى من أشد ما يكتسح الأديان ويقتل كل خير، والابتداع به أشد أنواع الابتداع إثما عند الله، وأعظمها جُرما على الحق، فكم حرف الهوى من شرائع، وكم بدل من ديانات، وكم أوقع الإنسان فى ضلال مبين. ولا شك أن المبتدعين بالهوى ينتسبون بهذه الخطة الشائنة إلى أولئك الذين(1/104)
قال الله فيهم: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون * ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) ، (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار * ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد). ص _110(1/105)
3- وأما عن السبب الثالث للابتداع، وهو تحسين الظن بالعقل فى الشرعيات، فإن الله جعل للعقول حدا تنتهى فى الإدراك إليه، ولم يجعل لها سبيلا إلى إدراك كل شىء، ومن الأشياء ما لا يصل العقل إليه بحال، ومنها ما يصل إلى ظاهر منه دون اكتناه حقيقته، وهى مع هذا القصور الذاتى لا تكاد تتفق فى فهم الحقائق التى جعل لها إمكان إدراكها، فإن قوى الإدراك ووسائله تختلف عند النظار اختلافا كثيرا، ولهذا كان لابد ـ فيما لا سبيل للعقول إلى إدراكه وفيما تختلف فيه الأنظارـ من الرجوع إلى مخبر صادق يضطر العقل أمام معجزته إلى تصديقه، وليس سوى الرسول المؤيد من الله العليم بكل شىء، الخبير بما خلق. وعلى هذا الأصل بعث الله رسله، لتبين ما يُرضى خالقهم ويضمن سعادتهم. ويجعل لهم حظا وافرا فى خيرى الدنيا والآخرة. بيد أنه شذ عن هذا الأصل قوم رفعوا العقل عن مستواه الذى حدده الله، بل جعلوه حجة الله على عباده، وحكموه فيما لا يدركه مما أنزل الله، فرجعوا فى التشريع إليه، وأنكروا فى النقل كل ما لم يعهده فى إدراكه، ثم توسعوا فى ذلك وجعلوه أصلا فى التشريع الإلهى، واستباحوا بعقولهم فيه ما لم يأذن به الله وما نعلم أنه يرضى الله. ولقد أعانهم على الابتداع به فى العبادات أنهم نظروا فيما أدركه العلماء من أسرار التشريع وحكمته، وزعموا أن هذه الأسرار هى المقصودة لله فى تشريع الحكم، وأنها هى الداعية إليه، فشرعوا عبادات أخرى تحصيلا لمثل هذه الأسرار التى عهدت فى بعض تشريع الله، وقد وقع كثير من الابتداع بهذا الطريق. فبحكم العقل القاصر رُدَّ كثير من الأمور الغيبية التى صحت بها الأحاديث، كالصراط والميزان وحشر الأجساد والنعيم والعذاب الجسمى ورؤية البارى... وما إلى ذلك، مما لم يدركه العقل ولا ينهض على إدراكه. ص _111(1/106)
وبحكم العقل القاصر تُركَ العمل بكثير من الأحكام الشرعية جريا وراء غيرها، لأنها أقوى ـ فى نظرهم ـ فى تحصيل الغرض المقصود من التكليف. وبحكم العقل القاصر زيدت عبادات وكيفيات ما كان يعرفها أشد الناس حرصا على التقرب من الله. هذا، وكما يترتب الابتداع على عدم إدراك العقل، أو على ظن أن الأسرار مسوغات للتشريع وداعية إليه- يترتب أيضا على إرادة دفع منكر أو مخالفة لشرع ثابت فتحدث بدعة يشتغل الناس بها عن مقارفة المنكر، بزعم أن البدعة- بمشروعية أصلها- أولى من ارتكاب المنكر الصريح. ومن ذلك قراءة القرآن بصوت مرتفع فى المسجد، وقراءة الأدعية كذلك أمام الجنائز دفعا ـ كما يقولون ـ لتحدث الناس بكلام الدنيا فى المسجد والجنائز. ومن هذا الباب أيضا الابتداع بقصد الحصول على زيادة فى المثوبة عند الله.. وبظن أن الطريق هذا الثواب المنشود تحميل النفس مشقة من جنس ما يتعبد الله به عباده. وهذا الضرب من الابتداع يأتى على نوعين: النوع الأول: إلحاق غير مشروع بالمشروع، لأنه يزيد فى المقصود من التشريع. ومن أمثلة ذلك: التعبد بترك السحور، لأنه يضاعف قهر النفس المقصود من مشروعية الصيام. (ب) التعبد بتحريم الزينة المباحة التى لم يحرمها الله، لأنه يزيد فى الحكمة المقصودة من تحريم الذهب والحرير. ومن هذا النوع أيضا: ا- اختيار أشد الأمرين على النفس عند تعارض الروايات، مع أن المأثور عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. 2- حمل أفعال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على التعبد الذى يجب فيه التأسى، مع أن كثيرا منها عادى، لا تعبد فيه، ولا يطلب فيه التأسى. والنوع الثانى: اختيار عبادات شاقة لم يأمر بها الشارع، كدوام الصيام والقيام والتبتل وترك التزوج... والتزام السنن والآداب، كالتزام الواجبات. وقد جاء تحذيرا عن ذلك كله قوله عليه السلام: " ما بال أقوام يتنزهون عن الشىء ص _112(1/107)
أصنعه، فو الله إنى لأعلمهم بالله وأشدهم خشية له "، وقوله عليه الصلاة والسلام: " لن يشاد الدين أحد إلا غلبه "، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم " ، كما رد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ابن عمر والرهط الذين تقالوا عبادته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأرادوا مشاق الطاعات.. وقد غفل قوم عن هذه التحذيرات، واخترعوا لأنفسهم عبادات وكيفيات فى العبادات أو التزامات خاصة، وعبدوا الله بها، وعلموها أتباعهم على أنها دين، ودين قوى، وجهلوا أن القرب من الله إنما يكون بالتزام تشريع الله وأحكامه، وأن وسائل التقرب إليه محصورة فيما شرعه وبلغه عنه رسوله الأمين، فوقعوا بذلك فى البدعة والمخالفة، وحرموا ثواب العمل، وكانوا من الآثمين. هذا.. وجميع الأسباب التى ذكرناها للابتداع قد أحاط بأطرافها جميعا حديث: " يحمل هذا العلم فى كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ". فتحريف الغالين يشير إلى التشدد والتنطع. وانتحال المبطلين يشير إلى تحسين الظن بالعقل فى الشرعيات ومتابعة الهوى. وتأويل الجاهلين يشير إلى الجهل بمصادر الأحكام وبأساليب فهمها من مصا درها. وهو ما سبق أن فصلناه بما يكفى، لجعل المؤمن على حذر من الوقوع فى شىء ص _113(1/108)
3ـ فى الفكر الإسلامى تمهيد: نرى لزاما علينا أن نضع بين يدى القارئ صورة للفكر الإسلامى، ومراحل سيره مع الزمان، وما اعتراه ـ خلال سيره ـ من استقامة وعوج، وسناء وقتام. وفى مقدمة العلامة عبد الرحمن بن خلدون، دراسة واعية هادية لهذا الموضوع، توزعت على كتابه الذى لا نظير له فى منهجه وعمقه. وقد استطاع الدكتور محمد البهى أن يقدم لنا خلاصة جيدة لكلام ابن خلدون، مع شروح وتعقيبات صادقة تضم شتات البحث. وكان ذلك فى محاضرة ألقاها بدعوة من إدارة الثقافة بوزارة الأوقاف. ونحن نرى إثبات زبد من هذه المحاضرة، مع إضافات منا وتصرف يسير فى أسلوب العرض، يقربها من نهج كتابنا هذا، ومع وفاء كامل بما نقل عن مقدمة ابن خلدون. قال المحاضر: "الفرق بين الفكر الإسلامى والإسلام " "نحن بحاجة إلى توضيح معنى الفكر الإسلامى أولا: إن الفكر الإسلامى ليس هو الإسلام، بل هو صنعة المسلمين العقلية فى سبيل الإسلام، وبمشورة مبادئه. والإسلام هو الوحى الإلهى إلى رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وكتاب هذه الرسالة القرآن الكريم، وفى حكمه ما انضم إليه من سنن ثابتة للرسول توضح ما طُلب توضيحه منه. ص _114(1/109)
الفكر الإسلامى مستحدث، ويخضع لقانون التطور، ولعوامل الاضمحلال أما الإسلام فله كتاب (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد). الفكر الإسلامى غير معصوم عن الخطأ والوهن. والإسلام معصوم عن ذلك كله. وكتاب الإسلام ـ لأنه معصوم عن الزيغ والضعف ـ له قداسة، وله حق الطاعة المطلقة على المؤمنين به.. والفكر الإسلامى لا تجب الطاعة له، إلا بقدر ما فيه من تمثيل لكتاب الله ورسالة السماء، ذلك أنه ـ أصالة ـ يخضع للنقد والمخالفة. الفرق بين الإسلام والفكر الإسلامى هو الفرق بين ما لله وما للإنسان. والصلة بين الأمرين هى الصلة بين شيئين، أحدهما قام على الآخر، واستند إليه فى قيامه ووجوده. ولكن لا على أنه يصوره تمام التصوير، أو يكون معبرا عنه تعبير المثل للمثل. هناك إسلام إذن نزل به الوحى الإلهى. وهناك مسلمون آمنوا بهذا الإسلام، وترجموا تعاليمه فى سلوكهم، وحرصوا على استبقائه فى جيلهم ، كما حرصوا على استبقائه لأعقابهم فى الأجيال المتتابعة، كى تظل على هذا الإسلام، وعلموهم كيف يكونون مؤمنين به، وكيف يترجمون إيمانهم بالصورة التى ارتضوها، وكيف يحرصون على بقاء الإسلام فيهم وبقائهم هم أمة مسلمة. تهيئة هذه الكيفيات، وتحديد معالمها، ثم صياغتها فى عباراتها التى تورّث من جيل إلى جيل فى كتبها المتداولة هى: الفكر الإسلامى. وهذه الكيفيات ـ فى تهيئتها، وتحديد معالمها وصياغتها ـ تختلف حتما حسب الأفراد والأجيال والظروف المحيطة. وربما يصل الخلاف فيها إلى درجة الفجوة أو المقابلة. يقول ابن خلدون فى مقدمته فى الحديث عن علم الفقه: " الفقه معرفة أحكام الله تعالى فى أفعال المكلفين، بالوجوب، والحظر، والندب، والكراهية، والإباحة. ص _115(1/110)
وهى متلقاة من الكتاب والسُنَّة، وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة. فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها: فقه. وكان السلف الصالح يستخرجونها من تلك الأدلة، على اختلاف فيما بينهم. ولابد من وقوعه، ضرورة أن الأدلة غالبها من النصوص، وهى بلغة العرب. وفى اقتضاءات ألفاظها الكثير من معانيها، اختلاف بينهم معروف. وأيضا فالسُنَّة مختلفة الطرق والثبوت، وتتعارض ـ فى الأكثر ـ أحكامها. فتحتاج إلى الترجيح، وهو مختلف أيضا. فالأدلة ـ من غير النصوص ـ مختلف فيها. وأيضا الوقائع المتجددة لا توفى بها النصوص. وما كان منها غير ظاهر فى المنصوص فيُحمل على منصوص لمشابهة بينهما. وهذه كلها إشارات للخلاف ضرورية الوقوع. ومن هنا يوقع الخلاف بين السلف والأئمة من بعدهم.. ". وهكذا حكى "ابن خلدون " ما سماه إشارات للخلاف فى جانب واحد من جوانب الفكر الإسلامى، قد يكون أبعد ما يكون عن مجال الخلاف، لأنه متصل اتصالا وثيقا بالقرآن والسُنَّة، ألا وهو الفقه. ولكنه لا يخرج عن كونه فكرا إنسانيا فى دائرة الإسلام. ودائرة الإسلام، أو دائرة أى دين آخر، لا تحول مطلقا دون اختلاف الفكر الإنسانى. فما دام فكرا إنسانيا وصنعة عقلية للإنسان، فالاختلاف والقسوة فيه أحيانا، ألصق مظاهره وأقربها إليه. ولهذا الاختلاف فى الفكر الإسلامى لا يعبر رأى مفكر فى اتجاه من اتجاهاته، ولا رأى حفنة من المفكرين فى اتجاهاتهم المختلفة عن الإسلام تمام التعبير. وسيظل الإسلام نعمة السماء. وسيظل الفكر الإسلامى صنعة الإنسان فى أرض المسلمين. ومن يجعل من الفكر الإسلامى إسلاما، يجعل فى الواقع إسلاميات عديدة مختلفة لدين الله الواحد. ص _116(1/111)
* استحداث الفكر الإسلامى بعد الإسلام، وعوامل استحداثه: ولأن الفكر الإسلامى هو الصنعة العقلية للإنسان المسلم، كان الفكر الإسلامى فى جملته مستحدثا بعد نزول القرآن واتضاح السنن. دفعت إلى استحداثه عوامل، لا تنحصر فى طبيعة نصوص القرآن، ولا فى تقويم الحديث من جهة سنده مثلا. بل تتجاوز ذلك إلى اتساع رقعة الدولة الإسلامية، وانتشار المسلمين فى بلاد كان لها طابع ثقافى وحضارة مادية، وبديهى أن يكون من التقاء الرسالة الجديدة بالمواريث القديمة أخذ ورد وإعجاب وإنكار.. إلى غير ذلك من العوامل التى من شأنها أن تدعو إلى المحاولات الفكرية، وتبرير أمر ـ ما ـ أو رفضه أو تدعوـ فى الجملة ـ إلى الجدل العقلى والمشاقة. عرف الفكر الإسلامى، منذ أن ابتدأ المسلمون العرب وهم حملته الأوائل يكونون أصحاب علم وصناعة. ومنذ أن ابتدأت تكون لهم مدارك وأنظار، بعد أن كان الأمر عندهم وقفا على المأخذ من الكتاب والسُنَّة. "إن الملة فى أولها لم تكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة. وإنما أحكام الشريعة التى هى أوامر الله ونواهيه ـ كان الرجال ينقلونها فى صدورهم. وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسُنَّة، بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه. والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين، ولا دفعوا إليه، ولا دعتهم إليه الحاجة. وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين. وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله القُرَّاء. أى الذين يقرءون الكتاب وليسوا أميين. لأن الأمية يومئذ صفة عامة فى الصحابة بما أنهم كانوا عربا. فقيل لحملة القرآن يومئذ : قراء، إشارة إلى هذا. فهم قراء لكتاب الله والسُنَّة المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه ومن الحديث. الذى هوـ فى غالب موارده ـ تفسير وشرح. ص _117(1/112)
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتى " . فلما بَعُدَ النقل من لدن دولة الراشدين فيما بعد. احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية، وتقييد الحديث مخافة ضياعه. ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الناقلين أو تجريحهم للتمييز بين الصحيح من الأسانيد وما دونه. ثم كثر استخراج أحكام الوقعات من الكتاب والسُنَّة. وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات فى الاستنباط والاستخراج والتنظير والقياس. واحتاجت إلى علوم أخرى، هى وسائل لها مثل معرفة قوانين العربية وقوانين الاستنباط والقياس، والذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع والإلحاد. فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم، فاندرجت فى جملة الصنائع... وأما العلوم العقلية (الفلسفية) فلم تظهر فى الملة إلا بعد أن تميَّز حملة العلم ومؤلفوه، واستقر العلم كله صناعة ". وربما يقال: إن الذى استحدث فى الجماعة الإسلامية على هذا النحو ليس فكرا إسلاميا، بل هو نقل ومأخذ من الكتاب والسُنَّة، والعلم الذى يمثله هو ـ لذلك ـ علم نقلى، وليس علما قام على إعمال الفكر. ولكن الأمر ليس كذلك. فنحن لم نرد من الفكر الإسلامى فكرا إنسانيا خالصا، وإنما أردناه مقرونا بهذا الوصف " الإسلامى" . وهو لذلك لابد أن يتضمن نقلا إسلاميا، وفكرا إنسانيا مصاحبا له. وما يُسمى بالعلوم النقلية لم يقصد به خلوه من الفكر الناشط والتفكير الإنسانى، وإنما قصد به ـ فحسب ـ عدم إطلاق الفكر. ويوضح ذلك ابن خلدون فى مقدمته؟ "اعلم أن العلوم التى يخوض فيها البشر ويتداولونها فى الأمصار، تحصيلا وتعليقا، هى على صنفين: ص _118(1/113)
1ـ صنف طبيعى للإنسان يهتدى إليه بفكره. 2ـ وصنف نقلى يأخذه عمن وضعه. والأول: هى العلوم الحكمية الفلسفية، وهى التى يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدى بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها، وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها، حتى يقفه نظره وبحثه على الصواب، من حيث هو إنسان ذو فكر. والثانى: هى العلوم النقلية الوضيعة. وهى كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعى. ولا مجال فيها للعقل إلا فى إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، لأن الجزئيات المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلى بمجرد وضعه (من الواضع الشرعى)، فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسى. إلا إن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم فى الأصل وهو نقلى. فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه " . وإذن.. العلم النقلى فيه عمل عقلى وفكر إنسانى، ولكنه مستند وراجع إلى "النقل " ولم يكن مطلقا عنه كلية. وابن خلدون يعدد هذه العلوم النقلية فى الجماعة الإسلامية فيقول: "وأصل هذه العلوم النقلية كلها هى الشرعيات من الكتاب والسُنَّة، التى هى مشروعة لنا من الله ورسوله، وما يتعلق بذلك من العلوم التى تهيئها للإفادة... وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة، لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه. وهى مأخوذة من الكتاب والسُنَّة بالنص، أو بالإجماع، أو بالإلحاق. 1ـ فلابد من النظر فى الكتاب ببيان ألفاظه أولا، وهذا هو علم التفسير. 2ـ ثم بإسناد نقله وروايته إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذى جاء به من عند الله، واختلاف روايات القراء فى قراءته. وهذا علم القراءات. 3ـ ثم بإسناد السُنَّة إلى صاحبها، والكلام فى الرواة الناقلين لها، ومعرفة أحوالهم، وعدالتهم، ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك. وهذه هى علوم الحديث. ص _119(1/114)
4ـ ثم لابد فى استنباط هذه الأحكام (أحكام الله المفروضة) فى أصولها من وجه قانونى يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط. وهذا هو علم أصول الفقه. 5ـ وبعد هذا تحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى فى أفعال المكلفين وهذا هو علم الفقه. 6ـ ثم إن التكاليف منها بدنى، ومنها قلبى: وهو المختص بالإيمان وما يجب أن يعتقد مما لا يعقد، وهذا هو علم العقائد الإيمانية فى الذات والصفات، وأمور الحشر، والنعيم، والعذاب، والقدر. والحجاج عن هذه بالأدلة العقلية هو علم الكلام..... " . هذه هى موضوعات الفكر الإسلامى الأصيل، التى عالجها المسلمون وكانت مسرح نشاطهم الذهنى بالتعليل والاستخراج، فهى موضوعات نقلية أحيطت بعمل عقلى للإنسان المسلم. نشأ الفكر الإسلامى الأصيل، وتطوَّر، وانتهى إلى مصير معيَّن، سيفضى بنا الحديث إليه الآن. دفع الإنسان المسلم إلى وضع التفسير " ففسر القرآن أولا بالرواية مستندا إلى الآثار المنقولة عن السلف. وهى معرفة الناسخ من المنسوخ، وأسباب النزول، ومقاصد الآى" . واشتمل التفسير بالرواية ـ كما يقول ابن خلدون ـ على "الغث والسمين والمقبول المردود " . وفسره ثانية، متأثرا فيه بلون معين من الحزبية المذهبية، كتفسير "الكشاف " للزمخشرى ، وتفسير "الكبريت الأحمر" لمحيى الدين بن عربى. يمثل رأى "الكشاف " مذهب الاعتزال. ويمثل " الكبريت الأحمر" رأى المتصوفة المتأخرة فى التجلى ، والحلول، والوحدة فى الوجود. ودفع الإنسان المسلم إلى وضع الفقه تحت تأثير أحداث الحياة السياسية والاجتماعية، وتحت زيادة أمصار الإسلام، ودخول غير المسلمين من أرباب المدنيات والحضارات السابقة فى الإسلام. ص _120(1/115)
والفقة معرفة أحكام الله تعالى فى أفعال المكلفين. وقد انقسمت مذاهبه المشتهرة بين جمهور المسلمين إلى ثلاث مذاهب: اـ إلى مذهب أهل الرأى والقياس: وهم أهل العراق، لأن الحديث كان قليلا بينهم، فاستكثروا من القياس، ومهروا فيه. ولذلك قيل فى شأنهم: أهل رأى، وهم أبو حنيفة وأصحابه. 2ـ ومذهب أهل الحجاز: وإمامهم مالك بن أنس الأصبحى، إمام دار الهجرة. ومن بعده محمد بن إدريس الشافعى، الذى مزج فقه أهل المدينة بفقه العراق، بعد أن ارتحل إليه. 3ـ ومذهب الظاهريين: وإمامهم داود بن على، وابنه. ومذهبهم يقوم على إنكار القياس! وإبطال العمل به. "وجعلوا المدارك كلها منحصرة فى النصوص (القرآنية والسنية) والإجماع، وردوا القياس الجلى والعلة المنصوصة إلى النص؟ لأن النص على العلة فى تقديرهم نص على الحكم فى جميع مجالها" . 4ـ وبجانب هذه المذاهب الفقهية التى عرفت لجمهور المسلمين، يوجد لأهل البيت وهم الشيعة فقه انفردوا به، وأقاموه على أساس من الاعتقاد بعصمة الإمام. 5ـ كما وُجدَ فقه للخوارج، راعوا فى استنباط الأحكام من النصوص موقفهم الخاص فى الإمامة والتزامات الإمام نحو الرعية، وواجب الرعية نحو الإمام. ودُفع الإنسان المسلم بجانب وضع الفقه إلى وضع أصول الفقه. وهو النظر فى الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف. واضطر إلى استحداثه لما يقوله ابن خلدون هنا: واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة فى الملة. وكان السلف فى غنية عنه. بما أن استفادة المعانى من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. وإما القوانين التى يحتاج إليها فى استفادة الأحكام خصوصا فمنهم أخذ معظمها. وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر، وممارسة النقلة، وخبرتهم بها. ص _121(1/116)
"ثم لما انقرض السلف وذهب الصدر الأول، وانقلبت العلوم كلها صناعة ـ كما قررنا من قبل ـ احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد، لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فنا قائما برأسه، سموه أصول الفقه " . ودُفعَ الإنسان المسلم ـ عندما زاحمت العقائد الأخرى العقيدة الإسلامية، أو عندما حاولت أن تنال منها ـ إلى الدفاع عن عقيدة الإسلام، فوضع علم الكلام. ".... فموضوع علم الكلام ـ عند أهله ـ إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع، من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية. فترفع البدع، وتزول الشكوك والشبه عن تلك العقائد" . فالتفسير، والفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام تصوِّر اتجاهات الفكر الإسلامى الأصيل. وقد تكوَّنت بدافع الحاجة، وتحت ظروف الحياة التى عاش فيها الإنسان المسلم، فى مواطن مختلفة، وفى أجيال متتالية. تكوَّنت لتسد فراغا فى الحياة الإسلامية، أو لتدفع تهما وريبا ألقيت فى وجه الإسلام. وهى تمثل الفكر الإسلامى الأصيل، لأنها منبثقة عن الإسلام، باستخدام الإنسان المسلم تفكيره فى تفريعها عنه. ومهما اختلف تفكير المسلمين فى تفريعها عن الإسلام فإن اختلاف التفكير فيها لم يخرج بها جميعا عن الاعتدال فى اتصالها بالإسلام، ولا عن التسامح بين المختلفين فى التفكير. * مبدأ (الحركة) فى الفكر الإسلامى وآثاره: وذلك، لأن الجميع أصدروا فى تفكيرهم عن مبدأ واحد، هو " من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ". فالكل مأجور، لأنه يسعى إلى حق، ويتذرع بالحيطة فى الوصول إلى هذا الحق. الكل يستهدف أن يكون مسلما فى إيمانه وعمله. والاجتهاد كما يُعبِّر عن حيوية المسلم بإزاء الإسلام والحياة معا. ص _122(1/117)
أو كما يعبِّر عن طاقة الملاءمة التى يحملها المسلم ليوفق دوما بين الحياة التى يعيشها الآن وبعد الآن، وبين الإسلام الذى يؤمن به ـ يُعبِّر من جانب آخر عما يصاحبه من روح المسر وروح الحرية فى التفكير، وإن كانت حرية محدودة. فمبدأ الاجتهاد، الذى قام عليه الفكر الإسلامى الأصيل، مبدأ بناء، ومبدأ حركة، ومبدأ حرية، وبالتالى مبدأ تيسير. وفى الوقت نفسه مبدأ صفاء وتسامح. لأن الخصومة النفسية التى تتبع الخصومة الفكرية الحادة لا مكان لها بين أرباب الاجتهاد الإسلامى، وإنما تقع عندما يفرض على البعض الإلزام والاتباع، أو يحكم على بعض المذاهب بالتخلف وعدم المساواة. وهكذا عندما ابتدأ الفكر الإسلامى الأصيل على أساس من الاجتهاد الخالص الحر، نجد طابع هذا الفكر الصدق والانطلاق إلى الأمام. ولا نكاد نلمس فيه تنابزا ولا خصومة خارجة عن روح النظر السليم بين المختلفين فى موضوعاته وقضاياه. ونجد المسلمين يومئذ أصحاب رأى، وأصحاب حجة، وأصحاب علم، فيما باشروه من ضروب التفكير المختلفة. يقول ابن خلدون: "ثم إن هذه العلوم الشرعية النقلية قد نفقت أسواقها فى هذه الملة بما لا مزيد عليه، وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التى ما فوقها غاية. وهذبت الاصطلاحات، ورتبت الفنون، فجاءت من وراء الغاية فى الحسن والتنمق. وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه، وأوضاع يستفاد منها التعليم " . * تطور الفكر الإسلامى: ولكن تطور الفكر الإسلامى الأصيل لم يستمر فى اتجاهه الذى سلكه أولا، ولم يستصحب معه مبدأ "الحركة" فى سيره، وهو مبدأ الاجتهاد. بل مال إلى اتجاه آخر، وهو الفكر الأجنبى الذى اقتحم الجماعة الإسلامية على عهد المأمون، وفرض نفسه على الحياة الفكرية الإسلامية يومئذ وبعدئذ. ص _123(1/118)
