مقدمة المؤلف (1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين اللهم فصل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آلهم وصحبهم أجمعين صلاة وسلاما دائمين متلازمين أبد الآبدين آمين ( وبعد ) فهذا كتاب نفيس لم يسبقني أحد إلى وضع مثاله ولا أظن أحدا نسج على منواله ضمنته جميع العهود التي بلغتنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من فعل المأمورات وترك المنهيات ( وسميته لواقح الأنوار القدسية في العهود المحمدية ) وكان الباعث لي على تأليفه ما رأيته من كثرة تفتيش الإخوان على ما نقص من دنياهم ولم أرى أحدا منهم يفتش على ما نقص من أمور دينه إلا قليلا فأخذتني الغيرة الإيمانية عليهم وعلى دينهم فوضعت لهم هذا الكتاب المنبه لكل إنسان على ما نقص من أمور دينه فمن أراد من الإخوان أن يعرف ما ذهب من دينه فلينظر في كل عهد ذكرته له في هذا الكتاب ويتأمل في نفسه يعرف يقينا ما أخل به من أحكام دينه فيأخذ في التدارك أو الندم والاستغفار إن لم يمكن تداركه ثم لا يخفى عليك يا أخي أن مجموع أحكام الشريعة ترجع إلى ثلاثة أمور : أمر ونهي ومرغوب فيه لم يصرح الشارع فيه بأمر ولا نهي وإنما رغب في فعله بالثواب أو رهب من تركه بفوات الثواب كالوضوء على الوضوء فإن الترغيب في فعل شيء مؤذن بالرضا عن فاعله كما أن الترهيب من فعل شيء مؤذن بعدم الرضا عن فاعله وإن كان ذلك لم يلحق بدرجة الأمر والنهي الصريحين وعبارة الشيخ عز الدين بن عبدالسلام في قواعده الكبرى اعلم أن كل فعل مدح في نفسه أو مدح فاعله من أجله أو وعد عليه بخير عاجل أو آجل فهو مأمور به لكنه متردد بين الإيجاب والندب اه
وقد قسمت الكتاب على قسمين : القسم الأول في بيان ما أخل به الناس من المأمورات . والقسم الثاني في بيان ما أخل به الناس من اجتناب المنهيات وإنما بدأت في أول الكتاب بقسم المأمورات وأخرت المنهيات وإن كان الواقعون في المنهيات أكثر عملا بالأصل من حيث أن الطاعات أصليه والمعاصي عارضه وأن كل مؤمن يود أن يطيع الله تعالى ولا يعصي أمره أبدا ولكن الله تعالى في تقديره المعاصي على عبده حكم وأسرار لا تخفى على من في قلبه نور ثم اعلم يا أخي أن طريق العمل بالكتاب والسنة قد توعرت في هذا الزمان وعز سالكها لأمور عرضت في الطريق يطول شرحها حتى صار الإنسان يرى الأخلاق المحمدية فلا يقدر على الوصول إلى التخلق بشيء منها فلذلك كنت أقول في غالب عهود الكتاب وهذا العهد يحتاج من يعمل به إلى شيخ يسلك به الطريق ويزيل من طريقه الموانع التي تمنعه عن الوصول إلى التخلق به أو نحو ذلك من العبارات إشارة إلى أنه لا يلزم من معرفة الفقيه بالأحكام الوصول إلى العمل بها بل يحتاج مع ذلك إلى شيخ يريه معالم الطريق كما وقع للإمام الغزالي والشيخ عز الدين بن عبدالسلام وغيره وإنما شيدت كل عهد منه بالأحاديث الشريفة إعلاما لك يا أخي بأن عهود الكتاب مأخوذة من الكتاب والسنة نصا واستنباطا لئلا يطعن طاعن فيها وسد الباب الدس من الحسدة في هذا الكتاب كما وقع لي ذلك في كتاب البحر المورود في المواثيق والعهود الذي جمعت فيه عهود المشايخ التي أخذوها علي فإن بعض الحسدة لما رأى إقبال الناس على تلك العهود وعرف عجزه عن الوفاء بها مع ادعائه المشيخة عمل حيلة واستعار من بعض المغفلين من أصحابي نسخة وأوهمه شدة الاعتقاد في جنابي وكتب منها عدة عهود ودس فيها أمورا مخالفه لظاهر الكتاب والسنة وأشاعها عني في مصر فحصل بذلك فتنة عظيمة في الجامع الأزهر وغيره وانتصر لي الشيخ ناصر الدين اللقاني والشيخ شهاب الدين الرملي وجماعة وأجابوا عني بتقدير صحة ذلك مني وما سكنت الفتنة حتى أرسلت للعلماء نسختي التي عليها خطوطهم ففتشوها فلم يجدوا فيها شيئا مما دسه الحسدة وأشاعوه عني ومن تلك الواقعة ما ألفت كتابا إلا وتعرضت فيه لما دسته الحسدة في كتبي وتبرأت فيه من كل شيء يخالف الكتاب والسنة طلبا لإزالة ما في نفوس بعض الناس لئلا يحصل لهم الإثم بذلك فهذا كان سبب تشييدي لعهود هذا الكتاب بالأحاديث والآثار فإن الحاسد لو دس فيه شيئا يخالف الأحاديث التي أذكرها لا يروج له أثر عند الناس وكيف يستدل مؤلف لكلامه بالأحاديث التي يخالفه منطوقها أو مفهومها هذا أمر بعيد فالله يحفظ هذا الكتاب من مثل ذلك إنه سميع مجيب
واعلم يا أخي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما كان هو الشيخ الحقيقي لأمة الإجابة كلها ساغ لنا أن نقول في تراجم عهود الكتاب كلها أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم أعني معشر جميع الأمة المحمدية فإنه صلى الله عليه و سلم إذا خاطب الصحابة بأمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب انسحب حكم ذلك على جميع أمته إلى يوم القيامة فهو الشيخ الحقيقي لنا بواسطة أشياخ الطريق أو بلا واسطة مثل من صار من الأولياء يجتمع به صلى الله عليه و سلم في اليقظة بالشروط المعروفة عند القوم وقد أدركت بحمد الله تعالى جماعة من أهل هذا المقام كسيدي علي الخواص والشيخ محمد العدل والشيخ جلال الدين السيوطي وإضرابهم رضي الله عنهم أجمعين ثم لا يخفى عليك يا أخي أن من شأن أهل الله عز و جل كونهم يأخذون العهد على المريد بتركه المباح زيادة على الأمر والنهي طلب الترقية إذ المباح لا ترقي فيه من حيث ذاته وإنما هو أمر برزخي بين الأمر والنهي جعله الله تعالى مرتبة تنفيس للمكلفين يتنفسون به من مشقة التكليف إذ الإقبال على الله تعالى في امتثال الأمر واجتناب النهي على الدوام ليس من مقدور البشر فأراد أهل الله تعالى للمريد أن يقلل من المباح جهده ويجعل موضعه فعل مأمور واجتناب منهي أو مرغب في فعله أو تركه لأخذهم بالعزائم دون الترخيصات فترى أحدهم يفعل المندوب مع شدة الاعتناء به كأنه واجب ويجتنب المكروه كأنه حرام ويترك المباح كأنه مكروه ويفعل الأولى كأنه مستحب ويستغفر من فعل المكروه كأنه حرام ويتوب من فعل خلاف الأولى كأنه مكروه ويتوب من ترك المندوب كأنه واجب ومن القوم من يقلب المباح بالنية الصالحة إلى خير فيثاب عليه ثواب المندوب كأن ينوي بأكله التقوي على عبادة الله تعالى أو بنومه في النهار التقوي على قيام الليل عند من لم يصح عنده حديث استعينوا بالنوم في القيلولة على قيام الليل أما من صح عنده هذا الحديث فهو مستحب أصالة لا جعلا وقد كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي يسمي النوم وردا ويقول لا أحد يوقظني من ورد النوم حتى أستيقظ بنفسي فعلم أن أهل الله تعالى من شأنهم أن لا يوجدوا إلا في فعل واجب وما ألحق به من المندوب والأولى أو في اجتناب منهي وما ألحق به من المكروه وخلاف الأولى فإياك يا أخي أن تبادر إلى الإنكار عليهم إذا رأيت أحد منهم يأخذ العهد على مريد بتركه المباح وتقول كيف يأخذ العهد على مريده بترك المباح مع أن الشارع أباحه له فإنك في واد وأهل الله في واد وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى بعض أهله عن فعل المباح فنهى فاطمة رضي الله عنها عن لبس الحرير والذهب مع أنه صلى الله عليه و سلم أباحهما لإناث أمته وقال : يا فاطمة من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ونهى صلى الله عليه و سلم عائشة رضي الله عنها عن الأكل في يوم واحد مرتين وقال لها : أكلتان في النهار إسراف والله لا يحب المسرفين مع أنه صلى الله عليه و سلم أباح لأمته أن يجمعوا كل يوم بين الغداء والعشاء بل هو الأكثر من فعله صلى الله عليه و سلم رحمة بالضعفاء من أمته وقد عمل القوم على نحو ذلك مع المريدين الصادقين فآخذوا المريد بتناوله الشهوات المباحة وبوضعه جنبه إلى الأرض من غير ضرورة وبالأكل من غير جوع وبالنسيان وبالاحتلام وكذلك آخذوه بمد رجله في ليل أو نهار إلا لضرورة إلى غير ذلك ولهم في ذلك أدلة يستندون إليها فأما دليلهم في مؤاخذتهم المريد بأكل الشهوات المباحة فهو كون الحق تعالى نعى أهل النار بأكلهم الشهوات بقوله تعالى { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون { وقالوا ما نعاه الله تعالى عن أهل النار وجزاهم عليه بالعذاب فالمؤمن أولى أن يتركه . وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول في قوله تعالى { فسوف يلقون غيا { هو واد في جهنم يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات وأوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة و السلام : يا داود حذر وأنذر قومك من أكل الشهوات فإن قلوب أهل الشهوات عني محجوبة اه
والنوم كذلك بجامع الغفلة والحجاب عن الله تعالى إلا لضرورة وأما دليلهم في مؤاخذتهم المريد بالنسيان فإنه لا يصح وقوعه من المريد إلا بعد تعاطيه مقدمات ذلك الأمر الذي نسيه من الغفلة والتهاون به بدليل ما قاله علماؤنا فيمن نسي الماء في رحله أو أضله فيه فلم يجده بعد الطلب فتيمم وصلى أنه يقضي ما صلاه بالتيمم نسبوه إلى التقصير في نسيانه وإضلاله وقالوا لو صلى بنجس لم يعلمه وجب القضاء في الجديد وإن علم به ثم نسي وجب القضاء على المذهب والنظائر كثيرة . وكان الشيخ محي الدين بن العربي رضي الله عنه يقول إنما آخذ القوم المريد بالنسيان لأن مبنى طريقهم على الحضور الدائم مع الله عز و جل والنسيان عندهم نادر والنادر لا حكم له مع أن القاعدة الشرعية رفع حكم النسيان إلا ما استثني كتدارك ما نسيه من الصلاة وضمان ما أكله من طعام الغير بغير إذنه ناسيا ونحو ذلك ثم ليتأمل ذلك الناسي في نفسه في شدة اعتنائها بتحصيل أمر الدنيا وعدم وقوعه في نسيانه كما إذا وعده شخص بألف دينار يعطيها له في الوقت الفلان كيف يصير يتذكر ذلك لحظة بعد لحظة حتى يأتي وقته حرصا على سحت الدنيا فأراد أهل الله تعالى من المريد أن يقلب تلك الداعية التي عنده للدنيا ويجعلها لأمور الآخرة ليفوز بمجالسة الله تعالى في الدارين وأما دليلهم في مؤاخذتهم المريد بالاحتلام فلأنه لم يقع منه إلا بعد مقدمات التساهل بالنظر إلى ما لا يحل غالبا أو التفكير فيه فلما عجز عن الوصول إليه حال النظر والتفكر أتاه إبليس في المنام ليسخر به فإن من لا يطلق بصره إلى محرم ولا يتفكر فيه لا يحتلم أبدا ولذلك لم يقع الاحتلام إلا من المريدين والعوام دون الأكابر فإن الأكابر إما معصومون كالأنبياء أو محفوظون كالأولياء ثم إن وقع أن أحدا من أكابر الأولياء احتلم فإنما يكون ذلك في حليلته من زوجه أو جاريه لا فيما لا يحل له وسببه غفلته عن تدبير جسده لما هو عليه من الاشتغال بالله عز و جل أو أمر المسلمين كما بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه احتلم في جاريته وقال : قد ابتلينا بهذا الأمر منذ اشتغلنا بأمر المسلمين . وأما دليلهم في مؤاخذة المريد بمد رجله من غير ضرورة في ليل أو نهار فهو علمهم بأن المريد بين يدي الله عز و جل على الدوام شعر بذلك أم لم يشعر فأرادوا منه أن يواظب على ترك مد رجله بحكم الإيمان على أنه بين يدي الله حتى ينكشف حجابه ويشهد الأمر يقينا وشهودا وهناك يرى ضربه بالسيف أهون عليه من مد رجله لغير حاجه بل لو خير بين مد رجله ودخول النار لاختار دخول النار وقد بلغنا عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال : مددت رجلي بالليل وأنا جالس أقرأ وردي وإذا بهاتف يقول يا إبراهيم ما هكذا ينبغي مجالسة الملوك . قالوا فما مد إبراهيم رجله حتى مات بعد عشرين سنه
فعلم من مجموع ما قررناه من باب أولى أن أهل الله عز و جل لا يسامحون المريد بارتكابه شيئا من المكروهات فضلا عن المحرمات الظاهرة أو الباطنة وأن طريقهم محررة على موافقة الكتاب والسنة كتحرير الذهب بخلاف ما يظنه من لا علم له بطريقهم وقد أجمع أهل الله تعالى على أنه لا يصح دخول حضرة الله تعالى في صلاة وغيرها إلا لمن تطهر من سائر الصفات المذمومة ظاهرا أو باطنا بدليل عدم صحة الصلاة لمن صلى وفي ثوبه أو بدنه نجاسة غير معفو عنها أو ترك لمعه من أعضائه بغير طهارة ومن لم يتطهر كذلك فصلاته صورة لا روح فيها لا حقيقية كما أن من احتجب عن شهود الحق تعالى بقلبه في لحظة من صلاته بطلت صلاته عند القوم كذلك وقد نبه الشارع صلى الله عليه و سلم باشتراط الطهارة الظاهرة على اشتراط الطهارة الباطنة فأراد أهل الله تعالى من المريد أن يطابق في الطهارة بين باطنه وظاهره ليخرج من صفة النفاق فإن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وفي حديث مسلم مرفوعا أن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم و كذلك أجمع أهل الطريق على وجوب اتخاذ الإنسان له شيخا يرشده إلى زوال تلك الصفات التي تمنعه من دخول حضرة الله تعالى بقلبه لتصح صلاته من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولا شك أن علاج الأمراض الباطنية من حب الدنيا والكبر والعجب والرياء والحسد والحقد والغل والنفاق ونحوها كله واجب كما تشهد له الأحاديث الواردة في تحريم هذه الأمور والتوعد بالعقاب عليها فاعلم أن لك من لم يتخذ له شيخا يرشده إلى الخروج من هذه الصفات فهو عاص لله تعالى وللرسول صلى الله عليه و سلم لأنه لا يهتدي لطريق العلاج بغير شيخ ولو حفظ ألف كتاب في العلم فهو كمن يحفظ كتابا في الطب ولا يعرف ينزل الدواء على الداء فكل من سمعه وهو يدرس في الكتاب يقول أنه طبيب عظيم ومن رآه حين يسأل عن اسم المرض وكيفية إزالته قال إنه جاهل فاتخذ لك يا أخي شيخا واقبل نصحي وإياك أن تقول طريق الصوفية لم يأت بها كتاب ولا سنه فإنه كفر فإنها كلها أخلاق محمدية سداها ولحمتها منها واعلم أن كل من رزقه الله تعالى السلامة من الأمراض الباطنية كالسلف الصالح والأئمة المجتهدين فلا يحتاج إلى شيخ بل الإنسان على نفسه بصيرة فأمعن يا أخي النظر في هذه الخطبة والكتاب واعمل به فإنك إن شاء الله لا تضل ولا تشقى والحمد لله رب العالمين ولنشرع بعون الله تعالى في مقصود الكتاب فنقول وبالله التوفيق . القسم الأول من الكتاب وهو قسم المأمورات (1/2)
قسم المأمورات (1/3)
- مما رواه الأئمة في الإخلاص مرفوعا قوله صلى الله عليه و سلم : من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له وأقام الصلاة وآتى الزكاة . فارقها والله عنه راض
رواه ابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين
وروى البيهقي مرسلا : أن رجلا قال : يا رسول الله ما الإيمان ؟ قال : الإخلاص قال : فما اليقين ؟ قال : الصدق
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد : أن معاذ بن جبل قال : يا رسول الله أوصني قال : أخلص نيتك يكفك العمل القليل
وروى البيهقي مرفوعا : طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء . [ في جميع النسخ " عظماء " وإنما تم ضبطه هنا " ظلماء " كما ورد في الجامع الصغير في الحديث رقم 5289 ، وحيث ذكر الشيخ محمود الرنكوسي في درسه أثناء قراءة الكتاب في دار الحديث بدمشق : " المحفوظ ظلماء " . ]
وروى البيهقي والبزار مرفوعا : إن الله تبارك وتعالى يقول : أنا خير شريك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فهو لشريكي وأنا بريء يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله منها شيء
وفي رواية لأبي داود وغيره بإسناد جيد مرفوعا : إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغى به وجهه
وروى الطبراني مرفوعا : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغى به وجه الله
وروى البيهقي مرفوعا عن عبادة بن الصامت قال : يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال ميزوا ما كان منها لله عز و جل فيمتازوا ويرمي ما عداه في النار
قال الحافظ المنذري : وقد يقال إن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي والاجتهاد فسبيله سبيل المرفوع
وروى الحافظ ورزين العبدري مرفوعا مرسلا : من أخلص لله تعالى أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه
قال الحافظ المنذري ولم أقف لهذا الحديث على إسناد صحيح ولا حسن ولا على ذكره في شيء من الأصول التي جمعها رزين . والله أعلم
[ وقال الأستاذ المحدث الشيخ محمود الرنكوسي أثناء قراءة هذا الكتاب أن كلام المنذري لا يعني أن غيره لم يقف على ذلك . وفيما يلي بيان ذلك وأن الحديث ضعيف يعمل به في فضائل الأعمال :
الحديث 8361 من الجامع الصغير : من أخلص لله أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه . رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أيوب . تصحيح السيوطي : ضعيف
الحديث 5271 من كنز العمال : من أخلص لله أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه . رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أيوب
وهذا غير رواية : " من زهد في الدنيا أربعين يوما وأخلص فيها العبادة أجرى الله على لسانه ينابيع الحكمة من قلبه " أورده ابن الجوزي في الموضوعات كما سيأتي
قال في الحديث 6193 في كنز العمال : من زهد في الدنيا أربعين يوما وأخلص فيها العبادة أجرى الله على لسانه ينابيع الحكمة من قلبه . ( عد ) عن أبي موسى . وأورده ابن الجوزي في الموضوعات وقال الذهبي في الميزان باطل
وقال في كشف الخفاء تحت رقم 2361 :
من أخلص لله أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه
رواه أبو نعيم بسند ضعيف عن أبي أيوب
وقال في اللآلئ : رواه أحمد وغيره عن مكحول مرسلا بلفظ من أخلص لله أربعين يوما تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وروى مسندا من حديث ابن عطية عن ثابت عن أنس بسند فيه يوسف ضعيف لا يحتج به انتهى
ورواه القضاعي عن ابن عباس مرفوعا قال كأنه يريد بذلك من يحضر العشاء والفجر في جماعة قال ومن حضرها أربعين يوما يدرك التكبيرة الأولى كتب الله له براءتين براءة من النار وبراءة من النفاق
ورواه أبو الشيخ في ثواب عن أنس بلفظ : من أدرك التكبيرة الأولى مع الإمام أربعين صباحا كتب الله له - الحديث
وروى ابن الجوزي في الموضوعات عن أبي موسى رفعه : ما من عبد يخلص لله أربعين يوما - الحديث . والمشهور على الألسنة صباحا بدل يوما . وأورده الصغاني بلفظ : من أخلص لله أربعين صباحا نور الله تعالى قلبه وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه . وقال أنه موضوع
انتهى ما في كشف الخفاء
دار الحديث ]
وروى الإمام أحمد والبيهقي مرفوعا : قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان وجعل قلبه سليما ولسانه صادقا ونفسه مطمئنة وخليقته مستقيمة وجعل أذنه مستمعة وعينه ناظرة
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ إنما الأعمال بالنية ] ] وفي رواية : [ [ بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ] ]
وروى ابن ماجه بإسناد حسن مرفوعا : [ [ إنما يبعث الناس على نياتهم ] ] وفي رواية : [ [ إنما يحشر الناس على نياتهم ] ]
وروى مسلم مرفوعا : إن الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم
روى الطبراني والبيهقي مرفوعا : إذا كان آخر الزمن صارت أمتي ثلاث فرق : فرقة يعبدون الله خالصا وفرقة يعبدون الله رياء وفرقة يعبدون الله تعالى ليستأكلوا به الناس فيقول الله عز و جل للمخلصين اذهبوا بهم إلى الجنة ويقول للآخرين امضوا بهم إلى النار
وروى الحافظ أبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول : من رأى نفسه من المخلصين كان من المرائين ومن رأى نفسه من المرائين كان من المخلصين
والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة وسيأتي في أوائل قسم المنهيات نبذة صالحة عما جاء في الرياء وعدم الإخلاص في العمل والعلم فراجعه . والله أعلم
قلت : فقد بان لك أن من لم يخلص في عمله وعلمه فهو من الأخسرين أعمالا ويشهد لذلك أيضا قرائن الأحوال التي جاءت بها الأحاديث في سياقها وجميع ما ورد في فضل العلم والعمل إنما هو في حق المخلصين فيه
فإياك يا أخي والغلط فإن الناقد بصير وقد كثر في هذا الزمان أقوام لا يعملون بعلمهم وإذا نازعهم إنسان في دعواهم في قولهم نحن من أهل العلم استدلوا بما جاء في فضل طلب العلم مطلقه من غير شرط إخلاص فيقال لمثل هؤلاء فأين الآيات والأخبار والآثار الواردة في حق من لم يعمل بعلمه ولم يخلص ؟ فلا تغالط يا أخي وتدعي الإخلاص في علمك وعملك من غير تفتيش فإنه غش
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول في معنى حديث " إن الله تعالى ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " : هذا الرجل يتعلم العلم رياء وسمعة فيعلم الناس أمور دينهم ويفقههم ويحرسهم وينصر الدين إذا ضعف جانبه ثم يدخله الله تعالى بعد ذلك النار لعدم إخلاصه
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرجو من فضل ربنا الوفاء وأن نخلص النية لله تعالى في علمنا وعملنا وسائر أحوالنا ونخلص سائر الشوائب حتى من شهود الإخلاص ومن حضور استحقاقنا ثوابا على ذلك وإن خطر لنا طلب ثواب شهدناه من باب المنة والفضل وإن خطر لنا طلب ثواب شهدناه من باب المنة والفضل ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك طريق القوم على يد شيخ صادق متبحر في علوم الشريعة بحيث يقرر مذاهب الأئمة الأربعة وغيرها ويعرف أدلتها ومنازع أقوالها ويقف على أم الكتاب التي يتفرع منها كل قول فيشتغل من يريد الإخلاص في أعماله بذكر الله عز و جل حتى ترق حجب بشريته ويدخل حضرة الإنسان التي يعبد الله تعالى فيها كأنه يراه وهناك يشهد العمل كله خلقا لله عز و جل ليس للعبد فيه مدخل إلا كونه محلا لبروز ذلك العمل لا غير لأن الأعمال أعراض والأعراض لا تظهر إلا في الجسم وهناك يذهب من العبد الرياء والكبر والعجب وسائر الآفات لأن هذه الآفات إنما تجيء للعبد من شهود كونه فاعلا لذلك العمل مع غفلته عن شهود الخلق له ومعلوم أنه لا يصح الرياء والتكبر والعجب من العبد بعمل غيره أبدا وما رأينا أحدا نام إلى الصباح وأصبح يرائي أو يعجب أو يتكبر بفعل جاره القائم طول الليل أبدا فعلم أن من لم يصل إلى دخول حضرة الإحسان ويشهد أعماله كلها خلقا لله تعالى كشفا ويقينا لا ظنا ولا تخمينا فهو معرض للوقوع في الرياء ولو حفظ ألفي كتاب
فاطلب يا أخي شيخا صادقا إن طلبت الترقي إلى مقام الإخلاص ولا تسأم من طول طلبك له فإنه أعز من الكبريت الأحمر فإنه من أقل شروطه التورع عن أموال الولاة وأن لا يكون له معلوم في بيت المال ولا مسموح ولا هدية من كشف ولا شيخ عرب ولا شيخ بلد بل يرزقه الله تعالى من حيث لا يحتسب ويستخلص له الحلال الصرف من بين فرث الحرام ودم الشبهات وإلا فقد أجمع أشياخ الطريق كلهم على أن من أكل الحرام والشبهات لا يصح له إخلاص في عمل لأنه لا يخلص إلا إن دخل في حضرة الإحسان ولا يدخل حضرة الإحسان إلا المطهر من سائر النجاسات الباطنة والظاهرة لأن مجموع أهل هذه الحضرة أنبياء وملائكة وأولياء وهؤلاء من شروطهم العصمة والحفظ من تناول الحرام والشبهات فكل شيخ لم يصح له الحفظ في نفسه فهو عاجز عن توصيل غيره إلى تلك الحضرة اللهم إلا أن يمن الله تعالى على بعض المريدين بالجذب دون السلوك المعهود فذلك لا مانع منه فعلم أنه يجب على كل طالب علم لم يصل إلى الإخلاص أن يتخذ له شيخا يعلمه طريق الوصول إلى درجة الإخلاص من باب : ما لا يتم الواجب فهو واجب قال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة }
أي يقيموا الصلاة من العوج كالغفلة عن الله تعالى فيها ويؤتوا الزكاة يعني بلا علة ثواب ولا خوف عقاب بل امتثالا لأمر الله تعالى كالوكيل في مال موكله
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : من أقل درجات الإخلاص أن يكون في أعماله كالدابة المحملة فهي تعبانة من ثقل أحمالها منكسة الرأس لا تعلم بنفاسة ما هي حاملته ولا بخسته ولا تعلم هو لمن ولا إلى أين ينتهي حملها ؟ ولا ترى لها بذلك فضلا على غيرها من الدواب ولا تطلب على حملها أجرا
وسمعته يقول : إذا راءى العبد بعلمه وعمله حبط عمله بنص الكتاب والسنة وإذا حبط عمله فكأنه لم يعمل شيئا قط فكيف يرى نفسه بذلك على الناس مع توعده بعد الإحباط بالعذاب الأليم فلينتبه طالب العلم لمثل ذلك
قلت : وكذلك ينبغي للفقير المنقطع في كهف أو زاوية أن يتفقد نفسه في دعواها الإخلاص والانقطاع إلى الله تعالى فإن رآها تستوحش من ترك تودد الناس إليها وغفلتهم عنها فهو كاذب في دعواه الانقطاع إلى الله تعالى فإن الصادق يفرح إذا غفل عنه الناس ونسوه فلم يفتقدوه بهدية ولا سلام ويفرح إذا انقلب أصحابه كلهم عنه واجتمعوا بشيخ آخر مرشد كما بسطنا الكلام على ذلك في كتاب [ عهود المشايخ ] . والله أعلم (1/4)
- روى أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه قال المنذري : وهذا حديث حسن صحيح عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه و سلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا فقال : أوصيكم بتقوى الله والعمل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف فإن من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
ومعنى [ [ عضوا عليها بالنواجذ ] ] أي اجتهدوا على وجه السنة لا على وجه البدعة والزموا السنة واحرصوا عليها كما يلزم العاض على الشيء بنواجذه خوفا من ذهابه وتفلته والنواجذ : هي الأنياب وقيل هي الأضراس
وروى ابن أبي الدنيا والحاكم وقالا صحيح الإسناد مرفوعا : من أكل طيبا وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه دخل الجنة . قالوا : [ [ يا رسول الله إن هذا اليوم في أمتك كثير ؟ ] ] قال : وسيكون في قوم بعدي . يعني قلائل
وروى البيهقي مرفوعا : من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد على شرط الشيخين مرفوعا : الاقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدعة
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قبل الحجر الأسود وقال إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبلك ما قبلتك
وروى ابن ماجه وابن حبان في صحيحيهما عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : [ [ لقيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في رهط فبايعناه وإنه لمطلق الأزرار ] ] . قال عروة بن عبدالله فما رأيت معاوية ولا ابنه قط في شتاء أو صيف إلا مطلق الأزرار وفي رواية إلا مطلقة أزرارهما
وروى ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي عن زيد بن أسلم قال : رأيت ابن عمر يصلي محلولة أزراره فسألته عن ذلك فقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعله
وروى الإمام أحمد والبزار عن مجاهد وغيره قال : كنا مع ابن عمر في سفر فمر بمكان فحاد عنه فسئل لم فعلت ذلك فقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فعل هذا ففعلته . وقوله حاد : أي تنحى عنه وأخذ يمينا أو شمالا
وروى البزار عن ابن عمر أنه كان يأتي شجرة بين مكة والمدينة فيقيل تحتها ويخبر أن النبي كان يفعل مثل ذلك
وروى الإمام أحمد وغيره أن ابن عمر أناخ راحلته في مكان فقضى حاجته وأخبر أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى حاجته في ذلك المكان وقال أحببت أن أقضي حاجتي في موضع قضى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم حاجته
قلت : وإنما تبع ابن عمر النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك لأن الكمل يستحيون من الأرض إذا قضوا عليها الحاجة خوفا أن تكون تلك البقعة مشرفة لا تصلح لقضاء الحاجة فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم فعل ذلك قال في نفسه لولا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم علم أن تلك البقعة تصلح لذلك ما فعل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك
قال الحافظ : والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في اتباعهم له واقتفائهم سننه كثيرة جدا . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتبع السنة المحمدية في جميع أقوالنا وأفعالنا وعقائدنا فإن لم نعرف لذلك الأمر دليلا من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس توقفنا عن العمل به ثم ننظر فإن كان ذلك الأمر قد استحسنه بعض العلماء استأذنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه ثم فعلناه أدبا مع ذلك العالم وذلك كله خوف الابتداع في الشريعة المطهرة فنكون من جملة الأئمة المضلين وقد شاورته صلى الله عليه و سلم في قول بعضهم : إنه ينبغي أن يقول المصلي في سجود السهو : سبحان من لا ينام ولا يسهو فقال صلى الله عليه و سلم هو حسن ثم لا يخفي أن الاستئذان لرسول الله صلى الله عليه و سلم يكون بحسب المقام الذي فيه العبد حال إرادته الفعل فإن كان من أهل الاجتماع به صلى الله عليه و سلم يقظة ومشافهة كما هو مقام أهل الكشف استأذنه كذلك وإلا استأذنه بالقلب وانتظر ما يحدثه الله تعالى في قلبه من استحسان الفعل أو الترك
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : ليس مراد الأكابر من حثهم على العمل على موافقة الكتاب والسنة إلا مجالسة الله ورسوله صلى الله عليه و سلم في ذلك الأمر لا غير فإنهم يعلمون أن الحق تعالى لا يجالسهم إلا في عمل شرعه هو ورسوله صلى الله عليه و سلم أما ما ابتدع فلا يجالسهم الحق تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم فيه أبدا وإنما يجالسون فيه من ابتدعه من عالم أو جاهل فعلم أنه ليس قصد أهل الله تعالى بعبادتهم حصول ثواب ولا غيره في الآخرة لأنهم في الدارين عبيد والعبد لا يملك شيئا مع سيده في الدنيا والآخرة إنما يأكل ويلبس ويتمتع بمال سيده وسداه ولحمته من نعمته ولو أن الحق تعالى أعطاه شيئا لوجب عليه التبري به إلى ربه ولا يجوز له أن يشهد ملكه له طرفة عين فلهذا المشهد خرجوا في جميع عباداتهم عن العلل النفسية فرضوا عن ربهم رضا مطلقا ورضي عنهم رضا مطلقا : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }
واعلم يا أخي أن من تحقق بالعمل بهذا العهد صار من رؤوس أهل السنة والجماعة في عصره ومن لم يلقبه بذلك فقد ظلمه ولا أعلم الآن أحدا في مصر تحقق بالعمل بهذا العهد وتقيد في أقواله وأفعاله وعقائده بالكتاب والسنة إلا بعض أفراد من العلماء كالشيخ عبدالرحمن التاجوري المغربي وأضرابه رضي الله عنهم أجمعين
قلت : وقد من الله تعالى علي بالعمل به في بعض أقوالي وأفعالي فكذب والله وافترى من نسبني إلى البدعة المخالفة لجمهور أهل السنة والجماعة فإن هذا ما هو نفس مبتدع اللهم إلا أن يريد الابتداع في شيء من المباحات في الشريعة بحكم العمومات فهذا لا يحرج عليه في ذلك لأن هذا الأمر قل من سلم منه من العلماء فضلا عن غيرهم كما هو مشاهد فاعلم ذلك واحم سمعك وبصرك في حق العلماء ولا تصغ إلى قول حاسد لهم قط إلا إن اجتمعت بأحدهم وفاوضته في الكلام في تلك البدعة فإذا رأيته متخلقا بها وعرفته بأنها بدعة وصمم على العمل بها فهناك حذر الناس منه شفقة عليه وعلى المسلمين حتى لا يقع أحد منهم في إثم لا المبتدع ولا من تبعه وإياك أن تحذر من اتباع أحد من العلماء بقول أحد من حسادهم من غير اجتماع به فربما يكون بريئا مما نسب إليه فيكون عليك إثم قاطع الطريق على المريدين لاتباع الشريعة فإنك حينئذ تحذر من اتباع السنة المحمدية وهذا واقع كثيرا في الأقران في هذا الزمان فترى كل واحد يحذر الناس عن الآخرة وكل منهما يزعم أنه من أهل الطريق السنة والجماعة فيختل الأمر إلى عدم الاقتداء بواحد منهما فالله يحمينا وأصحابنا من مثل ذلك بمنه وكرمه آمين
وكان سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول : لا تكمل عبادة فقير حتى يصير يشاهد الشرع في كل عبادة عملها يعني يعملها بحضرته على الكشف والمشاهدة لا على الإيمان والحجاب ثم قال : فإن قال قائل ما دليلك على ذلك ؟ قلنا له قد رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في واقعة من الوقائع فقلت له يا رسول الله ما حقيقة متابعتك في العمل على موافقة شريعتك فقال : هي أن تعمل العمل مع شهودك للشرع حال العمل وبعد العمل
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى الإحاطة بأدلة جميع المذاهب المستعملة والمندرسة وأقوال علمائها حتى لا يكاد يخفى عليه دليل من أدلتهم ولا قول من أقوالهم في مأمور به أو منهي عنه أو مباح ثم بعد ذلك لا بد له من شيخ صالح يسلم إليه نفسه يتصرف فيها بالرياضات والمجاهدات حتى يزيل عنه سائر الصفات المذمومة ويحليه بالصفات المحمودة ليصلح لمجالسة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم فإن غالب الناس قد ادعوا مجالسة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم مع تلطخهم بالقاذورات المانعة من دخول حضرة الله وحضرة رسوله فازدادوا مقتا وطردا . فاعمل يا أخي على جلاء مرآة قلبك من الصدأ والغبار وعلى تطهرك من سائر الرذائل حتى لا يبقى فيك خصلة واحدة تمنعك من دخول حضرة الله تعالى أو حضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن أكثرت من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه و سلم فربما تصل إلى مقام مشاهدته صلى الله عليه و سلم وهي طريق الشيخ نور الدين الشوني والشيخ أحمد الزواوي والشيخ محمد بن داود المنزلاوي وجماعة من مشايخ اليمن فلا يزال أحدهم يصلي على رسول الله صلى الله عليه و سلم ويكثر منها حتى يتطهر من كل الذنوب ويصير يجتمع به يقظة أي وقت شاء ومشافهة ومن لم يحصل له هذا الاجتماع فهو إلى الآن لم يكثر من الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه و سلم الإكثار مطلوب ليحصل له هذا المقام
وأخبرني الشيخ أحمد الزواوي أنه لم يحصل له الاجتماع بالنبي صلى الله عليه و سلم يقظة حتى واظب الصلاة عليه سنة كاملة يصلي كل يوم وليلة خمسين ألف مرة وكذلك أخبرني الشيخ نور الدين الشوني أنه واظب على الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم كذا وكذا سنة كل يوم يصلي ثلاثين ألف صلاة
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا يكمل عبد في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله صلى الله عليه و سلم أي وقت شاء قال : وممن بلغنا أنه كان يجتمع بالنبي صلى الله عليه و سلم يقظة ومشافهة من السلف الشيخ أبو مدين شيخ الجماعة والشيخ عبدالرحيم القناوي والشيخ موسى الزولي والشيخ أبو الحسن الشاذلي والشيخ أبو العباس المرسي والشيخ أبو السعود بن أبي العشائر وسيدي إبراهيم المتبولي والشيخ جلال الدين الأسيوطي كان يقول : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم واجتمعت به نيفا وسبعين مرة
وأما سيدي إبراهيم المتبولي فلا يحصى اجتماعه به لأنه كان في أحواله كلها ويقول : ليس لي شيخ إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان الشيخ أبو العباس المرسي يقول : لو احتجب عني رسول الله صلى الله عليه و سلم ساعة ما عددت نفسي من جملة المؤمنين
واعلم أن مقام مجالسة رسول الله صلى الله عليه و سلم عزيزة جدا وقد جاء شخص إلى سيدي علي المرصفي وأنا حاضر فقال : يا سيدي قد وصلت إلى مقام صرت أرى رسول الله صلى الله عليه و سلم يقظة أي وقت شئت فقال له : يا ولدي بين العبد وبين هذا المقام مائتا ألف مقام وسبعة وأربعون ألف مقام ومرادنا تتكلم لنا يا ولدي على عشر مقامات منها فما درى ذلك المدعي ما يقول وافتضح فاعلم ذلك . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/5)
- روى مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جاءه قوم من مضر مجتابي النمار أي لابسي العباء الصوف المخطط فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال : [ [ { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } إلى قوله { إن الله كان عليكم رقيبا } والآية التي في الحشر { اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد } . تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع تمر من صاع بر حتى قال ولو بشق تمرة ] ] . قال فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت فتتابع الناس حتى صار كومين من طعام وثياب حتى تهلل وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ] ] الحديث
وفي رواية للإمام أحمد والحاكم وابن ماجه وغيرهم مرفوعا : [ [ من سن خيرا فاستن به كان له أجره ومثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ] ] الحديث
وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ من سن حسنة فله أجرها ما عمل بها عامل في حياته وبعد مماته حتى تترك ] ] الحديث
وروى ابن ماجه والترمذي مرفوعا وقال حديث حسن : [ [ من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيء ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيء ] ]
ومعنى لا يرضاها الله ورسوله : أي لا يشهد لها كتاب ولا سنة بالصحة
وروى ابن ماجه والترمذي وغيرهما مرفوعا : [ [ إن لهذا الخير خزائن ولتلك الخزائن مفاتيح فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكون في أعمال الخير من أهل الرعيل الأول فنبدأ بفعل الخير قبل الناس مسارعة للخير ويستن بنا الناس وذلك كما إذا رأينا إنسانا يسأل الناس ولا أحد يعطيه شيء فنعطيه أمام الناس تحريضا لهم على العطاء ولا نعطيه سرا وكذلك نحرص على أن نقوم من الليل من أول ما يقع التجلي : [ [ وينادي الحق تعالى هل من سائل فأعطيه سؤله هل من مستغفر فأغفر له هل من مبتلى فأعافيه ] ]
إلى آخر ما ورد في ذلك من أول الثلث الأخير من الليل في أغلب التجليات التي كان صلى الله عليه و سلم يتهجد وقتها كما أشار إليه قوله تعالى : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه }
وذلك ليتأسى بنا إخواننا وجيراننا فربما قام أحدهم يتهجد حين يرانا فيكتب لنا وله الأجر
ومن هذا الباب أيضا إظهار التصبر على البلايا والمحن في هذا الزمان ليتأسى الناس بنا في الصبر وعدم التسخط فإن رأينا الصبر بلغ حده أظهرنا الضعف حتى يرتفع كما وقع لأيوب عليه السلام فعلم أنه ينبغي لكل عامل أن يستر عمله ما استطاع إلا في محل يقتدي به في فعله وفي كيفيته . والله أعلم
وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله عنه يقول : لا ينبغي إظهار الأعمال إلا للأكابر من العلماء والصالحين الغواصين على دسائس النفوس وأما أمثالنا فربما يظهر الواحد منا أعماله رياء وسمعة وتلبس عليه نفسه وتقول له أنت بحمد الله من المخلصين وإنما تظهر هذه العبادة ليقتدي بك الناس فينبغي لمثل هذا أن يمتحن نفسه بما لو جاء أحد يفعل ذلك الخير وتنقاد الناس له مثله أو أكثر منه فإن انشرح لذلك فهو مخلص وإن انقبض خاطره فهو مراء دق المطرقة ولو أنه كان مخلصا لفرح بذلك أشد الفرح الذي قيض الله تعالى له من كفاه المؤونة [ أي كفاه مشقة تعليم هؤلاء ] ثم إن قالت له نفسه إنما تشوشت لفوات الخير العظيم الذي كان يحصل لك من حيث هو خير فليقل لها إني معتمد على فضل الله لا على الأعمال فإن دخلت الجنة فإنما هو برحمة الله تعالى لا بعملي فينبغي للعبد أن لا يصغي لدعوى نفسه في الإخلاص وليمتحن الشيخ أو المدرس نفسه بما إذا فرت جماعته كلهم منه إلى شخص من أقرانه وبقي وحده لا يجد أحدا يتمشيخ عليه فإن انشرح لذلك فهو مخلص وإن حصل في نفسه حزازة فالواجب عليه أن يتخذ له شيخا يخرجه من ظلمات الرياء وإلا مات عاصيا وذهب إلى الآخرة صفر اليدين من الخير لأن الله تعالى لم يقبل له عملا
وسمعته أيضا يقول : ينبغي للعامل إذا درس في مثل جامع الأزهر أن يحرر نيته قبل ذلك ولو مكث سنين بلا إقراء حتى يجد له نية صالحة وذلك لغلبة دخول الأكابر الذين تميل النفوس إلى مراآتهم من الأمراء والأغنياء إلى الجامع وكان النووي إذا درس في المدرسة الأشرفية بدمشق يوصي الطلبة أن لا يجيئوا دفعة واحدة خوفا من كبر الحلقة
وكان إذا درس جلس في عطفة المسجد ويقول : إن النفس تستحلي رؤية الناس لها وهي تدرس في صحن المسجد أو صدره
وبلغه يوما وهو يدرس في جامع بني أمية أن الملك الظاهر عازم على الصلاة في الجامع فترك التدريس وحضور المسجد ذلك اليوم . فإياك يا أخي أن تعقد لك مجلس علم أو ذكر الله تعالى أو صلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم بحيث يراك الناس إلا أن تكون سالما من هذه العلل والآفات
وقد حضرت مرة الشيخ العالم العامل شمس الدين اللقاني مفتي المالكية بالجامع الأزهر وهو يقول لشيخنا الشيخ نور الدين الشوني شيخ مجلس الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ والله يا أخي إني خائف عليك من تصدرك في الجامع في هذا المجلس ليلة الجمعة ويومها والأمراء والأكابر ينظرون إليك ويعتقدونك على ذلك ويقولون شيء لله المدد فربما مالت نفسك إلى حب فرحها بذلك فخسرت الدنيا والآخرة
وسمعته مرة أخرى يقول : إذا فرغ الناس من صلاة الجمعة فاصبر على قراءة سورة الكهف حتى ينفض الناس ثم اشرع في القراءة فإن النفس تستحلي رؤية الناس لها في ذلك المحفل العظيم
فاعلم يا أخي ذلك واعمل به وبهدى هدى الصادقين اقتد والله يتولى هداك (1/6)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ] ] . زاد في رواية : [ [ إنما يخشى الله من عباده العلماء ] ]
وروى البزار والطبراني مرفوعا : إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين وألهمه رشده
وروى الطبراني مرفوعا : أفضل العبادات الفقه وأفضل الدين الورع
وروى الطبراني والبزار بإسناد حسن مرفوعا : فضل العلم خير من فضل العبادة وخير دينكم الورع
وروى الطبراني مرفوعا : قليل العلم خير من كثير العبادة وكفى بالمرء فقها إذا عبد الله وكفى بالمرء جهلا إذا عجب برأيه
ورواه البيهقي بإسناد حسن صحيح من قول مطرف بن عبدالله بن الشخير رضي الله عنه
وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم مرفوعا : من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة . وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه في صحيحه مرفوعا إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر
وروى ابن ماجه وغيره مرفوعا : طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب
وروى الطبراني مرفوعا : من جاء أجله وهو يطلب العلم لقي الله ملم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوة
وروى ابن ماجه بإسناد حسن عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله تعالى خير لك من أن تصلي مائة ركعة ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عملت به أو لم تعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركعة ] ]
وروى الخطيب بإسناد حسن مرفوعا : العلم علمان : علم في القلب فذلك العلم النافع وعلم في اللسان وذلك حجة الله على ابن آدم
وروى الديلمي في مسنده وأبو عبدالرحمن السلمي في الأربعين التي له في التصوف والحكيم الترمذي في نوادر الأصول أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله عز و جل ] ]
والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ندمن مطالعة كتب العلم وتعليمه للناس ليلا ونهارا ما عدا العبادات المؤقتة والحوائج الضرورية
ومذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه أن طلب العلم على وجه الإخلاص أفضل من صلاة النافلة . واعلم أن الشارع صلى الله عليه و سلم ما نوع العبادات المتفاضلة في الأجر إلا لعلمه صلى الله عليه و سلم بحصول الملل للعاملين ولو في الأمور الواجبة فإذا حصل الملل فيها انتقلوا إلى واجب آخر أو إلى ذلك الأمر المفضول فإذا حصل الملل منه كذلك انتقلوا لمفضول آخر أو فاضل أو أفضل ما لم يجدوا في نفوسهم مللا فيه فعلم أن سبب تنوع المأمورات إنما هو وجود الملل فيها إذا دامت فلو تصور أن إنسانا لم يمل من الواجبات أو مما هو أفضل لأمره صلى الله عليه و سلم بملازمتها وترك الأمور المفضولة جملة لأنه ما تقرب المتقربون إلى الله تعالى بمثل أداء ما افترضه عليهم ولكن لما كان يحصل لهم من الملل في الواجبات حتى لا يبقى في نفس العامل داعية ولا خشوع ولا لذة بتلك العبادات كان العمل المفضول الذي له فيه داعية ولذة وخشوع أتم وأكمل
وقد كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقسم الليل ثلاثة أجزاء جزءا ينام فيه وجزءا يطالع الحديث ويستنبط وجزءا يتهجد فيه . وكان يقول : [ [ لولا مذاكرة الإخوان في العلم والتهجد في الليل ما أحببت البقاء في هذه الدار ] ] . فعلم أنه لا ينبغي لطالب العلم أن يكب على مطالعة العلم ليلا ونهارا إلا إذا صلحت النية فيه ولم يقم أحد مقامه في بلده أو إقليمه فإن دخل بيته حب رياسة أو طلب دنيا أو قام أحد مقامه في نشر العلم فالاشتغال بكل ما صلحت فيه النية من الطاعات أولى وسيأتي في العهود قريبا أن من جملة العمل بالعلم توبة العبد واستغفاره إذا وقع في معصية فإنه لولا العلم ما عرف أنها معصية ولا تاب منها فتأمل
وقد قال داود الطائي رحمه الله تعالى : طالب العلم كالمحارب فإذا أفنى عمره في تعليم كيفية القتال فمتى يقاتل ؟ فمن عقل العاقل أنه كلما رأى نفسه عملت بكل ما علم واحتاجت للعلم أن يقدمه على سائر الطاعات التي لم يأمره الشارع بتقديمها عليه وكلما رأى نفسه مستغنية عن العلم وعلمها زائد على حاجتها أن يقدم غيره عليه كما كان عليه السلف الصالح فلابد لكل إنسان من العلم والعمل والاشتغال بواحد منهما دون الآخر نقص
واعلم أن جميع ما ورد في فضل العلم وتعليمه إنما هو في حق المخلصين في ذلك فلا تغالط في ذلك فإن الناقد بصير . وقد وقع لنا مع المجادلين نزاع كثير في ذلك فإنا نراهم متكالبين على الدنيا ليلا ونهارا مع دعواهم العلم وتعظيمهم نفوسهم بالعلم والجدال من غير أن يعرجوا على العمل بما علموا ويستدل أحدهم بما ورد في فضل العلم وينسى الأحاديث التي جاءت في ذم من لم يعمل بعلمه جملة واحدة وهذا كله غش للنفس وفي القرآن العظيم : { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمن يكون عليهم وكيلا }
فاسلك يا أخي على يد شيخ يخرجك من هذه الرعونات والظلمات والدعاوي وتصير تبكي على تفريطك في الأعمال حتى يصير لك خطان أسودان في وجهك من سيلان الدموع وإن لم تسلك كما ذكرنا فيطول تعبك في الآخرة ويا خسارة تعبك في تحصيلك للدنيا
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول في معنى حديث : [ [ إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ] ] . ومعناه أن الناس ينتفعون بعلم الفاجر وتعليمه وإفتائه وتدريسه حتى يكون في الصورة كالعلماء العاملين ثم يدخله الله بعد ذلك في النار لعدم إخلاصه كما مر قريبا نسأل الله اللطف فاعلم ذلك والله يتولى هداك (1/7)
- تقدم حديث مسلم وغيره مرفوعا : من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله تعالى له به طريقا إلى الجنة
وروى الترمذي وصححه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد واللفظ لابن ماجه مرفوعا : ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع
وروى الطبراني بإسناد مرفوعا لا بأس به : من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلم كان له كأجر حاج تاما حجه
والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا لم نجد أحدا نتعلم منه العلم الشرعي في بلدنا أن نسافر إلى بلد فيها العلم وهي هجرة واجبة علينا إذا لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وهذا العهد قد أخل به كثير من الخلق وماتوا على جهلهم مع أن العلماء في بلدهم وربما كانوا جيرانا لهم . وقد قال العلماء : من صلى جاهلا بكيفية الوضوء والصلاة يعني أو غيرهما لم تصح عبادته وإن وافق الصحة فيها ويؤيده الحديث الصحيح مرفوعا : كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد
فمن صلى ونكح وباع وصام وحج على حسب ما يرى الناس يفعلون فقط فعبادته فاسدة وتأمل من كان عنده شك لما يسأله منكر ونكير عن دينه وعن نبيه صلى الله عليه و سلم فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته كيف يضربانه بمزربة لو ضرب بها جبل لهدم كما ورد تعرف أن الشارع فرض عليك معرفة مراتب العبادات وأنه لا يكفيك أن تتبع الناس على فعلهم من غير معرفة . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/8)
- روى أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ نضر الله امرأ ] ] . وفي رواية ابن حبان : [ [ رحم الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع ] ]
ومعنى نضر الله : الدعاء بالنضارة وهي النعمة والبهجة والحسن تقديره جمله الله وزينه بالأخلاق الحسنة والأعمال المرضية وقيل غير ذلك
وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ فربما حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ] ]
وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ اللهم ارحم خلفائي قالوا يا رسول الله وما خلفاؤك ؟ قال الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي ويعلمونها للناس ] ]
قال الحافظ عبدالعظيم رحمه الله : وناسخ العلم النافع له أجره وأجر من قرأه أو نسخه أو عمل به من بعده ما بقي خطه والعمل به لحديث مسلم مرفوعا : [ [ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به ] ] . الحديث
قال : وأما ناسخ غير العلم النافع مما يوجب الإثم عليه فعليه وزره ووزر من قرأه أو نسخه أو عمل به من بعده ما بقي خطه والعمل به كما يشهد له الحديث : [ [ ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ] ]
وذلك كعلوم السحر والبراهمة وعلم جابر المبدل ونحوها مما يضر صاحبه في الدنيا والآخرة
وروى الطبراني وغيره مرفوعا : [ [ من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب ] ] . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نسمع الناس الحديث ألا كل قليل ونبلغه إلى البلاد التي ليس فيها أحاديث وذلك بكتبنا كتب الحديث وإرسالها إلى بلاد الإسلام
وقد كتبت بحمد الله كتابا جامعا لأدلة المذاهب وأرسلته مع بعض طلبة العلم إلى بلاد التكرور حين أخبروني أن كتب الحديث لا تكاد توجد عندهم إنما عندهم بعض كتب المالكية لا غير وأرسلت نسخة أخرى إلى بلاد المغرب كل ذلك محبة في رسول الله صلى الله عليه و سلم وعملا على مرضاته صلى الله عليه و سلم
وكان سفيان الثوري وابن عيينة وعبدالله بن سنان يقولون : لو كان أحدنا قاضيا لضربنا بالجريد فقيها لا يتعلم الحديث ومحدثا لا يتعلم الفقه
وفي كتابة الحديث وإسماعه للناس فوائد عظيمة منها عدم اندراس أدلة الشريعة فإن الناس لو جهلوا الأدلة جملة والعياذ بالله تعالى لربما عجزوا عن نصرة شريعتهم عند خصمهم وقولهم : إنا وجدنا آباءنا على ذلك . لا يكفي وماذا يضر الفقيه أن يكون محدثا يعرف أدلة كل باب من أبواب الفقه
ومنها تجديد الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه و سلم في كل حديث وكذلك تجديد الترضي والترحم على الصحابة والتابعين من الرواة إلى وقتنا هذا
ومنها وهو أعظمها فائدة الفوز بدعائه صلى الله عليه و سلم لمن بلغ كلامه إلى أمته في قوله : [ [ نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ] ]
ودعاؤه صلى الله عليه و سلم مقبول بلا شك إلا ما استثنى كعدم إجابته صلى الله عليه و سلم في أن الله تعالى لا يجعل بأس أمته فيما بينهم كما ورد
وقوله أداها كما سمعها يفهم أن ذلك الدعاء إنما هو خاص بمن أدى كلامه صلى الله عليه و سلم كما سمعه حرفا بحرف بخلاف من يؤديه بالمعنى فربما لا يصيبه من ذلك الدعاء شيء ومن هنا كره بعضهم نقل الحديث بالمعنى وبعضهم حرمه . { والله غفور رحيم } (1/9)
روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا يا رسول الله وما رياض الجنة قال : مجالس العلم
قال وفي سنده راو لم يسم
وفي رواية له أيضا عن ابن أمامة مرفوعا أن لقمان عليه السلام قال لابنه : يا بني عليك بمجالسة العلماء واسمع كلام الحكماء فإن الله تعالى ليحي القلب الميت بنو الحكمة كما يحي الأرض الميتة بوابل المطر
قال الحافظ العبدري : ولعل هذا الحديث موقوف
وروى أبو يعلي ورواته رواة الصحيح إلا واحدا عن ابن عباس قال : قيل يا رسول الله أي جلسائنا خير : قال من ذكركم الله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة علمه . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نخلي نفوسنا من مجالسة العلماء ولو كنا علماء فربما أعطاهم الله من العلم ما لم يعطنا وهذا العهد يخل بالعمل به كثير من الفقهاء والصوفية فيدعون أن عندهم من العلم ما عند جميع الناس بل سمعت بعضهم يقول لما لمته على عدم التردد للعلماء والله لو علمت أن أحدا في مصر عنده علم زائد على ما عندي لخدمت نعاله ولكن بحمد الله تعالى قد أعطانا الله تعالى من العلم ما أغنانا به عن الناس وهذا كله جهل بنص الشارع كما سيأتي في قوله صلى الله عليه و سلم : من قال إني عالم فهو جاهل
وفي قصة موسى مع الخضر عليهما السلام كفاية لكل معتبر . فاجتمع يا أخي في كل قليل على العلماء واغتنم فوائدهم ولا تكن من الغافلين عنهم فتحرم بركة أهل عصرك كلهم لكونك رأيت نفسك أعلى منهم أو مساويا لهم فإن الإمدادات الإلهية من علم أو غيره حكمها حكم الماء والماء لا يجري إلا في السفليات فمن رأى نفسه أعلى من أقرانه لم يصعد له منهم مدد ومن رأى نفسه مساويا لهم فمددهم واقف عنه كالحوضين المتساويين فما بقي الخير كله إلا في شهود العبد أنه دون كل جليس من المسلمين لينحدر له المدد منهم كما أوضحنا ذلك في أول عهود المشايخ . { والله عليم حكيم } (1/10)
- روى البخاري : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يجمع بين الرجلين في قتلى أحد يعني في القبر ثم يقول أيهما أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد
قلت : ومعنى كونه أكثر أخذا للقرآن أي أكثر عملا به من قيام ليل واجتناب نهى ونحو ذلك
وروى الطبراني والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم مرفوعا : البركة مع أكابركم
وروى الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير
وفي رواية للإمام أحمد والطبراني والحاكم مرفوعا : ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه . وفي رواية : ويعرف شرف كبيرنا
وروى الطبراني مرفوعا : تواضعوا لمن تعلمون منه
وروى الطبراني أيضا مرفوعا : ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق : ذو الشيبة في الإسلام وذو العلم والإمام المقسط . الحديث
وروى الإمام أحمد والطبراني بإسناد حسن عن عبدالله بن بشر قال : سمعت حديثا منذ زمان : [ [ إذا كنت في قوم عشرون رجلا أو أقل أو أكثر فتصفحت وجوههم فلم تر فيهم رجلا يهاب في الله عز و جل فاعلم أن الأمر قد رق ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خصال فذكر منها وأن يروا ذا علم فيضيعونه ولا يسألون عليه
والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكرم العلماء ونجلهم ونوقرهم ولا نرى لنا قدرة على مكافأتهم ولو أعطيناهم جميع ما نملك أو خدمناهم العمر كله وهذا العهد قد أخل به غالب طلبة العلم والمريدين في طريق الصوفية الآن حتى لا نكاد نرى أحدا منهم يقوم بواجب حق معلمه وهذا داء عظيم في الدين مؤذن باستهانة العلم وبأمر من أمرنا بإجلال العلماء صلى الله عليه و سلم فصار أحدهم يفخر على شيخه حتى صار شيخه يداهنه ويمالقه حتى يسكت عنه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وقد بلغنا عن الإمام النووي أنه دعاه يوما شيخه الكمال الإربلي ليأكل معه فقال يا سيدي أعفني من ذلك . فإن لي عذرا شرعيا فتركه فسأله بعض إخوانه ما ذلك العذر ؟ فقال أخاف أن تسبق عين شيخي إلى لقمة فآكلها وأنا لا أشعر . وكان رضي الله عنه إذا خرج للدرس ليقرأ على شيخه يتصدق عنه في الطريق بما تيسر ويقول اللهم استر عني عيب معلمي حتى لا تقع عيني له على نقيصة ولا يبلغني عنه عن أحد رضي الله عنه . ثم من أقل آفات سوء أدبك يا أخي مع الشيخ أنك تحرم فوائده فإما بكتمها عنك بغضا فيك وإما أن لسانه ينعقد عن إيضاح المعاني لك فلا تتحصل من كلامه على شيء تعتمد عليه عقوبة لك فإذا جاءه شخص من المتأدبين معه انطلق لسانه له لموضع صدقة وأدبه معه فعلم أنه ينبغي للطالب أن يخاطب شيخه بالإجلال والإطراق وغض البصر كما يخاطب الملوك ولا يجادله قط بعلم استفادة منه في وقت آخر على سبيل التعرف فيقول يا سيدي سمعناكم تقررون لنا أمس خلاف هذا فماذا تعتمدون عليه من التقريرين الآن حتى نحفظه عنكم ؟ ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها رائحة الأدب وكذلك ينبغي له أن لا يتزوج امرأة شيخه سواء كانت مطلقة في حياته أو بعد مماته وكذلك لا ينبغي له أن يسعى على وظيفته أو خلوته أو بيته بعد موته فضلا عن حياته إلا لضرورة شرعية ترجح على الأدب مع الشيخ وكذلك لا ينبغي أن يسعى على أحد من أصحاب شيخه أو جيرانه فضلا عن أولاده فإن الواجب على كل طالب أن يحفظ نفسه عن كل ما يغير خاطر شيخه في غيبته وحضوره
وسيأتي في هذا الكتاب أيضا في أثناء عهود البيع فراجعه وكذلك بسطنا الكلام بنقول العلماء على ذلك في عهود المشايخ . { والله عزيز حكيم } (1/11)
- روى ابن ماجه وابن خزيمة مرفوعا : إنما يلحق المؤمن من علمه وعمله وحسناته بعد موته علم علمه ونشره
وروى مسلم وأبو داود والترمذي مرفوعا : من دل على خير فله مثل أجر فاعله أو قال عامله
وروى البزار والطبراني مرفوعا : الدال على خير كفاعله
وروى مسلم وغيره مرفوعا : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا
وروى الحاكم مرفوعا عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى : { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } . قال : علموا أهليكم الخير
والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا لم نعمل بعلمنا أن ندل عليه من يعمل به من المسلمين وإن لم يكن ذلك يجبر خللنا على التمام فإن من الناس من قسم له العلم ولم يقسم له عمل به ومنهم من قسم له العلم والعمل به ومنهم من لم يقسم له واحد منهما كبعض العوام
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول : يتعين على كل من لم يعمل بعلمه أن يعلمه الناس ولمن يرجو عمله به . وسمعته مرة أخرى يقول : ما ثم عالم إلا وهو يعمل بعلمه ولو بوجه من الوجوه ما دام عقله حاضرا وذلك أنه إن عمل بالمأمورات الشرعية واجتنب المنهيات فقد عمل بعلمه بيقين إذا رزقه الله الإخلاص فيه وإن لم يعمل بعلمه كما ذكرنا فيعرف بالعلم أنه خالف أمر الله فيتوب ويندم فقد عمل أيضا بعلمه لأنه لولا العلم ما اهتدى لكون ترك العمل بالعلم معصية فالعلم نافع على كل حال ويحمل ما ورد في عقوبة من لم يعمل بعلمه على من لم يتب من ذنبه . وهو كلام نفيس
وملخص ذلك أنه لا يشترط في كون الإنسان عاملا بعلمه عدم وقوعه في معصية كما يتبادر إلى الأذهان وإنما الشرط عدم إصراره على الذنب أو عدم إصراره على الإصرار وهكذا (1/12)
- روى أبو داود عن مكحول مرسلا قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبال بأبواب المساجد
والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكرم المساجد ولا نقضي الحاجة قريبا من أبوابها في غير الأمكنة المعدة لذلك تعظيما وإجلالا لله تعالى وهذا العهد يخل به كثير من الناس الذين حوانيتهم قريبة من أبواب المساجد فيتكلفون دخول المساجد إن كانت مطهرته يدخل إلى مجازها منه لأجل خلع نعالهم إذا دخلوا المسجد أو لكونها دورة عليهم ونحو ذلك ؟ وهذا الفعل من أقبح ما يكون وليتأمل أحدهم إذا أراد أن يدخل قصر السلطان لا يقدر يبول قط على باب قصره هيبة للسلطان وخوفا من خدامه فالله تعالى أحق بذلك
وسيأتي زيادة على ذلك في العهد الثالث عشر بعد هذا فراجعه
وكان سيدي عليا الخواص رحمه الله إذا أراد أن يدخل المسجد يتطهر خارجه أو في بيته ولا يدخل قط محدثا ليتوضأ في الميضأة التي هي داخل المسجد خوفا أن يدخل محدثا وكان إذا دخل المسجد يصير يرتعد من الهيبة حتى يقضي الصلاة فيخرج مسرعا ويقول الحمد لله الذي أطلعنا من المسجد على سلامة . فقلت له أنتم بحمد الله في حضور مع الله تعالى داخل المسجد وخارجه . فقال : يا ولدي قد طلب الحق تعالى منا في المسجد آدابا لم يطلبها منا خارجه وانظر إلى نهيه صلى الله عليه و سلم الجالس في المسجد عن تشبيك الأصابع وعن تقليب الحصى ونحو ذلك تعرف ما قلناه فإن الشارع صلى الله عليه و سلم لم ينهنا عن ذلك في غير المسجد . ورأى رضي الله عنه مرة شخصا من الفقراء يمشي بتاسومة طاهرة في صحن المسجد فزجره ونهاه عن ذلك وقال تورع في اللقمة أحوط لك
وقام له شخص مرة في المسجد فزجره زجرا شديدا وقال : [ [ إن العبد إذا عظم في حضرة الله تعالى ذاب كما يذوب الرصاص حياء من الله تعالى أن يشاركه في صورة التعظيم والكبرياء ] ] . وكان إذا جاء إلى المسجد لا يتجرأ أن يدخل وحده بل يصبر على الباب حتى يأتي أحد فيدخل وراءه تبعا له ويقول : [ [ المسجد حضرة الله تعالى ولا يبدأ بالجلوس بين يدي الله تعالى قبل الناس إلا المقربون الذين لا خطيئة عليهم ولا تدنست جوارحهم قط بمعصية أو وقعوا وتابوا منها توبة نصوحا كالأولياء الذين سبقت لهم العناية الربانية بالولاية الكبرى في عدم العدم وعلموا بالكشف الصحيح أن الله تعالى قبل توبتهم وبدل سيئاتهم حسنات بحيث لم يبق عندهم سيئة يستحضرونها ومتى استحضروها فليعلموا أن توبتهم معلولة لكونها لم تبدل سيئاتهم حسنات إذ لو بدلت لم يبق لها صورة في الوجود ولا في ذهنهم ولا في الخارج . قال : [ [ ولست أنا من أحد هذين الرجلين فما لي وللدخول قبل الناس . { والله غفور رحيم } (1/13)
- في بعض طرق حديث جبريل في سؤاله عن الإيمان والإسلام في غير طرق الصحيحين : [ [ وأن تغتسل من الجنابة وتتم الوضوء ] ] . الحديث . ورواه ابن خزيمة في صحيحه بهذا السياق
وروى الشيخان مرفوعا : إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل
قال الحافظ عبدالعظيم المنذري : وقد قيل إن قوله [ [ فمن استطاع ] ] الخ ليس من كلام النبوة وإنما هو مدرج من كلام أبي هريرة موقوف عليه ذكره غير واحد من الحفاظ
وروى ابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ إن الحلية تبلغ من المؤمن مواضع الطهور ] ] . وفي رواية [ [ تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ] ] . والحلية : هو ما يتحلى به أهل الجنة من الأساور ونحوها وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا توضأ مد يده حتى تبلغ إبطه
وروى ابن ماجه وابن حبان في صحيحه أنهم قالوا : يا رسول الله : كيف تعرف أمتك ممن لم يرك ؟ قال : [ [ إنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين بلقا من آثار الوضوء ] ]
وروى الإمام أحمد بإسناد حسن في المبايعات : أن رجلا قال : [ [ يا رسول الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك ] ] ؟ قال : هم غر محجلون من آثار الوضوء ليس ذلك لأحد غيرهم قال : [ [ وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وتسعى بين أيديهم أنوارهم ] ]
وروى مسلم ومالك مرفوعا إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه وكل خطيئة مشتها رجلاه مع قطر الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب
وفي رواية لمسلم وغيره مرفوعا : من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره
وفي رواية بإسناد على شرط الشيخين للحاكم مرفوعا : ما من امرئ يتوضأ فيحسن وضوءه إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها
وروى البزار بإسناد حسن أن عثمان رضي الله عنه كان يسبغ الوضوء في شدة البرد ويقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ لا يسبغ عبد الوضوء إلا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ] ]
وروى أبو يعلي والبزار والحاكم وقال صحيح الإسناد على شرط مسلم مرفوعا : إسباغ الوضوء في المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلا
وروى الطبراني مرفوعا : من أسبغ الوضوء في البرد الشديد كان له كفلان من الأجر
وروى الإمام أحمد وغيره مرفوعا : من توضأ ثلاثا فذلك وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي
والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نسبغ الوضوء صيفا وشتاء امتثالا لأمر الله واغتناما للأجر الوارد في ذلك في الشتاء ولأنه ربما استلذت الأعضاء بالماء البارد في الصيف فيبالغ المتوضئ في الإسباغ لحظ نفسه فينبغي أن يتنبه المتوضئ لمثل ذلك ويسبغ امتثالا للأمر لا لاستلذاذ الأعضاء بالماء وهذا سر أمر الشارع لنا بالوضوء ليقول العبد لنفسه إذا استلذ بالماء في الصيف وادعت أنها مخلصة في ذلك إنما هذا لحظ نفسك بدليل نفرتك من إسباغ الوضوء في الشتاء فلو كان إسباغك الوضوء في الصيف امتثالا لأمر الله لكنت تسبغين ذلك في الشتاء من باب أولى لأنه وعدك بالأجر عليه أكثر وهذا الأمر يجري مع العبد في أكثر المأمورات الشرعية فيفعلها العبد بحكم العادة مع غفلته عن امتثال الأمر وعن شهود الشارع فيفوته معظم الغرض الذي شرعت تلك الطاعة له وهو الفوز بمجالسة الشارع في امتثال أوامره واجتناب نواهيه فيحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ ناصح يرشده إلى تخليص العمل لله من حظ النفس . { والله عليم حكيم } (1/14)
- روى ابن ماجه بإسناد صحيح والحاكم وقال صحيح على شرطهما وابن حبان في صحيحه مرفوعا : استقيموا ولن تحصوا أعمالكم واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ عليها إلا مؤمن
قلت أي مؤمن بأنه في حضرة الله على الدوام إذ الإيمان يتخصص في كل مكان بحسبه فإذا جاء عقب قول من ينكر البعث مثلا لا يؤمنون فمعناه لا يؤمنون بالبعث وإذا جاء ذلك عقب قول من ينكر الحساب فمعناه لا يؤمنون بيوم الحساب وهكذا القول في نحو حديث : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
أي بأن الله يراه فلو آمن بأن الله يراه على الكشف والشهود حال الزنا ما قدر على الزنا فافهم فلا يلزم من نفي الإيمان بشيء من التكاليف مثلا نفي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وغير ذلك ويحتمل أن يكون المراد نفي سائر صفات الإيمان لكون الإيمان كله كالجزء الواحد إذا انتفى بعضه انتفى كله كما قالوا في الإيمان بالرسل أنه إذا لم يؤمن ببعض الرسل لا يصح له إيمان . والله تعالى أعلم
وروى الطبراني مرفوعا : حافظوا على الوضوء وتحفظوا من الأرض فإنها أمكم وإنها ليس أحد عاملا عليها خيرا أو شرا إلا وهي مخبرة به
وروى الإمام أحمد بإسناد حسن مرفوعا : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء . يعني ولو كانوا غير محدثين
وروى ابن خزيمة في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ يا بلال بم سبقتني إلى الجنة ؟ إني دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي ] ] فقال بلال يا رسول الله : [ [ ما أذنت قط إلا صليت ركعتين وما أصابني حدث قط إلا توضأت عنده ] ] فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا بلغت . ومعنى خشخشتك أمامي أي رأيتك مطرقا بين يدي كالمطرقين بين يدي ملوك الدنيا قاله الشيخ محي الدين في الفتوحات المكية . والله تعالى أعلم
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه مرفوعا : من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات
قال الحافظ عبدالعظيم رحمه الله وأما الحديث الذي يروى مرفوعا : الوضوء على الوضوء نور على نور . فلا يحضرني له أصل من حديث النبي صلى الله عليه و سلم ولعله من كلام بعض السلف . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحافظ على دوام الوضوء وعلى تجديده لنكون مستعدين لقبول الواردات الإلهية فإن صدقته تعالى على عباده لا تنقطع ليلا ولا نهارا ومن كشف الله تعالى عن بصيرته وجد نفسه جالسا بين يدي الله عز و جل على الدوام وهذا أمر يتأكد فعله على أكابر العلماء والصالحين لأن معظم الواردات الإلهية في العلوم الظاهرة والباطنة تنزل عليهم وقد أغفل ذلك كثير منهم
وممن رأيته على هذا القدم من أولياء العصر الشيخ محمد بن عنان والشيخ داود والشيخ محمد العدل ومن أكابر الدولة بمصر الأمير محي الدين بن أبي الأصبغ ووالده الأمير يوسف ومن المباشرين عبدالقادر الزرمكي ومن التجار جلال الدين بن فاقوسة ومن العلماء أخي العبد الصالح شمس الدين الشربيني وصاحبه الشيخ صالح السملي ومن جماعة الوالي الحاج أحمد القواس حتى إنه سمع شخصا نائما أخرج ريحا في المسجد فامتنع من النوم في المسجد خوفا أن يخرج منه ريح في النوم فإذا كان هذا يقع من الأمراء وغلمان الوالي فالعلماء والصالحون أولى بالمواظبة على الطهارة
ورأيت سيدي محمد بن عنان إذا كان في الخلاء وأبطأ عنه ماء الوضوء ضرب بيده على الحائط وتيمم حتى لا يمكث بلا طهارة وإن لم تجز له الصلاة بذلك التيمم
وقد رأيت الشيخ تاج الدين الذاكر المدفون بزاويته في حارة حمام الدود بمصر كلما يصلي بوضوئه صلاة ما يجدد الوضوء وكان لا يدخل الخلاء إلا من الجمعة إلى الجمعة وبقية الأسبوع كله على طهارة ليلا ونهارا مع أكله وشربه على حكم عادة الناس فسألت أصحابه عن ذلك فقالوا : كل شيء نزل جوفه احترق من شدة الحال
وكان سيدي محمد بن عنان يقلل الأكل جدا حتى لا يدخل الخلاء إلا قليلا ويقول : إن أحدنا مجالس لله على الدوام ولو لم يشعر بذلك وإذا قال الملك لعبده تهيأ لمجالستي فإني أريد أنك تجالسني ثلاثة أيام مثلا فمن أدبه أن يستعد لذلك بقلة الأكل والشرب وإلا لزمه أن يقوم من تلك الحضرة الشريفة إلى البول والغائط وهو مكشوف السوءتين والشياطين حوله لا يقربه ملك وهو جالس في مكان نجس على أقبح صورة وأنتن ريح وكذلك بلغنا عن الإمام البخاري أنه كان يقلل الأكل حتى انتهى أكله إلى تمرة أو لوزة في كل يوم من غير ضرر
وكذلك بلغنا عن الإمام مالك أنه كان يأكل كل ثلاثة أيام أكلة واحدة ويقول أستحي من ترددي للخلاء بين يدي الله عز و جل ولما حج أخي الشيخ أفضل الدين أحرم بالحج مفردا فمكث نحو خمسة عشر يوما لا يبول ولا يتغوط يقول : أستحي من الله أن أقذر هذه الأرض المشرفة بشيء من فضلاتي
وكذلك رأيت أخي الشيخ أبا العباس الحريثي رحمه الله كان لا يدخل الخلاء إلا قليلا فبهدى هذه الأشياخ يا أخي اقتد وقد أنشد سيدي أبو المواهب من موشح :
أنت حاضر في الحضرة ... ليت شعري هل تدري
فتحتاج يا أخي إلى شيخ يسلك بك حتى تعرف عظمة الله تعالى وتعرف مقدار حضرته وأهلها وتصير يشق عليك مفارقتها حتى ترى الضرب بالسيف أهون عليك من مفارقتها وإلا فمن لازمك التهاون بها لأنك لم تعرف للحضور مع الله طعما والله يتولى هداك (1/15)
- روى البخاري وغيره واللفظ له مرفوعا : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة . وفي رواية مسلم : [ [ عند كل صلاة ] ]
ورواية النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه : لأمرتهم بالسواك مع الوضوء عند كل صلاة
وفي رواية الإمام أحمد بإسناد جيد والبزار والطبراني : لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة كلما يتوضؤون
وفي رواية لأبي يعلي وغيره : لفرضت عليكم السواك عند كل صلاة كما فرضت عليكم الوضوء
وروى أبو يعلي عن عائشة قالت : ما زال النبي صلى الله عليه و سلم يذكر السواك حتى خشيت أن ينزل فيه قرآن
وروى النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه وغيرهم مرفوعا : السواك مطهرة للفم مرضاة للرب . وزاد الطبراني : ومجلاة للبصر
وروى الترمذي مرفوعا وقال حسن غريب : أربع من سنن المرسلين : الحناء والتعطر والسواك والنكاح
وروى مسلم عن عائشة قالت : أول ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يبتدئ به إذا دخل بيته السواك
وروى الطبراني ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخرج من بيته لشيء من الصلوات حتى يستاك
وروى ابن ماجه والنسائي ورواته ثقات عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بالليل ركعتين ثم ينصرف فيستاك
وروى أبو يعلي مرفوعا : لقد أمرت بالسواك حتى ظننت أنه ينزل علي فيه قرآن أو وحي
وفي رواية للإمام أحمد وغيره : حتى خشيت أن يكتب علي . وفي رواية للطبراني : ما زال جبريل يوصيني بالسواك حتى خفت على أضراسي . وفي رواية له : حتى خشيت أن يدردرني . أي يسقط أسناني
وروى البزار بإسناد جيد : إن العبد إذا استاك ثم قام يصلي قام الملك خلفه فيستمع لقراءته فيدنو منه حتى يضع فاه على فيه فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك فطهروا أفواهكم للقرآن . قال الحافظ المنذري والأشبه أن هذا موقوف
وروى أبو نعيم مرفوعا بإسناد جيد كما قاله المنذري : لأن أصلي ركعتين بسواك أحب إلي من أن أصلي سبعين ركعة بغير سواك
وفي رواية أخرى بإسناد حسن : ركعتان بالسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك
والأحاديث في ذلك كثيرة جدا . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على السواك عند كل وضوء . وعند كل صلاة وإن كان يقع منا كثيرا ربطناه في خيط في عنقنا أو عمامتنا إن كانت على عرقية من غير قلنسوة فإن كانت على قلنسوة وشددنا عليها العمامة رشقناه في العمامة من جهة الأذن اليسرى وهذا العهد قد أخل به غالب العوام من التجار والولاة وحاشيتهم فتصير روائح أفواههم منتنة قذرة وفي ذلك إخلال بتعظيم الله وملائكته وصالح المؤمنين . فضلا عن غير الملائكة والصالحين وما رأيت أكثر مواظبة ولا حرصا على السواك من سيدي محمد بن عنان وسيدي شهاب الدين بن داود والشيخ يوسف الحريثي رحمهم الله وكل ذلك من قوة الإيمان وتعظيم أوامر الله عز و جل وأوامر رسوله صلى الله عليه و سلم لا سيما وقد أكد صلى الله عليه و سلم في ذلك ولم يكتف بمجرد الأمر به مرة واحدة فلازم يا أخي على السنة المحمدية لتجني ثمرة ثوابها في الآخرة فإن لكل سنة سنها رسول الله صلى الله عليه و سلم درجة في الجنة لا تنال إلا بفعل تلك السنة ومن قال من المتهورين هذه سنة يجوز لنا تركها يقال له يوم القيامة وهذه درجة يجوز حرمانك منها صرح بذلك الإمام أبو القاسم بن قسي في كتابة المسمى بخلع النعلين
وقد بلغنا عن الشبلي رحمه الله أنه احتاج إلى سواك وقت الوضوء فلم يجده فبذل فيه نحو دينار حتى تسوك به ولم يتركه في وضوء فاستكثر بعض الناس بذل ذلك المال في سواك فقال إن الدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة فماذا يكون جوابي إذا قال لي لم تركت سنة نبيي ولم تبذل في تحصيلها ما خصك الله به من جناح البعوضة فأعجزه ومضى وأظنك يا أخي لو طلب منك صاحب السواك نصفا واحدا حتى يعطيه لك لتركت السواك وقدمت النصف وأنت مع ذلك تزعم أنك من أولياء الله تعالى ومن المقربين عند رسول الله صلى الله عليه و سلم والله إنها دعوى لا برهان عليها
وسيأتي ما يستفاد منه في الأحاديث أن قليل العمل مع الأدب خير من كثير العمل من غير أدب
وقد كان سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه يقول لقراء القرآن : إياكم والغيبة والتكلم بالكلام الفاحش ثم تتلون القرآن فإن حكم ذلك حكم من مس بألفاظ القرآن القذر ولا شك في كفره وهذا أمر قد عم غالب قراء القرآن فلا يكاد يسلم منه إلا القليل حتى قال الفضيل بن عياض وسفيان الثوري قد صار القراء يتفكهون في هذا الزمان بالغيبة وتنقيص بعضهم بعضا خوفا أن يعلو شأن أقرانهم عليهم ويشتهرون بالعلم والزهد والورع دونهم وبعضهم يجعلها كالإدام في الطعام وهو أخفهم إثما
ورأيت شخصا من المجاورين يقرأ كل يوم ختمة وهو مع ذلك لا يكاد يذكر أحدا من المسلمين بخير إنما هو غيبة وازدراء فنهيته عن ذلك فتركهم واشتغل بغيبتي فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فعظم يا أخي سنة نبيك واستغفر الله من استهانتك بتركها فإنك لو صرحت بالاستهانة كفرت وحكم الباطن عند الله تعالى في ذلك حكم الظاهر . { والله غفور رحيم } (1/16)
- روى الطبراني مرفوعا : حبذا المتخللون من أمتي قالوا وما المتخللون يا رسول الله ؟ قال المتخللون في الوضوء والمتخللون من الطعام . أما تخليل الوضوء فالمضمضة والاستنشاق وبين الأصابع الحديث
وروى الطبراني مرفوعا وموقوفا وهو الأشبه : تخللوا فإنه نظافة والنظافة تدعو إلى الإيمان والإيمان مع صاحبه في الجنة
وروى الطبراني مرفوعا : من لم يخلل أصابعه بالماء خللها الله بالنار يوم القيامة . وفي رواية له مرفوعا : لتنتهكن الأصابع بالطهور أو لتنتهكنها النار . وفي رواية له أيضا بإسناد حسن مرفوعا : خللوا الأصابع الخمس لا يحشوها الله نارا . وقوله لتنتهكن : أي لتبالغن في غسلها أو لتبالغن النار في إحراقها والنهك : المبالغة في كل شيء
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : ويل للأعقاب من النار
وفي رواية للترمذي : ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار
وروى الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بأصحابه صلاة فقرأ فيها سورة الروم فلبس بعضها فقال : إنما لبس علينا الشيطان القرآن من أجل أقوام يأتون الصلاة بغير وضوء فإذا أتيتم الصلاة فأحسنوا الوضوء
وفي رواية أنه تردد في آية فلما انصرف قال : إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نخلل أصابع اليدين والرجلين بالماء في كل طهارة اهتماما بأمر الشارع صلى الله عليه و سلم ولا نترك فعل ذلك في وضوء ولا غسل وهذا العهد يخل به كثير من المتعبدين والعوام فينبغي إشاعة ذلك بينهم في أوقات وضوئهم في المطاهر ليكون فاعل ذلك معدودا من رسل رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه صلى الله عليه و سلم يحب من يبلغ سنته التي اندرست إلى من يجهلها من أمته ومن أحبه صلى الله عليه و سلم حشر معه لقوله صلى الله عليه و سلم : يحشر المرء مع من أحب
ومن حشر مع النبي صلى الله عليه و سلم لا يلحقه في مواقف يوم القيامة كرب
وقد نور الله تعالى قلب السلطان حسن فجعل في كتاب وقف مدرسته بالرميلة بمصر وظيفة لمن يقف في أوقات الصلوات الخمس على المطهرة ليعلم الناس ما يخلون به من أمر الشارع في وضوئهم بمدرسته فخلل يا أخي أصابعك وبلغ ذلك إلى من يجهله والله يتولى هداك (1/17)
- روى مسلم وأبو داود وابن ماجه مرفوعا : ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء
زاد في رواية أبي داود : ثم يرفع طرفه إلى السماء ثم يقول
فذكره وزاد في رواية له أيضا بعد قوله ورسوله : اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين . الحديث
والأحاديث في أذكار أعضاء الوضوء وبعد الوضوء محررة في كتب الفقه والله تعال أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على أذكار الوضوء الواردة في السنة ولا نتركها في وضوء واحد ونقولها بحضور تام ونستحضر معاصي كل عضو عند غسله ونتوب منها مع الغسل ليطهر باطننا بالتوبة وظاهرنا بالماء فكما لا تكفي طهارة الباطن عن الظاهر فكذلك لا تكفي طهارة الظاهر عن الباطن كما أشار إليه أمره صلى الله عليه و سلم المتوضئ بالشهادتين فإن الماء يطهر الظاهر والشهادتين يطهران الباطن فكأن المتوضئ أسلم إسلاما جديدا وتاب من ذنوبه كما تاب من أسلم من ذنب الكفر فافهم (1/18)
- روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لبلال : [ [ يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دق نعليك بين يدي في الجنة ؟ ] ] قال [ [ ما عملت عملا أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن اصلي ] ]
والدق بضم الدال هو صوت النعل حال المشي والمعنى أني رأيتك مطرقا بين يدي كالمطرقين بين يدي الملوك والأمراء كما مر في عهد المواظبة على الوضوء وإن اختلف لفظ الواقعة
وروى مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما ألا وجبت له الجنة
وفي رواية لأبي داود مرفوعا : من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين لا يسهو فيهما غفر له ما تقدم من ذنبه
قلت قواعد الشريعة تقتضي أن السهو محمول عن العبد في صلاته : ولكن لما فرط العبد بعدم تفريغ نفسه من الشواغل قبل الدخول في الصلاة ثم سها كان عليه اللوم ولو أنه فرغ نفسه ثم سها لم يكن عليه لوم . والله أعلم . وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : من توضأ نحو وضوئي هذا - يعني ثلاثا ثلاثا - ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه . وفي رواية للإمام أحمد : ثم صلى ركعتين أو أربعا
شك الراوي إلى آخر الحديث . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على الركعتين بعد كل وضوء بشرط أن لا نحدث فيهما أنفسنا بشيء من أمور الدنيا أو بشيء لم يشرع لنا في الصلاة ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به حتى يقطع عنه الخواطر المشغلة عن خطاب الله تعالى
واعلم أن حديث النفس المذموم ليس هو رؤية القلب لشيء من الأكوان كما توهمه بعضهم فإنه ليس في قدرة العبد أن يغمض عين قلبه عن شهود أنه في مكان قريب أو بعيد من بستان أو جامع أو غير ذلك فإن في حديث الصحيحين أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ [ رأيت الجنة والنار في مقامي هذا ] ]
وكان ذلك في صلاة الكسوف فلو كان ذلك يقدح في كمال الصلاة لما وقع له صلى الله عليه و سلم ذلك وحمل بعضهم ما وقع له صلى الله عليه و سلم على قصد التشريع لأمته بعيد
وأما ما نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من تجهيز الجيوش في الصلاة فذلك لكماله لأن الكمل لا يشغلهم عن الله شاغل مع أن ذلك كان في مرضاة الله عز و جل
فاسلك يا أخي على يد شيخ ناصح يشغلك بالله تعالى حتى يقطع عنك حديث النفس في الصلاة كقولك أروح لكذا أفعل كذا أقول كذا أو نحو ذلك وإلا فمن لازمك حديث النفس في الصلاة ولا يكاد يسلم لك منه صلاة واحدة لا فرض ولا نفل فاعلم ذلك وإياك أن تريد الوصول إلى ذلك بغير شيخ كما عليه طائفة المجادلين بغير علم فإن ذلك لا يصح لك أبدا
وقد قال الجنيد يوما للشبلي وهو مريد : يا أبا بكر إن خطر في بالك من الجمعة إلى الجمعة غير الله فلا تأتنا فإنه لا يجيء منك شيء
قلت ومراده بغير الله عز و جل غير ما لا يرضيه من المعاصي وإلا فحضور الطاعات على القلب لا يقدح في السالك بالإجماع . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/19)
- روى الشيخان مرفوعا : لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا . أي اقترعوا وفي رواية للإمام أحمد مرفوعا : لو يعلم الناس ما في التأذين لتضاربوا عليه بالسيوف
وروى مالك والبخاري والنسائي وابن ماجه أن أبا سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال لعبدالرحمن بن أبي صعصعة : إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة
قال أبو سعيد : سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي سمعت ما قلته لك بخطاب لي من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولفظ ابن خزيمة في صحيحه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا يسمع صوته أي المؤذن شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس إلا شهد له
وفي رواية للإمام أحمد : يستغفر للمؤذن منتهى أذانه ويستغفر له كل شيء رطب ويابس سمعه
وفي رواية للبزار : ويجيبه كل شيء رطب ويابس
زاد في رواية للنسائي : وله مثل أجر من صلى معه
قال الخطابي : ومدى الشيء : غايته والمعنى أنه يستكمل مغفرة الله إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت قال الحافظ المنذري ويشهد لهذا القول رواية يغفر له مد صوته بتشديد الدال أي بقدر مد صوته قال الخطابي وفي وجه آخر وهو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو يقدر أن يكون ما بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المدى لغفرها الله له
وروى الإمام أحمد والترمذي مرفوعا : ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة فذكرهم ورجل ينادي بالصلوات الخمس في كل يوم وليلة . زاد في رواية الطبراني : ويطلب وجه الله وما عنده
وروى الطبراني مرفوعا : المؤذن المحتسب كالشهيد المتشحط في دمه إذا مات لن يدود في قبره
وروى الطبراني في مجاميعه الثلاثة مرفوعا : إذا أذن في قرية أمنها الله من عذابه ذلك اليوم
وفي رواية : أيما قوم نودي فيهم بالأذان صباحا إلا كانوا في أمان الله حتى يمسوا وأيما قوم نودي فيهم بالأذان مساء إلا كانوا في أمان الله حتى يصبحوا
وروى ابن ماجه والدارقطني والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين مرفوعا : من أذن اثنتا عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة وبكل إقامة ثلاثون حسنة
وروى ابن ماجه والترمذي مرفوعا : من أذن محتسبا سبع سنين كتب له براءة من النار . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على الأذان لكل صلاة ولو سمعنا المؤذن وإن احتاج الناس إلى الأذان برفع الصوت أذنا لهم وليس لنا أن نتعلل بالحياء لأن الحياء في مثل ذلك حياء طبيعي نفسي وليس في فعل المأمورات الشرعية حياء وإنما الحياء المطلوب أن يترك العبد ما نهاه الله عنه فافهم وهذا العهد يخل به كثير من الناس أصحاب الطبع اليابس فيقول له العامة أذن لنا يا سيدي الشيخ فيقول أستحي وهذا ليس بعذر فإن كان يا أخي ولا بد لك من الحياء فاستح من الله أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك فهذا هو الحياء الشرعي الذي يثاب عليه العبد
وكان من آخر من رأيته مواظبا على هذه السنة الشريفة مولانا شيخ الإسلام الشيخ نور الدين الطرابلسي الحنفي ورفيقه السيد الشريف الحطابي والشيخ محمد بن عنان والشيخ أبو بكر الحديدي والشيخ محمد بن داود وولده الشيخ شهاب الدين والشيخ يوسف الحريثي رضي الله عنهم أجمعين فاعلم ذلك والله يتولى هداك (1/20)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة . الحديث وقوله فقولوا يعني عقب كل كلمة قالها لأن الفاء للتعقيب وبه قال جماعة من العلماء . والله تعالى أعلم
وروى الإمام أحمد والطبراني مرفوعا : من قال حين ينادي المنادي : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنا رضا لا سخط بعده استجاب الله دعوته
وروى أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : من سمع المؤذن فقال مثل ما يقول فله مثل أجره . وفي رواية : من قال مثل ذلك إذا سمع المؤذن وجبت له شفاعتي يوم القيامة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نجيب المؤذن بما ورد في السنة ولا نتلاهى عنه قط بكلام آخر ولا غيره أدبا مع الشارع صلى الله عليه و سلم فإن لكل سنة وقتا يخصها فلإجابة المؤذن وقت وللعلم وقت وللتسبيح وقت ولتلاوة القرآن وقت كما أنه ليس للعبد أن يجعل موضع الفاتحة استغفارا ولا موضع التسبيح للركوع وللسجود قراءة ولا موضع التشهد غيره وهكذا فافهم وهذا العهد يخل به كثير من طلبة العلم فضلا عن غيرهم فيتركون إجابة المؤذن بل ربما تركوا صلاة الجماعة حتى يخرج الناس منها وهم يطالعون في علم نحو أو أصول أو فقه ويقولون العلم مقدم مطلقا وليس كذلك فإن المسألة فيها تفصيل فما كل علم يكون مقدما في ذلك الوقت على صلاة الجماعة كما هو معروف عند كل من شم رائحة مراتب الأوامر الشرعية
وكان سيدي علي الخواص رحمه الله إذا سمع المؤذن يقول حي على الصلاة يرتعد ويكاد يذوب من هيبة الله عز و جل ويجيب المؤذن بحضور قلب وخشوع تام رضي الله عنه فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك (1/21)
- روى أبو داود وغيره مرفوعا : الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد
زاد النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحيهما [ [ فادعوا ] ] وزاد الترمذي : [ [ فقالوا ماذا نقول يا رسول الله ؟ قال سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة . ] ]
وروى الحاكم مرفوعا : إذا نادى المنادي فتحت له أبواب السماء واستجيب الدعاء فمن نزل به كرب أو شدة فليجب المنادي . أي ينتظر بدعوته حتى يؤذن المؤذن فيجيبه ثم يسأل الله حاجته كما يدل عليه حديث أبي داود والنسائي وغيرهما مرفوعا : [ [ قل كما يقول المؤذن فإذا انتهيت فسل تعط ] ]
وروى البيهقي مرفوعا : [ [ إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين . فإذا قضى الأذان أقبل فإذا ثوب أدبر ] ] الحديث . والمراد بالتثويب هنا : الإقامة
وروى عن الإمام أحمد مرفوعا : [ [ إذا ثوب بالصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء ] ]
وروى بن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ساعتان لا يرد على داع دعوته : حين تقام الصلاة وساعة الصف في سبيل الله تعالى ] ]
والله تبارك وتعالى اعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نسأل الله تعالى ما شئنا من حوائج الدنيا والآخرة لنا وللمسلمين فيما بين الأذان وإقامة الصلاة ولا نفرط في ذلك إلا لعذر شرعي وذلك لأن الحجب ترفع في ذلك الوقت بين الداعي وبين ربه بمثابة فتح باب الملك والإذن في الدخول لأصحابه وخدامه عليه فمن كان من أهل الرعيل الأول قضيت حاجته بسرعة مقابلة له على سرعة مجيئه بين يدي ربه تعالى ومن كان من آخر الناس مجيئا كان أبطأهم إجابة مع أنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن ولكن هكذا معاملته تعالى لخلقه ولا يخفى أن الحق تعالى يحب من عباده الإلحاح في الدعاء لأنه مؤذن بشدة الفاقة والحاجة ومن لم يلح في الدعاء فكأن لسان حاله يقول أنا غير محتاج إلى فضل الله وربما أن الله تعالى يكشف حاله حتى يصير يدعو فلا يستجيب له ويلح في الدعاء ليلا ونهارا فلا يرى له أثر إجابة حتى يكاد كبده يتفتت من القهر كما عليه طائفة التجار والمباشرين الذين دارت عليهم الدوائر فتراهم يقرؤون الأوراد ويحفظون الإقسامات ويدعون الله ليلا ونهارا بأن حالهم يعود إلى ما كان فلا يجيبهم
فإياك يا أخي أن تتهاون بالدعاء في كل وقت ندبك الحق تعالى إلى الدعاء فيه فتقاسي ما لا خير فيه . { والله عليم حكيم } (1/22)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله تعالى بنى الله تعالى له بيتا في الجنة ] ]
وفي رواية للطبراني والبزار وابن حبان في صحيحه واللفظ للبزار مرفوعا : [ [ من بنى لله مسجدا قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ] ]
وفي رواية لابن ماجه وابن حبان في صحيحه : [ [ من بنى لله مسجدا يذكر فيه بنى الله له بيتا في الجنة ] ]
وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ من بنى لله مسجدا كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة ] ]
وفي رواية : [ [ كمفحص قطاة لبيضها ] ] الحديث . ومفحص القطاة : هو مخيمها . وهو قدر موضع جبهة المصلي قالوا وإنما مثل بمفحص القطاة دون غيرها لأنها لا تروث فيه . وروى الإمام أحمد والطبراني مرفوعا : [ [ من بنى مسجدا لله ليصلى فيه بنى الله عز و جل له في الجنة بيتا أفضل منه ] ]
وفي رواية [ [ أوسع منه ] ]
رواه الإمام أحمد وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من بنى بيتا يعبد الله تعالى فيه من مال حلال بنى الله له بيتا في الجنة من در وياقوت ] ]
وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ من بنى مسجدا لا يريد به رياء ولا سمعة بنى الله له بيتا في الجنة ] ] . وتقدم في باب فضل العلم حديث : [ [ إن مما يلحق المؤمن بعد موته مسجدا بناه ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نساعد الناس في بناء المساجد في الأمكنة المحتاج إلى صلاة الجمعة والجماعة فيها بأنفسنا وأموالنا بشرط الإخلاص والحل في المال وعدم زخرفتها بالرخام الملون الرقيق وطلي سقفها بالذهب والألوان المعروفة ولا نتخلف عن المساعدة فيها إلا لعذر شرعي فإنها من جملة شعائر الله تعالى ولتكون كنا للناس من الحر والبرد إذا صلوا وانتظروا لصلاة الأخرى ومن جملة ذلك عمارة المنبر وكرسي المصحف وبناء المطهرة والمنارة فنساعد في بنائها كذلك وكذلك من الملحق ببنائها وقفنا الأوقاف عليها مساعدة لخدامها ومن يقوم بوظائفها ويتلو القرآن فيها ويذكر اسم الله تعالى فيها فإن المساجد لا تكمل إلا بذلك . وإنما شرطنا الإخلاص في البناء والحل في المال وعدم الزخرفة لأن معاملة الله تعالى لا تكون إلا على الأوضاع الشرعية وذلك ليقبلها من صاحبها [ أي ليقبلها الله من العبد ] فراجع يا أخي جميع ما ورد من فضائل الأعمال إلى من كان مخلصا في عمله منفقا من طيب كسبه . وأما من بنى مسجدا من حرام أو شبهات أو من غير إخلاص نية فربما أثم ولم يقبل منه وإذا كان يوم القيامة انهار به في نار جهنم
وأما عدم الزخرفة فإنما هو حتى لا يفتن المصلون بإطماحهم أبصارهم إلى تلك الألوان والصنائع فلا يفي أجره بوزره لأن روح الصلاة الذي هو الإقبال بالجسم والقلب على الله تعالى لم يحصل لمن يصلي هناك فكأنهم لم يصلوا هناك فلا تعمر يا أخي شيئا من المساجد إلا إن علمت من نفسك الإخلاص فإن علمت من نفسك أنك إنما تعمر ليقال فأعط الناس الذين يكتمون عليك الأمر ما سمحت به من المال ليصرفوه في عماراته من غير أن ينسب إليك ذلك . والله تعالى أعلم (1/23)
- روى الشيخان : [ [ أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أي تكنسه ففقدها رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأل عنها بعد أيام فقيل له إنها ماتت فقال : فهلا آذنتموني فأتى قبرها فصلى عليها ] ]
وفي رواية لابن ماجه : [ [ أنها كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد ] ]
وفي رواية للطبراني : [ [ أنها كانت تلتقط القذى من المسجد فقال النبي صلى الله عليه و سلم إني رأيتها في الجنة بلقطها القذى من المسجد ] ]
وروى أبو الشيخ الأصفهاني : [ [ أنها أجابت النبي صلى الله عليه و سلم من القبر لما صلى عليها وسألها ما وجدت من العمل أفضل ؟ فقالت : وجدت أفضل الأعمال قم المساجد ] ]
قلت مرادها بأفضل الأعمال أي في حق نفسها فلا ينافي ذلك من رأى أفضل الأعمال غير ذلك لأنه في حق نفسه كذلك وهكذا . والله تعالى أعلم
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها فمن بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة فقال رجل يا رسول الله وهذه المساجد التي تبنى في الطريق قال نعم وإخراج القمامة منها مهور الحور العين ] ]
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم : [ [ عرضت على أجور أمتي : القذاة يخرجها الرجل المسلم من المسجد ] ]
وروى الترمذي وغيره : [ [ أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نتخذ المساجد في ديارنا وأمرنا أن ننظفها ] ]
وروى ابن ماجه والطبراني مرفوعا : [ [ جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع ] ] . ومعنى جمروها أي بخروها . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ننظف المساجد ونطهرها لا سيما إن حصل فيها قمامة أو نجاسة بواسطتنا أو واسطة أولادنا أو خدامنا أو الفقراء المقيمين عندنا فإنه يتأكد علينا كنسها وتطهيرها وإخراج القاذورات والقمامات منها إما إلى الكوم وإما إلى محل طرح تراب المسجد حتى يأتي الزبال يحمله إلى الكوم إن كان بعيدا عن المسجد . وهذا العهد يخل به كثير من علماء الزمان وصالحيه الساكنين بجوار المسجد وباب دراهم من داخله فترى الحصر التي هي فيه قريبة من دراهم قذرة من دخول السقاء والحطب واللحم والخدم الحفاة الذين يخرجون إلى السوق حفاة ولا يتجرأ خادم المسجد يمنعهم من ذلك خوفا من ذلك الشيخ أو من طلبته أن يؤذوه أو يسلطوا عليه الناظر فيؤذيه بضربه أو بقطع شيء من جامكيته ونحو ذلك
فلينتبه العالم أو الصالح لمثل ذلك ويحترم مساجد الله تعالى وليتأمل نفسه في قلة خوفه من الله تعالى يجدها تخاف من الخلق أكثر من الله إما لغفلته عنه تعالى أو لكونه لا يهتك ستره بخلاف الخلق ولو أنه دخل قصر الملك وحصل منه قذر فيه لم يصبر ساعة على تقديره قصر الملك ولو أنزل به الملك بل تراه إذا رأى ولده الصغير بال أو تغوط على باب قصر الملك يبادر على الفور بإزالته وتطهيره وربما مسحه بردائه أو قميصه خوفا أن يطلع عليه ذلك السلطان ولو رأى مثل ذلك في المسجد ما كان مسحه بردائه ولا بقميصه قط بل يقول انظروا لفراشة يطهر هذا المكان ولو أنه لم يجده إلى آخر النهار لترك النجاسة في المسجد وكل ذلك استهانة بجانب الله تعالى ومما يتساهل به سكان المسجد أيضا جعل الغنم والإوز والدجاج فوق سطحه ويحجبونه بحصير حتى لا يراه أحد من الخلق الذين ينكرون ذلك عليهم ويتغافلون عن مثل ذلك
وقد رأى سيدي علي الخواص رحمه الله مرة على ظهر زاوية بعض الفقراء خروفا مربوطا فنادى على الشيخ حتى سود وجهه بين الناس فاعتذر له بعدم علمه فقال له ما وضعه نقيبك هنا إلا لعلمه بقلة اعتنائك بمثل ذلك فإنك لو أدبته وعلمته الأدب مع الله تعالى لم يقع منه مثل ذلك ثم أنشد :
ومن ربط الكلب العقور ببابه ... فكل أذى للناس من رابط الكلب
وكان كنس المساجد المهجورة بمصر من وظائف سيدي علي الخواص فكان يكنسها ويكنس أسطحتها ومجاري ميضأتها وكراسي أخليتها وكان يتفقدها يوم الخميس ويوم الجمعة فيخرج في صلاة الصبح فلا يرجع إلا بعد المغرب احتسابا لله تعالى وكذلك كان من وظيفته كنس مقياس الروضة بمصر كان يكنسه ثاني يوم نزول النقطة ويكنس الطين الذي في سلمه ويجرده بالحديد ويحمل منه قفة عظيمة يفرقها على خوابي الماء على نية التبرك وكان عليه سؤال الله تعالى في إطلاعه النيل كل سنة فكان يكون في ليلة تنزل النقطة كأنه حامل حملا عظيما على ظهره حتى يوفى البحر وتنقطع جسوره فيتحول لحملة ري البلاد فإذا رويت تحول لحملة كمال الزرع وختامه من غير آفات تلحقه فلا يزال كذلك حتى يحصد الزرع وكان من دعائه : اللهم من علينا وعلى الأنعام بختام الزرع ولا تعذبنا بغلائه . فإذا طلع القمح وغيره إلى الحواصل تحول لعدم تسويسه فلا يزال كذلك إلى نزول النقطة هكذا كان شأنه على الدوام ويقول : الملوك فمن دونهم محتاجون إلى اللقمة وإلى التبن لهم ولبهائمهم وما زاد على ذلك من الشهوات أمره سهل . رضي الله تعالى عنه فإياك يا أخي وتقذير المساجد ثم إياك والله يتولى هداك (1/24)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته أو سوقه خمسا وعشرين درجة وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة ] ] الحديث
وفي رواية للإمام أحمد وأبي يعلي وغيرهما : [ [ كتب الله له بكل خطوة عشر حسنات ] ]
وفي رواية للإمام أحمد بإسناد حسن مرفوعا : [ [ من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة يمحو بها سيئة وخطوة يكتب له بها حسنة ذاهبا وراجعا ] ]
ورواه أيضا الطبراني وابن حبان في صحيحه وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ إن الله تعالى ليغمر الذين يتخللون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة ] ]
وفي رواية له أيضا بإسناد حسن : [ [ من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد لقي الله عز و جل بنور يوم القيامة ] ]
وروى الطبراني بإسناد جيد مرفوعا : [ [ من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم الزائر ] ]
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ من خرج من بيته إلى الصلاة فقال : الهم إني أسألك بحق السائرين إليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت إلا أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك ] ]
قال الترمذي : والبطر الإدلاج في الأشر . قال الجوهري : البطر والأشر بمعنى واحد . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نمشي إلى المساجد في الصلوات الخمس وغيرها لنصلي فيها لا سيما في العشاء والصبح في الليالي التي لا قمر فيها في وقت مشينا إليها ولا نذهب إلى المساجد بنور إلا لضرورة شرعية وذلك لكثرة فضل الجماعة في المسجد على غيره ولأن الناس يمشون يوم القيامة على الصراط وغيره في نور أعمالهم
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول : من مشى إلى المسجد في نور أظلم الوجود عليه على الصراط ومن مشى إليه في الظلام أضاء النور عليه جزاء على ما تحمله من مشقة المشي إليه في الظلام
واعلم يا أخي أن الشارع صلى الله عليه و سلم قد جعل خفة مشي العبد إلى المسجد علامة على صحة إيمانه وكماله وجعل ثقل المشي إليه علامة على ضعف إيمانه ونقصه ونفاقه كما سيأتي في الأحاديث
فانظر يا أخي في نفسك فإن وجدتها تستثقل المشي إلى المسجد فاحكم عليها بضعف إيمانها ونفاقها وتحتاج يا أخي إلى شيخ ناصح يسلك بك حتى يخلصك من بقايا النفاق والكسل
فربما يكون الحاث لك على خفة مشيك إلى المسجد علة أخرى كجلوسك مع جماعة يتحدثون في أخبار الدنيا وولاتها
ومن عزل وتولى ومن يصلح ومن لا يصلح ونحو ذلك فليمتحن الماشي إلى المسجد نفسه بما لو رحل منه ذلك الشخص الذي كان يتحدث هو وإياه أو مات فإن خف عليه المشي إلى المسجد فهو لأجل امتثال أمر الله تعالى وعلامة على إيمانه وإلا فالأمر بالعكس . { والله غفور رحيم } (1/25)
- روى مسلم مرفوعا : [ [ أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ] ]
وروى الإمام أحمد والبزار واللفظ له وأبو يعلى والحاكم وقال صحيح الإسناد : [ [ أن رجلا قال يا رسول الله أي البلدان أحب إلى الله وأي البلدان أبغض إلى الله تعالى ؟ فقال لا أدري حتى أسأل جبريل فأتاه فأخبره جبريل أن أحب البقاع إلى الله المساجد وأبغض البقاع إلى الله الأسواق ] ] . وفي رواية " فقال جبريل لا أدري حتى أسأل ميكائيل " . فذكره رواها الطبراني وابن حبان في صحيحه
وفي رواية للطبراني : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لجبريل أي البقاع خير ؟ قال لا أدري قال فسل عن ذلك ربك عز و جل فبكى جبريل عليه السلام وقال : يا محمد ولنا أن نسأله هو الذي يخبرنا بما شاء فعرج إلى السماء ثم أتاه فقال خير البقاع بيوت الله في الأرض فقال أي البقاع شر فعرج إلى السماء ثم أتاه فقال شر البقاع الأسواق ] ]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ يقول الله عز و جل سبعة يظلهم الله في ظله ] ] فذكر منهم [ [ رجل تعلق قلبه بالمساجد ] ]
وروى الترمذي واللفظ له وقال حديث حسن وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ] ]
وروى ابن أبي شيبا وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما وغيرهم مرفوعا : [ [ ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم ] ]
قلت فتأمل قوله عليه الصلاة و السلام للصلاة وللذكر أي ليس مقصوده بالجلوس في المسجد إلا ذلك فلا يتبشبش تعالى لمن جلس للغو أو لعلة أخرى وكذلك القول في قوله في الحديث السابق فيمن اعتاد المسجد محمول على ذلك أيضا وكذلك جميع الأحاديث الآتية إذ لا يكون الترغيب في شيء إلا إن سلم من الآفات ويستنبط من تبشبش الحق أي تبسمه كما يلي بجلاله لمن دخل بيته أنه يستحب للعبد أن يبتسم لضيفه إذا ورد عليه تأنيسا له وإدخالا للسرور عليه . والله أعلم
وروى ابن خزيمة مرفوعا : [ [ ما من رجل كان توطن المسجد فشغله أمر أو علة ثم عاد إلى ما كان إلا تبشبش الله إليه ] ] الحديث
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ إن عمار بيوت الله هم أهل الله عز و جل ] ]
وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ من ألف المسجد ألفه الله ] ]
وروى الإمام أحمد والحاكم وفي سنده ابن لهيعة مرفوعا : [ [ جليس المسجد على ثلاثة خصال أخ مستفاد أو كلمة محكمة أو رحمة منتظرة ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نطيل الجلوس في المسجد ونخفف الجلوس في السوق ولكل منهما شروط فشروط الجالس في المسجد أن تكون حركاته وسكناته وخواطره كلها محمودة فإن لم تكن كذلك فمن الأدب تخفيف الجلوس لأنه ما دام في المسجد فهو جالس بين يدي الله تعالى شعر أو لم يشعر ومن لم يجالس الملوك بالأدب أسرع إليه العطب
وقد كان سيدي محمد الشويمي تلميذ سيدي مدين لا يتجرأ أحد يجالس سيدي مدينا بحضرته فكان كل من خطر بباله خاطر قبيح بين يدي سيدي مدين يقوم بضربه بالعصا ضربا مبرحا فإذا كانت هذه حضرة مخلوق وقد أقيم فيها هذا الميزان فكيف بالحق جل وعلا
قلت : وهذا الأمر قد غلب على غالب الناس المقيمين في المسجد من المجاورين والجالسين فيه ومن المترددين فيجلسون ويجرون قوافي الناس من العلماء والصالحين والولاة والقضاة والشهود والظلمة والتجار ويذكرونهم بالنقائص في حضرة الله تعالى عز و جل فمثل هؤلاء كالبهائم بل البهائم أحسن حالا منهم
ومن هنا كان سيدي علي الخواص رحمه الله لا يدخل المسجد إلا عند قول المؤذن حي على الصلاة فحينئذ يأتي المسجد فقيل له : ألا تأتي المسجد مرة قبل الوقت ؟ فقال : مثلنا لا يصلح لإطالة الجلوس في حضرة الله تعالى فنخاف أن نأتي لنربح فنخسر فينبغي لكل مؤمن مراعاة الأدب في المسجد فإنه بيت الله الخاص ولا يبادر قبل الوقت إلا إن علم من نفسه القدرة على كف جوارحه الظاهرة والباطنة من كل مذموم حتى من سوء الظن بأحد من المسلمين حتى بالاهتمام العظيم بأمر الرزق والمعيشة فإن ذلك من أقبح الصفات لما فيه من رائحة الاتهام بالحق تعالى بأنه يضيعه وهو تعالى يرزقه من حين كان في بطن أمه حتى ضربه الشيب
قال سيدي علي الخواص وعلى الجالس أيضا في المسجد أمور
منها أن لا يسأله أحد بالله شيئا ويقول لا ولو طلب منه عمامته أو جوخته أو جميع ما في داره وخلوته إلا إن كان يطلب ذلك تعنتا أو امتحانا . ومنها أن لا يمشي في المسجد بتاسومة أو حلفاية إلا لعذر شرعي من جرح أو مرض أو برد شديد أو حر شديد
ومنها أن يشغل نفسه بالعبادة مع مداومة الطهارة فلا يجلس فيه لحظة واحدة وهو محدث ومنها أن لا يخطر في باله أنه خير من أحد المسلمين فإن هذا ذنب إبليس الذي أخرج من حضرة الله من أجله ولعن وطرد وهذه أمهات الآداب وكل أدب له فروع
( وأما شروط الجالس في السوق ) فإن لا يشغله البيع والشراء عن ذكر الله تعالى
ومنها عفة البصر عن زبونات جاره وأن لا يخطر في باله سوء الظن به ولا حسد له
ومنها أن لا يعتمد في رزقه على البيع والشراء بل يجعل ذلك امتثالا لأمر الله تعالى وهو معتمد على الله تعالى فإن الله تعالى يخلق البركة في الرزق والغنى عن الناس عند الحرفة لا بالحرفة ونظير ذلك ما قالوا في الطعام والشراب من أنه تعالى يخلق الشبع والري عند الأكل والشرب لا بالأكل والشرب
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول متى فرق الرجل بين الجلوس في بيته والجلوس في السوق فهو معتمد على غير الله وذلك معصية
وقد كان سيدي علي الخواص رضي الله عنه إذا فتح حانوته يقول بسم الله الفتاح العليم نويت نفع عبادك يا الله ثم يجلس بحضور مع الله تعالى حتى ينصرف
ومنها أن يغض بصره عن رؤية النساء ولا يستلذ قط بكلام امرأة فمتى استحلاه ومال قلبه إليها كان جلوسه في السوق معصية
ومنها أن ينشرح لكل يوم لا يبيع به شيئا أكثر من يوم يبيع فيه كثيرا تقديما لمراد الحق تعالى على حظ نفسه والآداب في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
فعلم أنه لا ينبغي لفقير أن يقول " هنيئا للتاجر الفلاني أو الصنايعي الفلاني الذي يأكل من كسبه " حتى يعرف سلامته من الآفات وكذلك لا ينبغي لتاجر أو صنايعي أن يقول هنيئا للفقير الفلاني المجاور في المسجد الفلاني أو الحرم المكي أو المدني أو بيت المقدس حتى يراه سلم في ذلك من الآفات التي تطرق الفقير أو التاجر مثلا مما ذكرنا ومما لم نذكره هذا يقع فيه كثير ممن ينظر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها وعواقبها ولذلك كان من شرط الفقير أن لا يحمد أحدا من الفقراء الصادقين ولا تاجرا حتى يراه قد جاوز الصراط ودخل الجنة
وقد كنت أسمع العلماء والتجار يقولون عن شخص أقام بمكة هنيئا لفلان أقام بمكة على خير واستراح من الدنيا فلما سافرت ورأيته بعين النصيحة وجدته على أسوأ حال منها أنني رأيته لا كسب له وإنما نفسه ناظرة لما في أيدي الخلق وكلما مال إلى أخذ شيء من أحد ولم يقسم له منه شيء يصير يهجوه في المجالس بالكلام المؤذي فإما أن تصير الناس يعطونه خوفا من لسانه وإما أن يعاديهم ويقاطعهم و والله أن بعض الناس الذين يؤذيهم لو عرض عليه أعمال هذا الشخص طوال عمره بمكة يوم القيامة أن تكون في مقابلة غيبة واحدة ما رضي بها في غيبته بتقدير أن الإخلاص وجد في تلك الأعمال وأما إذا دخلها رياء أو سمعة فهي حابطة من أصلها لم يقبلها الله تعالى فليس له أعمال يعطى منها أحد حقه
وسمعت سيدي عليا الخوص رحمه الله يقول لشخص من العلماء أراد الحج : إياك يا أخي أن تجاور في مكة أو المدينة فتعجز عن القيام بأدائها فيصدق عليك المثل السائر حججت ومعك خرج زاد فرجعت وفوق ظهرك ألف خرج أوزار أي لأن تبعات كل شخص ممن تستغيبهم تجعل وحدها يوم القيامة فكأنها خرج وحدها فقال له يا سيدي اسمحوا لي بالمجاورة فقال لا أسمح لك إلا إن كنت تدخل على شروط فقال له وما الشروط فقال الشيخ : منها أنك لا تدخر قط فيها قوتا ولا دراهم مدة إقامتك بها ومنها أنك لا تأكل قط طعاما وحدك وأنت تعلم أن فيها أحدا جائعا في ليل أو في نهار ومنها أن تلبس الهدوم الخليقات ولا تلبس شيئا قط من الثياب الفاخرة بل تبيعها وتنفقها على الفقراء الجياع ومنها أن لا تحن مدة إقامتك إلى رجوعك إلى بلدك أبدا ولا تشتاق إلى دار ولا إلى ولد ولا إلى وظيفة ولا إلى إخوان في غير مكة لأنك في حضرة الله الخاصة وهو لا يأخذ منك إلا قلبك وقلبك خرج من حضرته فبقيت في حضرته جسما بلا قلب فإيش في هذا طيب ؟ ومنها أن لا يطرقه مدة إقامته هلع ولا رائحة اتهام للحق تعالى من أمر رزقه ولا يخاف أن يضيعه أبدا لأن أهل حضرة الله تعالى لا يجوز لهم ذلك بل ربما مقت صاحب الاتهام وطرد من حضرة الله تعالى لسوء أدبه وضعف يقينه وهو يرى الحق تعالى يطعمه ويسقيه في حين كان في بطن أمه إلى أن شابت لحيته وهذا من أقبح ما يكون مع أن تلك الأرض تعطي ساكنها بالخاصية الهلع والاتهام للحق في أمر الرزق حتى لا يكاد يسلم من ذلك إلا أكابر الأولياء قال : ومن هنا كره الأكابر الإقامة بمكة ومنها أن لا يخطر في نفسه مدة إقامته هناك معصية أبدا ولو تعذر الوقوع من مثله فكيف بقريبه الوقوع ومن هنا سافر الأكابر من الأولياء بنسائهم وتكلفوا مؤونة [ أي : مشقة ] حملهم لأجل ذلك
وكان الشعبي يقول : لأن أقيم في حمام أحب إلي من أن أقيم بمكة وكان يقول لأن أكون مؤذنا بخراسان أحب إلى من أن أقيم بمكة خوفا أن يخطر في نفسي إرادة ذنب ولو لم أفعله فيذيقني الله من عذاب أليم لقوله تعالى : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم }
وهذا خاص بالحرم المكي فهو مستثنى من حديث : [ [ إن الله تعالى تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل ] ] الحديث
وقد قالوا لابن عباس لما سكن الطائف لم لا تقيم بمكة ؟ فقال لا أقدر على حفظ خاطري من إرادة ظلمي للناس أو ظلمي لنفسي فكيف لو وقعت في الفعل فإن الله تعالى لم يتوعد أحدا على مجرد إرادته السوء دون الفعل له إلا بمكة اه
فقال الشخص " يا سيدي التوبة عن المجاورة " وحج ولم يجاور
وقد أخبرني سيدي محمد بن عنان أن أولياء العصر حجوا مع سيدي أبي العباس الغمري نفعنا الله ببركاته وكانوا خمسة عشر وليا من مصر وقراها فقالوا له يا سيدي : دستوركم نجاور في مكة أو المدينة ؟ فقال : من قدر منكم على أدب مكة أو المدينة فليجاور فقالوا له وما أدب مكة ؟ فقال : أن يكون على صفات أهل حضرة الله من الأنبياء والأولياء والملائكة ولا يطرق سريرته قط شيء يكرهه الله مدة إقامته بها فكيف إذا فعل ما يكرهه الله فقالوا له ما أدب المدينة ؟ فقال : هو كأدب مكة ويزيد عليها أنه لا يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في جميع أحواله حتى إنه يصغر عمامته ويتصدق بكل شيء دخل يده ولا يلقي في المدينة درسا إلا بما صرحت به الشريعة دون ما فيه رأي أو قياس أدبا معه صلى الله عليه و سلم أن يكون لغيره كلام في حضرته إلا بمشاورته فإن كان من أهل الصفاء فليشاوره صلى الله عليه و سلم في كل مسألة فيها رأي أو قياس ويفعل بما أشار به صلى الله عليه و سلم بشرط أن يسمع لفظه صلى الله عليه و سلم صريحا يقظة كما كان عليه الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله قال : وقد صححت منه صلى الله عليه و سلم عدة أحاديث قال بعض الحفاظ بضعفها فأخذت بقوله صلى الله عليه و سلم فيها ولم يبقى عندي شك فيما قاله وصار ذلك عندي من شرعه الصحيح أعمل به وإن لم يطعني عليه العلماء بناء على قواعدهم
فقال المشايخ كلهم : ما منا أحد يقدر على ما قلتم ورجعوا كلهم تلك السنة مع سيدي أبي العباس وكان من جملتهم سيدي محمد بن داود وسيدي محمد العدل وسيدي محمد أبو بكر الحديدي والشيخ علي بن الجمال والشيخ عبدالقادر الدشطوطي
وأخبرني شيخي الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري وكان حاجا معهم : أن سيدي عبدالقادر الدشطوطي لم يدخل الحرم المدني وإنما ألقى خده على عتبة باب السلام من حين دخل الحج للزيارة حتى رحلوا وحملوه وهو مستغرق فما أفاق إلا في مرحلة أبيار علي رضي الله عنه
فتأمل يا أخي في أحوال أهل الأدب مع الله تعالى وأنبيائه في جلوسهم في المساجد أو الأسواق واقتدي بهم وتقدم قبل هذا العهد بإثني عشر عهدا زيادة على هذا فراجعها والله يتولى هداك (1/26)
- روى الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما مرفوعا : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لامرأة أبي حميد الساعدي حين قالت له إني أحب الصلاة معك قال قد علمت أنك تحبين الصلاة معي وصلاتك في دارك خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي ] ]
قال الراوي فأمرت فبنى لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز و جل
قال الحافظ المنذري وبوب عليه ابن خزيمة : باب اختيار صلاة المرأة في حجرتها على صلاتها في دارها وصلاتها في مسجد قومها على صلاتها في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم وإن كانت كل صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام قال : وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ [ صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد ] ] الحديث
أراد به صلاة الرجل دون صلاة النساء هذا كلامه اه
وروى الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ خير مساجد النساء قعور بيوتهن ] ]
وروى أبو داود مرفوعا : [ [ لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن ] ]
وروى الطبراني مرفوعا ورجاله رجال الصحيح : [ [ المرأة عورة وأنها إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وأنها لا تكون أقرب إلى الله إلا في قعر بيتها ] ]
وفي رواية لابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما مرفوعا : [ [ وأقرب ما تكون - يعني المرأة - من وجه ربها وهي في قعر بيتها ] ]
وروى الطبراني مرفوعا بإسناد حسن : [ [ النساء عورة وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس فيستشرفها الشيطان فيقول إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتيه . وإن المرأة لتلبس ثيابها فيقال لها أين تريدين ؟ فتقول أعود مريضا أو أشهد جنازة أو أصلي في مسجد وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها ] ]
وقوله : فيستشرفها الشيطان فيها . أي ينتصب ويرفع رأسه إليها ويهم بها لأنها قد تعاطت شيئا من أسباب نشاطه عليها وهو خروجها من بيتها قاله الحافظ المنذري رحمه الله
وروى الطبراني بإسناد حسن لا بأس به أن أبا عمرو الشيباني رأى عبدالله يخرج النساء من المسجد يوم الجمعة ويقول أخرجن إلى بيوتكن خير لكن . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نأمر النساء بصلاتهن في بيوتهن ونرغبهن في لزوم البيوت ونبين لهن ما في ذلك وغيره من الفضائل حتى لا يحتجن إلى الخروج بسماع واعظ أجنبي فإننا مسؤولون عن عيالنا سؤالا خاصا اللهم إلا أن تكون عجوزا أو قبيحة المنظر لا تشتهى إلا نادرا فالأمر في ذلك سهل وإذا احتفت الفضائل بمكروهات كان ترك المكروه أولى من اكتساب تلك الفضيلة ومن تأمل بعين البصيرة ما يقع للنساء من الآفات إذا خرجن للواعظ لم يسمح لامرأته بالخروج إلى مثل ذلك على أن نساء هذا الزمان قد عمهن الجهل حتى صار بعضهن يقلن ليس على الصبيات صلاة إنما ذلك للعجائز وبعضهن يقلن إنما تجب الصلاة على من حجت وبعضهن يقلن ليس على نساء الفلاحين صلاة . هذا أمر سمعته أنا منهن مرارا . ولذلك كان سيدي أحمد الزاهد شيخ السلسلة يخص بوعظه النساء في أكثر أوقاته ويقول : إنهن محبوسات في البيوت ولا يسمعن شيئا من أحكام الشريعة لقلة مخالطتهن للرجال فكان يعقد المجلس لهن ويعلمهن أركان الوضوء والصلاة والصيام والحج وكيفية النية في ذلك ويعلمهن حقوق الزوج وآداب الجماع وفضل صيام التطوع وما يجرح كمال العبادات وسبقه إلى نحو ذلك أيضا سيدي الشيخ إبراهيم الجعبري المدفون خارج باب النصر بمصر المحروسة فكان يخص النساء بالوعظ ويبين لهن أحكم دينهن رحمه الله . وهذا أمر قد أغفله غالب طلبة العلم الآن فضلا عن العوام فترى أحدهم يشاهد حليلته وهي جنب ليلا ونهارا لا تغتسل ولا تصلي ويضاجعها ويقبلها مع ذلك كأنها سيدته إما تهاونا بالدين أو خوفا أن تقول له هات لي فلوس الحمام أو قلل عني الجماع ونحو ذلك . وأما فلوس الغسل من الحيض والنفاس والاحتلام فذلك عليها مع أن ذلك قليل الوقوع بالنسبة للجماع ومن أخلاق الرجال عدم المشاحنة في مثل ذلك يعطيها ما تحتاج إليه ولو لم يكن ذلك واجبا عليه . وكما ساعدته هي على قضاء وطره من الجماع كذلك ينبغي له أن يساعدها على أمر دينها ويرشدها إلى فعل كل شيء فيه خير
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إنما أمر الشارع النساء أن يصلين في البيوت مراعاة لمصلحة غالب الناس الذين لا يتورعون عن النظر إلى الأجنبيات ولو أنهم كانوا كلهم يشهدون نفوسهم في حضرة الله وأنه تعالى ناظر إليهم لأمرهن بالصلاة مع الرجال وتأمل لما كان الناس يحضرون بقلوبهم في الإحرام في الحج وتغلب عليهم هيبة الله تعالى ومراقبته كيف أمرت النساء بكشف وجوههن وأكفهن إذ يبعد أن أحدا في تلك الحضرة يميل إلى امرأة من الأجانب
فتأمل واعلم يا أخي عيالك وخدمك من النساء جميع ما يحتجن إليه في دينهن فإنك مسؤول عن ذلك والله يتولى هداك (1/27)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة . . . ] ] الحديث
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا لا يبقى من درنه شيء . قال فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ] ] والدرن هو الوسخ
وروى مسلم والترمذي وغيرهما مرفوعا : [ [ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر ] ]
وروى الطبراني مرفوعا ورجاله محتج بهم في الصحيح إلا يحي بن إبراهيم القرشي : [ [ إن لله تعالى ملكا ينادي عند كل صلاة : يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها ] ]
وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ يبعث الله عز و جل مناديا عند كل صلاة فيقول : يا بني آدم قوموا فأطفئوا ما أوقدتم على أنفسكم . فيقومون ويتطهرون ويصلون الظهر فيغفر الله لهم ما بينهما فإذا حضرت العصر فمثل ذلك فإذا حضرت المغرب فمثل ذلك فإذا حضرت العتمة فمثل ذلك فينامون فمدلج في خير ومدلج في شر ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ المسلم يصلي وخطاياه مرفوعة على رأسه كلما سجد تحاتت فيفرغ من صلاته وقد تحاتت عنه خطاياه ] ]
قلت المراد بهذه الخطايا غير خطايا الوضوء التي كفرت بالوضوء نظير ما ورد في سائر المأمورات الشرعية فإن كل مأمور يكفر منها خاصا به وفي ذلك رفع التعارض بين الأحاديث الواردة في ذلك والله أعلم
وروى الطبراني بإسناد لا بأس به مرفوعا : [ [ أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة ينظر في صلاته فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله وفي رواية أخرى له " فإن صلحت فقد أفلح وإن فسدت فقد خاب وخسر "
قلت : إنما كانت سائر الأعمال تصلح إذا صلحت الصلاة لأنها إذا صلحت وقع الرضا من الله على صاحبها فانسحب الرضا على سائر أعماله وإذا فسدت وقع السخط من الله على فاعلها فانسحب ذلك على سائر أعماله . وروى الطبراني أيضا مرفوعا : [ [ لا إيمان لمن لا أمانة له ولا صلاة لمن لا طهر له ولا دين لمن لا صلاة له إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد ] ] والأحاديث في ذلك كثيرة والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نبين لتارك الصلاة من الفلاحين والعوام وسائر الجهال ما جاء في فضل الصلوات الخمس وفضل من يواظب عليهن ويخص ذلك بمزيد تأكيد كما أكده رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد أغفل ذلك غالب الفقراء وطلبة العلم الآن فترى أحدهم يخالط تارك الصلاة من ولد وخادم وصاحب وغيرهم ويأكل معهم ويضحك معهم ويستعملهم عنده في العمارة والتجارة وغير ذلك ولا يبين لهم قط ما في ترك الصلاة من الإثم ولا ما في فاعلها من الأجر وذلك مما يهدم الدين فبين يا أخي لكل جاهل ما أخل به من واجبات دينه وإلا فأنت أول من تسعر بهم النار كما ورد في الصحيح فإنك داخل فيمن علم ولم يعمل بعلمه وإن كنت لم تسم فقيها في عرف الناس وإنما قالوا إن الفقهاء يعرفون ويحرفون لكونهم هم المقصودون ببيان العلم للناس دون العوام عادة وإلا فكل من عرف شيئا من أحكام الشريعة ولم يعمل به فهو كذلك يعرف ويحرف
واعلم يا أخي أن البلاء يرتفع عن كل مكان كان أهله يصلون كما أن البلاء ينزل على كل مكان يترك أهله الصلاة فلا تستبعد يا أخي وقوع الزلازل والصواعق والخسف على حارة يترك أهلها الصلاة أبدا ولا تقل : إني أصلي فما علي منهم لأن البلاء إذا نزل يعم الصالح مع الطالح لكونه لم يأمرهم ولم ينههم ولم يهجرهم في الله . { والله على كل شيء شهيد } (1/28)
- روى مسلم وغيره مرفوعا : [ [ الصلاة نور ] ]
وروى الإمام أحمد مرفوعا بإسناد حسن : [ [ إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله فتتهافت عنه ذنوبه كما يتهافت هذا الورق عن هذه الشجرة وأخذ بغصن منها فجعل ذلك الورق يتهافت ] ]
وروى مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن معدان قال : لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة أو قال قلت أخبرني بأحب الأعمال إلى الله تعالى فسكت ثم سألته فسكت ثم سألته الثالثة فقال : سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ [ عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله إلا رفعك الله بها درجة وحط بها عنك خطيئة ] ] . وروى ابن ماجه مرفوعا بإسناد صحيح : [ [ استكثروا من السجود ] ]
وروى مسلم عن ربيعة بن كعب قال : [ [ أتيت النبي صلى الله عليه و سلم بحاجة فقال سلني قلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك ؟ قلت هو ذلك . قال : فأعني على نفسك بكثرة السجود ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ ما من حالة يكون العبد عليها أحب إلى الله تعالى من أن يراه ساجدا يعفر وجهه في التراب ] ]
أي يضع وجهه على التراب من غير حائل
وفي رواية أيضا مرفوعا : [ [ الصلاة خير موضوع فمن استطاع منكم أن يستكثر منها فليستكثر ] ]
وفي رواية بإسناد حسن : [ [ إن النبي صلى الله عليه و سلم مر بقبر فقال : من صاحب هذا القبر ؟ فقالوا فلان فقال : ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكون منشرحين لتقديم ما جعله الشارع أفضل على ما جعله مفضولا وذلك لأن معظم الفضل والثواب في الاتباع فلا تقدم على صلاة التطوع شيئا إلا إن صرح الشارع بتقديمه عليها ومثل هذا العهد يخل به كثير من الناس بل رأيت من هو جالس في جامع كثير الجماعة وقد قامت الجماعة العظمى بصلاة العصر وهو جالس يطالع في علم المنطق وهذا من شدة عمى القلب فإن الشارع جعل لكل عبادة وقتا تفعل فيه مقدمة على غيرها وإن كان هناك أفضل منها فليس لنا أن نكرر صلاة العصر مثلا بدل سنتها بل قال ابن عمر : نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نصلي صلاة العصر في يوم مرتين يعني إذا كانت الصلاة الأولى صحيحة إلا أن يصلي الثانية في جماعة والعبد تابع للشارع لا مشرع لنفسه حكما فعلم أن الشارع ما سن تلك السنة في ذلك الوقت ذاهلا عن كون أن هناك أفضل منها وإنما ذلك مع علمه بأن فعل المفضول في الوقت الذي شرع فيه مطلوب كما أن فعل الأفضل في الوقت الذي شرع فيه مطلوب أيضا
فلا ينبغي لطالب العلم أن يترك النوافل المؤكدة ويشتغل مكانها بعلم إلا إن تعين ذلك عليه بالطريق الشرعي بشرط الإخلاص فيه وذلك لئلا يؤدي إلى ترك الاشتغال بالسنن كلها ويفوتها حتى كأنها لم تشرع في حقه أبدا هذا مع أنه كثيرا ما يجلس في لهو ولعب وغيبة ونميمة وحسد وفخر وكبر وعجب ولا يقول لنفسه قط الاشتغال بالعلم أولى . فلا تلبس على نفسك يا أخي وتقول لمن أمرك بالاشتغال بسنة من السنن المضروب لها : وقت الاشتغال بالعلم أفضل مع علمك بعدم إخلاصك فيه فإن مثل ذلك ربما يكون حجة في قلة الدين . وتأمل طالب العلم إذا ترك فعل السنن والفضائل وأكثر من الجدال وترك الأوراد السنية كيف يذهب منه الأنس ولا يكاد يعتقد فيه أحد ولا يقول له ادع لي أبدا بخلاف من أكثر من فعل السنن والأذكار من طلبة العلم يصير الناس يعتقدونه ويسألونه الدعاء وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ [ أنتم شهداء الله في الأرض فمن أثنيتم عليه خيرا فهو خير ومن أثنيتم عليه شرا فهو شر ] ]
وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا رضي الله عنه يقول : إذا كان الفقيه تاركا للسنن والأوراد وآداب القوم فهو كالخبز الحاف اليابس
فأكثر يا أخي من الصلوات المسنونات المؤقتة ولا تخل بها في يوم من الأيام واجعل الاشتغال بالعلم في غير أوقاتها وإن سمعت مني شيئا فاجعل بدل كل مجلس تريد تلغو فيه مجلس علم واترك اللغو فإن المؤمن لا يشبع من خير ومن فعل الأوراد الشرعية كفته في الاشتغال بالخير الذي أمره به الشارع حتى لا يكاد يجدله وقت بطالة أبدا ما عدا أوقات الملل الذي يطرق البشر وذلك معفو عنه إن شاء الله تعالى فاعلم ذلك واعمل عليه وتقدم بسط الكلام على ذلك في عهد الأمر بإدمان المطالعة في كتب العلم فراجعه والله يتولى هداك (1/29)
- روى الشيخان وغيرهما : [ [ أن عبدالله بن مسعود قال : يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : الصلاة لوقتها ] ] الحديث
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ عليكم بذكر ربكم وصلوا صلاتكم في أول وقتكم فإن الله عز و جل يضاعف لكم ] ]
وروى الترمذي والدارقطني مرفوعا : [ [ الوقت الأول من الصلاة رضوان الله . والآخر عفو الله ] ]
وفي رواية للدارقطني : [ [ وسط الوقت رحمة الله ] ]
وروى الديلمي مرفوعا : [ [ فضل أول الوقت على آخره كفضل الآخرة على الدنيا ] ]
وروى الإمام أحمد والطبراني واللفظ للطبراني مرفوعا : [ [ يقول ربكم عز و جل : من صلى الصلاة لوقتها وحافظ عليها ولم يضيعها استخفافا بحقها فله علي عهد أن أدخله الجنة ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من صلى الصلوات لوقتها وأسبغ لها وضوءها وأتم لها قيامها وخشوعها وركوعها وسجودها خرجت وهي بيضاء مسفرة تقول حفظك الله كما حفظتني ومن صلاها لغير وقتها ولم يسبغ لها وضوءها ولم يتم لها خشوعها ولا ركوعها ولا سجودها خرجت وهي سوداء مظلمة تقول ضيعك الله كما ضيعتني حتى إذا كانت حيث شاء الله لفت كما يلف الثوب الخلق ثم ضرب بها وجهه ] ]
والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نستعد بالوضوء قبل دخول الوقت للصلاة أول الوقت فمن لم يستعد لذلك فربما فاته فضيلة جماعة الوقت وهذا العهد يخل به كثير من سكان المساجد فضلا عن التجار والصنايعية فيفرطون في الوضوء أول الوقت حتى تفوتهم صلاة الجماعة ويقال لأحدهم قم توضأ فيقول الوقت متسع وقد وقع لي ذلك مع شخص من طلبة العلم في جامع كثير الجماعة فرأيت الصلاة تقام للعصر وهو جالس يلغو فقلت له قم للصلاة فقال : الوقت متسع فقلت له ولو كان متسعا فهل تقدر تجمع لك في صلاتك جماعة مثل هؤلاء فقال السبعة عشرون درجة حاصلة لي ولو صليت مع واحد فقلت له تجادلني في شيء ينقص أجرك وانصرفت وتركته فمثل هذا ربما يعد من جملة الأئمة المضلين عن السنة وربما جرهم ذلك إلى ترك واجب يعذبون عليه يوم القيامة فإن حقيقة الإضلال ليس هو إلا ترك الأئمة للأوامر الشرعية فيتبعهم الناس على ذلك فيصيرون قدوة في الضلال فلا يرجى لمثل هؤلاء خير ولو كان معهم من العلم كأمثال الجبال
وكان سيدي إبراهيم المتبولي رحمه الله يقول . إذا قرأتم العلم فاقرؤوه على العلماء العاملين وإياكم أن تقرؤوه على أحد من المجادلين الذين لا يعولون على العمل بما علموه فإنكم تخسرون بركة علمكم فإن إبليس لهؤلاء بالمرصاد لكونهم حملة الشريعة بقاؤها ببقائهم فإذا تلفت حالهم تلف حال الشريعة لعدم الأعمال التي يفعلونها حتى يقتدي الناس بهم فيها فكأن الشريعة لم تكن موجودة لأنه لا وجود لعينها إلا بالعمل بها وكان رضي الله عنه يقول : حكم الفقيه الذي لا يعمل بعلمه حكم الشاطر الذي تعلم آلات القتال كلها ثم خرج على نية القتال في سبيل الله فلقيه إبليس في الطريق فقال له اقطع الطريق فإنك تعرف تدافع وتخادع وما كل أحد يعرف ذلك فمر به إنسان معه أمتعة فضربه حتى صرعه وأخذ متاعه ورجع إلى بيته بلا جهاد . فكذلك الفقيه المذكور يتخذ علمه سلاحا يقاتل به العامة وإن رأى علمه عليه في واقعة قلد مذهب غيره ممن ليس هو عليه ويقول : يجوز لي التقليد للضرورة . وإن نازعه أحد في أن تقليده لغيره ضرورة أقام الأدلة والبراهين على الضرورة . فمثل هذا ربما يكون علمه زاده إلى النار اه
فالزم يا أخي أدب الشريعة ولا تجادل من نصحك فربما تخسر دينك والله يتولى هداك (1/30)
- روى الشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجه مرفوعا : [ [ صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا ] ] . الحديث
وفي رواية للشيخين وغيرهما مرفوعا : [ [ صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ] ]
وروى مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عبدالله ابن مسعود قال : ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها يعني صلاة الجماعة إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يأتي يتهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف . وقوله يهادي بين الرجلين يعني يرفد من جانبيه ويؤخذ بعضده من العجز حتى يمشي به إلى المسجد
وروى الإمام أحمد والطبراني كل منهما بإسناد حسن مرفوعا : [ [ أن الله تبارك وتعالى ليعجب من الصلاة في الجمع ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ لو يعلم المتخلف عن الصلاة في الجماعة ما للماشي إليها لأتاها ولو حبوا على يديه ورجليه ] ]
وروى الترمذي مرفوعا : [ [ من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق ] ]
وفي رواية لابن ماجه وغيره مرفوعا : [ [ من صلى في مسجد جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من العشاء كتب الله له عتقا من النار ] ]
وروى أبو داود والنسائي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم مرفوعا : [ [ من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ] ]
وفي رواية لأبي داود وغيره مرفوعا : [ [ من أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضها وبقي بعضها فصلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على صلاة الجماعة في الصلوات الخمس وفيما تشرع فيه الجماعة من النوافل ولا نتخلف حتى تفوتنا الجماعة كلها أو بعضها وإن جعل الشارع لمن خرج لها فوجدها قد انقضت مثل أجرها لأن الشارع إنما جعل ذلك جبرا وتسكينا لخاطر من خرج للجماعة فوجد الناس قد فرغوا فتأسف وحزن فكان ذلك كالتعزية لصاحب المصيبة وإلا فكيف يجعل من فرط في أوامر الله كمن فعلها وبادر إليها وترك أشغاله كلها لأجله تعالى فافهم . وهذا العهد يخل به كثير من سكان المساجد لا سيما المجادل الموسوس فتراه يصبر حتى تفوته تكبيرة الإحرام مع الإمام فيفرغ الإمام من قراءة الفاتحة أو السورة بعدها ثم ينوي ويركع ويقول : إنما أفعل ذلك لأني أتوسوس في قراءة الفاتحة . وذلك غير عذر شرعي وكل ذلك من أكل الحرام والشبهات فلا يزال أحدهم يأكل من ذلك ويقول " الأصل الحل " حتى يظلم قلبه فلا يصير يرتسم فيه شيء من الأفعال والأقوال لتلف القوة الحافظة ولو أنه سلم قياده لشيخ صادق من أهل الطريق لعلمه طريق الورع وكسب الحلال حتى نار قلبه وصار كالكوكب الدري فأدرك جميع ما يقع منه ولا يصير ينسى شيئا إلا في النادر
وقد كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول : ما سمعت شيئا ونسيته وذلك لشدة نورانية باطنه رضي الله عنه
فاسلك يا أخي على يد شيخ يعلمك مراتب العبادات والاعتناء بأوامر الله عز و جل وإلا فمن لازمك غالبا الشك فيما تفعله وربما وقعت في التساهل أو فعلتها لعلة من غير إخلاص ليقال
وقد وقع لفرقد السنجي رضي الله عنه أنه صلى في الصف الأول أربعين سنة فتخلف عنه يوما فوجد في نفسه خجلا من رؤية الناس له فأعاد الصلاة أربعين سنة وقال : إنما كنت يا نفس تصلين في الصف الأول ليقال ثم اتخذ له شيخا وسلك على يده فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك (1/31)
- روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ] ]
وكلما كثر فهو أحب إلى الله تعالى
قلت : ومن هنا واظب أهل الله تعالى على الصلاة في الجماعة الكبرى لكون الحق تعالى يحب صلاتنا فيها لا لعلة أخرى كما أنهم يحبون عفو الله عنهم لكونه تعالى يحب العفو لا لإدخال الراحة على أنفسهم بالعافية فافهم . والله أعلم
وروى البزار والطبراني مرفوعا بإسناد لا بأس به : [ [ صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة تترى وصلاة أربعة جماعة أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من مائة تترى ] ] . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصلي مع الجماعة العظمى دون الصغرى ولا نقنع بالصغرى ونترك الكبرى إلا لعذر شرعي ومتى خالفنا ذلك استغفرنا لله تعالى من تركنا فعل ما هو الأحب إليه فاعلم أنه ينبغي أن يكون الباعث لنا على صلاة الجماعة محبة الحق تعالى لها لا طلب الثواب فإذا ذلك علة تقدح عندنا في الإخلاص وما ساق الله تعالى أحدا من عباده إلا خير بالثواب الأخروي إلا لعلمه تعالى بأن ذلك الأحد ليس من أهل الإخلاص لكونه يعبد الله على علة وحرف ولو أنه وصل إلى مقام الإخلاص لم يحتج إلى ذكر ثواب بل كان يبار لفعل ذلك امتثالا لأمر الله تعالى ولا يتوقف على معرفة الثواب في ذلك هذا كله حال السلوك فإذا تم سيره ورجع كشف له عن جميع ما فيه من الأجزاء ووجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه وهناك يرى فيه جزءا يطلب الثواب على عبادته وإن وصل إلى أعلى مراتب السلوك . ولما كان هذا الجزء يضعف حتى لا يكاد يظهر له عين ربما ظن بعضهم أنه صار يعبد الله خالصا إخلاصا كليا لخفاء ذلك الجزء عليه والحال أنه باق ولكن عسكر جيش العبودية قوي عليه فأفهم فإن هذا من لباب المعرفة
وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة و السلام : [ [ ومن أظلم ممن عبدني لجنة أو نار ؟ لو لم أخلق جنة أو نارا ألم أكن أهلا لأن أطاع ؟ ] ] اه . فلكل مقام رجال
واعلم أنه قد يكون للفقراء أعذار باطنية فربما تخلفوا عن الخروج لصلاة الجماعة فلا ينبغي لأحد المبادرة إلى الإنكار عليهم إلا بعد أن يتعرف ذلك العذر منهم فربما غلب عليهم حال قاهر منعهم من الخروج والمنهي عنه إنما هو تخلف العبد عن صلاة الجماعة لشغل دنيوي أو مفضول مع قدرته على الخروج وهؤلاء لو ضرب أحدهم بسيف ما قدر على الخروج بل يرون ضرب السيف أهون على أحدهم من خروجه من بيته أو خلوته عند غلبة الحال عليه ولا يعرف ذلك إلا من ذاقه
وقد كان سيدي الشيخ مدين لا يخرج من بيته إلا لصلاة العصر فقط مع أن المسجد على باب داره وكذلك سيدي محمد الغمري وكذلك سيدي علي المرصفي فقيل لسيدي مدين في ذلك فقال ربما يكون الفقير في بيته في حال جمعية قلب مع الله تعالى أقوى من جمعيته معه إذا خرج اه
فسلم يا أخي للقوم وفي القران العظيم : { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خير لهم } . مع كون الصحابة إنما نادوه طلبا لإرشادهم في أمور دينهم فلولا أنه صلى الله عليه و سلم كان في حال جمعية خاصة مع الله تعالى لكان قدم الخروج لتعليم الناس أمور دينهم وكذلك القول في كل ورثته من بعده لا ينبغي لأحد أن ينكر عليهم إذا لم يخرجوا للصلاة إلا إذا علم رجحان خروجهم على مكثهم في بيتهم فإن هناك يتعين عليهم الخروج على الفور فتنبه يا أخي لذلك فإن لكل مؤمن حظا من مقامه صلى الله عليه و سلم . { والله عليم حكيم } (1/32)
- روى أبو داود مرفوعا : [ [ الصلاة في جماعة تعدل خمسا وعشرين صلاة فإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة ] ]
وفي رواية لأبي داود أيضا : [ [ صلاة الرجل في الفلاة تضعف على صلاته في الجماعة ] ]
وفي رواية لأبي داود أيضا : [ [ فإن صلاها بأرض قي فأتم ركوعها وسجودها كتبت له صلاته بخمسين درجة ] ]
القي بكسر القاف وتشديد الياء : هو الفلاة كما هو مفسر في رواية أخرى لأبي داود
وروى أبو يعلي مرفوعا : [ [ ما من عبد يقوم بفلاة من الأرض يريد الصلاة إلا تزخرفت له الأرض ] ]
وفي حديث لأبي داود والنسائي مرفوعا : [ [ يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية يؤذن ويصلي فيقول الله عز و جل : انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويصلي يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة ] ]
والشظية : رأس الجبل . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا خرجنا لسفر أو لنزهة أو غير ذلك ونزلنا في فلاة من الأرض أن نصلي فيها ولو ركعتين فإن حضر وقت فريضة أذنا لها وأقمنا وصليناها جماعة فإن لم يتيسر صليناها فرادى : فردا فردا . وذهب بعضهم إلى أن صلاة الفرد في الفلاة أفضل من صلاة الجماعة في البلد
قلت : ولعل ما ورد في ذلك إنما هو تشجيع وتقوية عزم لمن لم يجد أحدا يساعده على الجماعة مع ضعف عزمه فما قوى داعيته إلى الصلاة في البرية إلا وعد الشارع له بتضعيف الأجر ولولا ذلك ما وجد عنده داعية كلية إلى الصلاة في البرية أبدا لعدم من يراعيه هناك من الخلق ومن شأن الشارع أن يسوق الناس إلى عبادة ربهم بأمور شتى كل بما يناسب حاله وإلا فصلاة الجماعة لا تعادلها صلاته وحده أبدا من حيث الجماعة وإن فضلها صلاته وحده فإنما هو لما وجد فيها من الإخلاص مثلا دون صلاة الجماعة وعلى ذلك جمهور العلماء رضي الله عنهم فافهم . والله تعالى أعلم (1/33)
- روى مالك ومسلم واللفظ له مرفوعا : [ [ من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله ] ]
وفي رواية لأبي داود مرفوعا : [ [ من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة ] ]
وبوب عليه ابن خزيمة في صحيحه باب فضل الصلاة العشاء والفجر في جماعة وبيان أن صلاة الفجر في جماعة أفضل من صلاة العشاء في جماعة وأن فضلها يعني الفجر في جماعة ضعف فضل العشاء في جماعة
وروى الشيخان مرفوعا : [ [ أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ] ]
وفي رواية لمسلم مرفوعا : [ [ ولو علم أحدهم أنه يجد عظما ثمينا لشهدها ] ] يعني صلاة العشاء . وروى البزار والطبراني وابن خزيمة في صحيحه عن ابن عمر قال : كنا إذا افتقدنا الرجل في صلاة الفجر والعشاء أسأنا فيه الظن
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من توضأ ثم أتى المسجد فصلى ركعتين قبل الفجر ثم جلس حتى يصلي الفجر كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأبرار وكتب في وفد الرحمن ] ]
وروى الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما : [ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى يوما الصبح ثم قال أشاهد فلان أشاهد فلان ؟ ] ]
وفيه أن هاتين الصلاتين يعني الصبح والعشاء أثقل الصلوات على المنافقين
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ من غدا إلى صلاة الصبح غدا براية الإيمان ومن غدا إلى السوق غدا براية الشيطان ] ]
وروى مالك أن عمر بن الخطاب قال لرجل بات يصلي فغلبته عيناه على الصبح : لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نهتم بصلاة الجماعة في العشاء والصبح أكثر من الاهتمام بها في غيرهما لتأكيد الشارع علينا في ذلك لا لعلة أخرى ولولا علم الشارع صلى الله عليه و سلم منا التهاون في حضور الجماعة في هاتين الصلاتين ما أكد علينا في حضورهما فإن تأكيد السيد على العبد إنما يكون إذا علم في العبد التهاون بخدمته وإلا كان السيد أمره بذلك من غير تأكيد ولا بيان ثواب وهذا العهد يخل به كثير من الناس ولا سيما الصنايعي في أيام الصيف فإن التعب ينحل عليه آخر النهار فلا يخلص منه إلى طلوع الشمس وهذا وإن لم يكن عذرا شرعيا ففيه رائحة العذر لأمر الشارع له بالأكل من عمل يده بخلاف من لا حرفة له فإنه لا عذر له في تخلفه عن هاتين الصلاتين فاعلم أن من أكل من عمل يده وتعاطى الأعمال الشاقة في تحصيل لقمته وأدى الفرائض في جماعة فهو من الكاملين في مقام الإيمان . والله تعالى أعلم
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إياكم أيها الفقراء والفقهاء الذين يأكلون من الأوقاف ولا يعملون حرفة أن تبادروا إلى الإنكار على من رأيتموه طائفا ببضاعة على رأسه وقت صلاة الجماعة أو الجمعة أو جالسا في حانوته يبيع فربما يكون له عذر شرعي بل ابحثوا عن أمره وتعرفوا حاله ثم أنكروا عليه بطريقه الشرعي اه
وسمع أخي أفضل الدين رحمه الله شخصا يقول : لولا الضعف لحضرت صلاة الجماعة في العشاء والصبح فقال لا ينبغي لك يا أخي أن تتعلل بالضعف إلا إن كنت بحيث لو وعدت على حضور الجماعة بألف دينار لا تقدر على الحضور بحيلة من الحيل فإن قدرت على الحضور لأجل ألف دينار ولم تحضر لصلاة الجماعة فعندك نفاق ينص الشارع اه . والله تعالى أعلم (1/34)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ] ]
قلت : هذا الحديث يشتمل على معنيين أن يكون المراد ترك النوافل في البيت أصلا فتصير كالقبور : أي لا صلاة فيها وأن يكون المراد به النهي عن جعل قبر الإنسان في بيته إذا مات لذهاب الاعتناء بالقبر إذا كان في البيت لكثرة مشاهدته له ليلا ونهارا . والله تعالى أعلم
وفي رواية لمسلم وابن خزيمة في صحيحه وغيرهما مرفوعا : [ [ إذا قضى أحدكم الصلاة بمسجد فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله تعالى جاعل من صلاته في بيته خيرا ] ]
وروى الإمام أحمد وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحهما مرفوعا : [ [ لأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة ] ]
وروى ابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ صلاة الرجل في بيته نور فنوروا بيوتكم ] ]
وروى النسائي وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ] ]
وروى البيهقي بإسناد جيد إن شاء الله تعالى مرفوعا : [ [ فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع ] ]
وروى ابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على صلاة النوافل في البيت إلا بحق كصلاة العيد والكسوف مما شرعت فيه الجماعة وما أمر الله تعالى بفعل الفرائض في المسجد إلا لإظهار شعائر الدين فلو أنه لم يشرع فعلها في المسجد لم يقم للدين شعائر وأيضا فلولا مشروعية الجماعة في الفرائض لربما كسل بعض الناس عن فعلها ولو في البيت وما كل أحد يراقب نظرة الحق إليه ومن هنا قالوا حبل العبادة طويل لكون غالب المحجوبين يراعي المخلوقين فإذا لم يرى أحد منهم ينظر إليه فربما يتساهل في تلك العبادة فيتركها بخلافه إذا حضر موضع الجماعة ورأى الناس يصلون فإنه يزداد نشاطا إلى فعل تلك العبادة
وقد قال لي شخص مرة : لولا أن معي وظيفة الإمامة في المسجد ما وجدت قط عندي داعية على مواظبة صلاة الجماعة فهذا من حكمة فعل الفرائض في المساجد والنوافل في البيوت . والله تعالى أعلم (1/35)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة ] ]
زاد في رواية للبخاري : [ [ والملائكة تقول : اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يقم من مصلاه أو يحدث ] ]
وفي رواية لمالك : [ [ حتى ينصرف أو يحدث ] ]
قيل لأبي هريرة وما " يحدث " ؟ قال : يفسو أو يضرط
وروى أبو داود مرفوعا : [ [ صلاة في أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين ] ] . والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا علمنا حفظ جوارحنا الظاهرة والباطنة من خطور المعاصي على قلوبنا أن نمكث بعد الفريضة ننتظر الصلاة التي بعدها ولا نخرج من المسجد حتى نصلي الصلاة الأخرى فإن لم نعلم من أنفسنا القدرة على الحفظ مما ذكرناه فمن الأدب أن نصلي الفريضة ونخرج على الفور ذلك أن الجالس في المسجد جالس بين يدي الله عز و جل إما كشفا ويقينا كالكمل من العارفين وإما ظنا وإيمانا ككل المؤمنين كالأعمى يعرف أن زيدا جليسه بكلامه معه ولا يراه فما جاء عن الشارع في فضل انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد هو في حق من كان محفوظا من المخاطر الرديئة لا سيما من كان في الحرم الملكي أو المدني كما تقدم في هذه العهود فإن من لا يحفظ خواطره ولا جوارحه من سوء الأدب مع الملوك فالأولى له البعد عن حضرتهم الخاصة فاعلم ذلك ولا تغبط من رأيته ينتظر الصلاة بعد الصلاة إلا إن رأيته محفوظا مما ذكرناه على ذلك الذي قررناه ينزل قوله تعالى : { وإن تبدوا مل في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } وفي حديث : [ [ إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل ] ]
فإن هذه الآية محكمة عند بعضهم في حق الأكابر ويدل على ذلك حكايات القوم في مؤاخذتهم بالخواطر بل قدمنا عن سيدي محمد الشويمي صاحب سيدي مدين أنه كان أنه كان لا يمكن أحدا من الجلوس بين يدي سيدي مدين إلا أن حفظ خواطره وخطر مرة في قلب شخص الزنا فقام وضربه بالعصا ضربا مبرحا فإذا كان هذا أدبا مع مخلوق فالله تعالى أولى بالأدب على الدوام . والله تعالى أعلم (1/36)
- روى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تامة تامة تامة . وفي رواية للطبراني : [ [ انقلب بأجر حجة وعمرة ] ] . وروى الطبراني مرفوعا ورواته ثقات : [ [ من صلى الصبح ثم جلس في مجلسه حتى تمكنت الصلاة يعني ترتفع الشمس كرمح كان بمنزلة حجة وعمرة متقبلتين ] ] . قال ابن عمر : وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلى الفجر لم يقم من مجلسه حتى يمكنه الصلاة . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ من صلى الصبح في جماعة ثم يثبت حتى يسبح الله سبحة الضحى كان له كأجر حاج ومعتمر تاما له حجه وعمرته ] ] . قلت ولا يستبعد مؤمن حصول الأجر العظيم على العمل اليسير فإن مقادير الثواب لا تدرك بالقياس فللحق أن يجعل الثواب الجزيل على العمل القليل والله سبحانه أعلم . وفي رواية للإمام أحمد وأبي داود وأبي يعلي مرفوعا : [ [ من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا غفرت خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر ] ] . وفي راوية لأبي يعلى [ [ وجبت له الجنة ] ] . وفي رواية لابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ من صلى الفجر ثم ذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس لم يمس جلده النار أبدا ] ] . وفي رواية للبيهقي زيادة قوله : [ [ ثم صلى ركعتين أو أربع ركعات بعد طلوع الشمس ] ] والباقي بلفظه . وفي رواية لأبي يعلي والطبراني مرفوعا : [ [ من صلى الفجر أو قال الغداة فقعد في مقعده فلم يلغ بشيء من أمور الدنيا ويذكر الله تعالى حتى يصلي الضحى أربع ركعات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه لا ذنب له ] ] . وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني عن جابر بن سمرة قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صلى الفجر جلس في مجلسه حتى تطلع الشمس حسا . وفي رواية للطبراني كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلى الصبح جلس يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على جلوسنا في مصلانا للذكر بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وترتفع ونصلي ركعتين أو أربعا وعلى جلوسنا بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس
ويلحق بالجلوس للذكر الجلوس لخير من علم شرعي أو إرشاد أو صلح بين الناس ونحو ذلك كما كان عليه فقهاء التابعين فكان عطاء ومجاهد يقولان : المراد بذكر الله علم الحلال والحرام . وقال مشايخ الصوفية : المراد بذكر الله تعالى أن يذكره بأسمائه الحسنى وقد تبعهم على ذلك جمهور أهل الطريق الذين أدركناهم كسيدي علي المرصفي والشيخ تاج الدين الذاكر وغيرهما . فكان سيدي علي المرصفي يجلس بعد صلاة العصر يرشد الناس في أمورهم بقراءة كتب القوم كرسالة القشيري وعوارف المعارف ونحوهما من مؤلفاته وكان سيدي الشيخ تاج الدين يجلس بعد صلاة العصر في قراءة البخاري وتفسير ما أشكل من ألفاظه إلى الغروب وكان سيدي محمد الشناوي يجلس بعد العصر يذكر الله تعالى إلى الغروب وكذلك كان يذكر بعد الصبح بلا إله إلا الله حتى تطلع الشمس فإن كان مسافرا ذكر ذكر المجلس هو وأصحابه وهو راكب حمارته رحمه الله وكان سيدي محمد بن عنان يشتغل بالأوراد سرا من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس وينام بعد صلاة الوتر ثم يقوم يتهجد ويصلي الصبح فلا يزال في قراءة حزب سيدي أحمد الزاهد حتى تطلع الشمس ثم يشتغل بأوراد أخر إلى ضحوة النهار وكان لا يلتفت لأحد كلمه في هذين الوقتين لإقباله على الله تعالى رضي الله عنه وكان الشيخ نور الدين على الشوني يصلي العصر ثم يشتغل بالصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم إلى الغروب ويجلس كذلك بعد الصبح ثم يختم مجلس الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم بمجلس ذكر
فلكل شيخ حال بحسب ما أقامه الله فيه وبعضهم أقامه الله في المراقبة في هذين الوقتين من غير لفظ بذكر ولا بغيره والسر في اشتغال العبد بالله في هذين الوقتين كون ذلك عقب تجلي الحق تعالى وغالب الناس يقنع بما وقع له من مدد تجلي الثلث الأخير من الليل وتجلي جمع القلوب على الحق تعالى في صلاة العصر مأخوذ من الضم كعصر الثوب من الماء فإذا فارق أهل الله تعالى ذلك التجلي حصل لهم زيادة شوق إلى الله تعالى حين أرخى بينه وبينهم الحجب بعد فراغ التجلي كما كان الأمر قبل التجلي فلما كان من الناس من ينسى الله تعالى بعد التجلي غار أهل الله تعالى من غفلة الناس عن ربهم فلذلك خص القوم تبعا للشارع هذين الوقتين بمجالس الذكر والخير لكون ذلك يذكر الناس بالله تعالى . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول : يفرق الله تعالى الأرزاق المحسوسة التي هي قوت الأجسام بعد طلوع الفجر إلى ارتفاع الشمس كرمح ويفرق الأرزاق المعنوية التي هي قوت الأرواح من بعد صلاة العصر إلى الغروب . وسمعته أيضا يقول : إنما أمر الله تعالى نبيه بالصبر مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي تقوية لقلوبهم وتنشيطا لهم إذا رأوه صلى الله عليه و سلم جالسا معهم ليحوزوا فضيلة هذين الوقتين العظيمين . فهذا ما حضرني الآن من سر تخصيص هذين الوقتين بذكر الله تعالى . { والله عليم حكيم } (1/37)
- روى الترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح مرفوعا : [ [ من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثاني رجليه قبل أن يتكلم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب له عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان يومه ذلك في حرز من كل من مكروه وحرس من الشيطان ولم يتبع بذنب يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله تعالى ] ] وزاد في النسائي بيده الخير وزاد في رواية أخرى وكان به بكل واحدة عتق رقبة وزاد في رواية أخرى : ومن قالها حين ينصرف من صلاة العصر أعطى مثل ذلك في ليلته . وروى أبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للحارث بن مسلم التميمي : [ [ إذا صليت الصبح فقل قبل أن تتكلم : اللهم أجرني من النار سبع مرات فإنك إن مت من يومك كتب الله لك حرزا من النار وإن صليت المغرب فقل قبل أن تتكلم : اللهم أجرني من النار سبع مرات فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك حرزا من النار ] ] . وروى النسائي والترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات على أثر المغرب بعث الله له ملائكة مسلحة يحفظونه من الشيطان حتى يصبح وكتب الله له بها عشر موجبات ومحي عنه عشر سيئات موبقات وكانت له بعدل عشر رقاب مؤمنات ] ] . وروى أبو يعلي والطبراني مرفوعا : [ [ من قرأ كل صلاة مكتوبة عشر مرات : قل هو الله أحد دخل من أي أبواب الجنة شاء وزوج من الحور العين ] ] . وروى ابن أبي الدنيا والطبراني بإسناد حسن وذكر فيه أن من قالها بعد الصبح فمثل ذلك . وروى ابن السني في كتابه مرفوعا : [ [ من قال بعد الفجر ثلاث مرات وبعد الظهر ثلاث مرات أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه كفرت عنه ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ] ] . وروى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لقبيصة رضي الله عنه : [ [ إذا صليت الصبح فقل ثلاثا : سبحان الله العظيم وبحمده تعافى من العمى والجذام والفالج ] ] . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على الأذكار الواردة بعد صلاة الصبح والعصر والمغرب ونقدمها في التلاوة على الأذكار التي لم ترد إذا جمعنا بينها وبين ما ورد في السنة من الأدعية والاستغفار ونحوهما أدبا مع الشارع صلى الله عليه و سلم وقد جمع الإمام النووي في كتابه الأذكار جميع ما وجد في كتب الحديث فراجعه وكذلك سيدي الشيخ أحمد الزاهد رحمه الله تعالى جمع في حزبه الأذكار الواردة في عمل اليوم والليلة وهو أمثل ما رأيته من الأحزاب فمن واظب عليه حصل له خير الدنيا والآخرة ولولا أن سيدنا ومولانا أبا العباس الخضر أمرني بالصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم بعد الأذكار الواردة في الصبح ثم أذكر الله تعالى مجلسا ما قدمت شيئا على حزب سيدي أحمد الزاهد الذي يقرأ بعد الصبح في جامعه وفي جامع الغمري بمصر لجمعه الأذكار الواردة وغيرها مما وضعه السلف الصالح رضي الله عنهم فعليك يا أخي بقراءته كل يوم وما رأيت أكثر مواظبة على قراءته كل يوم من سيدي محمد بن عنان والشيخ يوسف الحريثي رحمهما الله كانا لا يتركا سفرا ولا حضرا وإنما قدمت امتثال الخضر عليه السلام على غيره من الأذكار لأني تحت أمره كالمريد مع الشيخ فإن المريد ربما ذكر الله بالأذكار الفاضلة فدخلها الدخيل فصارت مفضولة فلذلك امتثلت أمره وقلت لولا أنه رأى لي الخير في ذلك ما أمرني به فاعلم ذلك والله يتولى هداك (1/38)
