:: لوحاتٌ تربويّة ::
(( شتاتٌ متناثر ، وخواطرُ في النفسِ تجيش , وتجاربٌ تبحثُ عن مُتنفّسٍ لها , ... ))
بقلم: زرد السلاسل
تنسيق: أبو حكيم المدني
منتدى العاصمة - المعالي
لوحاتٌ تربويّة
شتاتٌ متناثر، وخواطرُ في النفسِ تجيش, وتجاربٌ تبحثُ عن مُتنفّسٍ لها, كانَ الهدفُ واحداً ولا زال, نسعى سوياً من أجل تحقيقه, نُقيمُ البرامج, وننسّقُ الدروس, ونعقدُ الندوات والاستضافات, ولا مانع من الترويح أحياناً لننطلق بجدِّ من جديد, ومع طولِ الصحبةِ مقترنةً بالمراس, تتراكم الخبرات, وتنتشي الملكة, وتتفتقُ الأذهان, خصوصاً مع هذا الزخم الهائل من الممارسات والتوجيهات والتجارب التربوية، لتنشئ شخصاً قادراً – على الأقل – على ممارسةِ العمل في الميدان التربوي, ومقارعةِ معضلاته, وكشف دسائسه, وسبرِ أغواره, وإن كان النقصُ والقصور ملازماً للنفس ولا بدّ.
نصابي سيكون عشرينَ لوحةً, وما زاد فهو هديّةٌ أقدمها على خجل, مع العلم أنني في هذه الصفحات سأتكلم بشكلٍ متشتت، فقد لا تجد رابطاً بين لوحتين متواليتين, وقد تستغربُ أحياناً من تقديم مهمٍ على أهم, لأنها خواطرُ تجيشُ في النفسِ فأكتبها في حينها, ولربما كانت بعضُ المواضيع حساسة, وبعضها عُرْضة للسخرية عند من لا يفهم التربية, وختاماً فإن المعنيَّ الأول بهذا الموضوع هم روادُ حِلَقِ تحفيظ القرآن الكريم, ما بين طلابٍ ومشرفين, لأنَّ ما سيُنثرُ هنا ناتجٌ عن طولِ صُحبةٍ لهم, وقد يوجد شيءٌ من التداخل في اللوحات مع مؤسسات تربويةٍ أخرى.
(اللوحةُ الأولى)
بالحُبِّ يقود القُبطان دفَّة التربية باقتدار
سألتُ أحدهم -وكان طالباً-: أيُّ الأطياف تلوحُ أمامك بشكلٍ مستمرّ؟ فتتمنى أن لو تناجيها وتحاكيها وتسمعُ همسها؟
جال في الأفق بعينيه الشاردتين, وقد استرجع من أرشيف الذكريات كثيراً من الذوات والشخوص, وبعد إدمان التفكير, أجاب منتشياً: ومن ينسى أبا ثامر؟!(1/1)
لم يكُن هو الوحيد الذي أجاب هذا الجواب, كلُّ دفعته وأقرانه ومن قَرُبَ منهم علوّاً أو دنوّا, يحملون الشعورَ نفسَهُ تجاه أبي ثامر, تراهم يُنصِتونَ له إذا تكلم, ويحتفون به إذا حضر بعد طولِ غيبة, ويسارعون إلى استشارته عند حلول مشكلة , ولا يصدرون عن رأيه أبدا, إنه يحبّهم و يحبّونه, فنال هذه المنزلة الرفيعة ..
عن نفسي.. إن أنسى فلا أنسى أبا محمد, أحببته حبَّاً جمّا, وكذا من هم في سنّي, وكان يبادلنا الشعور نفسه, لا أخفيكم.. لربما غضبَ عليَّ لأمرٍ اقترفته نفسي الأمّارةُ بالسوء, ولربما نلتُ منه التوبيخ بشيءٍ من القسوةِ, ومع ذلك تزداد – والله– محبتي له, لأنه يغضب بحُبّ, وشتان بين غضب الحب, وغضب الغل والحقد.
الحُبُّ المتبادلُ بين المربّي والمتربي من أعظم الركائز الأساسيةِ التي تقوم عليها عمليةُ التربية (ولو كنتَ فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك), ما رأيتُ فيما طبقتُّ, ولا في استقرائي للمربين العاملين في هذا الميدان, أكثرَ نجاحاً ولا إنتاجاً ولا توفيقاً من المربّي المحبوب, الذي يحبّه طلابه, لدماثة أخلاقه وطيب خصالهِ, بل – والله – إن أثره يصلُ إلى بيتِ المتربي دون أن يشعر, و أقولُ هذا الكلام من ميدان تجربة, لا من ميدان تنظير, و يزدادُ هذا الأثر متى ما كان المتربي يتيماً، أو مُطلّقَ الأم, لأنك – غالباً – ستقومُ بدور الأب.(1/2)
أنا هنا لا أتكلمُ عن الحبِّ المذموم, الذي هو نتاجُ ثقافةٍ سيئة, فهذا النوعُ من الحبِّ يهدمُ ولا يبني, يبور ولا يعيش, يمحل ولا يبقى, إنني هنا أتكلّمُ عن الحبِّ بمعناه النقيّ الكبير, الذي أعيا الأخلاءَ طلبه, وأضاع الأصفياءُ مسلَكَه, أتكلّمُ عن الحبِّ الذي ارتضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهجاً له, وعاشَ الصحابةُ في عهد أبي بكرٍ في كنفه لا يتقاضون إلى قاضيهم عمر, مما حدا بأبي بكرٍ أن يغلق باب المحكمة بالشمعِ الأحمر مُدّةَ خلافته, لأن الحبَّ قد فصل في القضيّة, وجعل الأرواح تحلّق عالياً في السماء, إنه حبٌّ علمتُ فيما بعد أن القوم يسمونه: (الحب في الله) وهو عنوانٌ كبير, يحمل تحته جملةً كبيرةً من المضامين, تؤدي في الغالبِ إلى حبِّ العمل كبُرَ أو صغُر, كحبِّ احترامِ الصغيرِ للكبير, وحبِّ الشفقةِ من الكبير للصغير, وحبِّ الخير للغير, وحبِّ قضاء الحوائج و .. إلخ, والخلاصةُ أن لا تُقدمَ على عملٍ – أيها المشرفُ والطالبُ – إلا وأنت تؤديه بحُبَّين, الأول (حبٌّ في الله), والثاني وهو في الغالب نتيجةُ الحبِّ الأول (حبُّ ذات العمل) لا أن تؤديه على أنه واجبٌ تنهيه, أو فرضٌ تقضيه, أو صخرةٌ تزحزحها من على رأسك.
بعد ذلك، سنشرع سويّاً في قراءةِ الطُرُقِ و الأساليب التي يمكن من خلالها أن نقتنص قلوب أفرادِ المحضن, حتى نؤثرَ عليهم بشكلٍ أفضل, ولعلها تكون لوحتنا القادمة بإذن الله. الحبُّ يحتاجُ إلى صبرٍ و مجاهدةٍ و حُبّ..!
(اللوحة الثانية)
أرِشْ سهمك .. فقد لاح الصيْد (1)(1/3)
من المقرر أن نتكلّم في هذه اللوحةِ عن وسائل اقتناص القلوبِ واصطيادها, خصوصاً تلك الوسائل والأساليب التي تتعلق بالمحاضن التربوية, وفي اعتقادي أن موضوعاً كهذا, من العيب الفاضح, أن نجعلهُ في لوحةٍ واحدة, لأنه موضوعٌ كبيرٌ ومتشعب, وسأحاول استيعابه في ثلاث لوحات, وما زاد فهو نافلة وتطوّع, لكن قبل الشروع في تلك الوسائل, لا بد أن نعي ونفهم .. لمَ نقتنصُ القلوب ..؟ ولمَ ندعوا إلى ذلك ..؟
الجوابُ - يا رعاك الله-:
1- نقتنص القلوبَ ونصطادها إقتداءً بسيدنا إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حينما دعا ربّه فقال: (واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين), ولا يكون لسان الصدق إلا بمحبةِ الناس وإجلالهم له, ولا تكون المحبّةُ من الناس إلا بفعل الأسبابِ المؤديةِ إلى ذلك, فهي سنّةٌ نبويّة, ومطلبٌ شرعي.
2- نقتنصُ القلوبَ حرصاً على سُمعةِ التربية, وإظهاراً لبريقها اللامع الأصيل, حتى نستميل القلوبَ أكثر, فيأتي المتربي إلى محاضنها يركضُ ركضاً برغبةٍ منه, خصوصاً في المحاضن التي فيها للمتربي الخيار في الانخراط من عدمه, كالحِلقِ والدور.
3- وعليه مدار التربية, وهو مربط الفرس, وقطبُ الرحى, وهو أننا نقتنصُ القلوب حتى نملك ناصيةَ المتربي فنوجهه إلى الخير فلا يضجر, وندله على الصواب فلا يتأخر, ونحذّره من الخطأ فلا يستنكف أو يستكبر, وهذه نتيجة طبعيةٌ لمن ملك زمام القلوب, ولنا في تحريم الخمر في زمنِ النبوّة أعظم عبرة.
وبعد هذه المقدمة المختزلةِ في بيانِ دواعي اصطياد القلوب, نلجُ الآن إلى معرفةِ الكيفيةِ التي نتوصلُ بها إلى هذه الوسيلةِ العظيمة, مردفةً بالقصص والتجارب, بعيداً عن الكلام المثالي, والتنظير البارد وقد تجدُ – سددك الله – في بعض الوسائل شيئاً من الإغراب, وقد أتكلمُ بشيءٍ من التفصيل في بعضها, مما قد يجعل البعض يرى أنها لا تستحق هذا التفصيل, لكن ثقوا ثقةً تامة أنني لم أفصّل إلا لأنني جربت..!(1/4)
ووالله الذي لا إله إلا هو, ما وددتُّ ولا أردتُّ أن أسطّر هذه الأحرف الهزيلة حتى يقالَ عنّي هو محبوبٌ له في قلوب الناسِ مكانة, ومن فضلِ الله عليّ أن الكل هُنا لا يعرفُ (زرد السلاسل) بل هو مجهولٌ من المجاهيل, كلامه يحتمل الصدق والكذب, والتهويل والتهوين, قد أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوحُ.
عوْداً على ذي بدءٍ أقول:
1- إن من أعظمِ ما تُستجلب به القلوب, وتُسلُّ به السخائم, هو سحر الابتسامة, وكلما كانت الابتسامةُ أقربَ إلى التبسط منها إلى التكلّف كلما كانت أقربَ إلى القلب, وكلما كان دافعُ الابتسامة نابعاً من الحُبِّ الصادق, كلما كانت أمضى وأنفذ إلى القلب, واختيار التوقيت مؤثرٌ في ذلك, فليس من الحكمة ولا من الصوابِ بل ولا من الرجولةِ أن تبتسم وصاحبك يُعاني أي لونٍ من المعاناة, فالعاقلُ من يشاركُ صاحبه مشاعره , لا من يصادمه تلك المشاعر.
ومما جرّبتُه وأفدته واستفدتُ منه إرسالُ هذا السهم في وقتٍ لا يتوقعه الصيد, وبالمثالِ يتضحُ المقال: المحضنُ بمشرفيه وطلابه, مجتمعون في مجلس واحد, في استراحةٍ ما, أو في منزلٍ ما, وكل اثنين أو ثلاثة يتهامسون فيما بينهم في حديثٍ جانبي, عدا فهد الذي صار منزوياً على نفسه, ربما يفكّر في أمر أشغله, وربّما رأى أن من بجواره يتحدثون في موضوعٍ يخصّهم فلا يقوى على مشاركتهم, في هذه اللحظات أرِش سهمك, وأوتر قوسك, واستعد لاقتناص قلبِ فهْد, وتحيّن التقاء عينيك بعينيه, فإذا وصلتما إلى نقطةِ الالتقاء فأرسل سهمك وابتسم, واظفر بصيدك, ولا مانع من القيام إليه للتحدّثِ معه – وإن كان يصغرك سنّاً -, أو المسارعة إلى طلبه بقُرْبك لأجل مؤانسته.(1/5)
2- رطّب لسانك بذكر اسم المتربّي بين الفينةِ والأخرى, خصوصاً عند أول لقاء, وأيضاً عند اللقاء بعد طولِ غيْبة, لكن لا يكن هذا التكرار بشكلٍ متكلّف فيبعث السآمة والملل في نفسِ المتربي. إن تكرار الاسم يُشعر الشخصَ المقابل, بقربك منه, وهو أسلوبٌ فعّال, لكسر الحاجز بين المربي والمتربي. وأنا أؤكدُ بذكر الاسم المجرّد, ولا أقصدُ الكنية أو أحبَّ الأسماء إليه – على الأقل في بدايات الطالب مع المحضن – والسببُ في ذلك أن ذِكر الكنيةِ من البداية قد يُشعر المتربي بوجودِ شيءٍ من التكلّف أو الرسميّات أو ما شابه, خصوصاً إن لم يعتد مثل هذا وعكسُ ذلك عند النداء بالاسم الأول مجرّداً.
(كيف حالك يا فهد؟) , (أهلاً بفهد) , (اشتقنا لك يا فهد) , (كيف أبوك يا فهد) , وهلم جرّا..
3- الرائحة الطيبة .. سنّارةٌ تبحثُ عنها السمكة..!
كن على استعدادٍ دائماً لتركيب الطُعْم في السنّارة, وليكن عطرُك المفضّل على مقربةٍ منك, ولتحرص دائماً على اقتناءِ عطرٍ ذي رائحةٍ باردةٍ خفيفةٍ فوّاحة في سيارتك, خصوصاً إذا كان المحضن تقوم آليته على مرور المتربّي بالسيارة من قِبَلِ المربّي, وقبل ركوبِ أحدهم معك بفترة بسيطة – خمس دقائق مثلاً – بادر بإرسال عطرك النفاث في جوانب السيارة لتكون السيارةُ حديثةَ عهدٍ به, وفي ذلك من إدخال الراحة على المتربي ما تجعله يتمنى المكوث في السيّارةِ أبدا, ولتحْرص على أن تُجمّل رائحتك أنت في كلِّ وقت, وهذا مُجرّبٌ وله أثرٌ ملموسٌ ومحسوس, ولا عجب فقد أخبر الصادقُ المصدوق - صلى الله عليه وسلم - بأنه قد حُبب إليه من دنيانا النساءُ والطيب.
(اللوحة الثالثة)
أرِشْ سهمك .. فقد لاح الصيْد (2)(1/6)
4- خيرُ الناسِ أنفعهم للناس, ومن سعى في قضاءِ حاجةِ أخيه سعى الله في حاجته, ولأن أمشي في حاجة أخي حتى أثبتها أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهراً, قضاءُ الحوائج وتنفيسُ الكُرب, سلاحٌ نافذٌ مُعطّل عند الكثير من الناس, ولا أدري لمَ؟
و لستُ هنا أتكلم عن المصائب العظام والكروب الجسام -وإن كان تنفيسها عن الأخ مطلباً شرعياً-, لكنني أتكلم عن الحوائج التي لا تستدعي جهداً يُذكر, والأمثلةُ كثيرةٌ مستفيضة, كطالبٍ على موعدٍ مع امتحان أزفَ وقته وهو لم يستوعب المادةَ كما يجب, فما المانع من أن تنبري له لتشرح له ما تعسّر إن كنت ملمّاً بالمادة, وإن لم تكن كذلك فلا مانع من البحثِ له عمن يُنفّسُ كربته.
وقد يردُّ الحرجُ المتربيَ من البوح بمصيبته وهذا كثير جداً في مجتمع التربية, إما لوجود الحاجز بين المربي والمتربي, وإما لحياء المتربي الشديد, وإما لضعف الثقة من المتربي تجاه المربي, فأنتَ في هذه الحالة بحاجةٍ إلى كسر مثل هذا, بأن تكون البادرةُ منك في السؤال عما أصابه.
وقد يقولُ قائل: وكيف أعلم بحلول كربةٍ به ؟؟
أقول: هذا الأمر يحتاج إلى فراسة ومعرفةٍ سابقةٍ بطباع المتربين وقد يطولُ تحصيل هذا الأمر, إلا إن كان حدسك أيها المربي عالياً فلن يصعب عليك والأفضل سؤال المتربي عن حاله بشكل مستمر, فقطرات الماء بإمكانها أن تثقب الصخرة، ليس لقوتها، وإنما لتواصل سقوطها.
وقد حذّرتُ من قبل, وإنني الآن أحذّر من التكلّفِ في قضاء الحاجات تكلّفاً قد لا يستسيغه المتربي, مما يجعله ينفر ولا ينجذب, لأن العاقل بطبعه لا يريد أن يكون عالةً على الناس, لكن لا مانع منه إن كان في أحيانٍ قليلة لتبيّن للمتربي عظيم قيمته عندك, أما أن يكون على الدوام فلا.(1/7)
5- الرسائلُ فنٌ جميل, كلُّ ما يسمى رسالة, سواءً كان رسالة ورقية ذات الأسلوب التقليدي القديم, أو رسالةً نصيّة من بُنيّات التقنية الحديثة, فإنها مقصودةٌ في حديثي هُنا, أتذكر في القديم القريب, وعندما كنا في رحلةٍ إلى منطقة الجنوب, وبالتحديد في آخر ليلةٍ منها, استللتُ دفاتر الطلاّب المخصصة للتعليق على الدروس الثقافية وكتابةِ الفوائد, وأنا إذ ذاك طالبٌ في آخر سنةٍ بالمرحلة الثانوية, فجلستُ تحت ضوء القمر, والجميعُ قد أخلدَ إلى النوم, وأخرجتُ قلمي واخترتُ أسماء معيّنة لأكتب لها رسالةً أخويةً في دفترها, وأنا على علمٍ أن الدفاتر ستؤوب إلى أصحابها في نهايةِ الرحلة, لم يكن الاختيارُ محضَ اختيارٍ فحسب بل اخترتُ أسماءً تحتاج – في نظري– إلى ما سأكتبه, وبالفعل كتبتُ ما فتح الله لي بأسلوب أخويّ مبسّط, ثم أعدتُ الدفاتر إلى أماكنها, العجيبُ أن أحدهم بعد ثلاثِ سنوات صارحني بتلك الرسالة -بعدما نسيتها – وكيف أنها أثّرت فيه, وغيّرت أموراً في حياته – والفضل لله – وأنه لا يزال يحتفظ بها ولن يفرّط فيها كما يقول.
وحتى ينجح هذا الأسلوب – وهو أسلوبٌ يختصر لك الطريق إلى القلوب– لابد من مراعاة الأسلوب, ولا أقصد بذلك أن يكون أسلوباً رفيعاً من ناحيةِ التراكيبِ والكلمات, بل أقصدُ من ناحية أسلوب الخطاب وتوجيه الكلام, عليك أن تكتب له بحُبّ وأن تؤكدَ له هذا المعنى في ثنايا السطور, كما أنه لا بد من مراعاة عقلية المتلقي ومدى استيعابها لما تكتب, وشيءٌ مهم جداً أن تكون الرسالةُ بخط يدك فلا تكون مرقومةً بالحاسب, لأنها حينئذ ستكون أشد وقعاً في النفس, حتى وإن كان في خطك شيءٌ من السوء فإن هذا لا يمنع ما دام الخط مقروءاً, واحرص على أن لا تدفعها إليه بنفسك بل اجعل بينك وبينه وسيطا, ولتكن الرسالةُ ممهورةً و مختومةً بالألفاظ الأخوية كـ أخوك أو محبك أو من أحب لك الخير, وما إلى ذلك.(1/8)
الشقُّ الآخر الرسائلُ النصّية عبر جهاز الجوال, وهي لا تقل أهميةً عن الرسائل الورقية لكنها مقتولةٌ بالرتابةِ والروتين الممل, وهذا ملاحظ , و يمكنُ تفعيلها في عمليات الاصطيادِ بشكلٍ راقٍ و متقدم.
