لَوْعة ٌ عَلَى شَوْقي
أستاذ الجيل وآخر العمالقة
العلامة شوقي ضيف
رحمه الله تعالى
نظم
حمزة بن فايع الفتحي
الطبعة الأولى
1426 هـ - 2005 م
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ( وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد ،،،
فلقد كان يوم الثاني من محرم ـ العاشر من مارس مؤلماً لكثيرين من محبي العلم والمعرفة ، حيث تلقينا نبأ وفاة الأستاذ العلامة المحقق الكبير / شوقي ضيف ، الذي عرفته بكتبه ، وأدركته بجده ونصبه ، وهمته العالية علماً وحرصاً وتدقيقاً ، وكنت إذا رأيت كتاباً له كأنني أظفر بكنزٍ سام ، حيث أنظر التحقيق ودقته ، والعلم وعمقه ، والفهم وحذقه ، والجد وآيته .
وبالفعل فقد كان محققاً نادراً ، وعلامةً نحريراً، يعز نظيره ، ويقل شبهه ونديده .
فيالله! كم هي عظيمة هذه الأمة ، وقد أنجبت مثل شوقي رحمه الله ، ذا القلم السيال ، واللسن الرفيع ، والغيرة الصادقة التي لاحت عليه ، وهو يذب عن تراثنا الزاخر ، ويحوط حوزة اللغة ، وينشر العلم بكل صدق واعتزاز ، فقد حاز قصب السبق ، في خدمة تاريخ الأدب العربي ، بما أولاه من عناية دقيقة ، أفرزت موسوعة علمية واسعة ، تحكي سمات الأدب العربي ، ونشأته وظروفه وتاريخه ، لا ترى فيها غير الإتقان والجد ، والنظرة الفاحصة والمدققة .(1/1)
نعم إن فقدان مثل هذا العلم البارز ، لهو ثلمة في بناء هذه الأمة ، ونقصان في تاريخها اللغوي ، والأدبي ، لقد كان شوقي رحمه الله مثال المحقق الأمين ، والعالم الزكي ، والمثقف الثري ، الذي لم تتلاعب به الأهواء ، أو تأخذه المناصب ، أو تغره الوجاهات ، لقد ارتقى بالعلم والمعرفة ، وسما باللغة وحبها ، وعلا بموروثه الثقافي وتركته الفكرية التي كشفت ما ينبغي عليه المحقق والباحث ، من صفات العلم والدقة والأمانة والموضوعية وإفادة القارئ والمطالع ، دون تشبع أو تعالم . فلله دره إذ علمنا أدوات التحقيق ، ورسم معالم البحث ، وكشف لنا من عيون المسائل ، وذخائر اللسان العربي .
لقد زار الأستاذ دولاً عدة ، ودرس وتخرج عليه كثيرون ، ولم تزل سرجه نيرة في أقطار عديدة ، وقد رأس مجمع اللغة عدة مرات ، وقفل وهو رئيسه ، وقد زان برئاسته وخبرته ودوام إشرافه ومتابعته ، وأحرز عدداً من الجوائز والأوسمة ، وهي جديرة به ، لأنها تعانق العلم ، وتحييه ، وتباركه ، ومثل هؤلاء العظام تشرف الجوائز والمناصب بأمثالهم ، وليس العكس .
لقد قدم شوقي لأمته وعلومها وحضارتها مفاخر عديدة تنوء بحملها أعلام فذة ، وأساتذة كملة ، تجمعت جهودهم وطاقاتهم في شخص واحد عظيم ,أخلص للعلم ، وتجرد للمعرفة ، وشغف بحب اللغة ، وآدابها ، فجزاه الله خيراً .
وإنه لموقف مخز بهذه الأمة ,أن يفقد مثل هؤلاء الأعلام ، ولا نكترث لهم ، في حين إذا فارق غواة الفن واللهو ، دقت لهم الطبول , وصنعت لهم المآتم الطويلة العريضة ، وسودت الصحف والمجلات في تعداد مآثرهم!!
ولا يدري ما هذه المآثر التي قدموها؟!
يا عجبا! زمان انتكست فيه المفاهيم , وغيبت القيمة الصادقة , واحتفي بما هو هزيل وسقيم وتافه !!(1/2)
لم أكن أعرف شوقي رحمه الله بذاته ,أو لأنه درسنى ، أو حصل لي شرف زيارته واللقاء به ، كلا بل عرفته بحسن كتبه , حيث كنت أرى كتبه مع طلبة قسم اللغة العربية , لا سيما سلسلة التاريخ المعروفة , التي تبين عمقه وعلمه وقدرته التأليفية والفكرية .
فقلبتها وأطلت النظر فيها , فأسرني بحسن تقريره وإشراقة يراعه ، فقررت امتلاكها وشراء ما تيسر من كتبه ، وكان من أول ما طالعت كتابه( الفن ومذاهبه ) فقرأته و أعجبت بتمكن الرجل وفهامته الأدبية ، والتاريخية ، مع أنني أختلف معه في بعض مضامين الكتاب ، إلا أنى لا أملك إلا الإذعان واحترام قلمه الرزين ، وعقليته المتدفقة الفاحصة .ولم يكن الأستاذ الفاضل معزولا على قسم اللغة والأدب ، بل له مشاركات أخرى في الثقافة الشرعية منها : محمد خاتم المرسلين , والوجيز في التفسير , وعالمية الإسلام , والحضارة الإسلامية فى القرآن والسنة.
إن شوقي ضيف كأي علم متين, أنجبته هذه الأمة المباركة المرحومة من حقه علينا الترحم عليه وإبراز محاسنه والإشادة بدوره التجديدى ، ونشاطه الفكري . ومن القبح بمكان , أن تنسى الأمة دور هؤلاء العلماء المبدعين ، الذي رحلوا ولم ترحل كتبهم ، ومآثرهم كما قال صلى الله عليه وسلم (أو علم ينتفع به )
لا أدري هل نحن في زمن ضاع فيه قدر العلماء ، وذهبت كرامتهم ومكانتهم !!
يكثر الكلام اليوم عن قضايا حقوق الإنسان والمخاطر التي تمارس تجاه هذه القضية ، وأبعاد الظلم الواقع علي الإنسان في المغرب والمشرق ، وفي المشرق الأمر أشد وأنكى بصورة لا تكاد تدرك وتفهم . والسبب سؤالهم بعض الحقوق التي هي لهم , وتفرضها الدولة الإسلامية ، والحياة الحضارية ، وهناك من المفكرين من يري أن هذه الحقوق هي ضرورات وواجبات مستحقة ، لكل مسلم فى هذه الحياة ، كالأستاذ محمد عمارة .
وفي ذلك الإنسان يبرز شخص محلى بعقود العلم ولآلئ المعرفة ، كلامه كخرزات عقد يتحدرن حسنا وجودة وجمالا !!(1/3)
( إنه العالم الجاد ) الذي ليس له من المكانة إلا علمه وشرف ما آتاه الله من حسن فهم ، وقلم وضاح منير. هذا الذي أهملته الأمة ولم تقم بحقوقه ، ولم تمكنه غاية التمكين ، وتهيئ له منابر التوجيه والتأثير.
هل تحتاج الأمة إلي (جمعية حقوق العلماء أو رعاية شئونهم ) لا أبالغ إذا قلت إننا في عصر ضيع فيه حق العلماء ، ونسيت مآثر المبدعين والمفكرين المجددين . علينا كدعاة وطلبة علم أن نتنادى لإعطاء العلماء حقهم وقدرهم بالمؤسسات والدروس ,وتعليم أبنائنا على مثل ذلك .
لأن العلماء الراسخين في المكان الذي يجعلهم منافذ التغيير والإصلاح والرقي في حياة الأمة .وهوان الأمة من أسبابه الأكيدة غياب دور العلماء والمصلحين وقد يكون من أسبابهم وتقاعسهم , انصراف الأمة عنهم ، وعدم احتفائها بدروسهم ومكانتهم , فيستوحش العالم ويصبح في عزلة اجتماعية ، وانزواء فكري , ليس له أدنى تأثير في حياة الناس .
والمحسن من هذا الصنف ينقطع إلى ميدان التأليف والتحقيق , وتعداد صور التشاؤم والسلبية .
لكننا بتعاوننا الثقافي نستطيع إبراز دور العلماء من خلال ما يلي :
1) تأسيس منظمة أو جمعية تعنى بحقوقهم ، ورد كرامتهم وإعانة الفقراء والمضطهدين منهم .
2) تصميم مواقع إلكترونية مختلفة, تؤسس هذا البناء وتعرف بالعلماء ، وتبث كتبهم ودروسهم .
3) استغلال وسائل الإعلام المختلفة - لاسيما المستقلة - عن أي جهة لتظهر المغمورين وتنشر الصورة الصحيحة . وطغيان الفضائيات الآن يسمح بمثل ذلك ، وبعيدا عن أي ضغوط .
4) تنوير التجار وأرباب الأموال إلى مثل هذا الباب وأنه من طرق البر ، ومن صور الإصلاح المهمة في الحياة الإسلامية والعربية .(1/4)
5) توجيه الدروس العلمية والتربوية إلي العلماء المتأخرين والمعاصرين ، لا سيما المتوفين وإبراز محاسنهم ، ومواقفهم المشرفة ، وعدم اختزال مدرسة الإقتداء والتأسي بالقرون الماضية , لأن هذه الأمة أمة غزيرة معطاءة , لا زالت تنجب وتفيض ، في إبراز النماذج السامية للمتأخرين يسهم في الربط الفكري بين الحاضر والماضي ويزيل غشاوة الانفصام بين عصور المجد والحضارة وعصر الجمود والتخلف والتبعية .
6) إعداد الدراسات العلمية ، والجهود البحثية لبيان أحوال وآراء العلماء المتأخرين لا سيما من نبغ منهم ، وعرف بخصائص معينة ، أو سبق إلى أدوات بارزة .
7) دعوة الأنام لتبجيل الأعلام , والالتفاف حول دروسهم وعلومهم ,وتراثهم , وأنهم الملاذ الآمن , والمنارة المضيئة , والكلمة الصادقة .
8) تفعيل دور الهيئات العلمية , والمجامع الفقهية , ودعمها بشتي الوسائل ، وإلهابها للعمل الجاد , وقيامها بدورها ، وضخ الدماء الحية بها , لتقوم بما يناط بها من أعباء وتكاليف.
هذه المقدمة جاءت لتكون لوعة شعرية ، قيدتها إثر رحيل الدكتور شوقي ضيف رحمه الله ، لما أكن له من محبة وإجلال ، وتقدير رغم عدم التقائي به .