ثم إلى جانب ذلك، قلَّت العناية بالاجتهاد، وضاق نطاقه فى آفاق التفكير الإسلامى. وبهذا وذاك لم يصبح الإسلام وحده مصدر الفكر الإسلامى، بل شاركه فيه- للأسف- هذا العنصر الدخيل، كما أصبحت خطوات سيره بطيئة لا تكاد تُحس. وبمشاركة الفكر الأجنبى الإسلامَ نفسه فى تغذية الفكر الإسلامى، لُقحت الاتجاهات الفكرية والمذاهب المختلفة فى الجماعة الإسلامية ببواعث وغايات أخرى. وأضيف إلى تلك الاتجاهات الممهدة القديمة اتجاهات، قلَّما تصادقها، بل كثيرا ما تعارضها، أو تناقضها. عُرفت فى الجماعة الإسلامية ـ بعد ترجمة الفكر الإغريقى الوثنى الفلسفى والفكر الشرقى الدينى الإشراقى، والبرهمى ـ علوم المنطق والفلسفة الإلهية، والطبيعة، والتنسك الإسلامى. واستحدث فيها- منذ ذلك العهد أيضا- علوم التصوف والسحر والطلسمات وأسرار الحروف. وما نقل أو استحدث من العلوم لم يبق منعزلا فى الجماعة الإسلامية عن اتجاهات الفكر الأصيل فيها، بل تسلل إلى علوم الدين نفسها. ويجمل "ابن خلدون " وصف هذه العلوم- الأجنبية- وأثرها بقوله: "عكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذقوا فنونها، وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها، وخالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول، واختصوه بالرد والقبول لوقوف الشهرة عنده، ودونوا فى ذلك الدواوين، وأربوا على من تقدمهم فى هذه العلوم. وكان من أكابرهم فى الملة أبو نصر الفارابى، فى المائة الرابعة لعهد "سيف الدولة ". وأبو على بن سينا فى المشرق فى المائة الخامسة لعهد " نظام الملك " من بنى بويه بأصبهان. والقاضى أبو الوليد بن رشد، والوزير أبو بكر بن الصائغ بالأندلس، إلى جانب آخرين بلغوا الغاية فى هذه العلوم، واختص هؤلاء بالشهرة والذكر. واقتصر كثير على انتحال التعليم (الكيمياء) وما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات ص _124(1/119)
ووقفت الشهرة فى هذا المنتحل على مسلمة بن أحمد المجريطى من أهل الأندلس وتلاميذه. ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة. واستهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها. والذنب فى ذلك لمن ارتكبه، ولو شاء الله ما فعلوه " . لم تنج آثار الفكر الإسلامى الأصيل، وهى: التفسير، والفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام، من التأثر بهذه العلوم المترجمة والمستحدثة بعد نقلها إلى اللغة العربية. فتفسير " الكشاف " للزمخشرى ـ وهو معتزلى ـ تأثر بمنهج الاعتزال وبالفكر الاعتزالية. ومدرسة الاعتزال فى تطورها- وبالأخص فى قضية " التوحيد " ومشكلة الصفات الإلهية- تأثرت بالفكر الأرسطى الأفلوطينى الحديث. وتفسير محيى الدين بن عربى تأثر ـ كما ذكرنا ـ بمذهب البراهمة فى وحدة الوجود، وبفكرة الحلول عند المسيحيين. هذا فضلا عن تفسيرات ابن سينا، أو إخوان الصفا، أو غيرهم من الغلاة ممن وقعوا تحت تأثير الفكر الأجنبى. والفقه الإسلامى نافسه التصوف الإسلامى، بعد ترجمة التنسك، والصوفية الشرقية. وبينما بقى الفقه فى مجال معرفة الأحكام الشرعية فى أفعال العباد، عن طريق المدارك الإنسانية فى نصوص الشريعة، اعتمد التصوف الإسلامى على الذوق فى المعرفة، والمحاسبة على أعمال النفس، بعد الإيمان. وأصبحت أفعال الإنسان تقاس بمقياسين: مرة بمقياس الأحكام الفقهية فى العبادات والعادات والمعاملات. ومرة بمقياس الذوق والمحاسبة. وابتدأت هذه المنافسة تتحول إلى خصومة . ص _125(1/120)
يقول الغزالى- وهو من ممثلى المرحلة الوسطى فى تطور التصوف الإسلامى: " فأدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء. وقد شغر منهم الزمان، ولم يبق إلا المترسمون. وأصبح كل واحد يعالج حظه مشغوفا، فصار يرى المعروف منكرا ،والمنكر معروفا. حتى ظل علم الدين مندرسا، ومنار الهدى فى أقطار الأرض منطمسا. ولقد خيلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة، تستعين بها القضاة على فصل الخصام عند تهارش الطغام، أو جدل يتذرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام، أو سجع مزخرف يتوسل به الواعظ إلى استدراج العوام. إذ لم يروا ما سوى الثلاثة مصيدة للحرام وشبكة للحطام. فأما علم طريق الآخرة- وهو الرياضة النفسية- ما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه فى كتابه فقها وحكمة وعلما وضياء ونورا وهداية ورشدا، فقد أصبح من بين الخلق مطويا، وصار نسيا منسيا" . ولكنها- مع ذلك- خصومة لم تصل إلى عداوة وقطيعة. لأن علم التصوف- حتى الآن- لم يبلغ نهايته فى التطور. فأكثر عناصره إسلامية، ولكنه تميَّز بما يعرف : بمجاهدة النفس ومحاسبتها. يصفه "ابن خلدون " فى هذه المرحلة بقوله : " فالروح العامل والمتصرف فى البدن ينشأ من إدراكات وإرادات وأحوال، وهى التى يميز بها الإنسان. وبعضها ينشأ من بعض، كما ينشأ العلم من الأدلة، والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به، والنشاط عن الجمام، والكسل عن الإعياء. وكذلك "المريد" فى مجاهدته وعبادته، لابد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة حال، نتيجة تلك المجاهدة. ولا يزال يترقى المريد من منام إلى مقام، إلى أن ينتهى إلى التوحيد والمعرفة، التى هى الغاية المطلوبة للسعادة. فالمريد لابد له من الترقى فى هذه الأطوار. وأصلها كلها الطاعة والإخلاص، ويتقدمها الإيمان ويصاحبها، وينشأ عن هذه ص _126(1/121)
الأحوال والصفات نتائج وثمرات. ثم تنشأ مقامات أخرى وأخرى إلى أن يبلغ السالك مقام التوحيد والعرفان... وإذا وقع تغيير فى النتيجة، أو خلل، فنعلم أنه أتى من قِبل التقصير فى العمل الذى قبله، وكذلك فى الخواطر النفسية والواردات القلبية. فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة النفس فى سائر أعماله، وينظر فى حقائقها. لأن حصول النتائج من الأعمال! ضرورى، وقصورها من الخلل فيها كذلك. والمريد يجد ذلك (الخلل) بذوقه، ويحاسب نفسه على أسبابه، ولا يشاركهم فى ذلك إلا القليل من الناس. لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة. وغاية أهل العبادات (الفقه) إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع، أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه فى الإجزاء والامتثال. وهؤلاء (المريدون) يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجيد، ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أولا. فظهر أن أصل طريقتهم (يعنى المريدين) محاسبة النفس على الأفعال والتروك. والكلام فى هذه الأذواق والمواجيد التى تحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقدما، ويترقى منها إلى غيرها. ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم، واصطلاحات فى ألفاظ تدور بينهم. فلهذا اختُص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذى ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه. وصار علم الشريعة على صنفين: - صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا ، وهى الأحكام العامة فى العبادات والعادات والمعاملات. - وصنف مخصوص بالقوم (المتصوفة) فى القيام بهذه المجاهدة، ومحاسبة النفس عليها، والكلام فى الأذواق والمواجيد العارضة فى طريقها، وكيفية الترقى منها من ذوق إلى ذوق، وشرح الاصطلاحات التى تدور بينهم فى ذلك. فلما كتبت العلوم ودونت، وألَّف الفقهاء فى الفقه وأصول الفقه والكلام والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة فى طريقهم. ص _127(1/122)
فمنهم من كتب فى الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء فى الأخذ والترك، كما فعل القشيرى فى كتاب "الرسالة"، والسهروردى فى كتاب "عوارف المعارف".. وأمثالهم. وجمع الغزالى بين الأمرين (الفقه والتصوف) فى كتاب "الإحياء ". فدوَّن فيه أحكام الورع والاقتداء، ثم بيَّن آداب القوم وسنتهم، وشرح اصطلاحاتهم فى عبارتهم. وصار علم التصوف فى الملة علما مدونا، بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط (أى فقها فقط). وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال، كما وقع فى سائر العلوم التى دوِّنت بالكتابة من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك " . وعلم الكلام الإسلامى كان- من بين اتجاهات الفكر الإسلامى الأصيل- أشد تأثرا واشتباكا بالمنقول إلى العربية من الفكر الأجنبى. قال ابن خلدون: "ولما وضع المتأخرون فى علوم القوم ودوَّنوا فيها، ورَدَّ عليهم الغزالى ما رَدَّ منها، ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة- لعروضها فى مباحثهم ـ تشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها، وصارت كأنها فن واحد... وصار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة، وكتبه محشوة بها. كأن الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد، والتبس ذلك على الناس، وهو غير صواب. لأن مسائل "علم الكلام " إنما هى عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف، من غير رجوع فيها إلى العقل، ولا تعويل عليه، لا بمعنى أنها لا تثبت إلا به. فإن العقل معزول عن الشرع وأنظاره. وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن وجه الحق فيها. فالتعديل بالدليل- لإثبات معلوم بعد أن لم يكن معلوما- هو شأن الفلسفة، أما منهج علم الكلام فهو التماس حجة عقلية، تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف، ص _128(1/123)
وتدفع شبه أهل البدع، وذلك بعد أن تفرض هذه العقائد أولا صحيحة بالأدلة النقلية، كما تلقاها السلف واعتقدوها، وبعيد ما بين المقامين ". قال ابن خلدون: "وذلك أن مدارك صاحب الشرع أوسع لاتساع نطاقه عن مدرك الأنظار العقلية. فهى فوقها ومحيطة بها، لاستمدادها من الأنوار الإلهية. فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف. فإذا هدانا الشرع إلى مدرك فينبغى أن نقدمه على مداركنا ونثق به. ولا ننظر فى تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه . بل نعتمد على ما أمرنا به اعتقادا وعلما، ونسكت عما لم نفهم من ذلك، ونفوضه إلى الشارع ونعز العقل عنه... وصار احتجاج أهل الكلام- بعد هذا الخلط- كأنه إنشاء لطلب الاعتداد بالدليل، وليس الأمر كذلك. بل إنما هو رد على الملحدين، والمطلوب مفروض الصدق ومعلومه " . وبهذا يشرح "ابن خلدون " مدى اختلاف طريق علماء الكلام بطريق الفلاسفة، وأثر ذلك فى قيمة العقائد الدينية والتلبيس على الجهة التى تؤخذ منها وتعتبر بها، وهى القرآن والسُنَّة لا غير. إن الفكر الأجنبى الذى نقل إلى اللغة العربية لم يقتصر أثره السلبى على توجيه تفسير القرآن وجهة أخرى تضاد وجهته الأصلية، ولا على منافسة علم التصوف للفقه، ولا على خلط طريق المتكلمين بطريق الفلاسفة. بل تجاوز ذلك كله، وخلق فى الفقه اتجاها يناوئ الإسلام، وخلق فى التصوف اتجاها مثله. وذلك بما حمله هذا الفكر من عناصر فلسفية وثنية، وعناصر أخرى براهمية هندية. ص _129(1/124)
هذا الفكر الدخيل حمل معه ـ فى شرح حقيقة الوجود ـ ثالوث الأفلاطونية الحديثة القائم على أن: العلة الأولى، أصل الوجود كله، ثم العقل، والنفس الكلية كموجودات، تعتبر الأصول والنماذج الرفيعة لكل ما عداها من بقية الموجودات. حمل معه هذا الثالوث- بعد أن أقحمه من قبل الإسلام فى المقدسات المسيحية- فأوجد فيها التثليث المعروف فيها بالله، وابن الله، والروح القدس. وهذا الفكر الأجنبى عن الإسلام حمل معه أيضا وحدة الوجود الشاملة. وهى أن ما فى الكون- مع كثرته- تجل لشىء واحد، وتفصيل لموجود واحد، هو العلة والأصل، أو المعبود المقدس. فهذا المعبود المقدس جوهر الوجود، وحال فى هذه الكثرة اللانهائية من الكائنات المشاهدة. كما حمل معه ترتيب الموجودات فى انبثاقها أو فى صدورها عن طريق الفيض، وكذا فى تقلصها وعودتها إلى الأصل الذى فاضت عنه. وهذه الفكرة هى التى تُعرف بالجدل الصاعد، والجدل النازل فى مدرسة الإسكندرية. هذه الفكرة خلقت فى الفقه الشيعى اتجاه الغلاة، وهم مَن يُعرفون بالإسماعيلية، أو الباطنية، أو التعليمية، أو الرافضة. ووجد بعضهم باسم القرامطة، وبعض آخر باسم الدروز أو الحاكميين فى "الشام" ، وبعض ثالث باسم الفاطميين أو العبيديين فى "مصر"، وبعض رابع باسم أصحاب الداعى المطلق فى " اليمن "، وبعض خامس باسم النزاريين فى "الهند"، ومن زعمائهم أغاخان... إلخ. وفقه غلاة الشيعة هؤلاء قام على الاعتقاد بالتثليث: الله، ومحمد، والإمام، وعلى أن الإمام حقت فيه روح الله، فهو معصوم عن الخطأ فى قوله، وعمله. وقوله حجة فى التشريع لا تقل عن حجية القرآن، بل قد تفوقه أحيانا. إذ بقوله تنسخ بعض أحكام القرآن أو توقف. وفقه الغلاة قام على قول الإمام أكثر من قيامه على نصوص القرآن. ومتقدمو الشيعة من الإمامية والإثنا عشرية يعدون هؤلاء خارجين عن الإسلام وكفرة به، كما تنظر إليهم بقية المسلمين هذه النظرة. ص _130(1/125)
والذى حدث هنا حدث أيضا فى التصوف. فالتصوف الذى ذكرناه من قبل- وهو التصوف القائم على الطاعة والإيمان، وعلى المجاهدة ومحاسبة النفس- تحوَّل- تحت تأثير هذه الفكر الدخيلة- إلى ما صار إليه اتجاه الغلاة من الشيعة، فهم يقولون بالتثليث أيضا، ثالوثهم : الله، ومحمد ، و"القطب ". وفى القطب حلت روح الله، فهو معصوم، ساقطة عنه التكاليف، واجب التوسل به، لأنه مركز إنقاذ البشرية. وزاد التصوف فى التأثر بالفكر الدخيلة عن اتجاه غلاة الشيعة، بأن اعتقد بعض المتصوفة المتأخرين بالوحدة الشاملة، وبالتجلى. على معنى أن هذه الكائنات هى عين الله، والتعبير عنه: "كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفونى". يقول "ابن خلدون " فى وصف هؤلاء المتأخرين من المتصوفة: "وكذا جاء المتأخرون من غلاة المتصوفة المتكلمين بالمواجيد أيضا فخلطوا مسائل الفنيين بفنهم، وجعلوا الكلام واحدا فيها. مثل كلامهم فى النبوات، والاتحاد، والحلول، والوحدة، وغير ذلك " . كما يقول: "ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والمدارك التى وراءه. واختلفت طرق الرياضة عندهم فى ذلك، باختلاف تعليمهم فى إماتة القوى الحسية، وتغذية الروح العاقل بالذكر، حتى يحصل للنفس إدراكها الذى لها من ذاتها، بتمام نشوتها وتغذيتها. فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر فى مداركها حينئذ، وأنهم كشفوا ذوات الوجود، وتصوَّروا حقائقها كلها من العرش إلى الفرش.... وقصرت مدارك من لم يشاركهم فى طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجيدهم فى ذلك. وأهل الفتي، بين منكر عليهم ومسلم لهم. وليس البرهان والدليل بنافع فى هذا الطريق ردا أو قبولا، إذ هى- بزعمهم- من قبيل الوجدانيات. ص _131(1/126)
وربما قصد بعض المصنفين بيان مذاهبهم فى كشف الوجود، وترتيب حقائقه، فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة لأهل النظر (الدليل) والاصطلاحات والعلوم. كما فعل الفرغانى شارح قصيدة ابن الفارض فى الديباجة التى كتبها فى صدر ذلك الشرح. فإنه ذكر فى صدور الوجود عن الفاعل، وترتيبه: أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية، التى هى مظهر الأحدية. وهما معا صادران عن الذات الكريمة، التى هى عين الوحدة لا غير، ويسمون هذا الصدور بالتجلى. وأول مراتب التجليات عندهم: تجلى الذات على نفسه. وهو يتضمن الكمال وإفاضة الإيجاد والظهور. لقوله فى الحديث الذى يتناقلونه: "كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفونى" وهذا الكمال، فى الإيجاد المتنزل فى الوجود وتفصيل الحقائق- وهو الوجود الحق عندهم- يأخذ هذا النسق: ا- عالم المعانى والحضرة الكمالية. 2- والحقيقة المحمدية، وفيها حقائق الصفات، واللوح، والقلم، وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين. 3- والكُمَّل من أهل الملِّة المحمدية. وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية. وتصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى فى الحضرة البهائية، وهى: ا- مرتبة المثال، ثم العرش، ثم الكرسى، ثم الأفلاك. 2- ثم عالم العناصر. 3- ثم عالم التركيب، هذا فى عالم الرتق، فإذا تجلت فهى فى عالم الفتق. (كانتا رتقا ففتقناهما) . ص _132(1/127)
ويسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلى والمظاهر والحضرات. وهو كلام لا يقتدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه، لغموضه، وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل. وكذا ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة وتفاريعها. وهو رأى أقرب من الأول فى تعقله وتفاريعه. ويزعمون فيه: أن الوجود له قوى، فى تفاصيله، بها كانت حقائق الموجودات، وصورها وموادها. والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى، وكذلك مادته، لها فى نفسها قوة بها كان وجودها. ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة فى القوة التى كان بها التركيب: كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها وزيادة القوة المعدنية. ثم القوى الحيوانية تتضمن القوة المعدنية وزيادة قوتها فى نفسها. وكذلك القوة الإنشائية مع الحيوانية. ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة، وكذلك الذوات الروحانية. والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل هى القوة الإلهية التى انبثت فى جميع الموجودات كلية وجزئية، وجمعتها وأطاحت بها من كل وجه، لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء، ولا من جهة الصورة ولا من جهة المادة. فالكل واحد، وهو نفس الذات الإلهية. وهى الحقيقة واحدة بسيطة، والاعتبار هو المفصل لها. كالإنسانية مع الحيوانية. ألا ترى أنها (الحيوانية) مندرجة فيها وكائنة بكونها. فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع فى كل موجود كما ذكرناه. وتارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال. وهم فى هذا يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه. وإنما أوجبها عندهم الوهم والخيال. ص _133(1/128)
والذى يظهر من كلام ابن دهقان فى تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه فى الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء فى الألوان من أن وجودها مشروط بالضوء. فإذا عُدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه. وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسى، بل الموجودات المعقولة والمتوهمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقلى. فإذن الوجود المفضل كله مشروط بوجود المدرك البشرى... ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة، المتكلمين فى الكشف وفيما وراء الحس، توغلوا فى ذلك. فذهب الكثير منهم إلى الحلول، والوحدة، كما أشرنا إليه، وملئوا الصحف منه. مثل " الهروى " فى كتاب " المقامات "، وغيره. وتبعهم ابن عربى، وابن سبعين، وتلاميذهما: ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلى فى قصائدهم. وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة، والدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة، وهو ما لم يعرف لأولهم. فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم. وظهر فى كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه رأس العارفين. يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد فى مقامه فى المعرفة، حتى يقبضه الله، ثم يورث مقامر لآخر من أهل العرفان... ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب، كما قال الشيعة فى النقباء"(1). وازداد المتصوفة تأثرا بالعلوم المنقولة من الخارج. فتأثروا- زيادة عن تأثرهم بالفكر الأفلوطينى الحديث والبرهمى الهندى- بفكر الكلدانيين والآشوريين فى بابل. تأثروا بفن الطلسمات، وهو العلم بكيفيات واستعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثير فى عالم العناصر، بمعين من الأمور السماوية. وأحدثوا علما سُمى بعلم أسرار الحروف. ص _134(1/129)
وحدث هذا العلم فى الملة بعد صدر منها، وعند ظهور الغلاة من المتصوفة، وجنوحهم إلى كشف حجاب الحس وظهور الخوارق على أيديهم والتصرفات فى عالم العناصر، وتدوين الكتب والاصطلاحات، ومزاعمهم فى تنزل الوجود عن الواحد وترتيبه. "وزعموا أن الكمال الأسمائى مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب. وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية فى الأسماء. فهى سارية فى الأكوان على هذا النظام. والأكوان لون من الإبداع الأولى تنتقل- هذه الطبائع- فى أطواره، وتُعرب عن أسراره. فحدث لذلك علم أسرار الحروف... تعددت فيه تآليف البونى وابن عربى، وغيرهما... "وحاصله عندهم وثمرته تصرف النفوس الربانية فى عالم الطبيعة بالأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف بالأسرار، والسارية فى الأكوان... وإنما مستندهم فيه الذوق والكشف. قال البونى فى كتابه "الأنماط ": ولا تظن أن سر الحروف مما يتوصل إليه بالقياس العقلى، وإنما هو بطريق المشاهدة، والتوفيق الإلهى... وتصرف أصحاب الأسماء (فى الطبيعة) إنما هو بما حصل لهم بالمجاهدة والكشف من النور الإلهى والإمداد الربانى، فيُسخر الطبيعة لذلك طائعة، غير مستعصية، ولا يحتاج إلى مدد من القوى الفلكية ولا غيرها" . ومن طريق ثقافة بابل القديمة نُقل أيضا السحر إلى اللغة العربية، وعُرف بالميل إليه، وبالتدوين فيه، بعض علماء مسلمين، ممن لم ينخرطوا فى سلك التصوف. قال ابن خلدون: "... ولم يُترجم لنا من كتبهم- يعنى أهل بابل من السريانيين والكلدانيين وأهل مصر من القبط- فيها (فى علم السحر والطلسمات) إلا القليل، مثل الفلاحة النبطية من أوضاع أهل بابل. "فأخذ الناس عنهم هذا العلم وافتنوا فيه... ص _135(1/130)
ثم ظهر بالشرق "جابر بن حيان " كبير السحرة فى هذه الملة، فتصفح كتب القوم واستخرج منها الصناعة ( الكيمياء)... ووضع فيها وفى غيرها التآليف. وأكثر الكلام فيها وفى صناعة السيمياء، لأنها من توابعها. ولأن إحالة الأجسام النوعية من صور إلى أخرى إنما يكون بالقوة النفسية، لا بالصناعة العلمية فهو من قبيل السحر.. ثم جاء "مسلمة بن أحمد المجريطى"، إمام أهل الأندلس فى التعاليم (العلوم الرياضية) والسحريات فلخص جميع تلك الكتب، وهذبها، وجمع طرقها فى كتابه الذى سماه "غاية الحكيم "، ولم يكتب أحد فى هذا العلم بعده " . * * * * وقوف مبدأ "الحركة، فى الفكر الإسلامى الأصيل: هذا ما انتهى إليه تأثير علوم الحكمة المنقولة، على اتجاهات الفكر الإسلامى الأصيل. وبجانب هذا المصير الذى انتهت إليه بعض اتجاهاته، نلحظ أنه قد وقع فى طريق هذا الفكر ما جعله يعجز عن الاستمرار فى الحركة البنائية، التى بدأها بداية أصيلة أول ما درج فى الحياة، والتى بلغت أوجها عند نهاية القرن الثالث الهجرى. أصيب الفكر الإسلامى الأصيل بالجمود. مُنع "الاجتهاد" فى استنباط الأحكام وفهم النصوص. وانتهى الفقه الإسلامى فى رأى الجمهور- عدا مذاهب أهل البيت، والخوارج- إلى التقليد. وصار الفقه لا يعدو عمل التابع، داخل إطار المذهب المقلِّد له. وصار التقليد إلى مذهب بعينيه، لا يتجاوز إلى غيره. "ولما كثر تشعب الاصطلاحات فى العلوم، وعاق القصور عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولما خُشى من إسناده إلى غير أهله ومن لا يوثق برأيه ودينه صرحوا بالعجز والإعواز، وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء (الأئمة الأربعة فى فقه السُنَّة). وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب. أى لا يجوز للمسلم اتباع أكثر من مذهب! ص _136(1/131)
