لمحات عابرة من حياة العبادلة
د. بدوي مطر
bhmatar@yahoo.com
الفهرس
المقدمة ... 5
عبد الله بن العباس ... 12
نسبه ... 12
صفاته الجسدية ... 13
مقوماته الشخصية ... 13
بعض أقواله ... 19
قالواعنه ... 43
محطات هامة ... 48
وفاته ... 52
عبد الله بن عمر ... 54
نسبه ... 54
صفاته الجسدية ... 55
مقوماته الشخصية ... 55
على خطى الرسول الكريم ... 73
رؤيا صادقة ... 75
بعض أقواله ... 75
قالوا عنه ... 83
موقفه من الفتنة ... 90
1 ـ حصار عثمان ... 90
3 ـ بيعة يزيد ... 94
4 ـ وقعة الحرة ... 94
5 ـ خروج الحسين ... 96
6 ـ خروج ابن الزبير ... 96
7 ـ معاوية الثاني ... 100
وفاته ... 101
عبد الله بن الزبير ... 103
نسبه ... 104
طفولته ... 107
صفاته الجسدية ... 109
عبادته ... 112
علاقتة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ... 115
مواقف مشرفة ... 116
البيعة ... 121
أسباب خروج ابن الزبير على يزيد ... 122
موقف يزيد من ابن الزبير ... 123
موقف مروان بن الحكم من ابن الزبير ... 125
مؤتمر الجابية ... 125
معركة مرج راهط ... 126
ضم مصر إلى الدولة الأموية ومحاولة إعادة العراق والحجاز ... 127
وفاة مروان بن الحكم وتولية العهد لعبد الملك ... 128
موقف عبد الملك بن مروان من ابن الزبير ... 128
حركات سياسية مؤثرة ... 129
موقف الخوارج من بيعة ابن الزبير ... 129
حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي ... 130
نهاية المختار على يد مصعب بن الزبير ... 131
مقتل مصعب بن الزبير ... 132
الحصار الثاني وسقوط خلافة ابن الزبير ... 133
مقتل ابن الزبير ... 134
أسباب سقوط خلافة ابن الزبير ... 149
عبد الله بن عمرو بن العاص ... 155
نسبه ... 155
صفاته الجسدية ... 156
من أقواله ... 157
قالوا عنه ... 166
بعض مواقفه ... 172
وفاته ... 176
أهم المراجع ... 177
المقدمة(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خير الأنام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، كرم الله الوجود بخلقه ، ورحم العباد بشريعته،وصدق ربي حين قال ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
أما بعد، فقد جاء الإسلام ليضئ ظلام العقول ويهديها إلى الصراط المستقيم بقرآن يتلى إلى يوم الدين وبسنة مطهرة ، ولقد تكفل الله بحفظ كتابه فقال" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ولقد هيأ الله لهذا الدين رجالا حملوا شعلته، وحفظوا آيات كتابه، ووعوا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وساروا بها في كل الآفاق ، فكانوا كمصابيح الهدى، أفلح من اقتدى بهديهم ، وضل وخاب من شذ عن دربهم، فهم أنجب تلاميذ مدرسة النبوة، ولقد حباهم الله حين صافحوا الرسول وجالسوه، ومن فمه الشريف التقطوا طازج القرآن وشهد الحكمة وعذب الحديث.
وفي هذا الكتاب المتواضع نحاول إلقاء بعض الضوء على أربعة شباب أعزهم الله بالإسلام ، فصار لكل منهم باعا لايطال، وبصمة لاتنكر.إنهم ممن يصدق عليهم قول الله عز وجل( إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) ولقد اشتهروافي التاريخ الإسلامي (بالعبادلة الأربعة) وهم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وأخيرا عبد الله بن عمرو بن العاص.
وعلى الرغم من تقاربهم في التقوى والورع إلا أن كل فرد منهم له خصوصيته ونقطة تفرده.فهذا هو:
عبد الله بن عباس
ولد في الشعب، حين حاصر كفار مكة الرسول صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وقاطعوهم، فميلاده يؤرخ للدعوة الإسلامية في مرحلة من مراحل بدايتها، وحين شب عن الطوق بدت عليه علامات النجابة وحظي بدعاء النبي له فصار بحرا للعلم تتلقف الآذان فيض علمه، وحبرا يسعى إليه في المعضلات.
وكيف لا وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
"اللهم علمه الحكمة".
"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
"اللهم بارك فيه وانشر منه"(1/2)
دعاء مبارك لايرد من أحب خلق الله على الله ، فنال بركته ابن عباس فصار إلى ما صار إليه.
ولقد قربه الفاروق عمر وشهد له بالنبوغ والعبقرية.
يقول ابن عباس:
" كان عمر يسألني مع أصحاب محمد، وكان يقول لي:
" لاتتكلم حتى يتكلموا"
فإذا تكلمت قال:
" غلبتموني أن تأتوا بمثل ما جاء به هذا الغلام الذي لم يجتمع شؤون رأسه"
(شؤون رأسه: الشيب الذي يكون في الرأس)
ولقد وصفه أحد معاصريه فقال:
" إنه آخذ بثلاث، تارك لثلاث..
آخذ بقلوب الرجال إذا حدّث..
وبحسن الاستماع إذا حدّث..
وبأيسر الأمرين إذا خولف..
وتارك المراء..ومصادقة اللئام..وما يعتذر منه"..!!
وهذا هوعبد الله بن عمر
ولد سنة ثلاث من المبعث النبوي، أسلم قبل أن يبلغ الحلم، هاجر وهو بن عشر سنين وقيل ثلاث عشرة سنة،أدرك الفتح وهو ابن عشرين سنة،وظل يفتي طوال ستين سنة.
محطات حياة لايد له فيها، لكنها تؤرخ هي الأخرى لمسيرة الإسلام ، وكما اشتهر ابن عباس بكونه حبرا للأمة وبحرا للعلم، فقد بز ابن عمر رفاقه في تتبعه لسنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، لدرجة أدهشت كل من حوله ، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول عنه في هذا الصدد:
"ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله، كما كان يتبعه ابن عمر".
وهذا نافع مولاه وراوي معظم أحاديثه يقول أيضا:
"لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع أثر رسول الله لقلت هذا مجنون."
وكما حظي ابن عباس بدعاء الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم له، فقد نال هذا الشرف أيضا ابن عمر، ولقد قال الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم في حقه:
" نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل ".
كلمات مباركة تحتوي على أسمى المعاني من التزكية والدعاء والتوجيه ،ولقد نصح الحبيب صلى الله عليه وسلم الأمة في شخصه حين خاطبه فقال:
"يا عبد الله، كن في الدينا كأنك غريب أو كأنك عابر سبيل وعد نفسك في أهل القبور"
قال عنه الإمام مالك:(1/3)
"كان إمام الناس عندنا بعد عمر زيد بن ثابت ، وكان إمام الناس عندنا بعد زيد بن عمر"
وذات يوم اشترى ابن عمر خمسة عبيد فقام يصلى فقاموا خلفه يصلون، فقال:
" لمن صليتم هذه الصلاة "
فقالوا :
"لله "
فقال :
"أنتم أحرار لمن صليتم له فأعتقهم."
ولقد أتته الإمارة طائعة عدة مرات لكنه زهد فيها، وظل سعيه للقربى من الله نموذجا يحتذى به، ولذا فإنه لم يمت إلا بعد أن أعتق ألف عبد أو يزيد.
أما ثالث العبادلة فهو:
عبدالله بن الزبير
أول مولود للمسلمين ولد بالمدينة ، ولم تكن تلك نقطة تميزه الوحيدة عن رفاقه ، بل إنه هاجر بطريقة لم يسبقه أو يتبعه أحد بمثلها. فلم تمس قدماه رمال الصحراء الممتدة بين مكة والمدينة، ولم يمتطي راحلة ، بل هاجر محاطا بظلمات ثلاث إلى حيث النور، غادر مكة وهو في بطن أمه، وعلى مشارف المدينة المنورة وتحديدا في قباء صافح الحياة والوجود وتنفس أول هواء دخل رئتيه .
وحين ولد أبطل الله أراجيف وإشاعات اليهود الذين قالوا إن المسلمين لن يولد لهم ذكورلأنهم سحروهم..!
"دخل سلمان رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا عبد الله بن الزبير معه طست يشرب ما فيها، فدخل عبد الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" ليُهريق ما فيها"
قال سلمان:
"ذاك شربه والذي بعثك بالحق"
قال:
«شربته؟»
قال نعم،
قال:
«لم؟»
قال: أحببت أن يكون دم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوفي، فمسح بيده على رأس ابن الزبير وقال:
" ويل لك من الناس وويل للناس منك لا تمسُّك النار إلا قَسَم اليمين".
وهكذا نال أميرنا الثائر بشرى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم له بدخول الجنة ،مع إلتفاتة نبوية مباركة لحياة حافلة فيها الكثير من محطات الصعود والهبوط.
ولقد شهد له الكثيرون، ومنهم على سبيل المثال:
قال يوسف بن الماجشون:(1/4)
" قسم ابن الزبير الدهر على ثلاث ليال، فليلة هو قائم حتى الصباح، وليلة هو راكع حتى الصباح، وليلة هو ساجد حتى الصباح."
وقال يزيد بن إبراهيم التستري:
" ركع ابن الزبير يوماً ركعة، فقرأنا البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، وما رفع رأسه"
وقال عنه عمرو بن دينار:
" كان ابن الزبير يصلي في الحجر، وحجر المنجنيق يصيب طرف ثوبه، فما يلتفت إليه"
هذا هو عبد الله بن الزبير الذي ولد ليكون أميرا، والذي رفع سيفه منددا بالباطل ،وباحثا عن الحق، أشهر سيفه مدافعا عن السنة، وليعيد مبدأ الشورى إلى نصابه لينتهي به الأمر مصلوبا على خشبة الباطل بيد أكثر الرجال طغيانا ودموية ألا وهو الحجاج بن يوسف الثقفي.
أما آخر العبادلة الأربعة فهو:
عبد الله بن عمرو بن العاص
تميز عن أقرانه الثلاثة فهو الوحيد من بينهم الذي أسلم قبل أبيه ، وبأنه صاحب الصحيفة التي عرفت بالصادقة والتي سجل فيها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قال عنها:
" إن هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه أحد، فإذا سلم لي كتاب الله، وسلمت لي هذه الصحيفة والوهط، لم أبال ما ضيعت الدنيا."
الوهط: بستانه بالطائف.
وعنه أنه قال:
" لأن أدمع دمعة من خشية الله عز وجل أحب إلي من أن تصدق بألف دينار."
وسيظل حواره مع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرشده فيه وأرشدنا معه كيف يكون القصد في العبادة دفعا للملل،وخوفا من تلاعب النفس والشيطان. ولقد جاء الحوار على هذا النسق:
" ألم اخبر أنك تصوم النهار، ولا تفطر، وتصلي الليل لا تنام..؟؟
فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام..
قال عبدالله:
اني أطيق أكثر من ذلك..
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
فحسبك ان تصوم من كل جمعة يومين..
قال عبدالله:
فاني أطيق أكثر من ذلك..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فهل لك اذن في خير الصيام، صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما..(1/5)
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا:
وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة
واني أخشى أن يطول بك العمر
وأن تملّ قراءته..!!
اقرأه في كل شهر مرّة..
اقرأه في كل عشرة أيام مرّة..
اقرأه في كل ثلاث مرّة.."
ونال مثل أصحابه تزكية الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال في حقه وأسرته:
" نعم أهل البيت: عبد الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله ".
ونال شرف النصح النبوي،حين خاطبه الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم بقوله:
"يا عبد الله بن عمرو لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل."
هؤلاء هم العبادلة الأربعة، وتلك لمحات من حياتهم، فهل بقي في عقولنا وعقول أبنائنا متسع لفهم الهدي النبوي من خلالهم، وهل مازال عندنا ولو بعض العزم للتأسي بهم..؟!
حلم يبدو في هذه الأيام صعب المنال للوهلة الأولى...ولكن يظل الأمل على الدوام مهما زادت حلكة الظلام في انبثاق فجر جديد، يولد فيه عبادلة جدد، لايحملون مجرد الأسماء بل إيمان صادق،و همة لا تفتر ،وعزم لا يلين، ليعلم أعداؤنا أن شعلة الإسلام باقية مابقيت الشمس تشرق من مشرقها.
القاهرة
الثلاثاء 17 إبريل 2007
عبد الله بن العباس
حبر الأمة وبحر العلم
نسبه
هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، يكنى أبا العباس .
أبوه هو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: العباس بن عبد المطلب .
أمه :هي أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث .
ولد وبنو هاشم بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنوات.
فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه بريقه.
وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة علىأصح تقدير ،وقيل غيرذلك.
توفي بالطائف
وصفه صاحب الحلية فقال:(1/6)
" اللقن المعلم، والفطن المفهم، فخر الفخار، وبحر الأحبار، وقطب الأفلاك، وعنصر الأملاك، البحر الزخار، والعين الخرار، مفسر التنزيل، ومبين التأويل، المتفرس الحساس والوضئ اللباس، مكرم الجلاس، ومطعم الأناس، عبد الله بن عباس، رضي الله تعالى عنه."
هاجر مع أبيه قبل الفتح فاتفق لقياهما النبى صلى الله عليه وسلم بالجحفة وهو ذاهب لفتح مكة فشهد الفتح وحنينا والطائف.
وهو والد الخلفاء العباسيين وهو أخو عشرة ذكور من أم الفضل للعباس وهم:
الفضل وعبد الله وعبيد الله ومعبد وقثم وعبد الرحمن وكثير والحارث وعون وتمام وهو آخرهم مولدا وقد مات كل واحد منهم فى بلد بعيد عن الآخر.
صفاته الجسدية
كان جسيما ، إذا جلس يأخذ مكان رجلين ، جميلا له وفرة ، وقد شاب مقدم رأسه وشابت لمته ، وكان يخضب بالحناء وقيل بالسواد ، حسن الوجه ، وكان أبيض طويلاً ، يلبس حسنا ويكثر من الطيب بحيث إنه كان إذا مر فى الطريق يقول النساء هذا ابن عباس أو رجل معه مسك ، وكان فصيحا، ولما عمى اعترى لونه صفرة يسيرة .
(الوفرة: ما سال على الأُذنين من الشعر)
مقوماته الشخصية
وصفه الأستاذ خالد محمد خالد في كتابه ( رجال حول الرسول) فقال:
" تنوّعت ثقافته فكان حجة في تفسير القرآن وتأويله وفي الفقه.. وفي التاريخ.. وفي لغة العرب وآدابهم، وكان حاذقا فطنا ، بتواضعه ودماثة خلقه كان يسأل، ويسأل.. ثم يفحص الاجابة مع نفسه، ويناقشها بعقل جريء. لا يعنى بجمع المعرفة فحسب، بل يعنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها بقوة ايمانه، وقوة خلقه، وغزارة علمه واستنارة عقله وذكاء قلبه.
وهو في حواره ومنطقه، لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار..
ومع غزارة علمه، ونفاذ حجته، لم يكن يرى في الحوار والمناقشة معركة ذكاء، يزهو فيها بعلمه، ثم بانتصاره على خصمه.. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته.(1/7)
وهو عابد قانت أوّاب.. يقوم من الليل، ويصوم من الأيام، ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه، اذ كان كثير البكاء كلما صلى.. وكلما قرأ القرآن..
فاذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد، وذكر الموت، والبعث علا نشيجه ونحيبه."
كان يقال له الحبر والبحر .
وحبر هذه الأمة ومفسر كتاب الله وترجمانه .
ويقال إن الذي لقبه بالحبر جرجير ملك المغرب ، وكان قد غزا مع عبد الله بن أبي سرح إفريقية فتكلم مع جرجير فقال له :
" ما ينبغي إلا أن تكون حبر العرب."
و كان بن عباس يسمى البحر لكثرة علمه.
رآى جبرائيل عليه السلام مرتين. ودعا له رسول الله مرتين
عنه أنه قال: "ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
"اللهم علمه الحكمة".
وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدناه منه وربت على كتفه ودعا له قائلا:
"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
وحين سئل ابن عباس يوما:
" أنّى أصبت هذا العلم"..؟
أجاب:
" بلسام سؤل..
وقلب عقول"..
وصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات:
" ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا أكبر لبّا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس.
ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز عمر قوله"
حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال:
" لقد رأيت من ابن عباس مجلسا، لو أن جميع قريش فخرت به، لكان لها به الفخر..
رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب..
فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءا، فتوضأ وجلس وقال: أخرج اليهم، فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله..فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوا عن شيء إلا اخبرهم وزاد..
ثم قال لهم: أخوانكم.. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم.
ثم قال لي: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام.
فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوا عن شيء إلا أخبرهم وزادهم..(1/8)
ثم قال: أخوانكم.. فخرجوا.
ثم قال لي: اأدع من يريد أن يسأل عن الفرائض، فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم.
ثم قال لي: أدع من يريد أن يسال عن العربية، والشعر.
فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم"!!
مع الخوارج كان له موقفا مشهودا سجله التاريخ مبينا قوة حجته وسلامة منطقه.
سألهم ابن عباس:
" ماذا تنقمون من عليّ..؟"
قالوا:
" ننتقم منه ثلاثا:
أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله، والله يقول إن الحكم الا لله.
والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلّت أموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!!
والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فان لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.."
وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال:
" أما قولكم: انه حكّم الرجال في دين الله، فأيّ بأس..؟
إن الله يقول ( يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم)
فنبؤني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم..؟!
وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم.. واستأنف حبر الأمة حديثه:
" وأما قولكم: أنه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا، ويأخذ أسلابها غنائم..؟
وهنا كست وجوههم صفرة الخجل، وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم.
وانتقل ابن عباس إلى الثالثة:
" وأما قولكم: إنه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية، إذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش:(1/9)
" والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك.
فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"
فقال لهم الرسول:
" والله إني لرسول الله وإن كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: أكتب ما يشاءون: اكتب:
" هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"..!!
واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز.. وما كاد ينتهي النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا، معلنين اقتناعهم، ومعلنين خروجهم من خصومة الإمام عليّ..!
ووصفه مسلم من أهل البصرة، وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للإمام عليّ ابن أبي طالب، فقال:
" إنه آخذ بثلاث، تارك لثلاث..
آخذ بقلوب الرجال إذا حدّث..
وبحسن الاستماع إذا حدّث..
وبأيسر الأمرين إذا خولف..
وتارك المراء..ومصادقة اللئام..وما يعتذر منه"..!!
وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال:
" ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس..ولا رأيت أحدا، أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه..ولا أفقه في رأي منه..ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير للقرآن، ولا بحساب وفريضة منه..ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها..وما رأيت عالما جلس إليه إلا خضع له، ولا سائلا إلا وجد عنده علما"..!!
وأخرج الرُوياني، وابن عساكر عن حبيب بن أبي ثابت أن أبا أيوب أتى معاوية فشكا عليه أن عليه ديناً، فلم يرَ منه ما يحبُّ ورأى ما يكرهه. فقال:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم سترون بعدي أثَرة».
قال:
" فأيُّ شيء قال لكم؟
قال: «أصبروا»
قال: فاصبروا.
فقال: والله لا أسألك شيئاً أبداً.
فقدم البصرة فنزل على ابن عباس رضي الله عنهما ففرّغ له بيته وقال: "لأصنعنّ بك كما صنعتَ برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أهله فخرجوا، وقال:
" لك ما في البيت كلُّه وأعطاه أربعين ألفاً. وعشرين مملوكاً."(1/10)
وقال عبد الحي بن أحمد العكري الدمشقي شذرات الذهب في أخبار من ذهب:
"وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتياً عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في عشرين كتاباً"
وفي مرض الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه، روىابن عباس هذا الحديث الشريف ليزف البشرى لكل عبد صالح يمنحه الله الرؤيا الصادقة:
"كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستر, ورسول الله صلى الله عليه وسلم معصوب في مرضه الذي مات فيه، فقال:
"اللهم بلغت" ثلاث مرات، "أنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا، يراها العبد الصالح أو ترى له, ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فإذا ركعتم فعظموا الله، وإذا سجدتم فاجتهدوا في الدعاء, فإنه قمن أن يستجاب لكم"
بعض أقواله
عن حرصه على إدراكه الحقيقة والمعرفة يقول :
" إني كنت لأسأل عن الأمر الواحد، ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
" لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار:
هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله، فإنهم اليوم كثير.
فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون إليك، وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟
فترك ذلك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي اليه وهو قائل في الظهيرة، فأتوسّد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول:
" يا ابن عم رسول الله ما جاء بك ؟.. هلا أرسلت اليّ فآتيك ؟!
فأقول: لا، أنت أحق بأن أسعى إليك.
فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه"..!!
فعاش ذلك الفتى الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني فيقول: "هذا الفتى كان أعقل مني "
"ما حدثني أحد قط حديثا فاستفهمته فلقد كنت آتي باب أبي بن كعب وهو نائم فأقيل على بابه ولو علم بمكاني لأحب أن يوقظ لي لمكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني أكره أن أمله."(1/11)
"كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل من القرآن في ذلك وكنت لا آتي أحدا منهم إلا سر بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أسأل أبي بن كعب يوما وكان من الراسخين في العلم عما نزل من القرآن بالمدينة فقال:
" نزل بها سبع وعشرون سورة وسائرها بمكة."
وأبان عن حبه للمسلمين فقال:
" إني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم..
وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!!
وإني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة..!!"
"لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهراً أو جمعة أو ما شاء الله أحبُّ إليّ من حجة بعد حجة، ولطبقٌ بدانق أهديه إلى أخ لي في الله عزّ وجلّ أحب إليّ من دينار أنفقه في سبيل الله عزّ وجلّ."
كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فسلَّم عليه ثم جلس، فقال له ابن عباس:
" يا فلان أراك مكتئباً حزيناً..!"
قال: "نعم يا ابن عم رسول الله لفلان عليَّ حق وَلاءٍ؛ وحُرْمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه."
قال ابن عباس:
" أفلا أكلمه فيك؟"
فقال:
"إن أحببت"
قال: فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل:
" أنسيتَ ما كنت فيه؟ "
قال:
" لا، ولكني سمعت صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم والعهد به قريب فدمعت عيناه وهو يقول: «من مشى في حاجة أخيه وبَلَغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعدَ مما بين الخافقين».
وعن سر نبوغه قال:
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بيت ميمونة فوضعت له وضوءا من الليل فقالت ميمونة يا رسول الله وضع لك هذا عبد الله بن عباس فقال:(1/12)
" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل."
وفي رواية أخرى عن بن عمر : دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال "اللهم بارك فيه وانشر منه"
"رأيت جبريل صلوات الله عليه مرتين ودعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين."
قال ابن عباس لما كان رسول الله ص فى الشعب جاء أبى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له :
" يا محمد أرى أم الفضل قد اشتملت على حمل."
فقال : "لعل الله أن يقر أعينكم "
قال فلما ولدتنى أتى بى رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا فى خرقة فحنكنى بريقه.
وفى رواية أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعل الله أن يبيض وجوهنا بغلام "
فولدت عبد الله بن عباس.
" أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل فصليت خلفه، فأخذ بيدى فجرنى حتى جعلنى حذاءه ، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاته خنست ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف من صلاته:
" قال ما شأنى أجعلك فى حذائى فتخنس"
فقلت :
"يا رسول الله أو ينبغى لأحد أن يصلى فى حذائك ؟ وأنت رسول الله الذى أعطاك الله عز وجل ، قال فأعجبته فدعا الله لى أن يزيدنى علما وفهما."
وعن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " ضمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
"اللهم علمه الكتاب."
"كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
(يا غلام، إني أعلمك كلامات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)
وعن حب عمر الفاروق له وإيمانه بعلمه وتقواه يذكر:
" كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم قال فذكر أنه سألهم وسأله فأجابه فقال لهم :
" كيف تلومونني عليه بعد ما ترون."(1/13)
"دخلت على عمر بن الخطاب يوما فسألني عن مسألة كتب إليه بها يعلى بن أمية من اليمن وأجبته فيها فقال عمر:
" أشهد أنك تنطق عن بيت نبوة."
لما طعن أبو لؤلؤة عمر رضي الله عنه طعنه طعنتين، فظن عمر أنَّ له ذنباً في الناس لا يعلمه، فدعا ابن عباس رضي الله عنهما وكان يحبه ويدنيه ويسمع منه فقال: أحب أن نعلم عن ملأ من الناس كان هذا؟
فخرج ابن عباس فكان لا يمر بملأ من الناس إلا وهم يبكون، فرجع إلى عمر فقال:
"يا أمير المؤمنين، ما مررتُ على ملأ إلا رأيتهم يبكون، كأنهم فقدوا اليوم أبكار أولادهم."
فقال:
" من قتلني؟"
فقال:
" أبو لؤلؤة المجوسي عبد المغيرة بن شعبة."
قال ابن عباس:
" فرأيت البشْر في وجهه"
فقال:
" الحمد لله الذي لم يبتلني أحد يحاجّني بقول لا إله إلا الله. أما إِني قد نهيتكم أن تجلبوا إلينا من العلوج أحداً فعصيتموني."
ثم قال:
" أدعوا لي إِخواني."
قالوا:
" ومن؟"
قال:
"عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم"
فأرسل إليهم، ثم وضع رأسه في حِجْري. فلما جاؤوا قلت:
" هؤلاء قد حضروا"
قال:
"نعم، نظرت في أمر المسلمين فوجدتكم أيها الستة رؤوس الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إِلا فيكم، ما استقمتم يستقم أمر الناس، وإن يكن إختلاف يكن فيكم "
ثم نزفه الدم، فهمسوا بينهم حتى خشيت أن يبايعوا رجلاً منهم، فقلت:
" إِن أمير المؤمنين حيّ بعد ولا يكون خليفتان ينظر أحدهما إلى الآخر."
فقال:
" إحملوني "
فحملناه، فقال:
" تشاوروا ثلاثاً، ويصلِّي بالناس صُهَيب"
قالوا: "من نشاور يا أمير المؤمنين؟"
قال: " شاوروا المهاجرين والأنصار وسَرَاة من هنا من الأجناد."
ثم دعا بشَرْبة من لبن فشرب، فخرج بياض اللبن من الجرحين، فعرف أنَّه الموت، فقال:
" الآن لو أنَّ لي الدنيا كلَّها لافتديت بها من هول المُطَّلَع، وما ذاك والحمد لله أن أكون رأيت إلا خيراً.
فقال ابن عباس:(1/14)
" وإن قلت فجزاك الله خيراً، أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزَّ الله بك الدين والمسلمين إِذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إِسلامك عزَّاً، وظهر بك الإِسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهاجرت إلى المدينة فكانت هجرتك فتحاً، ثم لم تَغِب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال المشركين من يوم كذا ويوم كذا. ثم قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، فوازرت الخليفة بعده على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت بمن أقبل على من أدبر حتى دخل الناس في الإِسلام طوعاً وكرهاً. ثم قُبض الخليفة وهو عنك راضٍ. ثم وَلِيت بخير ما وليَ الناس، مصَّرَ الله بك الأمصار، وجبى بك الأموال، ونفى بك العدو، وأدخل الله بك على كل أهل بيت من توسِعتهم في دينهم وتوسِعتهم في أرزاقهم؛ ثم ختم لك بالشهادة؛ فهنيئاً لك."
فقال:
" والله إنّ المغرور من تَغرونه، ثم قال: أتشهد لي يا عبد الله عند الله يوم القيامة؟"
فقال:" نعم"
فقال:
" اللهمَّ لك الحمد، ألصِق خدي بالأرض يا عبد الله بن عمر"
فوضعته من فخذي على ساقي فقال:
" ألصق خدي بالأرض"
فترك لحيته وخدَّه حتى وقع بالأرض، فقال:
" ويلك وويلَ أمك يا عمر إن لم يغفر الله لك يا عمر"
ثم قُبض رحمه الله.
قدم على عمر رجل فسأله عن الناس فقال:
"قرأ منهم القرآن كذا وكذا."
فقال ابن عباس: "ما أحب أن يسأل عن آي القرآن"
قال ، فزبرني عمر فانطلقت إلى منزلي ، فقلت ما أراني إلا قد سقطت من نفسه. فبينا أنا كذلك إذا جاءني رجل فقال :أجب.
فأخذ بيدي ( يعني عمر) ثم خلا بي فقال:
" ما كرهت مما قال الرجل "
فقلت :
"يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت فاستغفر الله "
قال : "لتحدثني"
قلت :
"إنهم متى تنازعوا اختلفوا ومتى اختلفوا اقتتلوا "
قال :" لله أبوك لقد كنت أكتمها الناس"
عن الشعبى عن ابن عباس قال قال لى أبى:(1/15)
"إن عمر يدنيك ويجلسك مع أكابر الصحابة فاحفظ عنى ثلاثا لا تفشين له سرا ولا تغتابن عنده أحدا ولا يجربن عليك كذبا."
كان عمر رضي الله عنه ياذن لأهل بدر وياذن لي معهم. فقال بعضهم: أتاذن لهذا الفتى ومن أبنائنا من هو مثله? فقال: فانه ممن قد علمتم.
فاذن لهم يوما وأذن لي معهم فسالهم عن هذه السورة: إذا جاء نصر الله والفتح و رأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا فقالوا:
" أمر الله عز وجل نبيه إذا فتح الله عليه ان يسستغفر وان يتوب إليه."
فقال لي:
"ما تقول يابن عباس?
فقلت:
" ليس كذلك، ولكنه أخبر نبيه. صلى الله عليه وسلم بحضور أجله فقال:
" إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا أي فعند ذلك علامة موتك( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) سورة النصر الاية 1-3.
فقال لهم كيف تلوموني عليه بعد ما ترونه?
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال:
" كان عمر يسألني مع أصحاب محمد، وكان يقول لي:
" لاتتكلم حتى يتكلموا"
فإذا تكلمت قال:
" غلبتموني أن تأتوا بمثل ما جاء به هذا الغلام الذي لم يجتمع شؤون رأسه"
قال ابن ادريس: وشؤون رأسه: الشيب الذي يكون في الرأس.
عن محمد القرظي عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلس في رهط من من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين فذكروا ليلة القدر ، فتكلم منهم من سمع فيها بشئ مما سمع ، فتراجع القوم فيها الكلام.
فقال عمر :
" مالك يابن عباس صامت لاتتكلم؟ تكلم ولا تمنعك الحداثة".
فقال ابن عباس:(1/16)
"يا أمير المؤمنين إن الله تعالى وتر يحب الوتر، فجعل أيام الدنيا تدور على سبع، وخلق الإنسان من سبع، وخلق أرزاقنا من سبع، وخلق فوقنا سبع سماوات، وخلق تحتنا أرضين سبعا، وأعطى من المثاني سبعا، ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع، وقسم الميراث في كتابه على سبع، ونقع في السجود من أجسادنا على سبع، وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكعبةسبعا، وبين الصفا والمروة سبعا، ورمى الجمار بسبع لإقامة ذكر الله مما ذكر في كتابه.فأراها في السبع الأواخر من شهر رمضان والله أعلم."