لكنني أجل العالم المتقن ، والرجل المميز , أياً كان لونه ، أو شكله ، أو موطنه , لعظمة ما يحمل , ولسمو ما يفيض , ولروعة ما ترك وعقب.
وهذه (لوعة علي شوقي ) كتبتها عقب وفاته , وهى من مفردات الشعر التعليمى الذي أولعت به , وفيها استعرضت دوره الثقافي ، وسيرته ، وصفاته وتركته العلمية ، ثم ذيلت ببعض المقالات المنشورة الكترونيا ، أو صحفيا ، من بعض الأساتذة والمعجبين , كتبت تأبيناً وتوجعاً على وفاته ، رحمه الله وأجزل مثوبته .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،،،
القاهرة -المهندسين
الثلاثاء 2/41426 هـ
10/5/2005 م
لمثلِهِ تَذرفُ ذي المدامعُ
وتصطلي الأشجان والمواجعُ
وينسى ذا المفجوع والمكروبُ
محازناً لوقعه تذوبُ(1/5)
(والمجمعُ) الميمون في اكتراب
من فقد من أولاه (بالطياب)
لأنه (مجدِّد) الزمانِ
في عالم التاريخ واللسانِ
وقد براني الغمُّ والتأثرُ
لما أتاني (النبأ) المكدر
ماذا جرَى يا جيرة العلوم؟!
قالوا : طوى (علامةُ) الفهومِ
شيخ ذه اللغات والآداب
(وفيلق التحقيق) والإطنابِ
ومنتهى معلمي الأجيالِ
وسادة النقاد والأبطال
وناشري تراثنا الغزيرِ
(وقيِّم الإبداع) والتبصير
مَنْ لَهُ الجميلُ في التراثِ
وكاشفُ الأخطاء والأضغاثِ
وصاحبُ المحاسن الغراءِ
وباذلُ العطاءِ والسَنَاءِ
(موسوعة) المشايخ الأفاضلِ
(وعمدة الأجلة) الكواملِ
مَنْ حملَ الإخلاص والإتقانا
واستطعم الإنجاح والإمعانا
فجاء بالفوائد الملاحِ
والكتبِ المواتعِ الصِحاحِ
يُرَى بها الإبداعُ والإفادُ
وروعةُ التحقيق والإجادُ
بحيث لا تحملُ ذي الأوهاما
ولا هوَى التجار والأسقاما
تثريك بالفوائدِ الحسانِ
وبالإفادات وبالمعاني
وتغدو في حدائق الأرواحِ
في مَسْرح الضياء والفلاحِ
وذي هي (أمانة) التأليفِ
ورِبقة التحرير والتصنيف
(وشوقنا) قد شاقَ ذا التحقيقا
واستروح التعليق والتدقيقا
ومرَّن النفسَ على العَلاءِ
وجِدّة الحِراك والمضَاءِ
متصفاً (بأحسن) الفضائل
وخيرة الخصال والنوائلِ
كالصدق والإخلاص للمطلوب
وصون ذي الأوقات (والوثوب)
يا شوقي قد شُقتكَ من قديمِ
ومن سني النشء واليتيمِ
حيثُ رأيتَ (علمك الغزيرا)
وعقلَك المنظِّر النضيرا
تجود بالمعاني والأفكار
والكتب اللوامع الغِزارِ
وترتقي مراقيَ الأفذاذِ
دون محاباةٍ ولا انتباذِ
وإنما بالحِذق للمعارفِ
وفقه ذي العلوم واللطائفِ
وجعلِها للقارئ الشوَّافِ
أبهى من الموائد الظِرافِ
تزهو بذاك المنظر الخلاَّب
ومنتهى لذاذة الرضابِ
كأنك الآوي إلى الجناتِ
وفي بَهيّ الروحِ والراحاتِ
لا تعرفُ الملالَ والمتاعبا
أو ضيقَ ذي النفوس والمصائبا
وإنما تشمَخُ (بالتأصيلِ)
وروعةِ التدليلِ والتحليلِ
لأنك العائد بالأحمال
من ثبج البحور باللالئ(1/6)
تزهو بشوقٍ فائقِ فياضِ
إلى ذهِ الجنان والرياضِ
وذا هو القبولُ للإنسانِ
من ربنا الموفَّق الرحمنِ
مَنْ وهَبَ العقولَ والبصائرا
وحرَّك الأفهام والمشاعرا
وفضَّل العبادَ في العبادِ
وأمطرَ الصادق بالمدادِ
سبحانه ففضله كبير
يختصُ من يرضى ومن يَميرُ
وشوقيَ (العلامة الكبيرُ)
نقادة العلوم والبصيرُ
أربى على (أشياخه الأقادم)
وجاء بالتلامذِ الأفاهمِ
وسَاحَ في عوالم الزمانِ
يُبدع في أرض وفي مكان
إذ حَطَّ في (بغدادَ) و(الرياضِ)
وفي (عُمَان) جاء بالمراضي
وكان في (الكويت) بالمحمودِ
يلمَعُ كالمرصُع المنضودِ
فياله من فائض (زخَّارِ)
أربى على الجهابذ الأحبار
وأُعطي التوفيق في التأليفِ
فجاءَ بالفائقِ والطريفِ
(وعاش) للعلم وللتعليم
(وللمشاريع) وللتفهيم
يمتاز بالمشارع الطوالِ
والعمل المدقّق المثالِ
مَنْ مثلُهُ في قمة الإتقانِ
يزهو بذا الإنتاج والمغاني
تجاوز المصاعب الشِدادا
وفارقَ المَلاذّ والرقادا
ولم يلن من كُرَب الدهورِ
ونكبة الحياةِ والعصورِ
لأنَّه قد عانق الإصرارا
وصادقَ الهمة والإعصارا
فجاء كالصبَّار في الأهوالِ
لا يشكو من ضعفٍ ومِنْ هُزالِ
وذي هي (حقيقة الأرواحِ)
تحتاج للتفجير والإفساحِ
لتمطر المعاني الثمينةْ
والكتب الشوامخ الثمينةْ
وذا هو المجهودُ في الحياةِ
ولم تكن للزهو واللهاةِ
(أسفاره) تدعو إلى الإكبار
وديمة (الإجلال) والإثار
إذ إنها من جملة النوادر
وسمط ذي اللالئ والمفاخرِ
لائقةً (بالرهبنةْ العلمية)
وحلية التصوف الفكريةْ
والخُلْص للعلم وللكتابِ
بالهمم العوالي العجابِ
فطالِعْن تحقيقَه الأسفارا
وحشدهُ الفوائدَ الغِزارا
وعمقَه في أدب الأعاربِ
وفقهَ ذي العصور والتجاربِ
وفهمه في النحو والنضارةْ
واللغةِ الغراءِ والحضارةْ
وماله من (شَامة النقادِ)
تلك التي تندُر من آمادِ
فذا هو إبداعه الجميل
(وذكره المرتل) الجليلُ
جزاه ربنا عن الإسلامِ
(واللغة الغراء) والأعلامِ
خير جزاء طاب بالغمام(1/7)
والرَوحِ والريحانِ والسلامِ
فإنه من ناصري الإسلام
(وخادمي اللغات) والأقلام
ضحى بوقت (باذخ) فسيحِ
للعلم والتحقيق والتصحيح
وآثر العلم على اللذائذ
ليرتقي بالسادة الأساتذ
ويرسُمُ (المنهج) للطلابِ
وأنّه بالجد والإسهابِ
في (عمق) ذي الأسفار والعلومِ
وصيد ذي الأفكار والفهومِ
والجلَدِ البارز في الأبحاثِ
لخدمة الجديد والتراثِ
والضَنّ بِالوقت والزمان
فاستمعوا يا (معشر الشبان)
وسابقوا الساعةَ بالسراعِ
والهِمم الكبارِ والسماعِ
فشوقي يشتاقُ إلى المصاعبِ
وليس للراحة والملاعبِ
يُمتعنا بفكرِهِ (الخصيبِ)
وعلمه المذهَّب الرحيبِ
الجاري في (عوالم الفنون)
وفي رفيع الذكر والشئون
واسعُ ذا التفكير والحوار
يُصغي إلى النجيب والمحتارِ
ضابطُ في الحضور والتدريسِ
ليوضح المنهج للتأسيس
ناءٍ عن المعارك الفكريةْ
وصولة المقاتل الردية
مَنْ نقضَ السدود والحواجزا
ليحرز الظهور والجوائزا
وقد أعار القلم الكفارا
لينشرَ الوبالَ والبوارا
وشوقي لم ينأ إلى الجراحِ
وراغَ عن موارد الجٌناحِ
وصيَّر اليراع للإسلام
وللأعاريب وللإسلامِ
فجاءنا ببهجة الأعصارِ
ومتعة الأسمار والأنظارِ
لأنه منظومةُ الفواضلِ
وصفوة الآداب والخمائلِ
وروعة الشمس لدى(الغروبِ)
وبسمة العاشق والطَّروبِ
(طلابه) في مصر والبلدانِ
حيَّوه بالعبير والريحانَ
فشوقي قد فاحَ بذي الأشواق
وامتدَّ في الأقطار والآفاقِ
بالذكر والمنهج والطلابِ
والدرر الملاح والكتابِ
فإنه (لَلحارسُ الأمينُ)
و(الراهب العلمي) والثمينُ
للغة الكريمة الصفاتِ
ذات (الندى) والنور والحياةِ
ولم يكن من رافضي التجديد
أو حامل القديم (بالتشديد)
لكنه يمتاز (بالتوسط)
وديمة الأناة والتحوطِ
فسمه التراثي والتجديدي
ِمنْ حاملي التحديث والتجويدِ
يحلو بذي (المرونة الذهنية)
ودقة العبارة الروية
نالَ مِنْ الهدايا والجوائزِ
مكارماً تربو على الحوافزِ
نحو وسام الدولة التقديري
وفيصلٍ بالجدِ والتحريرِ(1/8)
وإنَّه بمثلها جديرُ
لأنه المعلِّم البصيرٌ
نافح عن (حضارة العربان)
ولغة المنزل القرآنِ
وذبَّ عن معالم الإسلامِ
وحوزة التراث والأعلامِ
وسام بالفصحى على الأشباهِ
من جاء بالأنكاد والإرفاهِ
وحاولوا التقليلَ للسانِ
(والصيد) في الأكدار والغُدرانِ
لأنه كان بهم بصيرا
وعالماً مفهماً نحريرا
صَدَّ بذي الأعماد والصدودِ
وقاوم الأعداء بالردودِ
وحاط ذي اللغات بالجسور
ِمنْ منطق المسفَّه المغرورِ
مَنْ غرَّه زينةُ ذي الأعاجم
وخفة العوام والتناغمِ
فالله يجزيه على ما صنَعا
جزاءَ مَنْ طاب به وأمتعا
وهذه (لَوْعةُ) هذا الوافدِ
حمزةُ ذي الأشعار والتباعدِ
مِن ساحل الجزيرة الجنوبِ
وليله المطيَب الرغوبِ
على (فقيد اللغة) الكبيرِ
والحازم العلامة القديرِ
شوقي بن ضيفٍ آخر العمالقةْ
وقيِّم الأجيالِ والفيالقةْ
لحظته شريط ذي الأخبارِ
فكان كالفَجْعة والإضرارِ
فقلتُ : لله وللرحمنِ
يرجع ذا الخلقُ بلا نقصانِ
(يا رب فأجُرنا بذي المصائب)
وأخلف لنا من غُرَرِ الرغائبِ
ضيف.. آخر العمالقة
" يسرى حسان "
عاش 95 عاماً.. وقدم التراث العربي بشكل غير مسبوق .
