بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ..
إن المتأمل في حال هذه الدنيا يجد أن أمرها عجيب .. وتقلباتها أعجب .. فما أن نجد الإنسان يضحك إلا ونفاجأ به يبكي .. وما أن نراه يفرح إلا وتبدو عليه علامات الحزن والهم والغم والكآبة، وهكذا الحياة .. ففي الحياة دروس .. وفي القصص عبر .. والنفوس من طبيعتها تألف القصص .. خاصة إن كانت واقعية .. فإنها تمس شغاف القلوب .. وبين أيديكم مجموعة قصصية أخرى من الحياة .. أسأل الله العلي القدير أن تجدوا فيها العظة والعبرة والنفع والفائدة وأن تزيل عن نفوسكم ركام الهموم والأحزان والمصاعب والآلام.
أختكم في الله:
نوال بنت عبد الله
غرة شهر رمضان المبارك لعام 1419هـ
* * * *
(1) حينما يستيقظ الضمير ..
دنيا عريضة بعرض امتداد السنين والأيام .. ليست إلا كلوحة امتلأت أصباغًا وألونًا تبهر الناظرين إليها ولكنها تستحيل فيما بعد زيفًا وكذبًا، هكذا هي الدنيا فلمَ الحزن عليها؟!! ولما الهم من أجلها؟ ولما طول السهاد والأرق لفنائها؟! ولمَ الانهماك والانغماس في أهوائها وشهواتها؟! لا أظن أحدًا لهى كلهوي، أو ضحك كضحكي أو تشبَّع من دنياه مثلي، وبرغم ذلك كانت حياتي جحيمًا لا يطاق، ودموعًا لا تنتهي تدثرت بسواد امتلأ به فؤادي وسكن قلبي المسكين.(1/1)
لقد كان نهاري ضائعًا ما بين غناء فاحش واستهتار كبير وتسكع في الشوارع والأسواق فالرقيب داخل نفسي مختف، أما ليلي فينقضي في سهرات تافهة ومناظر سافلة أمام القنوات الفضائية، ورنين الهاتف وسماعته كانت كغذاء لروحي الهزيلة بضعف الإيمان، الدنيا من حولي أضواء وصخب ومصابيح ولكنها كلّها زائفة، لأنني كنت أشعر بالظلام يحاصرني ودياجير التيه والضياع والنصب تحيط بي من كل جانب، تتقاذفني الأمواج من كل حدث وبوب، وأنا صريعة أغرق في كل يوم، بل في كل ساعة حتى النهاية أتأرجح برغم سعادتي الزائفة، حياة لا معنى لها سوى الضياع والغفلة والنسيان بكل ما حملت هذه الكلمة من معنى، اهتماماتي كانت دنيئة جدًا إلى حد الخسَّة ومع ذلك كله كنت عنيدة المراس بل متغطرسة، مكابرة، فقد غطَّت الغفلة قلبي، كنت لا أقبل نصح الناصحين لي، ولا ألتفت لدعوة الداعين لي، حتى أشفق علي والدي من سوء حالي، وبِتُّ معروفة بسوء تصرفاتي وخُلقي.
لا أنسى كلمات أبي – والذي كان مشغولاً بشركاته وعقاراته وأمواله والتي أخذت جُل وقته – عندما أخذ يوبخني ويصفني بالعقوق وقلة الحياء والأدب، وقال من سيفكر بالزواج من فتاة سيئة مثلك .. لقد جلبت لي العار، لو لم يكن حرام علي لقتلتك، ومع هذا كله كنت لا أبالي، أما والدتي المسكينة فقد ملَّت وسئمت من كثرة توجيهاتها لي، بل لم تترك سبيلاً في تقويم اعوجاج نفسي إلا وسلكته، فمرة باللين ومرة بالتهديد وكنت في كل مرة أزداد شراسة وعنادًا حتى دمعات أمي الغالية لم تشفع عند نفسي المتجبرة، زاد الأمر سوءًا بعدما انتهيت من المرحلة الثانوية وتخرجت بنسبة ضئيلة جدًا بعد رسوب دام عدة سنوات، فلم تؤهلني تلك النسبة للالتحاق بأي كلية أو جامعة، فمكثت في المنزل وكان خبر مكوني في المنزل كالصاعقة لوالدي، فمعنى ذلك أن الفراغ في حياتي سيزداد، وسأزداد تبعًا لذلك سوءًا، وهذا ما حصل بالفعل.(1/2)
عكفت في أثناء إجازتي المفتوحة على ما لا تحمد عقباه أغاني ماجنة، موسيقى غربية، أفلام مقززة، مجلات خليعة، روايات هابطة، حتى تخيلت نفسي من أرباب هذا العفن الفني، بل تخيلت نفسي أنني راقصة أو مغنية مشهورة لا يُشق لها غبار، وتناسيت الحكمة التي لأجلها خلقنا الله في هذه الدنيا.