من ذلك: أن تكون الرسالةُ من إنشائك أنت حتى وإن كان أسلوبك بسيطاً, فما قَتَل هذه الوسيلة إلا الاعتماد على رسائل الآخرين أو الرسائل الجاهزة, مما يُشعر المتربي بأنها شيءٌ من المجاملة والروتين الذي لا يقدم ولا يؤخر, ومما يزيد الآصرةَ استعمالها في النصح و التوجيه, وكذا إرسال الرسائل إلى المتربي على حين فترة وانقطاع, كآخر الصيف, وعند طول سفره وبُعده , ولن ينسى لك هذا الوصال , والكلام يطول ...
6- التواصل مع بيت المتربي, وهو أسلوبٌ يحتضر وللأسف الشديد, قلما تجدُ مشرفاً تربوياً يتواصل مع بيت المتربي, وأقصدُ بالتواصل هنا, التواصلُ مع والده وإخوته سواءً كباراً أو صغاراً, فالأب تقوم بتهنئته في العيد برسالة مذيّلة باسمك بالإضافة إلى تحيّن الفرص التي تصادفه فيها عند الباب فتقوم بالسلام عليه, وتقبيل رأسه إن كان كبير السن, فبهذه الطريقة تكون قد ضربت ثلاثة عصافير بحجر واحد حيث تواصلتَ مع أبيه, وكسبت قلبَ الابن بهذا الخُلق, وزرعت في بقيّةِ المتربين احترام الكبير وتوقيره وإنزاله منزله, واحرص على إرسال السلام له مع ابنه بين الحين والآخر, وزيارته حال المرض, وكذا الحال مع الإخوة الكبار في التعرف عليهم وإرسال السلام لهم, أما الصغار فلا أقل من شراء الحلوى لهم والتودد والتلطّف معهم, فهذه ستجعلهم يتمنون الانضمام للمحضن ولو ساعةً من نهار, لما يرون من حسن المعاملة ولطيف الطباع, وهذا ثابتٌ بالتجربة.
(اللوحة الرابعة)
أرِشْ سهمك .. فقد لاح الصيْد (3/3)(1/9)
7- الهدية خيرُ مطيّة, (وإذا كانت الهدية من الصغير إلى الكبير فإنها كلما لطفت ودقت كانت أبهى، وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أوقع), وشواهدُ التربية تُقرّرُ أن للهديةِ مفعولاً جبّاراً في استمالةِ القلوب, لا يعرفُ سرّه إلا من جرّب, ولا يشترطُ في الهديّةِ أن تكون باهظة الثمن, صعبةَ المتناول إنما يكفي في الهديّةِ أن تكون متوسطةَ الكُلفة, لا تثقلُ كاهل المُهدي ولا تصيبُ المهدى إليه بالحرج, وكما قيل الكُلفةُ تُذهب الألفة, وما أجملَ أن تكون الهديّةُ مما يسدُّ مَسَدّاً عند المهدى إليه, كأن تكون ساعةً لمن لا يملكُها، أو كتاباً أعيا المهدى له الحصول عليه, وما إلى ذلك.
وأذكّر دوماً بأهميةِ الحفاظ على بقيّةِ علاقاتك مع المتربين, فلا تكون الهديةُ على ملأٍ منهم, مما قد يورثُ الغيرة, ويولّد الأضغان, اللهم إلا إن كان بعد تعليقها بسببٍ ظاهر معقول، كأن يُقال: قُدّمتْ هذه الهدية لمحمد نظيرَ مواظبته على الحضور, مع تحقيق محمد لهذه الخصلة تحقيقاً ظاهراً.
أما إن أردت أن تهدي متربياً آخر , لا لشيء إنما لاستمالةِ قلبه , فليكن الإهداءُ في منعزل عن بقيةِ إخوانه , حتى لا تكسب طرفاً و تخسر أطرافا , وأؤكد أن الهدية ليست مقصودةً في ذاتها , إنما هي وسيلةٌ إلى غاية حميدة.(1/10)
8- رزانةُ الشخصية, والسمتُ المقنّن, والثقافةُ الواسعة, والاطلاع النَهِم, عواملُ تسلب الألباب, وتجتذب القلوب, والحقُّ يُقال أن المربي ذو الشخصية الرزينة المتزنة, يكسبُ القلوب على المدى البعيد, خلافاً لشخصية المربي المتفكه الذي يصلُ أحياناً إلى درجةِ التهريج وللأسف الشديد, لا أخفيكَ سرّاً أن الشخصية المتفكهة قد تأسرُ القلوب, لكنه في الغالبِ أسرٌ يعقبه هروب وفكاك ولو بعد مدّة, لأنه وبعْدَ مدّة سيصبح غالباً شخصيّةً مملة لنفاد الجديد مما يملك, خلافاً للشخصيّةِ الثقيلة التي تفرضُ نفسها بين المتربين, وينظر إليها المتربون بإعجاب شديد, خصوصاً إذا كانت تملك مخزوناً ثقافياً تستلم به زمام المجلس, وتثري به النقاش المفيد, ومن المخجل أن يفهم البعضُ أني أقصد الجمود في الشخصيّة, ذلك الجمود الذي يجعلكَ أحياناً لا تُفرّقُ بين الجدار وبين من أمامك, وغالبُ أصحاب هذه الشخصيات يخفون نقصاً بهذا الأسلوب العقيم شخصيّةُ أبي ثامر التي ذكرتها آنفاً, هي شخصيّةٌ تملك ما يُعرف بـ(الكاريزما) بشكلٍ يفوق الوصف, ومع ذلك لم تكن ضحكاته سوى تبسّما , وعند استرساله في الحديثِ ترى الجميع شاخصين بأبصارهم , ينصتون بكل ما أوتوا من قوّة.
9- التغافل ، التغافل , التغافل ..
ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيد قومه المتغابي(1/11)
وهو فنٌّ يحتاج إلى ضبط النفس وترويضها, وتتجلى عظمةُ هذا الفن عند حصولِ السَقَطات من جانب المتربي, لا أعني السقطات التي توجبُ نُصحاً وتوجيهاً شرعياً أو تربوياً إنما أقصدُ تلك السقطات التي يحرصُ فئامٌ من المربين – وللأسف – والمتربين على تخليدها في أرشيفهم, واستردادها بين الفينةِ والأخرى, مما يولّد كرهاً غائراً من طرف المتربي تجاه الشخصِ والمحضن, كخطأٍ في نُطقِ كلمةٍ ما, أو تكرار ذكرِ موقفٍ حصل لا يُسرّ المتربي بذكره وترديده, أو المسارعةِ إلى جمعِ المتربين على التغني بالمواقف القديمة لـ فلان من أفراد المحضن وهو موجود بينهم يُظهر الأنس والضحك, وفي الحقيقة أن في جوفه ناراً تضطرم أن كان مسخرةً للجميع, فالواجب على المربي أن يتغابى عند سماع كلمةٍ أخطأ فيها من أمامه, أو عند حصول عثرةٍ وهو يمشي مثلاً, ما دام لم يتضرر, منعاً لإحراجه عند علمه باطّلاعك على الموقف.
البعد كلّ البعد عن ما يسمى بـ (الذبّات) و (المسكات), وجمعاً لشتات ما سبق في هذه النقطة أقول اختصاراً: كل موقف يغلب على ظنك أن المتربي سيصاب بالحرج عند علمه باطّلاعك عليه فأعمِل معه سلاح التغابي وكأن شيئاً لم يكن.
(اللوحة الخامسة)
شيءٌ من لَدَغاتِ الحبّ أو عثراتٌ في طريق الحب
الحبُّ الطاهر بنقائه وصفائه لا يخلو من كدر, والكدر ليس من ذات الحبِّ النقي, وإنما لأمر خارج عنه, كانحراف مسيرةِ الحبِّ بعد أن كانت مستقيمة, أو كانجرافها بعد أن كانت ثابتةً مستديمة, وأنا في هذه اللوحةِ أمرّ – تعريجاً – على شيءٍ من لدغات الحبّ وعثراته, التي قد يقع فيها فردٌ أو مجموعةٌ من المحضن.(1/12)
أولاً: التعلق المذموم, الذي قد يصرفُ الحبَّ عن هدفه السامي، فبعد أن كان حُبّاً ناصع البياض, أصبح حبّاً ملوثّاً مشوباً بالقذى والكدر. والتعلق إما أن يكون بالصورة والجسد, وهذا شديدُ الصُرعةِ, محموم العاقبة, قلما يسلم منه من ولَجه, فهو سهلٌ دخوله صعبٌ خروجه, كالتعلق بجمال الوجهِ وملاحةِ الصورة.
وإما أن يكون بالروح والنفس, وهو أقلُّ وعورةً من الأول, وأهون مسلكاً, وإن كان فيه ما فيه من الأذى, كالتعلق بلطافةِ المعشر, وحُسْنِ السمت, وإن كان حبُّ هذا من الفِطرَةِ, لكن أن يصِلَ إلى التعلق, فهنا مكمن الخطأ.
وإما أن يكون لمؤانسةِ الطباع واتفاق الأهداف, وهو أهون الثلاثة, ومع ذلك فيه من الخطر ما فيه.
والمتعلق في جحيمٍ لا يُطاق, لربما حرَمَهُ التعلق لذّة النوم, ولذّة العبادة, ولذّة الأخوّة الصافية, ولذّة القراءة والتدبّر, لربما انطرح في فراشه يتفكر في المحبوب حتى يُصبحَ الصبح , لا يقوى على الفكاك.
وعلاجُ التعلق ربما يطول, وهو بحاجةٍ إلى صبرٍ وطول بال , فلا ولن يجدي معه أن تطلب الحلّ في يومٍ وليلة وأول خطوات الحل أن يدرك المتعلق أنه واقعٌ في حمأةِ الخطأ, وسيعظم الخطب إن أصرّ المتعلق على صواب فعله.
وعلى الغارق في هذا الجحيم أن يصدق مع الله في الدعاء بأن يخلّصه من هذا المرض, وأن يصرف عنه السوء والفحشاء, كما أن عليه إن رأى أن أوار التعلق قد اضطرم وتأجج – إن كان صادقاً في علاج مرضه – أن يهرب من المحضن الذي يعيش فيه المتعلق به, فالسلامة في الدين لا يعدلها شيء. علاجُ هذا المرض يطول ويطول , لكن حسبي تلك اللفتات.(1/13)
ثانياً: الشللية والتحزبات بين أفراد المحضن الواحد, وهو أمرٌ لا يسرّ بدايتُه حبّ, ونهايته انهيارٌ للمحضنِ بكامله إن لم يتدارك مشرفوه الحال، وعلى مشرفي المحضن المسارعةُ إلى بتر هذا المرض قبل استفحاله وإن أدى ذلك إلى بتر بعض أعضاء المحضن فدرء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة, فكيف إذا كانت المفسدةُ انهيار محضنٍ كامل, وأول خطوات الحل مناصحةُ المتسببين في ذلك, وبيان الخطر الذي يحدق بالمحضن إن أصرّوا على خطأهم, فإن لم يكن ثمة استجابة, فلا مناص من بتر الرؤوس المتسببة في ذلك, مع بيان السبب لبقيّة الأفراد, والطيور على أشكالها ستقع, فمن في قلبه فساد فسيلحق بصاحبه.
ثالثاً: قد يكونُ غريباً نوعاً ما, وهو استغلال علاقةِ الحبِّ بين المربي والمتربي في معرفةِ أسرار المتربي ودفائنه, بل والتلذذ عند حصول ذلك, لا أعني بذلك محاولةُ المربي أن يعرف مشاكل تلميذه حتى يُسهم في علاجها مثلاً, وإنما أقصدُ أن يحاول معرفةَ ما سلفَ من أخطاء المتربي, وما في مسيرته من الأمور التي ربما يستحيي المتربي من ذكرها لو لم يكن – حين قالها- في حالةِ استغراق في الندم والحزن وتأنيب الضمير, والمربّي و للأسف يظن أنه بفعله هذا قد وصل إلى سويداء قلب من أمامه, وما علم أنه بهذا التصرف يقتل المتربي من حيث لا يشعر, وربما شعر المتربي بخطأ ما تفوّه به بعد إفاقته من سكرته.
والخلل فيما ذكرت أن المتربي قد ينسحبُ من المحضن لأن في المحضن من يعرف تاريخه في الزلاّت والأخطاء, وربما البعض منهم يحجم عن المشاركةِ في أفعال الخير كإلقاء الكلمات والمشاركةِ في الندوات والتعليق على المواضيع, لأنه يخشى أن يُتهم بالنفاق ممن عرف أمره وكشف سره, وهذا موجود عند البعضِ كما نُقل لي.
(اللوحة السادسة)
التراسل السريع (الماسنجر) مع أفراد المحضن , ضوابط وأطر(1/14)
في ظل ثورة التقدم والانفجار التقني المبهر, تستجد المسائل المشكلة بأنواعها, سواءً كانت شرعيةً أو تربويةً أو اجتماعيةً أو ما إلى ذلك..
وتبقى بعضُ المسائل والإشكالات مثار نقاشٍ وأخذٍ وردّ, ومن خلال هذه اللوحة, فإنني أطرحُ قضيةً مهمةً ظهرتْ على السطح , ولا أجدُ – فيما أعلم – من طرحها أو أثارها من قبل, وها أنا أطرحها آملاً منكم – مشرفي المحاضن وأفراده – المساهمة في تزيين هذه اللوحة بما تمتلكون من خبرةٍ وممارسة - وإن قلّت - .
التواصل عبر التراسل السريع (الماسنجر), انتشر بين أفراد المحضن الواحد انتشار النار في الهشيم, وفيه ما فيه من السلبيات كإضاعة الساعات تلوَ الساعات في كلامٍ لا يُقدّم ولا يؤخر, وغيبة أفراد المحضن سواءً المشرفين أو الطلاب, والإغراق في الكلام عن المباحات واللهث وراءها وتنصيبها شُغلاً شاغلاً, وأولويةً لا تُزحزح, وتتجلى صورة ذلك في تبادل صور السيارات وربما اللاعبين .. الخ . (لا ألفينّ أحمقاً يصرخ بأعلى صوته طالباً منّي التعقّل وأن هذا ضرب من المباحات لا يستحقُ التشنيع, وبعد أن أخبره بحمقه أخبره أنني أقصدُ الإغراق فيها .. ثم يعتذر ) .
لذا أقول: ليست هذه اللوحة عن الموضوع المضمّن أعلاه, إنما جعلته مقدّمةً منحرفة, أما الموضوع فهو عن تواصل المشرف مع الطالب عبر التراسل السريع (الماسنجر), ومدى جدواه, وعن ضوابطه إن كنتَ ممن يؤيده..
أما بالنسبة إليّ فأرى أنه حاجةٌ ملحّة لأسبابٍ هي:
1- الحاجة إلى تعزيز العلاقة مع أفراد المحضن بكل وسيلةٍ مشروعةٍ ممكنة, وهذا من الوسائل بلا ريبة, وتعزيز العلاقةِ يحل كثيراً من الإشكالات.(1/15)
2- أن عدداً - ليس بالسهل ومن واقع تجربة – من أفراد المحاضن , لا يستقوون على عرض مشاكلهم بشكلٍ مباشر, ولا كذلك نقدُ المحضن وأخطائه التي يقع فيها الأفراد والمشرفون, وكل مشرفٍ لا يلتفتُ إلى نقد طلابه فهو ينظرُ بعينٍ واحدة, فوجود هذه الوسيلة تفتحُ للطالب مجالاً ليكشف عن قلبه , وهذا مكسبٌ عظيم.
3- توجيه الطالب عند وقوع الخطأ إلى كيفية التعامل مع هذه التقنية بشكل خاص, وكيفية التعامل مع الشبكة العنكبوتيةِ بشكلٍ عام.
ولكن لابد من الضوابط والأطر التي تضبطُ مثل هذه العلاقة, والحفاظ عليها مما قد يؤذيها أو يخدشها, وأظن أن من أهم الضوابط:
1- مراعاة هيبةِ المشرف وعدم إسقاطها بالسفاسف والتوافه، كاستخدام العبارات والكلمات التي تجعل الطالب يغسل يداه من مشرفه, أو استخدام ما يسمى بـ (السمايلات) التي لا تحفظ هيبة المشرفِ, وإنما يلجأ متى ما اضطر إلى ما أسميه (بالسمايلات الراكدة) والعاقلُ يميّزها, وكذلك الصورة الشخصيةُ تُنتقى بعناية بالإضافة إلى الاسم الذي يختاره في المراسلة, والواجب على المشرف أن يقيس تعامله مع الطالب عبر هذه التقنية على تعامله معه في الميدان التربوي.
2- الحذر في تبادل الروابط, فالواقع أن كثيراً من الروابط تحوي بداخلها روابطاً تؤدي إلى ما يخدشُ الحياء, والإشكال العظيم أن الصوَر الخادشة متى ما تعلقَ قلبُ المرء, أعيته الحيلةُ في تركها, ومن أعظم ما أحذر منه - ما يسمّى بـ(اليوتيوب), أنا لا أزعم أن الطالب لن يصلَ إليه أبداً, لكن على الأقل لا يكن هذا الوصول عن طريقك.
وقد أخطأتُ مرّةً فأعطيتُ أحدهم رابطاً للمذكور آنفاً, فما كان منه إلا أن أرشدني إلى (اليوتيوب الإسلامي) و علل بأن اليوتيوب مليءٌ بما لا يُحمد, فأكبرتُ فيه هذا التصرف على صغر سنّه.(1/16)
3- قد يكون أحد أفراد المحضن غير مرغوبٍ به، لا لسوء خلقه أو شخصه, وإنما لأمر آخر كرتابته فيما يكتب وقلةِ بضاعته, فتضطر آسفاً إلى حظره, فعندما لا يرى وجودك في القائمة يسأل عنك بقيّة الأفراد, فيأتيه الخبر بوجودك الدائم, ثم يعلم بطريقته أنه محظورٌ من قائمتك فيحصل ما لا تحمد عقباه, لذلك إما أن تحظر الجميع أو تبقي الجميع, مع تنبيه ذلك الشخص على خطيئته, وهذا أجدى بلا شك.
4- لا تفتح للطالبِ مجالاً في أن يكون جاسوساً على المجموعةِ ينقل لك أخبارهم, فبئستِ التربيةِ تلك, فبعض الطلاب يتقرب إلى المشرف بمثل هذا, وهي لن تخلو بحال من الغيبةِ وربما النميمة, والواجب على المشرف ردعه عن مثل هذا العمل المشين, فهذا العمل من أعظم سموم التربية, والواجب في مثل هذا أن يوجهه المشرف إلى نصيحة الأفراد بدلاً من الطعن فيهم, اللهم إلا إن كان لا يملك – أي الطالب – أسلوباً حكيماً فإنه يتجه إلى أحد المشرفين لا على أسلوب الطعن غلاًّ وحقدا, وإنما بأسلوبِ الحب الأخويّ , وعلى مشرفي المحضن توجيه الطلاب إلى ذلك الأسلوب وتعويدهم عليه.