إذا كان الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية الذي فقدته مصر والوطن العربي قبل أيام قد عاش 95 عاماً، فإن هذه السنوات الطويلة لم تكن وحدها وراء المكانة التي حققها هذا الرجل، والإنجاز العلمي الكبير الذي تركه لنا.
ثمة أسباب أخرى كانت وراء هذا الإنجاز الموسوعي للرجل، لعل من بينها دأبه، وإخلاصه الشديد لعمله، وتقديره لقيمة الوقت، فضلاً عن منهجيته، وصرامته العلمية، وتجدده الدائم، وقبوله بالاختلاف، وإيمانه بدوره كأحد حراس اللغة العربية، وحفاظ التراث الأدبي العربي.. لذلك لم يكن غريباً أن ينسبه الكثيرون إلى تلك السلالة التي انتمي إليها العمالقة طه حسين وأمين الخولي وأحمد أمين وغيرهم.(1/9)
لقد كان د. شوقي ضيف كما يقول د. محمد عبد المطلب علامة من علامات الثقافة العربية في القرن العشرين، وقيمته في زمنه الذي عاشه لأنه أنجز فيه كماً هائلاً من الدراسات التي قدمت التراث العربي تقديماً غير مسبوق، كماً وكيفاً.
ولم يقتصر أثر د. شوقي ضيف على مؤلفاته التي تعتبر أكثر المؤلفات توزيعاً في الأدب والنقد، وإنما امتد هذا الأثر كما يذكر د. عبد المطلب إلى تخريج آلاف المثقفين الذين يقودون الثقافة في الوطن العربي، فضلاً عن جهوده التي اتصلت بكل المجالات الأدبية والنقدية والبلاغية واللغوية، وقد توَّج دوره برئاسته لمجمع اللغة العربية، حيث قاد هذا المجمع ونشطه، وجعله مشاركاً في الواقع اللغوي العام.
وفي رأي د. محمد عبد المطلب فإن مصر والعالم العربي قد عرفت قيمة هذا الرجل، فمنحته أعظم الجوائز.. حيث حصل على جائزة الملك فيصل العالمية، وكذلك جائزة مبارك، وقد كان دائم الحضور في كل المنتديات الأدبية والثقافية التي تعقد في مصر وخارجها، بل إن المستشرقين استمدوا كثيراً من المعلومات بالاعتماد على ما قدمه عن التراث العربي.
مشروعات ضخمة :(1/10)
وشوقي ضيف كما يصفه د. محمد حسن عبد الله هو أستاذ أجيال، وقد ربى هذه الأجيال بخلقه وطابعه العلمي، كما بعلمه ودأبه، وهو عالم ومثقف من أصحاب المشروعات الضخمة التي لا يستطيعها غير أولي العزم من العلماء القادرين على الإخلاص لمبدأ العمل، والقدرة الهائلة على الإفادة من الوقت وامتلاك ناصية المعرفة الجادة والأصيلة التي لا تفتن، ولا تتحول أمام إغراءات الدوافع الوقتية.. لقد كان مشروع شوقي ضيف العلمي -يواصل د. محمد حسن عبد الله- هو التأريخ للأدب العربي، من بواكيره في الجاهلية، وإلى اليوم، عبر مساحات قطرية شاملة لكل من ينطق بالعربية، من خلال التعريف، والتمثيل، وتحديد الاتجاهات، واستخلاص الخصائص بحيث يضع يد الباحث على "الأصول" وليس الهوامش، والحقائق الثابتة وليس الهوامش.. ولذلك لا يستطيع باحث حديث اليوم، وإلى مستقبل سيطول، أن يستغني عما كتب شوقي ضيف في أي موضوع مما عرض له.. قد يختلف معه، قد ينظر إليه على أنه أسلوب قديم، أو أنه متمسك بالنص، مجافٍ للتأويل والتحديث بدرجة واضحة، ولكنه مع هذا لن يستطيع إغفال ما يقوله شوقي ضيف إيجاباً أو سلباً.
إن شوقي ضيف حسب كلام د. محمد حسن عبدالله هو خاتمة العمالقة الذين يستوعبون الثقافة الموسوعية، فقد تناول الشعر عبر 15 قرناً، والنثر في كل عصوره، ومدارس النحو وحركات التجديد فيه، والموسوعات التي أشبعها تحقيقاً وشرحاً، والتفسير والمدارس البلاغية، بعبارة أخرى أحاط بالإطار الموسع للثقافة العربية.
متعدد الجوانب :
ويقول د. حامد أبو أحمد: كلنا تتلمذنا علي يد د. شوقي ضيف الذي يعد آخر العمالقة، فقد كان من الباحثين الذين لهم في الثقافة العربية آثار لا تمحى، لأنه لم يقتصر علي جانب واحد، بل كان متعدد الجوانب، درس الأدب العربي في عصوره المختلفة، وحتى في الأندلس، ويعتبر في العصر الحاضر أحد المؤرخين الكبار للأدب العربي قديمه وحديثه.(1/11)
ولم يقتصر جهد شوقي ضيف على ذلك كما يقول د. حامد فله دراسات مهمة في البلاغة، وحتى في كيفية كتابة بحث للدكتوراه والماجستير، وأعتقد أن كتابه الذي يتناول هذا الجانب مقرر في كليات كثيرة، وهو بصفة عامة كاتب موسوعي بكل المقاييس، ومن الجيل الذي له هيمنته في الثقافة العربية.
شخصية فريدة :
وبفقد د. شوقي ضيف يكون الأدب العربي قد فقد حسبما يقول د. مدحت الجيار علماً مهماً في تاريخ مصر الحديث، بل نستطيع أن تقول إن د. شوقي ضيف الذي اهتم بالأدب والنقد ثلاثة أرباع قرن تقريباً وختم حياته برئاسة مجمع اللغة العربية، يمثل شخصية فريدة بين مؤرخي الأدب، والنقاد، في مصر الحديثة.. فهو صاحب مشروع امتد 50 عاماً لإحصاء وتنظيم وترتيب التراث العربي في الشعر والنثر والنقد والبلاغة ووصل بهذه الموسوعة إلى أكثر من 100 كتاب، تعد من عيون الدراسات التقليدية.
وفضلاً عن ذلك يقول د. الجيار فإن تلاميذ د. شوقي ضيف يملأون البلاد العربية كلها، كما عبرت كتبه ومؤلفاته وأبحاثه البحار والمحيطات لتصل إلى كل جامعات العالم التي تهتم بالأدب العربي، بل تُرجم بعضها إلى عدة لغات.
ولشوقي ضيف أهمية خاصة في مصر فهو في رأي د. الجيار الشخصية التالية لطه حسين وأمين الخولي، وهو الشخصية التي احتفظت بتوازنها في دراسة الشعر العربي والنقد العربي طوال هذه الفترة منذ حصوله علي الماجستير وحتى وفاته.
رجل متواضع :
وعلى المستوى الشخصي فقد كان د. شوقي ضيف في رأي د. محمد عبدالمطلب رجلاً متواضعاً، دمث الخلق يحترم الآخر، وكان بعيداً عن العدوانية في تعامله مع الآخرين.(1/12)
ويتحدث د. محمد حسن عبدالله عن الدرس الأخلاقي لشوقي ضيف قائلاً: إن هذا الدرس يسطع فيه وجه شوقي ضيف كريماً وفاضلاً، فلم يرد باحثاً، ولم يضن بمعرفة، ولم يقصر في بذل معونة، وقد عرفت عنه هذا عن كثب، فكنت أتحدث في موضوع أعتقد أن معرفتي فيه بلغت غاية ما أتطلع إليه، فإذا بشوقي ضيف ينهض ويملي من أوراقه عناوين ربما، ودون مبالغة، عشرين أو ثلاثين مرجعاً عن الموضوع نفسه، لم أكن أعرفها، ويفضي بهذا بروح الأب.
ويقول: أذكر أنني رغبت في أن أضع عنه كتاباً لسلسلة النقاد التي كانت تصدرها هيئة الكتاب، وقرأت أهم ما له من دراسات وفي ظني أن كتاب "الشعر وفنونه" وحده يكفي لأن يكون تعريفاً حقيقياًَ وعميقاً لموهبة شوقي ضيف ومشروعه النقدي، ولكني رأيت أنه لو أضيفت بعض الأشياء المشوقة ستضفي على الكتاب نوعاً من الطرافة أو الجماهيرية، فحاولت جاهداً أن آخذ تعليقاًَ على مشاعره حين كان بعض تلاميذه يرأس القسم العلمي الذي يعمل فيه، فلم ينطق بكلمة واحدة تخدش علاقته بتلاميذه أو زملائه الذين أصبحوا في وضع إداري بمثابة رؤساء عليه، وسألته عن سهير القلماوي وطه حسين، كما سألته عن وديعة نجم التي رأست قسم اللغة العربية في جامعة الكويت فكانت دافعاً لاستقالته وعودته إلي الوطن، بل كان المشجع للدكتور عبدالسلام هارون في أن يستقيل ويعود معه، وقد حدث. ولعل هذا كان الاحتجاج الوحيد في مواقف رجل اتسع صدره لكل الأشياء التي لا يتسع لها غير صدر الحليم.