ولم يبق إلا نقل مذاهبهم، وعمل كل مقلد بمذهب مَن قلده منهم، بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية. ولا محصول للفقه غير هذا، ومدعى الاجتهاد لهذا العهد (فى المائة السابعة) مردود على عقبه، مهجور تقليده " . وبمنع تداول التقليد بين المذاهب اشتد الفاصل بينها، واتسعت الفجوة- بالتالى- بين المقلدين بكل مذهب منها. "ولما صار مذهب كل إمام علما مخصوصا عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس، احتاجوا إلى تنظير المسائل فى الإلحاق، وتفريقها عند الاشتباه، بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذهب إمامهم. وصار ذلك كله يحتاج إلى مَلكة راسخة، يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير أو التفرقة، واتباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا. وهذه الملكة، هى "علم الفقه " لهذا العهد" . وإذا تحول الاجتهاد إلى تقليد، وتحولت ملكة الاستنباط والاستخراج إلى التأسى واتباع ما وضعه إمام المذهب، بل إذا حيل بين المقلدين وبين الاختيار فى التقليد، أو بين التنقل فى التبعية- فالمنتظر أن تصبح المذاهب الفقهية أشبه بالديانات المختلفة، فى التعصب لها والجدل حول قيمها بين الأتباع. بل قد أصبح هذا المنتظر حقيقة واقعة واستُحدث فى الجماعة الإسلامية ما يسمى بعلم " الخلافيات ". وقوام هذا العلم محاجة أصحاب كل مذهب وأتباعه لأصحاب المذهب الآخر وأتباعه، فى قيمة المذهب ووجوب تبعيته. قال ابن خلدون: "فاعلم أن الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين، باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافا لابد من وقوعه.. واتسع ذلك فى الملة اتساعا عظيما. وكان للمقلدين من شاءوا منهم. ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار، وكانوا بمكان من حسن ص _137(1/132)
الظن بهم، اقتصر الناس على تقليدهم، ومنعوا من تقليد سواهم، لذهاب الاجتهاد وصعوبته. ولما تشعبت العلوم التى هى مراده باتصال الزمان وافتقاد من يقوم عليها سوى هذه المذاهب الأربعة وأقيمت هذه المذاهب الأربعة أصول الملة، وأجرى الخلاف بين المتمسكين بها والآخذين بأحكامها، مجرى الخلاف فى النصوص الشرعية، والأصول الفقهية، وجرت بينهم المناظرات فى تصحيح كل منهم مذهب إمامه، تجرى على أصول صحيحة وطرائق قويمة، يحتج بها كل على مذهبه الذى قلَّده وتمسك به... كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات. وقد جمع ابن الساعاتى فى مختصره فى أصول الفقه جميع ما يبنى عليها من الفقه الخلافى، مدرجا فى كل مسألة ما يبنى عليها من الخلافيات " . * * * لقد ابتدأ الفكر الإسلامى بَيِّن القسمات، واضح السمات بعد ظهور الإسلام واستقرار الجماعة الإسلامية وقيام دولتها وتميز حضارتها. واتجه هذا الفكر اتجاها أصيلا يستوحى فيه القرآن والسُنَّة الصحيحة، بعد أن تطلب منه الحياة وظروفها المتجددة أن يستوحى، ويستهدى. فكان يسير بنصوص إسلامه، وبهداية عقله البشرى معا. وكلما اتسعت رقعة الحياة الإسلامية، وتعددت مطالبها، وازدادت مواجهة المسلمين لحضارات الآخرين استجاب الفكر الإسلامى لمقتضيات الواقع. كان سلفنا الأول على هذا النحو أساس تفكيرهم الإسلام، وإعمال الفكر أو"الاجتهاد ". وبذلك أنشئوا فكراً إسلاميا خاصا بهم، وبنوا فيه، وبلغوا فى البناء القمة، كما وكيفا. لكن لم تكن كل الدوافع لهم فى إنشائه، وفى البناء عليه، هى مقتضيات الواقع فى حياتهم وحدها. بل وُجد بين هذه الدوافع، عوامل أخرى تتصل بالرغبات والآمال، وُجدت تيارات السياسة، ومشكلات "الرياسة"، ونزل أمرها فى مجال الفكر الإسلامى، بجانب مقتضيات الحياة الضرورية. ص _138(1/133)
ثم إن اضطراب نظم الحكم فى البلاد الإسلامية كان بعيد المدى للأسف فى إثارة الفوضى الثقافية. وهكذا نرى أنه: عن طلب المعونة من الفكر الأجنبى مرة، وعن كثرة الإلحاح فى عرضه مرة أخرى، نقل هذا الفكر إلى اللغة العربية، ومارسه المسلمون. وكان له من التأثير على الفكر الإسلامى الأصيل ما رأينا من: 1- اضطراب فى تصوير أهداف القرآن الكريم وأساليب تفسيره. 2- ومن اضطراب فى فهم السُنَّة ومكانتها، ووضع بعض الأحاديث منسوبة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . 3- ومن الخروج بعلم الكلام الإسلامى عن غايته المقررة له. 4- ومن انسلاخ بعض المذاهب الفقهية والاعتقادية ـ مثل الشيعة الغلاة وبعض المتصوفة ـ عن دائرة الإسلام وعقائده. 5- ومن خلق منافس للفقه، ثم معاد له وللإسلام جملة، وهو تصوف الغلاة. 6- ومن خلق علوم أخرى فى الجماعة الإسلامية، كعلوم السحر والطلسمات وأسرار الحروف، من شأنها أن تصرف الناس عن الحق وتعاليمه وتجعلهم يؤمنون بخرافات لا أصل لها، وزاد الطين بلة أن هذا الفكر الإسلامى الأصيل ظل ينحدر إلى أن خرج عن أصالته، وأوهى الركود الأدبى الأساس الذى قام عليه: - أوهى الرجوع إلى النصوص الشرعية، واستعاض عنها بكلام أئمة المذاهب. - وألغى مبدأ الحركة فى الفكر وهو "الاجتهاد" واستعاض عنه بالتقليد. تعطل إذن الفكر الإسلامى وجمد، ونسى القرآن، ونُسيت السُنَّة!! وانتقل التقويم إلى المذاهب وإلى كتاب الإنسان بعد كتاب الله. وشارك الإنسان الله فى عصمة قوله. وشاعت خرافات وأوهام لا حصر لها فى البيئة الإسلامية عرضتها بعد قليل للانهيار. ولم يبق الإسلام دين المبادئ التى يعرف بها الأشخاص، إذ أصبح التقديس للأشخاص الذين تعرف بهم المبادئ. ص _139(1/134)
ولم يبق دين التوحيد النقى، إذ أصبح دين الوحدة الشاملة أو الاتحاد، أو الشفعاء والوسطاء. ولم يبق دين الجماعة كلها، إذ أصبحت الأمة طوائف ذات مذاهب وعقائد شتى. ثم ضعفت الدولة وانهارت، وسقطت سُلطتها العامة على الأقاليم وتقسمت إلى دويلات. وتفرقوا شيعا فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين ومنبر!! فلما ضعفت الجماعة الإسلامية فى تفكيرها، وفى إيمانها وفى روابطها، وفى وحدتها، ضعفا أغرى بها الغزاة من الخارج، ماتت فيها روح المقاومة فاقتحمها التتار فى الشرق، وغزاها الصليبيون من الغرب. تلك كانت حالها فى القرن السابع الهجرى وما قبله. لكن هل خلت الأرض من قائم لله بحجة؟ كلا! فما من عصر إلا وكان فيه من يهيب بالجائر عن الطريق أن يرشد.. وقد وجد فى أمتنا من تعقب الانحراف عندما نجم، ومن قاومه بعد ما نما، ومن خاصمه بعنف وحدة حتى رد للحق مكانته وأعلى رايته، وتفصيل هذا الجهاد العلمى المضنى طويل. وأحسن ما نوصى به لاستبانة معالمه قراءة كتاب "رجال الفكر والدعوة فى الإسلام " للعلامة أبى الحسن الندوى.. سدد الله خطاه ونفع به. ص _140(1/135)
4ـ من بدع العقائد التوحيد جوهر الإسلام ومظهره، ولُبابه وقشوره، ودعامة التعاليم التى جاء بها، بل هو رباط بنائه، ولون طلائه، ومقعد أصوله وفروعه... وليس الإسلام بدعا فى الدعوة إلى توحيد الله. فرسل الله- قاطبة- بعثوا بهذا ا لإيمان الخالص، وجمعوا الناس عليه، وحذروهم من كل شائبة تعكر صفوه وتطفىء رونقه: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) غير أن جماهير غفيرة من البشر أبت إلا أن تزيغ عن هذا الصراط، وأن تتشبث بأوهام سخيفة، باعدتها عن الله، وأحلتها البوار. فكان كل نبى سبق، يجىء بالحق، ويناشد الأمم أن تثوب إليه، حتى جاء خاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. فصدَّع صرح الشرك، وخط فى شغاف القلوب عقيدة الإيمان بالله الواحد. وكان القرآن الكريم- ولا يزال- النداء العالى لهذا اليقين الحق، والمجادل القوى عما يعرض له من شبه أو يلتبس به من تخليط... ومن المؤسف، أن المسلمين أصابهم مس من داء الأمم السابقة، فظلموا رسالتهم الجليلة بما شابوا به عقيدة التوحيد، وبما أقحموه عليها من بدع وخرافات. وهى بدع وخرافات، تشبه ما انزلق إليه الأولون، أو هى ترديد لما كان من لغو... حذوك النعل بالنعل: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون) ص _141(1/136)
والابتداع قد يأتى بالشىء وضده معا، ليُفسد العقيدة الوسط. فتسوية المخلوق بالخالق شرك يفسد عقيدة التوحيد، وكذلك إفناء الخلق فى الخالق، ضلال لا أصل له فى هذه الملة، وإن كان ظاهره أنه غلو فى تقدير الله، وإغراق فى مبدأ التوحيد. * * * وحدة الوجود: كنا نظن أن هذه الخرافة قد انتهت بانتهاء أصحاب الشطحات الذين اشتُهروا فى التصوف القديم. إلا أن نفرا من عصاة المسلمين فى عصرنا هذا عندما يتركون حياة المجون، ويرغبون فى العودة إلى الله وتصيبهم لوثات غريبة. فيحسبون أن من تمام توبتهم تغليب ذات الله على كل ما يعرض لهم من أشخاص وأشياء. فتراهم يخرجون من أنفسهم، ويسلخون العالم من خصائصه العتيدة. وقد تردد على ألسنتهم كلمة "الحلاج " عندما سُئل: من فى الجبة؟ قال: الله… ولما كان من المتعذر بناء سلوك عملى على هذه الفكرة، فإن الجانحين إليها يكتفون بنوع من الجبر الذى يشل الإرادة، والتسليم لما تفد به الأحداث، ثم الحديث عن الله الكامن فى كل شىء حديث استكانة وذوبان... وقد أصيب جمهور المسلمين برشاش من هذه الخارفة، وأوقف نمو المنطق المادى فى بلاد الإسلام، وخلط بالإلهيات أمورا كثيرة، لا تمت إليها بسبب. إن العالم شىء يغاير الله- برغم ما يقوله فريق من المتصوفة- ولله عز وجل ذاته وأسماؤه، وحقوقه التى فصلت تفصيلا فى كتبه المنزَّلة. وهناك فرق كبير، بين وحدة الوجود، ووحدة الشهود. إن المرء قد يستغرق فى النظر إلى مسألة ما استغرافا يذهله عما حوله. وربما نودى- وهو غارق فى بحار الفكر- فلا يسمع النداء. فهل هذه الصورة من صور الانحصار الذاتى، تعنى فناء ما حول الإنسان، لأن الإنسان غائب عنه بفكره؟ ص _142(1/137)
والشمس تطلع فتغمر بأشعتها الساطعة أرجاء الكون فلا يمكنك أن ترى فى الأفق البعيد أو القريب نجما، حتى إذا عاد الليل ونشر ظلامه أخذت النجوم المختفية عن العين تلوح فرادى وجماعات.. هل غلبة أشعة الشمس عليها تعنى لمن لا يراها أنها معدومة؟ إن من المؤمنين الأخيار من يعيشون فى أنوار الله معيشة رفيعة، رسخوا فى مقام الإحسان حتى ألفوا أطواره الزاهية. ومقام الإحسان- كما عرفه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . وهذا الإلف يصح أن يُطلق على حقيقته وحدة الشهود. وهى منحى يغاير تمام المغايرة، وحدة الوجود، وإن اختلط الأمران على القاصرين. وأكثر الذين يعتنقون فكرة ما، أو تُسيِّرهم عاطفة خاصة، يقيسون ما يلقاهم من شئون الحياة على شئونها، ألا ترى الرجل الغزل يقول: لا أرى الدنيا على نور الضحى بل أرى الدنيا على نور العيون فليس بعجيب أن يوجد مؤمنون تستوى على مشاعرهم عاطفة دينية، تجعل نشاطهم كله محصورا فى مرضاة الله، وتجعل نظرهم للأمور من هذه الزاوية الخاصة وحدها. بل فى هذا يساق الحديث المشهور عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أن الله قال: " مَن عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إلى عبدى بشىء أحب إلى مما افترضت عليه، وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه ". فالحديث يشير إلى مرتبة التفانى فى إرضاء الله تفانيا يجعل حواس المرء وجوارحه مسخرة فى طاعة القه وحده. ولا يعنى- ألبتة - أن إدمان العبادة ينتهى بحلول أو اتحاد كما يتصوره بعض ص _143(1/138)
السذج، أو ينتهى على القليل بطور خارق للنواميس المعتادة كما صوَّر ذلك المتصوفة فى حديث مكذوب: "عبدى، أطعنى أجعلك ربانيا تقول للشىء كن فيكون ". * * * * الوسطاء: ومما وقع فيه العوام: الاتجاه إلى قبور بعض الصالحين، يطلبون من أصحابها ما لا يُطلب إلا من الله عز وجل. لعل سر هذا الشرود، أن الناس يرون فى أنفسهم ضعة، تقصر بهم عن مناجاة الله مباشرة. فهم يذهبون لحاجاتهم إلى قوم أزكى حالا ليرفعوا عنهم ما لا يمكنهم رفعه بأفئدتهم وألسنتهم. وهذه العلة هى سر الانصراف عن الله الحق إلى عبيده الذين يسمعون، والذين لا يسمعون، بل الذين يعقلون والذين لا يعقلون. وكم من علة، ظاهرها زيادة توقير الله، بانتهاك حرمات الله. ألا ترى أن المشركين كانوا يطوفون بالكعبة عرايا، نساءً ورجالا، محتجين بأنه لا ينبغى أن يطوفوا فى ثياب عصوا الله فيها..؟ فالتحرج من الاتصال بالله، دون وساطة، كان جريمة الوثنية القديمة التى صوَّر القرآن الكريم اعتذارها عن شركها بقوله:(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى). وهذا الاعتذار نفسه، هو ما يردده سدنة الجاهلية الحديثة، فى دفاعهم عن قُصَّاد القبور طلبا للشفاء والفَلاح، والتماسا للنجدة والعون... وبديهى أن لا مكان فى الإسلام لوسطاء بين الله وخلقه، فإن كل مسلم مكلف أن يقف بين يدى الله مهما كانت حالته، وهو موقن بأن دعاءه ينتهى إلى سمع الرحمن من غير تدخل بشر آخر، أيا كان شأنه. والعبادة الأولى فى الإسلام- وهى الصلاة المقسمة على أجزاء النهار والليل- قوامها هذه الحقيقة المؤكدة التى لا ريب فيها. ص _144(1/139)
فكيف يوجب الله على عباده أن يترددوا على ساحته ويسألوه- حتما- الهداية إلى الصراط المستقيم، ويسجدوا بين يديه ضارعين طالبين؟ وكيف يعتبر التخلف عن هذه الصلوات كفرا به، أو إهدارا لحقه، ثم يسوغ لأحد من الناس بعد أن يقول: أنا محتاج لوسيط يحمل عنى إلى الله ما أريد؟ إن هذا لا تفسير له إلا الرغبة فى الشرك الخفى أو الجلى. وتسأل طالب الوساطة: من تختار ليكلم لك الله؟ فلو أنه اختار من الأحياء رجلا يتوسم فيه الصلاح ليدعو الله له لهان الخطب. بيد أن العجيب قصده إلى الأموات الذين انقطعت بالدنيا صلاتهم وأفضوا إلى ما قدموا من عمل. ولا شعور لهم بهذا القاصد الجهول الذى جاء، لِمَ؟ ليطلب منهم أو يستشفع بهم..؟ إن التفكير الإسلامى سقط فى هذه الوهدة الشائنة من أمد بعيد. فدارت حول الولاية والأولياء خرافات شتى. وجاءت على الناس أيام ظنوا فيها أن مقاليد الكون أصبحت بأيدى نفر من هؤلاء الهلكى يصرفونها- بدلالهم على الله- كيف يشاءون! وزاد الطين بلة، أن أولئك الأولياء المقصورين تجاوزت قدرتهم قوانين الأسباب والمسببات المعروفة. فاضطربت- تبعا لذلك- نظرة المسلمين إلى سنن الله الكونية، وحسبوها تلين لكل من واظب على شىء من العبادة!! وانتهى أمر هذه الأمة المنكودة إلى أن فقدت مكانتها العالمية فى دنيا تعتمد على المعرفة الحقة بأسرار الطبيعة وقوانين الحياة. بعد أن فقدت- أيضا منزلتها- عند الله مذ أشركت معه من لا يملك لنفسه أو لغيره ضرا ولا نفا. (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا). ص _145(1/140)
لماذا يكون من الدين الاعتراف بقدرة هؤلاء على اختراق نواميس الطبيعة وصنع الخوارق الباهرة؟ ولماذا يُعد من شُعب الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر أن نقر بحقوق هذه الولايات وطاقتها الواسعة فى تصريف الشئون وبعث الشجون؟ الحق أن هذا كله تخليط سمج، وأن اللجاجة فيه نزعة جاهلية. ولن تعدم دعيا فى الإسلام يخاصم عن هذه الأوهام، ويحاول تعكير التوحيد الخالص- وهو روح الإسلام ومادته- بلغط، لا عقل فيه ولا إخلاص، زاعما أن اتخاذ الوسطاء لا يُنافى تعاليم الدين.. ولا غرابة! فإن النصارى يرون التثليث توحيدا. (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) . * * * * ما وراء المادة: الإسلام رسالة صلاح وإصلاح. صلاح للنفسى، وإصلاح للمجتمع العام. وعندما نزل هذا القرآن الكريم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الناس على هديه المبين، تعهد الناس بالأمرين جميعا. فكان المؤمنون يصقلون أنفسهم بآداب الدين ويرون لزاما عليهم أن يرسموا للحياة حدود الكمال، وأن يقودوا الدنيا ـ طوعا أوكرها ـ إلى الحق والخير. أعباء هذه الرسالة الضخمة ـ بشقيها الخطرين ـ لا تدع مجالا لثرثرة البطالة وترف العقول. ومن هنا لم يسجل تاريخ الإسلام فى عهد السلف الصالح نقاشا فى بحث المسائل الإلهية أو تقعرا فى فهم المقررات الدينية. فإن القوم شغلوا بما هو أعظم من ذلك، شغلوا بأداء رسالة الإسلام الصحيح. فكان العمل المجدى والإنتاج الموفور، همهم الأول والأخير. حتى إذا ضعفت موجة هذا النشاط الرائع، وقعد الناس فى مجالسهم ساكنين، اتجهوا إلى أصول الإسلام وفروعه، يجعلون من تقليبها على وجوهها وتشقيقها وتشريحها، عملا يتقربون به إلى الله. ص _146(1/141)
أو قل: يقضون به أوقات الفراغ... وقد انفتحت على الإسلام أبواب الشر من هذا الترف العقلى. وخاصة بعد أن تُرجمَت مسائل الفلسفة الإغريقية، ولقيت من عناية المسلمين حظا كبيرا. فإن لفيفا من المفكرين لم يجد حرجا فى خلط أصول الإسلام بمناهج التفكير اليونانى فى الإلهيات. وذلك اتسع ميدان الجدل، وطال وعرض، وأمسى العلم الذى يتعرض لموضوعات العقيدة، يسمى "علم الكلام ". وانشغل علماء المسلمين بأمثال هذه المباحث: - هل الوجود عين الموجود، أم صفة خارجية؟ - هل صفات المعانى، هى الذات، أم هى لا هو ولا غيره؟ هل القرآن، كلام الله، قديم أو حديث؟ - هل رؤية الله ممكنة أو مستحيلة؟ - هل تعاد الأجسام بعد البعث بأعيانها أم بأشباهها؟ هل؟.. هل..؟؟ ونحن لا نهتم بتحديد الحق فى هذه الإجابات قدر ما نهتم بالإبانة عن أن هذه البحوث كلها لغو من القول، وأن المسلمين انكبوا عليها يوم اضطربت سياستهم الشرعية، وقلت أنصبتهم من العمل النافع لأنفسهم بين العالمين. هل معنى هذا، أن الاستبحار العلمى محظور، وأن الحجر على الفكرـ حتى لا يخوض هذه البحوث ـ سُنَّة؟ وأن إطلاق العنان له بدعة؟ والجواب أن العلم نوعان: - علم تجريبى استقرائى، يقوم على البحث فى المادة، والانطلاق فى عالم الشهادة. وهو علم لا يمكن لأحد أن يضع له حدا أو أن يصنع له قيدا. والانشغال به طاعة لله ورسوله، واستمساك بالحق، واتباع لهَدى القرآن. ص _147(1/142)
- وعلم يتصل بما وراء المادة، أى بعالم الغيب. والمعارف التى تجيئنا فى هذا الميدان مصدرها الفذ وحى السماء، ولا مجال فيها للعقل إلا مجال الافتراض والتظنن. وأكثر الفلسفات المتصلة بما وراء المادة، هذيان وتخبط. لأنها لا تخضع لوسائل يحكمها العقل السليم، أو تتمشى مع منطقه المحكم. ومقتضى ذلك أن نتلقى بالتسليم ما جاء به الشارع من حقائق غيبية، وأن نتيح للعقل فرصة الاجتهاد والاكتشاف فى ميدان الكون الرحب. أليس من السخف أن يجىء رجل ليبحث عن حقيقة استواء الرحمن على عرشه، وهو لا يدرى شيئا عن قوانين الأجسام الطافية، أو قوانين الانعكاس والانكسار؟ هبه درى بشىء من ذلك بالوسائل المادية التى بين يديه. فما هى الوسائل التى يصل بها إلى استكناه حقيقة الاستواء؟ لا شك أن انشغال العقل الإسلامى بهذه البحوث غير المادية، كان على حساب تقصيره المعيب فى البحوث المادية نفسها، فضلا عن تقصيره فى رسالته العلمية التى شرحناها آنفا، وأن الكلام فى الإلهيات على هذا النحو من المحدثات التى آذت الإسلام وأهله فى الأولين والآخرين... * * * * بين الغيب والشهادة: أودع الله عز وجل فى الأشياء خصائص لا تنفك عنها عادة. والناس فى تعميرهم للأرض يتعرفون هذه الخصائص لكل عنصر، وينتفعون بها جهد طاقتهم. وقد استطاعت الحضارة الحديثة أن تستكشف كثيرا من خواص المادة، وأن تستفيد منها فى نواح شتى. وعلم هذه الخواص موكول إلى الناس وإلى مدى تجاربهم ومعارفهم. فإذا كانت الحقائق المسلَّمة قد انتهت إلى تحديد الخواص الممكنة لشىء ما، فإن على المسلم أن يحترم هذه الحقائق، وليس له- باسم الإسلام ـ أن ينتقصها أن يتزيد عليها، ولا يُقبل منه دينا أن يتجاهلها، باسم التوكل على الله، أو أن يضيف إليها خصائص من عنده باسم الصلة بالله. ص _148(1/143)
ذلك أن التوكل لا يخدش قانون الأسباب والمسببات، ولا يمس القوى التى وهبها الحق مختلف العناصر منذ قال: (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى). من خواص النار أنها تحرق، وتجاهل ذلك حمق، لا يقول به دين. ومقتضى الإيمان الاعتراف بهذه الخاصة، على أنها الطبيعة التى أودعها الله فى المادة. فإنه ما من ذرة فى السموات والأرض تستمد وجودها وحركتها من طبيعتها، وإنما تستمدها من الحى القيوم جل شأنه. لكن ما صلة هذا الملحظ الواجب بتعطيل قوانين الحياة؟ إن المؤمنين الذين يريدون- باسم التوكل- تجاهل هذه القوى والأسباب يرتكبون هذه الجهالة، عند أنفسهم. أما الإسلام فهو برىء. إن هذا عمل يدل على نقص فى العلم، ولا يدل على زيادة فى اليقين. كذلك من الخطل، إضافة خواص موهومة، إلى الخواص التى حددتها علوم الطبيعة. فالأصنام- مثلا- حجارة، تصلح لأن تكون لبنات فى بناء دار، أو مهادا فى رصف طريق للمارة، ولا يُقبل فى خصائصها ألبتة غير هذا، مما يتوهمه عبيدها. وبقر الهندوس، قد يُنتفع بها فى در اللبن، أو أكل اللحم، ولا مكان فى خصائصها لقداسة أو زلفى. وكذلك سائر العناصر التى خلقها الله. إن خواصها لا تمتد أو تنكمش حسب اعتقاد الجُهَّال فيها، بل تبقى ثابتة داخل النطاق الذى رسمته القدرة العليا وعرفته لنا العلوم الصحيحة. ودين الله يصدق الحقائق ويؤكدها. فالذى يعلق ودعة، أو يحتفظ بتميمة، ظانا أن هذه المواد تنفع فى دفع مرض، أو جلب رزق أو إطالة أجل، إنما وثنى يجارى بتفكيره العفن تفكير عبدة الأصنام والعجول. ص _149(1/144)
فإن للاستشفاء مواد أخرى حددتها علوم صحيحة. عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، أنه دخل على امرأته وفى عنقها شىء معقود، فجذبه فقطعه، ثم قال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. ثم قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم يقول: " الرقى والتمائم والتِّولة شرك " قالوا: يا عبد الرحمن! هذه الرقى والتمائم قد عرفناها، فما التولة؟ قال: شىء يصنعه النساء يتحببن به إلى أزواجهن وروى أحمد عن عمران بن حصين أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبصر على عضد رجل حلقة من صُفَر فقال: "ويحك.. ما هذه "؟ قال: من الواهنة! قال: " أما إنها لا تزيد إلا وهنا، انبذها عنك، فإنك لو مِتَّ- وهى عليك- ما أفلحت أبدا"... وقد تجد بعض الناس يتخذ من المصحف نفسه حجابا يحسب أنه يقيه الإفلاس إن كان تاجرا، أو يرد عنه بطش الرؤساء إن كان موظفا. وهذا تخبط سقيم، وإذا حسبه السذج إيمانا بالله وإجلالا لكتابه، فهم واهمون. فصلة المسلم بالقرآن العظيم أن يتدبره ويعمل به. وإذا كان تاجرا أو موظفا فنجاحه فى عمله، أساسه الأول والأخير، أداء هذا العمل تاما لا يعيبه نقص، مستقيما لا يزرى به عوج. وكل تفريط فى هذا لا يجبره تعليق مصحف من حجم كبير أو صغير. وقد وردت فى القرآن والسُنَّة، أدعية كريمة، يتوجه بها المسلم إلى ربه إذا أعياه أمر أو نابه سوء. وهى أدعيه واضحة المعنى مشرقة اللفظ، يرددها المؤمن فى حرارة ورجاء، فيكشف الله عنه ما نزل به، ويسوق إليه رحمته المنشودة. هذه هى الرقى التى نعترف بها، لأن الشارع هو الذى علمنا إياها. وهى من أسباب الكون المعتادة. فإن العاجز إذا طلب من القادر شيئا ينتظم مع الحكمة العامة لم تكن إجابته إليه شذوذا ولا فوضى، بل كانت عونا يذكر ويشكر. ومن سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا عاد مريضا أن يدعو له: "أذهب البأس، رب الناس، اشف، وأنت الشافى، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر(1/145)