فقال عمر:
"ماوافقني فيها أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الغلام الذي لم تستو شئون رأسه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"التمسوها في العشر الأواخر."
وعن بلاغته نذكر هذا الموقف:
أخرج الطبراني عن رِبْعي بن حِرَاش قال:
" استأذن عبد الله ابن عباس على معاوية رضي الله عنهم وقد عَلِقت عنده بطون قريش وسعيد ابن العاص جالس عن يمينه، فلما رآه معاوية مقبلاً قال:
" يا سعيد، والله لأُلقِيَنَّ على ابن عباس مسائل يعيَى بجوابها"
فقال له سعيد:
" ليس مثل ابن عباس يعيى بمسائلك"
فلما جلس قال له معاوية:
" ما تقول في أَبي بكر؟ "
قال:
(رحم الله أبا بكر، كان والله للقرآن تالياً، وعن المَيْل نائياً، وعن الفحشاء ساهياً، وعن المنكر ناهياً، وبدينه عارفاً، ومن الله خائفاً. وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، ومن دنياه سالماً ، وعلى عدل البرية عازماً، وبالمعروف آمراً وإِليه صائراً، وفي الأحوال شاكراً، ولله في الغدو والرواح ذاكراً، ولنفسه بالمصالح قاهراً. فاق أَصحابه ورعاً وكفافاً وزهداً وعفافاً وبرّاً وحِياطة زهادة وكفاءة، فأعقبَ الله مَنْ ثَلَبه اللعائن إِلى يوم القيامة).
قال معاوية:
" فما تقول في عمر بن الخطاب؟"
قال:(1/17)
" (رحم الله أبا حفص، كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحلَّ الإيمان، ومعاذَ الضعفاء، ومعقلَ الحنفاء، للخَلْق حصناً، وللناس عوناً، قام بحق الله صابراً محتسباً حتى أَظهر الله الدين وفتح الديار، وذُكِر الله في الأقطار والمناهل وعلى التلال وفي الضواحي والبقاع، وعند الخَنى وقوراً، وفي الشّدة والرخاء شكوراً، ولله في كل وقت وأَوان ذكوراً، فأَعقب الله من يبغضه اللعنة إِلى يوم الحسرة).
قال معاوية رضي الله عنه:
" فما تقول في عثمان بن عفان؟"
قال: (رحم الله أبا عمرو، كان والله أَكرم الحَفَدة، وأَوصلَ البررة، وأَصبرَ الغزاة، هجّاداً بالأَسحار. كثيرَ الدموع عند ذكر الله، دائمَ الفكر فيما يعنيه الليلَ والنهارَ، ناهضاً إِلى كل مكرمة، يسعى إلى كل منجية، فرّاراً من كل مُوبقة، وصاحب الجيش والبئر، وخَتَن المصطفى على ابنتيه، فأعقب الله من سبَّه الندامة إلى يوم القيامة).
قال معاوية: فما تقول في علي بن أبي طالب؟"
قال: (رحم الله أَبا الحسن كان والله علمَ الهدى، وكهفَ التقى، ومحل الحجى، وطَوْدَ البهاء، ونور السُّرَى في ظلم الدُّجَى، داعياً إلى المَحَجَّة العظمى، عالماً بما في الصحف الأُولى، وقائماً بالتأويل والذكرى، متعلِّقاً بأسباب الهدى، وتاركاً للجَوْر والأَذى. وحائداً عن طرقات الرَّدَى، وخيرَ من آمن واتقى، وسيِّدَ من تقمَّص وارتدى، وأَفضلَ من حجَّ وسعى، وأسمحَ من عدل وسوَّى، وأَخطبَ أَهل الدنيا إِلا الأنبياء والنبي المصطفى، وصاحب القبلتين، فهل يوازيه موحِّدٌ؟ وزوج خير النساء، وأبو السبطين، لم تَرَ عيني مثله ولا ترى إِلى يوم القيامة واللقاء، من لعنه فعليه لعنةُ الله والعباد إِلى يوم القيامة).
قال: فما تقول في طلحةَ والزبير؟(1/18)
قال: (رحمة الله عليهما، كانا والله عفيفَين، برّين، مسلمَين، طاهرَين، متطهِّرَين، شهيدَين، عالَمَين، زَلا زلَّة والله غافرٌ لهما إِن شاء الله بالنُّصرة القديمة والصُّحبة القديمة والأفعال الجميلة).
قال معاوية: فما تقول في العبَّاس؟
قال: (رحم الله أَبا الفضل كان والله صِنوَ أَبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرَّة عين صفيِّ الله، كهف الأقوام، وسيّد الأعمام، وقد عَلا بصراً بالأمور ونظراً بالعواقب. قد زانَه علمٌ، قد تلاشت الأحساب عند ذكر فضيلته، وتباعدت الأسباب عند فخر عشيرته، ولم لا يكون كذلك وقد ساسه أكرم من دبَّ وهب عبدُ المطلب، أفخر من مشى من قريش وركب)
أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: جاءه سائل فقال له ابن عباس: " أتشهد أن لا إِله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟
قال: " نعم"
قال:
"وتصوم رمضان؟"
قال:
" نعم"
قال:
" سألت وللسائل حق، إنّه لحق علينا أن نصلك؛ فأعطاه ثوباً ثم قال:
"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«ما من مسلم (كسا) مسلماً ثوباً إلا كان في حفظ الله ما دام عليه منه خرقة".
وعن تأسيه برسول الله صلى الله عليه وسلم نقول:
جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال:
" أرأيت ما تسقون الناس من نبيذ هذا الزبيب؟ أَسُنة تتبعونها أم تجدون هذا أهون عليكم من اللبن والعسل؟ "
فقال ابن عباس:
" إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى العباس وهو يسقي الناس فقال: «اسقني»
فدعا العباس بعِساس من نبيذ فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم عُسَّاً منها فشرب، ثم قال:
«أحسنتم هكذا اصنعوا»
قال ابن عباس:
"فما يسرني أن سقايتها جرت عليَّ لبناً وعسلاً مكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "
وعن حبه للصحابة رضوان الله عليهم أوصى فقال:
جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال:
" أوصني"
فقال:
"أوصيك بتقوى الله، وإياك وذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك لا تدري ما سبق لهم."(1/19)
وعن تواضعه نذكر هذا الموقف :
أخرج ابن عساكر عن عمار بن أبي عمار أن زيد بن ثابت رضي الله عنه ركب يوماً، فأخذ ابن عباس رضي الله عنهما بركابه، فقال:
" تنحَّ يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم "
فقال:
" هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا"
فقال زيد:
" أرني يدك"
فأخرج يده، فقبَّلها فقال:
" هكذا أُمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا"
" لا يكافىء من أتانى يطلب حاجة فرآنى لها موضعا إلا الله عز وجل وكذا رجل بدأنى بالسلام أو أوسع لى فى مجلس أو قام لى عن المجلس أو رجل سقانى شربة ماء على ظمأ ورجل حفظنى بظهر الغيب"
وعن حسن مواساته :
يقول أبو مليكة: " دخل ابن عباس على عائشة قبل موتها فأثنى عليها، قال: "أبشري زوجة رسول الله، ولم ينكح بكراً غيرك، ونزل عُذْرك من السماء"
فدخل عليها ابن الزبير رضي الله عنهما خِلافه، فقالت:
" أثنى عليَّ عبد الله بن عباس ولم أكن أحب أن أسمع أحداً اليوم يثني عليَّ، لوددت أني كنت نَسْياً مَنْسياً."
وعن تقواه
يذكر ابن أبي مليكة:صحبت ابن عباس رضي الله عنهما من مكة إلى الدنية، فكان إذا نزل قام شطر الليل .
فسأله أيوب: " كيف كانت قراءته؟ "
قال: قرأ: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } (سورة ق، الآية: 15) فجعل يرتل ويكثر في ذاكم النشيج.
وعنده أيضاً عن أبي رجاء رضي الله عنه قال:
" كان هذا الموضع من ابن عباس مجرى الدموع كأنه الشراك البالي."
وأخرج ابن أبي الدنيا في العزلة عن مالك عن رجل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
" لولا مخافة الوسواس دخلت إلى بلاد لا أنيس بها، وهل يفسد الناسَ إلا الناس."
"تمام المعروف تعجيله وتصغيره وستره، يعنى ان تعجل العطية للمعطى وان تصغر فى عين المعطى وأن تسترها عن الناس فلا تظهرها، فإن فى اظهارها فتح باب الرياء وكسر قلب المعطى واستحياءه من الناس"(1/20)
أصيبت إحدى عينيه فنحل جسمه فلما أصيبت الأخرى عاد إليه لحمه فقيل فى ذلك فقال:
" أصابنى ما رأيتم فى الأولى شفقة على الأخرى فلما ذهبتا اطمأن قلبى."
وفي هذا المقام أنشد شعرا يقول:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل وفي فمي صارم كالسيف مأثور
وعن تحذيره من زلات اللسان وآفاته:
عن سعيد الجريري عن رجل قال:
" رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخذ بثمرة لسانه وهو يقول:
" ويحك قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم"
فقال له رجل:
" يا ابن عباس، ما لي أراك آخذاً بثمرة لسانك تقول كذا؟"
قال:
" إنَّه بلغني أنَّ العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنقَ منه على لسانه."
وعن تمسكه بأصول الدين وأحكامه :
أخرج الإمام أحمد: قيل له إن رجلاً قدم علينا يكذّب بالقدر فقال:
" دلُّوني عليه وهو يومئذ قد عمي.
قالوا:
"وما تصنع به يا أبا عباس؟"
قال:
"والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضنَّ أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنَّها فإن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تسطفق ألياتهن مشركات، هذا أول شرك هذه الأمة، والذي نفسي بيده لينتهينَّ بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدَّر خيراً كما أخرجوه من أن يكون قدَّر شراً»
وعند ابن أبي حاتم عن عطاء ابن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع من ماء زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له:
" قد تُكُلِّم في القدر"
فقال:
" أوَقَد فعلوها؟ "
قلت:
" نعم"
قال:
" فوالله ما نزلت هذه الآية إلاَّ فيهم {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ}{إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (سورة القمر، الآيتان: 48 و49) أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم، ولا تصلُّوا على موتاهم، إن رأيت أحداً منهم فقأت عينيه بأصبعيَّ هاتين."
أخرج الحاكم عن المسيِّب بن رافع قال:(1/21)
" لما كُفَّ بصرُ بن عباس رضي الله عنهما أتاه رجل فقال له:
" إنك إن صبرت لي سبعاً لم تصلِّ إلاَّ مستلقياً تومىء إيماء داويتك فبرأت إن شاء الله تعالى"
فأرسل إلى عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما وغيرهما من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كل يقول:
" أرأيت إن متَّ في هذا السبع كيف تصنع باللاصة؟"
فترك عينه ولم يداوها.
وفي رواية أخرى
قال ابن عباس: لما قام بصري قيل:" نداويك وتدع الصلاة أياماً "
قال:
"لا، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك الصلاة لقي الله وهو عليه غضبان»"
عن عكرمة أن عليا حرق ناسا ارتدوا عن الاسلام فبلغ ذلك ابن عباس فقال:
" لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تعذبوا بعذاب الله "
بل كنت قاتلهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من بدل دينه فاقتلوه"
فبلغ ذلك عليا فقال :
"ويح ابن عباس " وفى رواية "ويح ابن عباس إنه لغواص على الهنات"
وعن خوفه من سوء المآل :
يقول عبد الله بن أبي مُليكة:غدوت عى ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال:
" ما نمت الليلة حتى أصبحت."
قلت:
" لم؟ "
قالوا:
" طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت"
وعن حرصه على تنسم نسيم الجنة نقول:
كان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ الحبة من الرمان فيأكلها، فقيل له:
" يا ابن عباس لم تفعل هذا؟"
قال:
" إنه بلغني أنه ليس في الأرض رمانه تُلقح إلا بحبة من حب الجنة، فلعلها هذه."
وعن رؤيته لجبريل عليه السلام:
"كنت مع أبى عند النبى صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يناجيه ، فقال العباس:
" ألم أر ابن عمك كالمعرض عنى"
فقلت : "إنه كان عنده رجل يناجيه"
قال عباس :
"أوكان عنده أحد ..؟!"
قلت :نعم .
فرجع إليه فقال:
" يا رسول الله هل كان عندك أحد آنفا ؟!..فان عبد الله أخبرنى أنه كان عندك رجل يناجيك..!"
قال :
"هل رأيته يا عبد الله ..؟"
قلت:"نعم "(1/22)
قال : "ذاك جبريل عليه السلام."
وقد روى من حديث المهدى عن آبائه وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"
" أما إنك ستصاب فى بصرك"
عن موسى بن ميسرة أن العباس بعث ابنه عبد الله فى حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده رجلا فرجع ولم يكلمه من أجل مكان ذلك الرجل فلقى العباس بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال العباس:
" يا رسول الله أرسلت إليك أبنى فوجد عندك رجلا فلم يستطع أن يكلمك فرجع وراءه"
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يا عم تدرى من ذاك الرجل ..؟"
قال : "لا "
قال :
"ذاك جبريل ولن يموت ابنك حتى يذهب بصره ويؤتى علما"
وجاء من غير وجه أنه رأى جبريل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لن يموت عبد الله حتى يذهب بصره "،
فكان كذلك.
عن عبد الله بن بريدة عن بن عباس رضي الله تعالى عنه، أنه قال:
" انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل عليه السلام، فقال له جبريل عليه السلام :
"أنه كائن حبر هذه الأمة فاستوص به."
من وصاياه وأقواله الحكيمة:
قال رضي الله عنه لأحد جلسائه طلب منه أن يوصيه:
"أوصيك بتوحيد الله والعمل له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فان كل خير آتيه أنت بعد ذلك منك مقبول وإلى الله مرفوع ، يا جندب إنك لن تزدد من موتك إلا قربا فصل صلاة مودع، واصبح فى الدنيا كأنك غريب مسافر، فإنك من أهل القبور وأبك على ذنبك، وتب من خطيئتك، ولتكن الدنيا عليك أهون من شعس نعلك، فكأن قد فارقتها وصرت إلى عدل الله، ولن تنتفع بما خلفت ولن ينفعك إلا عملك."
" لاتكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى له موضعا، ولا تمار سفيها ولا حليما فان الحليم يغلبك والسفيه يزدريك ، ولا تذكرن أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذى تحب أن يتكلم فيك إذ تواريت عنه، واعمل عمل من يعلم أنه مجزى بالإحسان مأخوذ بالاجرام "(1/23)
"ما بلغني عن أخ مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل:
إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، وإن كان دوني لم أحفل به. هذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فأرض الله واسعة."
"يا صاحب الذنب لا تأمنن سوء عاقبته، ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته. قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال وأنت على الذنب أعظم من الذنب الذي صنعته، وضحكك، وأنت لا تدري ما الله صانع بك، أعظم من الذنب. وفرحك بالذنب إذا عملته أعظم من الذنب، وحزنك على الذنب، إذا فاتك أعظم من الذنب، إذا ظفرت به، وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عملته."
"لما ضرب الدينار والدرهم أخذه إبليس فوضعه على عينيه وقال:
أنت ثمرة قلبي وقرة عيني، بك أطغي، وبك أكفر، وبك أدخل الناس النار، رضيت من ابن آدم بحب الدنيا أن يعبدني."
"آخر شدة يلقاها المؤمن: الموت."
"خذ الحكمة ممن سمعت؛ فإن الرجل ليتكلم بالحكمة وليس بحكيم، فتكون كالرمية خرجت من غير رام."
أعز الناس على جليس لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت "
عن سعيد بن جبير، عن بن عباس، قال:
( إذا أتيت سلطاناً مهيباً تخاف أن يسطو عليك فقل:
" الله أكبر، الله أعز من خلقه جميعاً، الله أعز مما أخاف وأحذر، أعوذ بالله الذي لا إله إلا هو الممسك للسموات السبع أن تقع على الأرض إلا بإذنه من شر عبده فلان، وجنده وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس. اللهم كن لي جاراً من شرهم جل ثناؤك وعز جارك وتبارك اسمك ولا إله غيرك) ثلاث مرات.
عن بن عباس، قال:
" من قال بسم الله فقد ذكر الله، ومن قال الحمد لله فقد شكر الله، ومن قال الله أكبر فقد عظم الله، ومن قال لا إله إلا الله فقد وحد الله، ومن قال لا حول ولا قوة إلا بالله فقد أسلم واستسلم، وكان له بهاء وكنز في الجنة"(1/24)
عن عكرمة، عن بن عباس: أنه تغدى عند بن الحنفية، وذلك بعد ما حجب بصره، قال: فوقعت على خواننا جرادة فأخذتها فدفعتها إلى بن عباس وقلت:
" يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعت على خواننا جرادة"
فقال لي:
" عكرمة? "
قلت:
" لبيك"
قال:
" هذا مكتوب عليها بالسريانية إني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، الجراد جند من جندي أسلطه على من أشاء من عبادي، أو قال: أصيب به من أشاء من عبادي"
عن بن عباس في قوله تعالى: (إلا من أتى الله بقلب سليم) .الشعراء. 89. قال: شهادة أن لا إله إلا الله.
عن بن عباس رضي الله تعالى عنه قال:
" ينادي مناد بين الساعة، أتتكم الساعة، أتتكم الساعة، حتى يسمعها كل حي وميت، قال: فينادي المنادي: لمن الملك اليوم. لله الواحد القهار."
سمعت بن عباس رضي الله تعالى عنه يقول:
"عليك بالفرائض وما وظف الله تعالى عليك من حقه فأده، واستعن الله على ذلك فإنه لا يعلم من عبد صدق نية وحرصاً فيما عنده من حسن ثوابه إلا أخره عما يكره، وهو الملك يصنع مايشاء"
عن سعيد بن جبير، عن بن عباس رضي الله تعالى عنه قال:
"ما من مؤمن ولا فاجر إلا وقد كتب الله تعالى له رزقه من الحلال، فإن صبر حتى يأتيه أتاه الله تعالى، وإن جزع فتناول شيئاً من الحرام نقصه الله من رزقه الحلال."
عن بن عباس رضي الله تعالى عنه، في قوله تعالى:
( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) العنكبوت2. قال:
" كان الله تعالى يبعث النبي إلى أمته فيلبث فيهم إلى انقضاء أجله من الدنيا ثم يقبضه الله تعالى إليه، فتقول الأمة من بعده، أو من شاء منهم، إنا على منهاج النبي وسبيله، فينزل الله تعالى بهم البلاء فمن ثبت منهم على ما كان عليه النبي فهو الصادق، ومن خالف إلى غير ذلك فهو الكاذب
عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، قال:
" يأتي على الناس زمان يعرج فيه بعقول الناس حتى لا تجد فيه أحداً ذا عقل"(1/25)
وعن اعتزازه بنفسه ونسبه قال:
"نحن أهل البيت شجرة النبوة، ومختلف الملائكة، وأهل بيت الرسالة، وأهل بيت الرحمة، ومعدن العلم".
في تفسيرقوله تعالى "ما يعلمهم إلا قليل" قال ابن عباس : " أنا من أولئك القليل وهم سبعة."
وعن رجاحة عقله وثاقب رأيه :
أمر عثمان رضي الله عنه ـ وهو محصورـ ابن عباس أن يحج بالناس، فحج بهم، فلما قدم وجد عثمان قد قتل، فقال لعلي:
" إن أنت قمت بهذا الأمر الآن ألزمك الناس دم عثمان إلى يوم القيامة"
وقد كان.
ثم أنه نهى الإمام علي عن عزل معاوية فور تولية الخلافة وقال له:
" " أبقه شهر وأعزله دهر""
خوفا من شيعة معاوية وتمكنه من أهل الشام وما يمكن أن يجره هذا العزل من مشكلات ، وأبى الإمام ذلك لحكمة ارتآها، ولقد حدث بالفعل ماحذر منه ابن عباس.
قال ابن عباس :
" قد علمت بِمَ غلب معاوية الناس, كانوا إذا طاروا وقع, وإذا وقع طاروا"
وهذا يعني أنه إذا رأى السيول الجارفة قد أقبلت لم يقاومها, وإنما يفسح لها حتى تمر, ثم يحتوي الميدان وقد زال إقبال الناس الشديد فيتمكن مما يريد.
وقد عبر معاوية عن هذه السياسة بقوله المشهور :
" لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت, إذا جذبوها أرخيتها, وإذا أرخوها جذبتها"
حين خرج أهل المدينة على يزيد سأل عبد الله بن عباس عندما عن حالهم، فقيل:
" استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظله على الأنصار"
فقال ابن عباس:
" أميران؟ هلك القوم."
وبالفعل حدث ما تنبأ به ابن عباس وانهزم أهل المدينة.
قالواعنه
1ـ كان معاصروه يتحدثون فيقولون:
" ما رأينا بيتا أكثر طعاما، ولا شرابا، ولا فاكهة، ولا علما من بيت ابن عباس"..!!
2ـ قال عبد الله :
"لو أن بن عباس أدرك أسناننا ما عشره منا رجل "، وفي رواية(ما عاشره) وكان يقول:" نعم ترجمان القرآن ابن عباس"
قال أيضا: "لو أن هذا الغلام أدرك ما أدركنا، ما تعلقنا معه بشيء"(1/26)
3ـ عن جابر بن عبد الله حين بلغه موت ابن عباس أنه صفق بإحدى يديه على الاخرى وقال في أسى :
"مات اليوم أعلم الناس وأحلم الناس وقد أصيبت به هذه الأمة لا ترتق"
4ـ وعن ابن عمر أنه قال : "ابن عباس أعلم الناس بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم."
5ـ لما مات ابن عباس قال رافع ابن خديج :
" مات اليوم من كان يحتاج إليه من بين المشرق والمغرب في العلم"
6ـ قال معاوية في هذا المقام :
"مات والله افقه من مات ومن عاش"
7ـ وقالت عائشة وأم سلمة حين حج ابن عباس بالناس
"هو أعلم الناس بالمناسك"
8ـ عن عبيد الله بن عتبة قال :
"كان ابن عباس قد فات الناس بخصال بعلم ما سبق إليه وفقه فيما احتيج إليه من رأيه وحلم ونسب ونائل ، وما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث النبى صلى الله عليه وسلم منه ولا بقضاء أبى بكر وعمر وعثمان منه ، ولا أفقه فى رأى منه ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا تفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا أعلم فيما مضى ولا أثقب رأيا فيما احتيج إليه منه ، ولقد كان يجلس يوما ما يذكر فيه إلا الفقه ويوما ما يذكر فيه إلا التأويل ويوما ما يذكر فيه إلا المغازى ويوما الشعر ويوما أيام العرب وما رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له ولا وجدت سائلا سأله إلا وجد عنده."
9ـ وقال عطاء :
"ما رأيت مجلسا أكرم من مجلس ابن عباس أكثر فقها ولا أعظم هيبة أصحاب القرآن يسألونه وأصحاب العربية يسألونه وأصحاب الشعر عنه يسألونه فكلهم يصدر فى واد أوسع"
10ـ قال طاوس :
"كان ابن عباس قد يسبق على الناس في العلم كما تسبق النخلة السحوق على الودى الصغار"
11ـ قال ليث بن أبى سليم، قلت لطاووس:
" لم لزمت هذا الغلام (يعنى ابن عباس) وتركت الأكابر من الصحابة ؟!"
فقال :
"إنى رأيت سبعين من الصحابة إذا تماروا فى شىء صاروا إلى قوله "
وقال طاوس أيضا : "ما رأيت أفقه منه قال وما خالفه أحد قط فتركه حتى يقره"
12ـ عن مجاهد قال :(1/27)
"ما رأيت مثله قط ولقد مات يوم مات وانه لحبر هذه الأمة"
وقال أيضا: "كان ابن عباس أمدهم قامة وأعظمهم جفنة وأوسعهم علما"
13ـ وقال طاووس وميمون بن مهران :
"ما رأينا أورع من ابن عمر ولا أفقه من ابن عباس "
قال ميمون : "وكان ابن عباس أفقههما"
ـ عن مسروق قال :
"كنت إذا رأيت ابن عباس قلت أجمل الناس فاذا نطق قلت أفصح الناس فاذا تحدث قلت أعلم الناس"
15ـ عن عكرمة قال:" كان ابن عباس أعلمهما بالقرآن وكان على أعلمهما بالمبهمات "
وقال إسحاق بن راهويه : "إنما كان كذلك لأن ابن عباس كان قد أخذ ما عند على من التفسير وضم إلى ذلك ما أخذه عن أبى بكر وعمر وعثمان وأبى كعب وغيرهم من كبار الصحابة مع دعاء رسول الله صلىالله عليه وسلم له أن يعلمه الله الكتاب"
16ـ عن عبيد الله بن ابى يزيد قال:
" كان ابن عباس إذا سئل عن مسألة فإن كانت فى كتاب الله قال بها ، وإن لم تكن وهى فى السنة قال بها ، فإن لم يقلها رسول الله صلىالله عليه وسلم ووجدها عن أبى بكر وعمر قال بها وإلا اجتهد رأيه"
17ـ فكان معاوية يقول :
"ما رأيت أحدا أحضر جوابا من ابن عباس"
18ـ سأل بن عمر عن شيء فقال :
"سل بن عباس فإنه أعلم من بقي بما أنزل الله على محمد"
وقال عبد الله بن دينار: أن رجلا سأل بن عمر عن قوله تعالى (كانتا رتقا ففتقناهما) فقال اذهب إلى ذلك الشيخ فسله ثم تعال فأخبرني، فذهب إلى بن عباس فسأله فقال:
" كانت السماوات رتقاء لا تمطر والأرض رتقاء لا تنبت ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات "
فرجع الرجل فأخبر بن عمر فقال: " لقد أوتي بن عباس علما صدقا هكذا لقد كنت أقول ما يعجبني جرأة بن عباس على تفسير القرآن فالآن قد علمت أنه قد أوتي علما"
20ـ قال يحيى بن سعيد الأنصاري :
"لما مات زيد بن ثابت قال أبو هريرة مات حبر هذه الأمة ولعل الله أن يجعل في بن عباس خلفا"
21ـ عن أبي وائل قال:(1/28)
" قرأ بن عباس سورة النور فجعل يفسرها فقال رجل لو سمعت هذا الديلم لأسلمت"
وقال أيضا: " قال رجل إني لأشتهي أن أقبل رأسه يعني من حلاوة كلامه".
22ـ كان عمر إذا جاءته الأقضية المعضلة قال لابن عباس:
"أنها قد طرت علينا أقضية وعضل، فأنت لها ولأمثالها".
وقال أيضا لعبد الله بن عباس: "والله انك لاصبح فتياننا وجها، واحسنهم عقلا، وأفقههم في كتاب الله عز وجل."
وكان عمر إذا ذكره قال: "ذاكم فتى الكهول، له لسان وقلب عقول"
23ـ لما مات ابن عباس قال ابن الحنفية:
"اليوم مات رباني هذه الأمة"
24ـ قال عكرمة: كان ابن عباس إذا مر في الطريق قالت النساء على الحيطان: "أمر المسك أم مر ابن عباس..؟"
25ـ وعن طلحة بن عبيد الله قال:
" لقد أعطي ابن عباس فهماً لقناً وعلماً، وما كنت أرى عمر يقدم عليه أحداً."
26ـ عن محمد بن أبي بن كعب: سمعت أبي يقول، وكان عنده ابن عباس، فقام فقال:
"هذا يكون حبر هذه الأمة، أرى عقلاً وفهماً، وقد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفقهه في الدين"
27ـ وقال القاسم بن محمد:
" ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلاً قط."
28ـ عن عكرمة قال:
سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول:
" بن عباس أعلمنا بما مضى وأفقهنا فيما نزل مما لم يأت فيه شيء"
قال عكرمة فأخبرت بن عباس بقوله، فقال:
" إن عنده لعلما ولقد كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلال والحرام"
محطات هامة
1ـ تولى ابن عباس إمامة الحج سنة خمس وثلاثين بأمر عثمان بن عفان له وهو محصور وفى غيبته هذه قتل عثمان.
وعلى عرفات خطب خطبة فسر فيها سورة البقرة ، وقيل سورة النور قال من سمعه: فسر السورة تفسيرا لو سمعته الروم والترك لأسلموا.
قال يونس بن يزيد: استعمل عثمان على الحج وهو مصحور ابن عباس، فلما صدر عن الموسم إلى المدينة، بلغه وهو ببعض الطريق قتل عثمان، فجزع من ذلك وقال: يا ليتني لا أصل حتى يأتيني قاتله فيقتلني.(1/29)
2ـ حضر ابن عباس مع على الجمل وكان على الميسرة يوم صفين وشهد قتال الخوارج.
عن علي بن الحسين عن أبيه ، قال: نظر أبي إلى ابن عباس يوم الجمل يمشي بين الصفين فقال: أقر الله عين من له ابن عم مثل هذا..!
دلالة على شجاعة ابن العباس وحسن بلائه.
3ـ تأمر على البصرة من جهة على وكان إذا خرج منها يستخلف أبا الأسود الدؤلى على الصلاة وزياد بن أبى سفيان على الخراج وكان أهل البصرة مغبوطين به يفقههم ويعلم جاهلهم ويعظ مجرمهم ويعطى فقيرهم فلم يزل عليها حتى مات على ويقال إن عليا عزله عنها قبل موته.
4ـ رفض مبايعة يزيد بن معاوية أول الأمر مع الحسين وابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر، ثم بايعه مثل ابن عمر حين اكتملت البيعة ليزيد.