طهارة اليد :
وفي رأي د. مدحت الجيار فقد ارتبط اسم د. شوقي ضيف بطهارة اليد، وعفة اللسان، والأمانة العلمية، فلم يثبت عليه شيء عكس ذلك، بل كان نموذجاً للمثابرة. والدرس العميق، الدقيق لكل ظواهرنا الفكرية، بل كان صاحب عقلية مرنة لا ترفض الجديد، ولم يكن عبث الشبان النقاد مرفوضاً عنده، لأنه تعامل دائماً مع مساحات من الجدية والعلمية والدقة.(1/13)
وتجربتي معه ـ يقول د. مدحت ـ أنه كان حفياً بنا ونحن نناقشه في كتبه خارج قاعات الدرس، بل كنا ننتظر اليوم الذي يدرس فيه لطلاب الدراسات العليا ولم نكن قد وصلنا إلى هذه المرحلة بعد لنحضر ونستمع إليه، ونسأل عما خفي عنا في أمور العلم. وأحياناً في أمور الفقه، ولهذا كنا نعجب جداً بمؤلفاته التي تحمل مصطلح "تجديد" لأنها تذكرنا بتجديد ذكرى أبي العلاء، وتجديد العقل العربي، وتذكرنا أيضاً بأن هذا الرجل مع الجديد وليس مع القديم فقط.
رحم الله العلامة شوقي ضيف.
شوقي ضيف.. الحارس الأمين للغتنا الجميلة :
في مساء الخميس الحادي عشر من مارس 2005 أسدل الستار على الفصل الأخير من حياة الأديب والناقد الدكتور شوقي ضيف عن عمر ناهز الـ 90 عاماً قضاها عاكفاً في محراب العلم والفكر، مخلفاً وراءه زهاء الـ 50 كتابا في صنوف الأدب باتت مرجعاً بل ومصدراً أصيلاً لكل قارئ ومتخصص وباحث عن الحقيقة في تاريخ الأدب العربي على مر عصوره.
وفي صمت وقور رحل أحد جهابذة النقد العربي وهو الذي ملأ الدنيا بموسوعاته الأدبية، في فنون الأدب العربي، شعرا ونثرا، والتي تتلمذ عليها باحثون ربما كانوا أوفر شهرة من أستاذهم الجليل، تلك الموسوعات والمؤلفات التي تعتد بحق محاولة جدية تسعى لإعادة قراءة الأدب العربي وفق رؤية جديدة تبدأ بالشعر والأدب الجاهلي نهاية بدراسته النقدية المتميزة عن "أعلام الأدب في العصر الحديث، مع شوقي والعقاد مروراً بعصر ابن مضاء القرطبي في دراسته حول تجديد النحو العربي.
المولد والنشأة :(1/14)
ولد أحمد شوقي عبد السلام ضيف يوم 13 يناير عام 1910 بمحافظة دمياط (شمال مصر)، وفي السادسة من عمره التحق بالمدرسة الأولية، وأصيب بالرمد فأجرى له أحد أطباء القرية عملية فاشلة كاد أن يفقد معها عينه اليسرى وفي التاسعة من عمره تركت أسرته القرية وانتقلت إلى مدينة دمياط ثم دخل الكتاب الملحق بجامع البحر وفي أقل من عام حفظ القرآن الكريم كله وأجاد تلاوته وتجويده حيث شهد له شيخه بالعبقرية وتنبأ بتفوقه ثم التحق بالمعهد الديني بدمياط وأبهرته كتابات العقاد ومحمد حسين هيكل وطه حسين.
وفي معهد الزقازيق الديني أكمل د. شوقي تعليمه الأزهري وسط غربة لم يعتدها من قبل وما لبث أن واجه غربة أشد وطأة حين اتجه للقاهرة "حي الحنفي بعابدين" لينتظم مع طلاب "التجهيزية" ثم عرف نظام التعليم الحر بالأزهر والذي يتبع لمن يريد التعلم دون ارتباط على أن يجتاز امتحان العالمية وهو امتحان شفهي صعب يختار موضوعه الأزهري في الفقه أو التفسير أو الشريعة أو غيرها من العلوم فامتحن واجتازه بتفوق.
وقبل نهاية العام الدراسي علم أن كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول -القاهرة الآن- ستفتح أبواب قسم اللغة العربية لقبول بعض خريجي التجهيزية وحملة الثانوية الأزهرية لاستكمال دراستهم بها فسعى د. شوقي للالتحاق بالقسم العربي وحين استقر في الجامعة وتشبع بأفكار أساتذته قرر أن يسير على خطاهم في قراءة دراسات النقد الغربي حتى تتسع خبرته الأدبية ويلم بجميع التيارات النقدية العالمية حتى جاء يوم تخرجه في مايو 1935 ليقف أمام طه حسين ـ عميد الكلية في حينها ـ في امتحان عسير نجح فيه بامتياز.
ولم تقف أحلام الشاب عند هذا الحد بل نال درجتي الماجستير والدكتوراه بتفوق حتى تم تعيينه كمدرس بقسم اللغة العربية وظلت تربطه بتلاميذه وأساتذته علاقات وطيدة.(1/15)
وفي مارس 1964 وجهت للعقاد انتقادات عنيفة أثر وفاته فقرر د. شوقي تكريس جهده للدفاع عنه فقام بتأليف "العقاد" مثلما دافع من قبل عن محمود سامي البارودي وأحمد شوقي الذي خاض من أجلهما معارك فكرية ساخنة كانت صفحات الجرائد والكتب شاهداً حياً عليها حتى سافر معاراً إلى جامعة الأردن وتوفي والده في مصر وقتها فعاد مجدداً إلى القاهرة ووصلته دعوة من الأكاديمية السويدية باسم ستة من أعضاء "جائزة نوبل" يطلبون منه ترشيح اسم مبدع عربي لنيلها لعام 1969 فأرسل تقريراً للجائزة حول من يرشحه للفوز بها ولكنها لم تستجب لترشيحه ثم طلبت منه لسنوات طوال نفس الطلب ولكن دون جدوى. والغريب أن نفس الحدث تكرر ولكن بصورة مختلفة حين طلبت الأكاديمية السويدية في العام الماضي من أعضاء مجمع اللغة العربية أن يرشحوا اسماً لنيل جائزة نوبل مما أثار جدلاً كبيراً بين مؤيد ومعارض لترشيح د. ضيف إلى أن قرروا -بالأغلبية- ترشيحه .. ولكن دون جدوى !
ويعد ضيف من أبرز تلاميذ الدكتور طه حسين، غير أنه لم يتجه نفس توجهه في قضايا ومعاركه الأدبية المعروفة، وفي نفس العام التحق بمجمع الخالدين الذي أصبح أمينه العام في سنة 1988 ونائباً لرئيسه عام 1992 ثم رئيساً له منذ عام 1996 وحتى رحيله.
أبرز إسهاماته الأدبية:
أغنى شوقي ضيف المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات تجاوزت الـ50 في مجال الدراسات العربية والإسلامية وتاريخ الأدب العربي، استحق عليها جائزة "مبارك" في الآداب منذ عامين.
رحل شيخ المجمعيين بعد أن أثرى المكتبة العربية بعشرات الكتب الهامة ما بين فكر ديني وفلسفة وأدب ونقد ومن بينها: الفن ومذاهبه في الشعر العربي، التطور والتجديد في الشعر الأموي الحديث ، الأدب العربي المعاصر في مصر، محمد خاتم المرسلين، المدارس النحوية، الرحلات، الفكاهة في مصر، الحضارة الإسلامية من القرآن والسنة، تاريخ الأدب العربي "7 أجزاء".(1/16)
وربما كان أهم إنجاز تركه شوقي ضيف، في المجالات المختلفة التي لم يتوقف عن العطاء والتأليف فيها، إنجازه العظيم في تاريخ الأدب العربي، وقد بدأ هذا الإنجاز بما كتبه عن (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) وكان هذا الكتاب في الأصل رسالة دكتوراه تحت إشراف أستاذه طه حسين وهي رسالة مبنية على فرضية مؤداها أن الشعر العربي بدأ بمرحلة "الطبع" التي استوعبت بداياته، وانتقل منها إلى مرحلة "الصنعة" التي انتقل منها بدورها، إلى مرحلة "التصنيع" ثم مرحلة "التصنع" التي أدت إلى العقم والانحدار، وكانت بذرة صيغة التطور عبر مراحل أربعة (طبع، صنعة، تصنيع، تصنع) مأخوذة عن أفكار طه حسين عن تاريخ الشعر العربي، ولكن شوقي ضيف رعى البذرة التي نقلها عن أستاذه، وجاوز ثنائية الطبع والصنعة إلى غيرها من المراحل التي تولدت عن الصنعة، وظلت تضيف إليها ما انتهى بها في النهاية إلى العقم، ولم يكتف شوقي ضيف بذلك، وإنما حاول في كتاب لاحق تطبيق صيغته الرباعية على تاريخ النثر الأدبي في التراث العربي، ذلك التراث الذي رآه شوقي ضيف يتطور في صعود ينتهي إلى هبوط مابين مراحل الطبع ثم الصنعة ثم التصنيع ثم التصنع. وظهر ذلك كله في كتابه (الفن ومذاهبه في النثر العربي) الذي أكمل به مع الكتاب السابق عليه تأريخه الفني الخاص للأدب العربي، أقصد إلى ذلك التأريخ الذي اعتمد على متغيرات الفن الأدبي وتحولات التقنية.(1/17)
ويبدو أن إحساس شوقي ضيف بأن هذه المتغيرات والتحولات الفنية غير منفصلة عن المؤثرات التاريخية المختلفة الذي دفعه إلى صياغة أكمل تاريخ نعرفه عن الأدب العربي إلى اليوم، مركزاً كل التركيز على الجوانب التاريخية التي أدت إلى تطور الأدب العربي وتحولاته من عصر إلى عصر. وظل هذا العالم الجليل يعمل في دأب وإصرار تكلله همة علمية عالية، ما يقرب من ثلاثين عاماً لكي ينجز موسوعته عن الأدب العربي في عشرة أجزاء. وكان الجزء الأول عن العصر الجاهلي الذي أصدرت منه دار المعارف بالقاهرة أكثر من اثنتين وعشرين طبعة إلى اليوم، وبعده كتاب (العصر الإسلامي) الذي صدرت له تسع عشرة طبعة، ثم (العصر العباسي الأول) و(العصر العباسي الثاني) وجاء الجزء الخامس من عصر الدول والإمارات الممتد من سنة 334 للهجرة إلى مشارف العصر الحديث، والذي يتعرض لتاريخ الشعر في الجزيرة العربية والعراق وإيران، وهو الجزء الذي يكتمل بالجزء السادس عن الشام، في عصر الدول والإمارات، وبعده الجزء السابع من العصر نفسه عن مصر، ثم الجزء الثامن عن الأندلس، أما الجزء التاسع فكان عن ليبيا وتونس وصقلية، بينما انفرد الجزء العاشر والأخير بالأدب في الجزائر والمغرب الأقصى وموريتانيا والسودان.