5- المشرفُ قدوةٌ للطالب, ومن الخطأ الفادح أن يطالبه بالتقليل من معاقرةِ الشبكة, هو في الحقيقةِ مدمنٌ عليها, معاقرٌ لها, لذا أرى أن المشرفَ إذا أراد الإطالة أن يضع مُراسله على (الظهور دون اتصال) أو (بالخارج), مادام سيطيل المكوث, حتى لا يُحرج نفسه أمام طلاّبه, كما أنه من الخطأ أن يظلَّ على المراسل السريع (الماسنجر) إلى أوقاتٍ متأخرةٍ من الليل, وهو يهيل على طلابه النصائح بمشاكل السهر ومخالفته للفطرة, خصوصاً في أيام الدراسة.
6- حذاري الشديد من أن تكون هذه الوسيلة طريقاً غير مباشر للتعلق المذموم.
(اللوحة السابعة)
صَغَار مشرف
سأكون قاسياً بعض الشيء على أحبتي المشرفين..(1/17)
لا أبوح بسرٍّ إن قلتُ لكم وبحسبِ تجربةٍ قصيرة, أن المشرفَ يشكّل جزءً كبيراً من روافد الحلقة, وكل محضنٍ تربوي لا يُعنى بانتقاء مشرفيه فهو إلى أفول..
دعاني طول التأمل إلى الحديثِ عن قضية مهمة ربما تلجئنا قلةُ ذات اليد إليها, فنتخذ القرار ونحن نحوقل ونقول: شيء أفضل من لاشيء .. ونتفق سوياً على متابعة المشرف الجديد الذي لتوه تخرج من القسم الثانوي ونتواصى فيما بيننا على تقويمه وتكثيف البناء التربوي في حقّه, ونحن نعلم علم اليقين أنه ضعيف البنية, هزيل النتاج, والسبب ضعفُ المعطيات الذي أدى إلى ضعف المخرجات ..
ويبدأ المشرف الجديد مسيرته مع المجموعةِ بشيءٍ من وجع الرأس, والإحراج مع الطلاب, والتنفير من المحضن, بتصرفاتٍ لا تصدر عن طالب فضلاً عن مشرفٍ يشار إليه بالبنان, والإشكال أن خطأه محسوبٌ على طاقم الإشراف بكامله لأن كثيراً من الطلاب لا يملك ملكة التفريق بين خطأ الفرد وخطأ المجموعة ..
لا أخفيكم أن ثمة أخطاء قاتلة نمر بها , تكاد تعصف بالمحضن , شعرنا بذلك أو لم نشعر !..
والسبب مشرفٌ لا يفقه أصول ومبادئ التربية, وغالبُ هؤلاء هم من المشرفين الجدد, الذين تولوا زمام الأمور ولمّا ينضج حسّهم التربوي بعد , أستأذنكم الآن لأدلف إلى بعض التصرفات التي وقفتُ عليها سواءً من قريبٍ أو بعيد , وكانت سبباً في نفور الطالب أو أهل الطالب من المحضن.
1- عبدالعزيز شابٌ لتوّه تخرج من المرحلة الثانوية, ونظراً لشحِّ المحضن وحاجته إلى طاقمٍ إشرافي ليقود سفينة المحضن, كان لا بد من الاستعانة بعبد العزيز ليُسهم في العملية الإشرافية التربوية كان اختياراً غير موفق, لكنها الحاجة, ليس جديداً على الطاقم الإشرافي أن عبدالعزيز لا تروق له تصرفات محمد الذي هو الآن في الصف الثالث الثانوي, استغل عبد العزيز منصبه بكل حقارة, ليملي أوامره على محمد, بل ويهدده بالفصل إن لم يكن هو كما يريد عبد العزيز .. إنه صغار مشرف!!(1/18)
2- مساعد شخصٌ غريب الأطوار, سريع التقلب, هذه السنة وقع الاختيار عليه ليكون مشرفاً في القسم الثانوي, مع كونه جديداً, قد خرج لتوه ساخنا من القسم الثانوي, لكنها الحاجة, والحاجة أم الاختراع وأحياناً أم الضياع, بدأ مساعد مشواره مع المجموعة يمرّ ثلاثة من الشباب, أحدهم سامي والآخر عبد الله والثالث إبراهيم, بقي أن تعرف – عزيزي القارئ – أن سامي انسحب من الحلقة , وعندما سئل عن السبب, أخبر المسؤول أن المشرف مساعد ذو قيادة متهورة, وأن أبا سامي ما فتئ يتضايق من قيادة مساعد في داخل الحارة فكيف بخارجها ...؟ إنه صغار مشرف !!
3- سلمان الفتى الوديع, الذي كان يحبّه الشباب, لظرافته وجميل سجاياه, سينضم إلى قافلة الإشراف, كان عددٌ من المشرفين الكبار يعقدون عليه الآمال نظراً لقوّة علاقته بالطلابِ ومحبتهم له, وما علموا أن التربية لا يكفي فيها قوة العلاقة, بل لا بد من وجود الهدف والسعي إلى تحقيقه, المهم .. بدأ سلمان مسيرته, وفرح كثير من الشباب بوجوده مشرفاً بعد أن تذمروا من رحيله طالباً, وبدت مسيرة سلمان ناصعة البياض, مشرقة الطلعة.
4- أحمد – مسؤول الحلقة – تلقى اتصالاً من رقم غريب في وقتٍ متأخرٍ من الليل يومَ الجمعة, تردد في الرد من عدمه, ثم قرر الرد, كان الصوتُ أجشّاً جهورياً, إنه والد فهد يسأل عن ابنه الذي خرج مع (الشباب) و لم يعد حتى هذه اللحظة, بدا أحمد مشدوهاً مستغرباً فليس من عادة الشباب تنظيم طلعة يوم الجمعة, بل إنه هو مسؤول الحلقة, كيف يكون ذلك دون علمه أو الرجوع إليه, تصرف أحمد بحكمة, ثم تبين له فيما بعد أن فهد كان مع سلمان في برنامجٍ خاص!! مما يوحي بولادةِ حالةِ تعلّقٍ جديدة .. إنه صغار مشرف !! .
أتوقف هنا عن ذكر بعض المآسي الأخرى من قبل المشرفين الجدد أو حتى المشرفين غير المؤهلين , لأتوقف قليلاً عند ما أظنه علاجاً لتلك المظاهر و السلوكيات الخاطئة لأقول:(1/19)
1- لابد .. لا بد .. لا بد من التوعية التربوية منذ الصغر, و توعية الناشئ بالأساليب الصحيحة في التعامل مع الأخطاء سواءً كان التعليم بشكلٍ و توجيهٍ مباشر, أو بشكلٍ غير مباشر، على الأب والأم توعية الابن بكيفية التعامل مع إخوته وأقاربه الصغار, وعلى المشرف في المحضن توعية الطالب سواءً كان في المرحلة المتوسطة أو الثانوية بكيفية التعامل مع من هو أصغر منه حالَ خطأه, وألا يباشر المشرفُ توجيه المخطئ, بل عليه أن يوجه كبار الشباب في المحضن (3م أو 3ث) إلى الطريقة السوية في توجيه المخطئين فمثلاً إذا أخطأ محمد (2م) فأسبل ثوبه, فعلى المشرف أن يتجه إلى عبد العزيز (3م) ويخبره بخطأ محمد وأنه أخٌ عزيز لعبد العزيز, وأن أفضل أسلوب لمحمد – مثلاً – هو أن ترسل له رسالةً بأسلوب رقيق لطيف من هاتفك يا عبدالعزيز فتخبره بمغبّةِ الإسبال, وتؤيد عبدالعزيز –أيها المشرف– بشيءٍ من الأدلة والأحاديث في حرمةِ الإسبال, بل حتى لو قمتَ بصياغة الرسالة لعبد العزيز وأن يتولى هوَ إرسالها فإنها ستترك أثراً قوياً في نفس الطالب.(1/20)
2- من المهم جداً – وكثيراً ما كررتُ هذا الكلام على أسماع كثيرٍ من المشرفين - أن يُفتَح للطالبِ مجالاً في إبداء الرأي واتخاذ القرار وإن قلّ, حتى نُشبع هذه الرغبةَ فيه, فمن فطرة الإنسان أنه يحبُّ أن يكون له رأي مسموع, وقرار يُعمل به, فلماذا نجعل هذه الرغبة تتراكم في نفسه و تشغل حيّزاً من تفكيره حتى إذا سنحت له الفرصة, فجّرها بغير تعقّلٍ ولا رويّة, وأحقُّ الناس بتطبيق هذا الكلام هم طلاب المرحلة الثانوية, خصوصاً من هم في الصف الثالث الثانوي, الذين باتوا قريبين من دفّةِ العطاء والتوجيه, يجبُ أن نعطيهم مزيداً من الاهتمام والمتابعة, بالإضافة إلى مزيدٍ من الصلاحيات, حتى يتم من خلالها إشباع رغبةِ حبِّ الأمارةِ والسلطة, حتى إذا بدأ في مزاولةِ التربية إذ به مُشبَعَ الرغبةِ لا يلتفت إلى (افعل ولا تفعل), وفي هذا فوزٌ عظيم للمحضن..
3- من الخطأ الفاحش أن ينطلق المشرف الجديد مع القسم الثانوي, علينا أن نعي أن الطلابَ لا يستمرؤون أن يستحيل صالح –وقد كان قبل فترة بسيطة طالبا له ما لهم وعليه ما عليهم– إلى مشرفٍ له سلطةٌ عليهم, يأتمرون بأمره وينتهون عند نهيه (مع عدم إيماني التام بسياسة الأمر والنهي بين المشرف والطالب في كل حال), والأشد نفوراً أن يغدوَ صالح متمتعاً بصلاحياتٍ لم تكن لهُ من قبل, فالويل كل الويل لمن أسقط هيبته بكلمةٍ أو بتصرف, وقد كان قبل فترةٍ قد خرّ صريعاً على الأرض بسببِ مطارحةٍ غير متكافئة مع قُصيّ الذي يصغره سناً ويكبره جسماً, بل حتى المشاكسات اللسانية التي كان صالح يفتعلها مع غيره, لم يعد صالح يرضى بها, بل من سوّلتْ له نفسه بافتعالها فليحتمل نظرات صالح المحرقة.(1/21)
من المفترض أن يوجّه المشرفُ إلى الإشراف على القسم المتوسط في البداية, فإن كان ولا بد, فليكن مع القسم الثانوي شريطةَ أن يُنبّه على علاقته مع الطالب, وأن الواجب ألا يترفع عليهم ولا يوغل معهم, بل الوسط هو الحل, وعلى المشرفين أن يكونوا شديدي الرقابة لهذا الكائن الجديد.
(اللوحة الثامنة)
رحلات المبيت والدور المفقود
في البداية .. لو قلنا إن عدد رحلات المبيت في السنة الواحدة أربع رحلات, ثم افترضنا أن الطالب انخرط مع المحضن في بداية المرحلة الثانوية, فإن الحسابات الرياضية في هذه الحالة تتكلم لتقول: 4×3 = 12رحلة مبيت خلال ثلاث سنوات, هذا إذا لم يكن الطالب له حضور في المحضن منذ المرحلة المتوسطة, وإذا قلنا إن معدّل مدة الرحلة الواحدة 3أيام, فإن المجموع سيكون 36 يوما, لا شك أنه عدد كبير وضخم في الحقيقة, يجعلُ المسؤولية تتضاعف أمام المشرفين, فلك أن تتخيل أنك مع مجموعةٍ في رحلةٍ لعقلاء القوم ووجهائهم لمدة 36يوم, لا شك أنك ستتخلق بأخلاقهم وستستمسك بهديهم, وسيظهر عليك أثرُ ذلك إن عاجلاً أو آجلا..
أستطيعُ أن أقول إن رحلات المبيت – في حقيقتها – ما هي إلا دورةٌ مكثفة, نستطيع من خلالها أن نكشف ونعرف سلوك كثير من الشباب , كما يمكننا أن نعالج كثيراً من الأخطاء التي تقع , بالإضافة إلى أنه بالإمكان أن نغرس من خلالها سلوكاً حميداً وعادةً حميدة , لا ينفك عنها الشاب بتاتا..
هذا كله إذا اجتمع في الرحلة عناصر:(1/22)
1- الإعداد المسبق المتقن, ونصيحتي لكل محضنٍ لا يعتني بالإعداد لرحلات المبيت أن يصحح مساره وأن يعلم أنها علاجٌ لكثير من السلوكيات السيئة متى ما أحسن المحضن استثمارها, أذكر أن قريباً لي اتصل بي يوم الاثنين, فقال بلهجةٍ سريعةٍ مرتبكة (أحتاج مسابقة ورقية في أسرع وقت), استغربت هذا الطلب بهذه الصورة, فاستفصلتُ منه أكثر, فأجابني بأن (الشباب) عندهم رحلة للشرقية يوم الأربعاء, فاستغربتُ هذا التأخير المخزي الذي يدل على عدمِ وعيٍ بأهميةِ الإعداد والتخطيط المسبق, بقي أن تعرف أن قريبي هذا في الصف الثاني الثانوي!! وتم تنصيبه مسؤولاً ترفيهياً للرحلة .. عجبي!!
وعندما سألته عن سبب هذا التأخر .. أجاب : الآن تم تكليفي !!! قبل الرحلة بيومين !! ..
أما الوجه المشرق, فإنني أعرف بعض الحلقات تقوم بالإعداد لرحلة المبيت قبل حلولها بشهرٍ كامل بل ويسافر بعض المشرفين لتنسيق المكان وإعداد اللقاءات والزيارات, ولا تسل بعد ذلك عن مشاعر الطلاب, وقد طفحت وجوههم بالسرور.
2- المكان المهيأ والذي من خلاله تستطيع الإرسال والاستقبال من وإلى الطلاب سواءً كان في استراحة أو نزهة برية ربيعية, والمكان إن لم يكن بالمستوى اللائق ومستوى الدعاية فإن الإشراف سيواجه امتعاضاً من الطلاب, خصوصاً إذا علمتَ أن المكان سيكون عليه مدار الرحلة, وأفضل الطرق لاختيار المكان المناسب التحرك المسبق في تحديده, ينطلق اثنان من المشرفين قبل الرحلة بمدّة إلى الجهة المقصودة ليتم اختيار المكان صدقوني إن قلتُ إن الأمر يستحق كل هذا التعب, وكل شيء في الرحلة ينسحب على مكان الإقامة, بل حتى بعد انتهاء الرحلة, سيظلّ للمكان تأثيره, فمتى ما سُئل الطالب عن رأيه في الرحلة, سيتبادر إلى ذهنه مكان الإقامة مباشرة, وسيكون للمكان 50 % من رأيه.(1/23)
3- الأهداف العامة الواضحة ( ولا مانع من الخاصة لكن في نطاق ضيق ) وهنا المحك, وهو المهمل وللأسف الشديد, رحلةُ مبيت 3-4 أيام, ولا نضع نصب أعيننا هدفاً نحققه ؟!
دعوني أسترسل في الكلام قليلاً عن هذا العنصر المهم الذي قلما التُفِتَ إليه, إنني عندما أتكلم عن الأهداف العامة, فإنني أقصدُ بها تلك الأهداف التي تستهدف كُلّ الشباب المتربين, أو غالبهم على الأقل.
مثال: رحلة الأربعاء ستكون إلى استراحة في (العفجة) ولمدة ثلاثة أيام, أنا -بصفتي مشرف- مع بقيّةِ الإخوة المشرفين, نرى وجودَ التقصيرِ في السنن الرواتب – مثلاً- من قبل كثير من الشباب, فنضع الهدف العام الذي يستهدفُ غالبية الشباب وهو: (توجيه المجموعة إلى الاهتمام بالسنن الرواتب والإلزامِ بها إلزاماً تربوياً), ولتكن هناك كلمةٌ عن فضلها, ودرسٌ في أحكامها.
أيضاً وجدنا أن كلّ الشبابِ منهمكون في ملاحقةِ السيارات, ومعرفةِ آخر الموديلات. وما إلى ذلك فنضعُ هدفاً عاماً يستهدفُ كلّ الشباب وهو: [إرشاد المجموعة إلى الإعراض عن فضول المباحات والاهتمام بمعالي الأمور], وما ذكرته سابقاً في السنن من تضمين الكلمة والدرس في تحقيق الهدف, ما هي إلا وسائل, والوسائل أمرها واسعٌ جداً, كلّ محضنٍ وما يملكه من مقومات, ولا مانع من استشارة التربويين في كيفية صياغةِ وتحقيق الأهداف, وكلما كانت الوسيلةُ أسرع في تحقيق الهدف, فهي أولى من غيرها.
أما ما يتعلقُ بالأهداف الخاصّة, فإنني ذكرتُ أنها يجبُ أن تكون على نطاقٍ ضيّق, حتى لا ننشغل بالقليل عن الكثير, وهذا ظلمٌ وأي ظلم !!(1/24)
مثلاً: خالد شابٌ ملتزمٌ متميّز, حباه الله عدداً من الصفاتِ التي تؤهله إلى أن يكون مربياً بارعاً, غيرَ أن عيباً لم يزل ملازماً له منذ عرفه الشباب, خالد في وقت البرنامج الرياضي, يستحيلُ وحشاً كاسراً, سريع الانفعال والغضب, يرمي هذا بالأنانية, ويرمي ذاك بالضعف والبلادة , ويرمي الآخر بالعمى لأنه أضاع الفرصةَ أمام الهدف !!
بإمكانك الآن أن تضع هدفاً خاصاً في رحلة المبيت, يستهدف خالد, فتضع: [تنبيه خالد إلى مغبة التعصب في الملعب والتقليل من حدته], والوسائل أنت من يملك زمامها, أنت وما تبدع.
وحذار من أن يطغى الهدفُ الخاص على الهدف العام , فننشغلُ بواحد عن عشرة أو عن عشرين , فهذا من أعظم الظلم, إن استطعت التوفيق فبها و نعمت, و إلا فالكثير مقدّمٌ و لا شك..
وبالإمكان توزيع الأهداف بين المشرفين, حتى تحصل الفائدة بأكبر قدرٍ ممكن, وإياك –أخي المشرف –من الإكثار من وضع الأهداف حتى لا تتشتت, فعدد الأهداف يحكمه نوع الهدف ومدة الرحلة, وأعتقد أن 3 – 5 أهداف, عددٌ معقول..
مُلحة : حدثني أحمد – وهو عندي ثقةٌ ثبت – أن قريبه شاركَ في رحلة النماص قبل سنين مضت, لم يكن لقريبه باعٌ في الحلقات والمكتبات, إنما جاء عن طريق المركز الصيفي, وكان الشبابُ يستيقظون قبل الفجر بنصف ساعة لقيام الليل والوتر, ولم يكن قريبه يفعل ذلك من قبل, يقول أحمد وبعد عودتنا إلى ديارنا سالمين, استمر قريبي يقوم الليل فترةً من الزمن, والسبب في ذلك أنه اعتاد على هذا الأمر سبعة أيام – مدة الرحلة – ثم صارت عادةً له بعد ذلك إلى أن انقطع مع تباعد الزمن, وفتور النفس. فانظر كيف كان الأثر , مع مشقةِ العمل !!