5ـ حين هم الحسين بالخروج على يزيد نهاه عن ذلك ، ودار بينهما هذا الحوار:
"يا ابن عم إنى أتصبر ولا أصبر إنى أتخوف عليك فى هذا الوجه الهلاك إن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم أقم أمم فى هذا البلد حتى ينفى أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم وإلا فسر إلى اليمن فان به حصونا وشعابا ولأبيك به شيعة وكن عن الناس فى معزل واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم فانى أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب"
فقال الحسين :
ـ "يا ابن عم والله إنى لأعلم أنك ناصح شفيق ولكنى قد أزمعت المسير"
فقال له :
ـ "فان كنت ولا بد سائرا فلا تسر بأولادك ونسائك فوالله إنى لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه"
6ـ موقف كل من ابن عباس وابن الحنفية من بيعة ابن الزبير رضي الله عنهم جميعا:
قال الدكتور الصلابي في كتابه القيم( الدولة الأموية):
ابن عباس وبيعة ابن الزبير:(1/30)
... كان ابن عباس يختلف عن ابن عمر في مواقفه إزاء الفتن التي جرت في عصره، حيث خاض فيها وشهد مع علي صراعه ضد خصومه في موقعتي الجمل وصفين، ولما جاء الأمويون للحكم واستخلف معاوية يزيد بادر ابن عباس إلى بيعته، والتزم بها ولم يعرف أنه أيّد ابن الزبير الذي رفض البيعة، وفي نفس الوقت لم يعلن عداءه لابن الزبير، وبدأت العلاقة بين الاثنين تدخل طوراً جديداً بعد وفاة يزيد بن معاوية حيث بويع ابن الزبير بالخلافة سنة 64هـ وعندما طلب ابن الزبير من محمد بن الحنفية وابن عباس المبايعة قالا:
" حتى تجتمع لك البلاد ويتسق لك الناس"
ووعداه بعدم إظهار الخلاف له. لم يحاول ابن الزبير في بداية الأمر إجبارهما على البيعة، وبدأت العلاقة بين ابن الزبير وابن عباس في تحسن تلمس ذلك في العديد من الروايات التي تدلل على شعور ابن عباس تجاه ابن الزبير والمتمثل في تأييده لبعض مواقفه أو في الثناء المباشر عليه، ويروي عبد الرزاق في مصنفه أن ابن عباس كان قاضياً لابن الزبير بمكة، إلا أن العلاقة بينهما تعكرت، وقد وردت عدة روايات تدل على مظاهر تردي العلاقة بين الاثنين وإن كانت في مجموعها لا تخرج عن نطاق المناقشات الحادة.
ونظراً لتوافق ابن عباس مع محمد بن الحنفية في رفض بيعة ابن الزبير وتنامي خطر الأخير فقد انتهى الأمر بخروج ابن عباس إلى الطائف وبقي هناك إلى أن توفي.
وكان ابن عباس يثني على ابن الزبير،فعندما ذكر عنده قال ابن عباس:
" قاريء لكتاب الله، عفيف في الإسلام، أبوه الزبير، وأمه اسماء وجده أبو بكر، وعمّتُه خديجة، وخالته عائشة وجدّته صفية"
... موقف ابن الحنفية(1/31)
" كان المبدأ الذي صرح به ابن الحنفية بعد وفاة يزيد أن لا يبايع أحداً إلا في حالة اجتماع الناس عليه، لم يحاول ابن الزبير في بداية الأمر إكراه ابن الحنفية على البيعة ولم يستمر ابن الزبير في سياسته اللينة مع ابن الحنفية، فبعد أن علا شأن ابن الزبير وجاءته بيعة الأمصار، وكادت الأمة أن تجتمع عليه، أحس أن الوقت قد حان لأن يبايع ابن الحنفية بناء على وعده فعاود الكرّة مرّة أخرى ودعاه إلى البيعة سنة 65هـ ولكن ابن الحنفية أبى أن يبايع فلجأ ابن الزبير إلى حبسه في الشعب.
ويبدو أن ابن الزبير تخوّف من دعوة المختار بن أبي عبيد الثقفي بالكوفة، فقد كان المختار من أشد المدافعين عن ابن الزبير أيام حوصر في مكة سنة 64هـ من قبل جيش الحصين بن نمير السكوني، وكان المختار بالإضافة إلى شجاعته وجرأته يتمتع بمكر ودهاء كبيرين ويحمل بين جنبيه طموحات عالية للزعامة لم يجد المختار عند ابن الزبير ما يحقق طموحاته.
فأخذ يبحث عن مكان آخر يمكن أن يحقق فيه ما تصبو نفسه إليه، فترك مكة بعد ستة أشهر من نهاية الحصار الأول ووصل العراق في رمضان 64هـ واستطاع عن طريق إدعائه نصرة آل البيت ورفع شعار الأخذ بثأر الحسين أن يجتمع حوله الأنصار والمؤيدون والناقمون على حكم بني أمية، واستطاع أن يستولي على الكوفة، وكان المختار على علم بما جرى بين ابن الزبير وابن الحنفية في أمر البيعة، وأراد أن يستغل هذا الموقف لصالحه وادعى أنه موفد من محمد بن الحنفية للأخذ بثأر آل البيت.(1/32)
والواقع أن ابن الحنفية تبرأ من المختار وأنكر أن يكون قد أرسله إلى العراق، ودعت الشيعة بالكوفة إلى ابن الحنفية، فخاف ابن الزبير أن تفتح بذلك جبهة جديدة عليه مما يزيد الأمر خطورة وتعقيداً وأرسل المختار جيشاً في عام 66هـ إلى مكة في موسم الحج واستطاع أن يخلص ابن الحنفية من سجنه، ومنع ابن الحنفية الجيش من قتال ابن الزبير لكونه لا يستحل القتال في الحرم، والواقع إن ابن الحنفية أصبح يشكل خطراً على ابن الزبير بعد وصول نجدة العراق وتروي المصادر أنه كان لابن الحنفية لواء في الحج ينافس فيه لواء ابن الزبير، أما بالنسبة لابن الزبير فقد أحس أن مصدر قوة ابن الحنفية يكمن في مساندة المختار بن أبي عبيد له، ولذلك فكر في القضاء عليه، فأرسل أخاه مصعباً والياً على البصرة، وأمره أن يقاتل المختار وفعلاً استطاع مصعب بن الزبير أن يقصي على المختار في الرابع عشر من رمضان سنة 67هـ أدى مقتل المختار إلى تضعضع موقف ابن الحنفية بمكة.
ويروي ابن سعد أن ابن الزبير أرسل إلى ابن الحنفية أخاه عروة يطلب منه أن يبايع وهدده بالحرب إن هو أصر على رفض البيعة. ولاحت لابن الحنفية في هذه الأثناء فرصة رأى فيها مخرجاً من ضغوط ابن الزبير تمثلت في دعوة عبد الملك بن مروان له بأن يقدم إلى الشام، فاغتنم ابن الحنفية هذه الفرصة وتوجه إلى الشام هو وأتباعه، واختاروا المقام بأيلة، وهذه البلدة وإن كانت من بلاد الشام منطقة نفوذ عبد الملك بن مروان إلا أنها في أطرافها نحو الحجاز وأصبح تقريباً في منطقة بعيدة عن الاثنين معاً، ولكن إتضح أن نوايا عبد الملك لم تكن تختلف عن نوايا ابن الزبير، فعرض عليه البيعة مقابل أموال وأعطيات سخية أو الخروج من بلاد الشام، وآثر بن الحنفية الخروج على البيعة حيث اشترط ذلك على ابن الزبير من قبل.(1/33)
وأراد ابن الحنفية العودة إلى مكة ولكن ابن الزبير منعه من دخولها فتوجه بمن معه إلى الطائف وقيل المدينة وبقي بها إلى أن قتل ابن الزبير سنة 72هـ.
وقد رويت بعض الروايات أن ابن الزبير حبس كل من ابن عباس وابن الحنفية وهم بحرقهم لولا تدخل المختار الثقفي، وهي روايات واهية ولاتصح .
7ـ كان ضمن الجيش الذي فتح أفريقيا، وعرف بجيش العبادلة ، فقد كان يقوده عبد الله بن أبي سرح، وفيه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
وفاته
مرض عبد الله بن عباس بعد وصوله الطائف، فبينا نحن عنده إذ قال في مرضه:
"إني أموت في خير عصابة على وجه الأرض، أحبهم إلى الله، وأكرمهم عليه، واقربهم إلى الله زلفى، فإن مت فيكم فأنتم هم"
ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره عن صفات ناس يموت بينهم.
فما لبث إلا ثماني ليال بعد هذا القول حتى توفي رضي الله عنه، فصلى عليه محمد بن الحنفية، فأقبل طائر أبيض فدخل في أكفانه، فما خرج منها حتى دفن معه.
عن ميمون بن مهران قال: شهدت جنازة عبد الله بن عباس بالطائف، فلما وضع ليصلي عليه جاء طائر أبيض حتى دخل في أكفانه فالتمس فلم يوجد، فلما سوي عليه سمعنا صوتا نسمع صوته ولا نرى شخصه: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)
فلما سوي عليه التراب قال ابن الحنفية:
" مات والله اليوم حبر هذه الأمة."
توفي رضي الله عنه سنة ثمان وستين بالطائف، وهو ابن سبعين. وقيل غير ذلك.
عبد الله بن عمر
الزاهد المتتبع للأثرالنبوي
نسبه
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي. صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن وزيره .
يكنى أبا عبد الرحمن .
أمه وأم أخته حفصة: زينب بنت مظعون أخت الصحابي الجليل عثمان بن مظعون.
ولد سنة ثلاث من المبعث النبوي توفي بمكة سنة أربع وسبعين، وقيل غير ذلك.
جاء وصفه في حلية الأولياء:(1/34)
الزاهد في الإمرة والمراتب، الراغب في القربة والمناقب، المتعبد المتهجد، المتتبع للأثر المتشدد نزيل الحصباء والمساجد، طويل الرغباء في المشاهد، يعد نفسه في الدنيا غريباً، ويرى كل ما هو أت قريباً. المستغفر التواب،
أسلم مع أبيه وهو صغير لم يبلغ الحلم، هاجر وهو بن عشر سنين وقيل ثلاث عشرة سنة ، ذكرت بعض المصادرأن هجرته كانت قبل هجرةعمر رضي الله عنه، فظن بعض الناس أن إسلامه كان قبل إسلام أبيه.
عرض على النبي صلى الله عليه وسلم ببدر فاستصغره ثم بأحد كذلك ، ثم بالخندق فأجازه وهو يومئذ بن خمس عشرة سنة.
شهد اليرموك والقادسية وجلولاء وما بينهما من وقائع الفرس وشهد فتح مصر واختط بها دارا وقدم البصرة وشهد غزو فارس.
ذكر صاحب الاستيعاب أنه أدرك الفتح وهو ابن عشرين سنة يعني فتح مكة .
أنجب إثني عشرولدا، وأربع بنات .
روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فأكثر. وروى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأبي ذر، ومعاذ بن جبل، ورافع بن خديج، وأبي هريرة، وعائشة.
وروى عنه ابن عباس، وجابر والأغر المزني من الصحابة. وروى عنه من التابعين بنوه: سالم، وعبد الله، وحمزة. وأبو سلمة وحميد ابنا عبد الرحمن. ومصعب بن سعد، وسعيد المسيب، وأسلم مولى عمر، ونافع مولاه، وخلق كثير.
صفاته الجسدية
وكان عبد الله بن عمر ربعة من الرجال ، آدم ، له جمة تضرب إلى منكبيه ، جسيما يخضب بالصفرة ويحفى شاربه ، وكان لعبد الله بن عمر إزار إلى نصف الساقين . ( الجمة:أكثرمن الوفرة وهي الشعر الذي يطال المنكبين)
عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه، قال نافع: وكان ابن عمر يفعل ذلك.
مقوماته الشخصية
كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول الله ولا يروي عنه عليه السلام حديثا إلا إذا كان ذاكرا كل حروفه، حرفا.. حرفا.
وقد قال معاصروه:(1/35)
"لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه، من عبدالله بن عمر"..!!
وكذلك كان شديد الحذر والتحوّط في الفتيا..
جاءه يوما رجل يستفتيه، فلماألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائلا:
" لا علم لي بما تسأل عنه"
وذهب الرجل في سبيله، ولا يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه:
"سئل ابن عمر عما لا يعلم، فقال لا أعلم"..!
دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما، وطلب اليه أن يشغل منصب القضاة، فاعتذر.. وألح عليه عثمان، فثابر على اعتذاره..
وسأله عثمان: أتعصيني؟؟
فأجاب ابن عمر:
" كلا.. ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة..
قاض يقضي بجهل، فهو في النار..
وقاض يقضي بهوى، فهو في النار..
وقاض يجتهد ويصيب، فهو كفاف، لا وزر، ولا أجر..
واني لسائلك بالله أن تعفيني"..
وأعفاه عثمان، بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا.
وفي رواية أخرى:
أن عثمان قال لعبد الله بن عمر:
"اقض بين الناس."
فقال :
"لا أقضي بين اثنين ولا أؤم اثنين."
فقال عثمان :
"أتعصينني"
قال :
"لا ولكنه بلغني أن القضاة ثلاثة رجل قضى بجهل فهو في النار ورجل حاف ومال به الهواء فهو في النار ، ورجل اجتهد فأصاب فهو كفاف لا أجر له ولا وزر عليه"
فقال عثمان :
"فإن أباك كان يقضي "
فقال :
"إن أبي كان يقضي فإذا أشكل عليه شيء سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أشكل على النبي سأل جبرائيل ، وإني لا أجد فمن أسأل أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
"من عاذ بالله فقد عاذ بمعاذ ..!"
فقال عثمان:
" بلى "
فقال:
" فإني أعوذ بالله أن تستعملني"
فأعفاه وقال:
" لا تخبر بهذا أحدا"
كان عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس وخشي إذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا نهجه، وعندئذ لا يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا.
قال ابن عمر: بعث إلي علي:(1/36)
" إنك مطاع في أهل الشام، فسر، فقد أمرتك عليهم"
فقلت:
" أذكرك الله وقرابتي من رسول الله وصحبتي إياه إلا ما أعفيتني"
فأبى علي، فاستعنت عليه بحفصة، فأبى، فخرجت ليلاً إلى مكة، فقيل له:
" قد خرج إلى الشام"
فبعث في أثري، فأرسلت إليه حفصة:
" إنه لم يخرج إلى الشام، إنما خرج إلى مكة."
وكان ابن عمر رضي الله عنه، من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة، اذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته، وكان راتبه من بيت المال وفيرا.. ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط، انما كان يعطيه للفقراء، والمساكين والسائلبن.
يذكر أيوب بن وائل الراسبي أحد مكرماته، فيقول إن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلاف درهم وقطيفة. وفي اليوم التالي، رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا- ..
فذهب ابن وائل الى أهل بيته وسالهم أليس قد أتى لأبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالأمس أربعة آلاف،وقطيفة..؟
قالوا: " بلى"
قال:
" فاني قد رأيته اليوم بالسوق يشتر علفا لراحلته ولا يجد معه ثمنه."
قالوا:
" إنه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعها، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره، خرج.. ثم عاد وليست معه، فسألناه عنهتا. فقال: إنه وهبها لفقير..!!"
فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف. حتى أتى السوق فتوقل مكانا عاليا، وصاح في الناس:
" يا معشر التجار..ما تصنعون بالدنيا، وهذا بن عمر تأتيه ألف درهم فيوزعها، ثم يصبح فيستدين علفا لراحلته"..!
عن نافع قال:
" خرج ابن عمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحاب له، ووضعوا السفرة له، فمر بهم راعي غنم، فسلم، فقال ابن عمر: هلم يا راعي فأصب من هذه السفرة?
فقال له:
" إني صائم"
فقال ابن عمر:
" أتصوم في مثل هذا اليوم الحار الشديد سمومه، وأنت في هذا الحال ترعى هذه الغنم?"
فقال:
" والله إني أبادر أيامي هذه الخالية"
فقال له ابن عمر -وهو يريد أن يختبر ورعه-:(1/37)
" فهل لك أن تبيعنا شاة من غنمك هذه فنعطيك ثمنها ونعطيك من لحمها ما تفطر عليه?"
قال:
" إنها ليست لي بغنم، إنها غنم سيدي"
فقال له ابن عمر:
" فما يفعل سيدك إذا فقدها?"
فولى الراعي عنه، وهو رافعٌ أصبعه إلى السماء، وهو يقول:
" فأين الله? "
قال: فجعل ابن عمرو يردد قول الراعي، يقول: "قال الراعي فأين الله"?
قال: فلما قدم المدينة بعث إلى مولاه، فاشترى منه الغنم والراعي، فأعتق الراعي ووهب له الغنم.
قال نافع: كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه، وكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه، فربما لزم أحدهم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحال الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه:
" يا أبا عبد الرحمن، والله ما بهم إلا أن يخدعوك!"
فيقول ابن عمر:
"من خدعنا بالله انخدعنا له."
عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال:
خطرت هذه الآية ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) فما وجدت شيئاً أحب إلي من جاريتي رميثة، فعتقتها، فلولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها، فأنكحتها نافعاً ، فهي أم ولده.
وقال نافع: ولقد رأيتنا ذات عشية، وراح ابن عمر على نجيب له قد أخذه بمال، فلما أعجبه سيره أناخه بمكانهن ثم نزل عنه، فقال:
" يا نافع، انزعوا عنه زمامه ورحله وأشعروه وجللوه وأدخلوه في البدن."
وقال نافع: كان ابن عمر إذا قرأ هذه الآية: (ألم يأن للذين آمنوا أن نخشع قلوبهم لذكر الله) "الحديد 16" ، بكى حتى يغلبه البكاء.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن القاسم بن أبي بَزَّة قال:
" حدثني من سمع ابن عمر رضي الله عنهما قرأ: {ويل للمطفيين} (سورة المطففون، الآية: 6) حتى بلغ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ } (سورة البقرة، الآية: 284) قال: فبكى حتى خر وامتنع من قراءة ما بعده.
عن نافع رضي الله عنه قال:(1/38)
ما قرأ ابن عمر هاتين الآيتين قطُّ من آخر سورة البقرة إلا بكى: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به ا} (سورة البقرة، الآية: 284) الآية ثم يقول: "إنَّ هذا الإحصاء شديد."
عن يوسف بن ماهَك قال: انطلقت مع ابن عمر إلى عبيد ابن عمير رضي الله عنه وهو يقصُّ على أصحابه، فنظرت إلى ابن عمر فإذا عيناه تُهرِقان
وعند ابن سعد عن عبيد بن عمير أنه قرأ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} (سورة النساء، الآية: 41) حتى ختم الآية فجعل ابن عمر يكبي حتى لثقت لحيته وجيبه من دموعه.
قال عبد الله:
" فحدثني الذي كان إلى جنب ابن عمر قال:
" لقد رأيت أن أقوم إلى عبيد بن عمير فأقول له: أقصُر عليك؛ فإنك قد آذيت هذا الشيخ."
عن ميمون بن مهران قال مر أصحاب نجدة الحرورى بإبل لابن عمر فاستاقوها، فجاء الراعي فقال:
" يا أبا عبد الرحمن احتسب الإبل وأخبره الخبر"
قال:
" فكيف تركوك ..؟"
قال:
" انفلت منهم لأنك أحب إلي منهم ."
فاستحلفه ، فحلف.
فقال: إني أحتسبك معها فأعتقه.
فقيل له بعد ذلك هل لك في ناقتك الفلانية تباع في السوق فأراد أن يذهب إليها ثم قال :
"قد كنت احتسبت الإبل فلأى معنى أطلب الناقه؟!"
وقال ابن المبارك أن عبد الله بن عمر كان له مهراس فيه ماء فيصلى ما قدر له ثم يصير إلى الفراش فيغفى إغفاء الطائر، ثم يقوم فيتوضأ ثم يصلي فيرجع إلى فراشه فيغفى إغفاء الطائر، ثم يثب فيتوضأ ثم يصلي يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمساً.
(مهراس :حجرٌ منقورٌ يُدَقُّ فيه ويُتَوَضَّأُ منه )
وقال عاصم بن محمد العمري، عن أبي قال:
" ما سمعت ابن عمر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بكى."
قيل لنافع:
" ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ "
قال:
"لا تطيقونه، الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما."
عن نافع:
"كان ابن عمر إذا فاتته العشاء في جماعة أحيا بقية ليلته."(1/39)
أعطي عبد الله بن جعفر في نافع لعبد الله بن عمر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار فقيل له:
" ماذا تنظر ؟! "
قال :
"فهلا ما هو خير من ذلك هو حر."
عن الزهري عن سالم قال :
"ما لعن بن عمر خادما قط الا واحدا فأعتقه."
واشترى مرة غلاماً بأربعين ألفا وأعتقه ، فقال الغلام :
"يا مولاى قد أعتقتنى فهب لى شيئا أعيش به "
فأعطاه أربعين ألفا .
واشترى مرة خمسة عبيد فقام يصلى فقاموا خلفه يصلون، فقال:
" لمن صليتم هذه الصلاة "
فقالوا :
"لله "
فقال :
"أنتم أحرار لمن صليتم له فأعتقهم."
عن نافع قال:
" كان رقيق عبد الله ربما شمر أحدهم فيلزم المسجد فيعتقه، فيقولون له: إنهم يخدعونك، فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا له، وما مات حتى أعتق ألف إنسان أو زاد."
كاتب ابن عمر غلاماً له بأربعين ألفاً، فخرج إلى الكوفة، فكان يعمل على حمر له حتى أدى خمسة عشر ألفاً، فجاءه إنسان فقال:
"أمجنون أنت ها هنا تعذب نفسك وابن عمر يشتري الرقيق، ويعتق! إرجع فقل له قد عجزت."
فجاء إليه فقال:
" قد عجزت وهذه صحيفتي فامحها."
قال:
"لا، ولكن امحها إن شئت"
فمحاها، ففاضت عيناه، وقال: اذهب فأنت حر.
قال:
"أصلحك الله، أحسنت، أحسن إلى ابني هذين."
قال:
" هما حران."
قال:
" أحسن إلى أميهما."
قال:
" هما حرتان"
فأعتق الخمسة.
وأراد بن عمر أن يلعن خادما فقال اللهم إلع.. فلم يتمها وقال:
" إنها كلمة ما أحب أن أقولها "
وقال بن المبارك عن نافع ان بن عمر اشتكى فاشترى له عنقود بدرهم فأتاه مسكين فقال:
" أعطوه إياه:
فخالف انسان فاشتراه منه بدرهم، ثم جاء به إليه، فجاءه السائل فقال:
" أعطوه إياه "
فخالف انسان آخر فاشتراه بدرهم ثم أراد أن يرجع فمنع.
وكانت تمضى عليه الأيام الكثيرة والشهر لا يذوق فيه لحما إلا وعلى يديه يتيم
وبعث اليه معاوية بمائة ألف لما أراد أن يبايع ليزيد فما حال عليه الحول وعنده منها شىء وكان يقول:(1/40)
" إنى لا أسأل أحدا شيئا وما رزقنى الله فلا أرده"
عن حمزة بن عبد الله بن عمر قال:
" لو أن طعاما كثيرا كان عند بن عمر لما شبع منه بعد أن يجد له آكلا "
عن نافع قال: إن كان ابن عمر ليقسم في المجلس الواحد ثلاثين ألفاً، ثم يأتي عليه شهر ما يأكل مزعة من لحم.
وقال الخرائطي عن زيد بن أسلم :
" جعل رجل يسب بن عمر وابن عمر ساكت فلما بلغ باب داره التفت اليه فقال: "إني وأخي عاصما لا نسب الناس"
عن أبي الدارع قلت ،لابن عمر:
" لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم"
فغضب وقال:
" إني لأحسبك عراقيا وما يدريك علام أغلق بابي "
وأخرج البغوي ،أقام بن عمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنه يقدم عليه وفود الناس. قال مالك :
"كان إمام الناس عندنا بعد عمر زيد بن ثابت وكان إمام الناس عندنا بعد زيد بن عمر"
قال يحيى بن يحيى قلت لمالك :
"أسمعت المشايخ يقولون من أخذ بقول بن عمر لم يدع من الاستقصاء شيئا ؟"
قال: "نعم "
وأخرج بن المبارك في الزهد أن بن عمر سئل عن شيء فقال:
" لا أدري ثم قال أتريدون أن تجعلوا ظهورنا جسورا في جهنم تقولون أفتانا بهذا بن عمر"
وقال الزبير بن بكار :
"كان بن عمر يحفظ ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسأل من حضر إذا غاب عن قوله وفعله "
وأخرج البغوي :
"ما رأيت أحدا كان أشد اتقاء للحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بن عمر"
عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر: سمعت أبي يقول :
"ما ذكر بن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بكى ولا مر على ربعهم إلا غمض عينيه"
أخبرنا أيوب عن نافع عن بن عمر أنه كان يجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يرتفع الضحى ولا يصلي، ثم ينطلق إلى السوق فيقضي حوائجه ،ثم يجئ إلى أهله فيبدأ بالمسجد فيصلي ركعتين ثم يدخل بيته.
عن نافع أن بن عمر كان يحيي الليل صلاة ، ثم يقول:
" يا نافع أسحرنا؟!"
فيقول :
"لا "(1/41)
فيعاود، فإذا قال نعم قعد يستغفر الله حتى يصبح .
وعند البيهقي إذا فاتته صلاة في جماعة صلى إلى الصلاة الأخرى.
عن واسع بن حبان قال:
" كان بن عمر يحب أن يستقبل كل شيء منه القبلة إذا صلى حتى كان يستقبل بإبهامه القبلة"
وفي الزهد لأحمد عن بن سيرين كان بن عمر كلما استيقظ من الليل صلى .
عن نافع أن بن عمر كان يصوم في السفر ولا يكاد يفطر في الحضر.
قال نافع :
"كان عبد الله بن عمر إذا قدم من سفر بدأ بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فيقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه"
عن أبي ريحانة قال :
"كان بن عمر يشترط على من صحبه في السفر الفطر والأذان والذبيحة يعني الجزرة يشتريها للقوم"
قال نافع:
" كان بن عمر لا يصوم في السفر ولايكاد يفطر في الحضر إلا أن يمرض أو أيام يقدم فإنه كان رجلا كريما يحب أن يؤكل عنده"
وقال :
"وكان يقول ولأن أفطر في السفر فآخذ برخصة الله أحب الي من أن أصوم."
عن أبي جعفر القارئ قال:
" خرجت مع بن عمر من مكة الى المدينة وكان له جفنة من ثريد يجتمع عليها بنوه وأصحابه وكل من جاء حتى يأكل بعضهم قائما"
عن عبد الله بن مسلم أخي الزهري قال:
" رأيت بن عمر وجد تمرة في الطريق فأخذها فعض منها ثم رأى سائلا فدفعها إليه"
عن معن قال :
"كان بن عمر إذا صنع طعاما فمر به رجل له هيئة لم يدعه ، ودعاه بنوه أو بنو أخيه ،وإذا مر انسان مسكين دعاه ولم يدعوه ، وقال:
" يدعون من لا يشتهيه ويدعون من يشتهيه"
عن أنس بن سيرين قال:
" أتى رجل بن عمر بصرة فقال:
" ما هذه"
قال :
"هذا شيء إذا أكلت طعامك فكربك أكلت من هذا شيئا فهضمه عنك"
فقال بن عمر:
" ما ملأت بطني من طعام منذ أربعة أشهر"
وعن نافع أنه قال :
"جاء رجل الى بن عمر بجوارش"
فقال :
"ما هذا"
قال:
" هذا يهضم الطعام قال إنه ليأتي علي شهر ما أشبع من الطعام فما أصنع بهذا"(1/42)
عن القعقاع بن حكيم قال كتب عبد العزيز بن هارون الى بن عمر:
" أن ارفع إلي حاجتك"
قال فكتب إليه عبد الله :
"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى) واني لا أحسب اليد العليا إلا المعطية والسفلى إلا السائلة وإني غير سائلك ولا راد رزقا ساقه الله إلي منك"
وذكر الهيثمي عن قرّة قال:
" قلت لابن سيرين: هل كانوا يتمازحون( يقصد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟"
قال:
" ما كانوا إلا كالناس، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يمزح وينشد:
يحب الخمر من مالِ النَّدامى
ويكره أن تفارقه الفلوس"
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن قرعة قال:
رأيت على ابن عمر رضي الله عنهما ثياباً خشنة فقلت له:
" يا أبا عبد الرحمن إني أتيتك بثوب ليِّن مما يُصنع بخراسان وتقر عيناني أن أراه عليك، فإن عليك ثياباً خشنة"
فقال:
" أرنيه حتى أنظر إليه"
قال: فلمسه بيده وقال:
" أحرير هذا؟"
قلت:
" لا، إنه من قطن"
قال:
" إني أخاف أن ألبسه، أخاف أن أكون مختالاً فخوراً والله لا يحب كل مختال فخور."
و عن عبد الله بن حُبَيش قال:
" رأيت على ابن عمر ثوبين مَعَافِرِيَّين، وكان ثوبه إلى نصف الساق."
وعند أبي نُعيم عن وَقْدان قال:
" سمعت ابن عمر وسأله رجل ما ألبس من الثياب؟ قال:
" ما لا يزدريك فيه السفهاء، ولا يعتبك به الحلماء"
قال:
" ما هو؟"
قال: ما بين الخمسة إلى العشرين درهماً.
وأخرج البخاري في الأدب (ص51) عن عطاء بن أبي رباح :
"أن رجلاً كان يمدح رجلاً عند ابن عمر رضي الله عنهما، فجعل ابن عمر يحثو التراب نحو فيهِ وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إذا رأيتم المدَّحين فاحثُوا في وجوههم التراب».
وعند أحمد والطبراني عن عطاء بن أبي رباح قال:
كان رجل يمدح ابن عمر رضي الله عنهما يقول هكذا: يحثو في وجهه التراب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(1/43)
«إذا رأيتم المدَّاحين فاحثُوا في وجوههم التراب».
عن حفص بن غياث عن شيخ قال :
"أتى بن عمر شاعر فأعطاه درهمين، فقالوا له، فقال :
"إنما أفتدي به عرضي"
وعن أبي الزناد قال :
"اجتمع في الحجر مصعب وعروة وعبد الله بنو الزبير وعبد الله بن عمر فقالوا تمنوا فقال عبد الله بن الزبير أما أنا فاتمنى الخلافة، وقال عروة أما أنا فاتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب أما أنا فاتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة ينت الحسين ، وقال عبد الله بن عمر أما أنا فاتمنى المغفرة.
قال فنالوا ما تمنوا ولعل ابن عمر غفر له"
عن القاسم بن عبد الرحمن قال:
" قال رجل لابن عمر من أنتم؟"
قال:
" ما تقولون"
قال:
" نقول إنكم سبط وإنكم وسط "
فقال:
" سبحان الله إنما كان السبط في بني إسرائيل والأمة الوسط أمة محمد جميعا، ولكنا أوسط هذا الحي من مضر فمن قال غير ذلك فقد كذب وفجر"
عن عبد الرحمن بن سعد قال :
"كنت عند بن عمر فخدرت رجله فقلت:
" يا أبا عبد الرحمن ما لرجلك..؟"
قال :
"اجتمع عصبها من هاهنا "
فقلت:
" ادع أحب الناس إليك"
قال:
" يا محمد"
فبسطها.