هذا على المستوى الفكري، أما على المستوي الأكاديمي فقد سافر د. شوقي إلى الكويت في صيف 1970 ليسهم في تأسيس النظام الجامعي هناك؛ فكانت هذه السفرة إثراء كبيراً للحركة الأدبية والنقدية في الكويت .
تلاميذه يكرمونه حيا :
إذا كانت الدول والحكومات اعتادت أن تكرم أعلامها بعد وفاتهم، فإن الدكتور شوقي ضيف كان استثناء بين هؤلاء حيث كرمه تلامذته ومريديه ليس في مصر فحسب بل وفي سائر الأقطار العربية.(1/18)
ومن هذه الكتب كتاب "شوقي ضيف رائد الدراسة الأدبية " الذي كتبه الدكتور عبد العزيز الدسوقي، وكتاب "شوقي ضيف: سيرة وتحية"وهو مجموعة من الدراسات التي كتبها تلامذته على امتداد الوطن العربي، كشفا عن الجوانب المتميزة من إنجازه المتجدد، وأضيف إلى هذا الكتاب ما كتبه الدكتور أحمد يوسف علي بعنوان (قراءة أولية في كتابات شوقي ضيف) والرسالة العلمية المنشورة التي أعدتها الباحثة الإيرانية شكوه السادات حسيني إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة الحرة الإسلامية في طهران والرسالة الأخيرة دليل على الشأن الرفيع الذي وصلت إليه إنجازات شوقي ضيف العلمية في الأوساط العلمية العالمية، ولولا ذلك ما خصص المجلد الأول من دائرة معارف الأدب العربي التي تصدر في لندن ونيويورك ترجمة له، مؤكدة أنه واحد من الأساتذة المرموقين والمتميزين عالمياً بكتبه الجامعية الكثيرة وإشرافه على رسائل الكثير من الباحثين العرب، الأمر الذي جعله أستاذاً للعديد من الشخصيات الجامعية البارزة على امتداد العالم العربي.
وقد نال شوقي ضيف تكريم العديد من المؤسسات العلمية ودعته جامعات عربية عديدة ليكون أستاذاً زائراً يؤكد مكانته العلمية، فذهب إلى جامعة بيروت العربية سنة 1963، وجامعة بغداد سنة 1968، وجامعة الرياض سنة 1973 وشارك في تأسيس قسم الدراسات العربية بالجامعة الأردنية سنة 1966 وكذلك جامعة الكويت سنة 1970 وترك في كل مكان ذهب إليه بصماته المنهجية، وتلامذة يسيرون في الطريق الذي سار فيه، والذي نال من أجله جائزة الدولة التقديرية للآداب في مصر سنة 1979، وجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي سنة 1983، وحصل على درع جامعة القاهرة، وجامعة الأردن، ودرع المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وأخيراً، درع فارس للثقافة الجماهيرية المصرية.
مقال آخر لبعض الكتاب :(1/19)
كان شوقي ضيف تلميذاً نجيباً لـ"العميد" طه حسين الذي أشرف على رسالته التي حاز لها شهادة الدكتوراه عام 1942، كان أستاذاً لأجيال من النقاد والباحثين الذين تابعوا دروسه الجامعية في عواصم عربية عدة، وقرأوا كتبه الكثيرة وتتلمذوا عليها. إلا أن شوقي ضيف الذي رحل ليل أول من أمس في القاهرة عن 95 عاماً لم يكن ناقداً أكاديمياً وأستاذاً فحسب، بل كان بمثابة العلاّمة والعالم المتبحّر في شؤون الأدب العربي والتراث والنقد والنحو والحضارة الإسلامية، وقد عاش سنيّ حياته منصرفاً إلى الكتابة النقدية والتاريخية والى التحقيق التراثي الذي أنجز في حقله أعمالاً مهمة ومنها "الرد على النحاة" لابن مضاء القرطبي.
هذا الناقد الذي كان حتى وفاته رئيساً لمجمع اللغة العربية في القاهرة ورئيساً لاتحاد المجامع اللغوية العربية، ينتمي إلى صنف من النقاد أضحى نادراً وقد عُرف بثقافته التراثية العميقة ونباهته النقدية ورصانته المنهجية ومراسه الصعب. وجمع خير جمع في نصوصه بين النزعة الأصيلة والثقافة المعاصرة، فكان رائد المنهج التاريخي في النقد بعد أستاذه طه حسين وسبّاقاً في قراءة الإرث النهضوي الذي مهّد لمرحلة الحداثة.
ولعل "موسوعة الأدب العربي" التي صرف لها نحو ثلاثين سنة تنقيباً وتأليفاً وصدرت في عشرة أجزاء، تمثل ذروة صنيعه النقدي وقد تناول فيها المراحل التي عرفها الأدب العربي منذ العصر الجاهلي حتى الفترة المتأخرة. وراج الجزء الأول منها "العصر الجاهلي" حتى تجاوزت طبعاته العشرين.(1/20)
وهذه الموسوعة تُعد من المراجع النادرة لقراءة الأدب العربي في حركة تطوره التاريخي ولمقاربة مذاهبه وفنونه ومدارسه. وضع شوقي ضيف الذي ولد عام 1910 في دمياط، ما يقارب خمسين كتاباً في النقد والنحو والبلاغة والتفسير القرآني ، وكل هذه الكتب يعرفها النقاد المعاصرون والحديثون وطلاب الأدب العربي والقراء الذين يهوون النقد والأدب. وما من طالب في الأدب العربي يستطيع ان يتحاشى الوقوع في "شباك" شوقي ضيف هذا الحارس الأمين للأدب العربي واللغة العربية، فكتبه هي بمثابة المراجع التي لا بد من العودة اليها، أكاديمياً ونقدياً، علاوة على ما تتميز به من متعة لغوية وسلاسة في الاسلوب ومتانة في الصوغ. وكتابه "الفن ومذاهبه في الشعر العربي" الذي كان في الأصل رسالة الدكتوراه ينمّ عن رؤيته النقدية التي قارب من خلالها الشعر العربي، ويمكن اختصارها في أربع مفردات هي: الطبع، الصنعة، التصنيع والتصنّع. ويرى ضيف أن التصنّع أو التكلّف هو الذي أصاب من الشعر العربي مقتلاً فيما كان هذا الشعر يشهد في مراحله الثلاث السابقة ظواهر فرادته.
لم يتوان ضيف عن إلحاق هذا الكتاب المهم بجزء آخر تناول النثر وعنوانه: "الفن ومذاهبه في النثر العربي".(1/21)
لم يحصر شوقي ضيف عمله الأكاديمي في مصر بل درّس في جامعات عربية عدة بين بغداد وبيروت والرياض وعمان والكويت، وتوزع طلابه في العالم العربي متسلحين بما منحهم إياه من مناهج وعلوم ومعارف. وكان ضيف منفتحاً على حداثة العصر على رغم انصرافه إلى عيون التراث العربي، وبدا دوماً على مرونة تامة إزاء تطوير القواعد العربية، وكان يعزو ضعف الإنسان في لغته، إلى المناهج التعليمية السيئة التي تدرّس العربية من خلالها للناشئة اليوم. فهو كان نحوياً متضلّعاً من علم النحو، ولغوياً متعمقاً في علوم البلاغة والبيان، إضافة إلى نزعته النقدية والأدبية. وحاز جوائز عدة أبرزها جائزة الدولة التقديرية للآداب (القاهرة 1979) وجائزة الملك فيصل العالمية (الأدب العربي، 1983.(
غاب شوقي ضيف الناقد والعلامة والأديب والأستاذ الجامعي وهو من الطراز الرفيع الذي بات نادراً في عصرنا، وفي غيابه يخسر النقد العربي علماً من أعلامه الكبار، وقد وسم هذا الأديب مرحلة بكاملها، نقداً وتأريخاً أدبياً وتأليفاً في حقول اللغة والحضارة الإسلامية والتفسير القرآني.
رحيل شوقي ضيف عاشق اللغة العربية(1/22)
القاهرة - العرب اونلاين - لقد وضع حياته حافلة في خدمة الأدب وقضاياه عاشها العالم، الراحل د. شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية، ورئيس اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، والفائز بجائزة الدولة التقديرية في الآداب، وجائزة الملك فيصل وغيرها من الجوائز والتكريمات التي كان يستحقها وأكثر منها، رحل \" ضيف\" وهو الذي كان يعد واحدا من أهم الموسوعات الفكرية والثقافية ليس فقط في العالم العربي بل في العالم كله، فهو صاحب أكثر من ستين مؤلفاً في عدة مجالات متنوعة، منها الأدب والنقد والبلاغة وتفسير القرآن، ورغم أنه كان قد تعدى التسعين إلا أنه كان مازال يبحث وينقب في بحور اللغة العربية وعن كنوزها بكل ما يملك من مقدرة كما كانت حياته حافلة بالمعارك الأدبية والفكرية خاضها الراحل ومنذ أن تفتح عقله على قراءة أعمال طه حسين والعقاد والمازني ومحمد حسين هيكل وتشبع وجدانه بكتابات رواد الفكر والأدب العربي الذين أصبحوا أساتذة له أثناء مراحل دراسته وبعدها، وحتى رحيله بسلام بعد أن ترك وراءه إرثاً ضخماً من المؤلفات وآلاف التلاميذ والمريدين الذين صاروا على دربه في عشق اللغة العربية وتبسيطها، وبعد أن أثرى المكتبة العربية بعشرات الكتب الهامة والتي من بينها، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، التطور والتجديد في الشعر الأموي الحديث، الأدب المعاصر في مصر، محمد خاتم المرسلين، المدارس النحوية، الرحلات، الفكاهة في مصر، الحضارة الإسلامية من القرآن والسنة، تاريخ الأدب العربي 7أجزاء.(1/23)
بدأت حياته ترتسم من أمام بحيرة المنزلة وتحديداً في إحدى قرى دمياط ففي السادسة من عمره التحق بالمدرسة الأولية، وأصيب وقتها بمرض في العين فأجرى - وكعادة أهل الريف - له أحد أطباء القرية عملية فاشلة كاد أن يفقد معها عينه اليسرى، وفي التاسعة من عمره تركت أسرته القرية وانتقلت إلى مدينة دمياط، ثم دخل الكتاب الملحق بجامع البحر وفي أقل من عام حفظ القرآن الكريم كله وأجاد تلاوته وتجويده، حيث شهد له شيخه بالعبقرية وتنبأ بتفوقه، ثم التحق بالمعهد الديني بدمياط وأبهرته كتابات العقاد ومحمد حسين هيكل وطه حسين، وفي معهد الزقازيق الديني أكمل د. ضييف تعليمه الأزهري وسط غربة لم يعتدها من قبل، وما لبث أن واجه غربة أشد وطأة حين اتجه للقاهرة لينتظم مع طلاب التجهيزية، ثم عرف نظام التعليم الحر بالأزهر والذي يتبع لمن يريد التعلم دون ارتباط على أن يجتاز امتحان العالمية، وهو امتحان شفوي صعب، يختار موضوعه الأزهري في الفقه أو التفسير أو الشريعة أو غيرها من العلوم، فامتحن واجتازه بنجاح ، وقبل أن يكمل العام الدراسي علم أن كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول ستفتح أبواب قسم اللغة العربية لقبول بعض خريجي التجهيزية، وحملة الثانوية الأزهرية لاستكمال دراستهم بها، فسعى " د.شوقي " للالتحاق بالقسم العربي ليتعلم على يد عميد الأدب العربي د?طه حسين وحين استقر في الجامعة وتشبع بأفكار أساتذته قرر أن يسير على خطاهم في قراءة دراسات النقد الغربي حتى تتسع خبرته الأدبية، ويلم بجميع التيارات النقدية العلمية، حتى جاء يوم تخرجه عام 1935 ليقف أمام د. طه حسين وأحمد هيكل في امتحان عسير نجح فيه بامتياز، ولم تقف أحلام الشاب عند هذا الحد، بل نال درجتي الماجستير والدكتوراه بتفوق حتى تم تعيينه كمدرس بقسم اللغة العربية، وظلت تربطه بتلاميذه وأساتذته علاقات وطيدة.(1/24)
وفي عام 1964 قرر د. ضيف تكريس جهده للدفاع عن العقاد بعد وفاته فقام بتأليف \"العقاد\" مثلما دافع من قبل عن محمود سامي البارودي وأحمد شوقي الذي خاض من أجلهما معارك فكرية ساخنة، حتى سافر للإعارة بجامعة الأردن، ثم عاد للقاهرة، ثم عاوده الحنين للسفر مرة أخرى فسافر للكويت عام 1970 ليساهم في تأسيس النظام الجامعي هناك وفي عام 1976 أصبح عضواً بمجمع اللغة العربية، وظل يرتقي في المناصب ويتابع بشغف اجتماعات المجمع، لا يشغله شيء سوى تيسير النحو وتذليل عقباته أمام طلاب المدارس.