هكذا هو حالي في المنزل وفي خارجه مقابلة من أشاء .. لهو، عبث، زيارات لصديقات يفقنني سوءًا، استهتار وغفلة، ولكن الله تعالى دائمًا في مواكبة عباده ولا تغفل عينه مهما بلغ الإنسان عنان العتو والكبرياء والضلال (والله يهدي من يشاء).
ذات يوم وبينما أنا كعادتي في غرفتي أستمع لمزامير الشيطان وأترنح طربًا تارة وأنا واقفة، وتارة وأنا مستلقية، أو راقصة، أردد أطراف الغناء مع المطرب وقد سلبي لبّي، بينما أنا كذلك إذ بأختي الصغيرة ذات الأعوام السبعة تدخل على غرفتي وتجلس وتنظر لشكلي المضحك ولحركاتي البهلوانية، وقد اعترتها الدهشة، بل والضحك .. فما كان مني إلا أن أغلقتُ المسجل وصرختُ في وجهها: ماذا تريدين؟
فقال: مها الصغيرة بكل خوف وتلعثم – فهي تعرف مدى قوتي وبطشي – أريد .. أريد أن أجلس معك .. إني خائفة .. حدثيني بقصة .. فليس في البيت أحد سوانا والخادمة هيّا معي لنخرج للحديقة فإني أحس بالكآبة والحزن.
ازددت حنقًا وغيظًا، وقلت لها بصوت دوَّى في الأرجاء بعد أن فتحت باب غرفتي: اغربي عن وجهي .. هل ضاق بك المنزل إلا في غرفتي .. اذهبي إلى الخادمة والعبي معها لا أريد أحدًا عندي .. هل تفهمين!!
استسلمت الصغيرة لأوامري المتعجرفة .. وانسحبت باكية .. وما زلتُ أصرخ كالمجنونة «العبي بعيدًا ولا تأتي مرة أخرى إلى هنا هل تسمعين؟!!».
لقد كدَّر صفو حياتي قرار أبي الأخير بمنعي من الخروج إلى صديقاتي .. ما زالت تهديداته يتردد صداها في مسامعي .. أوه معقَّدين .. ظلمة ..
عدتي إلى عفني وأشرطتي .. واستكملتُ الغناء والمرح والطرب!!(1/3)
ولكن شعور غريب يخالجني .. فراغ كبير أحس به في داخل نفسي، نظرت على ساعة الغرفة، إنها الخامسة مساء، الوقت مناسبًا لسماعتي الحبيبة ومغامراتي الحلوة .. مع فلان وعلان .. إنني أريد التسلية فقط فالحياة هكذا لا تطاق، فكرت في تأجيل هذه المغامرات إلى منتصف الليل، فهو أنسب الأوقات بالنسبة لي، وحتى لا يفتضح أمري. الجمود يكتنف بكل شيء، ولكن ذلك الشعور بدأ يزداد في نفسي، أحسست بالاختناق ورغبة شديدة في البكاء والصراخ، أغلقت المسجل فبدت الغرفة هادئة نوعًا ما، استلقيت على السرير أفكر في أشياء بائسة، أو مضحكة أحيانًا، حدثتني نفسي لماذا لا أخرج إلى حديقة المنزل لعل في ذلك ترويحًا عن نفسي الملبَّدة بسوء الطوية والتصرفات، وبالفعل خرجت وكان الجو لطيفًا ولكنه يبدو كئيبًا، وبدا منظر الأزهار اليوم يحتضر حتى العصافير الصغيرة كانت تشدو حول الحديقة بلحن حزين وكأن شيئًا من ذلك الاكتئاب والحزن تسلل إلى قلبي ولكن لا أدري لماذا؟
تسارعت خطواتي أكثر وأنا أتجول في حديقة المنزل وأردد:
أبكي وأضحك والحالات واحدة
أطوي عليها فؤادًا شقه الألم
فإن رأيت دموعي وهي ضاحكة
فالدمع من زحمة الآلام يبتسم(1/4)
ومع اقترابي من المسبح بدأ المنظر مرعبًا والصاعقة كان وقعها على نفسي كبيرًا، اقتربت أكثر لأنظر .. لأتأكد .. فما راعني إلا هول المصيبة وعظم الفاجئة ..!! إنها أختي الصغيرة البريئة مغمورة في مياه المسبح الضخم، لقد غرقت فيه فهي لا تعرف السباحة مثلنا، أصبحت في حيرة من أمري .. سرت رعشة في جسدي المتعب الكئيب وبدأت أصرخ كالمجنونة وأنادي: مها .. مها .. ولكنها لا تجيب .. أتت الخادمة مسرعة مرعوبة من الصراخ والعويل .. فقد كانت في سباتها ونومها العميق .. شبيه بنومي وغفلتي ولكن من نوع آخر، انتشلناها من المسبح وبسرعة .. أخذت أحركها .. أهزّها .. أقلّبها لعلها تتحرك، لعلها تتلكم .. لعلها تتنفس .. أتحسس نبضات قلبها الصغير ولكنه لا ينبض .. ما زالت بعينيك يامها دمعة من تلك الدموع البريئة التي سالت منذ ساعة، إثر صراخي في وجهك .. وعلى ملامحك الهادئة مسحة من عتاب رقيق لي تعاتبيني .. حملتها بين ذراعي إلى داخل المنزل وفي تلك الأثناء هاتفت الخادمة والدي فأتيا مسرعين وأخذاها إلى المستشفى.(1/5)
بينما كنت أمشي على غير هدى وأتخبط وأتعثر، أرى في صورتها وهيئتها صورة لغفلة كانت من حياتي قد تؤدي بحياة طفلة بريئة .. كنت أبكي وأدعو الله أن تعود أختي للحياة معافاة ولا أريد من متاع الدنيا شيئًا، فالدنيا أمامي الآن من أحقر شيء .. تذكرت أيامي السالفة الضائعة .. مر في مخيلتي شريط حياتي البائس في ظل الشيطان وحزبه .. جلست بجانب سماعة الهاتف .. انتظر وبفارغ الصبر .. قرار الطبيب في حالة أختي .. كانت نبضات قلبي تدق وبسرعة .. أخذت ألوم نفسي وأوبخها .. ليتني أذنت لها بالبقاء معي في غرفتي .. ليتني استمعت إلى ما تريد .. ليتني لم أنتهرها .. يا ترى أو كانت تريد أن تودعني الوداع الأخير .. لا .. لا .. ستعود مها نعم ستعود .. كم سأطير فحرًا إذا رأيتها .. سأضمها إلى صدري .. سأقبّلها .. سأشتري لها لعبًا .. حلوى .. كل ما تريد ولكن عودي إلي أيتها الحبيبة مها ..
يقطع حبل أفكارها جرس الهاتف وهو يرن .. رفعته وبسرعة جنونية .. ومن هناك من المستشفى .. عزاءكم جميعًا في تلك الطفلة البريئة .. لقد تسرَّب الماء إلى جوفها بكثرة نتيجة مكوثها أكثر من ساعة تحته ..!!
مع تسلل هذه العبارات إلى أذني ووصولها مباشرة إلى قلبي لم أشعر بما حولي فقد سقطت مغميًا علي .. لقد دوَّت صرخات قوية مجلجلة في داخل نفسي المشتتة، لا أدري بعدها ما الذي حصل .. وماذا جرى؟!! شيء واحد أدركته (بأن كل نفس ذائقة الموت).