عن عيسى بن أبي عيسى عن أمه :
" قالت استسقاني بن عمر فأتيته بقدح من قوارير فأبى أن يشرب، فأتيته بقدح من عيدان ،فشرب وسأل طهورا فأتيته بتور وطست فأبى أن يتوضأ ،وأتيته بركوة فتوضأ"
(التور: إِناء معروف عند العرب تشرب فيه)
(الرَّكْوة: إناءٌ صغير من جِلْدٍ يُشْرَب فيه الماءُ)
(العيدان : جمع عود وهو من الخشب)
عن سعيد بن المسيب، قال لي عبد الله بن عمر:
" هل تدري لم سميت ابني سالما ؟"
قلت:" لا "
قال:
" باسم سالم مولى أبي حذيفة "
قال:
" فهل تدري لم سميت ابني واقدا "
قلت :
"لا "
قال:
" باسم واقد بن عبد الله اليربوعي"
قال :
"هل تدري لم سميت ابني عبد الله "
قلت :
"لا "
قال:
" باسم عبد الله بن رواحة"
عن نافع قال:
" كان بن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه."(1/44)
عن نافع أن بن عمر سمع صوت زمارة راع فوضع إصبعه في أذنيه وعدل براحلته عن الطريق وهو يقول:
" يا نافع أتسمع وأقول فيمضي، حتى قلت لا، فوضع يديه عن أذنيه وعدل الى الطريق، وقال:
" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع صوت زمارة راع فصنع مثل هذا"
عن مجاهد قال:
" كنت أسافر مع عبد الله بن عمر فلم يكن يطيق شيئا من العمل إلا عمله لا يكله إلينا ولقد رأيته يطأ على ذراع ناقتي حتى أركبها"
عن زيد بن عبد الله الشيباني قال
" رأيت بن عمر إذا مشى الى الصلاة دب دبيبا لو أن نملة مشت معه قلت لا يسبقها"
قال ميمون:
" أن بن عمر تعلم سورة البقرة في أربع سنين"
على خطى الرسول الكريم
قال الأستاذ/ خالد محمد خالدفي كتابه الرائع( رجال حول الرسول) واصفا ابن عمر:
كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر الألباب..
فهو ينظر، ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر، فيحاكيه في دقة واخبات..
هنا مثلا، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي.. فيصلي ابن عمر في ذات المكان..
وهنا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو قائما، فيدعو ابن عمر قائما...
وهنا كان الرسول يدعو جالسا، فيدعو عبدالله جالسا..
وهنا وعلى هذا الطريق نزل الرسول يوما من فوق ظهر ناقته، وصلى ركعتين، فصنع ابن عمر ذلك اذا جمعه السفر بنفس البقعة والمكان..
بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة، قبل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها، ويصلي ركعتين، وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها.
لكن بن عمر لا يكاد يبلغ هذا المكان يوما حتى يدور بناقته، ثم ينيخها، ثم يصلي ركعتين لله.. تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله.
وحتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة. فكان عمر يتعاهدها بالماء لئلا تيبس.
فما كان لمن يمعن في التأسي برسول الله، حتى انه ليقف بناقته حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف ناقته. ويقول" لعل خفا يقع على خف".!(1/45)
عن نافع قال: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع أثر رسول الله لقلت هذا مجنون.
وعن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو تركنا هذا الباب للنساء ".
قال: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات.
ولقد أثار فرط اتباعه هذا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت:
"ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله، كما كان يتبعه ابن عمر".
رؤيا صادقة
عن ابن عمر قال: كنت غلاماً، عزباً شاباً، وكنت أنام في المسجد، فرأيت كأن ملكين أتياني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، لها قرون كقرون البقر، فرأيت فيها ناساً قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقينا ملك فقال، لن ترع، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
" نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل ".
قال: فكان عبد الله لا ينام بعد من الليل إلا قليلاً.
وفي رواية أخرى:
"رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة استبرق، وكأنني لا أريد مكانا في الجنة إلا طارت بي اليه..
ورأيت كأن اثنين أتياني، وأرادا أن يذهبا بي إلى النار، فتلقاهما ملك فقال:
" لا ترع، فخليّا عني."
فقصت حفصة - أختي- على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"نعم الرجل عبدالله ، لو كان يصلي من الليل فيكثر"
ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه، لم يدع قيام الليل في حله، ولا في ترحاله..
فكان يصلي ويتلو القرآن، ويذكر ربه كثيرا.. وكان كأبيه، تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن.
بعض أقواله
قال ابن عمر:
ـ "لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم..فما نكثت ولا بدّلت إلى يومي هذا..وما بايعت صاحب فتنة..ولا أيقظت مؤمنا من مرقده"..
ـ "إني لأخرج وما لي حاجة إلا لأسلم على الناس ويسلمون علي."
ـ "ما وضعت لبنة على لبنة، ولا غرست نخلة منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم"(1/46)
ـ "لقد اجتمعت وأصحابي على أمر، واني أخاف إن خالفتهم ألا ألحق بهم"..
ـ "اللهم انك تعلم أنه لولا مخافتك لزاحمنا قومنا قريشا في هذه الدنيا".
قال في أخريات أيامه:
ـ " ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا الا أني لم أقاتل مع عليّ، الفئة الباغية"..!!
ـ "كففت يدي فلم أندم والمقاتل على الحق أفضل"
ـ لما أسلم عمر بن الخطاب قال:
" أي أهل مكة أثقل للحديث? قالوا: جميل بن معمر الجمحي. فخرج عمر وخرجت وراءه، وأنا غليم أعقل كل ما رأيت، حتى أتاه، فقال: يا جميل، أشعرت أني قد أسلمت? فوالله ما راجعه الكلام حتى قام يجر رداءه، وخرج عمر يتبعه، وأنا معه، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ: يا معشر قريش، إن عمر قد صبأ. قال: كذبت. ولكن أسلمت . . . "
ـ "البر شيء هين: وجه طلق، وكلام لين".
ـ "كل مسكر خمرٌ، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو مدمنها، لم يشرب منها في الآخرة.
ـ : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ببعض جسدي، وقال:
"يا عبد الله، كن في الدينا كأنك غريب أو كأنك عابر سبيل وعد نفسك في أهل القبور"
ثم قال لي:
"يا عبد الله بن عمر، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، إنما هي حسنات وسيئات، جزاء بجزاء، وقصاص بقصاص، ولا تتبرأ من ولدك في الدنيا فيتبرأ الله منك في الآخرة، فيفضحك على رؤوس الأشهاد، ومن جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إلى يوم القيامة".
ـ مرّ ابن عمر برجل ساقط من أهل العراق فقال:
" ما شأنه؟"
قالوا:
" إنه قُرىء عليه القرآن يصيبه هذا"
قال:
" إنا لنخشى الله وما نسقط"
ـ وعن خوفه من سوء العاقبة قال:
"لوددتُ أني هذه السارية"
ـ وقال محذرا من حصائد الألسن:
" أحقُّ ما طهَّر العبد لسانه"
ـ " أيها الناس إليكم عني فإني قد كنت مع من هو أعلم مني ولو علمت أني أبقى فيكم حتى تقضوا الي لتعلمت لكم"
ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ما حق امرئ له ما يوصي فيه يبيت ثلاثا إلا ووصيته عنده مكتوبة"(1/47)
، قال بن عمر فما بت ليلة منذ سمعتها إلا ووصيتي عندي.
لما احتضر ابن عمر قال:
ـ" ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل هذه الفئة الباغية التي نزلت بنا"
عن سالم بن عبد الله بن عمر أن أباه قال:
" ما كنت بشيء بعد الإسلام أشد فرحا من أن قلبي لم يشربه شيء من هذه الأهواء المختلفة"
كتب له رجل:
" اكتب إلي بالعلم كله."
فكتب إليه:
" إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس خميص البطن من أموالهم، كافا لسانك عن أعرضهم لازماً لأمر جماعتهم فافعل، والسلام."
كتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن عمر:
"بلغني أنك طلبت الخلافة، وأن الخلافة لا تصلح لعيي ولا بخيل ولا غيور."
فكتب إليه بن عمر:
" أما ما ذكرت من الخلافة أني طلبتها فما طلبتها وما هي من بالي، وأما ما ذكرت من العي والبخل والغيرة فإن من جمع كتاب الله فليس بعى، ومن أدى زكاة ماله فليس ببخيل، وأما ما ذكرت من الغيرة فإن أحق ما غرت فيه ولدي أن يشركني فيه غيري"
(العيي :الضعيف خائر القوى المجهد)
دخل عليه بن مطيع يعوده فرأه قد نحل جسمه، فقال لصفية:
" ألا تلطفيه لعله أن يرتد إليه جسمه فتصنعي له طعاماً..!"
قالت: إنا لنفعل ذلك ولكنه لايدع أحداً من أهله ولا من يحضره إلا دعاه عليه، فكلمه أنت في ذلك. فقال بن مطيع:
" يا أبا عبد الرحمن لو اتخذت طعاماً فرجع إليك جسمك"
فقال:
" إنه ليأتي علي ثماني سنين ما أشبع فيها شبعة واحدة، أو قال: لا أشبع فيها إلا شبعة واحدة، فالآن تريد أن أشبع حين لم ييق من عمري إلا ظمء حمار"
عن نافع، عن بن عمر رضي الله تعالى عنه، قال:
" ما شبعت منذ أسلمت."
عن عبد الله بن عمر، قال:(1/48)
" من كان مستناً فليسن ممن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم أختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة. يا بن آدم صاحب الدنيا ببدنك وفارقها بقلبك وهمك، فإنك موقوف على عملك، فخذ مما في يديك لما بين يديك عند الموت، يأتيك الخير.
عن بن عمر رضي الله تعالى عنه، قال:
" لا يكون الرجل من العلم بمكان حتى لا يحسد من فوقه، ولا يحقر من دونه، ولا يبتغي بالعلم ثمناً"
عن بن عمر رضي الله تعالى أنه قال:
" تراءوا بالخير ولا تراءوا بالشر"
عن بن عمر رضي الله تعالى عنه، قال:
" لا يصيب عبد شيئاً من الدنيا إلا نقص من درجاته عند الله عز وجل، وإن كان عليه كريماً"
توفى زيد بن حارثه الأنصاري رحمه الله ، قيل له:
" يا أبا عبد الرحمن ترك مائة ألف"
قال:
" لكن هي لم تتركه"
سليمان بن حبيب، قال:
"كان بن عمر رضي الله تعالى عن يقول:
"لو وضعت أصبعي في خمر ما أحببت أن تتبعني"
عن بن عمر رضي الله تعالى عنه، قال:
" لأن أشرب قمعاً قد أغلى، أحرق ما أحرق، وأبقى ما أبقى، أحب إليّ من أن أشرب نبيذ الجر"
عن بن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه سمع رجلاً يقول:
” أين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة"
فأراه قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فقال:
" عن هؤلاء تسأل."
عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال:(1/49)
" إنما كان مثلنا في الفتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادة يعرفونها، فبينما هم كذلك إذ غشيتهم سحابة وظلمة فأخذ بعضهم يميناً وشمالاً فأخطأ الطريق، وأقمنا حيث أدركنا ذلك حتى جلى الله ذلك عنا فأبصرنا طريقنا الأول فعرفناه وأخذنا فيه، وإنما هؤلاء فتيان قريش يقتتلون على السلطان وعلى هذه الدنيا، ما أبالي أن يكون لي ما يقل بعضهم بعضاً بنعلي هاتين الجرداوين"
قال الطفيل بن أبي كعب أخبره أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوف، قال، فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله بن عمر على سقاط ولا صاحب بيعة ولا مسكين ولا أحد إلا وسلم عليه. فقلت:
" ما تصنع بالسوق وأنت لا لقف على البيع ولا تسأل، عن السلع ولا تسوم بها ولا تجلس في مجالس"
فقال لي عبد الله:
" يا أبا بطن، وكان الطفيل ذا بطن، إنما نغدو من أجل السلام، فسلم على من لقيت"
أن عبد الله بن عمر كان يقول في رجل استكره على شرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، قال:
" إن لم يفعل حتى يقتل أصاب خيراً، وإن هو أكل وشرب فهو عذر"
عن نافع أن رجلاً قال لابن عمر:
" يا خير الناس، أو يا بن خير الناس"
فقال بن عمر:
" ما أنا بخير الناس ولا بن خير الناس، ولكني عبد من عباده الله أرجو الله تعالى وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه"
عن نافع، أن بن عمر كان يدعو على الصفا:(1/50)
" اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، اللهم جنبنى حدودك، اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك ويحب رسلك ويحب عبادك الصالحين، اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين، اللهم يسرني لليسرى، وجنبني العسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى، واجعلني من أئمة المتقين. اللهم إنك قلت ادعوني استجب لكم، وإنك لا تخلف الميعاد. اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه، ولا تنزعه مني حتى تقبضني وأنا عليه. كان يدعو بهذا الدعاء من دعاء له طويل على الصفا والمروة وبعرفات ويجمع بين الجمرتين وفي الطواف"
سئل بن عمر هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون. قال:
" نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال."
عن مجاهد، قال:
" كنت أمشي مع بن عمر فمر على خربة، فقال:
" قل يا خربة ما فعل أهلك."
فقلت:
" يا خربة ما فعل أهلك؟"
فقال بن عمر:
" ذهبوا وبقيت أعمالهم"
عن بن عمر، قال:
" قام فتى، فقال: يا رسول الله أي المؤمنين أكيس؟"
قال:
" أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً قبل أن ينزل به، أولئك الأكياس"
عن بن عمر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"كم من عاقل عقل عن الله تعالى أمره، وهو حقير عند الناس ذميم المنظر ينجو غداً، وكم من ظريف اللسان جميل المنظر عند الناس يهلك غداً يوم القيامة"
عن بن عمر رضي الله تعالى عنه، قال:
"أتى علينا زمان وليس أحد أحق بديناره ولا بدرهمه من أخيه المسلم، حتى كان حديثاً، ولقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول،:
"إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله عز وجل، أدخل الله عليهم ذلاً ثم لا ينزعه عنهم حتى يراجعوا دينهم"
قالوا عنه
ـ عن عائشة قالت:
"ما رأيت أحداً ألزم للأمر الأول من ابن عمر."
ـ جاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول:(1/51)
"اللهم أبق عبدالله بن عمر ما أبقيتني، كي أقتدي به، فاني لا أعلم أحد على الأمر الأول غيره".
ـ قال معاصروه..
"لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه، من عبدالله بن عمر"..!!
ـ ويقول ميمون بن مهران:
" دخلت على ابن عمر، فقوّمت كل شيء في بيته من فراش، ولحاف وبساط. ومن كل شيء فيه، فما وجدته تساوي مئة ردهم"..!!
ـ يقول أبو العالية البراء:
" كنت أمشي يوما خلف ابن عمر، وهو لا يشعر بي، فسمعته يقول لنفسه:
" واضعين سيوفهم على عواتقهم، يقتل بعضهم بعضا يقولون: يا عبد الله بن عمر، أعط يدك"..؟!
ـ وصفه معاصروعه فقالوا:
" مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل"
وقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر.. فقالوا:
"كان عمر في زمان له فيه نظراء، وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير"
ـ قال مالك:
" وكان ابن عمر من أئمة المسلمين"
وقال أيضا:
"قال لي أبو جعفر أمير المؤمنين كيف أخذتم قول بن عمر من بين الأقاويل فقلت له :
"بقي يا أمير المؤمنين وكان له فضل الناس ووجدنا من تقدمنا أخذ به فأخذنا به."
قال :
" فخذ بقوله وإن خالف عليا وابن عباس"
ـ وكان جابر بن عبد الله يقول:
"ما منا إلا من مالت به الدنيا وما بها، ما خلا عمر، وابنه عبد الله"
ـ قال عبد الله مسعود:
" ان أملك شباب قريش لنفسه في الدنيا عبد الله بن عمر"
ـ عن سعيد بن المسيب:
" لو شهدت لأحد من أهل الجنة لشهدت لابن عمر"
وقال أيضا:
" مات ابن عمر يوم مات وما من الدنيا أحد أحب أن لقى الله بمثل عمله منه."
وقال أيضا:
" كان اشبه ولد عمر بعمر عبد الله واشبه ولد عبد الله بعبد الله سالم."
ـ قال طاوس :
" ما رأيت رجلا أورع من ابن عمر ولا رأيت رجلا أعلم من ابن عباس"
ـ وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال:
" ما ناقة اضلت فصيلها في فلاة من الأرض باطلب لأثرها من ابن عمر لعمر بن الخطاب"
ـ قالوا عنه معاصروه :(1/52)
" ما أحد منا أدركته الفتنة إلا لو شئت لقلت فيه غيرابن عمر"
ـ عن حذيفة قال:
" ما منا أحد لو فتش إلا فتش عن جائفة أو منقلة إلا عمر وابنه."
ـ قال محمد بن علي:
" كان ابن عمر إذا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً لا يزيد ولا ينقص، لم يكن أحد من الصحابة في ذلك مثله."
ـ وقال عبيد الله، عن نافع قال:
" ما أعجب ابن عمر شيء إلا قدمه."
ـ قال عنه عبد الله بن محيريز":
" والله إن كنت أعد بقاء ابن عمر أماناً لأهل الأرض"
ـ عن ميمون بن مهران، قال:
" أتت بن عمر رضي الله تعالى عنه اثنان وعشرون ألف دينار في مجلس، فلم يقم حتى فرقها"
ـ حدثنا ميمون بن مهران:
"أن بن عمر رضي الله تعالى عنه كاتب غلاماً له ونجمها عليه نجوماً، فلما حل أول النجم أتاه المكاتب به، فسأله:
"من أين أصبت هذا"
قال:
" كنت أعمل وأسأل"
قال بن عمر:
"افجئتني بأوساخ الناس تريد أن تطعمنيها؟.. أنت حر لوجه الله ولك ما جئت به"
ـ عن أفلح بن كثير قال:
" كان بن عمر رضي الله تعالى عنه لايرد سائلاً، حتى أن المجذوم ليأكل معه في صحنه، وإن أصابعه لتقطر دماً."
حدثنا ميمون أن رجلاً من بني عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه استكساه إزاراً، وقال:
" قد تخرق إزاري"
فقال له:
" إقطع إزارك ثم اكتسه"
فكره الفتى ذلك، فقال له عبد الله بن عمر:
" ويحك اتق الله لا تكونن من القوم الذين يجعلون ما رزقهم الله تعالى في بطونهم وعلى ظهورهم"
قال ابن قيم الجوزية صاحب زاد الميعاد:
" إن عبد اللَّه بن عمر كان يسلُك طريق التَّشديد والاحتياط "
عن ميمون بن مهران، قال:
" دخلت منزل بن عمر، فما كان فيه مايسوى طيلساني هذا"
(الطيلسان: نوع من الأَكسية)
قال مالك بن أنس: حدثت أن بن عمر رضي الله تعالى عنه نزل الجحفة، فقال بن عامر بن كريز لخبازه:
" اذهب بطعامك إلى بن عمر"
فجاء بصحفة، فقال بن عمر:
" ضعها"
ثم جاء بأخرى وأراد أن يرفع الأولى فقال بن عمر:
" مالك."
قال:(1/53)
"أريد أن أرفعها"
قال:
" دعها صب عليها هذه"
قال: فكان كلما جاءه بصحفة صبها على
الأخرى، فذهب العبد إلى بن عامر، فقال:
"هذا جاف أعرابى "
فقال له بن عامر:
" هذا سيدك، هذا بن عمر"
حدثنا مالك بن أنس، عن أبي جعفر القاري، قال مولاي:
" أخرج مع بن عمر أخدمه"
فكان كل ماء ينزله يدعو أهل ذلك الماء يأكلون معه، قال: فكان أكابر ولده يدخلون فيأكلون فكان الرجل يأكل اللقمتين والثلاث فنزل الجحفة فجاءوا وجاء غلام أسود عريان، فدعاه بن عمر، فقال الغلام: إني لا أجد موضعاً قد تراصوا. فرأيت بن عمر تنحى حتى ألزقه إلى صدره."
عن أبي غالب مولى خالد بن عبد الله قال:
" كان بن عمر ينزل علينا بمكة فكان يتهجد من الليل، فقال لي ذات ليلة قبيل الصبح:
" يا أبا غالب ألا تقوم فتصلي ولو تقرأ بثلث القرآن"
فقلت:
" قد دنا الصبح فكيف أقرأ بثلث القرآن"
فقال:
" إن سورة الإخلاص، قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن"
عن أبي بردة، عن أبيه، قال:
" صليت إلى جنب بن عمر رضي الله تعالى عنه فسمعته حين سجد وهو يقول: "اللهم إجعلك أحب شيء إلى وأخشى شيء عندي"
وسمعته يقول في سجوده:
" رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين"
وقال:
" ما صليت صلاة منذ أسلمت إلا وأنا أرجو أن تكون كفارة"
عن عبد الله بن سبرة، قال:
" كان بن عمر رضي الله تعالى عنه إذا أصبح، قال: اللهم اجعلني من أعظم عبادك عندك نصيباً في كل خير تقسمه الغداة، ونوراً تهدي به، ورحمة تنشرها، ورزقاً تبسطه، وضراً لكشفه، وبلاء ترفعه، وفتنة تصرفها"
عن نافع :
" كان بن عمر رضي الله تعالى عنه يزاحم على الركن حتى يرعف، ثم يجيء فيغسله"
قال عروة بن الزبير:
"خطبت إلى عبد الله بن عمر ابنته ونحن في الطواف، فسكت ولم يجبني بكلمة، فقلت:
" لو رضي لأجابني، والله لا أراجعه فيها بكلمة أبداً."(1/54)
فقدر له أن سدر إلى المدينة قبلي، ثم قدمت فدخلت مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وأديت إليه من حقه ما هو أهله، فأتيته ورحب بي، وقال:
" متى قدمت؟"
فقلت:
" هذا حين قدومي"
فقال:
"أكنت ذكرت لي سودة بنت عبد الله ونحن في الطواف نتخايل الله عز وجل بين أعيننا، وكنت قادراً أن تلقاني في غير ذلك الموطن"
فقلت:
"كان أمر قدر"
قال:
" فما رأيك اليوم"
قلت:
" أحرص ما كنت عليه قط"
فدعا ابنيه سالماً وعبد الله فزوجني."
موقفه من الفتنة
1 ـ حصار عثمان
عن نافع، أن ابن عمر تقلد سيف عمر يوم قتل عثمان.
ويقول ابن سيرين: كان مع عثمان في الدار سبعمائة، لو يدعهم لضربوهم إن شاء الله حتى يخرجوهم من أقطارها، منهم: ابن عمر، والحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير.
يقول الحسن رضي الله عنه:
" لما قتل عثمان بن عفان، قالوا لعبد الله بن عمر:
" إنك سيّد الناس، وابن سيد الناس، فاخرج نبايع لك الناس"
قال:
" إن والله لئن استطعت، لا يهراق بسببي محجمة من دم"
قالوا:
" لتخرجن، أو لنقتلنك على فراشك"
فأعاد عليهم قوله الأول.
فأطمعوه.. وخوّفوه.. فما استقبلوا منه شيئا"..!!"
لقيه رجل يوما فقال له:
" ما أحد شر لأمة محمد منك..!"
قال ابن عمر:
" ولم..؟ فوالله ما سفكت دماءهم، ولا فرقت جماعتهم، ولا شققت عصاهم؟"
قال الرجل: إنك لو شئت ما اختلف فيك إثنان"
قال ابن عمر:
" ما أحب أنها أتتني، ورجل يقول: لا، وآخر يقول: نعم."
قال ابن عمر رضي الله عنه:
" جاءني رجل في خلافة عثمان فإذا هو يأمرني أن أعتب على عثمان، فلما قضى كلامه قلت له: إنا كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة محمد بعده: أبو بكر وعمر ثم عثمان، وإنا والله ما نعلم عثمان قتل نفساً بغير حق، وجاء من الكبائر شيئاً، ولكنه هذا المال، أن أعطاكموه رضيتم وإن أعطاه قرابته سخطتم. إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم، لا يتركون أميراً إلا قتلوه"(1/55)
وروى سالم بن عبد الله بن عمر أن أباه قال:
" لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوا عليه."
ولقد عثمان منحه ثقته فكان يستشيره إبان محنته مع الغوغاء، فحين دخل عليه ابن عمر قال له عثمان:
" أنظر ما يقول هؤلاء يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك."
قال له ابن عمر:
" أمخلد أنت في الدنيا؟"
قال: لا.
قال: هل يزيدون على أن يقتلونك؟
قال: لا .
قال: هل يملكون لك جنة أو ناراً؟
قال: لا.
قال: فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه.
ولما قتل عثمان رأى ابن عمر أن الأمة وقعت في محنة، وأن قتل الخليفة بهذه الصورة معصية شؤمها على الأمة خطيرة، لذا لما عرض عليه الغوغاء الخلافة بعد مقتل عثمان قال:
" إن لهذا الأمر انتقاماً والله لا أعترض له فالتمسوا غيري"
2 ـ الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما
وحين قامت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقف ابن عمر موقف العزلة والحياد جاعلا شعاره ونهجه هذه الكلمات:
"من قال حي على الصلاة أجبته..ومن قال حي على الفلاح أجبته..ومن قال حي على قتل أخيك المسلم واخذ ماله قلت: لا".!!
حين سأله نافع قال:" يا أبا عبد الرحمن، أنت ابن عم.. وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت وأنت، فما يمنعك من هذا الأمر_ يعني نصرة علي_؟؟
فأجابه قائلا:
" يمنعني أن الله تعالى حرّم عليّ دم المسلم، لقد قال عز وجل: (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين ..)
ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين حتى كان الدين لله،اما اليوم. فيم نقاتل..؟؟
لقد قاتلت الأوثان تملأ الحرم.. من الركن الى الباب، حتى نفاها الله من أرض العرب..؟!(1/56)
أفأقاتل اليوم من يقول لا اله الا الله".؟! ولكنك أردت أن يُفني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضاً؛ حتى إذا لم يبقَ غيرك قيل: بايعوا لعبد الله بن عمر بإمارة المؤمنين. قال: والله ما ذلك فيَّ، ولكن إذا قلتم حيَّ على الصلاة أجبتكم، حيَّ على الفلاح أجبتكم، وإذا افترقتم لم أجامعكم، وإذا اجتمعتم لم أفارقكم"
وعند البخاري أيضاً من طريق نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً جاءه فقال: يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} (سورة الحجرات، الآية: 9) الآية، فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟
فقال:
" يا ابن أخي أُعيَّر بهذه الآية ولا أقاتل أحب إليَّ مِنْ أن أعيَّر بهذه الآية التي يقول الله عز وجل: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً} (سورة النساء، الآية: 93) إلى آخر الآية"
قال:
"فإن الله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}."
قال ابن :
"عمر قد فعلنا "
وعنده أيضاً من طريق سعيد بن جبير فقال:
" وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنةً، وليس كقتالكم على الملك"
ذهب عمرو بن العاص إلى بن عمر وهو يريد أن يعلم ما في نفسه يريد القتال أم لا ، فقال:
" يا أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تخرج فنبايعك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أمير المؤمنين وأنت أحق الناس بهذا الأمر..؟"
قال :
"وقد اجتمع الناس كلهم على ما تقول..؟"
قال :
"نعم إلا نفير يسير"
قال:
" لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهجر لم يكن لي فيها حاجة"
قال فعلم أنه لا يريد القتال.
3 ـ بيعة يزيد(1/57)
ركب معاوية إلى مكة معتمرا فلما اجتاز بالمدينة مرجعه من مكة استدعى كل واحد من هؤلاء الخمسة(عبد الله بن عمر، وابن عباس ،والحسين رضي الله عنه ،وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر) فأوعده وتهدده بانفراده فكان من أشدهم عليه ردا وأجلدهم فى الكلام عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق وكان ألينهم كلاما عبد الله بن عمر بن الخطاب.
ولهذا قال معاوية لعبد الله ابن عمر فيما خاطبه به :
ـ "إنى خفت أن أذر الرعية من بعدى كالغنم المطيرة ليس لها راع."
فقال له ابن عمر:
ـ " إذا بايعه الناس كلهم بايعته ولو كان عبدا مجدع الأطراف "
وبالفعل بايع كل من ابن عمر وابن عباس يزيد بعد أن التف الناس حوله ، بينما استمر كل من الحسين وابن الزبير في معارضتهما ليزيد.
4 ـ وقعة الحرة
كانت وقعة الحرة سنة ثلاث وستين، وكان سببها أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية وولوا على قريش عبد الله بن مطيع ، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة بن أبى عامر، فلما كان فى أول هذه السنة أظهروا ذلك واجتمعوا عند المنبر ، فجعل الرجل منهم يقول قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتى هذه ويلقيها عن رأسه ، ويقول الآخر قد خلعته كما خلعت نعلى هذه حتى اجتمع شىء كثير من العمائم والنعال هناك ، ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم وهو عثمان بن محمد بن أبى سفيان بن عم يزيد، وعلى إجلاء بنى أمية من المدينة، فاجتمعت بنو أمية فى دار مروان بن الحكم ، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم.
إن الذين خرجوا على يزيد بن معاوية من أهل المدينة كانوا قد بايعوه بالخلافة ، وقد حذّر النبي – صلى الله عليه وسلم – من أن يبايع الرجل الرجل ثم يخالف إليه ويقاتله ، فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - :
" ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع ،فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا رقبة الآخر ".(1/58)
ومعركة الحرة تعتبر فتنة عظيمة ، وسبب خروج أهل المدينة على يزيد هوغلبة الظن بأن بالخروج تحصل المصلحة المطلوبة ، وترجع الشورى إلى حياة المسلمين ، ويتولى المسلمين أفضلهم .
ومن المعلوم أن أهل الحرّة متأولون ، والمتأول المخطئ مغفور له بالكتاب والسنة ، لأنهم لا يريدون إلا الخير لأمتهم ، فقد قال العلماء : " إنه لم تكن خارجة خير من أصحاب الجماجم والحرّة
فخروج أهل الحرة كان بتأويل ، ويزيد إنما يقاتلهم لأنه يرى أنه الإمام ، وأن من أراد أن يفرق جمع المسلمين فواجب مقاتلته وقتله ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وكان علي – رضي الله عنه – يقول :
" لو أن رجلاً ممّن بايع أبا بكر خلعه لقاتلناه ، ولو أن رجلاً ممّن بايع عمر خلعه لقاتلناه "
ولقداعتزل عبد الله بن عمر ابن الخطاب الناس ولم يخلع بيعته ليزيد ، وجمع بنيه وأهله ثم تشهد وقال:
" أما بعد فانا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله وإنى سمعت رسول الله يقول إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان وإن من أعظم الغدر إلا أن يكون الاشراك بالله أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم فى هذا الأمر فيكون الفيصل بينى وبينه"
5 ـ خروج الحسين
كان ابن عمر بمكة فبلغه أن الحسين بن على قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليال فقال:
ـ " أين تريد "
قال :
ـ "العراق"
فقال :
ـ " لا تأتهم"
فأبى ، فقال ابن عمر:
ـ " إنى محدثك حديثا إن جبريل أتى النبى صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا وإنك بضعة من رسول الله والله ما يليها أحد منكم أبدا وما صرفها الله عنكم إلا للذى هو خير لكم"
فأبى أن يرجع ، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال :
ـ"أستودعك الله من قتيل"
6 ـ خروج ابن الزبير(1/59)
بايع ابن عمر يزيد بالخلافة، والتزم ببيعته، وحاول اقناع ابن الزبير بذلك، ونهاه عن إثارة الفتنة والخروج على خلافة يزيد، وبعد وفاة معاوية بن يزيد بويع ابن الزبير بالخلافة، وطلب من ابن عمر أن يبايع له فرفض ابن عمر البيعة معللاً ذلك بقوله:
" لا أعطي صفقة يميني في فرقة ولا أمنعها في جماعة"
ولم يحاول ابن الزبير اجبار ابن عمر على البيعة .