- روى الإمام أحمد واللفظ له وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما مرفوعا : [ [ من أم قوما فإن أتم فله التمام ولهم التمام وإن لم يتم فلهم التمام وعليه الإثم ] ] . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ من أم قوما فليتق الله وليعلم أنه ضامن مسؤول لما ضمن فإن أحسن كان له من الأجر مثل أجر من صلى خلفه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا وما كان من نقص فهو عليه ] ] . قلت : والفرق بين الصلاة التامة والكاملة أن التامة هي ما جمعت الشروط والأركان من غير أن ينقص منها شيء والكاملة ما زادت على ذلك بالحضور وبالخشوع ونحو ذلك من الأعمال القلبية وقوله في الحديث فليتق الله تعالى معناه أنه ليس له أن يؤم من هو أعلى منه درجة كأن يكون مرتكبا صغيرة أو مكروها أو خلاف الأولى ومن يصلي وراءه خال عن ارتكاب ذلك . والله أعلم . وروى الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ ثلاثة على كثبان المسك أراه قال : يوم القيامة فذكر منهم : ورجل أم قوما وهم به راضون ] ] . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ ثلاثة لا يهولهم الفزع الأكبر ولا ينالهم الحساب وهم على كثيب من المسك حتى يفرغ من حساب الخلائق : رجل قرأ القرآن ابتغاء وجه الله تعالى ورجل أم قوما وهو به راضون ] ] . الحديث . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نؤم بالناس حيث طلبوا منا ذلك واجتمعت فينا الشروط ولا نقول نحن ما لنا عادة بالإمامة كما يقع فيه الجافي الطبع من الفقهاء والفقراء . ومثل الإمامة أيضا الخطبة فنخطب ولا نمتنع إلا لعذر شرعي لأن الله تعالى أوجب علينا إقامة شعائر الدين فينبغي للفقيه أن يحفظ له خطبة جامعة للأركان والشرائط والآداب والوعظ الحسن لتكون معه يخطب بها إذا احتيج إليه كأن غاب الإمام أو الخطيب أو بادر بعض الناس وحلف بالطلاق لا يخطب لنا اليوم إلا فلان كما يقع ذلك كثيرا في بلاد الريف وغيرها . واعلم أنه ليس مما ذكرناه من امتنع عن الإمامة لشهود ضعفه عن تحمل سهو المأمومين ونقص صلاتهم فإن هذا إنما ترك فعل ذلك احتياطا لنفسه لا حياء طبيعيا . وقد رأيت الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله يصلي الظهر فأحرم خلفه رجل فلما سلم قال لا تعد تصلي خلفي أبدا فإني عاجز عن تحمل نقص صلاتي فكيف أقدر على تحمل نقص صلاة غيري فقال له الرجل إنما قصدت حصول فضل الجماعة لكم فقال الشيخ عدم تحمل نقص صلاتك أرجح عندي من حصول فضل جماعتك . اه . ولكل مقام رجال . { والله غفور رحيم } (1/39)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ] ] . وفي رواية لمسلم : [ [ لو يعلمون ما في الصف الأول لكانت قرعة ] ] . وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم مرفوعا : [ [ خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ] ] . وروى ابن ماجه وغيره مرفوعا عن العرباض بن سارية : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يستغفر للصف المقدم ثلاثا وللثاني مرتين وقد تقدم الحديث آنفا . ولفظ ابن حبان كان يصلي على الصف المقدم ثلاثا وعلى الثاني واحدة . وفي رواية للنسائي وابن حبان كان يصلي على الصف الأول مرتين . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا صفت سرائرنا من جميع ما يسخط الله عز و جل بحيث لم يبق في سرائرنا وظواهرنا إلا ما يرضي ربنا أن نواظب على الصلاة في الصف الأول عملا بقوله صلى الله عليه و سلم : [ [ ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى ] ] . أي العقل : ولا يكون العبد عاقلا إلا إذا كان بهذا الوصف الذي ذكرناه فإن من كان في ظاهره أو باطنه صفة يكرهها الله فليس بعاقل كامل ولا يتقدم للصف الأول بين يدي الله في المواكب الإلهية إلا الأنبياء والملائكة ومن كان على أخلاقهم وأما من تخلف عن أخلاقهم فيقف في أخريات الناس خيرا له فينبغي للإمام أن يأمر كل من عمل بعلمه بالتقدم كلما صلوا خلفه حتى يكون ذلك من عاداتهم في الوقوف ويأمر بالتخلف إلى وراء كل من رآه لا يعمل بعلمه ويعامل المصلين بما يظهروه من الصفات الحسنة أو السيئة فليس تأخيره لبعض الناس سوء ظن به إنما هو بحسب ما أظهر الناس من الأعمال الناقصة ثم إن العمل بهذا العهد يعسر جدا على من يصلي خلفه المجادلون بغير علم فإن كل واحد يقول أنا أفضل من فلان الذي قدم علي في الصف الأول أو الثاني مثلا وربما سهل العمل به في المساجد التي يحضرها العوام أو يكون أهلها مضبوطين كزوايا المشايخ التي فقراؤها تحت طاعة إمامهم
ويؤيد ما ذكرناه من شروط التقدم للصف الأول ما رواه ابن ماجه والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم وقال صحيح على شرطهما مرفوعا عن العرباض بن سارية : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يستغفر للصف المتقدم ثلاثا وللثاني مرتين وللثالث مرة . أي لأن كثرة الاستغفار للشخص قد تكون لكثرة ذنوبه وقد تكون لرفعة مقامه فأحد الاحتمالين يشهد لما قلناه . وأما حديث : خير صفوف الرجال أولها . فالمراد بالرجال الكمل من الأولياء الذين هم كما وصفنا في أول العهد فإن طهر الله تعالى يا أخي باطنك وظاهرك فبادر للصف الأول وإلا فالزم الأدب : وسيأتي في عهود المنهيات أن مما يشهد لنا في تأخير من يحب الدنيا إلى الصف الثاني وما بعده قوله صلى الله عليه و سلم في حديث للترمذي مرفوعا : [ [ الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له يجمعها من لا عقل له ] ] . فنفى كمال العقل عن كل من يجمع منها شيئا زائدا على غدائه وعشائه في يومه وليلته وما سلم من هذا الأمر إلا قليل من الناس ويؤيده أيضا قول الإمام الشافعي رضي الله عنه : لو أوصى رجل بشيء لأعقل الناس صرف ذلك إلى زهاد في الدنيا . وإيضاح ما أشار إليه الحديث من نفي كمال العقل عمن يجمع الدنيا إلا لله لا من يجمعها حين يجمعها وفي بلده من هو مستحق لإنفاقها عليه من مديون ومحبوس وجيعان ونحو ذلك فإن كانت نيته بالجمع خيرا فهذا منه فينبغي تقديمه عند كل عاقل اكتسابا للأجر ونحو ذلك فإن كانت نيته بالجمع خيرا فهذا منه فينبغي تقديمه عند كل عاقل اكتسابا للأجر وغير ذلك من أمسك عن الإنفاق ورجح الحرص والشح عليه فهو ناقص العقل وما قررناه من تأخير مرتكب المعاصي وجامع الدنيا عن الصف الأول هو ما عليه طائفة الصوفية وجمهور العلماء لا على الأمر بتقديم الوقوف في الصف الأول على غيره مطلقا كما هو مقرر في كتب الفقهاء فاعلم ذلك والله يتولى هداك (1/40)
- روى الإمام أحمد والطبراني وإسناد أحمد لا بأس به مرفوعا : [ [ سووا صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم ولينوا في أيدي إخوانكم وسدوا الخلل فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الخذف ] ] . يعني أولاد الضأن الصغار . وروى الإمام أحمد بإسناد جيد مرفوعا : [ [ إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول أو الصفوف الأول ] ] . وروى ابن خزيمة في صحيحه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأتي ناحية الصف ويسوي بين صدور القوم ومناكبهم ويقول : [ [ لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ] ] . وفي رواية الشيخين : فإن تسوية الصف من تمام الصلاة . وفي رواية للبخاري : من إقامة الصلاة يعني التي أمرنا الله بها في قوله : { أقيموا الصلاة } . وروى النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما مرفوعا : [ [ رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بين الأعناق فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الخذف ] ] . والخذف : هو ما يكون بين الاثنين من الاتساع عند عدم التراص . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ استووا تستو قلوبكم وتماسوا ترحموا ] ] . ومعنى تماسوا : ازدحموا في الصلاة قاله شريح وقال غيره تماسوا تواصلوا . وروى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما مرفوعا : [ [ ومن وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله ] ] . وروى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما مرفوعا : [ [ إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف ] ] . وروى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما مرفوعا : [ [ إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ] ] . وروى مسلم عن البراء بن عازب قال : كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم أحببنا أن نكون عن يمينه بقبل علينا بوجهه الحديث . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نسوي صفوفنا ونتراص فيها ونقدم الوقوف في ميامنها على غيره من الوسط أو المياسر وفي ذلك أسرار لا تذكر إلا مشافهة . وينبغي أن لا يكون بين أحد من أهل الصف وبين من هو في صفه شحناء ولا حسد ولا غل ولا مكر ولا خديعة ليوافق الباطن صورة الظاهر فإن اختلاف القلوب أشد من اختلاف الجوارح ولذلك منع الإمام مالك رضي الله عنه صحة اقتداء مصلي الظهر مثلا بمن يصلي العصر وذلك لأن الجوارح تبع للقلب فكأنما مكان المشاحن خال عن أحد يقف فيه لشرود قلب المشاحن عن جاره فليتأمل . ومن الأسرار الظاهرة في ذلك أن الله تعالى أمرنا بإقامة الدين ولا يقوم إلا إذا كنا على قلب رجل واحد وفي القرآن العظيم : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } . يعني قوتكم
ومن الأسرار أيضا أن الشيطان لا يدخل بين الصفوف ويوسوس لأصحابه إلا إذا رأى بينها خللا فمتى قرب من الصف احترق من أنفاسهم كما في حديث [ [ يد الله مع الجماعة ] ] . أي تأييده . وهذا الأمر لا يكاد يسلم منه أحد من المحبين للدنيا ومناصبها ووظائفها فإن كل من سعى على وظيفة شخص صار عدوا له وإن لم يسع في الماضي ربما كان ناويا على السعي في المستقبل إذا رأى حاكما يجيبه إلى ذلك فتحس القلوب بذلك فيكون عدوا مستورا في الظاهر دون الباطن فلا ينبغي لأحد من هؤلاء أن يقف في صف من بينه وبينه عداوة ليطابق باطنه ظاهره ويخرج عن صفة النفاق المشار إليها بقوله تعالى : { تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى } . اللهم إلا أن يقف بعد التوبة ناويا التقرب إليه تمييلا لخاطره و والله لو كان أئمة الدين على قلب رجل واحد ما دخل في الشريعة نقص قط ولا أطاق مخالفتهم أحد من الولاة وكان كل من خالفهم هلك بسرعة ولكنهم اختلفوا { ليقضي الله أمرا كان مفعولا }
وأما غير أئمة الدين ممن يحب الدنيا فقد كفى الله الظلمة شرهم لأنهم لا يزالون يستمطرون منهم الرزق فإن أعطوهم شيئا من سحت الدنيا خرس لسانهم وذهب سمعهم وبصرهم وصاروا خرسا صما عميا فوجودهم كالعدم وإن لم يعطوهم فهم يوافقونهم في أغراضهم ضرورة تمييلا لخاطرهم ليعطوهم كما أعطوا غيرهم ويصيروا كذلك خرسا صما عميا فهذا هو الباب الذي دخل منه النقص في الدين ولو كان العلماء كلهم زاهدين ما دخل في الدين نقص فجاهد يا أخي نفسك على يد شيخ ليخرجك من رعونات النفوس حتى لا يبقى في نفسك شهوة ولا حرص على شيء من الدنيا وأمر أصحابك بالمجاهدة على يد شيخ كذلك ثم تراصوا في الصف بعد ذلك وإن لم يتيسر ذلك فقفوا في الصف واستغفروا الله من كل ذنب يعلمه الله . { والله غفور رحيم } (1/41)
- روى الطبراني مرفوعا : [ [ من ترك الصف الأول مخافة أن يؤذي أحدا أضعف الله له أجر الصف الأول ] ] . قلت وروى الإمام سعيد رحمه الله تعالى أن الإمام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان يضرب بالدرة من رأى عليه رائحة كريهة ويؤخره إلى أخريات الصفوف . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا رأينا الصف الأول مثلا قد ازدحم الناس فيه وما بقي يحتمل دخول أحد فيه أن لا نزاحم أحدا فيه لندخل وإن كنا فيه ورأينا في خروجنا منه تنفيسا لأهله من الزحمة خرجنا إلى الصف الثاني مثلا اللهم إلا أن يكون في الصف الأول أحد يتأذى الناس برائحته فلنا مزاحمته حتى يخرج وكذلك الصف الثاني والثالث حتى يكون ذلك الشخص في آخر صف . قلت لكن لا يسلم من حظ نفسه في مثل ذلك إلى العلماء العاملون لكونهم لا يحتقرون أحدا من المسلمين إلا بطريق شرعي . والله سبحانه وتعالى أعلم (1/42)
- روى ابن ماجه وغيره عن ابن عمر قال : قيل للنبي صلى الله عليه و سلم إن ميسرة المسجد قد تعطلت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ [ من عمر ميسرة المسجد كتب الله له كفلين من الأجر ] ] . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ من عمر جانب المسجد الأيسر لقلة أهله فله أجران ] ] . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا رأينا ميسرة المسجد قد عطلت من صلاة الناس فيها أن نكرمها كل قليل بالصلاة فيها جبرا لها لأن البقع يفتخر بعضها على بعض وقد أمر الله عز و جل بجبر الخواطر وهذا من العدل بين الأمور : كما أن من انقطع إحدى نعليه يؤمر بأن ينعلهما جميعا أو يخفيهما جميعا ولا يلبس نعلا واحد عملا بالعدل بين الرجلين وهذا سر لا يعلمه إلا أهل الله تعالى لأنهم يعرفون بالكشف الصحيح حياة كل شيء وأما غيرهم فلا ينهض بهم حالهم إلى العمل بمثل ذلك لعدم كشفهم وقد جلس عندي مرة أخي الشيخ أفضل الدين ونحن نعمر في جامعنا الذي على الخليج الحاكمي فكلمته البقعة التي في ذلك البر وقالت له قل لأهل الحارة يدخلوني في جامع الميدان فإني بقعة مشرفة فكلم عليها أهل الحارة فجاء شخص من الفقراء وجعلها بيت خلاء فجاء أفضل الدين بعد ذلك فقال من فعل هذا فقلت الشيخ فلان فقال إن الله تعالى قد أعمى قلب هذا الشيخ كيف يجعل هذه البقعة خلاء مع شرفها فكان الشيخ من شدة نور قلبه يعتقد أن غيره يدرك مثل ما يدرك هو من حياة البقاع وغيرتها من بعضها بعضا فBه فاعلم ذلك (1/43)
- روى مالك والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ] ] . وفي رواية للبخاري : [ [ إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه ] ] . وفي رواية لابن ماجه والنسائي : إذا أمن القارئ فأمنوا الحديث . وفي رواية للنسائي : [ [ فإذا قال : يعني الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين فإنه من وافق كلامه كلام الملائكة غفر لمن في المسجد ] ] . قال الحافظ المنذري : آمين تمد وتقصر وتشديد الممدود لغة قيل هو اسم من أسماء الله تعالى وقيل معناها الله استجب أو كذلك فافعل أو كذلك فليكن . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ إن الله تعالى أعطاني خصالا ثلاثة : أعطاني صلاة في الصفوف وأعطاني التحية إنها لتحية أهل الجنة وأعطاني التأمين ولم يعطه أحدا من النبيين قبلي إلا أن الله تعالى أعطى هارون يدعو موسى ويؤمن هارون ] ] . وروى الحاكم مرفوعا : [ [ لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمن بعضهم إلا أجابهم الله تعالى ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نؤمن مع إمامنا في الصلاة الجهرية رجاء المغفرة لذنوبنا فلا نتقدم على تأمينه ولا نتأخر وذلك لنوافق تأمين الملائكة الذين لا يرد لهم دعاء فيستجاب لنا تبعا لهم . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إنما كان الملائكة لا يرد لهم دعاء لأنهم : { لا يعصون الله ما أمرهم } . وكل من أحكم باب ترك المعاصي من البشر كان كالملائكة لا يرد له دعاء وأما من وقع في المعاصي فإن الله تعالى يرد دعاءه في الغالب لأن الله تعالى مع العبد على حسب ما العبد عليه معه فكما أنه تعالى دعاه إلى الطاعة فلم يجب كذلك دعاه العبد فلم يجب دعاءه وكما أبطأ العبد في الإجابة ولم يبادر إليها كذلك دعا ربه فلم يجبه بسرعة جزاء وفاقا
وسمعته مرة أخرى يقول : حقيقة الإجابة هي قول الحق تعالى لعبده لبيك لإقضاء الحاجة فالحق يجيب عبده على الدوام فلا يقول يا رب إلا قال له لبيك . وأما قضاء الحاجة فيقول الله تعالى للعبد ذلك إلي لا إليك فإني أشفق عليك من نفسك وقد أعطيتك ما سألت فيكون به هلاكك وسوف تحمدني في الآخرة عل كل شيء منعتك إياه في الدنيا حين ترى ثوابي العظيم لأهل الصبر والبؤس
وظاهر كلام الشارع صلى الله عليه و سلم أن المراد بالموافقة هنا هي الموافقة في النطق دون الصفات وقال بعضهم : المراد بها الموافقة في الصفات فلا يكون في باطن الإنسان صفة شيطانية أبدا . وكان الشيخ محيي الدين بن العربي يقول إنما قال صلى الله عليه و سلم : من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له . دون قوله استجيب دعاؤه الذي هو قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } . لأنه لو أجيب دعاؤه لاستقام كالأنبياء ولم يكن له ما يغفر فلذلك راعى الشارع صلى الله عليه و سلم ضعفاء الأمة الذين لا يكادون يسلمون من الوقوع فيما يغفر بين كل صلاة وصلاة ولو أنه راعى الأقوياء الذين لا يذنبون لكان اكتفى بقولهم مع الإمام آمين مرة واحدة أول بلوغهم وهو كلام نفيس لكن ثم ما هو أنفس منه وهو أن الهدى يقبل الزيادة ولا يبلغ أحد منتهاه فالنبي صلى الله عليه و سلم يطلب الزيادة والولي يطلب الزيادة والعاصي يطلب الزيادة فلا يستغني أحد عن سؤاله الهداية ولم يزل عنده أمر يغفر بالنظر للمقام الذي ترقى إليه وهكذا ثم هذا من باب : حسنات الأبرار وسيئات المقربين . والله تعالى أعلم . وكان أخي أفضل الدين يسمع تأمين الملائكة في السماء فربما طول التأمين زيادة على إمامه . فمثل هذا ربما يسلم له حاله وسيأتي في عهود المنهيات بسط القول في مشاهدة العارفين في أركان الصلاة ونوافلها فراجعه في عهد أن لا نتساهل بترك إتمام الركوع والسجود . { والله غفور رحيم } (1/44)
- روى الطبراني مرفوعا : [ [ إن العبد إذا صلى فلم يتم صلاته بخشوعها ولا بركوعها وأكثر من الالتفات لم تقبل منه ] ] . وروى ابن حبان والطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ أول شيء يرفع من أعمال هذه الأمة الخشوع حتى لا تكاد ترى فيها خاشعا ] ] . وقيل إنه موقوف وهو أشبه . قاله الحافظ المنذري . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نستعد للصلاة قبل فعلها بما يعيننا على الخشوع فيها وذلك بالجوع وترك اللغو وكثرة الذكر وتلاوة القرآن والمراقبة لله تعالى فإن كف الجوارح عن المفضول إنما يسهل على العبد بذلك فمن شبع ولغا وغفل عن الله تعالى شردت جوارحه عن إمكانها وعسر على العبد كفها . فاعمل يا أخي على تحصيل الحضور مع الله تعالى في العبادات كلها فإنه روحها إذ كل عبادة لا حضور فيها فهي إلى المؤاخذة أقرب ولا تطلب حصول خشوع من غير مقدمات سلوك أو جذب فإن ذلك لا يكون لك أبدا . واعلم أن وضع اليمين على اليسار تحت الصدر من سنن الصلاة لكن إن شغل مراعاة ذلك القلب عن كمال الحضور مع الله تعالى فينبغي إرخاؤهما بجنبه كما هو مذهب الإمام مالك في نافلة الليل فمن لم يشغله مراعاة ذلك عن كمال الحضور مع الله تعالى بالنسبة لمقامه هو فمن الأدب وضع يديه تحت صدره ومن شغله مراعاة ذلك عن كمال الحضور فمن الأدب إرخاء يديه بجنبيه فاعلم أن جعل اليدين تحت الصدر من أدب الأكابر وإرخاؤهما بالجنبين من أدب الصغائر وفي ذلك تنبيه على أن الأصاغر يعجزون عن مراعاة شيئين معا في وقت واحد بخلاف الأكابر فاعلم ذلك وكان أخي أفضل الدين يعيد كل صلاة ظن أنه حصل له فيها خشوع ويقول : كل عبادة شعرت النفس بكمالها فهي ناقصة فلا يسع العبد إلا أن يصلي ويستغفر الله عز و جل . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إنما كان الأكابر لا يحتاجون إلى تحصيل استعداد لكل صلاة كغيرهم لانفكاك قلوبهم عن التعلق بالأكوان فهم دائما حاضرون مع الله تعالى وراثة محمدية في حال مزحهم ولغوهم . فلكل مقام رجال . والله تعالى أعلم (1/45)
- روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي مرفوعا : [ [ ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم اثنتي عشر ركعة تطوعا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة ] ] . وزاد الترمذي والنسائي : [ [ أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الغداة ] ] . وزاد ابن خزيمة وابن حبان : وركعتين قبل العصر . وأسقطا ذكر ركعتين بعد العشاء وفي رواية لابن ماجه : وركعتين قبل الظهر وركعتين قبل العصر . وهذا اختلاف في تعيين الاثني عشر فتحصل الاثني عشر بصلاة اثني عشر ركعة منها . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكثر من نوافل الصلاة زيادة على النوافل المؤكدة فإن صلاة أمثالنا عددها كثير وأجرها قليل . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول في معنى الحديث : سيأتي على أمتي زمان من عمل فيه بعشر ما علم نجا . المراد به أن الواحد منهم يعمل بعلمه كله ولا يحصل له من ذلك قدر عشر من عمل بعشر علمه من السلف فلا تقتصر يا أخي على اثنتي عشر ركعة في اليوم والليلة إلا إذا كملت فرائضك وأنى لك بذلك ؟ وأكثر من النوافل جهدك في اليوم والليلة . ثم لا يخفى عليك يا أخي أن سبب مشروعية النوافل هو علمه صلى الله عليه و سلم بإخلالنا بإتمام الفرائض فلو علم أننا نأتي بالفرائض على وجهها كاملة ما شرع لنا نافلة لأن التشريع مزاحمة أوصاف الربوبية وإن كان لا ينطق عن الهوى فلما علم من أمته عدم إتيانهم بالفرائض كاملة استأذن ربه في أن يشرع لهم النوافل الجابرة لخلل فرائضهم فأجابه الله تعالى فرجع التشريع إلى الله تعالى حقيقة . { وما ينطق عن الهوى } . فهو صلى الله عليه و سلم كان أكثر العبيد أدبا . واعلم يا أخي أن العلماء على قسمين : منهم من يقف في النوافل على حد العدد المشروع الوارد فيها ومنهم من يزيد وينبغي حمل كلامهم على حالين فمن كملت نوافله في الخشوع والحضور لا ينبغي له الزيادة ومن نقصت نوافله فله الزيادة جبرا لخلل نوافله كل ذلك ليكون العبد متبعا لا مبتدعا فاعلم ذلك والله يتولى هداك (1/46)
- روى ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه والترمذي مرفوعا : [ [ من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيما بينهن بسوء عدلن بعبادة اثنتي عشر سنة ] ] . وفي رواية للطبراني غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر . وروى ابن ماجه وغيره مرفوعا : [ [ من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بني له بيتا في الجنة ] ] . وروى الطبراني عن عبدالله بن مسعود أنه كان يقول : نعم ساعة الغفلة يعني الصلاة فيما بين المغرب والعشاء . وروى رزين العبدري مرفوعا : [ [ من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم ركعتين . وفي رواية : أربع ركعات رفعت صلاته في عليين ] ] . قال الحافظ المنذري ولم أره في شيء من الأصول . وروى النسائي بإسناد جيد عن حذيفة قال أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وصليت معه المغرب فصلى إلى العشاء . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على الصلاة بين المغرب والعشاء بحسب العدد الوارد في الأحاديث لأنها ساعة يغفل الناس فيها عن ربهم وقد عمل بذلك مشايخ الطريق وشددوا على المريد في المواظبة على فعلها ولها نور عظيم يجده الإنسان في قلبه فاعمل عليه والله يتولى هداك . ودليلهم في ذلك ظاهر قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } (1/47)
- روى الطبراني مرفوعا : [ [ أربع بعد الظهر كأربع بعد العشاء وأربع بعد العشاء يعدلن أربعا من ليلة القدر ] ] . وفي رواية أخرى له مرفوعا : [ [ من صلى العشاء الأخيرة في جماعة وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر ] ] . وروى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه واللفظ للترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن ] ] . وقال علي رضي الله عنه : الوتر ليس بحتم كالصلاة المكتوبة ولكن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم . وروى مسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم مرفوعا : [ [ من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة محضورة وذلك أفضل ] ] . وروى الإمام أحمد وأبو داود مرفوعا : [ [ الوتر حق فيمن لم يوتر فليس منا . قالها ثلاث مرات ] ] والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصلي بعد العشاء أربع ركعات ثم نوتر بعدها قبل النوم وفي ذلك موافقة للعالم الملكي فإن الله تعالى يتجلى له في الثلث الأول من الليل ولكن لا يدرك سر ذلك إلا أكابر الأولياء الذين تروحنوا وأما أهل الكثائف فلا يحسون بذلك التجلي ولا يذوقون له طعما فاعمل يا أخي على تلطيف الكثائف لتأخذ حظك من ذلك التجلي والله يتولى هداك (1/48)
- روى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ من بات طاهرا بات في شعاره ملك فلا يستيقظ إلا قال الملك : اللهم اغفر لعبدك فلان فإنه بات طاهرا ] ]
والشعار : هو ما يلي بدن الإنسان من ثوبه وغيره
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ ما من مسلم يبيت طاهرا فيتعار من الليل فيسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه ] ]
وروى مالك وأبو داود والنسائي مرفوعا : [ [ ما من امرئ يكون له صلاة بالليل فيغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة من ربه ] ]
وفي رواية لابن ماجه والنسائي بإسناد جيد وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى أصبح كتب له ما نوى وكان نومه عليه صدقة من ربه ] ]
وروى الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن البراء بن عازب قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ [ إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل : الهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك مت على الفطرة وإن أصبحت أصبحت بخير واجعلهن آخر ما تتكلم به ] ]
وفي رواية للبخاري والترمذي : [ [ فإنك إن مت من ليلتك مت على الفطرة وإن أصبحت أصبحت خيرا ] ]
وروى أبو داود واللفظ له والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم مرفوعا ومتصلا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لنوفل رضي الله عنه : [ [ اقرأ قل يا أيها الكافرون ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك ] ]
وروى أبو داود والترمذي والنسائي واللفظ للترمذي : [ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد ويقول : إن فيهن آية خير من ألف آية ] ]
قال معاوية بن صالح : وكان بعض أهل العلم يجعلون المسبحات ستا ( الحديد ) و ( الحشر ) و ( الحواريين ) و ( الجمعة ) و ( التغابن ) و ( سبح اسم ربك الأعلى )
وروى البزار ورجاله رجال الصحيح إلا واحدا مرفوعا : [ [ إذا وضعت جنبك إلى الأرض يعني على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد فقد أمنت من كل شيء إلا الموت ] ]
وروى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ من تعار من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير والحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له فإن توضأ ثم صلى قبلت صلاته ] ] وقوله تعار : أي استيقظ
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من قال حين يتحرك من الليل : بسم الله عشر مرات وسبحان الله عشر مرات آمنت بالله وكفرت بالجبت والطاغوت عشرا غفر له كل ذنب يستخوفه ولم ينبغ لذنب أن يدركه إلى مثلها ] ] . والله تعالى أعلم . [ ولم ينبغ لذنب أن يدركه : أي لم ينبغ لذنب من تلك الذنوب التي غفرت . . . دار الحديث ]
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على الطهارة عند النوم وننوي القيام للتهجد كل ليلة ولا ننام على حدث إلا لضرورة شرعية أو غلبة نوم وكذلك نواظب على قراءة الأذكار الواردة عند النوم وعند الاستيقاظ لكون الحق تعالى يحب ذلك لا لعلة أخرى إلا أن يصرح بها الشارع كالحفظ من الشياطين حتى يصبح نحو ذلك وقد جربوا فوجدوا الأذكار عند النوم من أعون الأمور على قيام الليل وخفته على القلب والجوارح وهذا العهد يتأكد العمل به على الأكابر من العلماء والصالحين الذين يحبون مجالسة الحق تعالى والوقوف في حضرته مع الأنبياء والملائكة وخواص عباده فإن الأذكار قوت أرواحهم والطهارة سلاحهم وفيه أيضا زيادة الوقوف في حضرة الله تعالى في عالم الغيب فإن الروح إذا فارقت الجسد بالنوم وهي على طهارة أذن لها في السجود بين يدي الله حتى يستيقظ وإذا فارقت الجسد محدثة وقفت بعيدة عن الحضرة ففاتها العبادة الروحية المجردة عن الجسد كالملائكة فافهم فهذا من سر النوم على طهارة
وأما سر النوم على وتر فإنه أمر يحبه الله فإذا نام أحدنا أو مات كان آخر عهده عملا يحبه الله تعالى فيحشر مع المحبوبين الذين لا يعذبهم الله على ذنب أبدا كما أشار إليه قوله تعالى : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم }
أي فلو كنتم محبوبين له ما عذبكم فافهم فهذا من سر حكمة نوم العبد على وتر سواء كان من عادته التهجد أم لا وبهذا أخذ الأكابر من أهل الله وقالوا أرواحنا بيد الله ليس في يدنا منها شيء فلا نعلم هل ترد أرواحنا إلينا بعد النوم أم لا وكان على ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان يوتر قبل أن ينام . وكان عمر بن الخطاب ينام على غير وتر ويقول : أوتر إذا استيقظت . وكان علي رضي الله ينام على وتر فإذا استيقظ تطهر وصلى ركعة فردة وأضافها إلى ما قبل النوم فيصير شفعا ثم يصلي ما كتب له ثم يوتر وهي حيلة في عدم الوتر في الليلة مرتين لقوله صلى الله عليه و سلم : [ [ لا وتران في ليلة ] ]
فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بوتر أبي بكر وعمر قال : [ [ حذر هذا - يعني أبي [ أبا ؟ ؟ ] بكر - وقوي هذا ] ] يعني عمر
فقوله : حذر هذا إشارة لكمال أبي بكر وسعة علمه بالأخلاق الإلهية وقوله : قوي هذا إشارة إلى نقص مقام عمر في المعرفة عن أبي بكر هكذا قاله أبو الحسن الشاذلي . والله تعالى أعلم (1/49)
- روى الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلانا ] ]
زاد في رواية لابن ماجه : [ [ لم يصب خيرا فحلوا عقد الشيطان ولو بركعتين ] ]
وقافية الرأس : مؤخره ومنه سمي آخر بيت الشعر قافيه
وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل ] ]
وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ ثلاثة يحبهم الله عز و جل ويضحك إليهم ويستبشر بهم فذكر منهم والرجل له امرأة حسنة وفراش لين حسن فيقوم من الليل يذر شهوته ويذكر ربه ولو شاء رقد ] ]
وفي رواية للإمام أحمد وأبي يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه وفراشه من بين أهله وحبه إلى صلاته فيقول الله عز و جل : انظروا إلى عبدي ثار عن وطائه وفراشه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي ] ] الحديث
وفي رواية للطبراني : [ [ إن الله ليضحك إلى رجلين رجل قام في ليلة باردة من فراشه ولحافه ودثاره فتوضأ ثم قام إلى الصلاة فيقول الله عز و جل لملائكته ما حمل عبدي هذا على ما صنع ؟ فيقولون رجاء ما عندك وشفقة مما عندك فيقول : فإني قد أعطيته ما رجاه وأمنته مما يخافه ] ] الحديث
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من نام إلى الصباح فذلك رجل بال الشيطان في أذنه ] ]
قلت : وقد وقع لبعض أصحابنا ذلك فقام والبول سائح من أذنيه على رقبته فغسله بحضرتي وكان يعتقد أن ذلك معنى من المعاني فينبغي لمن يؤمن بهذا الحديث إذا نام إلى الصباح أن يغسل أذنه من بول الشيطان وإن لم يراه
وروى ابن ماجه والترمذي والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين مرفوعا : [ [ يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ عليكم بصلاة الليل ولو ركعة ] ]
وفي رواية له بإسناد حسن مرفوعا : [ [ شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس ] ]
وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي مرفوعا : أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل ] ]
والأحاديث في ذلك كثيرة نحو حديث : [ [ عليكم بقيام الليل فإنه مقربة إلى ربكم ومكفرة لسيئاتكم ودأب الصالحين قبلكم ومطردة للداء عن الجسد ] ] . رواه الطبراني
وسيأتي في عهد صيام رمضان حديث أحمد والطبراني والحاكم مرفوعا : [ [ إن القرآن يشفع في حامله ويقول : يا رب شفعني فيه فإني منعته النوم بالليل ] ] والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نستعد لقيام الليل بالزهد في الدنيا وشهواتها وعدم الشبع من حلالها . ومن هنا صحت المواظبة من الصالحين على قيام الليل ومهاجرة غيرهم وما رأت عيني من نساء عصر أكثر مواظبة على قيام الليل من زوجتي أم عبدالرحمن فربما صلت خلفي وهي حبلى على وجه الولادة بنصف القرآن وهذا عزيز جدا وقوعه من الرجال على وجه الإخلاص فضلا عن النساء
وقد صلى خلفي مرة سلامة السند بصطي فقرأت به من أول سورة البقرة إلى سورة المزمل في الركعة الأولى فخر نائما ولم يشعر بنفسه هذا مع صحة جسمه وقلة تعبه في النهار فB أم عبدالرحمن ما أعلى همتها حيث علت على همة الرجال وإنما جعلن الزهد في الدنيا معينا على قيام الليل لما ورد في الحديث [ [ الزهد في الدنيا يريح القلب والجسد ] ] ومفهومه أن الرغبة في الدنيا تتعب القلب والجسد فإذا دخل الليل نزل الراغب في الدنيا إلى الأرض محلولة أعضاؤه فنام كالميت بخلاف الزاهد في الدنيا ينام وأعضاؤه مستريحة فيقوم بسرعة وإذا نام كأنه مستيقظ فاعلم أنه من طلب قيام الليل مع ترجيحه الذهب على الزبل فقد رام المحال وإن تكلف ذلك لا يدوم وإن دام فهو في حجاب لا يكاد يتلذذ بمناجاة الحق ولا يذوق لها طعما ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يخرجه عن حب الدنيا شيئا فشيئا حتى لا يبقى له هم دون الله تعالى ولا عائق يعوقه فإن حكم الشيخ في سلوكه بالمريد وترقيه في الأعمال حكم من يمر بالمريد على جبال الفلوس الجدد فإذا زهد فيها سلك به على جبال الفضة فإذا زهد فيها سلك به حتى يمر على جبال الذهب ثم الجواهر فإذا زهد فيهما مر به إلى حضرة الله تعالى فأوقفه بين يديه من غير حجاب فإذا ذاق ما فيه أهل تلك الحضرة زهد في نعيم أهل الدنيا والآخرة وهناك لا يقدم على الوقوف بين يدي الله شيئا أبدا وأما بغير شيخ فلا يعرف أحد يخرج من ورطات الدنيا ولو كان من أعلم الناس بالنقول في سائر العلوم
فاطلب لك يا أخي شيخا يسلك بك كما ذكرنا وإلا فلا تطمع في دوام قيام الليل وكيف يتخلص إلى حضرة ربه من سداه ولحمته شهوات ورعونات وعلل وأمراض باطنية في كل عبادة سلكها فضلا عن المعاصي ؟ هذا مما لا يكون عادة وتكونه القدرة وقد كان سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه مع زهده في الدنيا لا بد له من غمز أعضائه كل ليلة ليستريح جسمه ويقوم ليتهجد بسرعة لأن البدن لا يستغرق في النوم إلا من شدة التعب
وكان سيدي علي الخواص إذا نام يرفع رأسه على موضع عال ويقول : إن الرأس إذا كان على موضع عال نام كأنه مستيقظ وكان أخي أفضل الدين يقرأ كل ليلة سورة الكهف ويقول إنها تخفف النوم وقد جربت أنا ذلك فوجدت قلبي طول الليل كأنه مستيقظ
وقد روى الإمام سنيد في تفسيره أن سورة الكهف كانت مكتوبة في لوح يدار به مع الحسين بن علي في كل بيت يكون فيه من بيوت زوجاته والله تعالى (1/50)
- روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه في ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نقضي أورادنا التي نمنا عنها أو غفلنا في الليل ما بين صلاة الصبح إلى صلاة الظهر ولا نتساهل في ترك ذلك وهذا العهد لا يعمل به في هذا الزمان إلا القليل من الناس لكثرة غفلتهم عن الله وعن الدار الآخرة فيفوت أحدهم الخير العظيم فلا يتأثر له ويقع منه النصف فيتأثر له لكون الدنيا أكبر همه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
واعلم أن أمر الشارع لنا بالقضاء إنما هو تنبيه لنا على مقدار ما فاتنا من الليل فإن النهار وقت حجاب فإذا حصل الحجاب للإنسان في عبادة النهار عرف مقدار ما فاته من مناجاة الله تعالى والحضور فيها وقويت داعيته إلى قيام الليل في المستقبل وفي الحقيقة ما ثم قضاء لأن كل عبادة وقعت إنما هي وظيفة ذلك الوقت بأمر جديد من الشارع وذلك الوقت ذهب فارغا فلا يملؤه ما فعل في غيره أبدا ومن هنا قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك . والله تعالى أعلم (1/51)
- روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال [ [ أوصاني خليلي صلى الله عليه و سلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد ] ] قال أبو هريرة رضي الله عنه وهي صلاة الأوابين
وروى ابن ماجه والترمذي مرفوعا : [ [ من حافظ على شفعتي الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ] ]
والشفعة : بضم الشين وقد تفتح هي ركعتا الضحى
وروى ابن ماجه والترمذي مرفوعا : [ [ من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا في الجنة من ذهب ] ]
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى ورجال أحدهما رجال الصحيح مرفوعا : [ [ إن الله عز و جل يقول : يا ابن آدم اكفني نهارك بأربع ركعات أكفك بهن آخر يومك ] ]
وروى أبو يعلى مرفوعا : [ [ من قام إذا استقبلته الشمس فتوضأ فأحسن وضوءه ثم قام فصلى ركعتين غفرت له خطاياه وكان كيوم ولدته أمه ] ]
وروى الطبراني مرفوعا ورواته ثقات : [ [ من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين ومن صلى أربعا كتب من العابدين ومن صلى ستا كفي ذلك اليوم ومن صلى ثمانيا كتبه الله من القانتين ومن صلى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة وما من يوم وليلة إلا ولله ما يمن به على من يشاء من عباده وما من الله على أحد من عباده أفضل من أن يلهمه ذكره ] ]
وروى الطبراني مرفوعا وإسناده متقارب : [ [ إذا طلعت الشمس من مطلعها كهيئتها لصلاة العصر حتى تغرب من مغربها فصلى رجل ركعتين وأربع سجدات فإن له أجر ذلك اليوم وأحسبه قال : وكفر عنه خطيئته وإثمه وأحسبه قال وإن مات من يومه دخل الجنة ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ إن في الجنة بابا يقال له باب الضحى فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين كانوا يديمون صلاة الضحى هذا بابكم فادخلوه برحمة الله تعالى ] ]
قلت : وقد رأيت هذا الباب في واقعة ورأيت فيها باب الوتر أيضا مكتوبا عليه باب الوتر فأردت الدخول منه مع الداخلين فمنعني الملك وقال : إنك لم تصل الليلة الوتر فعجزت عنه ولم يمكنني أدخل فلما استيقظت واظبت على صلاة الوتر ولو ثلاث ركعات وكذلك الضحى ولو ركعتين . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على صلاة الضحى لئلا يطول زمن غفلتنا عن الله تعالى فإن الشارع صلى الله عليه و سلم أمين على الوحي وقد سن لنا صلاة الضحى ربع النهار لتكون الضحى كصلاة العصر بعد انقضاء وقت الظهر وإنما صلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ارتفاع الشمس كرمح ليبين لنا أن وقتها يدخل من ذلك الوقت وبعضهم سماها صلاة الإشراق والذي عندي أن الضحى يحصل بصلاة الإشراق وأن لها اسمين وليستا بصلاتين وذلك كله شفقة علينا حتى لا يطول زمن الغفلة عن الله تعالى من صلاة الصبح إلى الزوال فتقسو قلوبنا حتى تصير لا تحن إلى فعل خير أبدا فافهم
ومن فوائد المواظبة عليها نفرة الجن عن مصليها فلا يكاد جني يقرب منه إلا احترق
فواظب يا أخي عليها واشكر نبيك الذي سنها لك خوفا عليك من طول زمن القطيعة والهجران و والله لولا الحضور بين يدي الله في أوقات العبادات لذابت قلوب المشتاقين وتفتت أكبادهم فالحمد لله رب العالمين (1/52)
- [ صلاة التسبيح : ] وقد وردت صلاة التسبيح على كيفية أخرى غير المشهورة وهي ما رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم وقال صحيح على شرطهما عن أم سلمة قالت : [ [ علمني رسول الله صلى الله عليه و سلم كلمات أقولهن في صلاتي فقال : كبري الله عشرا وسبحي عشرا ثم صلي ما شئت تقول نعم نعم ] ]
فصلاة التسبيح على كيفيات مختلفة ولكن أصحها ما رواه أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه
قال الحافظ المنذري : وصححه أيضا الحافظ أبو بكر الآجري وشيخنا أبو محمد عبدالرحمن المقري وشيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي
وقال أبو داود : وليس في صلاة التسبيح حديث صحيح غيره
وقال مسلم : ليس في صلاة التسبيح حديث أحسن إسنادا منه قال ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للعباس ابن عبد المطلب : [ [ يا عماه ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أحبوك ألا أفعل لك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره وقديمه وحديثه وخطأه وعمده وصغيره وكبيره وسره وعلانيته والعشر خصال هي : أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة فقل وأنت قائم : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة ثم تركع فتقول وأنت راكع عشرا ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا ثم تهوي ساجدا فتقول وأنت ساجد عشرا ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا فذلك خمس وسبعون في كل ركعة تفعل ذلك في أربع ركعات فإن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل فإن لم تستطع ففي كل جمعة مرة فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة فإن لم تفعل ففي عمرك مرة ] ]
قال الحافظ المنذري وقد جاء في رواية الترمذي : [ [ أنه يسبح قبل القراءة والتعوذ خمس عشرة مرة ثم يتعوذ ويقرأ الفاتحة والسورة ثم يسبح عشرا بعد القراءة والتعوذ وقبل الركوع ولا يسبح في جلسة الاستراحة شيئا ] ]
وفي رواية للطبراني بعد التشهد وقبل السلام : [ [ اللهم إني أسألك توفيق أهل الهدى وأعمال أهل اليقين ومناصحة أهل التوبة وعزم أهل الصبر وجد أهل الخشية وطلب أهل الرغبة وتعبد أهل الورع وعرفان أهل العلم حتى أخافك اللهم مخافة تحجزني عن معصيتك حتى أعمل لطاعتك عملا أستحق به رضاك وحتى أناصحك بالتوبة خوفا منك وحتى أخلص لك النصيحة حياء منك وحتى أتوكل عليك في الأمور حسن ظن بك سبحان خالق النور ] ] ثم يسلم
قال المنذري : وقد وقع في صلاة التسبيح كلام طويل وفيما ذكرناه كفاية
قال البيهقي : وفعلها عبدالله بن المبارك وتناولها الصالحون بعضهم من بعض قال ابن المبارك : وإذا صلاها ليلا له أن يصلي ويسلم من كل ركعتين وإن صلاها نهارا فإن شاء سلم وإن شاء لم يسلم قال ويبدأ في الركوع ب [ [ سبحان ربي العظيم ] ] ثلاثا وفي السجود ب [ [ سبحان ربي الأعلى ] ] ثلاثا ثم يسبح التسبيحات المذكورة . فقيل لعبدالله بن المبارك : وإن سها فيها هل يسبح في سجدتي السهو عشرا عشرا ؟ قال لا إنما هي ثلاثمائة تسبيحة
واعلم يا أخي أن ما ذكرته لك من الأدلة هو الذي ذكره الحافظ المنذري وهو أصح ما ورد وقد اضطرب كلام النووي في أدلتها لغيبة الترغيب والترهيب عنه فإن الكتاب لم يشتهر إلا أيام الحافظ ابن حجر : وجده في تركة إنسان مسودا فبيضه وأبرزه للناس ولو أن النووي كان رآه لنقل ذلك عن المنذري لكونه من الأئمة الحفاظ . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على صلاة التسبيح لما ورد فيها من الفضل ويتعين العمل بهذا العهد على كل من غرق في الذنوب وتاه في عددها كأمثالنا (1/53)
- روى الترمذي وقال حديث حسن وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ثم قرأ هذه الآية : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } ] ] الآية
وفي رواية للبيهقي وابن حبان : [ [ ثم يصلي ركعتين ] ]
وكذلك ذكر ابن ماجه في صحيحه الركعتين ولكن بغير إسناد . وفي رواية البيهقي مرسلا : [ [ ما أذنب عبد ذنبا ثم توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى براز من الأرض فصلى فيه ركعتين واستغفر الله إلا غفر له ] ]
والبراز : هو الأرض الفضاء ومثلها كل موضع خال من الناس لا سيما المكان المعظم . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد من رسول الله صلى الله عليه سلم ) أن نواظب على صلاة التوبة كلما نذنب ذنبا وإن تكرر ذلك الذنب في كل يوم سبعين مرة أو أكثر وذلك لأن التنصل من الذنوب مقدم على كل طاعة كالوضوء للصلاة وقد واظبت على هذه الصلاة أول بلوغي مدة سنتين حتى كنت أعد ذنوبي عندي في دفتر فلما كثرت ذنوبي وزادت عن الحصر عجزت عن الصلاة عند كل ذنب فيا سعادة من مات من المذنبين صغيرا ويا شقاوة من طال عمره منهم
واعلم أنه تعالى وإن كان { يحب التوابين ويحب المتطهرين } يعني المتطهرين بالتوبة أو بالماء أو بالتراب فهو لمن لم يتب لعدم ذنبه أحب إليه تعالى كالأنبياء والملائكة لأنهم ليس لهم ذنوب حقيقة يتوبون منها وما قال الله تعالى { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } إلا جبرا لخلل من نفذت فيه الأقدار وتكررت عليه المعاصي وطلب الإقالة منها فلم يقل كما أشعر به : قوله التوابين : أي من تكرر منهم التوبة بتكرر الذنب فافهم
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إنما كان صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ إني لأتوب وأستغفر الله في اليوم كذا وكذا مرة ] ]
تشريعا لأمته ليستنوا به وإلا فاعتقادنا أنه صلى الله عليه و سلم لا ذنب له في نفس الأمر إنما هو ذنب تقديري
ولا يخفى أن التوبة من جملة المقامات المستصحبة للعبد إلى الممات لقوله تعالى
{ وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } فلا يستغني عنها مؤمن ولو ارتفعت درجته حتى يدخل الجنة فتنقضي حضرة اسمه تعالى التواب لزوال التكليف وقد يكون حكم التواب في الجنة كحكمه قبل وجود التكاليف فيكون توابا بالقوة لا بالفعل حقيقة
واعلم أن من فضائل الصلاة أن العبد إذا وقف بين يدي الله عز و جل نادما مستغفرا لا يرده الله إلا مقبول التوبة التي هي الرجوع إلى كشف الحجاب بعد أن كان محجوبا حتى وقع في الذنب فإذا رفع حجابه وجد الله تعالى فاعلا دون العبد إلا بقدر نسبة التكليف فقط وهناك يخف ندمه ضرورة قهرا عليه ولو أراد أن يندم كما كان في حال الحجاب لا يصح له وثم مقام رفيع ومقام أرفع ولولا أن في شدة الندم تعظيم أوامر الله تعالى وتعظيم الوقوع في المخالفات لكانت شدة الندم إلى الشرك أقرب وذلك لأنه يؤذن بترجيح كونه فاعلا دون الحق فمن رحمة الله تعالى بالعبد أن حبسه في مقام شركة نفسيه مع الله تعالى في الفعل حتى يحكم ذلك المقام قبل أن ينقله إلى ما فوقه
فإن قيل : إن الأكابر من الأنبياء بكوا حتى نبت العشب من دموعهم . وبكى آدم حتى صارت دموعه بركة ماء يشرب منها الدواب والهوام نحو ثمنين سنة كما ورد وهؤلاء لا يتصور في حقهم أنهم يرون شركة نفوسهم في الفعل مع الله تعالى إلا بقدر نسبة الفعل إليهم لأجل التكاليف وذلك القدر ضعيف جدا لا يبكون لأجله الدم ولا الدموع الكثيرة وهذا الأمر هو بالأصالة للأنبياء لأن النبوة تأخذ بدايتها من بعد منتهى الولاية
فالجواب : إن بكاء كل داع إلى الله تعالى إنما هو تشريع لقومه فيجري الله تعالى عليه صورة الندم حتى لا يسأل يوم القيامة عن تفريطه في شيء من أحوال قومه التي كلفه الله تعالى ببيانها لهم ولا عن بيان كيفية خروجهم من ذنوبهم إذا وقعوا فيها ويحتمل أن يكون بكاء الأكابر من باب الفتوة على قومهم فحملوا عنهم ببكائهم ذلك البكاء الذي كانوا مأمورين به بعد وقوعهم في الذنوب فكانت تلك البركة التي نشأت من بكاء آدم عليه السلام هي دموع بنيه التي كانت متفرقة فيهم ودفعها عنهم وهذا ما ظهر لي في هذا الوقت من الجواب عن الأكابر فعلم أن أحدا لا يستغني عن الاستغفار سواء كشف له الحجاب أو لم يكشف فإنه إن شهد له مدخلا في شركة الفعل فالواجب عليه سؤال المغفرة وإن لم يشهد له مدخلا فيه فالواجب عليه أيضا سؤال المغفرة قياما بواجب نسبة التكليف إليه كما قال أبونا آدم عليه الصلاة و السلام مع معرفته بما الأمر عليه من القضاء المبرم الذي لا مرد له { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تفغر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين }
فلا يخلو حال المستغفر من أحد أمرين : إما تحقيق الذنب وإما للتشريع ويكون ندمه صورة فتأمل ذلك وحرره والله يتولى هداك (1/54)
- روى الترمذي وقال حديث حسن واللفظ له وابن ماجه بإسناد ضعيف مرفوعا : [ [ من كانت له حاجة إلى الله أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء وليصل ركعتين ثم ليثن على الله تعالى وليصل على النبي صلى الله عليه و سلم ثم ليقل لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن والنسائي واللفظ له وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين : [ [ أن أعمى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ادع الله تعالى أن يكشف لي عن بصري قال أو أدعك ؟ قال : يا رسول الله إنه قد شق علي ذهاب بصري قال : فانطلق فتوضأ ثم صلي ركعتين ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه إلى ربي بك أن يكشف لي عن بصري اللهم شفعه في وشفعني في نفسي ] ]
فال عثمان بن حنيف : فرجع وقد كشف الله تعالى عن بصره
وفي رواية للطبراني فقال : عثمان بن حنيف فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط
وروى الحاكم مرفوعا : [ [ اثنتا عشرة ركعة تصليهن من ليل أو نهار وتتشهد بين كل ركعتين فإذا تشهدت في آخر صلاتك فأثن على الله عز و جل وصلي على النبي صلى الله عليه و سلم واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات وقل يا أيها الكافرون سبع مرات لا إله إلا الله
وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات ثم قل : اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك واسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة ثم سل حاجتك ثم ارفع رأسك ثم سلم يمينا وشمالا ولا تعلموها السفهاء فإنهم يدعون بها فيجابون ] ]
قال أحمد بن حرب قد جربته فوجدته حقا
وقال إبراهيم بن علي الديلي ؟ ؟ نبنبن قد جربته فوجدته حقا
وقال الحاكم قال لنا أبو زكريا : وقد جربته فوجدته حقا . قال الحافظ المنذري : والاعتماد في مثل هذا على التجربة لا على الإسناد . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصلي صلاة الحاجة إظهارا للفاقة والحاجة كالهدية التي يرسلها الإنسان لمن له عنده حاجة قبل أن يجتمع به
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : ينبغي فعل صلاة التسبيح قبل صلاة الحاجة لما ورد بأنها تكفر الذنوب كلها وذلك من أكبر أسباب قضاء الحاجة فإن تأخير قضاء الحوائج إنما يكون بسبب الذنوب في الغالب
وسمعته يقول أيضا : ينبغي شدة الحضور في أذكار السجدة الأخيرة من صلاة الحاجة التي يسلم بعدها وعلامة الحضور أن يحس أن مفاصله كادت تتقطع وعظمه كاد يذوب من هيبة الله تعالى وهناك ترجى الإجابة وإيضاح ذلك أن قراءة القرآن على الله تعالى في السجود لا يطيقها أحد لكون العبد في أقرب ما يكون من الله تعالى كمل ورد
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول : مفتاح قضاء الحاجة الهدية بين يديها هذا في حكم معاملة الخلق مع بعضهم بعضا { والله غني عن العالمين }
وجميع ما يقدمونه له هدية هو من خزائنه فكأن العبد نقل تلك الهدية من بين يدي الله تعالى إلى بين يدي الله تعالى قال تعالى { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه }
فكانت صلاة الحاجة من العبد إظهار عبودية لا غير سواء كان مشاهدا لكونها من فضل الله حال إهدائها أو غافلا عن هذا المشهد كحال العوام
وقد سمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول مرة : ليس للعبد أن يشهد له ملكا لشيء مما أعطاه الحق تعالى له إلا على وجه النسبة فقط ليبني عليه الشكر وإلا فحقيقة العطاء أن ينتقل ذلك الشيء من ملك المعطي إلى ملك المعطى وذلك محال في جانب الحق
وسمعته أيضا يقول : لقائل أن يقول إن الحق تعالى لم يعط أحدا شيئا حقيقة إنما ذلك استخلاف لينفقه على المحتاجين إليه بطريقه الشرعي كالوكيل قال : ومن هنا لم يفرح أحد من أهل الله تعالى بشيء من أمور الدنيا والآخرة وتساوي عندهم نسبة ذلك إليهم وسلبه عنهم على حد سواء لأن أحدا منهم لا يشهد له ملكا مع الله تعالى في الدارين وهذا أمر لا تذوقه يا أخي إلا بسلوك على يد شيخ ناصح فإن أردت العمل بذلك المشهد النفيس فاطلب لن شيخا يرشدك إليه وإلا فلا سبيل لك إلى ذلك ولو عبدت الله تعالى بعبادة الثقلين
ومن هنا افترق السالكون والعابدون فربما مكث العابد يعبد ربه على علة خمسمائة سنة والسالك يخرج عن العلة من أول قدم يضعه في الطريق لأن بداية الطريق التوحيد لله تعالى في الملك ثم الفعل ثم الوجود والعابد لا يذوق لهذه الثلاثة مقامات طعما كما أشار إليه خبر الطبراني وغيره مرفوعا : [ [ أن عابدا عبد الله تعالى في جبل في البحر خمسمائة سنة فيقول الله تعالى له يوم القيامة ادخل الجنة برحمتي فيقول يا رب بل بعملي فيكررها ثلاث مرات وهو يقول يا رب بل بعملي ] ]
وهذه المقالة لو قالها المريد لشيخه في أول بدايته لعيبت عليه فوالله لقد فاز من كان له شيخ وخسر من لم يتخذ له شيخا أو اتخذه ولم يسمع لنصحه كما عليه غالب المريدين في هذا الزمان
واعلم أن من شروط إجابة الدعاء كون العبد ليس عليه ذنب فمن سأل الله تعالى في حاجة وعليه ذنب واحد لم يتب منه فهو إلى الرد أقرب
وكان سيدي علي البحيري رحمه الله لا يسأله أحد الدعاء إلا قال قولوا كلكم : أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه من كل ذنب ثم يدعو ويقول : يا أولادي كيف يطلب العبد من ربه حاجة وهو قد أغضب ربه بالمعصية وإذا تاب منها ربما أجيب دعاؤه فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك (1/55)
- روى الإمام أحمد وأبو يعلى والحاكم مرفوعا : [ [ من سعادة ابن آدم استخارته لله عز و جل ] ]
وزاد في رواية الحاكم : [ [ ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله عز و جل ] ]
وروى الترمذي مرفوعا بلفظ : [ [ من سعادة ابن آدم كثرة استخارته لله تعالى ورضاه بما قضى الله تعالى ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله تعالى وسخطه بما قضى الله تعالى له ] ]
وروى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر بن عبدالله قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن فيقول : [ [ إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه وقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به قال : ويسمي حاجته ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نستعد لفهم إشارات الحق تعالى بتلطيف الكثائف حتى نحس إذا استخرنا ربنا بما هو الأولى لنا من فعل ذلك الأمر أو تركه فإن من كان غليظ الحجاب لا يحس بشيء من ذلك ولهذا نقول له استخر ربك فيقول قد استخرته فلم يترجح عندي أمر ولو أنه كان رقيق الحجاب لأدرك ما فيه الخيرة له من فعل أو ترك ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به حتى يمزق حجب عوائده ولا يصير له عن الله عائق بل يفهم مراد الحق تعالى بأول وهلة وهذا أمر عزيز الوجود ولذلك عول غالب الناس على استشارة بغضهم بعضا لا سيما إشارة الفقراء ولكن يحتاج أيضا إلى تلطيف حجاب حتى يعرف طريق الخيرة لذلك العبد من طريق كشفه وإلا فإشارته معكوسة وربما أشار على أحد بأمر فكان فيه هلاكه فيكون على المشير الإثم في ذلك مثل من يفتي في دين الله بغير علم
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا ينبغي لأحد أن يشير على أحد بشيء إلا إن كان مطمح نظره اللوح المحفوظ الذي لا تبديل فيه فإن لم يكن مطمح نظره ما ذكر فليقل له استخر ربك
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : الاستشارة بمنزلة تنبيه النائم فترى الإنسان يكون جازما بفعل شيء فيشاور فيه بعض إخوانه فيقول له إن فعلت كذا حصل لك كذا فينحل عزمه عنه في الحال فلو قال له إنسان بعد ذلك افعل كذا لا يرجع إلى قوله
وسمعته أيضا يقول : لا تستشر محب الدنيا في شيء من أمور الآخرة فإن تدبيره ناقص لحجابه بالدنيا عن الآخرة ولا تستشر أيضا محب نعيم الآخرة من الزهاد والعباد في شيء من الأمور المتعلقة بالأدب مع الحق تعالى فإنه محجوب بذلك عن الحق وعن حضرته الخاصة واستشر كمل العارفين بالله في أمور الدنيا والآخرة فإنهم قطعوا المرتبتين ووصلوا لحضرة الحق وعرفوا آدابها ودرجات أهلها في الأدب وفي المثل السائر : استعينوا على كل حرفة بصالح من أهلها فتأمل ذلك واعمل عليه
وسمعت سيدي علي الخواص رحمه الله يقول : لا ينبغي لمن كان مشغوفا بحب الدنيا أن يفعل شيئا برأيه ولا باستخارته بل يسأل أهل الخير عن ذلك ويفعل ما يشيرون به عليه ولو كان من أكابر ملوك الدنيا فإن صحة الرأي إنما تكون لمن زهد في الدنيا وشهواتها والولاة غارقون في حب الدنيا مع زيادة السكر الحاصل لهم من لذة الأمر والنهي والحكم ولذلك طلب الملوك العادلون أن يكون لهم وزراء لأن رأي الوزير ربما كان أكمل وأتم من الملوك لكون الوزير أنقص حكما وتصريفا منهم فلذلك قل سكره وقال العارفون لا يعرف الشيء إلا من زهد فيه وفي الحديث : [ [ حبك للشيء يعمي ويصم ] ]
ولولا ظهور عيب الدنيا للزاهد ما زهد فيها
فاعمل يا أخي على جلاء مرآتك بإشارة شيخ مرشد إن أردت أن تعرف مراد الحق وطريق الخيرة فيما تفعله في المستقبل وإنما شاور صلى الله عليه و سلم أصحابه امتثالا لأمر الله تعالى بقوله { وشاورهم في الأمر }
وإلا فهو صلى الله عليه و سلم أتم خلق الله تعالى رأيا وأوسعهم علما وعقلا فكانت مشاورته لهم تمييلا لخاطرهم لا عملا بإشارتهم من غير أن يظهر له صلى الله عليه و سلم وجه الحق في ذلك ولذلك قال تعالى له { فإذا عزمت على أمر } يعني على فعل ما أشاروا عليك به : { فتوكل على الله } لا على مشورتهم على أنه لا يقدح في كماله صلى الله عليه و سلم عدم التفاته إلى أمور الدنيا كما قال في مسألة تأبير النخل : [ [ أنتم أعلم بأمور دنياكم ] ]
يعني التي لا وحي عندي من الله فيها فافهم
قال بعض العارفين : ولم يمت صلى الله عليه و سلم حتى صار أعلم الناس بأمور الدنيا اه
فشاور في جميع الأمور التي تحبها نفسك من يكون زاهدا فيها من العارفين لا من المتعبدين فإن المتعبد ربما نفرت نفسه من الأشياء بحكم الطبع ونفر غيره عنها كذلك ولو كان فيها مصلحة له كما يقع فيه كثير من ترك الكسب واشتغل بالعبادة وقنع بما يتصدق الناس به عليه فتراه يأمر الناس كلهم بترك الأسباب والكسب كذلك يقول لهم ربكم يرزقكم وغاب عنه أن اعتماد مثله على الخلق لا على الله تعالى ولو أن هذا الشخص شاور عارفا فقال له عليك بالكسب واعتمد على الله لا على الكسب واعتق نفسك من تحمل منن الخلائق
بل قال بعض مشايخ العرب لما ظن أنه متوكل أنا ما ولاني أحد من الفقراء هذه الوظيفة وإنما ولاني الله تعالى فقال له شخص من قرناء السوء أنت والله من الأولياء فقلت له لا يكون من الأولياء إلا إن صرح بهذا القول بين يدي الباشا الذي ولاه وقال له في وجهه أو قال لمن يبلغه ليس لك علي جميل أو ليس للباشا علي جميل وما ولاني إلا الله فقال متى قلت ذلك عزلني وسلب نعمتي قلت : فإذن قولك إنك معتمد على الله دون الخلق افتراء على الله تعالى وازدراء بطائفة الفقراء لا غير
قلت : وقد رأيت بعض الأكابر من العارفين يشهد الله تعالى كل يوم في جميع ما يتحرك به أو يسكن ويقول اللهم إن كنت تعلم أن جميع حركاتي وسكناتي في هذا اليوم خير لي فاقدرها لي ويسرها لي وإن كنت تعلم أنها شر لي فاصرفها عني واصرفني عنها وقال من واظب على ذلك كان في أمان من الله تعالى أن يمكر به اه
قال البيهقي ويعيد صلاة الاستخارة والدعاء ثانيا وثالثا وأكثر حتى ينشرح صدره لشيء اه . { والله غفور رحيم } (1/56)
- روى مالك والشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ] ]
وفي رواية : [ [ لهما مثل المهجر ] ]
وفي رواية للبخاري : [ [ المستعجل للجمعة كالمهدي بدنه ] ] الحديث
وفي رواية للإمام أحمد مرفوعا : [ [ تقعد الملائكة على أبواب المساجد فيكتبون الأول والثاني والثالث حتى إذا خرج الإمام رفعت الصحف ] ]
وروى الطبراني والأصبهاني وغيرهما مرفوعا : [ [ إن الرجل ليكون من أهل الجنة فيتأخر عن الجمعة فيؤخر عن الجنة وإنه لمن أهلها ] ]
والأحاديث في ترتيب درجات الذاهبين إلى الجمعة كثيرة
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه مرفوعا : [ [ من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغى ] ]
ومعنى لغى خلي من الأجر وقيل أخطأ وقيل صارت جمعته ظهرا وقيل غير ذلك قاله الحافظ المنذري
وروى البخاري والترمذي عن يزيد بن أبي مريم قال : لحقني عبادة بن رفاعة ابن رافع وأنا أمشي إلى الجمعة فقال أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله قال فإني سمعت أبا عيسى يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ من اغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار ] ]
وفي رواية للبخاري : [ [ حرمه الله على النار ] ]
وروى الإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ من اغتسل يوم جمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى أتى المسجد فركع ما بدا له ولم يؤذ أحد ثم أنصت حتى يصلي كان كفارة لما بينه وبين الجمعة الأخرى ] ]
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه والحاكم في صحيحه مرفوعا : [ [ من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها ] ]
وفي رواية للطبراني : [ [ كتب له بكل خطوة عشرون حسنة فإذا انصرف من الصلاة أجيز بعمل مائتي سنة ] ]
قال الخطابي رحمه الله قوله [ [ غسل واغتسل وبكر وابتكر ] ] اختلف الناس في معناه فمنهم من ذهب إلى أنه من الكلام المتظاهر الذي يراد به التوكيد ولفظه مختلف ومعناه واحد ألا تراه يقول في هذا الحديث ومشى ولم يركب ومعناهما واحد وإلى هذا ذهب الأثرم ؟ ؟ صاحب أحمد وقال بعضهم معنى " غسل " غسل الرأس خاصة وذلك لأن العرب لهم لمم وشعور وفي غسلها مؤونة [ مشقة ] فأراد غسل الرأس من أجل ذلك وإلى هذا ذهب مكحول وقوله : واغتسل معناه غسل سائر الجسد وذهب بعضهم إلى أن معنى [ [ غسل ] ] أصاب أهله قبل خروجه إلى الجمعة ليكون أملك لنفسه وأحفظ في طريقه لبصره ومعنى [ [ بكر ] ] أدرك باكورة الخطبة وهي أولها ومعنى [ [ ابتكر ] ] قدم في الوقت وقيل معنى بكر تصدق قبل خروجه قاله ابن الأنباري وتأول في ذلك ما روى في الحديث من قوله : [ [ باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها ] ]
وقال أبو بكر بن خزيمة من قال في الخبر غسل واغتسل يعني بالتشديد فمعناه جامع فأوجب الغسل على زوجته أو أمته واغتسل ومن قال غسل يعني بالتخفيف أراد غسل رأسه واغتسل فغسل سائر الجسد كما في الحديث الصحيح مرفوعا : [ [ اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤوسكم وإن لم تكونوا جنبا ] ] الحديث . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على المبادرة إلى حضور صلاة الجمعة بحيث نصلي السنة التي قبلها قبل صعود الإمام المنبر اهتماما بأمر الله عز و جل لنا بقوله { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع }
يعني الشراء ولو كنتم محتاجين إلى ذلك إلا أن تبلغوا مرتبة الاضطرار
وسمعت سيدي علي الخواص يقول : يدخل الناس في الجنة على حسب سرعة مبادرتهم لحضور الجمعة وحسب بطئهم فمن حضر المسجد أولا دخل الجنة أولا ومن حضر ثانيا دخل الجنة بعده وهكذا . اه ويقاس الجمعة في ذلك المسارعة لكل خير . والله أعلم
وهذا العهد قد صار غالب الناس يخل به فلا يكادون يحضرون إلا بعد أن يصعد الإمام المنبر وبعضهم يفوته سماع الخطبتين وبعضهم تفوته الركعة الأولى وبعضهم يفوته ركوع الثانية فيصليها ظهرا وكل ذلك أصله قلة الاهتمام بالدين ولو أنه وعد بدينار إن حضر قبل الوقت لترك كل عائق دون ذلك وربما كان تخلف بعضهم للهو واللعب والوقوف على حلق المخبطين والمسخرة وربما كان تخلفه حتى عمم عمامة تعجبه فصار يهدمها ويبنيها حتى فرغ الخطيب بل رأيت من شرع في تعميمها من طلوع الشمس فلم يزل يهدمها ويبنيها حتى صلوا من الجمعة ركعة وذلك ربما يكون معدودا من الجنون نسأل الله اللطيف
وكان سيدي محمد بن عنان يستعد لحضور الجمعة من عصر يوم الخميس فلا يزل مراقبا لله تعالى حتى يحضر المسجد ولكل مقام رجال { والله غفور رحيم } (1/57)
- روى الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما مرفوعا : [ [ أن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئا إلا أعطاه ما سأل ما لم يسأل حراما ] ]
وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ إن فيه يعني يوم الجمعة لساعة لا يوافقها مؤمن يصلي يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه ] ] الحديث
وروى أبو يعلى وغيره مرفوعا : [ [ أن يوم الجمعة وليلة الجمعة أربعة وعشرون ساعة ليس فيها ساعة إلا ولله فيها ستمائة ألف عتيق من النار ] ]
رواه البيهقي مختصرا بلفظ : [ [ لله في كل جمعة ستمائة ألف عتيق من النار ] ]
زاد في رواية [ [ كلهم استوجبوا النار ] ]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر يوم الجمعة فقال : [ [ فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه وأشار بيده يقللها ] ]
وزاد وفي رواية للترمذي وابن ماجه : [ [ قالوا يا رسول الله أية ساعة هي ؟ قال حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها ] ]
وفي رواية للترمذي والطبراني مرفوعا : [ [ التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد صلاة العصر إلى غيبوبة الشمس ] ]
وفي رواية لابن ماجه على شرط الشيخين : [ [ هي آخر ساعات النهار فقال عبدالله بن سلام : إنها ليست ساعة صلاة ؟ قال بلى إن العبد إذا صلى ثم جلس لم يحبسه إلا الصلاة فهو في صلاة ] ]
وفي رواية للإمام أحمد مرفوعا : [ [ بعد ذكر يوم الجمعة وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له ] ]
وروى الأصبهاني مرفوعا : [ [ الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة آخر ساعة من يوم الجمعة قبل غروب الشمس أغفل ما يكون الناس ] ]
قال الإمام أحمد : وأكثر الأحاديث في الساعة التي ترجى فيها استجابة الدعوة أنها بعد صلاة العصر وقال : وترجى بعد الزوال
وقال ابن المنذر : روينا عن أبي هريرة أنه قال : هي من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ومن بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس
وقال الحسن البصري وأبو العالية : هي عند زوال الشمس
وعن عائشة أنها من حين يؤذن المؤذن لصلاة الجمعة
وفي رواية عن الحسن أنه قال : هي إذا قعد الإمام على المنبر حتى يفرغ
وقال أبو بردة : هي الساعة التي اختار الله فيها الصلاة
وبالجملة فالأقوال في ذلك كثيرة ولا يعرف الساعة حقيقة إلا أهل الكشف . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نستعد لساعة الإجابة التي في يوم الجمعة ونقلل الأكل والشرب ونمنع اللهو واللغو والغفلة والذي أعطاه الكشف أن الساعة نحو خمس درج فينبغي أن لا يغفل العبد إلا بمقدار نحو درجتين ليبقى له من الساعة نحو ثلاث درج الدعاء والتوجه إلى الله تعالى وهذه الساعة مبهمة في اليوم كليلة القدر في ليالي رمضان وتنتقل بيقين كما يؤيده الأحاديث والأخبار التي تأتي آخر العهد وكما أعطاه الكشف فتارة تكون في بكرة النهار وتارة تكون في آخر النهار وتارة تكون بعد الزوال إلى أن تنقضي الصلاة وهو الأغلب
وبالجملة أهل الحجاب ومحبة الدنيا في غفلة عن مثل هذا المشهد لا سيما طائفة المجادلين ومن يعبد الله على جهل وإنما خصصنا معظم الخير الذي يرجى في ساعة الإجابة بمن يشعر بها تحصيلا للقيام بآداب العبودية الظاهرة وإلا فقد ورد : [ [ من أشغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ] ]
فافهم وإن كان ولا بدلك من الاشتغال بذكر أو قرآن فينبغي ذلك بحضور مع الله تعالى لا كما عليه الطائفة الذين يعبدون الله وقلبهم غافل عن الله تعالى فيفوتهم الحضور الذي هو قوت الأرواح وربما اشتغل أحدهم بالقرآن أو الذكر ومرت عليه الساعة ولم يشعر بها
فاعمل يا أخي على جلاء مرآة قلبك لتدرك ساعة الإجابة التي لا يرد فيها سائل لوسع الكرم الإلهي فيها ولا تطلب معرفتها بلا جلاء فإن ذلك لا يكون وكم من نفحات للحق في الليل والنهار والناس في غفلة عنها
وقد أخبرني شيخنا عن الشيخ أحمد بن المؤذن بناحية منية أبي عبدالله أنه جلس مراقبا الله تعالى لمدة أربعين سنة لا يضع جنبه الأرض وكان أولياء عصره يقولون : ما ترك هذا قطرة مدد تنزل من السماء في ليل أو نهار إلا وله فيها حظ ونصيب
وأخبرني سيدي علي الخواص أن سيدي عيسى بن نجم خفير بحر البرلس مكث مراقبا لله تعالى بوضوء واحد مدة سبع عشرة سنة فلم تنزل قطرة مدد من السماء إلا وله فيها نصيب فإن لم تستطع يا أخي دوام المراقبة كالقوم فواظب على الساعات التي ورد فيها التجلي الخاص والله يتولى هداك (1/58)
- روى الطبراني وغيره مرفوعا : [ [ من اغتسل يوم الجمعة كفرت عنه ذنوبه وخطاياه ] ]
وفي رواية للطبراني مرفوعا ورواته ثقات : [ [ إن الغسل يوم الجمعة ليسل الخطايا من أصول الشعر استلالا ] ]
وروى ابن خزيمة في صحيحه والطبراني مرفوعا : [ [ من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى ] ]
وفي رواية لابن حبان في صحيحه : [ [ من اغتسل يوم الجمعة لم يزل طاهرا من الجمعة إلى الجمعة ] ]
وروى مسلم وغيره مرفوعا : [ [ غسل الجمعة واجب على كل محتلم ] ]
وروى ابن ماجه بإسناد حسن : [ [ إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء يوم الجمعة فليغتسل وإن كان طيب فليمس منه وعليكم بالسواك ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على غسل الجمعة صيفا وشتاء ولا نتركه إلا لعذر شرعي وفي ذلك من الأسرار ما لا يذكر إلا مشافهة
وكان الإمام الشافعي يقول : ما تركت غسل الجمعة في شتاء ولا صيف ولا سفر ولا حضر وهذا العهد يخل به كثير من الناس حتى بعض الفقراء وطلبة العلم فتراهم يتساهلون به ويستثقلونه إما كسلا أو لعدم سماحة نفوسهم بفلوس الحمام
ومن الحكمة الظاهرة في الغسل انتعاش الأعضاء بالماء حتى يصير بدنه كله حيا فيناجي الله بكل عضو فيه ولذلك أمرنا الشارع بالغسل قبل الذهاب إلى الجمعة لنصلي على أثر الغسل ولو أمرنا بالغسل أول ليلة الجمعة ربما تخلل ذلك معصية أو غفلة فيموت البدن وإذا مات فما يبقى يناجي ربه ويتضرع إليه على الوجه المطلوب من العبد فتأمل ذلك . والله تعالى أعلم (1/59)
- روى أبو داود وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كان كفارة لما بينهما ] ]
وروى أيضا مرفوعا : [ [ يحضر الجمعة ثلاثة نفر : فرجل حضرها يلغو فذلك حظه منها . ورجل حضرها يدعو الله فذلك إلى الله فإن شاء قبله وإن شاء رده . ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله تعالى يقول : [ [ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ننصت لسماع الخطيب حتى لا يفوتنا سماع شيء من الوعظ الذي يمكننا سماعه وأن نأخذ كل كلام سمعناه من الواعظ في حق أنفسنا كما نأخذه في حق غيرنا وهذا العهد قد أكثر الناس الإخلال به حتى بعض فقراء هذا الزمان وطلبة العلم يتلاهون عن سماع كلام الخطيب وإن سمعوا ذلك أخذوه في حق غيرهم من الظلمة وأعوانهم دون أنفسهم وغاب عنهم أنهم ظلموا أنفسهم بالوقوع في المعاصي المتعلقة بالله وبخلقه وما أحد منهم سلم منها بل بعضهم يرى نفسه على الخطيب وأنه لا يحتاج إلى سماع وعظه ويقول : جميع ما قاله الخطيب معروف وبعضهم يقول : الإنصات سنة ويؤدي إلى حرام وذلك أننا نسمع منه الوعظ ولا نعمل به وهذا جهل عظيم من هذا القائل ولو فتح هذا الباب لأدى إلى كراهة سماع كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم لكون الناس عاجزين عن العمل بذلك على التمام ولا قائل بذلك
فاخضع يا أخي لله تعالى واسمع الوعظ من الخطيب فإنه على لسان الحق لا سيما إن خاطبك بنحو قوله : { يا أيها الناس اتقوا ربكم } و { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } فإنك المخاطب بذلك قطعا من الحق على لسان ذلك الخطيب ولو كشف الله لغالب الخلق لرأوا في نفوسهم جميع الذنوب والقبائح إما فعلا وإما قولا وصلاحية ولكنهم قد صاروا في غمرة ودعوى ومقت حتى لا يكاد أحد منهم يتعظ بوعظ واعظ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1/60)
- روى النسائي والبيهقي مرفوعا والحاكم موقوفا وقال صحيح الإسناد : [ [ من قرأ سورة الكهف في الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين ] ]
ولفظ الدارمي موقوفا : [ [ من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق ] ]
وفي إسناده أبو هاشم والأكثرون على توثيقه
وروى ابن مردويه في تفسيره بإسناد لا بأس به مرفوعا : [ [ من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت أقدامه إلى عنان السماء يضيء له إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين ] ]
وروى البيهقي والأصبهاني مرفوعا : [ [ من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له ] ]
وفي رواية : [ [ من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك ] ]
وفي رواية للطبراني والأصبهاني أيضا مرفوعا : [ [ من صلى بسورة الدخان في ليلة بات يستغفر له سبعون ألف ملك ] ]
وفي رواية أخرى لهما مرفوعا : [ [ من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة ] ]
وروى الأصبهاني مرفوعا : [ [ من قرأ سورة يس في ليلة الجمعة غفر الله له ] ]
وروى الطبراني مرفوعا من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تغيب الشمس ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة ويومها وكذلك نواظب على قراءة آل عمران ويس وحم الدخان اهتماما بأمر النبي صلى الله عليه و سلم لنا بذلك سواء أعقلنا سر تخصيص هذه السور بليلة الجمعة أم لم نعقل ذلك ولو أن العقول تحمل سر ذلك لأوضحناه للناس ولكن من الأدب كتم ما كتمه الشارع وإظهار ما أظهر من إضاءة النور والمغفرة ونحو ذلك والله حليم حكيم (1/61)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ الزكاة قنطرة الإسلام ] ]
وروى أبو داود مرسلا والطبراني والبيهقي مرفوعا متصلا قال الحافظ المنذري والمرسل أشبه : [ [ حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة ] ]
يعني النافلة والأحاديث في الزكاة كثيرة مشهورة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا أصحاب الأموال بأن يعطفوا على فقراء بلدهم ويخرجوا زكاتهم ونبين لهم مرتبة الزكاة من الدين والإيمان فربما كان المانع لهم من إخراج زكاة أموالهم جهلهم بما ورد فيها من الآيات والأخبار لقلة مجالستهم للعلماء فإذا بينا لهم مرتبة وجوب الزكاة ولم يخرجوا هجرناهم وجوبا لقوله تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين }
ومفهومه أن من لم يقم الصلاة ولم يؤد الزكاة فليس هو من إخواننا في الدين ولا يخفى حكمه فوالله لقد صارت أفعال غالب الخلق كأفعال من لا يؤمن بيوم الحساب ولا بما توعد الله تعالى عليه عباده فإن من لم يكن عنده ما توعده الله عليه أو وعده من الأمور المغيبة عنه كالحاضر فإيمانه مدخول
وتأمل يا أخي لو أن السلطان أوقد نارا لمانع الزكاة وقال إن لم تخرج زكاتك أحرقتك في هذه النار كيف يخرجها ولا يتوقف أبدا ؟ ولو قال له صديقه لا تخرج زكاتك لا يطيعه وذلك لشهود النار وتعذيبه بها عاجلا غير آجل فهكذا فليكن الأمر فيما توعد به الحق تعالى عباده على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم
ثم تأمل يا أخي في تسمية الله تعالى إخراج الإنسان حق الله تعالى في ماله زكاة : أي نمو وزيادة تعرف أن ذلك إنما هو امتحان لمن يدعي الإيمان وتصديق الله عز و جل فيما أخبر به هل يصدقه في زيادة المال إذا أخرج حق الله منه ويكون في شهوده كالزيادة أم لا ؟ وتأمل لو جلس يهودي بشكارة ذهب وقال لكل من مر عليه من المؤمنين كل من أعطى هذا الفقير درهما أعطيته دينارا كيف يتزاحم الناس على إعطاء هذا الفقير لأجل زيادة العوض ؟ وقد قال الله تعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } وقال تعالى : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } وقال صلى الله عليه و سلم ما نقص مال من صدقة ] ]
فليمتحن المدعي للتصديق بكلام الله ورسوله نفسه فإن رآها لا تمل من الإعطاء أبدا للفقراء ولو طلبوا منه جميع ما معه أعطاه لهم فليحكم لها بكمال الإيمان وإن رآها تمل من ذلك فليحكم عليها بنقص الإيمان وربما كان أحدهم يعطي الفقراء لكثرة ما جرب من إضعاف التوسعة عليه كما أعطى فهذا عبد تجربة فربما كان الحاث له على العطاء كون الحق تعالى يخلف عليه أضعاف ما أعطى والمؤمن الكامل من أعطى عباد الله تعالى امتثالا لأمر الله لا لعلة إخلاف الله عليه ولا غير ذلك اللهم إلا إن يريد بكثرة الإعطاء كثرة الإنفاق في مرضاة الله تعالى فهذا لا مانع منه وربما كان الإنسان يخف عليه إعطاء الدينار للسائل أول مرة ثم إذا طلب منه السائل دينارا ثانيا أعطاه ولكن ببعض ثقل ثم إذا سأله ثالثا أعطاه بثقل لكن أعظم من الثاني وهكذا حتى ربما لا يصل إلى الدينار العاشر ومعه بقية داعية للعطاء فلو أن مثل هذا كان كامل الإيمان لكان آخر دينار في الخفة عليه كأول دينار على حد سواء في الخفة
وقد أخبرني الشيخ جمال الدين ابن شيخ الإسلام زكريا أن الشيخ فرجا المجذوب لقيه ومعه أربعون نصفا فسأله الشيخ فرج نصف فأعطاه ثم سأله آخر فأعطاه فما زال يسأله حتى بقي معه نصف واحد من الأربعين فقال أعطني النصف الآخر فقال : يا شيخ فرج أنا محتاج إليه فقال : قد كتبت لك وصولا على شموال اليهودي بتسعة وثلاثين دينارا فقال : قف خذ النصف الآخر فقال ما رضيت قال الشيخ جمال الدين : فبينما أنا جالس في أثناء النهار فإذا يهودي يدق الباب فقلت له من هذا فقال يهودي فقلت له أدخل فقال : إن والدك كان أعطاني أربعين دينارا قرضا وما بيني وبينه إلا الله تعالى وقد عجزت عن دينار منها فأبرئ ذمتي ووضع الدنانير بين يدي فمن ذلك اليوم ما سألني الشيخ فرج شيئا ومنعته إياه قال سيدي جمال الدين : فندمت أني ما كنت أعطيته النصف الآخر فإنه عوض لي في كل نصف واحد أربعين نصفا ثم قال تبت إلى الله تعالى أن أحدا من أولياء الله يطلب مني شيئا ولا أعطيه له اه
فانظر يا أخي كيف صار إيمان سيدي جمال الدين في آخر نصف من توقفه ولو أنه كشف حجابه لم يتوقف في آخر نصف بل كان يعطيه من غير توقف قال سيدي جمال الدين : ثم إني لقيت الشيخ فرجا بعد ذلك فذكرت له القصة فقال : إنما فعلت ذلك معك لأمرنك على معاملة الله عز و جل فإذا كنت وأنا عبد قد وفيت لك أضعاف ما أعطيتني فالحق تعالى أولى بذلك { ومن أوفى بعهده من الله } . فقلت له لأي شيء ما قلت لي أعطني درهما أعطك بدله دينار ؟ فقال : كانت تبطل فائدة الامتحان لأنه حينئذ يصير العوض مشهودا لك ولا تظهر ثمرة المحنة إلا إذا لم يذكر الممتحن العوض وأوهمه أنه لا يعوض عليه بدل ذلك شيئا اه
فاعلم أن الواجب على العبد أن يعطي الله ما أمره به محبة في ربه عز و جل لا طلبا للعوض الدنيوي أو الأخروي فإن ذلك سوء أدب وجهل بعظمة الله تعالى
فأخرج يا أخي زكاتك طوعا وامتثالا لأمر ربك وإن لم تطاوعك نفسك فاتخذ لك شيخا يرقيك إلى كمال الإيمان فهناك لا تتوقف على توعده لك بحرقك بالنار إن لم تخرج زكاتك فإنك تصير كمن آمن كرها فلا يصح إيمانك والله يتولى هداك (1/62)
- روى الإمام أحمد واللفظ له وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ العامل على الصدقة بالحق لوجه الله تعالى كالغازي في سبيل الله عز و جل حتى يرجع إلى أهله ] ]
وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته ] ]
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات مرفوعا : [ [ خير الكسب كسب العامل إذا نصح ] ]
وروى الإمام أحمد مرفوعا وفي إسناده مجهول : [ [ ستفتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله عز و جل وأدى الأمانة ] ]
وروى أبو داود مرفوعا : [ [ من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فأخذ فوق ذلك فهو غلول ] ]
وفي رواية لمسلم وأبي داود وغيرهما مرفوعا : [ [ من استعملناه على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نساعد الفقراء بالعمالة إذا طلب منا الفقراء أن نكون عمالا لهم على الزكاة إلا إذا لم نثق بنفوسنا في جميع ذلك وإعطائه للفقراء من غير غلول فإن خفنا ذلك تركنا العمالة تقديما لمصلحة نفوسنا على مصلحة الغير وهذا العهد يخل به كثير من الفقراء والعلماء ويقولون : أي شيء لنا في ذلك ؟ فإن شاءوا يعطون الفقراء وإن شاءوا يمنعوهم وغاب هؤلاء عن قول الله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها }
يعني اطلبها منهم ولا تتوقف على أنهم يعطونها لك بغير سؤال فإن المال محبوب للنفوس وقليل من الناس من يوق شح نفسه فكان على هذا القدم سيدي الشيخ أبو بكر الحديدي رحمه الله تعالى فكان يأخذ من الناس الزكاة بالإلحاح ويعطيها للفقراء والمساكين فقيل له إنهم يصيرون يكرهونك فقال سوف يحبوني في الآخرة حين يرون ثواب أعمالهم اه
وقد قال أخي أفضل الدين لشخص مرة لا تترك فعل الخير ولو خفت أن يذمك الناس فقال له سيدي علي الخواص ولو ذموك وفرغوا من الذم اه
فافعل يا أخي كل شيء ندبك الشرع إليه ولا تتعلل بعذر عادي من حياء أو خوف ذم فإن العذر لا يقبل إلا إن كان شرعيا كخوفه على نفسه من الغلول لما يعلم من شدة محبة نفسه للدنيا وميله إليها فروض يا أخي نفسك مدة قبل دخولك في جباية الأموال والله يتولى هداك (1/63)
- روى الشيخان واللفظ للبخاري مرفوعا : اليد العليا خير من اليد السفلى ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله . قال الخطابي وقد اختلف الناس في المراد باليد العليا فقال بعضهم هي المنفقة والأشبه أن يكون المراد بها المتعففة لأنها أوضح من حيث المعنى . والله تعالى أعلم
وروى البزار مرفوعا : [ [ إن الله تعالى يحب الغني المتصدق والفقير المتعفف ] ]
وروى ابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ أول ثلاثة يدخلون الجنة : الشهيد وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده وعفيف متعفف ذو عيال ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ ومن يقنع يقنعه الله ] ] . وفي رواية له مرفوعا : [ [ عز المؤمن استغناؤه عن الناس ] ]
وروى الشيخان مرفوعا : [ [ ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس . والعرض كل ما يقتنى من المال وغيره ] ]
وروى مسلم وغيره مرفوعا : [ [ اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب ] ]
وروى الشيخان مرفوعا : [ [ ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس ] ]
وروى مسلم والترمذي وغيرهما مرفوعا : [ [ قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه ] ] . والكفاف من الرزق ما كف عن السؤال مع القناعة لا يزيد على قدر الحاجة
وروى مسلم والترمذي وغيرهما مرفوعا : [ [ يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تستكثر فشر لك ولا تلام على كفاف ] ]
يعني أن تطلب من الدنيا ما يكفيك ويغنيك عن سؤال الناس . وروى البيهقي مرفوعا : [ [ القناعة كنز لا يفنى ] ] . قال الحافظ المنذري ورفعه غريب وروى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ] ] . والمراد بسربه : نفسه . وروى البخاري وابن ماجه وغيرهما مرفوعا : [ [ لأن يأخذ أحدكم أحبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ] ] . وروى البخاري مرفوعا : [ [ ما أكل أحد طعاما خير له من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ] ] . قال بعضهم كان يضفر الخوص ويعمل أدراع الحديد . وروى أبو داود والترمذي : [ [ أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله فقال : أما في بيتك شيء ؟ فقال بلى حلس ؟ ؟ نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب ؟ ؟ نشرب فيه الماء فقال ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده فقال : من يشتري هذين ؟ فقال رجل : أنا آخذهما بدرهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا ؟ فقال رجل : أنا أخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال : اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فائتني به فلما أتاه به شد فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم عودا بيده ثم قال : اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما ففعل وجاء فأصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تحل إلا لثلاث : لذي فقر مدقع ولذي غرم مفظع ولذي دم موجع ] ] . والمدقع هو الشديد الملصق صاحبه بالدقعاء يعني الأرض التي لا نبات بها والغرم هو الذي يلزم صاحبه أداؤه يتكلف فيه لا في مقابلة عوض والمفظع هو الشديد الشنيع والدم الموجع هو الذي يتحمل عن قريبه أو حميمه أو نسيبه دية إذا قتل نفسا ليدفعها إلى أولياء المقتول . ولو لم يفعل قتل قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن يكون سدانا ولحمتنا القناعة والتعفف والأكل من الكسب الحلال بطريقة الشرع الشامل لمد اليدين بالدعاء إلى حضرة الله تعالى إذا عجزنا عن عمل الحرفة المعتادة ولا نأكل بديننا وهذا العهد لا يعمل به على وجهه إلا من سلك الطريق على يد شيخ وإلا فلا يشم من العمل به رائحة فإن العبد ما لم يصل إلى معرفة الله تعالى لا يصح له في القناعة والتعفف قدم وذلك أنه إذا عرف الله تعالى فمن لازمه الرضا به من الكونين ولا يطلب قط فيهما نعيما غير مجالسة الحق جل وعلا ولا يبالي بما فاته منهما إذا كان الحق تعالى له عوضا من كل شيء وأما من لم يصل إلى معرفة الله تعالى فمن لازمه شراهة النفس لأن الدنيا مشهودة فلذلك كان هذا العهد يخل به كثير من الناس في هذا الزمان حتى لا يكاد الإنسان يرى متعففا ولا قانعا ولا متورعا في اللقمة أبدا بل غالب الفقراء يقولون وخلق لكم وغيرهم يقول هات لنا ولا تفتش وبعضهم يقول الحرام علينا هو ما لم تصل يدنا إليه وهذا كلام لا يجوز لمؤمن أن يتلفظ به لئلا يسمعه بعض العوام فيتبعه على ذلك
ومن هنا قال العارفون : يجب على من لم يكن لديه ورع أن يتفعل في التورع فإن لم يكن له نية صالحة في الورع فربما صلحت نية من يتبعه في الورع وقالوا أيضا : يجب على العالم إذا لم يعمل بعلمه أن يعمله لمن يعمل به
وقالوا إذا رأيت عالما لا يعمل بعلمه فاعمل أنت به يحصل لك وله الخير . [ [ والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ] ]
ثم لا يخفى أن من أقبح الصفات عدم تعفف العالم والصالح وطلبهما من الولاة جوالي أو مسموحا أو مرتبا على بساط السلطان ثم يطلبان بعد ذلك تمشية شفاعتهم عندهم في أمور المسلمين وهذا أمر لا يتم لهم فإن شرط الشافع العفة والورع عما بأيدي الولاة فإنهم إذا رأوه زاهدا فيما رغب فيه ملوكهم فضلا عنهم عظموه ضرورة وأحبوه وقبلوا شفاعته وتبركوا به وقد كثر طلب الدنيا من طائفة الفقراء وغيرهم وصاروا يسافرون من نحو مصر إلى بلاد الروم والعجم ويتعللون بضيق المعاش وربما يكون أحدهم كاذبا لأن عنده في بلده ما يكفيه الكفاية اللائقة بأمثاله وكان من الأدب لكل من عمل رئيسا في الناس أن يرد جميع ما يعرضه عليه أعوان الظلمة والسلطان ويقول لهم : أعطوه لمن هو أنفع مني للمسلمين من الجند الذين يسافرون في التجاريد ونحوهم فأما أنا فجالس أذكر الله تعالى في زاويتي أو أشتغل بعلم ما أحد يعمل به والأمر في زيادة من حيث قلة العمل بالعلم فكيف أزاحم عسكر السلطان على ماله
فاسلك يا أخي طريق الفقراء والعلماء الذين مضوا ولا تتبع أهل زمانك تهلك
وقد بلغنا عن أبي إسحاق الشيرازي أنه كانت تعرض عليه الأموال فيردها مع أن القمل سائح على وجهه ورأسه ولحيته وعليه فروة كباشية ؟ ؟ وكان يتغذى بماء الباقلا فيفت الكسرة اليابسة ويغمسها بماء الفول رضي الله تعالى عنه فاعلم ذلك
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول : لله تعالى رجال يجمعون المال ولا يظهرون قناعة ويلحون في السؤال ثم يعطون كل شيء حصل بأيديهم لمن هو محتاج إليه ولا يذوقون منه شيئا
فإياك يا أخي والمبادرة بالإنكار عليهم
وبعضهم يجمع من الدنيا عنده حتى لا تستشرف نفسه لما في أيدي الناس أو يقف لهم على باب وكان على ذلك سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه
وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله تعالى عنه يقول : إذا ضاق على فقير أمر معيشته فليسأل الله تعالى في تيسير رزق حلال مما قسمه الله تعالى له ولا يعين جهة ليكون ذلك معدودا من جملة الرزق الذي لا يحتسبه فإن كان شيء جاء باستشراف نفس فهو غير مبارك فيه كما صرحت به الشريعة ثم نقل عن الشبلي أنه كان إذا جاع مد يده وسأل الله تعالى وقال هذا كسب يميني
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول : لا ينبغي لفقير أن يأكل مما وعده به أحد لأن نفسه تصير متشوقة إليه حتى يحضر
وجاءه مرة إنسان وقال قد خرجت لكم عن قنطار عنب فأرسل معي أحدا يحمله فأبى وقال لا نحب أن نأكل إلا ما لم يكن في حسابنا فإذا خرجت بعد ذلك عن شيء للفقراء فلا تعلمهم به قبل حضوره إن طلبت أنهم يأكلون منه
وبلغنا عن إبراهيم أنه فقد الحلال فسف من التراب مدة أربعين يوما حتى وجد الحلال اللائق بحاله ومقامه
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول : ينبغي لكل مؤمن في هذا الزمان إذا حضر عنده طعام أو شراب أن لا يأكل منه حتى يقول بتوجه تام : اللهم إن كان في هذا الطعام شبهة حرام فاحمني منه وإن لم تحمني منه فلا تجعله يقيم في بطني وإن جعلته يقيم في بطني فاحفظني من المعاصي الناشئة من أكله فإن لم تحفظني منها فمن علي بالتوبة النصوح فإن لم تمن علي بالتوبة فالطف بي ولا تؤاخذني يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين
وكان يقول : لا ينبغي لفقير السؤال حتى يبيع آلات الدار الزائدة على الضرورة كالطراحة والمخدة والعمامة الزائدة والثوب الزائد والأواني كلهم حتى نعله الزائد
وكان يقول لا ينبغي لفقير في هذا الزمان إذا وجد الحلال الصرف أن يشبع منه بل يأكل بقدر سد الرمق فقط خوفا أن يقع في الحرام . وسمعته أيضا يقول : ليست القناعة أن تأكل كل ما وجدته ولو كسرة يابسة كل يوم وإنما القناعة أن تطوي الثلاثة أيام فأكثر مع وجود الأكل عندك . ولعل مراده رضي الله عنه الطي الذي لا يضر الجسم فإن جوع المحققين إنما هو اضطرار لا اختيار وذلك لأن الكامل يجب عليه إعطاء كل ذي حق حقه من جسمه أو غيره ولا يظلم شيئا من رعيته سواء الجوارح وغيرها . وبالجملة فلا بد لمن يريد العمل بهذا العهد من شيخ يسلك به حتى يخرجه من حضرات الاتهام ويدخله حضرات اليقين فيعرف إذ ذاك أن ما قسمه الله تعالى لعبد لا يمكن أن يفوته وما لم يقسمه له لا يتبعه نفسه
ومن هذا الباب أيضا الأقدار الجارية على العبد فإنها لا تخلو عن كون ذلك الأمر الذي دافع العبد الأقدار في عدم وقوعه مقدرا أو غير مقدر فإن كان مقدرا فلا فائدة في المدافعة إلا تعظيم انتهاك محارم الله تعالى لا غير وقد كلف الله تعالى العبد بذلك وجعل له الثواب فيه سواء كان مقدرا أو غير مقدر حتى أنه لو كشف له أن الله تعالى كتب عليه الزنا أو شرب الخمر لا يجوز له المبادرة إلى ذلك لأنها مبادرة إلى ما يسخط الله عز و جل فيجب عليه الصبر حتى يقع ذلك في حالة غفلة أو سهو كما أشار إليه خبر : [ [ إذا أراد الله تعالى إنفاذ قضائه وقدره سلب من ذوي العقول عقولهم ] ] . يعني عقولهم الحافظة عن الوقوع لا عقول التكليف فافهم لئلا يؤدي إلى إبطال الحدود كلها فتأمل في هذا المحل واعمل به
وقد كان أخي الشيخ عبدالقادر رحمه الله تعالى على هذا القدم فأرسلت مرة أن يجعل على مقثأة البطيخ حارسا حتى يحضر له بالمركب يوسقه فأرسل يقول : لي المؤمن لا يحتاج إلى مثل ذلك فإن ما قسمه الله تعالى لأهل الريف أن يأكلوه لا يقدر أحد يحمل منه إلى مصر بطيخة واحدة وما قسمه الله تعالى لأهل مصر لا يقدر أحد من أهل الريف يأكل منه بطيخة واحدة ومن كان إيمانه كذلك لا يحتاج إلى حارس . هذا في ملك الإنسان نفسه أما مال الغير فيجب على الحارس حفظه وإن لم يحرسه إثم ولم يستحق أجره فافهم والله يتولى هداك (1/64)
- روى أبو داود والترمذي وقال حديث حسن والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله تعالى له برزق عاجل أو آجل . وفي رواية للحاكم : أرسل الله له بالغنى إما بموت عاجل أو غنى آجل ] ] . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ من جاع أو احتاج فكتمه عن الناس وأفضى به إلى الله كان حقا على الله أن يفتح له قوت سنة من حلال ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ننزل جميع فاقاتنا ومهمات أمورنا في الدنيا والآخرة بالله تعالى في سرائرنا قبل ذكرها للخلق لأنه تعالى : { بيده ملكوت كل شيء } . فإن لم يجبنا سبحانه وتعالى إلى رفعها علمنا حينئذ أن المانع إنما هو منا لعصياننا لأوامره وعدم اجتنابنا لمناهيه فنكثر من الاستغفار ثم نسأل فإن لم يجبنا توسلنا بالخلق فنسألهم من غير وقوف معهم ونراهم كالأبواب التي يخرج منها صدقات الحق تعالى
وهذا العهد قل من يتنبه له من الفقراء فيسبق لهم الطلب من الخلق قبل الطلب من الله تعالى والخلق كلهم مفسدون فلا يعطونهم شيئا فيعسر الله تعالى عليهم أرزاقهم عقوبة لهم على سوء أدبهم معه سبحانه وتعالى وقد رأيت في واقعة أنني نزلت تحت الأرض فوجدت الأموات في فضاء واسع وهم جالسون حلقا حلقا يتحدثون على كثيب من رمل أبيض فسلمت عليهم فلم يردوا علي السلام وقالوا لسنا في دار تكليف فقال لي شخص منهم اسمع مني هذا الدعاء لتدعوا به إذا رجعت إلى الدنيا فقلت له نعم فقال إذا أصابك أمر يهمك من أمور الدنيا والآخرة فقل اللهم : إني أنزلت بك ما يهمني من أمور الدنيا والآخرة فحفظتها منه فلم أزل أدعو بها في كل أمر مهم إلى وقتي هذا
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به إلى حضرة التوحيد حتى يكون الغالب عليه ذكر الله عز و جل فيرى الحق تعالى أقرب إليه من الخلق فيسأله قبل كل أحد ومن لم يسلك كما ذكرناه فمن لازمه البداءة بسؤال الخلق لكون الغالب عليه شهودهم قبل الحق كما أن من لازمه أيضا عداوتهم إن لم يعطوه ولو قلت له إنما لم يعطوك لأن الله تعالى لم يقسم لك على أيديهم شيئا لم يلتفت إلى قولك وهذا كله جهل بالله تعالى وبالشريعة فإن الله لو قسم لأحد شيئا عند ذلك البخيل مثلا لوصل إليه ولو بالغصب والنقب فاعلم أن الكريم ليس منة على أحد والمنة في ذلك لله وحده وإنما مدحه الله تحريضا له على التكرم لما هو عليه في نفسه من البخل والشح فلولا المدح لربما كان بخيلا لم يعط أحدا شيئا ولكان الحق تعالى ذمه كما ذم البخيل فاعلم أن الحق تعالى ما ذم البخيل إلا تحريضا للمؤمن على الإنفاق وإن لله عبادا رفع درجاتهم بعدم إطعامهم الطعام لأن في ذلك رائحة منه تطرق العبد وعبيد الله الخلص لا يرون أنهم يشاركون الحق تعالى في المنة على عباده بقوله تعالى حكاية عن لقمان : إن الشرك لظلم عظيم فافهم . واعلم أن مدح الكريم إذا من فضل الله وذم البخيل إذا من عدل الله من حضرتي اسميه المعطى والمانع كما أوضحنا ذلك في رسالة الأنوار القدسية . فاسلك يا أخي على يد شيخ إن أردت العمل بهذا العهد والله يتولى هداك : { وهو يتولى الصالحين } (1/65)
- روى الشيخان والنسائي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعطيني العطاء فأقول له أعطه لمن هو أفقر إليه مني فقال : إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه فتموله فإن شئت فكله وإن شئت فتصدق به وما لا [ أي وما لم يأتك من غير استشراف نفس ] فلا تتبعه نفسك . قال سالم فلأجل ذلك كان عبدالله بن عمر لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه . وفي رواية لمالك مرسلا : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعطى عمر عطاء فرده فقال لم رددته ؟ فقال يا رسول الله أليس أخبرتنا أن خيارنا من لا يأخذ من أحد شيئا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما ذلك عن المسألة فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق يرزقكه الله تعالى فقال عمر : أما والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ولا يأتيني بشيء من غير مسألة إلا أخذته
وروى أبو يعلي والإمام أحمد بإسناد صحيح والطبراني وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ من بلغه عن أخيه معروف من غير مسألة ولا استشراف نفس فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه ] ] . وروى الإمام أحمد والطبراني والبيهقي وإسناد أحمد جيد قوي مرفوعا : [ [ من عرض عليه من هذا الرزق شيء من غير مسألة ولا استشراف فليتوسع به رزقه فإن كان غنيا فليتوجهه ؟ ؟ إلى من هو أحوج إليه منه ] ] . قال شيخنا يعني بشرط الحل في ذلك الرزق . وفي الحديث بيان جواز العبد ما زاد على رزقه بنية التوسعة به على غيره . والله تعالى أعلم . قال عبدالله بن أحمد بن حنبل : سألت والدي عن الاستشراف فقال هو قولك في نفسك سيبعث إلى فلان سيصلني فلان . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نقبل كل ما جاءنا من الحلال من غير استشراف نفس ولا نرده وذلك لأنه جاءنا من عند الله تعالى من غير تعمد وقع منا أو اجتلاب قال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } . ولا يمتن الحق تعالى على العبد إلا بما هو حلال محمود
وكانت طريقة سيدي أبي الحسن الشاذلي أنه لا يسأل ولا يرد ولا يدخر وكذلك كانت طريقة سيدي أحمد بن الرفاعي رحمهم الله تعالى . وفي الحديث : من تورع عن الحلال وقع في الحرام . وهذا أمر ربما يخل به كثير من المشايخ فضلا عن غيرهم وكذلك كان دأب سيدي علي الخواص إلى أواخر عمره ثم قبل من الناس قبل موته وصار يضع الدراهم والدنانير عنده في قدرة فكل من مر عليه من العميان والعاجزين والمديونين يعطيه من ذلك ويقول ما في الكون مال إلا وله ناس يستحقون الأكل والملبس منه من أصحاب الضرورات . وسمعته رضي الله عنه يقول : لو كشف للمحجوبين لرأوا جميع ما يأتيهم من الناس إنما هو هدية من الحق تعالى وهو الذي قدمه إليهم فكيف يصح لصاحب هذا المشهد أن يرد . فقلت له : فأين ميزان الشريعة حينئذ ؟ فقال : موجود وهو أنه لو شهد أن الحق تعالى هو المعطي لا يقبله إلا إن رأى وجه رضاه به فإن المعاصي كلها بتقدير الله وإرادته ومع ذلك فيردها العبد وجوبا ويدافعها جهده حتى لا يقع في هلاكه فاعلم أنه ما وقع لأحد رد إلا وهو محجوب في حجاب ظاهر الشريعة المطهرة فإن لسان حالها يقول : إذا جاءكم مال من غير طيبة نفس الخلق فردوه ولو شهدتم أن الله تعالى هو المعطي فإنه هو الذي نهاكم عن قبوله فما رددتموه إلا بأمره ولسان الحقيقة يقول : ما ثم أحد يملك مع الله شيئا كشفا ويقينا فخذوا كل ما وصل إليكم عن الله لا عن خلقه ولسان الجامعين بين الحقيقة والشريعة يقولون : لا نقبل شيئا للشرع عليه اعتراض لأن كون الأمور ملكا لله تعالى محل وفاق بين جميع الملل وما جعل الله تعالى الرقي في الدرجات إلا بالورع عما حرم الله فإياكم أن تخرقوا سور الشرع فإن الذي قال لكم الوجود كله ملكي هو الذي نهاكم عن قبول الحرام والشبهات وكأنه تعالى يقول : ولو شهدتم أنه ملكي فلا تأخذوه إلا بطيبة نفس من عبدي فلان فإن أخذتموه بغير طيبة نفس منه عذبتكم فالعذاب إنما هو من أجل مخالفة ما حده الله لنا لا من جهة أن العبد يملك مع الله تعالى فإنه لا يصح أن يتوارد ملكان حقيقيان على عين واحدة أبدا . فيجب على صاحب الحقيقة مراعاة الشريعة وعكسه ومن لم يكن كذلك فهو أعور لا يصح أن يقتدي به في طريق أهل الله تعالى
وأجمع العارفون على أن من شرط الكامل أن لا يطفئ نور معرفته نور يعني أن نور معرفته يحجبه عن شهود الملك لغير الله ونور ورعه لا يكون إلا مع شهود نسبة الملك للخلق فالكامل من يتورع عن أكل ما بأيدي الناس إلا بطريقه الشرعي مع شهوده جزما أن ذلك ملك الله عز و جل . فالزم يا أخي طريقة الشريعة وإلا هلكت والسلام (1/66)
- روى الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل . وفي رواية لابن خزيمة : إن العبد إذا تصدق من طيب تقبلها الله منه وأخذها بيمينه فرباها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال في كف الله حتى تكون مثل الجبل فتصدقوا ] ] . وروى مسلم والترمذي مرفوعا : [ [ ما نقصت صدقة من مال ] ] . وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح : [ [ عن عائشة أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما بقي منها ؟ فقالت عائشة : ما بقي إلا كتفها ؟ فقال صلى الله عليه و سلم : بقي كلها إلا كتفها ] ] . ومعناه أن ما تصدقوا به هو الباقي . وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ يقول الإنسان مالي مالي . وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فأبقى وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ] ] . وروى أبو يعلي بإسناد صحيح مرفوعا : [ [ والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ] ] . وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه : [ [ إن الصدقة ولو قلت لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء ] ] . وفي رواية : [ [ إن الله تعالى ليدرأ بالصدقة سبعين بابا من ميتة السوء ] ]
وقد روى الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس ] ] . وقال يزيد بن حبيب : وكان أبو مرة العبدري لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو بكعكة أو بصلة . وفي رواية لابن خزيمة : كان يزيد بن عبدالله أول أهل مصر دخولا المسجد بمصر فما رؤي داخلا قط المسجد إلا وفي كمه صدقة أو فلوس إما قمح وإما خبز حتى ربما حمل البصل فإذا قيل له إنه ينتن ثيابك فيقول إني لم أجد في البيت ما أتصدق به غيره وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ ظل المؤمن يوم القيامة صدقته ] ] . وروى الطبراني والبيهقي مرفوعا : [ [ إن الصدقة تطفئ عن أهلها حر القبور ] ] . وروى الإمام أحمد والبزار وابن خزيمة من صحيحه مرفوعا : [ [ لا يخرج رجل شيئا من الصدقة حتى يفك عنها لحي سبعين شيطانا ] ] . زاد في رواية البيهقي : كلهم ينهى عنها . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ الصدقة تسد سبعين بابا من السوء ] ] . وروى البيهقي مرفوعا : [ [ باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطى الصدقة ] ] . وروى موقوفا عن أنس وهو الأشبه قاله الحافظ المنذري والأحاديث في ذلك كثيرة . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتصدق بكل ما فضل عن حاجتنا ولا ندخر منه شيئا إلا لضرورة شرعية سواء كان مالا أو طعاما أو ثيابا عملا بأخلاق رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تخلى يوم واحدا من صدقة فإن لم نجد شيئا مما ذكرناه تصدقنا بالتسبيح وقراءة القرآن والصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحو ذلك من صنائع المعروف . وفي الحديث : [ [ صنائع المعروف تقي مصارع السوء ] ] . ومعنى التصدق بالتسبيح وشبهه أن يجعل ثواب ذلك في صحائف المسلمين وهذا العهد يتعين العمل به على كل من كان قدوة في دين الله من العلماء والصالحين فينبغي لأحدهم أن يكون مقداما للناس في كل خير
وفي ذلك فوائد : منها امتثال أوامر الله تعالى ومنها عكوف الطلبة والمريدين على شيخهم إذا رأوه يعينهم على أمر معاشهم فيتقيدون عليه ويحصلون العلم وينشرون ذلك بعده ومنها دفع البلايا والمحن عنه في ذلك اليوم . ومن هنا قالوا : أقبح من كل قبيح صوفي شحيح وفي المثل السائر أن فلانا وفلانا جلسوا يأكلون كذا وكذا وتركوني مثل قط الفقيه فلم يعزموا علي يعني أن غالب الفقهاء يشح على القط أن يرمي له ورك دجاجة أو رقبتها والأمثال لا تضرب في شيء إلا إذا كان تكرر ذلك الشيء من أهله . ويقولون في المثل : يد تأخذ لا تعطي يعني أن كل من تعود الأخذ من صدقات الناس فهو يشح على غيره
وقد كان سيدي علي الخواص إذا سأله فقير شيئا ينقسم [ أي يمكن تقسيمه ] كالطعام والفلوس قسم ما عنده في ذلك اليوم بينه وبين ذلك الفقير نصفين ويقول : إن الله تعالى يكره العبد المتميز عن أخيه . وكان الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول : إذا طلب منك أحد أن يؤاخيك فاسأله نصف ماله فإن أعطاك النصف فهو أخ وإلا فلا تجبه لصحبة . ثم اعلم يا أخي أن من الأولياء من لم يجعل الله تعالى على يديه شيئا من أرزاق الخلائق لإقامته في حضرة اسمه تعالى المانع فيقول الناس حاشى أن يكون هذا من أولياء الله تعالى فإن من شرط الولي السخاء والتكرم ولو كان هذا من أولياء الله تعالى لكان كريما سخيا وذلك لا يقدح في كمال ولاية ذلك الولي لأنه لم يمنع ذلك بخلا وإنما هو يود أن لو جعل الله على يديه رزقا لأحد وأعطاه له والإثم إنما هو في حق من يمنع بخلا وشحا في الطبيعة وأما من يمنع لحكمة فلا إثم عليه إذ الأولياء على الأخلاق الإلهية درجوا وقد سمى تعالى نفسه المانع ولم يسمه نفسه بخيلا وربما كان ذلك الولي الذي ليس له سماط ولا يطعم أحدا لقمة أعلى في المقام ممن سفرته ممدودة ليلا ونهارا وقد قدمنا قبل هذا العهد قريبا أن من عباد الله الكمل قوما حماهم الله تعالى من مشاركة الحق تعالى في خطور منتهم على أحد من خلقه فلذلك لم يجعل على يدهم رزقا لأحد يتميزون به على أقرانهم خوفا أن يخطر على بالهم المنة على من أخذ منهم ولو في حال العطاء فقط ورأوا أن سلامتهم من مزاحمة الحق في المنة أرجح من ثواب ذلك العطاء كما هو مشهد الكمل من الملامتية في تركهم كثيرا من النوافل التي يرى العبد بها أن قد وفى بحق الربوبية وزاد عليه فافهم
واسلك يا أخي على يد شيخ ليخرجك من حكم الطبيعة عليك بالشح ويخلصك إلى حضرات الكرم والسخاء فلا تكاد تبخل على فقير كما درج عليه السلف الصالح رضي الله عنهم . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول : إذا علمت شيخا يقتدي بك فإياك أن تدع أبناء الدنيا يخرجون عليك في البخل بأن لا تشح بشيء مطلقا إذ من شرط الشيخ أن يكون الألف دينار عنده إذا أعطاها لفقير حكم الحصاة من التراب على حد سواء ومتى استعظمت يا أخي شيئا مما أعطيته فأنت لم تشم من طريق الصالحين شمة . قال : وتأمل الإمام الأعظم محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنه لما دخل اليمن أتوه بعشرة آلاف دينار ففرقها في المجلس فصار يفرق منها ويعطي الناس حتى فرغت . وقد حلق شخص لإبراهيم الخواص رأسه على ما يفتح الله به فجاءه وهو يحلق ألف دينار فدفعها إلى المزين فرماها المزين وقال للخواص أما تستحي تقول لي احلق رأسي لله ثم تعطيني شيئا من الدنيا والله ما حلقت لك إلا لله ورماها للناس . وسأل شخص علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين شيئا فأخرج بدرة فيها عشرة آلاف دينار وقال : والله ما وجدت لك غيرها فقال له الشخص أعطني أجرة حملها إلى منزلي فأعطاه طيلسانه فولى وهو يقول أشهد أنك من أولاد المرسلين حقا . وكان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب إذا وجد على بابه سائلا يقول مرحبا بمن يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة مني حتى يضعه بين يدي الله عز و جل
قلت : وممن أدركته على هذا القدم الشيخ عبدالحليم بن مصلح ببلاد المنزلة غربي دمياط وسيدي محمد بن المنير المدفون بخارج الخانقاه السرياقوسية والشيخ محمد الشناوي رضي الله تعالى عنهم فرأيت الشيخ عبدالحليم وقد لقيه شخص وهو ذاهب إلى صلاة الجمعة فقال أعطني هذه الثياب فأعطاها له ولم يرجع إلى البيت وصلى بفوطة حمامي في وسطه . ورأيت الشيخ محمد بن منير أعطى شخصا في طريق الحجاز ماتت جماله خمسمائة دينار فلما وصل الرجل إلى مكة أتى بها فقال له ما أعطيتها لك إلا لله ولم يكن له به معرفة قبل ذلك . وأما الشيخ محمد الشناوي فلا يحصى ما أعطاه للناس من البهائم والخيل والغنم والقمح والنقود والثياب وكان يصرح ويقول : جميع ما يدخل يدي من الدنيا ليس هو خاص بي وإنما أراه مشتركا بيني وبين المحتاجين فكل من كان أحوج قدم مني أو منهم وقد من الله تعالى علي بذلك فلم أر لي بحمد الله تعالى شيئا يخصني من المحتاجين به فالحمد لله رب العالمين
فاسلك يا أخي على يد شيخ صادق ليخرجك من شح الطبيعة بأفعاله وأقواله وإلا فمن لازمك الشح وبتقدير أنك تعطي الناس ما يسألون فلا يخلو ذلك من علة تؤثر في الإخلاص كما يعرف ذلك أرباب السلوك فإن الشيخ إذا لم يكن فعله سابقا على قوله كان قدوة لهم في الضلال كما إذا أمرهم بقيام الليل ونام هو وبالزهد في الدنيا ورغب هو والله إني لأصلي بالقرآن كاملا في ركعة واحدة في بعض الليالي وأود لأن لو اطلع على ذلك بعض المريدين ليقتدوا بي في ذلك فإني أعلم أني إذا نمت ناموا فبمن يقتدون إذا كنت بالليل نائما وربما أخالف ما آمر الناس به فيعملون معدلي ولو في أنفسهم ويقولون الشيخ يأمرنا بالصلاة في الليل وينام ويأمرنا برمي الدنيا ويجمعها هو ويزهدنا في الدنيا ويأمرنا بإخراجها والتصدق بها ولا نراه يفعل هو شيئا من ذلك بخلاف ما إذا زهد الشيخ وأنفق أو تصدق أمامهم فإنهم ربما يتبعونه و والله إني لأتصدق في بعض الأوقات بالدينار والقميص وأنا أحوج إليه أشد من الآخذ له تنشيطا للإخوان حتى يخرجوا عن مسك اليد وأرى ذلك مقدما على نفع نفسي فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك { وهو يتولى الصالحين } (1/67)
- روى أبو داود وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل أي الصدقة أفضل . قال : [ [ جهد المقل وابدأ بمن تعول ] ] . وروى النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم مرفوعا : [ [ سبق درهم مائة ألف دينار ؟ فقال رجل كيف ذلك يا رسول الله ؟ قال رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف دينار تصدق بها ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ واحدا فتصدق به ] ] . وقوله من عرضه أي من جانبه . وروى الترمذي وابن خزيمة عن أم بجيد أنها قالت : يا رسول الله إن المسكين ليقوم على بابي فما أجد شيئا أعطيه فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ إن لم تجدي إلا ظلفا مجردا فادفعيه إليه في يده ] ] . وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ تعبد عابد من بني إسرائيل فعبد الله تعالى في صومعته ستين عاما فأمطرت الأرض واخضرت فأشرف الراهب من صومعته فقال : لو نزلت فذكرت الله فازددت خيرا فنزل ومعه رغيف أو رغيفان فبينما هو في الأرض لقيته امرأة فلم يزل يكلمها وتكلمه حتى غشيها ثم أغمي عليه فنزل الغدير يستحم فجاء سائل فأومأ إليه أن يأخذ الرغيفين ثم مات فوزنت عبادة ستين سنة مع حسناته بتلك الزنية فرجحت الزنية بحسناته ثم وضع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته فرجحت حسناته فغفر له ] ] . وفي رواية للبيهقي موقوفا عن علي بن مسعود : أن الراهب نزل إلى المرأة فواقعها ست ليال ثم سقط في يده فهرب فأتى مسجدا فأوى فيه ثلاثا لا يطعم شيئا فأتى برغيف فكسره فأعطى رجلا عن يمينه نصفه وأعطى آخر عن يساره نصفه فبعث الله إليه ملك الموت فقبض روحه فوضعت عبادة الستين في كفة ووضعت الست ليال في كفة فرجحت يعني الست ليال ثم وضع الرغيف فرجح يعني على الستين سنة . وروى البيهقي مرفوعا : [ [ إن الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال لم يقدم منه شيئا . ] ] يعني لم يتصدق منه بشيء . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتصدق بما وجدنا ولا نستقل من الصدقة شيئا لما تقدم من الأحاديث الصحيحة من : أن الحق تعالى يقبلها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله . ولما سيأتي من الأحاديث وهذا العهد يخل به كثير من الناس فيستحيون أن يتصدقوا بمثل تمرة أو لقمة أو زبيبة وهو حياء طبيعي لا شرعي وليس اللوم إلا على من يمنع الصدقة بالكثير بخلا وأما من يخرج ما وجد بعد جوع وقلة فهو مأجور وربما يسبق الدرهم منه ألف درهم من غيره كما يأتي وقال تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } . فانظر يا أخي إلى ما وسع الله تعالى به على عباده حيث لم يأمرهم بالصدقة تكليفا مع حاجتهم إليها بل نهاهم عن ذلك لأن كل من تصدق بما فوق طاقته فمن لازمه أن نفسه تتبع ذلك ثم يندم على إعطائه وفي الحديث : نحن معاشر الأنبياء براء من التكلف فافهم . وقد تصدقت عائشة رضي الله عنها مرة بحبة عنب فكأن السائل استقلها فقالت مالك لا تفقه كم في هذه من مثقال ذرة ؟ وفي القرآن : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره - والله عليم حكيم } (1/68)
- روى أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج وبيده عصا وقد علق رجل قنو حشف فجعل يطعن في ذلك القنو ويقول : لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب من هذا إن رب هذه الصدقة يأكل حشفا يوم القيامة . وروى ابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ خير الصدقة ما أبقت غني واليد العليا خير من اليد السفلى ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتصدق بما نحب أدبا مع الله تعالى وعملا بقوله تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } . ونحن نحب أن ننال مقام البر عند الله تعالى ونكره أن نكون ناقصي المقام لما فيه من الجفاء والبعد في شهودنا له في نفس الأمر ولا يقوم بالعمل بهذا العهد إلا كمل الرجال الذين يغلب عليهم حضور مع الله تعالى . وقد بلغنا أن المنادي ينادي يوم القيامة ألا من أعطى شيئا لله فليأت به فيأتي الرجل بالثياب البالية والكسر اليابسة والأمور التي تزهدها النفوس ثم ينادي ثانيا : ألا من أعطى شيئا لغير الله فليأت به فيأتي الرجل بالثياب الفاخرة والأطعمة النفيسة والأمور التي تهواها النفوس فيكاد الرجل من الحياء أن يذوب ويسقط لحم وجهه . وبالجملة فمعاملة الله تعالى تابعة لمعرفته كثرة وقلة . فاسلك يا أخي على يد شيخ ناصح إن طلبت أن تعرف صفاء المعاملة مع الله تعالى وإن لم تسلك كما ذكرنا فمن لازمك عدم صفاء المعاملة كما هو مشاهد فيمن يسأل الأغنياء بالله من الفقراء أن يعطوه رغيفا أو درهما فلا يعطونه ويمر على نحو الألف نفس أو أكثر فلا يلتفتون إليه ولو أنهم كانوا جالسين بحضرة ملك من ملوك الدنيا وسألهم أرذل الناس بحياة رأس الملك أن يعطوه رغيفا أو درهما لأعطوه المائة رغيف أو الدينار الذهب أو أكثر مراعاة لوجه العظيم فأيهما أعظم عند هؤلاء قدرا حينئذ : الله أو ذلك الملك ؟ فانظر وتأمل في نقص إيمانك وقلة تعظيمك لله تعالى يا أخي وتب واستغفر وتشهد لتسلم الإسلام الكامل فإن الله تعالى يعامل العبد بحسب ما في قلبه من التعظيم وغيره ولو أن إنسانا قال السلطان أعظم عندي من الله تعالى لحكم الشرع بقتله أشر قتلة لكفره بعد إيمان فتأمل . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/69)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله . فذكر منهم ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ] ]
روى الترمذي واللفظ له والبيهقي وغيرهما مرفوعا : لما خلق الله الأرض جعلت تميد فأرساها بالجبال فاستقرت فعجبت الملائكة من شدة الجبال فقالت : يا ربنا هل خلقت خلقا أشد من الجبال ؟ قال : نعم الحديد قالوا : فهل خلقت خلقا أشد من الحديد ؟ قال النار ؟ قالوا : فهل خلقت خلقا أشد من النار ؟ قال : الماء قالوا : فهل خلقت خلقا أشد من الماء ؟ قال الريح قالوا : فهل خلقت خلقا أشد من الريح ؟ قال : ابن آدم إذا تصدق بصدقة فأخفاها عن شماله . وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ صدقة السر تطفئ غضب الرب ] ] . وروى الإمام أحمد والطبراني مرفوعا : [ [ أفضل الصدقة ما كانت سرا إلى فقير أو جهدا من مقل ثم قرأ : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ] ] . وروى أبو داود وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ ثلاثة يحبهم الله فذكر منهم ورجل أتى قوما فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم فمنعوه فتخلف رجل بأعقابهم فأعطاه سرا لا يعلم بعطيته إلا الله ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نسر بصدقاتنا المندوبة دون المفروضة على وزان الصلاة إلا ما استثنى مما تسن الجماعة فيه امتثالا لأمر الله عز و جل لا لطلب الأجر والثواب فإن الشارع صلى الله عليه و سلم قد وعد بذلك وهو لا يخلف وعده ولا يضيع أجر من أحسن عملا اللهم إلا أن نطلب الأجر من باب الفضل والمنة فلا حرج على العبد في ذلك إذ لا يستغني عبد عن فضل سيده طوعا أو كرها . واعلم أن الشارع ما أمر العبد بصدقة السر إلا لما يعلم من نفس العبد من محبة المال وإنفاقه ليقال فلا يكاد يسكت على ما أعطاه لأحد أبدا لعظمته عنده ولو أنه سلك الطريق لكان إخراج الألف دينار صدقة عنده كحبة عنب على حد سواء وما رأينا أحدا قط أعطى حبة عنب وصار يذكرها في المجالس ويفتخر بها أبدا لهوانها عنده وكذلك الألف دينار عند الفقير الصادق إذا تصدق بها لا يحتفل بها ولا يذكرها في المجالس أبدا وما سمي الفقير فقيرا إلا لكونه لا يملك شيئا مع الله تعالى فكيف يرى نفسه بشيء ليس هو له ؟ وفي الحديث : إن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة . فما قدر ما يخص الفقير من ذلك الجناح إذا فرق أجزاء صغارا حتى عم جميع الخلق من الملوك إلى السوقة فالفقير الصادق يستحي من الله تعالى أن يرى نفسه على الفقراء ولو تصدق بجميع الدنيا لو تصور أنه ملكها كلها لأنه يراها كجناح البعوضة وإنما لم نقل لأنه يراها قدر جناح بعوضة أدبا مع الله تعالى أن يشترك العبد مع ربه في صفة من الصفات فلذلك قلنا كجناح بكاف التشبيه فافهم
فعلم أنه يتعين على كل من يريد العمل بهذا العهد أن يسلك على يد شيخ مرشد يسلك به حتى يخرجه عن الرغبة والمحبة في الدنيا ويدخله حضرة الزهد فيها وإلا فمن لازمه أنه يكره الإسرار بالصدقة ويحب إظهارها لما عنده من العظمة والمحبة لها ولجهله بالله تعالى فإنه لا يعامل الله إلا من يعرف عظمة الله تعالى . وقد صحبني شخص من ذوي الأموال فذكرت له ما ورد في صدقة السر من الأحاديث فقال لي تبت إلى الله تعالى عن إظهار شيء من الصدقات للناس ورؤية المنة على آخذيها فقلت له : هذا لا يكون إلا بعد سلوك الطريق فقال لي قد تحققت بحمد الله بذلك فأرسلت له فقيرا سرا وقلت له اسأله في دينار ولا تسأله إلا ليلا أو حيث لا يعلم بذلك أحد فسأله فأعطاه الدينار فلم يزل به أبو مرة يوسوس له بإظهار ذلك حتى جاءني وصار يذكر شدة احتياج الناس إلى الصدقة في هذا الزمان إلى أن جاء إلى ذلك الفقير وقال إن فلانا محتاج وقد بلغنا أنه جاء إلى بعض التجار وسأله دينار فأعطاه له ثم لم يزل له إبليس حتى ذكره لي وقال إنما ذكرته لك يا سيدي لكوني لا أحب أخفي عنك شيئا فانظر كيف أخرجه إبليس من صدقة السر وأوقعه في تزكية نفسه ودعوى أنه لا يخفي عني شيئا من أحواله ولو أني قلت له أعلمني بعدد ما عندك من الدنيا ما سمح بذلك فوالله لقد صار الصدق أعز من الكبريت الأحمر ولو أنه كان دخل طريق الفقراء من بابها على يد شيخ لصار دخوله النار أهون عليه من إظهار ما أمره الله بكتمه
قلت : وقد بلغنا أن شخصا صام أربعين سنة لا يشعر به أحد فلم يزل به إبليس حتى أوقعه في التحدث بها وذلك أن إبليس جاء إلى القصاب في هيئة فقير وفي عنقه سبحة وعلى كتفه سجادة وصار يقول للجزار أعطني هذه القطعة اللحم المليحة لأن لي ثلاثة أيام صائما فلم يزل يكرر ذلك حتى تحرك في قلب ذلك العابد داعية إلى إظهار صومه وقال اكتم صومك أنت أفضل لك فإني صائم أربعين سنة ما شعر بذلك أحد فقال له إبليس أنا إبليس وما لي حاجة باللحم إلا حتى أوقعتك في إظهار صيامك ثم قال له إبليس كيف تقول لي اكتم صومك فإنه أفضل وتقع أنت في إظهاره ؟ فندم العابد وفارقه إبليس . واعلم أني ما رأيت في عمري كله أكثر صدقة سرا من شيخنا شيخ الإسلام زكريا شارح البهجة والشيخ شهاب الدين ابن الشلبي الحنفي لا تكاد تجدهما يظهران من صدقتهما شيئا . وقد جاء شخص من الأشراف إلى شيخنا الشيخ زكريا وقال له يا سيدي قد خطفوا عمامتي الليلة فأعطني ثمن عمامة فأعطاه فلسا فرده الشريف فأخذه الشيخ فقلت له إن الفلس لا يكفي في مثل ذلك فقال الذنب له الذي جاء بحضرة الناس وقد رغبني الله تعالى في الإسرار بالصدقة فلا أظهر ذلك لأحد من الخلق ولو أنه جاء من غير أن يكون عندي أحد لأعطيته ثمن العمامة أو أكثر لأجل جده صلى الله عليه و سلم ثم لقيت الشريف بعد ذلك فأخبرته بما قال الشيخ فقال : إن الشيخ أرسل لي عمامة في الليل وهاهي على رأسي
وكذلك بلغنا عن سيدي علي النبتيتي بن الجمال أنه كان يرسل كل سنة المائة حمل قمحا وأرزا وغير ذلك إلى مكة في البحر ويسافر هو في البر مع الحجاج ثم يجلس يبيعها في المسعى ويخبر بالسعر الغالي زيادة على الناس وينظر فكل من اشترى منه بالزيادة على السعر يعرف أنه مضطر فيعطيه ما اشتراه بلا ثمن ويأمره بالكتمان فعلم بذلك غالب أهل مكة فكان يعطيهم كذلك حتى أنه لم يأخذ درهما واحدا في بعض السنين فقيل له إن كان ولا بد لك من العطاء للناس بلا ثمن فتصدق أنت به فقال البيع أستر لنا من الصدقة وكذلك كان يفعل في الثياب التي يفرقها يأمرهم بالكتمان فيها وكل من تكلم بذلك يرسل يأخذ الثوب منه ويقول : يا ولدي غلطنا والثوب لشخص غيرك حتى لا يصير يتكلم بعد ذلك بشيء . وكان أخي أفضل الدين رحمه الله يأخذ صدقات أصحابه ويجمعها عنده للفقراء ويقول لهم : إن جماعة من التجار أرسلوا لي على اسمكم شيئا من الفضة والذهب لأفرقه عليكم ثم يخلط على ذلك أضعافه ويفرقه عليهم بحيث لا يعلم أحد من الخلق بذلك ولولا أني رأيته فعل ذلك وهو لا يشعر بي ما أعلمني به وكان بعض من لا يعرف مقامه يتهمه بأنه اختلس من مال الفقراء لنفسه ويبلغه ذلك عنه فيتبسم ولا يجب عن نفسه شيئا . فبهدى هذه الأشياخ يا أخي اقتده بمضاعفة الأجور ورضا الرب والله يتولى هداك : { وهو يتولى الصالحين } (1/70)
- روى الإمام أحمد والترمذي واللفظ له وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ من منح منحة لبن أو ورق أو أهدى رفاقا كان له مثل عتق رقبة ] ] . ومعنى قوله منحة ورق : عني به قرض الدرهم وقوله أو أهدى رفاقا : عني به هداية الطريق وإرشاد السبيل . وروى الطبراني إسناد حسن والبيهقي مرفوعا : [ [ كل قرض صدقة ] ] . وروى الطبراني وابن ماجه والبيهقي مرفوعا : [ [ دخل رجل الجنة فرأى على بابها مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر ] ] . قال بعضهم : وذلك أن الصدقة قد تقع في يد غني في الباطن والقرض لا يأخذه إلا محتاج . وروى مسلم وابن ماجه والترمذي وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرة إلا كان له كصدقتها مرتين ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نقرض كل من استقرضنا من المحتاجين سواء كان مشهورا بحسن المعاملة أم لا امتثالا لقول الله تعالى : { أقرضوا الله قرضا حسنا } . ومن أقرض الله تعالى من الخلق لا يطلب جزاء
واعلم يا أخي أن الله تعالى لم يأمر بالقرض إلا الأغنياء فهم الذين فازوا بلذة خطاب الله تعالى بقوله لهم : { أقرضوا } . وأما الفقراء ففاتتهم تلك اللذة وذلك الأجر ومن هنا سارع الأكابر من الأولياء إلى التكسب والتجارة والزراعة والحرفة ليفوزوا بلذة ذلك الخطاب لا لعلة أخرى من طلب ثواب أو غيره قال تعالى : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } . فوصفوا بالرجولية لأجل أكلهم من كسبهم وإقراضهم من فواضل كسبهم كل محتاج ومفهومه أن من لا كسب له والناس ينفقون عليه فهو من جنس النساء وإن كان له لحية كبيرة وسجادة وعذبة ومرقعة وشفاعات عند الحكام وغير ذلك وليس له في الرجولية نصيب قال تعالى : { الرجال قوامون على النساء }
واعلم أن طلب التلذذ بخطاب الله تعالى كما ذكرنا محمود بالنسبة لمن هو تحته في المقام وإلا فلله تعالى رجال يتوبون من التلذذ بخطاب الله تعالى إلا على وجه الشكر لا غير فإن من كان الباعث له التلذذ بخطاب الله تعالى فهو عبد لذته لا يكون عبد الله تعالى . وقد أخبرني أخي أفضل الدين رحمه الله أنه كان يقوم الليل مدة كذا وكذا سنة وهو لا يشعر به أحد قال : فكنت أظن بنفسي الإخلاص في ذلك فسمعت هاتفا يقول : إنما تقوم الليل للذة التي تجدها حال مناجاتك ولولا هي ما قمت للحق بواجب عبوديته قال : فاستغفرت الله تعالى وتجردت من تلك اللذة وعلمت أن تلك اللذة تجرح في إخلاصي فالحمد لله رب العالمين
فاعلم أنه لا يقدح في شيخ الزاوية أن يكون تاجرا ولا زراعا بل ذلك أكمل له . فإياك يا أخي أن تنكر على فقير الكسب والتجارة والزراعة أو معاملة الناس أواخر عمره وتقول فلان كان من الصالحين أول عمره وقد ختم عمره بمحبة الدنيا وشهواتها بعد أن كان زاهدا فيها وفي أهلها فربما يكون مشهد ذلك الفقير ما قلناه أو غير ذلك من النيات الصالحة فإن زهد الكمل ليس هو بخلو اليدين من الدنيا وإنما هو بخلو القلب ولا يتحقق لهم كمال المقام إلا بزهدهم فيما بأيديهم وتحت تصريفهم من غير حائل يحول بينهم وبين كنزه . وأما زهدهم مع خلو اليد فربما يكون لعلة الفقر . وقد قالوا : من شرط الداعي إلى الله تعالى أن لا يكون متجردا عن الدنيا بالكلية بأن تخلو يده منها وذلك لأنه يحتاج ضرورة إلى سؤال الناس إما بالحال وإما بالمقال وإذا احتاج إلى الناس هان عليهم وقل نفعهم به بخلاف ما إذا كان ذا مال يعطي منه المحتاجين من مريده وغيرهم فإن فقد الحال الذي يميل به قلوب المريدين إليه كان معه المال يميلهم إليه به ومن لا حال له ولا مال لا ينفعه المقال وفي الحديث : عز المؤمن استغناؤه عن الناس وشرفه في قيام الليل . وممن جاهد نفسه بالتجرد عن الدنيا زمانا طويلا ثم مسك الدنيا من أشياخ العصر وتاجر فيها الشيخ عبدالرحيم البيروتي والشيخ علي الكازروني نفعنا الله ببركاتهما فأساء الناس بهما الظن وأخرجوهما عن دائرة الفقراء والحال أنهما الآن أكمل مما كانا عليه في بدايتهما على ما قررناه آنفا . فإياك يا أخي وسوء الظن بأهل الطريق أو بمن لبس الزيق والله يتولى هداك : { وهو يتولى الصالحين } . ومن محك صدق من طلب الدنيا لله تعالى طلبا للفوز بلذة خطابه أن لا يشح بشيء منها على محتاج إليه لأن من أحب شيئا وتلذذ به أحب تكراره ومتى تكدر من كثرة السائلين لما عنده فهو كاذب في دعواه أنه يحب الدنيا للالتذاذ بخطاب الله أو لنفع عباد الله فاعلم ذلك واخرج بقولنا أن لا يشح ما لوشح ومنع لحكمة شرعية فإن ذلك لا يقدح في صدقه . { والله غفور رحيم } (1/71)
- روى مسلم والطبراني مرفوعا : [ [ من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه ] ] . وفي رواية للطبراني : [ [ من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة وأن يظله تحت ظل عرشه فلينظر معسرا ] ] . وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا أعملت من الخير شيئا ؟ قال : لا قالوا تذكر قال : كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجاوزوا عن الموسر فقال الله تجاوزوا عنه ] ] ومعنى تجوزوا عن الموسر : أي خذوا ما تيسر معه بقرينة الحديث الآتي . والله أعلم . وفي رواية للشيخين : [ [ كان رجل يداين الناس وكان يقول لفتاه : إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فلقي الله فتجاوز عنه ] ] . وفي رواية للنسائي مرفوعا : [ [ أن رجلا لم يعمل خيرا قط وكان يداين الناس فيقول لرسوله خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا فلما هلك قال الله له ؟ هل عملت خيرا قط ؟ قال لا إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس فإذا بعثته يتقاضى قلت له خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا قال الله تعالى قد تجاوزت عنك ] ] وروى الإمام أحمد وغيره مرفوعا : [ [ من أنظر معسرا قبل أن يحل الدين فله كل يوم مثله صدقة فإذا حل فأنظره فله كل يوم مثليه صدقة ] ] . وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين . وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ] ] . وروى الترمذي وقال حسن صحيح مرفوعا : [ [ من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ] ] . ومعنى وضع له : أي ترك له شيئا مما له عليه . وروى ابن أبي الدنيا والطبراني مرفوعا : [ [ من أنظر معسرا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته ] ] والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا كان لنا دين على معسر أن ننظره ونضع عنه امتثالا لأمر الشارع صلى الله عليه و سلم وطلبا لمرضاته فإنه لا يأمرنا قط إلا بما فيه النفع لنا في الدنيا والآخرة لكن بشرط الإخلاص لنهيه صلى الله عليه و سلم عن الرياء والسمعة فربما سامح أحدنا المعسر ببعض ما عليه بحضرة الناس ليقال ولو أنه لم يعلم به إلا الله تعالى لربما كان يثقل عليه ولا ينشرح له صدره فلينتبه من يفعل المعروف لمثل ذلك ويفتش نفسه التفتيش المبرئ للذمة فمن حاسب نفسه في هذه الدار خف حسابه في الدار الآخرة وإن وقع له حساب فإنما هو في أمور لم يحاسب نفسه عليها في دار الدنيا . واعلم أنه ليس مراد الحق تعالى بالحساب إلا إقامة الحق على العبد وبيان فضله وحلمه عليه لا غير وإلا فالعبد ليس معه شيء يدفعه لسيده فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك : { وهو يتولى الصالحين } (1/72)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ ما من يوم يصبح على العباد إلا وملكان ينزلان من السماء فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ] ] . ولفظ رواية ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ما من يوم يصبح على العباد إلا وملك بباب من أبواب الجنة يقول : من يقرض اليوم يجد غدا وملك بباب آخر يقول : اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا ] ] . وكذلك رواه الطبراني إلا أنه قال : بباب السماء . قلت : قال بعض المحققين : والمراد بقول الملك اللهم أعط ممسكا تلفا . أي إنفاقا في وجوه الخير لأن الملك من عالم الخير فلا يدعو بفساد كما يقال فلان أتلف نفسه وماله في مرضاة الله تعالى وأما على ما يتبادر إلى الأذهان فالمتلف لماله إنما عليه الإثم وهو يدعو بالإثم فافهم . والله تعالى أعلم
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ قال الله عز و جل أنفق أنفق عليك ] ] . وروى مسلم والترمذي مرفوعا : [ [ ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف ] ] . والكفاف ما كف من الحاجة إلى الناس مع القناعة لا يزيد على قدر الحاجة والفضل ما زاد على قدر الحاجة
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها ] ] قال أبو هريرة : فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول بإصبعه هكذا في جنته يوسعها . والجنة بضم الجيم والنون : كل ما وقى الإنسان وتضاف إلى ما يكون منفعة وقلصت : أي انجمت وتشمرت وهو ضد استرخت وانبسطت . قال الحافظ المنذري : والمراد بالجنة هنا الدرع لأنه يجن المرء ويستره ومعنى الحديث : أن المنفق كلما أنفق طالت عليه وسبغت حتى تستر بنان رجليه ويديه والبخيل كلما أراد أن ينفق لزقت كل حلقة بمكانها فهو يوسعها ولا تتسع شبه صلى الله عليه و سلم نعمة الله ورزقه بالجنة . وفي رواية بالجبة بالباء الموحدة فالمنفق كلما أنفق اتسعت عليه النعم وسبغت ووفرت حتى تستره سترا كاملا شاملا والبخيل كلما أراد أن ينفق منعه الحرص والشح وخوف النقص فهو يمنعه طلبا للمزيد والسعة زيادة على ما عنده فلا تزيد النعم عليه ولا تتسع ولا يستر بها ما يريد ستره . والله أعلم
وروى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لقيس بن سلع الأنصاري : أنفق ينفق الله عليك قالها ثلاث مرات . وكان يقلل النفقة فأنفق فصار أكثر أهله مالا
وروى البزار بإسناد حسن والطبراني : أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على بلال وعنده صبر من تمر فقال ما هذا يا بلال ؟ قال أعددته لأضيافك قال : أما تخشى إن يكون لك دخان من جهنم أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا . وفي رواية للطبراني : أما تخشى أن يكون لك بخار في جهنم
وروى الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأسماء بنت أبي بكر : لا توكي فيوكأ عليك . وفي رواية لهما : أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك . قال الخطابي ومعنى لا توكي لا تدخري والإيكاء : سد رأس الوعاء بالوكاء وهو الرباط الذي يربط له . يقول لا تمنعي ما في يدك فيقطع الله مادة بركة الرزق عليك
وروى البزار والحاكم وقال صحيح الإسناد عن بلال قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا بلال مت فقيرا ولا تمت غنيا . [ فقلت ؟ ؟ ] وكيف لي بذلك ؟ قال : ما رزقت فلا تخبأ وما سئلت فلا تمنع . فقلت : يا رسول الله وكيف لي بذلك ؟ قال : هو ذاك أو النار
وروى الطبراني بإسناد حسن أن طلحة بن عبيدالله جاءه مال كثير في يوم فقال لغلامه أدع لي قومي فدعاهم فقسمه عليهم ولم يبق لنفسه شيئا وكان أربعمائة ألف
وروى الطبراني أن عمر بن الخطاب أرسل أربعمائة دينار مع الغلام إلى أبي عبيدة بن الجراح وقال للغلام تلبث عنده في البيت ساعة لتنظر ما يصنع فذهب بها الغلام إليه وقال أمير المؤمنين يقول لك اجعل هذه في بعض حوائجك فقال وصله الله ورحمه ثم قال تعالى يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان وبهذه الخمسة أيضا إلى فلان حتى أنفذها كلها ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال اذهب بهذه إلى معاذ ابن جبل وقف في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع فذهب بها الغلام وقال : يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجاتك فقال رحمه الله ووصله ثم قال تعالى يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا وإلى بيت فلان بكذا فاطلعت امرأة معاذ فقالت ونحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فأرسلهما إليها ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك وقال إنهم أحوج بعضهم من بعض
وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن سهل قال : كانت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعة دنانير فوضعها عند عائشة فلما كان عند مرضه قال : يا عائشة ابعثي بالذهب إلى علي . ثم أغمي عليه وشغل عائشة حتى قال ذلك مرارا كل ذلك ويغمى على رسول الله صلى الله عليه و سلم ويشغل عائشة ما به فبعث إلى علي فتصدق بها وأمسى رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديد الموت ليلة الاثنين فأرسلت عائشة بمصباح لها إلى امرأة من نسائها فقالت : اهدي لنا في مصباحنا من عكتك السمن فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمسى في حديد الموت
وروى الطبراني والإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح عن أبي ذر قال : إن خليلي صلى الله عليه و سلم عهد إلي قال : إن كل ذهب أو فضة أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله . وقالت له الجارية يوما دعني أثبت عندنا هذه السبعة دنانير لما ينوبك من الحوائج أو لما ينزل بك من الضيوف فأبى . وفي رواية للطبراني مرفوعا : من أوكأ على ذهب أو فضة ولم ينفقه في سبيل الله كان جمرا يكوى به
وروى أبو يعلي والبيهقي عن أنس ورواته ثقات قال أهدي للنبي صلى الله عليه و سلم ثلاث طوائر فأطعم خادمه طائرا فلما كان من الغد أتت الخادم بها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد فإن الله تعالى يأتي برزق غد
وروى ابن حبان في صحيحه والبيهقي عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يدخر شيئا لغد
وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : إني لألج هذه الغرفة ما ألجها إلا خشيت أن يكون فيها مال فأتوفى ولم أنفقه . والغرفة العلية
وروى البزار مرفوعا : ما أحب أن لي أحدا ذهبا أبقى صبح ثالثة وعندي منه شيء إلا شيئا أعده لدين
وروى الإمام أحمد والطبراني أن رجلا توفى على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم من أهل الصفة فلم يوجد له كفن فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : انظروا إلى داخل إزاره فوجدوا دينارا أو دينارين فقال : كيتان أو كية من نار . وفي رواية : فوجدوا دينارا فقال : كية من نار . قال الحافظ المنذري : وإنما جعل صلى الله عليه و سلم ذلك الدينار أو الدينارين كيتين أو كية من نار لأنه ادخر مع تلبسه بالفقر ظاهرا وشارك الفقراء فيما يأتيهم من الصدقة والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ننفق جميع ما دخل يدنا من المال على أنفسنا وعيالنا وأصحابنا وغيرهم ولا ندخر منه شيئا إلا لغرض صحيح شرعي لا تلبيس فيه وكذلك نبادر بالصدقة لكن بنية صالحة من غير تهور فيها وعلى السائل الصبر حتى تحرر النية ولا ينبغي له المبادرة إلى سوء الظن ورمينا بالبخل ولو مكثنا شهرا حتى نجد لنا نية صالحة وهذا العهد يخل به كثير من الناس فلا المعطي يتربص حتى يجد نية ولا الفقير يصبر : وخلق الإنسان عجولا
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ ناصح يخرجه من شح الطبيعة إلى حضرة الكرم حتى لا يشح على محتاج إلا لحكمة دون بخل ومن لم يسلك فلا سبيل له إلى العمل به ولو صار من أعلم الناس فإن العلم بمجرده محتف بآفات يتيه بها العبد عن طريق الوصول إلى العمل بما علم
ومن كلام سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه : إنما احتاج العلماء إلى شيخ يربيهم مع ذلك العلم العظيم الكثير لعدم إخلاص نيتهم فيه ودخول الإعجاب فيه وطلب أحدهم أن يصرف وجوه الناس إليه ولو أنهم سلموا من الآفات وأتوا حضرة العمل بلا علة لنارت قلوبهم بالعلم وأشرفوا على حضرة الله عز و جل ولهان عليهم بذل نفوسهم في مرضاة الله تعالى فضلا عن شيء من أعراض الدنيا
فلا تطمع يا أخي بهذا العهد بنفسك من غير شيخ تقتدي به فإن ذلك لا يصح لك بل من شأنك أن تكون جموعا منوعا حتى تموت كما هو مشاهد في غالب الناس حتى رأيت بعض الناس وهو يسأل من بعض شيوخ العرب الظلمة أن يرتب له خبزا من صدقته فقلت له في ذلك فقال : الضرورات تبيح المحظورات فقومت ثيابه وفرسه فوجدت ثمنها نحو ألفين ونصفا فقلت له : أين الضرورة ؟ فما دري ما يقول : فسألت عنه بعض من يعامله فوجدت له مع الناس نحو عشرة آلاف دينار فقلت له : أتلبس على الله ما هو مليح ؟ فقال لي : كان الواحد من الصحابة يملك العشرة آلاف دينار أو أكثر فقلت له وكان مع ذلك لا يدخرها عن محتاج فلم يجد جوابا ولو أنه كان سلك طريق أهل الله تعالى لأغناه الله عن السؤال بمال حلال أو بقناعة وذلك أن السالك على مصطلح أهل الله تعالى طريقة الذكر ومن خاصيته جلاء القلب من ظلمات الرعونات النفسانية حتى يشرف على الجزاء الجسماني أو الروحاني الذي وعد الله به المنفقين والمتصدقين في الدار الآخرة فإذا أشرف على ذلك صغرت عنده الدنيا بأسرها فيصير يبادر لإنفاقها ولو منعوه جهرا أنفق سرا لما يرى لنفسه في ذلك من المصلحة ولا هكذا من يعلم أحكام الله على التقليد مع تعاطي شهوات النفوس من أكل وشرب ولباس ومركب ومنكح وغير ذلك من الأمور التي لا تكمل له إلا بالدنيا فلا يكاد ينفق شيئا من مرضاة الله تعالى إلا إن اكتفت نفسه من شهواتها والشهوات لا قرار لها إذ كل شهوة تجذبه إليها ولو كان له في كل يوم مائة دينار ما كفته
واعلم يا أخي أنه قد ورد : إن العبد ليرزق سنة في شهر فإن رفق به كفاه وإلا احتاج في بقية سنته وإن العبد ليرزق رزق شهر في جمعه فإن رفق به كفاه وإلا احتاج في بقية الشهر وإن العبد ليرزق رزق جمعة في يوم فإن رفق به كفاه وإلا احتاج في بقية جمعته . وهذا محمول على من كان ضعيف اليقين كما يدل عليه نحو قوله صلى الله عليه و سلم لكعب بن مالك : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك . وقوله لبلال : أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا فافهم
فلا ينبغي لمن معه ما يزيد على حاجته أن يتصدق به إلا إن يكون قوي اليقين من الأغنياء أو من المتجردين . أما من يأكل من كسب ربحه فله أن يمسك رأس ماله وما بقي من ربحه ينفقه على الأقارب وغيرهم وربح الألف الآن خمسة أنصاف كل يوم للعامل فمن لا يكفيه لنفقته ونفقة عياله وضيوفه كل يوم إلا عشرة أنصاف فله أن يمسك الألفي دينار أو أكثر بحسب حاجته ومن يكفيه كل يوم نصف فله أن يمسك نصفا وقس على ذلك وليس اللوم إلا على من يجمع ويمنع نسأل الله اللطف
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لكل خلق من أخلاق النبوة كرب في مقابلة تركه يوم القيامة فمن لم يطعم لله جاء يوم القيامة جيعانا ومن لم يسق الماء لله جاء يوم القيامة عطشانا ومن آذى الناس جاء يوم القيامة يؤذي ومن لم يستر مسلما لله جاء يوم القيامة مهتوكا مكشوف السوءة على رؤوس الأشهاد ومن لم يسامح أحدا في حقه كان يوم القيامة تحت أسر من له عليه حق ومن ازدرى بالناس ازدري هناك وهكذا فلا يجني أحد إلا ثمرة عمله في الدنيا والآخرة كما ستأتي الإشارة إلى ذلك في أحاديث العهد الثالث إن شاء الله تعالى
ومن وصية سيدي سالم أبي النجاء الفوي ؟ ؟ رضي الله عنه لأصحابه وهو محتضر : اعلموا يا إخواني أن الوجود كله في الدنيا والآخرة يعاملكم بحسب ما برز منكم من الأعمال فانظروا كيف تكونون . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/73)
- وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها بما اكتسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا ] ]
وفي رواية إذا تصدقت بدل أنفقت
وروى أبو داود أن أبا هريرة سأل عن تصدق المرأة من بيت زوجها قال : لا إلا من قوتها والأجر بينهما ولا يحل لها أن تتصدق من مال زوجها إلا بإذنه فزاد الحافظ وزين العبدري في جامعه فإن أذن لها فالأجر بينهما فإن فعلت بغير إذنه فالأجر له والإثم عليها
وروى أبو داود والنسائي مرفوعا : [ [ لا يجوز لامرأة قط عطية إلا بإذن زوجها ] ]
وروى الشيخان وغيرهما عن أسماء بنت أبي بكر قالت : يا رسول الله ما لي مال إلا ما أدخل به على الزبير أفأتصدق ؟ فقال : تصدقي ولا توعي فيوعي الله عليك ] ]
وفي رواية لهما أنه صلى الله عليه و سلم قال لها : ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك
وروى الترمذي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في خطبة عامة حجة الوداع لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها قيل يا رسول الله ولا الطعام قال : ذلك أفضل أموالنا . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نأذن لزوجاتنا في التصدق بما جرت به العادة من ما لنا ولا نمنعهن من ذلك طلبا لنزول الرحمة على بيتنا في غيبتنا وحضورنا ولتدوم النعمة أيضا علينا وهذا العهد يخل به كثير من الناس فيمنع زوجته أن تتصدق برغيف أو مغرفة طعام على فقير فيكون ذلك سببا لتضييق الرزق على أهل البيت وكذلك لا نمنعها أن تقري الضيف في غيبتنا على طريق العرب العرباء لكن من غير مخالطة للضيوف والأجانب وقد كان على هذا القدم سيدي الشيخ عثمان الحطاب والحافظ الشيخ عثمان الديمي فكان كل منهما يذهب إلى بيت الآخر في غيبته ويجلس مع امرأة أخيه وتخرج له ما يأكل وما يشرب فكانا من أولياء الله تعالى ( 1 )
_________
( 1 ) الخلوة محرمة بالاتفاق وهذا الكلام يخالف طريقة الإمام الشعراني في تقديم ظاهر السنة على الرأي والتأويل ويستغرب تعليله " فكانا من أولياء الله تعالى " إذ الأولى منه الإنكار عليهما كدأبه رحمه الله وغفر لنا وله آمين فجل من لا يخطئ . دار الحديث
_________
لكن أنى لنا في هذا الزمان أن يظفر أحدنا بأخ صالح يأمنه على الخلوة بعياله بحيث لا يتخلله تهمة فيه فوالله لقد قل الصادقون الذين يؤتمنون على مثل ذلك فنوصي عيالنا أن يخرجوا للضيف ما يأكل وما يشرب مع الخادم ولا يختلطن به
واعلم يا أخي أنه كلما كثر طعامك للناس كلما كثرت النعمة عليك فإن الله تعالى يسوق لكل عبد من الرزق بقدر ما يعلم في قلبه من السخاء والكرم فمنهم من يكون عنده قوت خمسة أنفس ومنهم من يكون عنده قوت عشرة وهكذا إلى الألف نفس أو أكثر فتعرف مراتب الناس في الكرم بقدر عيالهم وقد يكون بعض الأولياء يطلب لنفسه الخفاء والتجرد فلا يكون عنده أحد وهو في غاية الكرم ويود أن لو كان كل من في الدنيا عائلته فمثل هذا يعطيه الله تعالى في الآخرة أجر من عال جميع الخلق وراثة محمدية فيحصل له هذا الثواب العظيم مع الخفاء وعدم الشهرة فإن الله هو الرزاق للعبد ومن كان هذا مشهده فكثرة العيال وقلتهم عنده سواء لا يتحمل هما من جهتهم أبدا ولو أنهم كلهم كانوا متوجهين إلى الله دونه ما تأثر من جهتهم قط ولا حمل هما من جهتهم أبدا وإنما يلحقه بعض كرب إذا توجهت العائلة إليه من حيث كونه واسطة مع عدم شهودهم أن الله هو الرزاق فيقصرون أجرهم على ذلك العبد فيؤثرون فيه الضيق والكرب حتى يصل إليهم رزقهم الذي قسمه الله لهم على يده ولو أنهم كلهم كانوا متوجهين إلى الله دونه ما تأثر من جهتهم قط ولا حمل هما
وقد كان سيدي أحمد الزاهد يقول : وعزة ربي لو كان أهل مصر كلهم عيالي ما طرقني هم أبدا لعلمي بأن القسمة وقعت في الأزل فلا زيادة ونقص ولا يقدر أحد يأكل لقمة قسمت لغيره وتعويق الرزق عن العبد إنما هو تأديب له أو اختبار أو رفع درجة . قلت : وقد من الله تعالى علينا بذلك فلو كان جميع من في الأرض كلهم عيالي ما اهتممت لهم إلا من جهة توجههم إلى قصور بصرهم أو لكونهم لا يستحقون ما طلبوه مني لتركهم الصلاة وتعديهم الحدود ونحو ذلك فالحمد لله رب العالمين . ولا تصل يا أخي إلى العمل بهذا العهد إلا بالسلوك على يد شيخ مرشد يوصلك إلى شهود ما ذكرناه وإلا فمن لازمك الاهتمام بالرزق وترادف الأوهام المكدرة عليك حتى لا تكاد ترجع إلى شهود أن الله تعالى فرغ من قسمة الرزق إلا بعد تأمل وتفكر وهناك تعلم أن إيمانك مدة الاهتمام بالرزق ناقص وأنه يجب عليك تجديد إيمانك كلما حصل عندك اهتمام بالرزق ولو أنك سلكت الطريق لم يطرقك اتهام الله تعالى ولا اهتمام بما وعد الله بحصوله لك أو لغيرك ولا منعت زوجتك من الصدقة في ليل أو نهار إلا لعذر شرعي . فاسلك يا أخي على يد شيخ يخرجك من ظلمات الاتهام والأوهام والله يتولى هداك : { وهو يتولى الصالحين } (1/74)
- روى الشيخان وغيرهما أن رجلا قال : يا رسول الله أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام وتقري السلام على من عرفت ومن لم تعرف
وروى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة قال : قلت يا رسول الله أخبرني بشيء إذا عملته دخلت الجنة قال : أطعم الطعام وأفش السلام وصل الأرحام وصل بالليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام
وروى أبو الشيخ مرفوعا : خياركم من أطعم الطعام
وروى الحاكم والبيهقي مرفوعا : [ [ من موجبات الرحمة إطعام المسلم المسكين ] ] . وفي رواية : من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان يعني الجائع
وروى الطبراني وأبو الشيخ والحاكم والبيهقي وقال الحاكم صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ من أطعم أخاه حتى يشبعه وسقاه حتى يرويه باعده الله من النار سبع خنادق ما بين كل خندقين مسيرة خمسمائة عام ] ]
وروى البيهقي وغيره مرفوعا : [ [ أفضل الصدقة أن تشبع كبدا جائعا ] ]
وروى ابن أبي الدنيا وغيره مرفوعا موقوفا عن ابن مسعود والوقف أشبه قاله الحافظ المنذري : [ [ يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط وأجوع ما كانوا قط وأظمأ ما كانوا قط فمن كسى لله عز و جل كساه الله عز و جل ومن أطعم لله عز و جل أطعمه الله عز و جل ومن سقى لله عز و جل سقاه الله عز و جل ] ]
وروى أبو الشيخ مرفوعا : [ [ إن الله تعالى يباهي ملائكته بالذين يطعمون الطعام من عبيده ] ]
وروى الطبراني أن النبي صلى الله عليه و سلم أتاه رجل فقال : ما عمل إن عملته دخلت الجنة ؟ فقال : أنت ببلد تجلب الماء قال نعم ؟ قال فاشتر بها سقاء جديدا ثم اسق فيها حتى تخرقها فإنك إن تخرقها تبلغ بها عمل الجنة
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات مشهورون أن رجلا قال : يا رسول الله إني أفرغ في حوض حتى إذا ملأته لإبلي ورد علي البعير لغيري فسقيته فهل لي في ذلك من أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ في كل ذات كبدا حرا أجر ] ]
وروى الشيخان مرفوعا : [ [ بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر فوجد بئرا ونزل فيها وشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني ؟ فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر له فغفر له ] ] . وفي رواية : فأدخله الجنة
وروى أبو داود واللفظ له وابن ماجه وغيرهما أن سعد بن عبادة قال : يا رسول الله إن أمي ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال الماء . فحفر بئرا وقال هذه لأم سعد . وفي رواية للطبراني فقال عليك بالماء
وروى البخاري في تاريخه وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ من حفر بئرا ماء لم يشرب منه ذو كبد حراء من جن ولا إنس ولا طائر إلا أجره الله يوم القيامة ] ] . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ من سقى مسلما شربة ماء حيث يوجد الماء فكأنما أعتق رقبة ومن سقى مسلما شربة ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نطعم الطعام لكل من ورد علينا ونسقي الماء كذلك ولا نتوقف على استحقاقه لذلك إلا بطريق شرعي تخلقنا بأخلاق الله عز و جل فإنه يرزق البر والفاجر وممن أدركناه على هذا القدم الشيخ محمد بن عنان والشيخ يوسف الحريثي والشيخ عبدالحليم بن مصلح والشيخ أبو الحسن الغمري والشيخ محمد الشناوي الأحمدي رضي الله عنهم فكان طعامهم وشرابهم لكل وارد وكان الشيخ يوسف الحريثي إذا لم يحضر عنده طعام لا يدع الضيف يخرج من عنده حتى يسقيه الماء . وقد قدمنا أن السخاء هو خلق الله الأعظم
ويحتاج من يعمل بهذا العهد إلى شيخ يخرجه من ظلمات البخل إلى حضرة الكرم ويخرجه من الآفات التي تطرق الكريم من شهود فضله على الناس الذين يطعمهم وحب المدحة على ذلك في المدائن وقراها فقل كريم هذا الزمان أن يخلص من هذه الورطة بل غالب الكرام وجلوا في حب المدح بالكرم وحب تفضيلهم على أقرانهم بذلك
فاسلك يا أخي الطريق على يد شيخ وإلا فمن لازمك الآفات وذلك لتطعم لله وتمنع لله وترى على الكشف وللشهود أن جميع ما أنت فيه من النعم هو كله لله تعالى جعله الله تعالى لعباده على يديك ليس لك تعمل في تحصيله إنما أنت خازن استأمنت الملك على أرزاق عباده فلو سجدت لله على الجمر أبد الآبدين ما أديت شكر ذلك وقد عم غالب الفقراء في هذا الزمان العلل في أعمالهم وأخلاقهم لقلة من يربيهم أو لقلة سماعهم لمن يربيهم فصار المطعم يطعم لعلة والمانع يمنع لعلة وصار من لا يطعم الناس يحسد من يطعم الناس ويود أن الله تعالى يحول من ذلك الكريم النعمة وبعضهم يقول : هو يطعم الناس من عنده إنما المنة لله تعالى في ذلك كل ذلك يقصد أن يطفئ نور أخيه بين الناس حسدا وبغيا ولو أنهم فطموا على يد شيخ لحفظهم الله تعالى من تلك الآفات
واعلم يا أخي أن من شأن البشر الملل ممن يحتاج إليه فمن الأدب أن لا يطعم العبد للناس إلا ما سمحت به النفس من غير كلفة ومن تكلف سوف يهرب فحرر النية يا أخي وأطعم الطعام واسق الماء من البحر أو من الصهاريج أو من الآبار حسب الطاقة
وممن رأيته تحقق بهذا المقام سيدي علي الخواص وكان أكثر ملئه الماء لقعاوي ؟ ؟ الكلاب وحيضان بيوت الخلاء . وممن رأيته تبعه على ذلك وزاد عليه أخي العبد الصالح الشيخ أحمد الهنيدي المقيم بناحية منبوبة تجاه بولاق بمصر المحروسة لا يمل من حفر الآبار وسقي الماء وحمله إلى الأسقية تارة يحمله في يديه وتارة على حمارته رضي الله عنه وكان على هذا القدم جدي الشيخ نور الدين الشعرواي كان وظيفته في كل يوم يملأ سبيل الجامع وسبيل الزاوية وسبيلا آخر في وسط البرية يقوم لذلك من الليل فيملؤها قبل الفجر ثم يملأ المطهرة وحيضان بيوت الخلاء كذلك قبل الفجر رضي الله تعالى عنه : كل ميسر لما خلق له
وفائدة ذكرنا مناقب الرجال إنما ليتنبه الفقير لتخلفه عن مقامات الرجال فيعرف نقص نفسه عن العمل بأخلاقهم ولا يقنع بلبس الصوف والجلوس على سجادة يخبط في دين الله تارة بالرأي وتارة بالوهم وتارة يتكلم في الله بما لا يليق بجلاله وعظمته حتى إني سمعت بعضهم يقول : ما ثم موجود إلا الله فقلت له فأنت إيش ؟ فقال كلاما والله لو كان معي شاهد آخر يشهد لذهبت به إلى حكام الشريعة يضربون عنقه ولم يكن هذا الأمر في الأشياخ الذين أدركناهم إنما هو الزهد والورع واتباع السنة المحمدية رضي الله عنهم أجمعين . فإياك أن تجالس من يتكلم في الذات والصفات بغير ما صرحت به الشريعة أو تصغي لقوله والله يتولى هداك : { وهو يتولى الصالحين } (1/75)