بعدها أفقت من إغماءتي وقبل ذلك أفقت من غفلتي وسباتي الذي كنت أعيشه مدة طويلة .. الكل اجتمع حولي .. والباكون حولي كثير .. سمعت أبي يقول:
لقد تركناها في المنزل بصحبة هذه .. فأكملت أنا بدلاً عنه: هذه الضائعة الغافلة التافهة .. عدت إلى غرفتي وقد أنهكني الهم والتعب والحزن .. عدت إلى وحدتي أبكي أختي .. وأندب تخاذلي وأصرخ من ضياعي .. أنادي: بالله عليكم لا تجمعوا علي بين عذاب القوم .. ومرارة ا للوم .. ارحموني فإني ضائعة.(1/6)
إني أرى خيالك يا مها يداعب جفوني .. أرى صورتك أمامي عندما تعودين من المدرسة منهكة حزينة .. تركضين إلى غرفتي فتقبَّلينني .. أرى خيالك وأنت تفتحين حقيبتك لتستذكري دروسك فأسمع صوتك الطفولي العذب يردد ذلك النشيد المعتاد:
أمي أمي ما أحلاها ... هي في قلبي لا أنساها
فتلتفتين إلي وتنادينني ماما! أتخيل صورتك يا صغيرتي الحبيبة تقفين عند ألعابك تصاحبك براءتك ونظراتك الجميلة وصوت ضحكاتك العذب في كل زاوية يجعلني أفكر في كل شيء .. مرحك .. دعابتك .. كم مرة انتهرتك .. كم مرة قسوت عليك، بل كم مرة امتدت يدي لتضرب ذلك الجسد الغض وبدون سبب، كنت تبكين ثم تبكين لحرقة الألم بينما أنا أضحك سعيدة، وبعد قليل تنسين قسوتي عليك وتأتين لتحدثيني وكأن شيئًا لم يكن، إنها براءة الطفولة التي لا تعرف الحقد أو الغل .. رحلتِ يا مها .. ورحل معك ماضي البائس. أوه كم هي رخيصة حياة العبث والهوى والمجون.(1/7)
رأيت أمي أمامي باكية .. فقلت لها: لماذا تبكين أيتها الأم الحزينة، أتبكين رحيل ابنتك البريئة الحبيبة؟ أم تبكين وترثين حال ابنتك الضائعة المكلومة – وليس لك من البنات سوانا – كفكفي دمعاتك يا أمي ففي جنبي لوعة لو أخرجتها لفجرت ما أمامي من ضياع .. كفكفي دمعاتك يا أمي ففي جنبي لوعة لو أخرجتها لفجرت ما أمامي من ضياع .. كفكفي دمعاتك فحوادث الأيام وصروف الدهر وغيابات الزمن تقسو أحيانًا، وتضيق بأهلها أحيانًا، ولكن في نهايتها بشارة وغنيمة فقد أفقت – ولله الحمد – من غفلتي الطويلة بعدما رأيت الموت بعيني .. لقد أشرق قلبي بنور الإيمان بعد حياة الضياع والضلال. بعدها تحاملت على نفسي المنهكة وأخذت ما كان من عفن في غرفتي وعلى مرأى من الجميع قذفت به بعيدًا إلى غير رجعة بإذن الله، وتحاملت على نفسي مرة أخرى وذهبت وتوضأت .. ثم كبرت مصلية لله، وعندما شرعت في الصلاة بكيت كثيرًا، بكيت لأيام سالفة من حياتي .. وبكيت أكثر عندما تذكرت أختي الحبيبة، فدعوت الله أن تكون فرطنا إلى الجنة .. اهـ.
* * * *
(2) جارة السوء
حكايتي رواية لم تنته حلقاتها بعد، ولكن في ذكرها عظة وعبرة، فأحببت أن أصوغها لكم لعل ذلك يخفف من آلامي وأحزاني.(1/8)
تعرفت عليها .. جمعتنا أرض الغربة وقربتنا البيوت أكثر، كنا جارتين بل أختين استهوتني بحسن تصرفاتها واجتذبتني بمعسول كلامها كلا .. بل إن كلامها لسحر كل عبارات الود والتلطف قد جمعت في لسانها وجميع أساليب الدخول إلى القلوب قد أتقنتها هذه الإنسانة، لقد أحببتها وأخلصت لها من صميم قلبي لدرجة أنني كنت أصحبها معي في شراء ما أريده وخاصة حليّ وملابس وكنت أثق بذوقها حتى وإن قال لي الأخريات عكس ذلك، لا أطبخ شيئًا إلا وتتذوق منه، بل وأنتقيه