رحلة الشقاء
وكانت للفقيد الراحل أقوال مأثورة ومواقف ساخنة من القضايا الأدبية سواء المحلية أو العالمية، نذكر منها تأكيده على أن الفصحى هي لغة القرآن الكريم الخالدة بخلوده، وقد اتخذت كل الديار اللغة العربية لساناً لها تعبر به أدبياً عما في الوجدان والمشاعر، وعلمياً عن الألباب والعقول، فأضافت الفصحى إليها إضافات باهرة، وأصبحت بذلك لغة عالمية حضارية، وظلت تقود العالم طوال ستة قرون حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، ورغم الركود الذي أصاب الفصحى في بعض العصور، فإنها حالياً في حالة ازدهار فأصبح لها أدباء كبار في مجالات الصحافة وفنون الأقصوصة والقصة الطويلة، والمسرحية الشعرية والنثرية.
وكان يقول عن الهجمة الثقافية والاقتصادية المعروفة بالعولمة ، إنه لا يوجد أبداً ما يمكن أن يهدد اللغة العربية، فقد كانت وستظل لسان العرب من الأزل إلى الأبد، فهي وعاء الحضارة الإسلامية، وهي من أهم عوامل قيام الروابط القوية بين المسلمين، كما أنها واحدة من أقدم اللغات العالمية، وأعظمها أدباً وأعرقها ثقافة، وأغناها تراثاً بلا منازع، وكان يشير إلى أن اللغة العربية ليست لغة العرب فقط، بل هي لغة المسلمين عامة، وإذا كان العالم لم يعرف إسلاماً بلا قرآن فإنه لم يعرف قرآناً بغير اللغة العربية، وبهذا فلا خطر على لغتنا من تيار العولمة على الإطلاق.(1/25)
تحريف الفصحى :
وكان خلال حياة العالم الكبير وخلال مشواره الطويل تشغله قضية العامية وارتباطها بالفصحى فكان يقول\" مع مرور الزمن أخذت تتولد من الفصحى في جميع البلدان العربية عاميات تتميز بفقدانها إعراب أواخر الكلم، فأواخرها تنطق ساكتة دائماً، وسبب اهتمامه بالقضية أن كل من يعني باللغة العربية في العصر الحديث يتوقف مراراً عند صلة العامية بالفصحى، لأن كثيراً من الكلمات الفصيحة دخلت العامية، وحوالي %80 من العامية تقوم على الفصحى، وبعضها سليم بلا تحريف، وكثير من الكلمات الفصحى حدثت فيها تحريفات، وكان يؤكد على أن المجمع اللغوي بالقاهرة كان جاداً في سعيه حتى ترفع الحواجز بين الفصحى والعامية نهائياً، وما ينساه كثيرون أن الفصحى يحملونها في أيديهم كل يوم في الصحف، فالصحف جميعاً تكتب بالفصحى، وكل أجهزة الدولة أوراقها تتعامل بالفصحى، وأجهزة الإذاعة والتليفزيون تقدم نشراتها وبرامج بالفصحى، والطلاب في المدارس يتعلمون بالفصحى، ثم يخرجون إلى الشارع ليتحدثوا بالعامية، مع العلم بأن العامية ليست خصماً للفصحى. فعبر كل العصور لم يكن هناك أي خصومة بين الفصحى والعامية، ولكن في عصرنا الحديث يتعرض أنصار العامية للفصحى، ويقولون إنها لا تستطيع أن تحمل إنجازات الحضارة الغربية، وهذا كذب".(1/26)
وعن تأكيد الدور الثقافي الاجتماعي في الحفاظ على الهوية العربية كان د. ضيف رحمه الله يقول البلاد العربية جميعها عليها أن تعمل جاهدة على إتقان أبنائها الفصحى، ومعالجة التقصير الذي نقع فيه أحياناً، كما يحدث في بعض المدارس الأجنبية ومدارس اللغات، إذ لابد أن يكون الإشراف عليها كاملاً خاصة في تدريس التاريخ والفصحى، وما يعطى فيها من كتب ومقررات، الفصحى هي لغة العرب الأدبية الرفيعة في جميع بلدانهم، وهي لغة الثقافة والعلم والتعليم في المدارس والجامعات، ولغة الفلسفة والطب والقانون والعلوم الإنسانية، وغير الإنسانية، ولغة كل ما نملك من فكر ودين وحياة روحية.
توازن دراسي :
وعن قضايا التعريب قال \" ضيف \" علينا أن ندرك جيداً أن تعريب العلوم لا يعني التقليل من أهمية دراسة اللغات الأجنية في الجامعات، بل نحن نطالب بمضاعفة تدريس هذه اللغات حتى يستطيع كل شاب عربي أن يتابع الكتب العلمية الأجنبية باستمرار ويكون هناك توازن بين الدراسة باللغة العربية وتعلم اللغات الأجنبية وهذا ما كان يحدث مع الأجيال السابقة، فأجدادنا كانوا يعرفون اليونانية ويكتبون بالعربية، وكان يطالب العلماء العرب بأن ينقلوا العلوم الأجنبية من حروفها اللاتينية إلى الحروف العربية فحسب، بل المطلوب أن تنتشر وحدة عامة في جميع العلوم بحيث تنمو أقطارها العربية نمواً علمياً جماعياً، وكان(1/27)
د. ضيف يؤكد على أن كل العلوم يمكن تعريبها، وأول ما عني به العرب بعد الفتوح هو أن ينقلوا إلى العربية "الطب الأجنبي" واللغة العربية ليس فيها أي قصور بدليل أنها حملت التراث اليوناني والفارسي والهندي، وظلت قروناً متتالية تقود الحضارة العالمية بمختلف علومها، وعنها نقلت أوروبا إلى لغاتها في القرن السادس عشر وأخذت في تكوين عصرها الحديث علمياً، وإذا حدث وفشلت إحدى تجارب التعريب فإن هذا يعود إلى القائمين عليه وليس بسبب مبدأ التقريب ذاته، والقضية تحتاج إلى شراكة عربية من كل الدول العربية للقيام بهذا العمل الضخم، الذي يستلزم نفقات وإمكانات كبيرة.
أما عن الألفاظ الغريبة والتي يتشدق بها البعض وخاصة الشباب فكان د. ضيف شديداً في هذه الزاوية وكان رأيه أن الأمر ليس بغريب وخاصة هذا الجيل الجديد من الشباب وهو يستعد لحياة العالم فيها أصبح قرية صغيرة وهذا ما تقوله أعراض العولمة والإنترنت الذي من خلاله يستطيع الشخص أن يتحاور مع أكثر من شخص في اليوم، ويطوف بلدان العالم وهو لم يزل في حجرته ولكن الغريب أن نتخلى عن لغتنا من أجل ذلك، فيجب أن ننتبه إلى أنه يوجد فارق كبير ما بين المعرفة والتعمق فيها ولكن الظاهرة السلبية فيما يحدث الآن هو أن يتعمد شبابنا التخاطب باللغات الأجنبية وكأن العربية أصبحت لغة المتاحف فقط، ويشير إلى أن للمجامع جهوداً كبيرة ولديها لجان لغوية متخصصة في جميع أنواع المعرفة مع درايتها الكاملة بكل المفردات التي تطرأ ليس فقط على العربية بل على جميع اللغات العالمية.
شوقي ضيف.. فيوضات وملتقى ثقافات
محمد القاسم ………12/4/2005 - إسلام أونلاين(1/28)
لم يكن يدور في خلد الأبوين يوم ولد -بقرية "أولاد حمام" التابعة لمحافظة دمياط بمصر في 13 من يناير سنة 1910م- أن ابنهما أحمد شوقي عبد السلام ضيف سيكون يوما ما شخصية أكاديمية مرموقة ورئيسا لاتحاد المجامع اللغوية، كل ما كانا يطمحان إليه أن يكون ابنهما الوحيد مثل أبيه شيخا أزهريا، وكاد يعصف بأحلامهما مرض أصابه في بدايات سِنِي حياته أفقده عينه اليسرى إلا بصيصًا ضئيلا.