- روى أبو داود والنسائي واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما مرفوعا : [ [ من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه ] ] . وفي رواية للطبراني : حتى تعلموا أنكم شكرتموه فإن الله تعالى شاكر يحب الشاكرين . وروى الترمذي وأبو داود وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ من أعطى عطاء فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفر ] ] . وفي رواية للترمذي مرفوعا وقال حديث حسن : من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء . وفي رواية له : [ [ من أسدى إليه بمعروف فقال للذي أسداه جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء ] ] . وروى الإمام أحمد ورواته ثقات والطبراني مرفوعا : [ [ إن أشكر الناس لله تعالى أشكرهم للناس ] ] . وفي رواية لأبي داود والترمذي وقال حديث صحيح : [ [ لا يشكر الله من لا يشكر الناس ] ] . قال الحافظ المنذري : روى هذا الحديث برفع الله وبرفع الناس وروى أيضا بنصبهما وبرفع الله وبنصب الناس وعكسه أربع روايات . وروى الطبراني وابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ من أولى معروفا فليذكره فمن ذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره ] ] . وروى ابن أبي الدنيا وغيره مرفوعا بإسناد لا بأس به : [ [ من لم يشكر القليل لا يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لا يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر ] ] . وروى أبو داود والنسائي واللفظ له : قال المهاجرون يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله ؟ ما رأينا قوما أحسن بذلا للكثير ولا مواساة في القليل منهم ولقد كفونا المؤونة قال أليس تثنون عليهم به وتدعون لهم ؟ قالوا بلى قال : فذاك بذاك . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نشكر كل من أسدى إلينا معروفا ونكافئه على ذلك ولو بالدعاء أدبا مع الشارع في أمره لنا بذلك وقد كثرت الخيانة لهذا العهد من غالب الناس حتى صرت تربي اليتيم إلى أن يصير له أولاد ولا يتذكر لك نعمة ولا يحفظ معك أدبا وصار من وقع له ذلك يحذر من يريد يفعل مثله مع الناس فبتقدير أن المنعم من أولياء الله تعالى لا يلتفت إلى شكره فالمنعم عليه لا يستحق ذلك كما سيأتي والكمل على الأخلاق الإلهية والله عز و جل يحول النعم حين تكفر
فاشكر يا أخي من أسدى معروفا لكن من غير وقوف معه فتراه كالقناة الجاري لنا منها الماء أو كالأجير الذي يغرف لنا من طعام رجل غيره بأجرة جعلها له
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ مرشد حتى يصل به إلى حضرة الإحسان ويرى الأمور كلها لله تعالى كشفا وشهودا ويصير يرى النعم من الله تعالى ببادئ الرأي ولا يضيفها إلى الخلق إلا بعد تأمل وتفكر عكس من لم يسلك الطريق فإنه لا يكاد يشهد النعمة من الله تعالى إلا بعد تفكر وتأمل
فاسلك يا أخي الطريق لتفوز بالأدب مع الله تعالى ومع خلقه كما أمرك فقال تعالى : { أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير } . وقد قرن الله تعالى السعادة بشهود الأمور كلها من الله وقرن الشر بشهودها من الخلق ومقام الكمال في السعادة شهود الأمور كلها ببادئ الرأي من الله خلقا وإيجادا ومن العبد نسبة وإسنادا لأجل إقامة الحدود وكأن لسان الحق تعالى يقول : من قتل نفسا بغير حق فاقتلوه ولو شهدتم أني قدرت عليه ذلك أو أني أنا الفاعل كما قال : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } . فلا يسعنا إلا امتثال الأمر وكذلك الحكم على الزنا وشرب الخمر ونحوهما فكأنه قال تعالى من ظهر من جوارحه كذا فافعلوا به كذا فيقول سمعا وطاعة وأكثر الناس عمي عن تحقيق هذه المسألة فإما يضيفونها إلى الله تعالى فقط أو إلى الخلق فقط لكن من يضيفها إلى الله وحده أكبر أدبا ممن يضيفها إلى الخلق وحدهم غافلا عن الله تعالى
وقد رأيت شخصا من خطاب الجامع الأزهر رسم له السلطان سليم بن عثمان مائة دينار لما صلى الجمعة في الجامع الأزهر وكانت نوبته تلك الجمعة فجاءه رفيقه ومنعه عن الخطبة ذلك اليوم لأجل المائة دينار فصار الخطيب الممنوع يحط على المانع وصرت أقول له : إن الله تعالى لم يقسم لك شيئا فيقول : هذا قد تسبب في قطع رزقي فقلت له : ولو تسبب فليس هو بقاطع إنما هو آلة للقدرة الإلهية والحكم لمن حرك الآلة فحكمت حكم من ضرب بعصا فصار يسب العصا أو غرف له طعام بمغرفة فصار يمدح المغرفة ويشكرها بين الناس وينسى الفاعل بتلك الآلة فهذا حكمه على حد سواء عند أهل التحقيق ولا يخفى ما في ذلك من قلة العقل . ثم قلت له : أين قولك في الخطبة كل جمعة : والله ثم والله لا يعطي ويمنع ويضع ويرفع إلا الله ؟ فقال قطعتني بالحجة ولو أن هذا سلك الطريق وبني أمره على التوحيد الكامل ما توقف في ذلك ولا احتاج إلى مجاهد ولا عادى أحدا عارضه في طريق وصوله إلى رزقه بل كان يرى كل شيء عورض فيه أن الله تعالى لم يقسمه له فلا يتعب نفسه . فاعلم ذلك واسلك طريق القوم إن أردت العمل بهذا العهد على وجه الكمال لتكون من أهل السنة والجماعة والله يتولى هداك { وهو يتولى الصالحين }
واعلم أن كفران النعم للوسائط مما يحولها وإذا حولت فلا يقدر من كفرت نعمته أن تجري لك نعمة على يديه : { سنة الله التي قد خلت في عباده } . لأن كفران النعمة يقطع طريقها فبتقدير أن من كفرت نعمته لا يؤاخذك فأنت لا تستحق تلك النعمة فلا بد من وجود صفة الاستحقاق في المنعم عليه وعدم كفرانه نعمة من كان واسطة فيها من زوج ووالد وسيد ونحوهم وقد كثر كفران النعم في هذا الزمان من الزوجة والأولاد والأرقاء والمريدين وبذلك تعسرت عليهم الأرزاق وكلما تأخر الزمان زاد على الناس الأمر في تعسير الأرزاق وفي تحويلها عنهم بالكلية لقلة الشكر بالعمل من قيام الليل وغيره حتى تتورم منهم الأقدام فإن الشكر بالقول ما بقي يكفي لغالب النعم في هذا الزمان لكون الموازين قد أقيمت فيه على الناس لقرب الساعة وما قارب الشيء أعطى حكمه ولقلة الإخلاص في القول وقد قال تعالى في حق آل داود : { اعملوا آل داود شكرا } . ولم يقل قولوا أل داود شكرا وهذه الأمة المحمدية أولى بأن يشكروا بالعمل لأنهم أعظم نعمة بنبيهم وشريعتهم فليتنبه من كان غافلا عن ذلك ليدوم الماء في مجاريه
وقد كان الشيخ عصيفير المجذوب المدفون بخط بين السورين بمصر كلما رأى حوضا مملوء للبهائم يفتح بالوعته فيسبح على الأرض ويقول للذي يملؤه أنت أعمى القلب فإن أهل هذا الزمان صاروا لا يستحقون رحمة ولا نعمة لكثرة عصيانهم ومخالفتهم فقال يا سيدي : إنما هذا البهائم فقال إنها تحملهم إلى مواضع المعاصي فكان يتكلم على لسان أحوال الزمان بلسان الحقيقة دون لسان الشريعة لكونه مجذوبا وكان مراده مما قاله تنبيه الناس إلى المشي على طريق الاستقامة لتدوم عليهم النعم وإلا فالحق لا يستحقون على الله تعالى شيئا مطلقا وإنما جميع نعمه عليهم من باب الفضل والمنة . والله تعالى أعلم (1/76)
- روى الشيخان وغيرهما واللفظ للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : قال الله عز و جل : [ [ كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر وإذا لقي ربه فرح بصومه ] ] . وفي رواية لمسلم : [ [ كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي ] ] . وفي رواية لمالك وأبي داود والترمذي : وإذا لقي الله عز و جل فجزاه فرح الحديث . قلت : وإنما كان الصائم يفرح بهذين الشيئين لأن الإنسان مركب من جسم وروح فغذاء الجسم الطعام وغذاء الروح لقاء الله . والله أعلم . قال الحافظ : ومعنى قوله الصيام جنة بضم الجيم وما يجن العبد ويستره ويقيه مما يخاف فقال : ومعنى الحديث : إن الصوم يستر صاحبه ويحفظه من الوقوع في المعاصي . والرفث يطلق ويراد به الجماع ويطلق ويراد به الفحش ويطلق ويراد به خطاب الرجل للمرأة فيما يتعلق بالجماع . وقال كثير من العلماء : المراد به في هذا الحديث الفحش ورديء الكلام . والخلوف : بفتح الخاء وضم اللام هو تغير رائحة الفم من الصيام . وروى الطبراني والبيهقي مرفوعا : [ [ الصيام لله عز و جل لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز و جل ] ] وروى الطبراني ورواته ثقات مرفوعا : صوموا تصحوا . وروى الإمام أحمد بإسناد جيد والبيهقي مرفوعا : الصيام جنة وحصن حصين من النار . وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه : الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال . وروى الإمام أحمد والطبراني والحاكم ورواتهم محتج بهم في الصحيح مرفوعا : [ [ الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة . فيقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشراب والشهوة فشفعني فيه ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال فيشفعان ] ] . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم ] ] . وروى البيهقي مرفوعا : [ [ إن للصائم عند فطره لدعوة لا ترد ] ] . وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه واللفظ له وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ثلاث لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر ] ] . وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا ] ] . قال الحافظ : قد ذهب طوائف من العلماء إلى أن الحديث في فضل الصوم في الجهاد وبوب على ذلك الترمذي وغيره وذهبت طائفة إلى أن كل صوم في سبيل الله إذا كان خالصا لله تعالى . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن يكون معظم محبتنا للصوم من حيث كون الله تعالى قال { الصوم لي } لا من حيثية أخرى كطلب ثواب أو تكفير خطيئة ونحو ذلك فإن من عمل لله تعالى كفاه هم الدنيا والآخرة وأعطاه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فضلا عن الثواب وتكفيرا الخطايا وغيرهما من الأغراض النفسانية في الدنيا والآخرة ولم يبلغنا عن الله تعالى أنه قال في شيء من العبادات إنه له خالصا إلا الصوم فلولا مزيد خصوصية ما أضافه إليه
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : معنى قوله تعالى { الصوم لي } يعني من حيث إنه صفة صمدانية ليس فيه أكل ولا شرب ولذلك أمر الصائم أن لا يرفث ولا يفسق ولا يقول الهجر من الكلام أدبا مع الصفة الصمدانية التي تلبس بنظير اسمها
وقال سفيان بن عيينة في معنى قوله تعالى : { كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به } . قال : إذا كان يوم القيامة يحاسب الله تعالى عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم فيحمل الله تعالى ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة وهو كلام غريب
ومن فوائد الصوم أن يسد مجاري الشيطان من بدن الصائم ويصير عليه كالجنة فلا يجد الشيطان من بدنه مسلكا يدخل إلى قلبه منه من العام إلى العام ومن الاثنين إلى الخميس أو من الخميس إلى الاثنين أو من الأيام البيض إلى الأيام البيض أو من الشهر الحرام إلى الشهر الحرام أو من عاشوراء إلى عاشوراء أو من يوم عرفة إلى يوم عرفة كل صوم يكون جنة منه إلى نظيره من الصوم الذي بعده كل جنس بما يقابله فللاثنين دائرة وللخميس دائرة وللأيام البيض دائرة وللشهر الحرام إلى مثله دائرة وليوم عرفة إلى مثله دائرة وليوم عاشوراء إلى مثله دائرة ولكل دائرة حفظ من أمور خاصة بها فلا يصل إبليس إلى العبد ليوسوس له بها كنظيره من الصلاة والزكاة والحج والوضوء والركوع والسجود فلكل منهما ذنوب تكفر بها فلا يكفر عمل ما يكفر غيره من الأعمال ويؤيد ما قلناه خبر مسلم مرفوعا : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إنما كان صوم رمضان شهرا كاملا إما تسعا وعشرين أو ثلاثين لأن أصل مشروعيته كان كفارة للأكلة التي أكلها آدم عليه السلام من الشجرة فأمره الله تعالى بصومه كفارة لها . وقد ورد أنها مكثت في بطنه شهرا حتى ذهبت فضلاتها وورد الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعا وعشرين فافهم
واعلم أن فائدة الصوم لا تحصل إلا بالجوع الزائد على الجوع الواقع عادة في غير رمضان فمن لم يزد في الجوع في رمضان فحكمه كحكم المفطر سواء في عدم سد مجاري الشيطان لا سيما إن تنوع في المآكل والمشارب وأنواع الفواكه وتعشى عشاء زائدا عن الحاجة ثم تعتم بالكنافة أو الحلاوة أو الجبن المقلي ثم تسحر آخر الليل كذلك فإن مثل هذا ينفتح من بدنه للشيطان مواضع زائدة عن أيام الإفطار فتكثر مجاري الشيطان التي يدخل منها إلى هلاكه في مثل هذا الشهر العظيم الذي فيه ليلة القدر خير من ألف شهر وهي مدة أعمار الناس الغالبة وهي ثلاث وثمانون سنة فلو زنت عبادة العبد طول هذا العمر مع أعماله في ليلة القدر لكانت ليلة القدر أرجح من سائر أعماله الخالصة الدائمة التي لا يتخللها فتور فكيف بالأعمال التي دخلها الرياء وتخللها معاص وسيئات وغفلات وشهوات . ومن نظر بعين البصيرة وجد جميع صوم الأيام التي قبل ليلة القدر كالاستعداد والتطهير للقلب حتى يتأهل لرؤية ربه عز و جل في تلك الليلة وأظن غالب كبراء الزمان فضلا عن غيرهم غارقين فيما ذكرناه فيمضي عليهم شهر رمضان وقد زاد قلبهم ظلمة بأكل الشهوات والنوم . وقد كان المؤمن في الزمن الماضي لا يخرج من صوم رمضان إلا وهو يكاشف الناس بما في سرائرهم لشدة الصفاء الذي حصل عنده من توالي الطاعات وعد المخالفات . وسمعت الشيخ إبراهيم عصفور المجذوب رضي الله عنه يقول : والله إن صوم هؤلاء المسلمين باطل لأكلهم عند الإفطار اللحم والحلاوات والشهوات وما عندي صوم إلا صوم القوم الذين يفطرون على زيت أو خل ونحو ذلك وكان الناس لا يهتدون لمعاني إشاراته لكونه مجذوبا وكنت أنا أفهم معاني كلامه وإشاراته وتوبيخاته كأنه يقول المسلمون لا ينبغي لهم في رمضان إلا الجوع الشديد
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول : من أدب المؤمن إذا أفطر عنده الصائمون أن لا يشبعهم الشبع العادي وإنما يشبعهم شبع السنة وقد قال صلى الله عليه و سلم حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه . قال أهل اللغة : واللقيمات جمع لقمة من الثلاث إلى التسعة فمتى أخرج الإنسان لمن أفطر عنده أكثر من تسع لقيمات فقد أساء في حقه ولا بقي له أجر إفطاره بما حصل له من تعدي السنة وهذا الأمر لا يفعله إلا من خرج عن حكم الطبع ومعاملة المخلوقين إلى قضاء الشريعة ومعاملة الله وحده حتى صار يشفق على دين أخيه المسلم أكثر مما يشفق هو على نفسه وعلامات خروجك من حكم الطبع أن لا تتأثر من ذمه فيك بين الأعداء إن لم تشبعه لأن حكم يتعدى السنة مع العارف كحكم الطفل على حد سواء والطفل لا يجاب إلى كل ما اشتهت نفسه : وكان سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه يخرج للصائمين أقل من عادتهم في الإفطار فاشتكوا النقيب له فقال إن شكوتم منه في الدنيا فسوف تشكرونه في الآخرة
ومن وصية سيدي علي الخواص رحمه الله : إياك أن تخرج للضيف في رمضان كشيخ العرب أو غيره فوق رغيف خوفا أن يتكدر منك إن لم تشبعه فإنه لو كشف له عن صنيعك معه لقبل رجليك وقال جزاك الله عني خيرا الذي لم تعطي نفسي الخبيثة حظها من شهواتها وسعيت في كمال صومها
فاسلك يا أخي على يد شيخ حتى يخرجك عن حكم الطبيعة وتصير تعامل الخلق بالرحمة والشفقة وإلا فمن لازمك الخوف من عتاب المخلوقين . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : أولياء الله أشفق على العباد من أنفسهم لأنهم يمنعونهم من الشهوات التي تنقص مقامهم وهم لا يفعلون بأنفسهم ذلك أبدا ما أمكنهم وراثة محمدية . فاعلم ذلك واعمل له والله يتولى هداك : { وهو يتولى الصالحين } (1/77)
- روى النسائي والبيهقي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ أتاكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله تعالى عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين لله تعالى فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم الخير كله ] ] . وفي رواية لمسلم : فتحت أبواب الرحمة وسلسلت الشياطين ومردة الجن . وفي رواية لابن خزيمة وابن ماجه وغيرهما : [ [ إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ] ] . وفي رواية لابن خزيمة : الشياطين مردة الجن بغير واو ومعنى صفدت : أي شدت بالأغلال . قال الحليمي : وتصفيد الشياطين في شهر رمضان يحتمل أن يكون المراد به أيامه خاصة وأراد الشياطين الذين يسترقون السمع ألا تراه قال مردة الشياطين لأن شهر رمضان كان وقتا لنزول الرحمة والقرآن إلى السماء الدنيا وكانت الحراسة قد وقعت بالشهب كما قال تعالى : { وحفظا من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع } . نزيد التصفيد في شهر رمضان مبالغة في الحفظ . والله تعالى أعلم . قال : ويحتمل أن المراد أيامه ولياليه ويكون المعنى أن الشياطين لا يخلصون فيه إلى إفساد الناس كما يخلصون في غيره لاشتغال المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات بقراءة القرآن وغيره من سائر العبادات
وروى ابن ماجه بإسناد حسن مرفوعا : [ [ إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم ] ]
وروى أبو الشيخ والبيهقي بإسناد فيه ضعف مرفوعا : [ [ يقول الله عز و جل كل ليلة من ليالي رمضان : ينادي من السماء ثلاث مرات : هل من سائل فأعطيه سؤله هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له ] ]
وروى البزار وغيره مرفوعا : [ [ إن لله تبارك وتعالى في كل يوم وليلة في رمضان دعوة مستجابة ] ]
وروى البيهقي وقال الحافظ المنذري حديث حسن مرفوعا : [ [ ينادي مناد من السماء كل ليلة - يعني من شهر رمضان - إلى انفجار الفجر يا باغي الخير تمم وأبشر ويا باغي الشر أقصر وأبصر هل من مستغفر فيغفر له هل من تائب يتاب عليه هل من داع يستجاب له هل من سائل يعطى سؤله ] ]
وروى النسائي مرفوعا : [ [ إن الله تعالى فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] ]
وذكر مالك في الموطأ قال : سمعت من أثق به من أهل العلم يقول : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أري أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر
وروى الشيخان مرفوعا : [ [ من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ] ] . وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة : [ [ من يقم ليلة القدر فوافقها أراه قال : إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] ]
وروى الإمام أحمد وغيره عن عبادة بن الصامت قال : قلنا يا رسول الله أخبرنا عن ليلة القدر قال : هي في شهر رمضان في العشر الأواخر ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو آخر ليلة من رمضان من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن يكون معظم قصدنا من قيام رمضان وغيره امتثال أمر الله عز و جل والتلذذ بمناجاة الحق لا طلب أجر أخروي ونحو ذلك هروبا من دناءة الهمة فإن من قام رمضان لأجل حصول الثواب فهو عبد الثواب لا عبد الله تعالى كما أشار إليه حديث : تعس عبد الدينار والدرهم والخميصة . اللهم إلا أن يطلب العبد الثواب إظهار الفاقة ليميز ربه بالغنى المطلق ويتميز هو بالفقر المطلق فهذا لا حرج عليه لكن هذا لا يصح له إلا بعد رسوخه في معرفة الله عز و جل بحيث يصير يجل الله تعالى أن يعبده خوفا من ناره أو رجاء لثوابه
فيحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به حتى يدخله حضرة التوحيد فيرى أن الله تعالى هو الفاعل لكل ما برز في الوجود وحده والعبد مظهر لظهور الأعمال إذ الأعمال أعراض وهي لا تظهر إلا في جسم فلولا جوارح العبد ما ظهر له فعل في الكون ولا كانت الحدود أقيمت على أحد فافهم
ومن لم يسلك على يد شيخ فهو عبد الثواب حتى يموت لا يتخلص منه أبدا فهو كالأجير السوء الذي لا يعمل شيء حتى يقول لك قل لي إيش تعطيني قبل أن أتعب ؟ فأين هو ممن تقول له افعل كذا وأنا أعطيك كذا وكذا ؟ فيقول والله ما قصدي إلا أن أكون من جملة عبيدك أو أن أكون تحت نظرك أو أن أكون في خدمك لا غير أليس إذا اطلعت على صدقه أنك تقربه وتعطيه فوق ما كان يؤمل لشرف همته بخلاف من شارطك فإنه يثقل عليك وتعرف أنت بذلك خسة أصله وقلة مروءته ثم بعد ذلك تعطيه أجرته وتصرفه عن حضرتك وربما انصرف هو قبل أن تصرفه أنت لعدم رابطة المحبة التي بينك وبينه فما أقبل عليك إلا لأجرته فلما وصلت إليه ونسيك ولا هكذا من يخدمك محبة فيك فاعلم ذلك
وسمعت سيدي عليا الخواص إذا صلى نفلا يقول أصلي ركعتين من نعم الله علي في هذا الوقت فكان رضي الله عنه يرى نفس الركعتين من عين النعمة لا شكر النعمة أخرى فقلت له في ذلك فقال ومن أين يكون لمثلي أن يقف بين يدي الله عز و جل والله إني لأكاد أذوب خجلا وحياء من الله لما أتعاطاه من سوء الأدب معه حال خطابه في الصلاة فإن أمهات آداب خطابه تعالى مائة ألف أدب ما أظن أنني عملت منها بعشرة آداب فأنا إذا وقفت بين يديه في صلاة أو غيرها من العبادات إلى العقوبة أقرب فكيف أطلب الثواب . وسمعته مرة أخرى يقول : يجب على العبد أن يستقل عبادته في جانب الربوبية ولو عبد ربه عبادة الثقلين بل ولو عبده هذه العبادة على الجمر من ابتداء الدنيا إلى انتهائها ما أدى شكر نعمة إذنه له بالوقوف بين يديه في الصلاة لحظة ولو غافلا وكذلك ينبغي له إذا قلت طاعاته أن يرى أن مثله لا يستحق ذلك القليل ومن شهد هذا المشهد حفظ من العجب في أعماله وحفظ من القنوط من رحمة الله تعالى . وقال له مرة شخص يا سيدي ادع لي فقال يا ولدي ما أتجرأ أسأل الله في حاجة وحدي لا لنفسي ولا لغيري اصبر حتى تجتمع مع الناس في صلاة العصر وندعو لك معهم في غمارهم
وسمعت أخي أفضل الدين يقول : والله إني لأقوم أصلي بالليل فأرى نفسي بين يدي الله كالمجرم الذي قتل النفس وفعل سائر الفواحش وأتوا به إلى الوالي يتلفه وأرى الجميلة لله تعالى الذي أذن لي في الوقوف بين يديه ولم يطردني في جملة واحدة كما طرد التاركين للصلاة . وسمعته مرة أخرى يقول : من شرط الكامل في الطريق أنه يكاد يذوب حياء من الله تعالى إذا تلا كلامه وإن كان الله تعالى قد أذن في تلاوة كلامه للكبير والصغير ولكن من شرط العارف أن لا يتلو كلامه إلا بالحضور معه تعالى لأن قراءة كلامه مناجاة له تعالى وكيف حال من يناجي رب الأرباب وهو غافل فوالله لو رفع الحجاب لذاب كل تال للقرآن كما أشار إليه قوله تعالى : { إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا } . وقوله تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } . وهنا أسرار يذوقها أهل الله تعالى لا تذكر إلا مشافهة لأهلها . وسمعت أخي الشيخ أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول أيضا : من شرط الفقير أن يرى نفسه كصاحب الكتبة من الحشيش واللواط والزنا وغير ذلك فإذا قال له شخص من المسلمين ادع لي يكاد يذوب حياء وخجلا لأن معاصيه مشهودة له على الدوام
ورأيته مرة في وليمة فقال له شخص من العلماء ادع الله لي فصار يعرق جبينه ولم يقدر ينطق من البكاء وقال لي ما كان إلا قتلني هذا . ولما أراد التزوج عرض عليه الناس بناتهم فكان كل من خطبه لابنته يقول يا أخي بنتك خسارة في مثلي فلم ير نفسه أهلا لواحدة يتزوجها ثم قال لي : ما رأيت يقارب شكلي ورذالتي إلا عرب الهيتم الذين يطوفون على أبواب الناس يأكلون الطعام الذي يصبه الناس على المزابل في أقنية بيوتهم رضي الله عنه . وقد قلت مرة لصاحب كتبة ادع لي فاستحيى وعرق جبينه وقال يا سيدي لا تعد من فضلك تقول لي ذلك تؤذيني فإني والله لما قلت لي ادع لي رأيت نفسي كيهودي قال له شيخ الإسلام ادع لي
وكان سيدي أبو المواهب الشاذلي يقول حكم الملك القدوس أن لا يدخل حضرته أحد من أهل النفوس . وكان سيدي إبراهيم الدسوقي يقول : لا تبرز ليلى لمن يطلب على الوقوف بين يديها عوضا منها وإنما تبرز لمن يرى الفضل والمنة لها التي أذنت له في الوقوف بين يديها . وكان يقوم من كان الباعث له على حب القيام بين يدي الله تعالى في الظلام لذته بمناجاته فهو في حظ نفسه ما برح لأنه لولا الأنس الذي يجده في مناجاته ما ترك فراشه وقام بين يديه فكأن هذا قام محبة في سواه وهو لا يحب من أحب سواه إلا بإذنه فإن الأنس الذي يجده في قلبه سواه بيقين . وكان يقول : ما أنس أحد بالله قط لعدم المجانسة بينه وبين عبده بوجه من الوجوه وما أنس من أنس إلا بما من الله تعالى من التقريب الإلهي لا بالله تعالى
ومن هنا قامت الأكابر حتى تورمت منهم الأقدام لعدم اللذة التي يجدونها في عباداتهم فإن اللذة تدفع الألم فلا يتورم لهم أقدام فاعلم أن عبادتهم لله تعالى محض تكليف لا يدخلها اللذة ولو دخلها لذة لكانوا عبيدها وهو مطهرون مقدسون عن العبودية لغير الله تعالى
فاسلك يا أخي الطريق على يد شيخ حتى يخرجك من العلل وتصير تأتي العبادات امتثالا لأمر ربك لا غير ولا تريد بذلك جزاء ولا شكورا
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إذا وقع لأحدكم تقريب في المواكب الإلهية فلا يقتصر على الدعاء في حق نفسه فيكون دنئ الهمة وإنما يجعل معظم الدعاء لإخوانه المسلمين . وقد من الله تعالى علي بذلك ليلة من الليالي لما حججت في سبع وأربعين وتسعمائة فمكثت في الحجر أدعو لإخواني إلى قريب الصباح فأعطاني الله تعالى ببركة دعائي لهم نظير جميع ما دعوته لهم بسهولة ولو أني دعوت ذلك الدعاء لنفسي لربما لم يحصل لي ذلك فالحمد لله رب العالمين
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا تقتصروا في قيام رمضان على العشر الأواخر من رمضان بل قوموه كله واهجروا نساءكم فيه كما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعل فإني رأيت ليلة القدر في ليلة السابع عشر منه قال : وقد أجمع أهل الكشف على أنها تدور في ليالي رمضان وغيره ليحصل لجميع الليالي الشرف وبه قال بعض الأئمة أي إنها تدور في جميع ليالي السنة فإذا تمت الدورة افتتحت دورة ثانية هكذا سمعته يقول : وظواهر الأدلة كلها يعطي تخصيصها بشهر رمضان وهو المعتمد فاعلم ذلك . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/78)
- روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيره مرفوعا : [ [ من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر ] ] . وزاد الطبراني فقال أبو أيوب كل يوم بعشرة يا رسول الله ؟ فقال : نعم قال الحافظ المنذري ورواة الطبراني رواة الصحيح . وفي رواية لابن ماجه والنسائي مرفوعا : [ [ من صام ستة أيام بعد الفطر كان كصيام السنة من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها ] ] . وفي رواية للنسائي مرفوعا : فشهر رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة بشهرين فذلك صيام سنة . وفي رواية للطبراني مرفوعا قال الحافظ المنذري في إسناده نظر : [ [ من صام ستة أيام بعد الفطر متتابعة فكأنما صام السنة كلها ] ] . وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتبع صوم رمضان بصوم ستة من أيام شوال تطهيرا لما عساه تدنس من غفلات يوم العبد بأكل الشهوات التي كانت النفس محبوسة عن تناولها مدة صوم رمضان فربما أقبلت النفس بهمتها على أكل الشهوات في يوم العيد وحصل لها فيه من الغفلة والحجاب أكثر مما كان يحصل لها لو تعاطت جميع الشهوات التي تركتها في رمضان فكانت هذه الستة كأنها جوابر لما نقص من الآداب والخلل في صومنا لفرض رمضان كالسنن التابعة للفرائض أو كسجود السهو . ومن هنا قال سيدي عليا الخواص : ينبغي الحضور والأدب في صوم هذه الستة أيام كما في رمضان بل أشد لأنها جوابر وإذا حصل النقص في الجوابر لم يحصل بها المقصود فيتسلسل الأمر فيحتاج كل جابر إلى جابر قال : ونظير ذلك تخصيص الشارع الجبر لخلل الصلاة والسجود دون القيام والركوع وغيرهما لما ورد أنها حالة أقرب ما يكون العبد فيها مع ربه عز و جل فلا يقدر إبليس يدخل لقلب العبد فيها حتى يوسوس له ولو جعل الجابر غير السجود لربما كان يوسوس للعبد فيحتاج الجابر لجابر آخر وإنما استحب بعض العلماء صومها متوالية غير متفرقة في الشهر لأن التوالي أقرب في جلاء الباطن من المتفرق ولذلك سن الأشياخ الخلوة على التوالي من ثلاثة أيام إلى أربعين يوما إلى أكثر من ذلك حسب القسمة الإلهية لتتوالى جمعية قلوبهم بالحق تعالى كما يشهد لذلك حديث البخاري وغيره في تحنثه صلى الله عليه و سلم قبل النبوة بغار حراء . ومن هنا أمر الأشياخ مريديهم في حال الخلوة بالجوع وترك اللغو وتوالي الذكر وعدم النوم وذلك لتتراكم الأنوار وتتقوى فينهزم جيش الشياطين ويكون حزب الله هم الغالبون . وإيضاح ذلك أنه إذا تخلل الخلوة غفلة أو شبع أو لغو أو نوم فإن الظلمة تغلب على تلك الأنوار المتفرقة لكون الظلمة هي الأصل إذا الطين هو الغالب في نشأة البشر على النور فما لم يكون عسكر النور أقوى لم يخرج الإنسان عن الظلمة والكثافة فقد بان لك حكمة صوم الستة أيام المذكورة وحكمة صومها على التوالي والله يتولى هداك : { وهو يتولى الصالحين } (1/79)
- روى مسلم واللفظ له وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي مرفوعا : [ [ صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية ] ] . وفي رواية للترمذي مرفوعا : [ [ صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله ] ] . وفي رواية لابن ماجه مرفوعا : [ [ من صام يوم عرفة غفر له سنة أمامه وسنة بعده ] ] . زاد في رواية الطبراني بإسناد حسن : [ [ ومن صام عاشوراء غفر له ذنوب سنة ] ] . وروى الطبراني بإسناد حسن والبيهقي عن مسروق أنه دخل على عائشة رضي الله عنها في يوم عرفة فقال اسقوني فقالت عائشة يا غلام اسقه عسلا ثم قالت : وما أنت يا مسروق بصائم ؟ قال لا إني أخاف أن يكون الأضحى فقالت عائشة ليس ذلك إنما عرفة يوم يعرف الإمام ويوم النحر يوم ينحر الإمام أو ما سمعت يا مسروق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعدله بألف يوم ؟ والألف يوم أكثر من سنتين . وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة . وكان ابن عمر يقول : لم يصم النبي صلى الله عليه و سلم يوم عرفة بعرفة ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان وأنا لا أصومه وكان مالك والثوري يختاران الفطر وكان ابن الزبير وعائشة يصومان يوم عرفة وروى ذلك عن عثمان بن أبي العاص وكان إسحاق يميل إلى الصوم وكان عطاء يقول أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف وكان قتادة يقول : لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء . وقال الإمام الشافعي : يستحب صوم يوم عرفة لغير الحاج فأما الحاج فالأحب إلى أن يفطر ليقويه على الدعاء . وقال الإمام أحمد بن حنبل إن قدر على أن يصوم صام وإن أفطر فذلك يوم محتاج فيه إلى القوم . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصوم يوم عرفة ولا نترك صومه إلا لعذر شرعي كأن نكون بعرفات أو بنا مرض يشق معه الصوم ونحو ذلك . والحكمة في كراهة صومه للحاج أنه يوم تحط فيه الخطايا فيتأثر البدن ويضعف لقهره مع كمال تعشقه لجميع أهويته المكروهة لأنها لا تخرج إلا بجذب من البدن كدم الحجامة فيحصل للبدن فتور وانحلال فلا يضاف إليه الجوع المقوي للانحلال فكما يكره للصائم الحجامة كذلك يكره لمن وقف بعرفة الصوم وهذا من رحمة الله تعالى بعباده لأن النهي عن صومه للحاج إنما هو نهي شفقة عليه فمن خالف وصام وأظهر القوة فلا بد من إخلاله بالأعمال من وجه آخر كما جرب هذا ما ظهر لي من الحكمة في هذا الوقت وهنا أسرار يعرفها أهل الله لا تسطر في كتاب . { والله غفور رحيم } (1/80)
- روى مسلم وغيره مرفوعا : [ [ صيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية ] ] . ولفظ رواية ابن ماجه مرفوعا : [ [ صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده ] ] . وروى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من صام يوم عاشوراء غفر له ذنوب سنة ] ] . وروى البيهقي وغيره من طرق مرفوعا : [ [ من وسع على عياله وأهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته ] ] . قال البيهقي وهذه الأسانيد وإن كانت ضعيفة فهي إذا ضم بعضها إلى بعض أحدثت قوة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصوم عاشوراء ونوسع فيه على عيالنا بالطعام والكسوة وغير ذلك من كل ما هم محتاجون إليه لكن بشرط أن يكون ذلك من وجه حل لا اعتراض للشريعة عليه فلا يؤمر من لم يجد المال الحلال أن يوسع على نفسه فضلا عن غيره فيكون للآكل المهنأة وعليه هو الإثم وقد أصبح عيال الفضيل بن عياض يوما وليس عندهم شيء يأكلونه فأرسل إليه الخليفة خمسمائة دينار فردها فقال له العيال لو كنت أخذت منها نفقة يومنا فقال : ما مثلي ومثلكم إلا كبقرة شردت من أهلها فصار كل من قدر عليها يطعنها أو يذبحها ثم قطع قطيفة كانت تحت نصفين وقال بيعوا هذه وأنفقوا ثمنها في هذا اليوم خير لكم من أن تطعنوه فضيلا أو تذبحوه فعلم أن من جملة الكسب الذي لا يؤمر العبد بالتوسعة على العيال منه معلوم الوظائف التي لا يباشرها بنفسه ولا بنائبه ومنه ما كان من هدايا التجار الذين يبيعون على الظلمة ومنه هدايا من يأخذ البلص من أركان الدولة ومشايخ العرب ومنه ما أرسله الناس إلى الشيخ اعتقادا في صلاحه فليس له قبوله ولا التوسعة به على عياله لأن أكل الرجل بدينه من أقبح الكسب و والله إن أكل خبز الحنطة الآن من غير أدم توسعة عظيمة ولكن الناس لما تهوروا في أكل الشهوات والشبهات ولم يفتشوا على الحل صاروا لا يعدون التوسعة إلا بأكل ما فوق ذلك . وسيأتي قريبا في عيش النبي صلى الله عليه و سلم أنه يأكل خبز الشعير غير منخول وما كان يسيغه إلا بجرعة من ماء فتورع يا أخي ولا تحتج بالعيال وعدم صبرهم فإن في باب الإحسان إلى الأرقاء : أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ومن لا يلائمكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله . فكذلك القول في الزوجة والأولاد ومن لا يلائمنا منهم نفارقه بالطلاق والفراق أو نخبره بين ذلك وبين الإقامة كما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم بنسائه . هذا ما عليه أهل الله تعالى فاسلك طريقهم ولا تلبس على نفسك : وقد كان بشر الحافي يقول : لو أني أجبت العيال إلى كل ما طلبوه مني لخفت أن أعمل شرطيا أو مكاسا ولا أكفيهم . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/81)
- روى الطبراني وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ يطلع الله تعالى إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن ] ] . وروى البيهقي مرفوعا : [ [ أتاني جبريل عليه السلام فقال : هذه ليلة النصف من شعبان ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم بني كلب لا ينظر الله إلى مشرك ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم ولا إلى مسبل إزاره ولا إلى عاق لوالديه ولا إلى مدين خمر ] ] . وفي رواية الإمام أحمد فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن أو قاتل النفس . وفي رواية للبيهقي مرفوعا : [ [ يطلع الله على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كماهم ] ] . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلتها وصوموا يومها فإن الله تبارك وتعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول : ألا من مستغفر فأغفر له ألا من مسترزق فأرزقه ألا من مبتل فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر ] ] . قلت معنى ينزل ربنا أنه ينزل نزولا لائقا بذاته لا يتعقل لأنه لا يجتمع مع خلقه في حد ولا حقيقة . ومن فوائد أخبار الصفات امتحان العبد هل يؤمن بها كما وردت فيفوز بكمال الإيمان أم يؤولها فيحرم كمال مقام الإيمان . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نقوم ليلة النصف من شعبان ونصوم نهارها ونستعد لها بالجوع الشاق وقلة الكلام والصمت فإن من يشبع ليلتها وأكثر اللغو من الكلام والغفلة عن الله تعالى لا يذوق لما فيها من الخيرات طعما ولو سهر فهو كالجماد الذي لا يحس شيئا وما حث الشارع العبد على الاستعداد لحضور المواكب الإلهية إلا ليشعر بذلك فاته خير كبير فعلم أنه يجب على كل مؤمن أن يتوب من جميع ما ورد في الحديث أنه يمنع حصول المغفرة لصاحبة ليلة النصف من شعبان قبل دخول ليلة النصف كالمشاحن بغير عذر شرعي وكأخذ العشور من المكس وكالعقوق للوالدين ونحو ذلك فيجب السعي في إزالة ما عندنا من الشحناء وما عند غيرنا منها في حقنا ولو بإرسال كلام طيب أو مدح بين الأقران ونحو ذلك كإهداء هدية وبذل مال لننال الرحمة والمغفرة من الله تعالى في تلك الليلة ولا نتهاون بالمبادرة في إزالة الشحناء إلى ليلة النصف فربما يتعسر علينا إزالة ما عندنا أو عند المشاحن لنا من الحقد الكمين فتفوتنا المغفرة تلك الليلة
وبالجملة فيحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ ليخرجه من محبة الدنيا وأغراضها ومناصبها وطلب المقام عند أهلها ومن لم يسلك كذلك فمن لازمه غالبا الشحناء بواسطة الدنيا إما لكونه يحوف على الناس أو هم يحوفون عليه ولذلك قل العاملون بهذا العهد حتى من العلماء ومشايخ الزوايا فتراهم تدخل عليهم ليلة النصف من شعبان وأحدهم مشاحن أخاه ولا يبالي بما يفوته من المغفرة العظيمة
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : يجب على قاطع الرحم المبادرة قبل ليلة النصف من شعبان إلى زوال القطيعة وكذلك الحكم في جميع ما ورد فيه التجلي الإلهي كالثلث الأخير من الليل في جميع ليالي السنة فيجب عليه أن يتوب من جميع الذنوب وإلا لم يكن من أهل دخول حضرة الله عز و جل ولو وقف يصلي فصلاته لا روح فيها
وسمعت سيدي محمد بن عنان رحمه الله يقول : تجب المبادرة على قاطع الرحم إلى صلة الرحم ولا يؤخر الصلة حتى تدخل ليلة النصف فربما يتعسر صلتها تلك الليلة وكذلك تجب المبادرة إلى بر الوالدين على كل من كان عاقا لوالديه وكذلك يجب علينا إذا كان أحد من معارفنا عشارا أو مكاسا أن نأمره بالتوبة عن تلك الوظيفة والعزم على أن لا يعود إليها لينال المغفرة تلك الليلة فإن الله تعالى أخبر أنه لا يغفر لأهل هذه الذنوب ولا يرفع لهم إلى السماء عملا وذلك عنوان الغضب من الله تعالى عليهم نسأل الله اللطف
فاعلم أن التوبة عن هذه الأمور وإن كانت واجبة على الدوام فهي في ليلة النصف آكد كما قالوا يستحب للصائم أن يصون لسانه عن الغيبة والنميمة في رمضان ومعلوم أن ذلك واجب في رمضان وغيره ولكن لما توقف كمال العبادة على ذلك استحب من تلك الحيثية فافهم . والله تعالى أعلم (1/82)
- روى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ تعرض أعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ] ] . وروى مالك وأبو داود والترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصوم الاثنين والخميس فقال رجل : يا رسول الله إنك تصوم الاثنين والخميس فقال : إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا المتهاجرين يعين بغير حق فيقول دعوهما حتى يصطلحا . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ تنسخ دواوين أهل الأرض في دواوين أهل السماء في كل اثنين وخميس فيغفر لكل مسلم ولا يشرك بالله شيئا إلا رجلا بينه وبين أخيه شحناء ] ] . وروى الطبراني ورواته ثقات مرفوعا : [ [ تعرض الأعمال في يوم الاثنين والخميس فمن مستغفر فيغفر له ومن تائب فيتاب عليه ويرد أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا ] ] . وروى ابن ماجه والنسائي والترمذي وقال حسن عن عائشة قالت : [ [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتحرى صوم الاثنين والخميس ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصوم الاثنين والخميس ولا نترك صومهما إلا لعذر شرعي وتجب المبادرة إلى إزالة الشحناء قبل صومهما حتى لا يطلع الفجر وبيننا وبين أحد شحناء ونظير ما ورد في ليلة النصف من شعبان . ومن العذر للعبد أن يكون الصوم يضر بدنه أو عقله لانحراف مزاجه عن مقام الاعتدال وكل أحد مؤتمن على ما يدعيه في نفسه من ذلك وكذلك من العذر أن يتعاطى العبد الأعمال الشاقة المأمور بها في طريق الكسب الشرعي كالحرث والحصاد والدراس وسد الجسور وجرفها وتخمير الطين وحمله إلى البناء من بكرة النهار إلى آخره ونحو ذلك فلا يؤكد على هؤلاء صيام الاثنين والخميس ونحوهما من النوافل إلا أن تبرعوا بأنفسهم وصاموا مع أن رخصة الله تعالى لهم أتم وأكمل لأنهم ربما أخلوا بأعمال أخر أفضل مما فعلوه . فاتبع يا أخي الشرع وكن من المتبعين ولا تكن من المبتدعين واخف صومك إن خفت أن أحدا يمدحك على ذلك وتميل نفسك إليه . وسمعت سيدي عليا الخواص يقول : إنما قال صلى الله عليه و سلم : فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم . لأن كل يوم الاثنين والخميس أوقات رضا ولأوقات الرضا مزية على أوقات الغضب فأين من يرفع حاجته في وقت رضا الملك ممن يرفعها في وقت غضبه ؟ فتأمل ذلك والله يتولى هداك { وهو يتولى الصالحين } (1/83)
- روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه و سلم بثلاث : صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام . وروى مسلم ذلك أيضا عن أبي الدرداء ولفظه : أوصاني حبيبي بثلاث لا أدعهن ما عشت فذكر بمعناه . وروى الشيخان مرفوعا : [ [ صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر ] ] . وروى الطبراني والبيهقي وقال في إسناده لم أقف فيه على جرح ولا تعديل مرفوعا : [ [ صام نوح عليه السلام الدهر إلا يوم الفطر والأضحى وصام داود عليه السلام نصف الدهر وصام إبراهيم عليه السلام ثلاثة أيام من كل شهر صام الدهر وأفطر الدهر ] ] . زاد في رواية للإمام أحمد والبيهقي والنسائي وابن ماجه وغيرهم وأنزل الله تعالى تصديق ذلك في كتابه { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } اليوم بعشرة أيام . وروى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والبزار ورجاله رجال الصحيح مرفوعا : [ [ صوم شهر الصبر - يعني رمضان - وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر . وفي رواية لمسلم وأبي داود والنسائي مرفوعا : [ [ ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله ] ] . ووحر الصدر : هو غشه وحقده ووسواسه . وروى الطبراني عن ميمونة بنت سعد قالت : يا رسول الله أفتنا على الصوم : فقال : من كل شهر ثلاثة أيام من استطاع أن يصومهن فإن كل يوم يكفر عشر سيئات وينفي من الإثم كما ينقى الماء الثوب . وروى النسائي مرفوعا : [ [ ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر صوم ثلاثة أيام من كل شهر ] ] . وروى الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعبدالله بن عمرو بن العاص : بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل - أي كله - فلا تفعل إن جسدك عليك حقا ولعينيك عليك حقا وإن لزورك [ لزوجك ؟ ؟ ] عليك حقا صم وأفطر صم من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صوم الدهر كله . وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا صمت من الشهر ثلاثا فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة . وفي رواية لأبي داود والنسائي عن قدامة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرنا بصيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة : وقال صلى الله عليه و سلم : هو كهيئة الدهر . وزاد في رواية : الحسنة بعشر أمثالها . قال الحافظ هكذا جاء في رواية النسائي وغيره قدامة والصواب قتادة كما في رواية أبي داود وابن ماجه . وروى الطبراني ورواته ثقات أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الصيام فقال : عليك بالبيض ثلاثة أيام من كل شهر . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا سيما أيام الليالي البيض ولا نترك صيامها إلا لعذر شرعي لا إيثارا لشهوة الأكل فإن اللوم إنما هو على من ترك الصوم إيثارا للشهوة وهذا يجري معنا في سائر الأعمال . { والله غفور رحيم } . ومن فوائد صومها أنها تزيل من صاحبها ما في قلبه من الحقد والغش وسوء الظن وغيرهما من الكبائر الباطنة . وقد ورد أن أول من صامها آدم عليه السلام لما وقع في الخطيئة واسود وجهه فكان كل يوم يبيض منه ثلثه حتى رجع إلى لونه المعتاد بعد صوم هذه الثلاثة أيام فكان ذلك تشريعا لأولاده المختصين أن يصوموها إذا وقعوا في معصية واسودت أبدانهم وأما غير المختصين فربما يقعون في أكبر الكبائر ولا يظهر عليهم شيء من السواد استهانة بهم جزاء على وقوعهم في المعاصي استهانة بمحارم الله تعالى فرد عليهم عدم الاعتناء بشأنهم نظير فعلهم بخلاف الأكابر من الأمة لما كانت معاصيهم نفوذ أقدار لا انتهاكا للمحارم اعتنى الحق تعالى بهم ونبههم على ما يزيل الإثم عنهم . وقد وقع لبعض المريدين أنه نظر إلى امرأة سرا فاسود وجهه وصار كالقار فافتضح بين الناس فذهب إلى الإمام أبي القاسم الجنيد فشفع فيه عند الله فرد الله عليه لونه وذلك لأن هذه المريد كان ممن اعتنى الحق به وإلا فكم يقع غيره في كبائر وصغائر ولا يظهر عليه شيء من ذلك فلا يزال من هذا شأنه يزيد باطنه ظلمة حتى يستوجب النار وقد سئل بعضهم عن تحقيق سواد جسد آدم ما سببه ؟ فقال : كان ذلك دليلا على أنه حصل له السيادة بأكله من الشجرة ويؤيد ذلك ما ورد في الحجر الأسود أنه نزل من الجنة أبيض فسودته خطايا بني آدم : أي صيرته سيدا بالتقبيل والتبرك وكان أظهر علامة على حصول السيادة اللون الأسود وأيضا فإن من مقام الأنبياء أن لا ينتقلوا من درجة إلا لأعلى منها لدوام ترقيهم وكذلك كمل ورثتهم وهو جواب حسن . فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك . { وهو يتولى الصالحين } (1/84)
- روى الطبراني وغيره مرفوعا صوموا الأشهر الحرم . وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه مرفوعا واللفظ لمسلم : [ [ أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ] ] . وفي حديث للطبراني مرفوعا : [ [ ومن صام يوما من المحرم فله بكل يوم ثلاثون يوما ] ] . قال الحافظ المنذري : وهو حديث غريب وإسناده لا بأس به فجملة الشهر إن كان كاملا بتسعمائة يوم . وروى الشيخان وغيرهما : [ [ أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى العدو ] ] . وزاد في رواية وهو أعدل الصيام . وفي رواية لمسلم : [ [ أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود ] ] . وروى النسائي عن أسامة بن زيد قال : قلت يا رسول الله لم أراك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ فقال : ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم . وفي حديث أحمد والطبراني وكان أحب الصيام إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في شعبان . وروى الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم استكمل صيام شهر قط إلا صيام شهر رمضان وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان . زاد في رواية لأبي داود وغيره : كان يصومه إلا قليلا بل كان يصومه كله وكان يقول : خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا . وروى أبو يعلي وغيره مرفوعا : من صام الأربعاء والخميس كتب له براءة من النار . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من صام الأربعاء والخميس والجمعة بنى الله له بيتا في الجنة يرى ظاهره من باطنه وباطنه من ظاهره ] ] . وفي رواية للطبراني والبيهقي : [ [ بنى الله له قصرا في الجنة من لؤلؤ وياقوت وزبرجد وكتب له براءة من النار ] ] . وفي رواية لهما أيضا : [ [ من صام الأربعاء والخميس ويوم الجمعة ثم تصدق يوم الجمعة بما قل أو كثر غفر له ذنب عمله حتى يصير كيوم ولدته أمه من الخطايا ] ] . وروى ابن خزيمة في صحيحه وغيره عن أم سلمة قالت : أكثر ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد كان يقول : إنهما يوما عيد للمشركين وأن أريد أن أخالفهم . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصوم عند القدرة ما أمرنا بصومه من صوم الأشهر الحرم لا سيما المحرم وصوم يوم وإفطار يوم والإكثار من الصوم في شعبان وكذلك صوم الأربعاء والخميس والجمعة والسبت والأحد على التوالي وغير ذلك مما ورد امتثالا للأمر واغتناما للأجر ولا نترك شيئا من ذلك إلا لعذر شرعي كما أشرنا إليه بقولنا عند القدرة . وفائدة الأمر بالعبادات لمن لم يقسم له الاستغفار إذا لم يفعل فيجبر ذلك الخلل الواقع وفيه إظهار أنه لم يترك ذلك إلا لعدم القسمة لا تهاونا بالأوامر الشرعية . وفي المثل السائر : وقع من فلان كذا وكذا وما هي عادته إنما وقع ذلك منه لفرط الحرص ولكن بذلك تفاوتت مراتب الناس فإن العمل الصالح إنما شرع وسمي صالحا لحضور صاحبه فيه مع الحق تعالى فأكثر الناس فعلا بالمأمورات أكثر من مجالسة للحق في الدنيا والآخرة . ومن من الله تعالى عليه بدوام الحضور في بعض العبادات ليلا ونهارا فجلوسه مع الحق تعالى كذلك دائم لكن يفوته تنوعات الواردات من الحق إذ التنوع أكثر نعيما من التنعم بالشيء الواحد عادة فربما سئمت منه نفسه فلا يصير بعده نعيما لعدم اللذة فيه . وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله تعالى عنه يقول : لكل مأمور شرعي من فرض أو مندوب مجالسة مع الحق تعالى ولكل منهي عنه من حرام أو مكروه حجاب عن الله تعالى ومن شهد كشفنا أن المشرع هو رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأمر والنهي كان على وزان ذلك فيكون حجابه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وحضوره معه على حسب فعل أوامره واجتناب نواهيه وكذلك القول فيما سنه الأئمة ومقلودهم فيما يوافق الشريعة تكون مجالسة العامل بذلك للأئمة ومقلديهم بقدر ما فعل من سائر مأموراتهم واجتنب من منهياتهم وحجابه عنهم بقدر ما وقع في مخالفاتهم وهو كلام نفيس . فاعلم ذلك والله يتولى هداك : { وهو يتولى الصالحين }
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا لم نكن محتاجين إلى الجماع أن نأذن لحليلتنا في الصوم ولا نمنعها منه إلا عند الحاجة لخوفنا أو خوفنا العنت أو مقدماته أو ضعف قوتها الموجبة لضعف النطفة لا سيما أيام توقع الحمل فنأمرها بالأكل الدسم وشرب السكر ونحو ذلك ونمنعها الصوم وأصل هذا العهد ما ورد في الصحيحين وغيرهما مرفوعا : لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه . وظواهر الحديث تفهم أن التحجير عليها في الصوم إنما هو تقديم لمصلحة الزوج فإن كان غير محتاج فمن السنة أن يساعدها على العبادة وسيأتي بسط ذلك في قسم المنهيات إن شاء الله تعالى . والله تعالى أعلم (1/85)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ تسحروا فإن في السحور بركة ] ] . وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة مرفوعا : [ [ فضل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور ] ] . وروى الطبراني ورواته ثقات مرفوعا : [ [ البركة في ثلاثة : في الجماعة والثريد والسحور ] ] . وفي رواية للطبراني وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين ] ] . وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن العرباض بن سارية قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى السحور في رمضان فقال : هلم إلى الغذاء المبارك . يعني السحور كما في رواية ابن حبان . وروى ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحيهما والبيهقي مرفوعا : [ [ استعينوا بطعام السحور على صيام النهار وبالقيلولة على قيام الليل ] ] . وفي رواية : وبقيلولة النهار على قيام الليل . وروى النسائي بإسناد حسن : [ [ السحور بركة أعطاكن الله تعالى إياها فلا تدعوه ] ] . وروى البزار والطبراني مرفوعا : [ [ ثلاثة ليس عليهم حساب فيما طعموا إن شاء الله تعالى إذا كان حلالا : الصائم والمتسحر والمرابط في سبيل الله ] ] . وروى الإمام أحمد وإسناده حسن مرفوعا : [ [ السحور خير كله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من الماء فإن الله تعالى وملائكته يصلون على المتسحرين ] ] . وفي رواية لابن حبان في صحيحه : [ [ تسحروا ولو بجرعة من ماء ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : نعم السحور التمر وقال يرحم الله المتسحرين . وفي رواية مرفوعا : [ [ نعم سحور المؤمن التمر ] ] . رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتسحر من الحلال دون الشبهة في كل ليلة نصوم يومها ولا نترك ذلك أبدا امتثالا لأمر الشارع صلى الله عليه و سلم لنا لا لعلة أخرى لأن تلك العلة إن كانت للتقوية على الصيام فذلك حاصل بنية امتثال الأمر لا يحتاج إلى نية وإن كانت لعلة ثواب فالثواب حاصل لكل من أخلص في عمله وإن كانت للشهوة مع غفلته عن النية الصالحة فلذلك خارج عن الشريعة فلا تتكلم عليه . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : ينبغي للمتسحر أن لا يزيد على ثلاث لقم أو ثلاث تمرات فإن السر في التقوية على الصوم بالسحور حاصل بالأكل القليل فليس في الكثير فائدة كما أن نوم القيلولة ينفع من يقوم الليل ولو كان قدر ثلاث درج كما جرب . وكان سيدي الشيخ عبدالعزيز الديريني يقول : النوم بعد الزوال دواء للسهر الآتي والنوم قبل الزوال دواء للسهر الماضي . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا ينبغي لعبد أن يتسحر إلا بنية ولا ينام إلا بنية وكذلك ينبغي لكل من عمل عملا يتعدى نفعه للناس أن ينوي بذلك نفع الناس ليثاب عليه وأما نفع نفسه فحاصل بحكم التبعية فأي شيء يضر الطباخ إذا قام من الليل فغسل اللحم وهيأه في القدر وأوقد عليه النار حتى غذي منه نحو الثلاثمائة نفس أن ينوي بذلك نفع من يأكل من العاجزين عن الطبخ لكبر أو عدم عيال وغير ذلك فإنه لا يعطيهم طعامه إلا بثمنه فالثمن حاصل على كل حال وإنما لم نقل بحصول الثواب له إذا لم ينو نقع الناس لحديث : إنما الأعمال بالنيات . وهذا لم ينو فلقد فاز والله عبيد الله الخلص الذين عبدوه امتثالا لأمره ورأوا الفضل له تعالى عليهم في تأهيلهم لذلك وخسر ذلك المقام عبيد الثواب والعلل الدنيوية . { والله غفر رحيم } (1/86)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ] ] . وفي رواية لابن حبان في صحيحه : لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم . وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ قال الله عز و جل : إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ ثلاثة يحبها الله عز و جل : تعجيل الفطور وتأخير السحور وضرب اليدين على الأخرى في الصلاة ] ] . روى أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما مرفوعا : [ [ لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون ] ] . وروى أبو يعلي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن أنس قال : [ [ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قط صلى صلاة المغرب حتى يفطر ولو على شربة من ماء ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نعجل الفطر ونؤخر السحور . وأما تعجيل الفطر فالحكمة فيه المسارعة إلى تعجيل حظ النفس من حيث كونها مطيتنا ولولا هي ما استطعنا ظمأ الهواجر في أيام الصيف الطوال وفي المثل السائر : تقول النفس لصاحبها كن معي في بعض أغراضي وإلا صرعتك وفي الحديث : أعطوا الأجير أجرته قبل أن يجف عرقه . وفي حديث آخر : المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى . والمنبت : هو الذي حمل دابته فوق طاقتها حتى عجزت واضطجعت فلا هو قطع طريق السفر ولا هو أبقى ظهر دابته فبمجرد ما تغرب الشمس تحن النفس إلى الفطر وتتألم لتأخيره ويكون كالعذاب عليها . وأما تأخير السحور فالحكمة فيه عدم التفات النفس إلى الأكل والشرب حين الشروع في الصوم حتى لا يخرج ذلك كمال الصوم فإن شرط العبودية أن يتوجه المكلف بقلبه وقالبه إلى فعل ما كلف به فإن التفت إلى تمني فعل ما منعه الله منه في الصوم فكأنه دخله بلا قلب والمدار على القلب فلو أن الشارع أمرنا بعدم تأخير السحور لربما اشتاقت النفس إلى الأكل عند الفجر فلما آمرنا بتأخيره إلى قبيل الفجر قل التفات النفس إلى الأكل والشرب فدخلت للصوم بكليتها ومعلوم أن العمل القليل مع الأدب خير من الكثير بلا أدب . وإذا كان العبد عنده التفات إلى الأكل والشرب أول شروعه في الصوم فكيف حاله أواخر النهار فلا تكاد النفس تنشرح لفعل ما كلفت به أبدا وعبادة المكره لا يقبلها الله تعالى : ومن هنا كره الشارع قيام العبد للصلاة ونفسه تتوق إلى الطعام . ومن هنا كره أيضا العلماء الوضوء بالماء الشديد السخونة أو البرودة لنفرة النفس منه ونفرة العبد من العبادة تبعده عن حضرة ربه . ومراد الشارع بالطهارة تقريبه منها فلا يجتمع التقريب والتبعيد في عمل واحد فإنه إن حضر هذا غاب هذا . ومن المعلوم أن الله تعالى أمرنا بالإحسان إلى أنفسنا ومن الإحسان إليها تعجيل فطرها وتأخير سحورها فإن فيها جزءا يطلب ذلك وإن لم تعطه عصى عليه وجمع ونازعها في الخروج من الصوم لنيل شهواتها هذا مشهد الكمل وأما العباد فلا ذوق لهم في مثل ذلك . { والله عليم حكيم } (1/87)
- روى أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح مرفوعا : [ [ إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة فإن لم يجد تمرا فالماء فإنه طهور ] ]
وروى أبو داود والترمذي وقال حديث حسن عن أنس قال : [ [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم يكن رطبات فتمرات فإن لم يكن تمرات حسا حسوات من الماء ] ] . وفي رواية لأبي يعلي : [ [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يحب أن يفطر على ثلاث تمرات أو شيء لم تصبه النار ] ]
قلت ولعل الحكمة في ترك الفطر على ما مسته النار كون النار مظهرا غضبيا فلذلك أمرنا صلى الله عليه
وسلم أن نفطر على ماء أو تمر لأنهما مما لم تمسه النار ويؤيده أنه صلى الله عليه و سلم كان يتوضأ من الأكل مما مست النار ثم أنه ترك ذلك توسعه لأمته فمن يتوضأ الآن من ذلك فلا بأس بتركها عند الفطر لما قيل إنه ناقض في الجملة . والله تعالى أعلم
وقد روى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم وقال صحيح على شرطهما مرفوعا : [ [ فمن وجد تمرا فليفطر عليه ومن لم يجد فليفطر على الماء فإنه طهور ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نفطر من صومنا على تمر فإن لم نجد فعلى ماء . والحكمة في ذلك أن معظم ما كانت النفس محبوسة عنه في النهار الطعام والشراب وهي محتاجة إلى الطعام أكثر فلذلك قدم على الشراب فإنهم قالوا شهوة الشرب كذابة فإن ردها الإنسان مرارا ذهبت ولا هكذا شهوة الطعام . وكان أخي أفضل الدين يكتفي في غالب أيامه بالريق الذي يعجن به الطعام قبل بلعه ولا يشرب إلا في النادر وفي الفطر على التمر المسارعة إلى تحلية النفس بعد تعبها لتطيعنا في وقت آخر إذا دعوناها إلى مثل ذلك العمل الذي حليناها لأجله وفي الشرب للماء المسارعة إلى طفئ لهيب تلك النار التي تأججت من الجوع وحرارة الطعام حتى انطبخ فلو قيل بالجمع بين التمر والماء عند الإفطار لم يكن بعيدا عن مراد الشارع لأنهما يكسران حدة الصوم وربما كان له ورد من صلاة أو غيرها بعد المغرب فيأتي به على وصف الإقبال وعدم الالتفات إلى الأكل والشرب ولذلك ورد : إذا حضر الطعام والصلاة فابدءوا بالطعام . ولعل محل ذلك إذا كان عنده توقان نفس إلى الطعام وإلا فقد ورد أيضا : فابدءوا بالصلاة ولا تؤخروا الصلاة لشيء فيحمل ذلك على حالين . فاسلك يا أخي على يد شيخ صادق يطلعك على حكمة جميع الأعمال التي أمرك بها الشارع لتتلذذ بأسرار الشريعة وتزداد محبة فيه صلى الله عليه و سلم وتعرف أنه أشفق على بدنك وعلى دينك من نفسك والله يتولى هداك : { وهو يتولى الصالحين } (1/88)
- روى الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما مرفوعا : [ [ من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء ] ]
وفي رواية : [ [ من غير أن ينقص من أجره شيء ] ]
وروى الطبراني وأبو الشيخ مرفوعا : [ [ من فطر صائما على طعام وشراب من حلال صلت عليه الملائكة في ساعات شهر رمضان وصلى عليه جبريل ليلة القدر ] ]
وفي رواية لأبي الشيخ : [ [ وصافحه جبريل ليلة القدر ومن صافحه جبريل رق قلبه وكثرت دموعه قال سلمان : يا رسول الله أفرأيت إن لم يكن عنده ؟ قال فقبصة من طعام قال أفرأيت إن لم يكن عنده لقمة خبز ؟ قال : فمذقة من لبن قال : أفرأيت إن لم يكن عنده ؟ قال : فشربة من ماء ] ]
والقبصة بالصاد المهملة : وهو ما يتناوله الآخذ بأصابعه الثلاث
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ من فطر صائما يعني في رمضان كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبة من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من اجره شيء قالوا :
يا رسول الله ليس كلنا نجد ما يفطر الصائم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يعطي الله لمن فطر صائما على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن ] ] . الحديث
وروى الترمذي واللفظ له وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان [ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على عمارة الأنصارية فقدمت إليه طعاما فقال كلي : فقالت إني صائمة فقال : إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا وربما قال حتى يشبعوا ] ]
وفي رواية لابن ماجه : [ [ إن الصائم تسبح عظامه وتستغفر له الملائكة ما أكل عنده ] ] . والله تعالى اعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا كان عندنا
طعام من حلال وفاض عنا وعن عيالنا ومن تلزمنا نفقته أن نطعمه لإخواننا فإن لم نجد حلالا أو وجدناه ولم يفضل عنا فلا نؤمر بتفطير أحد من الصائمين عندنا وهذا العهد يخل بالعمل به كثير ممن العلماء والصالحين الذين اشتهروا بالكرم فضلا عن غيرهم فربما كان ما يطعمه أحدهم لإخوانه من جملة مال أيتام كان وصيا عليهم فقد رأيت بعضهم أخذ أموال الأيتام وعمل بها أطعمة ولا زال يعزم على وجوه العظم الذين يشكرونه في المجالس حتى أفنى المال كله فجاء قيم الأيتام الذي نصبه الحاكم يطالبه فلم يجد معه شيئا فجاء الذين كانوا يأكلون عنده فشهدوا بإفلاسه
وقد سمعته مرة يقول : قد خلت مصر من العلماء العاملين ومن الصالحين وما بقي أحد يتورع عن الحرام
وسمعته مرة أخرى يقول : لا أحد يسمعني كلام أحد من هؤلاء الفقهاء أبدا فإنهم ليس لهم دين
وسمعته مرة أخرى يقول : لو أن في مصر كلها أحدا بحمد الله أورع مني أعلم مني لتتلمذت له وقبلت نعاله اه
فمثل هذا ممن { زين له سوء عمله فرآه حسنا } . وذلك أن المؤمن مرآة المؤمن ولا يرى الإنسان في المرآة إلا صورته لا صورة المرآة بل لو جهد كل الجهد أن ينظر جرم المرآة لا يقدر لسبق الطباع صورته في المرآة قبل نظره جرم المرآة
وقد جاء رجل إلى أبي يزيد فقال يا سيدي رأيت صورتك الليلة صورة خنزير فقال : له لقد صدقت يا أخي المؤمن مرآة المؤمن رأيت صورتك في فحسبت أنك أنا
فالزم يا أخي الورع في نفسك وفيمن تعول جهدك ولا تنبسط في شيء إلا بنية صالحة على الوجه الشرعي وإياك أن تبادر إلى الفطر في رمضان عند من اشتهر بالعلم والصلاح حتى تخالطه وتعرف شدة ورعه والله يتولى هداك . [ وهو يتولى الصالحين ] (1/89)
- روى البيهقي مرفوعا : [ [ من اعتكف عشرا في رمضان كان كحجتين وعمرتين ] ]
وروى الطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد والبيهقي مرفوعا : [ [ من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين ] ]
وأحاديث اعتكاف النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد كثيرة مشهورة والله تعالى اعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نعتكف في كل وقت لا يكون لنا فيه ضرورة لا سيما في رمضان فإن كان لنا ضرورة خارج المسجد فالأولى تقديمها على ولولا أن الضرورة تجذب قلب صاحبها وتخرجه من المسجد إذا اعتكف في المسجد لكان الأولى لكل من لزم الأدب مع الله تعالى أن لا يخرج من المسجد لأنه بيته الخاص ولولا خصوصية المسجد ما أمر الشارع بالاعتكاف فيه دون البيوت والأسواق وغيرهما ولو أراد صاحب القدم من الأولياء أن تحصل له مراقبة الله تعالى في غير المسجد مثل المسجد لما قدر فما أمرنا الله تعالى ورسوله بالاعتكاف في المسجد إلا لنتنبه لأنفسنا ونعلم أننا بين أيدي الله تعالى على الدوام شعرنا أو لم نشعر فإذا ذقنا ذلك في المسجد وتلذذنا بمراقبة الحق تعالى فيه انجر ذلك إن شاء الله تعالى إلى خارج المسجد وصرنا نشهد كوننا بين يدي الله تعالى على الدوام على الكشف والشهود إلا ما شاء الله تعالى
ومن هنا شرع القوم الخلوة للمريد ليتمرن على الوحدة وعدم الشواغل عن الله تعالى وأمر الأشياخ مريديهم بعدم مد الرجل في الخلوة على التقليد والإيمان بأنهم بين يدي الله تعالى وكذلك أمروه أن لا يشتغل في الخلوة إلا بالمأمورات الشرعية وذلك ليعاين العبد ربه فيها على التقليد
وقد قال بعضهم لا تناج ربك إلا بكلامه فإنك إن ناجيته بغير كلامه لم يجبك إلا إن كنت مضطرا فتسامح بمناجاته بغير كلامه تعجيلا لزوال الاضطرار . فاعلم أن المريد لا يزال يراعي الأدب إيمانا حتى يصير مشهودا ويصير يتأدب مع الله خارج الخلوة كما مر في الكتاب و والله لو كشف عن المؤمن الحجاب لما قدم على مجالسته تعالى شيئا ولكان الحجاب عليه أشد من دخوله النار
وانظر إلى اعتناء الحق جل وعلا بمحمد صلى الله عليه و سلم كيف جعل عينيه تنامان ولا ينام قلبه تعجيلا لنعيمه في الدنيا قبل الآخرة من غير أن ينقص من نعيمه الأخروي شيء وهذا المقام لغيره من الأنبياء ولكل وارث له من بعده فتنام عيناه ولا ينام قلبه وذلك ليكون حكمه من حيث شهود الحق تعالى كاليقظان وحكمه من جهة راحة جسده كالنائم ليعطى كل ذي حق حقه فعلم أن نوم الأكابر لا ينقص به رأس مالهم وإنما هو من نعمة الله تعالى عليهم لكونه غلبة لا تعمل لهم فيه بخلاف من يتعمل ويفرش تحته طراحة ويضع له مخدة لغير ضرورة فإن مثل هذا ينقص رأس ماله بيقين
واعلم يا أخي أنه يحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ وإلا فمن لازمه غالبا غفلته عن حضرة ربه بشهوة من شهواته فإنه ما تعاطاها مع معرفته بأنها تخرجه عن حضرة ربه إلا وهو مختار لها ففيها رائحة اختيار مجالسة غير الحق على الحق وذلك يكاد أن يكون حراما وأكثر الناس في غمرة ساهون عن جميع ما قلناه فلا يزال السالك يترك شهوة بعد شهوة حتى لا يكون بينه وبين ربه إلا حجاب العظمة ويصير مشاهدا لربه بلا كلفة كما لا يتكلف لدخول النفس وخروجه وما دام يغفل ويسهو فهو لم يتحقق بالمقام ومن هنا حفظ من حفظ من الأولياء ووقع من وقع منهم
وبالجملة فما دام مع العبد بقية غفلة فمن لازمه الحجاب ووقوعه فيما لا يليق وهو ما لم يأمره الحق به ولم يحثه عليه إذ العبد لا يجالس الحق تعالى إلا في فعل المأمورات أو اجتناب المنهيات وما عدا ذلك فلا يقدر على مجالسته فيه أبدا إنما هو يجالس الكون
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : من شرط الكامل أن لا يعمل بقول من الأقوال إلا مع الحضور مع صاحب القول من الحق تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم أو أحد من الأئمة أو مقلديهم فإذا كان يوم القيامة امتدت مجالسته المذكورة وانبسطت في الزمان وتنعم مع أصحابها بقدر مقامه في الحضور معهم ومن لم يحضر حال العمل مع صاحب ذلك الكلام الذي عمل به لم يتنعم يوم القيامة بشهود أصحابه ولا كأنه جالسهم قط
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : كل مقام لا يذوقه العبد هنا لا يعطاه هناك
فاسلك يا أخي على يد شيخ ناصح إن أردت أن تكون من أهل الله تعالى وإلا فأنت غافل عن الله تعالى في أكثر عباداتك كلها والله يتولى هداك (1/90)
- روى أبو داود وابن ماجه وغيرهما وقال الحاكم صحيح على شرط البخاري : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فرض صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ] ]
وروى الإمام أحمد وأبو داود مرفوعا : [ [ صاع من بر أو قمح على كل امرئ صغير أو كبير حر أو عبد ذكر أو أنثى غني أو فقير أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى ] ]
وروى أبو حفص بن شاهين في فضائل رمضان وقال حديث غريب جيد الإسناد مرفوعا : [ [ شهر رمضان معلق بين السماء والأرض ولا يرفع إلا بزكاة الفطر ] ]
وروى ابن خزيمة في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن هذه الآية : [ قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ] فقال : أنزلت في زكاة الفطر ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نخرج زكاة فطرنا كل سنة قبل صلاة العيد ولا نترخص في تركها إلا بطريق شرعي وهذا قد صار غالب الناس يخل به حتى بعض المشايخ وبعض العلماء فينبغي لكل شيخ في زاوية أو عالم في حارة أن يخرج زكاته قبل الناس ليقتدي الناس به فإنه قدوة لهم وقد صار في أفواه غالب الناس إذا قيل له افعل كذا أو كذا من الأمور التي أمره الله بها يقول قل هذا للعالم الفلاني فإننا ما رأيناه يفعل ذلك أبدا فإذا قيل لهم إذا علمتم أنكم مأمورون به من جهة الشارع تعين عليكم فعله ولو لم يعمل به العلماء فيقولون فإذا كان العلماء لا يقدرون على العمل به فنحن أعجز فاعذرونا من باب أولى فإننا أنقص منهم درجة في الإيمان وغاب عن هؤلاء أن الحجة بفعل العالم لا تكون إلا فيما لم يصل إلينا علمه من الشارع أما ما وصل علمه إلينا فلا حجة لنا في تركه لترك غيرنا وإنما ذلك حجة في قلة الدين
وقد أدركنا ونحن صغار أبواب المساجد والقمح على أبوابها كالكيمان من كثرة من يخرج زكاته الآن لا ترى على باب مسجد شيئا من القمح إلا في نادر من المساجد كل ذلك لعدم اعتناء الناس بالأوامر الشرعية وبذلك اندرست الشريعة فلا عالم يبدأ بالعمل قدام الناس ولا هو ينكر عليهم
بالقلب والغالب هكذا تخرج عظمة الله تعالى من قلوب هذه الأمة كما
خرجت من قلوب بني إسرائيل فعمهم الله بالعذاب
وقد كنت أترخص في ترك إخراج زكاة فطري مدة عمري لكوني ما ملكت قط نفقة يوم وليلة في ليلة العيد إلى أن دخلت سنة خمسين وتسعمائة فرأيت في واقعة عقب العيد أنني في أرض فضاء واسعة وفيها خلق كثير معهم شيء كالأرائك التي يتكأ عليها وكل واحد يرمي
أريكته نحو السماء فتصعد نحو أربعة أذرع وترجع إلى الأرض فرميت
أنا الآخر أريكتي فصعدت يسيرا ورجعت فقلت لملك من الملائكة بجنبي ما هذا ؟ فقال لي تنظر هذه الأرائك كلها وأصحابها ؟ فقلت نعم : فقال هؤلاء الذين صاموا رمضان ولم يخرجوا زكاة فطرهم فتطور صومهم كالأريكة جلدا محشوا لا روح فيه فقلت له أنا لم أملك قوت يوم وليلة فقال أما عندك قميص زائد ؟ أما عندك رداء زائد ؟ أما عندك قبقاب زائد ؟ تبيع ذلك وتشتري به قمحا وتخرج به زكاتك فقلت نعم فقال :
فأخرج فإن مثلك لا ينبغي له الأخذ بالرخص فتذكرت قبقابا جديدا كان عندي في صندوق أهداه لي بعض التجار فبعته وأخرجت زكاتي ومن تلك السنة وأنا أخرج زكاتي وزكاة من تلزمني نفقته وتقوى بذلك عندي الحديث الوارد في ؟ ؟ أن صوم رمضان موقوف بين السماء والأرض حتى يخرج العبد صدقته . فالحمد لله رب العالمين
فاخرج يا أخي زكاة فطرك ولا تبخل بشيء تبيعه من أمتعتك التي لا ضرورة
إليها في ثمن زكاة فطرك وتأمل نفسك وبذلها الدراهم الكثيرة للقاضي وحاشيته والمفتش وحاشيته إذا لم يمشوا لك حاجتك وحسابك الدنيوي بل ترى الحظ الأوفر لنفسك في إعطائها كل ما طلبه الولاة وذلك لتوفر داعية نفسك إلى محبة الدنيا دون الآخرة بل لو قال لك قائل لا تبذل هذه الفلوس كلها في تحصيل تلك الوظيفة أو في تمشية ذلك الحساب لا ترجع إليه وتخالف رأيه فهكذا يا أخي فليكن دينك عندك أرجح فإن لم يكن راجحا على حب دنياك فلا أقل من المساواة . وقد أجمع الأشياخ على أنه لا يقدر أحد يعامل الله تعالى للدار الآخرة حتى يرى الدنيا كلها في عينيه كالتراب لا يستكثر شيئا منها يبذله في مرضاة الله
وقالوا : من كانت دنياه أعز عليه من دينه فهو أخس الناس مرتبة عند الله وعند خلقه وإن عظمه أحد من الخلق فإنما ذلك لعلة دنيوية . فاعلم أنه ينبغي لكل من صار قدوة أن لا يتخلف عن فعل مأمور أو اجتناب منهي وذلك لئلا يكون من أئمة الضلال والله إني لأخرج من البيت لصلاة الجماعة وقراءة الورد وأنا أحس بعظمى أنه ذائب وربما أصطبغ في المجلس بين الفقراء وهم يقرءون الورد خوفا أن أتخلف فيتبعني بعض الكسالى على ذلك فأكون معدودا من أئمة الضلال أو يكون على وزر كل من تخلف بتخلفي فلا يوجد أحد أتعب قلبا ولا جسدا ممن يطلب أن يكون قدوة للناس في الخير إن بخل بخلوا وإن تكرم تكرموا وإن جبن عن الجهاد جبنوا وإن تشجع تشجعوا وإن أقام الليل قاموا وإن نام الليل ناموا وإن زهد في الدنيا زهدوا وإن رغب في شهواتها رغبوا وإن اغتاب الناس اغتابوا وإن حفظ لسانه حفظوا وإن أكل الحرام والشبهات أكلوا وإن خزن الدنيا خزنوا وإن أنفقها أنفقوا وإن ناقش نفسه في دسائسها ناقشوا أنفسهم كذلك وإن أهملها أهملوا وإن تحمل أذى الناس تحمل أصحابه وإن لم يتحمل لم يتحملوا وإن ستر عورات الناس ستروا وإن هتك عوراتهم هتك أصحابه كذلك تبعا له وإن تواضع للناس تواضع أصحابه وإن تكبر تكبروا وإن جلس على الحوانيت وأبواب المساجد جلس أصحابه كذلك وإن جلس في خلوته جلس أصحابه في خلاواتهم ؟ ؟ كذلك وهكذا في سائر الأحوال فالعاقل من اعتبر في نفسه ولم يكن عبرة لأحد
واعلم أنه قد ورد في حق الفقراء والمساكين : " أغنوهم عن الطواف هذا اليوم " . يعني أغنوهم عن الطواف على الناس للسؤال عن كل شيء يأكلونه يوم العيد ليصير لهم وقت يستريحون فيه ويفرحون بالعيد ويحصل لهم به سرور من أجل التعب والنصب في العبادة مدة شهر رمضان فإن أحدهم كان يجوع حتى يقع من الجوع المفرط ومقتضى الحديث السابق بقرينة العلة المذكورة أن إعطاء الفقراء والمساكين الطعام المطبوخ كالهريسة مثلا أفضل من إعطائهم الحب صحيحا وبه قال الإمام مالك رضي الله عنه فإن القمح مثلا يحتاج إلى غربلة وتنقية وطحن وعجن وخبز وأجرة ودخول وخروج ووقود وقدر وحوائج طعام وغير ذلك وهذا من الإمام مالك رضي الله عنه من باب التوسعة على الفقراء وتسهيل الأمر عليهم وإن خالف قاعدته الأغلبية من أن الوقوف على حد ما ورد أفضل من الابتداع
ولو استحسن وقد صحت الأحاديث بتعيين الحب دون الطعام واللحم النيء والمطبوخ ولكن قد أذن الشارع للأمة بعده أن يبينوا ما شاءوا بقوله : [ [ من سن سنة فله أجرها وأجر من عمل بها ] ] . وهم أمناء على الشريعة بعد الشارع صلى الله عليه و سلم فمن وقف غلى حد ما ورد فهو أحسن ومن تعدى إلى أمر تشهد له الشريعة بالحسن فهو حسن لا أحسن
وإنما كان الغالب على الناس إخراج الحبوب في عصر النبي صلى الله عليه و سلم لقلة الطواحين في عصره صلى الله عليه و سلم فكان كل واحد يطحن القمح على الرحى في بيته فلو أن المخرج للزكاة كاف طحن القمح أو طبخ الطبيخ مثلا للمساكين في ذلك اليوم الذي هو يوم أكل وشرب وبعال لنقص عليه السرور ذلك اليوم لأنه كان يشتغل ذلك اليوم كله في عمل الطعام لأهل بيته وللفقراء فعادل صلى الله عليه و سلم بين الدافع والآخذ في التعب في ذلك اليوم فعلى المخرج القمح فقط وما بعد ذلك على الفقير وإلا فمعلوم أن الفقير يفرح بالصحن الهريسة يوم العيد أكثر من فرحه بالقمح واللحم والدهن النيء لكون المطبوخ موافقا لسرور ذلك اليوم عكس القمح فإنه يدخل على الفقير هما وشغل بال حتى يصلح للأكل فيفوته كمال السرور في ذلك اليوم
ومن هنا قال بعض العارفين إنما سمي العيد بذلك لعود ما كان مأمورا به في غيره من العبادة مباحا تركه أو لعود ما كان منهيا عنه مباحا فيه من نحو الغفلة والسهو وعن الإكثار من العبادة وإعطاء النفس حظها من الشهوات لأن بدون ذلك لا يتم للإنسان سرور اليوم فمن حبس النفس للعبادة في يوم العيد فقد أخطأ حكمة الشارع التي طلبها لأمته في يوم العيد ففي الحديث : [ [ أعطوا الأجير أجرته قبل أن يجف عرقه ] ]
ولا شك أن النفس كانت مع صاحبها كالأجير في رمضان ليلا ونهارا فكان من المعروف إعطاء النفس حظها في يوم العيد فهو كالتنفيس لها من تعب التكليف فهكذا فلتفهم مقاصد الشارع صلى الله عليه و سلم فما قال لنا قط في يوم : [ [ إنه يوم أكل وشرب وبعال ] ] . إلا يوم العيد وأيام التشريق فالحمد لله رب العالمين
قال الخطابي رضي الله عنه : ومما يدل على تأكيد إخراج زكاة الفطر قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ [ فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم زكاة الفطر ] ] فإنه بين فيه أن صدقة الفطر فرض واجب كما في الزكاة الواجبة في الأموال وفيه بيان ما فرضه رسول الله صلى الله عليه و سلم ملحق بما فرض الله لأنه : [ من يطع الرسول فقد أطاع الله ] . [ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ]
قال : وقد قال بفريضة زكاة الفطر ووجوبها عامة أهل العلم وقد عللت بأنها طهرة للصائم من الرفث واللغو فهي واجبة على كل صائم غني ذي خدم أو فقير يجدها فضلا عن قوته وإذا كان وجوبها لعلة التطهير فكل صائم محتاج إلى التطهير فكما اشتركوا في العلة فكذلك يشتركون في الوجوب . وقال ابن المنذر : أجمع عامة أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض وممن حفظنا عنه ذلك من أهل العلم محمد بن سيرين وأبو العالية والضحاك وعطاء ومالك وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وأصحاب الرأي
وقال إسحاق هو كالإجماع من أهل العلم اه (1/91)
- روى ابن ماجه مرفوعا ورواته ثقات إلا واحدا : [ [ من ليلتي العيدين محتسبا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب ] ]
وفي رواية للأصبهاني مرفوعا : [ [ من أحيا الليالي الخمس وجبت له الجنة : ليلة التروية وليلة عرفة وليلة النحر وليلة الفطر وليلة النصف من شعبان ] ]
وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى لم يمت قلبه يوم تموت القلوب ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحي ليلتي العيدين بالصلاة ذات الركوع والسجود لأن إحياءهما بذلك هو المتبادر إلى الأفهام وبدل عليه عمل السلف الصالح كلهم بذلك وإن كان الإحياء يحصل بفعل كل خير من قراءة وتسبيح وغير ذلك كالصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال سيدي علي الخواص : ويجب أن يستعد لقيام كل ليلة أراد العبد قيامها بالجوع سواء ليلة العيدين أو الجمعة أو ليلة النصف من شعبان أو غير ذلك كالثلث الأخير من الليل إذا كان يقومه فإن من شبع قل مدده اه
وسمعته رضي الله عنه يقول : الحكمة في إحياء ليلتي العيدين أنه يعقبهما يوما لهو ولعب فيكون نور العبادة في هاتين الليلتين منبسطا على العبد ويمتد إلى النهار فيمسك رج العبد من غير أن يرخي عنانه بالكلية في ميدان الغفلة والسهو بخلاف من بات نائما إلى الصباح أو غافلا عن ربه فإنه يصبح مطلق العنان في الغفلات
فانظر ما أحكم أوامر الشارع وما أشفقه على دين أمته . فإذا علمت ذلك فكلف نفسك يا أخي في إحياء هاتين الليلتين ولو لم يكن لك بذلك عادة ولا تتعلل بأن السهر يشق عليك فإننا نراك تسهر في ليالي الأعراس كذا وكذا ليلة وربما كان ذلك من غير نية صالحة ولا امتثال لأمر الشارع فامتثال ما أمرك به أولى
وقد قلت مرة لشخص من أبناء الدنيا تعال اسهر معنا هذه الليلة وكانت ليلة العيد الأصغر فتعلل بأن السهر يضره فقلت له بالله عليك اصدقني إذا أردت أن تفتح مطلبا وأبطأ عليك البخور الذي تطلقه من العشاء إلى الفجر هل كنت تسهر إلى الصباح تترقب مجيئه ؟ فقال نعم فقلت له : فإذا أبطأ من بعد الفجر إلى المغرب هل كنت تترقبه ولا تنام ؟ فقال نعم فدرجته إلى تسعة أيام وهو يجد من نفسه أنه يقدر على السهر من غير وضع جنبه إلى الأرض فقلت له في اليوم العاشر فقال لا أقدر فقلت له : يا أخي فإذا أنت تؤثر الدنيا على الآخرة ؟
فقال نعم : ولو كنت أحب الآخرة لكان الأمر بالعكس . فقلت له : فإذن يجب عليك اتخاذ شيخ يخرجك من محبة الدنيا وشهواتها حتى تنقلب تلك الداعية التي كانت عندك في فتح المطلب إلى محبة الأجر الأخروي وتصير تحس بنفسك أنك تقدر تسهر في الخير تسعة أيام بلياليها من قوة الداعية كما هو شأن أهل الله على الدوام وذلك أنهم كانوا إذا دعوا للسهر في الخير أجابوا وإذا دعوا للسهر في التفرج على المخبطين لا يجدون لهم داعية وذلك لاعتناء الحق تعالى بهم وراثة محمدية كما ورد أنه صلى الله عليه و سلم عزم ليلة وهو شاب أن يسهر مع فتيان مكة في لهو فأخذ الله بروحه إلى الصباح فلم يسيقظ حتى أحرقه حر الشمس . فاسلك يا أخي على يد شيخ حتى لا تصير تجد ثقلا من العبادة وبمجرد ما يأتي وقت عبادة أمرك الحق تعالى بها تتوفر الدواعي منك على فعلها ولو كان وراءك ألف غرض تركته لئلا يفوتك امتثال أمر ربك أو الأجر الباقي الذي جعله لك الحق في ذلك الأمر بل تعمل إذا عارضك أحد في طريقه ومنعك منه ألف حيلة كما تفعل ذلك في أهوية نفسك فتأمل ذلك والله يتولى هداك (1/92)
- روى الطبراني مرفوعا : [ [ زينوا أعيادكم بالتكبير ] ]
قال الحافظ المنذري ولكن فيه نكارة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرفع أصواتنا بالتكبير في الأوقات التي ندب إليه فيها كالعيدين وأيام التشريق في المساجد والطرق والمنازل ولا نتعلل بالحياء من ذلك [ أي لا نتعلل أنا نستحيي من ذلك ] تقديما لامتثال أمر الله عز و جل على حيائنا الطبيعي وكذلك نأمر به من حضر عندنا من الأمراء والأكابر بل هم أولى من الفقراء بالتكبير ليخرجوا عن صفة الكبرياء التي تظاهروا بها في ملابسهم ومراكبهم فكأن أحدهم بقوله الله أكبر قد تبرأ من كبرياء نفسه وتعاظمها
وهنا أسرار أخر في ذلك لا تذكر إلا مشافهة وصفة التكبير ووقته مقرر في كتب الفقه . والله تعالى أعلم (1/93)
- روى ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسا ] ]
وروى ابن ماجه والحاكم وغيرهما وقال الحاكم إنه صحيح الإسناد : [ [ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا : ما هذه الأضاحي فقال سنة أبيكم إبراهيم ؟ قالوا فما لنا فيها يا رسول الله ؟ قال : بكل شعرة حسنة قالوا : فالصوف ؟ قال بكل شعرة من الصوف حسنة ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ ما عمل ابن آدم في هذا اليوم - يعني يوم العيد الأضحى - أفضل من دم يهراق إلا أن يكون رحما يوصل ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ يا أيها الناس ضحوا واحتسبوا بدمائها فإن الدم وإن وقع في الأرض فإنه يقع في حرز الله عز و جل ] ]
وفي رواية له مرفوعا : [ [ من ضحى طيبة بها نفسه محتسبا لأضحيته كانت له حجابا من النار ] ]
وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ ما أنفقت الورق في شيء أحب إلى الله من نحر ينحر في يوم العيد ] ]
وروى الحاكم مرفوعا وموقوفا ولعله أشبه : [ [ من وجد سعة لأن يضحي فلم يضح فلا يحضرن مصلانا ] ]
وروى أبو داود والترمذي وغيرهما مرفوعا : [ [ خير الأضحية الكبش ] ] زاد ابن ماجه [ [ الأقرن ] ] والله تعالى اعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نضحي عن أنفسنا وعيالنا وأولادنا كل سنة ولا نترك التضحية إلا لعذر شرعي . والحكمة في ذلك إماطة الأذى عمن ذبحت على اسمه ومغفرة ذنوبه فعلم أن من شرط دفع الضحية البلاء عن أهل المنزل أن تكون من وجه حلال . فليحذر الشيخ أو العالم من التضحية بما يرسله مشايخ العرب أو الكشاف من نهب غنم البلاد وبقرها فإن ذلك يزيد في البلاء على أهل المنزل
واعلم أيضا أنه لا يكفي شراء اللحم والتصدق به لأن السر إنما هو في إراقة الدم ومن لم يكن له قدرة على شراء أضحية وليس عنده فضل ثوب ولا دابة فليكثر من الاستغفار بدل الأضحية فلعل الاستغفار يجبر ذلك الخلل وكذلك ينبغي للفقراء المتجردين أن يذبحوا نفوسهم بسيوف المخالفات وليس لأحد التهاون بأوامر الله عز و جل حسب الطاقة . والله غفور رحيم (1/94)
- روى البزار وأبو الشيخ وابن حبان : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة رضي الله عنها : [ [ قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها أن يغفر لك ما سلف من ذنوبك قالت : يا رسول الله ألنا ذلك خاصة أهل البيت أو لنا وللمسلمين ؟ قال بل لنا وللمسلمين ] ]
وفي رواية للأصبهاني مرفوعا : [ [ يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها مغفرة لكل ذنب أما أنه يجاء بدمها ولحمها فيوضع في ميزانك سبعين ضعفا . فقال أبو سعيد : يا رسول الله هذا لآل محمد خاصة فإنهم أهل لما خصوا به من الخير أو لآل محمد وللمسلمين عامة ؟ قال : لآل محمد خاصة وللمسلمين عامة ] ] . قال الحافظ المنذري : وقد حسن بعض مشايخنا هذا الحديث . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نذبح أضحيتنا بنفسنا وإن كان لنا عذر شرعي وكلنا من يذبح عنا وحضرنا الذبح اهتماما بأوامر الله عز و جل وهذا العهد يخل به كثير من الناس فلا يذبح بنفسه ولا يحضر الذبح فينبغي الاعتناء بما ذكرنا (1/95)
- روى الحاكم مرفوعا وقال صحيح الإسناد : [ [ من باع جلد أضحيته فلا أضحية له ] ]
قال الحافظ المنذري : وقد جاء في غير ما حديث نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع جلد الأضحية . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتصدق بلحم أضحيتنا حتى جلدها كما ورد ولا ندخر اللحم عندنا لنأكله في المستقبل كما يفعله بخلاء الناس فإن ذلك لا يدفع عنا البلاء الذي شرعت له الأضحية وكان هذا البخيل يقول رضيت بأني آكل أضحيتي ولا يندفع عني بلاء وهذا من خفة العقل فربما يحدث ببدنه حكة أو جرب أو جراحات أو جذام أو تهمة باطلة ونحو ذلك فيندم حيث لا ينفعه الندم ثم إن جميع ما يحصل له بعض ما يستحق مع أن ذلك لا يهون قط على الشارع صلى الله عليه و سلم كما لا يهون على الوالد وقوع البلاء والعقوبة بولده العاق له . ومن أشرب قلبه الإيمان ومحبة الشارع صلى الله عليه و سلم ألقى قياده له فإنه لا يأمر قط بشيء إلا وفيه مصلحة للعبد في الدنيا والآخرة . وليحذر المضحي أن يرى له فضلا على من يرسل إليه اللحم من الفقراء بل يرى الفضل عليه للفقير الذي يتحمل عنه البلاء بذلك الورك مثلا بل لو عرض عليه وجع الضرس مثلا حتى يمنعه نوم الليل والأكل والشرب فجاء شخص يتحمل عنه ذلك بالأضحية كلها لسمحت نفسه بها . ومثال الفقير الذي يتحمل البلاء عن صاحب الصدقة مثال من غسل ثوب إنسان من الوسخ أو فصده وأخرج من بدنه الدم الفاسد فلا يليق بصاحب الثوب والدم أن يرى نفسه على من غسل ثوبه أو فصده بل اللائق به إعطاؤه الدراهم والشكر له . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/96)
- روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ إذا قتلتم فأحسنوا القتلة - يعني فيما أمرتم بقتله - وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ] ]
وروى الطبراني ورجاله رجال الصحيح : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها قال : أفلا قبل هذا ؟ أوتريد أن تميتها موتتين ؟ ] ] . وفي رواية الحاكم : [ [ موتات هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟ ] ]
وروى ابن ماجه عن ابن عمر قال : [ [ أمر النبي صلى الله عليه و سلم بحد الشفار وأن توارى عن البهائم وقال : إذا ذبح أحدكم فليجهز ] ]
والشفار : جمع شفرة وهي السكين وقوله فليجهز أي فليسرع ذبحها ويتمه
وروى عبدالرزاق موقوفا : إن عمر رضي الله عنه رأى رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له : ويلك قدها إلى الموت قودا جميلا
وسيأتي إن شاء الله في عهد الشفقة والرحمة على خلق الله مزيد أحاديث والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحسن الذبحة وذلك بإحداد الشفرة بحيث لا تراها البهيمة والإسراع بالذبح في المنحر
ومن هنا استحب العلماء النحر لكل ما طال عنقه دون الذبح تعجيلا لزهوق الروح وإنما يرحم الله من عباده الرحماء وفي الحديث أيضا : [ [ إن الله كتب الإحسان على كل شيء ] ] اه
فمن ذبح البهيمة بغير رحمة تطرق قلبه بها فهو جبار ليس له في ديوان المحسنين ولا في أجورهم سهم ولا نصيب ومن لا يرحم لا يرحم (1/97)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ أفضل العمل إيمان بالله ورسوله
قيل ثم ماذا يا رسول الله ؟ قال : الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا ؟ قال :
حج مبرور ] ]
وفي رواية لابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ أفضل الأعمال عند الله تعالى إيمان لا شرك فيه وغزو لا غلول فيه وحج مبرور ] ]
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : حجة مبرورة تكفر خطايا سنة
قال الحافظ : والمبرور هو الذي لا يقع فيه معصية
وفي حديث جابر مرفوعا : [ [ إن بر الحج إطعام الطعام وطيب الكلام ] ]
وفي رواية : [ [ وإفشاء السلام ] ]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] ]
وفي رواية الترمذي : [ [ غفر له ما تقدم من ذنبه ] ]
قال ابن عباس : والرفث هو ما روجع به النساء
وقال الأزهري : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة فيما يتعلق بالجماع
وقال الحافظ المنذري ويطلق الرفث أيضا ويراد به الجماع ويطلق ويراد به الفحش ويطلق ويراد به خطاب الرجل المرأة فيما يتعلق بالجماع
وقد نقل في معنى الحديث كل واحد من الثلاثة عن جماعة من العلماء . والله تعالى أعلم
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ إن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ] ]
وروى مسلم وغيره مرفوعا : [ [ جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج والعمرة ] ]
وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه : [ [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله هل على النساء من جهاد ؟ قال عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ حجوا فإن الحج يغسل الذنوب كما يغسل الماء الدرن ] ]
وروى ابن خزيمة في صحيحه قال : ولكن في القلب من واحد من رواته شيء مرفوعا : [ [ إن آدم عليه السلام أتى البيت ألف أتية لم يركب قط فيهن من الهند على رجليه ] ]
وروى أبو يعلى مرفوعا ورواته ثقات إلا واحدا : [ [ من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نبادر بالحج إذا استطعناه لاسيما عند خوفنا اخترام المنية ولا نتأخر لعلة دنيوية ولا لخوف الموت في الطريق كما يقع فيه بعض من غلب عليه حب الدنيا وشق عليه مفارقة أهله وأوطانه وشربه الماء الحلو وأكله الفواكه وجلوسه في الظل وجمعه المال من وظائفه وغير ذلك فيموت أحدهم من غير أن يحج حجة الإسلام وذلك في غاية النقص فإنه لا يكمل أركان دين الغني والفقير إلا بالحج
وقد قلت مرة لبعض طلبة العلم : ألا تحج ؟ فقال لا أستطيع فقالت له : لماذا ؟ فقال : خوفا أن يسعى أحد على وظيفة تدريسي للعلم . فقلت : هذا ليس بعذر شرعي فإن تدريس العلم ما شرع إلا بغير معلوم احتسابا لوجه الله وما أحد يعارض في مثل ذلك فقال : أخاف أن يأخذها أحد لأجل معلوم الذي فيها فقلت له : كم عيالك ؟ فقال أربعة أنفس فقلت له : كم لك من المعلوم كل يوم فقال عشرة أنصاف غير معلوم هذه الوظيفة فقلت : إنها والله تكفيك فتهاون في الحج حتى جاءه شخص فسرق من بيته قبيل موته نحو ثلاثمائة ذهبا فدخلت له فقلت له : أين قولك إنك لا تستطيع الحج فقال حب الدنيا غلب على قلوبنا فقلت له : فيجب عليك أن تتخذ لك شيخا ليسلك بك الطريق حتى يخرجك من محبة الدنيا فقال لا أستطيع مجاهدة نفسي فقلت له فاذهب من هذه الدار فقال ما هو بيدي فقلت له : قل اللهم اقبضني إن كان الموت خيرا لي فقالها فمات بعد شهر رحمه الله
واعلم يا أخي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يجعل تكفير الخطايا إلا في الحج المبرور الذي لا إثم عليه ومن يترك الصلاة في الطريق أو يخرجها عن وقتها فهو عاص لم يبر حجه فلا يكفر عنه حجه خطيئة واحدة كما ستأتي الإشارة إليه في الأحاديث
فواظب يا أخي على الصلاة في الطريق وحرر النية الصالحة وحج واعتمر عند القدرة وإلا خسرت فلوسك ودينك والله يتولى هداك (1/98)
- روى الحاكم مرفوعا وقال صحيح على شرط الشيخين : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعائشة في عمرتها : [ [ إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك ] ] . والنصب هو التعب وزنا ومعنى
وروى الإمام أحمد والطبراني والبيهقي وإسناده حسن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف ] ] . وفي رواية [ [ الدرهم بسبعمائة ] ]
وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ ما أمعر حاج قط ] ] . قيل لجابر ما الإمعار ؟ قال : ما افتقر . ورواه البزار ورجاله رجال الصحيح
وروى الطبراني والأصبهاني مرفوعا : [ [ إذا خرج الحاج حاجا بنفقة طيبة فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك زادك حلال وراحلتك وحجك مبرور غير مأزور وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فنادى لبيك ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك مأزور غير مبرور ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ننفق في الحج والعمرة بقدر وسعنا ولا نتكلف لما فوق مقامنا من الجمال أو المحفة أو المحارة أو مؤونة الأكل أو الحلاوات خوفا أن يعقبنا ندم لمعاملتنا غير الله مع إظهار أن ذلك لله تعالى ولا نتقرب إلى الله تعالى بشيء تنقبض النفس للإنفاق فيه عاجلا أو آجلا وإنما اللائق أن ينفق الإنسان ماله في مرضاة الله وهو منشرح القلب والقالب وذلك لا يكون إلا إذا أنفق من ماله حسب طاقته وإلا فمن لازمه غالبا ارتكابه الدين ودخول الفخر وحب السمعة في حجه فإن من أوسع في النفقة فوق طاقته فالغالب عليه وقوعه فيما ذكرنا لا سيما إن كان شيخا أو علما لا كسب له فإن الإنسان ربما ساعدوه بالنفقة حتى الكشاف ومشايخ العرب وغيرهم من الظلمة إذ لو تبع الحل وتورع لما وجد في هذا الزمان أجرة ركوبه على الجمل بلا محمل ولكن والله قد دخل الدخيل في الأعمال لقلة الناصحين من العلماء والصالحين فإن من لا ينصح نفسه لا ينصح الناس ومن يغش نفسه لا يبعد أن يغش الناس
وقد حج صلى الله عليه و سلم على رحل رث يساوي ثلاثة دراهم ثم قال : [ [ اللهم اجعله حجا لا رياء فيه ولا سمعة ] ]
واعلم يا أخي أن كل من تكلف ودخله الفخر في حجه فهو إلى الإثم أقرب فإياك يا أخي وقبول المعونة في الحج ممن لا يتورع في مكسبه كالتجار الذين يبيعون على الظلمة والمساكين ولا يردونهم إذا اشتروا منهم أو كمشايخ العرب فإن كسبهم يكاد أن يكون سحت السحت وكذلك جمالهم يأخذونها من بلادهم من الناس غصبا في حجة حمول جماعة السلطان فربما أرسلوا لسيدي الشيخ جملا أو جملين فحج عليها فيذهب غارقا في المعصية إلى أن يرجع أو يموتا منه في الطريق
وإنما نبهناك يا أخي على مثل ذلك لعلمي بأن النفس غالبة على كل من لم يسلك الطريق على يد شيخ أو لم تحفه عناية الله تعالى فيدخل أعماله العلل والرياء وحب الشهرة بالكرم أو السخاء في الطريق ليقال فإن أبا مرة لا يترك مثل هؤلاء يأتون بأعمالهم كاملة بل ولا ناقصة فيزين لهم أعمالهم ويهون عليهم المساعدة في الحج بمال الظلمة ولا يكاد أحدهم يسلم له شيء من أعماله . وما رأت عيني في الثلاث سفرات التي سافرتها أحدا حج من العلماء وتورع في مأكله وملبسه مثل أخي الشيخ الصالح شمس الدين الخطيب الشربيني المفتي بجامع الأزهر فسح الله في أجله فإني رأيته لا يقبل من أحد شيئا لنفقة نفسه في الطريق ويكري له جملا لا يكاد يتميز من جمال عرب الشعارة ويصير يمشي عن الجمل في أكثر الأوقات ليلا ونهارا فيمشى ويتلو القرآن والأوراد ولا يركب إلا عند التعب الشديد رحمة بالجمل ثم يحرم مفردا فلا يحل من إحرامه حتى يتحلل أيام منى وأكثر أيامه صائما في مكة وغيرها وإن جاءه غداء أو عشاء أطعمه لفقراء مكة وطوى ولا يمل من الطواف بالبيت ليلا ونهارا وفي طول الطريق يعلم الناس مناسكهم ولا تكاد تسمع منه كلمة لغو يبدؤك بها فضلا عن كلمة غيبة في أحد تعريضا أو تصريحا رضي الله عنه وزاده من فضله . فحج يا أخي مثل هذا الأخ وإلا فلا تحج غير حجة الإسلام
وقد رأيت شخصا أخر أقام من العلماء بمكة سنتين فجلست عنده نحو درجة في الحجر فحرقوا في أهل مكة ثم اتصل إلى علماء مصر فلا خلى ولا بقى فقلت له : يا أخي جلوسك في هذه البلد معصية وجميع ما تحصله من الخير في مكة لا يرضى به واحدا من هؤلاء العلماء الذين استغبتهم يوم القيامة بل أعرف واحدا لا يرضيه جميع أعمالك الصالحة في غيبة واحدة فضلا عن أعمالك التي دخلها الدخيل ثم قلت له : لو علم أهل مصر ما أنت منطو عليه ما حسدك أحد على هذه الإقامة بل كان يستعيذ بالله من حالك فيا طول ما سمعتهم يقولون : هنيئا لفلان . فإياك يا أخي أن تسلك هذا المسلك والله يتولى هداك (1/99)
- روى أبو داود وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ عمرة في رمضان تعدل حجة معي ] ] . وفي رواية للبخاري والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ عمرة في رمضان تعدل حجة ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نعتمر في رمضان إذا جاورنا بمكة أو دخلنا في رمضان ولا نفوتها إلا لعذر شرعي فإنه ورد أنها تعدل حجة وذلك لما عند الإنسان من الصفاء والنور في رمضان لما هو عليه من الجوع وكثرة العبادة والأجر يعظم بحسب شدة القرب من حضرة الله تعالى ولا شك أن الجيعان يكاد يلحق بخدام أهل الحضرة من الملائكة والأنبياء بخلاف الشبعان فإنه بعيد منها قريب من حضرة البهائم وأين عبادة المتدنس المتلطخ بالفواحش من عبادة المتطهر منها فاعلم ذلك والله يتولى هداك (1/100)
- روى الترمذي في الشمائل وابن ماجه عن أنس قال : [ [ حج النبي صلى الله عليه و سلم على رحل رث وقطيفة خلقة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي ثم قال : اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة ] ] . والقطيفة : كساء بال له خمل
وروى البخاري أن أنسا رضي الله عنه حج على رحل ولم يكن شحيحا وحدث : [ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم حج على رحل وكانت زاملة ] ]
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن قدامة بن عبدالله قال : رأيت رسول الله صلى الله وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك
وروى ابن ماجه بإسناد صحيح وابن خزيمة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بوادي الأزرق بين مكة والمدينة فقال : كأني أنظر إلى موسى عليه الصلاة و السلام واضعا أصبعه في أذنه له جوار [ مراجعة الكتاب هل هي " خوار " ؟ ؟ ] إلى الله تعالى بالتلبية مارا بهذا الوادي وقال ابن عباس فسرنا حتى أتينا على ثنية هرشى فقال النبي صلى الله عليه و سلم أي ثنية هذه ؟ قالوا ثنية هرشى أو لفت قال : كأني أنظر إلى يونس صلى الله عليه و سلم على ناقة حمراء عليه جبة صوف وخطام ناقته خلبة مارا بهذا الوادي ملبيا . وثنية هرشى : قريبة من الجحفة ولفت بكسر اللام وفتحها هي ثنية جبل قديد بين مكة والمدينة . والخلبة : هو الليف كما ورد في رواية أخرى
وروى الطبراني وإسناده حسن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ في مسجد الخيف سبعون نبيا منهم موسى عليه الصلاة و السلام كأني أنظر إليه وعليه عباءتان قطوانيتان وهو محرم على بعير من إبل شنوءة مخطوم بخطام ليف له ضفيرتان ] ]
وروى الإمام أحمد والبيهقي عن ابن عباس قال : [ [ كان لما مر النبي صلى الله عليه و سلم بوادي عسفان حين حج قال : لقد مر به هود وصالح على بكرات خطمها الليف أزرهما العباء وأرديتهم النمار يحجون البيت العتيق ] ] . وعسفان : موضع على مرحلتين من مكة . والبكرات : جمع بكرة بسكون الكاف وهي الفتية من الإبل . والنمار : جمع نمرة وهو كساء مخطط
وروى الطبراني : [ [ أن موسى عليه الصلاة و السلام حج على ثور أحمر وعليه عباءة قطوانية ] ] ورواته ثقات إلا ليث بن أبي سليم
وروى أبو يعلى والطبراني مرفوعا : [ [ لقد مر بالروحاء سبعون نبيا منهم نبي الله موسى حفاة عليهم العباءة يؤمون بيت الله العتيق ] ]
وروى ابن ماجه بإسناد حسن : [ [ أن رجلا قال يا رسول الله من الحاج ؟ قال الشعث التفل قال : فأي الحج أفضل ؟ قال : العج والثج قال : وما السبيل ؟ قال الزاد والراحلة ] ] . وفي رواية : [ [ قال فما يوجب الحج ؟ فقال الزاد والراحلة ] ] . رواه ابن ماجه بإسناد حسن . والتفل : بفتح التاء وكسر الفاء هو الذي ترك الطيب والتنظيف حتى تغيرت رائحته . والعج : هو رفع الصوت بالتلبية أو التكبير . والثج : هو نحر البدن
وفي حديث أحمد وابن حبان في وقوف الناس بعرفة مرفوعا : [ [ إن الله تعالى يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة ويقول عبادي جاءوني شعثا غبرا ] ] الحديث . والشعث من الناس هو البعيد العهد بتسريح شعره وغسله والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكثر من التواضع في الحج ونلبس ثياب الدون اللائقة بالخدمة في السفر ونحرم في العباية الغليظة دون الخمسيني الرفيع ونحو ذلك مما يفعله التجار وغيرهم كل ذلك اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام . فعلم أنه لا ينبغي لبس الثياب الرقيقة والفرجيات المحررات التي فيها خطوط حمر وخضر وصفر ونحو ذلك من لباس أهل الرعونات لأن لثياب الزينة محلا مخصوصا ليس هذا موضعه . وقد أجمع أهل الله عز و جل على أن من كان فيه صفة الغنى أو رائحة التكبر لا يدخل حضرة الله تعالى ولا يحصل له شيء من الإمدادات التي تفرق على أهل تلك الحضرة قال الله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } والمتكبر ولابس الثياب الفاخرة فخرا ليس فيه صفة الافتقار ولا مسكنة إنما فيه صفة الجبابرة فينبغي لمن عادته في بلده الملابس الفاخرة أن يبيعها كلها ويأخذ له ثيابا تناسب حالة الفقراء والمساكين في الطريق حتى يرجع من الحج وربما زاد من تلك الثياب على مائة دينار ثم إن احتاج إلى صرف ثمنها في مؤونة سفره نفعته وإن استغنى عنها تصدق منها صدقة مضاعفا كل درهم يرجح على ألف درهم في الحضر فضلا عن ثواب لبس الثياب الفاخرة بقصد إظهار النعمة وقتا آخر ليس هذا موضعه ولعل إركابه عاجزا مرحلة واحدة أفضل من حجه هو ولو أن ثيابه الفاخرة كانت معه في الطريق ربما لا تنفعه لقلة من يشتريها في السفر
وكذلك ينبغي لمن يحج أن لا يستصحب معه الهدايا من شاشات وأزر وحبر كما يفعله التجار لأن ميزان الحق منصوبة على من ورد تلك الحضرة ولم يقطع عنه علائق الدنيا بأجمعها ثم إنها ربما تسرق منه في الطريق وإن لم تسرق منه نقص بعض رأس ماله في الدين وكان الأولى له أن ينفق ثمن تلك الهدايا على فقراء مكة أو يحملها معه لمن عجز في الطريق عن النفقة أو عن المشي فينبغي للحاج أن تكون له بصيرة . وقد رأيت شخصا من الفقراء أشرف على الموت من الجوع والعطش والتعب فجاء إلى شخص في محمل عظيم فقال اسقني لله أو ركبني لله فقال يفتح الله عليك فقال أعطني دينارا أركب به فقال ما معي شيء فصدقته لكونه مشهورا بالدين فرد الفقير وهو يقول في سبيل الله دورانك في هذه الجبال والله للقمة أو شربة ماء لفقير أرجح من طبل خاناتك ولو أن هذا الراكب في المحمل كان عنده بصيرة لحسب حساب الفقراء والمساكين وأبقى لهم بقية نفقة وإلا ركب مقتبا فإن المحمل مشورا [ مشهورا ؟ ؟ ] ويقصد الناس الراكب فيه فإن لم يقم بواجبه وإلا فليركب في شيء مستور ثم إن راكب ذلك المحمل تخاصم مع زوجته تلك الليلة فسمعته يقول لها : لك معي سبعين بندقيا قم يا فلان عدها من كيسي فتعجبت من رده ذلك السائل في وادي النار قبيل الأزلم بمرحلة مما يلي الينبوع وقد بلغني أن ذلك الفقير مات تلك الليلة فمثل هذا حجه إلى الإثم أقرب . فإياك أن تتبعه في مثل ذلك وقد تقدم في عهد إطالة الجلوس في المساجد وتخفيفه في السوق نبذة صالحة في آداب المسجد الحرام وبيان أن من الأدب أن لا يبيت المقيم بمكة على دينار ولا درهم وهو يعلم أن فيها جائعا أو محتاجا وأن لا يخطر على باله مدة إقامته بمكة معصية وأن لا يمسك طعاما أو شرابا إلا لضرورة فلا بأس بمراجعتها . { والله غفور رحيم } (1/101)
- روى الترمذي وابن ماجه والبيهقي مرفوعا : [ [ ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا عن يمينه وشماله ] ]
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية ] ] . زاد في رواية ابن خزيمة وابن حبان : [ [ فإنها - يعني التلبية من شعار الحج ] ]
وروى الطبراني والبيهقي مرفوعا : [ [ ما أهل مهل قط ولا كبر مكبر قط إلا بشر قيل يا رسول الله بالجنة ؟ قال نعم ] ]
وفي رواية للإمام أحمد وابن ماجه : [ [ ما من محرم يضحي لله يومه ويلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه ] ] . ومعنى يضحي أي لا يجعل بينه وبين الشمس حجابا لأن الضح هو الحر والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله عليه وسلم ) أن نرفع أصواتنا بالتلبية ولا نتعلل بالحياء من الناس كما يفعله بعض الكبراء فإن ذلك وقت لا يراعى فيه إلا الله عز و جل . والمراد بالتلبية إظهار العبودية وإننا أجبنا الداعي لنا إلى الحج ولم نتخلف تهاونا به . وقد راعى الشارع صلى الله عليه و سلم رفع الصوت بذلك ولم يكتف بإذعان قلوبنا كما راعى أفعال الصلوات ولم يكتف بما في باطننا من الخضوع . وقد قلت مرة لشخص من الأكابر أما ترفع صوتك بالتلبية ؟ فقال : أستحي فما مهدت له دهليزا حتى رفع صوته إلا بعد جهد كبير وكل هذا من شدة الجفاء وعدم مخالطة أهل الشريعة فارفع صوتك يا أخي والله يتولى هداك (1/102)
- روى الإمام أحمد أنه قيل لعبدالله بن عمر ما لي لا أراك تستلم إلا هذين الركنين : الحجر الأسود والركن اليماني ؟ فقال ابن عمر إنما أفعل ذلك لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ إن استلامهما يحط الخطايا ] ] . قال : وسمعته أيضا يقول : [ [ من طاف أسبوعا يحصيه وصلى ركعتين كان كعدل رقبة ] ] . قال وسمعته يقول : [ [ ما رفع رجل قدما ولا وضعها إلا كتبت له عشر حسنات وحط عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات ] ]
وفي رواية للحاكم وقال صحيح الإسناد : [ [ أن ابن عمر قال : إنما أفعل ذلك لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول مسحها يحط الخطايا ] ]
وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ من طاف بالبيت أسبوعا لا يلغو فيه كان كعدل رقبة يعتقها ] ] . والعدل بالفتح المثل وما عادل الشيء من عين جنسه وبالكسر ما عادله من غير جنسه وكان نظيره . وقال البصريون : العدل والعدل لغتان وهما المثل وروى الترمذي مرفوعا : [ [ من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] ] . وقال البخاري : هو من قول ابن عباس رضي الله عنهما
وروى الترمذي وقال حديث حسن وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والطبراني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في الحجر : [ [ والله ليبعثنه الله يوم القيمة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق ] ] . قلت : قال بعض المحققين وعلى هنا بمعنى اللام وقال الشيخ محي الدين في الفتوحات : الحق أن على هنا على بابها وأن الحق تعالى إنما كلف العبد أن يستلم الحجر بصفة عبوديته وافتقاره وذله لا بصفة ربوبيته وسيادته من كونه يقول : فعلت قمت قعدت ومن جهة كون الحق شرفه على غيره من الحيوانات فقوله : بحق أي بصفة لا تليق إلا بالحق كالكبرياء والعظمة فمن استلمه كذلك شهد الحجر عليه لا له وتأمل ذلك فإنه دقيق قال ولما أودعت الحجر الأسود شهادة التوحيد خرجت الشهادة عند تلفظي بها وأنا أنظر إليها بعيني في صورة ملك وانفتح في الحجر الأسود طاق حتى نظرت إلى قعر الحجر والشهادة قد صارت مثل الكعبة واستقرت في قعر الحجر وانطبق الحجر عليها وانسد ذلك الطاق وأنا أنظر إليه فقال لي الحجر هذه أمانة لك عندي أرفعها لك عندي إلى يوم القيامة فشكرته على ذلك اه . والله أعلم
وروى الإمام أحمد بإسناد حسن والطبراني مرفوعا : [ [ إن الركن اليماني يوم القيامة أعظم من أبي قبيس له لسان وشفتان ] ] . زاد في هذه الرواية الطبراني : [ [ يشهد لمن استلمه بالحق وهو يمين الله عز و جل يصافح بها خلقه ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح مرفوعا : [ [ نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم ] ] . وفي رواية لابن خزيمة : [ [ أشد بياضا من الثلج ] ]
وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ الحجر الأسود من حجارة الجنة وما في الأرض من الجنة غيره وكان أبيض كالمهى ولولا ما مسه من رجس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا برئ ] ] والمهى مقصورة : جمع مهاة وهي البلورة
وفي رواية لابن خزيمة : [ [ الحجر الأسود ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة وإنما سودته خطايا المشركين يبعثه الله يوم القيامة مثل أحد ] ] . الحديث
وروى الطبراني موقوفا بإسناد صحيح : [ [ نزل الحجر الأسود من السماء فوضع على أبي قبيس كأنه مهاة بيضاء فمكث أربعين سنة ثم وضع على قواعد إبراهيم ] ]
وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولولا أن الله تعالى طمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب ] ]
وروى ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه والحاكم عن ابن عمر قال : [ [ استقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب يبكي فقال : يا عمر هنا تسكب العبرات ] ]
وروى ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قبل الحجر بعد الطواف وضع يديه عليه ثم مسح بهما وجهه والله تعالى اعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكثر من الطواف واستلام الحجر الأسود والركن اليماني مدة إقامتنا بمكة المشرفة وكذلك نكثر من الصلاة في المقام وندخل البيت لكن بعد الاستعداد بالجوع المفرط حتى تخشع وتذل نفوسنا فإن تلك حضرة لا أقرب منها في سائر المساجد فإن خفنا من الزحمة اكتفينا بدخول الحجر فإنه من البيت إن شاء الله تعالى
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : من شبع في مكة فهو كالبهائم لأن الشبعان ينعقد عليه بخار الأكل كأنه بيضة فولاذ سابغة على جسمه فلا يكاد يصيبه شيء من مطر الرحمة النازل هناك ومن كان جائعا فكأنه عريان تحت المطر فيغرق في الرحمة إن شاء الله تعالى
وأخبرني سيدي علي الخواص أن سيدي إبراهيم المتبولي لما حج كلمته الكعبة وبشرته بقبول حجه تلك السنة ووقع بينه وبينها معاتبات ومباسطات اه
وكذلك رأيت أنا في الفتوحات المكية أن الشيخ أخبر أنه وقع بينه وبين الكعبة مراسلات ومخاطبات وذكر أنه رآها ناقصة في بعض المقامات فكملها وتتلمذت له حتى رقاها هكذا . قال رضي الله عنه ولكل مقام رجال
وسمعت سيدي عليا الخواص أيضا رحمه الله يقول إنما كان الحجر الأسود أسود لأنه ليس في الألوان لون يدل على السيادة إلا اللون الأسود وأن معنى [ [ سودته خطايا بني آدم ] ] أي جعلته سيدا بكثرة التقبيل قال وكذلك القول في اسوداد جلد آدم لما خرج من الجنة إلى الأرض كان دليلا على حصول السيادة بخروجه من الجنة إلى الأرض لأنها دار خلافته وقد أجمع المحققون على أن الأنبياء لا ينقلون قط من حال إلا لأعلى منها اه
وسمعت أخي الشيخ أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول : إنما أمر خواص بني آدم عليه السلام بتقبيل الحجر مع كونهم أشرف من الحجر ابتلاء من الله تعالى لهم جبرا لما أخذت الخلافة في الأرض من عبوديتهم لأن الخلافة تعطي الزهو والعجب فأمر كل خليفة بتقبيل ما هو دونه لينظر الحق تعالى وهو أعلم بمن ينقاد لأوامر الله تعالى ومن يتكبر عنها اه . { والله عزيز حكيم } (1/103)
- روى البخاري والترمذي وأبو داود وابن ماجه والطبراني وغيرهم مرفوعا : [ [ ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام يعني أيام عشر ذي الحجة قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ] ]
وروى الترمذي وابن ماجه والبيهقي مرفوعا : [ [ ما من أيام احب إلى الله تعالى أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر ] ] . وفي رواية للبيهقي : [ [ إن العمل الصالح فيهن ] ] يعني في ليالي عشر ذي الحجة ] ] يضاعف بسبعمائة ضعف ] ]
وروى البيهقي والأصبهاني بإسناد لا بأس به عن أنس ابن مالك قال : كان يقال في أيام عشر ذي الحجة كل يوم ألف يوم ويوم عرفة عشرة آلاف يوم يعني في الفضل والله تعالى
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نستعد للعبادة في عشر ذي الحجة بإزالة الموانع التي تمنع العبد من شعوره بأوقات تقربات الحق تعالى لتؤدي الأعمال الصالحة فيها على ضرب من رائحة الكمال كما مر في ليالي القدر فإن من غلظ حجابه لا يشعر بأوقات المواهب ولا يحس بها . وقد جعل الله تعالى تمام الأعمال بحضور العبد فيها مع الله تعالى وجعل نفعها بحسب ما غاب العبد عن شهوده لربه فيها
وسمعت سيدي عليا رحمه الله يقول : كل من مرت عليه ليالي التقريب ولم ينقطع صوته من شدة البكاء والنحيب فكأنه نائم فوالله لقد فاز أهل الله تعالى بمجاهدتهم لنفوسهم حتى لم يبق لهم مانع يمنعهم من دخول حضرة الله تعالى في ليل أو نهار و والله لو سجدوا على الجمر ما أدوا شكر الحق تعالى على إذنه لهم في الدخول إلى حضرته لحظة واحدة في عمرهم و والله لو وقف المريدون على الجمر بين يدي أشياخهم من خلق الله الدنيا إلى انقضائها لم يقوموا بواجب حق معلمهم في إرشادهم إلى إزالة جميع تلك الموانع التي تمنعهم من دخول حضرة الله عز و جل . وإذا كان العبد يحب من أعطاه العزيمة والبخور حتى فتح المطلب ولا يكاد يبغضه مع كون ذلك مكروها لله عز و جل فكيف بمن يعطيه الاستعداد الذي يدخل به حضرة الله عز و جل حتى يصير معدودا من أهلها بل من ملوك الحضرة والله إن أكثر الناس اليوم في غمرة ساهون نسأل الله اللطف بنا وبهم
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا يطلب من غالب أهل هذا الزمان كمال مقام الإيمان فإنه متعذر جدا وإنما السعيد كل السعيد من خرج من الدنيا ومعه رائحة الإيمان ومن ادعى منهم كمال الإيمان كذبته أفعاله من الانهماك على الدنيا وندمه على فواتها أكثر من ندمه على فوات مجالسة الله عز و جل
وسمعته يقول أيضا من علامة نقص الإيمان في العبد عدم تأثره على فوات شيء من مرضاة الله عز و جل وعدم حفظه لجوارحه مع علمه بأنه يحاسب على جميع أفعاله وقد قدمنا عن الحسن البصري أنه كان يقول : أدركنا أقواما كنا في جنبهم لصوصا ولو رأوكم لقالوا إن هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب وقد كان مالك بن دينار يقول : والله لو حلف إنسان بأن أعمالي أعمال من لا يؤمن بيوم الحساب لقلت له صدقت لا تكفر عن يمينك فتأمل ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك (1/104)
- روى أبو يعلى والبزار وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ وما من يوم أفضل عند الله تعالى من يوم عرفة ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء ويقول : انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي . فلم ير أكثر عتقا من النار من يوم عرفة ] ] . قوله ضاحين : بالضاد المعجمة والحاء المهملة أي بارزين للشمس غير مستترين منها يقال لكل من برز للشمس من غير شيء يظله ويكنه ضاح
وروى البيهقي مرفوعا : [ [ إذا كان يوم عرفة قال الله تعالى لملائكته : أشهدكم أني قد غفرت لهم فتقول الملائكة : إن فيهم فلانا مرهقا وفلانا كذا فيقول الله عز و جل قد غفرت لهم ] ] . والمرهق : هو الذي يغشى المحارم ويفعل المفاسد
وروى ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي مرفوعا : [ [ من حفظ لسانه وسمعه وبصره يوم عرفة غفر له من عرفة إلى عرفة ] ] . قلت : فهذا سبب قولي : أول العهد أن نستعد للوقوف بالجوع فإن العبد إذا جاع ثلاثة شبعت جوارحه وانكفت عن المحارم بخلاف ما إذا شبع . وفي هذا الحديث تأييد لما قدمناه من أن كل طاعة إذا سلمت من الآفات حفظ صاحبها من المعاصي إلى مثلها وتقدم بسطه في عهد صوم رمضان فراجعه والله تعالى اعلم
وروى البيهقي وقال ليس في إسناده من نسب إلى وضع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ [ ما من مسلم وقف عشية عرفة بالموقف فيستقبل القبلة بوجهه ثم يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة ثم يقرأ قل هو الله أحد مائة مرة ثم يقول اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وعلينا معهم مائة مرة إلا قال الله تعالى يا ملائكتي ما جزاء عبدي هذا سبحني وهللني وكبرني وعظمني وعرفني وأثنى علي وصلى على نبي ؟ اشهدوا يا ملائكتي أني غفرت له وشفعته في نفسه ولو سألني عبدي هذا شفعته في أهل الموقف ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نستعد لوقوف يوم عرفة بتلطيف الكثائف وإزالة الحجب المانعة من قبول الدعاء من الغذاء الحرام والثياب الحرام ووجود دغل أو حقد أو حسد في القلب لأحد من المسلمين فإن تلك مواضع ذل وانكسار وبكاء وعويل وأكل الحرام ولبسه يقسي قلب العبد ومن أعظم دواء لحصول رقة القلب الجوع الشرعي يوم التروية وليلة عرفة وهذا أمر قل من يتنبه له من الحجاج فيأكل أحدهم اللحم والطعام حتى يشبع ويطلب رقة قلبه يوم عرفة فلا يقدر ويريد يبكي على ذنوبه فلا يقدر وقد ورد : القلب القاسي بعيد عن الله ثم بتقدير قربه من الله فهو لا يرجو إجابة دعاءه عقوبة له فلا يستجاب له لأن الله تعالى عند ظن عبده به ومن ظن بالله أنه لا يجيب دعاءه لم يجيبه
ثم مما لا يخفى عليك يا أخي تحريم رؤيتك نفسك على أحد من الخلق في عرفات لأنه موقف لا يناسبه إلا الذل والمسكنة وقد قبل رجل فيه رجل سيدي أفضل الدين رحمه الله فكاد يذوب من الحياء من الله تعالى وصار يضرب بيده على وجهه فاعلم يا أخي أنك متى رأيت نفسك على أحد هناك فربما حرمت المغفرة
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إياكم وازدراء أحد ممن وقف بعرفة من جمال أو عكام أو غيرهما ممن لا يؤبه له فإن الجماعة الذين يغفر الله لأهل الموقف كلهم بدعائهم من شأنهم الخفاء والتستر بحجب العوائد حتى لا يكادوا يتميزون عن عامة الناس بعمل فمن ازدرى مثل هؤلاء مقته الله ورجع بلا مغفرة عقوبة له قال وهم عدد قليلون تارة يكونون ستة وتارة ثلاثة وتارة واحدا فيغفر الله تعالى لأهل الموقف كلهم بشفاعة هؤلاء . فينبغي للعاقل مراعاة هذا الأدب في كل مجمع أشد من غيره فإن المجمع لا يخلو غالبا عن ولي مستور يحضر فيه مع الناس يغفر لهم بسببه حتى قال بعض العارفين : لا يجتمع ثلاثة قط إلا وفيهم ولي لله تعالى أو وليه
وقد أخبرني سيدي علي الخواص أن شخصا من العلماء استأذنه في الحج سنة من السنين فقال الشيخ له لا تسافر تمقت فقال : كيف أمقت بالحج ؟ ثم خالف وسافر إلى مكة فحضر وقت الخطبة فنهض قائما وقال : يا أهل مكة جمعتكم باطلة فإن شرطها أن يسمعها أربعون رجلا من أهل الجمعة وما هنا إلا مسافرون وكانت الناس متفرقين في ظل الكعبة من شدة الحر فوقع لذلك ضجة عظيمة وأعادوا الخطبة وكان من جملة من كان حاضرا هناك القطب والأوتاد والأبدال ومن شاء الله تعالى من أوليائه فرجع ممقوتا . قال الشيخ علي الخواص : فأول ما رأيته حين دخل مصر وجدته ممقوتا كالجلد الذي لا روح فيه ثم قال لي : تقول لي إن حججت تمقت ولولا حضوري هناك في هذه السنة بطلت جمعة أهل مكة في الموسم قال الشيخ : فعرفت تمكن المقت منه من القطب والأولياء الحاضرين هناك اه
وقد رأيت أنا صاحب هذه الواقعة وقد نزع الله تعالى منه الاعتقاد في سائر العلماء والصالحين فلا تكاد تذكر له أحدا إلا جرحه وكان مع ذلك يقرأ كل يوم ختمة . وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى مرارا يقول : أنا خائف على هذا الرجل من الموت على غير حالة مرضية فقلت : ولو أن هذا المنكر كان عنده أدب لعلم أن لله تعالى رجالا يسمعون كلام من بينهم وبينه مسيرة ثلاثين ألف سنة وراثة إبراهيمية
وقد وقع لي في ابتداء أمري أني كنت أسمع كلام من في أقطار الأرض من الهند والصين وغيرهما حتى أني كنت أسمع كلام السمك في البحار المحيطة ثم إن الله تعالى حجب عني وأبقى معي العلم كي لا أنكر مثل ذلك على أحد
وكان سيدي أحمد بن الرفاعي يتكلم على الكرسي بأم عبيدة فيسمعه من حولها من القرى . { والله على كل شيء قدير }
وحكى الشيخ يوسف الحريثي رحمه الله قال : لما حججت سهرت ليلة في الحرم خلف المقام وكانت ليلة مقمرة فلما راق الليل دخل جماعة يخفق النور عليهم فطافوا وصلوا خلف المقام وجلسوا يسيرا فجاءهم شخص وقال : يعيش رأسكم في الشيخ علي فقالوا رحمه الله فقال : من يكون موضعه ؟ فقالوا : حسن الخلبوص بناحية زفتى بالغربية فقال : أناديه فقالوا نعم فقال يا حسن فإذا هو واقف على رؤوسهم عليه ثوب معصفر ووجهه مدهون بالدقيق وعلى كتفه سوط فقالوا له كن موضع الشيخ علي فقال على الرأس والعين وذهب فلما رجعت إلى بلادي فقصدته بالزيارة في خان بنات الخطاء فوجدت واحدة راكبة على عنقه ويداها ورجلاها مخضوبتان بالحناء وهي تصفعه في عنقه وهو يقول لها برفق فإن عيناي موجعتان فأول ما أقبلت عليه قال لي مبادرا يا فلان زغلت عينك وغرك القمر ما هو أنا فعرفته أنه هو وأمرني بعدم إشاعة ذلك . وحكى سيدي محمد بن عنان رحمه الله قال : حججت سنة من السنين فلما وقفت بعرفة قلت في نفسي يا ترى من هو صاحب الحديث اليوم في هذا الموقف ؟ فإذا بالقائل يقول لي : هو أبو علي معداوي دجوة فلما رجعت إلى مصر قصدته بالزيارة فإذا هو رجل زفر اللسان يشتم الناس وفي رجليه مركوب مكعوب وعمامته مخططة بأزرق كعمامة النصارى فأول ما رآني قال لي اكتم ما معك ثم عزم علي وأدخلني داره . وضيفني فقلت له بم نلت هذه المنزلة ؟ فقال لا أعلم ولكني رأيت صبيا في جامع في قماطه فأخذته وأعطيته لامرأة في بلد أخرى ترضعه وجعلت لها أجرة وأشاعت أنه ولدي ليس في ثدي أمه لبن فلم أزل أتردد إليه حتى كبر وفطم فإن كان الله تعالى أعطاني شيئا فهو لستري على أم المولود قال : ثم اخذ علي العهد بالتستر له وقال إياك ثم إياك أن تذكرني بذلك حتى أموت اه
ورأيت سيدي عليا الخواص يرسل الناس الذين لهم حوائج عند الله تعالى ويقول لهم : روحوا إلى جامع الملك الظاهر بمصر يوم الأربعاء في صلاة العصر فاسقوا الشجرة النبق التي فيه وقولوا : يا أولياء الله اقضوا حاجتي تقض حاجاكم فكانوا يذهبون ويسقونها فيقضي الله حوائجهم فبلغ ذلك العالم الذي قدمنا انه مقت فأنكر على الشيخ وقال إيش خلى هذا لعباد الأوثان ؟ فأعلمت الشيخ بذلك فقال : إنما أرسل الناس في حيلة سقي الشجرة سترة للأولياء الذين يجتمعون تحتها يوم الأربعاء ليقضوا حاجة كل من راح هناك حين يسمعونه يذكر ذلك للشجرة وكان ذلك كاللغز بينه وبين الأولياء الذين يصلون العصر تحتها في كل يوم أربعاء وإلا فهو يعلم أن الله تعالى لم يجعل للشجرة قضاء حاجة أحد من الناس ولولا أن الأولياء الذين يحضرون يحبون الخفاء ويتشوشون من إظهارهم للناس لكان الشيخ يرسل الناس إليهم دون الشجرة فلذلك راعى الشيخ خواطرهم . وسمعته مرة يقول : لله تعالى رجال إذا مروا على جماعة من العصاة فسلموا عليهم أمنهم الله من عذابه ولله رجال أقامهم في قضاء حوائج الناس فيقضون حوائجهم في السر ثم يرسلونهم إلى من اشتهر بالصلاح في بلدهم لتقضي حاجتهم ظاهرا لا باطنا ويسترون بذلك نفوسهم ويكبرون بغيرهم ممن لا سر له ولا برهان ثم يسألون الله أن يحميه من الدعوى ولله رجال يسقون الناس الماء في الأسواق وعلى الأسبلة التي على الطرقات فلا يشرب أحد منهم إلا ويملؤونه مددا فيقوم ذلك مقام الأخذ للطريق ولله رجال نصبهم لتحمل البلايا والمحن عن أهل بلدهم أو إقليمهم ومع ذلك فهم يبغضونهم وينكرون عليهم ليلا ونهارا فلا يصدهم الإنكار عن تحملهم البلايا عنهم فيبيت الولي منهم سهرانا بالضارب تنام الإنس والجن وهو لا ينام والناس يضحكون ويلعبون ويتلذذون بالنساء على الفرش لا يحسون بشيء مما يتحملوه عنهم مما كان نازلا عليهم ولله رجال يسألون الله تعالى أن يكبر جثتهم في النار لأجل تحقيق الوعد من الله بملئها فيحملون عن آلاف من العصاة حرقهم بالنار وهذه فتوة ما سمعنا بمثلها إلا عن الشبلي رضي الله تعالى عنه فإنه كان يقول : أتمنى على الله تعالى أن يكبر جثتي في الآخرة حتى يملأ بها طباق النار كلها ولا يدخل أحد من هذه الأمة النار محبة في نبيها محمد صلى الله عليه و سلم اه
وسمعته مرة أخرى يقول : إياكم أن تزدروا أحدا من أصحاب الحرف الدنيئة كالقراد والمخبط والشوذب فإن الله تعالى ربما أعطاهم القوة على سلب إيمان العلماء والصالحين حال رؤية العالم أو الصالح نفسه عليهم فإن أكبر الأولياء يقدر على سلبه أصغر الناس إذا رأى نفسه على أحد من الخلق . كما حكي عن سيدي محمد بن هارون الذي كان أخبر بسيدي إبراهيم الدسوقي وهو في ظهر أبيه إنه كان إذا خرج من صلاة الجمعة يشيعه الناس إلى داره لا يكاد أحد منهم يقدر على التخلف عنه اغتناما لرؤيته ولحظه فمر يوما على صبي تحت حائط يفلي ثوبه من القمل وهو ماد رجليه لم يضمها فقال سيدي محمد في سره هذا الصبي قليل الأدب يمر عليه مثلي ولا يضم رجليه فسلب لوقته وتفرقت عنه الناس فما وصل داره ومعه أحد فتنبه لنفسه ورجع للصبي يستغفر في حقه فلم يجده فسأل عنه أين ذهب ؟ فقال له : هذا صبي القراد ولعله ذهب إلى الإسكندرية فسافر الشيخ إليه فلم يجده فقالوا له : لعله ذهب إلى المحلة الكبرى فرجع إلى المحلة فلم يجده فقالوا لعله سافر إلى مصر فرجع الشيخ إلى مصر فوجده في الرميلة فلما وقف على الحلقة قال القراد الكبير للصبي أقم وجهك هذا زبونك جاء فتلاهى عن الشيخ حتى فرغ من اللعب ثم دعاه وقال مثلك في العلم والصلاح والشهرة ينبغي له أن يخطر في باله أنه خير من أحد من خلق الله عز و جل أما تعلم أن ذلك ذنب إبليس الذي طرد لأجله عن حضرة الله عز و جل فقال : التوبة فقال : وكلنا نتوب عن مثل ذلك ثم قال المعلم للصبي يا قريمزار أين وضعت علمه ومعارفه حين سلبته فقال في قلب السحلية التي كنت أفلي قميصي عند شقها في الحائط الفلاني فقال له : رد عليه حاله فقال قريمزار : قل لها بأمارة ما وضع لك قريمزار اللباب على باب شقك ردي إلي حالي فذهب سيدي محمد بن هارون إلى بلده ونظر في شقها وذكر لها الأمارة فخرجت ونفخت في وجهه فرد عليه حاله وإذا بالخلق انقلبت إليه يقبلون أقدامه حتى أذى بعضهم بعضا من الزحام ثم أخذ الشيخ هدية لقريمزار وسافر إليه فقال له كيف ترى نفسك بعلم تستقل بحمله سحلية ؟ فمن ذلك الوقت ما ازدرى الشيخ أحدا من خلق الله حتى مات . فانظر يا أخي كيف أخذ سيدي محمد بن هارون مع جلالة قدره حتى سلبه صبي قراد
( يتبع . . . ) (1/105)
( تابع . . . 1 ) : - روى أبو يعلى والبزار وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ وما
وحكى الشيخ الإمام العالم العلامة السيد الشريف بزاوية الحطاب بمصر قال : كان ابن البساطي شيخ سوق الوراقين ممحونا بابنة عمه فرأت يوما في فخذه بدؤ البرص فنفرت منه إلى بيت أهلها فحصل له غم شديد فخرج إلى السوق فبينما هو مغموم إذ وقف عليه شخص مشهور بالخلاعة فيقف على الواحد يطلب منه جديدا فإذا أعطاه له لا يفارقه حتى يقول له سكني عشر سكان فأعطاه ابن البساطي الجديد فقال أعطني السك فقال يا سيدي الشيخ أعتقني من ذلك فإني مغموم فما زال به حتى أخرج عينه فيه وسكه عشر سكات ملاح فقال له حاجتك مقضية من جهة ابنة عمك ولكن هات لنا في المقبرة الفلانية تحت الجبل المقطم أربعين رغيفا في كل رغيف نصف رطل جبن مقلي وهات معك إبريقا كبيرا ملآن ماء ففعل ذلك وحمله عند الفجر ثم نظر من شق الباب فوجد جماعة مطرقين عليهم خمر وهيبة ينتظرون صلاة الصبح وإذا بالرجل الذي سكه أمامهم فقال للحاضرين : من يقضي حاجة هذا الذي على الباب ويدخل ما معه ؟ فقال شخص أنا ففتح الباب وكشف عن عورة ابن البساطي ومسح بريقه على موضع البرص فذهب لوقته ثم قال له هاهي خارجة من بيت عمك جاءت إلى بيتك فرجع فوجدها في البيت فقال لها من جاء بك ؟ فقالت حصل لي غم ما كنت إلا مت فلولا جئت لك طلعت روحي فكتم ذلك عنها فبعد أيام وإذا بالشيخ داخل سوق الوراقين وهو يقول : ما يضر الإنسان غير لسانه فكل من رأى شيئا وقال لا رأيت ولا نظرت سلم وكل من قال رأيت رد إليه كل شيء إلى موضعه يعرض بتلك الواقعة فلما وصل إليه قال أعطني جديدا فقدم إليه الحق الذي فيه الغلة وقال يا سيدي : خذ ما تختار فقال ما آخذ إلا الجديد فأعطاه له : فقال كمل لي عادتي بالسك فذاب ابن البساطي من الحياء ولا يقدر يفشي سره فقال له تشفعت عندك بسيد المرسلين تعتقني من السك فقال له عتقك بشرط الكتمان فلم يتكلم ابن البساطي حتى علم بموته
وحكى لي شيخ الإسلام المحدث الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري بمصر عن شيخ الإسلام صالح البلقيني أن والده الشيخ سراج الدين مر يوما بباب اللوق فوجد هناك زحمة . فقال ما هذه الزحمة ؟ فقالوا له : شخص من أولياء الله يبيع الحشيش فقال لو خرج الدجال حينئذ في مصر لاعتقدوه من شدة جهلهم . كيف يكون شخص حشاش من أولياء الله ؟ إنما هو من الحرافيش ثم ولى فسلب الشيخ جميع ما معه حتى الفاتحة فتنكرت عليه أحواله وصارت الفتاوى تأتي إليه فلا يعرف شيئا ونسي ما قاله في حق الحشاش فمكث كذلك في مدرسته بحارة بهاء الدين ثلاثة أيام فدخل عليه فقير فشكى إليه حاله فقال هذا من الحشاش الذي أنكرت عليه فإن الفقراء أجلسوه هناك يتوب الناس عن أكل الحشيش فلا يأخذها أحد من يده ويعود إلى أكلها أبدا حتى يموت فأرسل استغفر له يرد عليك حالك فأرسل له فبمجرد ما أقبل الرسول أنشده الشيخ : نحن الحرافيش لا نسكن علالي الدور ولا نرائي ولا نشهد شهادة زور نقنع بلقمة وخرقة في مسجد مهجور من كان ذا الحال حاله ذنبه مغفور فلو كنا عصاة نبيع الحشيش ما أقدرنا الله على سلب شيخ الإسلام ثم قال له : سلم على شيخ الإسلام وقل له اعمل أربعة خراف معاليف شواء وأربعمائة رغيف وتعال اجلس عندي وكل من بعته قطعة حشيش زن له رطلا وأعطه رغيفا فشق ذلك على شيخ الإسلام فما زال به أصحابه حتى فعل ذلك وصار يزن لكل واحد الرطل ويعطيه الرغيف والشيخ يبتسم ويقول : نحن نحليهم في الباطن وأنت تحليهم في الظاهر إلى أن فرغ الخرفان ثم قال له : اذهب إلى الديك الذي فوق سطح مدرستك فاذبحه وكل قلبه يرد لك علمك فبالله عليك كيف تتكبر على المسلمين بعلم حمله الديك في قلبه فمن ذلك اليوم ما أنكر الشيخ البلقيني على أحد من أرباب الأحوال . هذه حكاية الشيخ أمين الدين عن والده الشيخ سراج الدين وكان قبل ذلك ينكر على سيدي علي بن وفا أشد الإنكار حتى أنه تنكر ودخل من جملة المغاربة الذين يحضرون ميعاد سيدي علي فرأى الشيخ سراج الدين في رجله حبلا معقودا وسيدي علي يحل عقده والشيخ سراج الدين يعقدها وهو بين النائم واليقظان فأنشده سيدي علي قصيدته التي أولها :
يا أيها المربوط إنا نريد حلك ... وأنت تريد تربط رجلي إلى رجلك
إلى آخرها فلما وقعت له هذه الواقعة مع الحشاش تاب إلى الله عن الإنكار وأوصى أن سيدي عليا يصب عليه الماء إذا مات ففعل له ذلك سيدي علي وقال والله رجع أمرك إلى سلامة
وقد وقع للشيخ أبي بكر الدقوسي [ الدسوقي ؟ ؟ ] شيخ سيدي عثمان الحطاب وقائع غريبة مع هذا الحشاش وكان يتردد إليه كثيرا ويرسل له أصحاب الحوائج فيقضيها لهم على أتم حال وكان يقول ما أخذها أحد من يده وعاد إلى بلعها
وحكى الشيخ محمد الطنيخي عن إمام جامع سمانود أن شخصا كان ينام في المحراب بثياب دنسة فكان كلما أراد أن يقف في المحراب يجده نائما فيه فسماه عجل المحراب فجاء الإمام يوما فغمزه برجله في جنبه فقام وعيناه كالدم الأحمر فمسك الإمام ودفعه في المحراب فوجد نفسه في أرض قفراء وعرة فتعرجت رجلاه من المشي فقطع عمامته ولفت منها على رجليه فلما تعب تراءت له شجرة فقصدها فإذا عندها عين ماء وإذا بأثر أقدام توضأت وذهبت فتتبع الآثار فوجد جماعة كثيرة في عطفه جبل وإذا بالرجل الذي كان ينام في المحراب هو شيخ الجماعة وعليه ثياب نظيفة فالتفت إلى أصحابه وقال هل رآني أحد منكم يوما وأنا عجل بقر فقالوا لا فقال قولوا لهذا فقال الإمام أستغفر الله وتاب فأشار الشيخ إلى واحد من الجماعة فدفعه إلى جامع سمانود فقام ودفعه فوجد نفسه خارجا من حائط المحراب والناس ينتظرونه في صلاة العصر فأخبرهم بالقصة وأن تلك الأرض القفراء سفر سنة كاملة عن مصر . هذه حكاية الشيخ شمس الدين الطنيخي رواية عن صاحب الواقعة
وحكى الشيخ الصالح احمد بن الشيخ الشربيني أنه كان مجاورا بمكة واشتاق إلى والدته بشربين وليس معه دراهم يكري بها ولا ركب يسافر إلى مصر فينما هو كذلك إذ وجد رجلا مبتلي بالمسعى ينكر عليه أهل مكة أشد الإنكار ففاجأه بالكلام وقال تريد تروح إلى مصر فقال نعم فدفعه وإذا به على باب داره بشربين هذه حكاية لي وأخبرني أنه كان صاحب الشفاعة لأهل الموقف في سنة ثلاثة وعشرين وتسعمائة
وحكى الشيخ نور الدين الشوني أن شخصا في قنطرة الموسكي كان مكاريا يحمل النساء من بنات الخطا وكان الناس يسبونه ويصفونه بالتعريص وكان من أولياء الله تعالى لا يركب امرأة قط من بنات الخطا وتعود إلى الزنا أبدا فقال الشيخ نور الدين له : بم وصلت إلى هذه المنزلة فقال باحتمال الأذى . قال : وأخبرني أن شخصا من مماليك السلطان الغوري ركب حماره البارحة وساقه إلى ناحية مصر العتيق ثم عدى إلى الروضة ثم إلى الجيزة حتى وصل إلى الأهرام والشيخ يجري وراءه مع عجزه فطلب الشيخ منه أجرته بالدبوس حتى دغدغ أكتافه وكان قادرا أن يسأل الله تعالى أن يخسف به الأرض فيخسفها به . قال الشيخ نور الدين : وأخبرني شخص عن هذا المكاري أن شخصا طلب منه أن يحمله إلى زاوية الخلفاء التي بين السورين فحمله في ساعة إلى الحرام المدني فقال أنزل فهذه زاوية الخلفاء فزار ورجع بجراب تمر إلى بيته بزاوية الخلفاء فأعطاه أجرته دينارا فرده وأخذ عثمانيا اه
وكان سيدي علي الخواص رضي الله عنه يرسل أصحاب الحوائج إلى شخص يبيع الفجل على باب جامع الأزهر فيقضيها لهم في الحال . وجاءه شخص وفي حلقه علقة صارت مثل السمكة فقال له اذهب إلى الرجل الذي يبيع الفجل على باب جامع الأزهر وأعطه جديدا وخذ منه حزمة فجل فكلها ففعل الرجل فأكل منه ورقة واحدة فعطس فطلعت العلقة من حلقه . وأخبرنا الشيخ أن هذا الرجل كان لا يأكل أحد من فجله وببدنه مرض من جذام أو برص أو غيرهما إلا شفي . وسمعته يقول : إن الله تعالى أعطى أرباب الأحوال في هذه الدار التقديم والتأخير والولاية والعزل والقهر والتحكم على الله تعالى الذي هو الإدلال عليه ونفوذ الأمر في كل ما أرادوه من الأمور فإياكم والإنكار على أحد إلا بعد التوجه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليحفظكم من ذلك الرجل وإلا فربما مقتكم فهلكتم
وسمعت سيدي عبدالقادر الدشطوطي يقول : أرباب الأحوال مع الله كحالهم قبل خلق الخلق وإنزال الشرائع اه . قلت : ورأيت عند سيدي علي الخواص إبريقا كبيرا يضعه في حانوته بجنبه ليس فيه غير الإبريق وكان يزن أجرة الحانوت كل شهر نصفين لأجل هذا الإبريق وكان كل من جاءه مكروبا في أمر عظيم كخوف القتل فما دونه يقول له افتح هذا الباب واشرب من الإبريق الذي هناك بنية قضاء حاجتك فكان الناس يفعلون ذلك فتقضى حوائجهم فقلت له في ذلك فقال إن الأربعين يشربون منه كل ليلة وكان الإبريق يخبرهم بحاجة كل من شرب منه عقب شربه فيقضون حاجته
فتأمل في هذه الحكايات فإنها غريبة وإنما ذكرتها لك لتحفظ الأدب ولا تقول أبدا إنك خير من أحد من خلق الله تعالى لعلمي بأن مثل ذلك هو ذنب إبليس الذي طرده الله ولعنه بسببه . { والله غفور رحيم } (1/106)
- روى البيهقي منقطعا عن علي بن أبي طالب وقال الحافظ المنذري : الأشبه عندي أنه من قول ذي النون المصري رضي الله عنه عن أبي سليمان الداراني قال : سئل علي بن أبي طالب لم كان الوقوف بالجبل ولم يكن بالحرم ؟ فقال لأن الكعبة بيت الله والحرم باب الله فلما قصدوه وافدين أوقفهم بالباب يتضرعون قيل يا أمير المؤمنين فما معنى الوقوف بالمشعر الحرام ؟ فقال لما أذن لهم في الدخول إليه أوقفهم بالحجاب الثاني وهو المزدلفة فلما أن طال تضرعهم أذن لهم بتقريب قربانهم بمنى فلما أن قضوا تفثهم وقربوا قربانهم وتطهروا بها من الذنوب التي كانت عليهم أذن لهم بالزيارة إليه على الطهارة فقيل : يا أمير المؤمنين فمن أين حرم عليهم صيام أيام التشريق ؟ فقال لأن القوم زوار الله تعالى وهم في ضيافته ولا ينبغي للضيف أن يصوم بغير إذن رب المنزل الذي أضافهم فقيل : يا أمير المؤمنين فما تعلق الرجل بأستر الكعبة لأي معنى هو ؟ فقال : هو مثل الرجل إذا كان بينه وبين صاحبه جناية فيتعلق بثوبه ويتنصل إليه ويتخدع له ليهب له جنايته . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نأتي بالمناسك كلها كما وردت فنقدم ما قدم صلى الله عليه و سلم ونؤخر ما أخر ولو خيرنا صلى الله عليه و سلم اخترنا الكيفية التي فعلها هو في حجة الوداع وهي معروفة عندنا في كتب الأدلة سواء عقلنا الحكمة في التقديم أم لم نعقلها . فلا يقال لأي شيء إذا دخل الحجاج مكة طافوا بالبيت ثم يرجعون إلى عرفات التي هي طرف الحرم ثم يرجعون ثانيا لأنا نقول إنما نفعل ذلك اقتداء بأبينا آدم عليه السلام لما حج من الهند فكان اقتداؤنا به في الخروج من الحرم إلى خارجه ثم دخولنا ثانيا أولى مع أن العقل يقتضي بأن من وصل إلى حضرة الملك من أي طريق كان لا معنى لخروجه ثم دخوله ثانيا لأن الكعبة هي المقصود الأعظم مع أنا لم نعقل ذلك إلا بأمر الشارع لا بعقولنا فحكمنا حكم ما إذا كان في حضرة الملك جماعة ثم أرسل لهم الملك أن اخرجوا إلى حاجة كذا وكذا فإن من الأدب ذهابهم إلى تلك الحاجة فلو تخلفوا في الحضرة عصوا . وأيضا فإن من يأتي حضرات الملوك من غير طرقها المعتادة لا يحصل له من العلم ما يحصل لمن سلك الطريق التي دخل منها الأنبياء والأولياء . ولكن لا يخفى أن من رحمة الله تعالى وشفقته على عباده أنه أذن لهم أن يدخلوا مكة قبل الوقوف لما علم عندهم من شدة الشوق ليحصل لهم التبريد لبعض أشواقهم لا من كلها إذ الحق تعالى لا يبدي لهم ما يطيقونه من عظمته ويخلع لهم الخلع إلا إن وقفوا بعرفة أولا ثم بالمزدلفة ثانيا ثم بمنى ثالثا فلا يزال العبد يقرب من مكة وهو يزداد تعظيما لله تعالى حتى يدخل مكة والحرم فهناك يعرف كل أحد ربه بقدر مقامه فربما يكون أعلى مقام لنا في التعظيم يستغفر منه قوم آخرون
وممن حجب عما قلنا الشيخ محي الدين بن العربي رضي الله عنه مع وسع اطلاعه فقال الذي أقول به لا يجب على المعتمر الخروج لأدنى الحل ليحرم بالعمرة لأنه قد وصل إلى الحضرة التي هي محل القرب ولا معنى للخروج . قال : وأما قصة عائشة رضي الله عنها فإنما أمرت بالخروج لأنها كانت آفاقية ثم نفست فأمرت بالقضاء على صورة ما فاتها اه والجمهور على خلافه
فدر يا أخي مع السنة ولا تدر مع كشفك أو عقلك فإن الله تعالى إنما جعل الأجر والثواب والدرجات لمن كانت أعماله تبعا لما شرعه الله تعالى وكأن لسان حال الشارع يقول : من يأت من الأمة إلى حضرتي من تلك الطريق البعيدة طردته ولم أمكنه من شهودي
وتأمل يا أخي شأن الحق تعالى تجده أقرب إلينا من حبل الوريد ومع ذلك أسدل الحجاب بيننا وبينه حتى أننا رأيناه من حيث التنزيه أبعد من كل شيء فلما صرنا كذلك أمرنا بالسلوك ثانيا كالذي كان في مكان بعيد ثم رجع إلى محل القرب الذي كان مقيما فيه أولا فلا نزال سالكين والحجب ترفع حتى نعود إلى محل بروزنا من حضرة القرب فلو طلبنا أن ندخل حضرة القرب من غير سلوك لم يصح لنا ذلك . وإيضاح ذلك أن تنظر يا أخي في حضرة الحق تعالى قبل أن يخلق المخلوقات كلها فتجد ليس هناك إلا الله تعالى ثم أنت ولا تقول بفناء الشاهد لأننا إذا نفينا أنفسنا فمن هناك يشهد الحضرة أو يتعقلها ؟ فافهم . فلا يزال الحق تعالى كلما خلق واحدا أخذ الواحد مكانا في شهودك وبعد الحق في وهمك إذ لا حلول ولا اتحاد فلا تزال دائرة الخلق تتسع في الشهود وتنبسط بتكثر أفراد الوجود شيء بعد شيء ودائرة الحق تعالى تضيق في شهودك حتى لا تكاد ترى الحق تعالى أبدا لأنك إنما تشاهد خلقا حتى أن بعضهم لما اتسعت عليه الدائرة عطل فخسر الدارين فإنه ما زال يشهد دائرة الخلق تتسع وكل شيء وقف عقله عليه من جبل أو بحر أو فضاء يقول له نور الإيمان فما وراء ذلك فإذا قال سماء أو بحرا أو جبلا أو فضاء قال له : فما وراء ذلك ؟ فلما تاهت عقول المنزهين لله تعالى هذا التوهان أوجب الله تعالى عليهم السلوك بأعمال مخصوصة أرسل الله بها رسله إليهم وقال إن طلبتم القرب من حضرتي من غير باب ما شرعته لكم لا تزدادون من حضرتي إلا بعدا فقالوا سمعا وطاعة فلا زالوا يعملون بالشريعة ودائرة الخلق تضيق بنقص أفرادها التي تكثر بها الوجود واحد بعد واحد ودائرة الحق تتسع حتى يرجعوا إلى الحال الأول فلا يرون إلا الله . فلا يقال فلأي شيء ما أوقف الله تعالى عباده في الحضرة التي شردوا عنها أولا وأغناهم عن هذا التعب . لأنا نقول ما سبق العلم أن يكون الرقي في الدرجات إلا على هذا الحكم ولا يقال في سبق العلم لم ؟ بل من الأدب أن العبد يتطلب الحكمة في ذلك من الله تعالى فإذا أطلعه على الحكمة رأى أن ما فعله الحق بعباده أكمل في وجوه المعارف وتأمل حكمة الإسراء به صلى الله عليه و سلم إلى الأفلاك العلى تعثر على ما أومأنا إليه . { والله عليم حكيم } (1/107)
- روى البزار والطبراني وابن حبان في صحيحه مرفوعا في حديث طويل : [ [ وإذا رمى الجمار لا يدري أحد ما له حتى يتوفاه الله يوم القيامة ] ] . وفي رواية لابن حبان : [ [ وأما رميك للجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات ] ] . قلت : ويصح تنزيل ذلك على الخواطر السبعة التي ذكرها الشيخ محي الدين فإن كل خاطر منها كبيرة بلا شك . والله تعالى أعلم
وروى الطبراني ] ] أن رجلا قال : يا رسول الله ما لنا في رمي الجمار ؟ فقال : تجد ذلك عند ربك أحوج ما تكون إليه ] ]
وروى ابن خزيمة في صحيحه والحاكم واللفظ له وقال إنه على شرط الشيخين مرفوعا : [ [ لما أتى إبراهيم خليل الله إلى المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ] ] . قال ابن عباس : الشيطان ترجمون وملة أبيكم إبراهيم تتبعون
وروى الطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا يا رسول الله هذه الجمار التي ترمى كل سنة فنحسب أنها تنقص فقال : [ [ ما تقبل منها رفع ولولا ذلك لرأيتموها مثل الجبال ] ] . قال الحافظ المنذري : وفي إسناده يزيد بن سنان وهو مختلف في توثيقه . قلت : ومجموع الحصى كل سنة ستمائة ألف حصاة مضروبة في سبعين فيكون كل حصاة من حصى الرامين كل سنة مضروبة في سبعين بستمائة ألف . وإيضاح ذلك أن الله تعالى وعد البيت كل سنة أن يحجه ستمائة ألف فصدق صلى الله عليه و سلم في قوله : [ [ ولولا ذلك لرأيتموها مثل الجبال ] ] . يعنى على طول السنين . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نبادر لرمي الجمار إيمانا حتى تنكشف لنا حكمتها جهارا ولذلك قال صلى الله عليه و سلم لمن قال له : [ [ يا رسول الله ما لنا في رمي الجمار فقال : تجد ذلك عند ربك أحوج ما تكون إليه ] ] . لما علم أن السائل لا يتعقل حكمتها وربما امتحن الحق تعالى عباده في أمرهم بما لا يتعقلون حكمته كرمي الجمار وتقبيل الحجر الأسود وكإضافته إلى نفسه تعالى ما يحيله العقل بدليله كالنزول إلى سماء الدنيا وغير ذلك من آيات الصفات وأخبارها لينظر كيف يعملون ؟ هل يؤمنون بما أضافه الحق تعالى إلى نفسه على ألسنة رسله وإن لم يتعقلوه ؟ أم يردون ذلك على الرسل أو يقبلونه لكن بعد تحريفه بالتأويل عن مواضعه فيفوتهم الإيمان الكامل كما يقع فيه غالب الناس فيخافون أن يكذبوا الرسل فتضرب أعناقهم ويخافون أن يقبلوا آيات الصفات على ظاهرها فيقعون في التشبيه فلذلك رأوا التأويل أحسن عندهم لأنه طريق وسطي بين طريقين وإنما قلنا فاتهم كمال الإيمان دون فوات الإيمان كله لأنه لولا آمنوا به ما اشتغلوا بتأويله ولكانوا يرونه لغيرهم
فاعمل يا أخي بأوامر الحق على الوجه المشروع سواء أعقلت معناها أم لم تعقل وسيأتي في الأحاديث ما يشير إلى الحكمة
وذكر الشيخ محي الدين في باب الحج من الفتوحات ما نصه : إنما كان حصى الرمي سبعا لأن الشيطان يأتي الرامي هناك بسبع خواطر لا بد من ذلك فيرمي كل خاطر بحصاة ومعنى التكبير عند كل حصاة الله أكبر من هذه النسبة التي أتانا بها الشيطان وأطال في ذلك ثم قال : فإذا أتاك بخاطر الشبهة بالإمكان للذات فارمه بحصاة الافتقار إلى المرجح وهو أنه واجب الوجود لنفسه . وإن أتاك بأنه جوهر فارمه بالحصاة الثانية وهو دليل الافتقار إلى التحيز والوجود بالغير . وإن أتاك بخاطر الجسمية فارمه بحصاة الافتقار إلى الأداة والتركيب والإبعاض . وإن أتاك بالعرضية فارمه بحصاة الافتقار إلى المحل والحدوث بعد أن لم يكن . وإن أتاك بالعلية وهي دليل مساواة المعلول له في الوجود فارمه بالحصاة الخامسة وهي : [ [ وكان الله ولا شيء معه ] ] . وإن أتاك بالطبيعة فارمه بالحصاة السادسة وهي دليل نسبة الكثرة إليه وافتقار كل واحد من آحاد الطبيعة إلى الأمر الآخر في الاجتماع به إلى إيجاد الأجسام الطبيعية فإن الطبيعة مجموع فاعلين ومفعولين حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة ولا يصح اجتماعها لذاتها ولا افتراقها لذاتها ولا وجود لها إلا في عين الحار والبارد والرطب واليابس . وإن أتاك بالعدم وقال لك فإذا لم يكن الحق هذا ولا هذا من جميع ما تقدم فما ثم شيء فارمه بالحصاة السابعة وهي دليل آثاره في الممكن ومعلوم أن العدم لا تأثير له وهو كلام نفيس
فاعمل يا أخي برياضة نفسك على يد شيخ مرشد حتى تصير تحس هذه الخواطر الشيطانية وترى وتنظر وتسمع من أتاك بها فترميه على الكشف واليقين وإلا فارمها على وجه الإيمان بها وكذلك تعرف من طريق الكشف ما يقبل من حصاك وما يرد فتأخذ في إزالة تلك الصفة التي كانت سببا لعدم قبول رميك فترسلها وتتوب منها فإن من لم يتقبل عمله كأنه ما عمل شيئا : [ [ فإن لم يصبها وابل فطل ] ] . { والله غفور رحيم } (1/108)
- روى الشيخان وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين ؟ قال : اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين ؟ قال : اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين ؟ قال والمقصرين ] ]
وروى مسلم عن أم الحصين أنها قالت : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة
وروى الإمام أحمد والطبراني بإسناد حسن عن مالك بن ربيعة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ اللهم اغفر للمحلقين ثلاث مرات قال رجل من القوم وللمقصرين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في الثالثة أو الرابعة وللمقصرين ] ] . قال مالك بن أبي ربيعة وأنا يومئذ محلوق الرأس فما يسرني بحلق رأسي حمر النعم أو خطرا عظيما . قلت : والذي ظهر لي انه صلى الله عليه و سلم ما دعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثا إلا لشهودهم أنهم وفوا بما كلفوا على التمام وذلك معدود من ذنوب الخواص فلذلك احتاجوا إلى تكرار الدعاء لهم بالمغفرة بخلاف المقصرين فإنهم معترفون بالتقصير فلذلك استغفر لهم مرة واحدة لما عساه ينفي غيرهم من دعوى الوفاء بما كلفوا به والله تعالى اعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحلق رؤوسنا أو نقصر في النسك ويكون معظم قصدنا بذلك أن نحصل دعوة النبي صلى الله عليه و سلم لنا بقوله : [ [ اللهم اغفر للمحلقين ] ]
قال شيخنا : والحكمة في إزالة الشعر بالحلق أو التقصير أنه شرع لكونه مأخوذا من الشعور فكان الحلق إشارة إلى زوال الشعور وحصول العلم إذ الشعر حجاب على الرأس اه
وقد بسط الشيخ محي الدين بن العربي في أسرار الحج كلها في الفتوحات المكية فراجعها تر العجب فما رأينا أحدا أبان عنها مثله رضي الله عنه (1/109)
- روى الطبراني ورواته ثقات وابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم فيه طعام الطعم وشفاء السقم وشر ماء على وجه الأرض ماء وادي برهوت بتيه بحضرموت ] ] الحديث . قلت : ولا يرد على هذا الحديث الماء الذي نبع من بين أصابعه صلى الله عليه و سلم فإن ذلك ليس هو من الماء الذي على وجه الأرض بل هو من المعجزات وقد أفتى البلقيني وغيره بأنه أفضل من ماء زمزم والله تعالى أعلم
وفي رواية للبزار بإسناد صحيح مرفوعا : [ [ ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم ] ] . ومعنى طعام طعم : أي يشبع من أكله
وروى الطبراني موقوفا بإسناد صحيح عن ابن عباس : قال كنا نسميها شباعة يعني زمزم وكنا نجدها نعم العون على العيال
وروى الدارقطني مرفوعا : [ [ ماء زمزم لما شرب له إن شربته تستشفي شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله وهي همزة جبريل عليه السلام وسقيا الله إسماعيل ] ]
ورواه الحاكم وزاد فيه : [ [ وإن شربته مستعيذا أعاذك الله قال فكان ابن عباس إذا شرب من ماء زمزم قال : اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء ] ]
وروى البيهقي بإسناد صحيح أن عبدالله بن المبارك كان إذا شرب من ماء زمزم استقبل الكعبة وقال : اللهم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ماء زمزم لما شرب له وها أنا أشربه لعطش يوم القيامة ثم يشرب ] ]
وروى الإمام أحمد وابن ماجه المرفوع منه بإسناد حسن والله تعالى اعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتضلع من شرب ماء زمزم مدة إقامتنا بمكة امتثالا لقول السائب رضي الله عنه : اشربوا من سقاية العباس فإنه من السنة وتأسيا بفعله صلى الله عليه و سلم وفعل الأنبياء قبله والأولياء والأقطاب إلى وقتنا
وقد سألت الله تعالى لما حججت سنة سبع وأربعين وتسعمائة وشربت من ماء زمزم في سبع وخمسين حاجة لي ولإخواني فقضى الله جميع ما كان منها من حوائج الدنيا ونرجو من كرم الله قضاء الحوائج الأخروية فإن قضاء حوائج الدنيا عنوان للآخرة
ومن جملتها تهبير دبيلة كانت طلعت بجنبي قدر البطيخة تحت طبقات الجلد وكان حكماء مصر كلهم أجمعوا على أن يشقوا جنبي ويخرجوها منه فشربت ماء زمزم للشفاء منها فألقى الله تعالى في باطني نارا ثلاثة أيام حتى طبختها وقتلتها فنزلت في منزل خليص كمشيمة البهيمة سوداء كالزفت الأسود حتى ملأت بركة وحصل لي عند نزولها من الطلق كما يحصل للمرأة فعوفيت منها ببركة شربي من ماء زمزم وعلمت صحة الحديث الوارد في شربها والله هو الشافي فإن الماء بطبعه لا يفعل مثل هذه الأفاعيل كلها
فاشرب يا أخي من ماء زمزم وقدمه على مياه المطر وغيرها فإن عذوبته حلاوة في إيمانك وشفاء لأمراضك
واحذر يا أخي أن تكثر من شراء الشاشات والأزر والحبر ونحو ذلك كما يفعله التجار فإن ميزان الحق منصوبة على كل فقير ورد على تلك الحضرة في عدم حذف العلائق ومن حمل الهدايا كما ذكرنا فلا بد أن ينقص رأس ماله أو يسلط الله تعالى عليه من يسرقها في الطريق عقوبة له فلا يرجع من الحج إلا وعليه الديون ثم يعسر الله عليه القضاء عقوبة كما جرب فاعلم ذلك والله يتولى هداك
روى مسلم والنسائي وابن ماجه : [ [ صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ] ]
زاد في رواية للإمام أحمد وابن خزيمة : [ [ وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا ] ] . يعني مسجد المدينة كما صرح به في رواية ابن حبان والبزار ولفظ رواية البزار : [ [ صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عليه بمائة ] ] . قال الحافظ المنذري وإسنادها صحيح
وفي رواية لأحمد وابن ماجه بإسنادين صحيحين : [ [ وصلاة في المسجد الحرام افضل من مائة ألف صلاة ] ]
وروى البزار مرفوعا : [ [ أنا خاتم الأنبياء ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء ] ]
والأحاديث في فضل الحرمين وبيت المقدس مشهورة والله تعالى اعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكثر من الصلاة في مسجد مكة والمدينة لما ورد ذلك من الفضل فإن الشارع صلى الله عليه و سلم إنما بين لنا فضل هذين المسجدين لنستغنم الصلاة فيهما مدة إقامتنا هناك لا سيما إن زادت الصلاة في الخشوع هناك كما هو الغالب فيجتمع للمصلي شرف البقعة وشرف الحضرة وربما يحصل لبعض المصلين الأجر الذي يخرج عن الحصر لكونه جليس الملك وجلساء الملوك لا تحصى مواهبهم في العادة
وتقدم في عهود الصلاة قوله صلى الله عليه و سلم : [ [ الصلاة خير موضوع ] ] . لأن فيها عمل جميع البدن فيكون معظم عملنا الصلاة والطواف ما عدا المناسك ومهمات الحوائج وهذا العهد يخل به كثير من التجار الذين يبيعون في الموسم القماش فلا يتهنأ أحدهم بطواف بل ولا بصلاة الجماعة فيصير في النهار غافلا وبالليل نائما أو يحسب ما باع به وما اشتراه حتى يرحل الحاج . وقد رأيت ذلك وقع لقاضي المحمل وكان من العلماء لكونه سافر بأحمال قماش فرأيته طائفا يوما واحدا ورأيته يصلي الصلاة منفردا ففاته خير كثير فمن أراد من التجار أن يتفرغ للعبادة فليوكل من يبيع له ذلك بشرط أن تكون نفسه غافلة عن الحسابات والربح والخسارة في الطواف وغيره فإن من كانت الدنيا أكبر همه هناك حرم الخير لكونه القلب ليس له اشتغال إلا بأمر واحد متى توجه إليه حجب عن غيره والحكم للأغلب من الأمرين . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/110)
- روى الشيخان مرفوعا : [ [ لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء ] ]
وفي رواية لمسلم وغيره : [ [ لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء ] ]
وروى الإمام احمد وغيره مرفوعا : [ [ من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي ] ] . ومن هنا كان جابر يقول : من أخاف أهل المدينة فقد أخاف رسول الله صلى الله عليه و سلم
وروى الطبراني بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ [ اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ] ] . قلت : يعني . والله أعلم لا فرض ولا نفل لأن الصرف هو الفريضة والعدل هو النافلة كما قاله سفيان الثوري وقيل الصرف هو النافلة والعدل هو الفريضة وقيل الصرف التوبة والعدل الفدية . قال : مكحول : وقيل الصرف الاكتساب والعدل الفدية وقيل الصرف الوزن والعدل الكيل وقيل غير ذلك