ملاحظة : الهدف قد يكون : غرس سلوك حميد , أو نزع سلوك سيء , أو تعزيز عادةٍ حميدة ..(1/25)
أخي الحبيب .. في نظري أنه إذا اختل أحد هذه العناصر الثلاثة الماضية, فمن الصعب أن تصل إلى نتيجة مرضية, الإشكال الحاصل أن هذه الرحلات تحولت في كثير من المحاضن إلى محطة تسليةٍ فحسب, لا تجد فيها هدفاً واضحاً يريد مشرفو المحضن تحقيقه, فقط ترفيه, ودرس, ومسابقة !
أسأل الله للجميع السداد وحسن العمل..
(اللوحة التاسعة)
شيءٌ من عَتَب , واستمطارُ وفاء
اتصال .. لا أحد يرد .. ثم اتصالٌ آخر .. كذلك لا أحد , بقيَ على الموعد أسبوع و التحرّك على أشدّه لكن ما من استجابة .. ثم رسالة .. لعل و عسى .. لكن لا رجعَ لصداها..
(إذاً لنبحثْ عن شخصٍ آخر) هكذا تمتم بها أبو سعد أمام المشرف الثقافي أبي محمد الذي ما فتئ يتصل بالشيخ المستضاف ليؤكد الموعد, لكن لعل المستضاف نسي..
تحرّك أبو محمد في كل اتجاه يبحثُ هنا وهناك , يتصلُ بكلّ من يعرف قبل حلول يوم الأربعاء حيثُ أُخبرَ الطلاب بأن برنامج المغرب استضافة للشيخ ( ..........) , لكن بعد طروء هذا التجاهل من قِبَلِ فضيلة الشيخ , لا بد من البديل , ولا بد أن يكون البديل مقارباً لأسلوب الشيخ و يملك قوّة طرحه.
طوالَ الأسبوع وأبو محمد منهمك في التنسيق, وفي يوم الثلاثاء, أُقفلت الأبوابُ في وجهِ أبي محمد, لا نتيجةَ تُذكر, إما الاعتذار أو التجاهل أو التردد, لم يبقَ في القائمة غير أبي منصور, وهو أحدُ كبار الشباب, الذين يملكون اطّلاعاً نهِماً, وإلقاءً جذّاباً, لكن الإشكال الحاصل, الذي يجعلُ أبا محمد مترددا في الاتصالِ به, أنه استضاف أبا منصور مرتين في هذا العام, فمن الصعبِ أن يعزز الاثنتان بثالثة, فهو يخشى ملل الطلاب..
طال تفكيرُ أبي محمد, وبدا متردداً بين الإقدام والإحجام, وبعد طولِ تأمّل, قرر أن يستضيف أبا منصور, وليكن ما يكن , ولسان حاله : شيء أفضل من لا شيء.
لكنه الآن يخشى من اعتذار أبي منصور , فمن يدري ؟!(1/26)
خصوصاً مع ضغط العمل و الزخم الهائل من المناشط الدعويةِ التي يتابعها عن كثب.
- أبو منصور السلام عليك..
- و عليك السلام ورحمة الله أهلا بأبي محمد..
- أعرفُ مدى انشغالك و كثرةِ أعمالك , لكن هل يتيسر لنا في القسم الثانوي لقاءٌ معك غداً المغرب ؟
- من الصعوبةِ بمكان , عندي موعدٌ في المستشفى للابن الصغير آخر العصر , لكن سأحاول إن أسعفني الوقت.
- شفاه الله و عافاه , أرجو أن يتيسر لك ذلك.
- بإذن الله.
- حفظك الله.
- في أمان الله.
- مع السلامة.
وجاء الأربعاء.
وأبو محمد يتلظى, وبعد صلاة المغرب, جعل (جواله) نصْب عينيه ينتظرُ اتصال أبي منصور, وبالفعل اتصلَ أبو منصور منتصفَ المغربِ ليسأل عن مكان الاستراحة, فاستبشر أبو محمد, وذهب ما كان يجدُ في نفسه من غمٍّ لازمه أسبوعاً كاملا, وما إن وصل أبو منصور, حتى خرج لاستقباله والاحتفاء به, حتى إذا دخل على الشباب في المكان المعدّ للقاء, وأخذ مكانه بجانب الضيف, إذ بـ وليد ذلك الشاب النبيه, الذي أغرق الشباب بكل معلومةٍ جديدة, يتقدم بحذر إلى أذن أبي محمد ليهمسَ قائلاً بلغةٍ عاميّةٍ بغيضة (وش هالبرنامج الملفّق ؟؟)
وما أقساها على سمع أبي محمد!! وما أثقلها على فؤاده!!
لا تقدير للجهود!!
لا تقدير للتعب !!؟
أسبوعٌ كاملٌ من الهمّ و الغمّ والاتصالات والرسائل يُهدَمُ بثلاثِ كلمات ؟!
أََقِلُّوا عليهم لا أبا لأبيكمُ ... ... ... من اللَّوْم أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا
أولئك قومٌ إِنْ بَنَوْا أحسنوا البِنَا ... ... وإنْ عاهدُوا أَوْفَوْا وإن عَقَدُوا شَدُّوا
أخي وحبيبي وقرّة عيني – طالب المكتبة وعضو المحضن – ما أقساها والله على سمعي , وما أثقلها على قلبي..
ولو أنها أتت من غيرك لأوجعته ضرباً, لكنها أتت من حبيب, أتت من مهجةِ القلب, أتت من مُقلةِ العين, فأنّى لي أن أتشفى من روحي !!؟(1/27)
إنني أيها الأخ الحبيب أربأ بك وبإخوانك أن تكونوا ممن يكفرون الجُهدَ والتعب, ويبخسون لأخيهم الكبير حقّهُ من دعوةٍ في ظهر الغيب.
وإن أخطأ المشرفُ .. وإن قصّر .. وإن تكاسلَ أحياناً .. لا ينبغي لك أن تهدمَ أفضاله وجهوده السالفة من أجل ذلك..
أين الوفاء ؟!!
بل أين المروءة ؟!!
بل أين حفظ الحقوق ؟!!
لا شيء والله أحبّ إلى المشرفِ من دعوةٍ صادقةٍ تطلقها في وجهه, وتعززها بدعوةٍ في ظهر الغيب, وبعد ذلك – إن كان التقصير موجوداً – تُصارحه بذلك بكل أدبٍ واحترام بانتقاء الألفاظ المناسبة مع إحسان الظن به إن كان ممن تناسبه الصراحة والمواجهة أو ليكن ذلك بأسلوبٍ آخر ليس هذا مقامُ تبيينه.
أما كفران النعمة, وهجران التشكّر, وإساءة الظن, فليسَت من شيَمِ أهل المروءة, فهي يُلهِبُ النار, وتوقدُ جمرة الضغينة..
إنني بهذا – أخي الطالب – أستدرُّ وفاءك.. فلتكن مدرارا..
(اللوحة العاشرة)
مشرفُ المحضن والخواء العلمي والمعرفي
لابد من شرب الدواء وإن كان مرّاً لا يُستساغ , ولا بد دون الشهد من إبر النحل , أعود – هنا - مرّةً أخرى إلى أحبتي المشرفين, الذين حملوا على عاتقهم تربيةَ الشباب, والسعيَ في إصلاحهم , بكلِّ وسيلةٍ مشروعة ممكنة , لهم منّي كل الحبِّ والتقدير , وإن جانبوا الصوابَ في حينٍ , فقد أصابوا كبِده في أحايين كثيرة.
من المزري – و الله – أن يأتيَ الطالبُ إلى مشرفهِ ليسأله مسألةً بدهيةً في أحكام السفر , أو في أحكام المسح على الخفين , أو حتى في المجالات و العلومِ الأخرى , ثم يجيبه المشرفُ بكلّ برود : لا أدري.
ولربما تمكّن الخجلُ من المشرفِ فأجاب إجابةً لا تمتُّ للصواب بصلة, خشيةَ الإحراجِ مع الطالب فيكون قد وقع في شرّ الشرّين.(1/28)
ويظهرُ الضعفُ العلميّ جليّاً في المشرف عند سفرِ المجموعة, فتطفو الأسئلة على السطح , وتنهمر من سماءِ الطلاّبِ الأسئلةُ الكثيرة عما يعرضُ لهم من الإشكالات, فيقفُ المشرفُ مشدوهاً حييّاً عييّاً لا يملك جوابا .. وما أبأسه من موقف..
وقل مثل ذلك في المواسمِ كحلول رمضان, والحج بل وصيام التطوّع وما يعرض للطالب فيه, وكذا بعضُ أحكامِ الشتاءِ كالمسح على الخفين وما إلى ذلكـ..
إنني في الحقيقة أطالبُ كلّ مشرفٍ – حتى يكون مؤهلاً تأهيلاً كاملاً – أن يكون نهِم الإطّلاعِ, غزير القراءةِ, ليس في المجال الشرعيّ فحسب بل في كل المجالات ما استطاع إلى ذلك سبيلا .. في القرآن والسنةِ والفقه والعقيدة واللغة والتاريخِ والسيرِ والتقنية, و في شتى العلومِ الحديثة فإن ضاق الوقتُ فلا أقلّ من الالتفات للعلم الشرعيّ لأن الدين لا يقوم إلا به.
في الواقع..
لا أريد من المشرفِ أن يكون شافعيّ زمانه, وحنبل عصره بل أريدُ منه حدّ الكفاف, الذي يقيم به دينه, ودين طلاّبه, وأصدقكم القول– ومن تجربة – أن الطلابَ يبحثون عمن يفيدهم, ويرفعُ حصيلتهم, ويحفظون له قدره ويجلّونه, ويرون فيه القدوةَ الذي لا يضاهى..
وحتى تكتمل الفائدة, ويتحقق الهدف, فإنني سأدلفُ الآن إلى الوسائل التي تحقق في المشرف حدّ الكفاف من العلم والتحصيل, الذي يرفعُ به درجته وحصيلةَ طلاّبه (وإن كان من المفترضِ أن يكون هذا في موضوع مستقلّ بشكلٍ أوسع لكن لعل ذلك في وقتٍ أوسع).
قبل الخوض في الوسائل فإنه على المشرِفِ أن يلزم نفسه بحُبِّ القراءة, ولتكن بدايته إن كان متعثراً في القراءة, بقراءة السيَر والروايات لخفّتها وقربها إلى النفس.
وسائل ومنهجية التحصيل لمشرفي المحاضن:
1- الاقتناع بأهمية العلم, ومعرفةِ قدره وفضل العالم على غيره.(1/29)
2- اختيار شيخٍ موثوقٍ في دينه وعلمه, يقرأ المشرفُ عليه بعض المتون التأصيلية, ويكون ذلك وفق خطة يرسمها له الشيخ, وليكن من المعلومِ عند الشيخ أن المشرفَ لا يريد أن يكون عالماً متبحراً, وعلى المشرفِ أن يختار الشيخ الذي له نَفَسٌ شبابيّ, و سبق له أن خاض تجربةَ الحلقات والمكتبات حتى يتمكن من إفادةِ المشرفِ بأكبر شكلٍ ممكن, ومن المهم أن يبحثَ المشرفُ عن شيخ مغمور, أما المشهور فليبتعد عنه, فإن الانقطاعات ستكثر معه, ولن تحصلَ منه الفائدة المرجوّة حتى وإن كان أقوى حصيلة من المغمور.
3- على المشرف قبل حلول المواسمِ أن يقرأ في أحكامها, ويسأل أهل العلم عن كلّ ما يستشكله, كأحكام الصيامِ والحجِّ وما يكثر في الشتاء, وقل مثل ذلك في البرامج والرحلات كأحكام السفر, والرحلات البرّية, ولتكن القراءةُ من كتب متخصصة لتكون الفائدة أعمق, وعلى المشرفِ في بدايةِ هذا التحصيل أن يبتعد عن الكتب الخلافية حتى لا يتشتت, وعند تعمقه فلا مانع من ذلك, وما رأيتُ أكثرَ فائدةً من المطويّاتِ التي يهملها كثيرٌ من الناس, وقد تكلمتْ عن أحكامٍ كثيرة, فعلى المشرفِ أن يقتني ما يناسبه منها , ولتكن في متناوله قريبةً منه (درج السيارة مثلاً) وليتعاهد قراءتها بين الحين والآخر سواءً لوحده أو مع طلابه في السيارة.
4- إدمان قراءة كتب الفتاوى, وهي طريقةٌ فعالةٌ لاكتساب العلم الشرعي, خصوصاً أنها نتاج سؤال تطبيقي بعيداً عن التنظير العلمي, وغايةُ ما ستحتاجه – أيها المشرف – من كتب الفتاوى لن يتجاوز أبواب العبادات (الطهارة – الصلاة – الصوم – الحج) عدا الزكاة, وهو أمرٌ ميسّر, عظيم النفعِ, جليل القدرِ.
5- ليكن لك -أيها المشرف- مجموعةً من الكتب تتعاهدها بالقراءة والإطّلاع بين الفينة والأخرى, وهي في الحقيقة - في نظري – أسسٌ يجب على المشرفِ ألا ينحطّ دونها, وهي كالتالي:
أ. في التفسير : زبدة التفسير , للأشقر.(1/30)
ب. في الفقه : موسوعة الأحكام الشرعية, لرياض الأحمد, وهي عبارة عن موسوعة فتاوى منتقاة من فتاوى بعض العلماء المعاصرين بترتيبٍ رائع وإخراجٍ محكم.
ج. في العقيدة : الإيمان: أركانه – حقيقته - نواقضه , لمحمد نعيم ياسين.
د. في التاريخ والسيَر: الرحيق المختوم للمباركفوري أو مختصر السيرة لمحمد بن عبد الوهاب.
وفي سيَر الخلفاء الراشدين , مؤلفات محمد رضا , مع التنبه لبعض الأخطاء.
وهناك سلسلة لا تحضرني تصدر من دار القلم , تتناول عدداً من كبار شخصيات الإسلام.
ولا أنسى سلسلة المعارك الكبرى في تاريخ الإسلام لشوقي أبو خليل وهي رائعةٌ جداً.
هـ . في الإدارة وتطوير الذات وفن التعامل : هناك عدة سلاسل صادرة عن د.علي الحمادي ومن معه وهي رائعة بحق, تستحق التأمل وإدمان النظر.
وبالمناسبة فإن الطلاب يحبون سماع أحداث التاريخ والسيَر, ويطربون لذلك, شريطةَ أن يكون ذلك بشكل عفوي ليتحقق القبول, وأنصحُ المشرفَ أن يثوّر المسائل التي ألمّ بها عند الطلاب, ويثير النقاشَ فيها, لترسخ المسألة في ذهنه, وتتحقق الفائدة للطلاب, كما أذكر بأهميّة افتراض المسائل ممكنة الوقوع, والبحثِ عن جوابها, إما في بطون الكتب أو من شفاه أهل العلم.
(اللوحة الحاديةَ عشرة)
يسمّونهُ المرسى..
هذه اللوحةُ ستكونُ خفيفةَ المضمون , غريبةَ الفكرة , لذيذةَ العاقبة..
عندما تكونُ في رحلةِ نهايةِ العام والتي هي غالباً إلى منطقة الجنوب, وما يسبقها من تَعَبٍ ونَصَبٍ وطول إعداد, فإن الأهازيجَ تكثُر, والصيحات تعلو, من باب الترويحِ عن النفس, وقطْعِ الطريق بما ينسي مشقّته , ولا شكّ أنّ هذا من السنّة التي يُثابُ عليها الإنسان متى ما أعملَ نيّته.(1/31)
أردتُ أن أقف هنا على أمرٍ مهم, رُغم عفويته, إلا أنه قلّ من يلتفتُ إليه, وهو أنه بعد انتهاء الرحلةِ, ومُضيّ فترةٍ من الزمن, يُردّدُ أحدهم أهزوجةً معينة, أو تستمع مجموعةٌ ما إلى شريطٍ معيّن, فتعود الذكرياتُ كالومضِ إلى تلك الرحلة, فيستذكرون مواقفها وأحداثها , ويتضاحكون على ما كانَ فيها من أحداث ومواقف , ولا تخلو تلك الاستذكارات من دعواتٍ عابرة , يُرسلها مَن شاركَ لمن تعب وأشرف , وهذا مكسبٌ عظيم – ولا شك - .
عن نفسي..
فإنني ما إن أسمع شريط [الثريّا] إلا وتطيرُ بيَ الذكريات إلى [المركز الصيفي], وأظن كثيراً من الإخوةِ هنا ممن هو في سنّي يبادلني الشعورَ نفسَه, والسبب أن ذلكم الشريط صَدَر مع بدايةِ أنشطةِ المراكزِ في تلك السنة, وكان حضورهُ قوياً, فلا تكاد تخلو منه سيّارةٌ آنذاك, بالإضافة إلى أن أبا عبد الرحمن (الذي كان يمرّني تلك الفترة) كان لا يخرج من المركز نهاية الدوام إلا و يديرُ مسجّل التشغيل على ذلكم الشريط, فغدا سماعُ الشريط فيما بعد يستنهضُ تلك الذكرياتِ الجميلة.
و كذا إن سمعتُ نشيدَ [سيف الإسلام] الذي يتحدثُ عن صفاتِ الضرغام [خطّاب] تقبله الله, فإن الذهن يطيرُ بي شوقاً إلى تلك الرحلة, غريبةِ الأطوار, عجيبةِ التراكيب, والسبب أن ذلكم النشيد كان على الدوام متردداً في تلك الرحلة, إما عن طريق آلةِ التسجيل, أو عن طريقِ أفواه الطلاب, فـ سقى الله تلك الأيام.
كلُّ ما أريد أن أصل إليه - أيها المبارك - ..
أن ما مضى يُسمى - عند أهل الفن – بـ( المرسى )؛ لأن الذكريات تنهمر عند الإرساء بهذا المرسى, فيصولُ خاطرُ الإنسان ويجول, ويَستعيدُ أياماً جميلةً قد أكل عليها الدهرُ وشرب, ولا يملكُ بعد ذلك أن يغُطّ في دمعٍ هتون, لا يقوى على مغالبته أو مدافعته , ولله الأمر من قبل ومن بعد.(1/32)
اجعل لك أنت -أيها الحبيب- مرسىً, يذكُرُكَ به إخوانك وأحبابك, وشرطُ هذا المرسى, أن تكون علاقتُكَ بإخوانك من المشرفينَ والطلاّب فائقةَ الحُسْنِ والجمال, بأخلاقك وابتسامتك وتعاملك وطيب معشرك, أما إن كنتَ عكسَ ذلك فلا داعي للمرسى, لأن ذكرياتك حينئذٍ ستكون ثقيلةً على إخوانك.
أمّا لماذا المرسى ؟ فـ لأمور:
1- أهمها و هو الذكر الحسن, فمع كثرةِ الأشغال واختلاطِ الأمور, ينسى الإخوان أخاهم, حتى إذا حضر المرسى (وهو الموقف أو النشيد أو ... إلخ الذي ذكّرهم بأخيهم ) إذ بالقوم يذكرون أخاهم, ويذكرون خلاله الجميلة وصفاته الحميدة, وهذا بحدّ ذاته مطلب لأنه مجلبةٌ للدعاء.
2- طلباً للدعاء وهذا من شيَم الأخوّةِ الحقّة , فإنهم إذا ذكروا أخاهم دعوا له وأقل الدعاء ما نسمعه بعفويةٍ دوماً عند ذِكرنا لأحد الأخوة , بأسلوبٍ عاميٍّ مُبَسّط (الله يذكره بالخير) .
3- استحلاب الذكريات, خصوصاً لمن يحب العزف على أوتارها, وأنا من أولئك, بل وأتلذذ بذلك, ولا تجد شيئاً يعين على ذلك كالمرسى.