لها بنفسي وأحرص أن تأكل منه قبل عائلتي .. أصبحت زياراتي محصورة عندها ولا أزور بقية جاراتي إلا بصحبتها، وذات يوم حضرتها الولادة وزوجها غير موجود، احتضنتها بكل لهفة وشفقة ونقلتها برفقة زوجي إلى المستشفى والناس للناس وفعلاً يسر الله لها الولادة. عدت مسرورة بعد أن اطمأننت عليها وعلى مولودها. وعندما حان موعد خروجها توجت إلى المستشفى برفقة زوجي لإخراجها ومع ركوبه في السيارة كانت المفاجأة التي صُعقت لهولها، حيث تعمدت كشف وجهها ونحرها أمام زوجي وبمرأي مني، فما كان منه إلا أن غض بصره وانسحب خارجًا من سيارته مذهولاً، أما أنا فقد صعقت حقًا ولمتها على ذلك، فقالت: وماذا بالأمر؟ إنه أخٌ لي .. كان المفروض أن أتعظ من هذه الحادثة وتكون درسًا لمعرفة ما تطويه نفس هذه الجارة التي قامت بما قامت به .. وكان المفروض أن آخذ الحذر والحيطة .. ولكن نفسي الطيبة التمست لها الأعذار، وأنها قد تكون ندمت على تصرفها ذاك، وأنها لن تعود، وأنها أحست بغلطتها .. إلخ وكانت هذه غلطتي.(1/9)
مرت الأيام والصفاء بيننا يزداد .. وكدت أنسى ذلك الموقف منها، وذات يوم وبينما أنا عندها، إذ بها تفاجئني بطلب غريب عجيب .. ألا وهو أن أكشف وجهي لزوجها .. امتنعت وبشدة .. وعندما رأت رفضي وإبائي .. قالت: ليس في الأمر شيء، ثم هو أخ لك، ألم يراني زوجك؟!! ذكرتها بأنها هي من تسببت في ذلك وبكامل إرادتها ورغبتها .. بل إن زوجي لم يرض عن تصرفها بدليل خروجه من السيارة وغضه لبصره.(1/10)
قالت: أنت لا تفهمين وستمكثين طوال حياتك غير متحضرة، وقروية، وكان أسلوبها معي على سبيل المداعبة والمزاد، وإذ بها تنادي ابنتها وبسرعة البرق أمسكت بيدي وأزالت غطاء شعري، ودخلت ابنتها وزوجها، لم أستطع الفكاك منها لصعوبة الموقف، ولشدة قبضتها علي، فهي قوية البنية، وبعد خروج زوجها، قالت لي مسلية وبكل خبث: ليس من العدل أن يراني زوجك، وزوجي لا يراك، في تلك اللحظات لم أستطع الكلام ولا التعبير، بل انحدرت من مقلتي دمعات ساخنة، تأسفت على تلك الثقة العمياء التي أوليتها إنسانة عديمة الإحساس، قليلة الدين، خرجت من بيتها وحرصت على عدم إخبار زوجي بالأمر .. لأنه سيصب علي جم غضبه وسيلومني على ضعفي واختياري لصحبة هذه الإنسانة .. واكتفيت بمقاطعتها .. انشغلت بنفسي وزوجي وابني الوحيد .. فموعد اختباره قد قرب، وذات يوم جاءت إلي هذه الجارة متأسفة متندمة على ما كان منها، وأبدت انزعاجها لمقاطعتي إياها، وطلبت مني العفو والصفح، وكان يلزمني أن أكون حذرة منها .. فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ولكن طيبتي المعهودة جعلتني أقبل تأسفها واعتذارها .. وحرصت أن أقلل زياراتي لها، ولكنها أصبحت هي التي تزورني كل يوم وكنت أتحرَّج كثيرًا عندما أنبهها أن علينا امتحانات، وربما لجأتُ للصراخ على ابني وضربه أحيانًا حتى يذاكر ولكي تفهم .. فلم يكن يؤثر ذلك فيها أبدًا، بل كانت تتجاهل الأمر وبشدة، ثم تثير الحماس في أطفالها لرفع أصواتهم عند اللعب معللة «بأن الطفل إذا لعب كثيرًا نام بهدوء أكثر» .. انتهت أيام الامتحانات .. وكانت النتيجة بالطبع رسوب ابني وأظهرت عدم مبالاتها بالأمر، بل وسرورها، وأنه ما زال صغيرًا.