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من آذى أهل المدينة آذاه الله ] ] الحديث . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نشتكي أحدا من أهل المدينة المشرفة ولا نخيفه ولو بحق لنا إكراما لرسول الله صلى الله عليه و سلم لكون جميع أهل المدينة جيرانه وهذا العهد يخل به كثير من التجار وجماعة أمير الحاج فمثل هؤلاء سافروا ليربحوا فخسروا لإخلالهم بالتعظيم لمن الوجود كله في بركته صلى الله عليه و سلم و والله إن غالب الناس اليوم لا تتعدى محبته لرسول الله صلى الله عليه و سلم حنجرته وأقل تعظيمه صلى الله عليه و سلم أن يكون في الحرمة كأعظم ملوك الدنيا في إكرام جليسه ومن نزل عن ذلك فهو قليل الإيمان و والله لو شهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم الآن لغرت عليه من رؤية مثلي له ولم أر نفسي أهلا لرؤيته وكيف لمثلنا أن يرى وجها رأى الله جهارا وجلس بين يديه . وسمعت سيدي عليا الخواص يقول : من حقق النظر وجد أن أهل المدينة من حر وعبد صغير وكبير كلهم جالسين في داره صلى الله عليه و سلم وكيف يخيف الإنسان من هو جالس في دار رسول الله صلى الله عليه و سلم ويشتكيه من الحكام بل رأيت من اشتكى شريفا ابتاع منه تمرا وصار يقول للشريف أنت رافضي كلب مالك بن دينار ولعمري هذا الكلام لا يقع ممن شم رائحة محبة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن الشرفاء كلهم أولاده صلى الله عليه و سلم وإذا كرهوا أحدا من أصحاب والدهم أو سبوه فلا ينبغي أن يحكم بينهم إلا جدهم صلى الله عليه و سلم في الآخرة وأما نحن فإننا عبيد للفريقين وكيف يقول عبد لسيده يا كلب ؟ فالزم الأدب يا أخي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وأولاده وأصحابه وجيرانه ولا تظهر الخصومة والعصبية لأولاده لأجل أصحابه ولا عكسه فإن مثل ذلك ليس إليك والله يتولى هداك . - روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها : وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها ] ] . والغدوة : المرة الواحدة من الذهاب والروحة : المرة الواحدة من المجيء
وروى مسلم وغيره مرفوعا : [ [ رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وأمن الفتان ] ] . زاد في رواية للطبراني : [ [ وبعثت يوم القيامة شهيدا ] ]
وفي رواية لأبي داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح والحاكم وقال على شرط مسلم وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينم له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر ] ] والأحاديث في ذلك كثيرة والله تعالى اعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا دخلنا ثغرا من ثغور المجاهدين أن ننوي المرابطة مدة إقامتنا فيه ولو لم يكن هناك عدو لاحتمال أن يحدث هناك عدو
ومن هنا استحب للإنسان أن يتعلم رمي النشاب والمضاربة بالسيف والرمح ليكون مستعدا لرد العدو عن نفسه وماله وعياله وإخوانه المسلمين في أي محل حل سواء كان العدو كافرا أو من البغاة أو من قطاع الطرق ويقبح على من أعطاه الله قوة أن يبخل بها ولا يتعلم آلات الحرب فربما خرج عليه بعض اللصوص فهتك حريمه وأخذ ماله أو قتله أو جرحه . { والله عليم حكيم } (1/111)
- روى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله ] ]
وفي رواية للإمام أحمد وأبي يعلى والطبراني مرفوعا : [ [ من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله تبارك وتعالى متطوعا لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم ] ] أي في قوله تعالى : { وإن منكم إلا واردها } . والمراد بتحلة القسم تكفير القسم وهو اليمين
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ من حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها وصيام نهارها ] ] . والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا سافرنا إلى الحجاز أو الشام أو غيرهما أن نحرس إخواننا وأمتعتهم ودوابهم لا سيما إن كان معهم وديعة لأحد أو مسافرين بمال غيرهم كل ذلك وفاء بحق أنفسنا ونفوس إخواننا فينبغي لمن يسافر أن يطوي النوم في الليل والنهار إلا غلبة ويتمرن على ذلك قبل ليدخل له مستعدا . [ [ والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ] ]
وهذا العهد يخل بالعمل به غالب الحجاج فينظر أحدهم الحياص وقد أخذ جمل الحاج أو عمامته وهو قادر على أن يخلص ذلك من الحياص فلا يتبعه لعدم ارتباط قلبه بأخيه المسلم
ومن هنا استحب بعضهم أن يجتمع أهل كل بلد أو حارة أو إقليم على بعضهم لأجل العصبة والخلاص من المهالك في مضايق الأودية فربما زلقت رجل جمله بحمله فوقع في الوادي فلا يستطيع صاحبه أن يمسكه عن الوقوع فكن يا أخي رحيما شفوقا على إخوانك ليعاملوك في سفرك بنظير ما تفعل معهم والله تعالى يتولى هداك (1/112)
- روى النسائي والترمذي وقال حديث حسن وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت بسبعمائة ضعف ] ]
وروى ابن حبان والبيهقي : لما نزلت الآية قوله تعالى : { مثل اللذين ينفقون أمولهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } قال النبي صلى الله عليه و سلم [ [ اللهم زد أمتي ] ] فنزلت الآية قوله تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }
وروى الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم مرفوعا : [ [ من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا ] ] . زاد في رواية ابن ماجه : [ [ من غير أن ينقص من أجر الغازي شيء ] ]
وروى الطبراني ورجله رجال الصحيح مرفوعا : [ [ ومن خلف غازيا في أهله بخير وأنفق على أهله فله مثل أجره ] ] . والأحاديث في ذلك كثيرة والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكرم الغزاة والحارسين لودائع الناس في مثل العقبة والأزلام وكذلك نكرم خفر الدرب من العرب أصحاب الإدراك وإذا ضاع لنا شيء لم نلزمهم به إلا بطريق شرعي ولو كان لهم على ذلك صر في بيت المال بل ينبغي أن نساعدهم بما نقدر عليه من البقسماط والأدم والنقد ترغيبا لهم في الإقامة في تلك الأماكن المخوفة ونحوط أمتعة الناس ونبدأهم بالعطاء ولا نذلهم بالسؤال وكذلك نكرمهم إذا وردوا علينا في مصر وغيرها ولا نبخل عليهم ونقول إن هؤلاء لهم جامكية من جهة السلطان مع قدرتنا على الإحسان إليهم حسب الطاقة قال الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }
فمن لم يجد نقدا يعطيه للغزاة فليعطهم ولو رغيفا أو نصفا أو يخدم عيالهم مدة سفرهم ويقوم بمهمات حوائجهم ومثل الغزاة والحارسين في سبيل الله في تفقد عيالهم بالبر والإحسان كل من سافر لمصلحة إخوانه كالجابي الذي يجبي لهم مال وقفهم أو يأتي لهم بالقمح والحطب وما يقوم بمصالحهم فينبغي لإخوانه أن يتعاهدوا عياله وأولاده بالبر وقضاء الحوائج ولا يخل بذلك إلا من ليس له مروءة وما رأت عيني في عصري أحدا قام بهذا الأمر معي ومع أصحابه مثل الشيخ أحمد الكعكي رحمه الله . وبالجملة فقد صارت أخلاق المؤمنين قليلة لقلة ارتباط قلوبهم ببعضهم بعضا ولا يقوم بمثل ذلك إلا من باشر صريح الإيمان قلبه وهو مقام عزيز في هذا الزمان لغلظ الحجاب من أكل الحرام { والله عليم حكيم } (1/113)
- روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ] ]
وفي رواية لمسلم وغيره مرفوعا : [ [ من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم يصبه ] ]
وروى أبو داود والترمذي : [ [ ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا ثم مات أو قتل كان له أجر شهيد ] ] . وفي رواية لابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ومن سأل الله الشهادة مخلصا أعطاه أجر شهيد وإن مات على فراشه ] ]
والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نسأل ربنا أن نموت شهداء في سبيل الله لا على فرشنا فإن لم يحصل لنا مباشرة ذلك حصل لنا النية الصالحة وربما ترجع على ثواب من باشر الجهاد حتى قتل لغلبة ما يطرق المجاهدين من حب الرياء والسمعة ومن نوى ولم يباشر الجهاد حتى مات على فراشه ربما أعطاه الله تعالى ذلك الأجر كاملا من غير مناقشة كما ورد مثل ذلك فيمن عزم على قيام الليل فأخذ الله بروحه إلى الصباح وقد وسع الله تعالى على هذه الأمة بإعطائهم الأجر بالنية الصالحة فكل فعل لم يقسم الله تعالى لهم مباشرته يحوزون فضله بالنية قال صلى الله عليه و سلم : [ [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ] ]
لم يقل وإنما لكل امرئ ما عمل مع أن النية أيضا عمل قلبي فافهم واشكر الله تعالى على ذلك
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : في قدرة من وقفه الله تعالى أن لا يترك عملا من أعمال أهل الإسلام إلا وله فيه نصيب وذلك أن ينوي فعل كل خير بنية جازمة فإذا لم يحصل له فعله حصل له أجره من حيث النية . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/114)
- روى الإمام مالك والشيخان وغيرهم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ [ ما تعدون الشهداء فيكم ؟ قالوا : يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد قال : إن شهداء أمتي إذا لقليل قالوا : فمن يا رسول الله ؟ قال : من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في الطاعون فهو شهيد ومن مات من البطن فهو شهيد ] ]
زاد في رواية لهم : [ [ والغريق شهيد ] ]
وفي رواية لمسلم مرفوعا : [ [ الشهداء خمسة : المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله عز و جل ] ]
وفي رواية للإمام أحمد والطبراني مرفوعا ورواتها ثقات : [ [ وفي النفساء يقتلها ولدها جمعاء شهادة ] ] . والجمعاء : هي التي تموت وولدها في بطنها
وفي رواية للطبراني ورواتها رواة الصحيح : [ [ والحرق شهادة وذات الجنب شهادة ] ] . زاد في رواية للإمام أحمد بإسناد حسن : [ [ والسل شهادة ] ] . قال الحافظ : والسل هو داء يحدث في الرئة يؤول إلى ذات الجنب وقيل هو زكام أو سعال طويل مع حمى هادئة وقيل غير ذلك
وروى الشيخان مرفوعا : [ [ الطاعون شهادة لكل مسلم ] ]
وروى البخاري مرفوعا : [ [ ما من عبد يكون في بلد فيكون فيه يعني الطاعون فيمكث لا يخرج صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد ] ]
وروى أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح مرفوعا : [ [ من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ] ]
وفي رواية للترمذي وغيره مرفوعا : [ [ من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد ] ] . ولفظ رواية النسائي : [ [ من قتل دون ماله مظلوما فهو شهيد ] ]
والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا لم يقسم لنا جهاد أن لا ننفر من الأمور التي ورد أنها تلحقنا بالشهداء في الثواب الأخروي بل نتلقاها بالرضا فإن لم يتيسر فبالصبر لا أنقص من ذلك فليس بعد الصبر إلا السخط
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ ناصح ليرقيه إلى حضرات الصبر ثم حضرات الرضا وذلك أن المحجوب لا يعرف للصبر طعما وما عنده إلا السخط والكراهة فلا يزال يرقيه عن مقام السخط بذكر الثواب الأخروي حتى يصير يتجلد ويصبر فإذا أحكم مقام الصبر بين له ما في الصبر من ادعاء القوة ومقاومة القهر الإلهي بنفسه وعدم استحلائه أقدار الله وما هو فيه من سوء الأدب مع الله تعالى من حيث ترجيحه خلاف ما اختاره الحق تعالى له وهناك ينشرح للبلاء
وينبسط له فاعلم أن البلاء ثلاث مراتب سخط وصبر رضا فيحبس الله تعالى العبد في مرتبة حتى يأتي بها ذوقا قبل أن ينقله إلى ما بعدها فكل
مرتبة في محن أفضل من غيرها فلا يقال من يتلذذ بالبلاء أفضل مطلقا
ولا مقام الصبر أفضل مطلقا فلا بد لكل إنسان من هذا ومن هذا ليشكر
ويصبر وفي الحديث : [ [ عظم الأجر من عظم البلاء ] ]
فما ربحه الراضي خسره من جهة عدم إحساسه بالبلاء وما ربحه من أحس بالبلاء خسره من جهة عدم الرضا عن الله والتلذذ بقضاء الله
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : الرضا عن الله تعالى لا يخلو من كراهة خفية لأن في كل إنسان جزءا يكره المرض ولا يخرج
عنه أبدا وجزءا يختار خلاف ما اختار الله ولا يخرج عنه أبدا وجزءا
يحب الدنيا ولا يكرهها أبدا وقس على ذلك سائر النقائض ولو كشف
للمتصوفة لرأوا ذلك الجزء يدق ولا يزول ومن هنا استغفر الأكابر من أفعالهم الحسنة
وسمعته أيضا يقول : [ [ الرضا مشتق من روض الدابة الشموس فلا بد أن يبقى بعد رياضتها بقية من الرعونة وما خرج عن ذلك سوى الأنبياء لأن الله تعالى طهر طينتهم من النقائض بسابق العناية ومن هنا عصموا دون غيرهم
فاسلك يا أخي على يد شيخ ليخرجك من الرعونات وتصير تتلقى أقدار سيدك بالرضا والانشراح ظاهرا وتستغفر من الجزء الخفي الذي فيك يكره أقدار سيدك
وقد كان سفيان الثوري رضي الله عنه يقول : إنما خاف الأكابر من المرض لما يطرق المريض من كراهية ومن السخط اه وكان بجواري امرأة بها ضارب العظم ليلا ونهارا فسمعتها ليلة تقول أنا حسب زربونك [ هو الدابة ] يا رب تفضل علي بغمض الجفن لحظة ثم تقول : أستغفر الله ما لله زربون وسمعتها أيضا تقول : إيش عملت لك يا رب لهذا كله
وكان سفيان الثوري يقول : رجال البلاء إنما هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثم يقول والله ما أدري ماذا يقع مني لو ابتليت فلعلي أكفر ولا أشعر اه . وهذا منه اتهام لنفسه رضي الله عنه ولكل مقام رجال
{ والله غفور رحيم } (1/115)
- روى الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم مرفوعا : [ [ خيركم من تعلم القرآن وعلمه ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ من قرأ القرآن فليسأل الله به فسيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس ] ]
وروى الحاكم عن ابن عباس وقال صحيح الإسناد : [ [ من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر ] ] وذلك قوله تعالى : { ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا } قال : الذين قرءوا القرآن
والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نعلم أولادنا وعيالنا القرآن ونأمرهم أن يعلموه لغيرهم ولا يقولوا لمن طلب منهم التعليم ما نحن فارغين فإن ذلك من أعظم القربات ولعله يكون مقدما على الشغل الذي هو فيه
واعلم أن الله تعالى ما أمرنا بتعليم القرآن والعلم للناس إلا طلبا للأجر الأخروي فمن خف عليه تعليمه للناس بلا أجر دنيوي فهو كامل الإيمان ومن أحس بثقل إذا علمه بغير أجرة فهو رجل دنياوي خالص وأجره في الآخرة قليل
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : الحكم في جميع الأعمال الصالحة لغلبة الباعث فمن غلب عليه تلاوة القرآن لدنيا يصيبها حبط عمله المذكور أو للأجر الأخروي فلا حبوط
قال : ومن أراد من الفقراء أخذ الأجرة على القرآن أو العلم من غير نقص الأجر في الآخرة فليعقد نيته على تلاوته تقربا إلى الله عز و جل ثم يأخذ تلك الدراهم التي تعطى له على تلاوته على نية أن ذلك ابتداء عطاء من الله لا بيع لقراءة القرآن والعلم بتلك الدراهم اه
واعلم يا أخي أن الله تعالى ما أعطى كتابه وسنة نبيه لعباده إلا ليعملوا بهما
ويعلموهما للناس بالأصالة (1/116)
- روى مسلم وابن ماجه والبزار مرفوعا : [ [ إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله ] ]
وفي رواية : [ [ يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ] ]
وروى البزار بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه و سلم كتبت عنده سورة النجم فلما بلغ السجدة سجد قال أبو هريرة وسجدنا معه وسجدت الدواة والقلم والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نستعد بالطهارة لقراءة القرآن ونأمر أصحابنا بذلك بنية تعظيم كلام الله عز و جل ونية سجود التلاوة إذا قرأنا آية سجدة أو سمعناها ويتعين ذلك أدبا متأكدا على التجار والمباشرين الذين يحضرون المساجد قبل الصلوات في مثل جامع الأزهر ونحوه فيجلسون محدثين في لغو وغفلة بل وغيبة
وربما يمكثون بلا طهارة حتى تقام الصلاة فيذهبون للوضوء فتفوتهم صلاة الجماعة أو بعضها فليتنبه الجالس في محل يتلى فيه القرآن ويصلى فيه الجماعة لمثل ذلك فإن عرف من نفسه عدم السلامة من اللغو في المسجد فضلا عن الغيبة فليجلس خارج المسجد ليفوز بالسلامة
{ والله غفور رحيم } (1/117)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ إنما مثل صاحب القرآن مثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت ] ]
وروى مسلم مرفوعا : [ [ تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها ] ]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ ما أذن الله لشيء كما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به ] ]
ومعنى أذن بفتح الذال أي يستمع وقيل بكسر الذال :
قال الحافظ المنذري : ومعنى الحديث ما استمع الله لشيء من كلام الناس كما استمع إلى من يتغنى بالقرآن أي يحسن به صوته قال وذهب سفيان بن عيينة وغيره إلى أنه من الاستغناء وهو خلاف الظاهر
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ زينوا القرآن بأصواتكم ] ]
قال الخطابي رحمه الله : معناه زينوا أصواتكم بالقرآن هكذا فسره غير واحد من أئمة الحديث وزعموا أنه من باب المقلوب كما قالوا عرضت الناقة على الحوض أي عرضت الحوض على الناقة لأن الذي يشرب هو الذي يعرض عليه الماء ثم روى بإسناده مرفوعا : [ [ زينوا أصواتكم بالقرآن ] ] . قال وهو الصحيح
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا وتغنوا به فمن لم يتغن بالقرآن فليس منا ] ]
وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله ] ]
وروى أبو داود أنه قيل لابن أبي ملكية أرأيت إن لم يكن حسن الصوت قال يحسنه ما استطاع اه . ومعناه حسن القراءة لا المقروء والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتعاهد القرآن بالتلاوة ولنحسن صوتنا به جهدنا طلبا لميل الناس إلى سماعه فإن علمنا من الناس أنهم لا يستلذون بسماعه منا أسمعنا به أنفسنا فقط لئلا يقع الناس في حقنا وحق القرآن ويقولون قراءة فلان تقسي القلب فيجعلون سماع كلام الله يقسي القلب كأنه معصية ومن لحق بنفسه استراح وأراح
واعلم يا أخي أن روح تلاوة القرآن هو الحضور مع الله تعالى فيه لكن يحتاج من يشهد هذا المشهد إلى سلوك على يد شيخ صادق حتى يصير لا يتشتت قلبه بتلاوة القصص التي في القرآن عن شهود صاحب الكلام
فيجمع في شهوده بين سماع كلام الله القديم في حال كونه حكاية عن كلام الخلق الحادث وهو مشهد عزيز لم أر له ذائقا إلى وقتي هذا
{ والله غفور رحيم } (1/118)
- روى مسلم والنسائي والحاكم وغيرهم مرفوعا : [ [ نزل ملك من السماء لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال : أبشر بنورين أعطيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ الحرف منهما إلا أعطيته ] ]
وروى مسلم والترمذي والنسائي مرفوعا : [ [ لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة ] ]
وروى الترمذي مرفوعا في قصة الغول الذي كان يأكل من تمر أبي أيوب الأنصاري كل ليلة فلما أمسكه أبو أيوب قال إني أذكر لك شيئا اقرأ آية الكرسي في بيتك فلا يقربك شيطان ولا غيره فجاء أبو أيوب فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ [ صدقك وهو كذوب ] ] اه باختصار . ووقع مثل ذلك أيضا لأبي هريرة رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : صدقك وهو كذوب
وقال الحافظ المنذري والغول : هو شيطان يأكل الناس وقيل هو من يتلون من الجن
وروى الإمام أحمد وغيره مرفوعا : [ [ آية الكرسي سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت وفيه شيطان إلا خرج منه ] ] الحديث . وفي رواية : [ [ قراءة آية الكرسي تعدل قراءة ألف آية من القرآن ] ]
قال بعضهم : وفي إخبار الشارع صلى الله عليه و سلم لنا بذلك فوائد : منها
أن من نام عن ورده حتى فات وقته فينبغي له قراءة سورة قل هو الله أحد بعد قراءة آية الكرسي وسورة إذا زلزلت ونحو ذلك مما ورد أنه يعدل ثلث القرآن أو ربع القرآن أو نصف القرآن جبرا لما فاته من التطويل . والله تعالى أعلم
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي واللفظ له وابن ماجه والحاكم وصححه مرفوعا : [ [ قلب القرآن سورة يس لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له ] ]
وروى أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ إن في سورة القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ سورة تبارك هي المانعة هي المنجية تنجي قارئها من عذاب القبر ] ]
والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على قراءة ما ورد من الآيات والسور كل يوم وليلة كالفاتحة وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة وخواتيم سورة آل عمران وقراءة سورة يس والواقعة والدخان وتبارك ونحو ذلك والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة ومن واظب على ذلك كان في حرز وأمان من الآفات الظاهرة والباطنة
وأكثر من يخل بهذا العهد بعض طلبة العلم الذين حدثوا في هذا الزمان فلا تكاد تجد لأحدهم وردا من القرآن ولا من الأذكار وإن كلمهم أحد في ذلك جادلوه وقالوا نحن مشتغلون بالعلم وربما جلس أحدهم يلغو ويمزح ويستغيب الناس أضعاف زمن تلك الأوراد ولا يقول لنفسه قط إن الاشتغال بالعلم أفضل أبدا بل ربما نسي بعضهم القرآن في حجة اشتغاله بالعلم وهو ذنب عظيم كل ذلك لعدم من يربيهم
وقد كان السلف الصالح إذا رأوا طالب العلم لا يعتني بالعمل بما علم لا يعلمونه العلم
فلازم يا أخي على قراءة ما أمر به الشارع صلى الله عليه و سلم وأرشدك إليه شفقة عليك من الآفات ولا تكن من الغافلين عن ذلك
وتأمل يا أخي من لا ورد له من طلبة العلم ولا أدب تجده معرى من الخير ليس على وجهه أنس ولا عليه خشية من الله تعالى بخلاف من له أوراد
وأذكار . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/119)
- روى الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم مرفوعا : [ [ يقول الله عز و جل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ] ]
وفي رواية للطبراني بإسناد حسن مرفوعا قال الله عز و جل ذكره : [ [ لا يذكرني عبد في نفسه إلا ذكرته في ملأ من ملائكتي ولا يذكرني في ملأ إلا ذكرته في الرفيق الأعلى ] ]
وفي رواية لابن ماجه وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إن الله عز و جل قال : أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه ] ]
قلت : وفي هذا الحديث إطلاق أن أسماء الله تعالى ليست عينه لقوله فيه : [ [ وتحركت بي شفتاه ] ] وما تحركت الشفتان إلا بالاسم فافهم . والله أعلم :
وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه وابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد أن رجلا قال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به قال : [ [ لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ] ]
ومعنى أتشبث أتعلق
وروى ابن أبي الدنيا والطبراني والبزار عن معاذ بن جبل قال : آخر كلام فارقت عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن قلت : أي الأعمال أحب إلى الله تعالى قال : [ [ أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله تعالى ] ]
وروى الشيخان مرفوعا : [ [ مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت ] ]
ولفظ مسلم : [ [ مثل البيت الذي يذكر الله فيه ] ]
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ أكثروا من ذكر الله حتى يقولوا مجنون ] ]
وروى الطبراني والبيهقي مرسلا : [ [ اذكروا الله ذكرا يقول المنافقون إنكم مراءون ] ]
قلت : وإنما سمى صلى الله عليه و سلم من ينسب الذاكرين إلى الرياء منافقا لأنه لا ينسبهم إلى الرياء إلا وقد تحقق هو به فعرفه صلى الله عليه و سلم حاله وأنه لو لم يكن عنده رياء لحملهم على الإخلاص نظير ما عنده ومن هنا قالوا : لا يصح من الشيطان أن يسلم أبدا لأنه لو أسلم لم يتصور في باطنه كفر يوسوس به الناس فكان بباطنه الكفر من العالم
لأنه لا واسطة لأحد في الكفر إلا إبليس فافهم . والله أعلم
وروى ابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ ما من يوم وليلة إلا ولله عز و جل فيه صدقة يمن بها على من يشاء من عباده وما من الله على عبده بأفضل من أن يلهمه ذكره ] ]
وروى الإمام أحمد والطبراني : [ [ أن رجلا قال يا رسول الله أي المجاهدين أفضل وأعظم أجرا ؟ قال : أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا
قال فأي الصائمين أعظم أجرا ؟ قال أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا
ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا فقال أبو بكر لعمر :
يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ [ أجل ] ]
وروى الطبراني والبيهقي بإسناد جيد مرفوعا : [ [ ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله تبارك وتعالى فيها ] ]
قلت : وقوع التحسر في الجنة إنما يكون لهم أول دخولهم حين يرون مقام من فوقهم . والله أعلم
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من لم يكثر ذكر الله فقد برئ من الإيمان ] ]
قال الحافظ المنذري حديث غريب
وروى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري مرفوعا : [ [ إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تبارك وتعالى تبادروا وقالوا هلموا إلى حاجتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء ] ] فذكر الحديث إلى أن قال : قال الله تعالى : أشهدكم أني قد غفرت لهم . قال : يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة قال هم القوم لا يشقى جليسهم ] ]
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى والبيهقي وغيرهم مرفوعا : [ [ يقول الله عز و جل يوم القيامة : سيعلم أهل الجمع من أهل الكرم فقيل ومن أهل الكرم يا رسول الله ؟ قال : أهل مجالس الذكر ] ]
وروى الإمام أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح إلا واحدا مرفوعا : [ [ ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز و جل لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفورا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات ] ]
وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ ليبعثن الله تعالى أقواما يوم القيامة في وجوههم النور على منابر اللؤلؤ يغبطهم الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء قال فجثى أعرابي على ركبتيه فقال يا رسول الله صفهم لنا نعرفهم ؟ فقال : هم المتحابون في الله من قبائل شتى وبلاد شتى يجتمعون على ذكر الله ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا : وما رياض الجنة يا رسول
الله ؟ قال حلق الذكر ] ]
قلت ولا يخفى أن محل أفضلية الذكر على غيره ما إذا تعلم العلم وعرف أمور دينه كلها إذ الذاكر جليس للحق ولا ينبغي مجالسته إلا بعد التضلع في أحكام الشريعة ويصير عنده علم بشروط جميع العبادات وآدابها
وهناك يصلح لمجالسة الملك فإن الشريعة حكمها كالدهليز لمجالسته
ومن هنا قالوا : يجب على العبد أن يقدم العلم المتعلق بأدب الملوك على مجالستهم ومن جالسهم بلا أدب فهو إلى العطب أقرب . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نداوم على الإكثار من ذكر الله سرا وجهرا ولا نترك الذكر لفظا إلا إذا حصل لنا ثمرته التي هي دوام الحضور مع الله في جميع أحوالنا فلا يزال الذاكر ينسى أفراد العالم شيئا بعد شيء إلى أن يحجب عن شهوده لشيء منه ويصير لا يرى إلا الله ثم إنه يحجب عن شهوده نفسه كذلك بأن يرق ويدق حتى يصير كالذرة ثم يغيب فإذا تحقق بالمقام قيل له ارجع إلى شهود أفراد العالم وانظر ما انطوت عليه من الحقائق فإنها كلها دلائل على ذلك فإنك حجبت عن معرفتي بقدر ما حجبت عن شهود العالم ثم يرجع بعد معرفة الله إلى أفراد العالم شيئا بعد شيء إلى أن لا يغيب عنه من العالم ذرة إلا ما كان فوق دائرته فتأمل
وكذلك ينبغي لنا أن نحث المترددين إلينا على حضور مجالس الذكر ونحارب من سعى في إبطال مجلس ذكر ونجادله ونباحثه فإن ظهر الحق على يده أيدناه وقاتلنا معه وذلك لأن غالب من يعقد مجالس الذكر في المساجد يدخله الدخيل من حب الرياء والسمعة والشهرة لا سيما في مثل جامع الأزهر فإن ذكر الله تعالى من أعظم القربات ومثل ذلك يعقد له إبليس في كل مرصد حتى يحرف نيته واحتفاف القرائن ملحق بالأدلة ولم يزل الجدال بين طلبة العلم وبين المتصوفة في شأن هذه المجالس والحق أحق أن يتبع فلا ينبغي لعاقل أن يجهر بذكر الله في مسجد إلا إذا لم يشوش على نائم أو مصل أو مدرس لعلم فإن احتفت القرائن في إخلاص الذاكرين لله تعالى نصرناهم أو بإخلاص المطالع للعلم نصرناه ويحتاج من يمشي بين هؤلاء إلى نور عظيم وسياسة عظيمة
وقد وقع للجنيد أن الإمام أحمد بن سريج قال له : إن رفع أصواتكم بالذكر يؤذي حلقتنا في العلم فقال له ينبغي مراعاة أقرب الطريقين إلى الله تعالى فقال ابن سريج فإذا وجب مراعاة طريقتنا لأنها أقرب إلى الله تعالى من طريقكم فقال الجنيد وما علامة القرب ؟ قال ابن سريج : أن يكون الغالب عليه شهود الحق فقال الجنيد هذا عليكم لا لكم لأن الغالب عليكم إنما هو شهود أحكام دين الله لا الله فقال ابن سريج : نريد حالة يقع الامتحان بها فقال الجنيد يا فلان خذ هذا الحجر وألقه في حضرة هؤلاء الفقراء فألقاه فصاحوا كلهم : الله ثم قال له خذ هذا الحجر وألقه بين هؤلاء الذين يطالعون في العلم فألقاه فقالوا له : حرام عليك فقال ابن سريج الحق معك يا أبا القاسم
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : من علامة ترجيح ذكر الله على قراءة العلم ثقل العلم على لسان الإنسان وهو يطلع في الروح وخفة ذكر الله تعالى فإن المشرف على الانتقال من هذه الدار يجب عليه استغنام ما هو الأفضل فلو كان تعلم مسائل الفقه والنحو والأصول أفضل لما ثقلت على لسان المحتضر وأهل الله تعالى لقصر أملهم كأنهم محتضرون في كل وقت اه
وأخبرني الشيخ أحمد الضرير المقيم في مينة ؟ ؟ الخنازير بالشرقية قال : جاورت عند الشيخ عمر روشني ؟ ؟ شيخ الشيخ دمرداش بمصر وكان في مدينة توريز العجم أن شخصا من علماء توريز اسمه ملا عبداللطيف كبير المفتين بها سعى في إبطال مجلس الذكر المتعلق بالشيخ عمر في الجامع الكبير وقال إن المسجد إنما جعل بالأصالة للصلاة وكان يحضر ذلك المجلس نحو خمسة آلاف نفس فقال الشيخ عمر فإذا ذكرنا بخفض الصوت تمعنا من ذلك قال لا فقال الشيخ عمر معاشر الفقراء اخفضوا أصواتكم في الذكر ومن قوي عليه وارد برفع الصوت فليرده ويكتمه ما استطاع ففعلوا فحمل من المجلس ذلك اليوم نحو خمسمائة نفس مرضى واحترقت أكباد نحو أربعة عشر نفسا وخرجت من أجنابهم فماتوا قال الشيخ أحمد فحسست بيدي على أكبادهم فوجدتها مشوية محروقة تفتتت كالكبد المشوي على الجمر فأرسل الشيخ عمر إلى ملا عبداللطيف وجماعته وقال : هل يقول عاقل إن مثل هؤلاء الذين ماتوا لهم تفعل في الموت ولكن سهم الله تعالى في البعيد قال الشيخ أحمد فتطبقت دار ملا عبداللطيف تلك الليلة عليه وعلى أولاده وعياله وبهائمه وغلمانه فلم يسلم أحد منهم وماتوا أجمعين وكان يوما مشهودا في توريز
فاعلم أنه ينبغي لطالب العلم أن يتلطف في العبارة للذاكرين . ولا يقوم عليهم كقيامه على من يخرجه من الدين بل فعله ذلك هو الذي ينكر لأنه كالمنع من الدين ولو استحضر عظمة الله تعالى لما استطاع أن ينطق بكلمة في حق أحد من الذاكرين له
فلازم يا أخي على الذكر وانصر أصحابه بالطريق الشرعي . إكراما لله تعالى وتعظيما له وإن احتفت قرائن الرياء وعدم الإخلاص في الذاكرين فانصر طلبة العلم المخلصين ولا تكن من الذين ينصرون أحد الفريقين بحظ النفس والله يتولى هداك
وسمعت سيدي عليا المرصفي رحمه الله يقول : مراد الشارع صلى الله عليه و سلم ومشايخ الطريق من مريدهم إذا أكثر من الذكر باللسان والقلب أن يحصل له الأنس ويصير قلبه لا يغفل ولا يتكلف للذكر بل يكون الحق مشهوده على الدوام وتارة يشهد بقلبه وتارة يشهد هو أنه في حضرة الله وإن الله يراه وكلا الحالين إذا دام يمنع العبد من وقوعه في المعاصي وسوء الأدب مع الله تعالى وما لم يكثر العبد من ذكر الله عز و جل لا يحصل له هذا الأنس بل يقع في كل معصية كالبهائم السارحة
وسمعته مرة أخرى يقول : من خاصية تمكن الذكر من القلب أن يهذب أخلاق صاحبه فمن لم يتهذب فكأنه لم يذكر فهذا مقصود الشارع والأشياخ بأمرهم المريد إكثاره من الذكر . { والله عليم حكيم }
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : ما ثم كرامة للعبد أفضل من ذكر الله تعالى لأنه يصير جليسا للحق كلما ذكر
وقد اختلى مريد سنة كاملة فما رأى نفسه وقعت له كرامة فذكر ذلك لشيخه فقال : أتريد كرامة أعظم من مجالسة الحق تعالى ثم قال له : ما رأيت أكثف حجابا منك لك في الكرامة العظمى سنة كاملة ولا تشعر بها اه فاعلم ذلك
واحذر يا أخي من التصدر للذكر في مثل جامع الأزهر فربما كان الباعث لك على المواظبة هناك رؤية الناس لك فاعلم ذلك . والله أعلم (1/120)
- روى أبو داود والترمذي واللفظ له والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال الترمذي حديث حسن مرفوعا : [ [ من جلس مجلسا كثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك ] ]
وروى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول بأخرة ؟ ؟ إذا أراد أن يقوم من المجلس : [ [ سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك فقال رجل يا رسول الله إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى ؟ فقال هو كفارة لما يكون في المجلس ] ]
وقوله بأخرة ؟ ؟ غير ممدود : أي بآخر أمره
وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلس حق أو مجلس باطل عند قيامه ثلاث مرات إلا كفرت عنه خطاياه سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك . والله تعالى أعلم
والأحاديث في فضل قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له وفي التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وفي لا حول ولا قوة إلا بالله وفي أذكار المساء والصباح وعقب الصلوات كثيرة مشهورة ولا يثبت حفظ الأذكار عند العبد إلا عمله بها
فاعمل يا أخي بكل ما تقدر عليه من هذه الأذكار وكلما تجد لك وقتا يحمل أكثر من ذلك فزد من الأذكار وإن جمعت لك حزبا جامعا تقرؤه في مجلس صباحا ومساء كان أعون لك
{ والله غفور رحيم }
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحفظ لساننا في كل مجلس نجلسه عن كلام اللغو والفحش ما أمكن وإن وقعنا في ذلك فلا ننصرف حتى نذكر الله تعالى بما ورد أنه يكفر ما وقع في المجلس وذلك أن الملك لا يكتب ما عمله العبد من السيئات إلا بعد ساعة أو ثلاث ساعات كما ورد [ فإن استغفر لم يكتبها وإن لم يستغفر يكتبها
وهذا من جملة رحمة الله تعالى بعباده من حيث كون رحمته وحلمه سبق غضبه وانتقامه فإذا وقع العبد في معصية تسابق إليه أسماء الرحمة والانتقام
ومعلوم أن أسماء الرحمة أسبق فتأتي أسماء الانتقام فتجد أسماء الرحمة قد سبقتها إلى محل الانتقام فرجعت أسماء الانتقام بلا تأثير فالحمد لله رب العالمين
وكان الشيخ محي الدين بن العربي يقول : إذا عصيت الله تعالى في أرض فلا تفارقها حتى تعمل فيها خيرا كقولك لا إله إلا الله أو سبحان الله أو الحمد لله فكلما صارت البقعة تشهد عليك كذلك صارت تشهد لك يوم القيامة والله يحفظ من يشاء كيف يشاء (1/121)
- روى مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ] ] وفي رواية للترمذي وقال حديث حسن صحيح مرفوعا : [ [ إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها الناس وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره ] ]
وروى الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان ] ]
قال الحافظ المنذري : والحلم هو رؤية الجماع في النوم وهو المراد هنا يقال حلم الجلد إذا فسد وتغير اه . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتحفظ من الشيطان كلما نريد النوم وذلك بالنوم على طهارة باطنة وظاهرة وبقراءة الأذكار الواردة في ذلك فإن من نام على حدث وعدم قراءة أذكار فمن لازمه عدم مفارقة الشيطان له فلا يزال يوسوس له بكثرة النوم ويريه المنامات الرديئة ليحزنه حتى يستيقظ
فاعمل يا أخي بالأذكار الواردة عند النوم ونم على طهارة إن أردت الحفظ من الشيطان
وقد سمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : إنما كان أكابر الأولياء يرون المنامات الرديئة مع حفظهم من الشيطان تنشيطا لهم لأن المنام وحي المؤمن وإنما كانوا لا يرون المنامات التي تسرهم كالمريدين لقوتهم فإنهم فرغوا من الأمور التي تؤلفهم على الطريق وعرفوا سعة فضل الله على العباد فصاروا لا ينظرون إلا إلى الذي عليهم من الحقوق لا إلى الذي لهم بخلاف المريد لو رأى المنامات الرديئة أول دخوله الطريق لانقطع عنها وفترت همته اه
فقلت له إن في الحديث : [ [ الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان ] ]
وكل رؤيا أحزنت العبد فهي غير صالحة فكيف سميتموها صالحة ؟
فقال : لولا أنها صالحة ما نشطت ذلك الولي ولا نبهته على نقائصه إذ كل شيء أورث خير فهو خير اه
قلت : وقد وقع لي مرة أنني تمنيت أن أرى حالي في القبر فنمت فرأيت تلك الليلة أني نائم في القبر على طراحة خيش محشوة بشوك أم غيلان
وأنا أتقلب عليها فتنبهت لأمر كنت عنه غافلا وهذا الحال لم يزل الحق ينبهني عليه في النوم فربما أترك وردي ليلة فأرى نفسي في لهو ولعب أو حاملا حطبا أو مارا في شجر التين فأعرف بذلك أنني ملت إلى شهوة أو عندي نفاقا ونحو ذلك مما حجبت عن شهوده في اليقظة فإن اللهو يدل على الغفلة عن الله وحمل الحطب إشارة للنفاق فإن النفاق الذي عندي قليلا رأيت أنني حامل حطب الطرفاء وإن كان فوق ذلك رأيت أنني حامل حطب الزند وإن كان خشبا علمت أن عندي نفاقا عظيما
وأما شجر التين فهو علامة على القرب من الوقوع في معصية لأن شجرة التين هي التي أكل منها آدم عليه السلام وهذا كله من جملة فضل الله علي لأتوب من ذلك وأستغفر فالحمد لله رب العالمين (1/122)
- روى أبو داود والترمذي وقال حسن والنسائي والحاكم واللفظ للترمذي مرفوعا : [ [ إذا فزغ أحدكم في النوم فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لا تضره ] ]
وكان عبدالله بن عمر يلقنها من عقل من ولده ومن لم يعقل منهم كتبها له في صك ثم علقها عليه وليس عند الحاكم تخصيص ذلك بالنوم
وفي رواية النسائي عن خالد بن الوليد أنه كان يفزع في منامه فشكا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ [ إذا اضطجعت فقل : باسم الله أعوذ بكلمات الله التامة ] ] فذكر مثله
وفي رواية للطبراني أن خالد بن الوليد حدث رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أهاويل يراها في الليل حالت بينه وبين صلاة الليل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ يا خالد بن الوليد ألا أعلمك كلمات تقولهن لا تقولهن ثلاث مرات حتى يذهب الله ذلك عنك ؟ قال : بلى يا رسول الله بأبي أنت وأمي فإنما شكوت هذا إليك رجاء هذا منك ؟ قال قل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ] ]
قالت عائشة رضي الله عنها : فما لبث ليالي حتى جاء خالد بن الوليد فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي والذي بعثك بالحق ما أتممت الكلمات التي علمتني ثلاث مرات حتى أذهب الله عني ما كنت أجد ما أبالي لو دخلت على أسد في خيسته بليل أو نهار . وخيسة الأسد : هو موضعه الذي يأوي إليه
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى بإسناد جيد صحيح به رواه مالك مرسلا أيضا عن عبدالرحمن بن خنيس التميمي أنه قيل له هل أدركت رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال نعم فقيل كيف صنع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة كادته الجن ؟ فقال إن الشياطين تحدرت تلك الليلة على رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأودية والشعاب وفيهم شيطان بيده شعلة من نار يريد أن يحرق وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم
فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال : يا محمد قل كما أقول قل : [ [ أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ] ]
قال فطفئت نارهم وهزمهم الله تعالى
وروى الطبراني بإسناد جيد : [ [ أن خالد بن الوليد أصابه أرق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن نمت ؟ قال : قل اللهم رب السماوات السبع وما أظلت ورب الأرضين وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت كن لي جارا من شر خلقك أجمعين أن يفرط على أحد منهم أو يطغى عز جارك وتبارك اسمك ] ]
زاد في رواية أخرى له : [ [ وجل ثناؤك ولا إله غيرك لا إله إلا أنت ] ]
والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا حصل لنا قلة نوم وسهر مفرط لقلة رطوبات البدن أو لخوف من لصوص أو من عفريت ونحو ذلك أن نتداوى بالأذكار الواردة في ذلك قبل التداوي بالحكماء فإني رأيتهم يداوون من غلب عليه الخوف بإحماء الذهب على النار ثم يطفونه بالماء ويسقونه للخائف
واعلم يا أخي أن قلة النوم تقع كثيرا عقب المرض الطويل فيخف دماغ العبد من الرطوبات والدسومات فلا يكاد ينام ويحصل له بذلك ضرر شديد حتى يصير يتمنى الموت من شدة الألم . فاعلم أنه لا ينبغي للعبد أن يترك التداوي بما ذكر ويقول الأفضل للعبد أن يحمد الله تعالى على ترك النوم . لأنا نقول التداوي بذلك لا ينافي الحمد لله تعالى على السهر من حيث تقديره فيتداوى العبد من حيث إن السهر المفرط لا يصير به عند العبد إقبال على الله تعالى في عبادة من العبادات بل يصير يعبد الله تعالى من غير شدة داعية ولو كان يحصل عنده بزيادة السهر المفرط داعية لما كان ينبغي للعبد أن يستعمل شيئا يجلب النوم أبدا فافهم
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إنما يفزع في النوم من غفل عن الحق تعالى في اليقظة وخاف من الخلق وإلا فمن أكثر من ذكر الله عز و جل أنس بكل شيء واستأنس به كل شيء من ناطق وصامت
فاعمل على جلاء مرآتك يا أخي حتى لا تصير تخاف أحدا إلا الله وإلا فمن لازمك الخوف من الجن والإنس وغيرهما وعدم استئناسهم بك فقد كان في بيتي امرأة من الجن فكانت إذا قربت مني قامت كل شعرة في جسدي فكنت أذكر الله فتبتعد من وقتها ثم كانت تقف في طريقي إلى المسجد في الظلام فما فزعت منها قط بل كنت أمر عليها في المجاز المظلم فأقول لها السلام عليكم وما نفر خاطري منها قط مع أن طباع الإنس تنفر من الجن
وسكن عندي مرة أخرى جماعة من الجن أيام الغلاء فكنت أقول لهم كلوا من الخبز والطعام بالمعروف ولا تضروا بإخوانكم المسلمين فأسمعهم يقولون سمعا وطاعة
وسكن يدق في بيتي مرة أخرى فكان يأتي كل ليلة في صورة جدي كبير فيطفئ السراج أولا ثم يصير يجري في البيت فكان العيال يحصل لهم منه فزع فكمنت له تحت رف وقبضت على رجله فزلق وصار يستغيث فقلت له تتوب ؟ فقال نعم فلا يزال يدق في يدي حتى صارت رجله كالشعرة الواحدة وخرج فمن ذلك اليوم ما جاءنا
ونمت ليلة في بيت على الخليج الحاكمي ضيفا عند إنسان في قاعة وحدي فغلق علي الباب فدخل جماعة من الجن فأطفئوا السراج وداروا حولي يجرون كالخيل فقلت لهم وعزة الله كل من دارت يدي عليه ما أطلقته إلا ميتا ونمت بينهم فما زالوا يجرون حولي إلى الصباح
ودخلت مرة الميضأة بجامع الغمري بالقاهرة أتوضأ وكانت ليلة شتاء مظلمة فدخل علي عفريت كالفحل الجاموس فهبط في المغطس وصعد الماء فوق الإفريز نحو نصف ذراع فقلت له أبعد عني حتى أتوضأ
فلم يرض فجعلت في وسطي مئزرا وهبطت عليه فزهق من تحتي وخرج هاربا ووقع لي مع الجن وقائع كثيرة
وإنما ذكرت لك لتعلم أن من قرأ الأوراد الواردة في عمل اليوم والليلة فليس للجن ولا الإنس عليه سبيل فإنه لولا الأوراد التي كنت أتلوها لكنت خفت ضرورة من هؤلاء الجان كغيري فاعمل على ذلك والله يتولى هداك (1/123)
- روى الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إذا خرج الرجل من بيته فقال : بسم الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال له
حسبك هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان ] ]
زاد في رواية أبي داود : [ [ فيقول له ] ] يعني للشيطان شيطان آخر : [ [ كيف لك برجل هدي وكفي ووقي ] ]
وروى الإمام أحمد مرفوعا : [ [ ما من مسلم يخرج من بيته يريد سفرا أو غيره فقال حين يخرج آمنت بالله اعتصمت بالله توكلت على الله
لا حول ولا قوة إلا بالله إلا رزق خير ذلك المخرج ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أنس بن مالك قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم فيكون بركة عليك وعلى أهل بيتك ] ] والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على الأذكار الواردة في دخول البيت والمسجد والخروج منهما امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم مع ما في ذلك أيضا من المصلحة لنا في الدنيا والآخرة ومن لم يكشف له عن حكمة ذلك فليفعله على وجه الإيمان بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أشفق عليه من والديه فلا يأمره إلا بما فيه حفظه من الآفات فالله تعالى يجعلنا وإخواننا ممن سلم قياده للنبي صلى الله عليه و سلم في كل أمر آمين آمين آمين (1/124)
- روى الإمام أحمد بإسناد جيد وأبو يعلى والبزار والطبراني مرفوعا : [ [ إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول من خلقك ؟ فيقول الله فيقول من خلق الله ؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل آمنت بالله ورسله فإن ذلك يذهب عنه ] ]
وروى الترمذي في ؟ ؟ صحيحه وابن خزيمة وابن حبان وغيرهما مرفوعا في حديث طويل : [ [ وآمركم بذكر الله كثيرا ومثل ذلك رجل طلبه العدو سراعا في أثره حتى أتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه وكذلك العبد لا ينجو من الشيطان إلا بذكر الله ] ]
وروى مسلم : [ [ أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا . قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نستعيذ بالله ونستعد للشيطان باستعمال ما يبعده منا خوف الوسوسة المضرة في إيماننا وأعمالنا
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ صادق يسلك به حتى يدخله الحضرات التي تحرق كل من قرب إليها من الشياطين ويصير الشيطان يفر من ظله وذلك بالزهد الكامل في حلال الدنيا إلا بقدر الضرورة فإن من لم يزهد في الدنيا فهو أعمى القلب غارق في شهوات الدنيا لا يعرف طريق الآخرة ومثل هذا يكون من حمير إبليس الذين يركبهم ويتصرف فيهم
وإيضاح ذلك أن القوم جعلوا الحضرات ثلاثة : حضرة الله وحضرة الخلق وحضرة الخيال التي هي في النوم فمتى خرج المستيقظ من حضرة شهود أن الله يراه ركبه إبليس لأنه واقف على باب الحضرة على الدوام ولا يمكنه الدخول أبدا فمن توسوس في صلاته فهو لم يدخل حضرة الله فصلاته صورة لا روح فيها وهي باطلة في مذهب الخواص يجب عليهم إعادتها لأن الله تعالى ما سامح عباده بالغفلة إلا خارج الصلاة وأما فيها فلا ولذلك أوجبنا الاستعداد لطرد إبليس لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وفي الحديث : [ [ اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ] ] . ولا يمكن العبد ذلك إلا بدخوله حضرته فافهم
وسمعت سيدي عليا الخواص يقول : الدنيا كلها ابنة إبليس وكل من أحبها زوجها له ويصير إبليس يتردد إليه لأجل ابنته بل سمعته يقول : أن الشيطان يتردد إلى من خطب ابنته ولو لم يدخل بها على الأصهار فإن أردت يا أخي الحفظ من وسوسته فلا تصاهره ولا تخطب ابنته وهذا باب غلط فيه غالب طلبة العلم فضلا عن العوام فتجد أحدهم لا ينفك عن السعي في تحصيل الدنيا صيفا وشتاء ثم يطلب أن يصلي مثل صلاة الصالحين حين يسمع بذكر خشوعهم في الصلاة وحضورهم مع ربهم فيها فتراه يقصر ويطول عند النية ويهمز في الهواء ويخطف النية حين هربت منه في الهواء فلا يزال في وسوسة أقواله وأفعاله حتى صار غالبهم يجهر في الصلاة السرية وبعضهم يترك الإحرام مع الإمام ويصبر حتى يركع الإمام فينوي ويركع معه بلا قراءة فاتحة خوفا أن يحرم عقب إحرامه فيلزمه قراءة الفاتحة التي من شأنه أنه يتوسوس فيها فعمل به إبليس حتى فوته قراءة الفاتحة ومناجاة ربه في الركعة الأولى . وبعضهم يحلف بالطلاق الثلاث وبالله تعالى أنه ما يزيد على نية
واحدة ثم ينقض ذلك ويقول استغفر الله أنسيت وكل ذلك لإتيانهم البيوت من غير أبوابها وليس أبوابها إلا السلوك على يد أشياخ الطريق بالزهد والورع عن كل مأكل وملبس فيه رائحة شبهة ولعمري من يشك في أفعاله وأقواله المحسوسة فلا يبعد أن يشككه إبليس في إيمانه بالله وملائكته حتى يموت على الشك في الإسلام والعياذ بالله تعالى
وقد رأيت بعضهم يفطر في رمضان عند بعض المكاسين وإذا توضأ يمشي عل حصر المسجد بتاسومة جلد خوفا من توهم نجاسة في الحصير
لا يعلم بها فقلت له شاكل بعضك بعضا فقال الضرورات تبيح المحظورات فإننا مضطرون إلى الدنيا وما نحن عاجزين عن عدم التحفظ من النجاسة فسكت عنه ثم مات بعد شهر فوجدوا عنده نحو ثلاثة آلاف دينار زائدة على نفقته ونفقة زوجته
فإياك يا أخي أن تسلك مسلك مثل هذا وتدعى الحاجة والضرورة فإن الناقد بصير والله يتولى هداك (1/125)
- روى مسلم والترمذي وحسنه وابن ماجه والبيهقي مرفوعا : [ [ يقول الله عز و جل : يا بني آدم كلكم مذنب إلا من عافيته فاستغفروني أغفر لكم ومن استغفرني وهو يعلم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي ] ] الحديث
وروى الترمذي مرفوعا وقال حديث حسن : [ [ قال الله : يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ] ]
والعنان : بفتح العين المهملة هو السحاب . وقراب الأرض : بضم القاف ما يقارب ملأها
وروى الإمام أحمد والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ قال إبليس : وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ] ]
وروى البيهقي مرفوعا : [ [ ألا أدلكم على دائكم ودوائكم ؟ ألا إن داءكم الذنوب ودواءكم الاستغفار ] ]
وقال الحافظ المنذري : الأشبه أنه من قول قتادة
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي مرفوعا : [ [ من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ] ]
وروى ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقي مرفوعا : [ [ طوبى لمن وجد في صحيفته استغفار كثير ] ]
وفي رواية للبيهقي بإسناد لا بأس به مرفوعا : [ [ من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار ] ]
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ ما من مسلم يعمل ذنبا إلا وقف الملك ثلاث ساعات فإن استغفر من ذنبه لم يوقفه عليه ولم يعذبه يوم القيامة ] ]
قلت : ولعل المراد بالساعات أمر يسير وليس المراد بها الساعات الفلكية
فإن قواعد الشريعة تقتضي وجوب التوبة على الفور والثلاث ساعات يخرج العاصي بها عن الفورية ولكن رأيت بخط سيدي الشيخ أحمد الزاهد أن حد الإصرار على الذنب أن يدخل عليه وقت صلاة أخرى وهو
لم يتب وهذا فيه رائحة تطويل المدة لكن ذلك لا ينضبط لزيادة الأوقات ونقصها صيفا وشتاء فليتأمل . والله أعلم
وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم مرفوعا : [ [ إذا أخطأ العبد خطيئة نكتت في قلبه نكتة فإن هو نزع واستغفر صقلت فإن عاد زيد فيها حتى تعلوا قلبه فذلك الرين الذي ذكر الله : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } ] ]
وروى البيهقي مرفوعا : [ [ إن للقلوب صدأ كصدأ النحاس وجلاؤها الاستغفار ] ]
وروى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه مرفوعا وقيل إنه موقوف : [ [ ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له ثم قرأ : [ [ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ] ] الآية
وروى أبو داود والترمذي مرفوعا : [ [ من قال استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف ] ]
ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد على شرطهما إلا أنه قال يقولها ثلاثا :
وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي والأصبهاني عن أنس بن مالك قال : [ [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسيره فقال : استغفروا فاستغفرنا فقال : أتموها يعني سبعين مرة فأتممناها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من عبد ولا أمة استغفر الله في يوم سبعين مرة إلا غفر الله له سبعمائة ذنب وقد خاب عبد أو أمة عمل في يوم أو ليلة أكثر من سبعمائة ذنب ] ]
وروى الحاكم عن البراء بن عازب وقال صحيح على شرطهما في قوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة }
هو الرجل يذنب الذنب فيقول لا يغفره الله لي
وروى الحاكم وغيره مرفوعا : [ [ من قال اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي ورحمتك أرجى عندي من عملي ثلاث مرات غفر الله له ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكثر من الاستغفار ليلا ونهارا سواء استحضرنا ذنوبنا أو لم نستحضرها وهذا العهد يخل به كثير من المتصوفة الذين لم يفطموا على يد شيخ فيزين الشيطان لهم أنهم صاروا موحدين لا فعل لهم مع الله تعالى فلا يكاد أحدهم يستحضر له ذنبا يستغفر الله منه وربما قال في نفسه بعيد أن مثلي يعذبه الله ولو كشف الله عن بصيرته كما كشف للعارفين لرأى أنه استحق الخسف به في الدنيا ودخول النار في العقبى إذ العبد سداه ولحمته ذنوب وكم وقع العبد في ذنب ونسيه وسيبدو له ذلك في يوم القيامة فأكثر يا أخي من الاستغفار
وقد كان سيدي عليا الخواص يتفقد أعضاءه من رأسه إلى قدمه كل يوم صباحا ومساء ويتوب إلى الله تعالى من جناية كل عضو ذلك اليوم أو تلك الليلة لا سيما الأذن والعين واللسان والقلب ويقول إن الاستغفار يطفئ غضب الجبار ومن قال استغفر الله لم يبق عليه ذنب إن شاء الله تعالى لا سيما إن أشرف الإنسان على معترك المنايا وضاق عمره
عن العمل الصالح فإن هذا ما بقي له شيء أنفع من الاستغفار
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : ما توقف عن أحد حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا من تركه الاستغفار قال تعالى : { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى } الآية . وقال تعالى : { استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا }
فاعلم أنه ما لمن عزل عن وظيفته أو حبس على جريمته أو دينه أنفع من كثرة الاستغفار وذلك أن العزل والحبس خزي للعبد بين الناس ونكال فإذا أرضى ربه بالاعتراف والاستغفار ورضي عنه ربه أخرجه لوقته من السجن فإن استغفر ولم يطلقه الحق تعالى فهو دليل على أن الحق تعالى لم يقبل توبته وأن عنده بقية تجبر أو ميل إلى معصية
وقد جرب أن كل من أحكم سد باب جملة المعاصي لم ترد له دعوة لأنه يصير
كالملائكة
فلا تقع يا أخي في المعاصي وتطلب إجابة دعائك فإن ذلك لا يكون وإن كان فهو استدراج فكما دعاك الحق تعالى إلى طاعته فلم تجبه كذلك دعوته فلم يستجب لك وكما أسرعت إلى طاعته حين دعاك إليها كذلك أسرع الحق تعالى بإجابتك على الفور { جزاء وفاقا }
ومن وصية الشيخ أبي النجا سالم المدفون بمدينة نوى لأصحابه وهو محتضر : اعلموا أن الوجود كله يعاملكم على حسب ما برز منكم فانظروا كيف تكونون ؟ اه
ومن كلام سيدي علي الخواص : من غزل شيئا لبس منه فلم يلم
الحائك اه
وبالجملة فقد صرنا في زمان علامات الساعة وهو النصف الثاني من القرن العاشر صاحب الفتن والمحن وبرزت علامات الساعة على كواهلنا
شئنا أم أبينا فلا في يدنا رد التقدير عنا ولا في يدنا دفع الجزاء عنا ومع ذلك فنقول أستغفر الله العظيم امتثالا لأمر الله تعالى لا غيره . [ [ ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب ] ] و والله لو جلس الواحد منا بقية عمره
كله يقول استغفر الله لا يغفل ساعة واحدة لا يفي بجبر خلل معاصيه السابقة فضلا عن اللاحقة
{ والله غفور رحيم } (1/126)
- روى مسلم واللفظ له والترمذي وابن ماجه مرفوعا فيما يروي عن ربه عز و جل : [ [ يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم . يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم . يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم ] ] الحديث
وروى الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه واللفظ لمسلم مرفوعا : [ [ إن الله تعالى يقول : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني ] ]
وروى أبو داود مرفوعا والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد واللفظ للترمذي وقال حسن صحيح : [ [ الدعاء هو العبادة ثم قرأ { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } أي صاغرين
وروى الترمذي والحاكم وإسناد كل منهما صحيح مرفوعا : [ [ من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء ] ]
وروى الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح
الإسناد مرفوعا : [ [ ليس شيء أكرم على الله من الدعاء ] ]
وروى الترمذي والحاكم بإسناد صحيح وحسن مرفوعا : [ [ ما على مسلم يدعوا الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرفت عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذن نكثر قال الله أكثر ] ]
وروى الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى كلهم بإسناد جيد والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها قالوا إذن نكثر قال : الله أكثر ] ]
زاد في رواية الحاكم : [ [ فإذا عجل للعبد دعاؤه في الدنيا ورأى ما ادخر لغيره في الجنة ممن لم يستجب دعاؤهم قال : يا ليتني لم يعجل لي شيء من دعائي في الدنيا ] ] الحديث بمعناه
وروى أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما مرفوعا : [ [ إن الله حي كريم يستحي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردها صفرا خائبتين ] ] والصفر هو الفارغ
وروى ابن حبان في صحيحه والحاكم والفظ له وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمل إلا البر وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يذنبه ] ]
وروى البزار والطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ لا يغني حذر من قدر الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة ] ] . ومعنى يعتلجان : يتصارعان ويتدافعان
وروى الترمذي وابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل ] ] . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحسن ظننا في ربنا وأنه يجيب دعاءنا ولا نترك الدعاء أبدا استنادا إلى السوابق فإن في ذلك تعطيلا للأوامر الشرعية ولو تأمل العبد وجد نفس دعائه من الأمور السوابق ونحن نعلم من ربنا جل وعلا أنه يحب من عبده إظهار الفاقة والحاجة ويثيب عبده على ذلك سواء أعطاه أو منعه وأكثر من يخل بهذا العمل العهد من سلك الطريق بغير شيخ فيترك الوسائل كلها ويقول : إن كان سبق لي قضاء هذه الحاجة فلا حاجة للدعاء وإن لم يقسم لي قضاء تلك الحاجة فلا فائدة في الدعاء وقد مكثت أنا في هذا المقام نحو شهر ثم أنقذني الله منه على يد شيخي الشيخ محمد الشناوي رحمه الله وفي القرآن العظيم : { قل مايعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم }
فأخبر أن العبد من أدبه مع الله أن يدعوه في كل شدة ولا يعول على السوابق فإن العبد لا يعلمها نفيا ولا إثباتا وقد دعت الأكابر من الأنبياء والأولياء ربهم سبحانه وتعالى ولم ينظروا إلى السوابق . { فبهداهم اقتده } والله يتولى هداك (1/127)
- روى أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يقول : [ [ اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ] ] فقال : [ [ لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب ] ]
وفي رواية للحاكم وقال صحيح على شرطهما : [ [ لقد سألت الله باسمه الأعظم ] ]
قال الحافظ المقدسي : وإسناده لا مطعن فيه ولم يرد في هذا الباب حديث أجود إسناده منه . قلت : والمراد بالاسم الأعظم فخامة الألفاظ اللائقة بالجناب الأعلى وإلا فليس لله اسم غير أعظم
وقد قال رجل لذي النون المصري : علمني الاسم الأعظم . فقال : أرني الأصغر وزجره . وسمعت بعض العارفين يقول : الاسم الأعظم هو كل ما قام له التعظيم في قلب الداعي فكأنه أعظم عنده من اسم آخر كما يقع فيه بعض العوام وإلا ففي قوة كل اسم ما في سائر الأسماء الإلهية لرجوعها كلها إلى ذات واحدة . والله تعالى أعلم
وروى الترمذي وقال حديث حسن : [ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يقول : يا ذا الجلال والإكرام . فقال : قد استجيب لك فسل ] ]
وروى الحاكم مرفوعا : [ [ إن لله ملكا موكلا بمن يقول يا أرحم الراحمين
فمن قالها ثلاثا قال الملك : إن أرحم الراحمين قد أقبل ] ] . ومعنى أقبل أذن في الدعاء عليك [ لعله : " أذن في الدعاء لك " ؟ ؟ ] فسل
وروى الإمام أحمد واللفظ له وابن ماجه وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم : [ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بأبي عياش وهو يصلي وهو يقول : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا منان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام ] ]
زاد في رواية : [ [ يا حي يا قيوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ] ] . زاد في رواية للحاكم : [ [ أسألك الجنة وأعوذ بك من النار ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا ندعو ربنا بدعاء مخترع إلا إذا لم نستحضر شيئا من الأدعية الواردة وذلك لأن لفظ الشارع صلى الله عليه و سلم أتم وأكمل ونكون به متبعين لا مبتدعين وسمعت سيدي عليا الخواص يقول : من دعا الحق تعالى بدعاء شرعه أجابه تعالى بسرعة ومن دعاه بدعاء مخترع لم يجبه إلا إذا كان مضطرا
وسمعته مرة أخرى يقول : لا يجيب الحق تعالى دعاء العبد في صلاته إلا إذا كان الدعاء مشروعا ولذلك شرع تعالى لنا مناجاته بكلامه لأنه وحي منه بخلاف كلام الخلق هكذا قال فينبغي للعبد أن يحفظ له جملة من الأدعية الواردة ليدعو بها في الشدائد وغيرها . { والله عليم حكيم } (1/128)
- روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي واللفظ له وقال حديث حسن والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى رجلا دخل المسجد فصلى ثم قال : اللهم اغفر لي وارحمني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عجلت أيها المصلي إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله وصل علي ثم ادعه قال فضالة بن عبيد : ثم صلى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه و سلم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم أيها المصلي ادع الله تجب ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نسأل الله تعالى شيئا إلا بعد أن نحمد الله تعالى ونصلي على النبي صلى الله عليه و سلم وذلك كالهدية بين يدي الحاجة
وقد قالت عائشة رضي الله عنها : مفتاح قضاء الحاجة الهدية بين يديها
فإذا حمدنا الله تعالى رضي عنا وإذا صلينا على النبي صلى الله عليه و سلم شفع لنا عند الله في قضاء تلك الحاجة وقد قال تعالى : { وابتغوا إليه الوسيلة }
وتأمل بيوت الحكام تجدها لا بد لك فيها من الواسطة الذي له قرب عند الحكام وإدلال عليه ليمشي لك في قضاء حاجتك ولو أنك طلبت الوصول إليه بلا واسطة لم تصل إلى ذلك . وإيضاح ذلك أن من كان قريبا من الملك فهو أعرف بالألفاظ التي يخاطب بها الملك وأعرف بوقت قضاء الحوائج ففي سؤالنا للوسائط سلوك للأدب معهم وسرعة لقضاء حوائجنا ومن أين لأمثالنا أن يعرف أدب خطاب الله عز و جل
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إذا سألتم الله حاجة فاسألوه بمحمد صلى الله عليه و سلم وقولوا اللهم إنا نسألك بحق محمد أن تفعل لنا كذا وكذا فإن لله ملكا يبلغ ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم ويقول له : إن فلانا سأل الله تعالى بحقك في حاجة كذا وكذا فيسأل النبي صلى الله عليه و سلم ربه في قضاء تلك الحاجة فيجاب لأن دعاءه صلى الله عليه و سلم لا يرد قال : وكذلك القول في سؤالكم الله تعالى بأوليائه فإن الملك يبلغهم فيشفعون له في قضاء تلك الحاجة { والله عليم حكيم } (1/129)
- روى مسلم وأبو داود والنسائي مرفوعا : [ [ أقرب ما يكون العبد من ربه عز و جل وهو ساجد فأكثروا الدعاء ] ] . زاد في رواية : [ [ فقمن أن استجاب لكم ] ] أي حقيق
وروى مالك والشيخان والترمذي وغيرهم مرفوعا : [ [ ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول : من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له ] ]
وفي رواية لمسلم : [ [ إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول هل من سائل فيعطى سؤله هل من داع فيستجاب له هل من مستغفر فيغفر له حتى ينفجر الصبح ] ]
قلت : قال العلماء ونزول الحق تعالى هو نزول يليق بذاته لا يقدر الخلق على تعقله لمباينة الحق تعالى لخلقه في سائر المراتب فلا يجتمع مع عباده في حد ولا حقيقة ولا جنس ولا نوع فكيف يصح لهم تعقل صفاته فاعلم ذلك
وروى أبو داود والترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم مرفوعا : [ [ أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن عن أبي أمامة : [ [ قال قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع أي أرجى إجابة ؟ قال في جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نؤخر الدعاء بحوائجنا المهمة إلى الأوقات التي أخبر الحق تعالى أنه لا يرد فيها الدعاء كحال السجود بين الأذان والإقامة وأوقات التجلي الإلهي في الثلث الأخير من الليل لاستدعائه تعالى منا الدعاء فيها وما طلب ذلك منا إلا وقد أراد إجابتنا وقضاء حوائجنا فله الفضل وله الثناء الحسن الجميل ولكن يحتاج الداعي أن يكون متلبسا بآداب الدعاء ويتحفظ جهده من أن يدعو الله تعالى في حصول شيء إلا بعد تفويض ذلك الأمر إليه فربما سأل العبد شيئا فكان فيه هلاكه كما وقع لبلعام بن باعوراء وكما وقع لثعلبة حين قال يا رسول الله اسأل الله لي أن يكثر مالي فكان في ذلك هلاكه ولو أن العبد قال اللهم أعطني كذا أو ادفع عني كذا إن كان فيه صلاح لي لم يهلك لأنه تعالى إن أعطاه ما سأل كان خيرا وإن منعه إياه كان خيرا وإن دفع عنه ذلك البلاء كان خيرا وإن لم يدفعه كان خيرا
ومن كلام سيدي الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه : إذا خيرك الله تعالى في شيء فإياك أن تختار وفر من اختيارك إلى اختياره فإنك جاهل بالعواقب
وسمعت سيدي محمد بن عنان يقول : من أقبح الذنوب عند الله أن يسأل العبد ربه في حصول شيء من غير تفويض ثم إذا أعطاه له وحصل له منه ضجر وتعب سأل الله تعالى أن يحوله عنه فإن الحق تعالى جوده فياض على عبده وله أوقات لا يرد فيها سائلا ولو كان كافرا والحق تعالى ليس هو تحت أمرنا ولا طاعتنا حتى نقول له بكرة النهار مثلا افعل لنا كذا ثم آخر النهار نندم ونقول له حول عنا ما أعطيته لنا بكرة النهار اه
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ عارف بالله تعالى يعلمه أدب الخطاب مع الله تعالى فإن غاية أدب العامة أن يعرفوا أدب الخطاب مع جنسهم من الخلق من ملوك وأولياء . وأما أدب الخطاب مع الله تعالى فلابد لهم فيه من شيخ ربي في الحضرة الإلهية ومكث فيها زمنا طويلا حتى صار يعرف أدبها بالفعل وأدب أهلها على اختلاف طبقاتهم كما هو شأن من يدخل ويخرج حضرات ملوك الدنيا ليلا ونهارا
{ ولله المثل الأعلى } (1/130)
- روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا ] ]
وفي رواية للترمذي : [ [ من صلى علي مرة واحدة كتب الله له بها عشر حسنات ] ]
وروى الإمام أحمد والنسائي واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم : [ [ البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي ومن صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشرا ومن صلى علي عشرا صلى الله عليه مائة ومن صلى علي مائة كتب له بين عينيه براءة من النفاق وبراءة من النار وأسكنه الله يوم القيامة مع الشهداء ] ]
وروى الإمام أحمد والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ إن جبريل قال لي ألا أبشرك أن الله عز و جل يقول من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه ] ]
وروى الإمام أحمد مرفوعا بإسناد حسن : [ [ من صلى على النبي صلى الله عليه و سلم واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة ] ]
وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ حيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني ] ]
وروى أبو حفص بن شاهين : [ [ من صلى علي في يوم ألف مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة ] ]
وروى البيهقي مرفوعا بإسناد حسن : [ [ إن صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من قال جزى الله عنا محمدا ما هو أهله أتعب سبعين كاتبا ألف صباح ] ]
قلت : وهي من أورادي فأقولها ألف مرة صباحا وألف مرة مساء كل يوم فالحمد لله
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من قال اللهم صل على محمد وأنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي ] ]
وروى الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه وقال الترمذي حسن صحيح : [ [ عن كعب بن عجرة قال : قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي قال ما شئت قلت الربع قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت النصف قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت أجعل لك صلاتي كلها قال إذن تكفى همك ويغفر ذنبك ] ] وفي رواية لهم : [ [ إذن يكفيك الله هم دنياك وآخرتك ] ]
وقوله فكم أجعل لك من صلاتي قال الحافظ المنذري أي كم أجعل لك من دعائي صلاة عليك اه
وقال الشيخ أبو المواهب الشاذلي : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله ما معنى قول كعب بن عجزة فكم أجعل لك من صلاتي قال : أن تصلي علي وتهدي ثواب ذلك إلي لا إلى نفسك اه
والأحاديث في فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم كثيرة مشهورة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكثر من الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلا ونهارا ونذكر لإخواننا ما في ذلك من الأجر والثواب ونرغبهم فيه كل الترغيب إظهارا لمحبته صلى الله عليه و سلم وإن جعلوا لهم وردا كل يوم وليلة صباحا ومساء من ألف صلاة وكان ذلك من أفضل الأعمال
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : صلاة الله تعالى على عبده لا يدخلها العدد لأنه ليس لصلاته تعالى ابتداء ولا انتهاء وإنما دخلها العدد من حيث مرتبة العبد المصلي لأنه محصور مقيد بالزمان فتنزل الحق تعالى للعبد بحسب شاكلة العبد وأخبر أنه تعالى يصلي على عبده بكل مرة عشرا فافهم ويؤيد ما قلنا كون العبد يسأل الله تعالى أن يصلي على نبيه دون أن يقول هو اللهم إني صليت على محمد مثلا لأن العبد إذا كان يجهل رتبة رسول الله صلى الله عليه و سلم فرتبة الحق تعالى أولى فاعلم أن تعداد الصلوات على النبي صلى الله عليه و سلم إنما هو من حيث سؤالنا نحن الله أن يصلي عليه فيحسب لنا كل سؤال مرة ويحتاج المصلي إلى طهارة وحضور مع الله لأنها مناجاة لله كالصلاة ذات الركوع والسجود وإن لم تكن الطهارة لها شرطا في صحتها منه وصاحبها جالس بين يدي الله عز و جل في محل القرب يسأل أن يصلي على نبيه وإن كان الفضل لمحمد صلى الله عليه و سلم أصالة فإنه هو الذي سن له أن يصلي عليه ليحصل للمصلي الصلاة من الله تعالى
فمن واظب على ما ذكرناه كان له أجر عظيم وهو من أولى ما يتقرب به إليه صلى الله عليه و سلم وما في الوجود من جعل الله تعالى له الحل والربط دنيا وأخرى مثله صلى الله عليه و سلم فمن خدمه بالصدق والمحبة والصفاء دانت له رقاب الجبابرة وأكرمه جميع المؤمنين كما ترى ذلك فيمن كان مقربا عند ملوك الدنيا ومن خدم السيد خدمته العبيد
وكانت هذه طريقة شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى الشيخ نور الدين الشوني نسبة إلى بلدة اسمها شونى قريبا من بلد سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه وكذلك كانت طريقة الشيخ العارف بالله أحمد الزواوي المدفون بدمنهور من أعمال البحيرة فكان ورد الشيخ نور الدين الشوني كل يوم عشرة آلاف وكان ورد الشيخ أحمد الزواوي أربعين ألف صلاة وقال لي مرة طريقتنا أن نكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم حتى يصير يجالسنا يقظة ونصحبه مثل الصحابة ونسأله عن أمور ديننا وعن الأحاديث التي ضعفها الحفاظ عندنا ونعمل بقوله صلى الله عليه و سلم فيها وما لم يقع لنا ذلك فلسنا من المكثرين للصلاة عليه صلى الله عليه و سلم
واعلم يا أخي أن طريق الوصول إلى حضرة الله من طريق الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم من أقرب الطرق فمن لم يخدمه صلى الله عليه و سلم الخدمة الخاصة به وطلب دخول حضرة الله فقد رام المحال ولا يمكنه حجاب الحضرة أن يدخل وذلك لجهله بالأدب مع الله تعالى فحكمه حكم الفلاح إذا طلب الاجتماع بالسلطان بغير واسطة فافهم
فعليك يا أخي بالإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو كنت سالما من الخطايا فإن غلام السلطان أو عبده إذا سكر لا يتعرض له الوالي أبدا بخلاف من لم يكن غلاما له ويرى نفسه على خدام السلطان وعبيده وغيرهم ولا يدخل من دائرة الوسائط فإن جماعة الوالي يضربونه ويعاقبونه فانظر حماية الوسائط وما رأينا قط أحدا تعرض لغلام الوالي إذا سكر أبدا إكراما للوالي فكذلك خدام النبي صلى الله عليه و سلم لا يتعرض لهم الزبانية يوم القيامة إكراما لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقد نفعت الحماية مع التقصير ما لا ينفعه كثرة الأعمال الصالحة مع عدم الاستناد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الاستناد الخاص
وقد كان في زمن شيخنا الشيخ نور الدين الشوني من هو أكثر منه علما وعملا ولكنه لم يكن يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم كما كان يكثر الشيخ فلم يكن ينهض له علمه وعمله إلى التقريب الذي كان فيه الشيخ نور الدين فكانت حوائجه مقضية وطريقه ماشية وسائر العلماء والمجاذيب تحبه و والله ليس مقصود كل صادق من جمع الناس على ذكر الله إلا المحبة في الله ولا جمعهم على الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا المحبة فيه فافهم
وقد قدمنا أوائل العهود أن صحبة النبي صلى الله عليه و سلم البرزخية تحتاج إلى صفاء عظيم حتى يصلح العبد لمجالسته صلى الله عليه و سلم وأن
من كان له سريرة سيئة يستحي من ظهورها في الدنيا والآخرة لا يصلح له صحبة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم : ولو كان على عبادة الثقلين كما لم تنفع صحبة المنافقين مثل ذلك تلاوة الكفار للقرآن لا ينتفعون بها لعدم إيمانهم بأحكامه
وقد حكى الثعلبي في كتاب العرائس أن لله تعالى خلقا وراء جبل ق لا يعلم عددهم إلا الله ليس لهم عبادة إلا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ هل النص ناقص ؟ ؟ ] وقد حبب لي أن أذكر لك يا أخي جملة من فوائد الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه و سلم تشويقا لك لعل الله تعالى أن يرزقك محبته الخالصة ويصير شغلك في أكثر أوقاتك الصلاة والتسليم عليه وتصير تهدي ثواب كل عمل عملته في صحيفة رسول الله صلى الله عليه و سلم كما أشار إليه خبر كعب بن عجرة : أني أجعل لك صلاتي كلها أي أجعل لك ثواب جميع أعمالي . وقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ [ إذا يكفيك الله تعالى هم دنياك وآخرتك ] ]
فمن ذلك وهو أهمها صلاة الله وسلامه وملائكته ورسله على من صلى وسلم عليه ومنها تكفير الخطايا وتزكية الأعمال ورفع الدرجات ومنها مغفرة الذنوب واستغفار الصلاة عليه لقائلها ومنها كتابة قيراط من الأجر مثل جبل أحد والكيل بالمكيال الأوفى ومنها كفاية أمر الدنيا والآخرة لمن جعل صلاته كلها عليه كما تقدم ومنها محو الخطايا وفضلها على عتق الرقاب ومنها النجاة من سائر الأهوال وشهادة رسول الله صلى الله عليه و سلم بها يوم القيامة ووجوب الشفاعة ومنها رضا الله ورحمته والأمان من سخطه والدخول تحت ظل العرش ومنها رجحان الميزان في الآخرة وورود الحوض والأمان من العطش ومنها العتق من النار والجواز على الصراط كالبرق الخاطف ورؤية المقعد المقرب من الجنة قبل الموت ومنها كثرة الأزواج في الجنة والمقام الكريم ومنها رجحانها على أكثر من عشرين غزوة وقيامها مقامها ومنها أنها زكاة وطهرة ينمو المال ببركتها ومنها أنه تقضى له بكل صلاة مائة حاجة بل أكثر ومنها أنها عبادة وأحب الأعمال إلى الله تعالى ومنها أنها علامة على أن صاحبها من أهل السنة ومنها أن الملائكة تصلي على صاحبها ما دام يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ومنها أنها تزين المجالس وتنفي الفقر وضيق العيش ومنها أنها يلتمس بها مظان الخير ومنها أن فاعلها أولى الناس به صلى الله عليه و سلم يوم القيامة ومنها أنه ينتفع هو وولده بها وبثوابها وكذلك من أهديت في صحيفته ومنها أنها تقرب إلى الله عز و جل وإلى رسوله صلى الله عليه و سلم ومنها أنها نور لصاحبها في قبره ويوم حشره على الصراط ومنها أنها تنصره ؟ ؟ على الأعداء وتطهر القلب من النفاق والصدأ ومنها أنها توجب محبة المؤمنين فلا يكره صاحبها إلا منافق ظاهر النفاق ومنها رؤية النبي صلى الله عليه و سلم في المنام إن أكثر منها في اليقظة ومنها أنها تقلل من اغتياب صاحبها وهي من أبرك الأعمال وأفضلها وأكثرها نفعا في الدنيا والآخرة وغير ذلك من الأجور التي لا تحصى
وقد رغبتك بذكر بعض ثوابها فلازم يا أخي عليها فإنها من أفضل ذخائر الأعمال وقد أمرني بها أيضا مولانا أبو العباس الخضر عليه السلام وقال لازم عليها بعد الصبح كل يوم إلى طلوع الشمس ثم اذكر الله عقبها مجلسا لطيفا فقلت له سمعا وطاعة وحصل لي ولأصحابي بذلك خير الدنيا والآخرة وتيسير الرزق بحيث لو كان أهل مصر كلهم عائلتي ما حملت لهم هما فالحمد لله رب العالمين (1/131)
- روى البخاري وغيره مرفوعا : [ [ ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده ] ] يعني يضفر الخوض كما في رواية
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ ما كسب الرجل كسبا أطيب من عمل يده وما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو صدقة ] ]
وروى الإمام أحمد والبزار والطبراني : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن أفضل الكسب ؟ فقال بيع مبرور وعمل الرجل بيده ] ]
وروى الطبراني ورجاله رجال الصحيح والبيهقي مرفوعا : [ [ إن الله تعالى يحب المؤمن المحترف ] ]
وفي رواية له أيضا عن كعب بن عجرة قال : [ [ مر على النبي صلى الله عليه و سلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من جلده ونشاطه فقالوا : يا رسول الله لو كان هذا سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن كان خرج يسعى على ولدة صغار فهو في سبيل الله وإن كان خرج على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من أمسى كالا من عمل يده أمسى مفغورا له ] ]
وروى الأصبهاني وغيره مرفوعا : [ [ نعم لهو المرأة مغزلها ] ]
والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا الذين لم يكثروا التعبد بعلم ولا غيره في التكسب بالبيع والشراء والزراعات وكل عمل يساعدهم على القوت بطريقه الشرعي على وجه الإخلاص لا على وجه التكاثر والمفاخرة بمطاعم الدنيا وملابسها وشهواتها فإن من اكتسب الدنيا على وجه التكاثر والتفاخر فمن لازمه تعدى الحدود الشرعية في الحل لأن الحلال في كل زمان لا يتحمل الإسراف
وقد زار الحسن البصري أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز فأخرج له عمر كسرة يابسة ونصف خيارة وقال : كل يا حسن فإن هذا الزمان لا يتحمل الحلال فيه الإسراف اه فلا ترى أحدا في سعة من الدنيا إلا وهو قليل الورع فيغش وينصب ويبيع على المكاسين وأكلة الرشا وغيرهم وأما إن طلب التوسع في الدنيا بغير طريق التكسب الشرعي وأقبل على العبادة فربما أكل بدينه ووقع في الرياء والنفاق لمن يحسن إليه وإن لم يكن مقبلا على العبادة سلق الناس بألسنة حداد إذا لم يعطوه ما طلب فالتكسب الشرعي أولى بكل حال
وقد ورد أن الله تعالى علم آدم عليه السلام ألف حرفة وقال له يا آدم قل لبنيك يكتسبون بهذه الحرف ولا يأكلون بدينهم
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : قد تغير التكسب اليوم على كل فقير وفقيه لعدم من يتفقدهم بالبر والإحسان في هذا الزمان لقلة المكاسب فقد صار التاجر اليوم يمكث الثلاثة أيام أو أكثر لا يستفتح فكيف يفتقد غيره وهو لم يعمل بقوت نفسه وعياله وضيوفه فضلا عن المغارم التي عليه من كراء بيت وحانوت وعوائد للظلمة من غفراء ورسل محتسب ومشد التراب ومشد الفلوس والذهب في الأسواق فالتاجر في أغلب أيامه ينفق من رأس ماله أو مال غيره الذي هو عامل فيه ومثل هذا لا يطالب أن يفتقد فقيرا ولا فقيها لا سيما إن كان الفقير أو الفقيه غير مخلص في علمه وعبادته وأما الفلاح فهو طول سنته في شقاء وتعب وكلف لقصاد الكشاف والعمال والعرب والعشير وأتباعهم فلا يزال يقدم لهؤلاء كلما كان عنده من لبن وسمن ودجاج وغنم حتى أنه يبيع غزل امرأته لهم ثم آخر السنة يحملونه عاطل البلد زيادة على خراجه وربما رسموا على زرعه في الجرن فيطلب لأولاده منه طحينا فلا يمكنوه من ذلك فيا ليتهم جعلوه كغلمان الأمين الذين لهم عادة ومعلوم أن القرى هي مادة الأمصار فجميع ما في الأمصار إنما يحمل من القرى فوالله لقد صارت الرعية اليوم بأعمالهم السيئة كأنهم في صحراء من نار أو كسمك كان في بركة فنزل عنه الماء فصارت الكلاب والجوارح تفسخه بالنهار والذئاب والثعالب تفسخه بالليل وما بقي يرجى عود الماء في البركة الذي هو كناية عن الرحمة لينغمر فيه السمك ولا يعرف ما قلناه إلا الذين يلزمون بما لا يلزم ممن تقدم ذكرهم من السوقة والفلاحين
وسمعت سيدي عليا الخواص يقول : غالب أهل النعم لا تعرف مقدارها إلا بالتحول كما حكي أن عبدا كان سيده يكرمه ويلبسه الثياب الحسنة ويأكل معه على السماط فتنكر عليه سيده يوما ونقمه فقال بعني في سوق السلطان فاشتراه إنسان حاله أضيق من سيده فخلع عنه ثيابه وألبسه خليقات وصار يطعمه من فضلة السماط فقال سوق السلطان فاشتراه إنسان حاله أضيق من الثاني فصار يأكل الدقيق ويطعمه النخالة فقال سوق السلطان فاشتراه إنسان يأكل النخالة ويجوعه فقال سوق السلطان فاشتراه إنسان يجوع ويجوع العبد معه واحتاج في ليلة إلى منارة يضع عليها المسرجة فما وجد شيئا فأجلسه ووضع المسرجة على رأسه إلى بكرة النهار فقال سوق السلطان فوجده فقير وهو خارج إلى السوق ممن كان يعرف حاله الأول فذكر له قصته مع هؤلاء الذين اشتروه فقال له : إن سمعت مني رددتك إلى سيدك الأول فقال : وماذا أصنع قال تعترف له بالنعمة فاعترف فرجع فاشتراه سيده الأول فما عرف هذا العبد مقدار النعمة إلا بتحويلها لا سيما من فتح عينه على النعمة من غير اكتساب كالجالسين في مثل جامع الأزهر أو الزوايا التي لها خبز وجوامك وليس عليهم مغارم فإن هؤلاء لا يعرفون ما الخلق فيه وربما بطر أحدهم النعمة التي هو فيها حتى صار يرد على الخادم والنقيب الخبز اليابس فحول الله عنه النعمة ثم إنه يريد استرجاعها فلا يتيسر له ذلك أبدا
وقد رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم كسرة يابسة في بيت عائشة رضي الله عنها تحت حائط وقد علاها الغبار فأخذها صلى الله عليه و سلم ونفخ التراب عنها ثم أكلها وقال : [ [ يا عائشة أحسني مجاورة نعم الله عز و جل فإن النعمة قل ما نفرت عن أهل بيت فكادت ترجع إليهم ] ]
وفي القرآن العظيم : { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } ففهمنا من هذه الآية أن النعم لا تتحول عن صاحبها وهو شاكر لله تعالى أبدا
وقد أخبرنا الشيخ عبدالحليم بن مصلح ببلاد المنزلة رحمه الله تعالى قال : ربيت جماعة من الفقراء في الزاوية حتى زوجتهم وكانوا يخدمون وأزواجهم في الزاوية فتركوا ذلك تكبرا فنقص رزقهم عما كان ثم إنهم طلبوا أن يعملوا لهم صنائع فنقص الرزق عما كان ثم أنهم تركوا الجلوس على السماط مع الفقراء والمساكين والعميان وصاروا يأخذون خبزهم وطعامهم منفردين متكبرين فنقص الرزق عما كان ثم اختصروا الأسباع التي رتبت عليهم فيها كل يوم خمسة أحزاب وجعلوها حزبين وبعضهم جعلها ثلاثة واختصر المؤذنون نوب الأذان في الخمسة الأوقات إلى وقتين أو ثلاثة فنقص رزق المؤذنين وقراء الأسباع بقدر ما نقصوا وتعطل بعض الخراج عما كان ثم إنهم امتنعوا من خدمة بعضهم بعضا فصاروا لا يسافرون ليأتوا بالقمح والحطب مثلا إلا بعوض بعد أن كانوا يسافرون طلبا للأجر والثواب فنقص الرزق عما كان ثم إنهم امتنعوا عن السفر بالأجرة أيضا حين صار معهم بعض فلوس حصلوها من جوامكهم وأظهروا الغنى عن مثل ذلك فنقص الرزق عما كان ثم إنهم منعوا زوجاتهم عن غربلة القمح ترفها فنقص الرزق عما كان ثم إنهم منعوهن من العجين فنقص الرزق عما كان ثم إنهم طلبوا تخفيف عدد المجاورين فطلبوا التخصيص بتفرقة الجبن والعسل وغير ذلك عليهم وحدهم دون غيرهم فنقص الرزق عما كان اه
قلت : وقد ربيت أنا جماعة فكانوا في أرغد عيش فتحركت نفسهم لمحبة الدنيا فنقص رزقهم عما كان وكفروا بواسطتي لهم في الرزق فقلت لهم : إن الله تعالى كما جعل مفاتيح رزقكم بيدي كذلك ربما يجعل المنع بيدي عقوبة لكم فلم يسمعوا فما مكثت نحو شهر حتى وقع التفتيش في الأوقاف والرزق فخرجت جباة الزاوية كلها للسلطان فمنعوا يدنا عن استخراجها حتى يعرضوا فيها للسلطان ببلاد الروم فهي معطلة إلى الآن
قلت : وقد وعدني رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة الجمعة العشرين من شهر صفر سنة ثمان وخمسين وتسعمائة بعودها إلى الزاوية إن تابوا ودخلوا في الأدب والتربية حتى يرجعوا عن جميع ما وقعوا فيه من أسباب تنقيص الرزق اه . ولو أنهم سمعوا لشيخهم فيما يأمرهم به من الهدى ما تغير عليهم حال فإنه كرئيس المركب وكم غرقت مركب قال الرئيس للنوتية اطووا القلع في هذا الريح أو أرخوا حبل الراجع فلم يفعلوا فغرقت فالله تعالى يلهم جميع الإخوان سماع نصيحتي وعدم مخالفتي حتى لا يندموا حيث لا ينفعهم الندم فيطلبوا رجوع رزقهم إليهم كما كان فلا يصح لهم ويطلبوا عمل الحرف من النجارة والحدادة وخياطة النعال مثلا فلا يصبرون ويطلبون الرجوع إلى عبادة الله كما كانوا فلا يقدرون فيهلكون ثم لا يهونون علي كما لا يهون على الوالد ضرر الولد العاق له ثم أقل ما يمكث الإنسان في عمل الحرفة التي يأخذ منها الخبز والأدم من أول النهار إلى بعد العصر وربما كانت تلك الأجرة لا تكفيه ولذلك ينبغي للفقير القاطن في زاوية أن يشتغل بالله في أوراده بقدر ما يشتغل المحترف في حرفته ولا يكفيه الاشتغال في ورده من الفجر إلى الضحى مثلا
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول : قد شرعت النعم التي بأيدي الخلائق في التحويل واحتاجوا في تسخير أرزاقهم إلى المشي على قواعد أخرى غير ما كانوا عليه وما بقي يكفي أحدهم في تسخير النعمة له العمل الذي كان عليه في الزمن الماضي . وجملة الأمر أن من كان له شيخ يجب عليه أن لا يخالفه فإنه لا يستعمل كل واحد إلا فيما يصلح له ولا يمنع أحدا من شيء إلا وهو يضره فاعلموا ذلك أيها الإخوان والله يتولى هداكم آمين (1/132)
- روى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه : [ [ اللهم بارك لأمتي في بكورها ] ]
وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم من أول النهار وكان صخر بن وداعة الغامدي تاجرا فكان يبعث في تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله قال الحافظ : وروى هذا الحديث جماعة كثيرون من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم علي وابن عباس وابن مسعود وعد عشرة
وروى البزار والطبراني مرفوعا : [ [ باكروا طلب الرزق فإن الغدو بركة ونجاح ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نبكر في طلب الرزق مبادرة لقطع خاطر الاهتمام بأمر الرزق لا حبا للدنيا من حيث هي دنيا فإن في الآدمي ما عدا الأكابر جزءا يهتم بأمر المعيشة ويضرب ولا يسكن حتى يحصل العبد كفايته ذلك اليوم . وقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يفتحون حوانيتهم فإذا ربحوا قدر نفقة ذلك اليوم أغلقوا الحانوت ورجعوا إلى بيوتهم وكذلك بلغنا عن الشيخ المحقق الصالح جلال الدين المحلى شارح المنهاج أنه كان يفتح حانوته من بكرة النهار فيبيع الناس القماش ويقول : إنما أبكر للسوق اغتناما لدعائه صلى الله عليه و سلم بالبركة لمن يبكر في طلب رزقه ودعاؤه لا يرد فلا يزال يبيع حتى يتعالى النهار ثم يغلقه ويرجع إلى الجلوس لإقراء الناس في المدرسة المؤيدية أو غيرها
وكان سيدي علي الخواص يفتح حانوته إلى أذان العصر فيغلقه ويقول دخل وقت التأهب لليل وكان إذا فتح حانوته قال : بسم الله الرحمن الرحيم نويت نفع عبادك يا الله فلا يزال يقضي للناس حوائجهم من زيت وطحينة وأرز وفول وبيع قفاف وغير ذلك حتى ينصرف وكان إذا عرف من إنسان أنه لا يعتقده يرجح له الوزن والكيل وإن عرف أنه يعتقده أعطاه على تحرير الذهب وكان إذا أخذ إنسان منه شيئا بدرهم وماطله يذهب إلى داره ويطالبه كذا كذا مرة في اليوم الواحد ويقول نعظم حقوق الناس عندهم حتى لا يتساهلون في قضائها في دار الدنيا ونخلصهم بمطالبتنا لهم من منتنا عليهم يوم القيامة إذا سامحناهم بذلك في الدنيا ونريح أنفسنا أيضا من رؤيتها أن لها حقا على أحد من عباد الله تعالى
وقد أودعنا غالب آدابه رضي الله عنه في طريق كسبه في كتاب [ البحر المورود ] فراجعه فعلى ما قررناه يحمل ما ورد من الترغيب في عدم المبادرة إلى السوق على من لم يكن له نية صالحة وإنما يبادر اهتماما بالدنيا لكونها أكبر همه . { والله عليم حكيم } (1/133)
- روى الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما مرفوعا : [ [ نوم الصبح يمنع الرزق ] ]
وروى البيهقي عن فاطمة رضي الله عنها قالت : [ [ رآني رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا مضطجعة فحركني صلى الله عليه و سلم برجله فقال : يا بنية قومي اشهدي رزق ربك ولا تكوني من الغافلين فإن الله تعالى يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ] ]
وروى البيهقي أيضا عن علي رضي الله قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على فاطمة بعد أن صلى الصبح وهي نائمة فذكره بمعناه
وروى ابن ماجه عن علي قال : [ [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم
عن النوم قبل طلوع الشمس ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نتعاطى أسباب تعسير الرزق كعدم الإيثار وكالمعاصي الظاهرة والباطنة من زنا وغيبة وحقد وحسد وتكبر وفخر وعجب وكالنوم في الأسحار وقت تفرقة الغنائم وكالنوم بعد الفجر حتى يتعالى النهار
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إن الله تعالى يقسم الأرزاق المحسوسة بعد صلاة الصبح والأرزاق المعنوية بعد صلاة العصر قال : ولذلك نهينا عن النوم في هذين الوقتين لأن فيه إظهار عدم الفاقة وعدم الاعتناء بمشاهدة من يقسم الأرزاق من قبل الحق تعالى
وسمعته مرارا يقول : والله إنه ليصبح عندي نفقة الجمعة أو أكثر ويكون علي النوم فلا أنام لأجل حضوري بقلبي مع الله تعالى وقت القسمة حتى لا أظهر عدم احتياجي إلى فضله في وقت من الأوقات اه
وقد كان لي مريد فكنت إذا فرقت تينا أو عنبا أو حلاوة يحضر مع الفقراء محبة في رؤيتي لا لعلة أخرى فاصطفاه الله إلى حضرته رحمه الله وكنت إذا اطلعت على ما في قلبه من ذلك القصد أكاد أدخله في قلبي من شدة أدبه معي وأيضا في النوم بعد الصبح علة أخرى وهو أنه يورث وجع الجنب كما جربته وذلك أني كنت أسهر ليلة الجمعة في مجلس الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم من العشاء إلى صلاة الصبح فكنت أصلي الصبح وأنام فاعتراني وجع الجنب ولا أعرف سببه فرأيت شيخي الشيخ الصالح المحدث الشيخ أمين الدين بن النجار إمام جامع الغمري بالقاهرة فروى لي حديثا سنده بالسرياني عن أنس بن مالك ومتنه بالعربي وقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ من واظب على النوم بعد صلاة الصبح ابتلاه الله بالبعج ] ]
فقلت للشيخ : وما هو البعج ؟ فقال : هو وجع الجنب فتركت النوم بعد الصبح حتى تطلع الشمس فزال المرض بحمد الله تعالى (1/134)
- روى الترمذي وقال حديث حسن ومالك وأبو داود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ [ السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة ] ]
ولفظ مالك وأبو داود : [ [ من خمس وعشرين ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له فأجملوا في طلب أخذ الحلال وترك الحرام ] ]
وفي رواية لابن ماجه مرفوعا : [ [ يا أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فخذوا ما حل ودعوا ما حرم ] ]
وفي رواية له أيضا : [ [ أجملوا في طلب الدنيا فإن كلا ميسر لما خلق له ] ]
وفي رواية للحاكم : [ [ فإن كلا ميسر لما كتب له منها ] ]
وفي رواية للحاكم : [ [ فإن استبطأ أحدكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله فإن الله لا ينال فضله بمعصيته ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه والبزار والطبراني بإسناد جيد مرفوعا : [ [ إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله ] ] ولفظ الطبراني : [ [ أكثر مما يطلبه أجله ] ]
وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ لو فر أحدكم من رزقه أدركه كما يدركه الموت ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ لا تعجلن إلى شيء تظن أنك إن استعجلت إليه أنك مدركه إن كان لم يقدر لك ذلك ولا تستأخرن عن شيء تظن أنك إن استأخرت عنه أنه مرفوع عنك إن كان الله قدره عليك ] ]
وروى الطبراني بإسناد جيد وابن حبان في صحيحه والبيهقي : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى تمرة غابرة فأخذها فناولها سائلا فقال : أما إنك لو لم تأتها لأتتك ] ]
وروى الطبراني مرفوعا وقيل إنه موقوف على ابن مسعود قال الحافظ المنذري وهو أشبه : [ [ لو اجتمع الثقلان الجن والإنس على أن يصدوا عن العبد شيئا من رزقه ما استطاعوا ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا حسنا وسوارا ابني خالد رضي الله عنهما وقال : لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر وهو ليس عليه قشر ثم يعطيه الله ويرزقه ] ]
والأحاديث في ذلك كثيرة . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نجمل في طلب أرزاقنا ولا نقعد للرزق كل مرصد إيمانا بأن ما قسمه الله تعالى لنا لا يقدر أهل السماوات وأهل الأرض أن يردوا عنا منه ذرة كما أن ما لم يقسمه الحق تعالى لنا لا يقدر أحد أن يوصل إلينا منه ذرة وكان على هذا القدم أخي العبد الصالح الشيخ عبدالقادر شقيقي رحمه الله كان يزرع القمح والفول والسمسم وغير ذلك مع الشركاء فلا يعرف أين هو الطين الذي زرع ذلك فيه ولا أين وضعوه في الجرن فلا يزال كذلك حتى يدرسوه ويذروه في الريح ولا يحضره إلا وهو داخل الدار فمهما أعطاه الشركاء قبله منهم من غير أن تحدثه نفسه بمحاسبتهم وأرسلت له مرة أن يوقف على مقثأة بطيخنا الذي نزرعه في الجزيرة قريبا منه حارسا يحرسه حتى نرسل له المركب نوسقه فأبى وأرسل يقول لي : وبعد فإن ما قسم الله لأهل الريف أن يأكلوه لا يقدر أحد من أهل الريف أن يحمل منه شيئا إلى مصر وما قسمه الله لأهل مصر لا يقدر أحد من أهل الريف أن يأكل منه شيئا فلا حاجة إلى حارس فقلت له في ذلك تعطيل الأسباب فقال : لا تعطيل إن شاء الله تعالى فإن الحارس إنما جعل لطمأنينة قلب المتزلزل في إيمانه بأن ما قسمه الحق تعالى له لا يمكن أن غيره يأخذه وأنت بحمد الله إيمانك صحيح فلا حاجة لحارس اه
فعلم أن من تحقق بهذا الإيمان لا يحتاج قط إلى غلق بابه على شيء من حوائجه إلا من حيث منع اللصوص عن السرقة لما عنده من أموال الناس ومساعدته لهم بعدم غلق الباب فإنه إذا غلقه عسر عليهم الوصول
إلى ما يسرقونه وكذلك إذا كان يأكل الدجاج المحشو أو الكلاج واللوزينج ونحو ذلك لا يحتاج إلى غلق بابه خوفا من أحد يدخل
وقد وقع لي مرة أنني كنت آكل في الدجاج أنا وأخي الشيخ العالم الصالح العلامة نور الدين الطنتتائي ؟ ؟ فسح الله في اجله فقلت : هذا وقت مجيء الشيخ الصالح شمس الدين الخطيب الشربيني وكان بيننا نحن الثلاثة صداقة وود فقال لي الشيخ نور الدين أغلق الباب لئلا يجيء الخطيب فيأكل دجاجنا فقلت له : لا يخلو الحال من أمرين إما أن يكون قسم له أكله فلا يمكننا منعه ولو قفلنا الباب جاء من الحيط وإما أن لا يكون قسم له معنا أكل فلا نحتاج إلى غلق باب فقال : أغلق الباب وخذ في الأسباب فقلت له : ما دليلك في ذلك ؟ فقال حديث : [ [ اعقل وتوكل ] ] . فقلت له : ذلك في حق من يخاف فوات شيء هو له وأنا لا أخاف من ذلك . فقال : تمنعه من الأكل حتى تحرر نيتك في مسامحتك بما يخصك من الدجاجة فقلت له : قد سامحته من قبل أن يدخل وإذا كان خاطر الإنسان طيبا منشرحا لما يأخذه اللص فلا تحريم على اللص إلا من حيث القصد للحرام لا من حيث أكله الطعام مثلا لأن تحريم الأكل عليه إنما كان لأجل الأذى وعدم طيب النفس بدليل قرائن أدلة الشريعة فسكت الشيخ نور الدين ثم دخل الشيخ الخطيب وأكل ما قسم له رضي الله تعالى عنهما
فإياك يا أخي أن تزاحم على رزق بحيث تؤذي أحدا في طريق تحصيله واعمل على جلاء مرآة قلبك من الصدأ والغبار المانع من تحقيق الإيمان على يد شيخ صادق ليخرجك من حضرات الأوهام إلى حضرات اليقين بحيث تصير لا تهتم بالحضور إلى محل تفرقة السلطان مثلا مالا على العلماء والصالحين ولا تتأثر على فوات ذلك إذا نسوك ولا تتأثر من منعهم أن يكتبوا اسمك ولا ممن قال لهم امسحوا اسم فلان بعد الكتابة لأنه غني غير محتاج إلى مثل ذلك أو قال لا تعطوه إلا إن حضر فإنه كبير النفس يحب الضخامة ونحو ذلك
فامتحن يا أخي نفسك في إيمانك فقد أعطيتك الميزان وأنت أعرف بنفسك فإن رأيتها تأثرت ممن منعها فالواجب عليك أن تتخذ لك شيخا يرقيك إلى حضرات اليقين فإنك متمكن من ذلك ولا تتعذر بعذر فتموت على نقص في إيمانك فكم قتل الناس بعضهم على تحصيل الدنيا فضلا عن ترك المزاحمة عليها ولو أن إيمانهم كان كاملا لم يفعلوا شيئا من ذلك
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : الرزق في طلبه صاحبه دائر والمرزوق في طلب رزقه حائر وبسكون أحدهما يتحرك الآخر . وكان كثيرا ما يقول : لأن تجيء إلى ربك وأنت كامل الإيمان مع النقص في الأعمال خير لك من أن تأتي بعبادة الثقلين وفي إيمانك ثلمة فإن السعادة دائرة مع كمال الإيمان وصحته اه
ويتعين السلوك قولا واحدا على كل تاجر حصل عنده حزازة في صدره بكثرة وقوف الزبونات على جاره دونه وكذلك يتعين على كل عالم أو شيخ حصل عنده حزازة بكثرة المريدين لأحد من أقرنه أو بتركهم درسه واجتماعهم على غيره بحيث لم يبق عنده أحد من الطلبة أو المريدين أن يتخذ له شيخا يسلك على يديه حتى يرقيه إلى درجة الإخلاص بحيث ينشرح لكل من تحول من طلبته إلى غيره فمن تكدر من طلبته إذا تحولوا عنه فليس له في الإخلاص نصيب كما صرحت به الأخبار والله يتولى هداك . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/135)
- روى مسلم والترمذي مرفوعا : [ [ إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : [ [ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ] ] الآية وقال : [ [ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ] ] ثم ذكر [ [ الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ] ]
وروى الطبراني بإسناد حسن : إن شاء الله : [ [ طلب الحلال واجب على كل مسلم ] ]
وفي رواية للطبراني والبيهقي مرفوعا : [ [ طلب الحلال فريضة بعد الفريضة ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن وقال صحيح الإسناد أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال : [ [ من أكل طيبا وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه أي شره دخل الجنة قالوا يا رسول الله إن هذا في أمتك اليوم كثير قال : وسيكون في قرون بعدي ] ]
وروى الإمام أحمد والطبراني وإسنادهما حسن مرفوعا : [ [ أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة في طعمة ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ أيما رجل كسب مالا حلالا فأطعم نفسه أو كساها من دونه من خلق الله كان له به زكاة ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ طوبى لمن طاب كسبه وصلحت سريرته وكرمت علانيته وعزل عن الناس شره طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ] ]
وروى الطبراني أن سعد بن أبي وقاص قال : يا رسول الله أدع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ [ يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نجتهد في طلب الحلال لنأكل منه ونلبس منه وننفق على عيالنا وإخواننا منه فإنه موجود ما دام المكلفون في الدنيا وإذا صدق العبد في طلب الحلال استخرجه الله من بين الحرام والشبهات كما يستخرج اللبن من بين فرث ودم فلا تسمع يا أخي إلى قول من يقول ما بقي في الدنيا حلال فإن ذلك جهل منه وأصل ذلك كثرة أكله هو من الحرام والشبهات فظن أن أحدا لا يسلم من ذلك قياسا عليه هو وغاب عنه أن الله تعالى إذا اعتنى بعبده طهره من الخبائث ويسر له الحلال الصرف الخالص فلولا ما سبق في علم الله تعالى من خبث نفس هذا القائل ما ساق إليه الخبيث قال تعالى : { الخبيثات للخبيثن والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } فمن خبثت نفسه سيقت للخبيث وسيق الخبيث لها ومن طابت نفسه سيق إليها الرزق الطيب وسيقت إليه فاعمل يا أخي على إصلاح النية واطلب الحلال جهدك فإن رزقت حلالا فاحمد الله وإن رزقت حراما فاستغفر الله وقد بذلت جهدك فلا يبقى عليك إن شاء الله تعالى كثير لوم في الآخرة كلوم من أرخى عنانه في أكل الحرام ولم يجاهد نفسه ولم يدافع الحرام وقد كلف الله تعالى العبد بمدافعة الحرام ولو كشف له أن الله قسمه له ومتى لم يدافع عصى فلا يقال كيف يؤاخذ الله تعالى العبد على ما قسمه له لأن ذلك يؤدي إلى أن يقيم العذر للكفار وجميع العصاة ولا يبقى لله تعالى عليهم حجة وذلك خروج عن الشرائع فاعلم أنه إذا كان من كشف له عن قسمة الحرام له يعصي بترك المدافعة فغيره ممن هو في حضرة الأوهام من باب أولى
وقد أجمع أهل الكشف على أن العبد إذا كشف له عن اللوح المحفوظ من المحو ورأى الحق تعالى قد قدر عليه زنا أو شرب خمر لا يجوز له المبادرة إلى ذلك بل يدافع الأقدار جهده حتى يقع في غفلة أو حجاب فينفذ الله تعالى فيه قضاءه وقدره ولو أنه بادر لعصى ربه واستحق بذلك العقوبة زيادة على عقوبة تلك المعصية
فتأمل ذلك واعمل عليه فإنك لا تجده في كتاب وعاشر أهل الورع من العلماء والفقراء وإياك وعشرة من لا يتورع فإن صفات العبد قد تكون مكتسبة ولذلك قالوا إن كل شيء رأيته في جليسك ربما ينتقل إليك ولو على طول من خير أو شر فمن خالط أهل الشر فكأنه تعاطى أسباب المعصية فيكون عقابه أشد عقاب مما وقع غفلة أو سهوا وها أنا أعطيتك ميزانا تعرف بها أهل الورع من غيرهم وهو أن كل من رأيته يزاحم عسكر السلطان في الجوامك ويطلب أن يكون له مسموح أو مرتب أو نظر على وقف أو كثرة وظائف فأبعد عنه وكل من رأيته يعرض الحكام عليه المال ويرده فأقرب منه فإنه يعينك على مقصودك ومن هنا قالوا من تمام التوبة هجر إخوان السوء الذين كان يعصى الله معهم فإنه إذا شاهدهم وهم يعصون على عادتهم خف القبح الذي كان عنده للمعصية وبالحري أن يرجع إلى فعل ما تاب منه فقد بان لك أن مجاهدة النفس في ترك الحرام والشبهات واجبة وأن المدار بعد ذلك على حماية الله للعبد أو عدم حمايته وأن العبد مثاب في مدافعته سواء قسم له ذلك أم لم يقسم وأنه لا ينبغي لمن قدم له طعام فيه شبهة فلم يأكل منه أن يرى نفسه على من أكل إلا من حيث الشكر لله على حمايته له لا غير وإلا فلو قسم له أكله لأكل منه كما أكل من رأى نفسه عليه
وإيضاح ذلك أن بعض المتورعين ربما يقول في نفسه أنا كنت قادرا على أن آكل من طعام ذلك المكاس مثلا ولكني منعت نفسي هذا مع كونه غافلا عن شهود القسمة وهو وهم باطل فلم يتورع المتورعون ولم يزهد الزاهدون إلا فيما لم يقسم لهم وإنما أثابهم الله تعالى من حيث مدافعتهم للأكل من الحرام فقط وفي التحقيق ذلك حماية لهم من الله تعالى فاعلم ذلك : { والله عليم حكيم } (1/136)
- روى الشيخان والترمذي مرفوعا : [ [ الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ] ] الحديث
وفي رواية للبخاري وغيره : [ [ ومن اجترأ على ما شك فيه من الإثم يوشك أن يواقع ما استبان ] ] ومعنى يوشك أي كاد وأسرع
وروى الإمام أحمد بإسناد حسن مرفوعا : [ [ البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ] ]
وفي رواية لأحمد بإسناد جيد : [ [ البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون ] ] . وفي هذا الحديث سلامة من سوء الظن بالناس فإنه ما تورع صاحب العلامات الظاهرة إلا مع سوء الظن بذلك الشخص الذي تورع عن طعامه مثلا ولو أنه حسن به الظن لأكل طعامه وهذا ورع المتنطعين وفيه أيضا آفة وهي الشهرة بالورع بين الناس بخلاف من يعمل بميزان قلبه يكون ورعه مستورا . والله أعلم
وروى الشيخان : [ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم وجد تمرة في الطريق فقال : لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها ] ]
وروى الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ] ] . زاد في رواية للطبراني : [ [ قيل يا رسول الله فمن الورع ؟ قال الذي يقف عند الشبهة ] ]
وروى البخاري أن أبا بكر قدم إليه غلامه شيئا فيه شبهة فأكله ولم يعلم فلما علم قاء كل شيء في بطنه . قلت : وفي هذا الحديث بيان عدم عصمة غير الأنبياء وأن المحفوظ قد يقع في الحرام ولكن من عناية الله تعالى بأوليائه أن لا يترك الحرام يقيم في باطنهم . وربما يكون ما وقع فيه أبو بكر إنما كان ليعلم الأمة أن يتقيئوا ما أكلوه من الحرام لا غيره وكان ذلك حراما صورة كما وقع لآدم في أكله من الشجرة . والله تعالى أعلم
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ أفضل الدين الورع ] ] . وفي رواية له أيضا : [ [ خير دينكم الورع ] ]
وروى ابن ماجه والبيهقي مرفوعا : [ [ كن ورعا تكن أعبد الناس ] ] . قلت : وإنما كان المتورع أعبد الناس لأن من أكل الحلال الخالص يصير لا يمل من العبادة ومن لا يمل فهو أعبد ممن يمل على اختلاف طبقات الناس كثرة وقلة . والله تعالى أعلم
وروى الترمذي وقال حديث حسن وابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ] ]
والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نفتش كل شيء دخل يدنا في هذا الزمان من مال وطعام ولباس وغير ذلك ولا نستعمل شيئا تردد في صدورنا حله وحرمته وقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يفتشون كل شيء دخل يدهم إلى سابع يد استولت عليه في الحل وبعضهم إلى عاشر يد في الحل ثم يستعملونه فإن لم يتداوله العشرة أيد لم يستعملوه وهذا أمر تعذر فعله الآن على غالب فقراء الزمان ويكفي أحدهم إن شاء الله تفتيش أول يد يأخذون منها
واعلم يا أخي أن من أعظم المساعدة على الورع القناعة فمن لم يقنع أكل رأس الفيل ولم يشبع ومن لازم الشره عدم الورع وإن كان المتورعون لم يتورعوا إلا فيما لم يقسم لهم على وزان ما تقدم في العهد قبله . وقد جاء شخص إلى سيدي علي الخواص فقال : يا سيدي خاطرك علي ما بقيت أقدر آكل كثيرا . فقال له الشيخ : أحمد الله تعالى على ذلك الذي حماك من أكل الشبهات في هذا الزمان ولم يصف له دواء مع أنه كان يعرفه
قلت : ومن هنا كان الفقير الصادق لا يرى نفسه أبدا على من لم يتورع فإن المنة لله تعالى لا تفعل العبد في ذلك ولو أنه تعالى قسم له شيئا من الحرام لأكله فما هناك إلا حماية الله للعبد أو عدم حمايته كما مر في العهد قبله ثم لا يخفى أن أهل الله تعالى لا يعولون في الورع على العلامات الظاهرة في الأيدي وإنما يعولون على ما يلقيه الحق تعالى في قلوبهم فقد يكون الذي يأخذونه من يد صالح حراما وقد يكون الذي يأخذونه من يد ظالم حلالا فمثل هؤلاء يسلم لهم حالهم لاطلاعهم على بواطن الأمور بخلاف من لم يطلع إلا على ظواهرها فإن هذا ربما رأى ظالما أخذ حراما ثم توارى عنه بجدار فقال يحتمل أن ذلك الحرام خرج عن يده وهذا غيره ولكل مقام رجال وقد عزم علي شخص أنا وأخي أفضل الدين وقدم إلينا خروف شواء مشويا وكانت النية فيه غير صالحة لأنه عزم على جماعة أولاد عمر أمراء الصعيد فلم يحضروا عنده فعزم علينا لنأكله مكانهم فلما وضعه بين أيدينا وجدته يغلي دودا مثل أذناب المغازل فلم أقدر أتناول منه لقمة واحدة وصار صاحب الطعام يقول : كلوا هذه اللقمة فقط ولا أقدر أعلمه بما رأيت لكونه محجوبا عن ذلك وكذلك رآه أخي المذكور ولكنه قال رأيته يغلي سعالى [ سحالى ؟ ؟ ] فقلت له أنا ما رأيت إلا دودا فقال : المقصود الحماية ونفرة الخاطر منه وقد حصلت ولله الحمد فإن لم تصل يا أخي إلى ورع أهل الله تعالى فإياك أن تنزل عن الورع في ظاهر الشرع فتنزل قدمك إلى النار والله يتولى هداك (1/137)
- روى البخاري وابن ماجه واللفظ له مرفوعا : [ [ رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا اقتضى ] ] . ولفظ الترمذي مرفوعا : [ [ غفر الله لرجل كان قبلكم سهلا إذا باع سهلا إذا اشترى سهلا إذا اقتضى ] ] . ولفظ رواية النسائي : [ [ أدخل الله رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا وقاضيا ومقتضيا الجنة ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن والطبراني بإسناد جيد مرفوعا : [ [ ألا أخبركم بمن يحرم على النار وتحرم عليه النار حرمت النار على كل قريب هين لين سهل ] ]
وفي رواية للحاكم وقال صحيح على شرط مسلم : [ [ من كان هينا لينا قريبا حرمه الله على النار ] ]
وروى الترمذي والحاكم مرفوعا : [ [ إن الله يحب سمح البيع سمح الشراء سمح القضاء ] ] . زاد في رواية للطبراني : [ [ سمح الاقتضاء ] ]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم يتقاضاه فأغلظ له فهم به أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : دعوه إن لصاحب الحق مقالا ثم قال : أعطوه شيئا مثل سنة قالوا : يا رسول الله لا نجد إلا أمثل من سنة قال أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء ] ]
وروى الترمذي مرفوعا في حديث طويل : [ [ ألا وإن من الناس حسن القضاء حسن الطلب ومنهم سيء القضاء حسن الطلب فتلك بتلك ألا وإن منهم السيئ القضاء أتسيء الطلب . ألا وخيرهم الحسن القضاء الحسن الطلب ألا وشرهم سيء القضاء سيء الطلب ] ]
[ وفي الحديث 1610 في الجامع الصغير : . . . ألا إن خير التجار من كان حسن القضاء حسن الطلب وشر التجار من كان سيء القضاء سيء الطلب فإذا كان الرجل حسن القضاء سيء الطلب أو كان سيء القضاء حسن الطلب فإنها بها . . . رواه الإمام أحمد والترمذي . . . عن أبي سعيد . دار الحديث ]
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ إن صاحب الدين له سلطان على صاحبه حتى يقضيه ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن يكون عندنا سماحة في البيع والشراء وسهولة في أخذ حقنا وفي وزن ما للناس علينا
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ صادق يخرجه من حضرة محبة الدنيا والحرص على جمعها ويدخله حضرة الولاية التي منها يرى الدنيا بأسرها لا تزن عند الله جناح بعوضه ويرى منها عظمة حرمة المؤمن وأن الدنيا بأسرها لو كانت في يده وأخذها إنسان فلا فرق عنده بينها وبين كناسة البيت وهناك يكون عنده السماحة في البيع والشراء وحسن المطالبة والعطاء ومن لم يسلك الطريق كما ذكرنا فمن لازمه غالبا تقديم تحصيل الجديد النقرة على حرمة أبيه فضلا عن الأجانب
فاعمل يا أخي على السلوك على يد شيخ إن أردت أن تكون من أهل الجنة ومحبوبا عند الله وعند الناس والله يتولى هداك (1/138)
- روى أبو داود وابن حبان في صحيحه وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرطهما واللفظ لابن حبان مرفوعا : [ [ من أقال مسلما بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة ] ]
وفي رواية لابن حبان : [ [ من أقال مسلما عثرته ] ]
وفي رواية لأبي داود في المراسيل : [ [ من أقال نادما أقال الله نفسه يوم القيامة ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نقيل كل نادم على بيع أو شراء عملا بأخلاق السلف الصالح كما نقيل كل نادم على وقوعه في حقنا
وكان سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه يقول : لا يبلغ الإنسان مقام المحبة لله ولرسوله إلا إن سامح جميع الخلق مما له عليهم من مال وعرض في الدنيا والآخرة إكراما لمن هم عبيده ولمن هم من أمته صلى الله عليه و سلم اه وقد تحققنا بذلك ولله الحمد ونرجو من فضل ربنا دوام ذلك إلى الممات فلست أرى لي قط على أحد حقا لا في مال ولا في عرض ولو عمل معي ما عمل إكراما لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه و سلم ومن سامح الناس سامحه الله وبالعكس فاعلم أن من شاحح أحدا من هذه الأمة المحمدية ولم يسامحهم بحقه من غير ضرورة شرعية فما عرف قدر عظمته صلى الله عليه و سلم فضلا عن معرفته بقدر عظمة الله تعالى التي كلف بها الخلق ولا يقدر على العمل بما قلناه إلا من حفته العناية الربانية وسلك الطريق على يد شيخ صادق وإلا فمن لازمه غالبا مشاححة كل من له عليه حق ولو كان شريفا بل رأيت من حبس شريفا على ألف نصف مع كونه هو يملك الثلاثين ألف دينار فقلت له إن هذا عضو من أعضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن حبسه فقد آذى جده رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن آذى جده فقد آذى الله فلم يسمع فبعث الله تعالى له في تلك الجمعة مرضا منعه الأكل حتى مات
وكذلك رأيت شخصا من طلبة العلم اشتكى شخصا مشهورا بالصلاح وسجنه إلى بيت الحكام على نصف وعثماني فمثل هؤلاء مقامهم عند رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم القيامة كمقامه عندهم في الدنيا فيا لطول تعبهم في عرصات القيامة ويا لطول قهرهم حين يرونه صلى الله عليه و سلم يشفع لأقرانهم الذين كانوا يجلونه ويعظمونه ويريحهم من تعب الموقف وأهل الجفاء واقفون يتحسرون على تخلفهم عن دخول الجنة وفي الحديث : [ [ أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم خلقا ] ]
ومن أخلاقه العفو والصفح والمسامحة بحقه صلى الله عليه و سلم
وقد بسطت الكلام على الأدب مع الشرفاء في كتاب البحر المورود وذكرنا فيه أن مسامحة الشريف الذي طعن في نسبه أوجه عند رسول الله صلى الله عليه و سلم من مسامحة من ثبت نسبه كما يقال : يكرم الناس لأجلنا اه أي وجه لمن اشتكى شريفا يوم القيامة حين يلقى جده صلى الله عليه و سلم والله أن غالب الخلق الذين لا يكرمون الشرفاء اليوم كالبهائم السارحة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1/139)
- روى مسلم والنسائي مرفوعا : [ [ الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ] ]
وروى الشيخان عن زياد بن علاثة ؟ ؟ قال : سمعت جرير بن عبدالله يقول : بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم على الإسلام فشرط علي النصح لكل مسلم فبايعته على ذلك
وفي رواية للشيخين وغيرهما عن جرير قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم زاد النسائي فكان جرير إذا باع الشيء واشترى قال : أما أن الذي أخذنا منك أحب إلينا مما أعطينا إليك فاختر
قلت وتقييد وجوب النصح بالمسلم في الحديث جرى على الغالب وإلا فغير المسلم كذلك لا يجوز غشه كما يشهد لذلك : [ [ جهادنا فيه بالسيف حتى يسلم فإنه من النصح له ] ] . والله أعلم
وروى الإمام أحمد مرفوعا : [ [ قال الله عز و جل أحب ما تعبد لي عبدي النصح لي ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ومن لا يصبح ويمسي ناصحا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم ] ]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ] ]
ولفظ رواية ابن حبان في صحيحه : [ [ لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه ] ] . والله تعالى أعلم
- ( - أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ننصح كل مسلم ولو لم يطلب هو منا ذلك فكيف إذا استنصحنا وهذا العهد المبارك قل من يفعل به الآن من التجار فإنه يخاف إن بين عيب مبيعه أن لا يشتريه منه أحد حتى قال لي بعض إخواني الصادقين أنا في غلبة فقلت له لماذا فقال صرت أنصح المشتري وأعطيه أحسن القماش فيرده ويقول لي هات من ذاك الذي هو دونه فأحلف له بالله أن ما أعطيته له أولا هو الأنفع والأحسن فلا يرجع لي ويأخذ الرديء قياسا لي على الناس الذين يغشون فهل علي إثم إذا أعطيته الرديء ؟ فقلت له : لا فلكثرة غش الناس لبعضهم بعضا صاروا لا يصدقون من نصحهم من التجار
وكان الشيخ علي المليجي المدفون بناحية مليج ينسج ويبيع القماش وكان بجانبه وعاء فيه زعفران فكل خيط انقطع يجعل عليه نقطة زعفران ويقول تحت كل نقطة عيب
وكان سيدي علي الخواص رحمه الله يبيع القفاف فكان إذا أعطاه أحد زيادة على ثمنها رده إليه فإذا قال له المشتري أنا خاطري طيب بذلك فيقول الشيخ أنا خاطري بذلك ما هو طيب . وسمعته يقول : لا يبلغ المؤمن مقام كمال الإيمان حتى يكون أشفق على أخيه المؤمن من نفسه وراثة محمدية
قلت : وقد تحققنا بذلك ولله الحمد فأنا أشفق على المسلمين من أنفسهم وامتحنت نفسي في ذلك مرارا فوجدتها صادقة وأعطوني مرة في خراج رزقي فوق العادة فرددتهم إلى العادة فكنت بذلك أشفق على المستأجر من نفسه ومن ذلك أنا أتأثر على كل خير فات أحدا من إخواني المسلمين أكثر مما يتأثرون فأنا أشفق عليهم حينئذ من أنفسهم فالحمد لله رب العالمين
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يخرجه من الحجب المانعة من التحقق بهذا المقام وإلا فلا يشم له رائحة . { والله غفور رحيم } (1/140)
- روى الترمذي وقال حديث حسن وابن ماجه مرفوعا : [ [ التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ] ] . وفي رواية للأصبهاني مرفوعا : [ [ التاجر الصدوق تحت ظل العرش يوم القيامة ] ] . وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ إذا كان في التاجر أربع خصال طاب كسبه إذا اشترى لم يذم وإذا باع لم يمدح ولم يدلس في البيع ولم يحلف فيما بين ذلك ] ] . وفي رواية للبيهقي مرفوعا : [ [ إن أطيب المكاسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باع لم يمدحوا وإذا كان عليهم حق لم يماطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا ] ] . وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدق البائعان بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ويمحقا وبركة بيعهما واليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب ] ] . وروى الترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاروا إلا من اتقى وبر وصدق ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا التجار وغيرهم في الصدق في أخبارهم بالثمن خوفا عليهم وعلى أموالهم من النقص فإن الله جعل البركة مقرونة بالصدق في العمل والعلم والعمر والرزق وغير ذلك فمن لم يصدق نزع الله البركة من علمه وعمله وعمره ورزقه . وقد كان شخصا بجوارنا معصرانيا يخبر بالثمن باطلا وكان ماله نحو العشرة آلاف دينار فذهبت كلها وصار يسأل الناس فقلت له : ما سبب خسارتك فقال : كنت أخلط الزيت الحلو على الشيرج وأبيعه على أنه شيرج ولا أتذكر قط أني بعت بخسارة فقلت له كفى بخلطك الزيت الحلو غشا وخسارة فتوبته عن ذلك فتاب بحمد الله وقال : ما بقي عندي شيء من الغش ولا غيره فأخذت له ألف دينار من بعض إخواننا واشترى بها حبا للمعصرة وجلس يبيع فرأيته تلك الليلة وهو يضع الغلة في حق فكل شيء وضعه فيه طار منه في الهواء كقشر السمك فقلت لصاحب الفلوس : النية تغيرت فأدرك مالك قبل أن يتلف فراح المعصراني إلى شيخ قالوا إنه يكاشف فقال لصاحب المال : لا تخاف ولا تسمع لمن يخوفك فرأيته تلك الليلة يطحن السمسم فيخرج من تحت الحجر كالنخالة لا دهن فيه فقلت لصاحب الفلوس : أدرك مالك فراحوا لشيخ آخر فقال لا تخافوا فنمت تلك الليلة فرأيته يبني جدارا على حرف جسر الفيض أول قطعة وكلما وضع شيئا ينهال به الجرف فقلت لصاحب المال خذ مالك فدعا المعصراني إلى القاضي فأنكر المال جملة واحدة فجمعت بين الاثنين وقلت لصاحب المال قد عرفنا قلة بركة المال المعصراني فما سبب قلة البركة في مالك أنت الآخر فقال : كنت أبيع الناس بالنساء وزيادة الثمن حتى لا يكاد أحد يستفيد شيئا من ورائي فمحق الله بركة مالي فما رأيت بعد ذلك خيرا . فاصدق يا أخي في إخبارك المشتري ولا تغش فيحول الله عنك النعم والله يتولى هداك (1/141)
- روى الحاكم والطبراني مرفوعا : [ [ من تداين بدين وفي نفسه وفاؤه ثم مات تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما يشاء ومن تداين بدين وليس في نفسه وفاؤه ثم مات اقتص الله تعالى لغريمه منه يوم القيامة ] ] . ولفظ رواية الطبراني : [ [ من أدان دينا وهو ينوي أن يؤديه أداه الله عنه يوم القيامة ومن استدان دينا وهو لا يريد أن يؤديه فمات قال الله عز و جل يوم القيامة ظننت أني لا آخذ لعبدي حقه فيؤخذ من حسناته فتجعل في حسنات الآخر فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات الآخر فتجعل عليه ] ]
وروى البخاري وابن ماجه وغيرهما مرفوعا : [ [ من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عز و جل عنه ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله ] ]
وروى الإمام أحمد وأبو يعلي والطبراني مرفوعا : [ [ من حمل من أمتي دينا ثم جهد في قضائه ثم مات قبل أن يقضيه فأنا وليه ] ]
وروى الإمام أحمد والطبراني عن عائشة رضي الله عنه أنها كانت تداين فقيل لها مالك وللدين ولك عنه مندوحة فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عون فأنا ألتمس ذلك العون ] ] . وفي رواية للطبراني : [ [ من كان له الله عون وسبب له رزقا ] ]
وروى النسائي وابن ماجه وابن حبان : [ [ ما من أحد يدان دينا يعلم الله أنه يريد قضاءه إلا أداه الله عنه في الدنيا ] ]
وروى ابن ماجه والبيهقي مرفوعا : [ [ أيما رجل تداين دينا وهو مجمع أن لا يوفيه إياه لقي الله سارقا ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ أيما رجل تزوج امرأة ينوي أن لا يعطيها من صداقها شيئا مات يوم يموت وهو زان ] ]
وروى النسائي والطبراني والحاكم واللفظ له وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ والذي نفسي بيده لو قتل رجل في سبيل الله ثم عاش ثم قتل ثم عاش ثم قتل ثم عاش ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي دينه ] ] . ولفظ رواية البزار وغيره مرفوعا : [ [ من تزوج امرأة على صداق وهو ينوي أن لا يؤديه إليها فهو زان ] ] . وفي رواية للطبراني ورواته ثقات مرفوعا : [ [ أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها ثم مات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زان ] ]
وروى ابن ماجه والبزار مرفوعا : [ [ إن الدين يقتص من صاحبه يوم القيامة إن مات إلا من تداين في ثلاث خلال : الرجل تضعف قوته في سبيل الله فيستدين يتقوى به على عدو الله وعدوه ورجل يموت عنده مسلم لا يجد ما يكفنه ولا يواريه إلا بدين ورجل خاف على نفسه العزبة فينكح خشية على دينه فإن الله تعالى يقضي عن هؤلاء يوم القيامة ] ]
وروى ابن ماجه بإسناد حسن والحاكم وقال صحيح الإسناد : [ [ إن الله مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكرهه الله ] ] . وكان عبدالله بن جعفر يقول لخادمه اذهب فخذ لي بدين فإني أكره أن أبيت ليلة إلا والله معي
وروى أبو داود والبيهقي مرفوعا : [ [ أن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع قضاءه ] ]
وروى ابن أبي الدنيا والطبراني مرفوعا : [ [ أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى فذكر منهم : ورجل معلق عليه تابوت من جمر فيقال : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى فيقول إن الأبعد مات وفي عنقه أموال الناس لا يجد قضاء أو وفاء ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ننوي الوفاء لكل شيء استدناه من الناس ولو صداقا لامرأة خوفا أن لا يعيننا الله تعالى على الوفاء إذا نوينا عدم الوفاء ويصير علينا التبعة في الآخرة ويزيد الصداق بكون الشارع جعل وطء تلك الزوجة التي نوينا عدم وفاء مهرها كالزنا
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به حتى يقطع به الحجب المانعة عن شهوده الآخرة بعين البصيرة ويصير يطابق بين الدارين فكل شيء رأى أن الله تعالى لا يمشيه هناك يتركه هنا ومن لم يسلك كذلك فمن لازمه قصر بصره على هذا الدار ولا يكاد يتذكر الآخرة بل يقول لكل شيء وقت كما سمعته من خلق كثير ولذلك كثرت الخيانة لهذا العهد من غالب الناس في هذا الزمان فصار كل واحد ينصب على الآخر ويأخذ عمامة هذا يلبسها لهذا فلذلك ركبتهم الديون ودخلوا الحبوس ولو أنهم نووا الوفاء بصدق لأعانهم الله على الوفاء وكم من شخص تحبسه امرأته ويحكمها الله تعالى فيه حتى يصير يقبل نعلها أن تطلقه فلا تطلقه وهذا من أعظم الخزي على كل ذي مروءة
ثم إن وقعت يا أخي في الدين فإياك أن تظهر لصاحب الدين الفقر والأمر بخلاف ذلك فيسلطه الله عليك بالحبس وتقسي قلبه عليك وإياك إن تتزوج وعليك دين أو تتسرى أو تعمل عرسا أو سماطا بل قتر على نفسك كل التقتير وكل شيء دخل يدك مما زاد على ضرورتك فأعطه لصاحب الدين واشكر فضله في صبره عليك وقل له بحق وصدق والله أنا في خجل منك ولكن ادع الله لي أن يوسع علي حتى أوفيك أو أوفي غيرك وقد دخل جماعة كثيرة من إخواننا الحبوس بسبب الكلام المر لصاحب الدين وبسبب التزويج وعمل الأعراس والعزومات وقال أصحاب الديون نحن أحق بذلك المال الذي ينفقه على شهوات نفسه وهو حق وإذا طلب صاحب الدين أن يحبس المديون فمن الأدب أن لا يتوارى عنه بل يجيء بنفسه إليه ويقول أنا أسيرك في الدنيا والآخرة فإن شئت فاحبس وإن شئت فأطلق وكذلك من الأدب أن يشكره بين الناس ويدعو له فيما بينه وبين الله بتوسعة الرزق وتعطيفه عليه حتى لا يحبسه ولا يضيق عليه وإذا ساق الفقراء أو العلماء فمن الأدب أن يكونوا مع صاحب الحق لأن بيده العقد والحل ولا يكونوا مع المديون فيزداد الأمر شدة فإن المديون هو القليل الدين الذي أتلف مال الناس . وفي الحديث : [ [ هلا مع صاحب الحق كنتم ] ]
ثم إذا جاء العلماء أو الفقراء سياقا فمن الأدب من صاحب الدين أن يجعل لسياقهم تأثيرا ولا يخالفهم يندم وإن راح بعدهم إلى الشرع غلبوه وإياك أن تسكثر مع القدرة إسقاط شطر الدين لأجل سياق العلماء والصالحين فإن جميع ذلك الدين لا يجيء في مقابلة خطوة واحدة يمشيها إليك عالم أو صالح . وقد بلغ سيدي عليا الخواص أن شخصا أتى بفقير سياقا على خصمه ليصبر عليه بدينه وكان خمسمائة دينار فأبى أن يصبر فقال الشيخ وعزة ربي الخمسمائة دينار لا تجيء حق طريق الفقير ولكن ما بقي يصل منها إليه شيء فاتهم ذلك الشخص بتهمة في بيت الوالي فضرب فمات وحضرنا جنازته رحمة الله عليه فاعلم ذلك والله يتولى هداك (1/142)
- روى الإمام أحمد والترمذي وقال حسن وابن ماجه وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي ] ] . ولفظ ابن حبان : [ [ نفس المؤمن معلقة ما كان عليه دين ] ] . وروى الإمام أحمد مرفوعا بإسناد حسن والحاكم والدارقطني : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى برجل عليه ليصلي عليه فأبى فقال أبو قتادة : علي دينه فصلى عليه صلى الله عليه و سلم ثم قال : الآن بردت جلدته . وروى أبو يعلي والطبراني مرفوعا : [ [ إن جبريل نهاني أن أصلي على من عليه دين وقال إن صاحب الدين مرتهن في القبر حتى يقضي عنه دينه ] ] . وفي رواية : أنه أتى برجل ليصلي عليه فإذا عليه دين فقال : صلوا على صاحبكم فقالوا يا رسول الله صلى عليه قال : فما ينفعكم أن أصلي على رجل روحه مرتهنة في قبره لا تصعد إلى السماء فلو أن رجلا ضمن دينه قمت فصليت عليه فإن صلاتي تنفعه . قال الحافظ المنذري : وهذا منسوخ بحديث مسلم وغيره أنه صلى الله عليه و سلم لما فتح الله عليه الفتوح صلى على من عليه دين وقال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نبادر إلى وصية ميتنا وإلى قضاء دينه وفاء بحقه ولا نتهاون بذلك وينبغي للوارث أن لا يشاحح أصحاب الدين ولا يتعبهم في المطالبة حتى يقع الإبراء للميت بغير طيب نفس فربما ادعى بما بقي عليه يوم القيامة بل ينبغي له أن يعطي من نصيبه الذي ورثه للمديون نصيبا ويقول لنفسه قدري أن ذلك ناقص من حصتك من الأصل لا سيما إن شح ولم يبرئ ذمة الميت وقال بيني وبينه معاملات باطنة فإن الميت لو عاش لم يعط الوارث إلا ما فضل عن الدين فليعامل الوارث ميته معاملة الحي فإنه لا بد له من لقائه يوم القيامة ويدعي عليه بما أخذه من إرثه بغير حق إذ ليس له إلا ما فضل بعد وفاء الدين فلا فرق بين من يأخذ مال مورثه سرا أو جهرا وخاصم أرباب الديون ومنعهم حقهم وبين الغاصب أو السارق فافهم وبادر يا أخي إلى وفاء دين مورثك وبرد قلبه في قبره كما برد قلبك بالذهب وأدخل عليه سرورا كما أدخل عليك سرورا ووسع عليه كما وسع عليه كما وسع عليك والله يتولى هداك (1/143)
- روى الترمذي واللفظ له والحاكم وقال صحيح الإسناد أن مكاتبا جاء إلى علي رضي الله عنه فقال : إني عجزت عن مكاتبتي فأعنى قال : ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه و سلم لو كان عليك مثل جبل ثبير دينا أداه الله عنك . قل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك . قلت : وإضافة الحرام إلى الله في هذا الحديث بيان للجواز : وروى أبو داود : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل المسجد فرأى رجلا جالسا في المسجد في غير وقت صلاة فقال : ما أجلسك ههنا في غير وقت صلاة ؟ فقال : هموم الدنيا لزمتني وديون فقال : ألا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى دينك فقال : بلى يا رسول الله فقال : قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزم وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من البخل والجبن وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال . قال الرجل فقلتها فأذهب الله همي وقضى عني ديني . وروى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ : ألا أعلمك دعاء تدعوا به لو كان عليك مثل جبل أحد دينا لأداه الله عنك قال يا معاذ [ [ اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء إلى قوله : قدير رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطيهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء ارحمني رحمة تغنيني بها عمن سواك ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله عز و جل همه وأبدله مكان حزنه فرحا ] ] . وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ كلمات المكروب : اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله بلا إله إلا أنت ] ] . وروى الترمذي والنسائي والحاكم مرفوعا : [ [ دعوة أخي ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء إلا استجاب الله له ] ] . وروى الطبراني والحاكم مرفوعا : [ [ من قال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كان له دواء من تسعة وتسعين داء أيسرهما الهم ] ] . والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرجع في جميع مهماتنا وشدائدنا في الدنيا والآخرة إلى الله تعالى وندعو ربنا بما دعا به رسول الله صلى الله عليه و سلم ربه عند الكرب وأمر به أمته ولا نخترع دعاء من عند أنفسنا ما أمكن وينبغي لنا أن نعتقد إجابة دعائنا ويكره أن نظن عدم الإجابة خوفا أن لا يجيب دعاءنا فإن الله تعالى عند ظن عبده به . وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إذ ظن أحدكم أن الله تعالى لا يستجيب دعاءه لكثرة عصيانه مثلا فليسأل غيره أن يدعو له لكن إن كانت الحاجة مما فيه رائحة التبسيط في الدنيا فلا يسأل فيها من خرق ببصره إلى شهود الدار الآخرة من الصالحين فإنه ربما رأى عدم قضاء تلك الحاجة أولى لما في تركها من الثواب والدرجات وليسأل في ذلك من لم يخرق بصره إلى الدار الآخرة فإنه أكثر توجها إلى الله في قضائها إذ العارف ليس له همة تجلب شيئا من شهوات الدنيا بل يرى لله الفضل في حرمانه منها اه . وهو كلام نفيس وقد ذقت ذلك من نفسي فربما يسألني أحد في حاجته فأعلم أن له في تركها الأجر العظيم فاسأل الله له عدم قضائها لأن الخلق عند العارفين كالأطفال لا يجابون إلى كل ما سألوا وينبغي لكل داع أن يدعو بما ورد لا كما عليه الإمام البوني وأضرابه فإن كلام النبوة أفصح وأكثر أدبا فإذا دعونا بدعائه صلى الله عليه و سلم الذي فعله أو أمرنا به كان أقرب إلى الإجابة وما أمرنا صلى الله عليه و سلم أن ندعو بشيء أو بحصول شيء إلا وقد مهد لنا عند ربه طريق الإجابة وكل من في قلبه تعظيم للشارع صلى الله عليه و سلم يستعظم أن يسلك طريقا لا يرى فيها قدم الاتباع لنبيه صلى الله عليه و سلم بل لو كشف له لرآها طرقا وعرة مظلمة كثيرة المهالك قليلة الأنس وقد ترك أقوام كثيرون من المباشرين وأركان الدولة الأدعيه الواردة في السنة واستعملوا أدعية مخترعة لها شروط كترك أكل الزفر والجوع والبخورات ونحو ذلك ؟ فازدادوا مقتا وطردا وأين نفس البوني مثلا من نفس رسول الله صلى الله عليه و سلم . فاسلك يا أخي طريق أهل الله وتأدب مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يحبك الله والله يتولى هداك (1/144)
- روى الطبراني مرفوعا : [ [ تواضعوا لمن تعلمون منه ] ] . وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق : ذو الشيبة في الإسلام وذي العلم والإمام المقسط ] ] . وروى الإمام أحمد مرفوعا : [ [ اللهم لا يدركني زمان أو لا تدركوا زمانا لا يتبع فيه العليم ولا يستحيا فيه من الحليم قلوبهم قلوب الذئاب وألسنتهم ألسنة العرب ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نبجل العلماء والصالحين والأكابر ولو لم يعملوا بعلمهم ونقوم بواجب حقوقهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى فمن أخل بواجب حقوقهم من الإكرام والتبجيل فقد خان الله ورسوله فإن العلماء نواب رسول الله صلى الله عليه و سلم وحملة شرعه وخدامه فمن استهان بهم تعدى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك كفر وقد مال إلى ذلك من كفر من قال عن عمامة عالم هذه عميمة عالم بالتصغير ونأمل من استهان بغلام السلطان إذا أرسله إليه كيف يسمع السلطان من رسوله فيه ويسلب نعمة ذلك الذي استهان ويطرده عن حضرته بخلاف من بجله وعظمه وقام بواجب حقه يقربه السلطان ولو كان بعيدا يكرمه ويجله . ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به الطريق حتى يدخله حضرة الولاية الكبرى ويشهد هناك من هو المقدم عند الله ومن هو المؤخر ويصير يقدم من قدمه الله ويؤخر من أخره الله على الكشف والشهود كما يشاهد الإنسان ذلك في حضرة ملوك الدنيا فإن لم تسلك يا أخي كما ذكرنا فلا يصح لك تقديم أحد على أحد إلا لعلة دنيوية وليس ذلك التقديم هو الذي أمرك الله له . فعلم أن كل من أقام الميزان بغير حق على العلماء والأكابر حرم النفع بهم وعصي الله ورسوله . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/145)
- روى البخاري وابن ماجه وغيرهما مرفوعا قال : [ [ قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته : رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجرا ] ]
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ] ] . وهو وإن كان ضعيفا فكثرة طرقه تكسبه قوة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نعطي جميع الحقوق التي علينا للخلق في هذه الدار ونتحللهم منها قبل يوم القيامة وذلك لكون الدنيا أوسع من الآخرة لاجتماع الحقوق علينا هناك وكثرة الطالبين لنا ولا هكذا الدنيا إنما يطالبنا فيها بعض أناس . سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا يكمل حال الفقير إلا إن أعطى جميع الحقوق التي عليه قبل المطالبة ومتى أحوج صاحب الحق إلى وقوف عند حاكم فقد خرج من طريق الفقراء إلى طريق العوام والظلمة سواء أكان ذلك الحق لزوجة أو جار أو أجير أو فقراء يستحقون زكاته ونحو ذلك وهذا العهد لا يصح العمل به إلا لمن سلك الطريق وخرج عن محبة الدنيا وشهد مواقف القيامة وما يقع فيها من مناقشات الحساب حتى لا يفوت صاحب الحق مثقال ذرة من حقه ومن لم يسلك الطريق فمن لازمه محبة الدنيا والوقوف مع أربابها للحكام كما هو الواقع لغالب فقراء هذا العصر فضلا عن غيرهم . وقد رأيت بعيني شخصا من فقراء العصر تولى نظرا على وقف له فيه معلوم النظر تصف وعثماني كل شهر اشتكاه شخص من المستحقين وقال له أنت أكلت معلومنا والمسؤول منك إما أن تعطينا حقنا وإما أن نسامحك فيما مضى وتنزل عن النظر فأبى ورضي بوقوفه عند الحكام فأخذه بعض المستحقين ومسكه من كمه ودخل هو وإياه بيت قاضي العسكر فبهدله غاية البهدلة على شأن نصف وعثماني كل شهر مع أن تجارة هذا الشيخ كما حكى عنه أصحابه نحو عشرة آلاف نصف فإذا كان هذا حال المشايخ في هذا الزمان فكيف حال غيرهم وما رأيت هذا الحال قط في أحد من الأشياخ الذين أدركناهم فلم نر أحد منهم قط واقفا عند حاكم يدعي عليه نحو زوجة أو جار أو صاحب أو أجير بل كانوا يعطون الحق الذي عليهم قبل السؤال . فاسلك يا أخي طريقهم إن أردت أن ينفع الله بك المسلمين في إرشادهم والشفاعة فيهم عند الحكام وغيرهم فإن من شرط الشيخ أن يكون محفوظا الظاهر مهابا في العيون وتأمل الظالم أو المريد لو جاء لزيارة الشيخ فوجده مربوطا برسل الحكام يدعون عليه ويخرجونه كيف يهون في عين الظالم أو المريد فلا يقبل ذلك الظالم بعد ذلك له شفاعة ولا ينتفع به ذلك المريد فشرط الشيخ أن يكون وارثا لرسول الله صلى الله عليه و سلم في كونه يحكم في غيره ولا يحكم أحد عليه فاعلم ذلك والله يتولى هداك (1/146)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين ] ] . وروى البخاري مرفوعا : [ [ المملوك الذي يحسن عبادة ربه ويؤدي إلى سيده الذي عليه من الحق والنصيحة والطاعة له أجران ] ] . وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ ثلاثة لهم أجران : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه و سلم والعبد المملوك إذا أدى حق الله تعالى وحق مواليه ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ] ] . وروى الشيخان مرفوعا : [ [ للعبد المملوك المصلح أجران . وكان أبو هريرة يقول : والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ أن عبدا أطاع الله تعالى وأطاع مواليه أدخله الله الجنة قبل مواليه بسبعين خريفا فيقول السيد رب هذا كان عبدي في الدنيا قال : جازيته بعمله وجازيتك بعملك ] ] . وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ إن عبدا أدخل الجنة فرأى عبده فوق درجته فقال : يا رب هذا عبدي فوق درجتي ؟ قال : السيد رب هذا كان عبدي في الدنيا قال : جازيته بعمله وجازيتك بعملك ] ] . وروى الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ عرض علي أول ثلاث يدخلون الجنة : شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح مواليه ] ] . وروى الترمذي والطبراني مرفوعا : [ [ ثلاثة على كثبان المسك أراه قال يوم القيامة عبد أدى حق الله وحق مواليه ] ] . وفي رواية : [ [ ثلاثة لا يهولهم الفزع الأكبر ولا ينالهم الحساب وهم على كثيب من مسك حتى يفرغ من حساب الخلائق فذكر منهم : وعبد أحسن فيما بينه وبين ربه وفيما بينه وبين مواليه ] ] . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ أول سابق إلى الجنة مملوك أطاع الله وأطاع مواليه ] ] . والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نعظ كل عبد غضب من سيده ونرغبه في أداء حق الله وحق مواليه كما نعظ سيده ونأمره أن يرفق به عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يغرغر ويقول : الصلاة وما ملكت أيمانكم . فلولا أن الإحسان إلى الأرقاء أمر عظيم ما قرنه صلى الله عليه و سلم التي هي عماد الدين . واعلم يا أخي أنك لو أحسنت إلى عبدك مدى الدهر لا تقوم بواجب حق عبدك عليك لأنه بالأصالة إنما هو عبد الله كما أنك عبده فإحسانك إليه يصحبه شهود المنة عليه ولا هكذا إحسان عبدك إليك فأجره موفر للدار الآخرة بخلاف أجرك وهنا أسرار يعرفها أهل الله تعالى لا تسطر في كتاب . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا ينبغي للفقراء أن يروا لهم ملكا لشيء من الوجود لا عبدا ولا أمة ولا دابة كما كان صلى الله عليه و سلم وكمل ورثته يفعلون وكان كل عبد دخل في يدهم أعتقوه لوقته فهم يستحيون من الله تعالى أن يراهم يستعبدون أحدا من الخلق ويجعلون عبيد سيدهم عبيدا لهم فإن ذلك عندهم من أعلى طبقات سوء الأدب ومن هنا كانوا عبيد الله خالصين لم يسترقهم شيء من مملكة الدارين ولو أعطاهم الحق تعالى شيئا قبلوه أدبا ثم خرجوا عنه في الحال لربهم حياء منه أن يراهم مشاركين له في وصف من الأوصاف فليس فرحهم سوى إقبال الحق عليهم وليس حزنهم إلا على إدبارهم عنه لا غير فسواء أقطعهم الجنة كلها أو لم يقطعهم منها هو عندهم سواء لعدم شهودهم دخول شيء من الكونين في ملكهم وشكرهم لله تعالى إنما هو من حيث النسب لا غير فافهم ذلك فإنه نفيس جدا ويؤيد ما قلناه من عدم ملك العبد مع ربه حديث : [ [ لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي ] ] . وبالجملة فليس في الدارين نعيم أكبر من نعيم مجالسة الحق تعالى ولذلك ورد : ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها . وذلك لأنهم لا يجالسون الله تعالى في الجنة إلا بقدر مجالستهم له في ذكره في دار الدنيا وإن كانت في الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا فمجالسة الحق في دار الدنيا كالنواة الكامل فيها أغصان وورق وثمار فربما تكون الذرة من مجالسة العبد لربه في الدنيا تضعف له في الآخرة ألف وألف ضعف أو أكثر أبد الآبدين . و { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } . والله أعلم . فيحتاج العامل بهذا العهد إلى شيخ يرشده إلى مشاهد الرجال في ذلك . { والله عليم حكيم } (1/147)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنفذ الله بكل عضوا منه عضوا من النار ] ] . ولما سمع بذلك علي بن الحسين رضي الله عنه بادر إلى عبد أعطى فيه عشرة آلاف درهم أو ألف دينار فأعتقه . وفي رواية للشيخين مرفوعا : [ [ من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه ] ] . وروى الترمذي وابن ماجه مرفوعا : [ [ أيما امرئ مسلم أعتق امرئ مسلما كان فكاكه من النار يجزئ كل عضو منه عضو منه وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزئ كل عضو منهما عضو منه ] ] . وفي رواية للإمام أحمد بإسناد حسن صحيح وأبي داود والنسائي مرفوعا : [ [ من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار ] ] . ولفظ رواية الحاكم وقال صحيح الإسناد : [ [ من أعتق رقبة فك الله بكل عضو من أعضائه عضوا من أعضائه من النار ] ] . والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب كل غني عنده عبيد أو مال في العتق لا سيما إن كان كثير الذنوب كالحكام وحاشيتهم وقضاة الأرياف الذين يتهورن في الأحكام فاعلم أن الفقير لا يطالب بعتق العبيد ولكن قد جعل الله تعالى للفقراء ما هو كعتق رقبة منه ما روي في الصحيح : [ [ أن من قال كل يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كعدل رقبة يعتقها من ولد إسماعيل ومن قالها مائة مرة كان كعدل عشر رقاب ] ] . وورد أيضا : من قال كل يوم اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الذي لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك مرة واحدة عتق ربعه من النار فإن قالها مرتين عتق نصفه فإن قالها ثلاثا عتق ثلاثة أرباعه فإن قالها أربع مرات عتق كله . والأحاديث فيما هو كعدل رقبة أو رقاب من الأعمال كثيرة مشهورة لمن تتبعها في السنة . والله تعالى أعلم (1/148)
- روى الطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا عن الله عز و جل قال : [ [ النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه ] ] . وروى الإمام أحمد مرفوعا : [ [ ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوته في قلبه ] ] . ولفظ الطبراني : [ [ ما من مسلم ينظر إلى امرأة أول رمقة ] ] . قال البيهقي : والمراد أن يقع بصره على المرأة من غير قصد فيصرف بصره عنها تورعا لا أنه يقصد النظر إليها أولا . وروى الأصبهاني مرفوعا : [ [ كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله ] ] . وفي رواية للطبراني مرفوعا : ثلاثة لا ترى أعينهم النار فذكر منهم وعين كفت عن محارم الله . وروى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة فذكر منها : وغضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم ] ] . وروى مسلم عن جرير قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن نظر الفجأة فقال اصرف بصرك . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نغض بصرنا عن رؤية كل ما نهانا الله تعالى عن النظر إليه من مستحسنات الدنيا المحسوسة والمعنوية وأن نروض نفوسنا قبل الغض بالجوع ونحوه حتى يصير غض البصر مما تعطيه سجيتنا لا نتكلف له
ويحتاج من يريد ذلك إلى السلوك على يد شيخ ناصح . وقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم مع كمالهم وتمكنهم يجعلون على رؤوسهم الطيلسان ويرخون حاشية الرداء على أعينهم حتى يكون بصرهم مكفوفا فلا يرون إلا مواقع الأقدام وبعضهم كان يلبس البرنس صيفا وشتاء منهم أنس بن مالك رضي الله عنه . وكان يقول إنه يكف البصر عن فضول النظر وتبعهم على ذلك سادات الصوفية وأمروا به مريديهم إذا خرجوا إلى السوق حتى يرجعوا وللشيخ جلال الدين السيوطي في ذلك مؤلف سماه الأحاديث الحسان فيما ورد في الطيلسان . وقد خرج شخص من مريدي سيدي مدين مرة بغير طيلسان فرأى جرة خمر فكسرها فهجره سيدي مدين فقيل له في ذلك فقال : إني لم أهجره من أجل كسر جرة الخمر وإنما هجرته من جهة تعاطيه أسباب فضول النظر وعدم خروجه إلى السوق بالطيلسان فعرض نفسه لأمر قد يعجز عنه ولو أنه خرج من بطيلسان أو غض بصره لما وقع بصره على محرم
ويتعين فعل ما ذكرناه اليوم من غض البصر على فقراء الزاوية لعدم ضبطهم على امتثال أمر الله لهم بغض البصر فإذا لبسوا الطيلسان رد بصرهم قهرا ويصير ينبههم على الكف حين يحتاجون لرفع الرأس ويتكلفون لرفعه بخلاف ما إذا تركوا الطيلسان فإنه يسهل عليهم الالتفات إلى طبقات البيوت وغيرها
وسيأتي في عهود المنهيات في معنى حديث : وكانت خطيئة أخي داود عليه السلام النظر أن المراد بالخطيئة كونه رفع بصره عليه السلام بغير حضور وذلك لأن الأكابر مكلفون بأن لا يقع منهم حركة ولا سكون إلا بعد حضور مع الله ومراقبة له فكانت الخطيئة عين الرفع مع الغفلة لا عين النظر إلى امرأة أو رياء كما قيل لأن الأنبياء معصومون عن الوقوع في النظر المحرم ولو فجأة لعكوفهم بقلوبهم في حضرة الإحسان فلا يقع منهم خطيئة لا سهوا ولا عمدا . وأيضا فإنهم مشرعون لأممهم في جميع الحركات والسكنات فلو صح في حقهم الوقوع في معصية ما لصدق عليهم تشريع المعاصي ولا قائل بذلك من المسلمين فكانت ذنوبهم صورية ليروا من وقع من أممهم في خطيئة كيف يفعل وقد بكى داود حتى نبت العشب من دموعه تعظيما لحرمات الله تعالى على أن قومه يفعلونها فكان بكاؤه صلى الله عليه و سلم إنما هو من باب شفقته على قومه كما كان صلى الله عليه و سلم يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة وقال : إنه ليغان على قلبي . يعني مما ستقع فيه أمتي بعدي هكذا كان سيدي علي الخواص يقول لنا في معنى استغفار المعصومين وقال جميع ما ذكر عن الأنبياء مما يخالف هذا إنما أخذه الناس من كتب اليهود الذين كذبهم الله تعالى في وجوههم ولم يأتنا ذلك في كتاب ولا سنة وإنما جاء الأمر مجملا والأنبياء من مقامهم العكوف في حضرة الإحسان التي منها حفظ من حفظ من الأولياء الذين دخلوا حضرة الإحسان
فاسلك يا أخي على يد شيخ ناصح ليدلك على دخول الحضرة التي تحفظ منها جوارحك عن الوقوع في شيء من المعاصي ولا يصير لها قط شهوة إلى معصية وإلا فمن لازمك الوقوع حتى لا يكاد يسلم لك عضو واحد من أعضائك من المعصية والله يتولى هداك
وسمعت سيدي عليا الخواص يقول : مراتب شهود الأكابر أن لا يروا شيئا إلا ويرون الله تعالى قبله فيكون الحق تعالى حاجبا لهم عن الأكوان ومثل هؤلاء لا يؤمرون بغض النظر كالغير وإنما يغضون أبصارهم حياء من الله تعالى وإجلالا له . قال ومشهد من دونهم أن لا يروا شيئا إلا ويرون الحق تعالى معه فيشهدون الحق مع الخلق مع الفرق بين العبد والرب ومشهد أصحاب الفكر من العلماء أن لا يشهدوا شيئا إلا ويرون الله بعده لأن الأكوان أمارات على القدرة الإلهية والصنعة تدل على الصانع بيقين
وسمعت أخي أفضل الدين يقول : من شهد الخلق مع الحق معا فهو الكامل الذي لا أكمل منه خلاف قول الجنيد وغيره من شهد الخلق لم ير الحق ومن شهد الحق لم ير الخلق . قلت : وقول أخي أفضل الدين هو الحق لا سيما والرسول مكلف برعاية أمته ليلا ونهارا من حيث الأمر والنهي ومعظم رسالته إنما هو لأجلهم إذا كان شهود الحق تعالى حاجبا له عن الكون فلمن يأمر وينهى ولمن يخاطب بالتكاليف وفيمن يجاهد بالسيف فتأمل . فقد علمت يا أخي أن كراهة عدم غض البصر إنما هو في حق من يورثه ذلك محظورا لا في حق أهل الله تعالى المتقدم ذكرهم . والله تعالى أعلم (1/149)
- روى الشيخان واللفظ لهما وأبو داود والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإن أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ] ] . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر ] ] . يعني اللائى يعففنه عن النظر إلى الأجانب . وروى الترمذي مرفوعا وقال حديث حسن : [ [ أربع من سنن المرسلين الحناء والتعطر والسواك والنكاح ] ] . وفي بعض الروايات : والحياء بالياء ودون النون . وروى البيهقي مرفوعا : [ [ إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي ] ] . وروى الترمذي وقال حسن صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم مرفوعا : [ [ ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف ] ] . وروى الطبراني والبيهقي مرسلا بإسناد حسن : [ [ من كان موسرا وهو محتاج لأن ينكح فلم ينكح فليس مني ] ] . وروى الشيخان وغيرهما : في خبر الثلاثة الذين قال أحدهم أما أنا فأعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم لكني أصلي وأرقد وأصوم أفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نختار التزويج على العزوبة ولو كنا في عبادة ليلا ونهارا ونعين من طلب التزويج جهدنا وذلك لأن عبادة العازب ناقصة وإنما مدح الله تعالى السيد يحيى عليه السلام بالعزوبة بقوله : وسيدا وحصورا . لأن مقامه أعطى ذلك فخرج عن الشهوة الغالبة على البشر . وقال الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله : لم تكن العزوبة مقصودة ليحيى عليه السلام وإنما ذلك لأن زكريا كان يعجبه حال مريم عليها السلام كلما دخل عليها من حيث أنها كانت بتولا أي منقطعة عن الأزواج فلما استفرغ وسعه في ذلك خرج ولده يحيى كذلك فما هي صفة كمال في نفس الأمر بدليل أن الله تعالى أثنى على الرسل بالتزويج في قوله تعالى : { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية }
وكم يقع العازب في فاحشة ويستره الله وكم تخطر في باله الفاحشة ويحميه الله وكم يصلي صلاة وجارحته منتشرة في حال الصلاة وكم يسيء الناس ظنهم به وكم يمنعونه عن السكنى بين النساء في الربوع وغيرها ولو أنه تزوج لكان أعف نفسه عن مثل ذلك ومن هنا ورد : من غسل واغتسل ثم أتى الجمعة . أي أتى زوجته قبل أن يحضر لصلاة الجمعة خوفا أن يخطر في باله وهو بين يدي الله عز و جل الجماع ولو حلالا في تلك الحضرة الخاصة والجمع العظيم فإذا جامع زوجته وخرج للجمعة أمن من ذلك
ومن فوائد التزويج أنه ينشط الكسلان للمكسب الحلال بالأصالة وإن وقع بسببه في الكسب الحرام فليس ذلك بالأصالة وإنما هو بالعرض
وقد حكى لي شيخا رضي الله عنه : أن شخصا كان يتعبد في زاوية ويأكل من صدقات الناس وأوساخهم وكان كثير التزويج فكانت كل امرأة تزوجها لا تقيم معه إلا نحو يومين أو ثلاثة أو جمعة ثم يطلقها حين تطلب النفقة فخطب امرأة صاحبة عقل فنصحها الناس عنه فقالت تزوجته وتوكلت على الله فلما كان اليوم الثاني من دخوله بها قالت له يا رجل أما تخرج تكتسب للأولاد شيئا ؟ فقال ما أعرف صنعة فقالت له خذ هذه الحلقة الذهب وبعها واشتر بها لنا فولا فاشترى به نحو ثلاثة أرادب فشرعت تنقي هي وإياه ثم بلته بالماء إلى اليوم الثاني ثم سلقته وقالت أخرج بعه وقل يا صباح العافية فما زال يبيع إلى قريب الظهر ثم جعلت الباقي مقيلي وقالت أخرج به بمشاق أو نخالة أو بخبز ولا تتوقف فما فرغ لنصف العصر فلقيه بعض إخوانه بعد جمعة وقال قد تعجبنا من إقامة هذه المرأة معك هذه المدة فقال : والله ما أنا فارغ أطلق فإني إلى الظهر في الفول الحار وإلى نصف العصر في المقيلي
واعلم أن الله تعالى قال : { الرجال قوامون على النساء } . ففضل الرجال على النساء بذلك فمن لا كسب له فهو والمرأة سواء في الدرجة . وانظر يا أخي إلى إيجار السيد موسى عليه السلام نفسه عشر سنين في تحصيل مهر امرأة تعرف مقدار التزويج
وقال لي بعض فقراء العصر وقع لي أني أمرت بعض الفقراء المتعبدين عندي في الزاوية بالتزويج فقال لا حاجة لي بذلك فغلبته نفسه فوقع في الزنا فتزوج يا عازب واسع سعي الرجال فلأن تتزوج وتسأل الناس وتكتسب بنصب وتعب خير لك من أن تأتي يوم القيامة زانيا أو محشورا مع قوم لوط ولو كنت على عبادة الثقلين