أمّا كيف أضعُ مرسىً لي؟ فالجواب يطول, بحسب الشخص وبحسب المكان, فمثلاً إن كنتَ ممن يمرّ (الشباب) بسيارته, فلا أقل من شريطٍ جميلٍ وهادف تعيدُ تشغيله بين الفيْنةِ والأخرى, بشكلٍ لا يجعل الملل يتسلل إلى من معك, فتستمر في تشغيله طيلة الفصل الدراسي كل ثلاثة أيام, بعد ذلك إذا تركك أولئك (الشباب), لأمرٍ أو لآخر فإنهم مباشرةً سيرمون بالمرسى على شاطئ الذكريات متى ما استمعوا إلى الأسيف, وستنهمر الدعوات لك من كل جانب, متى ما كانت ذكراك معهم طيّبة.
أو إذا كنتَ في رحلةٍ مع الأحبة, فردّد أهزوجةً معيّنة, وأكثر من تردادها, ولتكن جديدةً سهلةً جميلةَ المعاني, لن تنتهي الرحلةُ إلا وقد حفظها الكثير, وسيأتي في يومٍ من الأيامِ من يردّدها, فإذا رددها, فقد ألقى المرسى, وسيستعدُ من عرفها بك وعرفك بها للسباحةِ في شاطئ الذكريات, و لن تُعدَم دعوة..(1/33)
ولا يقتصرُ المرسى على نشيد أو أهزوجة , فهو فنّ , فأنتَ وما تملك من موهبةٍ وقُدرة..
(اللوحة الثانية عشرة)
شروخٌ في صرحِ التربية
لا بدّ لكلّ صرحٍ مهما علا بنيانه, واستقامتْ أركانه, من وجودِ شروخٍ وإن تناهت في الصِغر, عزّ الكمال إلا لله, وأشدّ الشروخِ تأثيراً في البنيان, وأعظمها توهيناً للصرحِ, ما كان متعلقاً بتنشئة الجيل و تربيته, ولذا قال شاعر العربية:
مَشَى الطاووسُ يوماً باعْوجاجٍ ** فقلدَ شكلَ مَشيتهِ بنوهُ
فقالَ علامَ تختالونَ ؟ قالوا : ** بدأْتَ به ونحنُ مقلِدوهُ
فخالِفْ سيركَ المعوجَّ واعدلْ ** فإنا إن عدلْتَ معدلوه
أمَا تدري أبانا كلُّ فرعٍ ** يجاري بالخُطى من أدّبوه
وينشَأُ ناشئُ الفتيانِ منا ** على ما كان عوَّدَه أبوه
وفي خضمّ هذا الكمّ الهائل من الوعي التربوي, تظلُ بعضُ الشروخ نافذةً في صرحِ التربية, خصوصاً في مجتمعِ الحلقِ والمكتبات, ولعلي -هنا- أقفُ على شيءٍ من تلك الشروخ, سواءً كانت من طرفِ المربّي أو من الطرف الآخر (المتربّي), وأنا هنا أكتبها كيفما اتفق , دون ترتيب معيّن أو تقسيم متعيّن:
1- من أعظم الشروخِ في صرحِ التربية, أن يسعى المشرفُ إلى أن يكون الطالبُ نسخةً كربونيةً منه, فلا هو يراعي المواهب والميول, ولا هو يراعي الفروق في القدرات, وهذا والله مما يقتل المتربي ليعيشَ حياته بعيداً عن الإنتاج والبذل.(1/34)
ومن أمثلة ذلك: أن يكونَ المشرفُ طالبَ علمٍ, يميل إلى العلم الشرعي, فيقيم خطةَ برامج الحلقةِ على هذا الأساس فيجعل الخطةَ مملوءةً باللقاءات والدروس العلمية والمحاضرات, دون أدنى اعتبارٍ لميول من معه, زاعماً بذلك أنه يريد المصلحةَ لهم, وهو كذلك, غير أنه أخطأ الطريق, وما أفلحَ في الوسيلة, ولا أخاله مفلحاً في النتيجةِ والعاقبة, ونحن مطالبون – في الحقيقة– أن نوجد الأكفَاء في كل تخصص, وأن لا نُجبر المتربين قسراً– بشعور أو بدون شعور- على الأخذ بما نريده نحن, فهذا والله الخسران المبين!
2- أن تعيشَ مَرِحاً .. شيءٌ جميل , أما أن تعيشَ هزليّاً حدّ التهريج فهذا ما لا يستساغ و لا يُطاق , وبين المرح والتهريج شعرة فحذارِ أن تنقطع, ومن المؤسفِ أن ينظر صغار المتربين - وأحياناً صغار المربين – إلى الطالب الهزليّ أو المشرف المسفّ في الهزل, على أنه مثالٌ يُحتذى في سلوكه ؛ وسببُ إعجابهم بهذه الشاكلة أن كلّ من حوله يقهقهون لأجل تصرفاته وحكاياته وأفعاله فيعمدُ المربي أو المتربي – آنف الذكر – إلى تقمّصِ تلك الشخصية , ومحاكاتها بكلّ وجه ممكن , فقط لأجل إضحاك الحضور, وحصد الأنظار بمنجلٍ مزيف!
خطأٌ تربويٌ فادح أن تكون تلك العيّنات هي غايةُ المتربين والمربين, وحتى لا يجنح البعض, فإنني لا أقصدُ المرحَ المشروع الذي يُرفّهُ به عن المجموعة, إنما أقصدُ الهزلَ الذي صار سمة بارزة لبعض الشباب يُعرفُ بهم ويُعرفُون به, وإذا طلبك الشباب حيثُ الضحك .. فراجع نفسك !!(1/35)
3- إحكامُ العلاقةِ مع المتربي.. لا يعني أن أعرفَ كلَّ أسراره, بعضُ الإخوة يظن – ولفرط جهله أو اجتهاده – أن علامة قوة العلاقة بينه وبين الطرف الآخر, أن يبوح المتربي بأسراره للمربي, وقد ذكرتُ سابقاً أن قوّة العلاقةِ مطلبٌ مهمٌ للتأثير على المتربي, لكن الخطأ أن تصلَ العلاقة إلى تسليم العقل, والتفوّه بكلِّ ما في داخل المتربي، لستُ أقصدُ – هنا– تلك الأسرار التي يتفوّه بها المتربي لأجل أن يعالجها إنما أقصدُ تلك الأسرار التي لا جدوى من إيداعها للمربي, كأحداث الماضي الأسود للمتربي مثلاً.
والعكس بالعكس, فلا يعني قوة العلاقة أن أفشي للمتربي أسرار الحلقة, وأمورها الخاصة, التي لا ينبغي أن يطلع عليها إلا أهل الاختصاص.
بالتأكيد .. الأسرار وسيلةٌ عظيمة لتقوية الأواصر .. لكنها غير مشروعةٍ في كل حال.
4- من الخطأ أن تحاربَ كلّ جديد, وما أكثر ما لاحظنا عند ظهور أمرٍ جديد [ تقنية – موضة - ....] إلا وتبدأ الألحاظ في تتبع أصحابها, ومحاربة الطارئ الجديد, وأعتقدُ أن المحاربةَ بهذا الشكل لن تجدي علينا أولاً أن تمعّن في هذا الجديد وننظر إليه من ناحية شرعية, ثم من ناحيةٍ تربوية , فإن اجتازهما فقد اجتاز القنطرة فلا إشكال فيه و إلا فلا .. وكل جديدٍ يستجد فإنه بحاجةٍ إلى تأصيلٍ شرعي و تربوي قبل الحكم عليه، جفّ قلم هذه اللوحة .. هنا أقف .
(اللوحة الثالثة عشرة)
المكتبات وآلية الاستبعاد / البتر / الفصْل
من الصفاقةِ والحماقةِ أن تطغى العاطفةُ على العقل, وليس من الدين في شيء أن ترى الفساد يُجلّل بياضَ الخيرِ بسواده المعتم, ثم تقفُ مكتوف الأيدي, مقلَّبَ البصر, خاسئ الهمّة, لا تقوى على التغيير, و لا تنهض همتكَ إلى البحثِ عن الحل!(1/36)
وعليه .. فإنني أحب أن أقولَ إن مجتمع الحلقات والمكتباتِ كأي مجتمع, ينطبق عليه ما مضى وتقدّم, وليس من العيب أو السر أن أقول إن فسادَ بعض أفراده يفوقُ فساد ما نسميهم بـ (أبناء الشوارع), وإن كانوا قلة, إلا أن الفساد لا يعرف قلةً أو كثرة, وعند تجلّي مثل هذه العينات وظهورها على حقيقتها عاريةً من أقنعتها, مكشوفةَ الألاعيب والحيل, يلجأ عددٌ من المربّين إلى بتْر هذه العينات, وعزلها عن المحضن, حتى لا ينتشرَ فسادها, وكم وكم سمعنا المربّي الأكبر, وهو يقول: إن التفاحة الفاسدة تُفسدُ ما حولها.
إنني عبْر هذه اللوحة, أريدُ أن أرسم وإياكم آليةً, تجعلُ البتر آلة حياة .. لا آلةَ عذاب, وفرصةَ نجاة .. لا فرصة خراب..
ولا أخفي حقيقةً أن من أعظم المسائل التربويةِ تعقيداً وعرضةً للنقاشِ , وكثرةِ الأخذ والرد , هي مسألة (الفصْل) و(الاستبعاد) وذلك حينما يقرر مشرفو الحلقةِ الاستغناء عن أحد الأفراد لأمرٍ ما..
فمن هنا أحببتُ أن أدلي برأيي في هذه القضيّة, ورأيي إنما أظنه هو الصواب ولا أجزم بذلك والله يتولى السرائر, وهو الهادي إلى سواء السبيل.. ... ... أقول .. لا يخلو حال من ظهر فساده من إحدى ثلاث:(1/37)
الأولى:أن يتبيّن لك فساده مع إفساده لغيره, فهذا يُزاح –ولا كرامة– لأن وجودهُ كشخصٍ مفسدٍ يعدُّ خيانةً للأمانة التي ائتمنك الله عليها, فبقيةُ الأعضاء تحتَ مسؤوليتك– شئتَ أم أبيت-, وكونك تقف موقف المتفرّج على برنامجِ الإفساد الذي يتعرضون له من قِبل أحد أفراد المحضن, يجعلكَ في دائرة المساءلة في الدنيا والآخرة, خصوصاً أنك تملكُ الحل في مثل هذا, وإن كنتَ لا تملك حقّ البتر لأمرٍ أو لآخر, فبراءة الذمة بإخبار المسؤول وتنبيهه أرجو أن تكون كافية, وإلا ففي نفسي من ذلك شيء, وأعتقدُ – ولستُ مفتياً – أن الألصقَ بقواعد الشريعةِ وكليّاتها, أن بقاء المشرفِ مع المجموعة في ظلّ رفضهم لبتر من ظهر فساده وإفساده , يُدخله تحت قوله تعالى: (فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ في حديثٍ غيره), اللهم إلا إن كان انسحابُ المشرفِ يزيد من الفساد , فبقاؤه في هذه الحالة أولى وأليق وإن استمر رفضُ البتر .
(مسألة تحتاج تأصيل شرعي , وإذا كان في الهجرِ مصلحة ظاهرة فهل نأمر المشرفَ به ؟ تحتاج بحث).
الثانية: أن يتبيّن لك فساده دون إفساده لغيره -وهذا هو الأكثر– فالواجب في حقّه المناصحة والتوجيه ومن ثمَّ فلن يخلو من أمرين:
1- أن يستجيب وينتهي عما هو فيه من الخطأ, فهذا هو المطلوب, وهذه هي الغاية, وكفى الله المؤمنين القتال.
2- ألا يستجيب ولا ينتهي عما هو فيه من الخطأ فلا بد حينئذٍ من تعاهده بالنصح والتوجيه , بكلّ أسلوبٍ ممكن , وكلّ وسيلةٍ مشروعة كما كان حالُ نوح مع قومه, فإن أصرّ فلا مناصَ حينئذٍ من البتر والاستبعاد, لأن بقاءه بهذه الشاكلة, يزرعُ في قلوبِ ضَعَفَةِ الإيمان – من الطلاب - تقليدَه ومتابعته, ظنّاً منهم أن عمله مرضيٌّ عنه من قِبَل مشرفي المحضن, ولتتذكر دائماً أن الله ينزعُ بالسلطان ما لا ينزعُ بالقرآن.(1/38)
الثالثة: أن يتبيّن لك فساده مع تخوّفك من إفساده دون أن يتضح لك ذلك, فعليك في هذه الحالة أن تتوخى الحذر, فالمسألةُ مسألة أمانة, من فرّط فيها فليستعد للوقوف بين يدي الله, وعليك في كلّ حينٍ أن تزرع في الطلابِ هذا الأمر, وأن تبيّن لهم أن السكوتَ عن إفساد المفسد ضربٌ من أضرب الخيانة, ولتدبّج ذلك بما جاء في السيَر من فضح المفسدين, ومن المهم أن يفهمَ طلابك أن ذلك ليس من الغيبة في شيء, ولا من النميمة في شيء, بل هو قُربةٌ وطاعة, يثاب عليها متى ما كانت النيةُ خالصة.
وقبل أن أختم. أذكّر بأن من الواجب أن أبيّن للطلاب سببَ استبعاد (فلان) متى ما لزم الأمر, كأن تصل المعلومةُ مغلوطة للطلاب, أو كأن يتكلم (المُستبعَدُ) بكلامٍ فيه تظلّمٌ يريدُ به شق الصفِ, وتأجيج الأضغان في القلوب وستحتاج لذلك كثيراً مع صاحب الفساد المتعدي , لأنه – في الغالب – سيستمر في إفساده..
أما من فساده على نفسه , فما أجمل أن تستر عليه , وتتعاهده بالنصح والزيارة بعد استبعاده , وتوصي طلابك بذلك ,
فهذه والله هي الأخوّة الحقة, اللهم إلا إن خشيت الفساد على الطلاب إذا تواصلوا معه فالأمر يختلف..
نصيحة محب: تفقه في قاعدة المصالح والمفاسد , فإنك ستحتاجها في التربية كثيراً.
(اللوحة الرابعة عشرة)
القاعدة التربوية الفَظّة : ( خطأ الشاطر بعَشَرة )
(كنتُ في الصف الثالث الابتدائي, عندما تعلمتُ هذه القاعدة فقد ألقت بأثقالها على ذلك الجسد الصغير, وانغرست في داخله, فكانت خبيثةَ المنبت خبيثةَ الثمار, وظلّ يعاني منها حتى حين- فامضوا معي إلى قاعةِ الفصلِ الدراسي, لتعرفوا حقيقةَ الحدث).
المادة /مطالعة ... الموضوع /أحمد في نزهةٍ برية(1/39)
كان الأستاذ حمد, شديدَ الشراسة, مسعورَ اليد, سريع الافتراس, ينقضُّ على الكسول كانقضاض الصقر على فريسته, ويلتهمه كالتهام الأسدِ للغزال الكسير, أضِفْ إلى ما مضى أن الأستاذ حمد, كان يدرّسنا مواد اللغة العربية بما فيها مادة الإملاء, التي كانت حجر عثرة عند كثيرٍ من طلاب الصفوف الأولية, يشمرُ أمامها كلَّ همّ, وتخنسُ كل مصيبة, ويضمحلُّ كل وسواس, ومع ذلك كلّه كان الأستاذ حمد يحفظ لي الودّ, ويجلُّ لي القدر, ولا أجدُ ما يدعو للخوف منه.
عند دخولهِ يستحيلُ المكان عزاءً, ويسودُ الصمتُ ما بين الجدران الأربعة , بل لا يجرؤ أحد أن يسعل , بل ويحسبُ ألف حساب إن أراد لعينه أن ترمش، وتزداد دهشتي عندما أرى الفرائص ترتعد , والأبصار تزيغ , والقلوب تبلغُ الحناجر والروح تُصارعُ من أجل البقاء, فرقاً من هذا الكائن, وهَلَعاً من صوته الحاد المزعج!
إلى أن جاء ذلك اليوم..
لا زلتُ أتذكر ذلك اليوم الأسوَد كنتُ طفلاً بريئاً, أدرُسُ في الصفّ الثالث الابتدائي, مُجدٌّ في دراستي مُهذّبٌ في تعاملي, قد فُقتُ أقراني, ونلتُ حظوةً عند الأساتذةِ, قلّ من ينالها - والفضل مِن الله وإليه -, غيرَ أن فهوماً خاطئة, وقناعاتٍ زائفة, قد تخلقُ فيمن يتلقاها , ألواناً من التحطيم , وصنوفاً من الانحدار.
كعادة الأستاذ حمد , كان أول ما يسأل عنه عند دخوله هو الواجب , فمن أحضره فقد حاز الدنيا بحذافيرها , ومن تخلف فـ نارُ الأستاذ مثواه – وقليلٌ ما هم - , من غير العادةِ أن أتخلّفَ عن إحضار الواجب , ومن العادةِ أني دائمُ المشاركةِ , والأستاذ بنفسه يعلمُ أنني متفوقٌ في دراستي , ولطالما امتدحني أمام زملائي!
هذه المرةُ خالفتُ التوقعات , ولم أحضر الواجب , في الحقيقة لا أدري لمَ ؟!
هل كان كسلاً أو نسياناً ..؟ الله أعلم , ولعل الثانيةُ أرجح..
طلب الأستاذُ ممن تخلف عن أداء الواجب الوقوف , لم يقف أحد !. ستركَ اللهم !. قولوا غير هذا أيها القوم !(1/40)
لا مناص , سأكون يتيماً هذا اليوم , لم أذق طعم اليُتمِ قطّ , ما أصعبَ اليُتمَ في مثل هذه المواقف..
وقفتُ ثقيلاً , كأن الدنيا بأسرها تتكئ على رأسي . ما أصعبه من موقف , وما أتعسها من لحظات.
حدّق فيّ الأستاذُ المبجلُ, ثم ابتسم ابتسامةً صفراء, حتى غدوتُ أرى أمامي ثعلباً في ثوبِ إنسان, وكأنه ينتظرُ هذه اللحظة من قديم, استلّ عصاه من بين أكوام الورق, وتقدّم نحوي, في منظرٍ رهيبٍ مهيب, لم يكن يدور في أخلاد الطلاب أن مثل هذا سيحصل في يومٍ ما !
وبدون سابقِ تحقيق ولا مساءلة, أمرني – والأمر نافذ – أن أفتح يدي, طلبتُ منه التريّثَ والصبر, لعل وعسى ... لكنّ, نعم كانت لكنّ هي سيدة الموقف, وفصْلَ القضاء, عندما قال الأستاذ وهو يبتسم : ... لكن خطأ الشاطر بعشرة!
ما أقبحها !! ما أشرسها !!
حاولتُ معه, وتراجعتُ أنا وإياه في الكلام, لكنه بدا مصرّاً على موقفه, فلم أجد بُدّاً من الاستسلام, ولأنني لا أفقه أحكام وفنون التعامل مع الضرب بالسياط, كما هو حال من بلغ رتبةَ الاجتهاد من الطلابِ الكسالى فإنني فتحتُ كلتا يداي, فغدوتُ أشبهَ بعصفورٍ صغيرٍ يحاول التحليق دونما فائدة بينما أصبحَ المنظرُ مغرياً لهذا الثعلب , فهوى بكل شراسةٍ على جناحي العصفور الوديع , والعصفور لا يلوي على شيء .. والله يتولاه !