سقما " ص _150
وعندما تألم أيوب من الأحزان التى نزلت به لجأ إلى ربه يسأل النجاة: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين). فعلى العباد أن يقصدوا ساحة الله سائلين. ولكن ليحذر امرؤ أن يفهم أن الدعاء يخترق سنن الله الكونية، أو يهدم قوانين الأسباب والمسببات. إن الأعزب لن يُرزق ولدا، ولو ظل يدعو ألف عام. وإجابة الله للدعاء تكون منه عز وجل بتوفيقه الإنسان إلى الأخذ بالأسباب الصحيحة، ومنع العوائق التى قد تعترضها. فإذا كانت هناك أشياء تختص بها القدرة العليا، ولا يد للبشر فيها، فقد تكون الإجابة أن يتفضل الحق بإجرائها وفق ما تقضى به حكمته ورحمته. وكثيرا ما يتعرض الناس إلى أزمات من ذلك النوع تأخذ بنواصيهم إلى الله ليضرعوا ويستغيثوا. فإن الناس سراع إلى الطغيان كلما شعروا باستغناء. ومصداقه، قوله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى). هذا اللون من الرقى لا شىء فيه، بل هو إيمان محض. وليس من قبيل الشرك الذى حذر منه ابن مسعود. فإن عبد الله يعنى بالرقى الباطلة همهمة السحرة، وتعاويذ الكُهَّان، وما إلى ذلك من خرافات تخيل إلى بعض الناس أن هناك أشياء مبهمة ستصنع لهم الخوارق، وتبلغهم ما يريدون... والغريب أن المسلمين اشتغلوا بهذه السخافات، فحولوا دينهم إلى طلاسم يناط بها المستحيل فى الوقت الذى غلبهم العجز عن شئون الدنيا وخصائص الأشياء. فإذا بهم يتقهقرون فى ميادين الحياة، بينما أوتى غيرهم مفاتيح الأرض والسماء بطرق طبيعية سهلة. ص _151(1/146)
أترانا ـ إلى جانب هذا ا لانهزام ـ أرضينا ربنا، واحترمنا ديننا؟ إن الخلاف الذى أداره علماء الكلام الأقدمون حول علاقة الأسباب بالمسببات نضح سما قاتلا على أفكار المسلمين ومشاعرهم. والرأى الذى قال عنه البعض: يمثل عقيدة أهل السُنَّة، لا سناد له من عقل أو شرع. قال هؤلاء: إن النار لا تُحدث الاحتراق بنفسها، ولكن يُحدثه الله عند قربها. وكذلك الماء لا يُحدث الرى، والسكين لا يُحدث القطع. ثم تطرد الكلام على هذه الوتيرة، ينكر طبائع الأشياء التى أوجدها الله فيها، فقال ناظم العقائد: ومن يقل بالقوة المودعة فذاك بدعى فلا تلتفت؟! ولماذا يكون هذا الرأى يلتفت إليها؟ لقد جاء شيخ الإسلام ابن تيمية ونظر فى هذه الأقوال نظرة نافذة، ثم ندد بها، واستغرب أن يزعم عاقل أن النار لا تحرق بنفسها، بل يقدر الله الإحراق عندها!! ثم أورد تعابير القرآن فى هذه السياقات مثل قوله تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام) . قال ابن تيمية : "إن أهل الهدى والفلاح يثبتون علم الله وقدرته ومشيئته ووحدانيته، وأنه خالق كل شىء وربه ومليكه! ومع هذا لا ينكرون ما خلقه من الأسباب التى خلق بها المسببات. قال تعالى: (حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) وقال: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام). وقال: (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) . ص _152(1/147)
فأخبر عز وجل أنه يفعل . وقن قال إنه يفعل ما يريد عند وجود هذه الأسباب لا بها، فقد خالف ما جاء به القرآن وأنكر ما أوجده الله من القوى والطبائع ".. لماذا يصرف الكلام عن الحقيقة إلى التجوز فى هذه الآيات وغيرها!؟ وما بواعث ذلك !؟ وكيف تُتصيَّد الفروض الموهومة على هذا النحو، لدعم عقيدة التوحيد!؟ إن عوام المسلمين سقطت نظرتهم إلى قيمة السبب فى ذاته بعد ما شاع فى أوساطهم : أن أثره الطبيعى باطل. وعلق بأذهانهم أن النتائج المرجوة منه قد تقع عند وجوده، قد تتحقق من تلقاء نفسها !! وبعدما انفصلت العلائق الوثيقة بين الأسباب والمسببات طغت على أفكار العوام خرافة أخرى. وهى: أن خوارق العادات أمور شائعة متوقعة، يجريها الله صباحا ومساء، على أيدى من يشاء من عباده، البر والفاجر، والمؤمن والكافر.. فإذا وقع الخارق على يد نبى فهو معجزة، أو على يد ولى فهو كرامة أو على يد فاسق فهو معونة واستدراج. ثم اقترن هذا الكلام بأصول الإيمان نفسه، فأصبح من يستغرب خارقا نُسِبَ إلى فلان أو فلانة، رجلا مشكوكا فى عقيدته، مريبا فى سيرته..!! وهذا الكلام كله يجب إبعاده عن أصول العقيدة وفروعها- عدا ما يمس النبوات منه- ثم بحثه فى مجاله العتيد من موضوعات العلوم الأخرى دينية كانت أو مدنية... وليعلم المسلمون أنهم لن يصلح لهم دين، ولن تصلح لهم دنيا، إذا تناولوا أمورهم بطريقة لا يقرها وحى، ولا يؤيدها فكر. * * * قال ابن الجوزى فى "صيد الخاطر": "عرضت لى حالة، لجأت فيها بقلبى إلى الله تعالى وحده، عالما بأنه لا يقدر على جلب نفعى ودفع ضرى سواه . ص _153(1/148)
ثم قمت أتعرض بالأسباب، فأنكر علىَّ يقينى، وقال: هذا قدح فى التوكل، فقلت: ليس كذلك، فإن الله تعالى وضع من الحكم ما تجب رعايته، وكان معنى حالى أن ما وضع لا يفيد، وأن وجوده كالعدم. كيف؟ وما زالت الأسباب فى الشرع كقوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم). وقال تعالى: (فذروه في سنبله). وقد ظاهر النبى صلى الله عليه وسلم بين درعين، وشاور طبيبين. ولما خرج إلى الطائف، لم يقدر على دخول مكة، حتى بعث إلى "المطعم بن عدى" فقال: أدخل فى جوارك؟ وقد كان يمكنه أن يدخل مكة متوكلا على الله بلا سبب. فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب، كان إعراضى عن الأسباب دفعا للحكمة. ولهذا أرى أن التداوى مندوب إليه. وقد ذهب صاحب مذهبى ـ يقصد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ـ إلى أن ترك التداوى أفضل، ومنعنى الدليل من اتباعه فى هذا. فإن فى الحديث الصحيح: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء فتداووا ". ومرتبة اللفظ الأمر. والأمر ـ هنا ـ إما أن يكون واجبا أو ندبا، ولم يسبقه حظر ليكون أمر إباحة. وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: تعلمت الطب من كثرة أمراض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ينُعت له. وقال عليه الصلاة والسلام لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه: "كل من هذا، فإنه أوفق لك من هذا" . ص _1 ص(1/149)
ومن ذهب إلى أن تركه " التداوى " أفضل احتج بقوله عليه الصلاة والسلام: " يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب ". ثم وصفهم فقال: " لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون ". وهذا لا ينافى التداوى لأنه قد كان أقوام يكتوون لئلا يمرضوا، ويسترقون لئلا تصيبهم نكبة. وقد كوى عليه الصلاة والسلام سعد بن زرارة، ورخص فى الرقية فى الحديث الصحيح. فعلمنا أن المراد ما أشرنا إليه. وإذا عرفت الحاجة إلى إسهال الطبع رأيت أن أكل البلوط مما يمنع عنه علمى، وشرب ماء التمر الهندى أوفق، وهذا طب. فماذا لم أشرب ما يوافقنى، ثم قلت: اللهم عافنى، قالت لى الحكمة: أما سمعت: اعقلها وتوكل؟ اشرب وقل: عافنى، ولا تكن كمن كان بين زرعه وبين النهر كف من تراب، تكاسل أن يرفعه بيده، ثم قام يصلى صلاة الاستسقاء. وما هذه الحالة إلا كحال من سافر على التجربة. وإنما سافر على التجربة لأنه يجرب بربه عز وجل، هل يرزقه أو لا. وقد تقدم الأمر: "وتزودوا" فقال: لا أتزود، فهذا هالك قبل أن يهلكه. ولو جاء وقت صلاة وليس معه ماء لِيمَ على تفريطه. وقيل له: هلا استصحبت الماء قبل المفازة؟ فالحذر الحذر من أفعال أقوام، دققوا فمرقوا عن الأوضاع الدينية، وظنوا أن كمال الدين بالخروج من الطباع، والمخالفة للأوضاع. ولولا قوة العلم والرسوخ فيه لما قدرت على شرح هذا، ولا عرفته. فافهم ما أشرت إليه. فهو أنفع لك من كراريس تسمعها، وكن مع أهل المعانى لا مع أهل الحشو"... انتهى. ص _155(1/150)
* الإيمان روح الحياة: المفروض فى الإيمان أنه- أولا- تصديق بالحقيقة الكبرى، واعتراف بالوجود الأعلى، وشعور بمنزلة الإنسان المحدودة أمام رب واسع، بيده ملكوت كل شىء، وهو يجير ولا يُجار عليه. ثم للإيمان- إلى جانب هذا كله- وظيفة لا تنفك عنه، هى: أنه القوة الباعثة على العمل الصالح. القوة التى توجه الإنسان إلى الله فيما يفعل، وفيما يترك، وفى شئون حياته كلها. وكما أن للمعدة "إفرازات " تهضم الطعام، وتستخلص أطيب ما فيه ليفيد الجسم منه "فللعقيدة الإلهية" خواص مشابهة تحول بها الأعمال العامة عبادات مقبولة، وتضفى عليه معنى خالصا، ترتفع به إلى الله. وفراغ القلب من هذه العقيدة، معناه سقوط الأعمال التى تصدر عن الإنسان، وكونها بمنزلة أحط من أن تحظى بثواب الله. إذ الإيمان بالله شرط صلاح العمل وقبول السعى (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار * من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب). * * * إلا أن الحياة المائجة بسعى البشر- سحابة النهار وزلفا من الليل- لا يحكمها الإيمان المجرد. وأكثر الأعمال يقوم بها أصحابها، وهم ذاهلون عن ربهم، ذاكرون لأنفسهم وأهوائهم. وللإسلام أحكام حاسمة فى تقدير الأعمال، بحسب النيات التى تلابسها، فهو يقبل منها ما أريد به وجه الله، ويرفض ما أريد به غيره، مهما كان حسنا فى ظاهره. وقد خلق الناس مقاييس أخرى- غير ما أنزل الله- جعلوها محور الحكم على قوم بالخير، وآخرين بالشر. وليس هنا محل بحث هذه المقاييس الكثيرة ونقدها. ص _156(1/151)
فإن علم "الأخلاق " تناول بعضها، وطبيعة الحياة الدنيا تناولت البعض الآخر، وتداولتها تداول النقد فى الأيدى. النقد- فى هذا الزمان- أوراق تواضع الناس على إغلاء قيمتها، وإلا فهى- عند التقويم الحق- لا تساوى شيئا. كذلك أغلب المقاييس التى يرفعون بها قوما، ويضعون آخرين. وهناك جهود تبذل لإحلال النزعة الوطنية مكان العقيدة الدينية فى الميدان الاجتماعى والسياسى، بل فى الميدان النفسى والتربوى. وتزداد هذه الجهود قوة، كلما كان المراد منها إقصاء "الإسلام " عن مكانته العامة فى التوجيه... وحب الوطن غريزة لا تنكر، والدفاع عنه واجب حتم. وشىء من ذلك وهذا لا يكون على حساب الانتقاص من صلة المرء بدنيه ووفائه لربه. ولست أدرى لماذا يصر " البعض " على إفراغ الإيمان بالله من القلوب لتمتلئ بشىء آخر بدلا عنه. هو الإيمان بقطعة ما من أرض الله التى تعيش فوقها!؟ * * * * النزعة القومية: شر ما رمى الإسلام به- فى الغارة الأخيرة على أرضه- هذا التمزيق الذي فرق بين أهله وجعلهم شيعا متناكرة، وخلق من بلادهم إمارات وممالك يدهشك عدها ويثيرك إحصاؤها.... وكذلك صنع زبانية الاستعمار بالعرب والمسلمين، فقطعوهم فى الأرض أمما شتى، وكانوا أمة واحدة، ووزعوهم طرائق قددا، وكانوا- من قبل- طريقا قاصدة... وتصور جسما متماسكا، يقال لكل عضو فيه : عش وحدك، ولا تفكر فى غيرك! فتكون اليد دولة، والرجل دولة أخرى، والعين دولة، والأنف دولة أخرى. لا صلة بين رأس وقلب، ولا بين قلب وأطراف!! أهذا عمل طبيب يريد الحياة، أم عمل جزار يبغى القتل؟ ص _157(1/152)
إن ساسة "أوروبا" رسموا خطتهم وأنفذوها على هذا النحو المهلك. وكلما تحركت غريزة البقاء فى هذه الأشلاء الممزقة لتجتمع من فرقة، ولتقترب من بعد، جذد الاستعمار سعيه القديم ليبقى المسلمون فرفا متباعدة متحاقدة، يزعم بعضها أن سيعيش وحده، مستغنئا بنفسه! وهيهات.. فما الحرص على هذه القطيعة إلا الحرص على الانتحار.. والبلية المختفية وراء هذه المأساة، هى إحياء النزعات القبلية، والعصبيات القومية الضيقة، إن الجرح الذى نفذ إلى أحشاء الإسلام، جاء من هذا الداء. ولئن كانت التعصبات المحدودة آفة إنسانية عامة، إنها- فى يوم الإسلام هذا وفى حالته تلك- إثم غليظ. بل هى أقصر طريق للخروج عن الإسلام، وتسليم أوطانه كلها للأجانب الغاصبين. باسم ماذا؟ باسم التعصب لوطن واحد!.. وقد فطن الغزاة الجدد، إلى ما لم يفطن إليه الصليبيون القدماء، فوجدوا أن أنجع أسلوب لكيد الإسلام، وإذهاب ريحه، وإسقاط دولته، وإظلام مستقبله، هو ملء القلوب بالعصبيات الوطنية الغبية، بعد تفريغها من حقائق الإيمان وإذهالها عن حقوق الله، حتى ليهتف الهاتف مناجيا بلاده: حديثك أول ما فى الفؤاد ونجواك آخر ما فى فمى وإذا كان الأمر كذلك، فماذا يبقى لله من قبل ومن بعد!؟ إن الجهود التى تضافرت لتحول المسلمين إلى هذه الأفكار والمشاعر الجديدة، رسمتها- كما قلت- سياسة خبيثة، شديدة الوطأة علينا، شديدة الحقد على ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا... فاحتالت على إذابة صبغته وفك عراه بإشاعة النعرات القومية والفتن الإقليمية، فنالت بذلك ما لم تنل بالعدة والعديد... وقد سُمحَ للدين أن يكون عنصرا ثابتا فى القوميات الغربية، وخصوصا وهى تزحف فى بلاد المشرق غازية ساطية، بينما أقصى الدين إقصاءً عن القوميات فى البلاد الإسلامية وحدها، وفُرضَ على المسلم فى الجزائر ألا يحزن أو يتحرك إذا استذل المسلم فى تونس. ص _158(1/153)
وطُلبَ من المسلم فى العراق ألا يهتاج أو يتحرك، إذا هُدِّدَ كيان الإسلام فى مصر. وهكذا تقع المغارم كلها على الإسلام وأهله، باسم التحرر من القديم، والإخلاص للوطن فحسب... ومن الإنصاف أن نذكر رأى بعض مفكرى الغرب- وهو مسيحى مخلص- فى هذه النزعة القومية المحضة. لقد عالج "إمرى ريفز" فى كتابه "قضية السلام " هذه المسألة، وعرض لها من الناحية الإنسانية البحتة، ثم بين قيمتها بين مبادئ الأخلاق والسلوك، وأنذر العالم عقبى التمسك بها، فقال تحت عنوان "تشويه الدين " : "بلغت عبادة الدولة القومية ذروتها فى البلاد الفاشية. ولكن تشويه الدين وتسخيره للغايات القومية لوحظا فى كل أمة. إن العنصر المقدس والمهذب فى المسيحية هو أنها عالمية، وأن مبدأها: أن الناس خُلقوا متساوين أمام الله، وهم يعنون لإله واحد، قانونه واحد، يسرى على الناس جميعا. ولقد كانت هذه فكرة ثورية فى التاريخ البشرى. لكن ظهور الدولة القومية منع هذه الفكرة أن يكون لها أثر مهذب. ففى اللحظة التى بدأت فيها الأمم الحديثة تتبلور، بدأ الشعور القومى فى العالم يتغلب على الشعور المسيحى. وكانت الكنيسة منقسمة، فازدادت انقساما إلى مذاهب أخرى، يؤيد كل منها المثل الأعلى الناشئ للأمة. وصار من المعترف به فى كل بلد أن السياسة القومية سياسة مسيحية. وتحولت الكنائس المسيحية إلى هيئات قومية، تؤيد الغرائز القبلية للروح القومية. ففى آلاف من الكنائس يسأل الله القسس الكاثوليك، والوعاظ البروتستانت المجد ص _159(1/154)
لمواطنيهم، والوبال لغيرهم، وإن كان هذا يناقض مناقضة شديدة أسمى المثل العليا الدينية التى أوتيها الإنسان. إن المبدأ الأخلاقى الكونى لا يكون كونيا ولا أخلاقيا، إذا كان لا يصح إلا داخل جماعات منفصلة من الناس. فـ "لا تقتل " لا يمكن أن يكون معناها أن من الإجرام أن تقتل رجلا من مواطنيك، ولكن من الفضيلة أن تقتل رجلا يُعد مواطنا فى دولة أخرى. ومثل هذا التطور يلاحظ فى جميع أديان التوحيد الثلاثة. فالوحدة التى احتفظ بها القرآن قرونا بين الشعوب الإسلامية المختلفة الأصول، قد ذهبت وصار الشعب الإسلامى قوميات شتى. فدعاة الجامعة التركية يرمون إلى توحيد فروع معينة من الجنس التركى، ودعاة الجامعة العربية يشيرون باتحاد الشعوب العربية. ويقول المسلمون فى الهند: "إننا هنود أولا، ومسلمون بعد ذلك ". وقد نسى الجميع الصبغة العالمية التى كانت أساس دين الإسلام العظيم. والأمر لا يقتصر على المسيحية والإسلام. فإن أقدم الموحدين- هم اليهود- قد نسوا التعاليم الأساسية، وهى أنه عالمى. ويبدو أنهم عادوا لا يتذكرون أن الله الواحد الأحد تعالى، قد اختارهم لينشروا دعوة التوحيد بين أهل العالم. فهم يبغون أن يعبدوا- بعواطف مشبوهة - إلههم القومى الخاص، وأن تكون لهم دولتهم القومية. وما من اضطهاد أو عذاب، مهما بلغ أمره، يمكن أن يسوغ نبذ هذه الرسالة العالمية من أجل القومية- وهى اسم آخر للقبلية- التى هى أصل مصائبهم جميعا. وإنه لعلى أعظم جانب من الخطر لمستقبل الإنسانية، أن تدرك مبلغ التشويه الذى أصاب عقيدة التوحيد العالمية من جراء هذه النزعات الضيقة. فما كان من الممكن قط- بدون تأثيرها- أن تقوم الحرية الإنسانية فى الجماعة الديموقراطية ولا أن تبقى. وما من سبيل إلى إنقاذ الجماعة الإنسانية إلا بالعالمية. ص _160(1/155)
فإذا لم تعد الكنائس المسيحية إلى مبدئها المركزى، وتجعله أساس انطلاقها حين تعمل، فإنها ستزول أمام عقيدة جديدة عالمية، لابد أن تبرز من بين الخرائب الآلام، التى يسببها تهافت القومية الآتى لا محالة". وهذا الكلام صحيح، وحكم صائب.. ونحن ننبه المسلمين أن يفقهوه جيدا، وأن يبصروا- على ضوئه- حقيقتين عاريتين: ا- أن العودة بالإنسان إلى آفاق الجاهلية الأولى فى التعصب الأعمى للوطن واللون والدم، ضرب من الوثنية الطائشة، لا يجمل بنا. 2- أن هذه العودة خسارة محققة للإسلام وأهله، وربح مؤكد للغزو الأوروبى الحديث. إن الاحتيال على المسلمين مفضوح فيما ترى، لقد قامت "إسرائيل " دولة عاتية بعد ما حولت الدين إلى عصبية خاصة بها، وأقر العالم ذلك فى الحين الذى حرم على المسلمين أن يتجمعوا باسم دينهم. ثم باسم "القومية المصرية" التى لا تُفرق بين الأديان، أوعزت إسرائيل إلى بعض اليهود "المصريين " هنا أن يعملوا ضد مصر، حتى تفشل فى كفاحها النبيل لإنقاذ فلسطين. ثم تبعهم غيرهم!! وقد جازت الحكومة هؤلاء الخونة بالشنق، وحسنا فعلت. فإنها لجريمة قذرة أن تُستخدم هذه النزعة فى التنفيس عن حقد كامن، وتعصب قديم. ومسلك الصليبية العالمية فى التأليب على الإسلام والتآمر على مستقبله- تحت ستار القوميات الخاصة- لا يقل مكرا ولا خطراً عما صنعته الصهيونية. وقد أخذ المسلمون- لطول ما تلاحق عليهم من بلاء- يدركون ويتألمون..!! * * * ص _161(1/156)
5- بدع العبادات * ذكر أم نسيان: أخذ يختفى رويدا رويدا، ما يعرف بـ "الرقص الدينى" أوبـ "حلقات الذكر". واختفاء هذا النوع من العبادات المبتدعة، لا يعود إلى انتشار الفقه الصحيح للدين. بل يعود إلى التمرد على الأديان جملة، ما فيها من حق، وما فيها من باطل دخيل. وحيث لا ينشر الإسلام الصحيح، أو العلم المجرد، تجد العوام وأشباههم يدمنون هذا اللون من الحركات الحمقى، وما يصحبها من صيحات لا تتبين فى بغامها بعض أسماء الله- جل جلاله- وهم يرددونها فى تواجد، لا يدرى مأتاه، ولا يُعرف مبتدؤه ولا منتهاه. وفى زورة قريبة للسودان، رأيت فى أعقاب الجُمع جماهير من أتباع الطرق الصوفية المختلفة، يعالجون هذه الطقوس الخرافية بإجلال واستغراق، ورأيت الشباب والشيب يقطر العرق من جباههم وجسومهم. لطول ما يقفزون ويهتزون، يمنة ويسرة، وينعقون بألفاظ يحسبونها ذكراً لله، وما هى إلا النسيان التام، والحجاب الغليظ. فلما خرجت من المسجد- حيث الصور المنكرة- واحتوتنى ميادين العاصمة المثلثة، شاهدت أبناء الفرنجة مقبلين على الحياة فى عزم وأمل، يديرون المتاجر السامقة، وتسيل الثروة والقوة والجمال من بين أيديهم، ومن خلفهم. فهززت رأسى أسفا واستحياء، وتذكرت ما قيل من أن الفقر العربى، يمشى على أرض من ذهب. وتساءلت: ماذا كان على هؤلاء المصلين، بعد ما فرغوا من الجمعة، لو خرجوا لينتشروا فى الأرض، ويبتغوا من فضل الله، كما أمرهم الله؟ إن الذين ابتدعوا هذه "الأذكار" أضلوا المسلمين ضلالا مزدوجا. ص _162(1/157)
أضلوهم إذ أضافوا إلى ما شرع الله هذه الزيادات المتخمة السامة. وإذ صرفوا الهمم عن أعمال أخرى، كان الإقبال عليها أرجى فى دين الله، وأدنى إلى نفع الناس. وقد أنكر الأئمة هذه الصور الزائدة، وهى فى طورها الأول، أى يوم كان خيرها أظهر من شرها، ونفعها أقرب من ضرها. روى ابن كثير عن إسماعيل بن إسحاق: قال لى أحمد بن حنبل: هل تستطيع أن ترينى الحارث المحاسبى إذا جاء منزلك؟ فقلت: نعم، وفرحت بذلك.. ثم ذهبت إلى الحارث فقلت له: إنى أحب أن تحضر الليلة عندى، أنت وأصحابك. فقال: إنهم كثير، فأحضر لهم التمر والكسب. فلما كان بين العشاءين جاءوا. وكان الإمام أحمد قد سبقهم، فجلس فى غرفة، بحيث يراهم ويسمع كلامهم، وهم لا يرونه. فلما صفوا العشاء الآخرة، لم يصلوا بعدها شيئا، بل جاءوا فجلسوا بين يدى الحارث، سكوتا مطرقى الرءوس، كأنما على رءوسهم الطير. حتى إذا كان قريبا من نصف القيل، سأله رجل مسألة، فشرع الحارث يتكلم عليها، وعلى ما يتعلق بها الزهد والورع والوعظ، فجعل هذا يبكى، وهذا يزعق. قال: فصعدت إلى الإمام أحمد فإذا هو يبكى، حتى كاد يغشى عليه، ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح. فلما أرادوا الانصراف، قلت: كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله؟ قال!: ما رأيت أحدا يتكلم فى الزهد مثل هذا الرجل، وما رأيت مثل هؤلاء، ومع هذا، فلا أرى أن تجتمع بهم. قال ابن كثير: وإنما كره ذلك، لأن فى كلامهم من التقشف وشدة السلوك ما لم يرد به الشرع، ومن التدقيق والمحاسبة البليغة ما لم يأت به أمر. ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازى على كتاب الحارث المسمى بـ "الرعاية" قال: هذا بدعة. ثم قال للرجل الذى جاء بالكتاب : عليك بما كان عليه مالك والثورى والأوزاعى، والليث، ودع عنك هذا، فإنه بدعة . ص _163(1/158)
ذلك رأى الأئمة فى بعض صور العبادات التى استحدثها المتصوفون يوم كان التصوف معرفة يشوبها الغلو، لا جهالة تغلبها الخرافة، كما هى حال! أغلب القوم فى هذه الأيام. والحق إن عوام المسلمين وخاصتهم، لهم فى ذكر الله أساليب تتفاوت بعدا وقربا عن المعروف فى كتاب الله، وسُنَّة رسوله. فالذكر يقابل النسيان، أى أنه وصف للقلب، لا وصف للسان. والمرء قد يتذكر الشىء تذكرا جليا واضحا، يملأ عليه أقطار نفسه، دون أن تتحرك شفتاه، أو تختلج فى جسمه عضلة، بل إن سكون بدنه أعون له على الاستذكار. وكلما هدأ واستغرق، اكتملت فى ذهنه الصور التى يريد أن يمتثلها. وحركة اللسان- عندئذ- إنما تأتى نتيجة- غير محتومة- لاستفاضة الوجدان بما فيه ورُبَّ ساكت لا تسمع منه حرفا، وقلبه عامر بذكر الله. ورُبَّ متحدث عن الله بلسانه، وفؤاده عن الله مشغول، أو معزول، فهو أشبه بـ "الأشرطة" المسجلة للقرآن الكريم، تردده كما أنزل!، وليس عليها من حساب فى ثواب أو عقاب..!! ولا أنكر أن الإسلام قد شرعت فيه أذكار شتى، يقولها المؤمن بلسانه، ولا يكتفى فيها بجنانه. ولكن هذا الذكر باللسان لا يتم ويرتفع، إلا إذا كان اللسان مفتاحًا للقلب، ومحركا له من خمود... وهناك عبارات خاصة ذكرتها السنن الثابتة، وقرنت بتردادها ثوابا جزيلا، أو رتبت على تكرارها أجرا رفيعا. غير أن هذه الجمل المأثورة لا تعدو فى غاياتها الأناشيد الحماسية، التى تصنعها الأمم فى عصرنا هذا، كى تمجد الأوطان، وتحبب إلى النفوس البذل فى سبيلها... فجماهير الطلاب والعمال - حين يرفعون عقائرهم بهذه الأناشيد، وحين تبرق أعينهم وتهتز أذرعتهم- يظهرون- بهذه المشاعر الفائرة- لونا من الحب لبلادهم، يستحق التقدير. ص _164(1/159)