ومن القواعد أن السلامة مقدمة على الغنيمة وقول بعض الفقراء في هذا الزمان أن العزوبة مقدمة على التزويج إنما ذلك في حق من لم يخف على نفسه العنت أما من يخاف العنت فالتزويج مطلوب له بالإجماع وقد ورد : شراركم عزابكم وورد : خيركم بعد المائتين الخفيف الحاذ . وهو الذي لا أهل له ولا زوجة . وهما محمولان على ما قررناه
وكان سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول لمن شاوره في التزويج وليس له كسب شاور يا أخي غيري أتريد مني أن أعلمك سرقة العمائم ؟
فتلخص من جميع ذلك أن صفة التزويج أولى من صفة العزوبة بكل حال لأجل النسل والإعفاف . { والله عليم حكيم } (1/150)
- وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح والبزار أبو يعلي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ تنكح المرأة على إحدى خصال لجماها ومالها وخلقها ودينها فعليك بذات الدين والخلق تربت يمينك ] ] . وفي رواية للشيخين وغيرهما مرفوعا : [ [ تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ] ] . قال الحافظ عبدالعظيم وقوله تربت يداك كلمة معناه الحث والتحريض وقيل هي كلمة دعاء عليه بالفقر وقيل بكثرة المال واللفظ مشترك بينهما قابل لكل منهما والثاني هنا أظهر ومعناه أظفر بذات الدين ولا تلتفت إلى المال أكثر الله مالك . وروى الأول عن الزهري أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما قال له ذلك لأنه رأى الفقر خيرا له من الغنى . والله تعالى أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه و سلم . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلا ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقرا ومن تزوجها لحسنها لم يزده الله إلا دناءة ومن تزوج امرأة لم يرد بها إلا أن يغض بصره ويحصن فرجه أو يصل رحمه بارك الله له فيها وبارك لها فيه ] ] . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهم أن تطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين ولأمة جذماء سوداء ذات دين أفضل ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نختار ذات الدين الشوهاء على الجميلة الفاسقة عند فقد ذات الدين الجميلة وهذا العهد يخل بالعمل به غالب الناس حتى بعض من ينسب إلى العلم والصلاح لإيثارهم الدنيا على الآخرة وفي الحديث : لو تعلمون ما أعلم ما تلذذتم بالنساء على الفرش . والقاعدة عند الله تعالى أن يكون نومهم ضرورة وأكلهم ضرورة ولبسهم ضرورة وجماعهم ضرورة أما عند غلبة شهوتهم عليهم أو غلبة شهوة عيالهم عليهم ومن أتى الجماع عند الضرورة كفاه الله جارية سوداء كما اكتفى الإمام الشافعي بالجارية وكان اسمها بلاغا وكانوا إذا طلبوه لتزويج المنعمات يقول ما لي فراغ إلى الاستمتاع بهن ثم يقول إن في بلاغ لبلاغا . واعلم يا أخي أن من أكبر الفسق الذي تقع فيه امرأة تركها الصلاة وعدم الغسل من الجنابة كلما يقع لها جنابة فيصير الإنسان يضاجعها وهي جنب ساخط عليها ربها ومذهب الإمام أحمد رضي الله عنه أنها مرتدة لا يجوز نكاحها وأولادها من زنا على قاعدة الشريعة : فابحث يا أخي على دين المرأة وحسن خلقها ولا يضرك ما فاتك بعد ذلك عكس ما عليه غالب الناس اليوم فترى أحدهم يسأل عن حسنها وعن مالها فقط وما عليه من دينها بل يصير يقبلها ويعانقها كما تفعل الأمة مع سيدها مع أنها مرتدة مراقة الدم إن لم تتب وذلك في غاية الجهل والتهوير ولذلك يكون عاقبة أحدهم وخيمة من الفراق والشكاوى حين يريد أن يأخذ شيء من حوائجها ليرهنه أو يبيعه لينفقه بل رأيت بعض الشباب تزوج عجوزا ذات مال وصار يخدمها وينتظر موتها ليرثها فلم تمت فطلقها بعد اثنتي عشرة سنة وكان يقول كلما أقرب منها يحصل لي في بدني الأذى كأنني أشرب سما وهذا كله لا ينبغي لمؤمن أن يفعله لا سيما من كان مشهورا بالعلم والصلاح وقد قالوا من ادعى طريق الفقراء واسترقته شهوة من شهوات الدنيا فهو كاذب في دعواه . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/151)
- روى أبو داود واللفظ له والحاكم وقال صحيح الإسناد والنسائي : [ [ أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال إلا أنها لا تلد أفأتزوجها ؟ فنهاه ثم أتاه الثانية فقال له مثل ذلك ؟ ثم أتاه الثالثة فقال : تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ] ] . وروى البيهقي أن عمر رضي الله عنه كان يقول : حصير في بيت خير من امرأة لم تلد . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نختار تزويج الودود الولود على الجافية الطبع العجوز من حيث إن تزويج الولود الودود أشرح للخاطر لما فيه فتح باب الشكر لله عز و جل وارتباط القلب بها من حيث أولادها ولا هكذا العجوز الجافية فإن من تزوجها ربما سخط على مقدور ربه عز و جل لنفرة الخاطر منها وربما ولدت الجافية ولدا فجاء نصف الخلق ضعيفا لضعف الداعية بخلاف الودود يستخرج بحسن ملاعبتها وحلاوة كلامها المني الكثير من جميع مكامنه فتنزل النطفة عزيرة [ غزيرة ؟ ؟ ] فيأتي الولد ضخم الخلق حسن الوجه جميل الأخلاق على صورة ما كان أبواه عليه حال الوقاع بإذن الله تعالى . وبالجملة فلا تجد أحدا يختار خلاف ما اختار له الشارع صلى الله عليه و سلم إلا لعلة دنيوية اللهم إلا أن يكون في مقام رياضة النفس فهذا له حكم آخر . وقد كان بعضهم يتزوج كل امرأة رآها شوهاء ويصبر عليها ويقول : أنا أحق بها من غيري فأحملها عن إخواني المسلمين وكان بعضهم يختار شراء العبد القوي الرأس أو الدابة البطيئة السير ويصبر عليها . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : قل أحد الأولياء إلا وهو تحت حكم امرأته تؤذيه بلسانها وبأفعالها إما أن يكون ذلك لمشاكلها لنفسه وإما أن يكون ذلك اختبارا منه ليحمل أذاها عن غيره ممن يتزوجها . وأخبرني شيخنا نور الدين الشوني شيخ مجلس الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم بمصر وقراها أنه جاور عند سيدي عثمان الحطاب بمصر فخرج يتوضأ في ليلة باردة فوجد شخصا ملفوفا في نخ ؟ ؟ حلفاء قال : فحركته برجلي وقلت له من أنت ؟ فقال عثمان فقلت يا سيدي مالك نائم هنا فقال أخرجتني أم أحمد من البيت . وكذلك رأيت زوجة سيدي الشيخ محمد بن أبي الحمايل السروي تشتمه وتخرجه عن طريق الفقر ويخاف منها ورأته مرة وهو طائر في الليل مع الطيارة فقالت : انظروا عرصته أيش قام عليه بطيران وكانت زوجة سيدي علي الخواص تهجره الثلاثة أشهر وأكثر وهجرته شهرا لكونه سقى دجاجها من الماء المكشوف وغلط مرة فشرب من قلتها فحكت موضع فمه بشقفة حتى لا تضع فمها موضع فمه وسافر بها إلى الحجاز وهي هاجرة له فسافر بها من مصر ورجع من غير أن يقع بينها وبينه كلام ثم لما ماتت تبعها براية بيضاء أمام نعشها مع أنه أخبرني في مرض موتها بأن له سبعا وخمسين سنة من حين دخل بها لم ينم معها ليلة واحدة وهما مصطلحان فمثل هؤلاء لهم مقاصد صحيحة فينبغي التسليم لهم فيمن يتزوجونه من العجائز والشوهات والسيآت الخلق : و { الله عليم حكيم } (1/152)
- روى الطبراني وغيره مرفوعا : [ [ أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زان ] ]
وروى الشيخان مرفوعا : [ [ كلكم راع ومسؤول عن رعيته والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ] ]
وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ أكمل المؤمنين إيمانا خلقا خياركم لنسائهم ] ] . وفي رواية للترمذي والحاكم مرفوعا : [ [ إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ خياركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إن المرأة خلقت من ضلع فإن أقمتها كسرتها فدارها تعش بها ] ] . قلت : والمداراة تكون بإسقاط جزء من الدنيا والمداهنة تكون بإسقاط شطر من الدين فالمداراة مستحبة والمداهنة حرام في حرام ومكروه في مكروه . والله أعلم : وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء ] ] . وفي رواية لمسلم مرفوعا : [ [ إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ] ] . والضلع : بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام أفصح من سكونها والعوج : بكسر العين وفتح الواو وقيل إذا كان فيما هو منتصب كالحائط والعصا يقال فيه عوج بفتح العين والواو وفي غير المنتصب كالدين والخلق والأرض ونحو ذلك يقال فيه عوج بكسر العين وفتح الواو قاله ابن السكيت
وروى مسلم مرفوعا : [ [ لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر ] ] . ومعنى يفرك يبغض وهو بسكون الفاء وفتح الياء والراء وضم الراء شاذ : وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه : أن معاوية بن حيدة قال : يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذ طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت . ومعنى لا تقبح : أي لا تسمعها المكروه بأن تشتمها وتقول قبحك الله ونحو ذلك
وروى ابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح مرفوعا : [ [ ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهم سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ] ] . وقوله عوان : أي أسيرات ومنه فك العاني
وروى ابن ماجه والترمذي والحاكم مرفوعا : [ [ أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إذا صلت المرأة خمسها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت ] ]
وروى البزار بإسناد حسن والحاكم : [ [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله أي الناس أعظم حقا على المرأة ؟ قال زوجها : قلت أي الناس أعظم حقا على المرأة ؟ قال زوجها : قلت فأي الناس أعظم حقا على الرجل ؟ قال أمه ] ]
وروى البزار بإسناد جيد وابن حبان في صحيحه : [ [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم بابنته فقال : إن ابنتي هذه أبت أن تتزوج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أطيعي أباك فقالت : والذي بعثك بالحق لا أتزوج حتى تخبرني ما حق الزوج على زوجته قال : حق الزوج على زوجته لو كان به قرحة فلحستها أو انتثر منخره صديدا أو دما ثم ابتلعته ما أدت حقه ؟ قالت : والذي بعثك بالحق لا أتزوج أبدا ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا تنكحوهن إلا بإذنهن ] ] . وفي رواية لابن ماجه وابن حبان في صحيحه في قصة أخرى : فقالت : والذي بعثك بالحق لا أتزوج ما بقيت الدنيا
وروى أبو داود مرفوعا : [ [ لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن والذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ] ] . زاد في رواية ابن ماجه : ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه
وروى ابن ماجه مرفوعا : لو أن رجلا أمر امرأته أن تنتقل من جبل أحمر إلى جبل أسود أو من جبل أسود إلى جبل أحمر لكان عليلها ؟ ؟ أن تفعل
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ ألا أخبركم بنسائكم في الجنة ؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : كل ودود ولود إذا غضبت أو أسيء عليها أو غضب زوجها قالت : هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى ] ]
وروى النسائي والبزار مرفوعا : [ [ لا ينظر الله تعالى إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن والنسائي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على تنور ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكون رحمة بين العباد وميزان عدالة بين الناس لا نحيف على واحد دون آخر فنرغب مثلا الزوج في الوفاء بحق زوجته وحسن عشرتها ونرغب المرأة في الوفاء بحق زوجها وطاعته وعدم مخالفته ونتلو على كل واحد منهما ما ورد في ذلك في حقه عن الشارع صلى الله عليه و سلم وهذا العهد قل من يعمل به الآن لأمور يطول شرحها وأولى الناس بالعمل به حملة القرآن والعلم لإطلاعهم على ما ورد في ذلك بخلاف العوام والظلمة فإن أكثرهم لا يكاد يعرف أصول الدين فضلا عن فروعه وينبغي للفقيه إذ وعظ النساء والرجال أن يذكر لكل فريق ما عليه من الحق للآخر
وقد دخل الأمير محيي الدين بن أبي أصبغ أحد أركان الدولة بمصر المحروسة يوما فرأى قارئ البخاري لعياله في البيت يقرأ عليهن حقهن على الزوج فقال له يا أعمى القلب اذكر لهن ما عليهن من حق الزوج أولا لأننا لا نطيقهن من جهلهن بما لهن علينا من الحق فكيف نطيقهن إذا عرفن الحقوق التي لهن علينا ؟ فإياك يا أخي إذا عرفت العلم أن تتخذه سلاحا تقاتل به كل من له عليك حق فإن ذلك حق أريد به باطل وربما عملت يا أخي بالأقوال التي ليست في مذهبك وخاصمت بها زوجتك وظفرت عليها بالحجج حتى تقهرها وتظهر للناس أنها ظالمة والحال بخلاف ذلك والناقد بصير
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يبين له طرق السياسة وتمهيدها لكل خصم حتى يكون كل منهما يبادر إلى إعطاء ما عليه من الحق لما لنفسه من الحظ والمصلحة فإن من لم يعرف طرق السياسة ربما نسبوه إلى غرض وخاصمه أحد الخصمين وأخرجه عن كونه ميزان عدالة
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : أخلاق الزوجة على صورة أخلاق الرجل في نفسه لأنها منه خلقت فمن جهل شيئا من أخلاقه فلينظر إلى أخلاق زوجته فإنها تغمز عليه فإن أردت يا أخي استقامة زوجتك في الأخلاق فاستقم مع الله فيما بينك وبينه قال وهذا أمر قد أغفله الناس فصاروا يشكون من أخلاق زوجاتهم ولا ينتبهون لنفوسهم ولو أنهم عرفوا ما قلناه لرجعوا لنفوسهم فاستقاموا في أخلاقها فاستقامت أخلاق نسائهم . وقد جربت أن ؟ ؟ وزوجتي أم عبدالرحمن رضي الله عنه في أخلاقها فلا أتعوج في عمل ظاهر أو باطن ؟ ؟ إلا ؟ ؟ وتتعوج على في أخلاقها قهرا عليها مع أنها ذات خلق حسن وربما أكون معها في أحسن ما يكون من حسن العشرة فيخطر في بالي فعل شيء من الشهوات فتتغير في المجلس قهرا فأعرف سبب ذلك فأرجع عنه فترجع في الحال
وفي رسالة القشيري عن الفضيل بن عياض : أنه كان يقول : إني لأعصي الله تعالى فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي وزوجتي فإذا استغفرت وندمت زال ذلك الخلق السيئ فأعرف قبول التوبة وكثيرا ما كنت أستغفر وأندم فيدوم الحمار على شموسه والعبد والزوجة على مخالفة ما آمرهم به فأعرف أن توبتي لم تقبل
ففتش يا أخي نفسك في الأخلاق السيئة قبل أن تشكو من زوجتك وكذلك المرأة ينبغي لها أن تفتش نفسها ثم تشكو من زوجها
ثم إن ما ذكرناه من هذه القاعدة هو الغالب في الناس وقد يكون بعض الأولياء تقيما في الباطن ويبتلي بزوجته وبأصحابه وغيرهم اختبارا له وتحملا عن غيره من الناس فربما كان غيره يتزوج تلك الزوجة فلا يتحمل أذاها . { والله غفور رحيم } (1/153)
- روى مسلم مرفوعا : [ [ دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك ] ] . وفي رواية لمسلم والترمذي : [ [ أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله ] ] . قال أبو قلابة : بدأ بالعيال ثم قال أبو قلابة وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار ؟ يعفهم الله أو ينفعهم الله به ويغنيهم
وروى ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه والترمذي مرفوعا : [ [ عرض على أول ثلاثة يدخلون الجنة فذكر منهم : وعفيف متعفف ذو عيال ] ]
وروى الشيخان : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لسعد بن أبي وقاص : وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك [ أي في فمها . دار الحديث ]
وروى الإمام أحمد بإسناد جيد مرفوعا : [ [ ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة ] ]
وروى الطبراني وغيره مرفوعا : [ [ وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك ] ] . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ ما أنفق المرء على نفسه وأهله وذوي رحمه وقرابته فهو له صدقة ] ]
وروى الدارقطني والحاكم وصحح إسناده مرفوعا : [ [ وما وقى المرء به عرضه ؟ فقال : هو ما يعطي للشاعر وذي اللسان المتقى ] ]
وروى البزار مرفوعا : [ [ إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤونة وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ أول ما يوضع في ميزان العبد نفقته على أهله ] ]
وروى الإمام أحمد والطبراني مرفوعا : [ [ إن الرجل إذا سقى امرأته من الماء أجر ] ]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفه ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا ] ] . قال الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله والمراد بالتلف فيمن أمسك أن يتلف ذلك بالإنفاق في سبيل الله لأن الملك من عالم الخير فكأنه سأل الله تعالى أن الممسك ينفق ماله في سبيل الله كالسخي ولا يشح به إلا بطريق شرعي . والله أعلم
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ من ابتلى من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار ] ]
وروى مسلم والترمذي مرفوعا : [ [ من عال على جاريتين حتى يبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه ] ] . وفي رواية للترمذي مرفوعا : [ [ من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين وأشار بأصابعه ] ] . يعني السبابة والتي تليها كما في رواية ابن حبان في صحيحه
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة ] ]
وروى البزار والطبراني مرفوعا : [ [ من سعى على ثلاث بنات فهو في الجنة وكأن له كأجر مجاهد في سبيل الله صائما قائما ] ] . زاد في رواية فقالت له امرأة وثنتان ؟ قال : وثنتان . وشواهده كثيرة . وفي رواية للترمذي وأبي داود مرفوعا : [ [ من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن دخل الجنة ] ]
وروى أبو داود والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده الذكور عليها أدخله الله الجنة ] ] . ومعنى لم يئدها : أي لم يدفنها حية وكانوا يدفنون البنات أحياء ومنه قوله تعالى : { وإذا الموؤودة سئلت } . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ننفق على زوجاتنا وعيالنا وبناتنا ونؤدبهن ونصبر عليهن ونقدم في النفقة من أمرنا الشارع بتقديمه لكن أمر الشارع لنا بالإنفاق إنما بالإنفاق إنما يكون بشرط وجود ما تنفقه من وجه حلال فإن لم نجد ذلك من وجه حلال خيرنا في الإقامة مع عدم تكلفينا عيالنا بذلك أو في الفراق أو في الرضا بالخبز الحاف من غير أدم فمن أجاب فهو منا ومن عصى فليس منا ولسنا منه
ويحتاج العامل بهذا العهد إلى صبر شديد هو وعياله وأولاده كما كان أهل بيت النبوة في حال حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإلا فمن لازم كل منهم السخط على المقدور وعدم الرضا بما قسمه الله له وقد قل في هذا الزمان المكاسب ولو من شبهات وصار المتاجر فضلا عن غيره لا يعمل بالقوت إلا بمعاينة أسباب الموت
ثم اعلم أن من الناس من لم يقسم الله تعالى له ولعياله رزقا إلا من الوظائف على طريقة فقهاء الزمان فتأنف نفس ذلك المعيل أن يباشر تلك الوظائف إما تكبرا وإما خوفا أن يقول الناس فيه إنه دنيوي كما يقع لبعض المعتقد فيهم بل رأيت بعضهم لم يباشر وظيفته كذا وكذا سنة وطلب من الناظر أن يصرف له معلومها فأبى إلا أن يباشرها فسلط عليه جماعة من ذوي اللسان واشتكوا الناظر وحبسوه كأنه هو الجاني وأعرف جماعة لا يسألون الناس مع حاجاتهم وإن أعطوهم شيئا ردوه بحضرة الناس ويأكلون معلوم وظائفهم من غير مباشرة مع أنهم يفتون بتحريم ذلك في حق غيرهم وهذا كله من الجهل وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ ليس المعطي بأفضل من السائل إذا كان محتاجا ] ]
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : اسع على عيالك ليلا ونهارا ولو سماك الناس دنيويا فإنه خير من أن يسموك صالحا وأنت تأكل صدقاتهم وأوساخهم وناظر لما في أيديهم وكل من لم يعطك شيئا تصير تكرهه مع أن تلك الكراهة من غير حق
وقد رأى سيدي علي الخواص مرة شخصا من مشايخ العصر كان يتجر في البز والقماش فترك ذلك وعمل شيخا فقال له أرجع إلى حالتك الأولى فإنها أرجح لك وأطهر لقلبك فلم يسمع فدعا الشيخ عليه بمحبة الدنيا وحرمانه منها فصار بعد شهر كذلك فلا هو يترك الدنيا ولا يقدر على أن يأكل منها ولا يتصدق منها ولا ينفق على عياله فتلف بالكلية لمخالفته الإشارة وبلغني أن له الآن كل سفرة نحو خمسة عشر ألف دينار في بلاد التكرور وفي بلاد الشام وفي الحجاز وقد قالوا : أقبح من كل قبيح صوفي شحيح
فاعمل يا أخي على تحصيل النفقة عليك وعلى عيالك كل يوم بيوم ولا تدخر شيئا إلا لعذر شرعي . والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه . والله تعالى أعلم
وقد تقدم في كتاب الصدقات الترغيب في النفقة على الزوج والأقارب وتقدمهم على غيرهم (1/154)
- روى أبو داود وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم . قلت : قال بعض العلماء : ليس كل الناس يدعى بأبيه يوم القيامة وإنما ذلك خاص بمن ليس له ذنب يفتضح به أما من له ذنب يفتضح به فينادى باسم أمه سترا له ] ] . والله أعلم . وروى مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه مرفوعا : [ [ أحب الأسماء إلى الله ما عبد وحمد ] ] . وفي رواية : [ [ أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن ] ] . وروى أبو داود والنسائي مرفوعا : [ [ تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله تعالى عبدالله وعبدالرحمن وأصدقها حارث وهمام ] ] . أي لأن الحارث هو الكاسب والهمام هو الذي يهم مرة بعد أخرى وكل إنسان لا ينفك عن هذين الأمرين . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نسمى أولادنا بالأسماء الحسنة ونرشد جميع إخواننا إلى ذلك ونمنع بعضهم من تسمية ميخائيل وغبريان ونحوهما كشموال من حيث كونها صارت من أسماء اليهود والنصارى كما نمنع المسلم من لبس العمامة الصفراء والزرقاء من حيث كونهما صارا شعارا لأهل الكتابين ويؤيد ذلك حديث : من تشبه بقوم فهو منهم . ونمنع بعضهم من تسمية بأسماء الله تعالى كنافع ومالك ومؤمن وعزيز وحكيم وعدل وجليل وحليم ووكيل ونحوهم مما ورد لكن ظواهر الشريعة تشهد بالجواز لورودها في السنة . قال سيدي علي الخواص : وينبغي اجتناب الألقاب الكاذبة كشمس الدين وقطب الدين وبدر الدين ونحوها وإن كان لها معنى صحيح بالتأويل كأن يقال المراد أنه شمس دين نفسه أو قطب دين نفسه أو بدر دين نفسه وهكذا وهذا أمر قد عم غالب الناس حتى العلماء والصالحين وصاروا يستنكرون النداء بأسمائهم المجردة عن الألقاب كمحمد وعمر وعلي ونحو ذلك واتباع السنة أولى . ومن أراد التفخيم لعالم أو صالح فليخاطبه بلفظ السيادة كسيدي محمد وسيدي عمر ونحو ذلك فإنه أبعد عن الكذب من قطب الدين ونحوه . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (1/155)
- روى الترمذي مرفوعا : [ [ لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع ] ] . وفي رواية له أيضا مرفوعا ومرسلا : [ [ ما نحل والد ولدا من نحل أفضل من أدب حسن ] ] . ومعنى نحل : أعطى ووهب ؟ وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نؤدب أولادنا الذكور والإناث ولا نكل تأديب البنات إلى أمهن جملة كما عليه بعضهم لا سيما إن كنا أعلم بالأدب من الأم وهذا باب قد أغفله غالب الناس حتى صار الولد الأمرد يجلس يلغو بين الرجال الأكابر ويمزح ولا شك أن الأب المسؤول عن ذلك فعليه الأمر لولده بالخير ويبقى من الله تعالى وقد أدركنا الناس وهم يؤدبون أولادهم ليلا ونهارا ولا يكتفون بالفقيه أو المعلم فإن قلب الأجنبي على الولد ليس كقلب الوالد
وقد كان أخي الشيخ عبدالقادر لا يجلس قط بين الرجال حتى دارت لحيته ولما تزوج مكث نحو سنة لا يقدر على مجالسة والده وما اطلع والده ولا أمه قط على غسله من الجنابة . ورأى سيدي علي الخواص شخصا من أولاد العلماء دخل الحمام مع والد زوجته في جمعة الدخول بها فأنكر ذلك غاية الإنكار وقال إذا كان هذا حال أولاد العلماء فكيف بغيرهم
وسمعت مرة يقول : إنما كان غالب أولاد الأولياء والعلماء لا حياء فيهم ولا أدب ولا فضيلة لأنهم عكارة ظهور آبائهم حين تصفو من الكدورات فنزل ذلك في نطفة أولادهم بخلاف أولاد الفلاحين والعوام الغالب عليهم اكتساب الفضائل لموت آبائهم من غير تصفية
فأدب يا أخي ولدك ولا تغفل عنه وإن كنت شيخ زاوية فعلمه كيف يتلقى الواردين من الفقراء والعلماء والأمراء ومشايخ القرى وغيرهم وعلمه آداب الضيافة ومكافأة الناس على هداياهم وعدم ادخار شيء عن الضيف وعدم تكلفه له وأخبره بأن من تكلف للضيف سوف يهرب ولو على طول وأمره بإجلال جماعة والده وبمحبتهم والإحسان إليهم وإيثارهم على نفسه في المأكل والهدايا وغير ذلك وذلك ليعكفوا عليه بعد والده حتى يظهر له فضله ويحتاج الناس إليه في علم أو سلوك أو شفاعة ونحو ذلك . وأمره باكتساب الفضائل ليلا ونهارا والإيثار على نفسه وتحمل الأذى من جميع الخلق حتى يصير يهرب من الناس فيتبعونه فإن كل من احتاج إلى جلب الناس بالإحسان فمشيخته مفتعلة وإن رفعهم من جهة تصرموا من جهة أخرى وليس هذا من شأن الفقراء إنما ذلك من شأن أبناء الدنيا وقد خالف كثير من أبناء ما ذكرناهم وعادوا أصحاب والدهم ففر الناس منهم وأخربوا الزاوية ولو أنهم أجلوا أصحاب والدهم لكملوهم بالأدب الذي أخذوه عن والدهم . وبعضهم ادعى أنه رأى والده بعد موته في المنام وقال له كل من كنت أحبه فابغضه فعمل بذلك فقلت له هذا إبليس فلم يعتقد صدق مقالتي وقال رأيت والدي حقا فقلت له لو رأى شخص رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال له اكره أبا بكر وعمر وكل من كنت أحبه فابغضه هل يجوز له بغضهم ؟ فقال لا فقلت فكذلك في أصحاب الأولياء فرجع واستغفر الله تعالى وتاب وصالح جماعة والده فعمرت الزاوية فالحمد لله رب العالمين
وقد جاءني الشيخ جلال الدين البكري بولده محمد وقال ادع الله له أن يجعله كأخيه أبي الحسن فقلت له يكفي واحد في البيت مرصد لإقراء الناس العلم ولكن أدعو له أن الله يعرفه مقادير الواردين على الزاوية فانقبض خاطره من ذلك
وبالجملة فالكمال في الشخص إنما يكون بمراعاة معرفة الشرع والعرف والعمل بهما والسلام (1/156)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ ما من مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ] ] . وفي رواية للنسائي مرفوعا : [ [ من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة فقامت امرأة فقالت : واثنان ؟ فقال : واثنان فقالت المرأة يا ليتني قلت وواحدا ] ] . والحنث هو الإثم والذنب والمعنى أنهم لم يبلغوا السن الذي يكتب عليهم فيه الذنوب : وروى ابن ماجه بإسناد حين مرفوعا : [ [ ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل ] ] . وروى مالك والشيخان وغيرهم مرفوعا : [ [ لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم ] ] . وفي رواية لمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لنسوة من الأنصار : [ [ لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسب إلا دخلت الجنة فقالت امرأة منهن أو اثنان يا رسول الله ؟ قال : أو اثنان ] ] . وفي رواية للنسائي يقال لهم يعني الأولاد ادخلوا الجنة فيقولون حتى يدخل آباؤنا فيقال لهم ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم ] ] . وروى مسلم مرفوعا : [ [ صغارهم - يعني الأموات - دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بثوبه - أو قال بيده - فلا يتناهى - أو قال يتنهى - حتى يدخله الله وإياه الجنة ] ] . والدعاميص : بفتح الدال جمع دعموص بضمها وهي دويبة صغيرة يضرب لونها إلى السواد تكون في الغدران شبه الطفل بها في الجنة لصغره وسرعة حركته وقيل هو اسم للرجل الزوار للملوك الكثير الدخول والخروج عليهم لا يتوقف على إذن منهم ولا يخاف أين يذهب من ديارهم شبه به طفل الجنة لكثرة ذهابه في الجنة حيث شاء لا يمتنع من بيت فيها ولا موضع وهذا قول ظاهر . والله أعلم
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل يعني الجواز على الصراط فقال رجل واثنان ؟ فقال : واثنان . قال جابر : وبالجملة لو قال وواحد لقال له وواحد ] ] . وروى الإمام أحمد وغيره بإسناد حسن مرفوعا : [ [ والذي نفسي بيده إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته ] ] . والسرر : هو ما تقطعه القابلة وما بقي بعد القطع هو السرة : وروى الترمذي مرفوعا : [ [ من كان له فرطان من أمتي أدخله الله بهما الجنة ؟ فقالت عائشة : وفرط ؟ قال : وفرط يا موفقة قالت : فمن لم يكن له فرط من أمتك قال أنا فرط أمتي لن يصابوا بمثلي ] ] . والفرط هو الذي لم يدرك من الأولاد الذكور والإناث وجمعه أفراط : وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا من النار فقال أبو ذر : قدمت اثنين قال واثنين . قال أبي بن كعب : قدمت واحدا قال : وواحدا ] ] . والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نروض نفوسنا في عدم الميل الطبيعي إلى أولادنا بحيث نعرف من أنفسنا أنها صارت لا تتأثر لو ماتوا في ساعة واحدة تقديما لمرضاة الله تعالى على مرضاة نفوسنا . ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ صادق يسلك به حتى يخرجه عن محبة الدنيا وشهواتها وإلا فمن لازمه التأثر المصاحب للضجر على فراق ماله وأولاده ولو أنه كان راض نفسه قبل ذلك لم يقع منه تأثيرا إن لم يكن ذلك كشفنا كان إيمانا بقوله تعالى : { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } . وربما أتت المصيبة للولي في حال إدباره عن الله تعالى فيتأثر ضرورة وربما أتت المصيبة للعاصي في حال إقباله على الله تعالى فلا يتأثر وقد بسطنا الكلام على هذا العهد في عهود المشايخ فراجعها . والله تعالى أعلم (1/157)
- روى أبو داود والترمذي مرفوعا وقال حسن صحيح والنسائي وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين : [ [ البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم ] ] . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نسعى في تطهير باطننا من سائر الأدناس بالسلوك على يد شيخ مرشد ليطابق لباسنا الأبيض قلبنا الأبيض فإن الشارع صلى الله عليه و سلم ما ندبنا إلى لباس الأبيض إلا ليتنبه لذلك العارفون فيسعون على تبييض قلوبهم مثل ثيابهم . وقد قدمت أم أخي أفضل الدين مرة ثوبا أبيض فرده وقال أستحي من الله أن ألبس ما يخالف لون باطني فهكذا يكون نظر العارفين . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إذا رأيتم الفقير يعتني بلبس الثياب البيض أو الجبة النقية البياض قبل خمود نار بشريته فاعلموا أنه قد مكر به فلا ترجوا له فلاحا . وسمعت سيدي محمد الشناوي رحمه الله يقول : مثل من لبس الثياب النقية البياض مع دنس القلب مثال من تلطخ بالعذرة قبل الخروج إلى صلاة الجمعة في بدنه وثيابه ثم رش ماء الورد عليه . وكان الشعبي رضي الله عنه لا يغسل ثوبه حتى يبلى فإذا قيل له إن ثوبك قد اتسخ واسود يقول : ليت قلبي في القلوب مثل ثوبي في الثياب . { والله عليم حكيم } (1/158)
- روى أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن ماجه عن أم سلمة قالت : كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم القميص . ولفظ ابن ماجه وهي رواية لأبي داود ولم يكن ثوب أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من القميص . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحب من الثياب القميص اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم والسر في ذلك كونه ساترا لأكثر البدن بخلاف الإزار والرداء اللهم إلا أن يكون الوقت حارا شديد الحر فلنا التخفيف بلبس الإزار
وسمعت سيدي محمد بن عنان يقول : أبدان الفقراء كأبدان المخدرات من النساء ليس لأحدهم أن يغتسل إلا مستور البدن بقميص مهلهل فقلت له إن أعلى ما أمر به الشارع عند الغسل الإزار الساتر للعورة فقط فقال صحيح ولكن هكذا أدركنا أشياخنا وما هم على خلاف في ذلك وربما كان لهم دليل في ذلك لم يطلع عليه غيرهم وبتقدير عدم الدليل في ذلك فالأدب مع الله ستر البدن كله قياسا على الصلاة فإن الشارع لم يكتف فيها بساتر العورة فقط بل أمر المصلي بستر ظهره وبطنه وأكتافه كما هو معلوم
وقد قال الإمام أحمد بوجوب ستر المنكبين في الصلاة برداء ونحوه . وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : يجب الحضور مع الله تعالى في كل عمل مشروع ولا شك أن الغسل عمل مشروع
ومن أدب الحضور أن يكون العبد مستور البدن كله إلا ما استثنى شرعا وأهل الله تعالى في جميع أوقاتهم في صلاة كما أشار إليه في قوله تعالى { على صلاتهم دائمون } . واغتسل أخي أبو العباس الحريثي مرة بإزار فقط فزجره سيدي محمد بن عنان وقال : بدن الفقير كله عورة والله أحق أن يستحيي منه فقد بان لك وجه حب سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم للقميص وتقديمه على الإزار والسراويل في الفضل ومن بالغ في الأدب فلا لوم عليه ولو لم يرد في ذلك شيء بخصوصه فإن المعلومات تشهد له . وقد قلت مرة لشيخنا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه لله : السنة في العذبة أن تكون أربع أصابع فقط كما ورد فما دليل الصوفية في تطويلها أكثر من ذراع حتى أنهم يغرزونها في أعلى العمامة فقال لي : لولا رأوا في ذلك شيئا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما فعلوه . وقد بلغنا أن بغداد لما خربها التتار رموا كتب المجتهدين والمحدثين في الدجلة حتى صارت الخيل تمشي عليها إلى ذلك البر كالجسر فكم ذهب في تلك الكتب من أحاديث وعلوم . فكانت عذبته رضي الله عنه نحو ذراع ونصف لكبر العمامة . كان يوم الجمعة يلبس عمامة صغيرة سبعة أذرع بعذبة فيصلي الجمعة بالسلطان قايتباي ويرجع إلى البيت فيلبس العمامة الكبيرة رضي الله تعالى عنه
واعلم يا أخي أن بعض الأولياء يصل إلى مقام لا يصير يقدر على حمل القميص فيكتفي بلبس الإزار ليلا ونهارا ومثل هذا يسلم له حاله . { والله غفور رحيم } (1/159)
- روى أبو داود والحاكم مرفوعا : [ [ من أكل من طعام فقال الحمد لله الذي أطعمتني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه ومن لبس ثوبا جديدا فقال : الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ] ] . وليس في رواية الحاكم وما تأخر . وروى الترمذي وغيره أن عمر رضي الله عنه لبس ثوبا جديدا فقال الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ من ليس ثوبا جديدا فقال : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم عمد إلى الثوب الذي خلق فتصدق به كان في كنف الله وفي حفظ الله وفي ستر الله حيا وميتا ] ] . وفي رواية للبيهقي : [ [ ثم عمد إلى ثوبه الخلق فكساه مسكينا لم يزل في جوار الله وفي ذمة الله وفي كنف الله حيا وميتا ما بقي من الثوب سلك ] ] . قيل لعبدالله بن زحر من أي الثوبين ؟ قال لا أدري . وروى ابن أبي الدنيا والحاكم والبيهقي مرفوعا : [ [ ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من الله إلا كتب الله له شكرها قبل أن يحمده عليها وما أذنب عبد ذنبا فندم عليه إلا كتب الله له مغفرته قبل أن يستغفره وما اشترى عبد ثوبا بدينار أو نصف دينار فلبسه فحمد الله عليه إلا لم يبلغ ركبتيه حتى يغفر الله له ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحضر قلوبنا مع الله تعالى عند كل نعمة تجددت علينا ونتلقاها بكل شعرة فينا ونحمد الله تعالى عليها كما ورد ولا نرى نفوسنا تستحق ذرة منها بكسبها وقوتها بل هي محض فضل من الله تعالى علينا من غير استحقاق . وكان عيسى عليه السلام يقول للحواريين : بحق أقول لكم والله إننا لا نستحق على ربنا الرماد نسفه . وفي رواية : والله لأكل التراب والنوم على المزابل مع الكلاب ولبس المسوح من الثياب لكثير على أهل الدنيا . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول في سجوده : اللهم أني أعترف بين يديك بأني لا أستحق ذرة واحدة مما أنعمت به علي في هذه الدنيا والآخرة اللهم إني أعترف بين يديك بكل ذنب فعلته جوارحي إلى وقتي هذا فتطول عليها بالعفو والمغفرة لتطمئن . وكان يقول : من أراد تخليد النعم عليه فليتلقاها بالشكر والاعتراف بالذنب فإن من تلقاها مع الغفلة فقد حل عقالها وعرضها للزوال وهذا شأن غالب الناس اليوم فيتلقون النعم وهم غائبون عن الشكر كالبهائم السارحة ولذلك تفلتت منهم النعم وربما أخذوها مع الاستهانة بها فكان ذلك سبب زوالها وفي الحديث : إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام : يا موسى إذا جاءتك مني باقلاة مسوسة على يد أحد من عبادي فاشكرني على ذلك فإني مهديها إليك ولا ترى نفسك أهلا لها هكذا شأن العبيد . واعلم أن تتمة الشكر أن يتصدق العبد بالخلق إذا لبس الجديد ولا يحبسه عنده إلا لغرض شرعي كأن يعده للمحتاج إليه من قرابته أو يكون من وجه حل . { والله عليم حكيم } . واعلم أن أعظم الشكر والحمد على النعمة أن يكون ذلك بالفعل لا بالقول قال تعالى : { اعملوا آل داود شكرا } . ولم يقل قولوا آل داود شكرا وهذه الأمة أولى بذلك لعلو مقامها فافهم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام حتى تورمت قدماه شكرا لله ولم يكتف بالقول فما ورد من الاكتفاء بالشكر بالقول إنما هو رخصة للضعفاء . { والله عليم حكيم } . وسمعت أخي أفضل الدين يقول : يجب على الشاكر أن يرى جميع ما يشكر به ربه من جملة نعم الله عليه فلا يرى أنه كافأ الحق في نعمة من النعم ولو سجد على الجمر من افتتاح الوجود إلى انتهائه . { والله غني حميد } (1/160)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ] ] . زاد في رواية قال ابن الزبير : من لبسه في الدنيا لم يدخل الجنة قال الله تعالى - ولباسهم فيها حرير - . وفي رواية للنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم مرفوعا : [ [ من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه ] ] . وروى الإمام أحمد مرفوعا : [ [ لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله ] ] . وروى الشيخان وغيرهما أن ابن الزبير خطب فقال : لا تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ] ] . وروى النسائي والحاكم وقال صحيح على شرطهما . أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يمنع أهله الحلية والحرير ويقول : [ [ إن كنت تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوهما في الدنيا ] ] . وروى البزار بإسناد حسن مرفوعا : [ [ قال الله عز و جل من ترك الحرير وهو يقدر عليه لأكسونه إياه من حظيرة القدس ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا ] ] . وروى أبو الشيخ ابن حبان وغيره : [ [ أريت أني دخلت الجنة فإذا أعالي أهل الجنة فقراء المهاجرين وذراري المؤمنين وإذا ليس فيها أحد أقل من الأغنياء والنساء فقيل لي أما الأغنياء فإنهم على الباب يحاسبون ويمحصون وأما النساء فألهاهن الأحمران : الذهب والحرير ] ] . وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ويل للنساء من الأحمرين الذهب والمعصفر ] ] والأحاديث في ذلك كثيرة . وقال بعض العارفين إنما شرع لبس الحرير للنساء لاستمالة قلوب الرجال إليهن حال الوقاع فينبغي للمرأة الحاذقة لبسه قبيل الوقاع ومقدماته ثم تنزعه لوقته . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب نساءنا في ترك لبس الحرير تورعا لما ورد من عموم الأحاديث الآتية في الباب وأيضا فإن زماننا قد ضاق عن مثل ذلك لقلة المكاسب على التجار فضلا عن الفقراء الذين يأكلون من صدقات الناس من الأوقاف والزكوات والافتقادات ونحو ذلك . واعلم يا أخي أن كل من أمعن في التفتيش على المال الحلال لم يجد ثمن لبس الخيش لعياله فضلا عن الكتان فضلا عن الحرير فينبغي للفقير إذا طلبت امرأته ثوب حرير أو بخنق حرير أو منديل حرير أن لا يجيبها إلا إن وجد ثمن ذلك من وجه حل فإن لم تصبر فليخيرها بين الإقامة على الفاقة وبين الفراق كما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم نساءه حين ضاقت عليهن المعيشة امتحانا واختبارا لهن لتظهر مراتبهن لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيعرف من يحبه منهن لله تعالى ومن يحبه لعلة الدنيا هذا شأن الصادقين وأما النصابون فلا يتوقفون على شيء يأخذونه من الولاة تارة بالسؤال وتارة بالقال والقيل وتارة بالحال ولم يكن السلف الصالح هكذا إنما كانوا يلبسون الخليقات والمرقعات فالعاقل من اتبعهم في ذلك . وكانت زوجة سيدي عليا الخواص رحمه الله كلما تطلب شيئا من الثياب الفاخرة يقول لها الملابس الفاخرة أمامك في الجنة وما بقي إلا القليل وما دخلنا دار الدنيا لمثل ذلك إنما أدخلناها للعمل الصالح . فينبغي للعالم والصالح أن يقرأ على عياله ما ورد في السنة من الأحاديث ليتركن لبس الحرير اختيارا من أنفسهن . { والله غفور رحيم } (1/161)
- روى الترمذي مرفوعا : وقال حسن صحيح : [ [ من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة وهو على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها ] ]
وروى أبو داود والبيهقي مرفوعا : [ [ من ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه قال الراوي أحسبه قال : تواضعا كساه الله حلة الكرامة ] ]
وروى أبو داود وابن حبان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكروا الدنيا يوما عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ [ ألا تسمعون ؟ إن البذاذة من الإيمان ] ] . يعني التحفل . والبذاذة بالموحدة وذالين معجمتين هي التواضع في اللباس برثاثة الهيئة وترك الزينة والرضا بالدون من الثياب
وروى البيهقي مرفوعا : [ [ إن الله عز و جل يحب المتبذل الذي لا يبالي بما لبس ] ]
وروى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أنها أخرجت لأبي بردة كساء ملبدا من الذي يسمونه الملبدة وإزارا غليظا مما يصنع باليمن وأقسمت بالله لقد قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذين الثوبين والملبد المرقع وقيل غير ذلك
وروى البيهقي عن ابن عمر قال توفى رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن نمرة من صوف تنسج له
وروى ابن ماجه والحاكم أن النبي صلى الله عليه و سلم أكل خشنا ولبس خشنا لبس الصوف واحتذى المخصوف قيل للحسن ما الخشن ؟ قال : غليظ الشعير ما كان صلى الله عليه و سلم يسيغه إلا بجرعة من ماء
وروى الترمذي والحاكم مرفوعا : [ [ أنه كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار ميت ] ] . والكمة بضم الكاف وتشديد الميم : القلنسوة الصغيرة
وروى الحاكم موقوفا على عبدالله قال : [ [ كانت الأنبياء لا يستحيون أن يلبسوا الصوف ويحلبوا الغنم ويركبوا الحمير ] ]
وروى ابن ماجه عن عبادة بن الصامت قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم وعليه جبة من صوف ضيقة الكمين فصلى بنا فيها ليس عليه شيء غيرها
وروى البيهقي مرفوعا : [ [ براءة من الكبر لبس الصوف ومجالسة فقراء المؤمنين وركوب الحمار واعتقال العنز أو قال البعير ] ]
وروى البيهقي مرسلا عن الحسن قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في مروط لنسائه وكانت أكسية من صوف مما يشتري بالستة والسبعة وكن نساؤه يأتزرن بها
وروى مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج وعليه مرط مرحل من شعر أسود والمرط كساء يؤتزر به وقد يكون من صوف وقد يكون من خز والمرحل هو الذي فيه صور رحال الجمال
وروى مسلم وغيره عن عائشة قالت : كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم وساد يتكئ عليه من أدم حشوه ليف . وفي رواية لمسلم وغيره أيضا إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي كان ينام عليه أدما حشوه ليف
وروى أبو داود والبيهقي عن عقبة بن عبيد السلمي قال : استكسيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فكساني خيشتين فلقد رأيتني وأنا أكسي أصحابي والخيشة ثوب يتخذ من مشاقة الكتان تغزل غزلا غليظا وتنسج نسجا رقيقا وقوله : وأنا أكس أصحابي أي وأنا أعظمهم وأعلاهم كسوة : وروى أبو داود وابن ماجه والترمذي عن بريدة قال لو رأيتنا ونحن مع نبينا صلى الله عليه و سلم وقد أصابتنا السماء حسبت أن ريحنا ريح الضأن . قال الحافظ : ومعنى الحديث أنه كان ثيابهم الصوف وكان إذا أصابهم المطر تجيء من ثيابهم ريح الصوف . وزاد في رواية للطبراني في آخره إنما لباسنا الصوف وطعامنا الأسودان التمر والماء
وروى أبو يعلي والترمذي واللفظ لأبي يعلي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه قال : خرجت في غداة شاتية جائعا وقد أوبقني البرد فأخذت ثوبا من صوف قد كان عندي ثم أدخلته في عنقي وأخرمته على صدري أستدفئ به والله ما كان لي شيء أكمل منه ولو كان في بيت النبي صلى الله عليه و سلم شيء لبلغني فذكر الحديث إلى أن قال : ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلست إليه في المسجد وهو مع عصابة من أصحابه إذ طلع علينا مصعب بن عمير في برد له مرقعة بفروة وكان أنعم غلام بمكة وأرفعه عيشا فلما رآه النبي صلى الله عليه و سلم ذكر ما كان فيه من النعيم ورأى حاله التي عليه فذرفت عيناه فبكى ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ أنتم اليوم خير أم إذا غدي على أحدكم بجفنة من خبز ولحم وريح إليه بأخرى وغدا في حلة وراح في أخرى وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة قلنا بلى نحن يومئذ خير نتفرغ للعبادة قال بل أنتم اليوم خير ] ] . ولفظ رواية الترمذي عن علي قال : خرجت في يوم شات من بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد أخذت إهابا مطويا فجوبت وسطه فأدخلته في عنقه وشددت وسطى فحزمته بخوص النخل وإني لشديد الجوع فذكر الحديث . ومعنى جوبت : خرقت في وسطه خرقا كالجيب وهو الطوق الذي يخرج الإنسان منه رأسه والإهاب الجلد وقيل ما لم يدبغ
وروى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نظر إلى مصعب بن عمير مقبلا عليه إهاب كبش قد تنطق به فقال النبي صلى الله عليه و سلم انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبوين يغذيانه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيته وعليه حلة شراها أو شريت له بمائتي درهم فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون
وروى مالك عن أنس قال : لقد رأيت عمر رضي الله عنه وهو يومئذ أمير المؤمنين وقد رقع ما بين كتفيه ثلاث رقاع لبد بعضها على بعض
وروى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ] ] . منهم البراء بن مالك
وروى الطبراني والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يستعير الثوب من أصحابه فليلبسه إذا خرج واستعار من شرحبيل درعا مرقعا صلى بالناس فيه
وروى الطبراني بإسناد حسن والبيهقي عن عبدالله بن شداد قال : رأيت عثمان بن عفان يوم الجمعة على المنبر عليه إزار عدني غليظ ثمنه أربعة دراهم أو خمسة وريطة كوفية ممشقة . والعدني : منسوب إلى عدن والريطة : بفتح الراء وسكون التحتية كل ملاءة يكون قطعة واحدة ونسجا واحدا ليس لها لفقان . وممشقة : أي مصبوغة بالمشتق [ بالمشق ؟ ؟ ] بكسر الميم وهي المغرة
وروى البزار عن جابر قال : حضرت عرس علي وفاطمة فما رأينا عرسا كان أحسن منه حشونا الفراش يعني الليف وأتينا بتمر وزبيب فأكلنا وكان فرشها ليلة عرسها إهاب كبش
وروى البخاري والترمذي وحسنه عن ابن سيرين قال : كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان فمخط في أحدهما ثم قال بخ بخ يمتخط أبو هريرة في الكتان الحديث
وروى البخاري عن أبي هريرة قال : [ [ لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوها في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته ] ]
وروى الطبراني عن ثوبان قال : قلت يا رسول الله ما يكفيني من الدنيا ؟ قال ما سد جوعتك ووارى عورتك وإن لك بيت يظلك فذاك وإن كان لك دابة فبخ
وروى الطبراني ورجاله رجال الصحيح عن ابن عمر سأله رجل فقال : ما ألبس من الثياب ؟ فقال : [ [ ما لا يزدريك فيه السفهاء ولا يعيبك فيه الحكماء قال : ما هو ؟ قال ما بين الخمسة دراهم إلى العشرين درهما ] ]
وروى ابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم الذين يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نترك الترفع في اللباس تواضعا واقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ولو كان معنا قناطير من الذهب فنجعل ذلك في مرضاة الله تعالى من الإنفاق على الفقراء والمساكين والمحاويج وهذا العهد يخل به كثير من الفقراء فضلا عن العوام وربما خلف الواحد نحو سبعين زيقا ثمن كل زيق ثلاثة ذهبا أو أكثر وقد رأيت من خلف سبعمائة زيق من العلماء
وكان سيدي علي الخواص رحمه الله يقول : ينبغي التسليم لمن لبس الثياب الفاخرة من الأولياء . كسيدي عبدالقادر الجيلي وسيدي علي بن وفا وسيدي مدين وأضرابهم
وقد كان سيدي عبدالقادر يلبس كل ذراع من الخام بدينار فاعترض عليه بعض الناس فقال : العبد إذا مات كفن مرة وأنا قدمت أكثر من مائة موتة في مخالفة نفسي فلي أن ألبس كل بدلة ثمن مائة كفن
ثم السر في ترك اللباس الرفيع أن النفس تميل إليه بالخاصية وتفرح به وكل شيء فرح به العبد من الدنيا حجبه عن دخول حضرة الله عز و جل كما تحجب المعصية فيريد الإنسان أن يجد قلبه حال لبس الرفيع الفاخر مثل حاله في حال لبسه الخلق القليل الثمن فلا يقدر ومن شك فليجرب وكذلك جربنا السجود على الأرض الطاهرة بلا حائل يجد الإنسان انفساحا وانشراحا وصلة بالله عز و جل بخلاف الصلاة على بساط أو حصير ومدار كلام الشارع ونصحه لنا على عكوفنا في حضرة الله عز و جل ليعطي الخدمة للحق حقها ويتملى بشهوده تعالى لأنه صلى الله عليه و سلم أشفق علينا من أنفسنا فضلا عن والدنيا فما منعنا من فعل شيء إلا هو يبعدنا عن حضرة الحق تعالى وقد أخبرنا أن كل من تكبر قصمه الله ثم لا يخفى عليك يا أخي أن التواضع حقيقة إنما هو في النفس لا في الثياب وربما يلبس الإنسان العباءة والخيش وعنده من الكبر ما ليس عند أهل اللبس الرفيع فليتفقد الإنسان نفسه عند لبس الخيش والخلق فربما يكون يرى نفسه بذلك على أصحاب اللباس الرفيع فيمقته الله وهو لا يشعر وما رقع السلف الصالح ثيابهم إلا لقلة الحلال في زمانهم بالنظر لمقامهم فإن التجار وغيرهم كل يوم في نقص من الورع فكان أحدهم إذا اشترى له ثوبا بدراهم حلال لا يجد مثلها بعد ذلك حتى يشتري قميصا كاملا فلما كانوا لا يعجبهم كل الحلال في زمانهم كانوا يرقعون كل شيء انخرق بشراميط الثياب التي اشتروها في الزمن الماضي التي هي أحل من دراهم زمانهم وقت الترقيع فعلم أن من جمع له شراميط من جوخ أو غيره والتدمها ثم خيطها مراعيا كل لون في صف كما يفعله بعض فقراء الأحمدية فهو مغرور وقد رأيت من اشترى قطعة جوخ ثم قطعها قطعا بقدر جديد نقرة وذلك من أكبر رعونات النفوس مع ما فيه من إتلاف المال لغير غرض شرعي فافهم بخلاف مرقعات السلف فإن في لبسها فوائد منها كونه أحل ومنها عدم التفات النفس إليه بخلاف الجديد يصير كل وقت يلتفت إليه ومنها خفة المؤونة وعدم الركون إلى الإقامة في هذه الدار
وقد كان سيدي الشيخ حسن العراقي المدفون فوق كومة بركة الرطل بمصر المحروسة إذا أعطوه جوخة نفيسة أو صوفا نفيسا يقطعه بسكين حتى يصير شرائح شرائح ثم يخيطه بخيط دارج بمسلة ويلبسه فقلت له في ذلك ؟ فقال ديني أعز علي من الدنيا بأسرها وإني إذا لبست ذلك وهو جديد لا تخريق فيه تصير النفس تلتفت إليه كل قليل وتسارقني في النظر إليه ولو في الصلاة بخلاف ما إذا شرمطته وإذا تعارض عندنا مفسدتان ارتكب الأخف منهما ولا شك أن إتلاف جميع مالي عندي دون ديني
ففتش يا أخي نفسك فيما تأكل وفيما تلبس فمن فتش لا يجد شيئا في هذا الزمان يشتري به جوخة نفيسة ولا شاشا نفيسا أبدا وربما كان ذلك الشاش الرفيع أو الجوخة البندقي التي على العالم أو الصالح من هدايا بعض الولاة أو ثمنها من وظائف لا يسد فيها لا بنفسه ولا بنائبه . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
وقد تقدم في هذه العهود أن من آداب الفقراء كلما لبسوا ثوبا جديدا أو عمامة أو رداء في هذا الزمان أن يقول بتوجه تام : اللهم إن كان في هذا الثوب أو الرداء أو العمامة درهم من حرام فاحمنا من لبسه أو سامحنا في لبسه ولا تؤاخذنا بذلك في الدنيا والآخرة . واجعلها تقيم عندنا بقدر ما فيها من الحل فإنك عالم بالسرائر ومن حين عملت أنا بهذا العهد ما تقطع لي ثوب وقد عد أخي إبراهيم السند بسطي الثياب التي كسوتها للناس في مدة صحبته لي فوجدها سبعمائة زيق ما بين جوخ وصوف ومضربات وجبب وقمصان ومنها ما كان يقيم عندي يوما ومنها ما يقيم سنة وأقل وأكثر بقدر ما فيها من الحل في نفس الأمر الذي يعلمه الله تعالى فالحمد لله رب العالمين (1/162)
- روى الترمذي والحاكم مرفوعا : [ [ ما من مسلم كسا مسلما ثوبا إلا كان في حفظ الله ما دام منه خرقة ] ] . وفي رواية للترمذي : [ [ من كسا مسلما ثوبا لم يزل في ستر الله ما دام عليه منه خيط أو سلك ] ] . وفي رواية لأبي داود مرفوعا : [ [ أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عري كساه الله من خضر الجنة ] ] . وروى ابن أبي الدنيا موقوفا : [ [ يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط وأجوع ما كانوا قط وأظمأ ما كانوا قط وأنصب ما كانوا قط فمن كسا لله عز و جل كساه الله عز و جل ] ] الحديث : وروى الطبراني عن عمر مرفوعا : [ [ أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن كسوت عورته أو أشبعت جوعته أو قضيت له حاجة ] ] . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتصدق بالثوب الخلق أو العمامة الخلقة أو النعل الخلق إذا لبسنا الجديد وإنما لم يأمرنا صلى الله عليه و سلم بالتصدق بالجديد لأن النفس تتبعه في الغالب ومن تصدق بما تتبعه نفسا فأجره ناقص فعلم أن من لم تتبع نفسه الجديد فالتصدق به أولى إلا أن يكون من الكاملين أو في مقام المجاهدين فإن الكامل فرغ من مجاهدة نفسه وأمر بالإحسان إليها ويعاملها على الأجانب لكونها أقرب الناس إليه والأقربون أولى بالمعروف . وأما من كان في مقام المجاهدة فإنه مأمور بمخالفة النفس فيما تهواه فيتصدق بالجديد ولو تبعته نفسه حتى يغلبها نزاعها له وسوف يدخل إن شاء الله مقاما لا تتبع نفسه شيئا يعطيه لأحد من الناس ولو كان أنفس ما يكون كما جربناه وذقناه قال تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } . وقد سمع سيدي علي الخواص رحمه الله فقيرا يقول : خليقة لله جديد لله كسيرة لله فنزع له خلقته وأعطاه جديدا وكسرة وقال : لما سمعته يقول لله : كاد لحمي يذوب من الحياء ولو سألني جميع ما علي لله لأعطيته له وكان الحظ الأوفر لي لما أرى لله على من المنة في إعطائي كل ما طلبه الفقير لله فإن الفقراء غافلون عن طلب العوض على ذلك في الآخرة لكونهم لا يشهدون لهم مع الله ملكا يعطون منه أحدا وإنما نعيمهم ولذتهم في الأخذ من الحق وإعطاء ذلك ثانيا للحق كما يلتذ من ألبسه السلطان بيده خلعة ثم بعد مدة يقول له أعطها للفقير الفلاني وأنا ألبسك خلعة أخرى أنفس من تلك في الثمن واللون والرقة فإذا أعطاها ألبسه السلطان أخرى بيده . وقد قال لي الأمير يوسف بن أبي أصبغ : نزع لي السلطان قايتباي مضربته وألبسها لي بيده فكدت أن أغيب من لذة يده فكانت عندي ألذ من جامكية وظيفتي . وألبسه السلطان الغوري مرة ثوب صوف وعمامة فأعطاهما لي فأبيت أن ألبسهما أدبا مع السلطان فحلف علي فلبستهما وكان سجاف الصوف بسبعة عشر دينارا ذهبا فضلا عن الصوف وأما الشاش فكان عرضه نحو سبعة أذرع ثم بعد مدة تصدقت بهما فالحمد لله الذي خلع علينا ملابس الملوك . وحكى لي سيدي علي الخواص رحمه الله أن السلطان قايتباي أرسل لسيدي إبراهيم المتبولي سلادي فلبسه وتحزم عليه بحبل حلفاء وصار يعزق في الغيط وهو لابسه فصار كله وحلا ثم نزعه وأعطاه لفقير وقال له بعه وانتفع بثمنه . فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك (1/163)
- روى أبو داود والترمذي مرفوعا : [ [ لا تنتفوا الشيب فإنه ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة ] ] . وفي رواية للطبراني فقال رجل فإن رجالا ينتفون الشيب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ [ من شاء فلينتف نوره ] ] . وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ من شاب شيبة في الإسلام كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نبقي الشيب في لحيتنا إذا شبنا ولو قبل وقته من حيث أنه نذير لنا يخبرنا بقرب الموت وانتقالنا من هذه الدار إلى البرزخ الأخير . ولا يخلو حالنا من أن ننتقل إما إلى خير أو شر وكلاهما يذكرنا به الشيب فنأخذ في الأهبة للانتقال والتزود وننتصل من ذنوبنا وتبعاتنا وقد ألغز في نظير ذلك في النعش الشاطبي في أبيات فقال :
أتعرف شيئا في السماء نظيره ... إذا سار صاح الناس حيث يسير
فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا ... وكل أمير يعتريه أسير
يحض على التقوى ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير
ولم يسترد عن رغبة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يزور
وأنشد الإمام الشافعي محمد بن إدريس رضي الله عنه لما طلع الشيب في رأسه لحيته :
خبت نار نفسي باشتعال مفارقي ... وأظلم ليلي إذ أضاء شهابها
أيا بومة قد عشعشت فوق هامتي ... على رغم نفسي حين طار غرابها
رأيت خراب العمر مني فزرتني ... ومأواك من كل الديار خرابها
أأنعم عيشا بعد ما حل عارضي ... طلائع شيب ليس يغني خضابها
ولذة عمر المرء قبل مشيبه ... وقد فنيت نفس تولى شبابها
إذا اصفر لون المرء وابيض شعره ... تنغص من أيامه مستطابها
فدع عنك سوآت الأمور فإنها ... حرام على نفس التقي ارتكابها
وأدي زكاة الجاه واعلم بأنها ... كمثل زكاة المال تم نصابها
وأحسن إلى الأحرار تملك رقابهم ... فخير تجارات الكريم اكتسابها
ولا تمشين في منكب الأرض فاخرا ... فعما قليل يحتويك ترابها
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلا غرورا وباطلا ... كما لاح في ظهر الفلاة سرابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها عشت سلما من أهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها
فطوبى لنفس أوطنت قعر دارها ... مغلقة الأبواب مرخى حجابها
فلن تخرب الدنيا بموت شرورها ... ولكن موت الأكرمين خرابها
انتهى كلام الشافعي رضي الله عنه . ولما بلغ الأربعين سنة رضي الله عنه أمسك العصا فقيل له : نراك تدمن إمساك العصا ولست بمحتاج إليها فقال لأذكر أني مسافر من هذه الدار وأنشد أيضا لما خرج من بغداد إلى مصر :
ومتعب العيش مرتاح إلى بلد ... والموت يطلبه في ذلك البلد
وماش والمنايا فوق هامته ... لو كان يعلم غيبا مات من كمد
آماله فوق ظهر النجم شامخة ... والموت من بين رجليه على رصد
من كان لم يعط علما في حياة غد ... فما تفكره في رزق بعد غد
وأنشد أيضا لما خرج من بغداد أو من مكة إلى مصر :
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها أرض المهامة والقفر
فوالله ما أدري إلى الفوز والغنى ... أساق إليهما أم أساق إلى قبري
ولما تمنى بعض الناس موته أنشد يقول :
تمنى رجال أن أموت ... وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
وإنما ذكرت لك يا أخي هذه الأشعار لتعرف أن السلف الصالح كان الموت على بالهم لا يغفلون عنه ساعة ويحبون من يذكرهم بالموت سواء كان شيبا أو انحناء أو مرضا أو غير ذلك
واعلم أنه قد يكون للإنسان زوجة شابة وهو شائب فتكره منه الشيب فلينظر صاحب هذه الحال بين مفسدة إبقائه ومفسدة نتفه ويفعل ما هو الأحق . وقد أخبرني سيدي عليا الخواص رحمه الله أن عمره مائة وسنة وشيء فقلت له : إن شيبكم في اللحية قليل فقال لما ضربني الشيب وأنا ابن خمسين سنة تكدرت ابنة عمي فوقف الشيب عن الزيادة من ذلك اليوم . وكذلك وقع لي أنا مع وزوجتي أم عبدالرحمن نمت بحضرتها فشرعت تنتف الشعرات البيض فاستيقظت على جذبها الشعر فوقف الشيب من ذلك اليوم . وأخبرني شيخنا الشيخ دمرداش المحمدي المدفون خارج مصر في طريق بركة الحاج أنه كان له صاحب شعري اللحية وكان معه زوجتان إحداهما صغيرة والأخرى كبيرة فكانت الصغيرة تنتف الشعر الأبيض كلما نام عندها ليصير صغيرا وكانت الكبيرة تنتف الشعر الأسود ليصير مثلها فما مضى عليه أشهر حتى لم يبق في لحيته شعرة . فيحمل ما ورد في ترغيب الرجل في إبقاء الشيب على ما إذا لم يعارضنا أمر أخر يتولد منه شرور وأنكاد مع شدة محبة الرجل لزوجته
وقد روى البيهقي أنه رفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة قتلت زوجها فقال لها ما حملك على قتله ؟ فقالت إني امرأة صغيرة السن وقد زوجني أبي كرها علي فلما عجزت عن التخلص منه غلبتني نفسي فرضخت رأسه بحجر رحى فمات فأمر ظاهرا بقتلها ثم أسر إلى بعض أهلها أنها تختفي أو تهرب
وتزوج شخص من إخواننا شابة وكانت لحيته بيضاء لأجل ماله وكان كثير المال ليس له ولد فكانت تكلفه بعمل اللحم على الصاج وبالشهوات فإذا أتى بها قالت لا حاجة بي إلى ذلك فيأتي ويقول لي : إني أنفق عليها كل يوم نحو عشرة أنصاف وما هو على قلبها ولا على خاطرها وما أعرف لي ذنبا فقلت له ذنبك بياض لحيتك فلم تزل له حتى طلقها فكاد عقله يذهب
وقد وقع لشخص آخر من إخواننا أنه صبغ لحيته بالسواد لأجل واحدة كان يحبها ثم عقد عليها وأوهمها أنه شاب فلما دخل عليها قالت له لحيتك لحية شاب وحركتك في الجماع حركة شيخ فطلقها من كثرة النكد . وكذلك وقع لسيدي الشيخ نور الدين الشوني رحمه الله تعالى أنه تزوج بعد تسعين سنة شابة ولم يكن تزوج قبلها أحدا وكان أبوها من كبار المعتقدين في الشيخ فكانت تؤذي الشيخ فيقول لي ما أعرف إيش تكرهني على إيش فأسكت وأستحي أن أقول له من كبر سنك وشكت إلى والدها من خشونة جبة الشيخ فنزعها وصار ينام معها في ثياب الكتان الخمسيني ومع ذلك فكانت تشكو منه وكلما عمل على غرضها في أمر طلبت منه أمر آخر حتى كدرت عليه عيشته فطلقها
فاصبغ يا أخي الشيب الذي في لحيتك بغير السواد ولا تنتفه إلا لعذر شرعي والله يتولى هداك (1/164)
- روى الترمذي وقال حديث حسن والنسائي وابن حبان في صحيحه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ [ اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر ] ] . قال ابن عباس رضي الله عنه : وكان لرسول الله صلى الله عليه و سلم مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثة في هذه وثلاثة في هذه . ولفظ رواية النسائي وابن حبان : [ [ إن من خير أكحالكم الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر ومذهبة للقذى ومصفاة للبصر ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكتحل كل ليلة بالإثمد ونأمر بذلك عيالنا وأولادنا ويكون معظم نيتنا بذلك امتثال أمر الشارع صلى الله عليه و سلم لإجلاء البصر فإن جلاء البصر حاصل بذلك ولو لم نقصده اللهم إلا أن يكون قصدنا به التداوي فننوي جلاء البصر ومراد أهل الله تعالى أن تكون أفعالهم كلها وأقوالهم كلها من تحت حكم الشارع امتثالا لأمره ولو لم يعقلوا معناه . وقد أجمع أهل الله تعالى على أن العمل من غير معرفة العلة أقوى في استعداد العبد من العمل مع معرفة العلة لأنه إذا لم يعرف العلة لم يكن الباعث له على فعل ذلك العمل إلا امتثالا للأمر بخلافه إذا علل فربما يكون الباعث له على العمل حكمة تلك العلة من شفاء أو ثواب ولا شك أن من فعل شيئا من أوامر سيده محض امتثال أمر كان أحب إلى الله وأكثر أجرا ممن عمل لعلة إذ من المعلوم أن من يخدمك محبة فيك لا طلبا للأجرة هو عندك أعظم قدرا وأقرب محلا ممن خدمك لأجل الأجرة ولولا الأجرة ما خدمك فافهم . والله تعالى أعلم (1/165)
- روى أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأكل طعاما في ستة من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ أما إنه لو سمى الله لكفاكم ] ] . وروى أبو داود وابن ماجه مرفوعا : [ [ إذا أكل أحدكم طعاما فليذكر اسم الله تعالى عليه فإن نسي في أوله فليقل باسم الله في أوله وآخره ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من سره أن لا يجد للشيطان عنده طعاما ولا مقيلا ولا مبيتا فليسم إذا دخل بيته ويسم الله على طعامه ] ] . وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت عندكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال الشيطان أدركتم العشاء ] ] . والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نسمي الله تعالى عند الطعام والشراب وذلك لأن كل شيء فعل مع الغفلة عن الله فهو كالميتة وفي القرآن : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فافهم . ففي التسمية تقديس الطعام وتزكيته وتنميته والحضور مع الله تعالى بأسمائه الحسنى لا سيما والأكل محل غفلة عن الله تعالى لقوة الداعية إليه ومن هنا كرهت الصلاة بحضرة طعام أو شراب تتوق إليه نفس المصلي ونهي عن الأكل والشرب في الصلاة ولو نفلا لأن العبد لا يقدر أن يرد عن نفسه لذة الأكل والشرب فتزاحمه تلك اللذة في حال مناجاته وتحول بينه وبين لذة مناجاة الحق تعالى التي هي روح الصلاة
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا يكمل الفقير حتى يحضر مع الله تعالى في حال الأكل والشرب وفي حال الجماع كم يحضر في حال الصلاة ويجمع بين لذة الأكل ولذة المناجاة في آن واحد لا تحجبه إحدى اللذتين عن الأخرى فيشكر الله تعالى من وجهين في آن واحد . وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : لا يكمل الفقير عندنا في الطريق إلا إن كان يسمع ملك الإلهام يقول يا فلان كل أو اشرب أو جامع أو قم أو اجلس أو نم أو مد رجلك أو اخزن قوتك أو تصدق بما عندك ونحو ذلك فمن لم يسمع ملك الإلهام فهو بعيد عن الحضرات الإلهية . وسمعته مرة أخرى يقول : ما أكلت حتى ألهمت في نفسي يا فلان كل ولا فرغت من الأكل حتى ألهمت يا فلان يكفي . وسمعته يقول : كان سيدي عبدالقادر الجيلي رضي الله عنه يقول : ما أكلت طعاما قط حتى قيل لي بحقنا عليك كل ولا نمت حتى قيل لي بحقنا عليك نم وهكذا . وسمعته مرة أخرى يقول : ينبغي للفقير أن يأكل بنعت الحضور مع الله فيرى أنه يأكل والحق ناظر إليه بعينه التي لا تنام يرى شره نفسه أو قناعتها فمن أدمن ذلك رزقه الله القناعة وخلع عليه من الآداب ما لم يكن عنده
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : سموا الله تعالى على كل حركة وسكون يبارك لكم فيها وما شرعت التكاليف كلها إلا لحضر العبد فيها مع الله . وكان ولدي عبدالرحمن وهو ابن ثلاث سنين يقول كلما يأكل : بسم الله الشافي من غير أن أعلمه ذلك وهي مناسبة للمقام ولا يخفي أن الخلق ولو علت رتبتهم في المقامات يحتاجون إلى التسمية قياما بشعائر السنة خلاف ما عليه بعض أهل الشطح من قولهم : إنما يسمى الله على طعامه من كان يرى ملكا مع الله تعالى أما من يرى الملك في الطعام لله تعالى وأنه مقدمه إليه فلا يحتاج إلى تسميته لأن طعام الحق تعالى إذا قدمه لعبده بركة في نفسه لا يقبل الزيادة في النمو . والحق أن كل طعام قدم للعبد له وجهان وجه إلى نسبته إلى العبد وكسبه ووجه إلى نسبته إلى الحق تعالى وخلقه فوجه نسبة الخلق يقبل الزيادة ووجه نسبة ذلك إلى الحق لا يقبل الزيادة . ودخل على الشيخ شمس الدين الأبوصيري أحد أصحاب الشيخ أبي مسعود الجارحي رحمه الله فأكل ولم يسم فقال طعام الأستاذين لا يحتاج إلى تسمية الله تعالى عليه لأنه بركة في نفسه فأقمت عليه الحجة في ذلك فرجع إلى رحمه الله فاعلم ذلك وكن متبعا للسنة في كل عمل سواء عقلت معناها أم لم تعقله فإنه لا أكمل مما شرعه الحق تعالى على ألسنة رسله أبدا . { والله عليم حكيم } (1/166)
- روى أبو داود وابن ماجه عن عبدالله بن يسر قال : كان للنبي صلى الله عليه و سلم قصعة يقال لها الغراء يحملها أربعة رجال فلما أصبحوا وسجدوا الضحى أتى بتلك القصعة وقد أثرد فيها فالتقوا عليها فلما كثروا جئنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أعرابي ما هذه الجلسة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ إن الله جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها يبارك فيها ] ] . والذروة : هي أعلاها وهي بكسر الذال المعجمة : وروى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ البركة تنزل في وسط الطعام فكلوا من جانبيه ولا تأكلوا من وسطه ] ] . ولفظ أبي داود : ونهى رسول الله صلى الله عليه و سلم [ [ إذا أكل أحدكم طعاما لا يأكل من أعلى الصفحة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاه ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نروض نفوسنا بآداب الصالحين حتى لا يصير عندها شره عند أكلنا مع الجماعة وذلك حتى لا نسابق إلى لحمة أو رطبة تم نضجها أو إلى عسل أو سمن في نحو العصيدة ونحو ذلك فمن أكل من غير تقدم رياضة فمن لازم غالبا شراهة النفس . وسمعت شيخنا الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري يقول : لا ينبغي لأحد أن يأكل مع جماعة إلا إن كان يؤثرهم بأطايب الطعام فإن لم يعلم من نفسه القدرة على إيثارهم فمن الأدب أن يأكل وحده وتقدم في هذه العهود أن الفقراء في الزمن الماضي كانوا لا يأكلون مع والد ولا والدة ولا أستاذ ولا رجل كبير خوفا من أن تسبق عين أحدهم إلى لقمة أو لحمة أو خوخة أو تفاحة أو رطبة فيأخذها فيأكلها وهو لا يشعر بسبق عين من ذكر إليها . وكان سيدي أبو الحسن الغمري لا يأكل مع أحد إلا لضرورة ويقول : ما آمن على نفسي أن تأكل من قدام رفيقتها ولا أن تسابق إلى أطايب الطعام دون جارها لقلة حيائها من الله تعالى أو من عباده . وقد أمرنا الشارع صلى الله عليه و سلم بالأكل مما يلينا لعلمه بشراهة نفوسنا من أصل الخلقة ولو أنها لم يكن عندها شره ما احتجنا إلى الأمر بالأكل مما يلينا . والله تعالى أعلم (1/167)
- روى مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سأل أهله الأدم فقالوا ما عندنا إلا الخل فجعل يأكل ويقول : [ [ نعم الإدام الخل نعم الإدام الخل نعم الإدام الخل ] ] . قال جابر : فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله صلى الله عليه و سلم : وقال طلحة بن نافع : وما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر : وروى الترمذي وابن ماجه : عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت : دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : هل عندكم من شيء ؟ قلت : لا إلا كسر يابسة وخل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ [ قربيه فما افتقر بيت فيه أدم من خل ] ] . وفي رواية لابن ماجه عن أم سعد قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على عائشة وأنا عندها فقال : [ [ هل من غذاء ؟ فقالت عندنا خبز وتمر وخل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم الإدام الخل اللهم بارك في الخل فإنه كان إدام الأنبياء قبلي ] ] ولم يفتقر : أي أن قنع أهله به فلا يحتاج إلى غيره . وروى الترمذي والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ] ] . وفي رواية للحاكم مرفوعا : [ [ كلوا الزيت وادهنوا به فإنه طيب مبارك ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نقنع من الأدم بتغميس اللقمة بخل أو زيت لا سيما في هذا الزمان الذي صار فيه الدرهم الحلال أعز من الكبريت الأحمر وشيء يمدحه رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجوز لأحد أن يذمه و والله إن سف التراب الآن لكثير علينا لقلة حيائنا من الله وكثرة غفلتنا عنه وقلة شكرنا له وعدم رضانا بما قسمه لنا وكل ذلك ينافي صفات العبودية ومن لم يقم بأوصاف العبيد فلا ينبغي له مطالبة سيده بالقيام به لأنه لا يستحق على سيده شيئا ولو كان عبدا له كما أشار إليه خبر : فكم ممن لا مطعم له ولا مأوى . أي لا يطعمه الحق كما تختار نفسه ولا يؤويه كما تختار نفسه وإلا فهو تعالى يرزق الكافر فافهم
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : من طلب من الحق فوق الضرورة في هذه الدار فهو أعمى البصيرة وإذا كان لا يقدر على القيام بالشكر لله على الضروريات فكيف يقدر على شكره على الشهوات . وسمعته مرة أخرى يقول : من رضي عن الله بالقليل من الدنيا رضي الحق منه بالقليل من العمل
وقد أجمع أشياخ الطريق على أن كل مريد وجد الخبز فقال [ [ آكل خبزي بإيش ؟ ] ] لا يجيء منه شيء في الطريق
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به إلى الحضرات التي يعلم منها العبد ما لله تعالى عليه من الحقوق حتى يصير يرى لله المنة عليه الذي لم يخسف به الأرض فضلا عن تسخير الأرزاق التي تهواها نفسه فإن حكم أمثالنا في تعدية حدود الله تعالى كحكم العبد الذي فسق في حريم سيده ودخل سيده عليه وهو يفعل الفاحشة في زوجته فهل يقدر مثل هذا إذا دفع له سيده رغيفا حافا يابسا أن يرده عليه ويقول ما آكل إلا بأدم من لحم وعسل أو جبن ونحو ذلك لا والله لا يستحق الخبز اليابس ولا يقدر سيده على نفسه أن ينظر إليه فضلا عن كونه يطعمه هذا حكم أمثالنا مع الحق وهو معنى قوله تعالى : { ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم } . فكم وقع العبد في الزنا ؟ ؟ إماء ؟ ؟ الله وهو تعالى يراه وكم سرق أو كم سكر وكم نظر إلى ما لا يحل وكم أكل حراما وكم استغاب إنسانا وكم قذف أعراضا وكم شهد لأصحابه زوارا وكم قطعا رحما وكم عق والدا وكم أكل مال يتيم وربما اجتمعت هذه الصفات كلها في عبد فمثل هذا إنما يستحق النار
وفي البخاري أن رجلا في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم لبس حلة وتبختر فيها فخسف الله به في زقاق أبي لهب فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة وهذه الصفات أقبح من التبختر بيقين فهي أحق بأن يخسف بصاحبها وإذا علمت ذلك فلا ينبغي لمن جعل نفسه قدوة أن يطبخ ألوان الطعام في هذا الزمان لقلة وجود ذلك من وجه حلال بل رأيت بعضهم له عمامة صوف وجبة صوف وله سراري وزوجات لا تصلح إلا للأمراء ويطبخ ألوان الطعام أكثر من بعض أركان الدولة فنظرت في أمره فإذا هو يأخذ هدايا الظلمة وصدقاتهم على اسم الفقراء ويتزوج بها ويتسرى ولا يعطي الفقراء شيئا فمثل هذا شيخه إنما هو إبليس
وبالجملة فكل شيخ تخصص عن فقراء زاويته بشيء دخل على اسمهم ولو بالقرينة فليس له في المشيخة من نصيب إنما هو نصاب كما أوضحنا ذلك في عهد شيخ الزاوية في عهود المشايخ . والله تعالى أعلم
فاقنع يا أخي فيما بقي من عمرك ولو بكسرة خبز الشعير المدشوش على الرحى من غير أدم واستح من الله الذي أطعمك ذلك ولم يعذبك بالنار ولم ينزل عليك البلايا ومن استحق النار فصولح بالرماد لا ينبغي له إلا الشكر
وقد قالوا مرة لسيدي علي الخواص : رأينا شخصا
من حملة القرآن يفعل معصية . فتعجب من ذلك كل العجب ثم قال : والله لا ينبغي لحامل القرآن أن تغلبه نفسه على شهوة الشهوات المباحة فكيف غلبت هذا نفسه على شهوة محرمة ثم قال لي : بالله إيش يستحق هذا من الله تعالى والله إن مثل هذا خارج إلى طبع البهائم ولكن سبحان الحليم
فليحذر العبد إذا ترادفت عليه النعم وتيسرت له ألوان الطعام في هذا الزمان من الاستدراج لا سيما لشيخ العلم وشيخ الزاوية فإن في الحديث : إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة . فيقول الشيخ لنفسه : لو كنت عند الله بمكانه لحماك من الدنيا وفي الحديث : حلوة الدنيا مرة الآخرة . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/168)
- روى أبو داود والترمذي واللفظ له والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ انهشوا اللحم نهشا فإنه أهنأ وأمرأ ] ] . وفي رواية للحاكم عن صفوان بن أمية قال : رآني رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا آخذ اللحم عن العظم بيدي فقال : يا صفوان قلت : لبيك قال : قرب اللحم من فيك فإنه أهنأ وأمرأ . قال الترمذي حديث غريب وقال الحافظ عبدالعظيم لا بأس به في المتابعات . وروى أبو داود وغيره مرفوعا : [ [ لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم وانهشوه نهشا فإنه أهنأ وأمرأ ] ] . قال الحافظ : وقد صح أن النبي صلى الله عليه و سلم احتز من كتف شاة فأكل ثم صلى . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نبحث عن كيفية أكل رسول الله صلى الله عليه و سلم اللحم والفواكه والبطيخ وغير ذلك لنقتدي به في ذلك حتى نكون تحت القدوة به صلى الله عليه و سلم في كل أمر فإن لم نجد شيئا عنه في ذلك سلكنا في الأكل لذلك الشيء مسلك الملوك والأكابر في الأدب فإن عند الأكابر من الأدب في المأكل ما ليس عند غيرهم أو نترك أكل ذلك الشيء جملة لا سيما إن كان أكله من الشهوات النفسية دون الضرورية . وقد بلغنا عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه ترك أكل البطيخ الهندي والأصفر وقال : لم أعرف كيفية أكله صلى الله عليه و سلم له وما رأت عيني في فقراء العصر أحرص على فعل السنة من سيدي محمد بن عنان ومن سيدي يوسف الحريثي ومن سيدي محمد بن داود بنواحي المنزلة لو أن الدنيا بحذافيرها أعطوها ولم يعرفوا كيفية قبضها المشروع لتركوها كما يترك أحدهم البعرة . وقد حضرت الشيخ يوسف الحريثي ليلة وفاته فقال لي : يا ولدي في نفسي غم الذي خرجت من الدنيا ولم أعرف كيفية تخليل اللحية في الوضوء بحديث صحيح أو حسن وقد سألت عن ذلك الشيخ عثمان الديمي والشيخ جلال الدين السيوطي وغيرهما فلم يشفوا غليلي من ذلك هذا لفظه ليلة وفاته ثم توفي بعد نحو عشر درج رحمه الله . وقد بوب الحافظ المنذري على أكل اللحم بقوله : باب الترغيب في نهش اللحم دون تقطيعه بالسكين إن صح الخبر . والله أعلم . وسمعت سيدي عليا الخواص يقول : إن كان اللحم مثل مخ الدجاج أو الحمام فقربه إلى فيك لخفته وكل وإن كان كبيرا مثل ورك الخروف والإوز المعلوف فاقطع منه بالسكين ثم خذ القطعة الخفيفة وانهش لحمها من على عظمها . { والله غفور رحيم } (1/169)
- روى أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه : أن جماعة قالوا : يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع قال : تجتمعون على طعامكم أو تتفرقون ؟ قالوا نتفرق قال : [ [ اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله تعالى يبارك لكم فيه ] ] . وروى ابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ كلوا جميعا ولا تتفرقوا فإن البركة مع الجماعة ] ] . وروى الشيخان مرفوعا : [ [ طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة ] ] . وفي رواية لمسلم والترمذي وابن ماجه والبزار مرفوعا : [ [ طعام الواحد يكفي الاثنين يكفي أربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية ] ] . وزاد في رواية [ [ ويد الله مع الجماعة ] ] . وروى أبو يعلي والطبراني وغيرهما مرفوعا : [ [ إن أحب الطعام إلى الله تعالى ما كثرت عليه الأيدي ] ] . قال الحافظ عبدالعظيم : ولكن في الحديث نكارة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نجتمع على الطعام كلما نأكل مع عيالنا وأولادنا وإخوتنا وهو مجرب للبركة في الرزق وفيه ائتلاف القلوب وفي الحديث : [ [ شر الناس من أكل وحده وجلد عبده ومنع رفده ] ] . فلو لم يكن في الاجتماع إلا خروجنا عن صفة شرار الناس بنص كلام الشارع لكان في ذلك كفاية في الزجر وقد من الله تعالى على بانشراح الخاطر بالأكل مع الناس وانقباضه إذا أكلت وحدي فأحس باللقمة تنزل في جوفي مظلمة موحشة فإذا دعوت أحدا للأكل معي ولو واحدا زال ذلك هذا جربته في نفسي كما جربت ذلك في الصلاة في الجماعة والصلاة وحدي من حيث أن كلا من الجماعتين مطلوب شرعا
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يربيه حتى يخرجه عن شح النفس ويعطل صفته عن الاستعمال فإنه جبلي في النشأة ولذلك قال تعالى : { ومن يوق شح نفسه } وما قال تعالى : ومن يزول شح نفسه . ونظير ذلك قوله تعالى : { ومن شر حاسد إذا حسد } . والحسد مقرون بالنعمة فلو أنه شرع للإنسان أن يستعيذ بالله من وجود الحاسد لكان ذلك استعاذة من وجود النعمة فإن الحاسد لا يفقد إلا بفقد النعمة ومعلوم أن نعمة مع حسد خير من نقمة بلا حسد
فاسلك يا أخي على يد شيخ حتى يخرجك من ضيق الشح والبخل إلى ساحة الجود والكرم فتكون محبوبا للناس ولو كنت فاسقا بخلاف ما إذا كنت شحيحا بخيلا فإنك تكون مبغوضا لهم ولو كنت على عبادة الثقلين ولا شك أن محبة أخينا المسلم لنا أنفع من أكلة نلقيها عذرة في الخلاء وعلينا تبعتها وحسابها في الآخرة
فأكثر من العزومات على الإخوان جهدك ليأخذوا بيدك إذا عثرت في الدنيا والآخرة لكن عند وجود ذلك من حلال من غير تكلف وإذا علم الحق تعالى من قلبك السخاء والكرم أجرى على يديك أرزاق الخلائق بقدر ما عندك من ذلك فطوبى للأجواد
وفي المثل السائر : إذا قل مال المرء وإطعامه الطعام قلت أصدقاؤه وإيضاح ذلك أن الغالب على أصدقاء الزمان العلل النفسانية التي تميل إليها النفوس فلا يصحبون شخصا إلا ويشركون معه محبة إحسانه وإذا انتفى إحسانه لا يكادون يقدرون على نفوسهم أن تميل إليه كل ذلك الميل الكلي بحيث يكون عندهم كمن يطعمهم ويحسن إليهم أبدا والدين ما قام إلا بالعصبية والمعاضدة ولا تقع عصبية وتعاضد قوم إلا بإحسانهم إلى بعضهم وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب
وسمعت سيدي بدر الدين التوزي يقول : من مد يده بالإحسان إلى الناس نفذت كلمته فيهم ومن بخل عليهم حرم انقيادهم له . وسمعته مرة أخرى يقول : من مد يده إلى الأخذ من الولاة وغيرهم قصرت كلمته ويده عندهم ومن زهد فيما بأيديهم ورد كل ما أعطوه له عليهم طالت كلمته ويده عندهم . فتحبب يا أخي إلى إخوانك بالإحسان بكلما تقدر عليه لا سيما إن كنت تدعوهم إلى الله والله يتولى هداك (1/170)
- روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال : [ [ إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ] ] . وقال في رواية مسلم أيضا : [ [ إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة ] ] . وفي رواية لمسلم مرفوعا : [ [ إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها ] ] . وفي رواية أخرى له مرفوعا : [ [ إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أيتهن البركة ] ] . وروى الشيخان وأبو داود وابن ماجه مرفوعا : [ [ إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نلعق أصابعنا قبل مسحها إحراز للبركة كما ورد فربما كانت البركة الموضوعة في الطعام في تلك البقايا التي على الأصابع ومن فاته بركة الطعام كان كالذي يأكل ولا يشبع وقد استعاذ من ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم : وقد ورد إن الله تعالى أخفى ثلاثا في ثلاث : أخفى رضاه في طاعته وأخفى سخطه في معصيته وأخفى أولياءه في عباده . أي فربما كان رضا الله تعالى عنه معلقا على طاعة لا يؤبه لها لقلتها وسهولتها وربما كان سخطه تعالى في معصية صغيرة في رأي العبد لا يتنبه لها غالب الناس وربما كان ذلك الشخص الذي ازدريناه في عيننا من أولياء الله تعالى فيمقتنا الله تعالى فوجب على كل عاقل الإقبال على فعل كل مأمور والإدبار عن فعل كل منهي وتعظيم كل مسلم بطريقه الشرعي فإن الله تعالى إنما كلفنا بنهى المسلمين عن كل منكر ولم يبح لنا ازدراءهم ولا يخفي أن رضا الله المعلق على فعل شيء إذا حصل لا يقع بعده سخط على ذلك العبد أبدا كم أن سخطه إذا حصل لا يقع بعده رضا على ذلك العبد أبدا وإذا مقت من ازدرى وليا لا يفلح بعد ذلك أبدا
فافعل يا أخي جميع المأمورات واعتن بالسنن كأنها واجبات واجتنب المناهي ولو مكروهات واجتنبها كما تجتنب المحرمات فمن استهان بالسنن كفر كما أن من استهان بالمكروهات كذلك وفي الحديث : المؤمن يرى ذنوبه كأنه تحت جبل يخاف أن تقع عليه والفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا
ولا تقدر يا أخي على الوصول إلى العمل بهذا العهد إلا إن سلكت الطريق على يد شيخ صادق حتى يوصلك إلى حضرات تعظيم أوامر الله ونواهيه وإلى فمن لازمك التهاون بها
وسمعت سيدي محمد بن عنان يقول : لا يبلغ الفقير مقام الأدب مع الله تعالى إلا إن تاب من ترك السنن كما يتوب من ترك الواجبات ويندم على فعل المكروهات كما يندم على فعل الكبائر هذا لفظه
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا يبلغ العبد إلى مقام الأدب مع الله تعالى حتى يفرق بين الأوامر والنواهي فيعتني بالتوبة من ترك الواجب أكثر من توبته من ترك السنن ويندم في فعله للكبائر أكثر من ندمه عند فعله الصغائر ويندم في فعله للصغائر أكثر من ندمه في فعل المكروهات ويندم في فعله المكروهات أكثر من ندمه في فعل خلاف الأولى لأننا تابعون لا مشرعون أي فإن الشارع فاوت بين المأمورات والمنهيات فمن الأدب أن نفاوت بينها في المرتبة ولا نجعلها كلها واحدا فيحمل كلام سيدي محمد بن عنان على أحوال المريدين وكلام سيدي علي على أحوال العارفين لأن المريد في مقام الزجر والتنفير والترغيب والعارف في مقام التحقيق لبعد مقامه عن الاستهانة بفعل مأمور أو ترك منهي بخلاف المريد ولذلك رأى الأشياخ للمريد أن رمى ما بيده من الدنيا في البحر أقوى في استعداده من التصدق به شرط أن يضمنوا له في نفوسهم رجوع ذلك المال إليه إذا خلص من ورطة محبته للدنيا كما وقع لسيدي مدين وغيره فأرادوا حسم مادة إمساك الدنيا وإخراج حبها من قلبه ويده ثم إذا كمل حاله أمر بإمساكها وإنفاقها في مصارفها الشرعية وحرموا عليه إتلافها أو رميها في مضيعة أدبا مع الله تعالى فافهم
واللسان يقصر عن البيان لمن لم يسلك الطريق إذ من لازمه استشكال الأحكام بعضها بعضا ولو أنه سلك الطريق لم يجد حديثا ولا أثرا ولا قولا للأئمة يناقض آخر بل كل واحد محمول على مقام يليق به فإن الشارع يجل مقامه عن وجود التناقض في كلامه لأنه كان يخاطب كل جليس بما يناسبه كما يعرف ذلك من تصفح الشريعة . { والله غفور رحيم } (1/171)
- روى أبو داود وابن ماجه والترمذي مرفوعا : [ [ من أكل طعاما ثم قال الحمد لله الذي أطعمتني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه ] ] . وروى مسلم والنسائي والترمذي وحسنه مرفوعا : [ [ إن الله تعالى ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها ] ] . قال الحافظ : والأكلة بفتح الهمزة المرة من الأكل وقيل بضم الهمزة وهي اللقمة . وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه : أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى دار أبي أيوب الأنصاري فذكر الحديث بطوله إلى أن قال : فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا من لحم الجدي فوضعه في رغيف وقال : يا أبا أيوب أبلغ هذا فاطمة فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام فذهب به أبو أيوب إلى فاطمة فلما أكلوا وشبعوا قال النبي صلى الله عليه و سلم : خبز ولحم وبسر ورطب ودمعت عيناه وقال : والذي نفسي بيده إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة فكبر ذلك على أصحابه فقال : بل إذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا باسم الله وإذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي هو أشبعنا وأنعم علينا فأفضل فإن هذا كفاف بهذا . وروى أبو يعلي مرفوعا : [ [ من أكل فشبع وشرب فروي فقال الحمد الله الذي أطعمني وأشبعني وسقاني وأرواني خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] ] . قال الحافظ : والأحاديث في ذلك كثيرة . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نحمد الله تعالى بعد الأكل والشرب وبعد كل نعمة إظهارا للاعتراف بالنعم ولتدوم علينا فمن أكل وانصرف غافلا عن الحمد فهو كالبهائم وربما عوقب بزوال النعم وقساوة قلوب الخلائق عليه حتى يتمنى الموت فلا يجاب . وينبغي لوالد الطفل ووالدته أن يعلماه قول الحمد لله ولا يسامحاه في ترك ذلك وقتا واحدا ليصير ذلك من عادته وينبهاه على أن يقول ذلك بحضور القلب مع اللسان فإن القلب إذا شكر وقع الشكر من جميع الجوارح من حيث كونها رعيته وإذا شكر باللسان لم يتعد ذلك إلى غيره ولدوام النعم وتحويلها تحقيق آخر يعرفه أهل الله ليس هذا موضعه وإنما الشارع يخوف صغار العقول بالأمور التي يخافون منها طلبا لردهم إلى مقام الأدب إذا لا يتعدى الحدود في الغالب إلا من لم يكمل عقله وكامل العقل لا يحتاج إلى تخويف في الدنيا والآخرة لعلمه بأن جميع ما يحوله الله عنه مما بيده ليس له منه إلا ما استمتع به قبل التحويل والملك في جميع الأشياء لله تعالى فلا يتأثر على فوات شيء لأنه ما فاته إلا وهو ليس من رزقه ومن لازم كامل العقل أيضا حسن ظنه بربه فلا يحمل هم الزرق فهو مرفوع الهمة على أن يحمد ربه أو يعبده لعلة ثواب أو خوف من عقاب . وفي بعض الكتب المنزلة . يقول الله عز و جل ومن أظلم ممن عبدني لنعيم جنة أو لخوف من نار لو لم أخلق جنة ولا نارا لم أكن أهلا لأن أطاع . ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد السلوك على يد شيخ ناصح حتى يخرجه عن الرعونات النفسية ويصير يعبد الله امتثالا لأمره لا لعلة دنيوية ولا أخروية وذلك يحصل للمريد في أول مبادئ الطريق فليس هو بمقام عظيم كما يتوهمه من لم يسلك الطريق وقد تحققنا بذلك ولله الحمد أول دخولنا في الطريق وذلك أني لما ذقت مقام التوحيد والأفعال لله تعالى لم أجد لي عملا حتى أطلب به الثواب وإنما هو تعالى يحركني كالآلة الفارغة التي ليس عليها شيء ينتقل إلى غيرها كدولاب الغزل الفارغ والتكاليف تابعة للنسب والإضافات الشرعية وقد أضاف الله تعالى الأعمال بالوجه اللائق بنا وبنى على ذلك الثواب والعقاب ويكفينا ذلك في تعقل إقامة الحجة علينا . فاحمد يا أخي ربك محبة فيه وامتثالا لأمره لا ليعطيك شيئا في نظير ذلك تكن من أهل الأدب معه تعالى والله يتولى هداك (1/172)
- روى أبو داود والترمذي عن سلمان قال : قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء بعده فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم وأخبرته بما قرأت في التوراة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده ] ] . وفي سنده ضعف . وقال الحافظ عبدالعظيم هو حديث حسن قال : وقد كان سفيان الثوري يكره الوضوء قبل الطعام ولعله لم يبلغه فيه شيء من الشارع ؟ قال البيهقي وكذلك مالك ابن أنس كرهه وكذلك قال مالك الشافعي استحب تركه واحتج بحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي وهو حديث ابن عباس قال : كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم فأتى الخلاء ثم إنه رجع فأتى بالطعام فقيل له ألا تتوضأ ؟ فقال : لم أصل فأتوضأ . وفي رواية لأبي والترمذي فقال : إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة . وبوب عليه الحافظ عبدالعظيم باب الترغيب في غسل اليدين قبل الطعام إن صح الخبر . وروى ابن ماجه والبيهقي مرفوعا : [ [ من أحب أن يكثر الله تعالى خير بيته فليتوضأ إذا حضر غذاؤه وإذا رفع ] ] . قال الحافظ عبدالعظيم : والمراد هنا بالوضوء غسل اليدين . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتلقى جميع ما أنعم الله تعالى به علينا ونحن على طهارة كاملة كما نتطهر للصلاة والطواف ونحوهما فإن العلماء اختلفوا في المراد بالوضوء عند الأكل فقال قوم : المراد به الوضوء كاملا وقال قوم : المراد به غسل اليدين فقط فمشينا على الأحوط وهو الطهارة الكاملة فإن لم يتيسر ذلك غسلنا اليد والفم وكذلك نفعل بعد الأكل . وهنا أسرار يذوقها أهل الله لا تسطر في كتاب يعرفها من يعرف أن سيد القوم هو خادمهم ولذلك كان سيدي محمد بن عنان لا يمتنع من صب الأمير الكبير على يديه ولا يستحي من استخدامه ويقول : من امتنع من صب الكبير على يديه فكأن لسانه حاله يقول لا أمكنك أن تكون سيدا علي وكان سيدي علي الخواص لا يمكن أحدا يصب على يديه ولو زبالا فكان يشهد عبودية نفسه وسيادة غيره ويقول : ليس من الأدب استخدام السيد ولو طلب هو ذلك تجملا كما ننزهه عن أن يكون هو المزيل لقاذوراتنا ولكل مقام رجال ولكل رجال مشهد ومن هنا قال العلماء : لا ينبغي أن يقال سبحان خالق الخنازير مع أنه تعالى خالق لها بالإجماع ولو كشف للعبد الحجاب لخاطبته أسرار الله من كل ذات وحجب بالسر القائم بالذوات عن الذوات كما أشار إليه خبر : إن الصدقة تقع بيد الرحمن الحديث وأكثر من ذلك لا يقال . { والله غفور رحيم } (1/173)
- روى الشيخان مرفوعا : [ [ سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فذكر منهم إمام عادل ] ] . وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما مرفوعا : [ [ ثلاثة لا ترد دعوتهم : الصائم حتى يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم ] ] . وروى مسلم والنسائي مرفوعا : [ [ إن المقسطين عند الله تعالى على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ] ] . وروى مسلم مرفوعا : [ [ أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط موفق ] ] الحديث والمقسط : العادل . وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ عدل يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة ] ] . زاد في رواية الأصبهاني : [ [ قيام ليلها وصيام نهارها وجور ساعة في حكم أشد وأعظم عند الله عز و جل من معاصي ستين سنة ] ] . وروى الترمذي والطبراني مرفوعا : [ [ أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل ] ] . زاد في رواية رفيق . وسيأتي في عهود المنهيات عدة أحاديث تتعلق بالجور في الحكم والاحتجاب وغير ذلك فراجعه . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب من ولي من إخواننا ولاية في العدل في رعيته ومعاملتهم بالرفق والشفقة والإذن في الدخول عليه في كل وقت إلا في وقت ضرورة شرعية لأن من لم يكن مع رعيته كذلك عزلته المرتبة ونفرت منه وما ولى الله تعالى عبدا على عباده إلا أن يكون لهم كالأب الشفيق والأم الحنونة
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ ورياضة نفس حتى يصير يستلذ بمخالفة رعيته لأوامره العرفية ليحلم عليهم لأن الخلق في حجر الولاة كالنغم والمعز في يد راعيهم وربما انتشروا منه في أرض ذات شوك وهو حاف فهذا حكم الخلق ولولا أنهم بهائم لما احتاجوا إلى من يرعاهم
وفي الأثر الوارد أن موسى عليه السلام ما كلمه ربه إلا بعد صبره على رعاية الغنم وما من نبي إلا وقد رعى الغنم . والسر في ذلك الإدمان بصبره على الغنم قبل صبره على قومه وبلغنا أنه بالغ في الشفقة حتى أنه أورد الغنم مرة على الماء فكان فيهم نعجة عرجاء فلم تستطع أن تشرب من الجرف فنزل الماء وجعلها على ظهره حتى شربت فرعية كل راع من سلطان أو أمير أو شيخ في الطريق هم ربحه وخسرانه فيهم يربح وبهم يخسر
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : ينبغي لكل من ولاه الله ولاية على الناس أن يصبر على مخالفتهم لأوامره لا سيما في أوائل الولاية حتى ترتاض نفسه ويتمكن في مقام الصبر والحلم فإن من كانت رعيته منقادة له فهو خداع لا يظهر مقامه في الحلم فليقل من ضجر ممن ولاه الله لنفسه : إن لم تتحملي أنت عوج رعيتك فمن يحمله ؟ وبلغنا أن ذا الكفل عليه السلام لم يكن رسولا وإنما كفل رسول زمانه حين خرج في غزاة وقال له اخلفني في قومي خلافة حسنة فكان لا ينام في الليل ولا في النهار فتقلق يوما من ذلك فأراد أن ينام في القائلة فغلق بابه ووضع رأسه فأول ما خفق به النوم دق إبليس عليه الباب فتصدع رأسه وقال قم افصل بيني وبين خصمي وكان قصد إبليس أنه يتقلق ويترك الخلافة لما علم لذي الكفل في ذلك من الأجر العظيم فقام وفصل بينهما فأتاه في اليوم الثاني كذلك والثالث كذلك إلى أن ألهمه الله تعالى أنه إبليس فاستعاذ بالله منه فانصرف عنه فلولا أنه كان من الصالحين لفتنه عن دينه فلينتبه كل من ولي ولاية لمثل ذلك
وربما وسوس إبليس للمريدين بالأمور المخالفة للأدب مع الشيخ من كل وجه ليعرض الشيخ للنفرة منهم فيلتقمهم كما يلتقم التمساح السمك يصير يسخر بالشيخ فإنهم قالوا : حكم الشيخ حكم الصياد الذي يصطاد المريدين من أفواه الشياطين ويخرجهم من تحت أسنانهم
وقد وقع لي مرة أن جميع إخواني المقيمين في الزاوية تغيرت أحوالهم وثقل الذكر والخير على نفوسهم حتى لم يبق في يد حكمي منهم شعرة واحدة فأردت الانتقال من الزاوية إلى مكان ليس فيه فقراء فلما أردت الخروج من الزاوية تمثل لي إبليس تجاهها وهو يصفق ويرقص ويقول لي غلب غلب غلب فرجعت فزاد عليهم الأمر وطلبوا أن يحترفوا بالقرآن في ليالي الجمع وغيرها ويتركوا مجلس ذكر الله والصلاة على نبيهم احتسابا فتوجهت للنبي صلى الله عليه و سلم في الاستئذان في ذلك فرأيت سيدي عليا الخواص رحمه الله وهو واقف خلف باب لا أرى من وجهه إلا أنفه وهو يقول لي : يقول لك رسول الله صلى الله عليه و سلم اصبر على إخوانك طالبا وجه الله ولا تبال بمخالفتهم لأوامر الله عز و جل وتخولهم بالموعظة كل حين فعلمت أن ذلك إنما كان امتحانا لي في الصبر حين وسوس لي إبليس وقال لي ليس لتربيتك فيهم ثمرة والإنسان إنما يزرع في أرض تنبت الزرع ومن بذر في السباخ [ أي الأراضي المالحة . دار الحديث ] فهو قليل العقل وغاب عني أن الله تعالى ما طلب مني إلجاءهم إلى امتثال أمره وإنما طلب مني ما طلب من رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله : { إن عليك إلا البلاغ } . وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم من وفور شفقته يود أن لو دخل الناس كلهم الجنة فقال الله تعالى له : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } . وقال تعالى : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين }
فكل داع إلى الله تعالى لا بد أن يقع له كما وقع لرسول الله صلى الله عليه و سلم وراثة محمدية فيحجبه الله تعالى عن شهود انقسام أهل القبضتين إلى شقي وسعيد وعن كون ذلك حتما لا بد منه فلذلك يضيق صدر الداعي إذا عصوا أمره
فيحتاج الداعي إلى الله إلى مراقبة شديدة على الدوام عرفا لأنهم قالوا مراقبة الله على الدوام من غير تخلل فترة ليس من مقدور البشر فافهم
وقد قال لي مرة شخص من حذاق المريدين المقيمين عندي : لولا كثرة مخالفتنا لك ما عظم الله أجرك فأنت مأجور على كل حال إن أطعناك أو عصيناك فلك الأجر من الجهتين فالله تعالى يزيده توفيقا كما أيدني آمين فإنه نبهني على أن ذوق الأمور ليس هو كالسماع بها وثبتني حين تزلزت وقد ثبت الله تعالى الرسل بما قصه عن بعضهم فقال : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } . وقال : { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } . وقال : { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت } . وكل داع إلى الله تعالى على قدم رسول من الرسل وكل من جاءه بلاء فوق طاقته احتاج ضرورة ؟ ؟ والله هو المصبر له إن صبر فلا يوجد أحد أتعب قلبا ولا بدنا ممن يتولى أمور المسلمين لغلبة وقوع الملل منه وعدم تحمله ذم رعيته له لا سيما نظار المساجد فإن جميع المستحقين يؤذونهم بلسانهم ويشكونهم للحكام ويحملونهم على المحامل السيئة وأنهم يأكلون مال الوقف
ولما تولى عمر بن عبدالعزيز الخلافة سمع جيرانه بكاء وعويلا في داره فسألوه عن ذلك فقالوا إن عمر قد خير زوجاته وسراريه بين الإقامة عنده من غير مسيس إلى أن يموت وبين أن يعتقهن أو يطلقهن ؟ وقال قد جاءني أمر شغلني عنكن فلا أقدر ألتفت إلى واحدة منكن حتى أفرغ من الحساب يوم القيامة رضي الله عنه . وبلغنا أنه كان لا ينام ليلا ولا نهارا إلا بعض خفقات وهو جالس ويقول : إن نمت في الليل ضيعت نفسي وإن نمت في النهار ضيعت حقوق الرعية
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : يحاسب المؤمن الذي لم يتول ولاية عن نفسه في يوم كان مقداره قدر وقت صلاة يصليها ويحاسب من تولى ولاية عن نفسه وعن جميع رعيته ويسأل عن جميع رعيته ويسأل عن جميع حقوقهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فمن قام بواجبه حق ولايته كان إبليس له بالمرصاد فيدخل عليه الأمور التي يتقلق منها حتى يكاد يجزم بأنه يعزل نفسه من تلك الولاية وذلك مجرب لتحويل النعم والعزلة من تلك الولاية ثم إذا عزل يحرك الله تعالى عنده الندم عليها فيطلبها ويعسرها عليه حتى يقهره ويصير كالولي الذي سلب
وقد وقع لبعض إخواننا أنه تقلق من كثرة الواردين عليه ومؤونتهم فقلت له : إن الناس يتمنون إن يكونوا موضعك في النعمة ويصبرون على ضيافة الناس وقضاء حوائجهم قال : اخترت أن أدخل مصر وأسكن في بيت من غير زاوية ولا مريدين ففي تلك الجمعة قيض الله تعالى له من زوار له مكاتيب وادعى أن تلك الرزقه الموقوفة على سماط الفقراء الواردين والمقيمين له وصار شيخ الزاوية يبرطل الحكام على رجوعها فلم يجيبوه إلى وقتنا هذا فذكرته بقوله فاستغفر
فاصبر يا أخي على رعيتك كلما ملت نفسك منهم واعذر كل من فر من ولايته في هذا الزمان المبارك ولا تسخر به تبتل بنظير ذلك . وقد حكى لي الأمير محيي الدين بن أبي أصبغ أحد أركان الدولة بمصر : أن شخصا كان له جار من القضاة سيء الخلق وكان يخرج خلقه على الأخصام فكان جاره يبالغ في الإنكار عليه يقول : إيش هذا الخلق وكان لذلك القاضي بيت فوق مجلس حكمه فلما أكثر عليه جاره من الإنكار قال له : احكم يا أخي مكاني غدا لأني أنا عازم على شرب الدواء فقال نعم فجاءه خصم ادعى على خصمه أن له عنده مائة دينار فقال : ما له عندي شيء فالتمس من المدعي البينة فأتى بثمانية يشهدون بها فقال : هؤلاء شهود زور فأتى بمزكين فزكوهم فثبت الحق على ذلك الخصم وطلب التقسيط عليه فأبى صاحب الحق فما أجاب إلا بعد أن كادت روحه تزهق منه فقال كم تقدر كل يوم على نصف فقال لا أقدر على ذلك فجعل عليه ذلك القاضي عثمانيا كل يوم فقال : لا أقدر : فقال : كل جمعة عثماني فقال : لا أقدر فقال كل شهر عثماني فقال : لا أقدر فقال كل سنة عثماني فقال : لا أقدر فقام القاضي النائب ورمى عمامة نفسه وصار ينطحه برأسه ويرفسه وبرجله وهو يقول : لا أقدر على عثماني ثم نادى القاضي الأصيل فقال تعالى انزل لحكمك عذرتك عذرتك
وما ذكرت لك ذلك يا أخي إلا لتقيم الأعذار للناس في هذا الزمان إذا لم يصبروا على رعيتهم فإنهم في النصف الثاني من القرن العاشر الذي اختفى فيه أكابر الأولياء لعجزهم عن شروط الظهور من الصبر على مروق الناس من الحق وتكليفهم الولي أن يرد عنهم الأقدار مع تماديهم على القبائح فاعلم ذلك . { والله عليم حكيم } (1/174)
- روى أبو داود مرفوعا : [ [ ما من مسلم يخذل مسلم في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته وما من مسلم ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته ] ] . وروى أبو الشيخ ابن حبان مرفوعا : [ [ أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة فامتلأ قبره عليه نارا . فلما افرنقع عنه وأفاق قال علام جلدتموني ؟ قالوا إنك صليت صلاة بغير طهور ومررت على مظلوم فلم تنصره ] ] . وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ قال الله تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله ولأنتقمن ممن رأى مظلوما فقدر أن ينصره فلم يفعل ] ] . وروى أبو داود مرفوعا : [ [ من حمى مؤمنا من منافق أراه قال : بعث الله ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم ] ] . وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ أنصر أخاك ظالما أو مظلوما فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره ؟ قال تحجزه أو قال تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره ] ] . وفي رواية لمسلم : [ [ ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصرة وإن كان مظلوما فلينصره ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ننصر المظلوم ونرغب جميع إخواننا في ذلك حسب القدرة ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سياسة عظيمة بحيث يمهد لكل من الخصمين بساطا حتى يبادر كل منهما إلى العمل بإشارته لا سيما أرباب الجدال والنفوس الأبية فإن أحدهم يكون ظالما ويطلب من الناس أن يعينوه في الظلم وكل من خالفه سلقه بلسان حديد وآذاه كل الأذى وهذا هو الغالب على الناس اليوم ولذلك ترك بعضهم التخليص بين الناس لا سيما بين جند السلطان وأولاد العرب وصار الخصمان يتضاربان بالعصا والسلاح ولا يتجرأ أحد يدخل بينهما بل صار بعض الحكام يخاصمون من أصلح بين الأخصام كل ذلك لعدم استحقاق الرعية للرفق بهم فإن أردت يا أخي العمل بهذا العهد فتعلم طرق السياسة أولا ثم انصر المظلوم وإلا تحول الأمر الذي كان فيه المظلوم إليك واحتجت إلى من ينصرك
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول ليس للمظلوم ونصره أعظم من صبره على ظلم عدوه له واستشعاره نظر الله تعالى إليه ورضاه بعلم الله فيه وقد جربت أنا ذلك فصبرت على أذى خصمي ففعل الله به من الأذى ما لم يكن في حسابي
وفي الحديث : [ [ لا ينتصر عبد من عبيدي بي أعلم ذلك من قلبه يقينا فيكده أهل السماوات وأهل الأرض إلا نصرته عليهم ] ] وفي الحديث أيضا : [ [ أنا ولي من سكت ] ] . فلما جربت ذلك في هلاك خصمي صرت أقابله ببعض الأذى صورة باللسان من غير قلب رحمة به وخوفا عليه من سطوات الحق حين ينتصر تعالى لي وفي القرآن العظيم : { إن تنصروا الله ينصركم }
وقد جرب أن من غضب لله غضب الله لغضبه ومن غضب حمية جاهلية لم يغضب الحق لغضبه لأنه لم يغضب لله خالصا
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : من قوى قلب أخيه على الصبر على من آذاه فقد نصره أيضا وهو لائق بأهل الرياضات من الفقراء لا بكل الناس فإن من يطلب أجره من الله ويعفو ويصفح قليل في الناس اليوم وغالب الناس اليوم ليس قصدهم إلا أمور الدنيا وما رخص الله تعالى للخلق في مقابلتهم من أساء عليهم إلا تنفيسا لهم أما من أقدره الله على كظم غيظه فترك المقابلة له أفضل بلا خلاف مع أن رخصة المقابلة مشروطة بقدر ما يسكن به الغضب خوفا من إثارة فتنة أعظم من فتنة عدم المقابلة فإن بعض الناس ربما يمنع من أن يقابل عدوه بالسيئة فيزداد حنقا ويقع منه الأذى لخصمه أضعاف ما آذاه به ولما تأمل أهل الله تعالى في تسمية سيئة المجازاة سيئة تركوا المقابلة وقالوا : إذا قابلنا المسيء بقدر إساءته فماذا الذي تركناه من السوء ؟ فنحن إذا من أهل السوء وأيضا فإن الله تعالى إنما شرط في سيئة المجازاة المثلية تعريضا لعدم المؤاخذة فإن المثلية لا تكاد توجد لتعذر مساواتها للسيئة الأصلية في التأثير والأذى وفي موافقة الألفاظ أو الأفعال أو الحاضرين ذلك المجلس وغير ذلك فلذلك سارعوا إلى الصفح . { والله غفور رحيم } (1/175)
- روى الطبراني ورجاله رجال الصحيح مرفوعا : [ [ إذا تخوف أحدكم السلطان فليقل : اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم كن لي جارا من شر فلان بن فلان يعني الذي يريده وشر الإنس والجن وأتباعهم أن يفرط علي أحد منهم عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ] ] . وفي رواية له أيضا ورواتها محتج بهم في الصحيح عن ابن عباس قال : [ [ إذا أتيت سلطانا مهيبا تخاف أن يسطو بك فقل : الله أكبر الله أكبر أعز من خلقه جميعا الله أعز مما أخاف وأحذر أعوذ بالله الذي لا إله إلا هو الممسك للسماوات أن تقعن على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس . اللهم كن لي جارا من شرهم جل ثناؤك وعز جارك وتبارك اسمك ولا إله غيرك ثلاث مرات ] ] . ورواه الطبراني أيضا بإسقاط قوله ثلاث مرات ورواية الثلاث أصح . وروى ابن أبي شيبة مرفوعا عن أبي مخلد وهو تابعي ثقة : [ [ من خاف ظالما فقال : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه و سلم نبيا ورسولا وبالقرآن حكما وإماما نجاه الله منه ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نستعمل ما ورد من الكلمات عند خوفنا من ظالم ولو كان لنا حال نقابل به الظالم ميلا إلى إظهار الضعف وأدبا مع الله ثم مع السلطان الذي ولى ذلك الظالم مع أن ذلك الظالم ما سلط علينا إلا بذنوب وقعت منا ولم نتب منها توبة يقبلها الله تعالى فليرجع العاقل إلى نفسه ويفتش ما وقع فيه من الصغائر والكبائر وما ألحق بها ويتوب ويستغفر ثم بعد ذلك يلتجئ إلى الله تعالى ويدعوه بما ورد
وقد قال لي سيدي علي الخواص رحمه الله : إنه ليس من شأن الكامل أن يحمي نفسه من ظالم بالحال وإنما عليه الصبر وأما أصحابه فله حمايتهم من الظلمة بالحال فينفخهم مثلا أو يعزلهم من ولا يتهم وكذلك كان يفعل سيدي إبراهيم المتبولي كان يحتمل الأذى من الحكام في حق نفسه دون إخوانه ويقول : إنما أفعل ذلك لإخواني لعدم صبرهم وفاء بحقهم قال : وقد كان لي صاحب من أرباب الأحوال كان يقدر على تنفيذ حاله في السلطان فمن دونه وكان لا ينفذه في أحد وكان مكاريا فركب حماره يوما واحد من جند السلطان قايتباي من قنطرة الموسكي إلى مصر العتيق إلى الروضة ثم إلى الجيزة ثم إلى نواحي الأهرام وكان قد طعن في السن فصار الجندي يسوق الحمار ويقول له الشيخ ارفق بي يا ولدي فإني عاجز فلا يسمع له فلما وصل به إلى مكان ربيع الخيل طلب الشيخ منه كراءه فسحب الدبوس وضربه حتى كسر يديه وأكتافه ورجع الشيخ فنام نحو شهر ضعيفا
وأخبرني الشيخ نور الدين الشوني رحمه الله عن هذا المكاري بعينه أن شخصا قال له : ركبني إلى مسجد الخلفا قريبا من قنطرة الموسكي بخط حارة عبدالباسط وأعطاه ثلاثة نقرة وكان مع ذلك الشخص قفة فيها سمك مقلي فما مشي وراءه إلا يسير ثم قال له : انزل هذا مسجد الخلفا فوجد الشخص نفسه على باب السلام بالمدينة المشرفة فزار النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر وزار البقيع والشيخ واقف ينتظره على باب السلام بالسمك فلما خرج قال له إن شئت تقيم حتى يجيء الحاج وإن شئت ترجع معي فقال : أرجع معك فرجع معه وشرط عليه أن لا يتكلم بذلك لأحد حتى يموت الشيخ وذكر الشخص أن الشيخ حكى له واقعة الجندي الذي ركب حماره إلى ربيع الجيزة فقال له يا سيدي لو كنت مكانك لقتلت الجندي بحالي فقال لا يا ولدي ما أمرنا الله تعالى في هذه الدار إلا بالصبر على ظلم الظالم وأن نرى ذلك من بعض ما نستحق
وسمعت أخي أفضل الدين يقول : من كان مشهده مقام وأعوذ بك منك وظلمه ظالم فطريقه أن يلوذ بالله من تقدير الله فلا يستغني عن الحاجة إلى الله أحد وتأمل سيد المرسلين محمدا صلى الله عليه و سلم كيف أمره الله تعالى بالاستعاذة بالله : { من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد . } و { من شر الوسواس الخناس - من الجنة والناس } . هذا مع علو مقامه صلى الله عليه و سلم على مقام جميع الخلق . فاتبع يا أخي طريق الاقتداء ودر في الأبواب التي دخل منها الأكابر ولا تطلب الوصول إلى غرضك من غير طريقهم فإنها كلها مسدودة وقد علق الله الأسباب على المسببات وأحوج الخلق إلى الخلق وأحوج الجميع إليه شاءوا أم أبوا . { والله عليم حكيم } (1/176)
- أتى في عهود المناهي حديث الإمام أحمد مرفوعا : [ [ من تبع الصيد غفل ومن أتى أبواب السلطان افتتن وما ازداد عبد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا ] ]
وهو محمول على من دخل إليهم وهو راغب في دنياهم
وفي رواية للإمام أحمد وغيره مرفوعا : [ [ يكون بعدي أمراء يغشاهم غواش وحواش من الناس يكذبون ويظلمون فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه ] ]
وروى ابن ماجه مرفوعا ورواته ثقات : [ [ سيتفقه أناس من أمتي في الدين ويقرءون القرآن ويقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك كذلك لا يجتنى من قربهم ] ]
قال ابن الصلاح كأنه يعنى الخطايا والأحاديث في ذلك كثيرة وسيأتي غالبها في عهود المناهي . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نروض نفوسنا إذا طلبنا الدخول على الظلمة ومخالطتهم بالورع عن شبهات الدنيا والزهد في حلالها فإذا أحكمنا المقام في ذلك دخلنا بعد ذلك على كل ظالم وخرجنا من حضرته سالمين من الإثم إن شاء الله تعالى . وأما من دخل إليهم من غير أن يروض نفسه في الورع والزهد فمن لازمه غالبا الآثام والسكوت على منكراتهم لأن من يستمطر من أحد حسنة يخاف من تغير خاطر ذلك الأحد عليه ولو كان في ذلك سخط الله كما جرب بخلاف من يدخل إليهم زاهدا فيما بأيديهم بحيث لو قبلوا نعله ليأخذ مالهم لا يلين إليهم خوفا من الله فهذا يخرج سالما من الإثم ومن تسليطهم عليه بضرب أو حبس أو تحويل نعمة . ولما وشوا بذي النون المصري وجئ به من مصر إلى بغداد مقيدا مغلولا في محنة وقعت له مروا به على عجوز تسرح كتانا في مخزنها فقالت : ما هذه الكبكة فقالوا لها إنهم أتوا بذي النون المصري إلى الخليفة ليقتله لزعم أهل مصر أنه أتلف عقائد الناس فقالت العجوز : ائتوني به فأتوها به فقالت له : [ [ يا ذا النون إن أردت النصرة على من ظلمك بين يدي الخليفة فاستحضر عظمة الله تعالى ومثل نفسك أنت والأخصام والخليفة بين يدي الله عز و جل وهو الحاكم وإياك أن تخاف من الخليفة فيسلطه الله عليك وإياك أن تجيب عن نفسك فيكلك الله إليها بل اسكت وارض بعلم الله فيك وانتظر ما ينطق الله تعالى به الخليفة في شأنك ] ] فقال لها : نعم فلما مضوا به إلى بين يدي الخليفة ادعى عليه أهل مصر بأنه زنديق أتلف عقائد الناس فقال له الخليفة : ما تقول ؟ فقال : [ [ ماذا أقول ؟ إن قلت لا كذبتهم وأنا أستحيي أن أكذب مسلما وقد سافروا من مصر إلى هنا لتنصرهم علي وإن قلت نعم كذبت نفسي وظلمتها وطالبني الله بها ] ] . فسكت الخليفة ثم قال : [ [ إن كان هذا زنديقا فما على وجه الأرض مسلم ] ] ثم صنع له محفة وفرش له فيها نحو ويبة ؟ ؟ من الذهب وقال : [ [ أنفقه في سفرتك ولا تنسنا من دعائك ] ] فمر ذو النون على العجوز وقال لها : جزاك الله عني خيرا
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : [ [ من لم يعطه الله التصريف في الظلمة بالعزل والتولية وتحويل النعم وتأثيره في أبدانهم فليس له الإكثار من الدخول عليهم في شفاعة ولا غيرها لا سيما في هذا الزمان الذي قد صار الفقير فيه عند الظلمة من أحقر الناس لا يقبلون له شفاعة إما لعدم مشى الفقير على قواعد الصالحين وإما لعدم استحقاق الناس للشفاعة فيهم
وقد صحبت أنا جماعة من الولاة على قدم الزهد فيما بأيديهم فلم يردوا إلي شفاعة إلى أن عزلوا أو ماتوا فأحكم يا أخي مقام الزهد في أموالهم وهداياهم ثم ادخل عليهم ليلا ونهارا في الشفاعات لا يضرك ذلك إن شاء الله تعالى
وقد شفع سيدي الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه في يوم مائة شفاعة عند السلطان وهو يرد ولا يقبل فلما رجع مرة أخرى بعد المائة عرض عليه السلطان دراهم فردها وأشار إلى مدورات حجارة كانت بين يدي السلطان فصارت ذهبا فاستغفر السلطان من مخالفة الشيخ ورسم بقضاء جميع الحوائج التي يسأل فيها كلها
وذكر الشيخ محيى الدين بن العربي رضى الله عنه في الفتوحات المكية أنه دخل على الملك الظاهر بيبرس يشفع في وزير من وزرائه كان تغير عليه وأمر بصلبه فقال له السلطان : [ [ لا أقبل لك فيه شفاعة وذكر عنه أمور يستحق بها القتل ] ] فقال له الشيخ : [ [ يا مولانا السلطان أنا من جملة رعيتك وأستحيي من الله أن تضيق دائرة حلمي وصفحي على واحد من الناس فكيف بدائرة حلم مولانا السلطان ؟ ] ] قال الشيخ : [ [ فقبل شفاعتي فيه وقضيت عنده في ذلك المجلس مائة حاجة وثمانية عشر حاجة ] ] فمثل هؤلاء يا أخي هم الذين لا يخاف عليهم من الدخول على الملوك والأمراء والظلمة وأما محب الدنيا الذي يستمطر من الظلمة هدية أو حسنة فيخاف عليه من هلاك دينه { والله غفور رحيم } (1/177)
- روى الشيخان وأحمد والترمذي مرفوعا : [ [ من لا يرحم الناس لا يC ] ] . زاد في رواية للإمام أحمد : [ [ من لا يغفر لا يغفر له ] ]
وروى الطبراني ورواته رواة الصحيح مرفوعا : [ [ لن تؤمنوا حتى تراحموا قالوا : يا رسول الله وكلنا رحيم ؟ قال : إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة ] ]
وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ من لا يرحم الناس لم يC ] ]
وفي رواية له بإسناد جيد قوي مرفوعا : [ [ من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء ] ]
وروى أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح مرفوعا : [ [ الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ] ]
وروى الإمام أحمد بإسناد جيد : [ [ ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ] ]
وروى الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر ] ]
وروى الطبراني ورواته ثقات مرفوعا : [ [ إن هذا الأمر في قريش ما إذا استرحموا رحموا وإذا حكموا عدلوا ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ طوبى لمن تواضع في غير منقصة وذل في نفسه من غير مسألة وأنفق مالا جمعه في غير معصية ورحم أهل الذل والمسكنة ] ] الحديث
وروى أبو داود واللفظ له والترمذي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ لا تنزع الرحمة إلا من قلب شقي ] ]
وروى الشيخان وأبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه و سلم قبل الحسن والحسين عليهما السلام وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال الأقرع : [ [ إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحد قط ] ] فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ [ من لا يرحم لا يرحم ] ]
وروى الشيخان : [ [ أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ [ إنكم تقبلون الصبيان وما نقبلهم ] ] فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك ] ]
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد : [ [ أن رجلا قال : [ [ يا رسول الله إني لأرحم الشاة أن أذبحها ] ] فقال : إن رحمتها رحمك الله ] ]
وروى الطبراني والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين : [ [ أن رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أتريد أن تميتها موتات هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟ ] ]
وروى عبدالرزاق : [ [ أن جزارا فتح بابا على شاة ليذبحها فانفلتت منه حتى جاءت النبي صلى الله عليه و سلم فتبعها وأخذ يسحبها برجلها فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم : اصبري لأمر الله وأنت يا جزار فسقها سوقا رفيقا ] ]
وروى عبدالرزاق أن عمر رضى الله عنه رأى رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له : [ [ ويلك قدها إلى الموت قودا جميلا ] ]
وروى أبو داود عن أبى مسعود قال : [ [ كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة ومعها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرش ؟ ؟ فجاء النبي صلى الله عليه و سلم فقال : من فجع هذه في ولديها ردوا ولديها إليها ] ]
ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال : من حرق هذه قلنا : نحن قال : [ [ إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار ] ]
وروى الإمام أحمد وأبو داود : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه و سلم حن وذرفت عيناه فأتاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فمسح ذفراه فسكت فقال : من رب هذا الجمل ؟ لمن هذا الجمل ؟ فجاء فتى من الأنصار فقال : لي يا رسول الله فقال : أفلا تتقى الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلى أنك تجيعه وتذيبه ] ]
وروى الإمام أحمد عن يعلى بن مرة بإسناد جيد قال : [ [ كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم جالسا ذات يوم إذ جاء جمل يخبب حتى ضرب بجرانه بين يديه ثم ذرفت عيناه فقال : ويحك انظر لمن هذا الجمل ؟ إن له لشأنا قال فخرجت ألتمس صاحبه فوجدته لرجل من الأنصار فدعوته إليه فقال : ما شأن جملك هذا ؟ فقال : وما شأنه ؟ لا أدرى والله ما شأنه حملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية فأتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه قال : لا تفعل هبه لي أو بعنيه فقال : بل هو لك يا رسول الله قال : فوسمه بميسم الصدقة ثم بعث به ] ]
وفي رواية للإمام أحمد : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لصاحب البعير ؟ ما لبعيرك يشكوك ؟ زعم أنك سنأته حتى كبر تريد أن تنحره قال : صدقت والذي بعثك بالحق لا أفعل ] ]
وفي رواية أخرى : [ [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لصاحب البعير بعنيه فقال : لا بل أهبه لك يا رسول الله وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره فقال : أما إذا ذكرت هذا من أمره فإنه شكا كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه ] ] الحديث
وروى ابن ماجه عن تميم الداري قال : [ [ كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه و سلم إذ أقبل بعير يعدو حتى وقف على هامة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أيها البعير اشك فإن تك صادقا فلك صدقك وإن تك كاذبا فعليك كذبك مع أن الله تعالى قد أمن عائذنا وليس بخائب لائذنا فقلنا : [ [ يا رسول الله ما يقول هذا البعير ؟ ] ] قال : هذا بعير هم أهله بنحره وأكل لحمه فهرب منهم واستغاث بنبيكم صلى الله عليه و سلم فبينما نحن كذلك إذ أقبل صاحبه أو قال أصحابه يتعادون فلما نظر إليهم البعير عاد إلى هامة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلاذ بها فقالوا : يا رسول الله هذا بعيرنا هرب منذ ثلاثة أيام فلم نلقه إلا بين يديك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أما إنه يشكو إلي فبئست الشكاية قالوا : يا رسول الله ما يقول ؟ قال : يقول إنه ربى في أمنكم أحوالا وكنتم تركبون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ وترحلون عليه في الشتاء إلى موضع الدفأ فلما كبر استعجلتم فرزقكم الله منه إبلا سائقة فلما أدركته هذه السنة الخصيبة هممتم بذبحه وأكل لحمه فقالوا : والله يا رسول الله كان ذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ما هذا جزاء المملوك الصالح من مواليه فقالوا : يا رسول الله لا نبيعه ولا ننحره فقال : كذبتم قد استغاث بكم فلم تغيثوه أنا أولى برحمته منكم فإن الله نزع الرحمة من قلوب المنافقين وأسكنها في قلوب المؤمنين فاشتراه عليه الصلاة و السلام منهم بمائة درهم وقال : أيها البعير انطلق فأنت حر لوجه تعالى فرغا على هامة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عليه الصلاة و السلام آمين ثم رغا فقال : آمين ثم رغا فقال : آمين ثم رغا الرابعة فبكى النبي صلى الله عليه و سلم فقلنا : يا رسول الله ما يقول هذا البعير يا رسول الله ؟ فقال : يقول جزاك الله أيها النبي خيرا عن الإسلام والقرآن فقلت آمين ثم قال : سكن الله رعب أمتك يوم القيامة كما سكنت رعبي فقلت آمين ثم قال : حقن الله دماء أمتك من أعدائها كما حقنت دمي فقلت آمين ثم قال : لا جعل الله بأس أمتك بينها فبكيت فإن هذه الخصال سألت ربي فأعطانيها ومنعني هذه وأخبرني جبريل عليه السلام عن الله أن فناء أمتي بالسيف جرى القلم بما هو كائن ] ]
وروى البخاري وغيره مرفوعا : [ [ دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ] ]
وفي رواية له أيضا : [ [ عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت لا هي أطعمتها وسقتها إذا هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ] ]
والخشاش بالمعجمتين والشينين المعجمتين : هو حشرات الأرض والعصافير ونحوهما
وفي رواية لابن حبان في صحيحه أن النبي صلى الله عليه و سلم : [ [ رأى الهرة تنهش قبل المرأة ودبرها إذا أقبلت وإذا أدبرت ] ] أي في النار
وروى الإمام أحمد والطبراني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في حجة الوداع : [ [ أرقاكم أطعموهم مما تطعمون واكسوهم مما تلبسون فإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم ] ] . وفي رواية للترمذي في العبيد مرفوعا : [ [ إن أحسنوا فأقبلوا وإن أساءوا فاعفوا وإن غلبوكم فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم ] ]
وفي رواية للترمذي والأصبهاني مرفوعا : [ [ العبد أخوك فأحسن إليه وإن رأيته مظلوما فأعنه ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ للملوك طعامه وشرابه وكسوته ولا يكلف إلا ما يطيق فإن كلفتموهم فأعينوهم ولا تعذبوا عباد الله خلقا أمثالكم ] ]
وروى أبو داود وغيره عن علي كرم الله وجهه ورضى عنه قال : كان آخر كلام النبي صلى الله عليه و سلم : [ [ الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم ] ]
وفي رواية لابن ماجه أنه قال : [ [ الصلاة وما ملكت أيمانكم فما يزال يقولها حتى ما يفيض بها لسانه ] ]
وروى الطبراني مرفوعا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ [ الله الله فيما ملكت أيمانكم أشبعوا بطونهم واكسوا ظهورهم وألينوا لهم القول ] ]
وروى أبو داود والترمذي : [ [ أن رجلا قال : يا رسول الله كم أعفو عن الخادم ؟ قال : كل يوم سبعين مرة ] ]
والأحاديث في ذلك كثيرة وسيأتي بعضها في عهود المنهيات . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نشفق على جميع خلق الله تعالى من مؤمن وكافر بطريقه الشرعي كل بما يناسبه من الرحمة لكن لا نبالغ في الرحمة كل المبالغة بحيث نرحم الشاة فلا نذبحها مثلا لأن للرحمة حدا لا تتعداه وقد سمى الحق تعالى نفسه أرحم الراحمين وأمرنا بذبح الحيوانات فنذبحها مع رقة القلب ونضرب من شرد عن طريق الاستقامة من رعية وعبد وولد وبهيمة رحمة به على وجه التأديب لا التشفي للنفس ونكون أرحم به من نفسه وراثة محمدية وقد تحققنا بذلك ولله الحمد فأنا أتأثر على إخواني إذا فاتهم شيء من الخير أكثر مما يتأثر أحدهم إذا فاته ذلك وأحب لهم أن لا يكون معهم من الدنيا سوى ما يسد جوعتهم ويوارى عورتهم وأكره لهم الزيادة من الدنيا التي تشغلهم عن ربهم وهم لا يكرهون ذلك وأحب لهم الأمراض التي تكفر عنهم خطاياهم وأفرح لهم بها وهم يغتمون من ذلك وينقبضون له وأحب لهم أن يصبروا على ظلم الناس لهم وأذاهم لهم وهم يرضون بالصك والضرب بالنعال وأكره لهم الانتصار لأنفسهم وهم يحبون ذلك وهكذا فأنا أشفق عليهم وعلى دينهم من أنفسهم اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم
وسيأتي في عهود المنهيات التي رأيت في واقعة لوحا نزل من السماء في سلسلة من فضة في أرض البلور الأبيض فرأيت فيه ثلاث عيون تتفجر ماء أبيض من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج مكتوب على العين العليا : مستمد هذه العين من الله ومكتوب على الوسطى مستمد هذه العين من العرش ومكتوب على السفلى : مستمد هذه العين من الكرسي فألهمني الله أن أشرب من عين العرش فشربت منه حتى رويت فقصصت ذلك على الشيخ شهاب الدين المعبر فقال : [ [ تتخلق بالرحمة على جميع العالم على حسب الحد المشروع فالحمد لله رب العالمين
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : [ [ من شروط من تخلق بالرحمة على العالم أن يعامل الجماد معاملة الحي فيمسك كوز الماء مثلا ويضعه برفق وشفقة خوفا أن يتألم من الوضع ] ] قال : وقد وضعت الكوز مرة بعنف فقال : أه فمن ذلك اليوم وأنا أضعه برفق
وكان رضى الله عنه يملأ قعاوي ؟ ؟ الكلاب ويقول : [ [ إنهم مساكين لا يقدرون يملؤون من البئر إذا عطشوا ويمنعهم الناس من دخول دورهم ومن الشرب من حيضان دوابهم خوف التنجيس ] ]
وكان يرسل بعض تلامذته إلى المذبح فيأتي بشعث اللحم وبالطحال ونحوهما للقطط كل يوم ويقول : [ [ إن غالب الناس اليوم لا يطعم قطة الدار شيئا وإنما تخطف كلما قدرت عليه إذا جاعت على رغم أنفه ] ]
وكان يتفقد النمل الذي في شقوق الدار ويضع له الدقيق ولباب الخبز على باب جحره ويقول : [ [ يمنعهم من الانتشار لأجل القوت فإن النملة إذا جاعت خرجت تطلب رزقها ضرورة وعرضت نفسها لوقوع حافر أو قدم عليها فتموت أو تنكسر رجلها فإذا وجدت ما تأكل على باب جحرها استغنت عن الخروج ] ]
قلت : [ [ مما وقع لي أن زوجتي فاطمة القصبية أم ولدي عبدالرحمن نزل عليها حادر وأشرفت على الموت وغابت عن إحساسها وصاحت أمها وأهل الدار عليها حين رأوا أمارات الموت فحصل عندي كرب شديد لأجلها من جهة موافقتها للمزاج ودينها وخيرها فإذا بقائل يقول لي : [ [ ادخل مجاز الخلاء تجد ذبابة في شق سحبها ضبع الذباب وهي صائحة يريد أكلها فخلصها ونحن نخلص لك زوجتك ] ] فدخلت وصغيت ؟ ؟ إلى الشق فسمعت صياح الذبابة فوجدت الشق ضيقا لا يسع الأصبع فأدخلت عودا برفق واستخرجتها وخلصتها من ضبع الذباب فأفاقت أم عبدالرحمن في الحال وزغردت أمها هذا أمر وقع لي ] ]
وقد تقدم في هذه العهود أن سيدي أحمد بن الرفاعي وجد بأم عبيدة كلبا أجرب أبرص أجذم عافته نفوس الناس وأخرجوه من البلد فمكث الشيخ يخدمه في صحراء أم عبيدة نحو أربعين يوما وعمل عليه مظلة من الحر وصار يدهنه حتى برئ وغسله بالماء الحار وقال : خفت أن يقول الله لي يوم القيامة : [ [ أما كانت فيك رحمة تشمل كلبا من خلقي ] ]
وسمعت أخي أفضل الدين مرة يقول : [ [ من الأدب إذا ركب العبد دابة أن يرحمها بالنزول عنها ولا يركب إلا عند الضرورة ] ] . وقد رأيته رضى الله عنه قلب حافر الحمارة لما نزل من عليها وقبله وقال : [ [ اجعليني في حل ] ] وصار يعتذر إليها كما يعتذر لمن اعتدى عليه من الناس رضى الله عنه . وكان يقول : [ [ لا ينبغي لفقير أن يجعل للنمل الطائف على رزقه مانعا يحول بينه وبينه من قطران ونحوه إلا بعد أن يخرج له نصيبا معلوما من ذلك ويضعه له على باب جحره ] ] . وهذا العهد قد صار غالب الخلق لا يلتفت إلى العمل به حتى حملة القرآن بل صار الناس يضربون المثل بحرمانهم القطة من طعامهم ويقولون : صار فلان وفلان يأكلون من الشيء الفلاني وأنا واقف أنظر إليهم لا يرمون لي شيئا مثل قطة الفقيه
فارحم يا أخي الخلق على حسب درجاتهم وتفاوتهم على الوجه الشرعي والله يتولى هداك (1/178)
- روى أبو داود وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسى ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسى لم يذكره وإن ذكر لم يعنه ] ]
وفى رواية للنسائي مرفوعا : [ [ من ولى منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسى ذكره وإن ذكر أعانه ] ]
روى البخاري والنسائي مرفوعا : [ [ ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله ] ]
وفى رواية : [ [ وهو إلى من يغلب منهما ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب كل من صحبناه من الولاة أن يتخذ له وزيرا صالحا وبطانة حسنة كما درج عليه الخلفاء الراشدون وذلك لأن للولاية والحكم في الناس لذة وسكرا يزلزل العقل والوزير ليس عنده تلك اللذة فربما يجزم السلطان أو الأمير بفعل شيء ويراه صوابا وهو خطأ فيأتي الوزير فيقول يا مولانا السلطان إن فعلت كذا وقع كذا فيرجع السلطان في الحال عن ذلك الأمر فكأنه كان نائما واستيقظ ولعل وجود الوزير الصالح قد فقد وتودع من وجوده ما بقيت الدنيا وذلك لأمور يطول شرحها : [ [ منها أن الولايات قد وليها غير أهلها بحكم الوعد السابق من رسول الله صلى الله عليه و سلم فلو لم يقع ذلك لزم الخلف لما وعد به صلى الله عليه و سلم وهو الصادق . ومنها عدم استحقاق الرعية في هذا الزمان للرفق بهم والشفقة عليهم لما هم منطوون عليه من المعاصي والقبائح التي تكل الألسن عن وصفها كما يعرف ذلك الحكام والمخالطون للناس . ومنها تقصيرهم في عبادة ربهم وتركهم قيام الليل وصيام النهار وأكلهم الحرام والشبهات والتعاون عند الظلمة في ظلم بعضهم بعضا ] ]
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : [ [ لم يزل الحق تعالى ينظر إلى هذه الأمة المحمدية بعين الرعاية والحفظ من الآفات ظاهرا وباطنا وإنما سلط عليهم الحكام بالجور والظلم ليجبر تعالى خلل ما فرطوا فيه من العبادات وربما كانت البلايا والمحن في حقهم أنفع لهم من الصدقات والخيرات وأكثر أجرا وأثقل في موازينهم ] ]
وكان سيدي إبراهيم المتبولي رضى الله عنه يولى الناس الملاح عند الظلمة وأهل المكوس ويقول : [ [ إذا وقف أحدكم في هذه الوظيفة وعمل فيها خيرا وستر على من يراه من التجار والسوقة ولم يأخذ منها شيئا كان أفضل له من أن يجلس يسبح الله تعالى في سبحة وكان يقول لهم : [ [ إياكم أن تقفوا لمصلحة نفوسكم وحرروا نيتكم على مصالح المسلمين وكل من قدرتم عليه من الهاربين من المكس فاكتموا أمره عن المكاسين ] ]
وكان سيدي علي الخواص رحمه الله يقول لصاحب الجهة : [ [ لا تظن أن تقريطك ؟ ؟ على الناس يكثر مالك وإنما يكثره تفريج الناس من المكس فتخرج من وظيفتك سالما من الديون السلطانية لكونك قللت من مظالمك لله تعالى ] ] . وكان يقول : [ [ أعطوا الخفراء عادتهم إذا جئتم إلى مصر من الحجاز أو الشام على وجهة ؟ ؟ أن ذلك خفارة لا مكس فأنكم ما جئتم إلا في ظل سيف السلطان ولولا وجود السلطان ما استطاع أحد منكم أن يخرج إلى البراري بماله وحريمه ] ] وكان يقول : [ [ أخفوا عن المكاسين كل ما قدرتم على إخفائه فإن خفتم ضررا من إخفائكم فأعطوهم عادتهم فربما غمز أحد عليكن فصرتم تسألونهم بأضعاف ما كانوا يأخذونه منكم فلا يرضون وربما حبسوكم وضربوكم ] ] وكان يقول : [ [ لو أن التجار قاموا بما عليهم لله تعالى في أموالهم من الصدقات الواجبة والمستحبة لم يسلط عليهم مكاسا ولا ظالما لكن لما بخلوا ومنعوا حق الله تعالى سلط الله تعالى عليهم الظلمة ] ] قال : [ [ ونرجو من فضل الله تعالى في الآخرة أن يخفف بذلك حسابهم كما يفعل بجميع المظالم ] ]
قال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }
فاعلم أن وجود الصالحين والوزراء الناصحين تابع لأعمال الخلائق من الرعية استقامة وعوجا فإن قال الرعية " نحن لا نقدر أن نستقيم في أعمالنا " قلنا لهم " فاعذروا ولاتكم فانهم عنكم تفرعوا فكما لا قدرة لكم على الكف عن الأعمال السيئة فكذلك لا قدرة لل ؟ ؟ على رد الجزاء السيء عنكم
فاعذروهم بما تعذرون به نفوسكم فأسسوا هذا الأساس أولا ثم انسبوا لهم الظلم ولنفسكم العوج واستغفروا الله كلكم لأن التوبة هي الرجوع إلى تقدير الله وإنه لا راد لما قضى " . وفى هذا أدب عظيم مع الحق تعالى باطنا لكن لما كان فيه رائحة لإقامة الحجة على ربه وجب عليه إخفائه وإظهار أنه عصى باختياره واستحق العقوبة ومن لم ينظر بهاتين العينين فهو أعور من فقيه وفقير . { والله غفور رحيم } (1/179)
- روى مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي مرفوعا : [ [ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ] ]
وفي رواية للنسائي : [ [ من رأى منكم منكرا فغيره بيده فقد برئ ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان ] ]
وروى البخاري عن عبادة بن الصامت قال : [ [ بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ] ]
وروى أبو داود وغيره مرفوعا : [ [ أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر أو أمير جائر ] ]
وروى البخاري والترمذي مرفوعا : [ [ مثل القائم في حدود الله تعالى والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا إن خرقنا في سفينتنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ] ]
وروى الترمذي مرفوعا : [ [ والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ] ]
وروى أبو داود مرفوعا : [ [ إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوب بعضهم ببعض ثم قال : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون } ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ [ كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ] ]
أي تعطفونه وتقهرونه وتلزمونه باتباع الحق كرها عليه
وروى أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا ] ]
وروى أبو الشيخ والبيهقي عن أبي هريرة قال : [ [ قلت يا رسول الله من خير الناس ؟ قال أتقاهم للرب عز و جل وأوصلهم للرحم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر ] ]
وروى الأصبهاني مرفوعا : [ [ أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يرفع رزقا ولا يقرب أجلا وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء ] ]
وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها وترد عنهم العذاب والنقمة ما لم يستخفوا بحقها قالوا : يا رسول الله وما الاستخفاف ؟ قال : يظهر العمل بمعاصي الله فلا ينكروا ولا يغيروا ] ]
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ إذا رأيت العلماء تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم ] ]
وسيأتي عدة أحاديث في عهود المنهيات . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر سواء أنفسنا وغيرنا فإن كلاهما واجب
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ صادق يعرفه طرق السياسة ليدخل منها إلى حضرة انقياد الناس له فإن كثيرا من الناس يأمر بمعروف أو ينهى عن المنكر من غير سياسة فيزداد المنكر بقيام نفس ذلك العاصي أو الظالم مثلا
وقد رأيت فقيها مر في الحمام على شخص مكشوف الفخذين فوكزه برجله باحتقار وازدراء وقال حرام عليك هذا فقال الشخص جكارة فيك يا فقيه أن أرمي المئزر أصلا فرماه جكارة في الفقيه ولو أنه كان يعرف طرق السياسة لجلس إليه برفق وقال له في أذنه يا سيدي أنت من ذوي المروآت ونخاف أن أحدا ينظرك فيعترض عليك فكان الآخر يقول له جزاك الله تعالى عني خيرا وكثيرا ما يأمر إنسان بمعروف أو ينهى عن منكر بغير سياسة فيحصل له ضرر ويصير يقول أنا الظالم الذي أمرت فلانا أو نهيته ولكن تبت إلى الله إني ما عدت آمر بالمعروف أو أنهى عن المنكر فيجعل الواجب محظورا ويستغفر منه وكل ذلك من قلة السياسة
واعلم يا أخي أن الإجماع منعقد على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال الله تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } . وما قام الدين إلا بذلك وقد ذم الله تعالى بني إسرائيل بقوله تعالى : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون }
وقد جعل الشارع صلى الله عليه و سلم لتغيير المنكر ثلاثة طرق : اليد واللسان والقلب وكان سيدي علي الخواص رحمه الله يقول : تغيير المنكر باليد للولاة الذين إن ضربوا العاصي لا يقدر بضربهم وتغييره باللسان للعلماء العاملين فيأمرون الناس وينهونهم فيمتثلون قولهم وتغييره بالقلب لكمل العارفين فيتوجه العارف إلى الله في كسر جرة الخمر فتنفلق نصفين بنفسها والى الظالم فتيبس يده التي يضرب بها ذلك المظلوم فقلت له : إن الشارع جعل ذلك أضعف الإيمان فقال : [ [ جعله صحيح لأن الإنسان كلما ارتفع عن حجاب الإيمان إلى حضرة الإحسان رق حجاب إيمانه فكنى عن تلك الرقة بالضعف بالنظر لمرتبة الشهود الواقع لأهل حضرة الإحسان فليس المراد بضعف الإيمان الضعف المذموم لأن صاحب هذا الحال قد ارتقى عن الإيمان خلف الحجاب إلى حضرة الشهود كالذي كان مؤمنا بشيء من وراء حائط من زجاج ثخينة لا يرى أحد ما وراءها فصارت ترق وتدق حتى صارت كالبلور تحكي ما وراءها فهذا معنى قوله " أضعف الإيمان " وأما على ما يفهمه غالب الناس من أنه ينكر بقلبه فليس ذلك بتغيير للمنكر بل هو باق والشارع قد صرح بأنه يغيره بقلبه وليس التغيير إلا ما ذكرناه من كسر جرة الخمر مثلا فافهم هذا مع أنا نقول الإنكار بالقلب واجب على كل مسلم
وكان سيدي إبراهيم المتبولي يقول لأصحابه : [ [ إذا رأيتم منكرا فغيروه بقلوبكم لا سيما منكرات الولاة والظلمة وجند السلطان ولا تطلبوا تغييره باليد واللسان فيضربوكم ونزل الشيخ مرة هو والفقراء تحت شجرة جميز بنواحي المطرية خارج مصر المحروسة فجاء جماعة من مماليك السلطان فنزلوا وأخرجوا جرار الخمر والأقداح فقال بعض الفقراء يا سيدي نريد نكسر جرارهم فقال يضربوكم علو حمار ولكن إن كان لأحد منكم قلب فليتوجه إلى الله تعالى في كسر جرارهم واشتغالهم ببعضهم فتوجه منهم فقير فانكسرت جرار الخمر وظن كل واحد أن صاحبه كسر جرته فتضاربوا بالسلاح حتى تجرحوا وركبوا يشتكون بعضهم بعضا لأستاذهم فقال الشيخ هكذا فغيروا المنكر فإن مد اليد في هذه الدار ليس هو للفقير فإن مد يده قطعت
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : [ [ إني لأتعجب ممن يشتغل بإزالة منكرات الغير ولا يسعى في إزالة منكرات نفسه ويهجر الغير لأفعال نفسه الرديئة وإن كان واجبا ولكن الله ذم من ينسى نفسه ويشتغل بأمر الخلق في قوله تعالى : { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم }
أي وهو أقرب الأشياء إليكم وقال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون }
وقد قالوا : تخلص من الغرق ثم اشتغل بأخذ يد غيرك مع وجوب عزمك حال غرقك أنك تأخذ بيد غيرك . وكذلك القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اشتغل بأمر نفسك ونهيها وأنت عازم على أمر غيرك ونهيه وليس المحظور إلا أن تشتغل بنفسك وأنت عازم على أنك لا تأمر غيرك فأنت كمن خاف من أمره بمعروف أو نهيه عن منكر ثوران نفس المأمور أو المنهي وزيادته في المعصية فمن السياسة أن تترقب له وقتا آخر وأيضا فإن من كان جالسا يشرب الخمر فصار يقول لإنسان آخر يشرب حرام عليك لا يؤثر قوله في ذلك الشارب بل يضحك عليه ويقول له قل ذلك لنفسك وقد قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا فعلت كذا فأنت حكيم
وهذا العهد يخل به كثير من الناس لأجل عدم سلامتهم من المنكر فيخافون أن ينكروا منكرا فيقول الناس انهوا أنتم أنفسكم عن كذا وكذا ولو أنهم سلموا من المنكر لربما انقاد الناس لهم ومن هنا قالوا لا ينبغي لإنسان أن يعظ الناس إلا إن كان متعظا قبلهم فلا يأمرهم بترك الدنيا ويزاحم هو عليها ولا يأمرهم بالصدقة ويبخل هو ولا يأمرهم بقيام الليل وينام هو وقس على ذلك لأن رؤية الناس إلى أفعاله تحجبهم عن سماع مقاله ولا يخفى أن ذلك أكثري لا كلي فلا يلزم من عدم انقياد الناس للواعظ أنه غير عامل بعلمه فإن الأنبياء عليهم السلام عاملون بعلمهم بالإجماع لعصمتهم ومع ذلك فما أطاعهم وانقاد لهم إلا القليل وإنما الانقياد راجع للقبضتين والداعي جاء يميز بدعوته بين أهل كل قبضة لا غير وليس بيده سعادة ولا شقاوة قال تعالى : { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين }
وكذلك الحكم في كل داع إلى الله إلى يوم القيامة وقول الناس حصل لفلان خير ببركة سيدي الشيخ إنما هو أدب فقط مع ذلك الشخص ولو حققوا النظر لوجدوا ضرره أكثر من نفعه على مصطلح فهمهم فإن أتباعه في الخير قليل ومخالف ذلك كثير فقد أضر بهم بإقامة الحجة عليهم عند الله تعالى ولم يبق لهم عذر ولو أنه لم يأمرهم ولم ينههم لربما قالوا : [ [ يا ربنا لم يأتنا نذير ] ] ومن هنا قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي لما مدحوا أتباعه وكثرة نفعه : [ [ ضررنا أكثر من نفعنا والهالك من أتباعنا أكثر من الناجي لأننا نبين لهم فيخالفون فيهلكون ومؤاخذة الإنسان بعد البيان أشد من مؤاخذته من غير بيان ] ] فاعلم أن الكامل من نظر ماله ليشكر الله وما عليه ليستغفر الله وإن كانت أدلة الشريعة تشهد بأنه ليس على الداعي إثم من حيث كونه كان سببا لمؤاخذة من خالفه وإنما ذلك من حيث أن ثم لنا مقاما رفيعا وأرفع فلا يقال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب فكيف يشرع لفاعله الاستغفار ؟ لأنا نقول قد قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم : { إذا جاء نصر الله والفتح } يعني فتح مكة . { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا }
فأمره بالاستغفار من حيث أم ذلك الجهاد والاشتغال بهداية الأمة اشتغال بالخلق في الجملة فلما رقاه إلى الاشتغال بالحق دون الخلق استغفر من ذلك المقام والى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه و سلم : [ [ لي وقت لا يسعني فيه غير ربي ] ]
أي غير الاشتغال به كما في حال الصلاة إذ لا يؤمر أحد فيها بأمر ولا نهى للغير
وقد بلغنا أن داود عليه السلام لما شرع في بناء بيت المقدس كان كلما بنى شيئا أصبح منهدما فقال : [ [ يا رب إني كلما بنيت بيتك يهدم ] ] فأوحى الله تعالى إليه : [ [ إن بيتي لا يقوم بناؤه على يد من سفك الدماء ] ] قال داود : [ [ أليس ذلك في سبيلك ] ] فقال تعالى : [ [ بلى ولكن أليسوا خلقي ] ] . ويؤيد ذلك قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها }
أي لأن في السلم والصلح عدم سفك الدماء فرجح الحق تعالى تأخير قتلهم وتقريرهم على كفرهم لأجل القبضتين وهنا أسرار يذوقها أهل الله لا تسطر في كتاب . والله تعالى أعلم (1/180)
- وروى مسلم وأبو داود واللفظ له والترمذي وحسنه النسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ] ]
وفي رواية لمسلم مرفوعا : [ [ لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ لا يرى مؤمن من أخيه عورة فيسترها عليه إلا أدخله الله بها الجنة ] ]
وروى أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد أن أبا الهيثم كاتب عقبة بن عامر قال لعقبة : [ [ إن لنا جيرانا يشربون الخمر وأنا داع الشرط ليأخذوهم قال : لا تفعل وعظهم وهددهم فقال : إني نهيتهم فلم ينتهوا وأنا داع الشرط ليأخذوهم فقال عقبة : ويحك لا تفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ من ستر عورة فكأنما أحيا موؤودة في قبرها ] ]
والشرط بضم الشين المعجمة وفتح الراء : هم أعوان الولاة الظلمة الواحد منهم بضم الشين وسكون الراء
وروى أبو داود والنسائي أن ماعزا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فأقر عنده أربع مرات يعني بالزنا فأمر برجمه وقال لهزال : [ [ لو سترته بثوبك لكان خير لك ] ]
قال الحافظ : وسبب قول النبي صلى الله عليه و سلم لهزال : [ [ لو سترته بثوبك ] ] ما رواه أبو داود وغيره عن محمد بن المنكدر : أن هزالا أمر ماعزا أن يأتي النبي صلى الله عليه و سلم وكان ماعز بن مالك يتيما في حجر هزال فأصاب جارية من الحي فقال له هزال : ائت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك واسم المرأة التي وقع عليها فاطمة وقيل غير ذلك . والله تعالى أعلم
وروى الطبراني مرفوعا ورجاله رجال الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة ] ]
وروى ابن ماجه بإسناد حسن مرفوعا : [ [ من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته ] ]
وروى الترمذي وغيره مرفوعا : [ [ يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عز و جل عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ] ]
ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وما أعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك
وسيأتي في عهود المنهيات زيادة على ذلك فراجعه . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نستر جميع عورات المسلمين مع تبيينها لهم سترا على نقائصهم وأول ما ترجع فائدة ذلك علينا في الدنيا والآخرة فإن من ستر ستر ومن هتك الناس هتك جزاء وفاقا
واعلم أن كل من كمل عقله لا يستبعد وقوعه بشيء من الذنوب فإن لم يكن وقع فيها فهو معرض للوقوع فيها فلينظر في جميع ما وقع فيه الناس وسحبوا إلى بيت الوالي يجد نفسه قابلة له لأن طينة البشر واحدة إلا من عصمه الله كالأنبياء ثم من أقبح ما يكون ذكر من كان عاصيا ثم تاب أحدا من العصاة بسوء وقد قالوا في المثل : تابت الزانية البارحة فقالت مقصودي الوالي يكبس على بنات الخطأ الكلاب الذين لا يخافون الله ونسيت نفسها وما كانت عليه
ثم أعلم يا أخي أن العاصي ما دام يغلق عليه بابه ولا يتجاهر فله الستر فإذا تجاهر فلنا كشفه وكذلك لا يجوز لك أن تذكر للناس ما رأيته يفعله من خلف باب أو طاقة أو دور قاعة وكن أولى به من نفسه ولكن لا بأس بأن تذكر له بعض ما رأيت فلعله يتوب وهذا العهد قد صار العمل به أعز من الكبريت الأحمر فلا تكاد تجد أحدا من إخوانك الأصدقاء فضلا عن غيرهم يستر لك عورة إذا اطلع عليها بل ينشرها في الناس وكلما وصيته على الكتمان تحركت عنده الداعية للإفشاء
وقد قال الإمام الغزالي : لا تركن إلى صديق حتى تمتحنه غاية الامتحان فربما أحصى عليك الزلات حال رضاه عنك ليهجوك بها حال سخطه عليك كما هو مشاهد كثيرا فيمن يصحب الناس لغير الله . بل وقع لسيدي يوسف العجمي أن شخصا مكث عنده نحو ثلاث سنين يطلب الطريق إلى الله تعالى والشيخ لا يلتفت إليه فلما أكثر على الشيخ قال له : يا ولدي أنت عندي بمنزلة ولدي ومقصودي أن تستر علي فإني قتلت نفسا هذه الليلة رأيتها بين عيالي وها هو في ذلك الفرد الخوص فاحمله في هذه الليلة واخرج به إلى الكوم وادفنه ولك عندي دينار ذهبا ففعل الشخص ذلك ثم إن الشيخ تنكر على ذلك المريد ثاني يوم وأمر بإخراجه من الزاوية ورمى حوائجه في الشارع فما شعر الشيخ إلا ومقدم الوالي ونائبه جاءوا إلى الشيخ واتهموه بقتيل وقالوا معنا بينة تشهد بموضع دفنه فأمر الشيخ بعض الفقراء أن يذهب معهم إلى الكوم فاستخرجوا الفرد وفتحوه فإذا هو خروف فمقت ذلك الفقير واتهم بالزغل فشنقوه بعد جمعة
وحكى لي الشيخ شمس الدين البوصيري أنه خدم سيدي الشيخ أبا السعود الجارحي نحو ثلاثين سنة والشيخ آخذ حذره منه فقال له يوما : يا سيدي مرادي تطلعني على شيء من أسرار أهل الله عز و جل فقال : يا محمد والله ما أءتمنك ؟ ؟ على إخراج ريح أخرجه بحضرتك خوفا أن تحكيه للناس
وبالجملة فيحتاج من يخالط الناس اليوم إلى أن يروض نفسه حتى يكون كعالية العوال في الدقاف ويصير يخشى الله بالغيب ويخاف أن يمقته إذا ذكر أحدا من عبيده بسوء لا سيما العلماء العاملون والفقراء الصادقون فإن ملاحظهم دقيقة وربما ظن بعض المجادلين في عقائدهم نقصا أو في أعمالهم خللا فيحكى ذلك للناس من غير أن يراجعهم في ذلك فيمقته الله لأن كل من استند إلى الله دون خلقه كان الله له بالنصر وهذا من شأنهم على الدوام لا يعولون قط على نصرة مخلوق ولا يشتكونه من بيت حاكم ولو فعل معهم ما فعل فلما أكرموا عبيده لأجله كذلك أكرمهم وأجلهم
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : من ادعى أنه من أهل الله ولم يتحمل الأذى من عبيده فقد كذب
وسمعت مرة أخرى يقول : إذا نازعتك نفسك في إظهار عورة مسلم فقل لها انظري ثمرة ذلك فإنك إذا أظهرتيها للناس لا بد من إظهار جميع زلاتك على رؤوس الأشهاد يوم القيامة حتى تفتضحي بحضرة من كان يعتقد فيك الصلاح في الدنيا فربما أن النفس تكتم ما رأت وليتأمل الذي يظهر عورات الناس بعينه يجد نفسه أغضب الله وتعرض للهتيكة ولا يعطيه الناس لأجل ذلك شيئا إنما ذلك رفث ومقت وفسوق لا غير نسأل الله تعالى العافية
وبالجملة فلا يتجسس على العورات إلا فاسق فإن القلب المطهر من السوء لا يظن في الناس إلا خيرا
ورأى سيدي مدين فقيرا تجسس على فقيرا دخل الخلوة بشاب أمرد فأخرج الشيخ ذلك المتجسس من الزاوية وقال : لولا أنك من أهل السوء ما ظننت السوء فقال : يا سيدي التوبة فقبل الشيخ توبته وأمره بأن يعامل إخوانه معاملة من يسيء بهم الظن من غير سوء ظن وأمر المتهومين بتحمل الأذى من جميع الناس وقال لهما : من سلك مسلك التهم فلا يلومن من أساء به الظن فعلم أن كل من اشتكى أحدا أذاه من بيت حاكم فليس له في طريق أهل الله نصيب
فاستر يا أخي إخوانك إن طلبت أن تخرج من الدنيا مستورا . { والله غفور رحيم } (1/181)
- وروى النسائي وغيره مرفوعا : [ [ لحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا ] ]
وفي رواية له موقوفا على أبي هريرة : [ [ إقامة حد في الأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة ] ]
وفي رواية لابن ماجه مرفوعا : [ [ حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا ] ]
وفي رواية للطبراني مرفوعا بإسناد حسن : [ [ حد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين عاما ] ]
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ أقيموا حدود الله في القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم ] ]
وسيأتي في عهود المناهي عدة أحاديث تتعلق بذلك . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نعين من يقيم الحدود على إقامتها ومن يؤدب ولده أو تلميذه على تأديبه ولا نعارضه في ذلك ولا نداهن فيه مساعدة على إقامة شعار الدين وتطهيرا للمحدودين والمجلودين للتأديب ومن سعى في عدم جلدهم أو حدهم فقد غشهم وآذاهم في دينهم بإبقاء دنسهم ونجاستهم فهو يزعم أنه يحبهم وفعله فعل من يكرههم
فإياك يا أخي أن تشفع فيمن وقع فيما يوجب الحد من شرب الخمر وقذف عرض أو ما يوجب التأديب من سفه صغير على كبير أو طفل على أمه وأبيه أو تلميذ على شيخه فإن ذلك غش له بل ساعده على تطهيره ما أمكن وإن تكدر منك في الدنيا أو في الصغر فسوف يشكرك على ذلك في الآخرة أو عند بلوغ درجة الرجال في الطريق ويقول جزاك الله عني خيرا وينبغي للمؤدب أن يفتش نفسه عند ضرب التأديب فربما يكون عنده من الطفل نفس من جهة شكوى زوجته مثلا لقلة قضائه حاجتها ونحو ذلك فتحرش عليه والفقيه في الغالب كثير السماع لزوجته فيجعل ذلك طوخا في مليج ويبتكر له ذنبا ويمسك عليه الغلطة ثم يضربه موهما للناس أن ذلك الضرب للتأديب وإنما هو لتحريش امرأة الفقيه
وقد قال لي الشيخ نور الدين الجارحي وكان من أهل العلم الكبار : يا ولدي قد أحسست بعقلي نقص فقلت له : من أي شئ ؟ فقال : أنا بالنهار مجالس للأطفال وبالليل مخالط للنساء فسرق طبعي منهم . فليحذر الفقيه من ذلك . وأما شيخ الطريق إذا أدب مريدا فلا ينبغي أن يقال له فتش نفسك في ذلك لأن الأشياخ قد خرجوا عن حضرات التلبيس والتشفي للنفوس إنما يؤدبون التلميذ محض شفقة ورحمة كضرب الأم ولدها ونخسها له بالإبرة حتى يخرج الدم فلا يحملها أحد إلا على محض التأديب وكذلك الشيخ وكل مريد نسب شيخه في تأديب تلميذه إلى أمر نفساني فقد نقض عهده ووجب تجديد العهد فإن لم يرض الشيخ عليه فليظهر له التشويش الكامل ولا يأكل ولا يشرب حتى يرضى عنه الشيخ ولا ينبغي له أن يسوق أحدا على الشيخ حتى أنه يأخذ عليه العهد فإن ذلك لا يدخل في أفعال أهل الطريق إنما السياق في الأمور الدنيوية والشيخ إنما يغضب لمصلحة المريد لا لمصلحة نفسه فلو أنه رأى كسر نفس المريد بلغت الغاية لدعاه إليه وأظهر له الرضا من غير سياق فاعلم ذلك والله يتولى هداك (1/182)