مما سبق, كانت هذه القاعدة مجال نقدٍ لذلك الفتى الصغير, إلى أن صلُبَ عوده, واتسعت مداركه , واستنار عقله , حينها أدرك أنها قاعدةٌ كاذبةٌ خاطئة , كيف لا ؟ وقد قرأ في السيَر ما يناقضها ويخالفها .. إنها فطرةُ الصغير ..
أما التنظير التربوي لهذه القاعدة فإنني أقول : لستُ أشكُّ طرفةَ عين في أن هذه القاعدة خطأٌ تربوي قاتل , وآثارها تُذكرُ فلا تُحمدُ ولا تُشكر , ولو لم يكُن من آثارها إلا أن المتفوق أو المتميز أو المُحسن عند إنزالها عليه سيكره ما هو عليه من التفوق أو التميز أو الإحسان , لكفى بها مثلباً , وكفى بها منقصة.(1/41)
إن الدليل من الكتابِ والسنةِ والفطرة , يرفضُ رفضاً قاطعاً أن يُعامَلَ المُحسنُ عند إساءته , كمعاملتنا لمستوي الحال عند إساءته , فإن هذا من أعظم الظلمِ وأفجعه , فالله عز وجل قد قال في محكم كتابه : (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) أي : من طريق بالعقوبة, قاله البغوي. قال القرطبي : هذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن . انتهى منه
أما من السنة فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما ردّ رأي عمر -رضي الله عنه في قتلِ حاطب بن أبي بلتعة, أردف ذلك بقوله معللاً سبب ردّه له: (وما يدريك يا عمر؟ لعل الله اطلع على أهل بدرٍ، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم)
فبيّن -عليه الصلاةُ والسلام- أن السابقة محفوظة, والزلل جزاؤه التجاوز والإحسان, وأنعم به من مربٍ -صلوات ربي وسلامه عليه -, وكذا قوله -عليه الصلاةُ والسلام- في الحديث الذي صححه الألباني, عن عائشة : (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود), والمراد بذوي الهيئات هم الذين لا يُعرفون بالشرّ والانهماك بالمعاصي -على خلاف بين أهل العلم-
ما مضى يجعلني أضرب بهذه القاعدة عرْضَ الحائط - ولا كرامة - غفر الله لك يا أستاذ حمد..
استدراكاً على ما مضى, فإن هذه القاعدة قد تكون صائبةً من حيث استهجان خطأ المحسن المخطئ لينتبه, بمعنى: إن أخطأ المحسن فلا مانع أن نستعظم منه الخطأ بحسب حجم الخطأ الذي صدر منه, ومنه قول عمر: (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة), وهذا لا إشكال فيه, ويعلم أن له مقداراً من المفترض أن يحفظه من الخطأ ويحافظ عليه ما استطاع إلى ذلك سبيلا, ولكن ما يُردّ من القاعدة هو إيقاع العقوبة على المحسن الذي أخطأ, والدليل الشرعي واضحٌ صريحٌ كما أسلفت.
(اللوحة الخامسة عشرة)
العقوبات الشبابية في الرحلات والمخيمات - نظرةٌ شرعيّة .. ولفتةٌ تربويّة
توطئة:(1/42)
(تُقيم المحاضن التربوية - ممثلةً بالحلقات والمكتبات – رحلات ومخيمات تجمعُ بين الفائدةِ والمتعة, وحتى يستقيم عمود الرحلة , ويتلألأ نجمها , لا بدّ من إرساء النظام وإحلاله, وإلا يفعلوه .. تكن الرحلة كومةً من التسيّبِ والفوضى, لا يتأتى معها أي فائدة , ولا يُجنى منها أي متعة , حيثُ يعمَدُ الأمير إلى توكيلِ أمر النظام إلى لجنةٍ تُقيمُ أوده – و في الغالب هي اللجنة الرياضية – فتعملُ على إقامةِ النظام ومتابعةِ المخالفين وإيقاع العقوبةِ عليهم)
نظرة شرعية:
قال الشيخ فهد العماري في كتابه النافع الماتع الجامع المانع (المختصر في أحكام السفر) :
]هل له – أي الأمير - أن يؤدب من خالف أمره في ما يتعلق بأمر السفر؟
أطلت بحثا في هذه المسألة فلم أجد من ذكرها , والتأديب نوعان:
1- بالقول: وهذا الأمر فيه مصلحة وسعة لكي ينتظم أمر السفر، ويدخل في عموم النصح والتوجيه والاحتساب، قال شيخ الإسلام: (وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
2- بالفعل : كالضرب وتكليفه ببعض الأعمال وغيرها: ذهب بعض المشايخ إلى أنه ليس له ذلك لأن التعزير والتأديب مرتبط بالإمام ومن ينيبه إلا إذا كان الأمير في السفر أباً أو معلماً فله ذلك من باب، أن للأب والمعلم تأديب من تحت يدهم وقد وجدت بعض من يكون أميراً في السفر يبالغ في تأديب من خالف أمره وهذا أمر مشكل جداً قد يؤدي إلى الضرر بالمربي وتنفيره من محاضن التربية والعلم، وقال بعضهم يجوز التأديب بالمعروف وفي حدود المعقول والمعتاد وهذا ليس من باب الحكم وإنما من باب التأديب والتربية، وحكى الماوردي خلافاً في أمير الحج الذي قال فيه: وهو أحد الرعايا وليس من الولاة إن فعل أحد الحجيج ما يقتضي تعزيراً فإن كان مما لا يتعلق بالحج فليس له ذلك وإن كان مما يتعلق بالحج فله تعزيره زجراً وتأديباً..(1/43)
وإمامة الحج في أيام الحج فقط قال هي ولاية بمنزلة الإمام في إقامة الصلوات أهـ. ويخرج على كلامه ولاية السفر والمسألة تحتاج مزيد بحث وتحرير والله أعلم وأحكم ] انتهى منه.
وأحبُّ أن أضيف قائلاً : قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ) [ النساء : 59 [
سبب نزول هذه الآية كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وهذه رواية الشيخين البخاري ومسلم: نزلت في عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، فقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية فلما خرجوا وجد عليهم في شيء، فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطباً، فلما جمعوا الحطب دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها ، فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فلا تعجلوا حتى تلقوه، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم: (لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف).
ولاشك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يُنكر مبدأ العقاب, إنما أنكر نوعَ العقاب والذي هو التحريق بالنار , إذ لو كان مبدأ العقابِ محرّماً لأنكره – عليه الصلاة والسلام – بلفظٍ ظاهر, وهو النبي العربيّ الذي أوتي جوامع الكلم.
قال الفقيه ابن عثيمين في شرحه الممتع تحت باب التعزير ما نصه: [قوله: «وَهُوَ وَاجِبٌ» هذا حكم التأديب، فهو واجب على من له حقُّ التأديب، فقد يكون على الإمام، أو نائبه، أو الحاكم، أو الأب، أو الأم، أو ما أشبه ذلك، فكل من له حق التأديب فالتعزير واجب عليه ] انتهى محل المقصد منه.(1/44)
أقول: قوله: [أو ما أشبه ذلك] يدخلُ فيه –ولابد – أمير السفرِ, وأمير الرحلةِ , وأمير المخيّم ؛ لأنهم شبيهون بالإمام.
ومما مضى يتبيّن لنا مشروعية العقوبات التي يقومُ بها الأمير أو من يُنيبه الأمير في الرحلات والمخيمات الشبابية, وهذه ليست فتوى إنما خُلاصةُ بحثٍ مقتضب, يحتمل الصواب والخطأ , والعلم عند الله.
لفتةٌ تربويّة:
عجيبٌ أن يصِلَ حالُ بعضِ المربين إلى جعلِ العقوبةِ فُرصةً للتشفّي أو التندر أو إضحاك الآخرين على الشاب المُعاقب, وما علموا أن هذا من أعظم التنفير من الخير وأهله , ولا أظن إلا أنهم ممن يبوء بإثمه إن ترك مجامع الخير بسبب ذلك.
إن الواجب أن تكون العقوبة في الرحلات والمخيمات الشبابية وسيلة تربية, إما بغرس سلوك حميد, أو بانتزاع عادةٍ قبيحة, ولا يتأتى ذلك إلا عندما ننظرُ إلى العقوبةِ على أنها وسيلة ننتقلُ بها من حالٍ إلى حال, ومن سلوك إلى سلوك , لا على أنها غايةٌ نسعى إليها من أجل إشقاء المُعاقبين , أو إضحاك إخوانهم عليهم , وأقفُ معكم على مجموعةٍ من الاقتراحات والأفكار والسلوكيات في التعامل مع العقاب والمُعاقبين حتى نخرج بعقوبةٍ تربوية هادفة:
1- إحياء التغافل وعدم القعود للطلاب كلّ مرصد , ولا تكن ممن لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا عاقبَ عليها.
2- تجاوَز عمن عُرِفَ بالإحسان وقلّة الخطأ, وبيّن للطلاب سبب التجاوز عنه, إلا إن خفتَ التُهمة فأرجئ هذا الصفح إلى وقتٍ آخر.
3- الحذر كل الحذر من الظلم, فإن عاقبته وخيمة, وإذا أتاك أحدهم فحلفَ أيماناً مغلظةً أنه ما فعلَ كذا ولا فعل كذا -مما يستحق به العقوبة - وأن في الأمرِ لبس, فتجاوز عنه وأقل عثرته وكِل أمره إلى الله.
4- أثناء العقوبة لا ترفع صوتك, ولا تقطّب جبينك, ولا تعبس وجهك, فقط أشعرهم أن الأمر طبعيّ, وأنه إجراءٌ مُعتاد للتذكير بأهمية النظام.(1/45)
5- لا تُحمّل المُعاقبين ما لا طاقةَ لهم به , فإنها إنما شُرعتْ – أي العقوبة - للتأديب لا للتعذيب , وخيرُ الأمور الوسط , بعيداً عن الشدة المفرطة , والتهاون المسفّ الذي يؤدي إلى انفلات النظام.
6- شارك المُعاقبين عقوبتهم حتى تغرس فيهم أن العقوبة ليست مجرد عقوبة فحسب, إنما هي وسيلةٌ لغرسِ سلوكٍ قويم, ولسان حالك (لولا أنها كذلك لما شاركتكم), فمثلاً إن كانت العقوبة تنظيف المطبخ فكن في المقدمة, أو ترتيب المخيم فساهم معهم, بل حتى لو كانت العقوبةُ تمارين شاقّة فشاركهم هذه التمارين وبالمناسبة فإن تصرّفك معهم بهذه الطريقة سيصيبهم بالحرج.
7- بعد إحلال العقوبة على الطالب, أو عند انتهاء الرحلة أو المخيم, بادر بتقديم الاعتذار لكل من عاقبته , مع التوضيح بأن الهدف ليس هو العقاب المحض , إنما الهدف حفظ النظام والبعد كل البعد عن الانفلات والتسيّب , وإذا كان الاعتذار شخصياً فإنه سيكون أشد وقعاً في النفس من الاعتذار العام.
8- عاقِبْ بِحُبّ .. تُحَبّ.
(اللوحة السادسةَ عشرة)
(المشرفُ المُبارك) أو (وجعلني مباركاً أينما كنت)
يقول ابن القيم – رحمه الله - : (فإن النافع هو المبارك وأنفع الأشياء أبركها ، والمبارك من الناس أينما كان , هو الذي يُنتفع به حيث حلَّ).
لا تكاد تقفُ على منشطٍ دعوي إلا وأفراده متفاوتون في نشاطهم, مختلفون في أدائهم, منهم السبّاقُ السابق, ومنهم المقتصدُ المجتهد, ومنهم العالةُ الذي لا يسمن ولا يغني من جوع, بل وجوده يزيد الطين بلّة.
ولا أبهى, ولا أجمل, ولا أكثر وقعاً في القلب من أن تكون رجلاً مباركاً أينما حللت نفعت وأفدت, وفي المقابل .. لا أسوأ ولا أتعس من أن تكون رجلاً خامل الهمّة, قعيد العزم, تحُلُّ فلا تنفع, وتُقصَدُ فلا تشفع, وتبتعدُ فلا يبقى لك ذكر, وتمحل فلا تنهضُ ألسنٌ بالدعاء لك , حقّاً إنه لخُسرانٌ مبين.. !(1/46)
ومُصطلحُ البرَكة في المناشط الدعويةِ مُصطلحٌ كبيرٌ وفضفاض, مِن الصعبِ حصرُه في تعريفٍ معيّن, أو في عملٍ معيّن , غير أن ابن القيم – نوّر الله ضريحه – قد كفانا المؤونة , فأوجز التعريف , وأوضح العبارة , وأظهر الخفيّ , وكشف الغامض, وعليه فإن المُشرفَ المبارك هو الذي أينما حلّ نفع..
في منزله .. في سيارته .. في حلقته .. في علاقاته .. في أعمال لجنته .. كذلك في بيوت طلابه .. وعند أقاربهم .. !!
عجبي لا ينفدُ ولا ينقضي من أمر أولئك المباركين, ترى أحدهم يعملُ في كل اتجاه, ويبذلُ نفسه في كل المناحي, لا يتأفف ولا يتضجر, ويختم ما أنجزه بابتسامة هادئة. ثم يقول: (كنتُ أريده بشكلٍ أفضل), لا يرضى عما قدّم أبداً, وهذا سرٌّ بديعٌ أودعه الله فيه؛ لأنه لو رضيَ بما قدم لما أخاله يبذلُ المزيد, فما دام يقلل من إنجازاته فسيستمر في العمل حتى يرضى عن نفسه و لن يرضَ.
وهذا هو حالُ المُشرفِ المبارك في منشطه ومع طلابه, له في الحلقةِ بصمةٌ واضحة إما بتشجيع الطلاب وتحفيزهم, وإما بتوجيههم حال تقصيرهم , وإما بتصحيح قراءتهم – إن كان ممن يباشر التسميع بنفسه - ..
وله مع طلابه ومريديه وقفاتٌ مباركة, يريد بها وجه ربه, لا يرجو منهم جزاءً ولا شكورا, تراه إما ناصحاً أو موجهاً أو واعظاً أو مُلقياً أو قاصّاً, إن رأى الجُنحَة وعظ, أو رأى الصوابَ حفّز, أو رأى الملل عمَّ استلَ ذاكرته وشرعَ يقص القصص , إن غاب أحدهم سأل عنه أو مرض عاده , أو أتى أحدهم ما يسرّه شاركه الفرحة , أو أتاه ما يحزنه واساه، يواسيه بنفسه .. بكلامه .. بدعائه .. بماله .. بكل ما يستطيع لأنه رجلٌ مبارك..
أما مع أهل طلاّبِه وأقاربهم فعالمٌ آخر لا تسل عنه ! ..(1/47)
فالأب يستقبلُ رسائله بين الفينة والأخرى, ما بين وعظية, وعلمية, وتذكيرية, ولا ينسى أبداً تهنئته للأب بالعيد, أو بالمنزلِ الجديد, أو حتى بالمولود الذي لتوّه خرج للدنيا, وبقيّة الأهل من الأم والأبناء يستقبلون النشرات والمطويات والكتيبات والأشرطة التي يبعثها حيناً بعد حين, ينتقي لهم منها ما يناسب, كلٌ بحسبه, قد ذيّلَ عليها اسمه بعبارات تناسب المقام, وتحفظُ له المكانة..
أما الصغار من أقاربِ طلابه .. فهنا المحك , هنا يتقنُ لعبته, ويعرفُ من أين تؤكل الكتف, فهم الأرضُ الخصبة التي تنتظر بذرةً وغيثا , إن رآهم استقبلهم في الأحضان, وداعبهم بعبارات لطيفةٍ خفيفة , تحبب لهم أهل الخير , وتجعلهم يؤمنون بأن مثل هذا هو المبتغى, يُرسل لهم مع أخيهم أو قريبهم قطع الحلوى , ولا مانع من هديّةٍ صغيرةٍ تُناسِبُ حالهم ..
إن من أعظم ما ستكسبه إن سرتَ بهذه السيرة شيئان:
1- الدعاء الصادق.
2- الثناء العاطر.
فـ كُن مباركاً .. أينما وقعتَ نفعتَ .
(اللوحة السابعةَ عشرة)
نحنُ والقرآن
مِن الإسفاف أن نتقنّع بِقناعِ المدلجين, ونتزيّا بزيِّ الوعّاظِ والمصلحين, ونكلل ذلك بالتعمم بعمائم العلماء والصالحين, ونحنُ – بعد ذلك - أبعدَ ما نكون – وللأسفِ – عن كتاب الله , حفظاً وفهماً وتدبّراً ..
دعني قبل أن أتكلم عن هذا الموضوع المهم, أن أتحفك بما أقتنعُ بهِ, فإن وافقتني فلكَ أن تُكمل, وإلا فأنت مُخيّرٌ بين الإقدام والإحجام..
لستُ بوّاحاً بسرٍّ إن قلتُ لك – أخي المبارك – إنني مقتنعٌ تمام القناعةِ أنه لا يلزمُ كلَّ أفرادَ الحلقةِ أن يكونوا من حفظةِ كتاب الله, لأني أعلم علم اليقين, أن الله – عز و جل – كما قسّم الأرزاق والمعايش فقد قسّم العقولَ والفهومَ والقدرات, فمن الحماقة – والحال ما ذكرت – أن أُلزمَ من لا طاقةَ له , بشيءٍ لا قِبَلَ لهُ به.(1/48)
كذلك. فإنه من المسلّماتِ لديَّ أنَّ على كلِّ صاحبِ همّةٍ أن يبذل جهده وطاقته ليحفظ كتابَ اللهِ في صدره, وليُرخص الغالي في سبيل تحقيق ذلك, فإن بلغ القمّةَ فلله الفضل والمنّة, وإن لم يصل فإن النيّةَ والمشقّة تبلّغانه -بحولِ الله وقوته-
وأختمُ قناعاتي بأنه من الواجبات المحتمّات على من أولاه الله أمر الحلقات والمكتبات أن لا يُغفِلَ هذا الجانب, وأن يجعله نصبَ عينيه, فإن التقصير فيه خللٌ لا يستقيمُ عوده, إذ هو منبعُ التربية الذي لا ينضب, وناموسها الذي لا يُخطئ ولا يكذب , فإن أهمله أهل التربية والشأن , فهنيئاً لهم بجيلٍ متخلخلٍ متذبذبٍ بيّن الهُزال .. وقد أعذر من أنذر..
أما كيفَ نرتقي بمستوى الشباب, وكيف نرفعهم حتى يستقروا على السنام .. فالكلام يطول, والمساحةُ قد تفي .. لكن حسبي أن أنقل لكم بعضَ الوقفات في ذلك, علَّ الله يطرحُ فيها البَرَكة..