لكن أحدًا من أولئك المنشدين، لا يفهم أن خدمة بلاده تنتهى بهذا الصياح، مهما قارنه من إخلاص. فدراسة العلم والانتظام فى فصوله، والإدمان على كتبه، هو واجب التلميذ الأول! نحو أمته. وإتقان العمل والاستقرار فى مصانعه، والعكوف على إجادته، هو الواجب الأول للعامل نحو أمته. وتلاوة النشيد القومى، لا صلة لها ألبتة بهذه الواجبات المحتومة، بل قد ترجأ إلى أوقات الراحة، بعد استفراغ الجهد فى القيام بالحقوق المقررة. ولو أن تلميذا اكتفى من حب بلاده بغناء النشيد القومى مثنى وثلاث، ما اعتبره الناس إلا شخصا أحمق... كذلك شرعت- فى دين الله- طائفة من الأدعية والأوراد المأثورة، تضمنت معانى جليلة، من تسبيح الله وتمجيده، وتقديسه وتحميده. يهتز لها ضمير المسلم، وينشرح بها صدره. والحكمة من شرع هذه الأذكار، ربط القلوب بالله، على نحو مباشر، وبطريقة حارة. وجميل بالمسلم، أن يواظب على هذه المأثورات، وأن يدع آثارها الكريمة، تنطبع فى نفسه. بيد أن من الغلط البالغ أن يعدو بها قدرها، فيحسب أن تردادها يغنى عن الأعمال التى نيطت بحياته وورعت على أوقاته. أجل قد يسمح من المسلم أن يذكر الله بلسانه على شريطة ألا ينساه فى أعماله وأحواله. فالذكر الأصيل المفروض، أن يعرف المرء ربه وقت النفقة فيكرم، وحين البأس فيقدم. فإذا نسيه فى هذه أو تلك، فهو خاسر، كما قال الله تعالى فى كتابه: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ) ص _165(1/160)
نعم.. هم خاسرون ولو صاحوا بذكر الله حتى شفوا أجواز الفضاء. ثم إن التذكر- لكى يصحبه فقه وتدبر- لا يكون بألفاظ مفردة يكررها الإنسان مئات وألوفا. فإن الذكر كلام، والكلام لابد- ليُستفاد منه معنى معقول- أن يتكون من جملة كاملة.. هبك أردت أن تذكر شخصا اسمه عمر. فهل يحلو ذكره بأن تقول : عمر.. عمر.. الخ؟ وهل إذا قال الله عز وجل: (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم) كان تنفيذ هذا الأمر بترديد بعض النَّعَم التى نعرفها، فنقول: خبز.. خبز.. خبز، أو لحم.. لحم.. لحم..!! إن فهم كلام الناس على هذا النحو السمج سقوط فى التفكير. فكيف تسقط هذه الأفهام، على كلام رب الناس، فتنزل به بدل أن يرتفع بها؟ ومع ذلك وجذ من العوام جمهور غفير، يرقص بكلمات مبتورة. ويزعم هوسه هذا ذكرا لله. على أننا لا نعطى أحدا من البشر- مهما علا شأنه- أدنى حق فى اختلاق صيغ لذكر الله، وإلزام قوم- قليل أو كثير- بها. بل لا يجوز فى الصيغ الواردة نفسها، أن ترسم لها أوقات مخصوصة، أو أعداد معينة، ما دام الشارع قد أطلقها من هذه القيود. وإذا ساغ لأى من الناس أن يضع لنفسه منهاجا فى القراءة والدعاء والذكر، وفق حاجاته الخاصة، فليس له أن يعتبر ذلك شرعا عاما، وأن يفرض على الناس اتباعه. إن ذلك لم يحدث فى الشعر فكيف يحدث فى الدين؟! حدث أن ألف المعرى ديوانا أسماه " لزوم ما لا يلزم " جعل رويه على عدة أحرف. والعرب- فى قصائدها الطوال والقصار- لا توجب ذلك. فكان صنيع المعرى- هذا- موقوفا عليه، ولم ير الشعراء مدعاة لاتباعه فيه. إلا أن العقل العام فى ميدان الشعر، تحوَّل إلى حماقة فى ميدان الدين. ص _166(1/161)
فوُجدَ من أرباب الطرق قن صنع للصباح والمساء وأورادا حافلة، وضمها إلى الصلوات الموقوتة دينا مع الدين. ولا تقولن الذكر خير، والاستكثار منه ليس شناعة، تستحق النكير. فإن الذكر خير حقا، والاستكثار منه- فى حدود ما شرع الله- أمر ندعو إليه، ولا يُتصور أن يعترض مسلم عليه. وما شرع الله من ذكر، أوسع من أن يكون حديث لسان، أو ترديد كلام... إن الذكر الذى ارتضاه الله دينا، وقبله من عباده قُربة، أعمق أثرا، وأرفع أجرا من هذه الطقوس التى اصطنعها أرباب الطرق فقطعوا بها الطريق... وحكمة الله فى تشريعه، تجعل العبادات المرسومة على قدر مرسوم، لا تصلح النفوس! بما دونه ولا بما فوقه. ومن التهور أن تحسب الاستكثار من شىء ما- لأنه دواء- أمرا محمودا!! ألا ترى أن تناول قرص أو قرصين من " الإسبرين " شفاء من الصداع؟ فإذا أردت الانتحار تناولت جملة فاحشة من هذا الدواء؟؟ لقد رأينا مدمنى " الأوراد والوظائف " ضائعين فى ميدان العلم والتربية، ورأينا الإسلام قد تأخر بهم فى ميادين الكفايات والإنتاج. والعلة فى هذا الارتكاس أن القوم ضلوا عن هَدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فزاغوا عن الصراط المستقيم. * * * حقيقة العبادة: لا يمكن بحث "السلوك " مع تجاهل الأسباب التى أدت إليه، أو العوامل التى تمخضت عنه. وعلماء الأخلاق فى شرحهم لـ "السلوك " يفيضون فى بحث الوراثة والبيئة، والمقاصد والغايات، وما أشبه ذلك، وليس هذا ما نعنى به هنا. إن السلوك- من الناحية النفسية- أثر المظهر الثالث من مظاهر الشعور فى الإنسان الحى، ومظاهر الشعور كما حددها علم النفس- هى الإدراك، والوجدان، والنزوع. ص _167(1/162)
فإذا أردت التعرف على نزعة من النزعات، والإحاطة بشُعب العمل الذى يصحبها فيجب أن تعرف مظاهر الشعور التى تسبقها، حتى تبنى علمك على قواعد سليمة. والذين ينظرون إلى العبادات المختلفة، على أنها أعمال، لا وحدة فيها، ولا رباط بينها، أو أنها تكاليف ينهض إليها المرء، راضيا أو كارها، أو سلع يشتريها الخادم من السوق ويدفع بها إلى السيد الذى يطالب بها. الذين ينظرون إلى العبادات هذه النظرة هم قوم يجهلون الدين جهلا مطبقا.... وكثير من العابدين يباشرون الطاعات المعروفة، كأنها استعارات من خارج الجو الذى يعيشون فيه، استعارات مجلوبة على النفوس فارغة من معناها، كله أو جله. والحق أن للعبادة التى أمر الله بها، وخلق العالمين من أجلها، شأن فوق ذلك. إنها شعور مكتمل العناصر، يبدأ بالمعرفة العقلية، ثم بالانفعال الوجدانى، ثم بالنزوع السلوكى. فالصورة الأخيرة ثمرة ما قبلها. وهذا هو الوضع الصحيح لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإحسان الخلق، وقول الحق، وسائر العبادات الأخرى... إن العبادة الأولى فى الإسلام، هى معرفة الله معرفة صحيحة، والعقل المستنير بهذه المعرفة، هو القائد الواعى لكل سلوك صحيح والأساس المكين لكل معاملة متقبلة. ويوم تتلاشى هذه المعرفة من لب الإنسان، فلن يصح له دين، ولن تقوم له فضيلة. والمعرفة الصحيحة لله تهون من قيمة الأخطاء التى يتورط فيها المرء، لأنها أخطاء عارضة، أو خدوش سطحية. أما الجهل بالله فهو الخطيئة التى لا تغتفر، ولا يصح معها عمل. ومن ثئم يقول الله فى كتابه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا). ذلك أن الشرك دلالة جهل غليظ بالله عز وجل. ص _168(1/163)
وهل أحمق من رجل يسكن عمارة ضخمة، فإذا هو يتوَّهم أن سلال القمامة المبعثرة فيها، هى التى قامت على بنائها؟ أليس هذا مثل الوثنية المخرفة، التى ترد مظاهر الوجود الكبرى إلى بعض الجماد، أو الحيوان، أو الإنسان؟ والمعرفة المعتبرة، هى التى تستمد من ينابيعها الفريدة، أى من أعمال الله وأقواله، أى من صنعه فى كونه، أو من كلمه فى وحيه، وليست هناك معرفة وراء ذلك.. لا يمكن أن يعتبر عارفا بربه شعب أبله، يعيش بين الأرض والسماء، فلا يعى من آيات الخليقة شيئا، ولا يكتشف لأسرارها حلا. مع أن الله- فيما أوحى به إلى رسله- بين أن الإيمان الحق، إنما يقوم على التدبر الذكى لهذا العالم، والتجوال البعيد فى آفاقه الرحبة. (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ). والتفكر الباعث على معرفة الله، هو سر توقيره، وأساس تقواه، ولذلك يقول أولئك المفكرون الفاقهون: (……سبحانك فقنا عذاب النار). إن أولى الألباب، هم الذين فكروا فى خلق الله، فاستفادوا فى هذا التفكير خشيته، وطلبوا الوقاية من سخطه. فالتقوى إذن، ليست وليدة بلادة فى الذهن، أو قصور فى الفكر، كلا، إنها وليدة الإدراك الناضج للحياة وما فيها. وهذا معنى قوله تعالى: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء). التوسع فى معرفة الله هو العبادة الأولى، والتعرف على الله فى ملكوته الواسع، هو استجابة لما أمر به فى كتبه المنزلة، والنتائج التى تتمخض عنها علوم المادة لا يمكن إلا أن تصادق الوحى المقبل من وراء المادة، لأن هذا وذاك من عند الله. ص _169(1/164)
وما يتوهمه القاصرون من تفاوت أو تناقض بين الدين والعلم، ليس إلا خرافة صغيرة. خرافة نشأت عن أخطاء المشتغلين بالعلم والدين جميعا. وقد قرأت للعلماء المتوافرين على الدراسات الكونية، تصحيحات لبقة لأخطاء زملائهم العاملين معهم فى هذا الميدان، والذين أساءوا للدين عن عمد، أو عن تهور. وأستطيع- فى دائرة المشتغلين بالدراسات الدينية- أن أوضح موقف الإسلام من العلم المادى، فأؤكد أن بحوثه وكشوفه هى المقدمات العتيدة لليقين الحق، وأنها الأسلوب الوحيد الذى ارتضاه القرآن لمعرفة الله، وأن إهمال هذا اللون الخطير من المعرفة، كان أبرز المعاصى التى أساءت إلى الحضارة الإسلامية، بل إن المسلمين بهذا الإهمال ظلموا أنفسهم ودينهم أفدح الظلم. لو أن المسلمين الأوائل ـ بدل أن يشتغلوا بفلسفات الإغريق النظرية- انساقوا مع تتار دينهم فى البحث الكونى المجرد، لكان ذلك أجدى عليهم وعلى الناس. روى الصلاح الصفدى، أن المأمون لما هادن حاكم " قبرص " كتب يطلب منه خزانة كتب اليونان، وكانت مجموعة عندهم فى بيت لا يظهر عليه أحد، فجمع الحاكم خواصه من ذوى الرأى، واستشارهم فى ذلك، فكلهم أشار بعدم تجهيزها إليه إلا بطريركا واحدا قال: جهزها إليهم، فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها، وأوقعت بين علمائها... وصح ما توقعه البطريرك الداهية، فإن المسلمين خلطوا هذه العلوم بما ورثوه من كتاب وسنة، ثم فهموا دينهم على ضوء هذه العلوم الوافدة، وما تضمنته من آراء كاسدة. ثم تطورت الحال فأصبحت هذه العلوم دينا، وأمسى الرجل يعتبر من علماء الإسلام، وهو لا يعرف إلا نزرا يسيرا من الكتاب والسنة، لأنه ضرب بسهم فى الإحاطة بهذه الترهات والأباطيل... إن الرجل لا يسمى عالما بالدين، إلا إذا كان فقيها فيما أنزل الله، ولا يعتبر عالفا بما أنزل الله إلا إذا نفذ إلى قليل أو كثير من معارف الكون. وعلى قدر معرفته بالحياة والأحياء، تكون معرفته وخشيته لله(1/165)
رب العالمين. ص _170
هذه المعرفة، إن لم تكن الفضيلة بعينها، فهى هادى السلوك الفاضل وحاديه، إذ المفروض فيها أنها تصنع الإنسان صناعة خاصة، وترقى بعمله، كما ارتقت بفكرة إلى أوج رفيع. من عرف الخالق والخليقة وجب عليه أن ينشد الكمال فى عمل يؤديه، وأن يتوقى العثار فى كل لحظة يحياها. والإسلام يوجب على كل داخل فيه، أن يُصلح عمله، وهذا العمل الصالح المرتقب من المسلم ليس له نطاق يحده. فالعموم المطلق مقصود فى عشرات الآيات التى تجعل "عمل الصالحات " ضميمة لابد منها مع الإيمان الصحيح. ما هو العمل الصالح؟ إنه الإحسان الذى ذكرته آيات أخرى، حين زد على من يحسبون الجنة احتكارا لطوائف معينة: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). وكقوله سبحانه: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا * ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن). والطاعات التى رسم لها الشارع صورا خاصة ليست إلا جزءا يسيرًا من الإصلاح الشامل الذى كتبه الله فى الأعمال كلها: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). فمن ظن الدين قياما بأعمال معينة، فى أماكن معينة، فهو واهم. إنه لن يتم إيمان إنسان، إلا إذا تكوَّنت فى نفسه ملكة الإجادة، فيما يوكل إليه من عمل. ص _171(1/166)
الإجادة الشاملة التى تبلغ بالأمر تمامه، وتكره فيه القصور، وتخشى عليه الفساد. إن كلمتى(آمنوا) و (عملوا الصالحات) تصوران أمة شمل حب الخير نواحيها كلها، لا تعرف الفساد فى شىء من شئونها. تدير أحوالها الاقتصادية والاجتماعية على محور من الفطنة والكياسة والذوق السليم، والعقل الحصيف. إذ الصالح: أى فعل سانده الفكر والنظام، وجانبه الطيش والهوى، نعم.. أى الفعل. فمنذ يفتح المرء عينيه من منامه، ويستقبل مع النهار تكاليف الحياة، يعالج أعمالاً لا حصر لها، تكتنفه من كل ناحية، ويجب أن يبت فيها، ويترك طابعة عليها. وحق الله على المسلم، أن يحسن ويصلح فى هذه النواحى كلها، زارعا أو تاجرا، كاتبا أو حاسبا، تابعا أو سيدا، تلميذا أو أستاذا. إن الجهاز المُعد لعمل- ما- تهيئه طبيعته لأداء هذا العمل فى شتى الظروف، والإيمان الحق يصوغ الإنسان صياغة تجعل الإحسان العام طبيعة قلبه ولبه. ومن ثم فوظيفة المسلم الدائمة، أن يصلح نفسه، وأن يصلح الحياة معه. وشر ما أصيب به الدين، حصره فى طائفة من الأعمال، يحسب الجُهَّال! أنهم إذا أتوا بها فقد أدوا واجبهم، ولا عليهم بعد. هذا الفهم الخاطىء جعل الحياة تشقى بأصناف العابدين، الذين قد يصلون، وقد يصومون. لكن أعمال الحياة تفسد فى أيديهم، ولذلك لا يؤمنون عليها. ولو فرض أنهم أدوها تأدية مقبولة، فقلَّما يُنظر منهم أن ينافسوا فى إجادتها، أو يسابقوا الأخرين فى تحسينها... ونحن لا نتعرض لصلاة هؤلاء وصيامهم، فقد تكون عباداتهم صحيحة من ناحية الشكل. أما الذى لا مرية فيه، فهو أن تدينهم مدخول، وقلوبهم وعقولهم مريضة. ص _172(1/167)
وملكة الإصلاح التى يجب أن تقارن الإيمان فى أنفسهم معطلة. بل لعل معرفته لله، يشوبها غموض وخبط. إن القلب الصالح يحوِّل الأعمال المعتادة إلى طاعات رفيعة القدر عالية الأجر. وما أكثر شئون الدنيا، وما أوسع أطوار الحياة. لكن هذه وهذه، يضبطها المؤمن فى نظام مطرد مصقول، حين يتناولها، فيجعل منها قربات خالصة، كما تتناول المعدة الطعام، فتحوِّله إلى حياة وقوة. وقد بين الله فى كتابه، أن مطاردة العدو واغتنام ما معه، وإلحاق الأذى به، تُعتبر "عملا صالحا" فقال: ((ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون)) . وقد تقول: ذلك لأنه جهاد!! ومع أن أعمال المرء كلها فى الميدان العام تعتبر جهادا لا يقل عن الأنواع التى ذكرتها الآيات السابقة. إلا أن هذا الاعتراض مردود، بما روى من ثبوت هذه الأجور لأعمال هى للهو واللذة أقرب منها إلى الجد، ما دام مقترفها يبغى بها الخير. إن انحصار "العمل الصالح " فى عبادات خاصة، جعل طلاب التقوى يشغلون أوقاتهم المتطاولة بتكرير هذه الأعمال المحدودة، كأنهم لا يرون غيرها وسيلة إلى مرضاة الله. فهم يستمسكون بهذه الأعمال، كلما فرغوا منها عادوا إليها... يقول الشعرانى عن نفسه: "كنتُ إذا فتحت مجلس الذكر بعد العشاء لا أختمه إلا عند طلوع الفجر، ثم أصلى الصبح، وأذكر إلى ضحوة النهار ثم أصلى الضحى، وأذكر حتى يدخل وقت الظهر، فأصلى الظهر، ثم أذكر إلى العصر، ومن العصر إلى المغرب، ومن صلاة المغرب إلى العشاء... وهكذا. فمكثت على ذلك نحو سنة!! وكنت كثيرا ما أصلى بربع القرآن، بين المغرب والعشاء، ثم أتهجد بباقيه فأختمه قبل الفجر، وربما صليت بالقرآن كله فى ركعة!! ص _173(1/168)
وكان نومى غلبة، تخطف رأسى خطفة بعد خطفة، وخفقة بعد خفقة. وكثيرا ما يغلب على النوم فأضرب أفخادى بالسوط. وربما نزلمت بثيابى الماء البارد شتاء، حتى لا يغلبنى النعاس ".. هذا النهج من الحياة ليس بإسلامى، ولسنا ننكره فقط لما فيه من غلو يجافى السُنَّة كما يعرف جمهور العلماء. ولكنا ننكره لما يشعر به من أن الطاعة هى إدمان الذكر والقراءة والصلاة، على هذا النحو المكرر الممل. أتحسب القاضى المنشغل بالفصل فى الخصومات، حين يسهر على تحضير قضاياه أقل إرضاء لله من هذا العاكف على قراءة كتابه!؟ أتحسب المدرس المنشغل بحرب الجهل، حين يسهر على تحضير دروسه أدنى حالا من هذا الذاكر العانى؟؟ لا. بل كلاهما أقرب إلى الحق، وأدنى إلى الرشد. بل إن النائم المستغرق فى منامه لطول ما كدح سحابة نهاره مجاهد، ينام ويصحو بعين الله، ما دام يحيا نظيف القلب حى الضمير.. إن الخطأ فى فهم معنى العبادة، مال بحضارتنا وثقافتنا عن السداد، وجعلنا نفهم الجهل علما، والعلم جهلا، وكان لذلك أثره الحاسم فيما أصاب أمتنا من انهيار... وفى الأيام الأخيرة، رأيت بعض الشباب المتدين، يكاد يسلك هذا الطريق الجائرة. فهو يحسب مظهر إخلاصه لله- إذا انضم لجماعة من هذه الجماعات الإسلامية- أن يحترف الوعظ والإرشاد، وأن يدأب على قراءات مطولة فى كتب التفسير والفقه، وما إليها، وقد يكون بعد ذلك طبيبا فاشلا أو مهندسا هزيلا...!! ليت شعرى، ما الذى يصرف الطبيب عن مهنته الجليلة!؟ وكيف لا يدرى أن جراحة حسنة يقوم بها، أو دواء موفقا يصفه هو من صميم "الصالحات " التى اعتبر الإسلام عملها ركنا فى الفلاح وشرطا للنجاح! وأن هذا العمل لا يقل وزنه عن صلاة يقيمها أو زكاة يُؤديها...! ومن مواريثنا الباطلة، أننا نصف علوم الشريعة بالشرف، ونكاد نصم علوم الحياة الأخرى بالهوان، مع أن هذه المعارف كلها، سواء فى الدلالة على الله وخدمة دينه. ص _174(1/169)
ومن مواريثنا الباطلة، أننا مصروفون عن الدراسات العلمية المنتجة. ولا تزال نسبة المسلمين فى الجامعات الفنية الخطيرة- إلى وقت قريب- تشير إلى تخلفنا الشنيع وإلى تقدم غيرنا. عندما التقى اليهود بالعرب فى معارك "فلسطين " الأولى، كانت جبهة إسرائيل تضم جيشا من الإخصائيين فى الهندسة والإحصاء، والزراعة والكهرباء، وطبائع الأرض ومواقع المياه، مكنها من أن تعرف كل شىء، عن كل شبر من الأرض. وقد انشغل هذا الجيش الصامت فى خدمة العصابات التى قاتلت دول الجامعة العربية السبعة. فإذا الجامعة تُكتسح، وإذا قواها تذوب. ولم تغن عنها الخطب الرنانة، والحماسة التى تنقصها الخبرة والصدق. ذلك أن ثروتنا- من الرجال والأعمال- كانت أقل كثيرا من ثروة عدونا... إن التمكن من الدنيا أمر لابد منه فى التمكن للدين، ولا مكان فى الدنيا لجاهل بمعارفها... قال الأستاذ "طه عبد الباقى" مدافعا عن التصوف الصحيح وعن "الشعرانى": دعا الشعرانى إلى الجمع بين العبادة والعمل، باعتبارهما دعامة الحياة، وساق الأدلة على حرص الصالحين من أهل التصوف على تجنب العيش من صدقات المحسنين. وقد فضل الشعرانى الصُّناع على العُبَّاد، لأن هؤلاء يساهمون فى نفع الناس، بينما يقتصر نفع العبادة على صاحبها. ما أجمل أن يجعل الخياط إبرته سبحته، وأن يجعل النجار منشاره سبحته، ذلك هو التسبيح النافع المقبول!!.. بل لقد آثر الشعرانى فى دعوته حياة البدن على حياة الروح، لأن هذه قد تفرعت عن حياة الجسم، وهى تتأثر بما يعتريه من ضروب العسر واليُسر، حتى ليفضى الضنك إلى تشتت الفكر وبلبلة الخاطر. ولذلك كان أبو حنيفة يقول: "لا تستشر من ليس فى بيته دقيق ". وهذا الكلام نفيس مقبول، وإذا فُهم التصوف على هذه النحو فهو إسلام وإلا فهو هراء !!.. ص _175(1/170)
ليست التقوى أن تترك الدنيا، إنما التقوى أن تملكها، فإذا ملكتها وأنت عبد الله، فأنت وما فى يديك له. إن الهاربين من الحياة ليسوا رجالا، وليسوا بمؤمنين. ومن السخف أن يزعم قوم أن التجرد لله يكون بالعكوف على بعض العبادات، وهجران البعض الآخر. فعبادة الله فى الأسواق والميادين، ليست دون عبادته فى المساجد والمحاريب... نعم.. قد تكون الدنيا خطرا على إيمان القاصرين والمفتونين، كما يكون الطعام خطرا على طائفة من المرضى. فهل يعنى هذا أن يُحرم البشر قاطبة من الطعام، وأن تقرض القصائد فى هجوه؟ ألا ما أحسن قول "إقبال ": "الكافر يفنى فى الدنيا، والدنيا تفنى فى المؤمن "!! ثم إن الدنيا خطر على أصحاب القلوب الصغيرة، لكن خطرها لا يزيد على خطر الصلاة والصيام، عندما يغرسان الغرور والكبرياء فى النفس، أو عندما يعجزان عن غسل أوضارها، وكبح جماحها.. إننا- عندئذ- لا نحارب هذه العبادات، بل نحارب عدم الانتفاع بها. كذلك يجب أن يكون موقفنا مع من تستهويهم شهوات الحياة، فيبيعون أنفسهم للشيطان، بدل أن يستغلوا الدنيا فى عبادة الرحمن.. الإحسان المطلق لكل ما تضع فيه يدك، إصلاح الحياة ووصلها ببارئها الأعلى.. هذا هو معنى العبادة التى تطرد مع الشمول التام فى قوله تعالى: (آمنوا وعملوا الصالحات) أكثر من سبعين مرة. أما الطاعات التى فرضها الشارع، بين أعدادها، وهيئاتها، وبداياتها، ونهاياتها، فينبغى أن نتقبلها كما وردت، لا نتدخل فيها بتحوير، أو زيادة أو نقص. وهى لو أديت على النحو الذى قصده الشارع لكلفت للأفراد والجماعات خيرا كثيرا... ص _176(1/171)
بيد أن العبث بها ـ شكلا وموضوعا ـ فوَّت أغلب منافعها، وأتاح للفاسدين والملحدين فرصا شتى للنيل منها... * * * أما الناحية الوجدانية فى العبادة، فقد عرضنا لبحثها فى كتابنا "فقه السيرة" وشرحنا كيف أن العبادة خضوع مشرب بالمحبة والإعجاب، لا خضوع قسر وكراهية. وناحية الوجدان فى العبادة ظفرت من المتصوفة القدامى بعناية رائعة. فقد لونوا الأفئدة بعواطف حارة، فى علاقاتها بالله، وأمدوها بفيض من الأشواق النبيلة، جعل أداء الطاعات المفروض كسماع الموسيقا المشتهاة. ولا عجب، فأكثر أولئك المتصوفين أصحاب نفوس شاعرة، تغلبها الرقة، ويسودها الخيال. وقد استطاع رجالهم الأوائل أن يقودوا الجماهير، وأن يفرضوا تعاليمهم على أكثر بلاد الإسلام. وتعاليم التصوف خلط من حقائق الدين، وموضوعات الفلسفة، وشروح طويلة لقواعد الأخلاق، وأمراض النفوس، وروابط الجماعة. وأول ما يؤخذ عليهم، أن العاطفة غلبت العقل فى ثقافتهم، وأنهم حكموا المشاعر التى أنسوا بها، على شعائر الإسلام ومعارفه التى لم يعوها. وزادهم تشبثا بما لديهم من حق وباطل، أن الفقهاء المشتغلين بالشريعة وعلومها- وهم لم يكونوا أهل رسوخ فى الدين، ولا قبول بين العامة- كان اهتمامهم متجها إلى حروف الدين وصوره الظاهرة. فإذا تحدثوا فى علم التوحيد أو علم الأخلاق، صاغوا الدلائل، ورسموا القواعد وفق ما يقضى به منطق "أرسطو" ثم خاضوا بحارا من الجدل التافه، لا ساحل لها.. والرجل إذا ذهب إلى المسجد، فسمع فى حلقات العلم الشرعى هذا الكلام، لم يعره أذنه، على حين يعطى أذنه وقلبه لشيخ يذكر الله ويبكى، ولو كان ذكره وبكاؤه على دق الطبول وصفير الناى.. لذلك كسدت سوق الفقهاء، وأدبرت معها علوم الفقه الأصيل، بعد الدخيل والهزيل! وانتشرت طرق التصوف، ونمت معها الأفكار المجذوبة، والمشاعر المخبولة، والعواطف التى لا تبالى فى حكمها على الأشياء بشرع أو عقل . ص _177(1/172)
والحالات التى تملأ العالم الإسلامى اليوم، هى بقية الأجيال التى نشأت فى غيبة الفقه الإسلامى والروح الإسلامى، أى فى غيبة الإدراك السليم، والذوق السليم. والبلية العظمى جاءت من قصور الفقهاء فى ميدان التربية والعبادة، ومن قصور المتصوفة فى ميدان العلم والتشريع. والإسلام لا يقوم إلا على راسخين فى هذه النواحى جميعا. ومن ثم فشت بيننا مصطلحات ومستحدثات، أضرت بديننا وأمتنا، إضرارا بالغا. قال "آدم متز" فى كتابه "الحضارة الإسلامية": "الحركة الصوفية أوجبت فى الإسلام ثلاثة مبادىء ، أثرت فيه تأثيرا كبيرا، وهى الثقة الوطيدة الكاملة بالله، والاعتقاد بالأولياء، وإجلال النبى محمد (صلى الله عليه وسلم). ولاتزال هذه المبائا الثلاثة أهم العوامل وأقواها تأثيرا فى الحياة الإسلامية ولعل هذا التفوق الذى ظفرت به المبادئ الصوفية، هو سر خصومة العلماء للقوم "! وهذا الكلام غريب، فإن الثقة بالله وإجلال رسوله، ليست بدعا صوفية، فما الإسلام إذن؟؟ أما الذى استحدثه الصوفية حقا، ورجموا به هذه الأمة ودينها، فهو الاعتقاد بالأولياء. والكذب الأوروبى يجعل هذه الخرافة وسطا بين مبدأين سليمين، ليعطيها فضل قوة، وهكذا يلتبس الحق بالباطل، ويشاب التوحيد بالشرك. وربما قصد الكاتب بالثقة الموطدة فى الله، هذا التوكل الباطل، المقعد عن العمل والتكسب. فإن كان هذا ما يعنيه، فهو ابتداع حقيقى من جُهَّال الصوفية، لم تعرفه القرون الأول. ويظهر أن ذلك هو المراد. فإن "ابن خلدون " يقول عن طريق الصوفية: "أصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله عز وجل، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور، من لذة ومال وجاه. ص _178(1/173)