ذكر البيهقي عن أبي العالية البراء أن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن صفوان رضي الله عنهما كانا ذات يوم قاعدين في الحِجْر، فمرَّ بهما ابن عمر رضي الله عنهما وهو يطوف بالبيت. فقال أحدهما لصاحبه:
" أتراه بقي أحد خيراً من هذا؟"
ثم قال لرجل:
" ادعه لنا إذا قضى طوافه"
فلما قضى طوافه وصلَّى ركعتين أتاه رسولهما فقال:
" هذا عبد الله بن الزبير وعبد الله بن صفوان يدعوانك"
فجاء إليهما، فقال عبد الله بن صفوان:
" يا أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تبايع أمير المؤمين؟ ـ يعني ابن الزبير ـ فقد بايع هل أهل العروض وأهل العراق وعامة أهل الشام..؟"
فقال: "والله لا أبايعكم وأنتم واضعوا سيوفكم على عواتقكم تَصَبَّبَ أيديكم من دماء المسلمين"
و قيل لا بن عمر رضي الله عنهما: لو أقمت للناس أمرهم، فإن الناس قد رَضوا بك كلهم..!"
فقال لهم:
"أرأيتم إن خالف رجل بالمشرق؟"
قالوا:
" إن خالف رجل قتل، وما قتل رجل في صلاح الأمة؟"
فقال:
" والله ما أحب لو أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أخذت بقائمة رمح وأخذت بزجه فقُتل رجل من المسلمين ولي الدنيا وما فيها "
وعن نافع قال:
" قيل لابن عمر رضي الله عنهما زمن ابن الزبير رضي الله عنهما والخوارج والخَشَبِيَّة:
" أتصلِّي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضاً؟"
فقال:
" من قال حيَّ على الصلاة أجبته، ومن قال: حي على الفلاح أجبته، ومن قال: حيَّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله قلت لا."
( الخشبيةهم أَصْحابُ المُخْتارِ بن أَبي عُبَيدة)(1/60)
... مرّ عبد الله بن عمر على ابن الزبير بعد صلبه فقال:
" السلام عليك أبا خبيب،السلام عليك أبا خُبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صوّاماً قوّاماً وصولاً للرحم، أما والله لأُمّة أنت شرُّها لأمة خير"
ثم نفذ عبد الله بن عمر فبلغ الحجّاج وقوف ابن عمر عليه وقوله، فأرسل إليه فأنزله عن جذِعة
ابن عمر رضي الله عنه والحجاج
... صار الحجّاج بن يوسف الثقفي والياً على مكة بعد مقتل ابن الزبير وكان عبد الله بن عمر يترك المدينة ويأتي مكة حاجاً أومعتمراً، ويرى أو يسمع من أفعال الحجاج وأقواله المخالفة للشرع فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر يرد عليه بكل جرأة وشجاعة .
وبعدما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير وتمت له السيطرة على مكة خطب الناس، وكان مما قال:
" إن ابن الزبير حرف كتاب الله وفي رواية غير كتاب الله"
فقام ابن عمر وقال:
" كذبت كذبت كذبت، ما يستطيع ذلك، ولا أنت معه "
وخطب الحجاج الناس يوم الجمعة، فأطال حتى كاد يذهب وقت الصلاة، فقام ابن عمر فقال:
" ايها الناس قوموا إلى صلاتكم "
فقام الناس، فنزل الحجاج فصلى، فلما انصرف قال لابن عمر:
" ما حملك على ذلك"
فقال:
" إنما نجيء للصلاة فصل الصلاة لوقتها، ثم بقبق بعد ذلك ما شئت من بقبقة"
كما أنكر ابن عمر على الحجّاج تهاونه في إشاعة حمل السلاح في مكة وتركه لرجال جيشه يضايقون به المسلمين ويعرضون حياتهم بذلك للخطر.
وجاء في كتاب الدكتور الصلابي القيم ( الدولة الأموية) ما يلي ـ بتصرف ـ :
"ومن ابرز ما يميز منهج ابن عمر في التعامل مع الفتن ما يلي:
1ـ تجنب القتال والحرص على حقن دماء المسلمين.
... 2ـ الحث على السمع والطاعة للإمام القائم ونهيه عن إثارة الفتنة وتفريق الكلمة.
3ـ استجابته لكل من دعاه إلى خير وتعاونه مع أطراف الخلاف فيما يخدم المصلحة.(1/61)
ورد أنه كان لا يأتي أميراً ـ في زمان الفتنة ـ إلا صلى خلفه وأدى إليه زكاة ماله وقيل له أتصلي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضنا؟ فقال: من قال حي على الصلاة أجبته، ومن قال حي على الفلاح أجبته، ومن قال حي على أخيك المسلم وأخذ ماله قلت لا.
4ـ إن ابن عمر رضي الله عنه لم يدعوا إلى وجوب الخضوع المطلق للسلطان
أو جواز البيعة القهرية.
وعلى ذلك فإن نظرة ابن عمر تقوم على أن الطاعة للخليفة الشرعي، الذي بويع بالإجماع أو اتفاق الأغلبية، واجبة ما لم يؤمر بمعصية، فإن ظلم أو جار فلا طاعة له، بل يجب مناصحته، فإن لم تُجْدِ المناصحة يجب عندئذ اللجوء إلى المعارضة الصريحة، ولكنه كان يكره اللجوء إلى العنف والاقتتال، لما في ذلك من سفك الدماء وإضعاف لوحدة الجماعة.
وكان أسلوبه هو الحوار واللجوء إلى الشورى، والابتعاد عن الاقتتال، وعندما بدأت الانشقاقات تظهر بين المسلمين اختار أن يكون محايداً وأن يعتزل الاقتتال، لا أن يعتزل الحياة السياسية .
والدليل علىذلك أنه عندما رأى ما يقوم به الحجّاج من مظالم عظيمة في الحرم المكي، وسفك الدماء به، والتعدي على حرمته غيّر رأيه في اعتزال الفتنة، بل وندم على أنه لم يقاتل في جيش علي بن أبي طالب ضد معاوية، الذي كان في نظره خارجاً عن شرعية علي وباغياً عليه.
فقد روي حبيب بن ثابت أن ابن عمر عندما حضرته الوفاة قال:
" ما أجد في نفسي شيئاً إلا أن لم أقاتل الفئة الباغية مع علي "
وقد مرّ معنا قول ابن عمر:
" ما آسى على شيء من هذه الدنيا إلا على ثلاث، ظمأ الهواجر ـ، ومكابدة الليل،وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا.
... إن مواقف ابن عمر السابقة تدحض وتبين ضعف الرأي الذي جعل ابن عمر رائداً لمدرسة الخضوع السياسي للسلطان، وخاصة أن ابن عمر هو الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث:(1/62)
" على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر في معصية فلا سمع ولا طاعة "
7 ـ معاوية الثاني
وحين ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها بعد أيام من توليها.. ذهب اليه مروان قال له:
هلم يدك نبايع لك، فانك سيد العرب وابن سيدها..
قال له ابن عمر: كيف نصنع بأهل المشرق..؟
قال مروان: نضربهم حتى يبايعوا.
قال ابن عمر:"والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما، ويقتل بسببي رجل واحد"..!!
8 ـ كان ضمن الجيش الذي فتح أفريقيا، وعرف بجيش العبادلة ، فقد كان يقوده عبد الله بن أبي سرح، وفيه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
وفاته
توفي بمكة سنة أربع وسبعين، وقيل غير ذلك.
وكان سبب قتله أن الحجاج أمر رجلا فسم زج رمح(الحديدةالتي تُرَكَّبُ في أَسفل الرمح) وزاحمه في الطريق، ووضع الزج في ظهر قدمه، وإنما فعل الحجاج ذلك لأنه خطب يوماً وأخر الصلاة، فقال له ابن عمر:
" إن الشمس لا تنتظرك"
فقال له الحجاج:
" فقد هممت أن أضرب الذي فيه عيناك!"
قال:
"إن تفعل فإنك سفيه مسلط!"
وقيل: إن الحجاج حج مع عبد الله بن عمر، فأمره عبد الملك بن مروان أن يقتدي بابن عمر، فكان ابن عمر يتقدم الحجاج في المواقف بعرفة وغيرها، فكان ذلك يشق على الحجاج، فأمر رجلاً معه حربة مسمومة، فلصق بابن عمر عند دفع الناس، فوضع الحربة على ظهر قدمة، فمرض منها أياماً، فأتاه الحجاج يعوده، فقال له:
" من فعل بك? "
قال:
" وما تصنع..؟"
قال: "قتلني الله إن لم أقتله!"
قال:
"ما أراك فاعلاً! أنت أمرت الذي نخسني بالحربة!"
فقال:
" لا تفعل يا أبا عبد الرحمن"
وخرج عنه، ولبث أياماً، ومات وصلى عليه الحجاج.
وقال سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص: إن ابن عمر قدم حاجاً، فدخل عليه الحجاج وقد أصابه زج رمح، فقال:
" من أصابك؟"
قال:
" أصابني من أمرتموه بحمل السلاح في مكان لا يحل فيه حمله"
رواه البخاري.(1/63)
عبد الله بن الزبير
الأمير الثائر
نسائم المدينة العليلة تصافح وجوه المهاجرين الذين عانقت أقدامهم ثراها بعد مغادرتهم مكة فرارا بدينهم ، والرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه ينشأ مجتمعا إسلاميا من الطراز الأول يؤاخي فيه بين المهاجرين وبين الأنصار الذين فتحوا عقولهم وقلوبهم ودورهم لإخوانهم المهاجرين.
اليهود وقد طووا قلوبهم على حقد دفين رغم تمتعهم بمعاهدة نادرة تمنحهم الأمن والأمان في دينهم ودنياهم ، وزمرة المنافقين التقوا على كره لهذا الدين الجديد ولحملته ، على الرغم من ودهم البادي .
وكعادة اليهود بدأوا ينشرون الإشاعات حول المسلمين ، وزعموا أنهم سحروهم وأكدوا أنه لن يولد للمسلمين ذكورا ، دليلا على تفوق دينهم وإيذانا بزوال هذا المجتمع الإسلامي العقيم الذي زاحمهم وأوشك أن يخبر العالم بطبيعتهم البغيضة وسوء نياتهم المبيتة تجاه من عداهم. زعم باطل ووهم عشش في عقولهم بعد أن رأوا عظم شوكة هذا الدين ، وتأكدوا من صلابة وقوة معتنقيه.
ومكة ـ التي تموج بغضب كفارها بعد فشلهم في وأد هذا الدين في مهدة طوال ثلاثة عشر سنة، وفشلهم في القضاء على نبيه الذى رمى في وجوههم التراب وغادر مكة محاطا بعناية الله وستره مع صاحبه الصديق في رحلة الهجرة المباركة ـ مازالت تضيق الخناق على المستضعفين بها وتحرمهم من الفرار بدينهم إلى المدينة المنورة بعناية الله ووجود الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم بها.
في وسط هذا الجو المشحون أستطاع بطلنا الثائر العظيم أن يهاجر بطريقته الخاصة، لم تمس قدماه رمال الصحراء الممتدة بين مكة والمدينة، ولم يمتطي راحلة ، بل هاجر محاطا بظلمات ثلاث إلى حيث النور، غادر مكة وهو في بطن أمه، وعلى مشارف المدينة المنورة وتحديدا في قباء صافح الحياة والوجود وتنفس أول هواء دخل رئتيه .
تحكي أمه العظيمة التي حملت به في مكة، تلك اللحظة فتقول:(1/64)
" فخرجت وأنا مُتمُّ ( متمة لحملها) فأتيت المدينة، فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة، فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له، فبرّك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام (بالمدينة) ففرحوا به فرحاً شديداً لأنهم قيل لهم:
" إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم."
ترى!.. كم هو محظوظ هذا الغلام الذي أبطل به الله سحر وأكاذيب اليهود!..كم هو محظوظ أن يكون أول شئ دخل جوفه هو ريق النبي العظيم صلوات الله وسلامه عليه ، وأن يكون الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه هو من سماه ودعى له بالبركة..!
أي طفولة تنتظر من هذا الغلام؟.. وأي فكر ممكن أن يجول بعقله ؟..وكم هو حجم الدين والإيمان الذي من الممكن أن يستقر بعقه وروحه؟!..وماذا عن شبابه وشيخوخته..؟!
أسئلة كثيرة وإجابات تدور كلها في فلك واحد، تنبأ عن حياة حافلة لشخص لن يترك الدنيا إلا بعد أن يترك فيها بصمته .
والآن، أما آن الآوان أن نتعرف على بطلنا العظيم...؟!
نسبه
إنه أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد.
كنيته: أبو بكر، وأبو خبيب.
وصفه صاحب الحلية بقوله:
الصائل بالحق، القائل بالصدق، المحنك بريق النبوة، المبجل لشرف الأمومة والأبوة، المشاهد في القيام، والمواصل للصيام، ذو السيف الصارم والرأي الحازم، مبارز الشجعان، وحافظ القرآن، التزق بالنبي لزوقاً، والتصق بالصديق لصوقاً، سبط عمة النبي صفية، وابن أخت زوجته الصديقة، الوفية عبد الله بن الزبير.
أبوه هو الزبير بن العوام.(1/65)
يجتمع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته ،وأمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد أصحاب الشورى أسلم وهو حدث وله ستة عشر سنة، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمه هي أسماء بنت أبي بكر( ذات النطاقين)
أسلمت قديما بمكة وبايعت رسول الله وهي ذات النطاقين، أخذت نطاقها فشقته باثنين فجعلت واحدا لسفرة رسول الله والآخر، عصاما لقربته ليلة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار فسميت ذات النطاقين.
عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك لها.
عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال:
" قدمت قتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسعد أحد بني مالك بن حسل على ابنتها أسماء بنت أبي بكر وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية بهدايا زبيب وسمن وقرظ فأبت أن تقبل هديتها أو تدخلها إلى بيتها وأرسلت إلى عائشة سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" لتدخلها ولتقبل هديتها"
قال : وأنزل الله تبارك وتعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) الآية.
عن هشام بن عروة أن المنذر بن الزبير قدم من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوة من ثياب مروية وقوهية رقاق عتاق بعدما كف بصرها قال فلمستها بيدها ثم قالت :
"أف ردوا عليه كسوته"
فشق ذلك عليه وقال:
" يا أمه إنه لا يشف"
قالت:
" إنها إن لم تشف فإنها تصف "
فاشترى لها ثيابا مروية وقوهية فقبلتها، وقالت :
"مثل هذا فاكسني."
عن فاطمة بنت المنذر أن أسماء بنت أبي بكر اتخذت خنجرا زمن سعيد بن العاص للصوص وكانوا قد استعروا بالمدينة فكانت تجعله تحت رأسها.
عنها أيضا أن أسماء بنت أبي بكر قالت :
"جمروا ثيابي (بخروها بالطيب)على المشجب وحنطوني ولا تذروا على ثيابي شيئا"(1/66)
قالوا وماتت أسماء بنت أبي بكر الصديق بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير بليال.
ذات يوم دخل عليها ابنها عبد الله وهي تُصلي فسمعها تقرأ هذه الآية (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) (الطور ، الآية : 27). فبكت واستعاذت... فقام وهي تستعيذ. فلما طال عليه أتى السوق وقضى منه حاجته.. ثم رجع فوجدها ما تزال في بكائها تستعيذ .
وكانت إذا أُصيبت بالصُّدَاع تضع يدها على رأسها وهي تقول: بذنبي وما يغفر الله أكثر وهذا فهم عميق لقول الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)
جده هو أبو البكرالصديق أول الخلفاء الراشدين .
وجدته لأبيه هي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خالته هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
وعمته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد.
طفولته
طفل كانت هذه ظروف مولده، ترى كيف كانت طفولته..؟!
مرّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن الزبير يلعب مع الصبيان، ففروا ووقف ابن الزبير فقال له عمر:
" مالك لم تفر معهم..؟
فقال :
"لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك."
وذكرت بعض المصادر التاريخية إنه كان ذات يومٍ يلعب مع الصبيان وهو صبي، فمربهم رجل فصاح عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقري وقال: يا صبيان أجعلوني أميركم وشّدوا بنا عليه ، ففعلوا.
عن سالم بن عبد الله بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم فى غلمة ترعرعوا ، منهم عبد الله ابن جعفر وعبد الله بن الزبير وعمر بن أبى سلمة ، فقيل يا رسول الله :
" لو بايعتهم فتصيبهم بركتك ويكون لهم ذكر..!"
فأتى بهم إليه فكأنهم تكعكعوا واقتحم عبد الله بن الزبير فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :
"إنه ابن أبيه "
وبايعه.
كن عمره آنذاك سبع أو ثماني سنوات.
وقد روى الزبير بن بكار عن هشام بن عروة قال :(1/67)
"إن أول ما فصح به عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف السيف فكان لا يضعه من فيه ، وكان الزبير إذا سمع ذلك منه يقول له:
" أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام."
حضر مع والده غزوة الأحزاب وفتح مكة ولم يشارك لصغرسنه .
عن معركة اليرموك قال عبد الله بن الزبير:
" كنت مع أبي عام اليرموك، فلما تعبأ المسلمون للقتال، لبس الزبير لآمته ثم جلس على فرسه ثم قال لموليين له:
"أحبسا عبد الله بن الزبير معكما في الرحل، فإنه غلام صغير."
وبعد انتهاء القتال شارك عبد الله في علاج الجرحى بعد انهزام المشركين
صفاته الجسدية
كان آدم نحيفاً ليس بالطويل، وكان بين عينيه أثر السجود، كثير العبادة مجتهداً شهماً فصيحاً، صوّاماً قوّاماً، شديد البأس ذا أنفة، له نفس شريفة وهمّة عالية، وكانت لحيته خفيفة صفراء ، ليس في وجهه من الشعر إلا قليلاً، وكانت له جُمة.
وقال الثورى عن الأعمش عن أبى الضحى :
" رأيت على رأس ابن الزبير من المسك ما لو كان لى كان رأس مال وكان يطيب الكعبة حتى كان يوجد ريحها من مسافة بعيدة."
وكان إذا خطب يشبه بجده أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) في حركاته وإشاراته ونبرات صوته.
وقال سعيد بن المسيب : "خطباء قريش في الإسلام، معاوية وابنه ،وسعيد وابنه وعبد الله بن الزبير"
وكان صيتاً، إذا خطب تجاوب الجبلان.
ويروي أن المسلمين عندما انتصروا على البربر فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وغنموا أموالاً وغنائم كثيرة جداً فبعث ابن أبي سرح بالبشارة مع ابن الزبير إلى عثمان فقص على عثمان الخبر وكيف جرى، فقال له عثمان:
" إن استطعت أن تؤدي هذا للناس فوق المنبر"
قال: نعم .فصعد ابن الزبير فوق المنبر فخطب وذكر لهم كيفية ما جرى، قال عبد الله:(1/68)
" فالتفت فإذا أبي الزبير في جملة من حضر، فلما تبينت وجهه كاد يرتج عليّ في الكلام من هيبته في قلبي، فزبرني بعينه وأشار إلي ليحظنني، فمضيت في الخطبة كما كنت، فلما نزلت قال: والله لكأني أسمع خطبة أبي بكر الصديق حين سمعت خطبتك يا بني"
ذكرأبونُعيم في الحلية عن كَيْسان مولى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "دخل سلمان رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا عبد الله بن الزبير معه طست يشرب ما فيها، فدخل عبد الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" ليُهريق ما فيها"
قال سلمان:
"ذاك شربه والذي بعثك بالحق"
قال:
«شربته؟»
قال نعم،
قال:
«لم؟»
قال: أحببت أن يكون دم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوفي، فقال بيده على رأس ابن الزبير وقال:
" ويل لك من الناس وويل للناس منك لا تمسُّك النار إلا قَسَم اليمين".
القرب من السلطان له ناره ونوره ،ولكرسي الحكم بريقه وأحكامه، والسلطان بقدر مايعطي يأخذ، فها هو أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه يلقى صاحبنا في موقفين تذكرهما كتب التاريخ . في الموقف الأول يعطي المال ويبدي الاحترام لصاحب وابن صاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الموقف الثاني تأخذه أبهة الكرسي ويحاول أن يذيق ابنه الصغير قدرا من عزة السلطان ، وربما يريد أن يلاطف ابن الزبير وأن يختبر بديهتة حين يفاجئ بلطمة مفاجئة من الصغير أمره به أبوه تدور معها رأسه.
تقول سطور التاريخ:
1ـ كان معاوية يلقى ابن الزبير فيقول:
" مرحباً بابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم"
ويأمر له بمائة ألف.
2ـ وقال الأصمعى :
دخل ابن الزبير على معاوية فأمر ابنا له صغيرا فلطمه لطمة دوخ منها رأسه، فلما أفاق ابن الزبير قال للصبى :
" أدن منى"
فدنا منه فقال له:
" ألطم معاوية "
قال :
" لا أفعل "
قال:
" ولم ..؟"
قال :
"لأنه أبى "(1/69)
فرفع ابن الزبير يده فلطم الصبى لطمة جعل يدور منها كما تدور الدوامة فقال معاوية :
"تفعل هذا بغلام لم تجز عليه الأحكام"
قال:
" إنه والله قد عرف ما يضره مما ينفعه فأحببت أن أحسن أدبه."
قال أبوسليمان الداراني يقول خرج ابن الزبير في ليلة مقمرة على راحلة له فنزل في تبوك فالتفت فاذا على الراحلة شيخ ابيض الرأس واللحية فشد عليه ابن الزبير فتنحى عنها فركب ابن الزبير راحلته ومضى قال فناداه :
"والله يا ابن الزبير لو دخل قلبك الليلة مني شعرة لخبلتك"
قال: ومنك أنت يا لعين يدخل قلبي شيء ..؟!
وإذا حاولنا أن نتلمس قبسا من علاقة ابن الزبير رضي الله عنه بربه، ترى ماذا تقول لنا كتب التاريخ..؟
عبادته
كان عالماً عابداً مهيباً وقوراً، كثير الصيام والصّلاة شديد الخشوع قويَّ السياسية.
قال عنه مجاهد:
" لم يكن أحد يطيق ما يطيقه ابن الزبير من العبادة"
روي ابن الزبير كان يوماً يصلي فسقطت حية من السقف فطوقت بطن ابنه هاشم فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل واجتمعوا على قتل تلك الحية، فقتلوها وسلم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت ولا درى بما جرى حتىسلم.
وقال عنه ثابت البناني:
" كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنَّه خشبة منصوبة لا تتحرك"
وعن ابن أبي مليكة قال لي عمر بن عبد العزيز:
" إن في قلبك من ابن الزبير"
قلت:
" لو رأيته ما رأيت مناجياً ولا مصلياً مثله"
قال عمر بن عبدالعزيز يوما لابن أبي مليكة:
"صف لنا عبدالله بن الزبير"
فقال:
" والله ما رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه..ولقد كات يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليها..وكان يركع أو يسجد، فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله،لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده إلا جدارا، أو ثوبا مطروحا..ولقد مرّت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي، فوالله ما أحسّ بها ولا اهتز لها، ولا قطع من أجلها قراءته، ولا تعجل ركوعه.!!"
وقال عثمان بن طلحة:(1/70)
" كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاثة لا شجاعة ولا عبادة ولا بلاغة "
وقال يوسف بن الماجشون:
" قسم ابن الزبير الدهر على ثلاث ليال، فليلة هو قائم حتى الصباح، وليلة هو راكع حتى الصباح، وليلة هو ساجد حتى الصباح."
وقال يزيد بن إبراهيم التستري:
" ركع ابن الزبير يوماً ركعة، فقرأنا البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، وما رفع رأسه"
وقال عن عمرو بن دينار:
" كان ابن الزبير يصلي في الحجر، وحجر المنجنيق يصيب طرف ثوبه، فما يلتفت إليه"
عن أبي إسحاق قال:
" ما رأيت أحداً أعظم سجدة بين عينيه من ابن الزبير"
وعن أم جعفر بنت النعمان أنها سلمت على أسماء بنت أبي بكر، وذكر عندها عبد الله بن الزبير فقالت:
" كان ابن الزبير قوام اليل صوام النهار، وكان من يسمى حمامة المسجد."
وقال ميمون بن مهران:
" رأيت عبد الله بن الزبير يواصل من الجمعة إلى الجمعة، فإذا أفطر استعان بالسمن."
قال مجاهد قال:
" بلغ ابن الزبير رضي الله عنهما من العادة ما لم يبلغ أحد، وجاء سيل فحال بين الناس وبين الطواف، فجاء ابن الزبير فطاف أسبوعاً سباحة"
عن عمر بن قيس:
"وكنت إذا نظرت إليه في أمر الدنيا قلت هذا رجل لم يرد الله طرفة عين، وإذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين."
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن المنكدر قال:
" لو رأيت ابن الزبير وهو يصلِّي لقلتَ: عصنُ شجرة يصفِّقها الريح، إن المنجنيق ليقع ههنا وهننا ما يبالي"
وعن محمد بن حميد قال:
" كان عبد الله بن الزبير يحيي الدهر أجمع، ليلة قائما حتى يصبح، وليلة يحييها راكعا حتى الصباح، وليلة يحييها ساجدا حتى الصباح."(1/71)
كان عبد الله بن الزبير كريماً يعطي حقوق الرعية كاملة، ويزيد إلى من يستحق، ولا يدفع إلا بطرق مشروعة، ولكن اتهمه بعضهم بالبخل إذ لم يكن مبذراً يعطي عن يمين وعن شمال من لا يستحق، ولم يكن مسرفاً فلا يدفع إلا قدر الحاجة، ولا يُقدّم للمدّاحين والمتزلّفين، وهم عادة أصحاب ألسنة حادة ومنها تخرج الشائعات الهادفة، غير أن ابن الزبير لم يكن يُبالي بما يُقال، ما دام أنه على الجادة. كان يتأسى بالخلفاء الراشدين وينظر إلى ما بيده من مال أنه ليس ملكاً له وإنما هو للمسلمين ومن ثمّ لا ينفقه إلا في وجوهه الشرعية فالذين عاشوا في ذلك العصر ورأوا سياسة ابن الزبير المتشددة وقارنوها بسياسة الأمويين في الإنفاق لكسب الأنصار والمؤيدين والشعراء اتهم بعضهم ابن الزبير بالبخل.
قدم حمزة بن عبد الله بن الزبير على أبيه بعد أن عزل من العراق فلما سأله أبوه عن المال أخبره بأنه وزعه على قومه فوصلهم به فقال له ابن الزبير:
" مال ليس لك ولا لأبيك "
وسجنه حرصا على المال العام.
علاقتة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال:
" أعطت عائشة للذي بشرها أن ابن الزبير لم يقتل (يوم الجمل)عشرة آلاف درهم."
عن عروة قال:
" لم يكن أحد أحب إلى عائشة بعد رسول الله وبعد أبي بكر من عبد الله بن الزبير."
وفي رواية أخرى:
عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال:
" كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أحب البشر إلى عائشة رضي الله عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه، وكان أبرّ الناس بها، وكانت لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله إلاَّ تصدقت، فقال ابن الزبير: "ينبغي أن يؤخذ على يديها"
فقالت:
" أيُؤخذ على يدي؟ عليَّ نَذْر إن كلمته"(1/72)
فاستشفع إليها برجال من قريش وبأخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة فامتنعت، فقال له الزهريون أخوال النبي صلى الله عليه وسلم منهم عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يَغُوث والمِسْوَر بن مَخْرَمة رضي الله عنهما:
" إذا استأذنَّا فاقتحم الحجاب، ففعل"
فأرسل إليها بعشر رقاب فأعتقتهم، ثم لم تزل تعتقهم حتى بلغت أربعين.
وفي هذا المقام يجدر بنا أن نتوقف عند بعض النقاط الناصعة في سجل حياة ثائرنا الشهيد.
مواقف مشرفة
1 ـ نسخ القرآن
عن أنس:
إن عثمان أمر زيد بن ثابت، وابن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوا القرآن في المصاحف، وقال:
"إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم."
2 ـ جهاده في شمال أفريقيا(1/73)
انقطع خبر المسلمين في إفريقية عن عثمان بن عفان رضي الله عنه فسيّر إليهم عبد الله بن الزبير في جماعة ليأتيهم بأخبارهم، فسار مجداً ووصل إليهم، وأقام معهم، ولمّا وصل، كثر الصَّياح، والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير عن الخبر، فقيل: قد أتاهم عسكر، ففتَّ ذلك في عضده، ورأى عبد الله بن الزبير قتال المسلمين كلّ يوم من بكرة إلى الظُّهر فإذا أُذِّن بالظهر عاد كل فريق إلى خيامه، وشهد القتال من الغد فلم ير ابن سعد معهم فسأل عنه فقيل: إنه سمع منادي جرجير يقول: من قتل عبد الله بن سعد، فله مئة ألف دينار، وأزوِّجه ابنتي وهو يخاف فحضر عنده، وقال له: تأمر منادياً ينادي: من أتاني برأس جرجير، نفّلته مئة ألف، وزوجّته ابنته واستعملته على بلاده ففعل ذلك فصار جرجير يخاف أشدَّ من عبد الله. ثمّ إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إنَّ أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين، وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غداً جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهِّبين، ونقاتل نحن الرُّوم في باطن العسكر إلى أن يضجروا ويملُّوا فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون، ركب من كان في الخيام من المسلمين، ولم يشهدوا القتال، وهم مستريحون ونقصدهم على غرّة فلعلَّ الله أن ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصّحابة، واستشارهم، فوافقوه على ذلك، فلمَّا كان الغد، فعل عبد الله ما اتفقوا عليه وأقام جميع شُجعان المسلمين في خيامهم، وخيولهم عندهم مُسَرَّجة مضى الباقون، فقاتلوا الرّوم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزٌّبير، وألح عليهم بالقتال، حتى أتعبهم، ثم عاد عنهم، والمسلمون، فكل الطائفتين ألقى سلاحه، ووقع تعباً فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزير من كان مستريحاً من شجعان المسلمين وقصد الرّوم فلم يشعروا بهم حتى خالطهم، وحملوا حملة رجل واحد وكبَّروا فلم يتمكن الرّوم من لبس سلاحهم حتى غشيهم(1/74)
المسلمون وقتل جرجير قتله ابن الزبير، وانهزم الرّوم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذت ابنة الملك جرجير سبية، ونزل عبد الله بن سعد المدينة، وحاصرها حتى فتحها، ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الرَّاجل ألف دينار، ولما فتح مدينة سبيطلة، بثَّ جيوشه في البلاد فبلغت قفصة، فسبوا، وغنموا وسيَّر عسكراً إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد، فحصره، وفتحه بالأمان، فصالحه أهل إفريقية ـ ونفّل عبد الله بن الزبير ابنة الملك، وأرسله ابن سعد إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية.