(هدفي في الوقفات هم شباب المكتبات)
الوقفةُ الأولى: على المُشرِف المسؤول عن اللجنةِ أن يكون قدوةً في هذا المجال, كأن يكون حافظاً لكتاب الله, فإن كان متقناً فهو أفضل, وإن كان مُجازاً فهو أكمل, وليقرأ ما حفظه على أحد الطلاب حيناً بعد حين, سواء في المسجد - إن تيسر – أو في السيارة , بل حتى في الأسفار إلى مكة والمدينة و غيرها, فوجود القدوة من أعظم الوسائل إلى هذه الغاية العظيمة , وبذلك تغرسُ في الطالب أهميّة هذا القرآن العظيم. للأسف لم نعد نرى المشرفَ الذي يقرأ محفوظه على طالبٍ من الطلاب, لو أدركنا عظمةَ هذا الصنيع لفعلناه ... فأين المدركون !؟(1/49)
جاء بعض الموالي إلى الحسن البصري فأرادوا منه خطبةً عن فضل العتق, لعل بها زوال رقّهم, فوعدهم خيراً, فلما حضرتِ الجمعة خَطبَ عن أمرٍ غيرَ الذي أرادوا , فجاءوا إليه فسألوه مرةً أخرى فوعدهم في الجمعة الأخرى, فلما حضرتِ الجمعة خطَبَ الحسنُ البصريُّ عن فضل العتق فلما قُضيَت الخطبةُ, حضر الموالي إلى الحسن فسألوه عن سببِ تأخيره للخطبة إلى الجمعةِ الثانية , فقال هذا الإمام : إنني كنتُ أبحثُ عن رقيقٍ لأشتريهم فأعتقهم..
الوقفةُ الثانية: من العيْبِ أن نظن – ولو قليلاً – أن متابعةَ الشباب في حفظ هذا القرآن العظيم أمرٌ تختصُّ به لجنة القرآن فحسب, بل هو مهمة الجميع, لأنه أعظم مطلوب, وأشهى مرغوب, الجميعُ يعملُ على تشجيع الطلاب وتوجيههم وإعانتهم , شريطةَ ألا يكونَ هناك تقاطعٌ وتضاربٌ في الآراء فيتشتت الطالب وينتهي أمره إلى لا شيء , ولن يحصل هذا التضارب ما دام الإخوة المشرفون قد جعلوا مشرفَ اللجنةِ مرجعيّةً لهم, وهذا الأمر – أي اهتمام المشرفين بحفظ الطلاب- يُشعِر جميعَ الأفراد بأهمية هذا الكتاب , فإذا داخَلَهم هذا الشعور , علتْ همتهم , وتأجج حماسهم..
الوقفة الثالثة: علينا أن نضيّقَ دائرة التركيز على النجباء من الطلاب, وأن نضعهم نصب أعيننا, ونشدَّ من أزرهم, من الخطأ أن نساويهم بغيرهم, أقصدُ في التحفيز والتشجيع والمتابعة, لأنهم يملكون من المقومات ما لا يملكُ غيرهم, وهم الأرضُ التي ستُعشب, فقط تنتظر البذر والماء, إن كان في محضنك عشرونَ طالباً فلن تُعدَمَ خمسةً من النجباء, وإذا خرج من هذا المحضن خمسةُ طلابٍ كلهم من حفظةِ كتاب اللهِ, المتقنين له, فنعمت النتيجة والعاقبة, وأبشر بأجر عظيم !!
الوقفةُ الرابعة: أعمِل الجوائز الدورية للمتميزين بين الفينةِ والأخرى, ولا بد من إصدار تقرير أسبوعي يبيّنُ مستوى كلِّ طالب, وهو من باب إلهاب المنافسة, أما أن تبقى المتابعةُ شكليةً فحسب .. فلا فائدة إذ ذاك..(1/50)
الوقفةُ الخامسة: عندما يختمُ أحدهم فلا مانع من إقامةِ احتفالٍ بهذه المناسبة -ولو كان الاحتفال شيئاً لا يُذكر- يُدعى إليه والدهُ وإخوته, فعن طريقِ التجربةِ, أدركتُ أن الاحتفاء والاحتفال والابتهاج بالخاتمين من أعظم المحفزات في حذوِ الطلاّبِ حذوهم, ولا يمنعُ –أيضاً– من جمْع مبلغٍ من بقيّةِ الطلاب بشكلٍ عفوي – على سبيل التخيير – ثم يُبتاعُ بها هديةً للخاتم, وإن كان بالإمكان هديةً لوالده ووالدته كان بها حتى تعمّ بركة القرآن وبركة حافظه فتصلَ إلى الوالدين.
الوقفة السادسة: لا بد من الرجوع إلى أهل الشأن من القراء والحُفّاظ, واستشارتهم في أوضاع الطلاب , وعن أفضل طريقةِ للحفظ وتثبيت المحفوظ. وإن استُعين بمقرئٍ يسمعُ من النجباء حفظهم فهو أولى.
الوقفةُ السابعة: من خلالِ تجرُبةٍ قليلة, أرى أن من الأفضل أن يكون التسميع للطلاب من قِبلِ المشرفين, وذلك ليقفَ المشرفُ على مستويات طلابه ويعرف مكامن الخلل, وأسباب القصور, والحذر الحذر من توكيلِ الأمرِ إلى مشرفٍ لا يملك أدنى مقوّماتِ الإقراء والسماع, فقد أدركتُ عدداً منهم لا يفتحون على الطلابِ أخطاءهم, أقصدُ الأخطاء في الحركات والنطق, بل -والله- أدركتُ من يفتحُ على الطلاب خطئاً, وهذا والله مما يُخجَلُ منه, لا أقول إن الواجبَ على كل مشرفٍ أن يكونَ حافظاً متقناً, بل أقل القليل أن يعرفَ نطق الكلمات, فإن كان متعثراً في ذلك فليتنحَ فإنما هي أمانة, وأمثالُ هذا يتحتم عليهم أن يقرءوا القرآن تلاوةً على من يعرفُ أحكامه حتى تستقيم ألسنتهم, ويرتفع جهلهم.
الوقفة الثامنة: رأيي أن يُستعانَ بمقرئٍ يسمعُ من النجباء حفظهم, ويتابع ضبطهم, يقوّمُ ألسنتهم, ويعلّمهم أحكام التلاوة, يرتبطون به, و يسألونه عما أشكل, أما إن توفرت هذه الصفات في أحد الإخوة المشرفين فكفى به.(1/51)
الوقفةُ التاسعة: تذكير الطالب بين الحين والحين بفضْلِ حفظ القرآن, وعظيمِ أجره, وليكن هذا التذكير بشكلٍ عفويٍ آناً, وبشكلٍ معدٍّ له في آنٍ آخر, سواء برسالةِ جوال أو رسالةٍ ورقية, أو موضوعٍ ثقافي, أو شريطٍ تُهديه، وما إلى ذلك, ولا تُكثِر عليه حتى لا يولدَ الملل, وحتى لا تنبعثَ السآمة.
معذرةً أيها الإخوة على الوقفاتِ التي أتت مبعثرةً وبشكلٍ عفوي, فإنني من النادر أن أراجع المقالة بعد كتابتها, وهذا عيْبٌ لم أطق تغييره ..قد أضطر لإدراج بعض الوقفات قبل الولوج في اللوحة القادمة.
(اللوحة الثامنة عشرة)
شروخٌ في صرحِ التربية (2)
5- أتذكّر قديماً أنه عندما يتم استبعاد طالبٍ من المحضن, إما لسوءٍ في دينه, أو في خُلُقه, أو لأي أمرٍ آخر, فإن التوصيات تنهال علينا من كلّ جانب, وتتدفق من كلّ صوب, بضرورةِ مقاطعة هذا العضو المبتور, وعدم مجالسته بل والتقليل من شأنه وأهميته, وما هكذا – والله – ربانا الإسلام, كنتُ أكرهُ مثل هذا التصرف, ولم أكن أقوى على مجابهةِ المشرفين بالاعتراض على مثل هذا, إلى أن أصبحتُ في ركاب الإشراف , فثُرتُ على هذا الهراء.
ما الذي يمنع – أحبتي – أن أجعل طلابي يتواصلون مع العضو المبتور, لعل الله أن يكتب على يدِ أحدهم هدايته وأوبته, سواءً كان ذلك باتصال أو رسالة أو حتى زيارة, إن هذا التصرّفَ يربّي في الأفراد حبّ الخير للغير, وينمّي فيهم جانب الدعوةِ الفردية , التي لا يتقنها كثيرٌ من شباب الدعوة , فهاهي الفرصةُ سانحة , فلمَ التفريط ..؟
نعم .. هناك حالات يتحتم علينا فيها أن نمنع عضو المحضن أن يتواصل مع العضو المبتور , كأن يكون المبتورُ ذا ضررٍ متعدٍّ, أو أن يكون ممن يُفسد بنقلِ الكلام والتحريش بين الإخوة فمثل هذا لا مرحباً به , والله يتولاه.
أما من فساده على نفسه .. فهو قابلٌ للعلاجِ , لكن ربما لم يجدِ الطبيب , وما يدريك .. لعل الطبيب تلميذك..!(1/52)
6- التفوّقُ في التحصيل الدراسي الأكاديمي لونٌ من ألوان التفوّق في الحياة, ومن الملفتِ لي أني عهدتُ أكثرَ شباب المكتبات من المتفوقين في الدراسةِ, لكني لمستُ إهمالاً واضحاً مِن قِبلِ مُشرفي هذه المحاضن لهذا الأمر, الضعيف المهمل لا يجدُ من يسنده, والمتفوق المجتهد لا يجد من يحفزه ويشجعه, وأقل القليل أن نكرّم المتفوقين نهاية كل فصل من باب المؤازرة, ولا تسل عن فرحةِ الأهل حينذاك, إذ يجدون من يشجّع ابنهم على تفوقه, خصوصاً إذا علمتَ أن عدداً من الأهالي يرفضون انخراط ابنهم في هذه النشاطات خوفاً عليه من تضييع دراسته, أضف إلى ذلك فإن هؤلاء الفتية هم صناع القرار في الغد فما أجمل أن يصنع القرار شابٌّ عرف الله.
من المبهج – و الله – أن أرى شباب الحلق و المكتبات في طليعة المتفوقين دراسياً , عملتُ في عدد من المحاضن , لا أتذكر أن نسبة عدد المتفوقين قلّت عن 75% , غالبية الطلاب متفوقون .. ما أجمل هذا !
7- الفِصامُ النكد.. الذي تعيشهُ بعضُ الحِلقِ والمكتبات أمرٌ لا يسرّ, تجدهم في منتهى العناية بأفرادهم في محضنهم الصغير, أما في المحضن الكبير (المدرسة ) تعجبُ منهم, وقد تركوا الحبل على الغارب, وأسلموا الضحيّة للجلاّد, فهم يبنون من هُنا وغيرهم يهدمُ من هناك, كثيرٌ من الشباب حاد عن الطريق بسبب ذلك, لا يجد من يحتويه في المدرسة, فهو يفقد اليد الحانية التي تُرَبِّت على كتفه عصر كل يوم, تراه يمشي كالحمل الوديع في الأرض المسبعة, من المهم الحتمي أن نجدَ لهؤلاء من يرعاهم و يحفظهم, كجماعات النشاط المدرسي – إن كانت لا زالت -, وإلا فصحبةٌ طيبة تحثه على الخير ينخرطُ معها مفيدا ومستفيدا ولا أجد ما يمنع من تواصل مشرفي المحضن مع من يثقون به من الأساتذة لحفظ هؤلاء الشباب, بعيداً عن التلصص والتجسس المنهي عنه.(1/53)
8- التواصل السلبي .. أقصد .. أن عدداً من الأحبةِ المشرفين يرفضون رفضاً قاطعاً أن يتدخل الطالب في شؤون الحلقة , بل كنا نعدها من الكبائر التي لا تُغتفر , ولا أدري مالسرّ ..؟
بعضُ المشرفين يظن أن في ذلك تجاوزٌ للخطوط الحمراء وانقضاضٌ على صلاحياتٍ لم تُخلق للطالب, وبعضهم يرى أنها من تفيهق الطالب ومن فضول كلامه الذي يستعرض به عقله , وبعضهم يحقّر رأي الطالب وإن لم يسمعه؛ لأن الطالب لا زال صغيراً على مثل هذه الأمور..
عشنا شيئاً من تلك الحياة, وأدركنا أن بعض الطلبة يملك عقلاً جباراً, وأفكاراً مهولة, بل إن بعضَ من عرفناه ممن شاركناه عقله خرجنا منه بنفائس الأفكار, وثمين المقترحات, فاسمع من تلميذك .. فلا ضير إن لم تخرج منه بشيء, يكفيه منك أن أعطيته ثقتك , وعززت ثقته ..
(اللوحة التاسعة عشرة)
إليكم أبعثها .. أهيل الشباب
خواطر لمن كان ابنهـ/ـا أو أخوهـ/ـا مع الحلقات والمكتبات
*ملحظ: كتبتها إلى الأم ؛ لأنها أحنُّ على الولد , وأشد حرصاً عليه !
* مسارب:
1- اعلمي – أمي الحبيبة – أن من أعظم نعمِ الله عليكِ أن منّ الله عليك بابن سلك طريق الهداية, وانخرط مع هؤلاء الفتية الأطهار, الذين يرشدونه إن أخطأ, وينصحونه إن زلّ, ويقيلونه إن عثر, تأملي في حال ابن أختك أو ابن أخيك الذي ملأ حياته بالقيل والقال, وصار عاراً على أبيه وأمه, لا يعرفُ الصلاة مع جماعة المسلمين, ولا يحفظ لسانه من السباب والشتائم - كلما طلبتْ منه أمه أن يؤدي غرضاً لها ألحقها بالتأفف والتذمر والتضجر والعياذ بالله .. فاحمدي الله, فإن نعمة الهداية أعظم نعمة, ولو لم يكن من الحلقة إلا أنها تحفظ فلذة كبدك من مزالق السوء وأهله , كأصحاب التدخين والمخدرات والمسكرات والفواحش والشذوذ لكفى بها نعمة ومنّة.
تأملي – أماه – هذا المشهد ..(1/54)
كنتُ معهم, وبعد الصلاةِ قام أحد الطلاب ليلقيَ كلمةً يُذكّر بها الناسي, وينبّه الغافل, كانت الكلمةُ مؤثرةً , أحدهم كان على مرمى البصر, لقد رأيت الجُمان يتحدّر من عينيه , فلما انقضت الكلمة , مسح وجهه بغترته وطرفِ أكمامه , ثم قام ليؤدي السنة الراتبة , وكأن شيئاً لم يكن !..
والله لقد رأيته بأمّ عيني يا أماه, قد تستغربين إن قلتُ لكِ إنهما – الملقي والباكي – كانا في الصف الأول الثانوي , أعتقد أن لو كان الأمر بيدكِ لاشتريتِ هذه اللحظات لابنك بكنوز الدنيا .. ولن تفي , فكيف وقد ساقها الله إليكِ ..؟
2- أمي الحبيبة.. ثقي تمام الثقة أن مشرفي الحلق والمكتبات يربّون ابنك على السماع لك وطاعتك والائتمار بأمرك والانتهاء عند نهيك, وإذا تعارض برنامج الحلقة مع أدنى حاجاتك فإنهم يُلزمون ابنك بالانصياعِ لك, هكذا ربّونا وهكذا نربيهم, واعلمي – أماه– إن حصل من ابنك خلاف ذلك فهم من هذا التصرف بريئون, لا يقرّون به ولا يرضونه – علم الله-, فلعلها سقطةٌ من ابنك – حرسه الله -, فاسألي لابنك الهداية في كل حال وعلى كل حال, وهذا الكلام ينسحبُ على أي تقصيرٍ من طرفه في حق الله عز وجل, كالصلاة في وقتها, والصلاة مع جماعة المسلمين, وكذا ما يحصل منه من جنوح عن الحق , وميلٍ إلى سبيل الشيطان , كلُّ هذا لا نرضاه ولا نقرّهُ , ننهاه عنه ولا نأمره به.(1/55)
3- أمي الحبيبة .. قد أُغرِبُ شيئاً ما, إن قلت لكِ إنني أتمنى أن لو شاركتِنا أسبوعاً واحداً, لتعرفي أن ابنك يعيشُ في جنّةِ الدنيا, لا لا .. لستُ مبالغاً, إنني في مقامٍ لا يسمحُ لي بذلك, فأنا ناقلُ صورة ويلزمني الحياد ولا بد.. أمعني النظر وتأملي – يا رعاك الله -, في يوم السبت يلتحقُ ابنك بالدرس العلمي ثانياً ركبتيه عند أحد العلماء أو طلبة العلم الكبار .. ويا له من مشهدٍ وهو يقتنصُ الفوائد ويقيّدها بقلمه, وفي يوم الأحد يحلُّ ضيفاً على بيت أحد إخوته من الطلاب هو وبقية أفراد الحلقة يعرفُ من خلال هذه الزيارة كيف يكون ضيفاً لبِقاً, أما في يوم الاثنين فهو صائم اقتداءً بمحمدٍ – عليه الصلاة والسلام – قد أحضر إفطاره معه , وقبيل الأذان بثوانٍ معدودة يتمتم بكلماتٍ غير واضحة المخارج .. ليُفهم من ذلك المشهد أنه يدعو في ساعةِ إجابة , وحوله إخوانه يشاركونه الدعاء , وفي يوم الثلاثاء يكون موعده مع دورةٍ تطويرية ترتقي بذاته, فطالب الحلقةِ يسعى للكمال ولا بد .. ويوم الخميس له موعدٌ مع رحلةٍ يستجمّ بها, لينطلق من جديد في ركابِ أهل العزيمةِ والجد, أما إخوانه من الطلابِ , فمستقلٌّ ومستكثر , منهم من يفوق ومنهم من يُفاق ..
أما أحدهم فقد نام متأخراً في بيت أبيه وفي يده سماعة الهاتف .. أتدرينَ لمَ ..؟(1/56)
لأنه لم يرتضِ المقدار الذي يسمعه في الحلقةِ فأراد الزيادة فلم يجد أفضل من التسميع بالهاتف على مشرفه, غير أنه غُلبَ هذه المرة, والنومُ غلاّب, فتأملي المشهد – أماه - .. أما الثاني فما ترك صيام الاثنين أبدا, فإن لم يكن له وجود على سفرة الطعام, فلا نشك أنه معتذرٌ لم يحضر هذا اليوم .. وعندما تسأليني عن الثالث فثقي أنه شُعلةُ مسجد الحيِّ في رمضان وفي غير رمضان, يقيم المسابقات وينسّق اللقاءات .. أما الرابع فما احتملتُ نشيجه عندما كنا نصلي خلفَ الإمام في رمضان المنصرم , صدقيني كدتُ أقطع صلاتي , فأنّى له هذا القلب !!؟
وعندما أتكلمُ عن الخامس فهو ذاك الذي بكى عندما أتمّ حفظَ القرآن وخرّ ساجداً لله، أماه: والله لو رأيتِه ما أخالك إلا باكية .. أما السادس فدائمُ النصحِ, لا يقفُ سفين نصحه عند شاطئٍ أبدا , استفاد من توجيهه الطالبُ والمشرف على حدٍّ سواء .. يتفق مع ذاته في الهدف, أما الوسيلة فلكل مقامٍ مقال .. والسابع هو من لان قلبه حتى قرعتِ الموعظة قلبه , أخفى حباتِ الجمان , ثم أرسلها إلى غترته وثوبه يرجو أن لا أحداً رآه .. لقد رأيته يا أماه ..
وأقول عن الثامن .. إنه ذو الروح الخفيفةِ المرحة, التي تدخل السرور على قلوبِ إخوانها, ما عرفَ الضغينة ولا الحقد ولا الحسد , يود أن لو وضع رأسه على فراشه والكل راضٍ عنه , إنه سليم الصدر مسلول السخيمة ..