- روى الإمام أحمد وغيره مرفوعا : [ [ إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات - يعني البرابط والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية - وأقسم ربي بعزته : لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته مكانها من حميم جهنم معذبا أو مغفور له ولا يسقيها صبيا صغيرا إلا سقيته مكانها من حميم جهنم ولا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيتها إياه من حضيرة ؟ ؟ القدس ] ]
وفي رواية للبزار مرفوعا بإسناد حسن قال الله تعالى : [ [ من ترك الخمر وهو يقدر عليه لأسقينه في حضيرة ؟ ؟ القدس ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من سره أن يسقيه الله من خمرة الآخرة فليتركها في الدنيا ] ]
وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ من شرب حسوة من خمر لم يقبل الله منه ثلاثة أيام صرفا ولا عدلا ومن شرب كأسا لم يقبل الله منه صلاة أربعين صباحا ] ]
وفي رواية الحاكم والترمذي وحسنه : [ [ فإن تاب الله عليه فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا ] ]
قال الحافظ عبدالعظيم : وأما حديث : [ [ فإن عاد الرابعة فاقتلوه ] ]
وفي رواية : [ [ لم يتب الله عليه وغضب عليه ] ] فهو منسوخ . والله أعلم
والأحاديث في ذلك كثيرة وسيأتي بعضها في عهود المنهيات . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب جميع أهل المعاصي في التوبة ونخبرهم بسعة رحمة الله لهم إذا تابوا وأنه لا يتعاظم عليه تعالى ذنب أن يغفره ما عدا الشرك ونلين لهم الكلام ونحسن إليهم كل الإحسان حتى يحكوا ذلك لرفقتهم في المعاصي فلعل قلوبهم تلين للتوبة وكذلك لا نؤيس ؟ ؟ أيضا أن نخاطب التائبين بالألفاظ الحسنة المميلة لخاطرهم كلفظ السيادة ونراهم أطهر منا قلبا لأنهم قريبوا عهد بتوبة وهي تجب ما قبلها من الذنوب بنص الحديث بخلافنا فربما كان أحدنا بعيد عهد بالوقوع في معصية أو كثير الطاعات المتوالية فيقول في نفسه بعيد أن الله تعالى يعذب مثلي وغاب عنه أنه في تلك الحالة من أبعد الأبعدين عن حضرة الله عز و جل لعدم انكسار قلبه والله تعالى يقول : [ [ أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ] ]
أي من أجل مخالفتهم لأمري ودخول النقص في طاعاتهم فهم لا يرون لهم وجها عندي
وسمعت سيدي عليا الخواص يقول : [ [ إنما بدأ الإمام القشيري في رسالته لما ذكر رجال الطريق بابن أدهم والفضيل بن عياض تقوية لقلب المريدين لكون ابن أدهم والفضيل سبق لهما زمن قطيعة فكان الشيخ بذلك يقول : إن من سبقت له العناية لا تضره الجناية حتى لا يستبعد المريد الذي سبق له زمن قطيعة كثرة الفتح عليه من الله ومحو تلك الذنوب كلها
وسمعته مرة أخرى يقول : كل من لم يذق من الفقراء مرارة القطيعة لا يعرف مقدار حلاوة الوصال فكان من كمال حال الفقير الذي أراد الله أن يؤهله لتربية المريدين وإرشادهم وقوعه في بداية أمره ولو في نية المخالفات وذلك ليصير عنده حلم على العصاة وصبر على تقويم عوجهم وأيضا فإنه بوقوعه في المعصية يزول عنه الإعجاب بعمله ويعرف سعة حلم الله عليه ويقوم بين يديه بالذل والإطراق والأدب الذي هو مهر دخول الحضرة الإلهية ولو أنه لم يسبق له معصية لم يعرف ذلك وكان يسبق له مثل ما وقع في الإدلال على الله بعمله كما هو مشاهد فيمن تربى على التورع وعدم ابتلائه بشيء من القاذورات فتراه يرى الخلق كلهم هالكين إلا هو وهذا عين الكبر الذي أدخل الله به المتكبرين النار ويؤيد ذلك حديث :
العابد الذي عبد الله تعالى في جزيرة في البحر خمسمائة سنة وأن الله تعالى يقول له يوم القيامة : ادخل جنتي برحمتي فيقول يا رب : بل بعملي فيقول الله تعالى للملائكة : قايسوا بين عبادته الخمسمائة سنة وبين نعمة البصر ففعلوا فرجحت نعمة البصر فأمر به إلى النار فقال يا رب : أدخلني برحمتك فأدخله
وسمعت أخي أفضل الدين يقول : حكم العاصي حكم الزبل الذي يوضع في أرض شجر الفواكه فيحليها ويطيب طعمها أو كحكم الأنفحة للبن فإنه مع حلاوته وطيب طعمه يحتاج إلى الأنفحة المنتنة الخبيثة الطعم لتثبته وتصونه عن الفساد فعلى العاقل أن يتفكر في حكم مصنوعات الله عز و جل ويعطى كل فعل حقه على الميزان الشرعي
وقد مكث شخص من أهل الجدال في سوق أمير الجيوش فصار ينكر على أهل السوق من تجار ودلالين ويحكم ببطلان بيعهم وشرائهم بأشياء لم ترد صريحة في الشريعة مما يخفى على كثير من الناس فشكوا ذلك لي بحضرة أخي أفضل الدين فقلت لهم : إن شاء الله أكلمه لكم . فقال أخي أفضل الدين : الكلام لا يؤثر في مثل هذا إنما يؤثر فيه صدمة إلهية ففي تلك الليلة وجدوه مع جارية جاره فقبضوا عليه بالوالي وأرادوا يجرسونه بها وهي راكبة على ظهره فاجتمع التجار والدلالون وشفعوا وخلصوه بعد علقة شديدة وغرامة فلوس فمن ذلك اليوم سكت عن الإنكار وصار هو يطلب منهم السكوت عنه فقال سيدي أفضل الدين : وعزة ربي هذه الزلة أنفع له من عبادته التي كان يتكبر بها على الناس
فإياك يا أخي وتنفير من تاب من العصاة منك بكلامك الجافي وعدم إحسانك إليهم فإن إبليس ربما
قال لهم : أي فائدة لكم في صحبة هؤلاء الفقهاء وتركتم أصحابكم الذين كانوا يحبونكم ويسترون عليكم زلاتكم وجئتم إلى من يحتقركم ويزدريكم ويكشف عوراتكم ويجئ لكم بحلية الوالي فإذا صغوا إلى كلام إبليس طلبوا الرجوع إلى حالتهم الأولى ضرورة
فرغب يا أخي من تاب من إخوانكم في التوبة كل الترغيب وأحسن إليه كل الإحسان واذكر له ما ورد في قبول التوبة من الآيات والأخبار تكن حكيم الزمان والله يتولى هداك (1/183)
- وروى الحاكم والبيهقي مرفوعا : [ [ يا شباب قريش احفظوا فروجكم لا تزنوا ألا من حفظ فرجه فله الجنة ] ]
وفي رواية للبيهقي مرفوعا : [ [ يا فتيان قريش لا تزنوا فإنه من سلم له شبابه دخل الجنة ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إذا صلت المرأة خمسها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت ] ]
وروى البخاري واللفظ له والترمذي مرفوعا : [ [ من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له الجنة ] ]
والمراد بما بين لحييه اللسان وبما بين رجليه الفرج قاله الحافظ البيهقي وفي رواية للترمذي وحسنه مرفوعا : [ [ من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه دخل الجنة ] ]
وفي رواية للطبراني بإسناد جيد مرفوعا : [ [ من حفظ ما بين فقميه وفخذيه دخل الجنة ] ]
والفقمان : هما اللحيان واللحيان : هما عظم الحنك
وروى الإمام أحمد وابن أبي الدنيا وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة : اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحفظ فروجنا عما لا يحل لنا مباشرته من فرج ومفاخذة لذكر أو أنثى أو تقبيل لذلك بشهوة محرمة فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيما حرم عليه ومن هنا حرم غالب العلماء الاستمتاع بما بين السرة والركبة للحائض وحرموا قطرة الخمر وإن لم تسكر وحرموا على الصائم تناول مقدار أقل من سمسمة وإن لم تؤثر فيه ثوران شهوة وحرموا عليه القبلة ولو شيخا ويسمى ذلك تحريم الحريم والاحتياط ونعم ما فعلوا
وقد حكى لي من أثق به قال : كنت أقرأ على فقيه في جامع الأزهر وأنا شاب فكان يرسلني إلى عياله بالحاجة فكانت تكلمني بالكلام الحلو فأنفر منها فما زلت كذلك حتى صرت أستحلي كلامها فعرضت لي يوما بأني أدخل معها البيت فنفرت منها فما زالت بي حتى دخلت وصارت تظهر لي دينها وورعها حتى ملت إليها
[ ويذكر المؤلف باقي تلك القصة وكبف أن الله تعالى ابتلى ذلك الشاب بالمحن بعد ذنبه إلى أن تاب فحذفنا ذكر تفاصيلها لعدم الضرورة إليها . دار الحديث ]
فألهمني الله التوبة الخالصة من ذلك الوقت فكره الله إلي الزنا والخلوة بالأجنبية أو القرب منها قال : وأصل ذلك كله قربي من امرأة الفقيه ولو أني لم أقرب منها ولا قضيتها حاجة لم أقع في ذلك ] ]
وقد عدوا استحلاء كلام الأجنبية من زنا الكلام المحرم فاعلم أنه لا ينبغي القرب من نساء أصحابنا اللاتي يخشى منهن الفتنة ولو بطيبة أنفس أزواجهن لأن ما حرمه الله لا يباح بالإباحة فهم في الحكم كالذي يقر أهله على مقدمات الزنا وهذا الأمر يقع فيه كثير من الفسقة الذين يتصاحبون على الفساد فيطلب كل منهما التقرب لصاحبه بتمكينه من محادثة زوجته والنظر إليها ويقول لهم إبليس أنتم الآن صادقون في الأخوة والمحبة وقد وقع مثل ذلك لبعض إخواننا ورأى صاحبه يفعل الفاحشة في زوجته
فإياك يا أخي أن تتهاون بمثل ذلك أو تمكن جاريتك أن يأخذ أحد من فقراء الأحمدية أو البراهمية عليها العهد إلا مع المحافظة على آداب الشريعة فإن كثير من الفقراء يعتقد أنه صار والدها يجوز له النظر إليها وترى هي كذلك أنها صارت ابنته ولها أن تظهر وجهها له وكل ذلك خروج عن الشريعة المطهرة وربما جعل إبليس ذلك مقدمات للزنا وقد قال الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في حق أزواج رسول الله المطهرات الطاهرات المبرآت من فوق سبع سماوات { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن }
فإذا كان هذا في هؤلاء مع علو مقامهم فكيف بمن نفسه عاكفة على الشهوات المحرمة كعكوف الذباب على العسل
فاترك يا أخي جميع الأبواب التي تتوصل منها إلى الزنا ولا تدخل منها وتطلب السلامة فإن ذلك لا يكون والله يحفظ من يشاء كيف شاء (1/184)
- وروى أبو يعلى بإسناد صحيح عن عدى بن حاتم قال : [ [ هشم رجل فم رجل على عهد معاوية فأعطى ديته فأبى أن يقبل حتى أعطى ثلاثا ] ] . فقال رجل : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ من تصدق بدم أو دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق ] ]
وروى الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح مرفوعا : [ [ ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ ثلاث من جاء بهن مع إيمان دخل من أي أبواب الجنة شاء وزوج من الحور العين من شاء : من أدى دينا خفيا وعفا عن قاتله وقرأ في دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات - قل هو الله أحد - فقال أبو بكر أو إحداهن يا رسول الله ؟ قال أو إحداهن ] ]
وروى الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن لولا الانقطاع أن رجلا من قريش دق سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية فقال له معاوية إنا سنرضيك وألح الآخر على معاوية فأبرمه فقال معاوية شأنك بصاحبك وأبو الدرداء جالس عنده : فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ ما من رجل يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة ] ]
فقال الرجل فإني أذرها له فقال معاوية لا جرم لأرضينك فأمر له بمال
وفي رواية للإمام أحمد موقوفا : [ [ من أصيب بشيء في جسده فتركه لله عز و جل كان كفارة له ] ]
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى والبزار مرفوعا قال : [ [ ثلاث والذي نفسي بيده لو كنت حالفا لصدقت لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا ولا يعفو عبد عن مظلمة إلا زاده الله به عزا يوم القيامة ] ] الحديث
وفي حديث الطبراني : [ [ ولا عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا فاعفوا يعزكم الله ] ]
وروى مسلم والترمذي مرفوعا : [ [ ما نقص مال من صدقة وما زاد الله بعفو إلا عزا ] ]
وروى الحاكم وصحح إسناده مرفوعا : [ [ من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه ] ]
وروى البزار والطبراني مرفوعا : [ [ ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات قالوا نعم يا رسول الله قال تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك وتعطى من حرمك وتصل من قطعك ] ]
وفي رواية للطبراني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعلي رضى الله عنه : [ [ ألا أدلك على أكرم أخلاق الدنيا والآخرة أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك ] ]
وفي رواية للإمام أحمد بإسناد جيد مرفوعا : [ [ من لا يغفر لا يغفر له ] ]
وروى أبو داود : [ [ أن عائشة رضى الله عنها سرق لها شيء فجعلت تدعو على من سرقه فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تسبخي عنه ] ]
ومعناه : لا تخففي عنه العقوبة وتنقصي أجرك في الآخرة بدعائك عليه والتسبيخ : التخفيف
وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ إذا وقف الناس للحساب نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة ثانيا وثالثا فقال ومن ذا الذي أجره على الله ؟ فقال العافون عن الناس فقال كذا وكذا ألف يدخلونها بغير حساب ] ]
وروى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن أنس قال : [ [ بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ فقال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما : يا رب خذ مظلمتي من أخي فقال الله : كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء ؟ قال : يا رب فيحمل من أوزاري وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبكاء ثم قال إن ذلك اليوم ليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم فقال الله للطالب : ارفع بصرك فانظر فرفع بصره فقال : يا رب أرى مدائن من ذهب وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ فيقول لأي نبي هذا لأي صديق هذا لأي شهيد هذا ؟ قال الله هو لمن أعطى الثمن فقال يا رب ومن يملك ذلك قال أنت تملك ذلك قال بماذا ؟ قال بعفوك عن أخيك قال يا رب فإني قد عفوت عنه قال الله تعالى فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ذلك اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المسلمين ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا في العفو عن قاتل أبيهم أو أخيهم أو ولدهم أو عمن جنى عليهم أو ظلمهم بأخذ مال أو ضرب أو وقوع في عرض ونحو ذلك فإن من عفا عفا الله عنه
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : [ [ إنما جعل الله تعالى الدية على العاقلة إذا شح الورثة ولم يعفو وإلا فالعفو أولى عند الله تعالى . والحكمة في جعل الدية على العاقلة إنهم هم الذين كانوا سببا لتجرئه على القتل لإغرارهم فلولا أنه جعل الدية عليهم لم يكفوه عن القتل فلما جعلها عليهم كانوا أول من يكفه عن ذلك خوفا من غرامة الدية ] ]
ويتعين العمل بهذا العهد على العلماء والصالحين لكونهم قدوة للناس فربما شاححوا في حقهم فاقتدى بهم العوام والظلمة وقالوا إن فلانا مع صلاحه وعلمه غلبت عليه النفس ولم يصفح فنحن أضعف منهم وما فاز الصالحون وتميزوا عن غيرهم إلا باحتمال الأذى والصفح عن زلل الإخوان في حقهم وإن شاححوا أحدا فإنما ذلك تأديب له وتقبيح لئلا يتجاسر على غيرهم كما وقع ذلك لشيخنا الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى
فحكى لي الأخ الصالح الشيخ شعيب خطيب جامع الأزهر رحمه الله قال : [ [ دخلت على الشيخ جلال الدين السيوطي وهو محتضر فقبلت رجله وسألته الصفح عمن كان آذاه من الفقهاء فقال : يا أخي قد سامحتهم من حين وقعوا في حقي وإنما أظهرت لهم التشويش والعداوة بسبب ذلك وصنفت كراريس في الرد عليهم لئلا يتجرؤا على أعراض غيري من الناس فقال الشيخ شعيب وهذا هو كان الظن بكم ] ]
قلت ومع صفحه رضى الله عنه مقتوا كلهم ولم ينتفع أحد بعلمهم وكان أصل ذلك كله أنه أمرهم بمعروف لما تولى الشياخة على الخانقاه البيبرسية فرآهم لا يحضرون لا بأنفسهم ولا بنائبهم ولهم عبيد وبغال وسراري وأموال فقال : شرط الواقف أن الخبز والجوامك إنما هي للفقراء المحتاجين الذين اجتمعت فيهم شروط الصوفية المذكورة في رسالة القشيري وغيرها فتجمعوا على الشيخ وضربوه ورموه في الميضأة بثيابه فعزل نفسه وحلف أن لا يسكن مصر ما عاش فأقام في روضة مقياس النيل حتى مات ورأيت شخصا ممن قال ضربته بقبقابي على كتفه في أسوأ الأحوال استولت عليه نفسه في أكل الشهوات مع إفلاسه فكان ينصب على كل من رأى معه دجاجا أو أوزا أو سكرا أو عسلا ويقول : بعني ذلك ثم يذهب به إلى البيت ويأكل ذلك ويختفي حتى يزهد صاحب ذلك المتاع من طول التردد ويصير ذلك في ذمته إلى يوم القيامة ولما مات لم يتبع جنازته أحد
نسأل الله العافية ومما أخبرني به أيضا قال لما عجزنا عن أذاه بوجه من الوجوه اجتمعنا نحو عشرة أنفس ودخلنا عليه وقلنا له : يا سيدي قدر أننا كفار وأسلمنا وقد استخرنا الله تعالى أن نقرأ عليكم فلعل لأن يحصل لنا خير قال : وصرنا نقر أعليه نحو سنة وهو محترز منا فلما كان بعد سنة أذاه بعض الناس فقمنا عليه وأظهرنا للشيخ شدة المحبة له فركن إلينا فقلنا له : أنتم بحمد الله من أهل الكشف ومقصودنا تخبرونا بشيء من وقائع الولاة لنظهر على المنكرين عليكم بذلك إذا صح فلعلهم يتوبون كما تبنا فيحصل لهم الخير فسكت الشيخ ساعة ثم قال : السلطان جان بلاط يضرب عنقه في يوم الأحد سابع عشر جمادى الأولى ويتولى بعده فلان فأخذوا خط الشيخ بذلك ومضوا به إلى السلطان جان بلاط وأشاعوا الخبر بذلك في مصر فحصل للمملكة رج فقال السلطان علي به أقتله قبل أن أقتل فطلبوا الشيخ فاختفى نحو سبعة وأربعين يوما حتى ضربت عنق السلطان كما قال
فانظر يا أخي شدة هذا الأذى ومع ذلك صفح عنهم رجاء الصفح من الله كما درج عليه أهل الطريق رضى الله عنهم
وسمعت سيدي عليا المرصفي رحمه الله يقول : كل مريد آخذا إخوانه بما يبدوا في حقه منهم فلا ترجو له خيرا ولا رقيا في مقامات الرجال
فاعف يا أخي عن إخوانك واصفح لتفوز بمحبة الله عز و جل لك كما قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : { فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين }
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به حتى يلطف كثائفه ويصير يرى ما أعد الله تعالى لمن عفا وأصلح وصفح عن أخيه في الجنة إن لم يصل إلى درجة الصالحين الذين امتثلوا أمر ربهم من غير نظر إلى ثواب أو خوف من عقاب ومن لم يسلك كما ذكرنا فبصره مقصور على أمور الدنيا يبيع أباه بفلس كما يترك الجنة وما فيها لغرض من الدنيا ويصفح عن خصمه لأجله ثم من أقبح لما يقع فيه المريد أن يقول له شيخه اصفح فيقول لا وفي ذلك نكث للعهد وخروج من طريق الفقراء إلى طريق العوام فيجب عليه أن يتوب ويجدد العهد . { والله غفور رحيم } (1/185)
- روى ابن ماجه والبزار والطبراني والبيهقي عن جابر : [ [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن لي مالا ووالدا وإن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنت ومالك لأبيك ] ] يعني من باب البر والإحسان
وفي رواية للطبراني : [ [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن أبي يأخذ مالي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام فقال : يا رسول الله إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه و سلم ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله ؟ قال : اسأله يا رسول الله هل أنفقته إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي فقال النبي صلى الله عليه و سلم إيه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك ؟ فقال الشيخ والله يا رسول الله ما يزال الله يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي فقال : قل وأنا أسمع فقال : قلت :
غذوتك مولودا ومنتك يافعا ... تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة عافتك بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت منك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
فوافيتني حق الجوار ولم تكن ... علي بمالي دون مالك تبخل
تراه معدا للخلاف كأنه ... برد على أهل الصواب موكل
وأطال الحافظ السخاوي في طرق ذلك في حرف الهمزة مع النون في كتابة الأحاديث الدائرة على الألسنة فراجعه إن أردت زيادة على ما ذكرناه
{ والله عليم حكيم }
وروى الشيخان مرفوعا : [ [ أن عبدالله بن مسعود قال : [ [ يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : الصلاة على وقتها قال ثم أي ؟ قال : بر الوالدين قال : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ] ]
وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ] ]
وروى الشيخان وغيرهما : [ [ أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستأذنه في الجهاد فقال : أحي والداك ؟ فقال : نعم قال ففيهما فجاهد ] ]
وروى أبو داود : [ [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أحببت أن أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان قال : ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ] ]
وروى أبو يعلى والطبراني : [ [ أن رجلا قال : يا رسول الله إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه فقال : هل بقي من والديك أحد ؟ قال : أمي قال : فاتق الله في برها فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد ] ]
وفي رواية للطبراني عن طلحة بن معاوية السلمي قال : [ [ قلت يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله قال أمك حية ؟ قلت نعم قال النبي صلى الله عليه و سلم الزم رجلها فثم الجنة ] ]
وروى أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن عبدالله بن عمر قال : [ [ كانت تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم طلقها ] ]
وروى الإمام أحمد مرفوعا : [ [ من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه ] ]
وروى ابن ماجه وابن حبان في صحيحه واللفظ له مرفوعا : [ [ إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب الذي يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ] ]
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم ] ] الحديث
وروى الحاكم وغيه مرفوعا : [ [ قال جبريل عليه السلام من أدرك والديه أو أحدهما فلم يبرهما دخل النار فأبعده الله وأسحقه قلت آمين ] ]
ومن برهما أيضا أن لا يطعم أحدا من عياله قبلهما كما في حديث الثلاثة الذين انهدرت عليهم الصخرة فسدت فم الغار
كما رواه البخاري وابن حبان في صحيحه من قول أحد الثلاثة عن والديه : [ [ وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا ولدا ] ]
أي لا أسقى اللبن الذي حلبته لأحد قبلهما
وروى الشيخان وغيرهما عن أسماء بنت أبي بكر قالت : [ [ قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صلتها فقال : [ [ صلى أمك ] ]
وفي رواية : [ [ قدمت أمي وهي راغبة أي طامعة فيما عندي تسألني الإحسان إليها ] ] وفي أخرى راغمة بالميم : أي كارهة للإسلام
وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه والطبراني والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم مرفوعا : [ [ رضا الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد ] ]
وفي رواية للبزار : [ [ رضا الرب تبارك وتعالى في رضا الوالدين وسخطه في سخط الوالدين ] ]
وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه : [ [ أن رجلا قال : يا رسول الله إني أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة ؟ قال : هل لك من أم ؟ قال : لا قال : فهل لك من خالة ؟ قال : نعم قال : فبرها ] ]
وروى أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه : [ [ أن رجلا من بني سلمة قال : يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما ؟ فقال : نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما ] ]
وروى مسلم عن ابن عمر : [ [ أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبدالله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه قال ابن دينار فقلت له أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير فقال عبدالله بن عمر : إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ إن أبر البر صلة الولد ود أبيه ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه عن أبى بردة قال : [ [ قدمت المدينة فأتاني عبدالله بن عمر فقال : أتدرى لم أتيتك ؟ قال : قلت لا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده إنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذاك ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا في بر والديهم وصلتهم والإحسان إليهم وبر أصدقائهم من بعدهما ونبين لهم تأكيد طاعتهما ويقاس على ذلك بر والد القلب من المشايخ وصلته والإحسان إليه وبر أصدقائه من بعده وبيان تأكيد حقه
ويحتاج العامل بهذا العهد إلى توفيق زائد في هذا الزمان مع مصاحبة أستاذ يطلعه على مقام الوالدين المذكورين وذلك لا يكون في أب الروح إلا بعد اطلاع المريد على نفاسة الطريق ونفاسة ما يدعوه إليه الشيخ كشفا ويقينا وإلا فمن لازمه كثرة الإخلال بتعظيمه وعصيانه
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : لا يتحرك عند مريد داعية التعظيم والإجلال لشيخه كما ينبغي إلا بعد الفتح عليه وأكثر المريدين قد عدموا الفتح في هذا الزمان فلذلك كان من لازمهم غالبا عقوق الأستاذين وعدم احترامهم
وقد تقدم في هذه العهود أن عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه منذ وعى على نفسه لم يأكل مع والدته خوفا أن تسبق عينها إلى لقمة أو قطعة لحم أو رطبة أو عنبة فيأكلها وهو لا يشعر
وقد كان الطلبة والمريدون في الزمان الماضي يجلون أشياخهم في الطريق وآباءهم من الطريق ولو صار أحدهم شيخ الإسلام وذلك لنظرهم إلى الدار الآخرة وقد صار غالب الناس اليوم بصره مقصورا على أحوال الدنيا وزينتها حتى إني أعرف شخصا من المدرسين بالجامع الأزهر والمفتين به جاءت والدته من الريف فأنكرها خوفا أن تزدريه امرأته المصرية وقال لها : يا عجوز إن قلت أنا أم الشيخ أخرجتك ولم أعد أمكنك من الدخول إلى داري أبدا فكان يقول للخادم غديتم العجوز الفلاحة عشيتم العجوز الفلاحة مع أن عنده المال والثياب ويترجمه الناس بأكثر من عشرة آلاف دينار ولو أنه كان فيه رائحة الأدب مع الله وقبل وصيته في قوله : { وبالوالدين إحسانا }
لكساها بدلة قماش وصارت أم الشيخ على رؤوس الأشهاد فبالله أين ثمرة علم مثل هذا فإياك يا أخي ثم إياك
وقد بلغنا عن الشيخ بهاء الدين أنه قال : [ [ بينما أنا راكب مع والدي شيخ الإسلام تقي الدين السبكي في طريق الشام إذ سمع شخصا من فلاحى الشام يقول : سألت الفقيه يحيى النووي عن مسألة كذا وكذا فنزل والدي عن فرسه وقال : والله لا أركب وعين رأت الشيخ يحيى النووي تمشى ثم عزم عليه بركوب الفرس وأقسم عليه بالله وصار الشيخ ماشيا حتى دخل الشام ] ] . فهكذا يا أخي كان العلماء يفعلون بأشياخهم مع أنه لم يدركه وإنما جاء بعد موته بسنين كان يدخل دار الحديث بالشام ويدور في أبوابها وعطفها ويصلى فيها ويقول لعلي أمس موضعا مسته قدم النووي ثم ينشد :
وفي دار الحديث لطيف معنى ... أصلي في جوانبها وآوى
عساني أن أمس بحر وجهي ... مكانا مسه قدم النواوي
وما رأت عيني في مشايخ الزمان أحدا يبر أصدقاء شيخه وخدامه مثل شيخنا سيدي محمد الشناوي رحمه الله وكان إذا رأى أحدا ممن وقع بصره على أستاذه الشيخ محمد السروي يصير يرفرف عليه كالطير الحمام على ولده لكونه كان يعرف نفاسة ما دعاه الشيخ له وقد اجتمع على الشيخ محمد السروي نحو عشرة آلاف وتلقنوا عليه كما حكى لي ذلك وقال : قد أخذوا عني ولكن لم يعرفني أحد منهم سوى ابن الشناوي لأن شرط المعرفة بمقام إنسان الإشراف على مقامه هذا لفظ الشيخ محمد لي بالزاوية الحمراء خارج مصر رضى الله عنه ويليه في طائفة الفقهاء في التعظيم لأصحاب شيخه الشيخ شهاب الدين الرملي الشافعي بمصر المحروسة كان إذا رأى أحدا من أصحاب الشيخ برهان الدين ابن أبي شريف أو أحدا من أصحاب الشيخ زكريا يجله ويعظمه ويقول : كأني أنظر إلى الشيخ إذا رأيت أحدا من أصحابه ولذلك أجله الله تعالى وجعل الفقهاء عاكفين على قوله شرقا وغربا مصرا وشاما وحجازا وروما لا يتعدونه رضى الله عنه وقد توفى في مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وخمسين وتسعمائة وصلى عليه بالجامع الأزهر يوم الجمعة وكان يوما مشهودا من كثرة الخلق حتى لم يجد غالب الناس مكانا يسجد فيه ورجع غالب الناس فصلوا الجمعة في غير جامع الأزهر ودفن بزاوية على باب الله قريبا من جامع الميدان رضى الله تعالى عنه
فعظم يا أخي والديك وقم بواجب حقهما طلبا لمرضاتهما وإن طلبا منك غذاءك فأعطه لهما . وأطو ذلك اليوم وإن ضعفا فأخدمهما وإن مشى باطنهما فاغسل النجاسة عنهما بيديك ولا تقل لهما أف قط كما أنهما كانا يمسحان عنك البول والغائط وتخرو عليهما وتبول على ثيابهم ويتحملان ذلك منك كما أشار إلى ما ذكرناه قوله تعالى { فلا تقل لهما أف }
بل من الأدب إذا طلبا من الولد جميع ما يملكه أن يعطيه لهما (1/186)
- روى الشيخان مرفوعا : [ [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ] ] . الحديث
وفي رواية لهما مرفوعا : [ [ من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ] ]
ومعنى ينسأ في أثره : أي يؤخر ويزاد في أجله
وروى الترمذي مرفوعا : [ [ تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأجل ] ]
وروى عبدالله ابن الإمام أحمد في زوائده والبزار بإسناد جيد والحاكم مرفوعا : [ [ من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويد فع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه ] ]
وفي رواية للبزار والحاكم وصححه مرفوعا : [ [ مكتوب في التوراة من أحب أن يزاد في عمره ويزاد في رزقه فليصل رحمه ] ]
وفي رواية لأبي يعلى مرفوعا : [ [ إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع بهما المكروه والمحذور ] ]
وروى الطبراني بإسناد حسن والحاكم مرفوعا : [ [ إن الله ليعمر بالقوم الديار ويثمر لهم الأموال وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضا لهم قيل : وكيف ذاك يا رسول الله ؟ قال بصلتهم أرحامهم ] ]
وفي رواية للإمام أحمد مرفوعا : [ [ صلة الرحم وحسن الجوار أو حسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار ] ]
وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن أبي ذر قال : [ [ أوصاني خليلي صلى الله عليه و سلم أن أصل رحمي وإن أدبر ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصل رحمنا من نسب أو رضاع وإن قطعت كأبي الأم وأولاد البنات وبنات الإخوة للأم وبنات الأعمام والعمات والخالات والأخوال وتحصل الصلة بإطعام الرحم أو كسوته أو وزن الدين عنه وإخراجه من السجن أو إرسال هدية له إن كان بعيدا وذهابه له إن كان مكانه قريبا منه فإن لم يكن هدية فإرساله السلام له ومدار الأمر على أن يكون معتنيا برحمه وبالإحسان إليه عملا بوصية الله تعالى ورسوله حسب الاستطاعة ومن فرط في شيء مما ذكرناه مع القدرة فقد قطع رحمه وقاطع الرحم لا يصعد له عمل ولا يغفر الله له حين يغفر لجميع خلقه في ليلة القدر وفي ليلة النصف من شعبان
وهذا العهد قل من يعمل به الآن من غالب طلبة العلم والمشايخ فضلا عن غيرهم فبمجرد ما تتسع عليهم الدنيا ينسون قرابتهم الفقراء ويستنكفون أن يعترفوا بأنهم من قرابتهم مع أنهم يعطون الثياب والمال ويطبخون الأطعمة في الفرح وغيرها لمن ليس بينه وبينهم قرابة ولا نفع لا في علم يستفيده ولا يفيده وذلك دليل ظاهر على أن جميع إطعامهم وإحسانهم للناس إنما هو ليقال فلان وهب وذلك أن الأجنبي يشكر أحدهم في المجالس والقريب يأكل وينكر أو يسكت عن الشكر ولو أن الله تعالى فتح عيون قلوب هؤلاء لقدموا ما أمرهم الله بصلته قبل من لم يأمر الله بصلته كما لو فتح عيونهم لأكثروا العطاء لمن لا يشكرهم وفرحوا به أكثر ممن يشكرهم لأن من شكر المعطى فقد كافأه فيذهب المعطى إلى الآخرة صفر اليدين من الأجر ومن لم يشكره يجد ثوابه كاملا في الآخرة لم ينقص منه شئ
فيحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به حضرات القرب حتى يشرف على أحوال الآخرة بعين قلبه ويخرق بصره إلى الدار الآخرة وينظر ما أعد الله تعالى للعاملين بما أمرهم الله تعالى به فإنه ما من مأمور شرعي إلا وله درجة في الجنة لا ينالها العبد إلا إن فعل ذلك المأمور ومن قال في الدنيا إن صلة الرحم يجوز تركها يقال له في الآخرة وهذه أيضا درجة يجوز منعك إياها { جزاءا وفاقا } وفي الحديث : [ [ لا يشبع مؤمن من خير ] ]
وتأمل إذا كنت محبا للدنيا وتسافر إلى البلاد البعيدة في طلبها إذا جلست في مجلس ذكر أو قرأن تنعس ويجيئك النعاس من كل مكان وتحجب عن شهود ما أعد الله تعالى لك في ذلك الذكر من الثواب كل ذلك لضعف داعيتك إلى الجنة
وتأمل نفسك إذا جلس بجنبك إنسان ببدرة من ذهب وقال خذ لك على كل كلمة تقولها دينارا كيف يذهب عنك النوم وتمكث سهران إلى الصباح ولو قال لك إنسان يكفيك هذا الذهب الذي أخذته وقم نم لك درجتين أو ثلاثة لا تسمع له لقوة داعيتك إلى الدنيا فاعلم أن كل من جاءه النوم في حال الذكر وتلاوة القرآن وغيرهما من الأذكار وذهب نومه في حال إعطائه الذهب فهو ضعيف الإيمان والتصديق بما وعد الله به من الثواب وهو دنياوي دق المطرقة ليس له في طريق أهل الله نصيب ولو كان من أكثر الناس عبادة
وقد قالوا : من شرط المؤمن الكامل أن يكون الغائب الذي وعده الله به أو توعده عليه كالحاضر على حد سواء
فمتى رجح الحاضر على الغائب أدنى ترجح فإيمانه لم يكمل وغالب الناس اليوم يقولون بلسان الحال ذرة منقودة خير من درة موعودة
فاعمل يا أخي على رقة حجابك بالسلوك على يد شيخ ناصح لتقوم بأوامر الله عز و جل الذي كلفك بها أو ندبك إليها إن لم تكن من رجال امتثال الأمر لوجه الله فإن من نزل عن درجة رجاء طلب الثواب الأخروي فقد خسر مع الخاسرين فلا هو عمل امتثالا لأمر الله ولا هو عمل لأجل ثواب الله هذا شأن أهل جنة الأعمال
وأما الكمل الذين هم أهل جنة المتن فهم معولون على فضل الله تعالى فلا عليهم إن كثرت أعمالهم أو قلت لعدم اعتمادهم على الأعمال وشهودهم أن خلقها ليس إليهم وإنما هم يستغفرون من التقصير قياما بواجب حق الربوبية في عالم الشهادة لمطمح بصرهم من طريق كشفهم على ما قسم لهم من الأعمال وعلى ما لم يقسم فلهم في قلوبهم حكم مع الله لا يجوز إفشاؤه لا سيما إن كان لهم أتباع يقتدون بهم فإنهم في ذلك كالأئمة فلا يجوز لهم أن يسامحوا نفوسهم في شيء من الأوامر ومن هنا قالوا إن النبي معصوم لكونه متبوعا في جميع أفعاله وأقواله فلو صدق عليه وقوعه في معصية أو إخلاله بواجب لصدق عليه تشريع المعاصي ولا قائل بذلك كما هو مقرر في أصول الفقه والدين . { والله غفور رحيم } (1/187)
- روى الشيخان وأبو داود والترمذي مرفوعا : [ [ أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما ] ]
وفي رواية لمسلم والبزار وغيرهما مرفوعا : [ [ كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة ] ]
وفي رواية للبزار مرفوعا : [ [ من كفل يتيما له ذو قرابة أو لا قرابة له فأنا وهو كهاتين وضم أصبعيه ومن سعى على ثلاث بنات فهو في الجنة ] ] الحديث
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره وغدا وراح شاهرا بسيفه في سبيل الله وكنت أنا وهو في الجنة أخوان كما هاتان أختان وألصق أصبعيه السبابة والوسطى ] ]
وروى الترمذي وقال حسن صحيح مرفوعا : [ [ من قبض يتيما بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة البتة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر ] ]
وفي رواية للإمام أحمد والطبراني مرفوعا : [ [ من ضم يتيما بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه وجبت له الجنة ] ]
وروى الطبراني والأصبهاني مرفوعا : [ [ ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم شيطان ] ]
وفي رواية لهما أيضا مرفوعا : [ [ إن أحب البيوت إلى الله تعالى بيت فيه يتيم مكرم ] ]
وفي رواية لابن ماجه مرفوعا : [ [ خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ] ]
وروى أبو داود مرفوعا : [ [ أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة وأومأ الراوي بيده السبابة والوسطى امرأة آمت زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى ماتت أو ماتوا ] ]
قال الخطابي والسفعاء بفتح السين المهملة ممدودا هي التي تغير لونها إلى الكمودة والسواد من طول الأيمة يريد بذلك أنها حبست نفسها على أولادها ولم تتزوج فتحتاج إلى الزينة والتصنع للزوج وآمت المرأة بمد الهمزة وتخفيف الميم إذا صارت أيما وهي من لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا تزوجت أم لم تتزوج بعد : والمراد هنا من مات زوجها وتركها أيما
وفي رواية لأبى يعلى بإسناد حسن مرفوعا : [ [ أنا أول من يفتح باب الجنة إلا أني أرى امرأة تبادرني فأقول لها ما لك ومن أنت ؟ فتقول أنا امرأة قعدت على أيتام لي ] ]
وروى الإمام أحمد وغيره مرفوعا : [ [ من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وفرق بين أصبعيه السبابة والوسطى ] ]
وروى الطبراني : [ [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم يشكو قساوة قلبه فقال : أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلين قلبك وتدرك حاجتك ] ]
وفي رواية للإمام أحمد فقال له : [ [ امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين ] ]
وروى الطبراني ورواته ثقات إلا واحدا وليس بالمتروك : [ [ والذي بعثني بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم ولان له في الكلام ورحم يتمه وضعفه ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله ] ]
وروى الأصبهاني مرفوعا : [ [ إياكم وبكاء اليتيم فإنه يسرى في الليل والناس نيام ] ]
وروى الحاكم والبيهقي والأصبهاني مرفوعا : [ [ أن رجلا قال ليعقوب عليه السلام : ما الذي أذهب بصرك وحنى ظهرك ؟ فقال : أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف وأما الذي حنى ظهري فالحزن على أخيه بنيامين . فأتاه جبريل عليه السلام فقال : أتشكو الله ؟ فقال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله قال جبريل عليه السلام : الله أعلم بما قلت منك قال : ثم انطلق جبريل عليه السلام ودخل يعقوب بيته فقال : أي رب أما ترحم الشيخ الكبير ؟ أذهبت بصري وحنيت ظهري فاردد علي ريحانتي فأشمهما شمة واحدة ثم اصنع بي ما شئت فأتاه جبريل فقال : يا يعقوب إن الله عز و جل يقرئك السلام ويقول : [ [ أبشر فإنهما لو ؟ ؟ كانا ميتين لنشرتهما لك لأقر بهما عينك ويقول لك يا يعقوب أتدرى لم أذهبت بصرك وحنيت ظهرك ولم فعل إخوة يوسف بيوسف ما فعلوا ؟ قال : لا . قال إنك أتاك يتيم مسكين وهو صائم جائع وذبحت أنت وأهلك شاة فأكلتموها ولم تطعموه ويقول : إني لا أحب شيئا من خلقي حبي لليتامى والمساكين فاصنع طعاما وادع المساكين . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ فكان يعقوب كلما أمسى نادى مناديه : من كان صائما فليحضر طعام يعقوب . وإذا أصبح نادى مناديه : من كان مفطرا فليفطر على طعام يعقوب ] ]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله وكالذي يقوم الليل ويصوم النهار ] ]
وروى الإمام أحمد والطبراني مرفوعا : [ [ من أنفق على ابنتين أو أختين أو ذواتي قرابة يحتسب النفقة عليهما حتى يغنيهما من فضل الله أو يكفيهما كانتا سترا له من النار ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكفل اليتيم ونرحمه ونشفق عليه ونسعى على الأرامل والمساكين ونمسح رأس اليتيم ونرغب جميع أصحابنا في ذلك طلبا لرضا الله عز و جل ومرافقة لنبيه صلى الله عليه و سلم في الجنة ويتعين العمل بهذا العهد على كل من ربى يتيما لأنه ذاق ذل اليتم وعرف مقدار كسر خاطر اليتيم وقد امتن الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه و سلم بقوله { ألم يجدك يتيما فآوى }
إلى آخر النسق فنهاه عن قهر اليتيم ونهر السائل لذوقه ذلك وأمره بالتحدث بالنعمة
وقد حكى الشيخ شمس الدين الطنيخي ثم الغمري قال : [ [ تربيت يتيما عند سيدي الشيخ عثمان الحطاب رحمه الله فكان إذا رأى يتيما يرفرف عليه كالطير على فرخه قال : فرآني يوما وأنا أرمقه فقال لي : ما لك يا ولدي ؟ أنا ربيت يتيما وذقت طعم ذل اليتم وكسر الخاطر . وكذلك يقول مؤلفه إني ربيت يتيما فمات والدي وأنا ابن ثمان سنين وتركني مع إخوتي يتيما فكنت ربما أنظر الفاكهة تدخل بيت جيراننا فأقف أنظر إليهم وهم يأكلون فربما أعطوني الخوخة أو التينة أو الخيارة فأجد لها موقعا عظيما ولما كفلني والد تربيتي الشيخ خضر رحمه الله وأتى بي الريف إلى مصر وكساني ثياب ولده الذي مات في فصل السلطان قايتباي رحمه الله حصل لي لذة أجد طعمها إلى الآن في نفسي مع أن لحيتي قد شابت فاعلم ذلك يا أخي واشفق على اليتيم والمسكين يقيض الله تعالى لك من يفعل ذلك مع ذريتك كما وقع لجدي نور الدين رضى الله عنه فإنه كان يشفق على الأيتام والأرامل والمساكين والمجذومين ويحلب اللبن ويأكل مع المجذوم وجذامه يقطر صديدا فببركته قيض الله تعالى لي الشيخ خضر الذي رباني وزوجته فعشت معهما في أرغد عيش وأرفهه في المأكل والملبس حتى ماتا وبلغت وتزوجت فكنت أعد ذلك من جملة ما جوزي به جدي رحمه الله فالحمد لله رب العالمين (1/188)
- روى مسلم مرفوعا : [ [ أن رجلا زار أخا له في قرية فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال : أين تريد ؟ قال : أريد أخا لي في هذه القرية ؟ قال : هل له عليك من نعمة تربيها ؟ قال : لا غير أني أحببته في الله قال : فإني رسول الله إليك فإن الله قد أحبك كما أحببته فيه ] ]
والمدرجة : الطريق ومعنى تربيها : أي تقوم بها وتسعى في صلاحها وتكافئه عليها
وروى ابن ماجه والترمذي وحسنه ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ من عاد مريضا أو زار أخا في الله ناداه مناد : بأن [ [ طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا ] ]
وفي رواية للبزار وأبى يعلى مرفوعا : [ [ ما من عبد أتاه أخوه يزوره في الله إلا ناداه مناد من السماء أن طبت وطابت لك الجنة وقالا : [ [ قال الله في ملكوت عرشه : عبدي زارني وعلي قراه فلم أرض له بثواب دون الجنة ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ ألا أخبركم برجالكم في الجنة ؟ قلنا بلى يا رسول الله قال : النبي في الجنة والصديق في الجنة والرجل يزور أخاه في ناحية المصر لا يزوره إلا لله في الجنة ] ] الحديث
وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ إن المسلم إذا زار أخاه المسلم شيعه سبعون ألف ملك يصلون عليه ويقولون اللهم كما وصله فيك فصله ] ]
وروى مالك بإسناد صحيح مرفوعا : [ [ قال الله تعالى : وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى للمتحابين فيه والمتزاورين فيه والمتباذلين فيه ] ]
وفي رواية له منقطعا : [ [ قال عبدالله بن مسعود لأصحابه حين قدموا عليه : هل تجالسون ؟ قالوا : لا نترك ذلك قال : هل تزاورون ؟ قالوا : نعم يا أبا عبدالرحمن إن الرجل منا ليفقد أخاه فيمشى على رجليه إلى آخر الكوفة حتى يلقاه قال : إنكم لن تزالوا بخير ما فعلتم ذلك ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من زار أخاه المؤمن خاض في الرحمة حتى يرجع ومن عاد أخاه المؤمن خاض في رياض الجنة حتى يرجع ] ]
وروى البزار بإسناد جيد : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه يوما : انطلقوا بنا إلى بني واقف نزور خلا لنا البصير وكان مكفوف البصر ] ]
وروى الطبراني والبزار مرفوعا : [ [ زر غبا تزدد حبا ] ]
قال البزار : ولا يعلم فيه حديث صحيح
وقال الحافظ عبد العظيم : وكذلك أنا لم أقف له على طريق صحيح لكن له أسانيد حسان عند الطبراني وغيره قلت : قال الحافظ السخاوي : [ [ ومجموع طرق الحديث يصير بها قويا وقول البزار ليس فيه حديث صحيح لا ينافى ذلك قال : وقد أنشد ابن دريد في ذلك :
عليك بإغباب الزيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكا
فإني رأيت الغيث يسأم دائما ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
وأنشد غيره :
أقلل زيارتك الصدي ... ق ( الصديق ) تكون كالثوب استجده
وأشد شيء لامرئ ... أن لا يزال يراك عنده
والله تعالى أعلم
وروى ابن حبان في صحيحه عن عطاء قال : [ [ دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضى الله عنها فقالت : لعبيد بن عمير قد آن لك أن تزورنا فقال : أقول يا أمه كما قال الأول : [ [ زر غبا تزدد حبا ] ] . فقالت : دعونا من بطالتكم هذه الحديث
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات : [ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأم سلمة أصلحي لنا المجلس فإنه ينزل ملك إلى الأرض لم ينزل إليها قط ] ]
وروى الإمام أحمد عن أم بجيد بضم الموحدة وفتح الجيم قالت : [ [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتيني في بني عمرو بن عوف فأتخذ له سويقا في قبة فإذا جاء سقيتها إياه ] ]
وروى الطبراني موقوفا ورواته ثقات : أن إبراهيم بن قشيط وهو المدفون بطنطا أبى تراب في الغربية قال : الحافظ وليس قبر صحابي محقوق غيره دخل على عبدالله بن الحرث ابن جزء الزبيدي فرمى إليه بوسادة كانت تحته وقال : [ [ من لم يكرم جليسه فليس من أحمد ولا من إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نزور الإخوان والصالحين ونكرم كل وارد علينا حتى واردات الحق تعالى فنكرمها بتلقيها بالتعظيم والإجلال والرضا بها عن الله عز و جل
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ ناصح يسلك به حتى يدخله حضرات الولاية ويمر به إلى حضرات الأخلاق الحسنة ويكسوه منها ما قسم له فتصير سجيته تعصى النفس والشيطان في كل ما يطلبانه من العبد ويطيع الملك بالبديهة ويطيعه في جميع لماته وهناك يخوض في الرحمة إن زار أحدا ذاهبا وراجعا فإن غالب زيارات الناس اليوم لبعضهم بعضا لا إخلاص فيها وإنما هي أهوية نفوس فترى الفقير أو العالم يزور أخاه وهو متلفت إلى ذكر ما أطلع عليه من نقائص أخيه وتستحلى نفسه ذلك حتى يذكره للناس وربما كان المذكور لهم ذلك أعداء لذلك الفقير المزور فلا هو نصحه في ذلك النقص الذي رآه فيه بينه وبينه ولا هو ستره بين الناس . وكثيرا ما يخرج أحدهم من عند ذلك الفقير أو العالم يقول زرت فلانا البارحة مثلا فوجدت عنده دعوى عظيمة للصلاح والعلم ولو علمت أنه في تلك الحالة ما زرته ويظهر الندم على زيارته احتقارا له بين الناس فمثل هذا الزائر خاض في نار جنهم ذاهبا وراجعا مع أن هذا القائل ربما زار الظلمة والمكاسين وأكلة الحرام وأكل طعامهم في رمضان وخرج ينشر فضائلهم ولا تكاد تسمع منه لفظة واحدة في حقهم تنقصهم وربما أجاب عنهم زجر من ينقصهم ورد عليه فكان العلماء والصالحون أحق بذلك
واعلم أن للفقراء والصالحين مكرا خفيا بالزائرين لهم لغير الله فربما طردوهم بتعاطيهم كلمة مباحة حتى لا يكادون يرجعون إليهم كما وقع لسيدي أبى السعود الجارحي مع شخص من العلماء الكبار دخل عليه بميزان الامتحان فقال الشيخ أبو السعود :
يظن الناس بي خيرا وإني ... أشر الناس إن لم تعف عني
بنصب الناس وأشر فقال العالم : هذا لا يعرف الفاعل من المفعول فكيف يكون صالحا وفارقه ذا ماله فلقيه الشيخ بعد أشهر فكاشفه وقال : يظن الناس بضم السين فنزل العالم واستغفر الله تعالى فقال له الشيخ : نصبة راحت بك ورفعة جاءت بك ما هكذا يزور الناس الفقراء وما يضرنا اللحن إلى اللحن في القرآن أو الحديث ] ]
فحرر يا أخي النية الصالحة لكل من طلبت زيارته ثم زر ولو لم تجد نية صالحة إلى سنة أو أكثر فلا حرج عليك في ترك الزيارة وقد كان السلف الصالح يحبون إرسال السلام لبعضهم بعضا ويرون ذلك أحسن من اللقاء خوفا إن كل واحد يرائي الآخر بذكره أحسن ما عنده من الكلام والأخلاق ويزكي نفسه فيستحقان الطرد والمقت كما وقع لإبليس لعنه الله
وبالجملة فلا يتشوش من قلة زيارة إخوانه له إلا كل قليل العقل . وقد دخل علي شخص من مشايخ العصر كان من أعز الإخوان فذكرت له عن سيدي علي الخواص رحمه الله أنه كان يقول : من شرط من يدعى الكمال في طريق أهل الله تعالى أن يكون فقيها محدثا صوفيا فقلت : وقد من الله تعالى علي بالثلاثة ولله الحمد وقصدت بقولي فقيها أنني من أهل الفهم في الكتاب والسنة إذ الفقه لغة الفهم وبقولي محدثا أنني أعرف أقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا وبقولي أنا صوفي لبس الجبة الصوف فخرج من عندي ما ترك زاوية حتى دخل يذمني فيها فقلت له : كيف تدعى طريق الفقراء وأنت لا تحمل أخاك على محمل واحد حسن
وقد قال الإمام النووي في آداب العالم والمتعلم في مقدمة شرح المهذب : يجب على الطالب أن يحمل إخوانه على المحامل الحسنة في كل كلام يفهم منه نقص إلى سبعين محملا ثم قال : ولا يعجز عن ذلك إلا قليل التوفيق
ثم إذا دخلت يا أخي لزيارة أخيك فإياك وذكر حال أركان الدولة وما هم فيه أو تذكر أحدا من المسلمين بسوء ونحو ذلك فيصير اجتماعكما معصية وهذا الأمر يقع فيه أكثر الزوار اليوم فيجمع كل واحد منهما جملة كلام وقع في تلك الجمعة فيحكيه لصاحبه ليس فيه كلمة واحدة نصحا ولا خيرا ومثل هؤلاء لا ينبغي فتح الباب لهم . وقد كان سيدي يوسف العجمي شيخ سلسلة التصوف بمصر المحروسة رحمه الله يوصى النقيب أنه لا يفتح الباب لأحد ممن لا يريد الطريق إلى الله تعالى من أبناء الدنيا إلا إن كان معه طعام أو فتوح للفقراء من مال أو ثياب ويقول : من لم يأت بشيء معه للفقراء فزيارته مدخولة فقيل له : إنكم بحمد الله ليس عندكم ميل إلى الدنيا فقال : صحيح ولكن أعز ما عند أبناء الدنيا دنياهم وأعز ما عند الفقراء وقتهم فلا يشغلونه إلا في شيء يحصل لهم به درجات في الآخرة فإن بذلوا للفقراء أنفس ما عندهم من الدنيا بذلنا لهم أنفس ما عندنا من الوقت
وما أعرف في أصحابي اليوم أحسن زيارة من أخي الإمام العلامة شمس الدين الخطيب الشربيني فسح الله في أجله وصاحبه الشيخ صالح السلمي رضى الله عنهما فلم أضبط عليهما قط حال زيارتهما كلمة سوء في أحد من خلق الله تعالى لا من أهل العلم ولا من الفقراء ولا من الولاة ولا من العامة فرضى الله عنهما وهذا أمر عزيز الوقوع في طائفة العلماء في هذا الزمان فضلا عن غيرهم بل وقع لي أن شخصا من العلماء جلس عندي في الحجر تحت الميزاب فأخذ يستغيب واحدا من أقرانه فلولا لطف الله لنزل علي وعليه صاعقة من السماء فقلت له : وفي مثل هذا المكان الشريف يقع منك غيبة ؟ فقال : وأستغيب في جوف الكعبة من يستحق الغيبة فقلت له : دستور أدعو الله إن كنت كاذبا ينزل عليك الحب الأفرنجي ؟ فقال : نعم فدعوت عليه بذلك في الملتزم فما رجع من الحجاز إلا وبدنه مشغول بالحب وهو إلى الآن بضربان المفاصل نسأل الله العافية
وقد كانت زيارة الإخوان في الزمن الماضي كلها فائدة وتلقيحا لبعضهم بعضا كتلقيح النخل وكان أحدهم لا يقول لأحدهم : كيف حالك إلا ليعرفه أخوه بما هو محتاج إليه على الأثر قول بفعل فصار اليوم يلقى الشخص أخاه فيقول له : كيف حالكم فيقول : طيب والحال أنه في غاية التشويش من ضيق معيشة أو من أذى أحد لعلمه بأن قلب من قال له كيف حالكم فارغ منه إما شامت وإما يسخر به ولذلك يلقى بعض الناس صاحبه فيقول له : أي شيء حالكم ؟ فلا هو يخبره بحاله والآخر يقف حتى يعرف حاله وكل ذلك نفاق مكتوب اسم صاحبه في جريدة المنافقين في دواوين السماء بنص الشريعة المطهرة وكانوا يقولون في الزمن الماضي : إذا قل رأس مالك زر إخوانك وصار الحال اليوم إذا زار صاحب الرسمال من الدين أخاه نقص رأس ماله أو زال
وسمعت سيد عليا الخواص رحمه الله يقول : لا ينبغي أن يتوقف الزائر لأخيه في الله تعالى على شيء يركبه مع قدرته على المشي إليه وكذلك كل عبادة كطلب علم وخطبة امرأة هو محتاج إليها وجنازة وشفاعة ونحو ذلك كما قال الشعبي رحمه الله وكان لي صاحب يأتيني من كوم الجارح إلى مصر حافيا مكشوف الرأس فربما منعه البواب فيقول : قولوا لعبد الوهاب رجل جاءكم حافيا مكشوف الرأس فردوه وما قبلوه فكيف بمن يجيئكم منتعلا بعمامته فكنت أفهم إشارته فأخرج له أتلقاه بالترحيب وأقبل يده وأنشد مجنون بني عامر :
ولو قطعوا رجلي مشيت على العصا ... وإن قطعوا الأخرى حبوت حبوت
ولو دفنوني تحت ألفى قامة ... تخلخلت من بين التراب وجئت
وأنشدوا أيضا :
زر من هويت وإن شطت بك الدار ... وحال من دونه حجب وأستار
لا يمنعك بعد من زيارته ... إن المحب لمن يهواه زوار
وخرجت مرة مع سيدي محمد بن عنان لشخص من الفقراء اسمه الشيخ عبد الودود بنواحي قلعة الجبل بمصر فلما أقبل عليه الشيخ حجل بين يديه فرحا بقدومه كما حجل بعض الصحابة بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم لما قدم زائرا وكذلك كان يفعل الشيخ أبو بكر الحديدي إذا قدم عليه فقير
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا ينبغي لفقير أن يزور أحدا من إخوانه إلا بشيء من القوت ولو رغيفا فإن لم يجد شيئا فليدع له بظهر الغيب فإنها هدية في صحيفته يوم القيامة وهي أنفع من رغيف يعني بيقين
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : لا تدخلوا لزيارة عالم أو صالح إلا وميزان إنكاركم مكسرة خوفا عليكم من المقت فإنه أعلم منكم بيقين " والجاهلون لأهل العلم أعداء " لعدم وصولهم إلى مراتبهم وكم ممن دخل على عالم أو صالح بدين فخرج بلا دين فحرروا نيتكم قبل الدخول فإن لم يصح لكم إخلاص فارجعوا
وكان أخي الشيخ الصالح محمد الصندفاوي يقول : ربما أمكث السنة أو أكثر وأنا مشتاق إلى زيارة بعض الإخوان في أجد نية صالحة أزوره بها فعاتبني مرة على طول غيبتي فقلت له حتى وجدت لي نية صالحة جئتك بها فقال جزاك الله تعالى خيرا
وسمعت شيخنا الشيخ عبدالقادر الشاذلي رحمه الله يقول : إذا خرج أحدكم لزيارة فلا يخرج إلا بعد صلاة ركعتين ثم يقول بتوجه تام : اللهم إن كان في علمك أن أحدا من الإخوان خرج لزيارتي من بيته فعوقني عن الخروج وإن كان لم يخرج فعوقه في البيت حتى أذهب إليه لئلا نتعب نحن وهو من غير ملاقاة فإن للقاء لذة ليست كغيره
كما حكى أن أعرابيا ضاع له بعير فكان ينادى ألا من رأى البعير الفلاني فهو له فقال له : إنسان فما فائدة وجوده ؟ قال : لذة اللقاء لا غير
وكان أخي الشيخ أحمد السطيحة رحمه الله يقول : أقل مقام الفقير الزائر أن يتلقاه المزور كما يتلقى الأمير الكبير وإن كان عنده بطيخ أو رطب أو عنب أو نحو ذلك نقى له أطايبه كما ينقى لمن دخل عليه من أكابر الدولة كالدفتردار وقاضى العسكر والسنجق والباشا ومتى قصر عن ذلك فقد أساء الأدب مع الفقير وإن كان يدعى الفقر قلنا له : أنت لم تشم من طريق الفقر رائحة لأن تعظيم الخلق إنما يكون بحسب مقامهم عند الله تعالى ولا شك أن صفة الافتقار أقرب إلى الله من صفة الكبرياء والغنى
( يتبع . . . ) (1/189)
( تابع . . . 1 ) : - روى مسلم مرفوعا : [ [ أن رجلا زار أخا له في قرية فأرصد الله تعالى على
وقد قال أبو يزيد البسطامي رضى الله عنه : يا رب بم يتقرب إليك المتقربون ؟ فقال : بما ليس من صفتي فقال يا رب وما هو ؟ قال الذل والافتقار . وهذا الأمر على خلاف القاعدة العقلية من أنه لا يقرب شيء من شيء إلا بما فيه من المشابهة فكل ما تخلق به العبد من نظير صفات الحق تعالى في الأسماء التي لم يأذن في التخلق بها يبعده عن الحق كما أشار إليه خبر : [ [ الكبرياء إزاري والعظمة ردائي فمن نازعني واحدا منهما قصمته ] ]
فثم صفات لم يأذن الحق في التخلق بها وثم صفات أذن لعباده في التخلق بها كالكرم والصفح والحلم ونحو ذلك
وسمعت سيدي الشيخ عبدالحليم بن مصلح رحمه الله يقول : ما خرج أحد لزيارة عالم أو صالح ليستفيد علما أو أدبا إلا رجع بما كان فوق أمله من ذلك وما خرج أحد لإنكار أو انتقاد إلا ورجع محملا بالأوزار لأن العلماء بالله تعالى جارون على الأخلاق الإلهية في نحو حديث : [ [ أنا عند ظن عبدي بي ] ] . وفي نحو حديث : [ [ المسجد بيتي فمن دخل المسجد لشيء فهو حظه ] ]
واعلم أن الزيارة مأخوذة من الزور : أي الميل يقال زار فلان فلانا إذا مال إليه ومن شرط صحة الميل لشخص أن يعمى عن مساويه
وقد بلغنا عن السلف أنهم كانوا إذا خرجوا إلى زيارة عالم أو صالح تصدقوا بصدقة وطلبوا بذلك أن الله تعالى يعميهم عن مساوئ ذلك المزور فكانوا لا يخرجون من عنده إلا بفائدة ولو لم يكن هو من أهلها أجراها الله تعالى على لسانه لموضع صدق الزائر
وكان سيدي علي الخواص رحمه الله يقول : إذا زارت عيالكم بعض إخوانكم فلا تتكلفوا في الطبيخ عندهم وخففوا الأمر جهدكم فإن طبختم عندهم الطعام كلفتموهم إلى مثل ذلك ثم لا تناموا عندهم إلا إن كانت الدار واسعة المرافق تسعكم وتسعهم من غير مشاركة في دخول بيت الخلاء ويكون الزمان زمان صيف فإن كانت الدار ضيقة أو في ليالي الشتاء فارجعوا ناموا في بيوتكم . واستأذنه مرة بعض إخواننا فيما يطبخه عند أصهاره من الطعام ؟ فقال : تسمع نصحي فقال : نعم فقال : خذ أذناب البقر من قاعة الدهن واسلخها وفكك عظمها واسلقها في الماء فإذا علا الدهن فوق الماء فاقشط الدهن وكب الماء الزفر وضع في الدست ماء نظيفا واسكب الدهن عليه ثم حط عليه شوية أرز أو شوية دشيش قمح فقال : يا سيدي أستحيي أدخل لبيت أصهاري بأذناب البهائم فقال : يا ولدى إن الذنب لا ينظر أحد إليه بخلاف الأشياء الفاخرة وهذا لا يقدر عليه إلا من خلص حاله مع الله ولم يراع أحدا من وجوه العظم
وسمعت سيدي عليا المرصفي رحمه الله يقول : لا ينبغي للمريد أن يزور ولا يزار لغلبة الآفات عليه فلا هو مرصد للتربية ليقتدى به ولا المزور معد لتربيته وربما سمع من ذلك الشيخ الذي زاره كلمة موافقة لهواه فتسربها نفسه فهلك وأراد سيدي محمد الشناوي زيارة شيخ من مشايخ عصره فشاور شيخه الشيخ محمد بن أبى الحمائل رحمه الله فنظر إليه شزرا وقال : يا محمد لا ينبغي لمريد أن يأخذ عن شيخ إلا إذا علم أنه يكفيه عن جميع الناس فإن كنت لا أكفيك فكيف تقيدت علي في الظاهر وباطنك بخلافه فقال : يا سيدي التوبة فتاب قال : فما زرت بعد ذلك المجلس أحدا من المشايخ حتى مات شيخي
وسمعت أخي أبا الفضل يقول : قل أن يزور مريد مريدا إلا ويذكر كل منهما للآخر محاسن نفسه ويزكي كل منهما نفسه فيهلكان جميعا لأن إبليس لمثلهم بالمرصاد وغاية الزيارة أنها سنة وإذا جاءنا عن طريق تلك السنة معصية لا نقدر على السلامة منها تركنا السنة ولا شك أن تزكية الإنسان لنفسه حرام إلا لغرض صحيح كما زكى النبي صلى الله عليه و سلم نفسه بقوله : [ [ أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع ] ]
وإنما قال ذلك لأجل أن أمته يريحون نفوسهم من التعب في الذهاب إلى نبي بعد نبي يوم القيامة كغيرهم من الأمم ويأتونه أولا فما ذهب إلى غيره وتعب إلا من لم يبلغه هذا الحديث أو بلغه ونسيه
ومعلوم أن المريد غارق في حكم الطبيعة لا يقدر على تزكية نفسه إلا ليمدح بذلك عند الناس فافهم وما أمرنا الشارع بزيارة بعضنا بعضا إلا خالصا مخلصا لوجه الله لا نريد من الخلق جزاء ولا شكورا
وسمعت سيدي الشيخ أبا السعود الجارحي يقول : إذا زار أحدكم أميرا فليسأله الدعاء فإن الله تعالى يستحيي من الأكابر في هذه الدار أن يرد لهم دعوة يسألونه فيها فلا تتوقف يا أخي في ذلك وإن من فضله سبحانه وتعالى أنه يجيب دعاء ملوك الكفار إذا سألهم قومهم حاجة فضلا عن ولاة المسلمين كما وقع لفرعون في طلوع النيل حين توقف وقال : يا رب لا تفضحني بين قومي . وتأويل ذلك أن سؤال الأمير لربه في الأمور الدنيوية أقرب من دعاء الصالح إذ الأمير همته متوفرة إلى الدنيا بخلاف الصالح فإذا سأل أحدنا الأمير المحب للدنيا في حاجة يتوجه بكليته إلى قضاء تلك الحاجة الدنيوية الفانية التي لا تسوى جناح بعوضة فيعطيها الله لذلك المدعو له لأن حضرة وجوده واسعة وجوده فياض لا يرد سائلا يسأل شيئا نفيسا أو خسيسا بخلاف الصالح ليس له همة متوجهة إلى تحصيل شيء من أمور هذه الدار إلا ما لا بد له منه ومعظم همته أن الله تعالى يؤخر تلك الحاجة للدار الآخرة التي هي دار البقاء
وقد ورد : إن من الناس من يندم في الآخرة على كل حاجة قضيت له في دار الدنيا لما أعد الله ولما ينظر من الثواب الجزيل لأهل البؤس في دار الدنيا حتى يقال لأحدهم إذا غمس في النعيم : هل رأيت بؤسا قط ؟ فيقول : لا يا رب
وسمعت سيدي محمد بن عنان رحمه الله يقول : بلغنا عن الإمام أحمد أن السلف كانوا إذا اجتمع أحدهم بأخيه لا يفترقان إلا على قراءة سورة { والعصر إن الإنسان لفي خسر } إلى آخرها فينبغي المواظبة على ذلك
وكان سيدي محمد بن عنان إذا زاره أحد لا يدعه يذهب حتى يقدم له طعاما فإن لم يجد أسقاه الماء وكان يقول أحيوا هذه السنة فإن بها تأتلف القلوب ويقوى شعار الدين وتتعاضد القلوب ببعضها بعضا وكان يقول : إذا دخل أحد من الأكابر عليكم فلا تغيروا ملبوسكم لأجل قدومه إلا بنية صالحة وكذلك إذا دعيتم لشفاعة أو جنازة . ثم يحكى عن الفضيل بن عياض أنه كان يقول : لو قيل لي إن فلانا داخل عليك فسويت لحيتي بيدي لقدومه وأنا غافل عن نية صالحة في ذلك لخشيت أن أكتب في جريدة المنافقين
وسمعت سيدي محمد المنير رضى الله عنه يقول : ليتحفظ الفقير إذا دخل عليه أمير كل التحفظ فإن كان يعلم من نفسه أنه يأمره بمعروف وينهاه عن منكر فليقابله وإلا فليقل له أحد إن فلانا ما هو هنا ويشير إلى مكان بعينه في نفسه وأين من يدخل عليه الباشات أو الدفتردار مثلا وعليه ثوب حرير فيقول له : هذا حرام عليك فانزعه وإلا فلا تعد تدخل علينا هذا أمر قليل وقوعه جدا فالهروب من مقابلتهم أولى والسلام
وسمعت سيدي عليا الخواص يقول : من أدب الزيارة للملوك أن يدخل الزائر إليهم أعمى ويخرج من عندهم أخرس
فتأمل يا أخي ما ذكرته لك في هذا الدهليز إلى العمل بالعهد ثم زر أو اترك والله يتولى هداك (1/190)
- روى الشيخان مرفوعا : [ [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ] ] الحديث
وفي حديث الشيخين : [ [ وإن لزورك عليك حق ] ]
أي وإن لزوارك وأضيافك عليك حقا يقال للزائر زور بفتح الزاي سواء فيه الواحد والجمع قاله الحافظ عبدالعظيم
وروى مسلم وغيره : [ [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك حتى قلن كلهن بأسرهن مثل ذلك لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال : من يضيف هذا الليلة رحمه الله ؟ فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء ؟ قالت : لا إلا قوت صبياننا قال : فعلليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوميهم ؟ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل ] ]
وفي رواية : [ [ فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه . قال فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما فنزلت هذه الآية : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }
وروى مالك والشيخان وغيرهم مرفوعا : [ [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما كان بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوى ؟ ؟ عنده حتى يحرجه ] ]
قال الترمذي : ومعنى لا يثوى عنده لا يقيم حتى يشتد على صاحب المنزل والحرج الضيق
وقال الخطابي : معناه لا يحل للضيف أن يقيم عنده بعد ثلاثة أيام من غير استدعاء منه حتى يضيق صدره فيبطل أجره
قال الحافظ عبدالعظيم : وللعلماء في هذا الحديث تأويلان : أحدهما أنه يعطيه ما يجوز به ويكفيه في يوم وليلة إذا اجتاز به وثلاثة أيام إذا قصده والثاني يعطيه ما يكفيه يوما وليلة ويستقبلهما بعد ضيافته
وروى الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى مرفوعا : [ [ للضيف على من نزل به من الحق ثلاث فما زاد فهو صدقة وعلى الضيف أن يرتحل لا يؤثم أهل المنزل ] ]
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات والحاكم مرفوعا : [ [ أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محروما فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه ] ]
وفي رواية لأبى داود وابن ماجه : [ [ ليلة الضيف حق على كل مسلم فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين إن شاء قضى وإن شاء ترك ] ]
وفي رواية لأبى داود والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ أيما رجل أضاف قوما فأصبح الضيف محروما فإن نصره حق على كل مسلم حتى يأخذ قرى ليلته من زرعه وماله ] ]
وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ الضيافة ثلاثة أيام حق لازم فما كان بعد ذلك فهو صدقة ] ]
وروى الإمام أحمد مرفوعا : [ [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه قالها ثلاثا قال رجل : يا رسول الله وما كرامته ؟ قال ثلاثة أيام فما زاد بعد ذلك فهو صدقة ] ]
وروى الأصبهاني مرفوعا : [ [ الملائكة تصلى على أحدكم ما دامت مائدته موضوعة ] ]
وفي رواية لابن ماجه وابن أبى الدنيا مرفوعا : [ [ للخير أسرع إلى البيت الذي يؤكل فيه من الشفرة إلى سنام البعير ] ]
وروى الطبراني بإسناد جيد مرفوعا : [ [ مكارم الأخلاق من أعمال الجنة ] ]
وروى الإمام أحمد مرفوعا : [ [ لا خير فيمن لا يضيف ] ]
ورجاله رجال الصحيح إلا ابن لهيعة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نقرى الضيف ونكرمه ونأمر جميع إخواننا بذلك ونبين لهم ما ورد في تأكيد حقه وهذه السنة عظيمة والعمل بها قليل لا سيما قرى الأمراء فلا تكاد ترى لهم رغيفا إلا في النادر وكان الأولى لهم إحياء هذه السنة التي اندرست ويقرون كل وارد عليهم حسب الطاقة لأن حامل العلم والقرآن من نواب النبي صلى الله عليه و سلم وصغيرته كبيرة فينبغي لكل عالم أن يدعو طلبته إلى طعامه كلما قرءوا عليه ولو رغيفا يفرقه عليهم
وقد قلت مرة لطالب علم ورد علي فغذيته : لا تؤاخذنا بالتقصير فإن طعامنا قليل الدسم ما هو مثل طعام شيخك فقال لي : أنا ما رأيت له طعاما إلى وقتي هذا مع أنه أجازه بالفتوى والتدريس
واختلف الناس مرة في هلال رمضان فقال الناس : انظروا العلماء هل هم صائمون فصوموا ؟ فقال شخص عن شيخه إنه تغدى هو وأنا في هذا اليوم فقال له طالب آخر هذا من علامة كذبك فإن شيخنا ما رأيناه قط يأكل مع أحد ثم قال لي : يقولون في أفواه الناس ثلاثة لا ترى لهم أجنحة الفرس ورجل الثعبان وخبز الفقيه فقلت له : ثم من العلماء من قلبه عاكف في حضرة الاسم المانع فلا يقدر على أن يطعم أحدا إلا إن خرج من حضرته إلى حضرة الاسم الكريم والمعطى وأجبت عن شيخه فلم يصغ إلي وقال : لا أقدر على قلبي يميل إلى من لا يطعمني مثل من يطعمني أبدا فقلت له : هل هذا الذي منعكه كان رزقك وحال بينك وبينه أم ليس هو رزقك ؟ فقال : ليس هو رزقي وقولك صحيح ولكن الله قد ذم البخيل مع أنه لم يقسم على يديه رزقا لأحد فقلت له : للحق تعالى أن يذم عبده وأما نحن فليس لنا الاشتغال بذم الخلق خوفا من وقوعنا في غيبتهم ورجوعنا في أمرهم إلى القسمة الأزلية فيه رائحة عذر لهم وأسلم لديننا فعلم أن الكريم جعل الله تعالى أرزاق الخلائق على يديه ومدحه فضلا منه والبخيل لم يجعل لأحد على يديه رزقا وذمه عدلا منه فما أطعم كريم قط أحدا من رزقه هو وإنما أطعمهما قسمه الحق تعالى لذلك الآخذ ولو أراد أن يمنعه لما قدر وليتأمل الإنسان في نفسه يطبخ الدست الطعام الكبير في داره ويتعب في تحصيله ولا يقسم له منه لقمة ويأتي الضيف فيأكل منه فالمنة لله تعالى الذي خلق وقسم والعبد كالقناة الجاري منها الماء أو كالدست أو كالمغرفة فمن مدح القناة أو الدست أو المغرفة في المجالس ونسى الله فهو أخرف العقل
فإياك يا أخي أن تطلق لسانك فيمن وردت عليه فلم يطعمك شيئا لا سيما الأولياء المكملون من أصحاب الكشف فإنهم ما منعوك عن بخل وإنما لكونك لم يقسم لك شيء على يدهم لكونهم خرجوا عن شهود الملك لشيء من الكون دون الله ويرون نفوسهم كالوكيل الذي عين له المالك جماعة يعطيهم وجماعة يمنعهم فليس له تعدى مراسم المالك الحقيقي أبدا فهم يودون أن يقسم على يدهم شيء لذلك الممنوع فلم يجبهم الحق تعالى لذلك لما سبق في علمه وقد قالوا : أقبح من كل قبيح صوفي شحيح أي يشح على الناس بحكم الطبع والجبلة لا بحكم الكشف وعدم القسمة
وقد أخبرني شيخنا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى أنه قدم هو وجماعة على سيدي إبراهيم المتبولي ببركة الحاج فأبطأ عليهم بالضيافة قال : ثم خرج إلينا فقال : ما بقي شيخ في هذا الزمان إلا اللقمة فإن كان عندنا مدد فهو في لقمتنا ثم شق لنا بطيخة وصار يفرق علينا من غير ترتيب السنة فأراد بعض أصحابي أن يعترض عليه فقلت له الأدب ولكن ورخوا هذه الواقعة فورخناها فكانت تفرقته على ترتيب الأعمار فالذي أعطاه أولا مات أولا والذي أعطاه ثانيا مات ثانيا وكنا اثني عشر نفسا فلم يتقدم متأخر على متقدم أخذ الشقة قبله ثم قال : يا ولدي الاعتقاد ربح والإنكار خسران رضى الله تعالى عنه
وسمعت أخي أفضل الدين يقول : إياك أن تضيف إنسانا و يخطر في بالك المقابلة إذا وردت أنت الآخر عليه بل أطعمه لوجه الله لا تريد منه جزاء ولا شكورا ومتى خطر في بالك أنه يقابلك إذا وردت عليه فلست مخلصا بل لأنت مراء والمرائي أجره حابط من أصله قال وهذا هو حال غالب الناس اليوم فإن علمت ذلك يا ولدي من إنسان فلا تأكل له طعاما لا سيما الفلاحون فإن أحدهم لا يتكلف لمن ورد عليه إلا على نية طلب العوض لعجزهم عن بلوغ مقام الإخلاص وإن شككت فجرب
قلت : وقد سافرت مرة إلى سيدي أحمد البدوي أزوره فعزم على شخص وذبح لي شاة وجمع أهل بلده عليها فحصل لي منها عضة من ذنبها من غير زيادة فما رجعت مصر ومكثت نحو سبعة أيام إلا وهو داخل إلي ومعه سبعة عشر نفسا وكنت متجردا من الدنيا لا أقبل من أحد شيئا مطلقا وليس لي حرفة فأرسلت السوق وجئت لكل واحد برغيف وشقفة ملح فلما وضعتها بينهم صاروا يوبخون صاحب العنز ويقولون هذا صاحبك ثم غضبوا وخرجوا من غير أكل إلى وقتنا هذا فاعلم ذلك
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إذا استضفت إنسانا فقال لك بعد يوم أو يومين أو ثلاثة دستور أروح فإني أخاف أن أكون شققت عليكم فلا تأكل له طعاما بعد ذلك لأنه ما قال ذلك إلا بحسب ما عنده من أنه يستثقل بالضيف وهذا منزع دقيق
وسمعته مرة أخرى يقول : إياك أن تأكل لمن استضافك لأجل اعتقاده فيك الصلاح فإنك إن كنت صالحا في نفس الأمر فقد أكلت بدينك وإن لم تكن صالحا فقد أكلت حراما بنص الشريعة فقلت له : ممن آكل ؟ فقال : لا تأكل إلا ممن لو رآك تشرب الخمر لا يقطع ضيافته عنك فإنه حينئذ يطعمك لله تعالى بخلاف من غلب ظنك فيه أنك لو سلمت من الصلاح لم يطعمك لقمة . وهذا ورع الفقراء الذين مضوا وأما اليوم فلا تكاد ترى أحدا يتورع من ذلك
وسمعته رضى الله عنه يقول : إذا استضفت إنسانا في رمضان فلا تقدم له طعاما كثيرا زيادة على حاجته إلا إن علمت منه العفة والقناعة وعدم شراهة النفس فإن علمت منه ضد ذلك فأخرج له شيئا يسيرا لأن رمضان شهر الجوع ومن أعان ضيفا على تعدى آداب الشارع فهو إلى قلة الأجر أقرب فينبغي للفقير أن يكون أشفق على الناس وعلى دينهم من أنفسهم فقلت ربما خاف الإنسان من نسبته إلى تقصير إذا أخرج للضيف كسرة يابسة مثلا فقال : من يخاف العتب من الناس ما هو من رجال هذا المقام إنما هذا لمن يراعى الله وحده وقد جربنا أنه ما أخلص عبد في شيء ورد عليه بسوء أبدا فإن رد عليه بسوء فإنما ذلك لشيء يخالطه من أهوية النفوس
وسمعته مرة أخرى يقول : لا يكمل الفقير عندنا الطريق حتى يكرم كل وارد عليه من الأنفاس والخواطر من حيث إنهم رسل الله فتروح تلك الأنفاس والخواطر إلى حضرة ربها شاكرة له ما صنعه فيها من الأعمال المرضية والأخلاق النبوية
وسمعته مرة أخرى يقول : إياك أن تضيف مريدا من مريدي الغير إلا إن كنت تعلم منه ثبات قلبه مع أستاذه بحيث لا يبدي لك ميلا يجرح مقام أستاذه فإن علمت منه ذلك فليس لك أن تضيفه لئلا يتلف حاله مع شيخه ويصير لا يقبله كما أنك أنت الآخر لا تقبله من حيث إشراكه أستاذه معك أو إشراكك من أستاذه
وسمعت سيدي محمد بن عنان رحمه الله يقول : إذا صرت موردة للناس فإياك أن تتكلف لضيف فإنك تهرب ولو على طول
{ والله عليم حكيم } (1/191)
- روى مسلم وغيره مرفوعا : [ [ ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة ] ]
وفي رواية : [ [ فلا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طائر إلا كانت له صدقة ] ]
ومعنى يرزؤه : يصيب منه وينقصه
وفي رواية : [ [ فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة ] ]
وروى الإمام أحمد مرفوعا : [ [ من بنى بنيانا في غير ظلم ولا اعتداء أو غرس غرسا في غير ظلم ولا اعتداء كان له أجره جاريا ما انتفع به أحد من خلق الرحمن تبارك وتعالى ] ]
وروى الإمام أحمد مرفوعا : [ [ من نصب شجرة فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر كان له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز و جل ] ]
وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ذلك الغرس ] ]
وروى البزار وأبو نعيم والبيهقي مرفوعا : [ [ سبع يجرى للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته : من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته ] ]
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ يا معاشر الأنصار فقالوا : لبيك يا رسول الله فقال : كنتم في الجاهلية إذ لا تعبدون الله تحملون الكل وتفعلون في أموالكم المعروف وتفعلون إلى ابن السبيل حتى إذا من الله عليكم بالإسلام وبنبيه إذ أنتم تحصنون أموالكم فيما يأكل ابن آدم أجر وفيما يأكل السبع والطير أجر ] ] قال جابر فرجع القوم فما منهم أحد إلا هدم من حديقته ثلاثين بابا
قال الحاكم وفيه النهى الواضح عن تحصين الحيطان والنخيل والكرم وغيرها عن المحتاجين والجائعين أن يأكلوا منها . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا الفلاحين وأهل الغيط في الزرع وغرس الأشجار التي تثمر أو يتخذ منها الخشب لمنافع الناس فإن ذلك معدود من الصدقة الجارية بعد موت العبد سواء باشر الزرع والغرس بنفسه أو أقام من يفعل ذلك له بأجرة لكن أجر من يباشر ذلك أرجح وأكثر منفعة فإن الأرض قد قلت بركتها تبعا لاختلاف النيات وفساد المعاملة مع الله تعالى ومع خلقه وما بقي فيها فائدة إلا لمن يعمل بيده وأما من يعمل بالأجرة فهو إلى الخسارة أقرب لا سيما زرع الكتان فانه مجرب للخسارة لكثرة تعبه اللهم إلا أن يوجد شخص يراقب الله تعالى في غيبة صاحب الزرع حتى يكون غيابه مثل حضوره فربما فضل له شيء يسير بعد الخراج والكلف وهذا أعز من الكبريت الأحمر بل بعضهم لا ينصح في شغله بحضرة صاحب الزرع وذلك مذهب للبركة بل أخبرني بعض الإخوان أنه زرع كتانا وعصفرا فما جاء الكتان قدر كلفته ولا جاء العصفر قدر أجرة النساء اللاتي جنوه فطالبوه ببقية الكلفة
وقد بلغنا أن شخصا من الملوك في زمن داود عليه السلام رأى في منامه قمحا قدر بيض النعام وكان لا يرى في منامه إلا شيئا له حقيقة فأرسل رسلا إلى نواحي الأرض يسألون هل رأى أحد منكم أو سمع بقمح قدر بيض النعام فقال شيخ قد طعن في السن نعم رأيت ذلك وهو تحت عتبة تلك الدار الخراب فحفروا نحو قامتين فوجدوا خابية كبيرة ملآنة من ذلك القمح فأحضروها بين يدي ذلك الملك فسأل الملك داود عليه السلام عن ذلك فأوحى الله تعالى إليه أن شخصا استأجر أرضا فحرثها فوجد فيها قدرة ذهب فحملها إلى صاحب الأرض فردها وقال هي رزقك ولم يرض أن يأخذها فجمعا أصحابهما فأشاروا أن يجهزوا ابنة أحدهما وتزوج لابن الآخر ففعلا وفضل من القدرة بعض دنانير فزرعا بها زرعا فجاء على هذا الحال فإن الزرع يصغر ويكبر بحسب طيب النية وخبثها وقد عز إصلاح الناس من غالب أهل هذا الزمان فالعاقل من زرع وحده مع مباشرة الزرع مع الأجير
{ ولا ينبئك مثل خبير } . { والله غفور رحيم } (1/192)
- روى الترمذي وغيره مرفوعا ومرسلا : [ [ السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل ] ]
وروى الأصفهاني مرفوعا : [ [ ألا إن كل جواد في الجنة حتم على الله وأنا به كفيل ألا وإن كل بخيل في النار حتم على الله وأنا به كفيل ؟ قالوا يا رسول الله : من البخيل ومن الجواد ؟ قال : الجواد من جاد بحقوق الله في ماله والبخيل من منع حقوق الله وبخل على ربه وليس الجواد من أخذ حراما وأنفق إسرافا ] ]
قلت : وقد سئل الشيخ محيى الدين بن العربي رحمه الله عن حقيقة الإسراف فقال : الإسراف كرم واسع خارج عن الحد والمقدار ولكن لما كان صاحب هذا الحال لا يقدر على المداومة عليه بل يندم على ما يخرجه إذا وجد حاله قد ضاق جعله الله تعالى مذموما وجعل المحمود حالة بين إسراف وتقتير . والله أعلم
وروى الترمذي مرفوعا : [ [ إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها ] ]
وروى أبو داود في مراسيله : [ [ إذا أراد الله بقوم خيرا ولى أمرهم الحكماء وجعل المال عند السمحاء وإذا أراد الله بقوم شر ولى أمرهم السفهاء وجعل المال عند البخلاء ] ]
وروى أبو الشيخ مرفوعا : [ [ السخاء هو خلق الله الأعظم ] ]
وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ ما جبل ولى لله عز و جل إلا على السخاء وحسن الخلق ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ إن الله استخلص هذا الدين لنفسه ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق ألا فزينوا دينكم بهما ] ]
وروى الطبراني : [ [ أن شخصا قال : يا رسول الله من السيد ؟ قال : يوسف ابن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام قالوا : فما في أمتك سيد ؟ فقال : بلى رجل أعطى [ أعطي ؟ ؟ ] مالا ورزق سماحة وأدنى الفقير وقلت شكاته في الناس ] ]
وروى الطبراني والأصفهاني مرفوعا : [ [ إن الله تبارك وتعالى بعث جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام فقال : يا إبراهيم إني لم أتخذك خليلا على أنك أعبد عبادي لي ولكن اطلعت على قلوب المؤمنين فلم أجد قلبا أسخى من قلبك ] ]
وروى ابن أبى الدنيا والأصبهاني وأبو الشيخ مرفوعا : [ [ تجافوا عن ذنب السخي فإن الله تعالى آخذ بيده كلما عثر ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا في الجود والسخاء ونكون أول فاعل لذلك لا سيما في شهر رمضان وهذا العهد قد قل العمل به في غالب الناس حتى العلماء ومشايخ الزوايا فاكتفوا بالتوسعة على أنفسهم في المطاعم والملابس والنكاح للمخدرات والسراري الحسان حتى إني رأيت بعض من يدعى الصلاح والفقر لا يركب الحمار بل الخيول المسومة ورأيته مرة احتاج للركوب في حاجة وغابت الفرس وعنده حمارة فلم يركبها وقال : أستحيي أن أمر في مصر على حمارة مع أنه متعمم بصوف وله عذبة وشعرة وهذا أمر ينافى طريق الفقراء من كل وجه
وقد سمعته مرة يقول : نحن بحمد الله الدنيا في يدنا لا في قلبنا فأرسلت له ضريرا معيلا يطلب منه شيئا من ملبوسه أو ثمن جبة أو صاعا من قمح فلم يعطه مع أن بيته أوسع من بيت أمير فقال له الضرير : فأين قولك بحضرة فلان الدنيا في يدنا لا في قلبنا وهل ثم أحوج مني فإني أعمى معيل وتعرف أن أحدا ما بقي يعطى السائل شيئا فضلا عن كونه يرسل له شيئا بلا سؤال فرجع من عنده مكسور الخاطر وكان الأولى بذلك الشيخ أن يعطيه نفقة يومه أو قميصا من ثيابه التي تزيد على ثلاثين زيقا كما أخبرني بذلك خادمه
ودخلت مرة أنا وأخي الشيخ زين العابدين ابن الشيخ عبيد البلقسي نفعنا الله ببركاته على شيخ من مشايخ العصر فصار يرغبنا في الفقر وضيق اليد ويقول لنا : الفقراء ما تميزوا عن الناس إلا بالزهد في الدنيا اختيارا فملنا إليه بالمحبة لحسن كلامه فجاءنا ولده يستشفع بنا عنده أن يزيد نفقته فقلنا له كم يعطيك كل يوم فقال : عشرة أنصاف فقلنا له وهذا يكفى أكبر الفقراء فقال : دخل والدي كل يوم ثلاثمائة نصف ينفق منها نحو خمسة عشر نصفا ويخزن الباقي فقلت له : قد يكون يا ولدى يتصدق به من غير علمك فقال : لو كان يتصدق ما كان في صندوقه نحو أربعين ألف دينار هذا لفظ ولده فإذا كان هذا حال مشايخ العصر الذين يقتدى بهم فكيف بالعوام
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : من أراد أن يظهر بالمشيخة في هذا الزمان فليكن أول عامل بجميع ما يدعو إليه وإلا فهو فتنة على العباد فلا أتعب قلبا ولا بدنا ولا أضيق معيشة من الفقراء الصادقين أبدا
وسمعته يقول : ليس السخي من ينفق ماله فيما نهاه الله عنه وإنما السخي من ينفق ماله في مرضاة الله
وسمعته يقول : إياك أن ترى مع فقير دنيا عريضة ولا تراه يؤدى زكاتها فتسيء الظن به فإن من الفقراء من يكون من أصحاب الخطوة فيخطو خطوة إلى بلاد الهند مثلا من مصر فيدفع زكاته إلى فقراء تلك البلاد كما كان يقع للشيخ محمد الشربيني رحمه الله
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ صادق لا مثل هذا الشيخ الذي ذكرناه فإن من دعا إلى خير ولم يفعل كانت أفعاله مكذبة له وحاجبة للناس عن سماع مقاله فإذا سلك على يد شيخ بصدق وإخلاص فإنه يقربه إلى حضرة الله عز و جل وهناك يقوى يقينه بالله وينفق كل ما دخل في يده بخلاف البعيد عن حضرته فإنه بالضد من ذلك فلا يكاد يعطى أحد شيئا لضعف يقينه { والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/193)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ] ]
وزاد الحافظ العبدري : [ [ ومن مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام ] ]
قال الحافظ البيهقي : ولم أر هذه الزيادة في شيء من أصوله إنما رواها ابن أبى الدنيا والأصبهاني
وفي رواية لمسلم وأبى داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم مرفوعا : [ [ من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله تعالى يوم القيامة والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ] ]
وروى الطبراني وأبو الشيخ مرفوعا : [ [ إن لله تعالى خلقا خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون من عذاب الله ] ]
وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ إن لله تعالى على أقوام نعما يقرها عندهم ما كانوا في حوائج الناس ما لم يملوهم فإذا ملوهم نقلها إلى غيرهم ] ]
وفي رواية لابن أبى الدنيا وللطبراني : [ [ إن لله تعالى أقواما اختصهم بالنعم لمنافع العباد يقرهم فيها ما بذلوها فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم ] ]
وفي رواية للطبراني وابن أبى الدنيا وغيرهما مرفوعا : [ [ ما عظمت نعمة الله على عبد إلا استدلت عليه مؤونة الناس ومن لم يحمل تلك المؤونة للناس فقد عرض تلك النعمة للزوال ] ]
وفي رواية للطبراني بإسناد جيد مرفوعا : [ [ ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرم فقد عرض تلك النعمة للزوال ] ]
وروى الطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ من مشى في حاجة كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق كل خندق أبعد ما بين الخافقين ] ]
وروى أبو الشيخ ابن حبان وغيره مرفوعا : [ [ من مشى في حاجة أخيه حتى يثبتها له أظله الله عز و جل بخمسة وسبعين ألف ملك يصلون عليه ويدعون له إن كان صباحا حتى يمسي وإن كان مساء حتى يصبح ولا يرفع قدما إلا حط الله عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة ] ]
وروى أبو داود في مراسيله : [ [ أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قدموا يثنون على صاحب لهم خيرا قالوا : ما رأينا مثل فلان قط ما كان في مسير إلا كان في قراءة ولا نزلنا منزلا إلا كان في صلاة قال : فمن كان يكفيه ضيعته ؟ حتى ذكر : ومن كان يعلف جمله أو دابته ؟ قالوا : نحن قال : فكلكم خير منه ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من كان وصلة لأخيه إلى ذي سلطان في مبلغ بر أو إدخال سرور رفعه الله في الدرجات العلى من الجنة ] ]
وروى الطبراني بإسناد حسن وأبو الشيخ مرفوعا : [ [ من لقي أخاه المسلم بما يحب ليسره بذلك سره الله عز و جل يوم القيامة ] ]
ورويا أيضا مرفوعا : [ [ أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن كسوت عورته أو أشبعت جوعته أو قضيت له حاجة ] ]
والأحاديث في قضاء حوائج المسلمين كثيرة ومشهورة :
وروى أبو داود مرفوعا : [ [ من شفع شفاعة لأحد فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الكبائر ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نقضي حوائج المسلمين وندخل عليهم السرور ولا نقبل على ذلك هدية منهم على قاعدة أن فعل الطاعات بالأصالة إنما هو للثواب الأخروي وما فاز بذلك إلا العارفون الذين يفعلون الأوامر الشرعية امتثالا لأمر الله دون الأجر الأخروي وأما غيرهم فهو بارك في وحلة الثواب لا ينفك وقد جربنا أن كل من قبل عوضا على شفاعة شفعها عند حاكم فهو خارج عن الطريق ثم تنقطع الوصلة بينه وبين الحق فيرد الحاكم شفاعته ولا يصير له عندهم حرمة كما لا حرمة لأحد من أهل الدنيا عندهم بخلاف من هو قائم لله تعالى
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : إذا جاء المشفوع له بهدية للشافع فليردها عليه فإن لم يقبلها وقال خرجت عنها للفقراء فليأخذها الشافع ويفرقها على الفقراء والمساكين لا سيما إن كان ظالما أو من أعوان الظلمة وهذا الورع قد صار اليوم قليلا في الفقراء فصار حكمهم حكم البزددار عند الظلمة يعمل لهم المصالح التي هي مفاسد
فاقض يا أخي حوائج المسلمين لله تعالى وإن طلبت على ذلك أجرا فاطلبه من الله على سبيل إظهار الفاقة وإنه لا غنى لك عن فضله وإياك وقبول الهدية على ذلك لا سيما من النساء والفقراء من الدنيا
وقد رأيت مرة شخصا من مشايخ العصر يشفع عند الحكام بجعالة مثل الرسل عند الظلمة فدخلت امرأة عجوز حبس الوالي ولدها فقالت : يا سيدي الشيخ اشفع لي في ولدي فقال لها : ما معك للفقراء ؟ فقالت : سبعة أنصاف وعثماني بعت بها غزلي اليوم فقال : هذه ما تكفى فلا زال يشدد عليها حتى جاءته بربعة غزل أخرى فأخذها فأعطاها للنقيب وأخذ الفلوس لنفسه هذا أمر شهدته منه مع أنه بنى له مقصورة وجعل له سترا وتابوتا فكل ذلك لعدم الفطام على يد شيخ ناصح
وقد سمعت سيدي عليا المرصفي رحمه الله يقول عن هذا الرجل : لو أمكنني منع هذا الرجل من الجلوس بين الناس لفعلت لكونه جلس بنفسه من غير إذن من شيخ وعمل على عقول بعض الأمراء وتجاهى علينا وقد عمل على عقل أكابر الدولة حتى صاحبنا الأمير محيى الدين من كونه من دهى العالم ولكن لما جمعته على سيدي علي الخواص قال له : إن اجتمعت على ذلك الرجل فلا تعد تأتني أبدا فلم يجتمع به حتى مات
فاسلك يا أخي الطريق على يد شيخ ثم اجلس لقضاء حوائج الناس بعد الفطام والله يتولى هداك
وقد كان الشيخ جلال الدين المحلى شارح المنهاج رحمه الله يخدم جميع عجائز الحارة وشيوخها العاجزين ويشترى لهم الحوائج من السوق وربما سأله إنسان في حاجة فيترك التدريس ويقوم لحاجة ذلك السائل . وسألته عجوز مرة يشترى لها زيتا من السوق فقام من الدرس فقالوا له تترك الدرس لأجل عجوز ؟ فقال : نعم حاجتها مقدمة عليكم وكان أكثر ما يخرج لحوائج عجائز حارته حافيا ويقول الأصل في الأرض الطهارة وكان يخرج في الليلة المطيرة مشدود الوسط ويقول : من له حاجة بنار أجئ بها له من الفرن فيطوف على عجائز الحارة واحدا واحدا رضى الله عنه وقال للشيخ فخر الدين المقدسي والجوجري يوما حين قالوا له : كيف تقدم شراء زيت حار أو مجيئك بالنار على تدريسنا العلم ؟ فقال لهما : المدار على إدخال السرور والمحتاج يحصل له بقضاء حاجته من السرور أكثر مما يحصل لكما بتعليمكما العلم هكذا حكى لي الحاج جلال الدين بزددار الجوالي وكان قد صحب الشيخ جلال الدين سنين كثيرة قال : ورأيته مرة يخبز لعجوز فقلت له في ذلك فقال : قطعنا عمرنا في الاشتغال بالعلم والآفات فيه كثيرة قل من ينجو منها وما رؤى أحد من العلماء بعد موته فقال غفر لي بعلمي أبدا إلا قليلا لما فيه من الآفات بخلاف مثل هذه الحوائج فربما يغفر لنا بها . والله تعالى أعلم
وسمعت سيدي محمد بن عنان يقول : عندي أن النقيب الواقف في حوائج فقراء الزاوية أكثر أجرا من المقيمين العاكفين على القراءة والذكر والعبادة لأنه لولا سعيه عليهم لم يقدر أحد منهم على الجلوس لتلك العبادة بل كان يخرج يسعى على الرغيف قهرا عليه
وكان سيدي خضر الذي كفلني يتيما يخرجني في المطر ويعطيني جفنة ويقول : املأها نارا من الفرن ودر على أهل الحارة واعرض عليهم من له بها حاجة ثم يقول : يا ولدي إنما أقصد بذلك أن الله تعالى يقيض لك من يخدمك عند العجز مجازة على فعلك هذا ثم يقول لي : أما رأيت يا ولدي بعض الشيوخ العاجزين عليه الخليقات النظيفة وهو ضرير يقاد إلى المسجد لا يفوته صلاة في جماعة وهو مستغن عن سؤال الناس ؟ فأقول : نعم فيقول : أما رأيت شيخا عليه قحف حافي مكشوف الرأس وما عليه من الصلاة أبدا إذا فاتت وهو دائر يسأل الناس جديدا نقرة فلا يعطونه ؟ فأقول : نعم فيقول : هذا ضيع حقوق الله وحقوق عباده في صغره فضيعه الله في كبره وذاك وفى بحق الله وحق عباده في صغره فقيض الله تعالى له من يخدمه في كبره فلا تكاد ترى مخدوما قط في كبره إلا وقد خدم الناس في صغره . { والله غفور رحيم } (1/194)
- روى الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه مرفوعا : [ [ الحياء من الإيمان ] ]
وفي رواية للشيخين مرفوعا : [ [ الحياء لا يأتي إلا بخير ] ]
وفي رواية لمسلم : [ [ الحياء خير كله ] ]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ الحياء شعبة من الإيمان والإيمان في الجنة ] ]
وفي رواية للترمذي : [ [ الحياء والعي شعبتان من الإيمان ] ] والعي قلة الكلام
وروى الطبراني وأبو الشيخ : [ [ أنهم قالوا يا رسول الله الحياء من الدين ؟ فقال صلى الله عليه و سلم بل هو الدين كله ] ]
وروى الطبراني وغيره ورواته محتج بهم في الصحيح مرفوعا : [ [ لو كان الحياء رجلا لكان رجلا صالحا ] ]
وروى مالك وابن ماجه مرفوعا : [ [ إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء ] ]
وروى ابن ماجه والترمذي مرفوعا : [ [ وما كان الحياء في شيء إلا زانه ] ]
وروى الحاكم وغيره وقال صحيح على شرط الشيخين مرفوعا : [ [ الحياء والإيمان قرناء جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر ] ]
وروى أبو الشيخ : [ [ الحياء شعبة من الإيمان ولا إيمان لم لا حياء فيه ] ]
وروى الترمذي والطبراني موقوفا ومرفوعا : [ [ استحيوا من الله حق الحياء قالوا : يا نبي الله إنا لنستحيي والحمد لله قال : ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى وتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نستحيي من الله حق الحياء سرا وجهرا حتى لا يكون لنا سريرة سيئة نخشى من ظهورها وفضيحتها لا في الدنيا ولا في الآخرة ونأمر جميع إخواننا بذلك
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ ناصح يسلك به حضرات القرب ويدخله حضرات الإحسان حتى لا يكاد يخرج منها إلا في النادر وهناك يكون شهوده للحق تعالى مستداما فتارة يرى أن الله يراه وتارة يؤمن بأنه جليس الله وإن كان لا يراه كالأعمى يعرف أنه جليس زيد وإن كان لا يراه ومن لم يسلك على يد شيخ فمن لازمه غالبا قلة الحياء مع الله تعالى حتى في صلاته
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : لا يبلغ أحد مقام الحياء مع الله تعالى حتى يتعطل كاتب الشمال فلا يجد شيئا يكتبه في حقه أبدا وحتى يصير لا يتجرأ على مد رجله إلا إن استأذن الحق ولا يأكل شهوة إلا إن استأذن الحق ولا ينظر نظرة إلا إن استأذن الحق ولا يتكلم كلمة إلا إن استأذنه وهكذا هذا في الأمور العادية أما الأمور المشروعة فيكتفي فيها بالإذن العام
وبالجملة فكل من وقع في شهوة كمعصية أو مكروه فما استحيى من الله حق الحياء المشروع
وبلغنا أن سيدي إبراهيم بن أدهم مد رجله ليلة في الظلام فسمع قائلا يقول : يا إبراهيم ما هكذا تجالس الملوك فضم رجله ولم يمدها إلى أن مات رحمه الله
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : من استحيى من الله استحيا الله منه يوم القيامة أن يؤاخذه ومن غضب إذا انتهكت حرمات الله غضب الله إذا انتهكت له حرمته كذلك ومن لم يستح من الله لم يستح الله من عذابه ومن لم يغضب لله تعالى لا يغضب الله لأجله وهكذا فمجازاته تعالى كالفرع في هذه الأمور وإن كان الأصل منه كما قال : { فاذكروني أذكركم } وكما قال : { إن تنصروا الله ينصركم }
وسألت شيخ الإسلام زكريا رحمه الله عن الفرق بين الحياء الشرعي والحياء الطبيعي فقال : الفرق بينهما هو أن الحياء الشرعي يكون فيما أمر به الشارع أو نهى عنه فيستحيي من الله أن يترك مأمورا أو يقع في منهي والحياء الطبيعي يكون فيما سكت عنه الشارع من الأمور العادية كأن يستحيي أن يخرج بعمامة لا تليق به أو يخرج إلى السوق بغير رداء على كتفه ونحو ذلك . ومن الفرق أيضا أن يكون تقبيحه للأمور تبعا للشارع لا بحكم الطبع كما يقع فيه غالب الناس فيقع في الغيبة والنميمة ولا يستقبح ذلك ويستقبح أكل الشيء المخدر أو شرب القهوة أو الجلوس على دكان حشاش مع أن ذلك أخف من إثم الغيبة والنميمة بيقين ولو أنه مشى على الحياء الشرعي لاستقبح ما قبحه الشارع أكثر مما قبحه الطبع . فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك (1/195)
- روى مسلم والترمذي : [ [ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن البر والإثم فقال : البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك : أي تردد وكرهت أن يطلع عليه الناس ] ]
وروى الشيخان والترمذي : [ [ عن عبدالله بن عمر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم فاحشا ولا متفحشا وكان يقول : من خياركم أحسنكم أخلاقا ] ]
وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ما شيء أثقل في ميزان المؤمن من خلق حسن وإن الله يبغض الفاحش البذيء ] ]
أي المتكلم بالفحش وبذيء الكلام
وفي رواية للبزار : [ [ وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة ] ]
وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه والبيهقي : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ فقال : تقوى الله تعالى وحسن الخلق ] ]
وروى الترمذي والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا وألطفهم بأهله ] ]
وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم مرفوعا : [ [ إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ] ]
ولفظ الطبراني : [ [ إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامئ بالهواجر ] ]
وفي رواية له أيضا : [ [ إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف العبادة ] ]
وروى الإمام أحمد والطبراني مرفوعا : [ [ إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله بحسن خلقه وكرم ضريبته ] ] والضريبة الطبيعة وزنا ومعنى
وروى ابن أبى الدنيا مرسلا : [ [ ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن ؟ الصمت وحسن الخلق ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ كرم المؤمن دينه ومروءته عقله وحسبه خلقه ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ لا حسب كحسن الخلق ] ]
وروى محمد بن نصر المروزي مرسلا : [ [ أن رجلا قال : يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال : حسن الخلق ثم سأله ثانيا وثالثا وهو يقول له حسن الخلق ثم سأله الرابعة فقال له : مالك لا تفقه : حسن الخلق هو أن لا تغضب إن استطعت ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن : [ [ إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ عن جبريل عليه السلام عن الله تعالى قال : [ [ إن هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلح له إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام : يا خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل الجنة مع الأبرار وإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأن أسقيه من حضيرة قدسي وأن أدنيه من جواري ] ]
وروى البزار وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ألا أخبركم بخياركم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : أطولكم أعمارا وأحسنكم أخلاقا ] ]
وروى الترمذي وقال حسن صحيح مرفوعا : [ [ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ] ]
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول اللهم كما حسنت خلقي فأحسن خلقي ] ]
وروى الطبراني والبزار : [ [ أن أم حبيبة قالت : يا رسول الله : المرأة يكون لها زوجان ثم تموت فتدخل الجنة هي وزوجاها لأيهما تكون للأول أو الآخر ؟ قال : تخير أحسنهما خلقا كان معها في الدنيا يكون معها في الجنة يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة ] ]
وروى أبو يعلى والبزار من طرق أحدها مرفوعا : [ [ إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ] ]
وفي رواية : [ [ إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم ] ]
والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحسن خلقنا مع الناس ما استطعنا ونرغب جميع إخواننا في ذلك
ويحتاج العامل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ ناصح حتى تلطف كثائفه ويخرجه من درجات الجفاء إلى درجات حسن الخلق ومن لم يسلك على يد شيخ لازمه غالبا سوء الخلق إلا أن تحفه العناية من الأزل فمثل هذا لا يحتاج إلى شيخ في ذلك إن شاء الله
وقد بلغنا أن الإمام الشافعي رضى الله عنه كان مشهورا بحسن الخلق فعمل الحسدة على إغضابه فلم يقدروا فبرطلوا الخياط مرة أن يعمل له الكم اليمين ضيقا جدا لا يخرج يده منه إلا بعسر ويعمل اليسار كالخرج فلما رآه الإمام قال له : جزاك الله خيرا الذي ضيقت كمي اليمين لأجل الكتابة ولم تحوجني إلى تشميره ووسعت اليسار لأحمل فيه الكتب مع أنه كان يقول رضى الله عنه : من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضى فلم يرضى فهو شيطان فيحمل قوله هذا على غضبه لله تعالى ويحمل عدم غضبه على غضبه لحظ نفسه فالكمل على الأخلاق الإلهية والله تعالى يغضب لغيره ولا يغضب لنفسه فلو انتقم تعالى لنفسه لأهلك الخلق كلهم في لمحة فافهم
وبلغنا أنهم صبوا مرة على الجنيد غسالة سمك وهو خارج لصلاة الجمعة فعمته من جمته إلى ذيله فضحك وقال : من استحق النار فصولح بالماء لا ينبغي له الغضب ثم عاد إلى البيت واستعار ثوب زوجته فصلى فيه
وكان السلف الصالح رضى الله عنهم كلهم يقولون : الدرجات هي الخلق الحسن فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدرجات وكانوا إذا آذاهم إنسان يعتذرون إليه ويقولون : نحن الظالمون عليك ولو أنا أطعناك فيما طلبته منا ما آذيتنا فاللوم علينا لا عليك وكانوا إذا بلغهم عن امرأة أو عبد سوء خلق تزوجوها أو اشتروا العبد وصبروا على سوء خلقهما وكذلك كانوا يشترون الحمارة أو البغلة الحرون فيركبونها ولا يضربونها يروضون نفوسهم في الصبر عليها وكان على هذا القدم سيدي أفضل الدين رحمه الله فكان لا يحرك رجله على الحمارة أبدا إذا ركبها ويحتاج مثل ذلك إلى طول روح عظيمة لا سيما الحديد المرارة
وقد رأيت مرة شخصا نحريرا ضرب حمارته فلم تمش فنزل وصار يعضها في أذنها وذنبها بفمه ويقول : هيه يا مشومة هيه يا مشومة كأنه يخاطب من يعقل
وقد رأيت مرة شخصا انقطع الجحش من وراء حمارته فقال له : طرش طرش فلم يجئ فقال له : يا سيدي قطب الدين يا سيدي قطب الدين فلم يجئ فنزل وضربه فمات في الحال وقال : لا تجئ بقولي طرش ولا بقولي يا سيدي قطب الدين فأقول جزاؤك الموت
ورأيت مرة شخصا علق بقرته يطحن عليها لما ضعف ثوره فلم تدر في الطاحون فضربها فلم تدر فقال : قفي لي أنا أعرف أن نفسك كبيرة لأجل الشوية السمن التي حوشتها من لبنك ثم ذهب وأتى بالقدرة السمن فكسرها في مدار الطاحون وقال : بقيتي تكبري نفسك بإيش ثم ضربها بمزربة فماتت . والحكايات في سوء الخلق كثيرة وإنما ذكرت بعض ذلك لتعلم أن الواجب على كل مؤمن أن يروض نفسه ليصبر على تحمل أذى الناس والدواب ولا يخرج إلى طبع المجانين فإن حكم هؤلاء الذين ذكرناهم حكم المجانين بلا شك فاعلم أن من أعظم حسن الخلق صبرك على من تقدر على تنفيذ غضبك فيه ثم تتركه كزوجتك وفتاك
وقد كان سيدي علي الخواص رحمه الله يقول : لي مع ابنة عمى سبع وخمسون سنة ما أظن أننا بتنا ليلة واحدة صلحاء إلى يومنا هذا
وحكى عن الشيخ جلال الدين شارح المنهاج أنه كان له فتى قوي الرأس كثير اللعب فكان الشيخ يذهب إلى الفرن يخبز ويمر عليه وهو يلعب فيقف عليه وهو حامل طبق الخبز ويقول : ويلك قم تعال كل من هذا الخبز الساخن فلا يقوم فيذهب الشيخ إلى البيت ويرجع له ثاني مرة يطلبه للغذاء رضى الله تعالى عنه وكذلك من أعظم حسن الخلق أن تغفر وتسامح لمن آذاك من الناس عملا بقوله تعالى { وإذا ما غضبوا هم يغفرون }
وكذلك من أعظم حسن الخلق أن يكون الإنسان نفاعا للناس ومع ذلك يذمونه وينقصونه فلا يمنعه ذلك من النفع لهم وذلك كنقيب الفقراء وناظر وقفهم فإن من لازمهم غالبا ذم الفقراء لهما وحملهما على محامل سيئة وإن جميع ما يصل إليهم إنما هو فضلة النقيب والناظر
وقد كان الشيخ بدر الدين بن دنيا شيخ نقباء سيدي الشيخ أبى السعود بن أبى العشائر يعمل الطعام الفاخر من عنده للفقراء والزوار ويقول شخص خرج لكم عن هذا الطعام ويوهمهم أن ذلك من غيره ثم يسمعهم يقعون في عرضه ويقولون هذا لا يأتينا إلا بما فضل عنه ومع ذلك فلا يصده ذلك عن الإحسان إليهم بل يفرح ويقول : العبد لا يعامل إلا الله وأما الخلق فمفاليس ليس معهم شيء يأخذه منهم يوم القيامة وقد حكيت ذلك لسيدي علي الخواص فقال هذا من أعظم أخلاق الرجال فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك (1/196)
- روى الشيخان مرفوعا : [ [ إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ] ]
وفي رواية لمسلم مرفوعا : [ [ إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه ] ]
وروى مسلم وأبو داود مرفوعا : [ [ من يحرم الرفق يحرم الخير ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ إن الله عز و جل يحب الرفق ويرضاه ويعين عليه ما لا يعين على العنف ] ]
وروى البزار وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ما كان الرفق في شيء قط إلا زانه ] ]
وروى أبو الشيخ مرفوعا : [ [ إن العبد ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم ] ]
وروى الأصبهاني مرفوعا : [ [ وجبت محبة الله على من أغضب فحلم ] ]
وروى أبو الشيخ عن ابن مسعود قال : [ [ كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يحكى أن نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ] ]
والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نروض نفوسنا على مراقبة الله عز و جل حتى نرفق بخلق الله ونتأنى في تحصيل ما نطلبه ونحلم على من خالفنا وعصانا وآذانا وهذا العهد من أكمل أخلاق الرجال وقليل فاعله ومن تخلق به ذوقا لم يصر عنده غلظة ولا فظاظة لا على من أمره بالإغلاظ عليهم كالكفار وكذلك من تخلق به لم يتكدر ممن أبطأ في قضاء في قضاء الحاجة أبدا لأن الرسول لم يبطأ بها وإنما أبطأ بها وقتها المضروب لها في علم الله وكذلك من تخلق به لا يقابل أحدا آذاه بنظير فعله أبدا ولو أن جاريته رمت ولده في نار فمات لم يقابلها ولا بكلمة تغيظها بل ربما أعتقها تماما للحلم
وكان سيدي إبراهيم المتبولي يعامل الجماد معاملة الحي فيضع الإناء برفق ويأخذه برفق ويذبح الطائر برفق وينشر الخشب برفق ويصعد على ظهر الدابة برفق ويهمز إذا نزل عنها برفق لأجل الأرض ويقول : إن الأرض أمنا
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ ناصح يصبر معه على المجاهدة والرياضة حتى يدخله حضرات الأسماء الإلهية فينصبغ في حضرة الرحيم والحليم والصبور ويصير لا يتكلف لرفق ولا حلم ولا صبر كما لا يتكلف لدخول النفس وخروجه من خياشيمه ومن لم يسلك فمن لازمه الإخلال بهذا العهد ويدرك في نفسه مشقة وتعبا
فاسلك يا أخي على يد شيخ إن أردت العمل بهذا العهد والله يتولى هداك (1/197)
- روى مسلم مرفوعا : [ [ لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ] ]
وروى ابن أبى الدنيا مرسلا : [ [ إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت طليق الوجه ] ]
وفي رواية للإمام أحمد والترمذي مرفوعا : [ [ كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك ] ]
وروى الترمذي مرفوعا وحسنه وابن حبان في صحيحه : [ [ تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر لك صدقة ] ] الحديث
وفي رواية لأبى داود والترمذي والنسائي وغيرهم مرفوعا : [ [ لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسطا وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه فإن أجره لك ووباله على من قاله ] ]
وفي رواية للنسائي مرفوعا : [ [ لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تهب وصلة الحبل ولو أن تونس الوحشان بنفسك
وروى الشيخان مرفوعا : [ [ الكلمة الطيبة صدقة ] ]
وروى الطبراني والحاكم مرفوعا : [ [ موجب الجنة إطعام الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام ] ] . والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نعود نفوسنا طيب الكلام وطلاقة الوجه لكل مسلم من عدو وصديق
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ ناصح يدخل به الحضرات الإلهية فيشهده محاسن الوجود ويحجبه عن مساويه إذ المحاسن هي الأصل والمساوئ عارضة عرضت من حيث الأحكام الشرعية لا غير فإذا شهد تلك المشاهد صار يخاطب من الخلق السر القائم بها كلهم لا هم ومن كان يخاطب سر الله تعالى فكأنه يخاطب الله ومن كان هذا مشهده رزق من طيب الكلام وطلاقة الوجه ما لا يقدر قدره وجنبه الله كل كلام جاف
وقد كان سيدي أحمد بن الرفاعي إذا لقي خنزيرا أو كلبا قال : أنعم صباحا فقيل له في ذلك ؟ فقال : أعود نفسي الكلام الطيب وكان يخبر أن ذلك كان خلق السيد عيسى عليه السلام قال : ومر الحواريون يوما على كلب ميت فقالوا : [ [ ما أشد نتن ريحه يا روح الله ] ] فقال : [ [ هلا قلتم ما أشد بياض أسنانه ] ]
فعلم أن من لم يسلك على يد شيخ كما ذكرنا فمن لازمه غالبا الكلام الجافي للناس لا سيما أصحاب الموازين على ظاهر الشرع فإنهم يزدرون ويحتقرون كل من خالف ما فهموه ويغلظون عليه الكلام إلا إن كان له مال أو جاه كما هو مشاهد منهم حال خطابهم الأمراء والمباشرين مع علمهم بمظالمهم وشربهم الخمر وتضييع الصلوات وغير ذلك فيتلطفون بهم في حال خطابهم أشد الملاطفة بخلاف من لا مال له ولا جاه من الحشاشين وأصحاب الكتب ولو فتح الله عيون بصائر هؤلاء لتلطفوا في كلامهم لسائر المسلمين فإن ذلك أقرب إلى انقيادهم لهم وسماع وعظهم
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : [ [ من شرط الداعي إلى الله تعالى أن لا يكون عنده غلظة ولا فظاظة على الفسقة المارقين بل يجب عليه تليين الكلام والتقرب إلى خواطرهم بالإحسان إليهم حتى يميلوا إليه فإذا مالوا فلينصحهم إذ ذاك ] ]
وقد بلغنا أن داود عليه السلام كان يغلظ القول على عصاة بني إسرائيل حتى أنه ربما يقول : [ [ اللهم لا ترحم من عصاك ] ] فلما وقع في الخطيئة التي ذكرها الله تعالى صار يقول : [ [ اللهم اغفر للخطائين حتى تغفر لداود معهم ] ] ثم أوحى الله تعالى إليه : [ [ يا داود المستقيم لا يحتاج إليك والأعرج [ لعلها والأعوج ؟ ؟ ] أغلظت عليه بالقول حتى نفر منك ونفرت منه فلماذا أرسلت ؟ ] ] فتنبه داود لذلك وصار يطوف على بني إسرائيل في بيوتهم ويكلمهم بالكلام اللين ويعظهم بالموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن
قلت : وقد أقبلت مرة من سفر الريف على خان بنات الخطأ فرأيت صاحبة حملة مهر البغايا فسلمت عليها وكلمتها بكلام لين وعرضت لها بالتوبة فتابت وجاءت بزوجها فتاب الآخر من تلك المعصية حتى ماتا
وكلمت مرة يهوديا بكلام حلو فأسلم وحسن إسلامه ثم سافر إلى بيت المقدس فعمل خادما فيه حتى مات
وسيأتي في عهود المنهيات أن جماعة من الفسقة مروا في زورق في الدجلة على معروف الكرخي وبين أيديهم الخمر وآلات اللهو فقالوا له : يا سيدي ادع الله تعالى عليهم فقال : ابسطوا أيديكم معي فبسطوها فقال معروف : [ [ اللهم كما فرحتهم في الدنيا ففرحهم في الآخرة ] ] فقالوا له : كيف ذلك ؟ فقال : [ [ يا أولادي إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا فطوينا لهم التوبة في الدعاء ] ]
قال شيخنا شيخ الإسلام زكريا في شرح رسالة القشيري وهذا من معروف غاية السياسة وغاية اللطافة
وكثيرا ما كاتبت اليهود والنصارى أصحاب المكوس والمظالم في تخفيف المظالم عن المسلمين وأقول في كتابي لهم أسأل الله للمعلم فلان أن يرضى عنه ويدخله الجنة مع الصديقين والشهداء والصالحين وأضمر له سؤال التوبة من الكفر ليصح دخوله الجنة وربما أنكر ذلك من لا علم له بطرق السياسة فإني أعلم إني لو قلت له أسأل الله للمعلم أن يتوفاه على الإسلام لنفر خاطره مني ولم يقبل شفاعتي كما ينفر المسلم من قول أحد له أسأل الله أن يميت البعيد على غير الإسلام قال تعالى { وكذلك زينا لكل أمة عملهم }
فاعرف يا أخي طرق السياسة وعود نفسك طيب الكلام فإنه أحسن سواء كان المخاطب صالحا أو طالحا . والله عليم حكيم (1/198)
- روى الشيخان وغيرهما : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم أي الإسلام خير ؟ قال تطعم الطعام وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف
وروى مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه : [ [ لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ] ]
وروى البزار بإسناد جيد مرفوعا : [ [ دب إليكم داء الأمم قبلكم : البغضاء والحسد والبغضاء هي الحالقة ليست حالقة الشعر ولكن حالقة الدين والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أحدثكم بما يثبت لكم ذلك أفشوا السلام بينكم ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ ثلاثة يصفين لك ود أخيك تسلم عليه إذا لقيته وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب أسمائه إليه ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح مرفوعا : [ [ أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ] ]
وروى الطبراني بإسناد جيد : عن أبي سبرة قال : [ [ قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال : [ [ إن من موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام ] ]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ حق المسلم على المسلم ست فذكر منها رد السلام ] ]
وروى الطبراني عن الأغر أغر مزينة قال : كنا إذا طلع الرجل من يعيد بادرناه بالسلام قبل أن يسلم علينا
وروى أبو داود والترمذي وغيرهما مرفوعا : [ [ إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام ] ] . وفي رواية : قيل يا رسول الله الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام قال : أولاهما بالله تعالى
وروى البزار وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والماشيان أيهما بدأ فهو أفضل ] ]
وروى الطبراني بإسناد حسن عن أنس قال : كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ففرق بيننا شجرة فإذا التقينا نسلم على بعضنا بعضا
وروى أبو داود والترمذي والنسائي مرفوعا : [ [ إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى أحق من الآخرة ] ] . وزاد رزين العبدري : ومن سلم على قوم حين يقوم عنهم كان شريكهم فيما خاضوا من الخير بعده
وروى الإمام أحمد مرفوعا : [ [ حق على كل من قام على جماعة أن يسلم ] ] . وروى أبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي : أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال السلام عليكم فرد عليه السلام ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه و سلم عشر ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد فجلس فقال النبي صلى الله عليه و سلم عشرون ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد فجلس فقال ثلاثون ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته فقال أربعون قال هكذا تكون الفضائل . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نفشي السلام بيننا على العدو والصديق من المسلمين بل العدو أولى بالسلام وكان من يسلم يقول لعدوه أنت في أمان مني أن أؤذيك أو أسعى في ضررك ومعنى السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم أنت يا رسول الله في أمان مني أن أخالف شرعك فكان المسلم عليه يقر عينه صلى الله عليه و سلم بذلك وإلا فالأكابر من الناس كالسلطان آمنون من شر الأصاغر فليفهم . اعلم أن الأكابر لا يهجرون أحدا إلا لمصلحة فهم يتركون السلام عليه تقبيحا لصنيعه وهم في الباطن يحبونه محبة أهل الإسلام لبعضهم بعضا فحكمهم كالطفل مع والدته تخوفه بالبعوة والقطربة ليرجع عن الفعل الرديء خوفا أن يتربى عليه وهي راحمة له في الباطن محبة له وربما نخسته بالإبرة في يده حتى يخرج دمه فإياك أن تظن بهم أنهم تركوا السلام أو البشاشة لإنسان لحظ نفوسهم . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إذا مررت على عدوك فسلم عليه واجهر له بالسلام بحيث تصدع قلبه إن كنت تعلم من دينه أن يغلب نفسه ويرد عليك السلام وإلا فترك السلام عليه أولى لئلا توقعه في معصية بترك الرد الذي هو واجب وهو منزع دقيق فليتأمل . وسمعته مرة أخرى يقول : البداءة بالسلام سنة وهي أكثر ثوابا من الرد وإن كان واجبا لا سيما بين المتشاحنين فإن المبادرة لزوال الشحناء واجبة والسلام طريق إليها وهو مستثنى من قاعدة أن ثواب الواجب أفضل من ثواب السنة وقد بسطنا الكلام على ذلك في عهود المشايخ فراجعها إن شئت . والله أعلم (1/199)
- روى أبو داود والترمذي مرفوعا : [ [ ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا ] ] . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ إن المسلمين إذا التقيا وتصافحا وضحك كل واحد منهما في وجه صاحبه لا يفعلان ذلك إلا لله لم يتفرقا حتى يغفر لهما ] ] . وفي رواية للإمام أحمد والبزار وأبي يعلي مرفوعا : [ [ ما من مسلمين التقيا فأخذ أحدهما بيد صاحبه إلا كان حقا على الله عز و جل أن يحضر دعاءهما ولا يفرق بين أيديهما حتى يغفر لهما ] ] . ومعنى يحضر دعاءهما يجيبه وإلا فالحق تعالى حاضر على الدوام . وروى الطبراني عن أنس قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إذا تلاقوا تصافحوا وإذا قدموا من سفر تعانقوا وفي رواية له مرفوعا : [ [ إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده يصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر ] ] . وروى الترمذي مرفوعا : [ [ إن من تمام التحية الأخذ باليد ] ] . وروى أبو داود أن رجلا سأل أبا ذر هل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصافحكم إذا لقيتموه ؟ قال ما لقيته قط إلا صافحني وأرسل إلى ذات يوم ولم أكن في أهلي فجئت فأخبرت أنه أرسل إلى فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت تلك أجود وأجود . وقد روى مالك معضلا وأسند من طرق ولكن فيها مقال مرفوعا : [ [ تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصافح إخواننا عند اللقاء ولا نترك ذلك لضرورة كأن لم يرض من نصافحه أن نصافحه لفخامته كالباشات والدفتردار ونحوهما أو لجهل وغلظة كجند السلطان وجبلية الوالي ونحوهم وكان ذلك من خلق أخي أبي العباس الحريثي رحمه الله ومن خلق والده كان لا يسلم عليهما أحد إلا صافحاه فبهداهما اقتده . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول الحكمة في المصافحة استجلاب الود والتعاضد كان كلا منهما يقول لصاحبه أنا معك في جميع ما تريد من الخير فإن صورة المصافحة صورة العهد : وكان صلى الله عليه و سلم لا يصافح أحدا إلا ويشد على يده فيشابكه إشارة لقوة التلازم فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك . { والله عليم حكيم } (1/200)
- روى مسلم عن عامر بن سعد قال : كان سعد بن أبي وقاص في إبله فجاء ابنه عمر فلما رآه سعد قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب فنزل فقال له أنزلت في إبلك وتركت الناس يتنازعون الملك فضربه سعد في صدره فقال اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ إن الله تعالى يحب العبد التقي النقي الغني الخفي ] ] . قال الحافظ : والمراد بالغنى غنى النفس وهو القانع بما قسم له
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ أن رجلا قال : أي الناس أفضل يا رسول الله ؟ قال : مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال : ثم من ؟ قال رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ] ] . وفي رواية : يتقي الله ويدع الناس من شره . وفي رواية لمالك والبخاري وأبي داود وغيرهم مرفوعا : [ [ يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها سعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ] ] وسعف الجبال : أعلاها ورءوسها
وروى الإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه واللفظ له عن معاذ ابن جبل قال : [ [ من جاهد في سبيل الله كان ضامنا على الله ومن عاد مريضا كان ضامنا على الله ومن دخل على إمام يعزره كان ضامنا على الله ومن جلس في بيته لم يغتب إنسانا كان ضامنا على الله ] ] . وفي رواية : [ [ ومن قعد في بيته فسلم الناس منه وسلم من الناس فله الجنة ] ] . وفي رواية لابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ أعجب الناس إلى رجل يؤمن بالله ورسوله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويثمر ماله ويحفظ دينه ويعتزل الناس ] ]
وروى الطبراني وحسن إسناده مرفوعا : [ [ طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته ] ] وروى الترمذي عن عقبة بن عامر قال : [ [ قلت يا رسول الله ما النجاة ؟ قال : أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك ] ] وروى أبو داود مرفوعا : [ [ إن بين أيديكم فتنا كقطع يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي قالوا فما تأمرنا ؟ قال : كونوا أحلاس بيوتكم ] ] . قال في الصحاح : والحلس هو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب يعني الزموا بيوتكم في الفتن كلزوم الحلس لظهر الدابة
وروى أبو داود والنسائي بإسناد حسن مرفوعا : إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه . فقال ابن عباس رضي الله عنه : فكيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك ؟ قال [ [ الزم بيتك وابك على نفسك وخذ ما تعرف ما تنكر وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة واملك عليك لسانك ] ] . وقوله مرجت : أي فسدت وقوله وخفت أماناتهم : أي قلت مأخوذ من قولهم خف القوم أي قلوا
وروى البيهقي مرفوعا : [ [ يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من هرب بدينه من شاهق إلى شاهق ومن جحر إلى جحر ] ] . وروى الطبراني وغيره مرفوعا : [ [ من انقطع إلى الله تعالى كفاه الله مؤونته ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا في العزلة عن الناس إذا لم يأمنوا على أنفسهم عند الاختلاط فإن أمنوا عليها فالمستحب الاختلاط على أصل قاعدة المسلمين في دينهم
وقد أجمع الأشياخ علينه ليس للكمل الهروب من الناس لعدم الخوف عليهم من الاشتغال بالخلق عن الله تعالى وأما من خاف مع دعوى الكمال فدعواه الكمال زور وبهتان فهو إما شخص جلس بنفسه من غير فطام على يد شيخ وإما أن شيخه مفتر كذاب لا يصلح لأن يكون أستاذا كما هو الغالب في أهل هذا الزمان حين فقدت الأشياخ الذين آخرهم في مصر سيدي علي المرصفي رضي الله عنه فصار كل من سولت له نفسه أن يكون شيخا جمع له بعض ناس علي المرصفي رضي الله عنه فصار كل من سولت له نفسه أن يكون شيخا جمع له بعض ناس من العوام وجلسوا يذكرون الله تعالى صباحا ومساء بغير آداب الذكر المشهورة عند القوم وظن في نفسه أنه صار شيخا مثل المشايخ الماضين مع أنه لا يصلح أن يكون مريدا كما بسطنا الكلام على ذلك في رسالة قواعد الصوفية وهو كتاب من طالع فيه علم بأنه ما صنف في الطريق مثله وحكم على نفسه أنه لم يشم طريق الإرادة وقد رأيت كثيرا ممن أذن لهم أشياخهم بالتربية عادوا أشياخهم وهجروهم وادعوا أنهم أعلم بالطريق منهم فمقتوا ولم ينتج على يدهم أحد وكل ذلك لوقوع الأذن لهم من أشياخهم قبل خمود نار بشريتهم فكان اللوم على الأشياخ لا عليهم
وقد كان سيدي عليا المرصفي عزيز في المشيخة إلا أن يأتيه إذن بذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم مرارا فلما مات انحل نظام الطريق في مصر وقراها وما ظهر بعده أحد حذوه سوى الأخ الصالح سيدي أبي العباس الحريثي رحمه الله
وكان يحكي عن سيدي يوسف العجمي أنه لما أراد الله تعالى أن ينقله من بلاد العجم سمع قائلا يقول يا أبا يوسف اذهب إلى مصر انفع الناس فقال شيطان ثم ناداه ثانيا فقال شيطان ثم ناداه ثالثا فقال شيطان فلما ناداه الرابعة قال اللهم إن كان هذا وارد حق من جهتك فاقلب لي هذا النهر لبنا حتى أغرف منه بقصعتي هذه فانقلب النهر لبنا وشرب منه فعلم أنه وارد حق فلما دخل مصر وجد أخاه الشيخ حسنا التستري سبقه إلى مصر ولكن لم يتصدر للمشيخة فقال له يوسف يا حسن الطريق لواحد لأنها على الأخلاق الإلهية فإما أن أبرز وتكون وزيري وخادمي وإما أن تبرز وأكون وزيرك وخادمك فرد الشيخ حسن الأمر لسيدي يوسف فبرز وصار سيدي حسن يخدمه إلى أن مات فبرز سيدي حسن بعده بإذنه له في حياته فأظهر في الطريق العجائب والغرائب ونزلت له الملوك والأمراء فلم تزل الحسدة يلقون فيه إلى السلطان الكلام القبيح لينفروه عنه حتى امتنع من زيارته وأمر بسد باب زاويته عليه وكان الشيخ والفقراء غائبين في وليمة فلما رجعوا آخر النهار وجدوا باب الزاوية مسدودا فقال الشيخ من فعل هذا فقالوا الوزير فقال : ونحن نسد طبقات بدنه فعمى وطرش وخرس وانكتم من المخرجين فمات لوقته فبلغ السلطان ذلك وقالوا إن هذا الأمر ما كان إلا لمولانا السلطان والوزير حمله عنه فنزل السلطان ثانيا لزيارته واستغفر مما صدر منه واعتذر منه وكان اسمه السلطان شعبان ابن السلطان حسن هذه حكاية سيدي علي المرصفي رحمه الله : وأخبرني مرة بأن شيخه سيدي محمدا ابن أخت سيدي مدين كان عزيزا الإذن فقال لي يا علي أبرز فقد جاءك الأمر من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقبلت يده ولم أبرز خوفا أن يكون ذلك من مكر الأشياخ بالمريد كما وقع لغيري ومراد الشيخ أذن لك رسول الله أن تبرز للصحراء ونحوها بالإذن العام قال : فمكثت حتى جاءني الأمر من الله تعالى فبرزت حينئذ وجلست في بلدي مرصفة فلقنت نحو العشرة آلاف فقير فجاءني الشيخ عبدالقادر الدشطوطي وقال يا علي قم اخرج سح في الأرض وخل هذا التقيد فقلت له اللائق بي ما أنا فيه واللائق بك ما أنت فيه فانصرف . وقال لي مرة : يا ولدي لا يصح الإذن لفقير من رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يقطع مائتي ألف مقام وسبع وأربعين ألف مقام رضي الله تعالى عنه
فاسلك يا أخي على يد شيخ لتعرف الطريق ومخارسها ومهالكها وتصير إن اعتزلت تكون عزلتك بحق وإن خالطت تكون مخالطتك بحق . وإلا فمن لازمك الهوى وحظ النفس قربا أو بعدا لأنك إن قربت منهم كان لعلة دنيوية وإن بعدت منهم كان لسوء ظنك وحب التميز عليهم كما هو مشاهد وأقل مراتب الشيخ إذا ظهر أن يكون أعبد من سائر مريديه وأعلم منهم وأزهد منهم وأورع منهم وأخوف من الله فلا تجد أتعب قلبا ولا بدنا من الشيخ إذا نصح في الطريق . وأما إذا غش نفسه وأتباعه فهو من حزب إبليس فإنه متى رأى المريد أنه أعلم أو أعبد من الشيخ عدم النفع به . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/201)
- روى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا عن أبي سعيد الخدري قال : [ [ صلى بنا النبي صلى الله عليه و سلم يوما صلاة العصر ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه وكان فيما قال : إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساء وكان فيما قال : ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه . قال فبكى أبو سعيد وقال والله رأينا أشياء فهبنا وكان فيما قال : ألا إنه ينتصب لكل غادر لواء بقدر غدرته ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عامة يركز لواءه عند الله وكان فيما حفظناه يومئذ ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات ألا وإن منهم بطئ الغضب سريع الفيء ومنهم سريع الغضب سريع الفيء فتلك بتلك ألا وإن منهم سريع الغضب سريع بطئ فتلك بتلك ألا وإن منهم سريع الغضب بطئ الفيء ألا وخيرهم بطئ الغضب سريع الفيء وشرهم سريع الغضب بطئ الفيء ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ؟ فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض ] ] . وذكر البخاري تعليقا عن ابن عباس في قوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن } . قال الصبر عند الغضب والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله وخضع لهم عدوهم : وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد : [ [ ثلاث من كن فيه آواه الله في كنفه ونشر عليه رحمته وأدخله في محبته : من إذا أعطى شكر وإذا قدر غفر وإذا غضب فتر ] ] . ومعنى شكر : أي أنفق مما أعطاه الله تعالى : وروى الطبراني مرفوعا : من دفع غضبه دفع الله عنه عذابه . وروى أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه مرفوعا : [ [ من كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء ] ] . وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ] ] . وروى الشيخان مرفوعا : [ [ إذا غضب أحدكم فليقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فإن الغيظ يذهب عنه ] ] الحديث بمعناه . وروى أبو داود مرفوعا : [ [ إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ندفع غضبنا ونكظم غيظنا ونأمر بذلك جميع إخواننا وإذا غضب أحدنا وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع فإن لم يزل فليتوضأ
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ صادق يدخله إلى حضرة الرضا بكل واقع في الوجود وبطريقه الشرعي فلا يبقى عنده شيء يغضبه لأنه فعل حكيم عليم وما ترك الناس يغضبون إلا حجابهم عن شهود أن الله هو الفاعل لكل ما برز في الوجود وشهودهم الفعل من جنسهم فلذلك غضبوا على غضبهم ولو أنهم سلكوا الطريق لوجدوا الفعل لله تعالى ببادئ الرأي فلم يجدوا من يرسلون عليه غضبهم ووجدوا كل شيء وقع في الوجود هو عين الحكمة فذهب اعتراضهم وعصمتهم للنفس جملة
فاسلك يا أخي على يد شيخ ناصح ليقل غضبك وإلا فمن لازمك الغضب شئت أم أبيت فعلم أن الكامل لا يغضب لنفسه قط وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله تعالى وكأنه الحق تعالى يقول للكامل : إذا رأيت عملا برز على يد أحد من عبيدي مخالفا لشريعة نبيي صلى الله عليه و سلم فاغضب ولو شهدت أني أنا الفاعل لكني لم آمرك أن تغضب على فعلي وإنما آمرك أن تغضب على وجه نسبة الفعل إلى عبدي فعلم أنه لا سبيل لأحد إلى تبرئة العبد عن الفعل جملة أبدا . { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي } فافهم
وقد قدمنا أن كل من غضب لله تعالى غضب الله تعالى لغضبه إذا آذاه أحد : { جزاءا وفاقا }
ومن رأى محرمات الحق وسكت على فاعلها مع قدرته على منعه لم يغضب الله لغضبه ولا ينتصر له بل يتركه حتى يكاد يذوب فلا يلومن العبد إلا نفسه إما كشفا ويقينا وإما إيمانا وتسليما
وقد اجتمعت مرة بإبليس لعنه الله بساحل نيل مصر في واقعة فجادلته وجادلني وكان من جملة ما قال لي : لم يسلطني الله تعالى قط على إنسان إلا بعد وقوع ميل منه إلى ذلك الأمر الذي وسوست له به فالإنسان ككفتي الميزان وقلبه كلسان الميزان وأنا واقف تجاهه أنتظر ميل قلبه لمعصية فأنفذ قضاء الله فيه بحكم الإضافة فقط فلا آتيه إلا إن رأيت لسان الميزان خرج من قبها وتدلى فهناك آتيه فأنحيه إلى فعل تلك المعصية وما دام لسان الميزان لم يخرج وهو واقف في خط استواء القلب فلا سلطان لي عليه لأنه إما معصوم كالأنبياء وإما محفوظ كالأولياء
وقلت : من تحقق بهذا كشفا وشهودا فهو الذي يقيم حجة الله تعالى على نفسه وإلا فمن لازمه أن يقول أي شيء أعمل ؟ قدر الله تعالى علي فلا يكاد يندم إلا قليلا وقد طلب الله تعالى منا في هذه الدار الندم والاستغفار عند كل معصية ولم يكتف منا بذلك في الباطن من غير إظهار وذلك ليقتدي بنا المريدون ويعظموا حدود الله إذا وقعوا في معصية ومن هنا سموا الكامل أبا العيون فعين ينظر بها التقدير الإلهي ليعطي التوحيد حقه : { والله خلقكم وما تعملون } . وعين ينظر بها نسبة الفعل إلى نفسه ليتوب ويستفغر من كل ذنب في آن واحد . ولا يعرف ما قلناه إلا من سلك الطريق فإن الإنسان أول ما يفتح عينيه على نسبة الفعل إليه فلا يزال كذلك حتى يدخل الطريق وتنجلي له حضرة التوحيد فهناك يشهد الفعل لله تعالى وحده بقطع النظر عن الخلق جملة ويصير جبريا محضا ثم يرقيه شيخه إلى حضرة يشهد فيها نقص ذلك المقام من حيث أن عدم نسبة الفعل للعبد كالتكذيب للقرآن فإن الله تعالى أضاف العمل إلى العبد وأقام به عليه الحجة فكيف يقول لا عمل لي ولا حجة لله علي
وأكثر ما يقع في هذا النقص من يسلك بغير شيخ وربما ذاق حضرة التوحيد فوحل فيها إلى أن مات معطلا من العمل بالشريعة فلا تكاد تجده يحرم حراما ولا يستغفر من ذنب مطلقا وإن قال له شخص إن الله تعالى قال : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } . أو قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام . قال ذلك في حق قوم يشهدون أن لهم مع الله ملكا ونحن لا نشهد ذلك ومن هنا يضل ضلالا مبينا ويستهين بمحارم الله فإن زنى يقول إن الله هو المقدر وإن سكر يقول إن الله هو المقدر وإن أخذ مال الناس يقول إن الله هو المقدر فيقال له : وإذا أدخلك جهنم على هذه الأعمال فهو المقدر كما أوضحنا ذلك في رسالة الأنوار فوالله لو خدم المريد شيخه عمر الدنيا كلها ما أدى شكر أدب واحد علمه له شيخه من هذه الآداب . { والله غفور رحيم } (1/202)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس : يعدل بين الاثنين صدقة ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة ] ] . ومعنى سلامى : أي عضو ومعنى يعدل بين الاثنين : أي يصلح بينهما بالعدل
وروى أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حسن صحيح مرفوعا : [ [ ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى : قال إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة ] ] . قال الترمذي ويروى مرفوعا : [ [ لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ] ] . وروى أبو داود مرفوعا : [ [ لا يكذب من يمشي بين اثنين ليصلح ] ] . وفي رواية : [ [ ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا ] ] . قال المنذري رحمه الله : يقال نميت الحديث بتخفيف الميم إذا بلغته على وجه الإصلاح وبتشديدها إذا كان على وجه إفساد ذات البين . وروى الأصبهاني مرفوعا : [ [ ما عمل شيء أفضل من الصلاة وإصلاح ذات البين وخلق جائز بين المسلمين ] ] . وروى البزار والطبراني : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأبي أيوب : ألا أدلك على تجارة ؟ قال بلى : قال صل بين الناس إذا تفاسدوا وقرب بينهم إذا تباعدوا . وروى الأصبهاني وهو غريب جدا مرفوعا : [ [ من أصلح بين الناس أصلح الله تعالى أمره وأعطاه بكل كلمة تكلم بها عتق رقبة ويرجع مغفورا له ما تقدم من ذنبه ] ] . وتقدم في عهود العفو عن الناس حديث : [ [ أصلحوا بين الناس فإن الله يصلح بين عباده في الآخرة ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصلح بين المسلمين ونبذل في الصلح بينهم المال ولا نتوقف في إعطاء عمامتنا وثيابنا للمظلوم حتى يصفح أو للظالم حتى يرجع عن ظلمه ثم لا نطلب على ذلك عوضا لا في الدنيا ولا في الآخرة
وكان على هذا القدم شيخنا الشيخ محمد الشناوي رحمه الله والشيخ عبدالحليم بن مصلح والشيخ عبدالمجيد الطربيني رضي الله عنهم . فكان شيخنا يبذل الخيل والبهائم والقمح وغير ذلك ويرى لله تعالى المنة عليه بذلك الذي أهله له ويقول من أين للواحد منا أن يكون ميزان عدالة بين الناس يرجعون إليه ويقفون عند قوله ؟ وكان الشيخ عبدالحليم لا يرى له اختصاصا في شيء مما يدخل يده دون المسلمين بل يرى جميع ما دخل يده مشتركا بينه وبين المسلمين
قلت : وقد من الله تعالى علي بذلك ولله الحمد فلا أرى لي بحمد الله ترجيحا على إخواني في شيء مما يدخل يدي بل كل من رأيته محتاجا لذلك من نفسي أو غيرها قدمته
وكان أخي الشيخ عبدالقادر كذلك فكل ما رأى محتاجا قدمه ثم لا يطلب على ذلك عوضا ولا سرا ولا جهرا . وأعطيته مرة ثمن بقرة يأكل أولاده لبنها فوجد في الطريق شخصا مربوطا فوزنهن ؟ ؟ عنه ولم يكن له به معرفة قبل ذلك
وكان الشيخ عبدالمجيد الطريني لا يتوقف قط في إعطاء شيء يسأل فيه . وحضرته مرة وهو يصلح بين اثنين ادعى أحدهما على الآخر بسبعمائة دينار فذهب الشيخ ورجع بالسبعمائة في خرقة فوزنها عن ذلك المديون فقال لي المديون هل عرضت للشيخ بشيء فقلت لا والله فذكرت ذلك للشيخ فقال : لم يطلب أحد مني ذلك وإنما عادة الأجواد إذا حضروا في قضية أن يسدوها رضي الله عنه
وأخبرني الشيخ شهاب الدين الطريني ثم الغمري أن الشيخ عبدالمجيد لما سجن بسبب الديون التي تراكمت عليه بمصر من كثرة إعطائه الأموال للناس بغير عوض وجد في السجن شخصا محبوسا على مائة دينار فضمنه وأخرجه من السجن وتخلف عنه هو في السجن قليلا رضي الله عنه ثم أفرج عنه بعد ذلك
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ ناصح يخرجه عن محبة الدنيا ويطلعه على عظيم مقام المسلمين وإن بذل الدنيا كلها في الصلح بينهم من بعض حقوقهم عليه ومن لم يسلك كما ذكرنا فمن لازمه الإخلال بهذا العهد فلا يهون عليه بذل نصف فضة في الصلح بين المتخاصمين ولو أدى إلى رواحهم إلى بيت الوالي وإن سمح بالنصف سمح وعنده حزازة أو بلا حزازة لكنه يطلب على ذلك عوضا من رد مثله أو شكر الناس له أو يطلب به الثواب وليس ذلك من أخلاق الكاملين . فاسلك يا أخي الطريق على يد شيخ إن أردت العمل بهذا العهد والله يتولى هداك (1/203)
- روى الإمام أحمد بإسناد حسن مرفوعا : [ [ من ذب عن عرض أخيه في الغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار ] ] . وفي رواية للترمذي مرفوعا : [ [ من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة ] ] . زاد في رواية : ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } . وفي رواية لأبي داود وغيره مرفوعا : [ [ من حمى مؤمنا من منافق آذاه بعث الله له ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم ] ] . وروى أبن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ من نصر أخاه المسلم بالغيبة نصره الله تعالى في الدنيا والآخرة ] ] . وروى أبو داود مرفوعا : ما من امرئ مسلم ينصر مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته ] ] . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرد عن عرض أخينا المسلم إذا استغابه أحد عندنا أو بلغنا ذلك عنه حسب الطاقة وهذا العهد قد صار غالب الناس يخل بالعمل به حتى بعض مشايخ العصر من العلماء والصلحاء فتراهم يسكتون على غيبة أخيهم وربما اشتفوا بذلك في نفوسهم وهذا من أقوى الأدلة على عدم فطامهم عن محبة الدنيا على يد شيخ ناصح فإن محبة الدنيا بحب الانفراد فيها بالمقام ومحبة الصيت والشهرة والكمال ويكره من يعلوه في ذلك فهو يتوهم بغيبة الناس لمن يعلوه أن الناس إذا نقصوه يزول اعتقادهم فيه ويعكفون على اعتقادهم له هو وغاب عنه أن من نوى شيئا أو فعله رجع عليه نظيره ولو أنه تشوش ممن استغاب أخاه المسلم لزاده الله تعالى رفعة على أقرانه كلهم لأن الحماية إنما هي من الله تعالى لا من الخلق
وقد أخذت علينا العهود من المشايخ أن نقوي نور إخواننا جهدنا ونطفئ نور أنفسنا جهدنا ليرجع نظير ذلك علينا فإن من سعى في إطفاء نور أخيه أطفأ الله تعالى نوره وما رأيت على هذا القدم من أهل عصرنا هذا أشد عملا بهذا العهد من سيدي محمد الشناوي والشيخ عبدالحليم وأخي أبي العباس الحريني ؟ ؟ فما يذكر عندهم أحد من أهل الخرقة إلا ويذكرون محاسنه ويربونه عند الناس وهذا العهد بحمد الله تعالى من خلقي مع الأمراء الواردين علي فلا أكاد أفتر عن ذكر محاسن غيري من مشايخ العصر عندهم لأصرفهم عني إلى غيري وذلك لأني لا أقبل لهم هدية ولا أحب بحمد الله ترددهم إلي وأرى جميع ما معي من الأعمال لا يجيء حق طريق ذلك الأمير إذا جاءني مرة واحدة ولو ترددت إليه ألف مرة لا أرى أنني كافأته على تلك المرة
وكان على ذلك سيدي علي الخواص رحمه الله تعالى كان إذا بلغه أن أحدا من الأمراء عازم على زيارته يذهب هو إليه قبل أن يأتي الأمير إليه . وكان إذا ورد عليه أحد يطلب شفاعة عند أحد يقول له أنت من أي الحارات ؟ فيرسله إلى من يكون ساكنا في تلك الحارة من الفقراء ويقول ما نقدر نتعدى الأدب على الناس في حاراتهم وإن رأى عند ذلك الرجل قلة اعتقاد فيمن يكون في حارته من الفقراء حسن اعتقاده فيه ويقول مقصودي أن أكون مقيما عند فلان من جملة جماعته لتحصل لي بركته فيرجع ذلك الرجل وهو معتقد في شيخ حارته ويملأ عينه منه
فاسلك يا أخي على يد شيخ حتى يخرجك من حب الرياسة وتصير تحب الخفاء لنفسك والظهور لغيرك وهناك لا تصير تقدر تسمع غيبة في أحد من إخوانك وما دمت تحب الدنيا والظهور فمن لازمك محبة تنقيص إخوانك تصريحا وتعريضا فتكون ممقوتا وتنصرم منك المشيخة وكلما ترقع ثوبها تخرقت من موضع آخر : وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول لفقير رآه إذا ركب يجعل جماعته يمشون معه كالصغير الذي في زفة طهوره كيف تحب الظهور في هذه الدار وإبليس نفسه اختار الخفاء فيها وقال لا أظهر في دار لعنني الله فيها فشيء زهد فيه إبليس وكرهه كيف تحبه أنت فقلت له : لنا مخالفة إبليس في كل شيء أحبه فإنه لا يحب إلا الشر فقال صحيح ولكن ذكرت ذلك توبيخا مثل ما نوبخ المسلم بالخلق الحسن الذي نراه في الكافر وإن لم يتدين هو به كما إذا رأينا الرهبان يزهدون في الدنيا وشهواتها فنقول نحن أحق بذلك منهم كما قال عمر رضي الله تعالى عنه لمن رآه يأكل الطيبات منهم منهمكا عليها . { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } . مع أنها وردت في أهل الكتاب فافهم
وكان سيدي علي بن وفا يقول : يا مريد الله لا نحتفل بظهور شأنك احتفالا يؤدي إلى تفعلك واستجلاء ذكر الناس لك بذكر الكمالات فإنك إن رزقت ما طلبت لن تتمتع به إلا قليلا ثم الله أشد بأسا وأشد تنكيلا واسع في الخفاء جهدك حتى يقع الظهور لك قهرا عليك صدقة من الله عليك . { وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا }
فاعلم ذلك واعمل عليه يذهب عنك الغل والحسد وسائر الأمراض الباطنة المتعلقة بالناس الحاملة لك على غيبتهم والحاملة على غيبتك والله يتولى هداك (1/204)
- روى الإمام أحمد والترمذي والطبراني وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان وعون ؟ ؟ لك على أمر دينك ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ كان في صحف إبراهيم عليه السلام : وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ] ]
وروى الطبراني وغيره مرفوعا عن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أوصني ؟ فقال : [ [ اخزن لسانك إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان ] ]
وروى الشيخان وغيرهما : عن أبي موسى قال : قلت يا رسول الله أي المسلمين أفضل ؟ قال : من سلم المسلمين من لسانه ويده . وفي رواية أخرى للشيخين مرفوعا : [ [ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ] ]
وروى الطبراني بإسناد صحيح : عن عبدالله بن مسعود قال : قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال الصلاة على ميقاتها : قلت ثم ماذا يا رسول الله ؟ قال أن تسلم الناس من لسانك
وروى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه : أن رجلا قال يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة فذكر الحديث إلى أن قال : فإن لم تستطع فكف لسانك إلا عن خير
وروى الترمذي والبيهقي : أن رجلا قال : يا رسول الله ما النجاة ؟ قال [ [ أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك ] ]
وروى الطبراني مرفوعا وحسن إسناده : [ [ طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته
وروى الطبراني والبيهقي مرفوعا : وحسن إسناده : [ [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا ليغنم أو يسكت عن شر فيسلم ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من حفظ لسانه ستر الله عورته ] ] . قلت : وذلك لأن ستر العورات غالبا لا يكون إلا بالصمت وكشفها لا يكون إلا بالكلام فلذلك جوزي صاحبه بشاكلة قوله . والله أعلم . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحزن من لسانه ] ]
وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ بن جبل : وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم زاد في رواية للإمام أحمد : إنك لن تزال سالما ما سكت فإذا تكلمت كتب الله لك أو عليك
وروى الترمذي وابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تشكو تكفر اللسان تقول اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا ] ]
وروى الطبراني ورواته رواة الصحيح مرفوعا : [ [ أكثر خطايا ابن آدم في لسانه ] ]
وروى مالك والبيهقي وغيرهما أن أبا بكر رضي الله عنه كان يجبذ [ يجذب ؟ ؟ ] لسانه ويقول : هذا الذي أوردني الموارد والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نواظب على الجوع حتى يكثر صمتنا عن الكلام فيما لم يأمرنا الله تعالى به فإن من لازم من شبع كثرة الكلام والأشر والبطر بخلاف الجيعان ومن شك في قولي هذا فليجرب بأن يجوع شخصا كثير الغناء وإنشاد القصائد على يومين لا يطعمه شيئا ويقول له غن لي شوية أو أنبسط أنا وإياك في الحكايات المضحكة فإنه لا يجيبه إلى ذلك أبدا فمن طلب الصمت مع الشبع فقد طلب ما هو كالمحال وهذا أمر مشاهد وقد غلط فيه كثير من المتورعين بغير شيخ من الفقراء فترى أحدهم يشبع ويأكل كل ما يجده من الشهوات وربما كان من طعام الظلمة والمكاسين ويطلب الصمت وقلة الكلام وذلك لا يكون . وقد رأيت مرة من جعل على نفسه كل ما يتكلم بغيبة نصفا للفقراء عقوبة لنفسه ومع ذلك فما قدر على رد نفسه وصار يخرج في كل غيبة نصفا حتى زهق وترك الغرامة وصار يستغيب ولو أنه ظفر بأحد من أهل الطريق لدله على الدهليز الذي يدخل منه قلة الكلام والغيبة وذلك هو الجوع الذي لا يخلى له حيلا ولا قوة للكلام الشرعي فضلا عن العرفي فضلا عن الحرام وقد عد الأشياخ الصمت من أركان الطريق وأنشدوا :
بيت الولاية قسمت أركانه ... سادتنا فيه من الأبدال
ما بين صمت واعتزال دائما ... والجوع والسهر النزيه العالي
فمن أخلى بواحدة من هذه الأربعة لا يتم له حالة في الطريق . فعلم أن من يريد العمل بهذا العهد يحتاج ضرورة إلى شيخ يسلك به حتى يفطمه عن شدة الميل إلى الشهوات ويصير هو يقهر شهوته ويحكم عليها وهناك يقل كلامه ضرورة ويتكدر ممن يكثر عنده الكلام بغير فائدة . فاسلك يا أخي على يد شيخ لتعمل بهذا العهد وإلا فمن لازمك الإخلال به والله يتولى هداك . وقد صبحت من رجال الصمت جماعة منهم شيخنا شيخ الإسلام زكريا والشيخ علي الخواص والشيخ محمد بن عنان والشيخ محمد المنير رحمهم الله فكان وقتهم عندهم أعز من الكبريت الأحمر وكل من تسلسل معهم في الكلام زجروه ولم يستحيوا منه ويقولون له قم ضيعت علينا الزمان . وسمعت شيخنا شيخ الإسلام المذكور يقول لقاض جاءه يسلم عليه ويهنئه بالشهر وزاد في الكلام : قم أنت رسول الشيطان إلينا ثم ضرب له بالجريدة على الأرض وقال : إن عدت تجيء على هذا الوجه أدبتك . وقرأت عليه شرحه على رسالة القشيري كاملا فما أظن أنني سمعت منه كلمة لغو خالية عن علم أو أدب وقد صحبته عشرين سنة وأنشدني يوما :
أحفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الشجعان
وسمعته يحكي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول : لا تتكلم بكلمة تنظر لها محلا مشروعا فإن الكلمة كالسهم إذ خرج من القوس وإذا خرجت الكلمة منك ملكتك ولم تملكها . وسمعته رضي الله عنه يقول : حين قرأت عليه باب الصمت اعلم يا ولدي أن السلف الصالح ما ملكوا لسانهم إلا لكثرة الجوع وقد أخطأ هذا الطريق جماعة من الناس الذين لم يسلكوا الطريق على يد الفقراء وذلك أن الفقراء يدخلون إلى كل عمل من الطريقة الموصلة إليه وغيرهم لا يعرفون تلك الطريق فهم كمن يحفظ الدواء ولا يعرف ينزله على الداء فخذ يا ولدي الطريق عن أهلها فإني والله يا ولدي لما طلبت الطريق في مصر سافرت إلى سيدي محمد الغمري في المحلة الكبرى فتلقنت عليه الذكر وأقمت عنده أربعين يوما وحصل به خير عظيم فقلت له يا سيدي أما كان في مصر أحد يرشد الناس ؟ فقال نعم كان الشيخ مدين موجودا ولكن كانت طريقته مستورة لا تكاد تميزه عن أبناء الدنيا في المآكل والملابس وقلة الأعمال الظاهرة وأنا كنت صغيرا جاهلا بالطريق وما كان عندي شيخ إلا كثير الجوع والعبادة والتقشف وكان سيدي محمد على هذا القدم هذا لفظه لي رحمه الله فاعلم ذلك وادخل لباب الصمت من دهليزه والله يتولى هداك (1/205)
- روى الترمذي وقال حديث حسن عن أنس قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ يا بني إن قدرت على أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ] ] . كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ذلك في ثاني يوم وثالث يوم ورابع يوم وذلك الرجل يطلع فتبعه عبدالله ابن عمر وأخبره بقول النبي صلى الله عليه و سلم فقال ما هو إلا أني إذا انقلبت على فراشي في الليل ذكرت الله وكبرته حتى صلاة الفجر غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه فقال له عبدالله هذه التي بلغت بها . وفي رواية أنه قال : إذا أتيت مضجعي اضطجعت وليس في قلبي غمر لأحد والغمر هو الحقد والحديثان بالمعنى مختصر . وروى ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقي وغيرهما : قال عبدالله بن عمر : قيل يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال كل مخموم القلب صدوق اللسان قالوا صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب ؟ قال هو التقى النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد . وروى ابن أي الدنيا مرسلا : [ [ إن بدلاء أمتي لا يدخلون الجنة بكثرة صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكن دخلوها برحمة الله وسخاوة النفوس وسلامة الصدور ] ] . وروى الإمام أحمد والبيهقي مرفوعا : [ [ قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان وجعل قلبه سليما ] ] والله سبحانه تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نسعى في تحصيل مقام سلامة صدورنا من الغل والحسد وغير ذلك فإن من كان غير سليم الصدر محروم من الخيرات كلها
وقد أخبرني سيدي علي النبتيتي البصير وكان كثير الاجتماع بالخضر عليه السلام أن شروط الاجتماع بالخضر ورؤيته ثلاثة : أولها سلامة الصدر من كل سوء لأحد من هذه الأمة . والثاني أن يكون على سنة ليس مرتكبا شيئا من البدع . الثالث أن لا يخبأ دراهم ولا رزقا للغد ومن لم تجتمع فيه هذه الثلاثة الشروط لا يجتمع بالخضر ولو كان على عبادة الثقلين ولو لم يكن في عدم سلامة الصدر إلا خسف الأرض ووقوع العذاب لكان فيه كفاية قال الله تعالى : { أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون }
فمن مكر بأحد من المسلمين أو نوى به سوءا في ساعة من ليل أو نهار فقد تعرض لخسف الأرض به
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ ناصح يزيل جميع رعوناته حتى تصفى نفسه ويلحق بعالم الخير من الملائكة فلا يصير يرى في أحد عيبا قياسا على نفسه هو فهو كالعنين الذي لم يعرف لذة الجماع قط فلو قيل له إن فلانا اختلى بفلانة الأجنبية لا يظن فيه أن يفعل بها فاحشة أبدا بخلاف الشاب الأعزب أو الذي يحب الجماع فإنه يقيسه على نفسه هو ويقول أن سلم [ ما سلم ؟ ؟ ] من الفاحشة قياسا على نفسه هو لو كان اختلى بها
وقد حكى لي الشيخ عبدالسلام الرماصي أن شخصا من البربرة المجاورين في جامع الأزهر سرقت حوائجه في الجامع فصار يتعجب ويقول اليهود والنصارى ما يدخلون الجامع والمسلمون ما يسرقون فمن أخذ حوائجي ؟ فقال له شخص الفار أخذهم فقال نعم هذا صحيح وذلك أن البربرة عندهم الأمانة فقاسوا جميع المسلمين على أنفسهم
فعلم أن من لم يسلك على يد شيخ كما ذكرنا فمن لازمه التضمخ بأخلاق الشياطين التي هي كلها فساد
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : جميع الصفات البشرية مجموعة في كل ذات ففي الأكابر ما في الأصاغر وعكسه لكن المحاسن ظهرت في الأكابر وخفيت في الأصاغر ولذلك دعوا إلى الترقي والمساوي ظهرت في الأصاغر وخفيت في الأكابر ولذلك يجوز في حق الولي أن يقع في الكبائر ويجوز في حق الكافر أن يسلم . وما خرج عن هذه القاعدة إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم محاسن صرف ليس فيهم شيء من المساوي
وسمعت أخي أفضل الدين يقول : لا يصح من عبد سلامة الصدر إلا بعد تصفيته من استعمال شيء من المساوي وهناك يقول أن جليسه لا يقع في معصية ومتى جوز ولو غفلة وقوع أحد في معصية فمن لازمه عدم التطهر من تلك الصفة التي يجوز وقوع الغير فيها . { والله غالب على أمره } - { والله غفور رحيم } (1/206)
- روى مسلم وأبو داود وابن ماجه مرفوعا : إن الله تعالى أوحى إلي أن توضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا ينبغي أحد على أحد . وروى مسلم والترمذي مرفوعا : [ [ ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد إلا رفعه الله ] ] . وروى الطبراني : [ [ طوبى لمن تواضع في غير منقصة وذل في نفسه من غير مسألة ] ] . وروى الترمذي والنسائي وغيرهما مرفوعا : [ [ من مات وهو برئ من الكبر والعلو والدين دخل الجنة ] ] . قال الحافظ وقد ضبط بعض الحفاظ الكبر بالنون والراء وليس بمشهور : وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من تواضع لأخيه المسلم رفعه الله ومن ارتفع عليه وضعه الله ] ] . وفي رواية : من تواضع تعظيما يحفظه الله ومن تواضع خشية يرفعه الله . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتواضع لإخواننا المسلمين بمعنى أننا نرى نفسنا دونهم في المقام لا أنا نرى لنا مقاما فوقهم ونتنازل لهم منه كما هو ظاهر لفظ التواضع . وهذا العهد يحتاج من يريد العمل به إلى شيخ قطعا وقد تحققنا به بحمد الله تعالى على يد سيدي علي الخواص فلست أرى لي مقاما على أحد من المسلمين ولو بلغ في الفسق ما بلغ فالحمد لله رب العالمين . وهذا العهد قد صارت به كتاب عهود المشايخ المسمى بالبحر المورود في المواثيق والعهود وذكرت فيه علامات من تحقق بهذا العهد حتى يسلم له دعوى التواضع فإن الإنسان ربما يقول بلسانه نحن من أقل الناس نحن تراب وإذا احتقره إنسان أو نقصه تضيق عليه الدنيا بما رحبت فأين قوله نحن من أقل الناس ؟ ولو أنه كان صادقا لرأى أن جميع ما نقصه المنقوصون دون ما يعرفه هو من صفات نفسه الخبيثة . وقد عثرت من رجال التواضع الخلقي بجماعة في مصر المحروسة وصحبتهم وانتفعت بصحبتهم منهم شيخ الإسلام الشيخ نور الدين والطرابلسي والحنفي والشيخ شهاب الدين بن الشلبي المفتي الحنفي والشيخ ناصر الدين الطبلاوي والشافعي والشيخ ناصر الدين اللقاني المالكي وشيخ الإسلام الشيخ شهاب الدين بن النجار الحنبلي والشيخ نور الدين الطندتائي الشافعي والشيخ شهاب الدين الرملي فهؤلاء هم الذين أطلعني الله تعالى على تواضعهم الخلقي الذي لا تفعل فيه . والفرق بين التواضعين أن التواضع الخلقي يرى صاحبه نفسه دون الناس حتى إنك لو أردت أن ترفعه عليك لا يرتفع عند نفسه أبدا . وقد شهد النبي صلى الله عليه و سلم للشيخ نور الدين الطندتائي بالتواضع في واقعة رأيتها وذلك أني رأيته قريبا في حضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم مقدما على مشايخه فقال شخص يا رسول الله ما سبب قرب هذا منك ولم يكن أكثرهم علما ولا صلاة عليك فقال النبي صلى الله عليه و سلم قربه مني تواضعه . وأما المتصوفة بمصر فما رأيت منهم أكثر تواضعا من الشيخ إبراهيم الذاكر المقيم بالجاولية بالقرب من جامع ابن طولون رضي الله عنه . وقد كان الإمام أبو قاسم الجنيد يقول : لا يبلغ أحد درجة المتواضعين من أكابر العارفين حتى يرى أن نفسه ليست بأهل أن تنالها رحمة الله وإنما رحمة الله له محض امتنان . { والله غفور رحيم } (1/207)
- روى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي مرفوعا : [ [ اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم ] ] . وفي رواية لأبي يعلي والحاكم مرفوعا : [ [ تقبلوا لي ستا أتقبل لكم الجنة : إذا حدث أحدكم فلا يكذب ] ] . وروى الترمذي وقال حسن صحيح مرفوعا : [ [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة ] ] . وروى ابن أبي الدنيا وغيره مرفوعا : [ [ تحروا الصدق فإن رأيتم إن الهلكة فيه فإنه فيه النجاة ] ] . وفي حديث الشيخين وغيرهما مرفوعا : [ [ عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ] ] . وفي رواية للإمام أحمد مرفوعا : [ [ إذا صدق العبد بر وإذا بر أمن وإذا أمن دخل الجنة ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصدق مع الله تعالى ومع إخواننا المسلمين في أقوالنا وأفعالنا ودعاوينا وإن كان صدقنا كالكذب بالنسبة لمقام غيرنا من الأولياء والصالحين