بدأتُ أشمئز من حركاتها، ولبسها الذي لا يكاد يستر جسدها خلاف ما عهدناها عليه ولطالما رددت على مسامعي ومسامع غيري عبارة «أمنيتها أن يتزوج زوجي».(1/11)
اعتقدت أنها تمزج .. وأنها مجرد مداعبة .. ولكني اكتشفت غايتها وهدفها وهو التفريق بيني وبين زوجي. لكن .. لماذا؟! وأنا مَنْ وهبتها ثقتي وصداقتي .. هل لفارق المستوى المادي بيني وبينها؟ أم لما أنعم به من راحة في أسرتي؟ أم حسدًا مما تراني أرفل فيه من نعيم، أو لقوة شخصية زوجي ومكانته المرموقة على خلاف زوجها عديم الشخصية؟ إنني لم أبخل عليها بشيء من ملابسي وحليي وأدواتي فما سبب هذا الحقد والحسد منها؟!! وبسبب تصرفاتها السيئة تجاهي .. لم أعد أفتح بابي لأحد لا هي ولا غيرها. وانقطعت عن الزيارات. أما هي فقد أحست بذلك وخلال هذه الفترة أصبحت لا تجتمع بأحد من النساء إلا وتهمس في أذنهن بشيء يسيء لي كذبًا وزورًا، وبدأ النساء يتناقلن كلماتها والتي وصل الأمر أن مست عرضي .. أخبرت زوجي بهذا الأمر، فذهب إليها وتحدث معها، فما كان منها إلا أن قالت: إنني أنا التي قلت هذا الكلام عن نفسي وأنها ممن سمع فقط.(1/12)
فعاد زوجي إلي قائلاً: اتركي مداخلة هذه المرأة إلى الأبد .. ابتعدي عنها وعن وجع الرأس .. ضاقت علي الأرض بما رحبت فقد تركتها لكنها لم تتركني .. فما زالت تشيع عني الأكاذيب في أوساط النساء .. وهن يعرفن قوة علاقتي بها سابقًا، فيصدقنها وكما ذكرت سابقًا فلها أسلوب عجيب في الإقناع فسخرته في الشر والإفساد .. لقد أشاعت أن أحدهم أخذني إلى الخروج يومًا ما .. وآخر يأتي ما بين الساعة الثانية والثالثة ليلاً فأخرج معه .. وأنني أترك باب بيتي مفتوحًا في فترة غياب زوجي و .. و .. و .. وغير ذلك من الأكاذيب التي يشيب منها الولدان، ولا أقول إلا حسبي الله ونعم الوكيل، لقد قالت عني الكثير والكثير فهي تذهب إلى كل امرأة وتعطيها كذبة غير الأخرى .. لنشر الإشاعة وهي بين النساء أكثر انتشارًا من النار في الهشيم .. وكله ظلم وبهتان .. رددت حسبي الله ونعم الوكيل { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور:23].
وكان النساء ينقلن لي كثيرًا مما تقوله عني .. فصرختُ بأعلى صوتي .. أسألكم بالله لا تنقلوا لي شيئًا مما تقول كفى نميمة وكذبًا وزورًا .. من كانت تعزني .. وتودني حقًا فلتدافع عن عرضي في مجلسها وحسب .. اتقوا الله وتذكروا .. «من ذب عن عرض أخيه المسلم بالغيب، ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة».(1/13)
عندها استفحل الأمر ووصل عند زوجي ذروته، فقد اتهمتني بأنني أعطيت زوجها نسخة من مفتاح البيت ليقْدُمَ علي في أي وقت شاء وحسبي الله ونعم الوكيل، فقرر زوجي أن يتوقف هذه المهازل، وعزم على التحدث مع الرجال ورجوت من ذلك خيرًا .. أقل ما رجوت أخذ حقي المهضوم منها وإظهار براءتي وفعلاً قرروا الاجتماع والحكم في هذه المسألة، وجاء اليوم المحدد وحضر كل من عرف بالأمر واهتم به، ليحكم بيننا أحد أئمة المساجد، وكان علينا نصف تكاليف العشاء، وجلس الرجال على حدة يتحدثون والنساء على حدة يسمعن ما يحدث ثم جاء الإمام وجلس في مقعده المعد له، ونادى بعد حمد الله والثناء عليه وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، نادى على تلك الجارة فأجابته بقولها:
يا شيخ (..) إن النساء قبل حضورك بقليل يستهزئن بدينك و .. ومن هؤلاء فلانة (وتقصدني أنا).
سكت الشيخ برهة، وقال بنبرة حادة: ماذا عن المفاتيح يا أم فلان؟
قالت وبكل ثقة: المفاتيح أُعطيت لزوجي من قبل فلانة – تقصدني – وذلك من أجل تعبئة أسطوانات الغاز.