قال ابن الزبير:
" هجم علينا جرجير في عسكرنا في عشرين ومائة ألف، فأحاطوا بنا ونحن في عشرين ألفاً، يعني في غزوة إفريقية، قال: واختلف الناس على ابن أبي سرح، فدخل فسطاطه، ورأيت غرة من جرجير بصرت به خلف عساكره على برذون أشهب، معه جاريتان تظلان عليه بريش الطواويس، بينه وبين جيشه أرض بيضاء، فأتيت ابن أبي سرح، فندب لي الناس، فاخترت ثلاثين فارساً، وقلت لسائرهم: البثوا على مصافكم، وحملت وقلت للثلاثين: احموا لي ظهري، فخرقت الصف إليه، فخرجت صامداً، وما يحسب هو وأصحابه إلا أني رسول إليه، حتى دنوت منه، فعرف الشر، فتبادر برذونه مولياً، فأدركته فطعنته، فسقط، ثم احتززت رأسه، فنصبته على رمحي، وكبرت، وحمل المسلمون، فارفض العدو ومنح الله أكتافهم."
وقال معمر، عن هشام بن عروة قال:
"أخذ عبد الله بن الزبير من وسط القتلى يوم الجمل، وبه بضع وأربعون ضربة وطعنة".
3ـ دفاعه عن عثمان يوم الدار
كان ابن الزبير من الذين كانوا مع عثمان بن عفان يوم حصر من قبل الغوغاء، وكان يلح على عثمان أن يسمح له بقتال الغوغاء ولكن عثمان كان يرفض ذلك ولما أمر عثمان من في الدار بالخروج أصر ابن الزبير ومروان بن الحكم على البقاء معه والدفاع عنه وقد أصيب ابن الزبير أثناء الحصار بإصابات بالغة كادت تودي بحياته(1/75)
و تذكر لروايات من أن عثمان أمّر ابن الزبير يوم الدار وقال:
" من كانت لي عليه طاعة فليطع عبد الله بن الزبير"
وفي رواية:
" أنه أمره أن يصلي بأهل داره فترة الحصار"
وكان ابن الزبير يصلي بهم في صحن الدار.
4ـ في معركة الجمل
كان ابن الزبير يوم الجمل على الرجّالة وجُرح يومئذ تسع عشرة جراحة.
5ـ تولى أمر إفريقية معاوية بن حديج، فكان عبد الله بن الزبير ساعده الأيمن
بالفتح والجهاد وقد سار معاوية بن حديج في جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل، وفتح بنزرت ـ سنة أحد وأربعين، كما دخل (القيروان) سنة خمس وأربعين، وبث السرايا في البلاد، وبعث إلى (سوسة) عبد الله بن الزبير ففتحها وكان عبد الله بن الزبير كذلك في جيش يزيد بن معاوية الذي سار نحو القسطنطينية.
6ـ إعادة بناء الكعبة.
هدم ابن الزبير الكعبة وذلك لأنه مال جدارها من رمى المنجنيق فهدم الجدار حتى وصل إلى أساس إبراهيم وكان الناس يطوفون ويصلون من وراء ذلك وجعل الحجر الأسود فى تابوت فى سرق من حرير وادخر ما كان فى الكعبة من حلى وثياب وطيب عند الخزان ثم لأعاد بناءها على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يبنيها عليه من الشكل .
وذلك كما ثبت فى الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" قال لولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة ولأدخلت فيها الحجر فان قومك قصرت بهم النفقة ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا يدخل الناس من أحدهما ويخرجون من الآخر ولألصقت بابها بالأرض فان قومك رفعوا بابها ليدخلوا من شاؤا ويمنعوا من شاؤا "
فبناها ابن الزبير على ذلك كما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و لما غلبه الحجاج بن يوسف فى سنة ثلاث وسبعين هدم الحائط الشمالى، وأخرج الحجر كما كان أولا ،وأدخل الحجارة التى هدمها فى جوف الكعبة فرصها فيه فارتفع الباب الشرقي وسد الغربى وتلك آثاره إلى الآن وذلك بأمر عبد الملك بن مروان.(1/76)
حين تصطدم المصالح تتبخر الصداقات ، وعلى صخرة الملك تتهاوى قامات كنت تظنها شامخة، وحين تختلف الرؤى تتعدد التفاسير ويركب كل شخص حلمه كجواد جامح ليصل به إلى حيث تكمن أمانيه، وتلعب تلك المضغة الكامنة بين الضلوع والمسماه بالقلب دورها، والفيصل هنا يظل منوطا بقدر الإيمان والإخلاص مع الله ، ونبل القصد الذي هو غاية كل شريف .وعبد الله بن الزبير وإن كان يقر لمعاوية بالأمر إلا أن موقفه كان رفضا واضحا من تولي يزيد للسلطة بعد أبيه، وفي هذا السياق من الأحداث يبدأ في لملمة المسلمين من حوله لظنه في أحقيته بالأمر لاسيما بعد مقتل الحسين رضي الله عنه.ولذا فقد كان يقول في دعائه:
" والله لا أريد إلا الإصلاح وإقامة الحق، ولا التمس جمع مالاً ولا إدخار،اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي، وجاهدت فيك عدوك فاثبني ثواب المجاهدين"
وقال عبد الله بن صفوان بن أمية ( وهو من أخلص رجاله) لابن الزبير:
" إني والله ما قاتلت معك إلا عن ديني"
ولقد مرت مرحلة البيعة لابن الزبير بالعديد من محطات الصعود والهبوط ، ولذا فمن الضروري دراسة هذه الحقبة بشئ من التفصيل، مع التركيز على النقاط الرئيسية في هذا المضمار.
البيعة
تمت البيعة لابن الزبير سنة أربع وستين.
وحج ثماني أوعشر سنين بالناس .
استشهد فى يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين .
يقول الدكتورعلي محمد الصلابي في كتابه القيم( الدولة الأموية) ـ بتصرف ـ:(1/77)
" بعد موت يزيد بن معاوية لم يكن هناك من خليفة وإذا كان يزيد قد أوصى لابنه معاوية فإن هذا لا يكفي للبيعة، إذ لا بيعة دون شورى، إضافة إلى أن الذين قد بايعوا معاوية بن يزيد لا يزيدون على دمشق وما حولها وأعيان بني كلب. هذا مع أن معاوية بن يزيد لم يعش طويلاً وترك الأمر شورى ولم يستخلف أحدا، ولم يوصي إلى أحد، وكان عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما قد بويع له في الحجاز، وفي العراق وما يتبعه إلى أقصى مشارق ديار الإسلام، وفي مصر وما يتبعها إلى أقصى بلاد المغرب، وبايعت الشام أيضاً إلا بعض جهات منها"
ولم يكن رافضاً بيعة ابن الزبير في الشام إلا منطقة البلقاء ، وهكذا تمّت البيعة لعبد الله بن الزبير في ديار الإسلام وأصبح الخليفة الشرعي وعين ابن الزبير نوّابه على الأقاليم ، ولذلك صرّح العديد من العلماء والمؤرخين بأن بيعة ابن الزبير بيعة شرعية، وأنه أولى بها من مروان بن الحكم.
فيروي ابن عبد البر عن مالك أنه قال:
" إن ابن الزبير كان أفضل من مروان وكان أولى بالأمر منه، ومن ابنه عبد الملك" ويقول ابن كثير:
" ثم هو ـ أي ابن الزبير ـ الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة وهو أرشد من مروان بن الحكم حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر"
ويؤكد كل ابن حزم والسيوطي ، شرعية ابن الزبير ويعتبران مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغيين عليه خارجين على خلافته .
كما يؤكد الذهبي شرعية ابن الزبير ويعتبره أمير المؤمنين.
أسباب خروج ابن الزبير على يزيد
يقول الدكتور الصلابي:(1/78)
" كان مقصد ابن الزبير رضي الله عنه ومن معه ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين كالمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من فضلاء عصرهم هو تغيير الواقع بالسيف لما رأوا تحول الخلافة إلى وراثة ملك، ولما أشيع حول يزيد من إشاعات أعطت صورة سيئة للخليفة الأموي في دمشق والذي ينبغي أن يفهم أن ابن الزبير قام لله، وكان يرى رضي الله عنه أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله ويضع حداً لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة ولهذا لم يدع لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية
إن الحسين بن علي وابن الزبير وأهل الحرَّة رضي الله عنهم كان خروجهم من أجل الشورى لأسباب مشروعة منها:
1 ـ دفاعاً عن حقهم الذي جعل الله لهم (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).
2 ـ أن هذا الاغتصاب منكر وظلم تجب إزالته .
3 ـ تمسكا بالسنة وهدى الخلفاء الراشدين في باب الخلافة
موقف يزيد من ابن الزبير
لم يحاول يزيد في بداية الأمر أن يعمل عملاً من شأنه أن يعقّد النزاع مع ابن الزبير، ولهذا فلقد أرسل إليه رسالة يذكّره فيها بفضائله ومآثره في الإسلام، ويحذره في الفتنة.(1/79)
لم يستجب ابن الزبير لدعوة يزيد السلمية ورفض بيعته وأقسم يزيد على أنه لا يقبل بيعة ابن الزبير حتى يأتي إليه مغلولاً، ولقد حاول معاوية بن يزيد أن يثني والده عن هذا القسم، وذلك لمعرفته بابن الزبير، وأنه سيرفض القدوم على يزيد وهو في الغل، وكان معاوية بن يزيد صالحاً تقياً ورعاً يجنح للسلم ويخشى من سفك دماء المسلمين، وساند معاوية في رأيه عبد الله بن جعفر، ولكن يزيد أصر عل رأيه، وحتى يخفف يزيد من صعوبة الموقف على ابن الزبير، فقد بعث بعشرة من أشراف أهل الشام، وأعطاهم جامعة من فضة، وبرنس خزوفي رواية أخرى: أن يزيد بعث لابن الزبير بسلسلة من فضة وقيد من ذهب، وجامعة من فضة. وعند وصول أعضاء الوفد إلى مكة تكلم ابن عضاة الأشعري، وقال: يا أبا بكر: قد كان من أثرك في أمر أمير الخليفة المظلوم ـ يعني عثمان بن عفان ـ ونصرتك إياه يوم الدار مالا يجهل، وقد غضب أمير المؤمنين بما كان من إبائك مما قدم عليك فيه النعمان بن بشير، وحلف أن تأتيه في جامعة خفيفة لتحل يمينه، فالبس عليها برنساً فلا ترى، ثم أنت الأثير عند أمير المؤمنين الذي لا يخالف في ولاية ولا مال استأذن ابن الزبير الوفد بضعة أيام يفكر ويستشير، فعرض الأمر على والدته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها فقالت: يا بني عش كريماً ومت كريماً ولا تمكن بني أمية من نفسك، فتلعب بك، فالموت أحسن من هذا ، وجاء رد ابن الزبير على الوفد بالمنع.
وأخذ ابن الزبير يبسط لسانه في تنقص يزيد وقال: لقد بلغني أنه يصبح سكران ويمسي كذلك ثم قال: يا ابن عضاة: والله ما أصبحت أرهب الناس ولا البأس، وإني لعلى بينة من ربي، فإن أقتل فهو خير لي، وإن أمت حتف أنفي فلله يعلم إرادتي وكراهتي لأن يعمل في أرضه بالمعاصي، وأجاب الباقين بنحو جوابه. ثم قال ابن الزبير: اللهم إني عائد ببيتك ولقب نفسه عائذ الله، وكان يسمى العائذ.(1/80)
كان قرار يزيد بضرورة القضاء على ابن الزبير بكل الطرق، فشنت الحملات العسكرية ضده كما يلي:
1ـ حملة عمرو بن الزبير
كتب يزيد إلى عمرو بن سعيد بن العاص واليه على المدينة أن يوجه له جُنداً، فعين عمرو بن سعيد بن العاص على قيادة هذه الحملة عمرو بن الزبير بن العوام أخو عبد الله بن الزبير، وكان عمرو بن الزبير قد ولي شرطة المدينة لعمرو بن سعيد، وكان شديد العداوة لأخيه عبد الله وقام بضرب كل من كان يتعاطف مع ابن الزبير، وكان ممن ضرب المنذر بن الزبير، وابنه محمد بن المنذر ، وانتهى الأمر بهزيمة عمرو بن الزبير. وأقام عبد الله عمرو بن الزبير ليقتص الناس منه، وتذكر المصادر أن عمرو بن الزبير تعرض لتعذيب شديد من جراء ذلك ومات تحت الضرب.
2ـ حملة الحصين بن نمير
من أكبر أخطاء يزيد وعمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة قرارهم بغزو مكة للقضاء على ابن الزبير رغم معارضة الصحابة ، وبالفعل أرسل الجيش بقيادة مسلم بن عقبة النميري الذي هلك في طريقه لابن الزبير وتولى القيادة من بعده الحصين بن نمير السكوني .
الذي قام بنصب المنجنيق ، وفقد ابن الزبير أهم مستشاريه ومناصريه، وهو المسور بن مخرمة بعد أن أصابه بعض أحجار المنجنيق، وانكشفت مواقع ابن الزبير أمام الحصين بن نمير، ولم يبق مأمن لابن الزبير من أحجار المنجنيق سوى الحجر وحوصر ابن الزبير حصاراً شديداً ولم يعد يملك إلا المسجد الحرام فقط ، وفي أثناء احتدام المعارك بين ابن الزبير والحصين بن نمير احترقت الكعبة وأصبح ابن الزبير ساجداً ويقول:
" اللهم إني لم أتعمد ما جرى فلا تهلك عبادك بذنبي، وهذه ناصيتي بين يديك."
ولما وصل الحصين خبر موت يزيد بعث الحصين إلى ابن الزبير ليفاوضه في الخلافة والخروج معه إلى الشام لمبايعته فقال:
" أما أن أسير إلى الشام فليس فاعلاً وأكره الخروج من مكة، ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم وعادل فيكم"(1/81)
فرفض الحصين ثم أن عبد الله بن الزبير طلب من الحصين مهلة لاستشارة أصحابه ولكن أصحابه رفضوا الخروج إلى الشام.
موقف مروان بن الحكم من ابن الزبير
هم مروان بن الحكم بالذهاب إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه الأمان ولكن سائر الجند والقادة بزعامة حسان بن مالك زعيم القبائل اليمنية ـ الذين كانوا أقوى المؤيدين لبني أمية وهم أخوال يزيد رفضوا أن يخرج الأمر عن بني أمية وأن يبايعوا لابن الزبير، فحدث خلاف شديد ولبث الشام ستة أشهر بدون إمام، وأخيراً اتفق القوم على أن يعقدوا مؤتمراً للشورى، يبحثون فيه عمن يصلح للخلافة ويصلوا في ذلك إلى قرار.ولذلك تم عقد مؤتمرالجابية.
مؤتمر الجابية
رجحت كفة مروان لعوامل كما يصور ذلك روح بن زنباع الجذامي أحد زعماء الشام. حيث قال: أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب وصحبته من رسول الله، وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمه محمد الضعيف، وأما ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير، ويدعون إليه من أمره، فهو والله كما يذكرون، إنه لابن الزبير،، حواري رسول الله وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق، ذات الناطقين، وهو بعد كما تذكرون في قدمه وفضله ولكن ابن الزبير منافق قد خلع خليفتين، يزيد وابنه معاوية بن يزيد، وسفك الدماء وشق عصا المسلمين، وليس بصاحب أمر أمه محمد منافق، وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدع قط إلا كان مروان بن الحكم ممن يشعب ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير، ويستشبّوا الصغير، يعني بالكبير مروان بن الحكم وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية، فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان ومن بعده لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص بعد خالد.
معركة مرج راهط(1/82)
تمخض مؤتمر الجابية عن انتقال الخلافة الأموية من البيت السفياني إلى البيت المرواني وانعقدت البيعة لمروان وحل مؤتمر الجابية، مشكلة الخلافة بين بني أمية
كان الضحاك بن قيس، زعيم القيسيين المناصر لابن الزبير قد ذهب إلى مرج راهط وأنضم إليه النعمان بن بشير الأنصاري والي حمص وزفر بن الحارث الكلابي، أمير قنسرين، وكان واضحاً أنهم يستعدون لمواجهة الأمويين فكان على مروان أن يثبت أنه أهل للمسئولية
حقق أنصار مروان أول نجاح لهم بالاستيلاء على دمشق وطرد عامل الضحاك عنها، وكان أول فتح على بني أمية.
واتجه إلى مرج راهط، فدارت المعركة الشهيرة التي حسمت الموقف في الشام لبني أمية ومروان حيث هزم القيسيون، أنصار بن الزبير، وقتل الضحاك بن قيس، وعدد كبير من أشراف قيس في الشام، واستمرت المعركة حوالي عشرين يوماً، وكانت في نهاية سنة 64 هـ ، وقيل في المحرم سنة 65 هـ
نتائج مرج راهط:
ـ أعادت هذه المعركة الملك لبني أمية بعد أن كان مهدداً بالزوال، وحوّلت السلطة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني.
ـ تخلص الأمويين من الضحاك بن قيس الذي كان يعتبر معارضاً قوياً للأمويين، وتابعاً مخلصاً لابن الزبير.
ـ سقطت قنسرين في يد الأمويين وهرب واليها زفر بن الحارث فتوجه إلى قرقيسيا وكان عليها عياض الحرثي حسب قول ابن الأثير.
ـ سقطت فلسطين وهرب ناتل بن قيس الجذامي إلى ابن الزبير.
ـ سقطت حمص وقتل واليها النعمان بن بشير.
ـ اندلع الصراع بين اليمنية والقيسية ودخلت العصبية القبلية مسرح السياسة العليا للدولة وإذا كان يوم مرج راهط قد انتصر فيه الكلبيين فقد كان نصراً مؤقتاً، وكان الصراع بين العصبتين القيسية واليمنية من أسباب انهيار الدولة الأموية.
ضم مصر إلى الدولة الأموية ومحاولة إعادة العراق والحجاز(1/83)
ولم يكن استيلاؤه علي مصر صعباً، فمعظم المصريين هواهم مع بني أمية، وبيعتهم لابن الزبير لم تكن خالصة وإنما كانت بيعة ضرورة ودعا مروان شيعة بني أمية بمصر سراً وهذا ما يفسر سهولة استيلاء مروان على مصر فقد سار إليها بجيشه، ودارت بين مروان وابن جحدم عدة معارك انتصر فيها مروان وهرب ابن جحدم، ثم جاء إلى مروان طالباً العفو على أن يخرج إلى مكة، فعفا عنه، وكان نجاح مروان في استرداد مصر من جمادي الآخرة سنة 65هـ
وفاة مروان بن الحكم وتولية العهد لعبد الملك
ختم مروان بن الحكم أعماله بعقد البيعة لولديه عبد الملك بن مروان وعبد العزيز بن مروان مجسداً لمبدأ التوريث، وكان ذلك قبل وفاته بأقل من شهرين وبعد نجاحه بإعادة مصر إلى الحكم الأموي، بدأ مروان بالتخطيط لاستبعاد خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد الأشدق من ولاية العهد الذي قرر في مؤتمر الجابية، فتزوج أم خالد بن يزيد وعمل للحصول على موافقة حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بتولية العهد لولديه وإبعاد خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد الأشدق فوافقه حسان على ذلك.
والملاحظ أن مروان بن الحكم نقض بعض مقررات مؤتمر الجابية المتعلقة بولاية العهد ولم يلتزم بعهوده وكان راغباً في حصر الخلافة في أبنائه، فآثر إسقاط وعوده ونقضها على المحافظة على طموحاته ورغباته، توفي مروان بن الحكم بدمشق لثلاث خلون من شهر رمضان سنة 65هـ وهو ابن ثلاث وستين سنه. وقد اختلف في سبب وفاته إذ وردت ثلاث روايات فيها الأولى ـ ترى أنه توفي بالطاعونوتذهب الأخرى إلى أن زوجته أم خالد بن يزيد سقته سماً فمات أو وضعت وسادته على رأسه حتى مات، وثالثة ترى أنه توفي وفاة طبيعية.
موقف عبد الملك بن مروان من ابن الزبير
... كان له من ابن الزبير موقفان متناقضان: أما الأول:
فكان قبل أن يتولى الخلافة يستعيذ بالله أن يبعث خليفة إلى مكة جيشاً ليقتل ابن الزبير ومن معه، وكان يرى في ذلك إثماً كبيراً، قال يحي الغساني:(1/84)
" لما نزل مسلم بن عقبة المدينة، دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إلى جنب عبد الملك فقال لي عبد الملك:
أمن هذا الجيش أنت؟
فقلت:
نعم.
قال:
ثكلتك أمك!! أتدري إلى من تسير؟ إلى أول مولود ولد في الإسلام (بعد الهجرة) وإلى ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى ابن ذات النطاقين، وإلى من حنّكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما والله لو جئته نهاراً لوجدته صائماً، ولئن جئته ليلاً لوجدته قائماً، فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبَّهم الله جميعاً في النار."
وأما موقفه الثاني: فكان بعد الخلافة ويأتي عكس الأول تماماً، عندما جهز عبد الملك جيشاً يقوده الحجاج بن يوسف الثقفي، وبعث به إلى مكة حيث كان يتحصن ابن الزبير بالكعبة، وظل محاصراً مكة حتى قُتل عبد الله بن الزبير.
حركات سياسية مؤثرة
في هذه الأثناء كانت هناك حركتان سياسيتان تنخران في جسد الأمة ، وكان على ابن الزبير أن يواجههما إما عاجلا أو آجلا، تلك الجماعتان هما الخوارج ، وجماعة المختار بن يوسف الثقفي.
موقف الخوارج من بيعة ابن الزبير(1/85)
تحالف الخوارج مع ابن الزبير في الدفاع عن مكة حتى وفاة يزيد، فلما زال الخطر، دخل عليه قادتهم فأرادوا معرفة رأيه في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأجابهم فيه بما يسوءهم وذكر لهم ما كان متصفاً به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان والسِّيرة الحسنة والرُّجوع إلى الحق إذا تبين له، فعند ذلك نفروا منه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها بابدانهم وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة التي لا تنضبط ولا تنحصر لأنها مفرّعة على الجهل وقوة النُّفوس والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البُلدان، وتصدّى لقتالهم الفارس الهمام، البطل الكبير المهلب بن أبي صفرة، فقد كتب ابن الزبير له بأن يتولى حربهم فأستجاب لذلك، وكان على رأس الخوارج الأزارقة نافع بن الأزرق واستطاع المهلب أن يهزمهم وقتل أميرهم نافع بن الأزرق وانهزمت الخوارج نحو فارس.
وبلغ عبد الله بن الزبير ما كان من عزم عامله بالبصرة من الهرب حيب سرت إشاعة مقتل المهلب، فعزله وولى أخاه مصعباً، فسار مصعب حتى قدمها وتولَّى أمر جميع العراقين وفارس والأهواز.
حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي
كان المختار من كبراء ثقيف، وذوي الرأي، والفصاحة، والشجاعة والدّهاء وقلة الدين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" يكون في ثقيف كذاب ومبير "
فكان الكذاب هذا، ادَّعى أنَّ الوحي يأتيه، وأنه يعلم الغيب، وكان المبير الحجاج، قبّحهما الله، ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي على مسرح الأحداث بعد موت يزيد بن معاوية سنة 64هـ، وهو من الشخصيات التي حفل بها العصر الأموي، والتي كانت تسعى لها عن دور، وتسعى إلى السلطان بأي ثمن، فتقلب من العداء الشديد لآل البيت إلى ادعاء حبهم والمطالبة بثأر الحسين .(1/86)
وكان من أشار على عمه سعد بن مسعود الثقفي بالقبض على الحسن بن علي وتسليمه إلى معاوية، لينال بذلك الحظوة عنده، ثم حاول الاتصال بعبد الله بن الزبير والانضمام إليه، وشرط عليه شروطاً، منها أن يكون أول داخل عليه وألا يقضي الأمور دونه، وإذا ظهر استعان به على أفضل أعمال، وباختصار أراد أن تكون له كلمة في دولته، ولكنه لم يجد تجاوباً من ابن الزبير، فانصرف عنه إلى الكوفة
ولم يجد فيها ورقة رابحة سوى الادعاء بالمطالبة بدم الحسين وآل البيت وأدعى أن لديه تفويضاً بذلك من محمد بن على بن أبي طالب، الملقب بابن الحنفية. ظهر المختار في الكوفة في الوقت الذي كان فيه سليمان بن صرد الخزاعي زعيم التوابين يستعد للذهاب إلى الشام، لقتال عبيد الله بن زياد، فحاول تثبيط الناس عنه، وقد نجحت دعايته وتجمع حوله نحو ألفين من الشيعة وبقيت غالبيتهم مع سليمان بن صرد، وكانت نتيجة معركة عين الوردة من مصلحة المختار، فقد جاءته مصدقة لتوقعاته كما أنه انفرد بزعامة الشيعة ولجأ إليه الفارون من المعركة، فقويت حركته وكثر أتباعه، ثم ازداد مركزه قوة بانضمام إبراهيم بن الأشتر النخعي إليه، وهو من زعماء الكوفة فثار على عبد الله بن مطيع العدوي، أمير الكوفة من قبل عبد الله بن الزبير فأخرجه منها وأحكم سيطرته عليها.
ولقد تتبع قتلة الحسين فقتل معظمهم في الكوفة، ثم أعد جيشاً جعل على قيادته إبراهيم الأشتر، وأرسله إلى قتال عبيد الله، فالتقى به عند نهر الخازر بالقرب من الموصل وحلت الهزيمة بجيش ابن زياد، الذي خرّ صريعاً في ميدان المعركة سنة 67. تتبع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وظفر برؤوس كبار منهم، كعمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذين قتلوا الحسين، وشمر بن ذي الجوشن أمير الألف، الذين وَلُوا قتل الحسين، وسنان بن أبي أنس، وخوليّ بن يزيد الأصبحيِّ(1/87)
وتعاظم نفوذ المختار بعد انتصار جيشه على جيش ابن زياد، وسيطر على شمال العراق والجزيرة وجعل يولي العمال من قبله على الولايات، ويجبي الخراج، وانضم إليه عدد كبير من الموالي لبغضهم لبني أمية من ناحية
نهاية المختار على يد مصعب بن الزبير
كان من المتوقع أن تكون نهاية المختار على يد عبد الملك الذي وتره بقتل ابن زياد أبرز أعوانه ولكن عبد الملك كان من الدهاء بحيث أدرك أن ابن الزبير وإن كان قد اسعده ظهور المختار في البداية وقهره لجيش عبد الملك إلا أنه لن يسمح لنفوذه أن يتسع ويهدد دولته، وأنه لا بد أن يتحرك للقضاء عليه، فآثر الانتظار وترك ابن الزبير يواجه المختار، لأن نتيجة المواجهة ستكون في صالحه، فسوف يقضي أحدهما على صاحبه، ومن يبقى، تكون قوته، قد ضعفت فيسهل له القضاء عليه، وقد حدث ما توقعه عبد الملك، فإن المختار لم يكتف بانتصاره على جيش عبد الملك وبسط نفوذه على شمال العراق والجزيرة، بل أخذ يعد نفسه للسير إلى البصرة لانتزاعها من مصعب بن الزبير الذي أصبح والياً عليها من قبل أخيه عبد الله بعد أن بايعه أهلها، وهنا أصبح الصدام محتوماً بين المختار وآل الزبير، فسار مصعب بن الزبير بنفسه إلى قتال المختار في جيش هائل فحاصره بالكوفة وضيق عليه ومازال حتى أمكن الله منه، فقتله واحتزَّ رأسه، وأمر بصلب كفِّه على باب المسجد، وبعث مصعب برأس المختار مع رجل من الشُّرَط على البريد إلى أخيه عبد الله بن الزبير
قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه. فقال: صدق، قال الله تعالى(وإنَّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) الأنعام ، الآية: 120
مقتل مصعب بن الزبير
كان ذلك في سنة 71 هـ أي بعد أربع سنين من القضاء على المختار، فلم يشأ عبد الملك بن مروان أن يسير إلى العراق إلا بعد أن يوطد دعائم حكمه في الشام.(1/88)
سارع عبد الملك إلى العراق بجيشه وجعل على مقدمته أخاه محمد بن مروان ونزل بمسكن وكان مصعب قد علم بمسيره، ونزل بمسكن مقدمته إبراهيم بن الأشتر
كان حريصاً على ألا يقاتل مصعباً، للمودة والصداقة القديمة التي كانت بينهما فأرسل إليه رجلاً من كلب، وقال له: أقرى ابن أختك السلام ـ وكانت أم مصعب كلبيةـ وقل له يدع دعاءه إلى أخيه، وأدع دعائي إلى نفسي، ويجعل الأمر شورى فقال له مصعب:" قل له السيف بيننا."
ثم حاول عبد الملك محاولة أخرى: فأرسل إليه أخاه محمد ليقول له: إن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالباً أو مغلوبا ثم دارت المعركة فبدأت خيانات أهل العراق وقتل ابن الأشتروتحرج موقف مصعب ولم يبق معه سوى سبعة رجال ولكنه ظل يقاتل في شجاعة وبسالة، حتى أثخنته الجراح، وأخيراً قتله زياد بن ظبيان. وكان مقتله في جمادى الآخرة سنة72هـ. فلما بلغ عبد الملك مقتله قال:
" واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة ولكن هذا الملك عقيم"
وبمقتل مصعب انتهت المعركة، فدخل عبد الملك الكوفة، وبايعه أهلها، وعادت العراق إلى حظيرة الدولة الأموية. وعين عبد الملك أخاه بشراً والياً عليها، وقبل أن يغادرها أعد جيشاً للقضاء على ابن الزبير بمكة.
لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك، بكى وقال:
" ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له، حتى دخل السيف بيننا، ولكن الملك عقيم"
ولقد كانت هناك العديد من المحاولات من قبل الأمويين لإخضاع الحجاز قبل حصار ابن الزبير الأخير متمثلة في الكثير من الحملات العسكرية.
الحصار الثاني وسقوط خلافة ابن الزبير
...(1/89)
كان انتصار عبد الملك بن مروان على مصعب بن الزبير في معركة دير الجاثليق إيذاناً بانتهاء دولة عبد الله بن الزبير فقد استقرت له الأمور في جميع الأمصار الإسلامية، وانحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز، ولم يكن في استطاعته الصمود، لافتقاره إلى المال والرجال، كما أن مقتل أخيه مصعب قد فت في عضده وأصابه الإحباط، ولكنه لم يلق رايته وظل يقاوم حتى النهاية .