وكان ذلك عاما فى الصحابة والسلف. ولما نشأ الإقبال على الدنيا فى القرن الثانى وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطتها، اختص المقبلون على الله باسم الصوفية". وكلام "ابن خلدون " هذا مشوش مضطرب، وقد علمت موقف الإسلام من الدنيا والزهد فيها، والرهبانية والأخذ بها، والمال والتصرف فيه... يجب أن يعلم المسلمون أن حاجة الدين للدنيا كحاجة الروح للبدن، وأن أى تعليم يخل بقوى الأمة المادية، ويمكن غيرها من التفوق عليها، فهو خيانة لله ولرسوله. وإذا لم يكن خيانة قلبية فهو خيانة فكرية. إن القرآن الكريم سوى بين الجهاد الاقتصادى، والجهاد العسكرى، ورخص للمجاهدين فى الميدانين معا أن يقرءوا من آياته ما تيسر لهم، ففى عناء العمل غنية عن طول التلاوة. وقد كان سعد بن أبى وقاص ـ لاشتغاله بقتال العدو ـ يوتر بركعة واحدة. (والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه). إن أنواع العلم والعمل- مادامت متمحضة للحق- فهى قربة لا تقل عن الصلاة والقراءة. ولست أدرى كيف تنجح رسالة يتخلف حملتها عن سائر الأمم فى شئون الحياة، أو يشيع فيها أن حمل المسبحة عبادة لله، وحمل الفأس والمطرقة عمل شخصى بحت؟ ما كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فى مكة، أو فى المدينة، أقل فقها فى حقوق الحياة وشئون الدنيا من مشركى مكة، ولا كفار المدينة. بل لعل احتيالهم فى حفر الخندق، دلَّ على مرونة وتجديد، سبقوا بهما... وما كان العرب ـ حين أسلموا ـ أقل فحولة ولا وسائل غلب من خصومهم. كانوا سواء فى أمور كثيرة، ثم امتاز العرب بالدين الجديد، ورورحه الجرىء الوثاب الغامر ص _179(1/174)
لكن مسلمى اليوم، إذا قيسوا بأهل الأرض فى آفاق العلم والصناعة والحضارة، بل فى الزراعة ورعى الغنم والبقر، وجدت تخلفا شائنا، علتهم فيه الجهل بالدين، والتعلق بالبدع السمجة، والحيرة فى طرق مضللة أبعدت ذويها- من قديم- عن الصراط المستقيم. ذلك، وقد عرضت للطاعات بدع شتى ننبه إلى بعضها.. * * * * زخرفة المساجد: ليس لعبادة الله مكان خاص. ففى الأحاديث: " اتق الله حيثما كنت "، " جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا " . ويقول الله سبحانه: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) . ومن هدى الرسول صلى الله عليه وسلم أن تصلى النوافل فى البيوت، لتكون هذه الصلوات حياة لها، ونورا فيها. وهذا التيسير على الناس فى عبادة الله، لا يمنع من تخصيص أماكن لذكر الله والإقبال عليه، يقصدها المرء فى أوقات متقاربة، ليهدأ فى ساحتها من ضجيج الحياة، وليلمح فيها إخوانه، وهم مقبلون على الله بنيات خالصة، يرجون رحمته ويخافون عذابه! وليس أعون على الحق من رؤية الآخرين، يهرعون إليه ويشاركون فيه. إن وساوس الضعف فى نفس الفرد تنزاح أمام إقبال الجماعة ونشاطها... لذلك كان غشيان المسجد من أمارات التقوى،وإلفها من دلائل حب الله، وكان السعى إليها تكفيرا للسيئات، ومضاعفة للحسنات، ورفعة فى الدرجات. فليست المساجد- إذن- متحفا لفنون الزينة ولا معرضا لبدائع الهندسة، ولا مكان فى بنائها للتكلف والإسراف والمباهاة. روى أن عمر أمر ببناء مسجد، فقال للبنًّاء: "أكِنَّ الناس من المطر، وإياك أن تُحمر أو تُصفر". وكذلك كانت سنة الرسول الكريم فى بناء مسجده، جعله- بناءً وفراشا- آية فى البساطة! ص _180(1/175)
ولا بأس من توسيع المساجد، حتى تستقبل الألوف، ومن تضخيمها حتى تضاهى القلاع. فإن هذا شىء غير الإسراف فى التزاويق والتهاويل التى تستهوى الأنظار. ويبدو أن ولع البعض بزخرفة المساجد والتألق فى تشييدها، جاء منافسة للنصرانية التى يتجه رجالها إلى الغلو فى إقامة الكنائس، وبذل الكثير فى نقشها وتلوينها!! ونحن نرى التمشى مع روح الإسلام أجدى، فإن تقوى الله وراء هذا الكلف كله... * * * * المساجد على القبور: فشا فى بلاد كثيرة بناء المساجد على قبور الموتى، إعزازا لذكرهم، وتقربا إلى الله - كما يقال- بمحبتهم ومجارتهم. مع أن النصوص قاطعة بمنع هذا العمل ولعن مرتكبيه. وكان أولى بهؤلاء البانين أن يدعوا الموتى إلى ما قدموا، وأن يقفوا عند حدود الله، فلا يعصون وصاياه.. وهذه البدعة تسربت إلى المسلمين عن النصرانية بعد تحريفها. فقد صح عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كنيسة رأتها بأرض الحبشة، يقال لها، "مارية"، وذكرت ما رأته فيها، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله". وهذه البدعة دخلت النصرانية من الوثنية الأولى. فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس وغيره من السلف أن ودا وسواعا وأخواتهما، كانوا قوما صالحين من أمة نوح عليه السلام. فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوَّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، فكان هذا مبدأ عبادة الأصنام... وإغلاقا لأبواب الفتنة وسدا لذرائع الفساد، شدد النبى عليه الصلاة والسلام على المسلمين فى حظر هذا المسلك، وعزم عليهم أن ينفضوا أيديهم من الموتى، وأن يستقبلوا الحياة بجهدهم وعزمهم، ودون تعويل على صالح مات أو بقى. فالإنسان لا يجدى عليه- أمام ربه- إلا عمله. ص _181(1/176)
وفى هذا الإرشاد المبين يقول صلى الله عليه وسلم: " لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها "، ويقول: " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام "، ويقول: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا لا تتخذوا القبور مساجد، إنى أنهاكم عن هذا"!! وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُرج ". ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور والبناء عليها. وكان يوصى جيوشه- وهو يطارد الوثنية فى جزيرة العرب- ألا تدع صنمًا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سوته. وعن المعرور بن سويد قال: صليت مع عمر بن الخطاب- فى طريق مكة- صلاة الصبح، فقرأ فيها: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) و(لإيلاف قريش). ثم رأى الناس يذهبون مذاهب- بعد انصرافهم من الصلاة- فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين- مسجد، صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يصلون فيه!! فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثارأنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا..!! فمن أدركته الصلاة فى هذه المساجد فليصل. من لا، فليمض ولا يتعمدها.. وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ألا يكون قبره بعده عيدا (أى موسما) تتلقى إليه الوفود. والخبراء بحقائق الأديان وطبائع النفوس يعرفون وجه الحكمة فيما أمر به الله ورسوله، من تحريم اتخاذ القبور مساجد. إن رجاء البركة أول ما يذكره الخارجون على هذه النصوص، أو المحرفون لها. لكن هذه البركة المزعومة سرعان ما تتحول إلى تقديس للهالكين واتجاه إليهم بالأدعية والنذور، واستصراخ بهم فى الأزمات والنوائب. فإذا لم يكن الأمر شركا محضا، فهو مزلقة إليه، مهما كابر المعاندون. ص _182(1/177)
وقد رأيت عشرات من الظلامات المكتوبة ترمى فى ضريح الإمام الشافعى، أو ترسل إليه بالبريد!! وسمعت المئات من سفهاء العامة. يلهثون بالنجوى الحارة حول قبر الإمام الحسين وغيره!! ولم أر أسفه من هؤلاء وأولئك إلا الذين يعتذرون عنهم، من صعاليك المتصوفة وأدعياء المعرفة. على أن علاج هذه المناكر المبتدعة، لا سبيل إليه إلا بإشاعة العلم والخلق، وتهذيب العقول والطباع. فإن النبى- صلوات الله وسلامه عليه- لم يهدم الأصنام إلا بعد أن مكث عشرين عاما، يكون الأمة التى تؤمن بالله، وتكفر بالطواغيت. * * * فتوى رسمية: وجهت بعض الهيئات الإسلامية فى الهند، إلى فضيلة الشيخ "أحمد حسن الباقورى " وزير الأوقاف، سؤالا، قالت فيه: هل من الجائز شرعا تزيين القبور، وإقامة أضرحة عليها؟ وهل يجوز شرعا إقامة مرافق بجوارها مثل السبيل، والمساجد، والاستراحة؟ وما الحكم فى وضع بعض الأصص (الزهرى) على القبور، أو إضاءتها فى ليالى المواسم الدينية؟ وقد استهل فضيلة الأستاذ الباقورى إجابته على ما يتعلق بتزيين القبور، وإقامة أضرحة عليها، بأن هذا العمل ضرب من الوثنية وعبادة الأشخاص، وقد منعه الإسلام، ونهى عنه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وحث على تركه. فقد روى عن جابر رضى الله عنه، أنه قال: نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "أن يجصص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يبنى عليه ". وقال على رضى الله عنه لأحد أصحاب النبى- وهو يوصيه-: "ألا أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا إلا سويته وإذا كان المسلمون- اليوم- يتخذون من تزيين القبور مجالا للتفاخر والتظاهر، ص _183(1/178)
ويمضى بعضهم فى هذا الشطط، حتى يقيم الضريح على القبر، إظهارا للميت بأنه من أولياء الله، أو بأنه من سلالة فلان أو فلان، واستغلالا لهذه الرابطة على حساب الدين، فإن ذلك حرام فى حرام. أما إقامة مرافق بجوار القبور، كالسبيل والمسجد والاستراحة، فإن الإسلام، يكره مزاحمة القبر والتضييق عليه. هذا إن كانت تلك المرافق على أرض خاصة بالمنشئ. أما إن كانت على أرض عامة للدفن، فيحرم شرعا شغلها بأى بناء آخر سوى القبور. وفى الأرض متسع لتلك المرافق، فيما يجاور أو يقرب منها. وأما وضع الأصص والرياحين عند القبور أو حولها، فلا مانع منه. ولكن الأشجار حكمها حكم المرافق، تُكره فى المدافن الخاصة، وتحرم فى المدافن العامة، لمزاحمتها للقبور، ولا يجوز التضييق على الموتى، راحة للأحياء وتنعيما لهم. بقى موضوع إضاءة القبور، إشادة بها وبأصحابها. وهذا ليس من الدين فى شىء لأن الذى يضىء القبر هو عمل الميت وما ادخر من صالح وطيب، لا تلك القناديل، أو الشموع، أو الثريات التى أقامها الأحياء من ورثة الأغنياء. نظرة الإسلام: واستطرد الأستاذ يكشف عن نظرة الإسلام إلى ذلك. فقال: إن الإسلام دين المساواة بين الأحياء، فكيف يفرق بين الموتى فى أشكال القبور ومظاهرها..!؟ ثم إن الإسلام يقرر أن القبر وقف على الميت، وأن على الذين يدفنون الميت أن يضعوا على القبر ما يشير إليه، لكيلا يقع من الحى اعتداء على مكان أخيه الميت، فيتركه له، بعد ما ترك الدنيا جميعها، واستقر فى حفرة صغيرة. فإذا جاء الأغنياء، فأقاموا لموتاهم الأضرحة والقباب، وأضاءوها، وحفوها بالحدائق أو الأشجار، فإن الإسلام لن يقيم لهم وزنا. بل سيحاسبهم على ما أسرفوا وأضاعوا من أموال، وعلى ما اجترءوا على الله، من مظاهر القربى الكاذبة الخداعة. ص _184(1/179)
وقد كان من ترسل الأغنياء فى إقامة الأضرحة والقباب، أن انصرفوا عن الجوهر إلى المظهر. فشمخت القباب والأضرحة فى أنحاء العالم الإسلامى، وتسابقت المآذن ذاهبة فى الجو، وأقيمت الموالد تكريما للمقبورين. كل هذا اكتفاء بأنه يؤدى عند الله ما قصرت عنه أنفسهم من صلاة أو صوم أو حج أو زكاة. ونتج عن ذلك أن عظم المسلمون أصحاب الأضرحة الكبيرة، والقباب العالية، واستهانوا بغيرهم من ذوى القبور المعتادة. ونحن نرى فى مصر دليلا على هذا، فى أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذين دفنوا فيها مثل عمرو بن العاص وعقبة بن نافع، ممن لا يوليهم المسلمون عناية مثل غيرهم من أصحاب الأضرحة والقباب العالية!! مع أنهم دونهم فى المكانة والقربى من الله بنص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإجماع أهل العلم والفقه من المسلمين. هذا فى مصر، وله أشباه فى البلاد الأخرى، وقد عرف المستعمرون والمحتلون هذه النقطة من الضعف، فعنوا- أولى ما عنوا- بإقامة الأضرحة والقباب فى ربوع البلاد، فانصاع الناس لهم، وأطاعوا راضين..!! ونحن جميعا نعلم حيلة "نابليون " وخديعته للشعب المصرى، ببيانه المشهور عقب احتلاله القاهرة، حين سلك السبيل إلينا، بتظاهره بالإسلام واحترامه إياه، وحين ترسم خطاه الجنرال "مينو" الذى أعلن أن اسمه " عبد الله مينو". كذلك نحن لا ننسى خداع "لورانس" الذى نفذ إلى صميم العروبة، باستغلاله المظهر الإسلامى، واستيلائه به على أكثر الجزيرة العربية. وبهذه المناسبة، أذكر أن أحد كبار الشرقيين، حدثنى عن بعض أساليب الاستعمار فى آسيا، من أن الضرورة كانت تقضى بتحويل القوافل الآتية من الهند إلى بغداد عبر تلك المنطقة الواسعة إلى اتجاه جديد، للمستعمر فيه غاية، ولم تجد أية وسيلة من وسائل الدعاية فى جعل القوافل تختاره. وأخيرا اهتدوا إلى إقامة عدة أضرحة وقباب على مسافات متقاربة فى هذا الطريق. وما هو إلا أن اهتزت الإشاعات بمن فيها من(1/180)
الأولياء، وبما شوهد من كراماتهم، حتى صارت تلك الطريق مأهولة مقصودة عامرة . ص _185
وأحب أن أرسلها كلمة خالصة لوجه الله، وإلى المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، أن يقلعوا عن تضخيم المقابر، فإنها نعرة للفرد، ودعوة إلى الأنانية، وإلى الأرستقراطية الممقوتة، التى قتلت روح الشرق. وأن يعودوا إلى رحاب الدين، التى تسوى بين الناس جميعا، أحياء أو أمواتا. لا فضل لأحد على الآخر إلا بالتقوى، وما قدمت يداه من أعمال خالصة لوجه الله. * * * * * وظائف المسجد: صلاة الجماعة قربة، يسعى المسلم إليها، وينشد ثواب الآخرة وحده عليها. سواء فى ذلك صلى هو بالناس، أم صلى به أحد الناس. فإمامة المسجد ليست وظيفة، يربط لها أجر ما قل أو كثر. إلا أنه لوحظ أن مصالح الأمة الدينية والدنيوية تقضى أن يخلص لها نفر معينون، يقومون عليها، ويتفرغون لها. فالحكم، والتعليم، والإدارة، والقضاء، وضروب من العبادات العامة يجب أن يتخصص لها أناس ذوو كفاية ودربة. وأن تكفل لهم الدولة أرزاقا تغنيهم عن الكسب من مهن أخرى... وتلك هى طبيعة الأشياء كما أقرتها المجتمعات القائمة بالنظام الدينى، أو القائمة بغيره، من شتى النظم. وقد رئى أن مكانة المسجد فى الإسلام لها خطر كبير، وأن ترك الإشراف عليها للصدف العارضة لا يليق. كيف؟ والمسجد ساحة يلتقى المسلمون فيها ليلا ونهارا، رجالا ونساءً، شيبا وشبانا، يستمعون لآى القرآن فى الصلوات المكتوبة، وللعظات الموجهة فى خطب الجمع والأعياد، ولدروس التربية التى لابد منها، لربط المسلمين بدينهم، وتنشئتهم على آدابه وتعاليمه. إنه- لضمان نتائج حسنة من هذه الأعمال- لابد من انتخاب رجال يحسنون القيام عليها. فالمدارس والمساجد سواء فى هذه الحاجة.. ص _186(1/181)
المجتمع الإسلامى فقير أشد الفقر إلى هذا اللون من الرجال. وقد تولى قيادته الروحية فى عصور كثيرة شيوخ الطرق الصوفية، فأحسن منهم من أحسن، وأساء منهم من أساء. ولو أن أئمة المساجد انبثوا فى نواحيه، واستحوذوا على ناشئته وشبابه، يوجهونهم إلى الخير، ويحببون لهم الله، لأدوا رسالة المساجد على خير وجه. نعم.. إن الإسلام لا يعرف طبقة الكُهَّان، ليس فى أمته الكبيرة من يوقف عليهم لقب وجال الدين. بيد أن فى الإسلام من يسمون أهل الذكر، ؤمن يلقبون بأولى الأمر. ولهؤلاء وأولئك حق الصدارة والتوجيه. وواجب على العامة أن يهرعوا إليهم فيما ينوبهم من عقد ومسائل. قال الله عز وجل: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ). فلا يسوغ للجماهير الغافلة، أن تتبع مشاعرها الساذجة، أو تقف عند معارفها الضيقة، فيما يعرو المجتمع العام من حرب وسلام، وقلق وأمان، بل ينبغى أن ترتقب توجيه القادة من ذوى الفكر الحصيف والبصر النافذ. وهكذا رسم الإسلام طريق الصواب للقاصرين: فشفاء العى السؤال: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) . ومن هنا يجب أن يحوز أئمة المساجد أنصبة ضخمة، من فقه الدنيا والدين، وأن تكون لهم دراسات شاملة لعلل الجماعة وأدويتها، وإلمام واسع بمذاهب السياسة والاقتصاد، وآراء المربين وعلماء النفس من مسلمين وأجانب.. ويؤسفنا أن هذا المرموق من أهل القرآن لا وجود له- إلا ندرة- وأن الجامع الأزهر ووزارة الأوقاف لا ينهضان بهذا العمل الكريم. ص _187(1/182)
وتوجد صور باهته لوظيفة الإمام فى مئات المساجد، تشبه- مع التجوز- الأطلال المتخلفة عن الدور والقصور، لا تسمع فيها حديث الحياة، وإنما تسمع فيها نعيب البوم. والأذان للصلوات الخمس، وتطهير المساجد- وخاصة بعدما ألحقت بها مرافق للوضوء- أصبحا من الوظائف ذات الأجور المحدودة، وقد رصدت أوقاف كبيرة للإنفاق على هذه الوجوه المحدثة. والأذان عبادة محضة، لا يبذل لها راتب. وكذلك تهيئة المساجد لاستقبال المصلين وإبقاؤها نظيفة مستحبة. ولعل الاعتبارات التى جعلت الإمامة وظيفة، نضحت على غيرها من وظائف المسجد. ذلك إلى جانب أن أغلب المشتغلين بهذه الأعمال فقراء، يستحقون العون المجرد. والحق أن المسجد مرفق عام، يمكن أن تتوسع الدولة فى استغلاله على نطاق واسع، لرفع مستوى الجماهير، ماديا وأدبيا. ويمكن أن تنوط به مهام اجتماعية منوعة. ولولا أن الإصلاحات الحديثة تكره أن يكون عليها طابع الدين، لكان الدين دعامة كل نهضة بالبلاد إلى الأمام، ولكانت وظائفه من السمو بحيث لا ينتقى لها إلا أصحاب السبق والكرامة والامتياز. * * * * الوعظ الدينى: العظة القصيرة من سنن الإسلام، وقلما أطنب رسول اللهـ صلى الله عليه وسلم ـ فى مقال، أو استرسل فى نصح. والمحفوظ من خطبه فى الجمع والمناسبات، وأحاديثه للأفراد والجماعات، لا يزيد أطوله على دقائق معدودة. أما سائره فكلمات حكيمة موجزة، يمكن عدها على الأصابع... ص _188(1/183)
فتطويل الخطب على نحو الذى ألفه أئمة المساجد ووعاظها مخالف لهدى الإسلام. وقد درج كثير من الدعاة على أن يخطبوا الناس ساعة أو ساعتين، بل قد يخطب ثلاث ساعات!! وثلاث ساعات مدة يقرأ فيها المرء ربع القرآن الذى أنزله الله مجزأ على ثلاث وعشرين سنة...!! وقد استمعت إلى نفر من أولئك المطيلين، فوجدت عماد كلامهم اللغو والمعانى ا لمستبعدة، والتكرار، والغلو، وفقدان الموضوع المحدد. والمؤسف أن العوام أصبحوا كالمدمنين المتعودين. والكلام الكثير لا يؤثر فيهم لطول ما قرع آذانهم. وتلك نتيجة محتومة لفوضى الخطابة والتوجيه التى تملأ ميدان الوعظ والإرشاد عندنا. * * * والخطباء الفاقهون قلة فى مساجدنا. أكثرهم لا يدرى ماذا. ولا كيف يقول. والأزهر يحمل الوزر الأكبر فى الأزمة الطاحنة التى نلمسها بين الدعاة والموجهين. لقد أنشئ فى كلية أصول الدين قسم خاص بالدعوة والإرشاد، لم يلبث قليلا حتى مات. وأسست إدارة للوعاظ، لم تزل- منذ أنشئت إلى اليوم- تحيا على هامش النشاط الأزهرى. وينظر إلى رجالها على أنهم أصحاب عمل تافه!! وبديهى أن تعتمد " الدعاية الإسلامية" على الارتجال، والحماسة المنقطعة، وعلى أوقات الفراغ عند لفيف المتطوعين، وعلى الروح الميت عند المحترفين المهملين. ومستقبل هذه الدعاية مقلق، كذلك مستقبل الإسلام معها، ما بقى قادة الأزهر من الصنف الذى عرفناه طوال السنين السابقة. ص _189
وهم صنف يصلح لأى عمل إلا خدمة الإسلام والتصدى لقضاياه الكبرى.. والغريب أن فى علماء الأزهر رجالاً كثيرين، لهم مواهب رفيعة وطاقات واسعة، ولكنهم رسبوا فى قاعه.. وشاءت الحظوظ السيئة أن تدفعهم إلى الوراء، ليتولى أمورهم وأمور الأزهر والمسلمين معهم قوم عاطلون من الخصائص الممتازة. * * * ص _190(1/184)
6 ـ بدع العادات * التقاليد الشائعة : للشرقيين تقاليد خاصة ، بها ، ولم تر إلا فى بلادهم . وقد خلط فريق من الناس ـ إذ رأى المسلمون حُرَّاصًا على هذه التقاليد متمسكين باتباعها ـ فحسبها نبتت بين مبادئ الدين وشرائع الله . أو أنها ـ على القليل ـ تصادق الشعائر المعروفة فى ديننا ولا تنبو عنها . هذا خطأ يجافى الحق . فإنَّ تقاليد الشرق غير مبادئ الإسلام ، وأعمال الناس غير أوامر الله . والعُرف ـ مهما شاع ـ يُحكم عليه ولا يُحكم إليه . والتقاليد ـ مهما استحكمت ـ قد تكون باطلا محضًا ، أو خليطًا من حق وباطل. والمرجع فى ذلك كتاب الله وسنة رسوله .. .. ولنعلم أنَّ الشخص الذى يسير فى الحياة مسلوب الإرادة ، ميت الفكر ـ لا لشئ ، إلا لأنَّ قدميه تخطوان فى طريق مهدها الأقدمون ـ هو شخص ناءٍ بفكره وإرادته عن الإسلام . وهل ضلت الأجيال إلا لتشبهها بتقاليد وأعراف سيئة ؟ (( إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون * ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين * ولقد أرسلنا فيهم منذرين * فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * إلا عباد الله المخلصين )) . للشرقيين مسالك خاصة فى أفراحهم وأحزانهم ، ينزعون فيها إلى الغلو والإسراف . ولهم ـ كذلك ـ طرائق خاصة فى معاملة الأصدقاء والأضياف . ص _191(1/185)
ولهم نوازع خاصة فى معاشرة النساء وأسلوب معاملتهن وحراستهن. ولهم أخلاق خاصة فى النظر إلى الحياة، وقيمة الوقت، والإقبال على العمل، وتنظيم الأحفال ، والتجمع والتفرق.... إلخ. أمور كثيرة فيها الحسن وفيها القبيح، ما يساغ، وفيها ما يُمج. ومن الظلم أن يُحمَّل الإسلام هذه الأثقال المنوعة من نواحى سلوكنا. ذلك أن الحياة التى شرع الإسلام منهاجها فوق ما تتواصى به تقاليد الشرق والغرب على سوء. وهناك أمور يقحم الدين فيها إقحاما، وهو غريب عنها. فالعامة يحسبون أن الملابس العربية ـ مثلا ـ بعض ما أوصى الدين به، بل إن فيها ما عُدَّ شعارا للإسلام كالجبة العمامة وسائر السمت الذى يظهر فيه علماء الأزهر وهذه خرافة. فالملابس التى نصفها بأنها عربية، والأخرى التى نصفها بأنها أجنبية، هى أزياء متفاوتة القيمة والمنفعة، وفيها ما يريح وما يتعب، وما تقبله الأذواق أو تعافه. وفيها صالح لطائفة دون أخركما، ولحال غير الحال. دعك من النية التى تصاحب أى لون من هذه الألبسة، فالحديث عنها غير ما نحن بصدده. أعرف أناسا هجروا الزى العربى إلى الأجنبى لينتقلوا من تزمت إلى تحلل. إن تبديل الزى شىء، وتبديل النية شىء آخر. ولو أن امرأ ارتدى برد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقصد سيئ ما نجا عند الله من ملام. والطراز الذى تبنى به مرافق "الفرنجة" غير الذى تبنى به مثيلتها العربية. ولكل منهما ـ عندى ـ مزايا وعيوب. ولا مجال للقول بأن هذا إسلامى وهذا غير إسلامى. والعامة عندنا ـ يتحرجون من استعمال الورق فى التطهر من فضلاتهم. وهذا خطأ فهو أدعى للنظافة من الحجارة التى يستعملها العرب والفلاحون. والجمع بين الورق والماء أفضل قطعا. وما ترك الأقدمون استعمال الورق إلا لندرته. ص _192(1/186)