فهالني تقلّبها في الكلام .. وابتكار الألفاظ .. وأصابني غمٌّ عظيم، وسألني الشيخ عن ذلك، فأنكرتُ وبشدة وصوتي مخنوق بالعبرة والدهشة معًا .. وطلب من النساء – اللاتي قمن بنقل الكلام – شهودًا على ما تقوله جارتي تلك .. أو ما أنكره أنا .. فلم يتقدم أحد رغم أن الحضور كثير وكثير جدًا .. عندها أدركت أنهن ما حضرن إلا للتفرجة والمشاهدة فقط ولعدم نصرة الحق .. ومنهن من تعذرت لي بعدم إن زوجها بالتحدث في الموضوع .. وأنا أعلم أن هذا هراء .. ولكن، حسبي الله ونعم الوكيل.(1/14)
ثم استدعى زوج جارتي وسأله .. فقرر الشيخ (إمام المسجد) أن يحلف الرجل على كلامه، بعد أن أجاب مثل زوجته وبالفعل حلف – عليه من الله ما يستحق – على أنني أعطيته المفتاح ليجعل منه نسخة له .. الخ. وانفض المجلس ولم أستغرب ذلك أبدًا بل توقعته نظرًا لأني أعلم أن لها السلطة عليه .. فهو ينفَّذُ أوامرها بحذافيرها، لكني لا أقول إلا حسبي الله وننعم الوكيل .. حسبي الله ونعم الوكيل، فماذا أصنع؟ وهذا ما جنيته لعشرة دامت ثمان سنوات ولأنني ما وفقت في اختيار الصديقة الصالحة التي تعينني على الخير ولأنني وهبتها الثقة العمياء والمؤمن يلزم أن يكون كيسًا فطنًا .. أصبحت أرى الأحلام المفجعة .. صدري يتأجج من نار الظلم والبهتان، تمر علي ساعات ذعر، وكراهية، وضيق شديد، لجأت للدراسة في إحدى دور القرآن بعدًا عن اجتماع النساء وهروبًا من المشاكل والقيل والقال والتي أفسدت علي حياتي، ألا بذكر الله تطمئن القلوب وما زالت أدعو الله أدعوه وأتضرع إليه «ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب» بأن يأخذ حقي منها عاجلاً غير آجل .. وحسبي الله ونعم الوكيل.
لقد أبدل الله الحال والمآل فصحبت الخيرات التقيات اللاتي يشع القرآن في قلوبهن ويبع الذكر والتسبيح من ألسنتهن! إنها صحبة طيبة في مكان طيب، وأدعو الله عز وجل أن يجمعنا في جنة عدن!! (1) . اهـ.
* * * *
(3) أمنية الحبيب
__________
(1) وصلتني هذه القصة من إحدى الأخوات الثقات – بإذن الله -.(1/15)
ليل حالك، ظلام دامس، أقفرت أوتار القمر، واسترخت السماء، وسكن البشر إلا من عينين، أنهكهما التعب، لقد خارت منها القوى وهي تستذكر أصعب المواد بدأ النوم يداعب جفونها، وكادت تستسلم، ولكن لا!! إنه آخر امتحان لها، بل إنها آخر سنة دراسية وتنتهي بذلك رحلة الدراسة لتنتقل إلى سلك التدريس إن أراد الله لها ذلك – فتحت نافذتها .. السكون يلف الكون ..نجوم السماء تتلألأ أمام ناظريها وكأنها تحادثها، صوبت نظرها إلى البعيد، حدثت نفسها، من يصدق أن هذه آخر سنة لي، من يصدق أنني سأنهي مرحلتي الجامعية، ولكن هل أنهيها بسلام؟!(1/16)
لا إنني أسعى جاهدة لتحقيق أمنية أبي الحبيب .. آه رعاك الله يا من كنت سندي وعوني في حياتي ومحنتي بعد الله – عز وجل - .. خاصة بعد فقدي لأمي الغالية في ذلك الحادث المروع، فكنت لي الأب والأم والأخ .. لم تبخل علي بشيء، كم حرصت على تنشئتي النشأة القويمة .. بذلت قصارى جهدك لإسعادي وإرضائي، كم كنت ترمقني بعينيك الرحيمتين فتشفق علي، قد يكون سبب ذلك ما أصاب قدمي جراء الحادث فأصبحت لا أسير إلا برجل صناعية، ولكن هذا لم يؤثر في مسيرة حياتي بفضل الله ومنته، فأنا مستسلمة لقضاء الله وقدره، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى. إنني أعلم يا أبي أنك تريد أن تعوضني عن حنان تلك الراحلة، وتسعى لتقدم لي مهجة عينيك نورًا لي في الحياة وقد فعلت ذلك بجدارة .. كنت دائمًا تقول لي أمنيتي يا حنان أن أمتع نظري بشهادتك الجامعية وأن تكوني نعم المعلمة والمربية،وأن يكون لك دور ملموس في نصرة دين الله، وها أنا ذا يا أبي أسعى لتحقيق رغبتك .. وخالد .. ذلك الشاب المستقيم – زوج المستقبل – والذي تنازل ..