ورغم ذلك أتم الصبي الصغير حفظ القرآن، والتحق بالمعهد الديني عام 1920م، وأظهر نبوغا مبكرا لفت إليه الأنظار؛ حتى إنه ألف كتابًا في النحو لخص فيه "قطر الندى" لابن هشام وهو لم يتم بعد دراسته الابتدائية، وبعد أن أتمها التحق بمعهد الزقازيق الثانوي الأزهري ليتخرج فيه بتفوقه المعتاد.
في أحضان القاهرة :
وما إن أتم الدراسة في المعهد حتى تعلق قلبه بكلية دار العلوم التي رأى فيها التجديد والعصرية ونوعًا من التحرر من قيود الدراسة التقليدية؛ فالتحق بتجهيزية دار العلوم التي كانت تُعِد الطلاب للالتحاق بالكلية.
وقبيل عامه الأخير في التجهيزية أعلن الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب أن الكلية ستفتح أبواب قسم اللغة العربية لقبول خريجي التجهيزية وحملة الثانوية الأزهرية ليكملوا
دراستهم فيها.
فالتحق بقسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة القاهرة ليتخرج فيها بعد أربع سنوات، وكان ترتيبه الأول على دفعته؛ فعين فور تخرجه محررا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ثم اختير معيدا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وفيها حصل على درجة الماجستير في النقد الأدبي، والدكتوراة بمرتبة الشرف الأولى، وأشاد به مشرفه الدكتور طه حسين قائلا: "وإذا كنت حريصا على أن أقول شيئا في التقدمة فإنما هو تسجيل الشكر الخالص للجامعة التي أنتجت الدكتور شوقي، والدكتور شوقي الذي أنتج هذه الرسالة".
فيوضات وينابيع :(1/29)
إن الناظر لما خلفه الدكتور شوقي ضيف لَيكتشف أنه اجتمعت ينابيع الثقافة في عقليته؛ فهو الأزهري الذي تعمقت علاقته بالتراث العربي بينابيعه وفيوضاته، وهو الدرعمي الذي عاش الأصالة والمعاصرة، وهو الآدابي الذي أتقن اللغات الأجنبية واطلع على معطيات الحضارة الغربية.. كل هذا أفرز عقلية موسوعية لا تكاد تجد فرعًا من فروع الثقافة العربية إلا وله فيه مشاركة تخيل للناظر أنه لم يتخصص إلا فيه.. فأرخ للأدب والبلاغة والنحو، وكتب في فنون الأدب والنقد والترجمة الشخصية والرحلات والشعر والنثر، وحقق العديد من كتب التراث، وله أبحاث أخرى يستعصى حصرها.
مشروع حياته :
من بين مؤلفات الدكتور شوقي ضيف الكثيرة يوجد مؤَلَّف أخذ من سني حياته أكثر من 30 عاما، ويعتبر بحق مشروع حياته.. إنه "موسوعة تاريخ الأدب العربي" التي شملت الأدب العربي في مختلف عصوره وأقاليمه، وتقع في 10 مجلدات.
حاول في هذه الموسوعة -كما يقول د. عبد الرحيم الكردي- أن يجمع بين اتجاهين: الأول النظر إلى تاريخ الأدب بوصفه علمًا كما نظر إليه طه حسين وبروكلمان، والآخر تقسيم الأدب إلى عصور كما فهمه القدماء وكما فهمه الرافعي وجرجي زيدان وأحمد حسن الزيات وأحمد أمين.
واعتمد في تفسيره للتاريخ الأدبي على المدرسة الطبيعية التي اتخذت من منهج Hippolyte Tain "هيبوليت تين"
(1828 - 1893) أساسًا لتفسير التطور الأدبي، ويعتمد على أن هناك ثلاثة قوانين يخضع لها الأدب في كل أمة؛ وهي الجنس والزمان والمكان.(1/30)
ومما يميز موسوعته تلك -كما تقول د.مي يوسف خليفة- "النظرة الموضوعية والدقة المنهجية، والعمق في طرق الخبر التاريخي بعد نقده وتمحيصه وتوثيقه من خلال التوقف عند مصادره واستبعاد ما حوله من شبهات، ثم ينتقل من التاريخ إلى الجغرافيا، ثم يتطرق إلى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأديان، ثم يتوقف عند اللغة وتاريخها، ثم يأتي دور المحقق والعالم المحاور والباحث المناقش لأطروحات الآخرين"، وهو فوق كل هذا يعيد النظر فيما كتبه من أحكام إذا ظهر له ما يجعله يغير وجهة نظره.
عودة ابن مضاء :
كان الدكتور شوقي ضيف من أوائل من فجروا -في بدايات القرن المنصرم- قضية النحو العربي وضرورة النظر في كثير من مسلماته إثر نشره وتحقيقه لكتابه "الرد على النحاة" لابن مضاء؛ ذلك الكتاب الذي نادى فيه صاحبه بإلغاء نظرية العامل في النحو، وما تقوم عليه من تعليل وقياس، والاكتفاء بذكر القواعد مجردة.. فيقول في مقدمته للطبعة الأولى: "وقد سدد ابن مضاء سهام دعوته أو قل سهام ثورته إلى نظرية العامل التي أحالت كثيرا من جوانب كتاب النحو العربي إلى عقد صعبة الحل عسيرة الفهم.. إن كل ما تصوره النحاة في عواملهم النحوية تصور باطل...". "وليس هذا كل ما تجره نظرية العامل في كتاب النحو العربي؛ فهي تجر وراءها أيضا حشدا من علل وأقيسة يعجز الثاقب الحس والعقل عن فهم كثير منها؛ لأنها لا تفسر غامضة من غوامض التعبير، ولا دفينة من دفائن الأسلوب، وإنما تفسر فروضًا للنحاة، وظنونا مبهمة... وهذا كله أفسد كتاب النحو العربي إفسادًا؛ لأنه ملأه بمسائل ومشاكل لا نحتاج إليها في تصحيح نطقنا وتقويم لساننا".(1/31)
ولم يكتف بإحيائه لهذا الكتاب من قبور المخطوطات؛ بل تتبع دراسة تاريخ النحو العربي ونظرياته ومدارسه، وأشرف على العديد من الرسائل العلمية في هذا المجال. كما اهتم بقضية تيسير النحو العربي وتعليمه، وألف في ذلك "تجديد النحو" و"تيسيرات لغوية" و"الفصحى المعاصرة"، وقدم إلى المجمع مشروع تيسير النحو فأقره المجمع.. ولا يقلل من قيمة هذا الجهد الكبير بعض المآخذ على دعوته التجديدية التي جاوزت أحيانًا أصول النحو وفلسفة العربية، كاقتراحه حذف باب "كان وأخواتها" من النحو العربي واعتبار اسمها فاعلا وخبرها حالا.
جوائز وتقدير :
عاش الدكتور شوقي ضيف نائيًا بنفسه عن المعارك الأدبية والفكرية التي خاضها أستاذه طه حسين وكثير من رواد الفكر كالعقاد والرافعي وسيد قطب... وذلك يرجع إلى طبيعته المسالمة، كما كان متواضعا عازفا عن المناصب العامة حريصا على لقاء تلاميذه والتواصل معهم، ورغم ذلك فإن مؤلفاته وسيرته رشحاه لعضوية هيئات علمية كثيرة داخل مصر وخارجها، من أهمها عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة ورئاسته، والمجالس القومية المتخصصة بالقاهرة، والمجمع العلمي المصري... كذلك نال عددا من الجوائز العلمية، أبرزها جائزة مجمع اللغة العربية في عام 1947، وجائزة الدولة التشجيعية في الآداب 1955، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب 1979، وجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي 1403 هـ = 1983م، وجائزة مبارك للآداب 2003م.
وتسلل راحلا :
وبعد حياة حافلة بالإنجازات والإسهامات الجليلة، ووسط صمت وتجاهل معهودين تسلل راحلا عن عالمنا عصر الخميس 13-3-2005 عن عمر يناهز 95 عاما، وشيعه لفيف من أهل العلم والفكر والأدب مساء اليوم التالي.
محمود قرني - القاهرة - القدس العربى(1/32)
رحل عن دنيانا العالم واللغوي وأستاذ الدراسات الأدبية الكبير الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة ورئيس اتحاد المجامع اللغوية العربية، وذ لك عن عمر يناهز الخامسة والتسعين من العمر بعد صراع طويل مع المرض دام خمس سنوات.
ولد الدكتور أحمد شوقي عبد السلام ضيف في الثالث عشر من كانون الثاني (يناير) عام 1910 بمحافظة دمياط أقصي شمال غرب القاهرة، وتخرج في قسم اللغة العربية من جامعة فؤاد الأول عام 1935، وكان اول خريجي دفعته الدراسية، ثم حصل علي درجة الماجستير بمرتبة الشرف الأولي عام 1939، ثم نال درجة الدكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف عام 1942.
وكان شوقي ضيف أحد أبرز تلاميذ عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وقد أثري المكتبة العربية بحوالي سبعين مؤلفاً أو يزيد في الدراسات الأدبية والإسلامية، وقد ترأس مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ عام 1996 وحتي رحيله.
وقد كانت رسالة الدكتوراه التي انجزها ضيف تحت إشراف الدكتور طه حسين في الفن ومذاهبه في الشعر العربي كذلك الفن ومذاهبه في النثر العربي بين أهم الآثار التي تركها.
وقد حقق شوقي ضيف عديداً من الكتب اللافتة منها الرد علي النحاة لابن مضاء القرطبي وهو الكتاب الذي كان يبغي ضيف تبسيطه لدارسي النحو العربي، وكذلك حقق رسائل الصاحب لابن عباد ، نقط العروس في تواريخ الخلفاء لابن حزم ، القسم الخاص بالأندلس من كتاب المغرب في حلي المغرب لابن سعيد ، السبعة في القراءات لابن مجاهد الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر وقد حصل الدكتور شوقي ضيف علي جائزة الملك فيصل العالمية في الآداب، وعلي جائزة الدولة التقديرية في مصر وحصل مؤخراً علي جائزة مبارك في الآداب عام 2003.
ذكريات مع ضيف(1/33)
يتحدث الدكتور حسين نصار أحد أكبر المؤرخين والمحققين الأدبيين في مصر عن ذكرياته مع الدكتور شوقي ضيف: التحقت بكلية الآداب في جامعة القاهرة في أربعينيات القرن الماضي فالتقيت بعدد من الشبان يلقون علينا محاضراتهم، وتتفاوت أعمارهم وينتسبون إلي أقسام الكلية في مختلف تخصصاتها، لكنهم جميعاً كسبوا إعجابنا - نحن تلاميذهم - وإن اختلفت الأسباب، مدة التلمذة لهم ثم التلمذة معهم. وبقي لنا الدكتور شوقي ضيف أستاذ الأدب العربي القديم، بل أستاذ الثقافة الإسلامية ذلك الذي وهب عقله وحياته للأدب العربي هبة خالصة ودائمة.