فماذا ابتُذلَ فى عصرنا هذا لكثرته، فلا معنى لتركه. إننى ألمح فى بلادنا فنونا شتى للبناء. بعضها فرعونى، وبعضها عربى، وبعضها أوروبى. وفنون الهندسة تتفاوت جمالا وإتقانا، فى هذه الفنون القديمة والحديث. ولا ينبغى أن يوصف أحدها بأنه إسلامى، والآخر بأنه كفرانى.. فهذا سخف. وعندى أن النافذة البسيطة فى أية دار، أقرب إلى سلامة الذوق من نافذة معقدة النقوش، ملونة الزجاج، فى جدار المعبد. لقد شرحنا موقف الإسلام إزاء الابتداع فى شئون الدنيا. إنه يترك للعقول أن تتصرف كيف شاءت، وأن تجدد فى نواحيها الرحبة ما وسعها التجديد. بل إنه يزيح العوائق التى تحد من نزوع الأفكار إلى الخلق والابتكار. لكل إنسان استقلاله المطلق، فيما يعالج من عمل. ولكل إنسان مجاله الواسع، كيما ينتج ويخترع. وله أن يكون من الآراء، ويضع من القواعد ما يتخطى به التقاليد القائمة دون حرج، لا يطلب الإسلام من امرئ فى هذه الميادين إلا أن يستهدى بالعقل المجرد، والنظر الصائب. والناس ـ بعد ذلك وقلبه ـ أعلم بشئون دنياهم... وقد علمت أن هذا النشاط الحيوى، لا يترك فى الأمم جميعا دون استغلال. وأن ما ينشأ عنه من تقدم اقتصادى، أو تفوق علمى يُستخدم ـ غالبا ـ لأغراض شتى، بعضها يحمد، وبعضها يُكره. وهنا يجىء دور الرسالات النبيلة فى تسخير قوى الحياة لأهداف البر، ووجهات الخير. فيقرر الإسلام أن كل حركة ـ فى هذه الدنيا ـ يحفها حسن القصد، وصدق الإخلاص لله رب العالمين ـ فهى لصاحبها صلاة وصدقة وقربات متقبلة. ولو كانت إجابة لغريزة البطن فى الامتلاء، أو غريزة الفرج فى الاجتماع..!! لكن هذه المرونة نحو حقائق الحياة الدنيا، تقابلها صلابة فى ضبط حائق الديانة نفسها. فلابد من التزام السنة الواردة، ومحظور على العقول أن تأتى من لدنها بزيادة تتطوع ـ غير مشكورة ـ بإضافتها إلى ما قال الله وقال الرسول. ص _193(1/187)
فما يُستدرك على وحى الله شىء،( فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون). إننا نريد اتباعا فى الدين، وابتداعا فى الدنيا، وبذلك ـ وحده ـ يصح سيرنا، وترشد سيرتنا. بيد أن من المسلمين من يعكس الآية، فتراه يجمد حيث يجب أن ينطلق، ويتوسع حيث ينبغى أن يتحفظ. وهذا الطيش تأدى بأصحابه إلى أطوار، ضيقت على المسلمين دنياهم، ولبست عليهم دينهم. والتدين الفاسد قد يرجأ البتُّ فى مصيره إلى الدار الآخرة. أما الفهم الفاسد للدنيا فإن آثاره تظهر سراعا، ويعانيها القاصرون هزائم متلاحقة فى كل ساحة. إن المسلم الحق تذهب نفسه حسرات، وهو يرى قومه متأخرين فى شئون سبق فيها، لا أصحاب الديانات السماوية الأخرى فحسب، بل أصحاب الديانات الأرضية المنتحلة، ولِمَ؟ لأن غلطهم فى إدراك الإسلام نضح على إدراكهم لمعنى الحياة نفسها، فطاشوا هنا وهناك، وغشيهم من الاضمحلال ما غشيهم... إن تخليص العبادات نفسها من البدع التى شابتها. فقد تستطيع أمة ما، أن تعبد الله عبادة صحيحة وفق ما شرع لها. ولكنها تضع ـ من عند نفسها ـ قيودا شىء على مسالكها الأخرى فى الحياة فتكون هذه القيود " فالجا " يحبس حراكها، ويهزم عافيتها، ويسوِّد مستقبلها. * * * * * بدع الجنائز: للمسلمين فى تشييع موتاهم، وتخفيف الأحزان بعد فراقهم، تقاليد فادحة المغارم. لا مغارم المال وحدها، بل مغارم الأخلاق والقوى. ص _194(1/188)
وهذه التقاليد، خليط من المبتدعات والمعاصى. ومع شدة ما يلقى الناس منها، فهم يأخذون بها، أو يرون أنفسهم مكرهين على الأخذ بها. وقد رأيت من الفقراء المحتاجين إلى القوت، من يستدين ليقيم هذه التقاليد التى استقرت فى وهمه، حتى حسبها دينا، أو أشياء من الدين!! يموت الميت عندنا، وسرعان ما ينشغل أهله بحفظ كرامتهم بعده، وتكريم صلتهم به. وذلك بإعداد السرادقات أو المحال التى تستقبل المعزين ليلة أو ليلتين، واستئجار نفير من القراء يحيون هذه الليالى ـ أو يميتونها ـ بقرآن قل من يسمعه، وقل فى سامعيه من يفقهه. فإذا انتهى العزاء العاجل، فهناك زيارة القبر بعد أسبوع، أو أسبوعين، بالصدقات. ثم تتكرر هذه التكاليف المادية والأدبية، بعد أربعين يوما. ثم الذكرى الأولى بعد عام، والثانية بعد عامين... وهكذا. إن هذه التقاليد ينكرها الفهم الصحيح للدنيا، كما ينكرها الفهم الصحيح للدين. وقد فقدت "ألمانيا" فى الحرب الأخيرة قرابة عشرة ملايين قتيل، فماذا صنعت؟ أهالت التراب على موتاها فى صمت، واستأنفت جهادها للحياة فى جد، واستردت ما فقدت من خسائر فى بضع سنين. أما نحن.. فإننا نتبع الهالك الواحد بما رأيت. فكيف لو اجتاحتنا حرب بلغت ضحايانا فيها الألوف؟؟ كم مجمعا للعزاء نصنع؟ وكم زورة للقبور؟ وكم حفلا للخميس الأول، والأربعين الأول، والسنة الأولى؟ لاشك أن هذا الذى يصنعه المسلمون حمق كبير. والمؤسف أن العامة ـ والخاصة ـ يوارون هذه الحماقات فى صور دينية مبهمة. وقد عز على بعض المشتغلين بالوعظ أن يفضوا هذه المجامع. فأرادوا أن يجوزوها، أو يسوغوا وجودها، فضموا إلى تلاوة القرآن فيها إلقاء دروس عامة ص _195(1/189)
وهذا علاج يزيد الطين بلة. ولا شفاء للمسلمين من هذه الأدواء إلا بإقامة السُّنَّة الصحيحة، أى بمحو هذه التقاليد جميعا. وسُّنَّة الإسلام ـ فى هذه الأمور ـ أن يستقبل المرء قضاء الله وهو متجلد. فلا يأذن للجزع أن يسكن فؤاده، ولا يدع الحزن يمر بساحته إلا عابرا. لا يكاد يلم به حتى ينأى عنه ثم يستأنف محياه وهو أكثر معرفة لربه وتسليما لحكمه، ورجاء فيما عنده. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من استرجع عند المصيبة جبر الله معصيته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا يرضاه ". ولا يجوز لمسلم أو مسلمة أن ترتدى للحزن لباسا خاصا، أو أن يجعل للحداد شارات فى بدنه، أو هيئته، أو منزله أو عمله. فإن ذهاب حى إلى الدار الآخرة لا يعنى إشاعة الفوضى والكآبة فى شئون هذه الحياة. فالأمر كما قيل: مات الميت.. فليحيا الحى. ولما كانت عواطف النساء أكثر استجابة للأحزان، وتجديدا لما درس منها، فقد وقَّت الإسلام للحداد مدة معينة لهن. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا يحل لامرأة، تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرا ". فأقارب المرأة جميعا سواء، فى أن إحدادها عليهم لا يتجاوز الثلاث. ومعنى إحدادها ترك ما تألف من زينة وخضاب وطيب.. أما الزوج، فإن مكانه من المرأة وتغير مستقبلها بعده يقتضيان مدة أطول، تعود بعدها إلى ما يحل لها من تزين وتبسط. * * * * ذلك.. ولا مكان فى الإسلام للمظاهرات الصاخبة، التى تتبع الجنائز. فإن ارتفاع الأصوات ـ ولو بتلاوة القرآن وذكر الله ـ لا يجوز. وقد جرت عادة العامة أن يستجلبوا أقواما لإحداث هذا الضجيج المنكر. ص _196(1/190)
قال صاحب المدخل: "وهذا مخالف لسُّنَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه والسلف الصالح، ويجب منعه على من له قدرة على الزجر والتأديب! وقد يزيد بعضهم زعقات النساء ولطم الخدود وما شابهه. وهذا كله يخالف ما كانت عليه جنائز السلف. كان يسودها الخشوع والوقار، حتى أن صاحب المصيبة لا يعرف بين المشيعين، لما يعمهم جميعا من حزن، وما يأخذهم من تفكر وانزعاج، عندما يذكرون فى موكب الموت ما هم إليه صائرون وعليه قادمون.. ". قال الحسن: ميت الغد يُشيع ميت اليوم. وقال ابن مسعود لرجل قال فى جنازة : استغفروا لأخيكم ـ يعنى الميت ـ قال له : لا غفر الله لك! كراهية ارتفاع صوت ما فى الجنازة. فإذا كانت هذه حالهم فى الإنكار على أى ضجة تتبع الموتى، فما ظنك بما يصنعه الرعاع اليوم من تهريج وضوضاء أو بما ينغمونه الآن من تراتيل وأشعار؟ أما التعزية التى سنها الإسلام فتجىء غرضا ولا يتهيأ لها المصابون من أهل الميت بشيء ولا يحتشدون لها فى مكان. هكذا كان يفعل السلف الصالحون، ينصرفون لحوائجهم، فمن صادفهم عراهم. وقد اضطربت الأوضاع بين الأخلاق اضطرابا شديدا، فأمسى ـ لزاما على المنكوبين بالموت ـ أن يعدوا مكان العزاء، وأن يقدموا المشارب والأطعمة للوافدين. مع أن السُّنَّة أن يعان البيت المشغول بالوفاة، فتجهز الأطعمة لأهله، لا أن يقوم هو بتجهيز المشارب والمطاعم، إلى جانب ما بلى به. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما مات جعفر بن أبى طالب : اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم ما يشغلهم ". وقرر الفقهاء أن الطعام ـ الذى يصنعه آل الميت، لمن يجتمعون لديهم ـ مكروه، لأنه إعانة على بدعة. قال الإمام أحمد: هو من فعل الجاهلية، وأنكره إنكارا شديدا. ص _197(1/191)
وحدث جرير بن عبد الله قال: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام بعد دفنه، من النياحة " أى من مآثر الجاهلية. والغريب أن هذه الجاهلية هى روح التقاليد الشائعة اليوم فى ربوعنا. * * * * * والمقابر ليست أماكن لتوزيع الصدقات. وقد رأيت أوقافا حبسها الهلكى على إطعام الطعام وسقى الماء فى مدافنهم، بل على تزيينها بالزهر والريحان. ولهذا النوع من الصدقة أصل فيما كانت الجاهلية تفعله. كانت تذبح الأغنام عند القبور ابتغاء رحمة الميت، حتى جاء الإسلام فمنع هذا الصنيع. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا عقر فى الإسلام ". ويبدو أن المسلمين استعاضوا عن الذبح بتفريق اللحم مطهوا، ومعه أحيانا بعض الخبز والفاكهة !! وذلك كله محدث لا أصل له. وعلة هذه المسالك ـ فيما أرى ـ ضعف إيمانهم بمبدأ " المسئولية الشخصية" فى الجزاء الآخرون، وتعلقهم ببعض السنن التى تشير إلى أن الموتى قد يستفيدون من عمل الأحياء. والأحاديث التى تصح فى هذا السياق، لا يجوز أن تفهم على أنها هدم للقواعد المقررة فى حساب الآخرة، فإن لها تأويلات يعرفها أولوا العلم. ومع ذلك، فالعوام يصرون على استئجار من يتلو القرآن على الموتى، لينفعهم وما أعرف أمة فعلت بكتابها هذا الذى نصنع، تهجره فى الأحياء، وتقرؤه بين القبور..!! * * * * * بدع الأفراح : وللمسلمين فى أفراحهم ـ على اختلاف أسبابها ـ عادات رديئة. فهم ينزعون إلى الغلو والتكلف، وقلما يجنحون إلى البساطة والاعتدال. ص _198(1/192)
وهم يستغلون إباحة الإسلام للطيبات، فيتوسعون فى انتهابها، ويبلغون فى الإسراف حدا لا يصل إليه أتباع الديانات الأخرى. وقد حضرت أحفالا، أقامها أصحابها لمناسبات شتى، ابتهاجا بمولود، أو استقبالا لموظف، أو احتفاء بصديق، أو فرحا بزواج. فكان الإفراط البين طابعا عاما لهذه الأحفال كلها، سواء فى مصر، أو الشام، أو الحجاز. ويمكن القول بأن الأجانب أدنى منا إلى الرشد فى هذه الأمور. بل هم أدنى إلى الرشد فى أخذهم من شهوات الدنيا، ما حل منها وما حرم السكارى عندنا يكرعون من الرجس حتى يرتموا على الأرض، والسكارى منهم يتجرعون القليل الذى يحفظ توازنهم. المرأة الأجنبية تكتفى بملبس رخيص أنيق، والمرأة المسلمة لا ترضى حتى تضع على بدنها أغلى الأنسجة. * * * * وهذه النقائض تقع فى عصر سقطت فيه دولة الإسلام، وذهبت ريحه، وديست أرضه، ومشى الغاصبون فى أرجائها يزأرون زئير الآساد الكاسرة القاهرة. وكان حريا بالمهزوم أن يصد عن المباحات الميسرة، إذا أقبل المنتصر عليها وعلى غيرها، يتشبع وينتشى. أما أن يعتدل المنتصر، ويفرط المنهزم، فهذه هى المأساة. فى الجاهلية الأولى كانت القبائل المنهزمة تدع الملذات التى ألفتها، حتى تدرك ما فاتها. فإذا نالت ثأرها ومحت ما تراه عازا لها.. عادت إلى ملذاتها القديمة. وشاعرها يقول: فساغ لى شراب وكنت قبلاً أكاد أغص بالماء الفرات وقد رأينا أبا سفيان ـ عقب هزيمة بدر ـ يقسم ألا يقرب امرأته، ولا يمس طيبا، حتى يمحو مصاب المشركين فى هذه المعركة، ولم تهدأ نفسه حتى أبر قسمه... وكان أولى بالمسلمين أن يتخففوا من أثقال التقاليد التى تجعل أفراحهم مباريات للنهم والرياء وغيرها من الرذائل المادية والمعنوية، تمشيا مع تعاليم دينهم، وبصرا بواقع أمرهم . ص _199(1/193)
إن البساطة سُّنَّة الإسلام فى كل شىء. عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: نهينا عن التكلف. وعن ابن مسعود رضى الله عنه: أن رسول! الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هلك المتنطعون".. ثلاث مرات. والتنطع مجانبة الفطرة بالمزيد من التكلف والاستقصاء. قال الفضيل بن عياض: "إنما تقاطع الناس بالتكلف، يدعو أحدهم أخاه فيتكلف له، فيقطعه عن الرجوع إليه ". وروى عن أنس بن مالك وغيره من الصحابة "أنهم كانوا يُقدمون لإخوانهم ما حضر، من الكسر اليابسة وحشف التمر، ويقولون : لا ندرى أيهم أعظم وزرا؟ الذى يحتقر ما قدم إليه! أو الذ!ا يحتقر ما عنده أن يقدمه ". وهذه الآثار تعنى أن يجود المرء بما عنده، لا أن يحرج نفسه بالاضطرار والمصانعة. وليست تعنى أن ينحجر المرء فى المهارب الشح فيقدم التافه وهو يستطيع تقريب النفيس. ألا ترى إلى الخليل إبراهيم عليه السلام كيف تبرز شمائل النبل فى سيرته؟ ما إن يطرق الضيوف بيته حتى يروغ إلى أهله دون مساءلة أو تراجع فيذبح عجلا ويشويه، ويسارع به إلى زواره وهو لا يدرى، أجياع أم هم لا يأكلون! (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون * فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم قال ألا تأكلون) وولائم الأعراس هى فى العادة أحق الولائم بالبذل والترخص. ومع جمال المناسبة التى تقام فيها، فإن الإسلام لا يرى إباحة السرف والترف فى طعامها. عن أسماء بنت عميس قالت : " كنت صاحبة عائشة رضى الله عنها في الليلة التى هيأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعى نسوة. قالت: فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحا من اللبن نال منه الرسول... ثم ناوله عائشة ـ قالت أسماء ـ فاستحيت الجارية ـ تعنى ص _200(1/194)
عائشة- قالت: فقلت : لا تردى يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، خذى منه.. فأخذته منه على حياء، فشربت منه، ثم قال: " ناولى صواحبك " فقلن: لا نشتهيه!! فقال: "لا تجمعن جوعا وكذبا". قالت أسماء: فقلت: يا رسول الله، إن قالت إحدانا لشىء تشتهيه: لا أشتهيه أيعد ذلك كذبا ؟ فقال : "إن الكذب ليكتب حتى يُكتب الكذيبة كذيبة ولما عقد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على فاطمة ابنته كان الطعام الذى أحضره النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمدعوين طبقا من بسر. ففى الحديث: " إن الله أمرنى أن أزوج فاطمة من على بن أبى طالب فاشهدوا أنى قد زوجتها على أربعمائة مثقال فضة، إن رضى بذلك على " . ثم دعا بطبق من بسر، ثم قال: "انتبهوا" فانتبهنا.. هكذا تزوجت امرأة نبى، وابنة نبى فى أحفال لا كلفة فيها ولا مغارم. فانظر ماذا يصنع المسلمون فى أعراسهم، وكم تبهظهم النفقات المفروضة فى إعداد ولائم حافلة حاشدة لا يطعم منها جائع ولا محروم. * * * * * الزواج وروابط الأسرة: الشُّقة بعيدة بين أدب الإسلام فى علاقة الذكر بالأنثى، وبين تقاليد الحضارة الحديثة التى نضحت على الشرق من الغرب... كما أن الشُّقة بعيدة بين أدب الإسلام نفسه فى هذه العلاقة، وبين ما يطلبه ـ باسم الإسلام ـ بعض الجهلة بوظيفة المرأة فى المجتمع... إن المرأة المطروحة وراء سجن من الجهل والعمى، يموت معها نصف الأمة، ويمرض النصف الآخر. والمرأة المتروكة للغى والهوى تضطرب معها الأمة كلها، ويلعب بزمامها شيطان... والأمة الإسلامية الآن نصفان. نصف لا مكان للمرأة فيه كاليمن والحجاز. ونصف مكان المرأة فيه غلط، وموضعها فيها حائر جائر، كما هى الحال عندنا فى مصر . ص _201(1/195)
ولا ندرى متى نخلص من هذه النقائض، ونهدى إلى الحق! * * * لعل الغريزة الجنسية من أنشط الغرائز فى دماء الناس. بل لعل بقاء العمران على ظهر الأرض قد وكل إليها وحدها. وحساب هذه الغريزة، لا ينسى فى ميدان الاقتصاد أو ميدان التربية. فإن ضوابطها المادية والأدبية سواء فى ضرورة الحيطة والعناية. ولا يتجاهل هذه الغريزة ـ منذ يقظتها فى سن المراهقة ـ إلا امرؤ أغمض عينيه عن الحقائق، وأصم أذنيه عن الصراخ..! والفطرة ـ التى تصدر عنها شرائع الإسلام ـ هدت هذه الغريزة إلى صراط مستقيم، فلا هى قتلتها بالرهبانية، ولا أطغتها بالإباحية.. لقد أتاحت لها أن تتنفس، وأن تؤدى وظيفتها العتيدة لا فى استدامة الحياة الإنسانية فحسب، بل تلطيفها بالحب والتعاون والرحمة. وحضارة الغرب الحديث تشبه الإسلام فى اعترافها بهذه الغريزة. وتخالف الأديان كلها فى أنها جعلت التسول الجنسى الواسع علاج نهمها. ولا شك أن "أوروبا" دللت الحيوان المتنزى فى دماء البشر. فيسرت الاختلاط المطلق، وقبلت ـ فى برود ـ جميع نتائجه، وتواصت بالسكوت عليها. وشرائع الله التى بلغها موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أنزه من أن تقر هذه الحال أو تأذن بها. فلا عجب إذا توجس أهل الدين منها، ولا عجب إذا قاد رد الفعل بإزائها مزيدا من التزمت والحذر، والمبالغة فى حبس المرأة، واتهام سلوكها وفرض الحصار عليها.. وهذا ليس الحل الموفق للمشكلة القائمة.. فالمنهج الذى تلمح معالمه فى كتاب الله وسنة رسوله هو الحل الفذ الرشيد للعلاقة العابرة، أو الدائمة بين الذكر والأنثى. ص _202(1/196)
إن الزواج وحده، هو الحل الأول والأخير للمشكلة الجنسية. وهو أنبل صلة عرفتها الإنسانية، لتكوين الأسرة، وتربية الأولاد فى جو زكى طهور. والمجتمع مسئول عن تشكيل أوضاعه الاقتصادية، وتقاليد العامة، بحيث تجعل الزواج أمرا ميسرا مبسطا، لا تخوف منه ولا خرفي فيه. والإسلام دين يجعل العفاف، والأمن، فى مرتبة واحدة مع توحيد الله. أليس يجعل إزهاق الأرواح، وانتهاك الأعراض مساويين للشرك؟ أليس يسوق خلال المؤمنين الأخيار، فيقول: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ). فكما تحارب الأمة المسلمة الكبيرة الأولى ـ وهى الشرك بالله ـ والكبيرة الثانية ـ وهى قتل النفس ـ التى صانها الله ـ يجب أن تحارب الفاحشة الأخرى. وحربها لا تكون بالكبت الدائم، أو بفرض الرهبانية سنين عددا، على من يستحيل عليه قبولها.. كلا.. كلا. هذه علاجات لا تزيد الأمة إلا خبالا. وأمتنا تسكت الآن عن الفواحش التى يرتكبها الشباب المسعور، وتفترض فى حياة كل شاب بضع سنين يقضيها فى اللهو الحرام قبل أن يظفر بنكاح صحيح. وهى تقبل وقوع هذه المناكر، ولا تقبل أن تفرط فى حفل فخم تقيمه عند عقد لزواج. وفى شعوب إسلامية لا حرج من تأخير الزواج وتطويل أمد الفوضى الجنسية التى تسبقه حتى يمكن إعطاء مهر باهظ. ودلالة هذا السلوك أن رعاية التقاليد الموروثة والوجاهات المنشودة أحظى لدى الناس من رعاية الدين، وابتغاء مرضاة الله نعم.. وهل تشك فى ذلك، بعد أن تعلم أننا نقتل المرأة إذا زنت ونترك الرجل لا يمسه سوء؟ ص _203(1/197)
إن القتل هنا ليس غضب مؤمن ثار لحق الله، بل غضب إنسان هاج لسمعته الخاصة. ولو كان الأمر استنكارا لتلوث امرئ ما بمعصية قذرة لغضبت الأسرة من ابنها الفاجر، وأدبته، كما تغضب أشد الغضب لخطيئة فتاتها، ولا تجد خلاصا منها إلا بالموت. على أن هذه التقاليد الشرقية، أو الريفية ـ بتعبير أدق ـ أخذت تنكمش وتتلاشى أمام الجاهلية الحديثة الوافدة مع التسول الجنسى والتحلل الخلقى، وسائر ما ترجمنا به حضارة الغرب. والحق أن المسلم الذى يكره الريبة فى أمته، يجب أن يبصرها تبصيرا بتعاليم الدين الحنيف فى هذا الشأن. إنه ـ لكى يشيع الزواج، بدل أن تشيع الفاحشة حتما ـ لابد أن تزاح من أمامه العوائق المصطنعة، وأن تتعاون الأمة والدولة على جعل عقده حدثا محببا للأطراف التى تتصل به جميعا، لا حادثة تلاحقها الأزمات والضوائق القابضة. لقد رأيت فى الحجاز وفى فلسطين، مغالاة شنيعة فى المهور، فلا يحصل رجل على امرأة إلا إذا ساق إليها المئات والألوف. فماذا نشأ عن ذلك؟ ، فشو المنكر هنا وهناك. ولا يتحدثن جهول عن جواز المغالاة فى المهور شرعا! فإن ذلك، لو كان نافلة مطلوبة ما صح أداؤها. إذ لا تؤدى النافلة إلا بعد إتمام الفريضة، فإذا ديست الفرائض فأين مكان النافلة؟ وإذا ضاع العفاف، وانتشر الفجور، فهل يتحدث عن جواز المغالاة فى المهور إلا غر مأفون. إن المسلمين جعلوا الزواج الشرعى مرتفى صعبا، فكان أن هان الانحدار على كثير. * * * فى زواج موسى عليه الصلاة والسلام ما يستحق التأمل. ص _204(1/198)
إته ترك مصر محزنا مطاردا، ينشد الاستقرار والسكينة، فيمم شطر مدين يبغى لنفسه موطئا أعز مما فقد. وتوسل إلى الله عله يهديه ويعينه : (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل * ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير * فسقى لهما ). فموسى رق فؤاده لمنظر فتاتين تقومان بعمل والدهما، فسارع ـ بقصد شريف ـ ليحمل عنهما هذا العبء، ولم يفته أن يلحظ ما فى مسلكهما من عفاف وحياء وترفع. فقد رفضتا التحكك بزحام الجمهور على الماء، وجاءتهما النجدة، وهما يرقبان انصراف الرعاة ليستقيا ويئوبا!! وخُلُق هاتين المرأتين مثل عال لما ينبغى أن تكون عليه النساء الفضليات فى كل عصر. كما أن خلق موسى أسوة حسنة للرجولة الرائعة. لقد أسدى صنيعه (ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير * فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا). وذهب موسى مع الفتاة لا ليتقاضى لمعروفه ثمنا، فهو أسمى من ذلك. وإنما ليلتمس الأنيس فى أرض الاغتراب والوحشة، وليجد فى كنف رب هذه الأسرة ملاذا يلجأ إليه، ويقص عليه ما يعانى. ( فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين). ولكى يأمن موسى على حاضره ومستقبله، اقترح عليه الرجل الصالح أن يزوجه إحدى ابنتيه، وأن يهيئ له عملا عنده! بعد ما أعلنت إحدى الفتاتين عن رأيها فيه: ص _205(1/199)
( قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين * قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) ويقينى أن هذه الفتاة التى أعلنت رأيها فى موسى لو كانت ابنة رجل من أهل الصعيد لبادر إلى قتلها!! كيف تصف رجلا غريبا على هذا النحو؟ بل لو كان الرجل من مسلمى اليوم لأبى أشد الإباء أن يرسل ابنته لتستقدم رجلا لا تعرفه... على أن ما تم هو زواج كريم ربط نفسين كبيرتين، ومهدت له أخلاق زاكية وتقاليد فاضلة، وهو ما نفتقده فى بيئتنا فلا نجده!! والمجتمع الذى ننشده يؤسس قبل كل شىء على الضمائر اليقظة، والفضائل القوية، والحراسة المشددة من الرأى العام، والقوى الحاكمة جميعا.. ولعل أفشل ضروب التربية هو ما يعتمد على حبس المرآة، داخل نطاق من العزلة العقلية والأدبية البحتة، بل إن عد ذلك من ضروب التربية ، مغالطة... كما أن العجز عن ضبط الصلات الجنسية فى الحدود التى شرعها الله، والتذرع بهذا العجز إلى ترك الشهوة البهيمية تنساح كيف تشاء، هو سقوط بالفطرة والخلق، وتمرد على الله وشرائعه كافة... وحبذا لو درس المسلمون كيف انتظمت العلاقات بين الجنسين فى الصدر الأول، وكيف اجتمع أفراد الأسرة كلهم فى ساحة المسجد طرفى النهار وزلفا من الليل. بل كيف قاتل الرجال والنساء معا لإعلان كلمة الله؟ وكيف أجمع الفقهاء على أنه إذا وقع هجوم عام على الوطن الإسلامى كلف كل مسلم ومسلمة بإجابة النفير، والخروج لبذل النفس والنفيس... إنه ـ على ضوء هذه العلاقات المقررة شرعا ـ يمكن تصور البيئة التى تولد فيها الأسرة وتنتعش وتحيا، وتؤدى رسالتها كاملة. وفى الكتاب والسنة آداب شتى.. للنظر، والاستئذان، والتكشف والتستر، وسفر المرأة، وعودة الرجل إلى بيته، وموقف المرأة من أقربائها وأقرباء زوجها، وحق الوالدين، وحقوق الأولاد...إلخ ص _206(1/200)