لم يضيع عبد الملك بن مروان وقتاً بعد انتصاره على مصعب، وقرر أن يقضي نهائياً على دولة ابن الزبير ووقع الخيار لقيادة الجيش للقضاء على ابن الزبير على الحجاج بن يوسف وتوجه بجيشه إلى الحجاز، واستقر بالطائف وبدأ يرسل بعض الفرق العسكرية إلى مكة، وكان ابن الزبير يرسل إليه بمثلها فيقتتلون وتعود كل فرقة إلى معسكرها، وأمر عبد الملك طارق بن عمرو الذي كان مرابطاً بوادي القرى أن ينضم إلى جيش الحجاج، فتوجه طارق إليه وكان معه خمسة آلاف رجل.
قام الحجاج بفرض حصار اقتصادي على مكة وقد أثر هذا الحصار على ابن الزبير وأصابت الناس مجاعة شديدة حتى إن ابن الزبير اضطر إلى ذبح فرسه ليطعم أصحابه وقد ترتب على تردي الأحوال داخل مكة، أن بدأ التخاذل يدب بين أنصار ابن الزبير، وبدأوا يسحبون واحداً تلو الآخر، ومما شجع على تخاذل هؤلاء إعطاء الحجاج الأمان لكل من كف عن القتال وانسحب من جيش ابن الزبير.
مقتل ابن الزبير
أراد الحجاج بن يوسف الثقفي أن ينهي أمر ابن الزبير فكتب إلى عبد الملك بن مروان يطلب منه الإذن بقتاله ومناجزته فأجابه عبد الملك بقوله: "أفعل ما ترى "
وتوجه الحجاج بن يوسف بجميع جيشه إلى مكة ونصب المنجنيق على جبالها وبدأ يضرب ابن الزبير داخل الحرم ضرباً متواصلاً وفي الوقت نفسه كان بقية جيشه يقاتلون البقية الباقية مع ابن الزبير، وتوسط بعض أعيان مكة وعلى رأسهم ابن عمر لدى الحجاج طالبين إليه أن يكف عن استعمال المنجنيق فأجابهم:(1/90)
" والله إني لكاره لما ترون ولكن ماذا أصنع ولقد لجأ هذا إلى البيت؟"
ويروي البلاذري أن العديد ممن كانوا مع ابن الزبير حاولوا اقناعه بقبول أمان الحجاج بن يوسف، فلم يستجب ابن الزبير لمحاولاتهم وأصر على القتال وقد سطرت الروايات مواقف بطولية رائعة لابن الزبير رضي الله عنه في مواجهة كتائب الحجاج.
إنها لحظة حاسمة في حياة البطل ابن الزبير وفي التاريخ الإسلامي كله، فبها زالت دولة كانت تبحث عن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لتتلمس خطاها في أصول الحكم ومعاملة المحكومين، دولة أرادت أن تعيد الأمور إلى نصابها كما كان الحال في عهد الخلفاء الراشدين ، دولة رأت في الشورى منهجا قويما، ونظرت إلى المال كحق من حقوق الرعية لا يجب المساس به ، دولة رسم ابن الزبير رضوان الله عليه ملامحها في مخيلته وبدأ في تحقيقهاعلى أرض الواقع لولا العديد من الأسباب التي تكالبت عليه وحطمت حلمه وحلم أمثاله من الشرفاء الذين يقدمون أرواحهم فداءا لدينهم ولا يريدون من وراء ذلك إلا القربى من الله جل وعلا، كان هذه اللحظة حاسمة في حياة دولة ابن الزبير ودولة أخرىعلى النقيض من ذلك في الكثير من أمورها بدأ تدين لهاالأقطار الإسلامية تباعا.
وكما كان الصراع بين دولتين، كان أيضا بين رجلين ، بين ابن الزبير الذي كانت تفوح منه رائحة المسك طيبة ذكية ، والذي أعطى للكعبة حقها فأعاد بنائها كما كان الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يحب ويهوى، وكساها بالديباج ،وضمخها بالمسك بحيث كان يشم مسكها من أي مكان في الحرم ، رجل مل الحياة الفانية وزف إليه خبر موته ولم يعد نصب عينيه إلا الجنة ورحيقها.
وقد ذكر أن ابن الزبير في يوم استشهاده قال:
"ما أُراني اليوم إلا مقتولاً، لقد رأيت في ليلتي كأنَّ السماء فرجت لي، فدخلتها، فقد والله مللت الحياة وما فيها."(1/91)
، ورجل آخر هو الحجاج بن يوسف الثقفي، رجل تفوح منه رائحة الدماء،ولم يعرف للكعبة قدرا فرماها بالمنجنيق ليهدمها ويهتك سترها وأستارها.رجل عاش للحياة وظن أنه لن يموت أبدا، وأن الخير في الدارين منوط بطاعتة العمياء لأولى الأمر حتى ولو دفع دينه ثمنا لذلك.
وترسم لنا كتب التاريخ هذه اللحظات النادرة في حياة البشر ومن خلالها يمكننا الحكم بنزاهة ووضوح أين كان الحق في هذا الصراع..؟
ولنقرأ معا هذا الحوار الأخير الذي دار بين ابن الزبير وأمه العظيمة السيدة أسماء وهو يودعها الوداع الأخير:
( بعد انتهاء موسم الحج نادى الحجاج في الناس أن يعودوا إلى بلادهم لأنه سيعود إلى ضرب البيت بالحجارة، وبالفعل بدأ يضرب الكعبة، وشدد على ابن الزبير، وتحرج موقفه وانفض عنه معظم أصحابه، ومنهم ابناه حمزة وخبيب، اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لنفسيهما. فلما رأى ذلك دخل على أمه فقال لها:
" يا أمه خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟" فقالت:
" أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامضى له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك لتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا، القتل أحسن."
فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال:(1/92)
" هذا والله رأيي، والذي قمت به داعياً إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد منكر، ولا عملاً بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم إني لا اقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني"
فقالت أمه:
" إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسناً إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك."
قال:
" جزاك الله يا أمه خيراً، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد."
فقالت: لا أدعه أبداً، وأضافت:
" اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهمّ قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين"
فتناول يديها ليقبّلها فقالت:
" هذا وداع فلا تبعد. "
فقال لها:
" جئت مودعاً لأنّي أرى هذا آخر أيامي من الدنيا "
قالت:
" امض على بصيرتك وادن مني حتى أودّعك."
فدنا منها فعانقها وقبّلها فوقعت يدها على الدرع فقالت:
" ما هذا صنيع من يريد ما تريد."
فقال:
"ما لبسته إلاّ لأشدّ منك."
قالت:
" فإنّه لا يشدّ مني"
فنزعها ثمّ أدرج كميه، وشد أسفل قميصه، وجبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في المنطقة، وأمه تقول:
" ألبس ثيابك مشمّرة "
ثم انصرف ابن الزبير، ولم تره أمه بعد ذلك إلا مصلوبا.وماتت بعده بليال.
وفي رواية أخرى:
أخرج نعيم بن حمّاد في «الفتن«عن ضِمام: أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أرسل إلى أمه فقال :
" إن الناس قد انفضُّوا عني وقد دعاني هؤلاء إلى الأمان."
فقالت:(1/93)
" إن خرجت لإِحياء كتاب الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم فَمُتْ على الحق، وإن كنت إنما خرجت على طلب الدنيا فلا خير فيك حيّاً ولا ميِّتاً"
و في آخر يوم من حياة ابن الزبير رضي الله عنه صلّى ركعتي الفجر ثم تقدم وأقام المؤذن فصلى بأصحابه فقرأ: (ن والقلم) حرفاً حرفاً، ثم سلم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة بليغة.
وقاتلهم قتالاً شديداً، فتعاونوا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة وتولى قتله رجل من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج.
والحق كما يقولون هو ماشهد به الأعداء. فماذا دار بين قاتليه من حوار..؟
بعد مقتل بطلنا الثائر سار الحجّاج وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه، فقال طارق:
" ما ولدت النساء أذكر من هذا."
فقال الحجّاج:: " أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟"
قال: "نعم هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، إنّا محاصروه منذ سبعة اشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا مَنَعة فينتصف منّا بل يفضل علينا."
فبلغ كلامهما عبد الملك فضرب طارقاً .
وشهادة أهل الحق لامراء عليها ولا ترد، فما بالك إن كان هذا الشاهد هو ابن عمر رضي الله عنه..؟!
لما سمع ابن عمر التكبير فيما بين المسجد إلى الحجون حين قتل ابن الزبير، قال: لمن كان كبر حين ولد ابن الزبير أكثر وخير ممن كبر على قتله.
ولقد خطب الحجاج في الناس بع استشهاد ابن الزبير فقال:
" يا أهل مكة إكباركم واستعظامكم قتل ابن الزبير فان ابن الزبير كان من خيار هذه الأمة حتى رغب فى الدنيا ونازع الخلافة أهلها فخلع طاعة الله وألحد فى حرم الله ولو كانت مكة شيئا يمنع القضاء لمنعت آدم حرمة الجنة وقد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شىء فلما عصاه أخرجه من الجنة وأهبطه إلى الأرض وآدم أكرم على الله من ابن الزبير وان ابن الزبير غير كتاب الله "
فقال له عبد الله بن عمر:(1/94)
"لو شئت أن أقول لك كذبت لقلت والله إن ابن الزبير لم يغير كتاب الله بل كان قواما به صواما عاملا بالحق "
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك بما وقع ، وبعث برأس ابن الزبير مع راس عبد الله بن صفوان وعمارة بن حزم إلى عبد الملك ، ثم أمرهم إذا مروا بالمدينة أن ينصبوا الرؤس بها ثم يسيروا بها إلى الشام ففعلوا ما أمرهم به ، وأرسل بالرؤس مع رجل من الأزد فأعطاه عبد الملك خمسمائة .
وحين سئل عنه ابن عباس فقال على الرغم مما كان بينهما من خلاف:
" كان قارئا لكتاب الله، متبعا سنة رسوله.. قانتا لله، صائما في الهواجر من مخافة الله.. ابن حواريّ رسول الله.. وأمه أسماء بنت الصديق.. وخالته عائشة زوجة رسول الله.. فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله"..!!
ولقد قيل أنه لما صلب ابن الزبير ظهرت منه رائحة المسك.
هذا هو بطلنا الشهيد ورأي الآخرين فيه، فماذا عن الحجاج..؟!
من صفحاته السوداء يمكننا أن نذكر ما يلي في محاولة للتعرف على طبيعة هذا السفاح:
* قال الامام العادل عمر بن عبدالعزيز عن الحجاج:
" لو جاءت كل أمة بخطاياها، وجئنا نحن بالحجاج وحده، لرجحناهم جميعا"..!!
* وقال الأصمعي: قال عبد الملك يوما للحجاج:
" إنه ما من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه فصف لي عيب نفسك."
فقال:
" اعفني يا أمير المؤمنين"
فأبى، فقال:
" أنا لجوج حقود حسود."
فقال عبد الملك: ما في الشيطان شر مما ذكرت. وفي رواية أنه قال: إذًا بينك وبين إبليس نسب.
* قال الشافعي: سمعت من يذكر أن المغيرة بن شعبة دخل على امرأته وهي تتخلل - أي تخلل أسنانها ليخرج ما بينها من أذى - وكان ذلك في أول النهار، فقال:
" والله لئن كنت باكرت الغذاء إنك لرغيبة دنية، وإن كان الذي تخللين منه شيء بقي في فيك من البارحة إنك لقذرة."
فطلقها، فقالت:
" والله ما كان شيء مما ذكرت، ولكنني باكرت ما تباكره الحرة من السواك، فبقيت شظية في فمي منه فحاولتها لأخرجها."
فقال المغيرة ليوسف أبي الحجاج:(1/95)
" تزوجها فإنها لخليقة أن تأتي برجل يسود"
فتزوجها يوسف أبو الحجاج. قال الشافعي:
" فأخبرت أن أبا الحجاج لما بنى بها واقعها فنام، فقيل له في النوم: ما أسرع ما ألقحت بالمبير."
* كان الحجاج مع أبيه بمصر في جامعها، فاجتاز بهما سليم بن عتر قاضي مصرالشريف، فنهض إليه أبو الحجاج فسلم عليه، وقال له:
"إني ذاهب إلى أمير المؤمنين، فهل من حاجة لك عنده؟"
قال:
" نعم، تسأله أن يعزلني عن القضاء."
فقال:
" سبحان الله! والله لا أعلم قاضيا اليوم خيرا منك."
ثم رجع إلى ابنه الحجاج، فقال له ابنه:
" يا أبه، أتقوم إلى رجل من تجيب وأنت ثقفي؟"
فقال له:
"يا بني والله إني لأحسب أن الناس إنما يرحمون بهذا وأمثاله."
فقال الحجاج:
" والله ما على أمير المؤمنين أضر من هذا وأمثاله."
فقال:
"ولم يا بني؟"
قال:
"لأن هذا وأمثاله يجتمع الناس إليهم فيحدثونهم عن سيرة أبي بكر وعمر، فيحقر الناس سيرة أمير المؤمنين ولا يرونها شيئا عند سيرتهما، فيخلعونه ويخرجون عليه ويبغضونه ولا يرون طاعته، والله لو خلص إلي من الأمر شيء لأضربن عنق هذا وأمثاله."
فقال له أبوه: يا بني، والله إني لأظن أن الله عز وجل خلقك شقيا.
* وذكر صاحب "العقد" أن الحجاج كان هو وأبوه يعلمان الغلمان بالطائف، ثم قدم دمشق فكان عند روح بن زنباع وزير عبد الملك، فشكا عبد الملك إلى روح أن الجيش لا ينزلون لنزوله ولا يرحلون لرحيله، فقال روح:
" عندي رجل توليه ذلك."
فولى عبد الملك الحجاج أمر الجيش، فكان لا يتأخر أحد في النزول والرحيل، حتى اجتاز إلى فسطاط روح بن زنباع وهم يأكلون، فضربهم وطوف بهم، وأحرق الفسطاط فشكا روح ذلك إلى عبد الملك فقال للحجاج:
" لم صنعت هذا؟
فقال:
" لم أفعله، إنما فعله أنت؛ فإن يدي يدك وسوطي سوطك، وما ضرك إذا أعطيت روحا فسطاطين بدل فسطاطه، وبدل الغلام غلامين، ولا تكسرني في الذي وليتني؟"
ففعل ذلك وتقدم الحجاج عنده.(1/96)
* وكانت فيه شهامة عظيمة، وفي سيفه رهق، وكان كثير قتل النفوس التي حرمها الله بأدني شبهة، وكان يغضب غضب الملوك، وكان - فيما يزعم - يتشبه بزياد بن أبيه.
* قال الشافعي: لما تزوج الحجاج بنت عبد الله بن جعفر، قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك بن مروان:
" أتمكنه من ذلك؟ "
فقال: "وما بأس بذلك؟"
قال: "أشد البأس والله."
قال: "كيف؟"
قال:
"والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب ما في صدري على آل الزبير منذ تزوجت رملة بنت الزبير."
فكأنه كان نائما فأيقظه، فكتب إلى الحجاج يعزم عليه في طلاقها فطلقها.
* وقال سعيد بن أبي عروبة: حج الحجاج مرة فمر بين مكة والمدينة فأتي بغدائه فقال لحاجبه: "انظر من يأكل معي."
فذهب فإذا أعرابي نائم فضربه برجله وقال:"أجب الأمير."
فقام، فلما دخل على الحجاج قال له:
" اغسل يديك ثم تغد معي. "
فقال:
"إنه دعاني من هو خير منك. فأجبته."
قال:" ومن هو؟"
قال: "الله دعاني إلى الصوم فأجبته."
قال:
"في هذا الحر الشديد؟"
قال:
"نعم صمت ليوم هو أشد حرا منه."
قال:" فأفطر وصم غدا."
قال:
"إن ضمنت لي البقاء إلى غد"
قال: "ليس ذلك إليّ."
قال:" فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه؟"
قال:" إن طعامنا طعام طيب."
قال:" لم تطيبه أنت ولا الطباخ، إنما طيبته العافية."
* وقال المدائني: أتي الحجاج بأسيرين من أصحاب ابن الأشعث، فأمر بقتلهما فقال أحدهما: "إن لي عندك يدا."
قال: "وما هي؟"
قال: "ذكر ابن الأشعث يوما أمك، فرددت عليه."
فقال:" ومن يشهد لك؟"
قال: "صاحبي هذا."
فسأله، فقال:" نعم."
فقال: "ما منعك أن تفعل كما فعل؟"
قال:" بغضك "
قال: "أطلقوا هذا لصدقه، وهذا لفعله" فأطلقوهما.
* وحكى أن الحجاج نادى في البلد؛ أن من خرج بعد العشاء الآخرة من بيته قتل، فأتي ليلة برجل، فقال:
" ما أخرجك من بيتك هذه الساعة من بعد ما سمعت المنادي؟"(1/97)
فقال: "أما والله إني لا أكذب الأمير، إن أمي مريضة هالكة، وأنا عندها منذ ثلاثة أيام، فلما كان الساعة أفاقت، وقالت: يا بني إني أعزم عليك بحقي عليك إلا مضيت إلى أهلك وأولادك، فإنهم مغمومون بتخلفك عنهم. فخرجت من عندها فأخذني العسس وأتوا بي إليك."
فقال الحجاج:
" ننهاكم وتعصوننا."
ثم أمر فضربت عنقه، ثم أتي بآخر، فقال له الحجاج:
" ما أخرجك هذه الساعة؟"
فقال: " والله ما أكذبك، إنه كان عندي لرجل دراهم فأقعدني على بابه ولزمني، وقال: لا أفارقك إلا بحقي. فلما كان هذه الساعة دخل إلى منزله وأغلق بابه وتركني على بابه، فجاءني طائفك فأخذني إليك."
فقال الحجاج: "اضربوا عنقه."
ثم أتي بآخر، فقال له: "ما أخرجك هذه الساعة؟"
فقال: " كنت أشرب مع قوم، فلما سكرت خرجت من عندهم وأنا لا أدري، فأخذوني إليك."
فقال الحجاج لرجل كان عنده:" ما أراه إلا صادقا. ثم قال: خلوا سبيله."
فخلوا سبيله.
* وأنكر يوما أن يكون الحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونه ابن بنته، فقال له يحيى بن يعمر:
" كذبت فقال الحجاج: لتأتيني على ما قلت ببينة من كتاب الله أو لأضربن عنقك. فقال: قال الله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ) إلى قوله: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى) فعيسى من ذرية إبراهيم وهو إنما ينسب إلى أمه مريم والحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال الحجاج:" صدقت."
ونفاه إلى خراسان .
* وعن الشافعي أنه قال: قال الوليد بن عبد الملك للغاز بن ربيعة أن يسأل الحجاج فيما بينه وبينه؛ هل يجد في نفسه مما أصاب من الدماء شيئا؟ فسأله كما أمره، فقال:
" والله ما أحب أن لي لبنان أو سنيرا ذهبا أنفقه في سبيل الله مكان ما أبلاني الله من الطاعة."
* وقال الحافظ البيهقي في "دلائل النبوة": قال علي لرجل:
" لا مت حتى تدرك فتى ثقيف."
قيل له:" يا أمير المؤمنين، وما فتى ثقيف؟"(1/98)
قال:" ليقالن له يوم القيامة: اكفنا زاوية من زوايا جهنم. رجل يملك عشرين، أو بضعا وعشرين سنة، لا يدع لله معصية إلا ارتكبها، حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة وكان بينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه."
* عن ابن عائشة قال: أتي الوليد بن عبد الملك رجل من الخوارج فقيل له:
"ما تقول في أبي بكر وعمر؟"
فأثنى خيرا، قال: " فعثمان؟"
فأثنى خيرا، حتى قيل له:
" فما تقول في عبد الملك بن مروان؟"
فقال: "الآن جاءت المسألة، ما أقول في رجل الحجاج خطيئة من خطاياه؟"
قال الترمذي:
"أحصوا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألفا."
قال الأصمعي:
" أطلق سليمان بن عبد الملك في غداة واحدة أحدا وثمانين ألف أسير، وعرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا، لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب."
* وقال أبو بكر بن المقرئ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة :"بلغني أنك تستن بسنن الحجاج فلا تستن بسننه، فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها، ويأخذ الزكاة من غير حقها، وكان لما سوى ذلك أضيع."
* عن الريان بن مسلم قال: بعث عمر بن عبد العزيز بآل أبي عقيل - أهل بيت الحجاج - إلى صاحب اليمن وكتب إليه:
" أما بعد، فإني قد بعثت بآل أبي عقيل وهم شر بيت في العرب، ففرقهم في العمل على قدر هوانهم على الله وعلينا، وعليك السلام." وإنما نفاهم.
* وقال الرياشي: مر الحجاج في يوم جمعة فسمع استغاثة فقال:
" ما هذا؟ "
فقيل له: " أهل السجون يقولون: قتلنا الحر."
فقال:" قولوا لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون."
فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة.
* عن يزيد بن حوشب أنه قال: بعث إليّ أبو جعفر المنصور فقال:
" حدثني بوصية الحجاج بن يوسف."
فقلت:" اعفني يا أمير المؤمنين."
فقال: "حدثني بها."(1/99)
فقلت: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف، أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك عليها يحيا، وعليها يموت، وعليها يبعث."
وقال الأصمعي عن أبيه قال:
"رأيت الحجاج في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟"
فقال:" قتلني بكل قتلة قتلت بها إنسانا."
رورى أبو بكر بن أبي خيثمة عن الحجاج - قبحه الله – كان يقول:
"والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب، فخرجتم من هذا الباب، لحلت لي دماؤكم"
كان مولد الحجاج في سنة تسع وثلاثين وقيل غير ذلك.
ولقد مات بواسط وعفي قبره وأجري عليه الماء لكيلا ينبش ويحرق. والله أعلم
لقد تعددت الروايات التي حملت لنا الحوار الذي دار بين أم البطل الشهيد، والسفاح المعروف بالحجاج، منها:
روايةأولى
قامت أمه، وعمرها يومئذ سبع وتسعون سنة، قامت لترى ولدها المصلوب.
وكالطود الشامخ وقفت تجاهه لا تريم.. واقترب الحجاج منها في هوان وذلة قائلا لها:
"يا أماه، ان أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا، فهل لك من حاجة..؟"
فصاحت به قائلة:
" لست لك بأم،إنما أنا أم هذا المصلوب على الثنيّة..وما بي إليكم حاجة..ولكني أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" يخرج من ثقيف كذاب ومبير"
فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير، فلا أراه الا أنت"!!
وفى رواية: "سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول وهو مبير" فانكسر الحجاج.
رواية ثانية
لما قتل عبد الله خرجت إليه أمُّه حتى وقفت عليه، وهي على دابة، فأقبل الحجّاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها، فأقبل حتى وقف عليها فقال: كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره؟
قالت:
" ربما أُديل الباطل على الحق"
فقال :(1/100)
" إنّ ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج الآية : 25) وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم."
قالت:
" كذبت، كان أوّل مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسُرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحنّكه بيده وكبّر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحاً به، وقد فرِحتَ أنت وأصحابك بمقتله، فمن كان فرح يومئذ خير منَك ومن أصحابك، وكان مع ذلك برّاً بالوالدين صوّاماً قوّاماً بكتاب الله معظماً لحُرُم الله، يُبْغِضُ أن يُعص الله عز وجل"
رواية ثالثة
روى أن أمه قالت للحجاج :
" أما آن لهذا الراكب أن ينزل "
فقال الحجاج :
"ابنك المنافق "
فقالت :
"والله ما كان منافقا إن كان لصواما قواما وصولا للرحم"
فقال:
" انصرفى يا عجوز فانك قد خرفت"
فقالت :
"والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( يخرج من ثقيف كذاب ومبير) فأما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فلا أراه إلا أنت"
وحين تقدم نحوها البعض ليواسيها ويدعوها إلى الصبر، أجابتهم بقولها:
" وماذا يمنعني من الصبر، وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني اسرائيل"..!!
ومن حق المرء أن يتساءل كيف استطاع عبد الملك بن مروان وأبوه من قبله أن ينتصرا على ابن الزبير رضي الله عنه ويتمكنان من القضاء على دولته الممتدة بطول الحجاز والعراق ومصروالشام ، وهما لايتحكمان إلا في دمشق..؟
وتحت هذا العنوان يجيب الدكتور الصلابي على هذا السؤال في كتابه القيم (الدولة الأموية) ـ بتصرف ـ كما يلي:
أسباب سقوط خلافة ابن الزبير
1ـ اتخاذ ابن الزبير الحجاز مقراً لخلافته:(1/101)
... ، فمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها، فقدت دورها السياسي الذي قامت به المدينة إلى عهد عثمان بن عفان، ولما نشبت الفتنة وانتقل علي بن أبي طالب إلى الكوفة، واتخذها عاصمة له، ثم اتخذ معاوية بن أبي سفيان دمشق عاصمة له، بعد أن آلت إليه الخلافة ولم يعد للحجاز خاصة المدينة ومكة دورهما السياسي السابق.
أثر بقاء ابن الزبير في مكة على حركته في النقاط التالية:
... الموقع:
فمكة ـ كما هو معروف ـ من حيث الموقع بعيدة عن الشام والعراق وهما الإقليمان اللذان شهدا أهم مراحل الصراع بين ابن الزبير وبني أمية، فهذا البعد لم يتح لابن الزبير الاطلاع ومتابعة ما يحدث من صراع بين الموالين وخصومه، لاسيما مع ضعف إمكانات الاتصال، وبالتالي فإن ذلك لا يتيح لابن الزبير اتخاذ القرارات المناسبة إزاء ما يجري على الساحة بعكس خصومه الأمويين الذين كانوا يعيشون الأحداث مباشرة، ومن جانب آخر فإن مكة تقع في واد محصور بين عدة جبال شاهقة وهي أشبه ما تكون بالمصيدة لمن يعتصم بها حينما تحاصرها الجيوش من كل الجوانب، ويقطعون عنها الإمدادات، وكادت حركة ابن الزبير تخمد منذ وقت مبكر حينما حاصر الحصين بن نمير ابن الزبير داخل مكة سنة 64هـ لولا أن الله أنقذه بوفاة يزيد بن معاوية وانسحاب جيش الحصين إلى الشام.
الناحية الاقتصادية:
تعتمد مكة ـ بشكل خاص ـ والحجاز بشكل عام في موارده الاقتصادية على ما يأتيه من خارجها وخاصة من الشام ومصر، وانقطاع هذه الموارد يتسبب في إحداث مجاعة ترهق المقيمين فيه، وقد أفاد بنو أمية من هذا العامل إفادة كبيرة في صراعهم مع ابن الزبير، فبعد سقوط مصر والشام في أيدي الأمويين انقطعت الإمدادات التي تصل إلى المدينة
الموارد البشرية:(1/102)
تبع قيام حركة الفتوح الإسلامية هجرة العديد من القبائل إلى الأقاليم المفتوحة وتركزت معظم هذه القبائل في العراق، والشام ومصر، وقد ترتب على ذلك اختلال معادلة التوزيع السكاني لترجيح كفة هذين الإقليمين على الحجاز الذي عانى من نقص الكوادر البشرية، وهذا النقص في الواقع لم يتح لابن الزبير تكوين جيش قوي يكون مستعداً في أية لحظة لمهاجمة الخصم، أو على أقل تقدير لصد هجومه، ولذلك نجد أن ابن الزبير إزاء هذا الوضع يلجأ دائماً إلى طلب الإمدادات من العراق وهو بذلك يربط تحركاته بما يكون عليه الوضع في هذا الإقليم من حيث استقراره، واستعداد واليه لإرسال المدد.
2ـ سياسة ابن الزبير الإدارية والمالية:
أن بقاء ابن الزبير في الحجاز وعدم خروجه إلى الأقاليم الإسلامية لم يتح التعرف على أهل هذه الأقاليم، وطبائعهم وإتجاهاتهم، وتكوين تصور عام عنهم يعينه على اختيار الولاة المناسبين، ولعل أبرز مثال على اضطراب سياسة ابن الزبير في هذا المجال هوما حدث مع واليه علىالكوفة عبد الله بن مطيع الذي لم يستطع أن يواجه المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهرب من أمامه وخلى بينه وبين الكوفة ، لم يستطع ابن الزبير من الاستفادة من هذا الأقليم الحيوي والاستفادة من طاقات أهله في حرب الأمويين، فقد كان فيه الرجال والأموال، بل على العكس من ذلك فقد كان هذا الإقليم سبباً مباشراً في سقوط خلافة ابن الزبير.(1/103)
فيلاحظ أن ابن الزبير كان يخلي بينه وبين واليه والإقليم الذي حكمه ويكل إدارته والقيام بشئونه حتى في القتال ضد الخصوم، ولم يكن ابن الزبير يتدخل في ذلك، فالصلة بين ابن الزبير وبعض ولاته تكاد تكون مقطوعة مما ترتب عليه سقوط بعض الأقاليم في يد الأمويين، في الوقت الذي كان ابن الزبير يقيم في مكة، ولعل ما حدث لقرقيسياء يدل على ذلك فقد كان زفر بن الحارث الكلابي والياً على هذا الإقليم وكان يقاتل عبد الملك بن مروان عدة سنوات، وأعاق تقدمه إلى العراق، ولما طال عليه الأمد ولم يقدم له ابن الزبير أي عون أضطر في النهاية إلى التسليم لعبد الملك بن مروان بعد أن أقنعه ابنه الهذيل بن زفر بأن عبد الملك بن مروان خيراً له من ابن الزبير.
وأما عن سياسة ابن الزبير الاقتصادية فبالإضافة إلى قلة موارد ابن الزبير الاقتصادية، يلاحظ أنه كان متأثراً في نظرته لما بين يديه من المال بأسلافه من الخلفاء الراشدين وخاصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فلم يسخر ابن الزبير هذا المال في توطيد حكمه، وتقوية صفه وكسب الأنصار، من الأعيان والمؤيدين مثل الأمويين كانوا يغدقون الأموال على والشعراء والأعيان والزعماء لكسبهم.
3ـ عدم استيعابه لزعماء العراق:
كثير من زعماء القبائل يمكن للحكام أن يستوعبوهم بالأموال والعطايا، فسلاح المال خطير يجذب القلوب ويأثر في النفوس، فقد روي أن أخاه مصعباً ذهب إليه بعد مقتل المختار بزعماء أهل العراق وقال له: يا أمير المؤمنين: قد جئتك بزعماء أهل العراق وأشرافهم كل مطاع في قومه، وهم الذين سارعوا إلى بيعتك، وقاموا بإحياء دعوتك، ونابذوا أهل معصيتك، وسعوا في قطع عدوك، فاعطهم من هذا المال: فقال لهم:... جئتني بعبيد أهل العراق وتأمرني أن أعطيهم مال الله، لا أفعل وأيم الله لوددت أن أصرفهم كما تصرف الدنانير بالدراهم، عشرة من هؤلاء برجل من أهل الشام
4ـ عدم بيعة زعماء بني هاشم له ومعارضاتهم لدولته:(1/104)
فقد امتنع عن بيعته عبد الله بن عباس، ومحمد بن علي بن أبي طالب ـ ابن الحنفية ـ وغيرهم. ولم يعاملهم بالرفق واللين، بل اشتد عليهم في بعض الأحيان.