هؤلاء هم صحب ابنك أيتها الأم الحنون .. أكبرهم لم يتجاوز الثامنة عشرة , فاطمأني .. فإن ابنك واحدٌ من هؤلاء , وإلا يكن .. فهم القومُ لا يشقى بهم جليسهم, ومن عاشر قوماً أربعين يوماً صار منهم.(1/57)
4- الأم الغالية .. ليتكِ تعلمين أي شيءٍ يبذله المشرفون من أجل ولدك , لن أسوقَ ما سأسوقه استدراراً لشكرٍ أو ثناء , فالقومُ ماضون لا يريدون منكم جزاءً ولا شكورا , وأجرهم على الله, لكن لعل دعوةً صادقةً تخرج منكِ يبارك الله لهم فيها وربّ دعوةٍ فتحت أبواب خيرٍ لا يعلمها إلا الله ..
يستعدُّ من أذان العصر .. يدير مفتاح التشغيل ليصلي في المسجد القريب , وبعد الصلاة ينطلق ليحمل معه طلابه .. ثم إلى المسجد الذي يكون فيه التسميع وبقية الأنشطة ..
السيارة سيارته الخاصة .. والوقود يدفعه من ماله الخاص , ولا يجدُ حرجاً أن يقف عند متجرٍ على الطريق ليبتاع لأصحابه ما يبتاع من ماله الخاص , إدخالاً للسرور عليهم , أو إطفاءً لنار عطشهم , أو كرماً منه ليدلل على محبته لهم , ناهيكِ عن بنيّاتِ الطريق التي تستوقفه بين الفينة والأخرى كالعشاء مع أفراد سيارته و لابد أن يكون هو المستضيف في يوم من الأيام وأصحابه هم الضيوف , وكذا تغيير زيت السيارة في فترات متقاربة نظير مروره للطلاب وإرجاعهم لبيوتهم , كذلك ما يبتاعه للحلقة من الضروريات على حسابه الخاص ويرفض أن يأخذ مقابلاً راجياً الأجر من الله, وغاية ما يملكه لا يتجاوز الـ 1000 ريال في الشهر, وهي مكافأته الجامعية, فغالب مشرفي هذه الحلقات من هذه الطبقة .. هذا من الناحية المادية وهي أمر هيّن .. لا يستحق العناية ولا الالتفات..
أما من الناحية النفسية فالكلام يطول ويطول , لكن لعل الإشارة إليها تفي .. ولا أظن ..(1/58)
يظلُّ المشرف - ما دامَ يعمل في الحلقة – مُتفتقَ الذهن , منشغل الخاطر ، يخشى على أفراد حلقته أن يكون من بينهم من هو رجل سوء يسعى لإفسادهم وإفساد دينهم عليهم, ليس من باب الوسوسة, إنما من باب الحيطة والحذر , وهو من باب حفظ الأمانة وصيانتها مما قد يتلفها , وما أعظم همّه إن أحسّ بشيءٍ من ذلك فيصبح شغله الشاغل وهمّه الأكبر حتى يصل إلى حل المشكلة. كذلك إن بلغه أن أحد الطلاب يعاني من مشكلةٍ ما فإن ذهنه يتقّد بحثاً عن سبيل لإنقاذه , فإن كان الطالبُ هو الذي صرّح له بالمشكلة فالأمر يهون نوعاً ما لأنه سيتواصل معه بلا حواجز ولا عوائق , لكن الأدهى أن يكون التصريح للمشرف بالمشكلة قد جاء من طرفٍ آخر كالأب أو الأم أو غيرهما , فلا تسألي أيتها الأم المباركة عن ضيقته وكبير همه , لأنه لا يدري كيف سيعالج مشكلته , إذ الحاجز بينه وبين الطالب كأقوى ما يكون ! كيفَ سيصلُ إليه ويصارحه بالموضوع , والله – يا أماه – لقد عرفتُ بعضهم لا ينام الليل , يصيبه الأرق من فرط همه , وطول تفكيره .. فقط لأجل ابنك.
وكذا إذا أتينا إلى الرحلات والمخيمات, وما يصيب الإخوة المشرفين من الجهد والتعب, قبل وأثناء وبعد الرحلة أو المخيم, شيءٌ لا يعلم مشقته إلا من جرّب وذاق , والهدف .. بسمةٌ تُرسمُ على شفاه ابنك..
أبعد كل هذا .. تضنين عليهم بدعوةٍ صادقة أيتها الحبيبة !؟
* في المعترك:(1/59)
1- لا تترددي –حفظك الله– في إرسال مبلغٍ -وإن قلّ- إلى مشرفي الحلقة, تعبّرين فيه عن تضامنكِ مع أنشطةِ الحلقةِ وتفاعلكِ معها, يُصرف على مناشط الحلقة أياً كانت, وإياكِ أن يكون المبلغ تحتَ مسمى صدقةٍ أو تبرع, فإن المشرفين يأنفون أن يقتات أبناء الأحرار من الصدقات, بل اجعليها في صورة هدية حتى لا يقع الحرج, واعلمي أن بعض الأحبة المشرفين قد يأنفون من قبول المبلغ بشكلٍ مباشر , فعليكِ والحالة هذه أن تأمري ابنك أن يضع المبلغَ في مكان ما في سيارة المشرف الذي يتولى مروره , فإذا رجع إلى المنزل أرسل إليه يخبره بمكان المبلغ ومناسبته.
2- اعلمي – يا مربية الأجيال – أن وجود ابنك في مجتمع الخير وأهله , مجتمع الحلقات , لا يعني أفول شمس التربية في مملكتكِ (البيت)؛ إنما أنتِ تربين في طرف, والحلقة تربي في طرف آخر, فكلاهما مكمل للآخر, متى ما حصل الجمع بينهما فهنيئاً لكِ بابنٍ جمع الله له بين الحسنيين.
3- من المهم -إذا كان ابنك في المرحلة المتوسطة– أن تسأليه بين الفينة والأخرى عن مناشط الحلقة؟ عن الجديد الذي استجد؟ أين ذهبوا؟ ما أخبار رحلتهم؟ من أعجبك من أفراد حلقتك؟ أين بلغت في حفظك؟ أين ستكون رحلتكم القادمة؟
سيسعد ابنك كثيراً بهذه الأسئلة, سيحسّ في داخله بأهمية الحلقة, وهذا يدفعه للاستمرار و المواظبة معهم, والشاب في هذه المرحلة لا يتضجر من السؤال بهذا الشكل خلافاً للشاب في المرحلة الثانوية, كذلك من خلال ذلك ستعرفين كيف يسير ابنك, وستعرفين ما الذي يفعله, كذلك ستعرفين أصحابه ومشرفيه عن كثب, وأكثري من تذكير ابنك بضرورة مصاحبة أهل الخير, وأن يختار من أهل الخير من يفيده وينصحه ولا يغشه, لأن كثيراً من الشباب يتعلق بالشخصية المرحة الفكهة ويراها كلّ شيء, وهذا خطأ, وإذا جمع الله لشخصٍ بين الاثنتين فنورٌ على نور..(1/60)
وإن تيسر لكِ أن تسألي مشرفي الحلقةِ عن ملاحظاتهم على ابنك – بطريقتكِ الخاصة – حتى تساهمي في إزالتها فأمرٌ حسن حتى يحصل التعاون بين العضيدين البيت والحلقة, أما المدرسة فقد تخلت عن دورها التربوي إلا من رحم الله, وكذا اسأليهم عن صفاته الجيدة التي رأوها فيه ليتسنى لكِ تعزيزها والحرص عليها, وإن حصل ذلك بدون علم ابنك فهو أفضل, وإن كان غالب طلاب المرحلة المتوسطة قد لا يجدون حرجاً في ذلك, وكل ما مضى في هذه الخاطرة متعلق بطالب المرحلة المتوسطة.
أما طالب المرحلة الثانوية خصوصاً الصف الثاني والثالث , فالأمر يختلفُ معهم , فأبناء هذه المرحلة يكرهون طريقة السؤال والجواب ؛ لأنهم يرون أنفسهم أكبر من ذلك بكثير , فلتكن الأسئلة أسئلةً عابرة, دونما تحقيق مباشر , فإن أجاب وإلا فالأمر إليه, وقد تضطرين – أيتها الأم الحبيبة – إلى إبلاغ المشرفِ عن زللٍ يقع فيه ابنكِ حتى تساهم الحلقة في تقويم الابن وتوجيهه فحذارِ أن يعلم الابن بذلك , وإلا فإني لا أظن أن الأمر سيمضي بسلام, وإن كنتُ في الحقيقة لا أحبّذُ مثل هذا التصرف إلا عند نفاد الحيلة , فليكن هذا التصرف هو آخر العلاج..(1/61)
4- يحبّ المشرفون – كما أسلفت– أن يكون للبيتِ حضوره الفعّال في مناشط الحلقة بشتى أنواعها, وقد لا يتسنى للبيتِ أن يشارك في كل المناشط؛ لأنه لا يجد طريقةً للمشاركة, فنقولُ حينئذٍ.. ما لا يدركُ جُلّه لا يترك كله, والتسديد والمقاربة مطلب , فليشارك البيت بما يستطيع – وإن قل –, فالعبرة بالمشاركة وليست بالكثرة, فمثلاً قد يصومُ أفراد الحلقة يومي الاثنين والخميس ويفطرونَ سوياً, فما الذي يمنع – أيتها الغالية- أن ترسلي لهم طبقاً مع ابنكِ وإن لم يصم , وتوصين ابنك بأن يقرئهم السلام ويخبرهم بأن هذه هديةٌ من أمه, وقولي مثل هذا عن رحلة نهايةِ الأسبوع, أرسلي لهم ما تجود به نفسكِ, يقدمه لهم ابنكِ بعد أن يخبرهم بأنه هديّة تقدمها أمه لأفراد الحلقة, وكذا لو ابتعتِ لهم (كرة قدم) لا تندهشي – وأرسلتِها مع ابنك كهديّةٍ مقدمةٍ باسم والده كي يمارسوا بها لعبةَ القدم !!
صغيرة .. لكنها في النفوسِ عظيمة !(1/62)
5- لا يجدُ مشرفو الحلقةِ داعماً ومحفزاً لهم كالدعاء لهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية, إحداهنّ أرسلت ورقةً مع ابنها, مما جاء فيها " ... والله لا أترك الدعاء لكم في ظهر الغيب ما حييت", والله يا أمّنا –وأنا أحلفُ بعظيم– إنني كلما تقاعستُ أو تعبتُ أو فترتُ, أذهب إلى الورقة فأفتحها ثم أقرأها, وما إن أصل إلى السطر الأخير في الصفحة الأولى, وبالتحديد عند العبارة أعلاه, إلا ويذهبُ عني ما أجد, وتعودُ الهمةُ أعلى مما كانت, ويزول النصب والتعب والفتور, وأجدُ راحةً وسروراً ولذةً لا يدركُ حجمها إلا الله وحده - إي و ربي - فمن هذا المنطلق لا أظن أن ثمةَ حرجٍ في إرسالِ ورقةٍ – مع ابنك - مملؤة بالأدعية الصادقة إلى مشرفي الحلقة أو إلى أحدهم ممن له زيادةُ فضلٍ على ابنك , كأن يكون ممن يمرّه , أو يكون ممن يسمّع له.. أو غير ذلك, وليكن ابنك على علمٍ بما كتبتِ, حتى لا يساور ابنك شكٌّ فقد يظن أنك تكتبين إليه – إلى المشرف - بمشكلةٍ فيه – في ابنك -, وإن كنتِ تتحرجين من ذلك لأمرٍ أو لآخر, فعليك بهاتف الأب, اكتبي رسالةً مملؤةً بالثناء والدعاء و أرسليها إلى هاتف المشرف , أو اطلبي من الأب أن يكون على تواصلٍ مع المشرفين بالرسائل , أو حمّلي ابنكِ السلام للمشرف وأن يقول له إن أمي تدعو لك في ظهر الغيب , وتدعو لك بكذا وكذا, سيُسرُّ المشرفُ بهذا كثيراً كثيراً , إنك بهذا تطيلين عمره الإنتاجي من حيثُ لا تشعرين . الوسائل كثيرة لكن أين الموظِّفون ..!؟
(اللوحةُ الموفيةُ عشرين)
السحرُ الذي نريد(1/63)
هوليوود – أجلكم الله – بمشعوذيها, وكهنتها, وشياطينها, وكلابها من الإنس والجن استطاعت أن تزرع في أذهان الكثير تلك المثالية – المزعومة – التي يعيشها الشعب الأمريكي, كما استطاعت أن تقنع الكثير بأن الحضارة المادية الأمريكية هي المثال الحي الحاضر على الحضارة الراقية المتقدمة, فانخدعت الأمم بذلك, وسارت الدول في إثر الدول يقتفون أثر هذه الحضارة المزيّفة, التي زيّنها لهم الساحر الأكبر (هوليوود), وأصبح الكل أمريكيَّ الهوى, يودُّ أن لو كان أمريكيّ المنشأ والموطن غير أن الواقع يخبرنا أن الانحلال الأخلاقي وتفسُّخ القيَم وانعدام الحياة الروحية قد بلغ أوجه في تلك البقاع المنتنة, بالإضافة إلى استشراء الحياة المادية التي تقوم على المبدأ المتهافت الجائر (الغاية تبرر الوسيلة) ..
إن الإعلامَ برجاله وآلاته لأداةُ سحرٍ , من أحسنَ توظيفها فسيصلُ إلى ما يريد , ومن أهملها و جعلها من بُنيّاتِ الطريق وسقط المتاع فقد أخطأ التصوّر وأساء الفهم.
وكلُّ جميلٍ في هذا الكون, لا بد لنا – دعاة الخير– أن نلتفت إليه, ونُلفتَ أنظار الناس إليه, وأن نستخدمَ كل وسيلةٍ مشروعة في سبيل تحقيق ذلك.
ولا جمالٌ في الكون يعدلُ جمال القرآن وأهله, الذين طيّبوا أفواههم بكلامِ الله, وزيّنوا أفعالهم باقتفاء أثره, وملازمة هديه, والمضيَّ طوْع أمره, إننا بحاجةٍ إلى سحرٍ يُجلّي لنا هؤلاء, بحاجةٍ إلى سحر قيسٍ في ليلاه, وسحر جميلٍ في بثينته.
صدقوني .. لو ملك قيسٌ ما تملكهُ (هوليوود) من الآلات والصناعات والتقنيات والكفاءات , لجعلنا نرى (ليلى) أسطورةً لا تُضاهى , وملاكاً لا يُبارى , فأين نحن من هذه الصنعة ..؟
أين حلقاتنا ومكتباتنا ومحاضننا الخيرية والدعوية من الإعلامِ و سحره؟ سواءً على المستوى الصغير القريب أو الكبير البعيد!(1/64)
حدثني سامي –وهو شابٌ صغير في الصف الثاني المتوسط– قال: كان أبي يمتعضُ من مشاركتي في حلقةٍ بعيدةٍ عن البيت, لكنه لم يكن يريد أن يكسر رغبتي تلك, وبالكاد كان يوافقُ على الرحلة في نهايةِ الأسبوع, لأنه لا يعرفُ حقيقةَ البرنامج الذي يُقام, ورغم أني كنتُ أخبره بسيْر البرنامج وخطته إلا أنه ليس من رأى كمن سمع, أما رحلات المبيت والأسفار, فمن الندرة أن يوافق وإن وافق فهو الفتح المبين .. إلخ, إلى أن قال لي: أتذكر يوم أن سافرتم إلى المدينة وتخلفتُ عنكم بسبب رفض والدي ..؟ قلتُ : نعم أذكر ذلك ولا أنساه , قال: أتذكر بعد تلك الرحلة بمدّة يوم أن ناولتني نسخةً من عرضٍ مرئي لأحداث الرحلة وقد أمرتني أن أزوّد به أبي وأمي, قلت له: أذكر ذلك جيداً, قال: فإنني أطلعتُ والدي ووالدتي عليه و سُرُّوا به أيما سرور, ومنذ ذلك اليوم ووالدي لا يردّ لي طلباً, يوافق على الرحلةِ دونما استفصال أو سؤال, بل همس في أذني يوماً فقال: (يا بنيّ ! استمسك بهم , ولو أدركتُهُم في شبابي لما تجاوزتهم).
أعرفُ أباه جيداً , لا يُرى على مظهره سيما الالتزام والاستقامة , بحق كانت كلماته مُزلزِلةً مدوّية , فشهادته بعيدةٌ عن العاطفةِ ولا بد, إذ لو كان أبوه ممن ظاهره الاستقامة لقلتُ : تعاطفَ مع من هم على شاكلته.
يقول سامي : كان أبي يظن أن في الأمر شدةً وجموداً , وأن المسألة تقوم على الأمر والنهي والغلظة والشدة , لم يكن يظن أن للترفيه في الحلقةِ مكاناً , فلما رأى ما رأى من المسابقات والألعاب الرياضية والترفيهية , بالإضافةِ إلى البساطةِ وعدم التكلفِ في المسكن والمأكل والملبس, وكذا التعامل الراقي من قبل الإخوة المشرفين مع الأحبة الطلاب, تغيّرتِ النظرة عنده تماماً , فصارَ من أشد المؤيدين لبقائي في الحلقة ومشاركتي لأفرادها في الرحلات والزيارات , بل وعدني بهديةٍ ثمينة متى ما حفظتُ كلام الله , وأردفتها أمي بهديّةٍ لا تقلُّ نفاسةً عنها.(1/65)
عرضٌ مرئي, لا تتجاوز مدته العشر دقائق إخراجه ضعيفٌ ركيكٌ , يحل مشكلةً دامت فترة من الزمن , جربنا عدداً من الحلول مع والد سامي فلم نصل إلى ما نريد , حتى قررنا أن نستخدم هذا السحر , فصارَ الصرفُ بعد ذلك عطفا..
أحبتي, مُهجةَ فؤادي, نبضَ شرياني, آلَ المحاضن والمكتبات والحلقات اسحروا الشباب, اسحروا آباءهم, اسحروا أمهاتهم, اسحروا أقاربهم اسحروا كلَّ من تستطيعون سحره, ألستم تريدون صلاح الأمة ..؟ ألستم تريدون صلاح شبابها ..؟ ألستم ترددون بين الفينة والأخرى بأنكم دعاة وعلى طريق الدعوة سائرون ..؟ فلمَ الإحجام عن هذه الآلةِ الساحرة ..؟ انشروا مناشطكم وأقوالكم وأفعالكم وتضحياتكم ليعلم الناس من أنتم, ولن يقدح ذلك في إخلاصكم متى ما كان الباعثُ سليم المنبت.
أحبتي , أقترحُ عليكم ما يلي:
1- الحرص على توثيق مناشطكم وإبرازها بين الفينة والأخرى , إبرازها عند أهالي الطلاب وأقاربهم , مع مراعاة انتقاء المقاطع المناسبة , مع التأكيد على الطلاب بضرورة اطّلاع الأهل عليها.
2- نشرة بسيطة يصدرها الطلاب كل أسبوع أو كل شهر – بحسب القدرة – يُبيّن من خلالها ما قُدِّم وما سيُقّدَّم , مع الحرص على إخراجها بقالبٍ جذاب , وتطويرها حيناً بعد حين , لأن العمل الذي لا يُطوَّر يموت!
3- إقامةُ برنامج ولو مرةً واحدةً في السنة إما لآباء الطلاب , أو لإخوانهم , أو حتى للأشبال الصغار من إخوانهم وأقاربهم, أما المضمون فكلٌّ بحسبه , وسيعطي هذا البرنامج مؤشراً جيداً عن الحلقةِ وأنشطتها.
جرى القلم بما تقدم , والله أسأل أن يبارك في الجهود ويسدد الخطى ويصلح النيات.(1/66)