وقد أجمع الأشياخ على أن الصدق كالسيف ما وضع على شيء إلا أثر فيه فعلم أنه يسوغ لنا أن نقول نحن نحب الله ورسوله والمسلمين أجمعين على قدر ما أعطانا الله تعالى خلافا لما نقله الغزالي عن بعضهم من قوله : إذا قيل لك تحب الله أو تخاف الله فاسكت لأنك إن قلت نعم كذبت فإن أفعالك ليست أفعال المحبين ولا الخائفين وإن قلت لا أحب الله ولا أخافه كفرت والأولى ما ذكرناه
فكل إنسان من المسلمين له نصيب في كل مقام من الخوف والرجاء والتقوى والزهد والورع وغير ذلك على قدر ما أعطاه الله تعالى ولكن إذا نظر الإنسان إلى مقام من فوقه قضى بأنه ما ذاق ذلك المقام أصلا بالنسبة إلى من فوقه . فإذا قيل لك أتخاف الله ؟ فقل نعم على قدر ما وضعه الله عندي من الخوف وإذا قيل لك أتحب الله ؟ فقل نعم على قدر ما وضعه عندي من المحبة له وإذا قيل لك هل أنت ورع أو زاهد في الدنيا ؟ فقل نعم على قدر ما وضعه الله عندي من ذلك وهكذا فاعلم ذلك فإنه نفيس
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : مما عدوه من الكذب الملحق بالصدق كذب الإنسان على زوجته بأنه يحبها أكثر من ضرتها وللكذب في الصلح بين الناس كقوله إن فلانا يحبك مع علمه بأنه يبغضه وهذا داخل في معنى الحديث من قوله : وتقارب بينهم إذا تباعدوا . وفي الحديث : ليس بالكاذب من يصلح بين الناس فيقول خيرا أو ينمي خيرا
فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : { ليسأل الصادقين عن صدقهم } . فإن الله تعالى سماه صدقا فكيف يسأل عنه ؟ فالجواب أن المراد بهذه الآية الغيبة والنميمة ونحوهما إذا نقل العبد الكلام كما سمعه من غير زيادة منه وذكر أخاه المسلم بما فيه من السوء . فهذا وإن كان صدقا فيسأل عنه ويؤاخذ به فما كل صدق حق إذ الصدق ما وقع والحق ما وجب فعله . ومعلوم أن الغيبة والنميمة وأن كانتا صدقا لا يجوز فعلهما إذ ما كل صدق يجوز فعله وذكره بخلاف الحق فافهم
واختلفوا فيمن سئل عن شيء يلزم منه أذى لمسلم كما إذا قال لنا ظالم أين فلان يعني حتى يظلمه بأخذ مال أو ضرب ونحوهما هل يصدق أو يقول لا أعلم طريقه ويوري عن ذلك . فقال : بكل منهما قوم والمختار جواز الكذب بل وجوبه
وقد وقع للشيخ شهاب الدين بن الأقيطيع البرلسي رضي الله عنه أنه كان ينسج فدخل عليه شخص من قطاع الطريق وجماعة الوالي وراءه يطلبونه فقال للشيخ خبيني فقال ادخل تحت رجلي فنزل فجاء جماعة الوالي للشيخ [ فقالوا ؟ ؟ ] هل رأيت فلانا ؟ فقال نعم فقالوا أين هو ؟ فقال تحت رجلي فضحكوا وتركوه وقال لقاطع الطريق : [ الصدق ؟ ؟ ] ينجي . قلت : ولعل هذا خاص بمن له تصريف وأما من ليس له من تصريف فليس له ذلك لئلا يضر الظلمة بأحد لأجل كلامه فيصير إثم ذلك عليه . وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله عنه يقول : من كشف الله تعالى عن بصيرته رأى جماعة الولاة الذين يعاقبون الناس كالزبانية الذين يسحبون الناس في الآخرة إلى النار وكما لا ينسب أحد الظلم إلى الزبانية ويحط عليهم فكذلك زبانية الولاة في الدنيا وإن ذموا شرعا هذا نظر أهل الله تعالى فلولا أن الله عز و جل ذم زبانية الدنيا لم يسع أحد من أهل الله أن يذمهم فاعلم ذلك . والله تعالى أعلم . وفي الباب حديث توبة الله تعالى على توبة الله تعالى على كعب بن مالك وصاحبيه الذي رواه الشيخان وغيرهما وقوله فيه لما اعتذر إليه غيره وقبل النبي صلى الله عليه و سلم عذره : والله يا رسول الله ما كان لي من عذر ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك الحديث (1/208)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ الإيمان بضع وستون أو سبعون شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق وأرفعها قول لا إله إلا الله ] ] . قال الحافظ : يقال أماط الشيء عن الطرق إذا نحاه عنها وأزاله منها . قال والمراد بالأذى كل ما يؤذي المار كالحجر والشوك والعظم والنجاسة ونحو ذلك
وروى مسلم وابن ماجه عن أبي بردة قال : قلت يا رسول الله علمني شيئا أنتفع به . قال : اعزل الأذى عن طريق المسلمين
وروى الشيخان في حديث طويل : وتميط الأذى عن الطريق صدقة . وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه والبيهقي : وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن طريق الناس صدقة
وروى الطبراني والبخاري في كتاب الأدب المفرد عن معاوية قال كنت مع معقل ابن يسار في بعض الطرقات فمررنا بأذى فأماطه أو نحاه عن الطريق فرأيت مثله فأخذته فنحيته فأخذ بيدي وقال يا أخي ما حملك على ما صنعت ؟ قلت يا عم رأيتك صنعت شيئا فصنعت مثله فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ من أماط أذى من طريق المسلمين كتبت له حسنة ومن تقبلت منه حسنة دخل الجنة ] ] . وفي رواية للطبراني : ومن كانت له حسنة دخل الجنة . قلت : وفي هذا الحديث بشارة عظيمة فإن ساحة كرم الله تعالى تتعاظم أن لا تقبل من مسلم حسنة واحدة فالحمد لله رب العالمين : وروى الشيخان مرفوعا : بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك فأخره فشكر الله تعالى له ذلك فغفر الله له . وفي رواية لمسلم : لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها عن ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين . وفي رواية لأبي داود مرفوعا : مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطرق فقال والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم فأدخل الجنة . وفي رواية لأبي داود مرفوعا : نزع رجل لم يعمل خيرا قط غصن شوك عن الطريق . إما قال الراوي : كان في شجرة فقطعه وإما كان موضوعا فأماطه عن الطريق فشكر الله ذلك له فأدخل الجنة
وروى الإمام أحمد وأبو يعلي بإسناد لا بأس به في المتابعات عن أنس بن مالك قال : كانت شجرة تؤذي الناس فأتاها رجل فعزلها عن طريق الناس فقال نبي الله صلى الله عليه و سلم : فلقد رأبته يتقلب في ظلها في الجنة . والله تعالى أعلم قلت : وينبغي للحجاج أن يتقدموا ويزيلوا ما في طريق الحاج من شوك أم غيلان في نحو وادي الخروبة والعقيق وبساتين القاضي فإن غالب الأحمال تعلق بتلك الأشجار فإن العرب يقطعون الفرع ويتركون شيئا منه كالأضلاع خارجا فربما كان المحمل لعجوز ضعيفة فيعلقها في الليل ويرميها يكسرها وقد تعلقت محفة الشيخ عبدالله الغمري ليلا في فرع من الخروبة لما حج سنة سبع وأربعين فاشترى له فأسا من مكة وعزم على قطعها إذا رجع فأدركته المنية في منزل بدر فمات رضي الله عنه والله تعالى يثيب العبد بالنية . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نميط الأذى عن طريق المسلمين المحسوسة والمعنوية
فالأولى معروفة والثانية هي إزالة الشبه التي تعرض في عقائدهم فنميط الأذى عنها بما أطلعنا الله تعالى عليه من طريق كشفنا للحقائق فيكتب لنا إن شاء الله نظير الثواب الذي ورد لمن أماط الأذى المحسوس كالحجر والشوك
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ لا أحد عنده أعلى منه معرفة بالله عز و جل ليزيل الشبهة العارضة في عقائد أهل الأفكار من أكابر العلماء فضلا عن غيرهم . وقد وضعت في ذلك ميزانا نحو كراسة أزلت بها غالب الإشكالات التي في مذاهب الفرق الإسلامية كالجبرية والمعتزلة . ووضعت ميزانا أخرى تزيل الشبه التي تعرض للعبد في طريق المعرفة بالله تعالى حاصلها أن الله تعالى لم يكلف عبدا بأن يعرف الله تعالى كما يعرف الله نفسه أبدا وإن الله تعالى بنفسه علما اختص به لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل لأنهم لو علموه لساووه في العلم ولا قائل بذلك من جميع الملل فضلا عن دين الإسلام وذلك أنه تعالى لا يتحد مع عباده في حد ولا حقيقة ولا فصل ولا جنس
فرد يا أخي جميع ما ورد في الآيات والأخبار من التنزيه إلى مرتبة علمه بنفسه ورد جميع ما ورد في الآيات والأخبار من الصفات التي ظاهرها التشبيه إلى مرتبة علم خلقه تعالى به فما أحوج الناس إلى التأويل إلا ظنهم بأن الله تعالى كلفهم بتعقل مرتبة التنزيه التي لا يتعقلونها وإلا فلو علموا أنها خاصة به تعالى ما أولوا شيئا وكان يكفيهم الإيمان بأنه { ليس كمثله شيء }
فاعلم أن من رحمه الله تعالى بخلقه أنه تنزل لعقول خلقه بإضافة الصفات التي فيها رائحة التشبيه إليه ليأخذوا منها المعاني ثم تذهب تلك الصفات التي كادوا أن يكيفوها بعقولهم كأنها حق ويبقى معهم العلم بالتنزيه الذي هو الأصل وإنما قلنا التي فيها رائحة التشبيه لأن التشبيه لا يلحق الحق تعالى أبدا كما لا يلحقه التكييف وذلك لأن التكييف لا يصح إلا لو وقف التجلي الإلهي للعقول والقلوب أكثر من التنزيه وذلك محال فجميع التجليات الإلهية كلمحة بارق ولا تقف للرائي حتى يكفيها ثم بتقدير وجود التكييف لأهل العقول فلا بد من جهلهم بالله تعالى لأن تجليه دائما أبدا الآبدين ودهر الداهرين فإن قدر أن الإنسان عرف ما مضى فلا يعرف ما يأتي . وأجمع العارفون أن الحق تعالى لا يتكرر له تجل في صفة أبدا . وأجمعوا على أنه تعالى خالق لجميع الوجود الكوني علوا وسفلا وأنه تعالى خالق غير مخلوق ومن كان خالقا غير مخلوق ولا يعرف ومن شك في قولي هذا فليتعقل لنا شيء بعقله لم يخلقه الله تعالى لا محسوسا ولا معنويا مما تصوره القوة المصورة فإنه لا يقدر أبدا فكيف يصور الله تعالى فللحق تعالى أن يرد على أهل العقول جميع المعارف التي اكتسبوها بعقولهم ويقول لهم ما أحد منكم عرفني حق معرفتي
وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله تعالى عنه يقول : من طلب معرفة الله تعالى من طريق الفكر دون الكشف فمن لازمه الشبه ولا يخرج عن ذلك إلا بالكشف
وسمعت أخي أفضل الدين رضي الله تعالى يقول : إنما أدخل إبليس على المتكلمين التأويل ليحرمهم ثواب كمال الإيمان بالغيب وذلك لأن الله تعالى ما كلفهم إلا أن يؤمنوا بعين ما نزل لا بما أولوه بعقولهم قال تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } وقال تعالى { آمنوا بما نزلنا } . وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتاب فصوص اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر وهو مجلد ضخم فراجعه ترى شيئا لم تجده في كتاب أحد من المتكلمين ولله الحمد . وليس هذا من باب الدعوى وإنما هو حق وإيضاحه أن كل كلام خلقه الله ليس له مثل حقيقة من كل وجه إذ حقيقة المثلية أن لا يزيد أحد الكلامين على الآخر حرفا ولا معنى فلا بد من زيادة أحدهما أو نقصه عن الأخر فالمثلية موجودة في الذهن غير موجودة في نفس الأمر لمن عرف ما الأمر عليه فكل كلام ذكره الإنسان يصح أن يقول فيه : هذا كلام لم يسبقنا إليه أحد فافهم . والله تعالى أعلم (1/209)
- روى مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه مرفوعا : [ [ من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة دون الحسنة الأولى ومن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة دون الثانية ] ] . وفي رواية لمسلم : [ [ ومن قتل وزغا في أول ضربة كتب الله له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك ] ] . وفي رواية لمسلم وأبي داود قال : [ [ في أول ضربة سبعين حسنة ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه والنسائي : أن عائشة رضي الله عنها كان عندها رمح موضوع في البيت تقتل به الوزغ وتقول : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبرنا أن إبراهيم صلى الله عليه و سلم لما ألقى في النار لم تكن دابة في الأرض إلا أطفأت النار عنه غير الوزغ فإنه كان ينفخ عليه فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتله . قال الحافظ والوزغ هو الكبار من سام أبرص
وروى البخاري عن أم شريك قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتل الأوزاغ قال : وكان ينفخ النار على إبراهيم
وروى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه : [ [ من قتل حية فله سبع حسنات ومن قتل وزغا فله حسنة ] ]
وروى الإمام أحمد وأبو يعلي والطبراني مرفوعا : [ [ من قتل حية فكأنما قتل مشركا قد حل دمه ] ] . وفي رواية للبزار : من قتل حية أو عقربا الحديث
وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ما سالمناهن منذ حاربناهن يعني الحيات ومن ترك قتل شيء منهن خيفة فليس منا ] ] . قال الحافظ ويروي عن ابن عباس : الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة من بني إسرائيل
وروى أبو داود والترمذي والنسائي : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن حيات البيوت فقال : [ [ إذا رأيتم منهن شيئا في مساكنكم فقولوا : أنشدكم العهد الذي أخذ عليكم نوح أنشدكم العهد الذي أخذ عليكم سليمان أن لا تؤذونا فإن عدن فاقتلوهن ] ]
وكان ابن عمر يقتل الحيات كلهن حتى حدثه أبو لبابة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل حيات البيوت فأمسك رواه مسلم وغيره
وروى مالك ومسلم وأبو داود أن شخصا قتل حية وجدها على فراشه فمات لوقته فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا يا رسول الله ادع الله أن يحييه لنا فقال : استغفروا لصاحبكم ثم قال : إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنه شيطان كافر ثم قال لهم اذهبوا فادفنوا صاحبكم . وفي رواية لهم إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ثم قال لهم اذهبوا فادفنوا صاحبكم . وفي الحيات نوع أبتر إذا نظرت إليه الحامل ألقت ما في بطنها قاله النضر بن شميل وأطال الحافظ المنذري في ذكر مذاهب العلماء في قتل الحيات المتعلقة في البيوت وفي تركها فراجعها
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية من النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أنه قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله تعالى . زاد في رواية : فهلا نملة واحدة . قال الحافظ وقد جاء في حديث آخر أن هذا النبي هو عزيز عليه الصلاة و السلام قال وقوله فهلا نملة واحدة دليل على أن التحريق كان جائزا في شريعتهم وفي الحديث تنبيه على أن المنكر إذا وقع في بلد من أفراد الناس فلا يأمن أن ينزل عليه العقاب العام . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نقتل الوزغ والحية والعقرب وكل شيء يؤذي المسلمين بطريقه الشرعي حتى إبرة العجوز التي تشق الجلد وتدخل فيه وأما الحيات ففيها تفصيل سيأتي في الأحاديث بشرطه . وقد بلغنا عن وهب بن منبه أن سئل عن الوزغ ما شأنه حتى يقتل ؟ فقال لما فيه من السم يدل له أنك إذا قطعت ذنبها تصير ساعة تضطرب وأيضا فإنها كانت تنفخ نار النمرود على إبراهيم الخليل عليه السلام فقيل لها وماذا تغني نفختك مع ضعفها فقالت أعرف أن نفختي ضعيفة وإنما فعلت ذلك إظهارا للشماتة بإبراهيم حيث كسر آلهتنا هكذا رأيته منقولا في بعض الكتب وسيأتي في رواية ابن حبان في صحيحه والنسائي ما يشهد لتلك المسألة بغير هذا اللفظ . والله تعالى أعلم
وأدلك يا أخي على فائدة عظيمة : إذا قرصتك عقرب فادهن دائر مخرج الغائط بالزيت الطيب فإن الحرقان يبرد في الحال وقد جربنا ذلك مرارا وإذا لسعتك حية أو ثعبان ولم تجد دواء طاهرا فخذ من غائطك أو غائط غيرك مقدار مثقالين وادفعه بالماء سواء كان جافا أو رطبا فإن السم يجتمع من سائر البدن ويخرج قرصا واحدا بالقيء وقد جربنا ذلك أيضا وهو من أسرع ما وجدناه للبرء . والله تعالى أعلم (1/210)
- روى أبو يعلي والحاكم والبيهقي مرفوعا : [ [ تقبلوا لي ستا أتقبل لكم الجنة : إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف وإذا ائتمن فلا يخن ] ] . وفي رواية للإمام أحمد وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ اضمنوا لي ستا أضمن لكم الجنة : أوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا ائتمنتم . . . الحديث ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ اكفلوا لي ستا أكفل لكم الجنة قال أبو هريرة : ما هن يا رسول الله ؟ قال : الصلاة والزكاة والأمانة والفرج والبطن واللسان ] ] . وروى مسلم وغيره مرفوعا : [ [ إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم حدثنا عن الأمانة ورفعها فقال : ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء ثم أخذ عصاه فدحرجها فيصبح الناس فيتتابعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان ] ] . وفي رواية للإمام أحمد والبيهقي عن ابن مسعود أنه قال : [ [ القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة قال : ثم إن الصلاة أمانة والوضوء والوزن أمانة والكيل أمانة وأشياء عددها وأشد ذلك الودائع وتصديق ذلك في كتاب الله قال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ لا إيمان لمن لا أمانة له ] ] . وروى الترمذي : [ [ إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة فقد حل بها البلاء فذكر منهن : وإذا اتخذت الأمانة مغنما والزكاة مغرما . . . الحديث ] ] . وروى أبو داود وابن أبي الدنيا عن عبدالله بن أبي المها رضي الله عنه قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ببيع قبل أن يبعث فبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت فذكرت ذلك بعد ثلاثة أيام فجئت فإذا هو بمكانه فقال : يا فتى لقد شققت علي أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك . وروى الشيخان مرفوعا : [ [ علامة المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ] ] . والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ننجز الوعد في الأمانة ونأمر بذلك جميع إخواننا وهذا العهد قد صار غالب الخلق يخل به بحكم الوعد السابق من رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا يكاد يسلم من خيانته إلا قليل من الناس
وقد حكى لي من أثق به أنه أودع عند شخص من المعتقدين في العصر ألف نصف في رمضان يحج بها هو وعياله جمعها من معزه وغنمه وغزل امرأته خوفا أنها تخرج منه قبل سفر الحاج وقال سيدي الشيخ يحفظها لي حتى أسافر فلما جاء الميعاد طلبها منه فقال : ما رأيتك قط وقام على جماعته فكادوا أن يكفروني وقال تخون سيدي الشيخ فقلت له هل دعواك صحيحة على الشيخ فإن كانت صحيحة فاحلف لي فأتى بامرأته واعترفت له بالزوجية وحلف لنا بالطلاق الثلاث منها أنه أعطاه ألف نصف وديعة فقلت له لم تشهد عليه اثنين من المحكمة ؟ فقال قد قلت له الموت والحياة بيد الله عز و جل ومقصودي أعطيهم لك قدام شهود فقال لي أنت قلبك خراب أما تكتفي بشهادة الله تعالى فقلت كفى بالله شهيدا فركنت إليه فراحوا إلى يوم تاريخه
فإياك يا أخي أن تعطي شخصا في هذا الزمان وديعة بلا شهود
وكذلك وقع لصاحبنا الشيخ محمد السنهوري الضرير أنه جمع له خمس وعشرين دينارا على نية التزويج فبلغ ذلك شخصا من المشايخ اسمه الشيخ حسن النطاح وكان من شأن هذا أنه له مثل ركبة العنزة موضع السجود وله شعرة مضفورة وهي مكشوفة ويذكر الله معنا كل مجلس حتى يصير له رغاء كرغاء البعير من الهيام فأتى هذا الشيخ إلى الشيخ محمد السنهوري وقال يا أخي أعجبني خبرك ولي بنت عظيمة الجمال ما أحببت أن أحدا يأخذها غيرك وأعطوني فيها ثلاثين دينارا وأنا أرضى منك بعشرين دينار فأتى بهم الضرير له في صرة وقال تحضر عبدالوهاب معنا فقال أما ترضى أن يكون الله شاهدا لك فقال الضرير نعم فأخذهم وراحوا إلى يوم تاريخه
وكذلك حكى لي من أثق به قال : حضرت شخصا يقبض شخصا سبعمائة دينار وكان القابض يظهر الدين والورع فقلت له أنا لا أتحمل شهادة ولكن أما ترضيا بالله والملائكة الكرام الكاتبين التي معكما ومعي شهودا فإن الله تعالى يقبل شهادتهم علينا في الأعمال فقال المقبض رضيت فكتبت به ورقة صغيرة صورتها أقبض فلان فلانا سبعمائة دينار ورضي المقبض بشهادة الله تعالى والملائكة وأخذ الورقة في رأسه فبعد مدة يسيرة رأيت في المنام أنه جحده فقلت له طالبه فطالبه فقال له ليس لك معي شيء فقال أما تذكر شهادة الملائكة فمضى القابض إلى القاضي وقال شخص يدعي على بسبعمائة دينار وشهوده الملائكة فقال ائتني به أعزره فلولا لطف الله تعالى بأن شخصا سمع الواقعة وهو فوق سطح لا يراه حتى شهد لراحت الفلوس كلها قال : والله ما كان عندي أن أحدا يشهد الله والملائكة ويخون أبدا
فإياك يا أخي أن تثق بأحد في هذا الزمان وتدع عنده وديعة بلا شهود إلا بعد تجربة طويلة
وأخبرتني السيدة أم الحسن زوجتي ابنة سيدي أبي السعود ابن الشيخ مدين وكانت من الصالحات الخيرات الدينات الصادقات أن شخصا جاء يصلي في زاوية جدها فرأى تاجرا من جماعة الشيخ داخلا في الخلوة بألف دينار فعمل أعمى وصار ذلك التاجر يطعمه ويسقيه ويكسوه مدة سنة وهو يعتقد أن أعمى وهو يترقب غياب التاجر ليخونه في الألف دينار إلى أن غاب التاجر ليلة في مولد فكسر الأعمى المتفعل قفل الصندوق وأخذ الألف دينار وهرب بها إلى الصعيد وصار بها تاجرا له عبيد وأصحاب فانظر صبر هذا الأعمى سنة وما أحد من أهل الزاوية يشعر به أنه بصير حقيقة في ليل أو نهار وكان كل من في الحارة والزاوية يتبرك به لما هو عليه من الصوم وقيام الليل وقلة الكلام والورع هذا في الأموال
وأما في الفروج والكلام فلا تحصى الخيانة فيهما . فحكى [ أن ؟ ؟ ] امرأة من بني إسرائيل كانت بديعة الجمال فتداعت هي وخصمها عند قاض من بني إسرائيل فلما نظر القاضي إليها وقع في قلبه محبتها فقال لها في أذنها لا أقضي لك إلا إن مكنتيني من نفسك فلم تجبه إلى ذلك فراجعت القاضي وخوفته من الله تعالى فلم يخف فرفعت أمرها لحاكم سياسي ليخلصها فلما نظر إليها افتتن بها كذلك وقال لا أخلصك إلا إن مكنتيني من نفسك فخوفته من الله تعالى فلم يخف فرفعت أمرها للسلطان فطلب منها أن تمكنه كذلك فبكت ورفعت أمرها إلى داود عليه الصلاة و السلام فعلم بذلك القاضي والحاكم والسلطان فدبروا حيلة يؤدي قبولها إلى قتلها وقالوا نريح الناس من فتنتها فأتوا داود عليه السلام ببينة تشهد عليها أنها ربت عندها كلبا وصارت تمكنه من نفسها كلما أرادت فأمر داود عليه السلام بقتلها ثم إن الله تعالى ألهم سليمان وصغار الحارة أن يعمل أحدهم حاكما تتداعى عنده امرأة جميلة تأخذ بالقلوب وأقاموا البينة زورا وشهدوا على تلك المرأة بتمكينها الكلب منها فقال سليمان هذه البينة زور ورد شهادتهم كل ذلك وداود ينظر من حيث لا تشعر الأطفال فعلم داود أنه حكم بغير الحق فرجع عن أمره بقتلها
وقد أخبرني الشيخ عمر الإمام عندنا بالزاوية أن شخصا لعب على عقل أخت رجل من أصحابه وتزوجها ثم سافر بها لبلد أخرى فادعى أنها أخته وزوجها لإنسان وهرب فصار يطلب المرأة وهي تمتنع منه ثم إن أخاها صادفه بعد ذلك فبرطل القاضي بدينارين ذهبا فانقلب معه على أخيها فحكيت ذلك لأخي أفضل الدين فقال هذا يستحق التأديب بالعمى فعمى الحاكم بعد ثلاثة أيام فهو أعمى إلى وقتنا هذا وما حكيت لك هذه الحكايات إلا لتعرف زمانك وتحترز حتى من ولدك وأما الخيانة الكلام فكثيرة جدا فلا تكاد تجد أحدا يحفظ لك السر أبدا ولم تزل الناس يحتاجون إلى من يكتم أسرارهم في كل عصر وحامل السر فقد من الدنيا فاكتم سرك حتى عن ولدك فربما صار عدوا لك كما وقع لأولاد الأمير الزردكاش فاطلعوا من والدهم على ما يوجب القتل عند الملوك فأنهوا ذلك إلى الباشا علي بمصر فسلب نعمته وأذله حتى عزم على شنقه وحصل له اللطف بواسطة واحد زاره من الفقراء والله يحفظ من يشاء كيف يشاء : (1/211)
- الشيخان والترمذي والنسائي مرفوعا : [ [ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله تعالى ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ] ] . وروى مسلم مرفوعا : [ [ إن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون لجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ] ] . وروى الحاكم مرفوعا : [ [ من سره أن يجد حلاوة الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله تعالى ] ] . وفي حديث للشيخين : [ [ سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فذكر منهم : ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ] ] . أي اجتمعا على ما يرضيه وتفرقا على ما يسخطه فكان اجتماعهما بإذن وافتراقهما بإذن . وسيأتي في عهد تشييع الميت رواية الإمام أحمد مرفوعا بإسناد حسن : [ [ والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ] ] . وروى الطبراني ورواته ثقات مرفوعا : [ [ إن من الإيمان أن يحب الرجل أخاه لا يحبه لله تعالى من غير مال أعطاه فذلك الإيمان ] ] . وروى الطبراني وأبو يعلي مرفوعا : [ [ ما تحاب رجلان في الله تعالى إلا كان أحبهما إلى الله تعالى أشدهما حبا لصاحبه ] ] . وفي رواية للحاكم : إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه . وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : من أحب فهو أرفع منزلة في الجنة من المحبوب الحديث بمعناه . وروى الشيخان : أن رجلا قال : يا رسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم - يعني في الأعمال - ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : المرء مع من أحب . وروى ابن حبان في صحيحه : [ [ لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ] ] والأحاديث في ذلك كثيرة . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحب لله ونبغض لله حتى زوجتنا [ زوجاتنا ؟ ؟ ] وأولادنا وأموالنا وأعمالنا فلا يكون لنا في شيء من ذلك علة نفسانية أبدا وهذا العهد من أعز ما يوجد فإن غالب الناس يدعي المحبة لله وهو كاذب . وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : كذب من أدعى محبتي فإذا أجنه الليل نام عني
وسمعت مرة شخصا يقول لأخيه يا فلان محبتك لله تشبه محبتي في العبادة تنام حتى يعشعش العنكبوت على عينيك وتطلب محبة الله هذا زور وبهتان
فيحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به الطريق حتى يوقفه في حضرة يشهد فيها وجه نسبة الأمور للحق دون نسبتها للخلق فإن شهد ذلك المشهد يجد وجه الحق أجمل من كل جميل وأطيب رائحة من المسك فحجبه عن شهود وجه نسبة الأمور للخلق وأشهده وجه الخلق بالنسبة لوجه الحق كوجه الطاعة إذا تصورت صورة جميلة ووجه المعصية إذا تصورت صورة قبيحة فهل يصير أحد يقدم القبيح الصورة والرائحة مثلا ويؤخر الصورة الحسنة الطيبة الرائحة ؟ فهذا هو المراد بوجه الحق تعالى في كلام القوم . وإيضاح ذلك أن كل فعل مخلوق له وجهان : وجه إلى الحق يعني موافقا للشريعة ووجه إلى الخلق يعني مخالفا لها فكل ما وافق الشريعة فهو وجه الحق وهو باق أبد الآبدين وكل ما خالف الشريعة فهو وجه الخلق وهو هالك من وقت ظهوره إلى أبد الآبدين إلا من حيث المؤاخذة عليه في الآخرة وإليه الإشارة بقوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } . أي وجه الشيء الموافق لما يحبه الله ويرضاه ويعبرون عن عجب الذنب أيضا بوجه الحق لأن منه يركب الخلق يوم البعث فلا تظن يا أخي أن المراد بوجه الحق ما يراد بوجه الإنسان والحيوان فإن ذلك محال فإن حقيقته تعالى مخالفة لسائر حقائق عباده التي هي الأرواح فضلا عن الصور الظاهرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
فعلم أن من أحب ولده أو زوجته حب الطبع فليس هو من أهل الطريق وإنما هو مفتر كذاب وكذلك من شح على سائل بشيء طلبه . وبالجملة فمتى رجح ولده وزوجته عنده في المحبة على ولد الغير وزوجته فهي محبة طبيعية إلا أن يكون من الكمل الذين يحبون الخلق لله تعالى ويعلمون أن فيهم جزءا يحب ترجيح محبة ولده على ولد الغير فيعطون ذلك الجزء حقه فليزن مدعي الكمال نفسه بهذا الميزان فعلم أنه لولا وجود صفة صالحة في أولاد الكمل ما أحبوهم فالصفة الصالحة هي وجه الحق فما أحبوا حقيقة إلا وجه الحق
وقد عز الأخ الذي يحب أخاه لله في هذا الزمان وصار كالكبريت الأحمر فلكل واحد لسان قدام أخيه ولسان ورواءه حتى بعض مشايخ الزوايا وإن شككت في قولي هذا فامدح له بعض أقرانه وبالغ فيه حتى أنك تكاد تطفي نوره فإنه لا بد أن يذكر لك كلاما فيه رائحة تنقيص تعريضا أو تصريحا فأين دعواه المحبة ؟ وما صحبت في عصري هذا أخا صالحا أتحقق أنه من ورائي مثل ما هو قدامي غير الشيخ الصالح زين العابدين ابن الشيخ العارف بالله تعالى الشيخ عبيد البلقيسي فسح الله في أجله لا يعرف عدو يأخذ منه كلمة في حق أصحابه كلهم لأنه يقلب كل كلام فيه رائحة نقص ويجعله يعطي الكمال وهذا عزيز جدا
وقد ادعى شخص من مشايخ العصر أن يحبني أعز من ولده وحلف لي بالله العظيم وله نحو عشرين نصفا من الجوالي فأرسلت أمتحن دعواه وأطلب منه أن يرتب لي نصفا واحدا منها فعبس في وجه السائل ومن ذلك اليوم ما ادعى محبتي قط
وقد أجمع أهل الطريق على أن أقل مراتب الأخوة في الله تعالى أن أخاه لو طلب منه نصف ما بيده من مال وثياب وطعام وغير ذلك لأعطاه له بانشراح صدر . وقالوا : كل من ادعى أنه أخوك فزنه بهذا الميزان فإن أوفي به فتردد إليه وإلا خف رجلك عنه فإن من لا ينفعك في الدنيا لا ينفعك في الآخرة
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : لا يخلو من يطلب منك شيئا من الإخوان وتمنعه أن تكون اطلعت من طريق كشفك أن ليس هو له أو هو له فإن كان ليس هو له فأعطه له لتخرج عن وصفك بالبخل وسوف يرجع إليك لأنه لم يقسم له وإن كان هو له فأعطه له اختيارا قبل أن يصل إليه اضطرارا ولو بالغصب والسرقة
وقد من الله علي بسهولة [ بذل ؟ ؟ ] كل ما يطلب مني من الثياب والمال والاختصاصات وغيرها فلا أمنع أحدا شيئا طلبه مني إلا بوجه شرعي إما أن يكون هناك من هو أحوج إلى ذلك الشيء منه وإما لكونه يستعين به على معاصي الله أو على أكل الشهوات المكروهة وأما شخص عدم الموانع الشرعية كلها فمعاذ الله أن نمنعه لأن تصرفنا في مال الحق تعالى كتصرف الوكيل وتعرف أننا متى منعنا من أمرنا الحق بإعطائه عزلنا من الوكالة فتتحول عنا النعم وتفر الخلائق الذين حولنا . وقد أنشدني سيدي عليا الخواص رحمه الله يوما على لسان مريد من الفقراء :
يا عم ؟ ؟ حيضان الورود ملانة ... وحوض فارغ ما عليه ورود
فعلم أن الفاسق ينبغي بغضه في الله لفقد الصفات الصالحة التي ندبنا الحق إلى محبته لأجلها ومتى أحببنا فاسقا من حيث فسقه فقد خرجنا عن الشريعة فليتفقد من يريد يحب لله ويبغض لله نفسه قبل أن يحب بالطبع ويكره بالطبع كما هو واقع في أكثر الناس فما دام الشخص موافقا للناس على أغراضهم النفسانية فهم يحبونه ويشكرونه ولو كان فاسقا ومتى تكدروا منه قامت عليه القيامة ولو كان على عبادة الثقلين
وسمعت شخصا يدعي محبة أخي أفضل الدين وهو يقول له : رح واستكف البلاء فقال : والله إني أحبك وأسأل الله تعالى أن يحشرني معك في الآخرة فقال له أخي وأي شيء تفعل إذا حشروني إلى النار ؟ قال أفارقك وأروح فقال ليست هذه بأخوة إنما الأخوة أن لا تدخل الجنة حتى أخلص من النار وتدخلني معك فقال لا أطيق
وقد ادعى إنسان محبتي في طريق الحجاز وصار ملازما لي فلا يكاد يفارقني فجمعني أنا وإياه مضيق شق العجوز فزاحمت جمالي جماله فدفع جملي فوقع بحمله فمن ذلك اليوم سقط من عيني وعلمت أنه في الآخرة أقل مساعدة لي
ودخلت مرة على سيدي الشيخ ناصر الدين اللقاني المالكي رضي الله عنه زائرا ومعي بعض كعك فقال : والله ما نصحب مثلكم إلا ليأخذ بيدنا في عرصات القيامة لا غير فكانت تعجبني هذه الكلمة منه وإن كان فيها علة خفية من حيث أن المحبة لله لا يريد صاحبها ممن أحبه جزاء ولا شكورا
وقد ظفرت في زماني كله بواحد له هذا المقام وهو سيدي عبدالقادر المغازلي الذي وقف علي وعلى ذريتي ثم بعد ذريتي على الشيخ أبي الحمائل نصف السيرجة ونصف الطاحون بخط بين السورين فإنه لما رأى الوارد علي كثيرا من غير علمي أتى بسبعمائة دينار ليشتري بهما النصفين المذكورين فلما رأى البائع عزمه سامح الآخر بالبعض فقلت للفقراء الذين عندي اجعلوا له سبعا وادعوا له فقرءوا تلك الليلة فنزل وهو ضعيف يتوكأ على عصا من بيته وقال ما مع أحد منكم إذن مني أن يقرأ لي ولا يقول اللهم ارحم عبدالقادر أبدا وخلوا بيني وبين ربي رحمة الله تعالى وإلى الآن ما وجدت أحدا على قدمه بل كل من فعل خيرا للفقراء يكاد يستعبدنا ويأخذ جميع أعمالنا الصالحة إن كان لها وجود ولا نرضيه
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إن الله تعالى يغار من محبة عبده أحدا غيره إلا بإذنه على الكشف والشهود ومتى أحب أحدا غافلا عن هذا المشهد فينبغي له الاستغفار ألف مرة فقد أذن الشبلي مرة فوقف عند قوله أشهد أن محمدا رسول الله ثم قال وعزتك وجلالك لولا أمرتني بذكر غيرك ما ذكرت سواك . ولا يخفى أن هذا كان من الشبلي حال سكره وغيبته وإلا فلو كان صاحيا لعلم أن الله تعالى أمرنا بذلك فإن المحمود إنما الغيرة لله لا على الله . وهناك أسرار يذوقها أهل الله تعالى إذا صاروا لا يشهدون إلا الله تعالى فاعلم ذلك وتدبر فيه والله يتولى هداك (1/212)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يجديك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن تحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة ] ] . ومعنى يجديك : يعطيك . ولفظ رواية أبي داود والنسائي مرفوعا : [ [ مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه ومثل جليس السوء كمثل صاحب نافخ الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه ] ] . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نختار للمجالسة الجليس الصالح وهو الذي لا يلحقنا إثم مجالسته وذلك إما بالتوبة من الإثم فإذا وقع أحدنا بسببه في ذنب تاب على الفور من غير إصرار وإما بعدم وقوعنا في الإثم بسببه أصلا . ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سياسة وفراسة ليعرف من يستحق المجالسة ممن لا يستحق ومن لا سياسة عنده يقبل على مجالسة كل من رآه ثم بعد ذلك يقطع مجالسته فيصير عدوا له . وقد قالوا : العاقل من يقدم التجريب قبل التقريب و والله إن الإثم الذي يقع فيه من يعتزل الناس اليوم يكفيه ويغنيه عن زيادة الأوزار التي يكتسبها من مجالسة الناس فلا يكاد الإنسان يجد مجلسا واحدا يخلو عن إثم أبدا إما غيبة وإما نميمة وإما غفلة عن الله تعالى وإما تحريض على طلب دنيا وإما غير ذلك فالوحدة خير من مجالسة الناس اليوم إلا أن تتعين المجالسة بطريقه الشرعي . ففتش يا أخي على الصالحين وجالسهم فإن لم تجدهم فاجلس وحدك فقد قالوا : الوحدة ولا الجليس السوء وقالوا : الجلوس مع الكلب أولى من الجلوس مع من يحملك على الآثام . واعلم يا أخي أن كل من حصل لك بواسطة مجالسته إثم فهو جليس سوء فهل سلم لك على هذا جليس واحد ؟ لا والله لا تكاد تجده فالوحدة أولى والسلام (1/213)
- روى الطبراني بإسناد حسن : إن لكل شيء سيدا وإن سيد المجالس قبال القبلة . وفي رواية له أيضا : إن لكل شيء شرفا وإن شرف المجالس ما استقبل به القبلة . قال الحافظ : وفي باب أحاديث غير هذه لا تسلم من مقال . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن تجعل جلوسنا دائما للقبلة عملا بعموم قوله تعالى : { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } . أي نحو الكعبة اللهم إلا أن يكون أحدنا جالسا في حفلة فقبلة أحدنا حينئذ وجوه أصحابنا من حيث أن المؤمن مرآة المؤمن ولا يخفى أن توجه العبد لأخيه في غير صلاة أفضل من توجهه للقبلة فإن لم تجد من نستقبله من المسلمين استقبلنا القبلة لأنها تليه في المرتبة . { والله عليم حكيم } (1/214)
- روى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ اللهم بارك لنا في شامنا وبارك لنا في يمننا قالوا : وفي نجدنا قال : اللهم بارك لنا في شامنا وبارك لنا في يمننا قالوا : وفي نجدنا قال هناك الزلازل والفتن أو قال : ومنها يخرج قرن الشيطان ] ] . وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعبدالله بن خولة : عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده . وروى ابن خزيمة والترمذي بإسناد جيد مرفوعا : [ [ إن الله عز و جل يقول : يا شام أنت صفوتي من بلادي أدخل فيك خيرتي من خلقي إن الله تكفل لي بالشام وأهله ] ] . وروى الطبراني والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين مرفوعا : [ [ ألا وإن الأمان إذا وقعت الفتن فالأمن بالشام ] ] . وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ أهل الشام وأزواجهم وذرياتهم وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون فمن نزل مدينة من المدائن فهو في رباط أو ثغر من الثغور فهو في جهاد ] ] . وروى الترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ طوبى للشام إن ملائكة الرحمة باسطة أجنحتها عليه ] ] . وروى الإمام أحمد والترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ستخرج عليكم في آخر الزمان نار من حضر موت تحشر الناس فقالوا يا رسول الله أيما تأمرنا ؟ قال عليكم بالشام ] ] . وروى الإمام أحمد والطبراني مرفوعا : وموقوفا ورواتهما ثقات : [ [ أهل الشام سوط الله في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء من عباده وحرام على منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم ولا يموتوا إلا هما وغما ] ] . وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا يقول : في الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين : أي يجتمع المسلمون بأرض يقال لها الغوطة فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا التجار الذين يسافرون إلى الشام أن يجعلوا معظم نيتهم امتثال أمر الشارع في سكنى الشام دون التجارة فإن التجارة حاصلة تبعا ولو لم ينووها وذلك ليكونوا في سكناهم الشام تحت امتثال أمر الشارع فيثابوا على ذلك بخلاف ما إذا جعلوا نيتهم التجارة فقط فلا يحصل لهم أجر عند بعضهم لحديث : إنما الأعمال بالنيات . ولا ينافي ما ذكرناه قول سلمان الفارسي لأبي الدرداء : إن الأرض المقدسة لا تقدس أحدا وإنما يقدس كل إنسان عمله . لأنا نقول إذا أمرنا الشارع بشيء فلا نخرج عن العهدة إلا بفعله فنسكن في الشام امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم معولين على فضل الله لا على أرض الشام وكذلك القول في حق من أقام بمكة والمدينة لأجل فضل الصلوات هناك يقيم لأجل مضاعفة الأجر في الصلوات هناك ولا يعتمد في نجاته في الآخرة إلا على الله تعالى دون الأعمال الصالحة فافهم . وكان لفظ أبي الدرداء الذي أرسله إلى سلمان الفارسي : أما بعد فهلم يا أخي إلى الأرض المقدسة فلعلك تموت فيها فكتب إليه سلمان : أما بعد يا أخي فقد بلغني كتابك وفهمت ما فيه وإن الأرض المقدسة لا تقدس أحدا وإنما يقدس كل إنسان عمله والسلام . فإياك يا أخي أن تسافر للقدس أو دمشق بلا نية صالحة فإن الدنيا وما فيها كالهباء إلا ما ابتغى به وجه الله . وقد علمت هذا العهد لبعض إخواننا من التجار فصار يحرر نيته من مصر إلى زيارة أبينا الخليل عليه الصلاة و السلام وإلى زيارة موسى ولوط وشعيب ونوح وإن لم يثبت من طريق المحدثين إن تلك القبور هي قبور هؤلاء الأنبياء يقينا فيزورهم العبد بالنية وأيضا فإن أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لها الإطلاق والسراح في البرزخ فلا يطلبهم إنسان في مكان وإلا ويحضرون عنده وإذا كان بعض الأولياء يحضر عند مريده في أي وقت طلبه فالأنبياء أولى بذلك . { والله واسع عليم } (1/215)
- روى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ ما من راكب يخلو في مسيرته بالله تعالى وذكره إلا ردفه ملك ولا يخلو بشعر ونحوه إلا ردفه شيطان ] ] . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه و سلم أردفه على دابته فلما استوى عليها كبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثا وحمد الله تعالى ثلاثا وسبح الله ثلاثا وهلل الله تعالى واحدة ثم ضحك وقال : [ [ ما من امرئ يركب دابته فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله تعالى عليه فضحك إليه ] ] . وروى الإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة : [ [ ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله عز و جل إذا ركبتموها كما أمركم ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله عز و جل ] ] . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا المسلمين من المسافرين أن يذكروا الله تعالى على دوابهم إذا ركبوها لا سيما الإبل وذلك لأن السفر مظنة الغفلة في الغالب . وكان شيخنا الشيخ محمد الشناوي إذا سافرنا معه وركب بعد الصبح ذكر المجلس على الحمارة هو وأصحابه وكذلك كان يذكر المجلس بعد العشاء وهو راكب : ولا يفوت العبادات التي يفعلها في الحضر رضي الله عنه . واعلم يا أخي أن كل من غفل عن امتثال أمر ربه أو اجتناب نهيه فقد غفل عن ربه وكل من غفل عن ربه فقد تلف وعدم العزم الشرعي وعرض جسمه لسائر الآفات وذلك لأن الشفاء في الإقبال والمرض في الإدبار فإن روائح الحضرة الإلهية تجلو الصدأ عن القلب لطيب رائحتها وكل من توجه لغيرها جاءته الآفات من كل جانب وازداد قلبه صدأ وقد أنشد سمنون المحب رضي الله عنه :
ولا عيش إلا مع رجال قلوبهم ... تحن إلى التقوى وترتاح للذكر
أديرت كؤوس للمنايا عليهم ... فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي السكر
همومهم جوالة بمعسكر ... به أهل ود الله كالأنجم الزهر
فأجسادهم في الأرض قتلى بحبه ... وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسرى
فما عرسوا إلا بقرب حبيبهم ... وما عرجوا عن مس بؤس ولا ضر
وكان الجنيد رضي الله عنه يقول : تأملت في ذنوب أهل الإسلام فلم أر منها ذنبا أعظم من الغفلة عن الله تعالى . { والله عليم حكيم } (1/216)
- روى أبو داود مرفوعا : [ [ عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوي بالليل ] ] . وروى أبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه مرفوعا : ثلاثة يحبهم الله فذكر منهم : وقوم ساروا ليلهم حتى إذا كان النوم أحب إلى أحدهم مما يعدل به نزلوا فوضعوا رؤوسهم فقام أحدهم يتملق لي ويتلو آياتي . وهذا الحديث يؤيد قول بعض العلماء : إن الله يحب من عباده الملق له والمتملق . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا في الدلجة وهو السير بالليل وفي الصلاة في كل منزل عرسوا فيه : أي نزلوا فيه آخر الليل وذلك ليشهد لهم يوم القيامة فإنه ما من شيء فارقناه إلا ويسأله الله تعالى عنا هل وفينا بحقه أم لا سواء أكان صاحبا أو ثوبا أو طعاما أو زمانا أو مكانا وكذلك يسألنا هل ذكرنا الله تعالى مدة صحبتنا لذلك الشيء أم نسيناه . ومن الوفاء بحق الثوب أو الزمان أو المكان أن لا نعصي الله تعالى فيه وما من نعمة ولا نقمة إلا وهي مذكرة بالله تعالى عند أرباب البصائر فمن لم يذكره بالنعم وذكره بالمحن . { والله غفور رحيم } (1/217)
- روى النسائي والطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي المليح عن أبيه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه و سلم فعثر بعيرنا فقلت تعس الشيطان فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت ويقول بقوتي صرعته ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يصير مثل الذباب . وفي رواية الإمام أحمد بإسناد جيد والبيهقي : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان على حمار ورديفه شخص فعثر الحمار فقال الرجل تعس الشيطان فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا تقل تعس الشيطان فإنك إذا قلت ذلك فقد تعاظم في نفسه وقال صرعته بقوتي وإذا قلت بسم الله تصاغرت إليه نفسه حتى يكون أصغر من ذباب وإذا قيل بسم الله خنس حتى يصير مثل الذباب . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نذكر الله تعالى إذا عثرت دابتنا فإنها ما عثرت بنا إلا بغفلتنا عن الله تعالى كما أنه ما غلط إمام في قراءته في الصلاة إلا لعدم طهارة المقتدين فاعلم أن عثرة دابتنا عقوبة لنا فإن ذكرنا الله تعالى ردت العقوبة إلى خير إن شاء الله تعالى (1/218)
- روى الطبراني بإسناد لا بأس به عبدالله بن بسر قال : خرجت من حمص فآواني الليل إلى البيعة فحضرني أهل الأرض فقرأت هذه الآية من الأعراف : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض } . إلى أخر الآية فقال بعضهم لبعض احرسوه الآن حتى يصبح فلما أصبحت ركبت دابتي . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نقول كلما نزلنا منزلا في السفر : " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " . فإن من قال ذلك لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله وذلك لما رواه مالك ومسلم والترمذي وابن خزيمة في صحيحه . وقد رتب الله تعالى الأسباب على مسبباتها والكل منه وإليه فكما خلق الري عند الشرب والشبع عند الطعام فكذلك يحرسك عند قولك ما أمرك الله تعالى بقوله فاعلم ذلك (1/219)
- روى مسلم وأبو داود واللفظ به مرفوعا : [ [ إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة ولك مثل ذلك ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ دعوتان ليس بينهما وبين الله حجاب : دعوة المظلوم ودعوة المرء لأخيه بظهر الغيب ] ] . وروى أبو داود مرفوعا : [ [ إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب ] ] . وفي رواية لأبي داود والبزار والترمذي مرفوعا : [ [ ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن : دعوة الوالد ودعوة المظلوم ودعوة المسافر ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ندعو لإخواننا المسلمين بظهر الغيب لا سيما المسافرون وأول ما ترجع منفعة ذلك علينا بقول الملك ولك مثله . واعلم أن من جملة الدعاء للإخوان قولنا اللهم لا تستجب لنا دعاء على أحد من إخواننا وأولادنا وغيرهم حال غضب منا عليهم فإن الله تعالى ربما لم يستجب دعاءنا فيهم وهذا معدود من الشفقة والرحمة بالإخوان والأولاد والأهل وغيرهم فربما دعا الإنسان على من يحبه في حال غضب فيستجيب الله تعالى دعاءه فيه فيندم على ذلك ويطلب رد السهم فلا يرتد . وبالجملة فكل ما فعله الإنسان مع الخلق يرجع عليه نظيره فإن لم يدركه ذلك أدرك ذريته من بعده وقد تقدم في هذه العهود قول أبي النجاء القوى رحمه الله تعالى لأصحابه لما سألوه الوصية لهم وهو محتضر : اعلموا أن الوجود كله يقابلكم بحسب ما برز منكم من الأعمال فانظروا كيف تكونون ؟ فمن رجع عليه سوء فلا يلومن إلا نفسه . { والله غفور رحيم } (1/220)
- روى النسائي واللفظ له وابن ماجه وابن حبان في صحيحه : إن رجلا مات بالمدينة ممن ولد بها فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : يا ليته مات بغير مولده قالوا : ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال : إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس من مولده إلى منقطع أثره في الجنة . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ موت غربة شهادة ] ] . وفي حديث الطبراني الذي عدد فيها الشهداء : [ [ والغريق شهيد والغريب شهيد ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا مرضنا في بلاد الغربة أن نحب الموت هناك تقديما لمراد الله تعالى على مرادنا ورغبة في الثواب الوارد فيمن مات غريبا . والسر في ذلك أن من مات غريبا يكون معولا على فضل الله تعالى دون الخلق بخلاف من مات بين أهله وعشيرته فإنه يموت وهو راكن إلى نفعهم له وفي الحديث : [ [ أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ] ] . ولا شك أن كل من مات غريبا مات منكسر الخاطر وقد أخبر الله تعالى أنه عنده يعني باللطف والحنان ومن كان الله عنده كذلك فقد فاز فوزا عظيما . { والله غفور رحيم } (1/221)
- روى مسلم والنسائي مرفوعا : [ [ إن الله عز و جل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ] ] . وفي رواية لمسلم مرفوعا : [ [ من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح والبيهقي واللفظ له مرفوعا : [ [ إن من قبل المغرب لبابا مسيرة عرضه أربعون عاما أو سبعون سنة فتحه الله عز و جل للتوبة يوم خلق السماوات والأرض فلا يغلقه حتى تطلع الشمس منه ] ]
وروى ابن ماجه بإسناد جيد مرفوعا : [ [ لو أخطأتم حتى تبلغ السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم ] ]
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة ] ]
وروى أبو يعلي مرفوعا : [ [ من سره أن يسبق الدائب المجتهد فليكف عن الذنوب ] ] . والدائب : هو المتعب نفسه في العبادة المجتهد فيها
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ المؤمن واه راقع فسعيد من هلك على رقعه ] ] . ومعنى واه : مذنب وراقع : بمعنى تائب مستغفر
وروى الترمذي وابن ماجه وغيرهما مرفوعا : [ [ كل ابن آدم خطأ وخير الخطائين التوابون ] ]
وروى الشيخان مرفوعا : [ [ إذا أذنب العبد فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ويقول الله تعالى للملائكة : قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء ] ] . قال الحافظ : ومعنى قوله : فليعمل ما شاء أنه ما دام يذنب ويستغفر ويتوب فأنا أغفر له وتكون توبته واستغفاره كفارة لذنبه لا أنه يذنب الذنب فيستغفر منه بلسانه من غير إقلاع ثم يعود إلى مثله فإن هذه توبة الكذابين . والله أعلم
وروى الطبراني عن معاذ قال : قلت : يا رسول الله أوصني ؟ قال : عليك بتقوى الله ما استطعت واذكر الله عند كل حجر وشجر وما عملت من سوء فأحدث له توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية
وروى الأصبهاني مرفوعا : إذا تاب العبد من ذنوبه أنسى الله حفظته ذنوبه وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه من الأرض حتى يلقى الله تعالى يوم القيامة وليس عليه شاهد من الله تعالى بذنب . قلت : وقال بعضهم في هذا الحديث : إن العبد ما دام يستحضر ذنوبه ويذكرها فهي لم تمح ولم تبد لأن صورتها موجودة في صحف الملائكة فلا يصح للعاصي أن يظن أن معاصيه بدلت بالحسنات إلا إن نسيها ولم يذكرها أصلا وذلك لأنها إذا بدلت لم يبق للذنوب صورة حتى يذكرها العبد وهو قاصم للظهور ونسأل الله اللطف
وروى الطبراني وغيره ورواته رواة الصحيح مرفوعا : [ [ النادم ينتظر من الله الرحمة والمعجب ينتظر المقت ] ]
وروى الطبراني وغيره ورواته رواة الصحيح مرفوعا : [ [ التائب من الذنب كمن لا ذنب له ] ] . وكان ابن عباس يقول : المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بالله عز و جل وروى أيضا مرفوعا والوقف أشبه
وروى ابن حبان في صحيحه والحاكم مرفوعا : [ [ الندم توبة ] ] . زاد في رواية للحاكم : [ [ وإذا علم الله من عبد ندامة غفر له قبل أن يستغفر منه ] ]
وروى مسلم : [ [ والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم ] ]
وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ من أحسن فيما بقي غفر له ما مضى ومن أساء فيما بقي آخذه الله بما مضى وما بقي ] ]
وروى البيهقي وغيره مرفوعا : [ [ إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة ] ]
وروى الطبراني والترمذي وقال حسن صحيح مرفوعا : [ [ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ] ] . زاد أحمد في رواية : أن أبا الدرداء قال : [ [ يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال : هي أفضل الحسنات ] ]
والأحاديث والآثار في أمر التوبة كثيرة مشهورة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نبادر بالتوبة عقب كل ذنب ولا نصر على ما فعلناه لحظة واحدة هروبا من سخط الله تعالى مع أن الإصرار أيضا معصية ثانية فإذا وقع بادرنا أيضا بالتوبة من الإصرار وهكذا القول في الإصرار على عدم التوبة من الإصرار أبدا فما من ذنب إلا وله دواء حتى لو أصر على ذنب سبعين سنة أو أكثر فندم واستغفر الله عن جميع الإصرار السابق كله انسحب الاستغفار عليه فإن التوبة تجب ما قبلها . قال العلماء : والتوبة عن الشرك مقطوع بها بنص القرآن فهي مقبولة بلا شك بخلاف معاصي أهل الإسلام فإنها كلها مظنونة القبول وذلك لأن المشرك كان في حجاب القطيعة الكلية فلاطفه الحق تعالى كما لاطف الشيخ الفاني وحمل عنه حكم الذنوب السالفة كلها إذا تاب وأحسن . وأما المعاصي من أهل الإسلام فكان حكمه حكم الشاب القوي العاتي لضعف حجاب قطيعته فإنه مسلم موحد يشم رائحة الإسلام فكان من شأنه أن لا يقع في معصية الله تعالى : هذا ما ظهر لي الآن من الحكمة ومن فتح الله تعالى عليه بشيء أوضح مما قلناه فليلحقه بهذا الموضع . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول : ما دامت شهوة الذنوب في القلب فلا فائدة في الطاعات لأن ظلمة شهوة المعصية تمنع دخول نور الطاعات إلى القلب والمدار على حصول النور في القلب حتى يصلح لمجالسة الرب . { والله غفور رحيم } (1/222)
- روى الحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : يقول ربكم عز و جل : [ [ يا ابن آدم تفرغ لعبادتي املأ قلبك نورا وغنى وأملأ يديك رزقا . يا ابن آدم لا تباعد مني املأ قلبك فقرأ واملأ يديك شغلا ] ] . وروى ابن ماجه والترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة قال : [ [ تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم : من كان يريد حرث الآخرة الآية ثم قال : يقول الله : [ [ يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك ] ] . وروى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبيها ملكان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خيرا مما كثر وألهى ] ] . والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نفرغ أنفسنا للعبادة والإقبال على الله تعالى لا سيما إذا بلغنا الأربعين سنة
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ ناصح يسلك به حتى يقطع علائقه الدنيوية كلها أو يقلبها بالنية الصالحة إلى مرضاة الله تعالى مع بقائه إذ ما من شيء في الوجود إلا وله وجهان : وجه مقرب إلى الله تعالى ووجه مبعد عنه فيأخذ العبد الوجه المبعد فيقلبه فيصير مقربا
فامتحن يا أخي بهذا الميزان جميع الأعمال ما عدا المعاصي ومن قال : إن المعاصي قد تقرب العبد لما يقع فيها من الذل والانكسار فمراده أثرها لا عينها . وتأمل قول الشيخ تاج الدين بن عطا الله : معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبار فجعل الخيرية في أثر المعصية لا في عين المعصية فلا يصح إجماعا أن يفهم أحد عن القوم أنهم يقولون إن المعصية تقرب إلى الله تعالى أبدا فإن الحس يكذب هذا القائل فلو أراد العاصي أن يحصل له بالله وصلة بوقوعه في المعصية لا يصح ذلك له أبدا بل يجد حبل الوصلة بشهوده تعالى أو شهود حضرته انقطع
وقد جاء شخص إلى الجنيد رضي الله عنه فقال : يا سيدي أنا صرت آتي المعاصي وأنا مشاهد لله عز و جل من كونه خالقا لتلك المعصية فقال له الجنيد : هذا تلبيس من الشيطان ولو حققت النظر لوجدت نفسك حال المعصية لا يصح لها مشاهدة الحق تعالى مطلقا ثم لو قدر أنك شاهدته تعالى لشهدته ساخطا عليك غير راض عنك وهو كلام نفيس
فاسلك يا أخي على يد شيخ يقطع علائقك أو يقلبها إلى خير كما قررنا إن أردت العمل بهذا العهد وإلا فمن لازمك كثرة العوائق عن ربك حتى تموت وقد عجز الأكابر فضلا عن مثلك أن يعرفوا طريق قطع علائقهم بأنفسهم من غير شيخ فلم يقدروا فلا يزال الشيخ يأمرك بإزالة العوائق واحدا بعد واحد حتى لا يبقى إلا واحد فيقول لك أزله وها أنت وحضرة ربك
وتحتاج يا أخي إلى طول زمان وصبر على مأمورات شيخك وغالب الناس يرجع من الطريق فلا يحصل من قطع العلائق على طائل . وإيضاح ذلك أن طريق السير في الطريق طريق غيب والمريد كالأعمى الذي يريد يسلك طريقا طول عمره ما سلكها والشيخ كالمسافر الذي سلكها في نور الشمس زمانا طويلا فعرف مهالكها كلها فهو بتقدير أنه يعمي أو يسير في ظلمة الليل يعرف المهالك الطرق المسدودة كدليل الحاج سواء فمن سلم للشيخ وانقاد له قطع تلك الطريق ونجا من العطب ومن لم يسلم للشيخ لا يعرف يمشي وربما وقع في مهلكة فلم يعرف يخرج منها حتى يموت ولولا أنها طريق غيب لا يقدر أحد على سلوكها وحده ما كان للدعاة إلى الله فائدة من أنبياء وأولياء وعلماء فلا بد من مزيد خصوصية فتأمل
فإن قال لنا قائل : الأعمال مقسومة لكل شخص فمن قسم له شيء فلا بد أن يفعله فلا نحتاج إلى آمر بذلك . قلنا : والآمر أيضا مقسوم فلا بد أن يقع فليس للشيخ مدخل في القسمة وإنما له مدخل في إصلاح العبادة وتعليم المريد كيفية فعلها على الوجه الشرعي بحيث يخلص من الآفات
وقد أجمع الأشياخ على أنه لو صح لعبد أن يأتي بالمأمورات على الوجه الذي أمره الله تعالى به من غير خلل لما احتاج أحد إلى شيخ لكن لم يصح لهم ذلك فاحتاجوا ضرورة إلى من يبين لهم مراد الحق فلذلك احتاج أتباع المجتهدين إلى المجتهدين ليبينوا لهم مراد الشارع ومقلدو الأتباع إلى من يبين لهم مراد المجتهدين وهكذا فكل أهل دور يعرفون مراد الدور الذي قبلهم لقربهم منهم ولو أراد الذين بعدهم أن يعرفوا الواسطة التي قبلهم ويستقلوا بفهم كلام من قبلهم على وجهه لا يقدرون
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : من شرط عبدالله الخالص أن يكون له مانع يمنعه عن دخول حضرته تعالى ومتى كان عنده مانع فهو عبد ذلك لا عبد المخصوص
وسمعت سيدي عليا المرصفي رحمه الله يقول : كل مريد أمره شيخه برمي ما بيده من الدنيا فأبى فقد مكر به واستحق الطرد عن حضرة الله تعالى فلا يرجى له فلاح بعد ذلك أبدا فهنيئا لمن جعل خده أرضا لأستاذه يمشي عليه بنعله . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/223)
- روى ابن ماجه والترمذي وأبو داود مرفوعا : [ [ ائتمروا بينكم بالمعروف وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله ] ] . زاد في رواية أبي داود : [ [ قيل يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم ؟ قال بل أجر خمسين منكم ] ]
وروى مسلم والترمذي وابن ماجه مرفوعا : [ [ العبادة في الهرج كهجرة إلي ] ] . قال الحافظ : والهرج هو الاختلاف والفتن وقد فسر في بعض الأحاديث بالقتل لأن الفتن والاختلاف من أسبابه فأقيم المسبب مقام السبب . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا في العمل الصالح عند فساد الزمان من غير اعتماد عليه دون فضل الله تعالى ونأمرهم برؤية المنة لله عليهم الذي أهلهم لتلك العبادة ولم يطردهم عن حضرته كما طرد غيرهم ونأمرهم بالرضا عن الله تعالى بالعمل القليل مثل ما يرضون عنه إذا قسم لهم رزقا قليلا بالنسبة للأغنياء والأمراء وأن يقولوا الحمد لله الذي غلط الزمان في حقنا حتى أوقعنا له فيه عبادة في غير أوانها وذلك لكثرة تشعب الخواطر والهموم بوزن المغارم والمظالم مع قلة المكاسب وكثرة العيال وقلة البركة في الرزق كما يعرف ذلك من ألزم بما لم يلزمه وليس عند الفقراء المنقطعين في الزوايا علم ولا خبر من ذلك ولذلك أقام الله تعالى عليهم الميزان ولم يكتف منهم بالأعمال اليسيرة لعدم الشواغل وعدم الحرفة فلا ينبغي لأحد منهم أن يستكثر عملا أصلا . ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به حتى يدخله حضرات القرب ويرى هناك من اعتمد على غير الله والغير يتبرأ منه ويتخلى عنه وهناك يعتمد على الله ضرورة دون العمل وعملك غير بلا شك . فاسلك يا أخي على يد شيخ إن أردت العمل بهذا العهد والخلاص من كل سوء والله يتولى هداك (1/224)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ [ كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم حصير وكان يحجره بالليل فيصلي عليه ويبسطه بالنهار فيجلس عليه فجعل الناس يثوبون إلى النبي صلى الله عليه و سلم يصلون بصلاته حتى كثروا فأقبل عليهم فقال : يا أيها الناس خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا فإن أحب الأعمال إلى الله تعالى ما دام وإن قل ] ] . وفي رواية عنها : وكان آل محمد إذا عملوا عملا أثبتوه قالت : وسئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : [ [ أدومه وإن قل ] ] . وفي رواية عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة وإن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل ] ] . كل هذه الروايات في الصحيحين وفي رواية لمالك والبخاري أيضا : [ [ إن أحب الأعمال إلى الله تعالى الذي يدوم عليه صاحبه ] ] . وكانت عائشة إذا عملت عملا أثبتته يعني داومت عليه وإن قل . وقيل لعائشة رضي الله عنها : هل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخص شيئا من الأيام ؟ قالت لا كان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يستطيع ؟ ومعنى يحجره في الرواية الأولى : يتخذه حجرة وناحية فينفرد عليه فيها ومعنى يثوبون يرجعون إليه ويجتمعون عنده . وروى ابن حبان في صحيحه عن أم سلمة قالت : [ [ ما مات رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كان أكثر صلاته وهو جالس ] ] يعني في النوافل وكان أحب الأعمال إليه ما داوم عليه العبد وإن كان يسيرا . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نداوم على العمل ولو قل فإننا كل يوم في قرب من الأجل فاللائق بنا استغنام العمل لا تركه وهذا العهد يخل به كثير ممن يتعبد بنفسه من غير شيخ فيتعاطى أعمالا شاقة فتمل نفسه فيترك العمل آخر عمره جملة واحدة ولذلك تقول الناس حبل العبادة طويل . وقد كان شخص من الناس اجتمع علي فجعلته يفتتح المجلس بالجماعة لما كان عليه من المواظبة على الأوراد والخيرات ثم بعد مدة سلبه الله تعالى ذلك الخير كله وصار كالفخارة الفارغة وزال ذلك البريق الذي كان على وجهه فإن كل من لا شيخ له إذا أكثر العبادات فلا بد أن يمل منها ويذهب ميله إليها حتى لا يبقى له إليها داعية أو يعجب بها وهذا مكر من الله تعالى به بلا شك وقد مدح الله تعالى رجالا بقوله : { رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } . فكن يا أخي مع هؤلاء ولا تكن مع من مكر به من الناكثين لعهود أشياخهم فلعلك يدور فيك ماء الحياة ويخضر عودك فلا تمل من العمل . وقد كان السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم إذا دخل أحدهم في سن الأربعين سنة أقبل على عبادة ربه حتى لو قيل له غدا تموت لا يجد له زيادة على ذلك العمل الذي هو عليه رضي الله عنهم أجمعين . ويتعين العمل بهذا العهد على الدعاة إلى الله تعالى لأنه متى لم يكن الشيخ أكثر عملا من المريد لا يتم اقتداؤه به وإذا ترك الشيخ عبادة كان يفعلها اقتدى به المريد ضرورة ولذلك قام صلى الله عليه و سلم حتى تورمت قدماه وكان أواخر عمره أكثر صلاته في بالليل جالسا ولم يترك العمل ولذلك كان أتعب صلى الله عليه و سلم من بعده فما تورمت أقدام أحد بعده إلا نادرا فلا تجد يا أخي أتعب قلبا ممن يكون قدوة أبدا . { والله غفور رحيم } (1/225)
- روى البزار بإسناد حسن مرفوعا : [ [ إن بين أيديكم عقبة كؤودا لا ينجو منها إلا كل مخف ] ]
وروى الطبراني بإسناد صحيح عن أم الدرداء قالت قلت لوالدي مالك لا تطلب كما يطلب فلان وفلان فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ إن وراءكم عقبة كؤودا أي صعبة لا يجوزها المثقلون فأنا أحب أن أتخفف لتلك العقبة ] ]
وروى الطبراني عن أنس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما وهو آخذ بيده أبي ذر فقال : يا أبا ذر أعلمت أن بين يدي الساعة عقبة كؤودا لا يصعدها إلا المخفون فقال رجل يا رسول الله أمن المخفين أنا أم من المثقلين ؟ قال : عندك طعام يوم ؟ قال نعم وطعام غد ؟ قال نعم قال وطعام بعد غد ؟ قال : لا قال لو كان عندك طعام ثلاث كنت من المثقلين
وروى الإمام أحمد ورواته رواة الصحيح : أن أبا ذر قال إن خليلي صلى الله عليه و سلم عهد إلى أن دون جسر جهنم طريقا ذا دحض ومزلة وإنا إن نأت عليه وفي أحمالنا اقتداء واضطماء أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقين . والدحض : هو الزلق
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه ] ] . وفي رواية للطبراني بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ إذا أحب الله عز و جل عبدا حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمى سقيمة الماء ] ]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ] ] . زاد في رواية للإمام أحمد بإسناد جيد : [ [ واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء ] ]
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز و جل ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ] ]
وروى الطبراني مرفوعا ورواته رواة الصحيح والترمذي وابن ماجه : [ [ إن حوضي ما بين عدن إلى عمان أكوابه عدد النجوم ماؤه أشد بياضا من الثلج وأحلى من العسل وأكثر الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين قلنا يا رسول الله صفهم لنا قال شعث الرؤوس دنس الثياب الذين لا ينكحون المنعمات ولا تفتح لهم السدد الذين يعطون ما عليهم ولا يعطون ما لهم ] ] والسدد هنا هي الأبواب
وروى مسلم والطبراني وغيرهما مرفوعا : [ [ إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة يعني لدخول الجنة كما في رواية بأربعين خريفا ] ] . وفي رواية : بأربعين عاما
وروى الطبراني وأبو الشيخ مرفوعا : [ [ إن فقراء المسلمين يزفون كما يزف الحمام فيقال لهم قفوا للحساب فيقولون والله ما تركنا شيئا نحاسب به فيقول الله عز و جل : صدق عبادي فيدخلون الجنة قبل الناس بسبعين عاما ] ]
وروى الإمام أحمد والطبراني ورواة الطبراني رواة الصحيح مرفوعا : [ [ يأتي قوم يوم القيامة نورهم كنور الشمس قال أبو بكر نحن هم يا رسول الله ؟ قال لا ولكم خير كثير ولكنهم الفقراء المهاجرون الذين يحشرون من أقطار الأرض فذكر الحديث إلى أن قال طوبى للغرباء قيل من الغرباء ؟ قال : ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ] ] . وفي رواية للإمام أحمد مرفوعا : [ [ يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بأربعمائة عام حتى يقول المؤمن الغني يا ليتني كنت عيلا ] ] فذكر من صفاتهم أنهم يحجبون عن الأبواب . وفي رواية للترمذي وابن حبان في صحيحه : [ [ يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام
وروى الترمذي وغيره مرفوعا : [ [ اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة فقالت عائشة : لم يا رسول الله ؟ فقال : إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا يا عائشة لا تردي مسكينا ولو بشق تمرة يا عائشة حبي المساكين وقربيهم فإن الله تعالى يقربك يوم القيامة ] ]
وروى الحاكم والبيهقي وغيرهما مرفوعا : [ [ اللهم توفني فقيرا ولا توفني غنيا واحشرني في زمرة المساكين فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة ] ]
وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه و سلم بخصال أربع : أن لا أنظر إلى من هو فوقي وأنظر إلى من هو دوني وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ ألا أخبركم عن ملوك الجنة ؟ قلنا بلى يا رسول الله قال : رجل ضعيف مستضعف ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ] ]
وروى النسائي وابن حبان في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأبي ذر : [ [ ألا ترى كثرة المال هو الغنى قال نعم يا رسول الله قال إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب ] ]
وروى ابن أبي الدنيا وابن حبان في صحيحه : [ [ اللهم من آمن بك وشهد أني رسولك فحبب إليه لقاءك وسهل عليه قضاءك وأقلل له من الدنيا ومن لم يؤمن بك ولا شهد أني رسولك فلا تحبب إليه لقاءك ولا تسهل عليه قضاءك وأكثر عليه من الدنيا ] ] . وفي رواية لابن ماجه مرفوعا : [ [ اللهم من آمن بي وصدقني وعلم أن ما جئت به الحق من عندك فأقلل ماله وولده وحبب إليه لقاءك وعجل له القضاء ومن لم يؤمن بي ولم يصدقني ولم يعلم أن ما جئت به الحق من عندك فأكثر ماله وولده وأطل عمره ] ] . وروى الإمام أحمد بإسنادين أحدهما صحيح مرفوعا : [ [ اثنتان يكرههما ابن آدم الموت والموت خير له من الفتنة ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب ] ] . وروى أبو يعلي والأصبهاني مرفوعا : [ [ من قل ماله وكثرت عياله وحسنت صلاته ولم يغتب المسلمين جاء يوم القيامة وهو معي كهاتين ] ]
وروى الطبراني ورواته محتج بهم في الصحيح : [ [ إن من أمتي من لو جاء إلى أحدكم يسأله دينارا لم يعطه ولو سأله درهما لم يعطه ولو سأله فلسا لم يعطه ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها : ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ] ]
وروى الترمذي مرفوعا : [ [ إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك ثم نقر بيده فقال : عجلت منيته قلت بواكيه قل تراثه ] ] . وفي رواية الحاكم : أغبط الناس عندي والباقي بنحوه
وروى الترمذي وحسنه مرفوعا : [ [ عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت لا يا رب ولكني أجوع يوما وأشبع يوما أو قال ثلاثا أو نحوها فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك ] ] . والحاذ : هو الخفيف الحال قليل المال
وروى ابن ماجه والحاكم : [ [ إن الله تعالى يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الدجى يخرجون من كل غبراء مظلمة ] ] . والأحاديث في هذا الباب كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحب الفقر وقلة ذات اليد وكذلك نحب من كان بهذه الصفة أيضا من الفقراء والمساكين والمستضعفين ونحب مجالستهم عملا بقوله تعالى : { ولا تعد عيناك عنهم } . وذلك لأن رحمة الله تعالى لا تفارقهم فنحبهم ونحب مجالستهم لمحبة الله تعالى لهم وكذلك نحب الفقر لما فيه من كثرة سؤالنا للحق وتوجهنا إليه لعلة أخرى
وإيضاح ذلك أن حاجة العبد تذكره بالله تعالى وعدم حاجته تنسيه الحق قال تعالى : { كلا إن الإنسان ليغطي أن رآه استغنى } وقال { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم } . ومن هنا قال صلى الله عليه و سلم : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا وكفافا . أي لا يفضل عنهم من غدائهم ولا عشائهم شيء وذلك ليصيروا متوجهين إلى الله تعالى كل حين لا ينسونه . فانظر ما أشد شفقته صلى الله عليه و سلم على أهل بيته ويقاس بأهل بيته غيرهم فوالله لو علم الإنسان قدر مقام الفقر لتمناه ليلا ونهارا
وقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ما فزعت نفسي من الفقر قط أي بل تنشرح له إذا أقبل وتنقبض إذا أدبر هذا مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه فما بالكم يا مقلدون له لا تفرحون بما كان يفرح به ولا تنقبضون مما كان ينقبض له ؟ فإن قلتم لا نقدر على إتباعه في ذلك قلنا لكم اطلبوا لكم شيخا يوصلكم إلى أتباعه فإن هذه الدرجة التي ذكرها الإمام هي أول درجات أهل الطريق فمن شدة محبة المريد للطريق أول دخوله لها أنه يصير يكره الدنيا بالطبع وينقبض لدخولها في يده لعلمه بأنه ليس له قدرة على نية صالحه في إمساكها ولا إنفاقها ؟ ؟ ثم إذا من الله تعالى عليه بالكمال في الطريق وصارت الدنيا في يده لا في قلبه يتمنى دخولها في يده وينقبض إذا أدبرت عنه لأن من كمال الداعي إلى الله تعالى من الأمة أن تكون الدنيا فائضة عليه ليطعم منها أتباعه وينفق عليهم منها ومن لم يكن كذلك فدعاؤه إلى الله ناقص ويطرقه الذل في طلب اللقمة والخضوع لمن أتاه بها من أصحابه وغيرهم كما أن من لازمه الغيبة لكل من لم يحسن إليه كما سيأتي في حديث : من كثرت عياله ولم يغتب المسلمين . فأشار إلى أن الغالب على الفقير المحتاج غيبة من لم يعطه ما احتاج إليه فانظر آفة المحتاج
وكذلك القول في الداعي إلى الله تعالى إذا كان فقيرا فإن الغالب على مريديه معه تلفتهم إلى غيره ليطعمهم ويكفيهم مؤونتهم هذا أمر قهري على كل إنسان محتاج فما أمر الأشياخ مريديهم بترك الدنيا إلا لما يحصل لهم من الشغل بها وأيضا فليس لهم اتباع حتى يمسكونها لهم
فانظر ما أكمل نظر أهل الطريق وما ذكرت لك شيئا حتى ذقته في نفسي فإني كنت أكره الدنيا بالطبع فلما خرجت محبتها من قلبي ولله الحمد صرت أود أن لو كان عندي كل يوم ألف إردب ذهبا أنفقتها على خلق الله تعالى فالحمد لله رب العالمين ونرجو من فضل الله تعالى أن يعطينا في الآخرة ثواب من تصدق كل يوم أو ساعة بألف إردب ذهبا : { وما ذلك على الله بعزيز } . فهذا حالي الآن وما أدرى ماذا يقع لي عند الموت فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ثم لا يخفى أن من شرط الفقير أن لا يكون له اختيار مع الله تعالى فقولي إني صرت أود أن لو كان عندي كل يوم ألف إردب ذهبا إنما هو من حيث التكسب وإظهار الفاقة والحاجة بمعنى أننا نرى من كثرة ذنوبنا أننا لو تصدقنا منها كل يوم أو ساعة بالألف الإردب الذهب لا يكفرها فنحن ننقبض لزوال الدنيا من كفنا كما ننقبض لوقوع المعاصي على يدينا سواء . وأما من حيث الرضا عن الله تعالى فيما قسمه فلا نختار غير ما اختاره لنا فإن وسع علينا الدنيا فرحنا وإن ضيقها علينا فرحنا بذلك وعلى ما قررناه من محبة الكمل للدنيا يحمل حال العباس عم النبي صلى الله عليه و سلم لما أمر له النبي صلى الله عليه و سلم بعطاء وصار يحثو في بردته فلما أراد أن يحملها عجز فما بقي يهون عليه أن ينقص منها ولا هو يقدر يحملها فكان قصد العباس رضي الله عنه بأخذه الكثير من الذهب إظهار الفاقة ولتكثر الصدقة والنفقة على يديه لا أنه يأخذها ويمنع نفسه منها من الخير كما هو شأن أبناء الدنيا فافهم فوالله إني لأحب لجميع أصحابي أن لو كان مع كل واحد مثل أحد ذهبا وأكره لهم ضيق اليد بشرطه الشرعي وما منع الله أهل القناعة باليسير من الدنيا إلا فتحا لباب الراحة للعبد وإراحته من تعب المزاحمة على الرزق ومعاداة إخوانه المسلمين لأجلها . وأما من يسأل الله تعالى كل ساعة توسعه الدنيا لينفقها على خلق الله فلا حرج عليه ولا مضايقة له في حق أحد فحكم من يطلب من الله كثرة الدنيا لينفقها حكم من يطلب من الله كثرة الأعمال الصالحة ليدين الله تعالى بها سواء لأن كلاهما عبادة
وكان فيما نسخت تلاوته لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى ثالثا ولو أن له ثالثا لابتغى رابعا ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب . ويجب استثناء جميع الأنبياء والأولياء من محبة ذلك وإن كانوا من بني آدم لعصمتهم أو حفظهم من محبة الدنيا لغير الله تعالى
وقد كان أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول في قوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } أي للآخرة { ومنكم من يريد الآخرة } . أي لله . فاعلم أن الكمل لا يضرهم كثرة الدنيا وما رد صلى الله عليه و سلم جبال الذهب حين عرضها الله عليه إلا تشريعا لأمته خوفا عليهم أن لا يبلغوا مقام العارفين فيها فيهلكوا فكان رده لذلك من باب الاحتياط لأمته خوفا أن يقتدوا به ظاهرا في الأخذ ولا يقدروا يتبعونه في الإنفاق ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه و سلم ما يسرني أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثلاثة أيام وعندي منه درهم واحد إلا درهم أحبسه لدين . فقوله : ما يسرني أي أن يكون عندي مثل أحد ذهبا وأحبسه عن الناس فما تبرأ إلا من حبسه لا من إنفاقه كما هو سياق الحديث
فاعمل يا أخي على خروج حب الدنيا من قلبك بالكلية حتى تصير تنقبض لدخولها عليك ثم اعمل على محبتها للإنفاق في سبيل الله حتى لا تصير تقنع بجميع ما في الدنيا أن لو دخل في يديك ثم أنفقته لأن غايتك أنك أنفقت دون جناح الناموسة وأنا أعطيك ميزانا في حق الأمة لا في حق الأنبياء تميز به بين المحمود والمذموم وهو أن الله تعالى إذا مدح عبدا من عبيده فإنما ذلك لفتور همة العبد عن امتثال أمر سيده مجانا ولو أنه علم من قلبه عدم العلة من حيث الثواب وغيره لما مدحه بل كان يأمره فقط أن يفعل ذلك الشيء على قاعدة العبيد مع ساداتهم . فابحث على ما قلته من طلب ثواب أو غيره تعثر عليه وتأمل لولا أنه تعالى مدح المؤثرين على أنفسهم لما آثروا على أنفسهم أحدا لأن كل إنسان يقدم أغراض نفسه على غرض غيره من أصل الجبلة فإذا خرجوا عن شح الطبيعة أطلعهم على ظلمهم لأنفسهم الذي نهاهم عنه وأمرهم بالبداءة بها على قاعدة حديث : الأقربون أولى بالمعروف ولا أقرب إلى الإنسان من نفسه وعليه يحمل قوله صلى الله عليه و سلم : أبدأ بنفسك ثم بمن تعول ليخرجه عن الظلم لنفسه فافهم فلا تجد قط آيتين أو حديثين صحيحين غير منسوخ أحدهما وهما متناقضان أبدا وإنما هما محمولان على حالين ولا يعرف ذلك إلا من سلك الطريق وأما من لم يسلك فمن لازمه القول بالتناقض ويصير يتمحل الأجوبة من غير ذوق فتارة يخطئ وتارة يصيب فتأمل جميع ما قررناه تعرف أن الدنيا ما ذمت إلا في حق من لم يكتسب بها خيرا . { والله عليم حكيم } (1/226)
- روى ابن ماجه مرفوعا : بإسناد حسنه بعضهم قال الترمذي وفيه بعد : أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله تعالى وأحبني الناس ؟ فقال ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس . قال الحافظ وليس في رواية من ترك لكن على هذا الحديث لامعة من أنوار النبوة ولا يمنع كون راويه ضعيفا أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قاله . قلت : وهذا الحديث من الأربعة أحاديث التي عليها مدار الإسلام وقد نظمها بعضهم بقوله :
عمدة الدين عندنا كلمات ... أربع من كلام خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما ... ليس يعنيك واعملن بنيه
والله أعلم
وروى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن أدهم معضلا : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس عليه فقال : [ [ أما العمل الذي يحبك الله عليه فالزهد في الدنيا وأما العمل الذي يحبك الناس عليه فانبذ إليهم ما في يدك من الحطام ] ]
وروى الطبراني بإسناد مقارب مرفوعا : [ [ الزهد في الدنيا يريح القلب والجسد ] ]
وروى ابن أبي الدنيا مرسلا قال رجل : يا رسول الله من أزهد الناس ؟ قال : [ [ من لم ينس القبر والبلى وترك فضل زينة الدنيا وآثر ما يبقى على ما يفنى ولم يعد غدا من أيامه وعد نفسه من الموتى ] ]
وروى الطبراني والأصفهاني مرفوعا : [ [ إن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة و السلام : يا موسى إنه لن يتصنع المتصنعون إلى بمثل الزهد في الدنيا ولم يتقرب المتقربون إلى بمثل الورع عما حرمت عليهم فقال موسى : يا رب وماذا أعددت لهم وماذا جزيتهم ؟ فقال تعالى : أما الزهاد في الدنيا فإني أبحت لهم جنتي يتبوؤون منها حيث شاءوا . وأما الورعون عما حرمت عليهم فإنه إذا كان يوم القيامة لم يبق أحد إلا ناقشته وفتشته إلا الورعين فإني أستحييهم وأجلهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب ] ]
وروى أبو يعلي مرفوعا : [ [ ما تزين الأبرار في الدنيا بمثل الزهد في الدنيا ] ] . وفي رواية له مرفوعا : [ [ إذا رأيتم من يزهد في الدنيا فادنوا منه فإنه يلقى الحكمة ] ]
وروى الطبراني وإسناده يحتمل التحسين مرفوعا : [ [ صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين وهلاك آخرها بالبخل والأمل ] ]
وروى البزار مرفوعا : [ [ ينادي مناد دعوا الدنيا لأهلها دعوا الدنيا لأهلها دعوا الدنيا لأهلها من أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر ] ] . والحتف : الموت
وروى أبو عوانة في صحيحه وابن حبان والبيهقي مرفوعا : [ [ خير الرزق أو قال العيش ما يكفي ] ] الشك في الراوي
وروى مسلم والنسائي مرفوعا : [ [ إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ] ]
وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بارك الله له فيها ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة ] ] . وفي رواية للطبراني : [ [ ورب متخوض فيما اشتهت نفسه ليس له يوم القيامة إلا النار ] ] . وفي رواية له مرفوعا : [ [ من قضى نهمته في الدنيا حيل بينه وبين شهوته في الآخرة ومن مد عينيه إلى زينة المترفين في الدنيا كان مهينا في ملكوت السماوات ومن صبر على القوت الشديد صبرا جميلا أسكنه الله من الفردوس حيث شاء ] ]
وروى ابن أبي الدنيا بإسناد حسن موقوفا على ابن عمر وروى عن عائشة مرفوعا والوقف أصح : [ [ لا يصيب عبد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عليه كريما ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : عن ثوبان قال : قلت يا رسول الله ما يكفيني من الدنيا ؟ قال : [ [ ما سد جوعتك ووارى عورتك وإن كان لك بيت يظلك فذاك وإن كان لك دابة فبخ ] ]
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات في حديث : أكل رسول الله هو وأصحابه البسر والرطب وشرب الماء البارد وقال : لتسألن عن هذا يوم القيامة فقال عمر : وإنا لمسؤولون عن هذا يا رسول الله ؟ قال نعم إلا من ثلاث : خرقة كف بها عورته وكسرة سد بها جوعته أو جحر فيدخل فيه من الحر والقر . وفي رواية للترمذي والحاكم وصححاه والبيهقي مرفوعا : [ [ ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء ] ] . قال : وجلف الخبز هو غليظه وخشنه وقيل هو الخبز ليس معه إدام قاله النضر ابن شميل
وروى البزار ورواته ثقات إلا واحدا مرفوعا : [ [ ما فوق الإزار وظل الحائط وحب الماء فضل يحاسب به العبد يوم القيامة أو يسأل عنه
وروى الترمذي والحاكم والبيهقي : عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلفي ثوبا حتى ترقعيه . زاد العبدري : فما كانت عائشة تستجد ثوبا حتى ترقع ثوبها وتنكسه
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد عن سلمان قال عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ ليكن بلغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب ] ]
وروى ابن ماجه بإسناد حسن : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استمنح رجلا ناقة فرده ثم استمنح آخر فأعطاه فقال النبي صلى الله عليه و سلم اللهم أكثر مال فلان للمانح الأول واجعل رزق فلان يوما بيوم للذي بعث بالناقة
وروى ابن ماجه والترمذي وقال حديث صحيح مرفوعا : [ [ لو كانت الدنيا تعدل جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ] ]
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات عن الضحاك بن سفيان : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : [ [ يا ضحاك ما طعامك ؟ قال اللحم واللبن قال : وإلى ماذا يصير ؟ قال : إلى ما قد علمت يا رسول الله قال : فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا ] ] . زاد في رواية : وإن قرحه وملحه . أي نثر عليه الفلفل يقال قرحت القدر إذا وضعت فيه الأبزار وملحه معروف
وروى الإمام أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي مرفوعا : [ [ من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى ] ]
وروى الحاكم مرفوعا وقال صحيح الإسناد : [ [ حلوة الدنيا مرة الآخرة ومرة الدنيا حلوة الآخرة ] ]
وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ من أشرب حب الدنيا التاط منها بثلاث : شقاء لا ينفذ عناه وحرص لا يبلغ غناه وأمل لا يبلغ منتهاه ] ]
وروى البيهقي مرفوعا : [ [ هل من أحد يمشي على الماء إلا ابتلت قدماه ؟ قالوا لا يا رسول الله قال : كذلك صاحب الدنيا لا يسلم من الذنوب ] ]
وروى الإمام أحمد والبيهقي مرفوعا وإسنادهما جيد : [ [ الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له ] ] . وزاد البيهقي : ومال من لا مال له . والأحاديث في ذلك كثيرة . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نزهد في الدنيا بقلوبنا ونرضى منها بالقليل اقتداء بجمهور الأنبياء والأولياء ونرغب جميع إخواننا في ذلك وسيأتي في عهد الصبر على البلاء حديث الترمذي مرفوعا : [ [ ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا هو أن لا تكون بما في يدك أوثق مما في يد الله تعالى وأن تكون في ثواب المصيبة إذ أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك ] ] . وخرج بقولنا بالقلب الزهد فيها باليد مع تعلق القلب بها فليس ذلك هو الزهد المشروع
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ عظيم ما فوقه شيخ في عصره يسلك به حتى يخرجه من ظلمة حب الدنيا إلى نور حب الآخرة ويريها له كأنها رأى عين وهناك يزهد في الدنيا وجميع شهواتها المكروهة حين يرى حجابها له عن ربه مع فنائها وانقطاعها وعدم نظر ربه لها كما ورد : إن الله تعالى منذ خلق الدنيا لم ينظر إليها هوانا بها
وقد ذكرنا في العهود السابقة أن حقيقة الزهد في الدنيا إنما هو زوال محبة المال والطعام والمنام والكلام فلا يزال السالك يتبع أستاذه وهو يخلصه من شبائك الأوهام شيئا فشيئا إلى أن يخلصه من الدنيا بأسرها ثم يرجع به رجوعا ثانيا ويقول له أمسك جميع ما كنت أنهاك عنه في الذهاب وانو له نية صالحة واستعمل كل شيء فيما خلق له على الوجه المشروع على أن الزاهدين والمتورعين كلهم لا يصح لهم الزهد ولا التورع عما قسمه الحق لهم أبدا وإنما حقيقة الزهد والتورع زوال تعلق القلب بما لم يقسم لا غير
فاعلم أن المريد متى رأى شفوق نفسه على من لم يزهد ولم يتورع فهو في عالم الطبيعة وورعه وزهده لا حقيقة له وهذا ورع أكثر الناس اليوم كأنه يظن بنفسه أنه كان قادرا أن يأكل ما قدر عليه من الحرام ومنع نفسه منه وغاب عنه أن كل شيء تركه تبين أنه لم يقسم له فكيف يرى بذلك نفسه ؟ فالورع الحقيقي إنما هو حماية الله تعالى للعبد فلا يقسم له الأكل من شيء للشرع عليه اعتراض فيستخرج له الحلال كما يستخرج له اللبن من بين فرث ودم . وقد درج العلماء العاملون كلهم على عدم أخذهم من الدنيا فوق زاد الراكب
وقد بلغنا أن الشيخ عز الدين بن عبدالسلام لما غضب من سلطان مصر حمل أمتعة بيته على حمارته وأركب زوجته فوقها وخرج من مصر فانظر يا أخي شيخ الإسلام واعتبر به رضي الله عنه والله يتولى هداك
ثم يتعين على كل من ادعى المشيخة في الطريق أن يتظاهر برمي الدنيا وترك مطاعمها اللذيذة وملابسها النفيسة وفرشها الرفيعة ومراكبها المسومة وذلك لئلا يتبعه المقتدون فيهلكون فإنهم لا يتعلقون مشهده بتقدير صدقه وربما كذبوه في دعواه حين يرون أفعاله تخالف أقواله فيحجبهم شاهد الفعل عن شاهد القول
وكذلك يتعين على الشيخ أن يكون أكثر من المريدين سهرا لليل وأكثر جوعا وأقل لغوا وأكثرهم صدقة وذلك ليكون إماما يقتدون به في الأفعال وأما إذا كان أكثرهم نوما وأكثرهم أكلا حتى صار بطنه كبطن الدب أو أكثرهم لغوا أو أقلهم صدقة وخيرا فإنهم يرون نفوسهم عليه ضرورة فلا يثبت له قدم في الإمامة وتطرده المرتبة عنها ودعواه المشيخة زور وبهتان لا برهان عليه
وقد دخلت امرأة على سيدي الشيخ عبدالقادر الجبلي فرأته في ملابس ومآكل وفرش ودخلت على ولدها عنده فوجدته على برش وعنده كسرة يابسة وملح فرجعت إلى الشيخ وقالت يا سيدي لا يطيب خاطري بإقامة ولدي عندك إلا إن أطعمته مما تأكل وكان بين يديه دجاجة فقال إذا صار ولدك يحيي الموتى بإذن الله أطعمته من طعامي ثم أمر الدجاجة فانتفضت من الإناء وصارت حية ثم ذهبت إلى حال سبيلها فلولا أن الشيخ أقام البرهان على طعامه اللذيذ لفارقته تلك المرأة وهي منكرة عليه
وكذلك يتعين على الشيخ أن يوطن نفسه على تحمل أذى من يأمره من إخوانه بأنه يترك الدنيا وهو لم يشرف على الدار الآخرة بقلبه فإنه كالكلب العاكف على الجيفة كل من منعه من الأكل منها يكشر أسنانه ويهبهب عليه وربما عضه حتى يرجع عنه فليكن أمر الشيخ إخوانه بترك الدنيا بسياسة ورفق ورحمة وتقديم مقدمات وذكر ما كان السلف الصالح عليه ثم يقول يرحم الله من اقتدى بهم . وليحذر من التكدر منهم بالباطن إذا عصوا أمره وليس عليه إلا أن يظهر لهم عدم الرضا بكثرة رغبتهم في الدنيا لا غير كما يظهر الوالد غضبه لولده إذا خالفه ويعبس في وجهه وقلبه راحم له مشفق عليه وربما ضربه بالعصا وربما نخست الأم ولدها بالإبرة في يده حتى أخرجت دمه ومع ذلك فيقضي العقل بأن ذلك كله ليس ببغض لولدها وإنما هو لوفور شفقة والدته عليه فليوطن الداعي إلى طريق الله عز و جل نفسه على سماع كل مكروه ممن يدعوهم لأنهم عمى عما يدعوهم إليه ثم إذا انجلى حجابهم فسوف يشكرون الداعي لهم إلى الخير وإن لم ينجل حجابهم فقد وفى الداعي بما عليه من النصح والجهاد فيهم
ثم لا يخفى أنه لا بد أن ينقسم جماعة كل داع إلى الله تعالى كما انقسم من دعاهم النبي صلى الله عليه و سلم إلى دين الإسلام إذ هو الشيخ الحقيقي لجميع الأمة كما مر بيانه أول خطبة الكتاب وجميع الدعاة نوابه صلى الله عليه و سلم فلا بد يقع لهم مع أصحابهم كما وقع له صلى الله عليه و سلم مع قومه فمنهم من يقول : سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومنهم من يقول : سمعنا وعصينا ومنهم من يقول : سمعنا وأطعنا نفاقا
ومنهم من يقول إنما يريد هذا الشيخ بدعائنا إلى الله الفضل والرياسة علينا عند الناس ومنهم من يقول إنما يريد بذلك نصحنا ونجاتنا من النار ومنهم من لا يتحول عن محبة شيخه في شدة ولا رخاء ومنهم من هو معه على الرخاء فإذا جاءت الشدة تحول عن شيخه ومنهم من لا يبرح من حول شيخه ولو أغلظ عليه القول ومنهم من إذا أغلظ عليه الشيخ القول هرب منه كما أشار إليه قوله تعالى : { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك }
ومنهم من يريد الدنيا وزينتها وهو غافل عن الآخرة ومنهم من يريد الدنيا للآخرة كعبدالرحمن بن عوف ومنهم من لا يريد الدنيا كأهل الصفة ومنهم من يقول لشيخه قد أكثرت جدالنا وتنقيصنا بين الناس كما قال قوم نوح : { يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } . ؟ ؟ فلا يؤمنون لنصحه حتى يروا العذاب الأليم ومنهم من يقول لشيخه بلسان المقال أو الحال لن نؤمن لك إلا إن أريتنا كرامة كما قالت قريش : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } . إلى آخر النسق وكما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }
( يتبع . . . ) (1/227)
( تابع . . . 1 ) : - روى ابن ماجه مرفوعا : بإسناد حسنه بعضهم قال الترمذي وفيه بعد : أن
ثم طائفة لا يؤمنون بقول شيخهم لهم إن فعلتم كذا وقع لكم من العقوبة كذا إلا إن وقع ومنهم من يفدي شيخه بنفسه في المهالك كما فعل سعد بن أبي وقاص ومنهم من لا يقدر على ذلك ومنهم من إذا ذكرت عيال شيخه بسوء يكاد يتميز غيظا كما وقع لأكابر الصحابة في قصة عائشة ومنهم من لا يتميز بل خاض مع الخائضين ومنهم من يمتثل أمر شيخه في السفر في مصالح العباد مثل ما كان أكابر الصحابة يفعلون ومنهم من يكره ذلك ويؤثر الدعة والراحة كما وقع لمن تخلف عن غزوة تبوك ومنهم من يحب شيخه أكثر من أهله وماله وولده ومنهم من يؤثر ماله وولده وأهله في المحبة على شيخه فلو قال له أخرج لفلان عن دينار وإلا هجرتك ومنعتك من مجالستي لاختار عدم دفع الدينار على القرب من شيخه ومنهم من يخاف على تغير خاطر شيخه ويعتقد أن الحق تعالى يغضب لغضبه ومنهم من يؤذي شيخه وولده وأصحابه وعياله ولا عليه من تغيير خاطره ومنهم من يمتثل أمر شيخه فيما إذا قال له أعط أخاك نصف مالك وقاسمه كما وقع للمهاجرين مع الأنصار ومنهم من لا يمتثل ولا يسمح لأخيه بدرهم ومنهم من يمتثل أمر شيخه إذا أمره بأن يؤثر أخاه على نفسه في وظيفة أو بيت أو خلوة أو مال ومنهم من لا يمتثل ذلك ومنهم من يجل مقام شيخه عن أن يتزوج له مطلقة في حياته أو بعد حياته ومنهم من يتزوج مطلقة شيخه في حياته ولولا قول الله تعالى : { ولا تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } . لربما كان وقع في ذلك بعض الناس
ومنهم من إذا وجد كيمان الذهب لا يأخذ منه إلا قوت يومه فقط ومنهم من لا يقنعه إلا أن ينقله كله ومنهم من قصده بجمع الدنيا الطمع وشره النفس ومنهم من قصده بذلك إظهار الفاقة كما وقع لأيوب عليه الصلاة و السلام لما أمطرت عليه السماء الذهب وصار يحثو في ثوبه ويقول لا غنى لي عن بركة ربي ومنهم من يرى الدنيا بعين الاحتقار فكيمان الذهب عنده كالبعرة ومنهم من يراها بعين التعظيم تبعا لمراد الحق تعالى في تمييزها في قلوب عباده على التراب ومنهم من إذا قيل له واظب على صلاة الجماعة في المسجد يتعلل بالنوم ولو أنه علم أن هناك تفرقة ذهب لأتى المسجد ولم يتعلل بذلك كما وقع لبعض الأنصار حين جاء أبو عبيدة بمال من البحرين وحضر من لم يكن عادته الحضور في صلاة الصبح ولما تخلف جماعة عن صلاة العشاء قال النبي صلى الله عليه و سلم : لو أن أحدهم علم أن في المسجد عرقا سمينا لحضر
ومنهم من يحضر لصلاة الجمعة قبل الناس كأصحاب الصفة ومنهم من لا يأتي إلا والخطيب فوق المنبر أو في الركعة الأولى أو الثانية أو لا يأتي حتى تفوته الجمعة ومنهم من يحضر المسجد قبل الناس فيلغو ويلعب ومنهم من يحضر في خشوع وعبادة حتى ينصرف ومنهم من يستأذن شيخه في كل فعل من سفر أو تزويج أو بناء دار أو زرع أو نحو ذلك ومنهم من لا يستأذنه في ذلك إما حياء منه أو استهانة به وقد رأى صلى الله عليه و سلم أثر صفرة على عبدالرحمن بن عوف فقال : مهيم ؟ فقال : تزوجت . الحديث وكان ذلك من عبدالرحمن حياء من رسول الله صلى الله عليه و سلم لا استهانة بلا شك ومنهم من كان يتكرم على جميع أصحابه بكل ما دخل في يده ولا يبقى لنفسه شيئا كمعاذ بن جبل وأبي الدرداء وغيرهما كان يقول بتحريم الادخار ومنهم من كان يتكرم بالبعض ويمسك البعض ومنهم من لا يطعم أحدا شيئا بل يشح على نفسه أن يطعمها ومنهم من كان يسمح لصاحبه بجميع ماله كأبي بكر رضي الله عنه ومنهم من كان يسمح لصاحبه بنصف ماله كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ومنهم من كان النبي صلى الله عليه و سلم يداريه كمخرمة ومنهم من كان الناس منه في أمان كعثمان بن عفان رضي الله عنه وأبي سعيد الخدري ومنهم من كان ينفق ولا يخشى من الله إقلالا كبلال ومنهم من كان يخرج ماله تكلفا ككعب بن مالك فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك
ومنهم من كان يرضى بقضاء النبي صلى الله عليه و سلم ولا يختار خلاف ما اختاره له كالعشرة المشهود لهم بالجنة ومنهم من لا يرضى بقضائه ويختار خلاف ما اختار النبي صلى الله عليه و سلم كما في قصة أسامة بن زيد حين نقم على ولايته بعض الناس وكما في قول بعضهم هذه قسمة ما أريد بها وجه الله وقول بعضهم إن كان ابن عمتك في حديث : اسق يا زبير
ومنهم من كان يغضب إذا فرق النبي صلى الله عليه و سلم مالا ونسيه كمخرمة ومنهم من لا يغضب والنبي منه في أمان ولذلك كان النبي صلى الله عليه و سلم يداري من نسيه في العطاء بقوله : [ [ إن الدنيا حلوة خضرة وإني لأعطي الرجل أتألفه والذي أمنع أحب إلى من الذي أعطي ] ]
ومنهم من كان يهاب النبي صلى الله عليه و سلم إذا رآه ويصير يرعد من هيبته فيقول له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ هون عليك يا أخي فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ] ]
ومنهم من لا يهابه ولا يرعد ومنهم من كان مطهرا من جميع المعاصي كالعشرة المشهود لهم بالجنة ومنهم من كان يقع في الكبائر كماعز ونعيمان فكان نعيمان كل قليل يأتون به النبي صلى الله عليه و سلم وهو سكران فيحده وكان نعيمان مضحاكا كان يضحك النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه . ومن جملة ما وقع لنعيمان أنه رأى رجلا أعمى يقول من يقودني إلى البزار فأخذه نعيمان وأجلسه في محراب المسجد فشمر ثيابه للجلوس فصاح الناس به إنك في المسجد فقال الأعمى لئن وجدت نعيمان لأضربنه بعصاي فسمع نعيمان فجاء إليه وقال هل لك فيمن يدلك على نعيمان فقاده إلى عثمان بن عفان وهو ساجد فقال هذا هو فصار الأعمى يضرب عثمان رضي الله عنه فصاح الناس بالأعمى إنك تضرب أمير المؤمنين وله وقائع كثيرة رضي الله عنه
ومنهم من كان يؤذي أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يكرمهم لأجله صلى الله عليه و سلم كما وقع لأبي بكر حتى خطب النبي صلى الله عليه و سلم وقال هل أنتم تاركوا لي صاحبي . وحتى أحوجوا النبي صلى الله عليه و سلم إلى بيان مرتبته بقوله : سدوا عني كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر
ومنهم من كل يتحمل الأذى من جميع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ولا يكرههم لأجله إكراما لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولو فعلوا معه من الأذى ما فعلوا ومنهم من كان يؤذي جاره كما يدل عليه قصة من شكا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن جاره كان يؤذيه وقال له النبي صلى الله عليه و سلم : اطرح متاعك على الطريق وكل من مر عليك وقال ما هذا ؟ فقل له جاري يؤذيني
ومنهم من كان يجالس النبي صلى الله عليه و سلم لأجل العلم والأدب بشرط أن يملأ له صلى الله عليه و سلم بطنه كأبي هريرة وذلك لئلا يصير له تلفت إلى غيره صلى الله عليه و سلم وينقطع خاطر مفارقته لأجل الجوع ومنهم من كان يجالس النبي صلى الله عليه و سلم لأجل العلم والأدب ولا يشرك معه علة من العلل ومنهم من كان يشح بإخراج الزكاة كثعلبة ومنهم من كان يسمح بأطايب أمواله للفقراء ومنهم من كان كثير المال كعبدالرحمن بن عوف ومنهم من كان لا يملك عشاء ليلة كما في قصة من وقع على زوجته في رمضان ومنهم من كان يعجب بملبسه كالذي خسف به في زقاق أبي لهب بمكة ومنهم من كان لا يعجب بشيء من ملبسه ولا غيره كأبي بكر رضي الله عنه وغيره ومنهم من كان يظهر الغنى وليس في بيته شيء يأكله ومنهم من يكون عنده الدنيا وهو يظهر الفقر ويأخذ من الزكوات والصدقات كالذي وجدوا في حجزة إزاره بعد موته ثلاثة دنانير أو دينارين فقال النبي صلى الله عليه و سلم : كيات أو كيتان من نار
ومن النساء من كانت تحب النبي صلى الله عليه و سلم وترى الفضل له إذا خطبها لتكون معدودة من أزواجه في الجنة ومنهن من كانت تكره ذلك وتستعيذ بالله منه كابنة الجون ومنهن من كانت تستحي من رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا جالسته وتصير ترتعد من هيبته ومنهن من كانت لا تهابه ولا تستحي منه كهند فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما بايع النساء وقال : ولا تقتلن أولادكن . فقالت له هند نحن ربيناهم صغارا فقتلتهم أنت كبارا فسكت صلى الله عليه و سلم ولم يتم المبايعة ومنهن من تقلقلت لما رأت معيشة النبي صلى الله عليه و سلم ضاقت وطلبت الفراق ومنهن من اختارت المقام معه صلى الله عليه و سلم والصبر على ذلك كعائشة رضي الله عنها
ومنهن من كانت كثيرة الغيرة كعائشة حتى أنها رأت سودة وهي ذاهبة بإناء فيه طعام إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقامت لها وكسرت الإناء وساح الطعام على الأرض فقام النبي صلى الله عليه و سلم وضم الطعام من الأرض في الإناء وقال : غارت أمكم
ومن خدامه من كانت لا تجيبه إذا ناداها فيقول : والذي نفسي بيده لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك
ومنهن من كانت تعتني بكل شيء سمعته من النبي صلى الله عليه و سلم كعائشة رضي الله عنها وبريرة ومنهن من لم ترو عنه ولا حديثا
هذا ما حضرني الآن من الشواهد التي تشهد لانقسام أصحاب كل داع إلى الله تعالى كما انقسم من دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن طلب زيادة على ذلك فليتتبع أحوال الأمم السابقة مع أنبيائها فإن تلك الأقسام لم تزل في أصحاب جميع الدعاة إلى الله تعالى
واعلم من جميع ما قررناه أن من طلب من المشايخ أن يكون جميع أصحابه مستقيمين متجردين عن الدنيا ومتأدبين معه لا اعتراض لهم عليه ولا اختيار لهم معه أو يشاورنه على جميع أمورهم كما شرط القوم ذلك في حق المريدين الصادقين فهو أعمى البصيرة وإنما وظيفة جميع الدعاة إلى الله تعالى أن يبلغوا الآداب الشرعية إلى قومهم لا غير فهم مأجورون على كل حال سواء امتثل الخلق أمرهم أو لم يمتثلوا وقد أرسل النبي صلى الله عليه و سلم إلى الناس كافة فأقر كل من كانت له حرفة عل حرفته ولم يأمر أحدا منهم بالخروج عما أقامه الله فيه من الحرف بل سلكهم وأرشدهم وهم في حرفهم
فوطن يا أخي نفسك أن يقع من أصحابك جميع ما تقدم في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأدب معه ومن ضده في حقه وحق أصحابه وذلك إما ليستن بهم من بعدهم وهو اللائق بمقامهم وإما أن يكون ما وقع من سوء الأدب في بعض الأوقات بيانا لعدم العصمة ثم يتوبون على الفور فكيف يطلب مشايخ النصف الثاني من القرن العاشر من تلامذتهم أن يكونوا معهم على الأدب في جميع أحوالهم هذا شيء كالمحال فإن شيئا لم يصح لرسول الله صلى الله عليه و سلم من أصحابه كيف يصح لأحد بعدهم ؟ مع أنهم خير القرون ومع شهودهم علو مقامه صلى الله عليه و سلم وما كان عليه من الزهد والعبادة وكثرة المعجزات ومع كونه أرحم بالمؤمنين من أنفسهم فلا تطلب يا سيدي الشيخ من تلامذة القرن العاشر أن يكونوا في الأدب فوق أدب الصحابة هذا مما لا يكون . { والله غفور رحيم }
ثم لا يخفى عليك يا أخي أن الزهد في الدنيا لا يكون إلا فيما هو حلال خالص . وأما ترك ما فيه شبهة فلا يسمى زهدا وإنما هو تورع فعلى هذا لا تجد الآن زاهدا إلا أن يكون في علم الله لا نعلمه نحن لأن غالب ما بأيدي الخلائق الآن من الأموال للشرع عليه اعتراض وما بقي إلا أن يأكل الإنسان أكل المضطر ويلبس لبس المضطر وكل من رخص لنفسه هنا فربما شدد الله عليه الحساب يوم القيامة وبالعكس وقد صار في أفواه غالب الناس هات حرام وبس وهذا لا ينبغي لمؤمن أن يتلفظ به لأنه كالاستهزاء بمناقشة الحق تعالى له يوم القيامة
وكذلك لا يخفى عليك يا أخي أن من الشبهات ما يأخذه شيخ الزاوية باسم الفقراء ويختلس منه شيئا لنفسه فهو ولو كان حلالا من أصله فقد صار شبهة من حيث النصب
وقد أخبرني من أثق به أن شيخا له سبحة وسجادة أعطاه الباشات ألف نصف على اسم الفقراء المقيمين بزاويته فلم يعط فقيرا منها نصفا وقال هذه شبهات وقد انشرح صدري أن أحمل عنكم حسابها فاشترى له بها صوفا وتزوج بالباقي فنفرت منه فقراء الزاوية ولم يبق لهم فيه عقيدة
فإياك يا أخي أن تفعل مثل ذلك إذا عملت شيخا وفي قصة سلمان الفارسي أنه لما قرب ظهور رسالة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم صار سلمان يسيح في البلاد لعله يعثر عليه فدل على راهب فذهب إليه فوجده صائم الدهر لا يأكل شيئا من الشهوات فخدمه حتى مات فرأوا وراءه ثلاثة فما قام فيها نحو نصف إردب فضة فرجمه الرهبان ولم يصلوا عليه فسأل عمن يدله على الله تعالى فدل على راهب آخر على قدم عظيم في الزهد والعبادة فخدمه فلما مات وجدوا وراءه مالا جزيلا فرجمه الرهبان ولم يصلوا عليه فدل على ثالث فذهب إليه فوقع له مثل الأولين فرجموه ولم يصلوا عليه فدل على النبي صلى الله عليه و سلم إلى أن كان ما كان . وقد بلغنا أن عيسى عليه الصلاة و السلام كان يزهد جميع أصحابه في الدنيا ثم يقول : من بنى منكم دارا فكأنما بنى على موج البحر . قال الشيخ عبدالقادر الجبلي : وما أحسن تمثيله الدنيا بموج البحر ثم ينشد :
أتبني بناء الخالدين وإنما ... مقامك فيها لو عقلت قليل
لقد كان في ظل الأراك كفاية ... لمن كل يوم يقتضيه رحيل
ألا إن قطاع الفيافي إلى الحمى ... كثير وأما الواصلون قليل
يعني فكما أن البناء لا يثبت على الموج فهكذا لا يثبت في الدنيا لأنها زائلة متحركة كتحرك الموج على الماء . وفي باب الطهارة من الفتوحات المكية ما نصه : أجمع أهل كل ملة ونحلة على أن الزهد في الدنيا مطلوب وكذلك إخراج ما مع الإنسان منها مطلوب وقالوا إن فراغ اليد من الدنيا أحب لكل عاقل خوفا على النفس من الفتنة التي حذرنا الله منها بقوله : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } . ومن قواعد الرهبان أن لا يدخرون قوتا لغد ولا يمسكوا فضة ولا ذهبا . ورأيت شخصا قال لراهب انظر لي هذا الدينار هو من ضرب أي الملوك ؟ فلم يرض وقال النظر إلى الدنيا منهي عنه عندنا . ورأيت الرهبان مرة وهم يسحبون شخصا ويخرجونه من الكنيسة ويقولون له أتلفت علينا الرهبان فسألت عن ذلك فقالوا رأوا على عمامته نصفا مربوطا فقلت لهم ربط الدنيا عندكم مذموم ؟ فقالوا وعند نبيكم . فإذا كان هذا حال الرهبان ففقراء المسلمين المقيمون في الزوايا أولى بتركهم الدنيا . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/228)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فذكر منهم : ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذبه الله يوم القيامة ] ]
وروى الإمام أحمد والنسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ حرمت النار على عين بكت من خشية الله ] ]
وروى الترمذي وقال حسن صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ لا يدخل النار رجل يبكي من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع ] ] . وزاد في رواية البيهقي [ [ ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ] ]
وروى الأصبهاني مرفوعا : [ [ كل عين باكية يوم القيامة إلا عين خرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله عز و جل ] ]
وروى الأصبهاني وابن ماجه والبيهقي مرفوعا : [ [ ما من مؤمن يخرج من عينيه دموع وإن كان مثل رأس الذباب خشية الله ثم يصيب شيئا من حر وجهه إلا حرمه الله على النار ] ]
وروى البيهقي مرسلا : [ [ ما اغرورقت عين بمائها إلا حرم الله سائر ذلك الجسد على النار ولا سالت قطرة على خدها فيرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلة ولو أن باكيا بكى في أمة من الأمم لرحموا وما من شيء إلا له مقدار وميزان إلا الدمعة فإنه يطفأ بها بحار من النار ] ]
وروى الحاكم مرفوعا وقال صحيح الإسناد عن ابن مليكة قال : [ [ جلسنا إلى عبدالله ابن عمر في الحجر فقال ابكوا فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا لو تعلمون العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره ولبكي حتى ينقطع صوته ] ]
وروى أبو داود واللفظ له النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن مطرف عن أبيه عبدالله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلى ولصدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء . أي صوت كصوت الرحى يقال أزت الرحى إذا صوتت
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال : [ [ ما كان فينا فارس يوم بدر إلا المقداد ولقد رأينا وما فينا قائم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح ] ] . وفي حديث الطبراني وغيره : [ [ إن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة و السلام : لم يتعبدني المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي ] ]
وروى الترمذي وابن الدنيا والبيهقي عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله ما النجاة ؟ قال [ [ أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك ] ]
وروى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب الناس فبكى رجل بين يديه فقال صلى الله عليه و سلم : [ [ لو شهدكم اليوم كل مؤمن عليه من الذنوب كأمثال الجبال الرواسي لغفر لهم ببكاء هذا الرجل وذلك أن الملائكة تبكى وتدعو له وتقول اللهم شفع البكائين فيمن لم يبك ] ]
وروى البيهقي والأصبهاني مرفوعا : يقول الله عز و جل : [ [ وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي لا تبكي عين عبد في الدنيا من مخافتي إلا أن أكثرت ضحكها في الجنة ] ]
وروى أبو الشيخ والبيهقي مرفوعا : [ [ إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها ] ] . وفي رواية لهما مرفوعا : [ [ إذا اقشعر جلد المؤمن من خشية الله عز و جل وقعت عنه ذنوبه وبقيت له حسناته ] ] . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نجوع ولا نشبع كل الشبع من الطعام في دار الدنيا وذلك لأن الله تعالى مدح البكائين من خشية الله ولا يبكي خالصا إلا من كان جائعا وأما الشبعان فمن لازمه التفعل في البكاء والتفعل لا يقبله الله تعالى وما لا يتوصل إلى المقصود إلا به فهو مقصود
فجع يا أخي لتبكي وتدخل حضرة ربك في صلاتك وغيرها مع الخائفين من سطواته ولا تشبع تطرد إلى حضرة البهائم والشياطين
وهذا العهد قل من يعمل به الآن من غالب الناس بل ربما أكل أحدهم الشهوات وشبع من الحرام بل رأيت جماعة انهمكوا في أكل الشبهات حتى قست قلوبهم فلا تكاد تجد أحدا منهم يبكى عند سماع موعظة وباعوا دخول حضرة ربهم بشهوة البطن
واعلم يا أخي أن البكائين من خشية الله عز و جل قد قلوا من الدنيا وآخر من رأيته من البكائين عند سماع القرآن والمواعظ سيدي الشيخ علي البحيري تلميذ سيدي علي البتيتي [ النبتيتي ؟ ؟ ] وتلميذ الشيخ شهاب الدين بن الأقيطع رحمهما الله كان إذا سمع آية عذاب في حق الكفار بكى حتى يبل لحيته وتصير عيناه تهملان من الدموع وكذلك كان شيخه سيدي علي وشيخنا الشيخ زكريا فكانا يبكيان حتى كأن النار لم تخلق إلا لهما وبعدهم قل البكاء والخضوع حتى لا تكاد تجد إلا من هو قاسي القلب وربما لامه بعض الناس على ترك البكاء فيقول : البكاء إنما هو للمريدين ونحن بحمد الله قد قوينا على ترك البكاء وأفعال أحدهم تكذبه فإن الناس لو أخرجوه من زاويته أو أخذوا رزقته أو مسموحه لصار يبكي كالعجوز على ولدها مع أنه هذا ربما تفوته المواكب الإلهية في الأسحار كل ليلة فلا يبكي ولا يتأثر على فواتها فأين دعواه ؟ وشرط العاقل أن لا يدعي دعوة قط حتى يكون له شاهد من فعله عليها
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : كل من لم يبك عند سماع المواعظ فهو كالحمار فإن الله تعالى هو الواعظ للعبد بكل آية على ألسنة الواعظين
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ ناصح يسلك به حضرات الخائفين ويصير يبكي بقلبه ولو ضحك بفمه . وقد بكى السلف الصالح الدم حين نفدت الدموع من خوف الخاتمة وخوف القطيعة ومن خوف المكر بهم والاستدراج وأنت يا أخي كأنك أخذت من الله تعالى مرسوما بأنه لا يمكر بك وكل ذلك من تلبيس إبليس وقد قال تعالى في حق المصلين . { الذين هم على صلاتهم دائمون } وفي حق المزكين { الذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } وفي حق المؤمنين { الذين يصدقون بيوم الدين } وفي حق الخائفين { الذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون } . فتأمل يا أخي إذا كان أهل هذه الصفات لم يؤمنهم الله تعالى من عذابه فكيف من كان بالضد من ذلك كأمثالنا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . فاسلك يا أخي على يد شيخ ناصح حتى يصير الجوع من شأنك لتبكي عند المواعظ خوفا من ربك والله يتولى هداك (1/229)
- روى ابن ماجه والترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت ] ] . وفي رواية للطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت فإنه ما كان في كثير إلا قلله ولا قليل إلا جزأه [ أجزله ؟ ؟ ] ] ] . أي كثره وهاذم بالذال المعجمة أي قاطع
وروى البزار وغيره بإسناد حسن : أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بمجلس وهم يضحكون فقال : [ [ أكثروا من ذكر هاذم اللذات أحسبه قال : فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه ولا في سعة إلا ضيقت عليه ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا قال : كانت صحف موسى عليه السلام عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح ؟ وعجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك وعجبت لم آمن بالقدر ثم هو ينصب وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل
وروى الترمذي والبيهقي : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل مصلاه فرأى قوما كأنهم يكتشرون أي يضحكون فقال : أما إنكم لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات الموت لشغلكم عما أرى فأكثروا ذكر هاذم اللذات الموت الحديث بطوله
وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة فجلس إلى قبرها فقال : ما يأتي على هذا القبر من يوم إلا وهو ينادي بصوت زلق طلق يا ابن آدم نسيتني ألم تعلم أني الوحدة وبيت الغربة وبيت الوحشة وبيت الدود وبيت الضيق إلا من وسعني الله عليه . الحديث
وروى ابن أبي الدنيا والطبراني بإسناد جيد : أن رجلا من الأنصار قال : يا رسول الله من أكيس الناس وأحزم الناس ؟ قال أكثرهم ذكرا للموت وأكثرهم استعدادا للموت أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة
وروى الطبراني بإسناد حسن والبزار : أن رجلا مات من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يثنون عليه ويذكرون من عبادته ورسول الله صلى الله عليه و سلم ساكت فلما سكتوا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل كان يكثر ذكر الموت ؟ قالوا : لا قال : فهل كان يدع كثيرا مما يشتهي ؟ قالوا لا قال : ما بلغ صاحبكم كثيرا مما تذهبون إليه
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ كفي بالموت واعظا وكفى باليقين غنى ] ]
وروى البزار مرفوعا : [ [ أربعة من الشقاء : جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ] ]
وروى ابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ يهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل ] ]
وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي وأبو نعيم والأصبهاني أن أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار لأجل فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر إن أسامة لطويل الأمل والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي ولا رفعت قدمي وظننت أني أضعه حتى أقبض ولا لقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت والذي نفسي بيده إن ما توعدون به لآت وما أنتم بمعجزين
وروى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم اطلع على أصحابه ذات عشية فقال : [ [ يا أيها الناس ألا تستحيون ؟ قالوا : مم ذلك يا رسول الله ؟ قال : تجمعون ما لا تأكلون وتبنون ما لا تعمرون وتؤملون ما لا تدركون ألا تستحيون من ذلك ؟ ] ]
وروى البخاري والترمذي عن عبدالله بن عمر قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بمنكبي فقال : [ [ كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل . وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك ] ] . ورواه الترمذي والبيهقي بلفظ : [ [ كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك في أصحاب القبور وقال لي يا ابن عمر إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا ] ]
وروى أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن عبدالله بن عمر قال : مر بي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا أطين حائطا لي أنا وأمي فقال : ما هذا يا عبدالله ؟ قلت يا رسول الله خص وهي فنحن نصلحه فقال ما أرى الأمر إلا أسرع من ذلك . وفي رواية لهم أيضا عن ابن عمر قال : مر علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن نعالج خصا لنا وهي فقال : ما هذا يا عبدالله ؟ فقلت خص لنا وهي فنحن نصلحه فقال : ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك
وروى البخاري والترمذي وابن ماجه والنسائي عن ابن مسعود قال : خط النبي صلى الله عليه و سلم خطا مربعا وخط خطا في الوسط خارجا منه وخط خطوط صغارا إلى هذا الذي في الوسط فقال : هذا الإنسان وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطوط الصغار الأعراض فإن أخطأ هذا نهشه هذا وإن أخطأ هذا نهشه هذا . وهذه صورة خط النبي صلى الله عليه و سلم كما نقله الحفاظ : رسم مربع ؟ ؟
وفي رواية للبخاري والنسائي واللفظ للبخاري عن أنس قال : خط النبي صلى الله عليه و سلم خطا وقال هذا الإنسان وخط إلى جانبه خطا وقال هذا أجله وخط خطا آخر بعيدا منه فقال : هذا الأمل فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب
وروى الطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد في قوله تعالى : { اقتربت الساعة } فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ [ لا تزداد منهم إلا بعدا ] ] . وفي رواية : [ [ ولا يزداد الناس على الدنيا حرصا ولا يزدادون من الله إلا بعدا ] ]
وروى الحاكم والبيهقي : أن رجلا قال يا رسول الله أوصني فقال : [ [ عليك بالإياس مما في أيدي الناس وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر وصل صلاتك وأنت مودع وإياك وما يعتذر منه . يعني في الدنيا والآخرة ] ]
وروى مسلم مرفوعا : [ [ بادروا بالأعمال الصالحة فتنا كقطع الليل المظلم ] ] . وفي رواية للترمذي مرفوعا : [ [ بادروا بالأعمال سبعا فهل تنتظرون إلا مرضا مفسدا أو هرما مفقدا أو موتا مجهزا ] ] الحديث
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا ] ]
وروى ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ] ]
وروى أبو داود والحاكم والبيهقي عن مصعب بن سعيد عن أبيه قال الأعمش ولا أعلمه إلا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة ] ] . قال الحافظ : لم يذكر الأعمش من حدثه ولم يجزم برفعه . والتؤدة : هي التأني والثبات والتثبت وعدم العجلة
وروى الترمذي والبيهقي مرفوعا : [ [ ما من أحد يموت إلا ندم ؟ قالوا : وما ندامته يا رسول الله قال : إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع ] ]
وروى الحاكم وقال صحيح على شرطهما مرفوعا : [ [ إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله قيل وكيف يستعمله ؟ قال : يوفقه لعمل صالح قبل الموت ] ] . وفي رواية لابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي مرفوعا : [ [ إذا أحب الله عبدا عسله قالوا وما عسله يا رسول الله ؟ قال : يوفق له عملا صالحا بين يدي رحلته حتى يرضى عنه جيرانه أو قاثل ؟ ؟ من حوله ] ]
وروى البخاري مرفوعا : [ [ أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة ] ]
وروى الحاكم وقال صحيح على شرطهما مرفوعا : [ [ من عمر من أمتي سبعين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر ] ]
وروى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي مرفوعا : [ [ ألا أنبئكم بخيركم ؟ قالوا نعم يا رسول الله ؟ قال : خياركم أطولكم أعمارا وأحسنكم أعمالا ] ]
وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح والطبراني وغيرهما : أن رجلا قال : يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال من طال عمره وحسن عمله . قال : فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره وساء عمله
والأحاديث في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتعاطى الأسباب التي تذكرنا بالموت وتقصر أملنا كمعاشرة العباد والزهاد في الدنيا امتثالا لقوله صلى الله عليه و سلم : اذكروا هاذم اللذات . وما لا يتوصل إلى فعل المأمور إلا به فهو من جملة المأمور واجبا لواجب ومندوبا لمندوب . فاعلم أن من عاشر الراغبين في الدنيا كالتجار والذين يسعون على الوظائف والأنظار ليلا ونهارا وطلب أن يكون الموت على باله فقد رام المحال . ورأى سيدي علي الخواص تاجرا يبني له دارا ويغرس له فيها جنينة وقد طعن في السن فقال لفقير كان بجواره ارحل يا أخي وإلا فتنك جارك بعمارته وأنساك الموت والآخرة فرحل الفقير . وسمعته مرة أخرى يقول : من الأضداد أن من يذكر الموت يحيا قلبه ومن ينساه يموت وذلك لأن من لازم ذكر الموت قصر الأمل والمبادرة في العمل فمثل هذا ولو طال عمره فعمله حسن إن شاء الله تعالى وذلك أعظم ما يكون العبد عليه . فاعلم أن من أعظم نعم الله تعالى على العبد أن يقصر أمله ويطول عمره ويحسن عمله وهناك ينشد لسان حاله للمحجوبين عنه :
لا تظنوا الموت موتا إنه ... لحياة هي غايات المنى
لا ترعكم فجأة الموت فما ... هي إلا نقلة من ههنا
وإيضاح ذلك أن كل من جاهد نفسه حتى قتلها بسيوف المجاهدات وترك لذات المنام وأكل الشهوات فإنما هو ينقل من دار إلى دار فلا يتأثر على فوات دار الدنيا إلا ليعمل فيها خيرا لا غير . وأما تعاطيه لذاتها وشهواتها فيندم عليها غاية الندم ويفرح لمفارقتها وأما من لم يجاهد نفسه فيما ذكرناه فهي متعشقة للدنيا مشتبكة بعلائقها كاشتباك الصوف المبلول بالشوك فيقاسي في طلوع روحه الشدائد وإنما شدد على الأكابر طلوع روحهم مع كونهم لا التفات لهم إلى الدنيا ولا تعشق لهم بها إلا من حيث وفور شفقتهم على أصحابهم لعدم وصولهم إلى ما كانوا يطلبونه لهم من المقامات فكان مقصود الأكابر تأخير أجلهم ليكملوا أصحابهم وليس مقصودهم البقاء في الدنيا لحظ نفوسهم فافهم ولذلك قال بعض الأنبياء لجبريل عليه السلام : ألا تراجع ربك في التأخير ؟ قال : جف القلم مما هو كائن . ويؤيد ما قررناه قول الجنيد في معنى قوله صلى الله عليه و سلم : إنه ليغان على قلبي فأستغفر ربي في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة . أن المراد به أنه اطلع على ما تقع فيه أمته من المعاصي بعده فكان يستغفر الله تعالى لهم لا له لأنه صلى الله عليه و سلم لا ذنب عليه فقال له قائل فما المراد بقوله تعالى : { واستغفر لذنبك ؟ } . فقال : المراد به ذنب أمته وإنما أضيف إليه لأنه هو المشرع لتحريمه فكأنه قيل له استغفر لأهل الذنب الذي حرمته شريعتك . هكذا رأيته عن الجنيد منقولا في بعض الكتب وهو اللائق بمقام رسول الله صلى الله عليه و سلم . وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول يهون الموت على كل إنسان من الأمة ويصعب بقدر جهاده لنفسه فمن بقي عليه بقية مجاهدة صعب عليه طلوع الروح بقدرها والناس بين مقل ومكثر . وأما الخواص الذين لم يبق عليهم من مجاهدة نفوسهم بقية كأبي بكر الصديق وأضرابه فلا يتأثر بطلوع روحه أبدا وإنما يتأثر الجسم من حيث فراق من كان سببا لحياته المدبرة له فإن الله تعالى أوحى إلى الروح إن ادخلي كرها واخرجي كرها : أي ادخلي كرها عليك وأخرجي كرها على الجسد وذلك لأنها من عالم الانفساح والسراح والجسم يقيدها فيه عن سرحها وقد أنشد سيدي علي بن وفا رضي الله عنه في الروح مخمسا :
قد سمعت الروح تحكي ... أن نفس المتزكي
أنشدت كالمشتكي ... أنا في الغربة أبكي
ما بكت عين غريب
بعد روضي ومروجي ... وارتفاعي وعروجي
صرت في الضيق الحريجي ... لم أكن عند خروجي
من مكاني بمصيب
كنت حقا روح ملكي ... فتغربت بدركي
مع وهم خلد إفكي ... فاعجبوا لي ولتركي
وطنا فيه حبيبي
وأنشد ابن سينا في الروح :
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تحجب وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع
أنفت وما سكنت فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهودا بالحمى ... ومدامعا هطلت ولم تتقطع
إذا عاقها الشرك الكثيف وصدها ... قفص عن الأوج الفسيح المرفع
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
هجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت ... ما ليس بالعيون الهجع
فكأنما برق تلمع بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ ناصح يخلصه من العوائق والحجب التي تحجبه عن شهود الدار الآخرة وأهوالها ويعرفه أنه ما دام في هذه الدار فرسل الله تعالى مرسمة ؟ ؟ عليه تكتب عليه جميع ما شاء الله تعالى من الأقوال والأفعال فكأنه في سجن فإذا خرجت روحه فكأنه أطلق من السجن ومن لم يسلك كما ذكرنا فمن لازمه نسيان الموت والدار الآخرة كما هو حال أكثر الناس اليوم فكلنا في غمرة ساهون نسأل الله اللطف : وفي الحديث : من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه . وإنما سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم ميتا لأنه مات عن التدبير والاختيار مع الله تعالى وسلم نفسه لمجاري الأقدار ولم يبق عنده نزاع لها . فاسلك يا أخي على يد شيخ ليصير الموت نصب عينيك طبعا من غير تكلف فلا ترى إلا عاملا بخير أو مستغفرا من ذنب قد سبق على أيام السلوك لك والله تعالى هداك (1/230)
- روى الشيخان مرفوعا : سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله فذكر منهم . ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله . وفي حديث الترمذي والحاكم في قصة الكفل الذي كان في بني إسرائيل وكان لا يتورع عن ذنب أنه دعا امرأة وراودها عن نفسها وأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما جلس مجلس الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك ؟ قالت لأن هذا عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال أو تفعلين هذا من مخافة الله ؟ فأنا أحرى بذلك اذهبي ولك ما أعطيتك والله لا أعصيه بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر للكفل فعجب الناس من ذلك . وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فأحرقوني واسحقوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به بنوه ذلك . فأمر الله الأرض أن أجمعي ما فيك ففعلت فإذا هو قائم فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : خشيتك يا رب أو قال مخافتك فغفر له ] ] . وفي رواية للشيخين مرفوعا : [ [ قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله : إذا مت فأحرقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات الرجل فعلوا به ما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله تعالى له ] ] . وروى الترمذي والبيهقي مرفوعا : [ [ قال الله عز و جل أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام ] ] . وروى ابن حبان في صحيحه فيما يروي صلى الله عليه و سلم عن ربه عز و جل أنه قال : [ [ وعزتي وجلالي لا يجتمع على عبدي خوفان وأمنان إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ] ] . وروى البخاري والترمذي وغيرهما مرفوعا : [ [ والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفراش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله والله إني لوددت أني شجرة تعضد ] ] . والصعدات : الطرقات . وروى أبو الشيخ مرفوعا : [ [ من خاف الله عز و جل خوف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله خوفه الله من كل شيء ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نخاف من سطوات ربنا وغضبه علينا ليلا ونهارا ولا نأمن مكر الله علينا في ساعة من ليل أو نهار
واعلم يا أخي أن أحدا لا يستغني عن الخوف ولا يسقط عنه ولو بلغ الغاية ما دام في هذه الدار إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لعصمتهم وأما ما عداهم فمن حقه الخوف حتى يضع قدمه في الجنة لأنه من المقامات المستصحبة بعد الموت بخلاف نحو مقام التوبة والتقوى فإنه خاص بالحياة مدة التكليف
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إذا خافت الأمم كلها كان الأنبياء كلهم آمنين وإن وقع منهم خوف فإنما ذلك على أممهم
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به الطريق حتى يزيل حجبه الكثيفة المانعة له من الخوف فإن الإنسان كلما قرب من حضرة الله عز و جل استعظمه وخاف منه وكلما بعد وحجب فبالعكس نظير ذلك في الدنيا أصحاب حضرة السلطان فترى عندهم من الخوف منه ومن سطوته ما ليس عند البعداء عن حضرته وربما شتمه هؤلاء ونقصوه بخلاف من كان من أهل حضرته ؟ وقد كان السلف الصالح كلهم على قدم الخوف حتى ماتوا لعلوا مقامهم وقربهم من ربهم وخلفهم أقوام ليس عندهم من الخوف إلا الاسم فإن أعمالهم تكذب أقوالهم
وقد كان الحسن البصري رضي الله عنه يقول : والله لقد أدركنا أقواما لو رأوكم لقالوا هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب
ورأى شخص في المنام مالك بن دينار في الجنة فأتاه يبشره بذلك فقال له مالك أما وجد إبليس أحدا يسخر به غيري وغيرك وكانت السحابة إذا مرت عليه وهو يملي الحديث يسكت ويرتعد ويقول اصبروا حتى تمر فإني أخاف أن تكون فيها حجارة ترجمنا بها . وسألوه مرة أن يخرج معهم للاستسقاء فقال بالله عليكم اتركوني فإني أخاف أن لا تسقوا بسببي
وطلب جماعة من سيدي عبدالعزيز الديريني كرامة وقالوا مرادنا شيء يقوي يقيننا واعتقادنا فيك حتى نأخذ عنك الطريق فقال : يا أولادي وهل ثم كرامة من الله لعبدالعزيز أعظم من أن يمسك به الأرض ولم يخسفها به وقد استحق الخسف به من سنين ؟ فقال له شخص إن الخسف لا يكون إلا للكفار وأنتم من المؤمنين فقال قد خسف الله تعالى بشخص لبس حلة وتبختر فيها في مكة كما في البخاري عن ابن عباس وكم لعبدالعزيز من ذنب أعظم من التبخر
وكان معروف الكرخي إذا استيقظ من منامه يمسح على وجهه بيده ويقول : الحمد لله الذي لم يغير صورتي في صورة كلب أو خنزير لسوء أدبي
وكان تلميذه السري السقطي ينظر إلى أنفه في اليوم كذا مرة مخافة أن يكون قد اسود وجهه وإنما خص الأنف بالنظر لكون الإنسان لا ينظر من وجهه غيره
وكانت رابعة العدوية لا تنام الليل وتقول أخاف أن أوخذ على بيات ؟ ؟ وكانت تنام وهي تمشي في الدار فإذا قيل لها في ذلك تنشد :
وكيف تنام العين وهي قريرة ... ولم تدر في أي المنازل تنزل
وأحوال السلف الصالح في الخوف كثيرة ومشهورة فطالع يا أخي في مناقبهم وإياك والاقتداء بأهل هذا الزمان المتمشيخين بأنفسهم فإنك ربما هلكت
وكان آخر الخائفين من الإخوان الذين أدركتهم الأخ الصالح الشيخ أبا الفضل الأحمدي رحمه الله تعالى . رأيت مرة قائلا يقول لي يا فلان ما صحبت في عمرك مثل أبي الفضل ولا تصحب فحكيت ذلك له فارتمى إلى الأرض وصار يفحص بيديه ورجليه كالطير المذبوح فلما أفاق قال لي قتلتني في هذا النهار ومن أنا حتى تتكلم بي الهواتف ؟ والله ما أظن إلا أن الله تعالى ينظر إلي نظر الغضب ليلا ونهارا ولكن أسأله بنبيه محمد صلى الله عليه و سلم أن يمن علي بحسن الخاتمة والموت على التوحيد آمين
وقد كان الإمام أبو بكر الصديق صاحب سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه و سلم يقول : والله لوددت أن أكون شجرة تعضد فكيف بأمثالنا ؟
فاسلك يا أخي عل يد شيخ حتى يخرجك من مواطن تلبيس النفس والشيطان وتصير تخاف من الله تعالى لتأمن من عذابه يوم القيامة فإن من خافه هنا أمن منه هناك وبالعكس وتأمل قوله تعالى : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } . تعثر على جميع ما قلناه وذلك أن المتقي ما حشر إلى الرحمن الذي يعطي الرحمة إلا لكونه كان في دار الدنيا جليس أسماء الخوف والانتقام ولذلك اتقى ربه ولو أنه كان جليس أسماء الحنان واللطف والمغفرة لما خاف وكان يقع في كل محظور فافهم . والله تعالى أعلم (1/231)
- روى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ قال الله تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك يابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ] ] . وقراب الأرض بكسر القاف وضمها أشهر : هو ما يقارب ملأها . وروى الترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل على شاب وهو في الموت فقال : [ [ كيف تجدك ؟ قال أرجوا الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله تعالى ما يرجو وآمنه مما يخاف ] ] . وروى الإمام أحمد وغيره مرفوعا : [ [ إن الله عز و جل يقول للمؤمنين يوم القيامة هل أحببتم لقائي ؟ فيقولون : نعم يا ربنا فيقول لم ؟ فيقولون : رجونا عفوك ومغفرتك فيقول قد أوجبت لكم مغفرتي ] ] . وروى الشيخان مرفوعا : [ [ قال الله عز و جل : أنا عند ظن عبدي بي ] ] . وروى أبو داود وابن حبان وغيرهما مرفوعا : [ [ حسن ظن من حسن العبادة ] ] . وفي رواية للترمذي والحاكم : [ [ إن حسن الظن بالله من حسن عبادة الله ] ] . وروى مسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم قبل موته بثلاثة أيام يقول : [ [ لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز و جل ] ] . وروى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي مرفوعا : [ [ قال الله عز و جل : أنا عند ظن عبدي بي فإن ظن بي خيرا فله وإن ظن شرا فله ] ] . وروى البيهقي عن رجل من ولد عبادة بن صامت لم يسمه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ أمر الله عز و جل برجل إلى النار فلما وقف على شفتها التفت فقال : أما والله يا رب إن كان ظني بك لحسنا فقال الله عز و جل : أنا عند ظن عبدي بي ] ] . يعني فأدخله الله الجنة كما في رواية . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن يكون رجاؤنا وظننا في الله تعالى حسنا بطريقه الشرعي بأن نأتي بجميع المأمورات الشرعية ثم نرجو فضل ربنا ونعول على فضله لا على تلك الأعمال فإنه لو أخذنا بما في طاعاتنا من سوء الأدب معه لعذبنا أبد الآبدين وهذا الرجاء والظن بالله تعالى متعين على الإنسان في كل نفس ومن قال إن ترجيح حسن الظن لا يكون إلا عند الموت قلنا له والموت حاضر عندنا في كل نفس من الأنفاس ليس لنا عهد من الله تعالى برجوع نفس واحد إذا خرج فيحتاج المؤمن إلى عينين عين ينظر بها إلى حضرة الانتقام فيخاف من الله تعالى وعين ينظر بها حضرة الرحمة والمغفرة فيرجو فضل الله تعالى ورحمته فالعينان في آن واحد لأنهما يتعاقبان فافهم . ويحتاج من يريد الوصول إلى ذلك إلى شيخ يسلك به حتى يجعل له عينين بعد أن كان أعور وقد حثنا الله تعالى على حسن الظن به بقوله : [ [ أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا ] ] . فمن لم يظن بالله خيرا فقد عصى أمر الله تعالى وقد مشى الصادقون من المريدين على هذه القاعدة مع أشياخهم فإن ظنوا بشيخهم أن يحميهم من إبليس بنظره حماهم وإن ظنوا أنه لا يقدر على حمايتهم فلا يصح لهم حماية ولذلك أمروا مريدهم أن لا يغفل عن شهود كونه معه لأنه ما دام يشهد شيخا ملاحظا له فهو محفوظ من كل آفة ومتى غفل عن ذلك جاءته الآفات من كل جانب . ومما جربناه نحن أن من كان اعتقاده فينا متوفرا مهما طلب من الحوائج قضى له ومن لم يكن اعتقاده فينا متوفرا لم تقض له حاجة ولو كنا أقطابا فالمدار على حسن ظن المتوجه للشيخ لاعلى الشيخ وربما تقضى حاجة المعتقد ولم يكن يعلمها الشيخ إلا إن أعلمه بها المتوجه إليه فاعلم ذلك وسل الله تعالى أن يرزقك حسن الظن عند الموت فربما كان الإنسان حسن الظن بالله تعالى حال الصحة فإذا حضرته الوفاة أساء الظن بربه فيجني ثمرة ذلك فاعلم أن حسن الظن ليس في العبد وإنما هو مثل قوله تعالى : { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } . أي استصحبوا صفات الإسلام دائما ولا تتركوها نفسا واحدا فكل وقت جاءكم الموت وجدكم مسلمين فافهم ذلك فإنه نفيس وقد بسطنا الكلام على ذلك في أواخر عهود المشايخ . { والله غفور رحيم } (1/232)
- روى الترمذي وقال حديث حسن وابن أبي الدنيا : أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أي الدعاء أفضل ؟ فقال : سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة ثم أتاه في اليوم الثاني فسأله فقال له مثل ذلك ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك قال : فإذا أعطيت العافية في الدنيا وأعطيتها في الآخرة فقد أفلحت . وروى الترمذي وحسنه والنسائي عن أبي بكر أنه قام على المنبر ثم بكى فقال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم عام أول على المنبر ثم بكى فقال : [ [ سلوا الله العفو والعافية فإن أحدكم لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية ] ] . وروى ابن ماجه بإسناد جيد مرفوعا : [ [ ما من دعوة يدعوا بها العبد أفضل من : اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة ] ] . وروى الترمذي وقال حديث حسن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد قالوا فماذا تقول يا رسول الله ؟ قال : سلو الله العافية في الدنيا والآخرة ] ] . وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح والحاكم وقال صحيح على شرطهما أن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت ليلة القدر فماذا أقول فيها ؟ قال قولي : [ [ اللهم إنك تحب العفو فاعف عنى ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نميل إلى الضعف ونبادر عند نزول البلاء علينا إلى سؤال العفو والعافية ولا نتجلد إلا بما نعلم من أنفسنا بالقرائن من القدرة على الصبر عليه وهذا العهد يخل به كثير من الناس ممن يدعي الصلاح من غير سلوك على يد شيخ فيظهر القوة لتحمل ما فوق طاقته فربما تخلفت عنه العناية فيصير يقع في ألفاظ ربما يكفر بها
وقد كان سفيان الثوري رضي الله عنه يقول : نحن لا نخاف البلاء وإنما نخاف مما يبدو منا حال البلاء من السخط والضجر ثم يقول : والله ما أدري ماذا يقع مني لو ابتليت ؟ فلعلي أكفر ولا أشعر
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : ليبحث العبد عن حكمة نزول المرض به هل هو رفع درجات أو عقوبات أو مكفرات ؟ فإنه لا يكاد يخرج عن هذه الثلاث ولكل منها علامة فعلامة كونه رفع درجات أن يقع مع انشراح وانفساح الصدر والرضا وعلامة العقوبة أن يقع مع الألم والسخط والاشمئزاز وعلامة المكفرات أن يقع مع الصبر وعدم السخط وأصل ذلك أن الله تعالى يجلس العبد في المقام المفضول حتى يتحقق به ثم بعد ذلك ينقله إلى المقام الأفضل فلذلك كان العبد يحبس في مقام الصبر مع عدم الانشراح للصدر ليحصل له الأجر الذي وعد الله به الصابرين ثم ينقله إلى مقام الرضا ليحصل له الأجر الذي وعد الله به الراضين فلا بد لكل كامل من حصول الأمرين ولو علت مرتبته فاعلم مما قررناه توجيه قول بعضهم إن المرض له ثلاث حالات : فإن كان المرض رفع درجات فلا ينبغي له سؤال العافية منه وكذلك إن كان عقوبة أو مكفرا ومن هنا سلم الأكابر لله تعالى ولم يسألوا الإقالة حقيقة وإنما سؤالهم تملق لله تعالى وإظهار للضعف لا غير
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا يخلو كامل من جزء فيه يمل من المرض لعدم طاقته للزيادة فما سأله الإقالة من المرض إلا ذلك الجزء وأما بقية أجزائهم فكلها راضية بالمرض وربما تلذذت به . وهذا تحقيق عظيم فC تعالى ما كان أدق نظره
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يخرجه من رعونات النفوس ومن دعوى القوة وغيرها من الدعاوي الكاذبة حتى لا يفتضح بشيء يدعيه في الدنيا والآخرة ومن لم يسلك كما ذكرنا فمن لازمه الدعاوي لما ليس من شأنه القدرة عليه
وقد كنت أنا وأخي الشيخ أبو العباس الحريثي في جنازة فجاء لنا شخص من مشايخ الزمان وقال عندي من القوة الآن ما لو قبضت على الحديد لتعجن في يدي فأخرج له أبو العباس مفتاح كالون ؟ ؟ حديد فقال خذ هذا أرنا ما ادعيت فافتضح الشيخ المدعي ومن ذلك اليوم ما ادعى عندنا دعوى أبدا
فاسلك يا أخي على يد شيخ يشهدك ضعفك حتى تجد نفسك أضعف من ناموسة كما هو شأن العارفين رضي الله عنهم حتى إن بعضهم كلف بحمل ليمونة فلم يقدر وبعضهم لم يقدر يحمل على بدنه قميصا من الضعف وآثر العري إلا مع المئزر وبعض المجاذيب تعرى : و { لايكلف الله نفسا إلا وسعها } . وما أنكر مثل ذلك إلا من لا ذوق له في مقامات الرجال وأنشدني شيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله :
ولو يذوق عاذلي صبابتي ... صبا معي لكنه ماذاقها
فمل يا أخي إلى الضعف الذي هو أساسك وسداك ولحمتك وإن جاءك قوة من الله تعالى في تحمل البلاء فهي عارضة والله يتولى هداك
وقد كان بالإمام الشافعي رضي الله عنه بواسير تنضح الدم ليلا ونهارا حتى صار لا يجلس إلا والطست تحته يتلقى ما يقطر من الدم فزاد به الألم يوما فقال اللهم إن كان في هذا رضاك فزدني فقال له شيخه مسلم بن خالد الزنجي : مه يا محمد لست أنا ولا أنت من رجال البلاء سل الله العفو والعافية هذا والإمام الشافعي رضي الله عنه أحد الأوتاد الأربعة بشهادة الخضر عليه السلام كما نقله الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله عنه عن الخضر عليه السلام فإذا كان هذا حال الأوتاد فما بال من هو غارق في شهوة فرجه وبطنه كأمثالنا نسأل الله العافية : (1/233)
- روى الترمذي وقال حديث حسن وابن ماجه والبزار والطبراني مرفوعا : [ [ من رأى صاحب بلاء فقال الحمد لله الذي عافاني مما ابتلي هذا به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا لم يصبه ذلك البلاء ] ] . وفي رواية للطبراني : [ [ فإنه إذا قال ذلك شكر تلك النعمة ] ] . وإسناده حسن . قلت : فينبغي لمن دخل مارستان المرضى أن يقول ذلك سرا عند كل مريض ليعافيه الله من جميع تلك الأمراض . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكثر من مخالطة أهل البلاء بقصد كثرة حمدنا لله وشكرنا له الذي عافانا منه أي من ذلك البلاء كل ما نرى صاحبه وأما حديث : فر من المجذوم فرارك من الأسد . فإنما ذلك وارد في ضعفاء اليقين رحمة بهم كما رحم ضعفاء اليقين أيضا بنهيهم نهى شفقة عن الدخول في بلد فيه وباء أو طاعون وإلا فلو كان كل من خالط أهل البلاء ابتلى أو دخل بلدا فيها وباء مات ما سلم أحد من المخالطين ولا من الداخلين وكل من فر من الطاعون حتى انقضى زمنه ورجع تبين أنه لو لم يفر من الطاعون وجلس في بلده لكان لم يمت مثل غيره
وأخبرني والدي رحمه الله أن والده الشيخ علي الشعرواي رضي الله عنه كان إذا رأى مجذوما أو أبرص دعاه وأكل معه اللبن والمائعات ويقول : بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه نويت جبر خاطر أخي هذا . قال : ودخل مرة بلدنا أجذم تقطر أطرافه صديدا فتقذر منه أهل البلد فأدخله داره وحلب له البقرة وسقاه من اللبن ثم شرب فضلته
وكان أخي أفضل الدين رحمه الله تعالى إذا رأى مبتلي يغشي عليه فإذا أفاق وقيل له في ذلك يقول : إنما خفت من سطوات الغضب الإلهي أن تلحقني لكوني أكثر منه عصيانا لله تعالى فحكمي حكم من كان متهوما هو وآخر بقتل شخص ثم مسكوا صاحبه وعاقبوه بحضرته وهو ينظر فإنه يخاف ضرورة ولو كان من أشجع الناس فإن الشجاع ماله قوة إلا في أول إقدامه على البلاء وأما إذا مسك وتوعد بالقتل والضرب وأنواع العقوبات فإن قلبه يتجزع فولله لقد خلقنا لأمر عظيم ولكن رحمة الله وسعت كل شيء
فاعلم مما قررناه أن الحمد لله يعظم ويكثر عند مشاهدتنا أهل البلاء على الحمد الواقع في حال غيبتهم عن عيوننا . وقد كان سيدي إبراهيم المتبولي إذا دخل مصر المحروسة من بركة الحاج يبدأ بدخول المارستان فيدور على أهل البلايا ويسلم عليهم ويصبرهم ولا يسلم [ ولا يمر ؟ ؟ ] على أحد من أهل مصر إلا بعد أهل المارستان فما كان يخرج إلا وهو حامد شاكر لله تعالى بكل شعرة فيه
وقد حبب لي أن أذكر لك يا أخي جملة من الأمراض التي عافاك الله منها منشورة على أعضاء البدن من الرأس إلى الرجلين لتحدث عند ذكر كل مرض شكرا لله عز و جل الذي عافاك من ذلك البلاء مع استحقاقك أضعافه لا سيما إن كنت من الصالحين أو من العلماء العاملين فإن ميزان الحق تعالى منصوبة على هؤلاء بالتأديب والبلاء والمحن حتى لا يغفلوا لحظة واحدة عن ربهم فإن الغفلة عن الرب عند أهل الله عز و جل من أعظم الذنوب التي يقع فيها و والله لو أن عبدا عبد الله عز و جل مدة الدنيا كلها بعبادة الثقلين ما أدى شكر معافاته من مرض واحد من الأمراض
إذا علمت ذلك فأقول وبالله التوفيق : ينبغي للعبد أن يتذكر ما أنعم الله به عليه من العافية صباحا ومساء ويشكر الله تعالى على ذلك فكم ممن هو بالصداع الحار أو البارد لا يفتر عنه ساعة ؟ وكم ممن هو مبتلي بالشقيقه لا تدعه يستلذ بنوم وكم ممن هو بالضارب ليلا ونهارا حتى كاد أن يعمى بصره وكم ممن هو مبتلى بالماليخوليا والصرع والفالج والاسترخاء والنزلات والوساوس السوداوية والقطرب والكابوس وبرد الرأس وقروحه وسدد الدماغ وغير ذلك ؟ وكم ممن انصبت المواد الرديئة في عينيه حتى أشرف على العمى أو عمى
وكم ممن طلع في عينيه السبل والظفرة والدمعة والشعرة والجرب والغشاوة والبياض
وكم ممن نزل الماء في عينيه وتربى في أجفانه الدود فهو يغلي في جفونه ليلا ونهارا وكل يوم يقلبون جفنه ويلحسون الدود ليخف عنه الغليان
وكم ممن تسلقت أجفانه وانتتف شعر عينيه أو ابيض حتى تشوهت صورته
وكم ممن طلعت في عينيه قروح ودمامل ونملة وسرطان واشتد عليه الضارب وصار الدم والقيح ينضح من عينيه ليلا ونهارا
وكم ممن تورمت أذناه واستدت وطرشت وصمت وتقرحت ودودت من صرصورها ولحقها الضارب حتى يحس الإنسان بأن وتدا من حديد يدق فيها ليلا ونهارا
وكم ممن دخل في أذنه حيوان مؤذ فلم يقدر أحد على إخراجه فمنعه من الأكل والنوم
وكم ممن طلعت في أنفه توتة أو طاعون فأكل أنفه حتى صار طاقة مفتوحة والقيح والصديد ينضح منه حتى تقذرته زوجته وطلبت فراقه
وكم ممن طلعت في داخل أنفه قروح فعجز عن اندمالها
وكم ممن أصابه الرعاف الدائم حتى أشرف على الموت من سيلان الدم
وكم ممن طلعت داخل أنفه بواسير فصار أنفه يضرب عليه ليلا ونهارا
وكم ممن تشققت شفتاه وتقرحت وطلعت الأكلة في فمه فأكلت دائره حتى صارت أسنانه بادية ونفرت منه زوجته أن يقبلها فطلبت فراقه وهو يحبها
وكم ممن ضربت عليه أسنانه وأضراسه فمنعته النوم والأكل وشرب الماء وكم ممن هو أبخر الفم منتنه لا يستطيع أحد أن يقرب منه من شدة نتن فمه
وكم ممن لعابه سائل على صدره ليلا نهارا مع بطلان شقيه بالفالج وغيره
وكم ممن تورمت حلقه حتى صارت رقبته كخلية النحل من الورم وطلعت فيها الخنازير والعقد البلغمية وهي تنضح قيحا وصديدا ليلا ونهارا والفتائل مدسوسة فيها لا تختم من موضع إلا وتفتح في موضع آخر حتى منعته الأكل والشرب
وكم ممن وقفت في حلقه شوكة أو علقة فما قدر أحد على أن يخرجها
وكم ممن ثقل لسانه وتورم وتشقق
وكم ممن طلع تحت إبطه طاعون أو خراج فأكل إبطه حتى صار طاقة
وكم ممن ابتلى بضيق النفس والربو والسعال والنفس المنتن حتى منعه ذلك أن يضع جنبه في الأرض وكم ممن طلع في بدنه خراج فتورم وتشقق حتى لا يستطيع أن ثوبه يلمسه
وكم ممن تورمت معدته واشتد لهبها ورياحها وحرقتها حتى صار لا يستلذ بطعام
وكم ممن اشتد عليه الفواق والغثيان وكثرة القيء وانتفخت معدته واشتد لهيبها
وكم ممن تورمت كبده وتقرحت
وكم ممن حصل له الاستسقاء فعجزت الأطباء عن علاجه وصار بطنه منفوخا لا يقدر يضع جنبه على الأرض
وكم ممن تورم طحاله وتورم جنبه وتمكن فيه المغص والقولنج حتى تمنى طلوع روحه فلم تطلع
وكم ممن حصل له الإسهال المتواتر والزحير الدائم حتى صارت ثيابه وفرشه سائحة من البول والغائط وتمنى خادمه موته
وكم ممن حصل له مرض جرد الكلي حتى تورمت كلاه وصارت تنزل قطعا قطعا
وكم ممن دخل الحصى والرمل في كلاه
وكم ممن تربت الحصاة في مثانته وقضيبه حتى صار يصيح كالمطلقة كلما يبول وكل قليل يشقون ذكره ويستخرجونها منه كالزيتونة وهو يتلوى على فراشه كالثعبان
وكم ممن ابتلى بحرقة البول وتعقده أو إدراره أو تعسره حتى بال الدم وجمد في مثانته
وكم ممن تورمت مقعدته أو فقئت أو طلع فيها خراجات أو بواسير أو نواصير أو شقاق حتى صار يحس ليلا ونهارا كأن دبره يشرح بسكين
وكم ممن ابتلى بالتوتة والأبنة
وكن ممن حصل له نشر العظم
وكم ممن طلع في ذكره القروح والدمامل حتى تورم وصار كفخذ الرجل
وكم ممن تورمت أنثياه حتى صارت كالبطيخة أو كالزير العظيم حتى صارت مدلاة بين رجليه إلى قدمه ولا يقدر يجلس على خلاء لوضوء ولا غيره وعدم لذة الجماع جملة واحدة
وكم ممن تعارضت عنده الأمراض فكل دواء ينفع هذا يضر هذا كالقولنج والفتق حتى صار يتمنى الموت فلا يجاب
وكم ممن ابتلى برمي الدم والقيح على الدوام حتى أنه يحس بقواه نفدت كلها فهو ميت في صورة حي
وكم ممن ابتلى بالحب والفرنج وضربان المفاصل الحارة والباردة حتى تورم وتعقدت حتى صار لا يستلذ بأكل ولا بمنام
وكم ممن ابتلى بالنقرس حتى صارت الدود يتناثر منه كرأس الكلب إذا دودت
وكم ممن ابتلى بعرق النسا وبأوجاع الوركين والركبتين وترهلت أوراكه وأعضاؤه ووجهه وأطرافه
وكم ممن ابتلى بوجع الظهر وبداء الفيل وبالكساح وبالفالج
وكم ممن ابتلى بالأكلة في بدنه وبالحصباء والجرب والحكة والنملة والجمرة والبصرة والبهق والجذام الذي قطع أطرافه
وكم ممن ابتلى بعمل الزغل أو بقتل قتيل أو الزنا بامرأة أو بسرقة فأمر الولاة بضربه مقارع وكسارات وحمى الطاسة الحديد ووضعها على رأسه أو عصر رأسه بجلد فيه نوى تمر حتى تخرج عيناه من أماكنها
وكم ممن أمروا بكسر عظام يديه ورجليه بقدوم على حجر
وكم ممن أسقوه جيرا وملحا حتى تسلخت أمعاؤه وتزلعت
وكم ممن أمروا بخوزقته أو شنكلته أو توسيطه أو سلخه أو شرخه بين نخلتين أو وضعه في نقرة نحاس وأحموا تحته النار حتى نزل صديده ودمه من أبزازها
وكم ممن دقوا في أصابعهم البوص وأطلقوا فيها النار
وكم ممن حموا له كلبتين من حديد في النار ثم يخلعوا بهما من لحمه وأطعموه له
وكم ممن حموا له مرودا من حديد حتى صار كالجمرة ثم دسوه في قضيبه أو عينيه فأسالهما أو فجرهما فعمى
وكم ممن وقع في النار أو الماء المغلي فذاب جلده وتزلع
وكم ممن طعن بحربة أو سكين أو ضرب بنشابة فجاءت في عينيه أو أذنه فغارت وانتزع نصلها ولم يقدر أحد على إخراجها
وكم ممن شرب لبنا مسموما أو أكل طعاما مسموما فذاب لحمه
وكم ممن لسعته أفعى فعمي في الحال وتقطع لحمه
وكم ممن أكل بطيخا ونام فجاء ثعبان فدخل نصفه في حلقه فاستيقظ فوجد نفسه كذلك
وقس على ما ذكرناه ما لم نذكره من سائر الآفات . وفائدة ذكر هذه الأمور شكر الله تعالى على عدم ابتلائنا بها وأنه تعالى لا يبتلينا بها في المستقبل إن شاء الله تعالى لالتجائنا إليه فاعلم ذلك وإياك أن تستبعد وقوعك فيما يقتضي هذه العقوبات والأمراض فإن غاية أصحابها أنهم وقعوا في حرام أو مكروه وكم وقعت يا أخي في ذلك . وإياك أن تستبعد وقوعك وإن تقع فانت معرض للعقوبات والأمراض وأسبابها ما دمت في هذه الدار وجائز في حقك أن تقتل النفس وتشرب الخمر وتزني بحليلة جارك ولو كنت شيخا في الطريق فالعاقل من خاف والسلام فتدبر يا أخي في هذا العهد واعمل به تجتن ثمرته والله يتولى هداك
وكان سيدي علي الخواص رحمه الله يستحضر جميع هذه الأمراض كلها كلما يقوم من النوم وكلما يريد النوم ويخبر أن ذلك كان من شأن إبراهيم المتبولي رضي الله عنه وكان يقول : ينبغي أن لا يكتفي أمثالنا بالشكر باللسان في هذا الزمان لكثرة معاصينا وعدم إخلاصنا وإنما ينبغي أن يكون شكرنا بالفعل كقيام الليل وحفر الآبار وصوم الهواجر وكف النفس عن جميع الشهوات ونحو ذلك . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/234)
- روى الإمام مسلم في حديث مرفوعا : [ [ الطهور شطر الإيمان والصبر ضياء والصدقة برهان ] ] . قلت : ومعنى كونه ضياء أن صاحبه يحصل له نورانية في قلبه بالمرض فيدرك الحق والباطل . وأما من لم يصبر فهو في ظلمة يقع في كل محظور وأما كون الصدقة برهانا فهي لكونها دليلا على أن صاحبها يوقى من الشح الذي في نفسه . والله تعالى أعلم
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا في حديث طويل : [ [ ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا أوسع من الصبر ] ]
وروى الطبراني والحاكم مرفوعا في حديث طويل : [ [ الصبر أول العبادة ] ]
وروى الترمذي مرفوعا : [ [ الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله ] ]
وروى مسلم مرفوعا : [ [ عجبت لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر وكان ذلك خيرا له وإن أصابته ضراء صبر وكان خيرا له ] ]
وروى ابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ ما ابتلى الله عبدا ببلاء وهو على طريقة يكرهها إلا جعل الله ذلك البلاء كفارة وطهورا ما لم ينزل ما أصابه من البلاء بغير الله أو يدعو غير الله في كشفه ] ] . قلت : ويفهم من هذا الحديث أن من كان على طريقة يحبها الله تعالى وابتلى ببلاء فهو رفع درجات . والله تعالى أعلم
وروى ابن ماجه وابن أبي الدنيا والترمذي وقال حسن صحيح عن سعد قال : قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال : [ [ الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا واشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه فلا يبرح بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ] ] . وفي رواية لابن حبان في صحيحه : [ [ فمن ثخن دينه أشتد بلاؤه ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه ] ]
وروى ابن ماجه وابن أبي الدنيا والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم مرفوعا : [ [ إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر فقال أبو سعيد يا رسول الله من أشد الناس بلاء ؟ قال الأنبياء : قال ثم من ؟ قال العلماء . قال ثم من ؟ قال : الصالحون كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله ويبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها ولأحدهم كان أشد فرحا بالبلاء من فرحكم بالعطاء ] ] . قال صلى الله عليه و سلم ذلك لما دخل عليه أبو سعيد وهو يتوعك عليه قطيفة فوضع يده فوق القطيفة فقال : ما أشد حماك يا رسول الله ؟ فقال : إنا كذلك يشدد علينا البلاء . الخ . قلت : والمراد بالعلماء في الحديث العلماء بالله تعالى وبأحكامه من حيث كونهم ورثة الأنبياء والمراد بالصالحين من شارك العلماء في العمل وتخلف عنهم في درجة العلم كالعباد ونحوهم من المقلدين . والله تعالى أعلم
وروى الترمذي وابن أبي الدنيا والطبراني مرفوعا : [ [ يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض ] ] . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ يؤتى بالشهيد يوم القيامة فيوقف للحساب ثم يؤتى بالمتصدق فينصب للحساب ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان فيصب عليهم الأجر صبا ] ]
وروى ابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ إذا أحب الله عبدا أو أراد أن يصافيه صب عليه البلاء صبا وسحه عليه سحا فإذا دعا العبد وقال : يا رباه قال : لبيك عبدي فلا تسألني شيئا إلا أعطيتك إياه إما أن أعجله لك وإما أن أدخره لك ] ]
وروى مالك والبخاري مرفوعا : [ [ من يرد الله به خيرا يصب منه أي يوجه إليه مصيبة ويصيبه ببلاء ] ]
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات مرفوعا : [ [ إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع ] ] . وفي رواية لابن ماجه وغيره : [ [ ومن سخط فله السخط ] ]