هى آداب مفضلة يجب على المسلمين أن يلتزموها ويربوا أهليهم وذراريهم على الأخذ بها. بيد أن هناك أنواعا من السلوك المعتاد، لم يضع الإسلام لها صورا معينة ويختلف الناس فى الشرق والغرب بإزائها. فمن المشاهد أن الأجانب يمنحون أولادهم حريات كبيرة. وربما يقوم الأولاد بحركات ـ فى حضرة آبائهم ـ نعدها نحن منافية للوقار الواجب، ولا يرون هم فيها أى حرج. ومن ذلك أن الأولاد لا يكادون يجاوزون مرحلة الطفولة حتى يُحمَّلوا تكاليف الحياة ويسألوا عن مكاسبهم التى يبنون بها مستقبلهم. بل إن المجتمعات الأوروبية وصلت فى ذلك إلى حد أن الزوجين معا يشتغلان بحرف شتى، و يقوم دخل البيت على جهدهما المشترك. ونحن لا نزكى سلوكا بعينه فى الحياة الغربية، بل ندعو إلى النظر الدقيق فى تقاليدنا وتقاليدهم، تلك التقاليد التى لا سناد لها إلا الإلف أو الاستحسان، ولا صلة لها بكفر أو إيمان، ولا بطاعة أو عصيان. فما وجدناه خيرا فيها نقلناه إلى مجتمعنا، وإلا أهملناه إهمالا. ولنحسب فى نظرتنا هذه أن روح المخاطرة والاستقلال التى جعلت دول الغرب تسود وتحكم، تعود إلى ما ينغرس فى دماء أبنائها منذ نعومة الأظفار، وما يشبون عليه من جرأة على الحياة واعتماد على النفس. إن المشاعر الطرية أغرتنا بالقعود والتواكل، فقبعنا فى بلادنا حتى دُخلَت علينا من أقطارها، فإذا الأجانب ـ رجالا ونساء ـ يغلبوننا على خيرها. والانتفاع بتقاليد لم نعرفها ـ إذا بدت صلاحيتها ـ لا يخدش شيئا من تمسكنا بديننا، وإحيائنا لشعائره. فالعرب حين دونوا الدواوين، ومصروا الأمصار، وأبقوا على النظم الإدارية المتخلفة من حضارة فارس والروم، لم يخرجوا بذلك عن دينهم.. ثم يجب ـ ونحن نحسب قوانا ـ أن نعرف أن المرأة فى بلاد الإسلام من عوامل الاستهلاك، وأنها عند غيرها من عوامل الإنتاج، هى عبء هنا وعون هناك وهذا منكر من الخلق والسلوك!! ص _207(1/201)
إن إسرائيل لم تقارب المليونين من الأنفس، ولكن جيشها هو عدد سكانها من الرجال والنساء عدا الأطفال الرضع. فهل وصلت بعض الدول الإسلامية التى تربو على إسرائيل أضعافا مضاعفة، إلى ما بلغته العسكرية اليهودية، أم أن النساء والأولاد فى تلك البلاد ـ أعنى بلادنا ـ يحيون للأكل والمتاع فحسب. * * * * الموالد: من تقاليد الأجانب احتفاؤهم بأعياد ميلادهم، واستبقالهم الأعوام الجديدة، بأحفال تثير فى حياتهم البهجة، وتملأ نفوسهم بالنشاط والأمل. وهذه العادات ـ إذا خلت من المجون والحرام ـ يمكن الإبقاء عليها دون حرج.. وإذا نقلناها عنهم لنعرف حسابنا مع الزمن، ومدى ما قطعنا منه فى الماضى، ومدى ما نفيد منه فى المستقبل كان ذلك حسنا، لمن شاء! * * * وهذا شىء غير ما يصنعه المسلمون فى موالدهم. فقد جرت عادتهم ـ إذا مات فيهم من يحسبونه صالحا ـ أن يتخذوا على قبره ضريحا، وأن يبنوا فوق الضريح قبة مشرفة، وأن يجعلوا منه مزارا، وأن يحتفلوا بمولده مرة أو مرتين كل عام!! وهذا العمل مزيج من معصية وبدعة. ولا ريب فى أنه مخالفة كبيرة لتعاليم الإسلام. وقد تعددت موالد الصالحين (!) فى طول البلاد وعرضها، وأصبحت أسواقا مألوفة ومواسم معروفة. وقيل: إن أول من أحدثها بالقاهرة الخلفاء الفاطميون بالقرن الرابع للهجرة، فقد ابتدعوا ستة موالد : المولد النبوى، ومولد الإمام على، ومولد السيدة فاطمة الزهراء، ومولد الحسن والحسين، ومولد الخليفة الحاضر. وبقيت هذه الموالد على رسومها إلى أن أبطلها الأفضل ابن أمير الجيوش، ثم أعيدت فى خلافة الحاكم بأمر الله سنة 524 هـ بعد أن كاد الناس ينسونها. ص _208(1/202)
وأول من أحدث الاحتفال بمولد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الملك المظفر أبو سعيد فى القرن السابع بمدينة " إربل " ثم فشت هذه الموالد، فى شتى الأقطار وكثر قصادها. وافتنوا فى تنميقها وإبرازها وملئها بما تهوى الأنفس، حتى صارت كلمة "مولد" رمزا على الفوضى والزياط والمساخر. والتقرب إلى الله بإقامة هذه الموالد، عبادة لا أصل لها. بل إن من العصيان لله ورسوله اتخاذ مقابر الصالحين محورا لهذه الحشود، ومثابة لهذه الأحفال، حتى ولو كانت مبنية على القربات المحضة. فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا تجعلوا بيوتكم مقابر ولا تجعلوا قبرى عيدا، وصلوا على أينما كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم ". وفى رواية عن سهيل بن أبى سهيل قال: "رآنى الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب عند القبر. فنادانى ـ هو فى بيت فاطمة يتعشى ـ فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريد! فقال: مالى رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلَّمت على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: لذا دخلت المسجد؟ ثم قال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تتخذوا بيتى عيدا ولا بيوتكم مقابر، وصلوا على، فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم ". فإذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كره أن يتخذ الناس قبره ساحة للأحفال، ومجمعا للقصاد، فكيف بقبور غيره ممن نعرف ولا نعرف؟ على أن المساجد التى تُشد إليها الرحال وتبذل فى بلوغها النفقات معروفة. وهى ـ كما أحصاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : المسجد الحرام، والمسجد النبوى، والمسجد الأقصى. ومكانة هذه المساجد لم تجئها من إحياء مولد بها، أو من تكريم مقبور فيها، بل جاءتها لمعان خاصة، لا مجال لشرحها هنا. فأولئك الذين يحسبون أنهم يرضون الله بإقامة موالد لكبار الأولياء أو صغارهم، يرتكبون بدعا سيئة، ويهيئون الفرصة لمعاص منكرة. والحق أن الموالد من أخصب البيئات للمناكر الظاهرة والمستورة. ففى ساحاتها الواسعة ينتشر(1/203)
الرقعاء دون خجل، ويختلط النساء بالرجال فى المأكل والمنام، وكثيرا ما تقع جرائم الزنا واللواط، ويدخن الحشيش، وتسمع الأغانى والموسيقا الخليعة، وتختفى روح الجد وتقدير الأمور. لتحل مكانها قلة الاكتراث، وقبول الدنايا.. ص _209
كما تختفى النظافة من المساجد، وتضطرب الأوقات والجماعات.. ودعك من أن الوافدين على هذه الساحات لهم عقائد غريبة، فربما ضن أحدهم على أمه بقروش يبرها بها، فى الوقت الذى يبسط يده بالنفقة هنا، إكراما لصاحب المولد، الذى لا يخيب قاصدا، ولا يرد طالبا...!! وبعض الناس يعتذر لهذه الموالد بأن فيها حلقات للذكر ودروسا للعلم وتلاوة للقرآن، وإطعاما للفقراء والمساكين... ولو خلت الموالد من الآثام التى سقناها آنفا، لوجب تعطيلها أيضا، لمظاهر التدين الفاسد التى تسودها. فحلقات الذكر ضروب من الهوس وألوان من الرقص الذى يسوَّد له وجه الدين. أما القرآن المتلو فى هذه الساحات فما ينتفع به تال ولا سامع. إنه غناء مملول النغم، يتصنع به بعض السامعين شيئا من الإقبال، ريثما يفرغ منه. وكذلك الوعظ فى دروس الوعظ والإرشاد التى ينظمها الأزهر الآن يبغى بها تعليم الجماهير المحتشدة فى هذه الموالد. تلك كلها محاولات عابثة وإهدار لقيمة الذكر الحكيم والحديث الشريف. ولو افترضنا بعض الخير فى هذه الأعمال، فإنها لا تُعد مبرزا لإقامة الموالد بعد ما أوضحنا الشرور التى تكتنفها. وقانون الشريعة فى هذا، أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. قال ابن حجر: "ألا ترى أن الشارع اكتفى من الخير بما تيسر؟ وفطم عن جميع أنواع الشر حيث قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه "؟ أى أن الشر ـ وإن قل ـ لا يُرخص فى شىء منه، والخير يُكتفى منه بما أمكن..! فكيف نفتح باب شر متيقن لخير موهوم؟ ثم ما وعاء هذا الخير المزعوم. عمل لم يفعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،(1/204)
ولا صحابته، ولا التابعون لهم بإحسان قرونا طويلة. وقد انتهى شيخ الأزهر الأسبق الأستاذ محمد مصطفى المراغي إلى هذا الحكم، أو إلى قريب منه، حيث قال : "وهناك أمور يعرض لها أن تكون بدعة، وألا تكون بدعة. ص _210
مثلا الاحتفال بمولد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وبيوم الهجرة، وبالمحمل. إذا فعلت هذه الأشياء على أنها عبادة وتدين، كانت بدعة بلا شبهة، لأنها إحداث عبادة لم تكن ولم يؤذن فيها. أما إذا فعلت على سبيل العادة، وعلى أن الاحتفال بالهجرة وبمولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ إحياء لذكريات عزيزة، كانت سببا للخير، وموجبة للشكر لتنبعث نفس المؤدى إلى التمسك بالهدى وبالخلق الكريم، لم تكن بدعة، لأنه لم يقصد بها التدين، ولم يرد إحداث شىء فى الدين. لكن إذا حُفت هذه المحدَثات ـ التى ليست بدعا ـ بما هو بدعة وبما هو مخالف للشريعة حرمت، لما هو ملابس لها من البدع، ولما هو ملابس لها من المعاصى. وكل معصية فشت لا تسمى بدعة. فجميع ما يقع فى الأسواق والمجتمعات والمساجد، وكل ما أطلق الناس لأنفسهم فيه العنان، مما هو مخالف لقواعد الشريعة لا يسمى بدعة، وإنما هو معاص ومحرمات. وملاحظة ضوابط البدعة يساعد كثيرا على معرفتها. وقد قلنا: إن أهم الميزات والخواص أن يحدث الشىء على أنه دين يُتعبد به، وعلى أن يقصد فاعله التعبد والتدين والتقرب به إلى الله سبحانه ". نقول: ولا شك أن الذين يحتفلون بالموالد المختلفة، وينفقون فيها كرائم أموالهم، ويتجشمون مشاق السفر إلى العواصم البعيدة، للمشاركة فى إحيائها إنما يفعلون ذلك على أنه قربى إلى الله، وتكفير للسيئات، ورفعة فى الدرجات. ومن ثم فنحن نميل إلى تعميم الحكم على هذه الموالد جميعا، ووصفها بأنها مبتدعات ترفض ولا يعتذر لها. ومن الوسائل التى يلجأ إليها حكام الجور، لصرف الناس عن ملاحقتهم بالنقد، تضخيم الأحداث التافهة وحوك الأساطير حولها، ثم إشاعتها بين العوام وأشباههم، ليتلهوا(1/205)
بها زمنا. فإذا فرغوا منها لوحقوا بغيرها، وهكذا دواليك، حتى يستقر للحكام الفسقة أمرهم دون نكير... ولعل هذا هو السر فى تطويل قصة "عنترة بن شداد" قديما، فبلغت أجزاؤها نيفا وستين كتابا.. ص _211
وكذلك "ألف ليلة وليلة" وما شاكل هذه الموسوعات الخرافية. والصحف فى عصرنا هذا، حين توجه إلى إماتة بعض القضايا الكبرى تُبرز بدلا منها بعض مآسى الغرام الحرام، وتفتن فى سرد فصوله الدقيقة. وأحسب أن تنقيل الجماهير المغفلة من مزر إلى مزار، وإخراجهم من حفل لإدخالهم فى حفل، وجعل حياة الأمة سلسة من هذه الملاهى الدينية الموصولة ـ أحسب أن ذلك كان غاية منشودة لبعض الحكام السابقين وأن بدعة الموالد كانت وسيلة ناجحة لبلوغ هذا الهدف. وهل يبقى لأمة وقت أو جهد للحق والعلا بعدما استهلكت المساخر وقتها وجهدها؟ إن إلغاء الموالد ضرورة دينية ودنيوية. وإلى جانب الموالد المبتدعة، والمواسم المبتدعة أيضا، فهذه من تلك، تكملة لحلقة المخترعات الدينية التى يقبل عليها العوام وينفسون فيها عن أهوائهم. والإسلام لم يشرع إلا أعيادا ثلاثة : عيدى الفطر والأضحى ، ويوم الجمعة من كل أسبوع..! أما اليوم.. فقد اختلقت أعياد ومواسم شتى، ورُبطت بها تقاليد كثيرة.. من ذلك "يوم عاشوراء" والمسلمون فيه قسمان: الشيعة، وشغلهم يومئذ أن يضربوا أنفسهم بما يصل إلى أيديهم، حزنا على مقتل الحسين! وأهل السُنَّة، والأمر بينهم بالعكس، فهم يصنعون الولائم ويكثرون الأطعمة والحلوى. وصنيع هؤلاء وأولئك ـ على ما ينطق به من فرقة وهوس ـ لا أصل له فى الإسلام. وهكذا انتظم الاحتفال بليلة المولد النبوى ، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وليلة القدر، ورأس السنة الهجرية. وقد حددت لهذه الاحتفالات تواريخ كيفما اتفق، وجُعل البذل فيها من مظاهر التدين..! وأحياها العوام والخواص بمزيد من الكلام والطعام. وهكذا تكون نصرة الإسلام...!! ص _212(1/206)
ثم زادت أحوال المسلمين اضطرابا وغلبت التقاليد الصليبية على أعيادهم فخل يوم الأحد مكان الجمعة..!! والعواصم الكبرى التى زرتها تُعطل المتاجر والمصانع يوم الأحد، وتمنح عمالها فيه الفرصة المفروضة فى الأسبوع للراحة والتجمل والفراغ. مع أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة". ويقول فيه: "إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين، فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل، وإن كان طيب فليمس منه، وعليكم بالسواك ". وثبت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر يوم الجمعة فقال : "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلى، يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ".. وأشار بيده يُقلل تلك الساعة. إن المدن الكبرى ـ فى هذه الأيام ـ تكاد تختفى حركتها يوم الأحد لما يسود محال العمل من عطل. أما يوم الجمعة فلا مكان فيه لتعطيل عامل، أو فراغ كاسب، أو راحة لاغب. وغلبة العادات الفرنجية، وما يصاحبها من تقاليد صليبية. آخذة فى الظهور. وانخلاع المسلمين عن مقومات دينهم ودنياهم أمام الغزو التبشيرى، مما تحذر عواقبه. وخصوصا أن بعض المائعين يحسب مرونة الإسلام فى معاملة المخالفين له تعنى احترام أباطيلهم والمشاركة فى الاحتفال بها ـ ولو بالصمت ـ مع أن ذلك منهى عنه. ففى الحديث: "لا تعلموا رطانة الأعاجم (أى تعلم التقليد والذوبان) ولا تدخلوا على المشركين فى كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخط ينزل عليهم ". وهذا المنهى عنه، لا يعنى ألا نتعلم اللغات الأخرى، فإن تعلمها ثابت بالنص. ولا يعنى أن نجرح مشاعر أهل الذمة. فالفرق واضح بين المشاركة فى الباطل وترك الناس فى حرياتهم، يعتقدون ما يشاءون. إنما المقصود أن تبقى شخصيتنا واضحة وشاراتنا بارزة، ودلائل إسلامنا شائعة فى مجالى حياتنا العامة والخاصة. أما تقليد الميوعة والانحلال، وتشبه التبعية والعجز فهو أول الكفر... والانهيار. ص _213(1/207)
خاتمة فى العمل الصادق لله، والاستمساك الصحيح بدينه يجب أن نمضى إلى غاياتنا، ولو أقفر الطريق إلا منا. وقد أعجبنى فى هذا المجال توجيه لابن القيم، ملأ فؤادى بالرضا، ودفعنى إلى متابعته فى مشاعره ـ وهو يتحدث عن "الغرباء" بالحق ـ فرغبت أن أجعل نهاية هذه الرسالة وصاة تعين محبى الحق على الأخذ به والدوام عليه. ما أكثر الذين يجهلون الحق، والذين يجحدونه فى هذه الحياة، وما أحوج الغرباء إلى من يُهوِّن عليهم وعثاء المسير، بين الغافلين والناقمين. * * * الشاب المتعفف بين أقرانه من متبعى الشهوات، والرجل المصلى بين الذاهلين عن الأوقات والجماعات، والمسلم المعتصم بالسنة بين معتنقى البدع والخرافات، والمجاهد المحامى عن شعائر دينه بين من لا يكترثون لهوان الدين وضياع الحرمات.. أولئك جميعا غرباء، يحسون الوحدة ـ هان تكاثر من حولهم الناس ويشعرون بالعزلة وإن فاضت قلوب اللاهين بالبشر والإيناس، إلا أنهم يستكثرون أنفسهم وإن كانوا قليلا لأنهم مع الحق، ويستقلون غيرهم وإن كانوا كثيرا لأنهم مع الباطل. ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم الله يعلم أنى لم أقل فندا إنى لأفتح عينى حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا؟ وهذا الشعور بالعزة والاعتداد بالنفس، لابد منه لكل غريب. فهو سياج يحمى ما وراءه من فضيلة وتسام يرد عوادى الجهل ويحطم غرور السفهاء ويطوى المراحل البعيدة إلى الهدف المقصود دون مبالاة بالعوائق التى بعثرها قطاع الطريق. ص _214(1/208)
وقد كان المتنبى ـ وهو طالب ولاية صغيرة ـ يستعلى بهذه الغربة ويباهى بها: وحيد من الخلان فى كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد ولا غرو، فالسابح فى عكس التيار يحتاج إلى قوة أعظم، وكفاح أطول. والعامل لدين الله بين العاطلين، والصالح بين الفاسدين، كلاهما يتطلب قوة خاصة ليصلح بها بين أولئك المرضى. فكيف بمن يستهدف إصلاح الفساد وإقامة العوج؟؟ وكيف بمن يريد وجه الله بين طلاب الغثاء وعبدة التراب؟ والغرباء هم الذين أشار إليهم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى الحديث: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدا، فطوبى للغرباء"، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون إذا فسد الناس ". وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدى عن زهير بسنده عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " طوبى للغرباء ". قالوا: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: "الذين يزيدون إذا نقص الناس ". فإن كان هذا الحديث بهذا اللفظ محفوظا لم ينقلب على الراوى لفظه: "وهم الذين ينقصون إذا زاد الناس ". فمعناه الذين يزيدون خيرا وإيمانا وتُقى إذا نقص الناس من ذلك! وفى حديث الأعمش عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء"، قيل: ومن الغرباء؟ قال: "النُزَّاع من القبائل "! وفي رواية أخرى: قيل: من الغرباء؟ قال: "ناس صالحون فى ناس ـ فاسدين ـ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ". وفى رواية أخرى: "إن أحب شىء إلى الله الغرباء"، قيل: من الغرباء؟ قال : "الفرارون بدينهم ".. أى من الفتن. وفى رواية : " من الغرباء؟ قال: "الذين يحيون سنتى ويعلمونها للناس ".. والغرباء وإن استوحشوا من الناس فما يضيرهم تنكر العوام ولا تهجم ذوى السلطة. وقد تلح عليهم الأسقام والضوائق فما يرجعهم ذلك إلى الناس، ولا ينعطفون إلى أحد. ص _215(1/209)
روى أنه لما خرج موسى هاربا من قوم فرعون على الحال التى ذكرها الله ـ وهو وحيد غريب خائف جائع ـ قال: يا رب.. وحيد مريض غريب!! فقيل له: "يا موسى.. الوحيد من ليس له مثلى أنيس. والمريض من ليس له مثلى طبيب. والغريب من ليس بينى وبينه معاملة". والحق أن الله إذا شرح صدر عبده بالإيمان جعله يستعذب فى سبيله المر، فإذا السجن خلوة، وإذا النفى سياحة، وإذا القتل شهادة؟ ومن ثم فهو فى غربته عن الناس وصلته بالله رجل فذ، لكن فى ثوبه أمة مجتمع: كأنه، وهو فرد، من جلالته فى عسكر حين تلقاه وفى حشم * * * والمرء ـ بطبيعته ـ يحب الأنس بغيره من البشر، فالتجمع غريزة إنسانية لا ريب فيها. فإذا سما مسلكه بين المسفين، وعظمت همته بين الساقطين واستوحش بذلك من الناس. احتاج إلى شعور من الألفة والطمأنينة يستعيض به عما فقد. وعندئذ يكون ذكر الله عز وجل سلوته فى عزلته، وأنيسه فى غربته، والواحة التى يستريح إليها فى القفار المترامية. من أهواء العوام وسفالة الحتهام. وكذلك تكون سُنَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأطوار سيرته وحسن التأسى به، بشاشة المغترب ومثابة يتردد عليها بين حين والحين، وليقتبس من أنوارها ويتنفس فى رياضها، فلا يألم بعدها من وحدته ولا يضيق بُزلته. وقد جعل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإقبال على الله فى أيام الفتن معادلا لصحبته فى حياته واللحاق به فى مدينته فقال: "عبادة فى الهرج كهجرة إلى". وكيف ترجو المؤمن الصالح أن يقر قراره فى الدنيا وهو عنها عازف وحوله آلاف العبيد الهائمين؟ قال ابن القيم: "فإذا أراد المؤمن الذى رزقه الله بصيرة فى دينه، وفقها فى سنة رسوله، وفهما فى كتابه، والذى أراه الله ما الناس فيه من الباع والأهواء والضلالات، وتنكبهم عن الصراط الذى كان عليه رسول الله وأصحابه. ص _216(1/210)
إذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به، وتنفيرهم الناس عنه وتحذيرهم منه، كما كان الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه صلى الله عليه وسلم. فأما إن دعاهم إلى ذلك وقدح فيما هم عليه، فهناك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائب وينصبون له الحبائل ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله. فهو غريب فى دينه لفساد أديانهم. غريب فى تمسكه بالسُّنَّة لتمسكهم بالبدع. غريب فى اعتقاده لفساد اعتقادهم. غريب فى صلاته لسوء صلاتهم.. ومع أن الاغتراب المعنوى هو أساس الامتياز ومناط الرفعة، فإن الغربة قد تكون حسية ومعنوية معا. فيكون النأى عن الأوطان مقارنا للعزلة عن الناس والاستيحاش من أحوالهم.. وأصحاب الهمم البعيدة يكرهون القرار حيث ولدوا. بل يمدون أبصارهم إلى أقطار الأرض البعيدة يعجبهم التطواف فى الآفاق فلا يستهويهم مكان إلا بمقدار ما يستطيعون فيه أداء رسالتهم وإراحة ضمائرهم. ومن ثم كانت الهجرة والارتحال شيمة أهل الصلاح والفضل فى كل عصر. وكانت هذه الخطوات الفساح توسيعا للدائرة التى تمنح لهم فى جنات النعيم، يوم يودعون هذه الدنيا ويرجعون إلى الله. عن عبد الله بن عمرو: توفى رجل بالمدينة ممن ولدوا فيها، فصلى عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: "ليته مات فى غير مولده ". فقال رجل: ولم يا رسول الله؟! فقال: "إن الرجل إذا مات غريبا قيس له من مولده إلى منقطع أثره فى الجنة". وفى رواية: وقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قبر رجل بالمدينة فقال : "يا له لو مات غريبا" ولو أن المسلمين فقهوا فضل هذه الغربة لكانوا قبل غيرهم من "الأوروبيين " أسبق إلى اكتشاف المجاهيل وأسرع إلى الانتشار فى أنحاء الدنيا وتعمير خرابها واستخراج كنوزها. ثم أداء رسالتهم العالمية فى ظل هذا النشاط الواسع. ص _217(1/211)
لكن المسلمين قعدوا فى ديارهم حتى غُزوا وذُلوا. وتغرب الأوروبيون فى قارات الأرض والأمم فسادوا وغزوا. ولما كانت الغربة انفراد المرء عن نظرائه وسبقه الصفوف التى يمشى فيها، فإن أسمى درجات الغربة ما دفع بصاحبه إلى الأمام وجعله يتقدم ويتقدم حتى ما يلحق غباره أو تُدرك آثاره، وحتى يخفى شخصه ووصفه على من يرمقونه من بعيد. تسترت من دهرى بظل جناحه فعينى ترى دهرى وليس يرانى فلو تسأل الأيام ما اسمى؟ لما درت وأين مكانى؟ ما عرفن مكانى ولكن هذا الغريب فى مكانه وزمانه، التارك للخاصة تزحف فى بطء وراء ميدانه. يرسل للناس من الأشعة الهادية والأنوار الكاشفة ما ينير لهم الطريق. فهى ليست غربة عزلة، ولكنها غربة رفعة!! وكم من غريب بين الناس بأحواله، وهممه، ومقاصده، وأهدافه، أثر وأعمق الأثر على من كان بينهم فعرفوه، أو من غاب فى أفقه عليهم فاكتشفوه. قال ابن القيم: "إن همة العارف جاثمة حول معروفه ـ أى الله ـ فهو غريب بين أبناء الآخرة فضلا عن أبناء الدنيا، كما أن طالب الآخرة غريب فى أبناء الدنيا". هذا الغريب فذ فى علمه لأن أفقه أرحب، وفقهه أعمق، وبصره أحد. فذ فى عاطفته لأن إشراق الحب الإلهى فى قلبه جعل مشاعره مهتاجة، وانفعلاته موصولة، ورحمته بالأقربين والأبعدين دافقة. فذ فى عباداته، فقد يكون العُبَّاد والزُهَّاد مشغولين بما يقدمون من طاعات، أما هو فله بالله شغل تجعل همته منصرفة إلى المعبود مع قيامه بحق العبادات المطلوبة. فذ فى سلوكه وأحكامه فإنه فى غربته لمحلقه يرى ما لا يشاهده غيره، ولذلك قلما تدرى حقيقة أقواله وأفعاله إلا بعد فترة قد يصل فيها المتخلفون إلى المرصد الذى وقف الغريب فيه يرقب الغيوب. إنها غيوب على سواء، أما هو فيرى ما لا يرون ويحكم بما لا يحكمون. رحم الله الغرباء، وآنس وحشتهم بفضله وعفوه! * * * *(1/212)