5ـ إسراف أخيه مصعب في الدماء بعد القضاء على المختار:
فقد جاء مصعب إلى ابن عمر فسلم عليه فقال: من أنت؟ قال: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير. قال: صاحب العراق؟ قال: نعم. قال لابن عمر: أسألك عن قوم خالفوا وخلعوا الطاعة وقاتلوا حتى إذا غلبوا دخلوا قصراً وتحصنوا فيه وسألوا الأمان على دمائهم فأعطوا، ثم قتلوا بعد ذلك، قال:.. يا مصعب لو أن امرؤ أتى ماشية الزبير فذبح منها خمسة آلاف شاة في غداة أكنت تعده مسرفاً؟ فسكت مصعب. فقال: أجبني، قال: نعم، إني لأعد رجلاً يذبح خمسة آلاف شاة في يوم مسرفاً. قال: أفتراه إسرافاً في البهائم؟ لا تعبد الله وما تدري ما الله، وقتلت من وحد الله؟ أما كان فيهم مستكره يراجع به التوبة أو جاهل ترجى رجعته فهذا القتل الكثير في أهل العراق أوغر عليه صدور عشائرهم وليس ببعيد أن يكون موقفهم منه في معركة دير الجاثليق له علاقة بهذه الأحداث، فالذي قتل مصعباً هو زياد بن ظبيان، فلما ذهب إلى عبد الملك أمر له بألف دينار فرفض ابن ظبيان أن يأخذ شيئاً وقال لعبد الملك: لم أقتله على طاعتك فإنما قتلته عل قتل أخي النابيء، وقيل اشترك في قتله زائدة بن قدامة الثقفي وقال حين قتله: يا لثارات المختار
6ـ تهاون ابن الزبير في أمر الأمويين:
كان الأولى أن يعمل ابن الزبير على منع الأمويين من الخروج من المدينة إلى الشام وبخاصة مروان بن الحكم وابنه عبد الملك، ولو فعل ابن الزبير ذلك لما وجد الأمويون من يلم شعثهم، ويعيد السلطة ثانية، فلم يفكر مروان بن عبد الملك في الخلافة إلا بعد ما خرج من المدينة ووصل الشام.
7ـ إهماله الدعاية والإعلان:(1/105)
وأقصد بذلك عدم اهتمامه بالشعراء وإغداق الهدايا عليهم.أن المعركة الإعلامية انتصر فيها الأمويون إنتصاراً كبير على ابن الزبير، فقد كانوا يعطون الشعراء ويشترون الناس بالأموال
8ـ استخدام الشدة والقوة مع أخيه عمرو بن الزبير
إن الطريقة التي اتبعها ابن الزبير في القضاء على أخيه عمرو بن الزبير بعد ما وقع في الأسر جعلت الناس ينظرون إليه على أنه رجل تنقصه العاطفة والشفقة، وكان لذلك مرده السيء على تعاطف الناس مع قضيته، فعمرو بن الزبير كان يضرب الناس في المدينة بناء على تهم موجهة إليهم بشأن تعاطفهم وتعاملهم مع ابن الزبير وكان معيناً من قبل الدولة وكانت قرارته يتخذها بطبيعة عمله، وإن كان فيها شيء من التجني والخطأ والظلم،
9ـ تفوق خصوم ابن الزبير:
... ليس بمستغرب أن يتفوق بنو أميه على ابن الزبير، الذي لم تتح له الفرصة لأن يتولى إقليماً من الأقاليم ليكتسب الخبرةفي الحكم مثل الأمويين الذين تبوأوا الخلافة منذ معاوية، وكذلك في التكتيك الحربي، وقيادة الجيوش وكان يعتمد على قواده أو ولاة الأقاليم في حروبه ولم يغادر مكة قط، وقد انتقد عبد الملك بن مروان هذه السياسة فقال: إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لأبدى صفحته، وآسى أنصاره بنفسه، ولم يغرز ذنبه في الحرم .
10ـ الظروف التي نشأت فيها حركة ابن الزبير:
... إن من الإنصاف أن تذكر أن الظروف السيئة التي وجدت فيها حركة ابن الزبير ساهمت إلى حد كبير في سقوط خلافته، تمثلت هذه الظروف بظهور التيارات والاتجاهات المذهبية، والقبلية، وانعدام الاستقرار السياسي الذي هو من أهم الشروط لقيام حكم مستقر، لقد أشغل الخوارج ابن الزبير كثيراً، كما أن حركة المختار أخذت من جهده ووقته ورجاله، فهذه الحركات ذات المنطلقات العقائدية أشغلت ابن الزبير كثيراً عن التفكير في تنظيم دولته، كما استنزفت الكثير من طاقاته المادية والبشرية.
عبد الله بن عمرو بن العاص(1/106)
صاحب الصيام والقيام
نسبه
عبد الله بن عمرو بن العاص ، من نجباء الصحابة، وعلمائهم.
كنيته أبو محمد عند الأكثر ويقال أبو عبد الرحمن.
ويقال كان اسمه العاص فغيره النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو زرعة الدمشقي في تاريخه عن عبد الله بن الحارث بن جزء أنهم حضروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة فقال له:
" ما اسمك؟"
قال : "العاص "
وقال لابن عمرو بن العاص:
" ما اسمك؟
قال :
"العاص "
وقال لابن عمر:
" ما اسمك قال العاص"
فقال:
" أنتم عبيد الله "
فخرجنا وقد غيرت أسماؤنا.
أبوه هو الصحابي الجليل عمرو بن العاص، أسلم عبد الله قبل أبيه ولم يكن بين مولدهما إلا اثنتا عشرة سنة أخرجه البخاري. وكان عاقلاً يلوم أباه على القيام مع معاوية بأدب وتؤدة.
أمه ريطة بنت منبه بن الحجاج.
قال طلحة بن عبيد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" نعم أهل البيت: عبد الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله ".
قال محمد بن سعد :
" وتوفي عبد الله بن عمرو بالشام سنة خمس وستين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة"
كتب عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير، وروى أيضاً عن: أبيه، وأبي بكر، وعمر.
روى عنه: حفيده شعيب بن محمد بن عبد الله، وسعيد بن المسيب وعروة، وطاوس، وأبو سلمة ومجاهد، وعكرمة، وجبير بن نفير، وعطاء، وابن أبي مليكة، وأبو عبد الرحمن الحبلي، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وحميد بن عبد الرحمن، وسالم بن أبي الجعد، ووهب بن منبه، وخلق سواهم.
صفاته الجسدية
كان طويلا ،عظيم البطن ،أحمر ،عظيم الساقين ، سميناً، أبيض الرأس واللحية، وعمي في آخر عمره.
جاء وصفه في حلية الأولياء:
القوي الخاشع، القارئ المتواضع، صاحب الصيام والقيام. عبد الله بن عمرو بن العاص، كان بالحقائق قائلاً، وعن الأباطيل مائلاً، يعانق العمل، ويفارق الجدل، يطعم الطعام، ويفشي السلام، ويطيب الكلام
من أقواله(1/107)
عن عبد الله بن عمرو قال رأيت فيما يرى النائم كأن في إحدى يدي عسلا وفي الأخرى سمنا وأنا ألعقهما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :
" تقرأ الكتابين التوراة والقرآن"
وكان يقرؤهما.
واستأذن النبي. صلى الله عليه وسلم في كتابه ما يسمع منه فاذن له رسول الله. صلى الله عليه وسلم وقال :
" قد حفظت عن رسول الله. صلى الله عليه وسلم ألف مثل وكان عالما متعبدا"
عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
"يا رسول الله إني أسمع منك أحاديث أحب أن أعيها فأستعين بيدي مع قلبي يعني اكتبها"
قال :
"نعم."
عن عبد الله بن عمرو قال :
"استاذنت النبي. صلى الله عليه وسلم في كتابة ما سمعت منه فاذن لي فكتبته" فكان عبد الله يسمي صحيفته الصادقة.
رواية أخرى
قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قلت:
" يا رسول الله أقيد العلم؟"
قال: " نعم" يعني كتابته.
عن عبد الله بن عمرو أنه قال: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك في الرضا والغضب؟
قال:
" نعم، فإني لا أقول إلا حقاً ".
عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال :
"زوجني أبي امرأة من قريش فلما دخلت علي جعلت لا انحاش لها مما بي من القوة على العبادة من الصلاة والصوم فجاء عمرو بن العاص إلى كنته حتى دخل عليها فقال:
" كيف وجدت بعلك"
قالت:
" خير الرجال أو كخير البعولة من رجل لم يفتش لنا كنفا ولم يعرف لنا فراشا فاقبل علي فعذلني وعضلني بلسانه"
فقال :
"انكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها وفعلت?"
قال ثم انطلق إلى النبي. صلى الله عليه وسلم فشكاني فارسل إلي النبي.
رجال
قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:
" ألم اخبر أنك تصوم النهار، ولا تفطر، وتصلي الليل لا تنام..؟؟
فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام..
قال عبدالله:
اني أطيق أكثر من ذلك..
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
فحسبك ان تصوم من كل جمعة يومين..
قال عبدالله:
فاني أطيق أكثر من ذلك..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/108)
فهل لك اذن في خير الصيام، صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما..
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا:
وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة
واني أخشى أن يطول بك العمر
وأن تملّ قراءته..!!
اقرأه في كل شهر مرّة..
اقرأه في كل عشرة أيام مرّة..
اقرأه في كل ثلاث مرّة..
ثم قال له:
اني أصوم وأفطر..
وأصلي وأنام.
وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي
فليس مني".
قال حصين في حديثه ثم قال. صلى الله عليه وسلم :
" فان لكل عابد شرة ولكل شرة فترة فإما إلى سنة وإما إلى بدعة فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك."
ولقد عمّر عبدالله بن عمرو طويلا.. ولما تقدمت به السن ووهن منه العظم كان يتذكر دائما نصح الرسول فيقول:
" يا ليتني قبلت رخصة رسول الله"..
وفي رواية أخرى:
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يا أبا عبد الله بن عمرو بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل فلا تفعل فإن لجسدك عليك حظا وإن لزوجك عليك حظا وإن لعينيك عليك حظا صم وأفطر صم من كل شهر ثلاثة فذلك صوم الدهر قال قلت يا رسول الله إني أجد بي قوة قال صم صوم داود صم يوما وأفطر يوما"
قال فكان عبد الله يقول :
" فيا ليتني أخذت بالرخصة ."
عن أنس رضي الله عنه قال:
"بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة".
فطلع سعد بن أبي وقاص، حتى إذا كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال: فطلع سعد بن أبي وقاص على مرتبته الأولى، حتى إذا كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع سعد بن أبي وقاص على مرتبته، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثار عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقال:
"إني غاضبت أبي، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاث ليال، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تحل يميني فعلت."
قال أنس:(1/109)
" فزعم عبد الله بن عمرو أنه بات معه ليلة حتى كان مع الفجر، فلم يقم من تلك الليلة شيئاً، غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله وكبَّره حتى يقوم مع الفجر، فإذا صلى المكتوبة أسبغ الوضوء وأتمه ثم يصبح مفطراً."
قال عبد الله بن عمرو:
" فرمقته ثلاث ليال وأيامهن لا يزيد على ذلك غير أني لا أسمعه يقول إلا خيراً. فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله، فقلت:
" إنه لم يكن بيني وبين أبي غضب، ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ذلك فيك ثلاث مرات في ثلاثة مجالس:
"يطلع عليكم رجل من أهل الجنة".
فاطلعت أولئك المرات الثلاث، فأردت أن آوي إليك حتى أنظر ما عملك فاقتدي بك، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال:
" ما هو إلا الذي قد رأيت."
قال:
" فلما رأيت ذلك انصرفت عنه، فدعاني حين وليت"
فقال:
" ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي سوءاً لأحد من المسلمين، ولا أقوله."
قال:
" هذه التي بلغت بك، وهي التي لا أطيق."
عن عبد الله بن عمرو أنه قال:
" لو تعلمون حق العلم لسجدتم حتى تنقصف ظهوركم ولصرختم حتى تنقطع أصواتكم فابكوا فإن لم تجدوا البكاء فتباكوا. "
وعن هارون بن رئاب قال:
لما حضرت عبد الله بن عمرو الوفاة :
" قال أنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش وقد كان مني إليه شبيه بالوعد فوالله لا ألقى الله عز و جل بثلث النفاق اشهدوا أني قد زوجتها إياه"
حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الله بن عمرو لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل."
قال عبد الله بن عمرو:" لوددت أني هذه السارية."
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عليه ثوبين معصفرين (مصبوغين) فقال:
" إن هذه الثياب ثياب الكفار فلا تلبسها"
عن طاوس قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمرو ثوبين معصفرين فقال:(1/110)
"أمك أمرتك بهذا ..؟!"
فقال:
" أغسلهما يا رسول الله "
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" حرقهما"
عن مجاهد أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يضرب فسطاطه في الحل ويجعل مصلاه في الحرم فقيل له لم تفعل ذلك قال :
" لأن الأحداث في الحرم أشد منها في الحل."
عن عبد الله بن عمرو قال:
" لو رأيت رجلا يشرب الخمر لا يراني إلا الله فاستطعت أن أقتله لقتلته."
عن عبد الله بن عمرو قال:
" لأن أكون عاشر عشرة مساكين يوم القيامة، أحب إلي من أن أكون عاشر عشرة أغنياء، فإن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا، يقول: يتصدق يميناً وشمالاً."
وقال عبد الله:
" لخير أعمله اليوم أحب إلي من مثيله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تهمنا الآخرة ولا تهمنا الدنيا، وإنا اليوم مالت بنا الدنيا."
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال:
مرّ بعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما نفر من أهل اليمن، فقالوا له:
"ما تقول في رجل أسلم فحسن إسلامه، وهاجر فحسنت هجرته، وجاهد فحسن جهاده، ثم رجع إلى أبويه باليمن فبرّهما ورحمهما؟"
قال:
"ما تقولون أنتم؟ "
قالوا نقول:
" قد ارتدّ على عقبيه"
قال:
" بل هو في الجنة؛ ولكن سأخبركم بالمرتد على عقبيه: رجل أسلم فحسن إسلامه، وهاجر فحسنت هجرته، وجاهد فحسن جهاده، ثم عَمَدَ إلى أرض نَبَطيّ فأخذها منه بجزيتها ورزقها، ثم أقبل عليها يعمّرها وترك جهاده، فذلك المرتد على عقبيه."
عن عبد الله بن عمرو، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير. قال: " تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لا تعرف."
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أعبدوا الرحمن، وأفشوا السلام وأطعموا الطعام تدخلوا الجنان."
عن أبي عبد الرحمن، قال:
سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول:(1/111)
" إن الجنة حرام على كل فاحش أن يدخل."
عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه قال:
" من سقى مسلماً شربة ماء باعده الله من جهنم شوط فرس"
يعني حضر فرس.
عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقول:
"دع مالست منه في شئ، ولا تنطق فيما لايعنيك، واخزن لسانك كما تخزن ورقك"
حدثنا بن لهيعة، حدثنا بن هبيرة، ان عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:
" إنه في الناموس الذي أنزل الله تعالى على موسى عليه السلام: إن الله تعالى يبغض من خلقه ثلائة: الذي يفرق بين المتحابين، والذي يمشي بالتمائم، والذي يلتمس البرئ ليعنته"
عن خالد بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:
" مكتوب في التوراة من تجر فجر، ومن حفر حفرة سوء لصاحبه وقع فيها "
عن شراحبيل أنه قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يقول:
" إن إبليس موثق في الأرض السفلى، فإذا تحرك كان كل شر على الأرض بين اثنين فصاعداً من تحركه"
عن بن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولو تعلمون حق العلم لصرخ أحدكم حتى ينقطع صوته، ولسجد حتى ينقطع صلبه"
عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً، قال له: ألسنا من فقراء المهاجرين?
فقال:
" ألك امرأة تأوى إليها?
فقال: " نعم"
قال: "أفلك مسكن تسكنه.؟"
قال:" نعم"
قال:
" فلست من فقراء المهاجرين فإن شئتم أعطيناكم، وإن شئتم ذكرنا أمركم للسلطان"
فقال:
" نصبر ولا نسأل شيئاً"
عن عبد الله بن عمرو، قال: تجمعون فيقال:
" أين فقراء هذه الأمة ومساكينها."
قال: فتبرزون، فيقولون:
" ما عندكم."
فتقولون:
" يارب ابتلينا فصبرنا وأنت أعلم، ووليت الأموال والسلطان غيرنا"
قال:
"فيقال: صدقتم، قال: فيدخلون الجنة قبل سائر الناس بزمان، وتبقى شدة الحساب على ذوي الأموال. "
عن عبد الله بن، عمرو، قال:(1/112)
" الجنة مطوية معلقة بقرون الشمس، تنشر في كل عام مرة، وأرواح المؤمنين في جوف طير خضر كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة. "
عن يعقوب بن عاصم، عن عبد الله عمرو، قال:
"من سئل بالله فأعطى كتب له سبعون أجراً"
عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه، قال:
" ألا أخبركم بأفضل الشهداء عند الله تعالى منزلة يوم القيامة? الذين يلقون العدو وهم في الصف، فإذا واجهوا عدوهم لم يلتفت يميناً ولا شمالاً إلا واضعاً سيفه على عاتقه، يقول: اللهم إني اخترتك اليوم بما أسلفت في الأيام الخالية، فيقتل على ذلك، فذلك من الشهداء الذين يتلبطون في الغرف العلا من الجنة حيث شاؤا."
قالوا عنه
عن أبي هريرة :
"ما أجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولاأكتب"
وعن يعلى بن عطاء عن أمه انها كانت تصنع الكحل لعبد الله بن عمرو قالت: "وإن كان ليقوم بالليل فيطفىء السراج ثم يبكي حتى رمصت عيناه."
وعن عبد الله بن هبيرة عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال:
" لأن أدمع دمعة من خشية الله عز وجل أحب إلي من أن تصدق بألف دينار."
عن مجاهد قال :
"رأيت عند عبد الله بن عمرو صحيفة فسألته عنها فقال هذه الصادقة فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه فيها أحد."
عن مجاهد قال: دخلت على عبد الله بن عمرو، فتناولت صحيفة تحت رأسه، فتمنع علي، فقلت: تمنعني شيئاً من كتبك! فقال:
" إن هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه أحد، فإذا سلم لي كتاب الله، وسلمت لي هذه الصحيفة والوهط، لم أبال ما ضيعت الدنيا."
الوهط: بستانه بالطائف.
كان عبدالله بن عمرو بن العاص يقضي حياته على وتيرة واحدة..وما لم يكن هناك خروج في غزوة فان أيامه كلها تتلخص في أنه من الفجر الى الفجر في عبادة موصولة، صيام وصلاة، وتلاوة قرآن..(1/113)
وعن سلمان بن ربيعة أنه حج في عصابة من قراء أهل البصرة فقال :
" والله لا نرجع حتى نلقي رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مرضيا يحدثنا بحديث"
فلم نزلنا نسأل حتى حدثنا أن عبد الله بن عمرو لنازل في أسفل مكة فعمدنا إليه فإذا نحن بثقل عظيم ويرتحلون ثلثمائة راحلة منها مائة راحلة ومائتا زاملة فقلنا لمن هذا الثقل؟.. فقالوا لعبد الله بن عمرو.
فقلنا أكل هذا له؟.. وكنا نحدث أنه من أشد الناس تواضعا .
فقالوا لنا :
"أما هذه المائة راحلة فلأخوانه يحملهم عليها وأما المائتان فلمن نزل عليه من أهل الأمصار ولأضيافه فعجبنا من ذلك ، فقالوا:
" لا تعجبوا من هذا لأن عبد الله رجل غني وأنه يرى حقا عليه أن يكثر من الزاد لمن نزل عليه من الناس.
فقلنا :
"دلونا عليه "
فقالوا :
"إنه في المسجد الحرام "
قال :
"فانطلقنا نطلبه حتى وجدناه في دبر الكعبة جالسا بين بردتين وعمامة ليس عليه قميص قد علق نعليه في شماله"
عن شريك بن خليفة قال: رأيت عبد الله بن عمرو يقرأ بالسريانية .
عن مسلم مولى بني مخزوم : قال طاف عبد الله بن عمرو بالبيت بعدما عمي.
عن خيثمة قال :
"انتهيت إلى عبد الله بن عمرو بن العاص وهو يقرأ في المصحف ، فقلت:
" أي شيء تقرأ..؟"
قال:
" جزئي الذي أقوم به الليلة."
عن عبد الرحمن بن السلماني قال:
" التقى كعب الأحبار وعبد الله بن عمرو فقال كعب:
" أتطير..؟"
قال :
"نعم"
قال:
" فما تقول؟ "
قال :
" أقول اللهم لاطير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا رب غيرك ولا حول ولا قوة إلا بك"
فقال:
" أنت أفقه العرب إنها لمكتوبة في التوراة."
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: انطلقت مع عبد الله بن عمرو إلى البيت، فلما جئنا دبر الكعبة، قلت له: ألا تتعوذ..؟
قال: " أعوذ بالله من النار".
ثم مضى حتى إذا استلم الحجر قام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وبسط ذراعيه، ثم قال:
" هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل."(1/114)
عن حسين بن شفي. قال: كنا جلوساً عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، فأقبل تبيع، فقال عبد الله: أتاكم أعرف من عليها.
فلما جلس قال له عبد الله: أخبرنا عن الخيرات الثلاث، والشرات الثلاث.
قال:
"نعم، الخيرات الثلاث: اللسان الصدوق، وقلب تقي، وامرأة صالحة. والشرات الثلاث: لسان كذوب، وقلب فاجر، وامرأة سوء."
فقال عبد الله: قد قلت لكم.
عن جعفر بن أبي عمران، قال: بلغنا أن عبد الله بن عمرو بن العاص سمع صوت النار ، فقال:
" وأنا"
فقيل:
" يا بن عمرو ما هذا..؟"
قال:
"والذي نفسي بيده إنها لتستجير من النار الكبرى من أن تعاد فيها."
عن يعلى بن عطاء، عن أمه، أنها كانت تصنع لعبد الله بن عمرو الكحل وكان يكثر من البكاء، قال: ويغلق عليه بابه ويبكي حتى رمصت عيناه. قال:
" وكانت أمي تصنع له الكحل"
(رمصت عيناه: وسخٌ يجتمع في الموقِ فإن سالِ فهو غَمَصٌ)
عن عبد الله بن باباه، قال:
" جئت عبد الله بن عمرو بعرفة ورأيته قد ضرب فسطاطاً في الحرم، فقلت له: لم صنعت هذا.؟"
قال: تكون صلاتي في الحرم، فإذا خرجت إلى أهلي كنت في الحل.
عن عمرو بن نافع، عن عبد الله بن عمرو: أنه مر على رجل بعد صلاة الصبح وهو نائم، فحركه برجله حتى استيقظ، فقال له:
" أما علمت أن الله عز وجل يطلع في هذه الساعة إلى خلقه فيدخل منهم الجنة برحمته.؟"
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن غلاماً لعبد الله بن عمرو باع فضل ماء من عم له بعشرين ألفاً، فقال عبد الله:
" لا تبعه فإنه لا يحل بيعه. "
عن عروة بن الزبير قال :
"سألت عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم..؟
قال :
"رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقاً شديداً فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم "
وفي رواية عن عمرو بن العاص قال:(1/115)
"ما نيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نيل منه ذات يوم طاف بالبيت ضحى فدخلوا عليه فقطعوا عليه الطواف وأخذوا بمنكبيه:
" وقالوا أنت الذي تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا "
قال :
"هو ذاك "
وأبو بكر ملتزمه من خلفه ويقول:
" أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم "
وعيناه تهملان حتى خلوا سبيله .
بعض مواقفه
1ـ كان ضمن الجيش الذي فتح أفريقيا، وعرف بجيش العبادلة ، فقد كان يقوده عبد الله بن أبي سرح، وفيه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
2ـ اعتزل فتنة عثمان رضي الله عنه
عن محمد بن سيرين عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
" كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حش من حشان المدينة فجاء رجل فاستأذن، فقال :
"قم فائذن له وبشره بالجنة"
فقمت فأذنت له فإذا هو أبو بكر فبشرته بالجنة فجعل يحمد الله حتى جلس، ثم جاء رجل آخر فاستأذن، فقال:
" قم فائذن له وبشره بالجنة "
فقمت فأذنت له فإذا هو عمر فبشرته بالجنة فجعل يحمد الله حتى جلس ،ثم جاء رجل خفيض الصوت فاستأذن فقال :
" قم فائذن له وبشره بالجنة على بلوى"
فقمت فأذنت له فإذا هو عثمان فبشرته بالجنة على بلوى فجعل يقول (اللهم صبرا ) حتى جلس قلت :
"يا رسول الله فأنا "
قال :
"أنت مع أبيك"
3ـ شهد مع أبيه فتح الشام، وكانت معه راية أبية يوم اليرموك.
4ـ شهد معه أيضاً صفين، وكان على الميمنة.
عن عبد الله بن أبي مليكة قال:
" كان عبد الله بن عمرو يأتي الجمعة من المغمس فيصلي الصبح ثم يرتفع إلى الحجر فيسبح ويكبر حتى تطلع الشمس ثم يقوم في جوف الحجر فيجلس إليه الناس فقال يوما :
"ما أفرق على نفسي إلا من ثلاث مواطن في دم عثمان.
فقال له عبد الله بن صفوان إن كنت رضيت قتله فقد شركت في دمه.(1/116)
وإني آخذ فأقول أقرضه الله في هذه الليلة فيصبح في مكانه.
فقال بن صفوان: أنت امرؤ لم توق شح نفسك.
قال : ويوم صفين.
قال عبد الله بن عمرو:
" ما لي ولصفين ما لي ولقتال المسلمين لوددت أني مت قبله بعشر سنين أما والله على ذلك ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم وما رجل أجهد مني من رجل لم يفعل شيئا من ذلك"
عن حنظلة بن خويلد قال: بينا أنا عند معاوية، إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار، كل واحد يقول:
" أنا قتلته"
فقال عبد الله بن عمرو:
" ليطب أحدكما به نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تقتله الفئة الباغية "
فقال معاوية:
" يا عمرو ألا ترد عنا مجنونك، فما بالك معنا!"
قال:
" إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي:
" أطع أباك ما دام حياً " فأنا معكم، ولست أقاتل."
عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه قال:
" كنت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حلقة فيها أبو سعيد الخدري و عبد الله بن عمرو، فمر بنا حسين بن علي، فسلم، فرد القوم السلام، فسكت عبد الله حتى فرغوا، رفع صوته وقال:
" وعليك السلام ورحمة الله وبركاته."
ثم أقبل على القوم فقال:
" ألا أخبركم بأحب أهل الأرض إلى اهل السماء?"
قالوا:
"بلى"
قال:
" هو هذا الماشي، ما كلمني كلمة منذ ليالي صفين، ولأن يرضى عني أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم"
فقال أبو سعيد:
"ألا تعتذر إليه? "
قال:
"بلى"
قال:
"فتواعدا أن يغدوا إليه. قال: فغدوت معهما، فاستأذن أبو سعيد: فأذن له، فدخل، ثم استأذن عبد الله، فلم يزل به حتى أذن له، فلما دخل قال أبو سعيد:
" يا ابن رسول الله، إنك لما مررت بنا أمس . . فأخبره بالذي كان من قول عبد الله بن عمرو، فقال حسين:
" أعلمت يا عبد الله أني أحب أهل الأرض إلى أهل السماء?"
قال:
" إي ورب الكعبة"
قال:
" فما حملك على أن قاتلتني وأبي يوم صفين? فوالله لأبي كان خيراً مني"
قال:(1/117)
" أجل، ولكن عمرو شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال:
" يا رسول الله، إن عبد الله يقوم الليل ويصوم النهار"
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
""يا عبد الله، صلّ ونم وصم وأفطر، وأطع عمراً".
قال:
"فلما كان يوم صفين أقسم علي فخرجت معه، أما والله ما اخترطت سيفاً، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم".
5 ـ كان من الموقعين على وثيقة التحكيم في موقعة صفين.
6ـ كان رضي الله عنه أحد أفراد المدرسة المصرية التي تكونت في مصر و كان شيوخها من الصحابة الذين رحلوا إليها أيام الفتح ونزلوا في موضع الفسطاط والأسكندرية، ومن هؤلاء عمرو بن العاص، عبد الله بن عمرو بن العاص، الزبير بن العوام، وغير ذلك من الصحابة يرجع إليهم الفضل في دعوة الناس وتوجيههم نحو دينهم .
7ـ في سنة ثلاث وأربعين ولاه معاوية رضي الله عنه ولاية مصر بعد موت أبيه .
وفاته
قال محمد بن عمر :
"وتوفي عبد الله بن عمرو بالشام سنة خمس وستين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة"
وقيل مات بمكة ، وقيل بالطائف ، وقيل بمصر رحمه الله ورضي عنه.
قال الدكتور الصلابي في كتابه الرائع( الدولةالأموية):
( كانت وفاة عمرو ليلة الفطر سنة ثلاث وأربعين، واستخلف ابنه عبد الله على صلاتها وخراجها ،وبعد وصول خبر وفاة عمرو بن العاص إلى معاوية قام بتعيين أخيه عتبة على مصر وذلك في شهر ذي القعدة من سنة ثلاث وأربعين. أي أن ولاية عبد الله بن عمرو على مصر لم تزد على شهرين وهي الفترة التي استغرقها وصول خبر وفاة عمرو إلى معاوية، واتخاذه لقرار تعيين الوالي الجديد.
وقد وصف الذهبي عبد الله بن عمرو بقوله:(1/118)
" الإمام الحبر العابد، صاحب رسول الله وابن صاحبه أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن ... وليس أبوه أكبر منه إلا بإحدى عشرة سنة أو نحوها، وقد أسلم قبل أبيه فيما بلغنا ويقال: كان اسمه العاص، فلما أسلم، غيره النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله، وقد ورث عبد الله من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب فكان من ملوك الصحابة"
أهم المراجع
1 ـ السيرة النبوية للدكتورالصلابي
2ـ البداية والنهاية لابن كثير
3 ـ حلية الأولياء للإمام الحافظ أبي نعيم
4ـ كنز العمال للمتقي الهندي
5ـ الدولةالأموية للدكتور الصلابي
6ـ الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني
7 ـ صفة الصفوة للإمام لابن الجوزي
8ـ الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري
9 ـ تاريخ الإسلام للذهبي
10ـ المنتظم في التاريخ لابن الجوزي
11 ـ الاستيعاب في تمييز الأصحاب للحافظ بن عبد البر
12ـ حياة الصحابة للكاندهلوي
13ـ شذرات الذهب في أخبار من ذهب / لعبد الحي بن أحمد العكري الدمشقي
14ـ أسدالغابة لابن الأثير(1/119)