ويضيف نصار: لا أذكر ان ضيف تقلد مناصب غير رئاسة قسم اللغة العربية، ومجمع اللغة العربية، والمنصب الأول يتولاه أقدم أساتذة القسم دون تطلع منه أو سعي، والمنصب الثاني قائم علي الانتخاب وكان توليه إياه اعترافاً من الجميع بما قدم الفقيد للغة العربية وأدبها.
ويردف نصار: وحين تعود بي الذاكرة إلي حين كنت تلميذاً له، أذكر انه لم يتغيب عن محاضرة إلا لمرض أو سفر، وكان قليلهما ولم يتأخر في حضور أية محاضرة، وكان المعلن في الجدول الرسمي أن المرحوم الأستاذ الشايب يدرس تاريخ الأدب ويدرس هو النصوص، ولكن الواقع كان غير ذلك، فقد تحولت محاضرات الشايب إلي درس للنصوص، وتحولت محاضرات ضيف إلي تاريخ الأدب.
ويقول الدكتور حسين نصار ان الراحل درّس إلي جانب ذلك علوم القرآن والحديث أعواماً. وكان له تلاميذه الذين حصلوا علي درجتي الماجستير والدكتوراه تحت إشرافه وهم الآن يملأون العالم العربي نشاطاً.
ويؤكد نصار أن ضيف إبان رئاسته لقسم اللغة العربية كان يفسح الطريق أمام كل صاحب رأي ليعبر عن رأيه، ويتقبله ويرحب به، ويختتم الدكتور نصار حديثه بأن الراحل لايحتاج لمن يتحدث عنه بل ان كتبه وأعماله هي التي ستتحدث عنه باعتباره المؤرخ الأدبي، المفسر القرآني، الباحث الإسلامي، والمجدد النحوي.
المعني والقيمة :(1/34)
ويقول الدكتور جابر عصفور الناقد والأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة: شوقي ضيف هو المؤرخ الأدبي بأوسع وأرقي معاني هذه الكلمة. ولا أظن أن أحداً في ثقافتنا العربية الحديثة فعل ما فعله شوقي ضيف في هذا المجال، حتي أستاذه طه حسين حيث تظل كتبه قليلة في هذا المجال بالقياس إلي ما كتب تلميذه الذي التقط منظاراً لرؤية المنهجية من أستاذه، ومضي به في كل اتجاه ومجال. ويضيف عصفور: ساعد شوقي ضيف علي التفوق في الإنجاز الكمي أنه لم يكن مثل أستاذه رجل معارك، ميالاً إلي الاقتحام وتدمير المسلمات في كل اتجاه ومجال، ولم تشغله السياسة مثلما شغلت طه حسين، فانطوي علي نفسه متوحداً، مؤثرا عزلة العلم التي اتاحت له تقديم إنجاز يبدو معجزاً من النظرة الأولي، فهناك موسوعته الضخمة تاريخ الأدب العربي بمجلداتها التسعة التي استغرق العمل فيها ما يقرب من عشرين عاماً، وهي المجلدات التي ألقت الضوء علي بيئات ظلت مجهولة في تاريخ الأدب العربي، مثل ليبيا وتونس وصقلية وإيران وأفريقيا وغيرها من البيئات التي اسهم إلقاء الضوء عليها في استكمال اللوحة البانورامية الكبري لمسيرة الأدب العربي في بيئاته المعروفة وغير المعروفة، وذلك علي نحو غير مسبوق في شموله وثرائه ودقته، وهناك إلي جانب هذا الجهد الاستثنائي العشرات من كتبه في مجالات الأدب العربي وفنونه.(1/35)
ويضيف الدكتور عصفور أن مسيرة شوقي ضيف العلمية كشفت عن اهتمامه بمجالات اللغة والنحو، ولذلك كتب كتبه المرجعية في هذه المجالات التي بدأ اهتمامه بها عندما عمل في مطلع حياته العلمية عام 1935 محرراً بمجمع اللغة العربية عقب تخرجه وظلت الاهتمامات نفسها تعاوده في عمله الجامعي، وزاده قرباً منها تعيينه عضواً في مجمع اللغة العربية ثم رئيساً له. ويري الدكتور جابر عصفور أن الأصول الريفية والنشأة الأزهرية لشوقي ضيف قد دعمتا اهتمامته الدينية وهي الاهتمامات التي ـ حسب عصفور ـ كشفت عن إيمان سني مستنير راسخ في أعماق الوعي الذي اعاد تأمل الإسلام في أخريات العمر فأصدر العديد من الكتب في غزارة لم أعرفها في أحد غيره من أساتذتي الذين أفخر بالانتساب إليهم معني وقيمة.
حارس الثقافة الأصيلة :
أما الكاتب والصحافي بجريدة الأهرام سامح كريم فقد أحصي العديد من المؤلفات التي اثري بها ضيف مكتبتنا العربية في مختلف المذاهب والمشارب النقدية والأدبية لاسيما حول تجارب مؤثرة في الشعر العربي من امثال المتنبي وأبي العلاء وابن سناء الملك، وابن زيدون، وشعراء محدثين مثل البارودي وشوقي وحافظ والعقاد وبيرم التونسي وصلاح عبد الصبور، حيث أفرد لهم دراسات تحليلية وفق مناهج دقيقة للبحث الأدبي، مع دراسات قرآنية وبلاغية ونحوية ونقدية تعمق ما يتناوله من دراسات أدبية.
ويتناول سامح كريم السيرة الذاتية للدكتور شوقي ضيف التي صدرت في جزئين بعنوان معي ويراها نموذجاً لما يجب ان تكون عليه السيرة الذاتية حيث حرص في الجزء الأول علي الحديث عن نشأته وصباه وتعلمه بكتاب القرية فالمعهد الديني فتجهيزية دار العلوم فكلية الأداب بجامعة فؤاد الأول حتي نال الليسانس ودرجتي الماجستير والدكتوراه.(1/36)
ويري سامح كريم أن السؤال المطروح حول من يخلف ضيف في المجمع سؤال صعب بعد أن انتهي عصر الرواد الأفذاذ الذين تولوا رئاسة المجمع من امثال أحمد لطفي السيد وطه حسين وإبراهيم بيومي مدكور، وأخيراً شوقي ضيف ويقول كريم إن الكفاءات المجمعية أصبحت متقاربة لذلك يقترح اختيار رئيس للمجمع من الشباب ويقول: حين نذكر الشباب بالنسبة للمجمع فإننا نقصد الذين تتراوح أعمارهم بين الخمسين والستين عاماً حيث يعتبر هذا العمر شاباً يافعاً غضاً بالنسبة لشيوخنا المجمعيين.
ويري كريم أن ذلك يمكنه أن يوجد حلولاً لمشكلات كبري تواجهها اللغة العربية والمجمع معاً، وكذلك قضية عدم مشاركة المرأة في عضوية المجمع منذ انشائه عام 1932 رغم أن قانون انشاء المجمع لا يستبعد مشاركة المرأة.
القيمة والقامة :(1/37)
أما الدكتورة مي يوسف خليف مديرة مركز اللغة العربية بجامعة القاهرة فتقول: رحيل العالم الكبير الدكتور شوقي ضيف يعني رحيل منظومة من القيم رفيعة المستوي، تلك التي تجلت في أخلاقياته مع طلابه وحوارييه ممن أدار معهم حواراته العلمية الهادئة ـ أو اشرف علي رسائلهم العلمية. وتضيف الدكتورة مي خليف: شرفت بالانضمام لموكب الدارسين علي يديه فتعلمنا منه أفضل ما يأخذه الطالب من أستاذه بما يمكن الإشارة إليه ـ إيجازاً ـ في عدة صور مضيئة: منها تواضع العالم واخلاقه حيث لم يعرف لسانه فحشاً في القول، ولم يعرف وجهه قبحاً في المواجهة، بقدر ما كان قريباً إلي نفوسنا عبر حواراته وأصول دراساته التي أثري بها المكتبة العربية من جانب، وأثري بمثلها عقول طلابه، من جيل الأساتذة الجدد من جانب آخر، ومنها أيضاً الموسوعية التي انطلق منها مع رفاق دربه وتلاميذه، فبدأ مؤسساً لموسوعية البحث الأدبي لوجوب الإلمام بالدراسات الدينية قراءة وفهماً وتحليلاً ، بما يتجلي في إمكانية توظيفها في خدمة الدراسات الأدبية، وهو ما انعكس ـ بالفعل ـ في الطبيعة النوعية لمؤلفاته بين التأريخ للأدب العربي، وبين دراساته القرآنية والبلاغية والنحوية، وانطلاقه بين التأليف والتحقيق وتأصيل مناهج البحث، ووصولاً إلي طرح دراسات عامة للمثقف العربي غير المتخصص حول عالمية الاسلام، وغيرها من القضايا العصرية الجادة، والتي لا يعتبر الإسهام فيها واجباً علي علمائنا الكبار من قامة الشيخ العلامة الراحل. وتضيف مي خليف إلي هذه الأسباب: مستوي الجدية والأصالة والمنهجية التي انطلق منها الدكتور شوقي ضيف، بأستاذية العالم الذي يعرف حق علمه ويحترم دائرة عمله، ولعل هذا هو ما حدا به إلي تجاوز حلقات الكلية والتخصص المنهجي بأن يترأس مجمع الخالدين بما تعكسه تلك الرئاسة من مدلولات ومؤشرات.(1/38)
تقول مي خليف: وضع شوقي ضيف دستوراً وميثاق شرف للأستاذية تبدت ملامحهما في مبادئه التي اتسق فيها مع نفسه، ومع تلاميذه، حيث غرس فيهم حب العمل وإتقانه مع احترام سلوك الأستاذ بين تلاميذه نموذجاً وقدوة ومثلاً أعلي ، ثم كان الحرص علي التجديد والابتكار من خلال التعددية القرائية بين الموروث والاستشراق وفتح مجالات المناقشة والحوار، والاعتراف بحق الباحث في الاختلاف مع أستاذه، مع تقدير مساحات الاحترام وآداب الحوار دون شطط أو تجاوز أو المساس بالقيمة أو الاقتراب من القامة.
تم ما أريد تقييده فى هذه اللوعة المنظومة ، التى تكشف حياة علم من أعلام هذه الأمة وجهوده العلمية والتأليفية ، راجين من الله القبول وحسن الختام .
والله الموفق والهادى إلى سواء السبيل
??
??
??
??(1/39)