وروى أبو يعلي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل فلا يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها ] ] . وفي رواية للإمام أحمد وأبو يعلي وغيرهما مرفوعا : [ [ إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده ثم صبره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز و جل ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ إن الله عز و جل ليقول للملائكة انطلقوا إلى عبدي فصبوا عليه البلاء صبا فيحمد الله فيرجعون فيقولون يا ربنا صببنا عليه البلاء كما أمرتنا ؟ فيقول ارجعوا فإني أحب أن أسمع صوته ] ] . وفي رواية للطبراني أيضا مرفوعا : [ [ المصيبة تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه ] ]
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ لا يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ] ] والنصب : التعب . والوصب : المرض . وفي رواية لمسلم مرفوعا : [ [ ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة ] ]
وروى الترمذي وقال حسن صحيح والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم مرفوعا : [ [ ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من أصيب بمصيبة في ماله أو في نفسه فكتمها ولم يشكها للناس كان حقا على الله أن يغفر له ] ]
وروى ابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ ساعات الأمراض يذهبن ساعات الخطايا ] ] . وعاد رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا من الأنصار فكب عليه فسأله فقال : يانبي الله ما غمضت منذ سبع ولا أحد يحضرني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ أي أخي اصبر تخرج من ذنوبك كما دخلت فيها ] ]
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات إلا واحدا مرفوعا : [ [ إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه ] ]
وروى ابن أبي الدنيا والطبراني وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إذا اشتكى المؤمن أخلصه الله من الذنوب كما يخلص الكير خبث الحديد ] ]
وروى ابن أبي الدنيا : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه : أتحبون أن لا تمرضوا : قالوا ؟ والله إنا لنحب العافية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وما خير أحدكم أن لا يذكره الله وفي رواية : فقال أتحبون أن تكونوا كالحمر ؟
وروى الإمام أحمد ورواته ثقات مرفوعا : [ [ إذا ابتلى الله عز و جل العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله عز و جل : للملك اكتب له صالح عمله الذي كان يعمل وإن شفاه غسله وطهره وإن قبضه غفر له ورحمه ] ]
وروى ابن أبي الدنيا والطبراني والبزار مرفوعا : [ [ عجبت للمؤمن وجزعه من السقم ولو كان يعلم ما له في السقم لأحب أن يكون سقيما الدهر ] ]
وروى أبو يعلي ورواته ثقات مرفوعا والبزار : [ [ لا تزال المليلة والصداع بالعبد والأمة وإن عليهما من الخطايا مثل أحد فما تدعهما وعليهما مثقال خردلة ] ] . والمليلة : هي الحمى تكون في العظم
وروى رزين العبدري مرفوعا : [ [ يقول الرب سبحانه : وعزتي وجلالي لا أخرج عبدا من الدنيا أريد أغفر له حتى استوفي كل خطيئة في عنقه بسقم في بدنه وإقتار في رزقه ] ]
وروى ابن أبي الدنيا ورواته ثقات مرفوعا : [ [ إن الله ليكفر عن المؤمن خطاياه كلها بحمى ليلة ] ] . وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ من وعك ليلة فصبر ورضي بها عن الله عز و جل خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] ]
وروى ابن أبي الدنيا والطبراني مرفوعا : [ [ الحمى من فيح جهنم وهي نصيب المؤمن من النار ] ] . وفي رواية للبزار بإسناد حسن مرفوعا : [ [ الحمى حظ كل مؤمن من النار ] ]
وروى البخاري والترمذي مرفوعا : [ [ إن الله عز و جل قال : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته الجنة ] ] يريد عينيه . وفي رواية لابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له ثوابا دون الجنة إذا هو حمدني عليها ] ]
وروى الإمام أحمد والطبراني مرفوعا : [ [ عزيز على الله أن يأخذ كريمتي مؤمن ثم يدخله النار ] ] قال يونس يعني عينيه
وروى البزار مرفوعا : [ [ لن يبتلي عبد بشيء أشد عليه من الشرك بالله ولن يبتلي عبد بعد الشرك بالله أشد عليه من ذهاب بصره ولن يبتلى عبد بذهاب بصره فيصبر إلا غفر له ] ] . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ من أذهب الله بصره فصبر واحتسب كان حقا على الله واجبا أن لا ترى عيناه النار ] ] . قلت : ومعنى حقا على الله واجبا أي من حيث الوقوع بحكم عوائد فضل الله تعالى وليس كما هو مقرر في العقائد . والله تعالى أعلم
وروى الطبراني مرفوعا : عن جبريل عليه السلام عن ربه تبارك وتعالى قال : [ [ إن الله تعالى قال : ياجبريل ما ثواب عبدي إذ أخذت كريمتيه ؟ إلا النظر إلى وجهي والجوار في داري ] ] . قال أنس : فلقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يبكون حوله يريدون أن تذهب أبصارهم . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نصبر على مصائب الزمان وإن لم نصبر صبرنا على عدم الصبر فإنه ابتلاء أيضا لما فيه من إظهار المروق من تحت الأقدار . ويحتاج صاحب هذا المقام إلى عينين : عين ينظر بها إلى تقدير الضجر عليه فيصير تحت الأقدار . وعين ينظر بها إلى الأمر بالصبر فيتصبر هذه صورة الصبر على عدم الصبر فافهم
وكذلك نأمر بالصبر والتصبر جميع إخواننا إذا ابتلوا بشيء في أنفسهم أو أموالهم نخبرهم بما جاء من الأحاديث في فضل البلاء والمرض والحمى
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ ضرورة ليعلمه أدب المرض ويخبره بأنه ما مرض عضو من أعضاء البدن الظاهرة والباطنة إلا باستعماله في غير ما أمر به إلا أن يكون معصوما فمن عرف ما قلناه ووجعه عضو فليفتش نفسه فإنه لا بد أن يكون فعل به غير ما أمر فليعزم على التوبة النصوح فهي أقرب إلى شفاء ذلك العضو وقد أغفل هذا خلق كثير فلم يتنبهوا لما قلناه فدامت أمراضهم أو طال زمنها فكل عضو عليه زكاة فإن أخرجها صاحبه منه فقد أخرج ما فيه من الخبث والمرض وإن لم يخرجها فلا بد له قبل دخوله الجنة من التطهير إما بالعفو عنه من باب الامتنان وإما بالتوبة والاستغفار وإما بالعذاب في النار
وقد قال لي شخص من العميان مقصودي أحد يفلي لي جبتي من القمل فلم أصغ إليه لا بنفسي ولا بغيري فآخذني الله تعالى بذلك وأطلع في جفن عيني دملين فصارا ينضحان قيحا وصديدا مدة سبعة أشهر حتى أنهما أجمعت الحكماء على أنهما تلفا وذهب ضوءهما وما بقي ينفع فيهما دواء فألهمني الله تعالى بتذكر ذلك الأعمى فتبت واستغفرت فخفف الألم من ذلك اليوم حتى استعجب الحكماء وقالوا هذا أمر رباني ما للخلق فيه عمل
وكذلك وقع لي في سنة خمس وخمسين أن امرأة قالت لي أكتب لي للكاشف كتابا يخلص لي ولدي من الحبس فقلت لها ليس لي معرفة بالكاشف وتركت الكتابة لها فرمدت أكثر من شهر وضعف بصري عن قراءة الخط الدقيق بعد أن كنت أقرأ الكتابة التي في داخل القمر أقرأ حروفها وأنا إلى وقتي هذا على ذلك الحال من ضعف البصر وكذلك القول في الأذن إذا قال لك شخص اسمع لي حاجتي أو سورتي وكذلك القول في الفرج إذا حصل به فاحشة ونحو ذلك فلا تطمع في معافاتك من البلاء وأنت تستعمل أعضاءك في غير ما خلقت له أبدا بحسب مقامك فإن العارفين ربما آخذ الله أحدهم بنظره إلى غيره بغير إذنه فإن ذلك لا يكون
ثم لا يخفى أن العارفين ربما كانت لهم مؤاخذتهم على ذنوب لم يؤاخذ بها غيرهم بحسب علو مقامهم
وقد نظر عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ليلة إلى السماء فحصل في قلبه قساوة فحكى ذلك لأمه فقالت : يا ولدي لعلك نظرت إلى السماء على غير وجه الاعتبار والله تعالى ما أذن لك إلا في نظر الاعتبار
ونظر بعض المريدين إلى أمرد فاسود وجهه وصار كقعر القدر حتى استغفر له الجنيد فزال سواده وكم نظر غيره إلى مثل ذلك ولا يسود له وجه فاعلم ذلك وقد نبهتك على أمر ما أظنه طرق سمعك من غيري قط فاشكرني عند ربك واحفظ جوارحك إن أردت سلامتها من العاهات والله يتولى هداك (1/235)
- روى مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي عن عثمان بن أبي العاص : أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل : بسم الله ثلاث مرات أو سبع مرات : أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ] ] . وفي رواية لمالك : [ [ أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ] ] قال عثمان : ففعلت ذلك فاذهب الله ما كان بي فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم . وفي رواية لأبي داود والترمذي عن عثمان قال : أتاني رسول الله صلى الله عليه و سلم وبي وجع قد كاد يهلكني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ [ امسح بيمينك سبع مرات وقل أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد ] ] . وروى أبو داود مرفوعا : [ [ من شكا منكم شيئا أو اشتكاه أخ له فليقل : ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ ] ] . وروى الترمذي مرفوعا : [ [ إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي ثم قل بسم الله أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد من وجعي هذا ؟ ثم ارفع يدك ثم أعد ذلك وترا ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نتداوى بذكر اسم الله عز و جل على موضع المرض والوجع ولا ندعو طبيبا إلا إذا لم يزل المرض بذكر اسم الله تعالى والعلة في عدم زوال المرض بذكر اسم الله ضعف عقيدة المسمى لله عز و جل فلو قوى يقينه لأهتز الجبل العظيم عند ذكره اسم الله تعالى كما وقع للفضيل بن عياض وسفيان الثوري حين طلعا جبل ثور . وقال الفضيل : إن من طاعة الله لعبده إذا أطاعة أن لو قال لهذا الجبل تحرك لتحرك الجبل فتحرك الجبل فقال له الفضيل اسكن لم أرد تحريكك إنما ضربتك مثلا
وكان شيخي الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري بمصر المحروسة إذا أقسم على شيء أن يتحرك تحرك . ورأيته مرة قال للوح كان بعيدا عنه نحو ثلاثة أذرع أقسمت عليك بالله أن لا جئت فزحف اللوح وأنا أنظره حتى جاء إلى الشيخ
فيحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به حضرات التعظيم لله عز و جل لتنفعل الأشياء له بذكر اسم الله تعالى فإن الله عز و جل يعامل العبد بقدر ما عنده من تعظيمه
وقد قال رجل لذي النون المصري يا سيدي علمني اسم الله العظيم فقال له موبخا أرني اسمه الأصغر حتى أعلمك الأكبر ثم قال للسائل : اعلم يا أخي أن أسماء الله كلها عظيمة فاصدق واطلب بها ما شئت يحصل
وقد كان شخص من أولياء الله تعالى يبصق على اليد المقطوعة فيلصقها فلصق يد إنسان فقال بالله عليك تعلمني ذلك فقال أقول بسم الله فقال ليس هذا هو فوقعت يده
وقد كان معروف الكرخي يقول لأصحابه : إذا كان لكم إلى الله حاجة فأقسموا عليه به ولا تقسموا عليه به تعالى فقيل له في ذلك فقال هؤلاء لا يعرفون الله تعالى فلا يجيبهم ولو أنهم عرفوه لأجابهم
وكذلك وقع لسيدي محمد الحنفي الشاذلي رحمه الله أنه كان يعدي من مصر إلى الروضة ماشيا على الماء هو وجماعته فكان يقول لهم قولوا ياحنفي وامشوا خلفي وإياكم أن تقولوا يا الله تغرقوا فخالف شخص منهم وقال يا الله فزلقت رجله فنزل إلى لحيته في الماء فالتفت إليه الشيخ وقال : يا ولدي إنك لا تعرف الله حتى تمشي باسمه تعالى على الماء فاصبر معي حتى أعرفك بعظمة الله تعالى ثم أسقط الوسائط
واعلم يا أخي أن هذا الأمر لا يكون بالتفعل وإنما هو امر يلقيه الله تعالى في قلب عبده المؤمن فيملؤه تعظيما
فاسلك يا أخي على يد شيخ حتى تعرف عظمة الله ثم بعد ذلك ارق نفسك وغيرك باسمه تعالى وإلا فلا يزول المرض برقياك بأسماء الله تعالى من حيث نسبة الأمر إليك وإلا فقد يكون الإنسان مجاب الدعوة ويكون في مدة المرض بقية فلا يجاب فما أثرت الرقي وعجلت الشفاء إلا في حق من انتهت مدة مرضه فافهم كما أن العقاقير كذلك ما أثرت في عبد حصول الشفاء إلا إذا انتهت مدة المرض ولذلك يستعمل تلك العقاقير أو الرقى شخص فلا يحصل له بها شفاء وذلك لكون مدة المرض ما انتهت ثم يجيء إنسان انتهت مدة مرضه فيستعملها فيبرأ فيقول ما رأيت أسرع في شفاء المرض الفلاني من استعمال الشيء الفلاني وإنما السر فيه ما ذكرنا من انتهاء مدة المرض فكانت الرقى والعقاقير مخففة للمرض لا غير إما بالخاصية وإما بغير ذلك
وكان سيدي الشيخ عبدالقادر الدشطوطي رحمه الله يقول : لا تطلبوا التداوي بالحكيم إلا بعد أن لا يحصل لكم الشفاء بالرقية وتعدمون الصبر وهناك تحتاجون للطبيب ضرورة لكن بشرط أن يكون من المسلمين لأن للحكيم مدخلا في الشفاء بتوجهه إلى الله تعالى في شفاء من يداويه ولا هكذا اليهود والنصاري فإنه عدو لله تعالى ولا يصلح أن يكون شافعا لنا عنده تعالى
وهذا الأمر قد كثر في الناس حتى العلماء والصالحين فصاروا يستعملون اليهود في التداوي مع أنهم يقولون لا يجوز لمسلم التيمم بقول حكيم كافر له لا تستعمل الماء يزد مرضك ولو أنه تيمم بقوله فصلاته باطلة ولم يزالوا يقررون في دروسهم للعلم أنه لا يجوز لمسلم العمل بقول كافر فكيف يليق بعاقل أن يجعل واسطته في الشفاء بينه وبين الله تعالى شخصا قد غضب الله عليه إما عاجلا وإما آجلا بالنظر للخاتمة ؟ ؟ فإياك يا أخي والتداوي باليهود فإنه نقض للعهود . { فإن الله يهدي من يشاء ومن يهدي من يشاء }
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : في التداوي بالمشركين دسيسة في الدين ولا يتنبه لها المريض وهي أنه إذا حصل له الشفاء بما وصفه له موافقة قدر يصير يميل إليه بالمحبة أمرا قهريا ويشكر فضله كلما رآه ويريد أن يعاديه كما أمره الله فلا يقدر قال : وتأمل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } . تجده تعالى ما أخبر أنه عدونا إلا لعلمه تعالى بأننا لا نعاديهم بمعاداته تعالى وحده لنقص ديننا وإيماننا فقال وعدوكم حتى لا يبقى لنا عذر في محبتهم . وهو كلام نفيس (1/236)
- روى الشيخان مرفوعا : [ [ إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار وما أحب أن أكتوى ] ] . وفي رواية لأبي داود وابن ماجه مرفوعا : [ [ إن كان في شيء مما تداويتم به خير فالحجامة ] ]
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد على شرطهما مرفوعا : [ [ أن جبريل أخبرني أن الحجم أنفع ما تداوي به الناس ] ]
وروى مالك بلاغا : [ [ إن كان دواء يبلغ الداء فإن الحجامة تبلغه ] ]
وروى أبو داود وابن ماجة والترمذي عن سلمى خادم رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : ما كان أحد يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وجعا برأسه إلا قال إحتجم ولا وجعا برجليه إلا قال : إخضبهما وروى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ ما مررت ليلة أسرى بي بملإ من الملائكه إلا قالوا إلي [ لعله : " لي " ؟ ؟ ] مر أمتك بالحجامة . وفي رواية للحاكم : ما مررت ليلة أسرى بي بملإ من الملائكة إلا كلهم يقولون يا محمد عليك بالحجامة
وروى الترمذي عن عكرمة قال كان لابن عباس أغيلمة ثلاثة حجامون فكان اثنان منهم يغدوان عليه وعلى أهله وواحد يحجمه ويحجم أهله . وقال قال ابن عباس قال نبي الله صلى الله عليه و سلم : [ [ نعم العبد الحجام يذهب الدم ويخف الصلب ويجلو عن البصر ] ] . وقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ إن خير ما تحتجمون فيه : يوم سبع عشرة ويوم تسع عشرة ويوم إحدى وعشرين ] ] . وقال [ [ إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي ] ] وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لده العباس وأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من لدني ؟ فكلهم أمسكوا فقال : لا يبقى أحد ممن في البيت إلا لد ؟ ؟ غير عمه العباس قال النضر : اللدود الوجور ؟ ؟
وروى الترمذي وأبو داود عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحتجم في الأخدعين والكاهل وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة . والأخدع : عرق في سالفة العنق . والكاهل : ما بين الكتفين
وروى الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وأبو داود مرفوعا : [ [ من احتجم لسبع عشرة من الشهر كان له شفاء من كل داء ] ] . زاد في رواية لأبي داود : [ [ من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء ] ]
وروى رزين العبدري قال الحافظ المنذري ولم أرها في الأصول : إذا وافق يوم سبع عشرة يوم الثلاثاء كان دواء السنة لمن احتجم فيه . وفي رواية لأبي داود عن أبي بكرة أنه كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء ويزعم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ
وروى ابن ماجه عن ابن عمر أنه قال : يا نافع تبيغ بي الدم فالتمس لي حجاما واجعله رفيقا إن استطعت ولا تجعله شيخا ولا صبيا صغيرا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : الحجامة على الريق أمثل وفيها شفاء وبركة وتزيد في العقل وفي الحفظ فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء والجمعة والسبت والأحد تحريا واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء فإنه اليوم الذي عافى الله أيوب وضربه بالبلاء يوم الأربعاء فإنه لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء وليلة الأربعاء . قلت : وروى الطبراني وغيره مرفوعا : يوم الأربعاء يوم نحس مستمر . وفي رواية له أخرى : آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر . وقوله تبيغ بي الدم أي غلبني حتى قهرني وقيل هو الدم المتردد في البدن مرة من هنا ومرة من هنا إذا لم يجد مخرجا وهو بمثناة فوقية مفتوحة ثم موحدة ثم مثناة تحتية مشددة ثم غين معجمة
وروى أبو داود مرسلا : [ [ من احتجم يوم الأربعاء أو يوم السبت فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه ] ] . والوضح : المراد به هنا البرص
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ إذا اشتد الحر فاستعينوا بالحجامة لا يتبيغ الدم بأحدكم فيقتله ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نحتجم كلما حدث لنا مرض يثور به الدم فإن لم نحتجم كلما حدث لنا مرض يثور به الدم فإن لم نحتجم فصدنا في ذراعنا ونحو ذلك من العروق والحكمة في ذلك أن الأوجاع سارية في الدم مثل الذرات في مني الحيوانات فإذا فصد الدم وخرج من الجسد خرج معه الألم ومتى لم يخرج الدم خبث ضرورة في البدن واحتاج المريض إلى الأدوية المسهلة . فافصد يا أخي إذا ثار وجع برأسك أو رمد بعينيك افصد في أرنبة أنفك فإني جربته لزوال الرمد فيخرج الدم الذي في العين وتصفى لوقتها . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/237)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : حق المسلم على المسلم خمس فذكر منها : وعيادة المريض وفي حديث الترمذي والنسائي مرفوعا : [ [ حق المسلم على المسلم ست فذكر منها وإذا مرض فعده ] ] . وفي حديث مسلم مرفوعا : [ [ إن الله عز و جل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب : كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ] ]
وروى الإمام أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكركم بالآخرة ] ]
وروى ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة : من عاد مريض وشهد جنازة وصام يوما وراح إلى الجمعة وأعتق رقبة ] ] . قلت فإن تعذر على العبد إعتاق رقبة فليقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات فإنها تعدل عتق رقبة كما ورد . والله أعلم
وروى الترمذي وحسنه وابن ماجه واللفظ له وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ من عاد مريضا ناداه مناد من السماء طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا ] ] . ولفظ ابن حبان : قال الله : طبت الخ
وروى أبو داود مرفوعا : [ [ من توضأ فأحسن الوضوء وعاد أخاه المسلم محتسبا بوعد من جهنم مسيرة سبعين خريفا ] ] . والخريف العام كذا فسره أنس بن مالك
وروى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ ما من مسلم يعود مسلما غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وكان له خريفا في الجنة ] ] . وفي رواية لابن ماجه : [ [ إذا عاد المسلم أخاه مشي في خرافة الجنة حتى يجلس فإذا جلس غمرته الرحمة ] ] قاله ابن الأنباري . وخرافة الجنة : هو اجتناء ثمرها يقال خرفت النخلة أخرفها فشبه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه المحترف [ المخترف ؟ ؟ ] من الثمر . قلت : زاد في رواية عن الإمام أحمد والطبراني قال أنس : يا رسول الله هذا الأجر للصحيح الذي يعود المريض فما للمريض ؟ قال : تحط عنه ذنوبه
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ إذا مرض العبد ثلاثة أيام خرج عن ذنوبه كيوم ولدته أمه ] ]
وروى ابن ماجه ورواته ثقات مشهورون إلا أن فيه انقطاعا مرفوعا : [ [ إذا دخلت على مريض فمره يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة ] ] . قلت : ودعاء الملائكة لا يرد لعصمتهم وكذلك كل من ترك المعاصي جملة من البشر استجيب دعاؤه فلا يلومن من رد دعاؤه إلا نفسه فإن الله تعالى مع العبد على حسب ما العبد معه عليه فإذا أمر الله تعالى العبد فلم يمتثل كذلك يدعوه فلم يستجب له . { جزاءا وفاقا } . والله أعلم . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ عودوا المرضى ومروهم فليدعوا لكم فإن دعوة المريض مستجابة وذنبه مغفور ] ] يعني بالمرض . وفي رواية لابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ لا ترد دعوة المريض حتى يبرأ ] ] . يعني ويعصي ؟ ؟ ربه فإن لم يعص فلا مانع من قبول دعوته . والله سبحانه وتعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نعود المرضى ونسألهم الدعاء امتثالا لقوله صلى الله عليه و سلم : عودوا المرضى . ولا نعودهم لعلة أخرى من طلب الثواب أو مكأفأة فإنه ليس للعبد شيء حتى يطالب به الحق ولا يرى أنه كافأ أحدا عاده ولو تردد هو إليه ألف مرة اللهم إلا أن يطلب الثواب من باب الفضل والمنة لعلمه بأنه تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا أو يرى أنه كافأه صورة لا حقيقة فله ذلك لكن في طلب الثواب دقيقة وهو أنه تعالى شرط في كونه لا يضيع أجر عبده أن يحسن عمله . وأي عبد يدعي أنه أحسن عمله حتى يطلب الثواب فهضم العبد نفسه بين يدي الله عز و جل واجب . وجواب هذه المسألة من علوم الأسرار لا يسطر في كتاب
وقد رأيت جماعة من الفقراء لا يعودون مريضا إلا إن عرفوا من أنفسهم أن الله تعالى يجيبهم في تخفيف ذلك المرض عن المريض أو في نقله عنه إليهم أو إلى تماسيح البحر والوحوش المؤذية وإلا دعوا له في أماكنهم من غير ذهاب إليه ويقولون دليلنا في ذلك حديث : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له جميع الجسد بالحمى والسهر . ونحن لا قدرة لنا على المشاركة في البلاء ولا نقل المرض أو تخفيفه عنه فإن أقدرنا الله تعالى عليه حضرنا عنده ومثل هؤلاء يسلم لهم حالهم والعمل بالسنة المحمدية على الوجه المتعارف بين الناس أولى لأن منازع هؤلاء خفية وربما كسروا خاطر من لم يعوده أو أدخلوا عليه هما أو حزنا بعدم عيادتهم له ويقول لو علموا أنني أعيش أتوني وعادوني وفي الحضور عند المريض من غير شرط العمل بحديث : إذا دخلتم على مريض فنفسوا له في الأجل فإنه أطيب لنفسه
فطلب الشارع صلى الله عليه و سلم الحضور عند المريض من غير شرط وأمرنا بالتنفيس عنه كقولنا له : أنت طيب بخير وعافية لا تخف ولكن لا تغفل عن التوبة والاستغفار فإن الله تعالى يقبل توبتك الآن لضعف الداعية إلى فعل ذلك الشيء الذي تتوب عنه . والقاعدة عند أهل الشريعة أن الميسور لا يسقط بالمعسور فعلى ما شرطه هؤلاء الأشياخ بتقدير تحمل المرض وتخفيفه إذ تعسر التحمل لا يسقط الحضور كما قالوا إذا لم يحفظ شيئا من القرآن يقف بمقدار ما كان يقرأ
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا ينبغي لمن يعود مريضا أن يكون متلطخا بذنب من الذنوب الظاهرة والباطنة فإن دعاء العصاة محجوب عن حضرة الإجابة بل الذي ينبغي أن يكون على طهارة ظاهرة وباطنة
فعد يا أخي إخوانك امتثالا لأمر الشارع ولا تطلب منهم أن يكافئوك إذا مرضت بل افرح إذا لم يعدك أحد فإن تلك الضعفة ربما تكون هي القاضية ولا أحد يكافئهم عنك . { والله غفور رحيم }
وإذا صرت عالما أو شيخ زاوية فإياك أن تتكبر عن عيادة أحد من المسلمين بل عد المسلمين كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم محترفهم وأميرهم لكن بنية صالحة بحيث لا ترى لنفسك بذلك فضلا على أحد ممن عدتهم من فقراء المسلمين فتنظر إلى ضخامتك في عيون الناس وحقارة ذلك الفقير فإن رأيت لنفسك فضلا على وجه الكبر أثمت وضللت عن السنة ضلالا مبينا وسيأتي في الأحاديث تقييد حصول الثواب بكونه محتسبا . والله أعلم
وقد رأيت بعض المخنفسين يخص العوام بالزيارة والعيادة ويقول إنهم يحصل لهم جبر خاطرهم بزيارتنا وعيادتنا لهم لضخامتنا فنبهته على نقص هذا المشهد فتاب إلى الله تعالى وأمرته بالأخذ عن شيخ يخرجه عن علل الأعمال فامتثل وحصل له خير كبير وصار يستغفر الله تعالى من جميع إخلاصه الذي كان يشهده قبل الاجتماع بأهل الطريق : و { الحمد لله رب العالمين } (1/238)
- روى أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري مرفوعا : [ [ من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات : أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض ] ] . وروى الترمذي وقال حديث حسن والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم مرفوعا : [ [ من قال لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه فقال : لا إله إلا أنا وأنا أكبر وإذا قال : لا إله إلا الله وحده قال يقول الله لا إله إلا أنا وحدي وإذا قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال يقول الله صدق عبدي لا إله إلا أنا وحدي ولا شريك لي وإذا قال : لا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال يقول الله لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد وإذا قال : لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال : لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي وإذا قال : لا إله إلا الله له الملك وله الحمد صدقه كذلك وإذا قال : لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله صدقه كذلك وكان صلى الله عليه و سلم يقول : من قال هذه الكلمات في مرضه ثم مات لم تطعمه النار ] ] . وروى ابن أبي الدنيا معضلا مرفوعا : [ [ ما من مريض يقول : " سبحان الله الملك القدوس الرحمن الملك الديان لا إله إلا أنت مسكن العروق الضاربة ومنيم العيون الساهرة " إلا شفاه الله تعالى ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ إذا دخلتم على مريض فأمروه فليدع لكم فإنه مجاب الدعوة ] ] . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ندعو للمريض بما ورد في السنة وكذلك نأمر المريض أن يدعو كذلك بما ورد ولا نخترع دعاء من عند أنفسنا فنعطل ما ورد في السنة وذلك سوء أدب مع الشارع . ورأيت في كلام بعض العارفين أن من دعا بغير ما ورد لا يستجيب الله دعاءه إلا إن كان مضطرا فإن دعا في غير إضطرار فلا يستجاب له فقيل له إن الأحاديث جاءت مطلقة عن هذا القيد فقال يحمل المطلق على المقيد ولأي شيء يترك الإنسان ما ورد من كلام أعرف الخلق بالله على الإطلاق وأكثرهم أدبا معه ويخترع هو دعاء قليل الأدب والنفع قليل المعاني . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إنما كان الحق تعالى يستجيب دعاء من دعاه بما ورد لأن ما ورد من جملة الوحي والوحي صفة من صفات الله تعالى فكأن الصفة تخاطب موصوفها بخلاف غير الوحي . فكلف خاطرك يا أخي واحفظ ما ورد من الأحاديث في الدعاء للمريض ومر المريض لتصير من أهل السنة في ذلك . والله تعالى أعلم (1/239)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين وفي رواية ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده وكان ابن عمر يقول : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي مكتوبة . قلت : ومعنى قوله ما حق امرئ مسلم الخ . أي ليس له أن يبيت ليلتين أو ثلاثا إلا ووصيته مكتوبة بما له وبما عليه وهذا الأمر قليل فاعله فيستحي أصحاب المريض أن يقولوا له أوص خوفا عليه من الفزع وليس على بال المريض موت كما جرب ذلك وقالوا إن المريض يخاف الموت في كل ضعفة إلا ضعفة الموت فيطول أمله فيها والنصح من الإيمان وشيء أمر به الشارع الذي هو أرحم بالإنسان من أمه لا عذر في تركه لأحد مراعاة لخاطره وكم اشتغلت ذمم أموات بتركهم الوصية وحبسوا عن مقامهم الكريم حتى توفى عنهم ديونهم وربما شحت الورثة بذلك المال الذي على ميتهم فلم يوفوا عنه فيصير محبوسا في البرزخ إلى يوم القيامة فالله ورسوله أحق بالطاعة من ذلك المريض الذي يخاف عليه الموت . والله تعالى أعلم . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ من مات على وصية مات على سبيل الله وسنة ومن مات على تقى وشهادة مات مغفورا له ومن مات على غير وصية فنفسه محبوسة بدينه حتى يوفى عنه لتقصيره وإن كان له مال ] ] . وروى أبو يعلي بإسناد حسن عن أنس قال : كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم فجاء رجل فقال : يا رسول الله مات فلان قال : أليس كان معنا آنفا قالوا بلى يا رسول الله قال : سبحان الله كأنها أخذة غضب المحروم من حرم وصية . وروى الطبراني عن ابن عباس قال : [ دترك الوصية عار في الدنيا ونار وشنار في الآخرة ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا كتبنا وصية في المرض أن نعدل فيها ولا نضار بأحد من الورثة
سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا ينبغي لأحد أن يوصي بدفنه في مكان معين إلا إن أعطاه الله تعالى علم ذلك من طريق كشفه الصحيح الذي لا يدخله محو أن ذلك المكان الذي عينه هو الذي ذر على سرته منه يوم ولد وعرف الملك الذي ذره عليه
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : أعرف موضع طينتي التي عجنت مع طينة أبي آدم عليه السلام ولم تزل روحي تشاهد ذلك المكان إلى وقتي هذا فقلت له سألتك بالله أن تعلمني بمحلها . فقال على يمين منزل الحاج ببدر قريبا من مسجد الغمام . فلما حضرته الوفاة سافر إلى هناك فدفن بها فكان الأمر كما قال وأخبرتني والدته بعد موته أنه قال لها ليلة النصف من شعبان تلك السنة التي مات فيها : إن ورقتي الليلة نزلت بموتي ودفني في بدر . قالت : فقلت إن ولدي ميت تلك السنة لأني ما عهدت عليه قط كذبا فسافر تلك السنة إلى مكة وهو مريض فصار الناس يقولون له حج مثلك لا يجب ولا يستحب بالإجماع فيقول ما أنا مسافر للحج وإنما أسافر لقبري فمرض في الذهاب ومات قبل بدر بمرحلة فحمل إلى بدر رضي الله عنه فمثل هذا هو الذي يوصي بالدفن بمكان معين
وقد قال شخص لسيدي علي الخواص مرة : دستور نعمل لكم مدفنا فيه ؟ فقال نحن ليس لنا مع الله اختيار في حال حياتنا فكيف يكون لنا معه اختيار بعد موتنا . ولما مات وخرجنا مع جنازته للصلاة عليه في جامع الحاكم بمصر وكانت السماء تمطر كأفواه القرب حال الصلاة عليه قلت لأخي أفضل الدين : أي مكان تقولون يدفن ؟ فقال في زاوية الشيخ بركات خارج باب الفتوح فعارض في دفنه هناك شرف الدين الصغير أكبر جماعة الديوان وقال لا بد من دفنه في تربتي بالقرب من الإمام الشافعي وساعده في ذلك جماعات كثيرة وأخي أفضل الدين يقول لي : لا تتكلم لو كان معهم جن سليمان ما قدر أحد ينقله إلى القرافة فكان الأمر كما قال فخطف التابوت جماعة من الزعر والشطار وخرجوا به نحو باب الفتوح رضي الله عنه
وكان سيدي علي وأخي أفضل الدين يكرهان بناء القبة على القبر ووضع التابوت الخشب والستر عليه ونحو ذلك لآحاد الناس ويقولون هذا لا يليق إلا بالأنبياء ومن داناهم من الأولياء الأكابر وأما نحن فمقامنا الدفن تحت نعال الناس في الشوارع
ورأى أخي أفضل الدين مجذوبا طلع لنائب مصر وقال له ابن لي زاوية وقبة فقال قد طاب الموت لكل عاقل إذا كان المجاذيب صاروا في هذا الزمان الخبيث يحبون الشهرة ويطلبون من الظلمة أن يعمروا لهم زاوية مع كونهم معدودين من الأولياء فكيف بأمثالنا الذين الفتنة إليهم أقرب من شراك نعلهم
وكان سيدي محمد بن عنان وسيدي أبو العباس الغمري وسيدي محمد المنير وغيرهم رضي الله عنهم يعتبون على الفقير إذا بني له ضريحا أو عمل له مقصورة في حال حياته ويقولون هذا كله من بقايا شهوات النفوس
وأما الوصية بدعاء الناس إلى صلاة الجنازة فلا بأس للعبد أن يوصي إخوانه أن يدعوا إخوانهم في جنازته بقصد تكثير الشافعين لكثرة ذنوبه لا لعلة أخرى نفسانية وإن كان مصلى الجنائز يضيق في العادة عن جنازة مثله فليوص بالصلاة عليه في محل واسع بقصد تخفيف التعب والزحمة على الناس لا لعلة أخرى فاعلم ذلك واعمل عليه والله يتولى هداك (1/240)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة : يا رسول الله أما كراهية الموت فكلنا نكره الموت قال : ليس ذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه ] ] . وتقدم في حديث ابن أبي الدنيا مرفوعا : [ [ اللهم من آمن بي وصدقني وعلم أن ما جئت [ به الحق من عندك فقلل ماله وولده وحبب ؟ ؟ ] إليه لقاءك وعجل له القضاء ومن لم يؤمن بي ولم يصدقني ولم يعلم أن ما جئت به الحق من عندك فلا تحبب إليه لقاءك ولا تسهل عليه قضاؤك وأكثر له من الدنيا ] ] . وفي رواية لابن ماجه : [ [ فأكثر ماله وولده وأطل عمره ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا دخلنا على من حضره الموت أن نحببه في لقاء الله تعالى ونقول له . يا فرحك قرب قدومك على أرحم الراحمين وعلى من هو أرحم بك من والدتك ونقول له هذا مصير الأولين والآخرين ما ترى من الله إلا ما يسرك فإذا صغى لقولنا ومات على ذلك أحب تعجيل اللقاء ضرورة فأحب الله لقاءه ونقول له ألك على أحد حق أو لأحد عليك حق لتبنى عليه مقتضاه ؟ ونعرض له بالعفو عن جميع الناس الذين آذوه في دار الدنيا ليعفو الله تعالى عنه وإذا رأينا أسارير جبهته اصفرت ونارت وتحول في جبهته دارة فذلك علامة السعادة فإذا رأيناه قد علا عليه قتر وسواد وزرقة فذلك علامة الشقاء فإن غلب على ظننا قبول شفاعتنا فيه شفعنا فيه ومكثنا عنده حتى يحول الله الأمر وإن لم يلق الله تعالى في قلبنا أنه يقبل شفاعتنا فيه فارقناه مع السكوت ورد الأمر فيه إلى الله تعالى ثم لا ينبغي لأحد منا بعد ذلك أن يضحك ولا ينبسط في مأكل ولا غيره حتى يموت بعد أن شاهدنا من كان يصلي ويصوم ويحج معنا قد ختم له بسوء فوالله إن أحوالنا تشبه أحوال البهائم السارحة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . واعلم يا أخي أنه قد يقع لبعض الأولياء أنه ينطق بموسى أو عيسى عند طلوع روحه فيظن به أنه ختم له باليهودية أو النصرانية وليس كذلك وإنما ينطق بذلك لكونه وارثا له في المقام فكأنه يشير إلى الحاضرين أن كل من كان متعلقا بنبي أو رسول أو ولي فلا بد أن يحضره ويأخذ بيده في الشدائد فليس ثم أعلى مقاما ممن يذكر محمدا رسول الله عند الموت فإن من كان وارثا له حاز إرث جميع الأنبياء بذكر محمد صلى الله عليه و سلم عن الجميع . { الحمد لله رب العالمين } (1/241)
- روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون قالت أم سلمة : فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات قال فقولي : اللهم اغفر لي وله وأعقبني منه عقبى حسنة فقلت ذلك ] ] فأعقبني الله من هو خير لي منه محمد صلى الله عليه و سلم . وقوله المريض أو الميت هو خاص برواية مسلم وليس في رواية غيره شك . وفي رواية لمسلم وأبي داود وغيرهما عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ [ ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإن إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ] ] إلا أجره في مصيبته وأخلفه خيرا منها . قالت فلما مات أبو سلمة قلت أي النس خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم إني قلتها فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه و سلم . ولفظ رواية الترمذي مرفوعا : [ [ إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني بها وأبدلني خيرا منها ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا يرضاه ] ] . وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم قولهم عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون ] ] . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب له من الأجر مثله يوم أصيب ] ] . وروى الترمذي وحسنه وابن ماجه في صحيحه مرفوعا : [ [ إذا مات ولد العبد فحمد الله واسترجع قال الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد ] ] . والله أعلم . قلت : وفي هذا الحديث استئناس لمن قال إن مساكن الجنة لا تخلق إلا بعد وجود المكلف وعمله بما أمره الله به وأن قوله تعالى . { أعدت للمتقين } . المراد به أعدت لهم قبل دخولهم وكذلك يؤيده حديث : غراس الجنة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . ومن فعل كذا بنى الله له بيتا في الجنة وإن كان مذهب أهل السنة والجماعة غير ذلك وهو أنها بنيت وفرغ من بنائها كما هو مقرر في كتب العقائد . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) إذا مات لنا ميت أن نكثر من حمد لله ومن قول : { إنا لله وإنا إليه راجعون } . امتثالا لأمر الشارع في ذلك فاعلم أنه لا ينبغي لعالم أو صالح أن يقول واولداه واذرعاه ونحو ذلك من الألفاظ التي لو جلس يقولها إلى أن تقوم الساعة لا يكتب له بها حسنة ولا يخفف عنه ما في قلبه من النار التي يحس بها والد الميت أو أمه فيه كأن جسده قد حشي جمرا . فاتبع يا أخي السنة المحمدية في كل قول وفعل والله يتولى هداك . وقد بسطنا الكلام على هذا العهد في عهد موت الأولاد من عهود المشايخ . والله تعالى أعلم (1/242)
- روى الطبراني ورواته محتج بهم في الصحيح والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم مرفوعا : [ [ من غسل ميتا فكتم عليه غفر الله له أربعين كبيرة ومن حفر لأخيه قبره حتى يستره أو يواريه فكأنما أسكنه مسكنا حتى يبعث ] ] . وفي روية لمسلم : [ [ من غسل مسلما فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة ومن كفن ميتا كساه الله من سندس وإستبرق الجنة ] ] . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ من حفر قبرا بنى الله له بيتا في الجنة ومن غسل ميتا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ومن كفن ميتا كساه الله من حلل الجنة ] ] . وفي رواية له أيضا : من غسل ميتا فكتم عليه طهره الله من ذنوبه ] ] . وفي رواية لابن ماجه مرفوعا : [ [ من غسل ميتا وكفنه وحنطه وحمله وصلى عليه ولم يفش عليه ما رآى خرج من ذنوبه كيو مولدته أمه ] ] . وروى الحاكم وقال رواته ثقات مرفوعا : [ [ زر القبور تذكر بها الآخرة واغسل الموتى فإن معالجة جسد خاو موعظة بليغة وصل على الجنائز لعل ذلك أن يحزنك فإن الحزين في ظل الله يتعرض كل خير ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا في تغسيل الموتى وتكفينهم وفي حفرهم القبور وإذا قالوا ما نعرف نغسل أو نكفن أو نحفر علمناهم كيفية ذلك على حسب ما ورد في السنة ونكتم على الميت ما نراه عليه من السوء
وهذا العهد ينبغي لكل مسلم أن يتعلمه مبادرة لاغتنام الأجر وتوفرة الغرامة للفلوس لا سيما الفقراء المجاورون في المساجد والزوايا فإنه إذا لم يكن أحد منهم يعرف يغسل ولا يكفن يصير الميت معوقا حتى يأتوا بشخص من موضع بعيد بأجرة أو بغير أجرة وربما تغيرت رائحة الميت بالتأخير ولو أن أحدا منهم تعلم كيفية ذلك لما حملوا منة رجل غريب ثم الذي ينبغي للأغنياء المسلمين إذا مات في حاراتهم فقير أن يكفنوه احتسابا لوجه الله تعالى ويقبح عليهم أن يردوا فقيرا وأن يروا فقراء يتحملون الدين لأجل كفن ذلك الفقير وكذلك ينبغي لشيخ الزاوية أو العالم الذي في الحارة أن يكفن ذلك الفقير من ماله الزائد على قوت يوم وليلة ولو أنه يبيع ثوبه أو عمامته المستغنى عنه ويقبح على شيخ الزاوية والذي يصطاد الدنيا بفقرائها أن يرى فقيرا عنده محتاجا إلى الكفن وهو يتلاهى عنه وعنده وعليه الثياب الفاخرة والمال وأف على لحيته ثم أف
وقد كان اخي العبد الصالح الشيخ عبدالقادر شقيقي رحمه الله يغسل الموتى ببلاد الريف ويكفنهم من عنده على ذمة الله تعالى ويوفى ثمن ذلك للبزازين والقزازين شيئا فشيئا إلى أن يوفى لهم الثمن وما قال لأهل ميت في بلدة قط هل عندكم كفن أم لا ؟ ويقول : { من عمل صالحا فلنفسه } . لا لغيرها وكان إذا أحسن إليه أحد بشيء يقول فلان من المحسنين لأنفسهم وما قال قط فلان من المحسنين لي ويقول قد يكون صاحب تلك الحسنة يحب عدم إظهارها وكان يقول من شرط المؤمن أن يكون كل شيء دخل في يده من الدنيا على اسم المحاويج من نفسه أو من غيره والملك في ذلك كله لله والمنة له على العباد لا لنا . وقال له مرة ولده اشتر لنا بقرة نأكل لبنها أو ثورا نحرث عليه أو حمارة نركبها فقال له يا ولدي انظر بهائم بلدنا إذا رجعت كلها من المرعى آخر النهار فإنها لو كانت كلها في داري ما رأيت نفسي أحق من المسلمين بشعرة منها فلا فرق يا ولدي بين أن تكون هذه البهائم كلها في داري أو عند الناس كلها سواء إنما هي أوهام تقوم في مخيلات الخلق لشهودهم الملك لهم فيها مع غفلتهم عن الله تعالى
وقد كان أخي هذا فقيها من فقهاء الريف رضي الله عنه وقد حلف لي بعض الإخوان بالله العظيم ثم بالطلاق الثلاث أنه لو وضع جميع مشايخ الزوايا بمصر في كفة والشيخ عبدالقادر هذا في كفة لرجح بالجميع فبهدي هذا الأخ يا أخي اقتده وكفن يا أخي الموتى وغسلهم واحفر لهم ولو بأجرة أو هدية والله يتولى هداك (1/243)
- روى مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم مرفوعا : [ [ حق المسلم على المسلم ست فذكر منها وإذا مات فاتبعه ] ] . وروى الإمام أحمد بإسناد حسن مرفوعا : [ [ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ] ] . وكان يقول : المسلم على المسلم ست فذكر منها ويتبعه إذا مات زاد في رواية : فمن ترك خصلة منها فقد ترك حقا واجبا . وروى الإمام أحمد البزار وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكركم الآخرة ] ] . وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان ] ] قيل وما القيراطان قال " مثل الجبلين العظيمين " . وفي رواية للبخاري : [ [ ومن تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معه حتى يصلى عليه ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط ] ] . وروى مسلم مرفوعا : [ [ من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها واتبعها حتى تدفن كان له قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أحد ومن صلى عليها ثم رجع كان له قيراط مثل أحد ] ] . وروى البزار ورواته ثقات رواة الصحيح موقوفا : [ [ من أتى جنازة في أهلها فله قيراط فإن تبعها فله قيراط فإن صلى عليها فله قيراط فإن انتظرها حتى تدفن فله قيراط ] ] . وروى البزار مرفوعا : [ [ إن أول ما يجازي به العبد بعد موته أن يغفر لجميع من تبع جنازته ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نشيع موتى المسلمين ونحضر دفنهم ولا نرجع من غير حضور الدفن إلا لأمر أهم منه شرعا امتثالا لأمر الشارع وقياما بواجب حق أخينا المسلم في الصلاة عليه وحضور دفنه وقياما بواجب حق أهله ومراعاة لخاطرهم فإنه مطلوب . وقد سئل الحسن البصري عمن يحضر الجنازة مراعاة لخاطر أهلها هل يقدح ذلك في الإخلاص ؟ فقال لا كلا الأمرين مطلوب . ويتعين ذلك على كبير الحارة لكونه إذا حضر حضرت الناس فيكون له إن شاء الله تعالى مثل ثواب من حضر بحضوره قياسا على ما ورد في المؤذن : إنه يعطي مثل ثواب من حضر إلى الصلاة بأذانه . وينبغي لعالم الحارة أو شيخ الفقراء في الحارة أن يعلم من يريد المشي مع الجنازة آداب المشي معها من عدم اللغو فيها وذكر من تولى وعزل من الولاة أو سافر ورجع من التجار ونحو ذلك فإن ذكر الدنيا في ذلك المحل ما له محل . ومما جرب أن كثرة الكلام اللغو تميت القلب وإذا مات القلب في طريق الجنازة شفعوا في الميت بقلوب ميتة فلا يستجاب لهم فأخطأ من لغا في طريق الجنازة في حق نفسه وفي حق الميت . وقد كان السلف الصالح لا يتكلمون في الجنازة إلا بما ورد وكان الغريب لا يعرف من هو قريب الميت حتى يعزيه لغلبة الحزن على الحاضرين كلهم . وكان سيدي علي الخواص رضي الله عنه يقول إذا علم من الماشين مع الجنازة أنهم لا يتركون اللغو في الجنازة ويشتغلون بأحوال الدنيا فينبغي أن نأمرهم بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن ذلك أفضل من تركه ولا ينبغي لفقيه أن ينكر ذلك إلا بنص أو إجماع فإن مع المسلمين الأذن العام من الشارع بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم كل وقت شاءوا ويالله للعجب من عمى قلب من ينكر مثل هذا وربما غرم عند الحكام الفلوس حتى يبطل قول المؤمنين لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم في طريق الجنازة وهو يرى الحشيش يباع فلا يكلف خاطره أن يقول للحشاش حرام عليك بل رأيت منهم فقيها يأخذ معلوم إمامته من فلوس بائع حشيش والبرش . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (1/244)
- روى مسلم والترمذي والنسائي مرفوعا : [ [ ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه ] ] . وروى مسلم وأبو داود وابن ماجه مرفوعا : [ [ ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه ] ] . وكان ابن عباس رضي الله عنهما يؤخر الجنازة حتى يبلغ المصلون أربعين رجلا لهذا الحديث . وفي رواية للنسائي مرفوعا : [ [ ما من مسلم يصلي عليه أمة من الناس إلا شفعوا فيه ] ] . فسؤل أبو المليح عن الأمة فقال : أربعون وفي رواية لأبي داود واللفظ له وابن ماجه والترمذي مرفوعا : [ [ ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب ] ] . يعني وجبت له الجنة . وكان الإمام مالك إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف لهذا الحديث . وروى الترمذي مرفوعا : [ [ من عزى مصابا فله مثل أجر صاحبه ] ] . وفي رواية له : [ [ ومن عزى ثكلى كسي برداء في الجنة ] ] . وفي رواية لابن ماجه مرفوعا : [ [ ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نرغب إخواننا في أن يدعوا معارفهم إلى حضور جنازة من مات لهم وفي تعزية أهل الميت طلبا لحصول كثرة الأجر للميت وللمصلين عليه وللمعزين لأهله . واعلم يا أخي أن الله تعالى ما ندبنا للصلاة على الميت إلا وهو يريد منا قبول شفاعتنا فيه فله الفضل والثناء الحسن . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لا ينبغي لفقيه أن يبادر للإمامة على جنازة إلا إن كان يعلم من نفسه أنه ليس عليه ذنب فإن شرط الشافع في غيره أن يكون مغفورا له فإن قدموه وعزموا عليه تقدم وهو مستح من الله خجلان وصلى بالناس . وكان الحسن البصري يقول : أدركنا الناس وهم يرون الأحق بالصلاة على جنائزهم من رضوه لفرائضهم . ف { الحمد لله رب العالمين } (1/245)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان ] ] . وفي رواية ينقص من عمله . وفي رواية لمسلم : [ [ أيما أهل دار اتخذوا كلبا إلا كلب ماشية أو كلب صيد نقص من عملهم كل يوم قيراطان ] ] . وفي رواية للشيخين مرفوعا : [ [ من أمسك كلبا فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط إلا كلب حرث أو ماشية ] ] . وروى الترمذي وابن ماجه واللفظ للترمذي وقال حديث حسن مرفوعا : [ [ لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم ] ] . وروى مسلم وغيره : أن جبريل عليه السلام واعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتيه في ساعة فجاءت تلك الساعة ولم يأته ثم التفت فرأى صلى الله عليه و سلم جرو كلب تحت سريره فقال أخرجوه فأخرج فدخل جبريل فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم وعدتني فجلست لك ولم تأتني ؟ فقال منعني الكلب الذي كان في بيتك إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة . وروى أبو داود أن ذلك الجرو كان للحسين أو الحسن رضي الله عنهما . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نقتني كلبا إلا لصيد أو ماشية أو حراسة دارنا من اللصوص ونحو ذلك من الأغراض الصحيحة وذلك لأسرار يعرفها من كان حاضرا عند صدور العالم من الغيب إلى الشهادة وأطلعه الله تعالى على ما انطوى عليه الكلب من الصفات ويعرف ما استند إليه من قال بنجاسته ومن قال بطهارته من الأئمة المجتهدين . والله تعالى أعلم (1/246)
- روى مالك وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة والحاكم وصححه مرفوعا : [ [ الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب ] ] . والدليل على أن ما دون الثلاثة من المسافرين عصاة هذا الحديث ومعنى الشيطان هذا العاصي كقوله تعالى : { شياطين الإنس والجن } . معناه عصاة الإنس والجن وبوب عليه ابن خزيمة باب النهي عن سفر الاثنين . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نسافر سفرا قصيرا فضلا عن الطويل إلا مع رجلين فأكثر . ومن فوائد ذلك ما إذا عرض لنا عارض من مرض أو وقوع من على دابة فواحد يجلس عندنا وواحد يبلغ الناس خبرنا أو يأتينا بما احتجنا إليه لذلك العارض من سكر أو مبلول أو جبيرة ونحو ذلك . ومن فوائد ذلك أيضا الأنس بالرفيق لأهل حضرة المراقبة لله عز و جل فإن شهود العبد أن الله يراه له هيبة عظيمة فافهم وما نهانا الشارع صلى الله عليه و سلم عن فعل شيء قط إلا لحكمة بالغة وفي كلام القوم : خذ الرفيق قبل الطريق . { والله حكيم عليم } . وقد روى البخاري والترمذي وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده ] ] . وروى الإمام أحمد بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه و سلم أعنى راكب الفلاة وحده قلت ويؤيد ذلك حديث : [ [ يد الله مع الجماعة ] ] أي تأييده . ومن حرم التأييد من الله فقد لعن أي أبعد عن أهل حضرته بإسدال الحجاب بينه وبين حضرة الله عز و جل وإلا فمن لا يتحرك إلا إن حركه الله عز و جل أين طرده ؟ ؟ . فافهم والله تعالى أعلم (1/247)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها ] ] . وفي رواية أخرى لهم : مسيرة يوم . وفي أخرى لهم : مسيرة ليلة . وفي رواية لهم ولأبي داود وابن خزيمة : أن تسافر بريدا . قلت : ولعل اختلاف هذه الروايات إنما هو من حيث أمن الطريق وعدمه . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نمكن امرأة من حلائلنا تسافر وحدها بغير محرم أو نسوة ثقات وكذلك لا نمكنها تخرج لزيارة في حارة قليلة الناس أو فيها من يخشى منه من الجند والعياق إلا مع محرم وهذا العهد يخل بالعمل به كثير من المغفلين فربما أمسكوا زوجته فزنوا بها وهتكوها فيصير زوجها في حيرة بين فراقها وبين الإقامة معها ومثل حلائلنا في ذلك أولادنا المرد فلا نمكنهم قط من الخروج لمواضع التنزهات وغيرها إلا مع من يوثق به لا سيما إن كان أحدهم جميل الصورة
وقد كان سيدي محمد بن عراق لا يمكن ولده سيدي عليا أن يخرج إلى السوق حين كان أمرد إلا ببرقع خوفا عليه من السوء وخوفا على الناس من الفتنة رضي الله عنهما وما رأيت في عصرنا هذا أكثر غيرة على عياله من سيدي الشيخ أبي الفضل بن أبي الوفا رضي الله عنه وعن جميع ساداته كان إذا طلب العيال الحمام ينزلهم بالليل في زورق من الروضة إلى مصر العتيقة ويقذف بهم وحده ثم يطلع بهم إلى الحمام فيدخله قبلهم ويفتش جميع عطفه من مستوقد والسطوح ثم يخرج من يكون هناك ويغلق باب الحمام ويجلس على بابه حتى يقضين حاجتهن ثم يردهن كذلك إلى المراكب ويطلع بهن إلى البيت ليلا رضي الله عنه
ويليه في ذلك سيدي الشيخ أبو السعود ابن سيدي مدين رضي الله عنه كان لا يمكن أحدا مطلقا من دخول بيته لا في مرض ولا غيره
ويليه في ذلك الأمير الصالح محيي الدين بن أبي أصبغ رأيته يفعل في دخول الحمام كما كان يفعل سيدي الشيخ أبو الفضل السابق ورأيته إذا احتاج عياله إلى الفصد لا يستعمل إلا الجرائحي الذي طعن في السن فهؤلاء الثلاثة الذين اطلعت على ضبطهم لعيالهم هذا الضبط فجزاهم الله عن ذلك خيرا آمين
وليس ذلك ممن باب سوء الظن بالعيال أو بالأجانب وإنما هو تنزه عن مواضع الريبة فيعاملهم معاملة من يسيء الظن من غير سوء ظن فافهم فإن الكمل لا يراعون جانبا دون جانب فكان في ذلك الفعل مراعاة الجانبين
وممن اطلعت عليها من النساء تخاف على رؤية شخصها وهي في الإزار وتستحي أن يراها أحد وهي خارجة من الخلاء زوجتي فاطمة أم عبدالرحمن رضي الله عنها سافرت بها إلى الحجاز ثلاث مرات فما أظن أن العكام رأى لها حجما قط من حين خرجت من بيتها إلى أن دخلت مكة المشرفة ثم رجعت إلى بيتها وكانت تركب في مثل العقبات فوق ظهر القتب داخل الحمل المغطى ونزل نساء الأكابر كلهم في نزول العقبة وطلوعها وهي لم تنزل وما شعرت قط بقضاء حاجتها لا في المحطات ولا في حال السير رضي الله عنها ولم تركب قط حمارا وقالت لا أستطيع أن يراني أحد حتى الكحال عجزت فيها أنه يرى عينها فلم أقدر عليها ورضيت بالوجع وصبرت حتى زال الرمد وضاق ميق عينها اليسرى عن العين اليمنى إلى الآن فهذا أمر رأيته منها ولم يبلغني وقوع ذلك لأحد من عيال إخواننا فالحمد لله رب العالمين على ذلك (1/248)
- روى مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم مرفوعا : [ [ لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس ] ] . زاد في رواية لأبي داود ولا جلد نمر . وروى مسلم وأبو داود وغيرهما مرفوعا : [ [ الجرس مزامير الشيطان ] ] . وروى النسائي مرفوعا : [ [ لا تدخل الملائكة بيتا فيه جرس ] ] . ولفظ ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إن العير التي فيها الجرس لا تصحبها الملائكة ] ] . وروى ابن حبان في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر . وفي رواية لأبي داود مرفوعا : [ [ مع كل جرس شيطان ] ] . وروى النسائي مرفوعا : [ [ لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلجل ؟ ؟ ] ] وكان ابن عمر يحدث بهذا ويقول كم نرى من في الركب من جلجل . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نصطحب كلبا أو جرسا في سفر أو غيره . وهذا العهد يخل بالعمل به كثير من طلبة العلم الذين يسافرون الحجاز والشام ونحوهما فيقرون الجمال على وضع الجرس في أعناق الجمال وأرجلها مع قدرتهم على إزالة ذلك ولو أنهم قالوا للجمال إن لم تقطع هذا الجرس ما سافرنا معك لقطعه اغتناما للأجرة وقد رأيت كلبا سافر مع صاحبه إلى مكة فذكرت له الحديث في ذلك فقال لي فقير دعه فإنه قد يكون من الجن فسكت عنه . { والله عزيز حكيم } (1/249)
- روى مسلم وأبو داود والحاكم مرفوعا : [ [ لا ترسلوا مواشيكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء فإن الشيطان يعبث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء ] ] . ولفظ رواية الحاكم : [ [ احبسوا صبيانكم حتى تذهب قزعة العشاء فإنها ساعة تنتشر فيها الشياطين ] ] . وفي رواية لأبي داود وابن خزيمة في صحيحه مرفوعا : [ [ أقلوا الخروج إذا هدأت الرجل فإن الله يبث في ليله من خلقه ما شاء ] ] . وروى مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم مرفوعا : [ [ إذا عرستم فاجتنبوا الطريق فإنها طريق الدواب ومأوى الهوام بالليل ] ] . وفي رواية لابن ماجه : [ [ إياكم والتعريس على جواد الطريق والصلاة عليها فإنها مأوى الحيات والسباع واجتنبوا قضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن ] ] . قال الحافظ المنذري والتعريس هو نزول المسافر آخر الليل ليستريح . وروى أبو داود والنسائي مرفوعا : [ [ إن الناس كانوا إذا نزلوا تفرقوا في الشعاب والأودية فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم إنما ذلكم من الشيطان ] ] . قال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه فلم ينزلوا بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نسافر في أول الليل ولا نعرس في الطريق ولا نفترق عن أصحابنا في المنازل إلا لضرورة أخرى أشد مما ذكرناه وإذا كان أمير الركب جاهلا فينبغي تعليمه ذلك ثم إن خالف فلا لوم على الناس وإنما اللوم عليه وحده . وفي نهي الشارع لنا عن ذلك عدة مصالح يعرفها أهل الله عز و جل لا تسطر في كتاب يدركها من عرف تجليات الحق تعالى في الليل ولو كشف لمن يسافر أول الليل الحجاب لذاب كما يذوب الرصاص ونظيره من يطوف بالكعبة ليلا كما قاله بعضهم . { والله عزيز حكيم } (1/250)
- روى الطبراني والبيهقي مرفوعا : [ [ تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم فإنه من كانت الدنيا أكبر همه أفشى الله ضيعته وجعل فقره بين عينيه ] ] . وفي رواية لابن ماجه بإسناد صحيح مرفوعا : [ [ من كانت الدنيا أكبر همه فرق الله عليه ضيعته ] ] . أي أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له وفي رواية لابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إنه من تكن الدنيا همته يجعل الله تعالى فقره بين عينيه وشتت عليه ضيعته ] ] . أي فرق عليه حاله وصناعته ومعاشه وما هو مهتم به وشعبه عليه ليكثر كده ويعظم تعبه . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من كانت الدنيا همته حرم الله عليه جواري فإني بعثت بخراب الدنيا ولم أبعث بعمارتها ] ] . وروى البيهقي وغيره مرفوعا : [ [ من انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ] ] . وفي رواية للحاكم والبيهقي مرفوعا : [ [ من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا أهلكه ] ] . وفي رواية لابن ماجه مرفوعا : [ [ من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه ومن تشعبته الهموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك ] ] . وروى في بعض الكتب الإلهية أن الله تعالى قال : [ [ يا دنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه ] ] . رواه أبو نعيم وغيره . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من أصبح وهمه الدنيا فليس من الله في شيء ] ] . وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ من أصبح حزينا على الدنيا أصبح ساخطا على ربه عز و جل ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نهتم بتحصيل الدنيا كل الاهتمام ولا نقبل عليها كل الإقبال وإنما يكون ذلك بقدر الضرورة لا غير
وهذا العهد لا يقدر على العمل به إلا من سلك على يد شيخ ناصح وسافر به حتى أشرف على شهود دار البقاء بعين بصيرته ونظر ما فيها من النعيم المقيم والمعيشة الواسعة الهنيئة حتى كأنها رأى العين وهناك يزهد في دار الفناء
وإيضاح ذلك أن الإنسان إذا كان عنده شيء نفيس لا يصح له أنه يتركه اختيارا إلا لوجود ما هو أنفس منه كما إذا كان حاملا في برية خرج فلوس جدد فرأى كوم فضة فإنه يصب ذلك الخرج ويملأه فضة فإذا سافر بالخرج الفضة ورأى كوم ذهب فإنه يصب الفضة ويملأ خرجه ذهبا وما دام لم يجد ما هو الأنفس فهو بخيل بما معه لا يتركه إلا إن وقاه الله شح نفسه
ووقد ذكرنا في عهود المشايخ في كتاب البحر المورود أن العهود أخذت علينا إذا مررنا على أتلال الذهب أو الفضة من غير مزاحم عليها في الدنيا ولا تبعة علينا بها في الآخرة أن لا نأخذ منها إلا قدر قوتنا ذلك اليوم أو قضاء ديننا وأنه إذا دخلت لنا بغلة محملة ذهبا إلى دارنا من مطلب مثلا لا نأخذ منها دينارا بل نخرجها بحملها ونغلق باب دارنا احتياطا لأنفسنا أن ينقص نعيمها في الآخرة وقد ذكرنا فيه أن الفقراء ما تميزوا عن غيرهم إلا بتركهم الدنيا اختيارا لا اضطرارا فإن التارك الدنيا اضطرارا هو والعوام سواء
فاعلم أن من دسائس النفس على العبد أن توسوس له بالاهتمام بالدنيا والسعي لها وتقول له هذا سعي على العيال لا لنفسك والسعي على الغير من العيال مطلوب وإنما الذم لو سعيت لنفسك فيصير يسعى ويهتم ويجمع في حجة العيال وهو يدخر ذلك حتى صار عنده الألف دينار وعياله على ما هم عليه من الضيق لم يوسع عليهم شيئا وهذا العهد قد كثرت خيانته من غالب فقراء هذا الزمان حتى صاروا يسافرون من مصر إلى الروم في طلب الدنيا ولو أن بعض المريدين فعل ذلك لعيب عليه فكيف بالشيخ
وقد عرضوا على سيدي علي الخواص رحمه الله أن يجعلوا له مسموحا فأبى وقال هذا مال لا ينبغي أن يكون إلا لعسكر السلطان الذين يسافرون في التجاريد وأما الفقير الجالس منا في بيته أو في زاويته فلا ينبغي له أن يأخذ من ذلك درهما واحدا وكذلك عرضوا علي بحمد الله نحو أربعة آلاف دينار أوصى بها لي قاضي اسكندرية فرددتها احتياطا لنفسي من أكل مال القضاة والشبهات التي لم تقسم لي وخوفا عليها من ميلها إلى جميع الدنيا فالحمد لله على ذلك
وقد سافر شخص من فقراء مصر المحروسة إلا بلاد الروم فاجتمع باياش باشاه الوزير فقال له ما جاء بك إلى بلادنا فقال أطلب شيئا من مال السلطان يقوم بعيالي فقال له وما حرفتك فقال أدل الناس على الله تعالى فقال له أف عليك أيها الشيخ كيف تسافر في سن الشيخوخة من مصر إلى هنا تطلب الدنيا أما كان في مصر وقراها ما يكفيك مع أنك ترى ربك وهو يرزقك أنت وعيالك من حين ولدت إلى أن صارت لحيتك بيضاء لم يقطع بك يوما واحدا فإذا كنت وأنت في هذا السن لم تثق بضمان الله لرزقك ولم تطمئن نفسك إلى قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } . فبالله عليك أين معرفتك بالله حتى تدل الناس عليه فما درى الشيخ ما يقول ورجع إلى مصر نادما هذه حكاية صاحب الواقعة لي بنفسه
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول يجب على من تصدر للمشيخة والشفاعات عند الحكام أن لا يقبل منهم هدية ولا برا ولا حسنة ولو كان ذلك حلالا من أصله فإن من قبل من الولاة شيئا هان في أعينهم وردوا شفاعته لكونه صار معدودا من عيالهم فهو ولو كان معه سر لا يصلح له أن يؤثر فيمن يعوله ويطعمه ويكسوه ولا يستجيب الله له فيه دعاء ولو دعا عليه وهذا الأمر قد عم غالب الفقراء فبطلت شفاعتهم عند الحكام وعدموا تفريج كرب المكروبين
فاترك أيها الشيخ الدنيا والاهتمام بشأنها ولا تكن متهما لربك وما قسمه الله تعالى لك لا بد أن يأتيك ولو تركته ولا يخرج عنك والله يتولى هداك (1/251)
- روى الطبراني مرفوعا : [ [ هلاك آخر هذه الأمة بالبخل وطول الأمل ] ] . وروى البزار مرفوعا : [ [ ينادي مناد كل يوم دعوا الدنيا لأهلها دعوا الدنيا لأهلها دعوا الدنيا لأهلها من أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر ] ] . وروى الطبراني وغيره مرفوعا : [ [ ومن مد عينه إلى زينة المترفين كان مهينا في ملكوت السماوات ] ] . وفي رواية : [ [ كان ممقوتا في ملكوت السماوات ] ]
وروى ابن أبي الدنيا بإسناد جيد عن ابن عمر قال : [ [ لا يصيب عبد من الدنيا شيئا إلى نقص من درجاته عند الله وإن كان كريما ] ] . قال الحافظ المنذري وروى مرفوعا والوقف أصح وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ حلوة الدنيا مرة الآخرة ومرة الدنيا حلوة الآخرة ] ] . وروى الطبراني بإسناد حسن مرفوعا : [ [ من أشرب حب الدنيا التاط منها بثلاث : شقاء لا ينفذ عناه وحرص لا يبلغ غناه وأمل لا يبلغ منتاه فالدنيا طالبة ومطلوبة فمن طلب الدنيا طلبته الآخرة يدركه الموت فيأخذه ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه ] ] . وروى البيهقي مرفوعا : [ [ هل من أحد يمشي على الماء إلا ابتلت قدماه ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال كذلك صاحب الدنيا أي محبها لا يسلم من الذنوب ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نمكن محبة الدنيا من قلوبنا بحيث نغفل بها عن عبادة ربنا المشروعة ولا نكاثر بها أهلها ولا ننافس أحدا عليها سواء أكانت مالا أو وظيفة أو طعاما أو رياسة أو غير ذلك من سائر شهواتها سدا لباب نفوسنا إلى أهويتها . ثم إذا فتح الله علينا فتوح العارفين إن شاء الله تعالى وقد فعل بنا ذلك ولله الحمد فمن الأدب أن نمسك الدنيا بأسرها ولا نترك منها شيئا إلا عند العجز عنه ونقلب الشهوة المذمومة إلى الشهوة المحمودة من غير حجاب عن الله عز و جل ولا غفلة عن عبادته قال تعالى مادحا للكمل : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } . فأخبر أنهم مع قيامهم في الأسباب التي يحجب بها غيرهم لا يغفلون عن ذكر الله تعالى لأن الدنيا قد خرجت من قلوبهم وصارت في يدهم لا غير وما ذم الله تعالى حب الدنيا إلا إذا كان حبها بحكم الطبع ويبخل العبد بها عن المحتاجين وأما إذا وسع بها على المساكين وستر بها نفسه كفها بها عن سؤال الناس فنعمت الدنيا حينئذ وبئس رميها ولذلك ما ذم الله تعالى ذات الدنيا وإنما ذم الميل إليها فقط إذ لو كانت مذمومة لذاتها لم نؤمر بمسكها في حال من الأحوال فافهم . ولا يخفى أن مراد كل من ذم الدنيا من الشارع صلى الله عليه و سلم أو غيره من صالحي المؤمنين الدنيا الزائدة على الحاجة أما ما يحتاج إليه فليس من الدنيا في شيء بل هو مطلوب إذ النكتة في ذم الدنيا إنما هو الاشتغال بها عن عبادة الله عز و جل لا غير فمن عصمه الله أو حفظه عن الوقوع فيما يلهى عنه تعالى فلا حرج عليه ولذلك طلب أيوب وسليمان الدنيا ومعلوم أنهما معصومان من طلب ما يشغلهما عن الله فافهم . وسمعت سيدي عليا المكزواني بمكة المشرفة يقول : فسق العارف بعد كماله يكون في تبسطه في الدنيا في مأكل وملبس ومنكح ومركب . وكان الفضيل بن عياض رضي الله عنه يقول : إذا أحب الله تعالى عبدا زوى عنه الدنيا وإذا أبغض عبدا وسع عليه دنياه وشغله بها عنه
وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله عنه يقول : كل شيء شغلك عن الله لحظة واحدة في الدنيا فهو مشؤوم عليك في الدنيا والآخرة . وكان سيدي محمد بن عنان رحمه الله تعالى إذا أتاه أحد بشيء من الدنيا إنقبض وظهر أثر ذلك عليه . وأتاه مرة شخص بأربعين دينارا في صرة بعد صلاة الصبح فرماها في وجه صاحبها وقال له أما تستحي من الله تعالى تصبحنا بالدنيا ووبخه وقال له لا تعد إلى مثل ذلك أبدا . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : ينبغي للشيخ المقتدى به أن يجعل عنده شيئا من النقد نحو المائة دينار زائدة عن حاجته ليدفع خاطر الاهتمام في الرزق فإنه يدق معه في المقامات ولا يزول فلكل شيخ له مشهد يدين الله تعالى به فB الصادقين . وبالجملة فلا يصح لك يا أخي عدم محبة الدنيا والمزاحمة عليها إلا بعد السلوك على يد شيخ ناصح تفني مرادك في مراده واختيارك في اختياره وإلا فلا تشم من الزهد فيها رائحة كما عليه غالب مريدي أشياخ هذا الزمان فيموت شيخهم وهو متحسر على رؤية أحد منهم أطاعه حتى صار زاهدا في الدنيا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1/252)
- روى الإمام أحمد والحاكم : أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على عمه العباس وهو يشتكي فتمنى الموت فقال : [ [ يا عباس لا تتمنى الموت إن كنت محسنا تزداد إحسانا إلى إحسانك وإن كنت مسيئا فأن تؤخر لتستعتب من إساءتك خير لك لا تتمنى الموت ] ] . وفي رواية للإمام أحمد والبيهقي بإسناد حسن مرفوعا : [ [ لا تتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة ] ] . وفي رواية لمسلم : لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدعوا به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان ولا بد فاعلا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام لرسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نتمنى الموت إلا إن خفنا على أنفسنا من فتنة في ديننا في هذا الزمان الذي يرى الإنسان دينه في كل يوم ينقص عن اليوم الذي قبله وهذا الأمر قد وقع من حين انتهى كمال الدين وهو سنة سبع وثلاثين وخمسمائة كمارأيت ذلك في لوح نزل من السماء في واقعة في المنام وقد أخذت الأمور كلها يا أخي في النقص وصار دين المؤمن ينقص كل يوم الحال الذي قبله وصار يتصعب على الإنسان القبض عللى دينه كما يتصعب على الإنسان القبض على دينه كما يتصعب عليه القبض على جمرة في كفه ليلا ونهارا فكما ضعف عن دوام القبض على الجمرة كذلك ضعف عن دوام القبض على الدين على حد سواء فلا يموت الإنسان يوم يموت إلا على أنقص الأحوال وأول أخذ الدين في النقص من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة حين أبلغ أهل العلم حدهم وأهل الطريق حدهم هذا ما رأيته مكتوبا في لوح تجاه مدرسة الشيخ إبراهيم المواهبي الشاذلي بباب الخرق من مصر المحروسة وكان في سلسلة فضة وقد أشار إلى ذلك الشيخ عبدالعزيز الدريني في منظومته وكان في سنة سبعين وخمسمائة يقول :
وقد بدا النقص في الأحوال أجمعها ... وبدلت صفوة الأوقات بالكدر
وقد مررت في سنة سبع وأربعين وتسعمائة على شيخ قد طعن في السن وهو نائم تحت قنطرة الخليج الحاكمي بمصر المحروسة أيام الصيف فسلمت علي فرد السلام ثم قال لي : ما اسمك ؟ قلت له عبدالوهاب فقال : لي سنين عديدة ومقصودي لو رأيتك اجلس فجلست عنده فصافحني وقبض على يدي فكدت أن أصيح من عصرها فقال لي ما تقول في هذه القوة ؟ فقلت قوة شديدة فقال هذه من لقيمات الحلال التي أكلناها في حال الصبا فلولا تلك الخميرة لكان جسمنا لليوم كالنخالة من حيث المكاسب وعدم تورع الناس ثم قال لي يا ولدي عمري الآن مائة وثلاثين وأربعون سنة والله قد تغيرت الناس ونقصت أديانهم وأماناتهم في هذه الثلاث سنين الأخيرة أكثر مما نقصت أديانهم في المائة وأربعين سنة قد صار الآن أخوك وصاحبك كأنه ما هو أخوك وصاحبك كأنه ما هو صاحبك بل ابنك كأنه ما هو ولدك ولا أنت أبوه وانحلت القلوب عن بعضها بعضا وتراكمت البلايا ونزلت على الخلائق مع قلة الصبر حتى كثر سخطهم على مقدورات ربهم ونقصت بذلك أديانهم وصار الموت اليوم تحفة لكل مؤمن كما ورد فلا يطالب المعيشة في هذا الزمان إلا من حجب عن نقصه ثم قال : يا ولدي وأنا أوضح لك ذلك في حق صالحي هذا الزمان فضلا عن طالحيه فقلت له : نعم فقال : أصلح الصالحين هوأن يقوم من الليل فيتوضأ ويصلي ما كتب له إلى الفجر ثم يصلي الصبح ويشتغل بورده كذلك إلى الظهر ومن الظهر إلى العصر ومن العصر إلى المغرب ومن المغرب إلى العشاء ومن العشاء إلى أن ينام . فلو فرضنا سلامته من جميع المعاصي الظاهرة فهل يقدر على سلامته من سوء الظن بأحد من أقرانه أو حساده أو رؤية نفسه عليه في ساعة من ساعات طول عمره ؟ فقلت له هذا بعيد فقال لو وضعت عبادة الشخص طول عمره في كفة وسوء الظن بمسلم في كفة لرجح سوء الظن فإذا كانت عبادة الصالحين لا تفي بجزاء ذنب واحد فكيف بمن عليه ما لا يحصي من حقوق الخلق فقبلت يده وانصرفت رضي الله تعالى عنه . فسلم يأخي أمرك إلى الله واسأل الله تعالى الصبر على مرارة هذا الزمان فإن البلاء كالسحاب السائر وأنت كالماشي تحته أو كالسحاب السائر وأنت واقف فلا بد من فراق أحدكما لصاحبه . وقد كان سفيان الثوري رضي الله عنه يقول : إنما خاف الأكابر من البلاء لما فيه من السخط لا لذاته ثم يقول : والله ما أدرى ماذا يقع مني لو ابتليت ؟ لعلي أكفر ولا أشعر . فاعلم ذلك ونزل يا أخي كراهية تمنى على كان من كان في خير وعدم الكراهة على من كان في شر ولا تطلق الأمر والله يتولى هداك : (1/253)
- قد روى أبو يعلي بإسناد جيد والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ من علق تميمة فلا أتم الله له ومن علق ودعة فلا ودع الله له ] ] . وروى الإمام أحمد والحاكم ورواته ثقات : [ [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم ليبايعه مع جماعة فبايع صلى الله عليه و سلم الجماعة ولم يبايع ذلك الرجل فقالوا ما شأنه ؟ فقال : إن في عضده تميمة فقطع الرجل التميمة فبايعه صلى الله عليه و سلم ] ] . ثم قال : [ [ من علق فقد أشرك ] ] . والتميمة يقال إنها خرز كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات واعتقاد هذا الرأي جهل وضلالة إذا لا مانع ولا دافع غير الله تعالى فإن كان الذي علقها يعتقد أنها تدفع فقد أشرك وإن كان يعتقد أنها لا تدفع فلا فائدة لتعليقها فافهم . وروى أبو داود أن عيسى بن حمزة قال : دخلت على عبدالله بن عكيم وبه حمرة فقلت ألا تعلق تميمة فقال أعوذ بالله من ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ من علق شيئا وكل إليه ] ] . وفي رواية للترمذي فقال : الموت أقرب من ذلك . وروى الإمام أحمد وابن ماجه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أبصر على عضد رجل حلقة أراه ؟ قال : من صفر فقال : ويحك ما هذه فقال : من الواهنة فقال : أما إنها لا تزيدك إلا وهنا . زاد في رواية : فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا . وفي رواية أخرى : فإنك إن مت وهي عليك وكلت إليها . وروى ابن ماجه وغيره مرفوعا : [ [ إن الرقى والتمائم والتولة شرك ] ] . قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله : المنهي عنه من الرقى ما كان بغير لسان العرب فلم يدر ما هو ولعله قد يدخله سحر أو كفر فأما إذا كان مفهوم المعنى وكان نيته نفسه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به . وقال الحافظ عبدالعظيم : التولة شيء يصنعه النساء يتحببن إلى أزواجهن قال وهو شبيه بالسحر أو من أنواعه . وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول : ليست التميمة ما يعلق به بعد البلاء وإنما التميمة ما يعلق به قبل البلاء . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نتعاطى فعل شيء يرد البلاء إلا إن ورد به الحديث فلا تطلب رفع البلاء لشيء سكت عنه الشارع فضلا عما نهانا عن فعله وهذا العهد يتساهل في خيانته كثير من الناس حتى العلماء فيرون على رؤوس أولادهم التمائم والعظام والخرز ونحو ذلك فلا ينكرون على من فعله ولا يقطعونه وكان الأدب تقطيع ذلك ومنع الولد وأمه من ذلك هروبا من دعاء رسول الله صلى الله عليه و سلم المجاب الذي لا يرد على من علق ذلك أو حمله ولولا أن الشارع يعلم أن الله تعالى يكره ذلك ما نهى أمته عنه فنجتنب كل ما نهانا عنه سواء عقلنا له معنى أو لم نعقل له معنى . وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله عنه يقول : من أراد عدم نزول البلاء عليه فلا يجعل له قط سريرة مسيئة يستحي من إطلاع الناس عليها فمن كان له سريرة سيئة استحق نزول البلاء وتحويل النعم ومن هنا كثر تحويل النعم في هذا الزمان حتى عن أولاد الفقراء فالعاقل من فتش نفسه إن أراد تخليد النعم عليه . { والله غفور رحيم } (1/254)
- روى الشيخان مرفوعا : [ [ ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين . وفي رواية ثلاثة ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده ] ] والله سبحانه وتعالى أعلم . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ من مات على وصية مات على سبيل وسنة ] ] . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ المحروم من حرم وصيته ] ] . وروى أبو داود وغيره مرفوعا : [ [ إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله عز و جل ستين سنة ثم يحضرهما الوفاة فيضاران فتجب لهما النار ] ] . وروى النسائي مرفوعا : [ [ الإضرار في الوصية من الكبائر ] ] . وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ من فر بميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة ] ] . وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة ] ] . وروى أبو داود والترمذي : [ [ مثل الذي يعتق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما شبع ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا تتهاون بترك الوصية سواء أكنا في المرض أو في الصحة وكذلك لا نضار فيها ولا نؤخر العتق والصدقة حتى تحضرنا الوفاة وهذا العهد يقع في خيانته كثير من أرباب الدنيا لطول أملهم وشدة بخلهم وحسدهم لوارثهم . فيحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ صادق يلطف كثائفه حتى يرق حجابه وتصير الدنيا عنده كالتراب والموت عنده نصب عينيه وإلا فمن لازمه الخيانة لهذا العهد غالبا . { والله غفور رحيم } (1/255)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه على رقابكم ] ] . روى أبو داود والنسائي أن أبا بكرة لحق بجنازة عثمان بن أبي العاصي وهم يمشون مشيا خفيفا فقال بأعلى صوته لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم نرمل رملا ] ] . روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المشي مع الجنازة فقال : ما دون الخبب إن يكن خيرا تعجل إليه وإن يكن غير ذلك فبعد الأهل النار ] ] . والخبب ضرب من العدو وقيل هو كالرمل والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نسرع بالجنازة تعجيلا للدفن وإكراما للميت ومسارعة لنعيم البرزخ بناء على ما نعتقد من فضل الله تعالى ومغفرته ورحمته للميت (1/256)
- روى أبو داود : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : [ [ استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ] ] . وروى أبو داود واللفظ له وابن ماجه عن أبي هريرة قال : مروا على رسول الله صلى الله عليه و سلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال : وجبت ثم قال : إن بعضكم على بعض شهيد . وفي رواية للشيخين وغيرهما أن عمر قال يا رسول الله ما وجبت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار وأنتم شهداء الله في الأرض ] ] . وروى البخاري مرفوعا : [ [ أيما مسلم شهد له أربعة نفر بخير أدخله الله الجنة فقلنا وثلاثة ؟ قال : وثلاثة قلنا واثنان قال : واثنان ثم لم نسأله عن الواحد ] ] . وروى أبو يعلي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أهل أبيات من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون إلا خيرا إلا قال الله تعالى قد قبلت علمكم وغفرت له ما لا تعلمون ] ] هذه رواية أبو يعلي . وفي رواية للبزار مرفوعا : [ [ إذا مات العبد والله تعالى يعلم منه شرا وتقول الناس فيه خيرا قال الله عز و جل لملائكته قد قبلت شهادة عبادي على عبدي وغفرت له علمي فيه ] ] . قلت : وروى الإمام سنيد في تفسيره : إن شخصا مات في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فشهد الناس كلهم فيه بالشر إلا أبا بكر فأوحى الله عز و جل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن شهادتهم فيه بالشر صحيحة ولكن أجزت شهادة أبي بكر تكرمة له . والله أعلم . وروى الإمام أحمد وراوته رواة الصحيح : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دعى إلى جنازة سأل عنها فإن أثنى عليها خيرا قام فصلى عليها وإن أثنى غير ذلك قال لأهلها " شأنكم بها " ولم يصل عليها
وروى أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ أذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم ] ] . وتقدم حديث أم سلمة في الصحيح مرفوعا : [ [ إذا حضرتم الميت فقولوا خيرا فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون ] ] . وروى البخاري في صحيحه مرفوعا : [ [ لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا ] ] . وروى البخاري أيضا وزاد ابن حبان عن مجاهد قال : قالت عائشة ما فعل يزيد بن قيس لعنه الله قالوا قد مات قالت فأستغفر الله فقالوا لها مالك لعنتيه ثم قلت أستغفر الله ؟ فقالت إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تسبوا الأموات الحديث . وفي رواية لأبي داود مرفوعا : [ [ إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن ندعوا للميت ونحسن الثناء عليه خوفا من الوقوع في غيبته تصريحا أو تعريضا فالتصريح ذكره بما يكره والتعريض مثل قول القائل إذا سمع أحدا يذكر الميت بسوء أريحونا من غيبة الناس كل شاة معلقة بعرقوبها ونحو ذلك فأين هذا اللفظ من قول القائل رحم الله فلانا ما كان أحسن معاملته وما كان أحسن خلقه ونحو ذلك وفي التورية مندوحة عن الكذب فإنه لا بد في أفعل التفضيل من وجود من يفضل عليه . وكان سيدي الخواص رحمه الله يقول : ما ثم شيء في الوجود يماثل شيئا آخر من جميع الوجوه أبدا فلا بد من زيادة أو نقص ولو بزيادة شعرة واحدة في لحيته أو رأسه . { والله غفور رحيم } (1/257)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم . وروى أبو داود والنسائي أن أبا بكرة لحق بجنازة عثمان بن أبي العاصي وهم يمشون مشيا خفيفا فقال بأعلى صوته : لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ترمل رملا : وروى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المشي مع الجنازة فقال : ما دون الخبب إن يكن خير تعجل إليه وإن يكن غير ذلك فبعدا لأهل النار . والخبب : ضرب من العدو
وقيل هو كالرمل . والله تعالى أعلم :
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نسرع بالجنازة تعجيلا للدفن وإكراما للميت ومسارعة لنعيم البرزخ بناء على ما نعتقد من فضل الله تعالى ومغفرته ورحمته للميت (1/258)
- روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : زار النبي صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي فاستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم بالموت . وروى الإمام أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح : [ [ إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة ] ] . وفي رواية لابن ماجه بإسناد صحيح : [ [ كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ] ] . وتقدم حديث الإمام سنيد : [ [ زوروا القبور ولا تكثروا ] ] . وروى الحاكم مرفوعا : زر القبور تذكر بها الآخرة ] ] . وفي رواية للترمذي : [ [ كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكر الآخرة ] ] . قال الحافظ المنذري رحمه الله : قد كان النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن زيارة القبور نهيا عاما للنساء والرجال ثم أذن للرجال في زيارتها واستمر النهي في حق النساء وقيل كانت رخصة عامة وفي ذلك كلام طويل للعلماء . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نرغب إخواننا من الرجال في زيارة قبور أمواتهم كل قليل وذلك لنجازى على ذلك فلا ينسانا أهلنا من الزيارة إذا متنا ولا نترك ذلك إلا من عذر شرعي . وقد روى الإمام سنيد بن عبدالله الأزدي في تفسيره : زوروا القبور ولا تكثروا من زيارتها . أي خوفا من زوال الاعتبار بها كما هو شأن من يغسل الموتى ويحملهم ويحفر لهم فإنك لا تكاد تجد عنده اعتبارا بذلك أبدا لكثرة مخالطته لهم وكذلك أذا سكن الإنسان في المقابر يذهب اعتباره بخلاف ما إذا كان بعيد العهد برؤية القبور وأشرف عليها فإنه يجد في نفسه الاعتبار والاتعاظ ويتذكر أحوال الموتى وما ندموا عليه . وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : إياكم أن تتخذوا لكم في القبور مساكن ومراحيض فإن ذلك يؤدي إلى مكث الناس هناك فيذهب اعتبارهم بالأموات فقلت له ربما يقرؤن ختوما فيها فقال الأفضل للفقهاء أن يتوضؤوا خارج المقابر فإن المراحيض ربما سرت إلى الأموات فأضرت بحالهم . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن نكثر من الاستعداد لأهوال يوم القيامة بالأعمال الصالحة وذلك بأن نفعل جميع ما أمرنا به على التمام ونجتنب جميع ما نهينا عنه على التمام من غير اعتماد عليه دون الله تعالى وكذلك نستعد لها بالتوبة من كل خلل وقعنا فيه . فإن كل من أخل بشيء من التكاليف فمن لازمه مقاساة الأهوال والشدائد ومن بذل وسعه في مرضاة الله فهو من الذين : { لايحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة } وتقول لهم { هذا يومكم الذي كنتم توعدون }
ولا يحصل لك يا أخي كمال الاستعداد إلا بالسلوك على يد شيخ مع شدة صبرك على مناقشته إلى أن لا يخلى عليك تبعة ظاهرة وينشر لك صحيفتك كلها فيطلعك على جميع زلاتك فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا ويحصيها عليك ويعلمك بطريق الخلاص منها بالتوبة منها ورد المظالم إلى أهلها وما لم يمكن رده يشفع لك فيه عند الله تعالى ويدعوا لك حتى تموت إن شاء الله تعالى على حالة الاستقامة فإن شدة الأهوال يوم القيامة إنما تكون على من أخل بالأوامر الشرعية
ولنبين لك يا أخي بعض أمور لتقيس عليها الباقي وذلك أن كل من بذل وسعه في طاعة الله تعالى حتى خرج منه العرق من شدة التعب خف عرقه يوم القيامة فإن كل إنسان لا يخوض يوم القيامة إلا في العرق الذي بخل بإخراجه في طاعة الله كمجالس الذكر وحفر الآبار وحمل الأثقال ونحو ذلك ومن آثر الدعة والراحة فلم يتعب في مرضاة الله تعالى خرج عليه العرق الذي حبس ولم يخرج في طاعة الله تعالى فيصل إلى خلخال رجله فما فوقها إلى أن يغطى صاحبه وهكذا القول فيمن أطعم الفقراء والمساكين وأسقاهم لله تعالى فإنه لا يحس بجوع ولا عطش إلا بقدر ما فرط وكذلك القول في المشي على الصراط المنصوب على ظهر جهنم يكون المشي عليه على حكم استقامة الإنسان على الشريعة المطهرة فمن زل عنها هنا في أعماله ولم يقبل الله تعالى توبته زلق على الصراط فإما يتعلق بالكلاليب حتى تدركه الشفاعة وإما يصل إلى النار فيمكث فيها ما شاء الله حتى تدركه الشفاعة لا سيما من زنا أو شرب الخمر أو ترك الصلاة أو لم يطعم المسكين أو خاض مع الخائضين فيما حرم الله تعالى من أعراض المؤمنين
وكذلك النهوض على الصراط سرعة وبطئا يكون على قدر ما كان عليه من النهوض للطاعة وسرعته فيها أو بطئه وكذلك القول في الشرب من الحوض يكون على قدر التضلع من العلوم الشرعية بشرط الإخلاص الكامل فيها
فقس يا أخي على ذلك فما من هول من أهوال يوم القيامة إلا وقد جعل الشارع صلى الله عليه و سلم له عملا مبرورا إذا عمله العبد نجا من ذلك الهول وقد حبب لي أن أذكر لك حديث مواقف القيامة من رواية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وBه فإنه ينبه على أمهات الأهوال رأيته في كتاب الفتوحات المكية في الباب الرابع والستين منها ولم أجده في شيء من الأصول التي اطلعت عليها من كتب المحدثين ولكن عليه لامعة كلام النبوة فأقول وبالله التوفيق : قال الشيخ الإمام الكامل المحقق الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله :
حدثني شيخنا القصار بمكة سنة تسع وتسعين وخمسمائة تجاه الركن اليماني من الكعبة المعظمة وهو يونس ابن يحيى الهاشمي العباسي من لفظه وأنا أسمع قال أنبأنا أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي قال أنبأنا أبو بكر محمد بن علي المعروف بابن الخياط قال : قرأ على أبي سهل محمود بن عمر بن إسحاق العكبري وأنا أسمع قيل له حدثكم أبو بكر محمد بن حسين النقاش فقال نعم حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي الطبري المروزي قال أنبأنا محمد بن حميد الرازي أبو عبدالله قال أنبأنا مسلمة بن صالح قال أنبأنا القاسم بن الحكم بن سلام الطويل عن غياث بن المسيب عن عبدالرحمن بن غنيم وزيد بن وهب عن عبدالله بن مسعود قال : كنت جالسا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعنده عبدالله بن عباس وعدة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فقال علي رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ [ إن في القيامة لخمسين موقفا : فأول موقف إذا خرج الناس من قبورهم يقومون على أبواب قبورهم ألف سنة حفاة عراة جياعا عطاشا فمن خرج من قبره مؤمنا بربه مؤمنا بنبيه مؤمنا بجنته وناره مؤمنا بالبعث والقيامة مؤمنا بالقضاء خيره وشره مصدقا بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم من عند ربه نجا وفاز وسعد وغنم ومن شك في شيء من هذا بقي في جوعه وعطشه وغمه وكربه ألف سنة حتى يقضي الله فيه بما يشاء
ثم يساقون من ذلك المقام إلى المحشر فيقفون على أرجلهم ألف عام في سرادقات النيران وفي حر الشمس والنار عن أيمانهم وعن شمائلهم والنار من بين أيديهم ومن خلفهم والشمس من فوق رؤوسهم ولا ظل إلا ظل العرش فمن لقي الله تعالى شاهدا له بالإخلاص مقرا بنبيه محمد صلى الله عليه و سلم بريئا من الشرك ومن السحر ومن إهراق دماء المسلمين ناصحا لله ولرسوله محبا لمن أطاع الله ورسوله مبغضا لمن عصى الله ورسوله استظل تحت ظل عرش الرحمن ونجا من غمه ومن حاد عن ذلك ووقع في شيء من هذه الذنوب ولو بكلمة واحدة أو تغير قلبه وشك في شيء من دينه بقي في الحشر والعذاب والهم ألف سنة حتى يقضي الله تعالى فيه بما يشاء
ثم تساق الخلق إلى النور والظلم فيقيمون في تلك الظلمة ألف عام فمن لقي الله تبارك وتعالى لم يشرك به شيئا ولم يدخل في قلبه شيء من النفاق ولم يشك في شيء من أمر دينه وأعطى الحق من نفسه وقال الحق وأنصف الناس من نفسه وأطاع الله تعالى في السر والعلانية ورضي بقضاء الله وقنع بما أعطاه الله خرج من الظلمة إلى النور في مقدار طرفة عين مبيضا وجهه وقد نجا من الهموم كلها ومن خالف في شيء منها بقي في الهم والغم ألف سنة ثم خرج منها مسودا وجهه وهو في مشيئة الله يفعل فيه ما يشاء
ثم يساق الخلق إلى سرادقات الحساب وهي عشر سرادقات فيقفون في كل سرادق منها ألف سنة فيسأل العبد في أول سرادق منها عن المحارم فإن لم يكن وقع في شيء منها جاز إلى السرادق الثاني فيسأل عن الأهواء فإن كان لم يقع في شيء منها جاز إلى السرادق الثالث فيسأل عن عقوق الوالدين فإن لم يكن عاقا جاز إلى السرادق الرابع فيسأل عن حقوق من فوض الله عز و جل إليه حقوقهم وأمورهم وعن تعليمهم القرآن وأمور دينهم وتأديبهم فإن كان قد فعل جاز إلى السرادق الخامس فيسأل عما ملكت يمينه فإن كان محسنا لهم جاز إلى السرادق السادس فيسأل عن حقوق قرابته فإن كان قد أدى حقوقهم جاز إلى السرادق السابع فيسأل عن صلة الرحم فإن كان وصولا لرحمه جاز إلى السرادق الثامن فيسأل عن الحسد فإن لم يكن حاسدا جاز إلى السرادق التاسع فيسأل عن المكر فإن لم يكن مكر بأحد من المسلمين جاز إلى السرادق العاشر فيسأل عن الخديعة فإن لم يكن خدع أحدا نجا ونزل في ظل عرش الله عز و جل قارة عينه فرحا قلبه ضاحكا فوه وإن كان قد وقع في شيء من هذه الخصال ولم يتب بقي في كل موقف منها ألف عام جائعا عطشانا حزينا مغموما مهموما لا تنفعه شفاعة شافع
ثم يحشرون إلى أخذ كتبهم بأيمانهم وشمائلهم فيحبسون عند ذلك في خمسة عشر موقفا كل موقف منها ألف سنة فيسألون في أول موقف منها عن الصدقات وما فرض الله عليهم في أموالهم فمن كان أداها كاملة جاز إلى الموقف الثاني فيسأل عن قول الحق والعفو عن الناس فمن عفا عفا الله عنه وجاز إلى الموقف الثالث فيسأل عن الأمر بالمعروف فإن كان قد أمر بالمعروف جاز إلى الموقف الرابع فيسأل عن النهي عن المنكر فإن كان ناهيا عن المنكر جاز إلى الموقف الخامس فيسأل عن حسن الخلق فإن كان حسن الخلق جاز إلى الموقف السادس فيسأل عن الحب في الله والبغض في الله فإن كان محبا لله مبغضا في الله جاز إلى الموقف السابع فيسأل عن المال الحرام فإن لم يكن أخذ شيئا منه جاز إلى الموقف الثامن فيسأل عن شرب شيء من الخمر فإن لم يكن شرب من الخمر شيئا جاز إلى الموقف التاسع فيسأل عن الفروج الحرام فإن لم يكن أتاها جاز إلى الموقف العاشر فيسأل عن قول الزور فإن لم يكن قاله جاز إلى الموقف الحادي عشر فيسأل عن الأيمان الكاذبة فإن لم يكن حلفها جاز إلى الموقف الثاني عشر فيسأل عن أكل الربا فإن لم يكن أكله جاز إلى الموقف الثالث عشر فيسأل عن قذف المحصنات فإن لم يكن قذف المحصنات فإن لم يكن قذف المحصنات ولا افترى على أحد جاز إلى الموقف الرابع عشر فيسأل عن شهادة الزور فإن لم يكن شهدها جاز إلى الموقف الخامس عشر فيسأل عن البهتان فإن لم يكن بهت مسلما مر فنزل تحت لواء الحمد وأعطى كتابه بيمينه ونجا من الغم وهوله وحوسب حسابا يسيرا وإن كان قد وقع في شيء من هذه الذنوب ثم خرج من الدنيا غير تائب مكث في كل موقف من هذه الخمسة عشر ألف سنة في الغم والهم والحزن والجوع والعطش حتى يقضي الله عز و جل فيه بما شاء
ثم يقام الناس في قراءة كتبهم الف عام فإن كان سخيا قد قدم ماله ليوم فقره وفاقته قرأ كتابه وهون عليه قراءته وكسي من ثياب الجنة وتوج من تيجان الجنة وأقعد تحت ظل العرش آمنا مطمئنا وإن كان بخيلا لم يقدم ماله ليوم معاده وفقره وفاقته أعطى كتابه بشماله ويقطع له من مقطعات النيران ويقام على رؤوس الخلائق ألف عام في الجوع والعطش والعري والهم والغم والحزن والفضيحة حتى يقضي الله فيه بما يشاء ثم يحشر الناس إلى الميزان فيقومون عند الميزان ألف عام فمن رجح ميزانه بحسناته فاز ونجى في طرفة عين ومن خف ميزانه بحسناته وثقلت سيئاته حبس عند الميزان ألف عام في الهم والغم والحزن والعذاب والعطش والجوع حتى يقضي الله فيه بما يشاء
ثم تدعى الخلائق إلى الموقف بين يدي الله عز و جل في اثني عشر موقفا كل موقف منها مقدار ألف عام فيسأل في أول موقف عن عتق الرقاب التي وجبت عليه فإن كان قد أعتق رقبة أعتق الله رقبته من النار وجاز إلى الموقف الثاني فيسأل عن القرآن وحقه وقراءته فإن جاء بذلك تاما جاز إلى الموقف الثالث فيسأل عن الجهاد فإن كان جاهد في سبيل الله محتسبا جاز إلى الموقف الرابع فيسأل عن الغيبة فإن لم يكن اغتاب أحد جاز إلى الموقف الخامس فيسأل عن النميمة فإن لم يكن نماما جاز إلى الموقف السادس فيسأل عن الكذب فإن لم يكن كذابا جاز إلى الموقف السابع فيسأل عن الإخلاص في طلب العلم فإن كان طلب العلم خالصا وأخلص فيه وعمل به جاز إلى الموقف الثامن فيسأل عن العجب فإن لم يكن معجبا بنفسه في دينه ودنياه ولا في شيء من عمله جاز إلى الموقف التاسع فيسأل عن التكبر فإن لم يكن تكبر على أحد جاز إلى الموقف العاشر فيسأل عن القنوط من رحمة الله فإن لم يكن قنط من رحمة الله جاز إلى الموقف الحادي عشر فيسأل عن الأمن من مكر الله فإن لم يكن أمن مكر الله جاز إلى الموقف الثاني عشر فيسأل عن حق جاره فإن كان أدى حق جاره أقيم بين يدي الله تعالى قريرة عينه فرحا قلبه مبيضا وجهه كاسيا ضاحكا مستبشرا فيرحب به ربه ويبشره برضاه عنه فيفرح عند ذلك فرحا لا يعلمه أحد إلا الله وإن كان لم يأت واحدة منهن تامة ومات غير تائب حبس عند كل موقف ألف عام حتى يقضي الله فيه بما يشاء
( يتبع . . . ) (1/259)
( تابع . . . 1 ) : - روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : زار النبي صلى الله
ثم يؤمر بالخلائق إلى الصراط وقد ضربت عليه الجسور على جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف وقد غابت الجسور في جهنم مقدار أربعين ألف عام ولهب جهنم بجانبها يلتهب وعليها حسك وكلاليب وخطاطيف وهي تسعة جسور يحشر العباد كلهم عليها وعلى كل جسر منها عقبة مسيرة ثلاثة آلاف سنة ألف سنة صعودا وألف عام استواء وألف عام هبوطا وذلك قوله عز و جل : { إن ربك لبالمرصاد } يعني على أهل تلك الجسور وملائكته يرصدون الخلق فيها فيسأل العبد عن الإيمان الخالص بالله تعالى فإن جاء به مخلصا لا شك فيه ولا زيغ جاز إلى الجسر الثاني فيسأل عن الصلاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر الرابع فيسأل عن الصيام فإن جاء به تاما جاز إلى الجسر الخامس فيسأل عن حجة الإسلام فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر السادس فيسأل عن الطهر من الحدث فإن جاء به تاما جاز إلى الجسر السابع فيسأل عن المظالم فإن كان لم يظلم أحدا جاز إلى الجنة وإن كان قصر في واحدة منهن حبس على كل جسر منها ألف سنة حتى يقضي الله فيه بما يشاء ] ] . الحديث
ففتش يا أخي نفسك فإن كنت وقعت في شيء من هذه الذنوب التي ذكرت في المواقف المذكورة فقد سمعت ما تجازى به وإن تكن وقعت في شيء منها أو وقعت وقبل الله تعالى توبتك لم تقاس شيئا من تلك الأهوال حتى تدخل الجنة برحمة الله تعالى ولكن من أين لك أن تعرف أن الله تعالى قبل توبتك فوالله لقد خلقنا لأمر عظيم تذهل فيه عقول العقلاء فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول : كل الخلق تحت المشيئة ويخاف عليهم دخول النار ما عدا الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام وقد درج الأكابر كلهم على قدم الخوف مع عملهم بالشريعة على الكمال فكيف يليق بغيرهم عدم الخوف ؟ ولكن إبليس للخلق بالمرصاد فربما طمع العصاة في جانب العفو والمغفرة حتى تراكمت عليهم الذنوب مع عدم التوبة حتى أتلف عليهم دينهم وكان ذلك من جملة مكر إبليس بهم . فالعاقل من عمل وخاف من الله عز و جل أن يدخله النار بذنوبه التي شملتها طاعاته فضلا عن معاصيه . وكان أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : رأيت أن القيامة قد قامت وخفت ميزاني فلا تسأل ما حصل لي من الغم . قلت ورأيت أنا مرة أن الصراط قد نصب والخلق يصعدون ويزلقون ويقعون من مقدار قامة وأنا واقف فجاءني ملك من الملائكة فقال : لي مالك لا تصعد ؟ فقلت : لا أطيق فقال : لي يكون معك شيء من الدنيا فقلت : ما معي شيء ففتح كفي اليسار فأخرج من بين أصابعي نحو السفاية ؟ ؟ فقال : ارمها وأنت تصعد فرميتها فصعدت : { فالحمد لله رب العالمين } . و صلى الله عليه و سلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما (1/260)
قسم المناهي (1/261)
ولنشرع بعون الله تعالى في قسم المناهي وهي أقل من المأمورات لأن الأصل في الوجود الطاعة اللهم إلا أن يجعل الأمر بالشيء نهي عن ضده فتكون بذلك أكثر من المأمورات : إذا علمت فنقول وبالله التوفيق (1/262)
- روى الإمام البيهقي في باب القضاء من السنن الكبرى أن الرأي المذموم حيث أطلق فهو كل ما لا يكون مشبها بأصل قال وعلى ذلك يحمل كل ما ورد في ذم الرأي أهو مما رويناه عن الأئمة المجتهدين في تبرئتهم من القول بالرأي في دين الله أن ابن عباس وعطاء وتبعهما على ذلك الإمام مالك كانوا يقولون : كل أحد مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم
وكان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يقول : حرام على من لا يعرف دليلي أن يفتي بكلامي وكان إذا أفتى أحدا بفتوى يقول : هذا رأي أبي حنيفة وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب
وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول : إذا صح الحديث فهو مذهبي . وكان يقول : إذا رأيتم كلامي يخالف كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم فاعملوا بكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم واضربوا بكلامي الحائط . وقال للمزني حين قلده في مسألة : لا تقلدني يا أبا إبراهيم في كل ما أقول وانظر لنفسك فإنه دين وكان يقول في المسألة إذا رأى دليلها ضعيفا لو صح الحديث لقلنا به وكان أحب إلينا من القياس . وفي رواية : إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم بأبي هو وأمي شيء لم يحل لنا تركه ولا حجة لأحد معه . وفي رواية : لا حجة لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن كثروا لا في قياس ولا في شيء فإن الله تعالى لم يجعل لأحد معه كلاما وجعل قوله يقطع كل قول . وقد جمعنا كلام الإمام كله في ذلك في مقدمة كتابنا المسمى بالمنهج المبين
وأما الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى فحاله معلوم في اتباع السنة حتى أنه اختفى أيام المحنة ثلاثة أيام ثم خرج فقيل له إنهم الآن يطلبونك فقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يمكث في الغار حين اختفى من الكفار أكثر من ثلاث . وبلغنا أنه لم يدون له في الفقه كلام قط خوفا أن يخالف رأيه كلام الشارع صلى الله عليه و سلم . وكان يقول أو لأحد كلام مع الله ورسوله ؟ وجميع مذهبه ملفق من صدور أصحابه : وكان يقول : لا يكاد أحد ينظر في كتب الرأي إلا وفي قلبه دغل . وكان يقول : إذا رأيتم في بلد صاحب حديث لا يدري صحيحه من سقيمه وهناك صاحب رأي فاسألوا من صاحب الحديث ولا تسألوا من صاحب الرأي . وكان يقول : لا تقلدوا في دينكم فإنه قبيح على من أعطى شمعة يستضئ بها أن يطفئها ويمشي في الظلام ولعله يشير به إلى العقل الذي جعله الله آلة يميز بها بين الأمور ويستبصر بها في دينه . وكان يقول : لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم وخذوا الأحكام من حيث أخذوا . قلت وهو محمول على من كان فيه قوة النظر وإلا فقد صرح العلماء بأن التقليد أولى لضعيف النظر فاعلم ذلك . والله أعلم
وروى الإمام مالك بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله ] ]
وروى الترمذي مرفوعا : [ [ إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ] ] . زاد في رواية : [ [ فانظروا كيف تخلفوني فيهما ] ] . والمراد بأهل بيته العلماء منهم كعلي وابن العباس والحسن والحسين . والله أعلم . وفي حديث أبي داود وغيره مرفوعا : [ [ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة ] ]
وروى البخاري عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ [ إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم وشر الأمور محدثاتها ] ]
وروى أيضا : [ [ تعلموا العلم قبل الظانين ] ] . أي الذين يتكلمون في دين الله بالظن ذكره في أول كتاب الفرائض موقوفا على ابن مسعود
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ] ]
وروى أبو داود مرفوعا : [ [ من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ] ]
وسيأتي جملة من الأحاديث الواردة في العلم في العهد الذي عقبه إن شاء الله تعالى . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نتدين بفعل شيء من البدع المذمومة التي لا يشهد لها ظاهر كتاب ولا سنة وأن نتجنب العمل بكل رأي لم يظهر لنا وجه موافقته للكتاب والسنة إلا إن أجمع عليه
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى التبحر في معرفة الأحاديث والآثار والإحاطة بجميع أدلة المذاهب المندرسة أو المستعملة حتى لا يكاد يعزب عن علمه من أدلتهم إلا النادر ولعله يخرج عن التقليد في أكثر الأحكام وأما من لم يبلغ هذا المقام فيجب عليه التقليد لمذهب معين وإلا وقع في الضلال
وقد كان سيدي علي الخواص رحمه الله تعالى يعرف من طريق كشفه كل مسألة لها دليل من كلام الشارع ويتحول لا يبلغ الرجل عندنا مقام الكمال حتى يعرف يقينا ما كان من كلام الشارع وما كان من كلام الصحابة وما كان من القياس وما كان رأيا خارجا عن موافقة ما ذكرناه قال : ومثل هذا الرأي هو الذي يرمي به وليس لأحد أن يعمل به قال فكل من لم يبلغ مرتبة التبحر في علوم الشريعة ومعرفة أدلة المذاهب فمن لازمه الوقوع في التدين بالآراء التي لا يكاد يشهد لها كتاب ولا سنة
فتبحر يا أخي في علوم الشريعة وأعط الجد من نفسك في المطالعة والحفظ لآحاديث الشريعة وكتب شراحها وحفظ مقالاتهم حتى تكون عارفا بجميع المذاهب لأنها بعينها هي مجموع الشريعة المطهرة وربما تدين مقلد في مذهب بقول إمامه من طريق الرأي فصحت الأحاديث في مذهب آخر بضد ذلك الرأي فوقف مع مذهبه ففاته العمل بالأحاديث الصحيحة فأخطأ طريق السنة قال وقول بعض المقلدين لولا أن رأى إمامي دليلا ما قال به جحود وقصور مع أن نفس إمامه قد تبرأ من العمل بالرأي ونهى غيره عن إتباعه عليه
وكان أخي أفضل الدين يقول : محل العمل برأي الإمام الذي لا يعرف لقوله مستند ما إذا لم نطلع على دليل يخالفه فهناك ينبغي لنا إحسان الظن بقوله ونقول لولا أنه رأى لقوله دليلا ما قاله أما إذا اطلعنا على دليل فلنا تقديم العمل به على كلام المجتهد إذا كان مثلنا من أهل النظر الصحيح ويحمل كلام ذلك الإمام على أنه لم يظفر بذلك الدليل ولو ظفر به لعمل به
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : يحتاج من يريد التقيد على العمل بالكتاب والسنة ويجتنب العمل بالرأي إلى التبحر في علم العربية وعلم المعاني والبيان والتبحر في لغة العرب حتى يعرف مواطن طرق الاستنباط ويعرف أقوال العرب ومجازاتها واستعاراتها ويعرف ما يقبل التأويل من الأدلة وما لا يقبلها
قلت وقد من الله تعالى علي بالاطلاع على أدلة مذاهب الأئمة الأربعة وغيرها وعرفت مستند أقوالهم في جميع أبواب الفقه فما من قول من أقوالهم إلا ورأيته مستندا إلى دليل إما إلى آية وإما إلى حديث وإما إلى أثر وإما إلى قياس صحيح على أصل صحيح وصارت مذاهب الأئمة الأربعة بحمد الله الآن عندي كأنها منسوجة من الشريعة المطهرة سداها ولحمتها كما يعرف ذلك من طالع كتابي مختصر السنن الكبرى للإمام البيهقي رحمه الله وكل من لم يطلع على أدلة المذاهب كما ذكرنا فلا يعرف يميز مسائل الرأي من النص وربما وقع في العقائد الزائغة وعمل بالمذاهب الباطلة إلا أن يحكم التقيد بمذهب محرر
وقد كان الإمام أبو قاسم الجنيد رحمه الله يقول : لا يكمل الرجل عندنا في طريق الله عز و جل حتى يكون إماما في الفقه والحديث والتصوف ويحقق هذه العلوم على أهلها
فاعلم أنه لا ينبغي لمن يدعي العلم بالشريعة أن يكتفي بما فهمه هو منها بغير شيخ كما وقع لبعض أهل عصرنا فإنه بمجرد ما صار يفهم اشتغل بالتأليف وترك القراءة على العلماء فصار في جانب والعلماء في جانب وبعد عن معرفة الراجح عند علماء زمانه فخالفوه ولم ينتفع أحد بعلمه ولو أنه صبر في القراءة على الأشياخ حتى أجازوه بالفتوى والتدريس لزكوه وأقبلت الناس عليه بعد مشايخه فاعلم ذلك
وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله يقول : قل أن يجتمع في شخص في عصر من الأعصار علم الفقه والحديث والتصوف قال ولم يبلغنا أنها اجتمعت في أحد بعد الطيبي صاحب حاشية الكشاف إلى وقتنا هذا ومن اجتمعت فيه هذه العلوم الثلاثة فهو الذي ينبغي أن يلقب بشيخ أهل السنة والجماعة في عصره ومن لم يلقبه بذلك فقد ظلمه
فطالع يا أخي كتب أهل السنة المحمدية وكتب علمائها وكتب الأصوليين ورسائل الصوفية ولو سلكت الطريق على يد شيخ خوفا من أن يزل لسانك بشيء من علوم الدائرة الباطنة فينكره عليك العلماء فيقل نفعك للناس بخلاف ما إذا عرفت سياج العلماء فتصير تخرج لهم من العلوم ما يقبلونه وتكتم عنهم ما لا يقبلونه فإن رد العلماء على الصوفية إنما هو لدقة مدارك الصوفية عليهم لا غير فلا يلزم من الرد عليهم فساد قولهم في نفس الأمر كما قال الغزالي رضي الله عنه : كنا ننكر على القوم أمورا حتى وجدنا الحق معهم قال تعالى : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } وقال تعالى : { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم }
ومما يؤكد كلام الغزالي رحمه الله قول الإمام أبي قاسم الجنيد رحمه الله : كان عندي وقفة في قولهم يبلغ الذاكر في الذكر إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يحس إلى أن وجدنا الأمر كما قالوا فعلم أن النفوس لم تزل تحتج وتميل في العمل إلى ما عليه الأكثر بحكم التقليد وتقدم العمل به لكثرة العاملين به بخلاف ما عليه البعض فإنه كالطريق التي سالكها قليل فلا يجد السالك فيها من يستأنس به في العمل فتصير عنده وحشة فتأمل
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : يحكي عن سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه أنه كان يقول : لا يكمل الرجل عندنا حتى يعلم حكمة كل حرف تكرر في القرآن ويخرج منه سائر الأحكام الشرعية إذا شاء
وسمعته رضي الله عنه يقول : لا يبلغ العبد مقام الكمال حتى يكون إماما في التفسير والفقه والحديث ويسلك الطريق على يد شيخ عارف بالله تعالى حتى يصير يعرف الطريق بالذوق لا بالوصف والسماع وهناك يدخل الحضرات المحمدية ويعرف أحكام الشريعة المطهرة ويميزها من سائر البدع لأن الكامل من شرطه أن لا يكون له حركة ولا سكون في ليل أو نهار إلا على الميزان الشرعي
وسمعته يقول أيضا : من شرط الكامل الاطلاع من طريق كشفه على جميع أقوال المجتهدين ويميز الرأي من قولهم ويعرف ما وافق الصواب في نفس الأمر من أقوالهم وما خالفه
وسمعته أيضا يقول : كان الأشياخ المتقدمون يقولون : لا يجوز لعبد أن يتصدر للطريق إلا إن علم من نفسه التقيد على الكتاب والسنة ويكون ظاهره محفوظا من سائر البدع وذلك لئلا يقع في شيء من البدع فيتبعه المريدون عليه فيضل في نفسه ويضل غيره ويكتب من أئمة الضلال وقد بسطنا الكلام على ذم الرأي في أوائل كتابنا مختصر السنن الكبرى للبيهقي رحمه الله فراجعه
وسمعت سيدي عليا النبتيتي رضي الله عنه يقول لفقيه : إياك يا ولدي أن تعمل برأي رأيته مخالفا لما صح في الأحاديث وتقول هذا مذهب إمامي فإن الأئمة كلهم قد تبرؤا من أقوالهم إذا خالفت صريح السنة وأنت مقلد لأحدهم بلا شك فما لك لا تقلدهم في هذا القول وتعمل بالدليل كما تقول بقول إمامك الاحتمال أن يكون له دليل لم تطلع أنت عليه وذلك حتى لا تعطل العمل بواحد منهما
ثم إن المراد بالرأي المذموم حيث أطلق في كلام أهل السنة أن لا يوافق قواعد الشريعة وليس المراد به كل ما زاد على صريح السنة مطلقا حتى يشمل ما شهدت له قواعد الشريعة وأدلتها فإن ذلك لا يقول به عاقل ويلزم منه رد جميع أقوال المجتهدين التي لم تصرح بها الشريعة ولا قائل بذلك (1/263)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ] ] . وفي رواية لأبي داود : [ [ من صنع أمرا على غير أمرنا فهو رد ] ] . وروى الإمام أحمد وغيره أن عصيب بن الحرث رضي الله عنه قال : بعثت إلى عبدالملك ابن مروان وقال إنا جمعنا الناس على أمرين رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة والقصص بعد الصبح والعصر فقال أما إنهما أمثل بدعكم عندي ولست بمجيبكم ؟ ؟ إلى شيء منهما قال ولم قال لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ [ ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة . فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة ] ] . وروى الطبراني وغيره مرفوعا : [ [ ما تحت ظل السماء من إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع ] ] . وروى الطبراني مرفوعا بإسناد حسن : [ [ إن الله تعالى حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته ] ] . وروى الطبراني بإسناد صحيح عن عمر بن زرارة قال : وقف على عبدالله بن مسعود وأنا أقص فقال يا عمر لقد ابتدعت بدعة ضلالة أو أنت أهدى من محمد صلى الله عليه و سلم وأصحابه ؟ قال : فلقد رأيتهم تفرقوا عني حتى ما بقي عندي أحد . والله أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نتهاون بتأخير الأوامر الشرعية بل نبادر لفعلها ولا نستأذن في ذلك أحدا لعلمنا بأن الأوامر الشرعية لا تتخذ حبالة للاستدراج بخلاف الأمور المستنبطة فربما دخلها الاستدراج فلا نفعل شيئا منها إلا بعد قولنا بتوجه تام دستور يا رسول الله نفعل كذا وكذا مما أذنت للأئمة أن يسنه في عموم قولك : من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها . ثم لا نشرع في العمل بذلك إلا بعد سماع الإذن من رسول الله صلى الله عليه و سلم بآذاننا لفظا فإن لم نسمع إذنه لنا لفظا تمهلنا حتى يلقى الله تعالى في قلبنا إذنه صلى الله عليه و سلم لنا ورضاه بذلك الفعل مثلا وأن عملنا به أحب إليه صلى الله عليه و سلم من ترك العمل وذلك لأن البدعة ولو استحسنت قد لا يرضاها الله ورسوله بقرينة ما رواه ابن ماجه والترمذي مرفوعا : [ [ من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها ] ]
فمن هنا قلنا إن من الأدب أن نستأذنه صلى الله عليه و سلم في كل ما لم تصرح به الشريعة بخلاف ما صرحت به الشريعة فلا يحتاج إلى استئذان بل قال بعضهم : من احتاج إلى إذن فيها فإيمانه مدخول فليجدد إيمانه ويقول لا إله إلا الله ويلحق بما صرحت الشريعة في عدم استحباب الاستئذان فيه ما أجمع عليه
وإيضاح ذلك أن الوقوف على حد ما ورد أكمل في الاقتداء به صلى الله عليه و سلم من اتباع البدعة ولو استحسن لأننا في حال الوقوف على حد الشريعة متبعون وفي حال تعدينا لحدودها الصريحة مبتدعون ولو بالاسم وأيضا فإن نظر الشارع أتم وأكمل من نظرنا ولو بلغنا الغاية في الفهم على أنه قد استقرئ أنه ما تعدى أحد الشريعة وعمل بما ابتدع إلا وأخل بجانب كبير من صريح السنة المحمدية
وإيضاح ذلك أن الله تعالى أنزل الشريعة على أعلى غاياتها فما ترك إلا ما علم تعالى أن خواص عباده لا يقدرون على المداومة عليه وجعل لكل مأمور شرعي وقتا فإذا زاد العبد على ذلك أخذ ذلك المزاد وقت غيره من باقي المأمورات ولم يبق له وقت يفعله فيه فمثل هذا زاد بدعة وترك سنة أو سننا بحسب ما ذهب في الابتداء وأيضا فإن الله تعالى ما ضمن المساعدة والمعونة إلا للعامل بما شرعه تعالى أو شرعه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن إذنه لا غيره وأما ما شرعه غيره فلم يضمن للعامل به المعونة كما أن من سافر إلى مكة بالزاد يحصل له المعونة من الله ذاهبا وراجعا لأنه سافر تحت الأمر بخلاف من يسافر بلا زاد لأنه لم يسافر تحت الأمر الإلهي فلذلك كان يقاسي من الشدائد ما لا يحصى
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول : لو صفت القلوب كما أمر الله تعالى لوجد أصحابها جميع ما استنبطه المجتهدون من القرآن كالمنطوق به على حد سواء فإن الله تعالى يقول : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } . ولكن لما أظلمت القلوب وتكدرت من أكل الحرام والشبهات وارتكاب المعاصي والآثام خفي عليها منازع الأئمة وسموا كلامهم رأيا والحال أن كلامهم من صلب السنة
وكان الشيخ محي الدين بن العربي رحمه الله يقول : من أعطى الفهم في كتاب الله لا يحتاج قط إلى قياس فإذا جاء لمسألة ضرب الوالدين مثلا فلا يحتاج في القول بتحريمه إلى قياس الضرب على التأفيف وإنما يأخذ ذلك من مضمون قوله تعالى : { وبالولدين إحسانا } . ومعلوم أن الضرب ليس بإحسان فما احتجنا هنا إلى قياس وقس على ذلك
فقف يا أخي عن العمل بكل شيء لم تصرح الشريعة بحكمه ولم تجمع العلماء عليه ولا تتعد فإن الله لا يؤاخذك إلا بما صرحت به الشريعة كما أنه لا يؤاخذ الصحابة إلا بما صرح به القرآن والسنة وقدر يا أخي نفسك أنك في زمن الصحابة وقبل وجود جميع المذاهب هل كان الحق تعالى يؤاخذك ما صرحت به الشريعة فكذلك القول الآن
وقد ورد على شخص من الفقراء فقال لي مررت البارحة على شخص من علماء المالكية زائرا فقلت له عند الانصراف اقرءوا لنا الفاتحة فأبى وقال ما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم بقراءتها عند الانصراف فقلت لهذا الزائر الأمر سهل ليس علينا وزر إذا قرأنا الفاتحة عند الانصراف ولا إذا لم نقرأها فنمت تلك الليلة فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم وعاتبني على قولي الأمر سهل ثم أمرني بمطالعة مذهب الإمام مالك فطالعت الموطأ والمدونة الكبرى ثم اختصرتها ولفظه صلى الله عليه و سلم : يا عبدالوهاب عليك بالاطلاع على أقوال إمام دار هجرتي والوقوف عندها فإنه شهد آثاري فعلمت بالقرائن من كلامه صلى الله عليه و سلم أن الوقوف على حد ما ورد أحب إليه صلى الله عليه و سلم مما ابتدع وإن استحسن إلا إن أجمع عليه
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى مجاهدة ورياضة شديدة على يد شيخ ناصح ليستنير قلبه ويصير أهلا لمجالسته صلى الله عليه و سلم في حال عمله لسنته على الكشف والشهود أو على الإيمان والتسليم كالأعمى يعرف أنه جليس زيد وإن كان لا يراه
فاعلم أن من عمل بشيء من الأوامر الشرعية غافلا عن شهود المشرع فما أدى الأدب معه حقه لأنه ما شرعه لك إلا لتحضر معه فيه
وكان سيدي علي الخواص رحمه الله يقول : ينبغي للعالم أن يشاور رسول الله صلى الله عليه و سلم على كل فعل خالف صريح ما ورد في السنة وشهدت له ظواهر الشريعة وعموماتها كما في مسألتنا هذه فقد شهد لها عموم قوله صلى الله عليه و سلم ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيه صلى الله عليه و سلم إلا تفرقوا على أنتن من جيفة حمار . رواه الطبراني وغيره
فليلحق مثل هذا بصريح السنة ولا حرج على فاعله بل له الأجر في ذلك وعلى هذا فتكون قراءة الفاتحة عند الانصراف وقبل التفرق أولى من تركها كزيادة العمامة على سبعة أذرع وكأخذ المعلوم على شيء من القربات الشرعية من إمامة وخطابة وتدريس علم وقراءة قرآن ونحو ذلك وإن لم يسمع لفظه صلى الله عليه و سلم له بالإذن لأن ذلك أدب على كل حال . والله أعلم (1/264)
- روى النسائي والترمذي وغيرهما مرفوعا : [ [ أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال فما عملت فيها ؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدت فقال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال فلان جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال فما عملت فيها ؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت ليقال فلان عالم . وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم سحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها ؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد وقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ] ] . وقوله جريء بالمد : أي شجاع
وروى الترمذي وغيره مرفوعا : [ [ من طلب العلم ليجاري به العلماء أو يماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار ] ]
وروى ابن ماجه مرفوعا : [ [ سيتفقه ناس من أمتي في الدين يقرءون القرآن يقولون نأتي الأمراء نصيب من دنياهم ونعتز لهم بديننا ولا يكون ذلك كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك وكذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا والآثام ] ]
وروى عبدالرزاق وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : كيف بكم إذا لابستم فتنا يربو فيها الصغير ويهرم منها الكبير وتتخذ سيئة فإذا تركت يقال تركت السنة فقيل له ومتى ذلك ؟ فقال : إذا قلت أمناؤكم وكثرت أمراؤكم وقلت فقهاؤكم وكثرت خطاياكم وتفقه الناس لغير الدين والتمست الدنيا بعمل الآخرة وفي رواية : وتعلم العلم لغير العمل
وروى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ بشر هذه الأمة بالثناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب ] ]
وروى الطبراني والبيهقي مرفوعا : [ [ من سمع الناس بعلمه وعمله وسمع الله به سامع خلقه وصغره وحقره ] ] . وقوله سمع بتشديد الميم : ومعناه أن كل من أظهر علمه للناس رياء أظهر الله تعالى نيته الفاسدة في عمله يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأشهاد الذين راءاهم في دار الدنيا
وروى البيهقي مرفوعا : [ [ إن الإبقاء على العمل أشد من العمل وإن الرجل ليعمل العمل فيكتب له عمل صالح معمول به في السر فيضعف أجره سبعين ضعفا فلا يزال به الشيطان حتى يذكره ويعلنه فيكتب علانية ويمحي تضعيف أجره كله ثم لا يزال به حتى يحب أن يذكر به ويكتب رياء ] ]
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ إن الله تعالى يقول لمن عبده رياء وسمعة بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي ؟ قال بعزتك وجلالك رياء الناس قال لم يصعد إلى منه شيء انطلقوا به إلى النار ] ]
وروى الطبراني والبيهقي مرفوعا : [ [ يؤتى يوم القيامة بصحف مختتمة وتفتح بين يدي الله عز و جل فيقول الله تعالى ألقوا هذه وأقبلوا هذه فتقول الملائكة وعزتك وجلالك ما رأينا إلا خيرا فيقول الله عز و جل إن هذا كان لغير وجهي وإني لا أقبل إلا ما ابتغى به وجهي ] ] . قلت : والمراد والله أعلم بوجه الله تعالى هو وجه التشريع بأن يفعل ذلك امتثالا لأمره فهذا هو وجهه تعالى . وإيضاح ذلك أن كل عمل له وجهان وجه إلى الكون ووجه إلى الحق فما وافق الشرع كان وجها للحق وما خالفه كان لغير الحق تعالى فافهم . والله أعلم
وروى البيهقي عن ابن عباس أنه قال : [ [ من راءى بشيء في الدنيا بعمله وكله الله يوم القيامة إلى عمله وقال له انظر هل يغني عنك شيء ] ] . قوله بعمله : أي من عمله
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ أن في جهنم واديا يقال له هبهب أعده الله للقراء المرائين بعملهم ] ] . وفي رواية : [ [ أن في جهنم واديا تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة أعده الله للقراء المرائين بأعمالهم في الدنيا ] ]
وروى أبو يعلي وغيره مرفوعا : [ [ من أحسن صلاته حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه تبارك وتعالى ] ]
وروى البيهقي مرفوعا : [ [ من صام يرائي الناس فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك ومن صلى يرائي فقد أشرك ] ]
وروى الإمام أحمد وغيره مرفوعا : [ [ يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفي من دبيب النمل فقيل : فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ فقال : قولوا اللهم إنا نعوذ أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه ] ]
وروى الإمام أحمد والطبراني بإسناد جيد مرفوعا : [ [ إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء يقول الله عز و جل إذا جوزي الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا ؟ هل تجدون عندهم جزاء ] ]
وروى الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي مرفوعا : [ [ إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عنده فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ] ] . زاد في رواية : [ [ فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك وأنا منه بريء ] ]
وروى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال : [ [ سيقرأ ناس القرآن على لسان محمد فيحلون حلاله ؟ ؟ ويحرمون حرامه ؟ ؟ وينزلون عند منازله لا يحوزون منه شيئا إلا كما يحوز رأس الحمار الميت ] ]
وروى ابن حبان في غير صحيحه والحاكم وغيرهما عن معاذ بن جبل مرفوعا : إن الله تعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السماء والأرض ثم خلق السماوات فجعل في كل سماء من السبعة ملكا بوابا عليها فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين يصبح إلى حين يمسي له نور كنور الشمس حتى إذا صعدت به إلى السماء الدنيا ذكرته فكثرته فيقول ذلك الملك للحفظة : اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس أن يجاوزني إلى غيري قال : ثم تصعد الحفظة بالعمل الصالح من أعمال العبد حتى تبلغ به إلى السماء الثانية فيقول لهم الملك الموكل بها : قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه أراد بعمله هذا عرض الدنيا وكان يفتخر على الناس في مجالستهم قال : ثم تصعد الحفظة بعمل العبد من صدقة وصيام وقيام ليل وتهجد إلى السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها : قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا ملك الكبر أمرني ربي أن لا أدع عمل من تكبر على الناس بعمله وعمله يجاوزني إلى غيري قال : ثم تصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج وغير ذلك إلى السماء الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها : قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه كان يشمت بالناس إذا أصابتهم مصيبة
قال : وتصعد الحفظة بعمل العبد من زكاة وصلاة وجهاد وغير ذلك من أعمال الخير إلى السماء الخامسة فيقول لهم الملك الموكل بها : قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا ملك الحسد أمرني ربي أن لا أدع عمل من يحسد الناس يجاوزني إلى غيري قال : ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السادسة كأنه العروس المزفوفة إلى بعلها فيقول لهم الموكل بها : قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أنا ملك العجب أمرني ربي أن لا أدع عمل من يعمل ويعجب بعمله يجاوزني إلى غيري قال : ثم تصعد الحفظة بعمل العبد له دوي كدوي النحل وضوء كضوء الشمس إلى السماء السابعة فيقول لهم الملك الموكل بها : قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه أمرني ربي أن لا أدع عمل من أراد غير وجهه أن يجاوزني إلى غيري فتقول الملائكة الذين يشيعونه وهم ثلاثة آلاف ملك يا رب ما علمنا عليه إلا خيرا فيقول الله عز و جل أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على قلبه إنه أراد بعمله هذا رفعه عند الأمراء وذكرا عند العلماء وصيتا في المدائن قال : ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى ما فوق السماوات وتشيعه ملائكة الحجب حتى يقفون به بين يدي الله عز و جل فيقول الله لهم عز و جل : إنه أراد بعمله هذا غير وجهي فعليه لعنتي فتلعنه الملائكة كلهم الحديث بالمعنى في بعضه . قال الحافظ المنذري : وآثار الوضع ظاهرة على هذا الحديث في جميع طرقه وجميع ألفاظه . قلت ويحتمل أن يكون هذا الحديث له أصل صحيح أو حسن أو ضعيف ولكن نسي الراوي لفظ النبوة فترجم عنه بلسانه هو . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نجيب سائلا سألنا عن مسألة في العلم إلا إن علمنا من أنفسنا ومن السائل الإخلاص فإن لم نعلم ذلك تربصنا بالجواب ولو مكثنا سنة وأكثر حتى نجد إخلاصا لأن الخوض في العلم بلا إخلاص معصية وبتقدير إخلاصنا في العلم دون السائل فلا نساعده عليه وطريقنا إذا علمنا من أنفسنا الرياء في العلم أن نجاهد أنفسنا على التخلص من الرياء فيه والإعجاب به ونأمر بذلك إخواننا ثم نعلمهم بعد ذلك
وكان سفيان الثوري رضي الله عنه إذا لاموه على عدم جلوسه لتعليم الناس العلم يقول : والله لو علمنا منهم أنهم يطلبون بالعلم وجه الله العظيم لأتيناهم في بيوتهم وعلمناهم ولكنهم يطلبون العلم ليجادلوا به الناس ويحترفوا به أمر معاشهم
وكان الفضيل بن عياض رضي الله عنه يقول : لو صحت النية في العلم لم يكن عمل يقدم عليه إلا العمل وما يحتاج منه ولكن تعلموه لغير العمل
وحكى أن سفيان الثوري دخل على الفضيل يوما فقال : يا أبا علي عظنا بموعظة فقال : الفضيل وماذا أعظكم ؟ كنتم معاشر العلماء سرجا يستضاء بكم في البلاد فصرتم ظلمة وكنتم نجوما يهتدي بكم في ظلمات الجهل فصرتم حيرة يأتي أحدكم إلى هؤلاء الأمراء فيجلس على فراشهم ويأكل من طعامهم ثم بعد ذلك يدخل المسجد فيجلس يدرس العلم والحديث ويعظ الناس ويقول حدثني فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه و سلم والله ما هكذا كان من يحمل العلم فبكى سفيان ثم انصرف
وكان الفضيل بن عياض رضي الله عنه يقول : إذا رأيتم العالم أو العابد ينشرح لذكره بالعلم والصلاح في مجالس الأمراء والأكابر فاعلموا أنه مراء
وكان سفيان بن عيينة رضي الله عنه يقول : من علامة الرياء في طلب العلم أن يخطر في باله أنه خير من العوام لأجل العلم ومن فعل ذلك مات قلبه فإن العلم لا يحيي قلب صاحبه إلا إن أخلص فيه وذلك أنه إذا تكبر به صار وجهه للدنيا وظهره لحضرة الله عز و جل
واعلم أن رائحة الحضرة هي التي بها حياة القلوب فالإقبال عليها يحيي والإدبار عنها يميت كما مات قلب الكفار حين أعرضوا عن الله عز و جل
وكان يقول أيضا : إذا رأيتم طالب العلم كلما ازداد علما ازداد جدالا ورغبة في الدنيا فلا تعلموه
وكان كعب الأحبار رضي الله عنه يقول : سيأتي على الناس زمان يتعلم جهالهم العلم ويتغايرون به على القرب من الأمراء كما يتغايرون على النساء أو كما يتغاير النساء على الرجال فذلك حظهم من علمهم
وكان صالح المري رضي الله عنه يقول : من علامة إخلاص طالب العلم أن ينشرح صدره كلما وصفه الناس بالجهل والرياء والسمعة كما أن من علامة ريائه انقباض قلبه من ذلك وكان يقول : احذروا عالم الدنيا أن تجالسوه خوفا أن يفتنكم بزخرفة لسانه ومدحه للعلم وأهله من غير عمل به . وكان يقول : ربما كان علم العالم زاده إلى النار فلا ينبغي لأحد أن يفرح بعلمه إلا بعد مجاوزة الصراط وهناك يعلم حقيقة علمه هل هو حجة له أو عليه
وكان إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه يقول : يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل . وكان يقول : مررت بحجر مكتوب عليه " اقلبني تعتبر " فقلبته فإذا عليه مكتوب : أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب علم ما لا تعلم ؟ وكان يقول : اطلبوا العلم للعمل فإن أكثر الناس قد غلطوا في ذلك فصار علمهم كالجبال وعملهم كالهباء
وكان ذو النون المصري رضي الله عنه يقول : أدركنا الناس وأحدهم كلما ازداد علما ازداد في الدنيا زهدا وتقللا من أمتعتها ونراهم اليوم كلما ازداد أحدهم علما ازداد في الدنيا رغبة وتكثيرا لأمتعتها . وكان يقول : فكيف طالب العلم عاملا به وهو ينام وقت الغنائم ووقت فتح الخزائن ووقت نشر العلوم والمواهب في الأسحار لا يتهجد من الليل ساعة
وكان عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه يقول : كيف تعلمون هؤلاء العلم وهم يأكلون من الحرام والشبهات والله إنهم كالأموات الذين يرتعون في النار ولو أنهم كانوا أحياء لوجدوا ألم النار في بطونهم من هذه الدار
وكان منصور بن المعتمر رضي الله عنه يقول لعلماء زمانه : لستم علماء وإنما أنتم مقلدون بالعلم يسمع أحدكم المسألة ويحكيها فقط ولو أنكم كنتم تعلمون بعلمكم لتجرعتم الغصص فإن العلم كله محثكم على التورع في المأكل والملبس حتى لا يجد أحدكم رغيفا يأكله ولا خرقة يواري بها عورته والله لقد لبست الحصير كذا كذا شهرا حتى وجدت ثوبا من حلال
وكان الربيع بن خثيم يقول : كيف يرائي العالم بما يعلم مع علمه بأن كل ما لا يبتغي به وجه الله يضمحل وكان إذا دخل عليه أمير على غفلة وهو يدرس العلم يغتم لذلك وكان إذا بلغه أن أحدا من الأمراء عازم على زيارته لا يدرس علما ذلك اليوم خوفا أن يراه ذلك الأمير وهو في محفل درسه العظيم . وكان يقول : من علامة المخلص في علمه أن ينقبض في نفسه إذا مدحه الأكابر ويتأثر كما يتأثر ممن اطلع عليه وهو يزني
وكان الحسن البصري يقول : يقبح على طالب العلم أن يشبع من الحلال في هذا الزمان فكيف بمن يشبع من الحرام والله إني أود أن الأكلة تصير في بطني كالآجرة فتكفيني حتى أموت فإنه بلغنا أنها تمكث في الماء ثلاثمائة عام وأكثر . وكان يقول ورع العلماء إنما يكون في الشبهات وإنما ورعهم اليوم عن المعاصي الظاهرة . وكان يقول بلغنا أنه يأتي آخر الزمان رجال يتعلمون العلم لغير الله كي لا يضيع ثم يكون عليهم تبعته يوم القيامة فليفتش الإنسان نفسه
( يتبع . . . ) (1/265)
( تابع . . . 1 ) : - روى النسائي والترمذي وغيرهما مرفوعا : [ [ أول الناس يقضى عليه يوم
وكان بكر بن عبدالله المزني رضي الله عنه يقول : علامة المرائي بعلمه أن يرغب الناس في العلم ليقرءوا عليه ثم أنه إذا شاوره أحد في القراءة على غيره لا يرغبه كل ذلك الترغيب
وكان عبدالله بن المبارك رضي الله عنه يقول : قد غلب على القراء في هذا الزمان أكل الحرام والشبهات حتى أنهم غرقوا في شهوة بطونهم وفرجهم واتخذوا علمهم شبكة يصطادون بها الدنيا فإياكم ومجالستهم . وكان يقول لولا نقص دخل على أهل الحديث والفقه لكانوا أفضل الناس ولكنهم صاروا يحترفون بعلمهم ويصطادون به الدنيا فهانوا في ملكوت السماوات والأرض . وكان يقول من عقل الرجل أن لا يطلب الزيادة من العلم إلا إذا عمل بما علم فيتعلم العلم كي يعمل به إذ العلم إنما يطلب للعمل
وكان الشعبي رضي الله عنه يقول : اطلبوا العلم وانتم تبكون فإن أحدكم إنما يريد به زيادة إقامة الحجة على نفسه يوم القيامة
ولما ترك بشر الحافي الجلوس لإملاء الحديث قالوا له ماذا تقول لربك إذا قال لك يوم القيامة لم لا تعلم عبادي العلم ؟ فقال أقول له يا رب قد أمرتني فيه بالإخلاص ولم أجد في نفسي إخلاصا
وكان سفيان الثوري يقول : إذا رأيتم طالب العلم فإن من لا يعمل بعلمه شبيه بشجر الحنظل كلما ازداد ريا بالماء ازداد مرارة . وكان يقول : لو أن عبدا تعلم العلم كله ثم عبد الله تعالى حتى يصير كالسارية أو الشن البالي ثم لم يفتش على ما يدخل جوفه أحلال هو أم حرام ما تقبل الله منه . وكان يقول : والله لقد أدركنا أقواما يروضون الطالب سنين كثيرة ولا يعلمونه شيئا من العلم حتى يظهر لهم صلاح نيته في العلم
وكان عبدالرحمن بن القاسم يقول : خدمت الإمام مالكا رحمه الله تعالى عشرين سنة فكان منها سنتان في العلم وثمانية عشر سنة في تعليم الأدب فيا ليتني جعلت المدة كلها أدبا
وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول : قال لي مالك رحمه الله يا محمد اجعل علمك ملحا وأدبك دقيقا
وقال أبو عصمة : بت ليلة عند الإمام أحمد أطلب الحديث فوضع لي إناء فيه ماء للتهجد فجاء إلى صلاة الصبح فوجد الإناء بحاله فقال لي لماذا جئت ؟ فقلت جئت أطلب الحديث فقال كيف أعلمك الحديث وليس لك تهجد في الليل ؟ اذهب لحال سبيلك
وكان عبدالله بن المبارك رضي الله عنه يقول : من حمل القرآن ثم مال بقلبه إلى الدنيا فقد اتخذ آيات الله هزوا ولعبا . وكان يقول إذا عصى حامل القرآن ربه ناداه القرآن من جوفه والله ما لهذا أحمل أين مواعظي وزواجري وكل حرف مني يقول لك لا تعصي ربك
وكان النووي رحمه الله يقول : عليكم بالإخلاص في العلم لينفع الله تعالى به العباد قال ولم يبلغنا عن أحد من العلماء غير العاملين أنه رؤي بعد موته فقال غفر الله لي بعلمي أبدا قال ومن الدلائل الصريحة على رياء العالم أن يتأذى ممن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره
وكان الشافعي رضي الله عنه يقول : ينبغي للعالم أن يكون له خبيئة من العمل الصالح فيما بينه وبين الله عز و جل ولا يعتمد على العلم فقط فإنه قليل الجدوى في الآخرة
وأقاويل العلماء في الإخلاص في العلم كثيرة مشهورة
وكان شيخنا الشيخ شمس الدين السمانودي ؟ ؟ رحمه الله تعالى إذا تفرس فيمن يطلب العلم أنه يريد يصطاد به الدنيا بطريق ولاية القضاء وقبول الرشا لا يعلمه مسألة واحدة ويقول له : طهر قلبك من محبة الدنيا حتى تصلح للعلم ثم تعال أعلمك العلم . ثم قال : وكان شيخنا العارف بالله تعالى سيدي عي النبتيتي لا يعلم أحدا حتى يقول له يا ولدي ما نويت بهذا العلم الذي تطلب مني أن أعلمك فإن رأى نيته صالحة علمه وإلا علمه النية ثم علمه رضي الله عنه . والله أعلم (1/266)
- روى الترمذي وغيره مرفوعا : [ [ إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه ] ] . وفي رواية للشيخين : [ [ فلا تمسح الحصى وأنت تصلي فإن كنت ولا بد فاعلا فواحدة تسوية الحصى ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ ما من حالة يكون العبد فيها أحب إلى الله من أن يراه وهو ساجد يعفر وجهه في التراب ] ] . وفي حديث ابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ يا غلام ترب وجهك ] ] . وروى الشيخان : [ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يصلي الرجل مختصرا ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نعبث بشيء من جوارحنا في الصلاة كمسح الحصى عن الجبهة ومسك اللحية إلا لضرورة أدبا مع الله تعالى وهذا العهد لا يصح لأحد العمل به إلا بعد السلوك على يد شيخ صادق يقطع به الحجب حتى يدخله حضرة الله تعالى ويعاشر أهلها وينظر ما هم عليه من الخشية والرعدة والخرس والبهت حتى لا تكاد تتحرك لهم جارحة من الهيبة ولا يحك جسده إذا أكله وأما من لم يسلك الطريق ولم يقطع الحجب ولم يخالط أهل تلك الحضرة الإلهية فإنما هو في حضرة الجن والشياطين ومن شأنهم كثرة الحركة كما هو شأن لهب النار الذي خلقوا منه فالعبد وإن كان في أصله قليل الحركة يصير ذا حركة بحكم سرقة الطبع من الشياطين . فاسلك يا أخي على يدي شيخ إن طلبت العمل بهذا العهد واللحوق بأهل الأدب مع الله تعالى والله يتولى هداك (1/267)
- روى الشيخان مرفوعا : [ [ لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه ] ] . قال أبو النضر لا أدري أقال أربعين يوما أو شهرا أو سنة . وروى الترمذي عن أنس قال : [ [ لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي ] ] . وروى ابن ماجه في سننه بإسناد صحيح وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما مرفوعا : [ [ لو يعلم أحدكم ما له في أن يمشي بين يدي أخيه معترضا وهو يناجي ربه لكان أن يقف في ذلك المقام مائة عام أحب إليه من الخطوة التي خطاها ] ] . وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ إذا صلى أحدكم إلى شيء ليستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان ] ] . وفي رواية للشيخين : [ [ وليدرأ ما استطاع ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نمر قط بين يدي مصل خوفا أن نكتب بذلك في ديوان الشياطين لتجرئنا على حضرة الله تعالى التي تخيلها المصلي في ذهنه كما أشار إليه خبر : أن الله قبلة أحدكم . ولو أن أحدا من أهل الله تعالى ضرب بالسيف ليمر لاختار ضرب السيف على المرور ولا يمر لأمور يشهدها لا تذكر إلا مشافهة وقد بسطنا الكلام على حضرة التنزيه في كتاب اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر وهو مجلد ضخم يحل مشكلات علم الكلام . { والله واسع عليم } (1/268)
- روى الإمام أحمد ومسلم مرفوعا : [ [ بين الرجل وبين الكافر ترك الصلاة ] ] . قلت والمراد بالرجل هنا المؤمن ومعنى الحديث بين الرجل منكم أيها المؤمنون وبين الكافر ترك الصلاة . والله أعلم : وفي رواية لأحمد وأبي داود والنسائي والترمذي وكل حسن صحيح مرفوعا : [ [ العهد الذي بيننا وبينهم ترك الصلاة فمن تركها كفر ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من ترك الصلاة متعمدا فقد خرج عن الملة ] ] . وفي رواية للطبراني : [ [ من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا ] ] . وفي رواية لابن ماجه والبيهقي : [ [ فقد برئت منه الذمة ] ] . وروى الترمذي عن عبدالله بن شقيق رضي الله عنه قال : [ [ كان أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة وكان أيوب يقول ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه ] ] وقال إسحاق صح عن النبي صلى الله عليه و سلم إن تارك الصلاة عمدا كافر . وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه و سلم أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يخرج وقتها كافر . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نتهاون بترك الصلاة أو بإخراجها عن وقتها إذا اشتد مرضنا فضلا عن أوقات الصحة بل نصلي بحسب استطاعتنا في الطهارة وفعل الأركان ولا ننتقل لمرتبة سفلى إلا بعد عجزنا عن العليا وهذا العهد يقع في خيانته كثير من أكابر الناس فضلا عن غيرهم فيترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس فيقولون له صل جالسا فإنك ضعيف فيطاوعهم في ذلك وهو يعلم من نفسه القدرة على الوقوف حتى لا يسفه كلامهم والحق أحق أن يتبع فليراع العبد ربه ويبذل استطاعته حتى لا يترك منها بقية وليحذر من تلبيس النفس عليه بميلها إلى الكسل والرخص فإنهم قالوا إن بذل الإنسان استطاعته في التقوى أشد من تقواه حق تقاته وذلك أن تقوى الله أن يعلم العبد أن تقواه من الله تعالى ولولا أنه قواه على ذلك ما قدر يتقى وأما تقوى الله بحسب الاستطاعة فهو أن يبذل قوته في التقوى بحيث لا يبقى من قدرته بقية قط وهذا عزيز فإنه لا بد أن النفس تخلى من قوتها بقية تتنفس بها ولا يخرج عن ذلك إلا الأكابر من الأولياء وغالب الناس يظن أن تقوى الله حق تقاته أشد وأشق وليس الأمر كذلك ولا تصل يا أخي إلى معرفة تمييز حظ النفس مما هو لله تعالى إلا بعد السلوك على يد شيخ مرشد يخرجك من حضرات التلبيس . { والله غفور رحيم } (1/269)
- وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ] ] . وفي رواية للنسائي مرفوعا : [ [ إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلعله يدعو على نفسه وهو لا يدري ] ] . وروى مسلم وأبو داود وغيرهما مرفوعا : [ [ إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) ألا نناجي قط الحق تعالى في صلاة أو قراءة حال النعاس وذلك أن من الأدب في خطاب الأكابر أن يكون بكل عضو وذلك لا يكون إلا مع حضور القلب وحضور القلب لا يكون إلا مع اليقظة فمن خاطب الحق تعالى حال النعاس واشتغال القلب بغير الله فقد أساء الأدب . وفي كلام سيدي عن بن الفارض رحمه الله تعالى :
إذا ما بدت ليلي فكلي أعين ... وإن هي ناجتني فكلي مسامع
وبالجملة فلا تعرف يا أخي أدب مخاطبة الحق تعالى إلا إن سلكت على يد شيخ صادق وتحتاج إلى صبر شديد وزمن طويل . وقد قال أئمة الطريق عليكم بالإخلاص في الأعمال فإنه يوصلكم إلى الجنة وعليكم بالأدب مع الله تعالى في عباداتكم فإن ذلك يوصلكم إلى دخول حضرة الله تعالى وتكونون إخوان النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . فإن هؤلاء هم أصحاب المراتب في الأدب مع الله تعالى فتشاهدون أقوالهم وأفعالهم وتتعلمون من آدابهم وما دمتم لم تدخلوا حضرة الله تعالى فأنتم في حضرة الشيطان . فاعلم أن من الأدب مع الله تعالى إذا حضر أوان النعاس أن يسكت العبد ويأخذ في المراقبة من غير تلفظ بشيء
والله عليم حكيم (1/270)
- روى الشيخان وغيرهما : أنه ذكر رجل عند النبي صلى الله عليه و سلم أنه نام ليلة حتى أصبح فقال : [ [ ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه ] ] . وفي رواية للطبراني مرفوعا : [ [ إذا أراد العبد الصلاة من الليل أتاه ملك فقال قم صل واذكر اسم ربك فقد أصبحت فيأتيه الشيطان فيقول عليك ليل طويل وسوف تقوم فإن قام وصلى أصبح نشيطا خفيف الجسم قرير العين وإن هو أطاع الشيطان حتى أصبح بال الشيطان في أذنيه ] ] . قلت وقع من بعضهم شك في أن ذلك بول حقيقي فرأى الشيطان في منامه وهو يبول في أذنه فاستيقظ والبول يخر من ثيابه . والله أعلم
وروى الشيخان مرفوعا : [ [ يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب القلب وإلا أصبح خبيث النفس كسلانا ] ] . زاد في رواية لابن ماجه [ [ ولم يصب خيرا ] ] . وروى ابن ماجه وغيره مرفوعا : قالت أم سليمان بن داود لسليمان يا بني لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرا يوم القيامة . وروى ابن حبان وغيره مرفوعا : [ [ إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب في الأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة ] ] . قلت الجعظري : المختال في مشيته والجواظ : الغليظ الجافي والصخاب : الذي يرفع صوته في الأسواق بسبب أمور الدنيا . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نتهاون بفوات حضورنا في المواكب الإلهية من حين ينصب موكب الحق تعالى إلى أن تنقضي حوائجنا فينبغي الاستعداد لحضورها بتقليل الأكل والنوم على طهارة ونحو ذلك مما يطرد الشيطان عنا فإن الشيطان لا يفارق من ينام على شبع أو حدث فكلما أراد العبد أن يقوم يوسوس له فينومه . ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ صادق حتى يخلصه من جميع العوائق ويخرجه من حضرات الشياطين إلى حضرات الملائكة المقربين وقد قالوا من شرط العبد الخالص أن لا يكون له عوائق تعوقه عن حضرة خدمة مولاه في ليل أو نهار . وبالجملة فأهل المواكب الإلهية كأهل المواكب الدنيوية فكما أن كل من كان أكثر الغيبة عن حضور موكب السلطان يقطعون جامكيته ويمحون اسمه من ديوان مماليك السلطان فكذلك من أكثر النوم والغيبة عن حضور موكب الرحمن تتكدر منه أكابر الحضرة ويقطعون عنه الإمداد ولا يقضون بعد ذلك له حاجة ويصيرون يبغضونه لزهده في خدمة ربهم فاعلم ذلك والله يتولى هداك . واعلم يا أخي أن الموكب الإلهي بالليل ينصب غالبا من أول الثلث الآخر وكثيرا ما ينصب أوائل النصف الثاني إلا ليلة القدر وليلة الجمعة فإنه ينصب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر . وفي رواية الإمام سنيد بن عبدالله الأزدي إلى انصراف الناس من صلاة الصبح فينبغي لطالب الخيرات أن لا يغفل عن ربه في هذه الأوقات إما بصلاة وإما بذكر وإما غير ذلك من المراقبة لله تعالى (1/271)
- روى الترمذي وغيره مرفوعا : [ [ من تعلم العلم ليجادل به العلماء أو ليماري به السفهاء فليتبوأ مقعده من النار ] ] . وروى أبو داود والترمذي وغيرهما مرفوعا : [ [ من أتاه الله علما فبخل به عن عباد الله وأخذ عليه طمعا وشري به ثمنا وكذا وكذا حتى يفرغ الحساب ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نماري بالعلم قط ولا نكتمه عن أحد علمنا منه الإخلاص فيه ولو كفر هو بتعليمنا له كما أن من شرط المعلم كذلك الإخلاص : وسمعت سيدي عليا الخواص رحمة الله يقول : من علامة إخلاص المعلم أن لا يلتفت إلى اعتراف الناس بتعليمه أو كفرانهم به وكل من تكدر ممن تركه من طلبته وقرأ على غيره فما شم للإخلاص رائحة وهو مراء بعلمه . وعبارة الإمام النووي في كتاب التبيان وفي مقدمة شرح المهذب . فاعلم أن من أهم ما يؤمر به المعلم أن لا يتأذى ممن يقرأ على غيره قال : وهذه مصيبة يبتلى بها جهلة المعلمين لغباوتهم وفساد نيتهم وهو من الدلائل الصريحة على عدم إرادتهم بالتعليم وجه الله الكريم . وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول : إياك أن تكتم العلم عن عدوك فإن الشرع حقيقة إنما هو لله ورسوله ومن شرط كل محب لله ورسوله أن يحب نشر ما شرعه الله ورسوله في جميع الخلق سواء كانوا أصدقاء أو أعداء . وقد جاء التحذير العظيم في حق من كتم العلم عن أهله كما سيأتي في الأحاديث وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه ينشد :
أأنشر علما بين راعية الغنم ... وأنثر منظوما لسارحة النعم
إلى أن قال :
فإن يسر الله الكريم بفضله ... وأدركت أهلا للعلوم وللحكم
بثثت مفيدا واستفدت ودادهم ... وإلا فمخرون ؟ ؟ لدي ومكتتم
ومن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وسمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول : إنما توعد الشارع صلى الله عليه و سلم السلف الصالح إذا كتموا العلم تشجيعا لهم حتى يتكلموا به لخوفهم من الشهرة وأما الناس اليوم فلو كان التحذير في الكلام لتكلموا ولم يسكتوا فكان السلف الصالح لكثرة إخلاصهم يود كل واحد منهم أن لو كانت الشهرة بالعلم لأخيه فكانوا يقوون نور إخوانهم ويضعفون نورهم عند الناس وربما عرضت المسألة الواحدة على ثلاثين نفسا وكل منهم يردها حتى تجئ إلى الأول خوفا من القول في دين الله بالرأي . واعلم يا أخي أن حكمة النهي عن المماراة هو للاستهانة به فيجلس الفقيهان يتكلمان بالعلم ولا يقصدان العمل وقلوبهم غافلة عن العمل بالكلية ويشكك كل واحد منهما الآخر فيما يفهمه ويدخل عليه الشبهة ولا يعلمه بالجواب وإلا فلو شككه ثم أجابه وعلمه الجواب لما نهى عنه بل هو مطلوب لأن فيه امتحانا للطالب ليختبر به علمه وجهله وكثيرا ما يكون طالب العلم جازما بحكم فهمه من الآية أو الحديث فيجلس مع بعض المجادلين فيدخل عليه التشكيك ثم يلتهي عنه بأمر فيصير ذلك الطالب مترددا فيما كان جازما به وليس ذلك من شأن أهل الإيمان الصادق وهذا المعنى الذي فهمته من حكمة النهي عن المماراة اقتبسته من حديث مسلم وغيره في شأن رؤية الباري جل وعلا في القيامة : { هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب } الحديث . ففسر الشارحون هناك قوله تمارون أي تشكون فكذلك يكون المعنى هنا ومن ظفر بنقل في ذلك فليلحقه بهذا الموضع من هذا الكتاب . والله أعلم (1/272)
- روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ] ] . قال الجلال السيوطي أنه متواتر . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ] ] . بإسقاط قوله متعمدا . { والله غفور رحيم }
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نتهور في رواية الحديث بل نتثبت في كل حديث نرويه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا نرويه عنه إلا إن كان لنا به رواية صحيحة . وكان سيدي علي الخواص رحمه الله تعالى يقول : لا ينبغي لفقيه أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا إلا إن كان له به علامة يعرف بها أن ذلك من كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم أما من طريق النقل وإما من طريق سؤاله للنبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك الحديث . وقوله هو من كلامي يقظة ومشافهة هذا كله فيما كان ضعيفا من طريق النقل أما ما صح من طريق المحدثين واستحسن فلا يحتاج إلى سؤاله صلى الله عليه و سلم فيه . فاعلم يا أخي أن أكثر من يقع في خيانة هذا العهد المتصوفة الذين لا قدم لها في الطريق فربما رووا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما ليس من كلامه لعدم ذوقهم وعدم فرقانهم بين كلام النبوة وكلام غيرها ولو أنهم كانوا من العارفين لعرفوا كلام النبوة وميزوه عن غيره فإن لامعة نور النبوة لا تخفى على من في قلبه نور . وقد سمعت بعضهم يحكي قول أبي محمد الكتاني رأيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت له يا رسول الله ادع الله لي أن لا يميت قلبي فقال : قل كل يوم أربعين مرة : يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت وهي رؤية منام فصار هذا يرويه عنه على إيهام أنه صلى الله عليه و سلم قاله لأصحابه ورواه عنه الأئمة الحفاظ وهو وهم فاحش فلولا أنني أعلمته بذلك ما علمه . وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول : إنما قال بعض المحدثين أكذب الناس الصالحون لغلبة سلامة بواطنهم فيظنون بالناس الخير وأنهم لا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه و سلم فمرادهم بالصالحين المتعبدون الذين لا غوص لهم في علم البلاغة فلا يفرقون بين كلام النبوة وغيره بخلاف العارفين فإنهم لا يخفى عليهم ذلك حتى أن بعضهم كان يعرف صوت الشريف من غيره من وراء حجاب لكونه من رائحة رسول الله صلى الله عليه و سلم . وقد من الله تعالى علي بتمييز كلام النبوة من غيره من حيث حلاوة التركيب العلمي بأنه لا أحد يقدر على فصاحة رسول الله صلى الله عليه و سلم فربما سمع الصحابي شيئا من رسول الله صلى الله عليه و سلم فذهب عنه حفظ بعض اللفظ والمعنى موفور في قلبه فيكمل لنا الحديث بلفظه هو فأعرفه بركاكة تركيبه وربما ظن بعض المحدثين أن ذلك الحديث موضوع والحال أن الوضع إنما هو في مثل لفظة ونحوها وأصل الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
فتعلم يا أخي علم الحديث لتخرج من الوقوع في الكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو بغير قصد . والله تعالى أعلم (1/273)
- روى مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول في دعائه : [ [ اللهم غني أعوذ بك من نفس لا تشبع ومن علم لا ينفع ] ] . روى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ يجاء بالرجل يوم القامة فيلقى في النار فتنذلق ؟ ؟ أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالخير ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه ] ] . وروى البزار وغيره مرفوعا : [ [ مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل الفتيلة تضيء على الناس وتحرق هي نفسها ] ] . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ كل علم وباله على صاحبه إلا من عمل به ] ] . وفي رواية له مرفوعا : [ [ أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ] ] . وروى الإمام أحمد والبيهقي عن منصور بن زاد أنه قال : بلغنا أن العالم إذا لم ينتفع بعلمه تضيح ؟ ؟ أهل النار من نتن ريحه ويقولون له : ماذا كنت تفعل يا خبيث فقد آذيتنا بنتن ريحك أما يكفيك ما نحن فيه من الأذى والشر فيقول لهم كنت عالما فلم أنتفع بعلمي ] ] . والله تعالى أعلم
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) أن لا نغتر بحفظ العلم الذي يطلب منا العمل به من غير عمل كما عليه غالب الناس اليوم وما هكذا كان السلف الصالح رضي الله عنهم فقد بلغنا أنه كانوا يستغفرون الله من كل مسألة لم يعملوا بها ويعدون ذلك ذنبا . ومن كان هذا مشهده ذهب عنه الاغترار بالعلم ثم اعلم يا أخي أن من الناس من قسم الله تعالى له العمل بما علم ومنهم من قسم الله له العلم من غير عمل ومنهم من قسم الله له العمل بغير علم ومنهم من لم يقسم له علم ولا عمل فالواجب على كل من لم يعمل بعلمه كثرة الاستغفار والتوبة والإكثار من تعليم العلم للناس لعلهم يعملون به فيكون ذلك في صحائف من علمهم حيث فاته العمل بما علم ثم يستغفر لذلك فربما لا يكون عمل الناس بعلم العالم يجبر خلل تركه هو العمل بما علم وكان الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله يقول من حقق النظر لم يجد عاقلا إلا وهو عامل بعلمه لا يمكنه أن يترك العمل به أبدا ما دام عاقلا وذلك إنه إن عمل بعلمه على وفق الشريعة المطهرة بأن باشر العمل على وجه الإخلاص فيه فهو عامل بعلمه وإن وقع في معصية فاستغفر منها وتاب فقد عمل أيضا بعلمه فإنه لولا علمه ما اهتدى لكون ذلك معصية فما جعله يتوب منها إلا العلم كمثل هذا قد ينفعه علمه على كل حال ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى سلوك على يد شيخ ليرقيه إلى درجات المراقبة لله تعالى والخوف من عذابه حتى يعرف كل مسألة ترك العمل بها ويستغفر فلا يلتبس عليه مسألة واحدة من كل باب لم يعمل بها كما كان عليه العلماء العاملون وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله تعالى يقول : كل فقيه لا يجتمع بالقوم فهو كالخبز الحاف بلا إدام وسمعت سيدي علي الخواص رحمه الله يقول : لا يكمل طالب العلم إلا بالاجتماع على أحد من أشياخ الطريق ليخرجه من رعونات النفوس ومن حضرات تلبيس النفس ومن لم يجتمع على أهل الطريق فمن لازمه التلبيس غالبا ودعوى العمل بما علم وكل من نسبه إلى قلة العمل وقام عليه الأدلة التي لا تمشي عند الله ومن شك في قولي هذا فليجرب فاسلك يا أخي على يد شيخ والزم خدمته واصبر على جفائه لك وتغرباته عليك فإن الذي يريد أن يطلعك عليه أمر نفيس لا يقابل بالأعواض الدنيوية فإن للعلم رياسة عظيمة وللنفس في دسائس ربما خفيت على مشايخ العلم فضلا عن الطلبة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (1/274)