وقَبِلَ بفتاة مثلي على الرغم من العاهة التي أصابتني .. مَنْ مثله .. خلق دين .. أدب جم .. لا أنسى كلماته لي يوم عقد النكاح، اجعلي جُلَّ اهتمامك في دراستك وبالذات هذه السنة، لا أنسى مدى تفانيه وتعاونه معي فلقد أجَّل حفل الزواج حتى لا يشغلني عن دراستي وقرر أن يجعل الفرحة فرحتين فرحة استلامي شهادتي وفرحة زواجنا، كم راعى شعوري تجاه أبي الحبيب عندما طلبت منه أن أسكن بجواره فليس لأبي أحد سواي، فلبى طلبي سريعًا ودون تردد، كيف أنسى هذه الأيدي الحانية في خضم حزني وآلامي وفقدي لأعز الناس لدي.(1/17)
ومع هذه الأفكار الجميلة والذكريات السعيدة، انتابها شعور غريب شعور بالخوف والرهبة، فعادت من جديد تفكر في المستقبل، ولكن يا ترى إذا لم يحالفني التوفيق وأنجح هذه السنة فما عساي أن أفعل؟!! وما موقفي من والدي؟!! وموقف خالد مني؟!!
استدركت كلماتها الأخيرة فاحمرّ وجهها وانطلقت من ثغرها ابتسامة عذبة وهي تقول: عيب يا بنت ماذا تقصدين؟!! أأنت مستعجلة على الزواج ثم لِمَ التشاؤم؟ استيقظت من هذه الأحلام الجميلة، وحاولت أن تحد من الاسترسال في التفكير لعلها تكمل ما في يدها، فالساعة أصبحت الحادية عشرة مساءً، والمنهج أمامها طويل، دست رأسها بين كتبها ومذكراتها لتستذكر ما تبقى لها .. وفي هذه الأثناء تسمع طرقًا رقيقًا على باب غرفتها .. أدركت على الفور من يكون هذا الطارق الحبيب .. قامت بخفة لتفتح الباب فإذا به والدها العزيز يحمل في يده كوب العصير.
وكعادته وبحنانه المعهود قال: كان الله في عونك يا حنان .. يبدو أنك تعبت من كثرة المذاكرة .. بل ويبدو عليك الإرهاق .. ألا تستريحين؟!!
ردت: بعد أن أخذت من أبيها العصير .. جزاك الله خيرًا يا أبي لماذا أتعبت نفسك لقد تكبدت من أجلي المشاق، المفروض أنني أنا التي أُحضر لك العصير، أنا التي أخدمك وألبي لك طلباتك، ولست أنت، لقد اعتقدت أنك نمت منذ فترة.
رد الأب: كيف يغمض لي جفن ويهدأ لي بال وأنت ما زلت ساهرة.
يا أبي حسنًا لم يبق لي إلا القليل، سأنهيه في الفجر بمشيئة الله، وسأخلد للنوم الآن وأنت أيضًا اذهب ونم، تبسم الأب خيرًا إن شاء الله يا ابنتي .. ألقاك على خير.
تظاهرت بالنوم إلى أن ذهب أبوها إلى غرفته، وأغلق خلفه الباب، رفعت بصرها إلى السماء، يا رب احفظ لي أبي. وأطل في عمره على طاعتك، والله يا أبي مهما فعلت لك فلن أوفيك حقك كاملاً .. عادت من جديد لتكمل مذاكرة دروسها.(1/18)
خرجت من قاعة الاختبار وهي مستبشرة بما قدمت من حلول، لقد كانت الأسئلة بالنسبة لها في غاية اليسر والسهولة .. إنه توفيق الله ودعوات الوالد .. أردفت: اللهم تمم على خير.
اجتمع حولها الصديقات وأخذن يستعرضن الإجابات ويراجعن أوراقهن فهذه تؤيد الإجابة وأخرى ترفضها وتعارض، وبينما هن في هذا الصخب والضجيج إذ بهن يلمحن حنان وهي شاردة الذهن، تنظر إلى البعيد، إنها مرهفة الحس، تتصف بالهدوء والاتزان .. بدأ الحزن على محياها إحساس بالكآبة يطبق على صدرها.
تفاجأ منها زميلاتها .. تساءلن: ماذا بها يا ترى؟!! ألم تحل جيدًا؟!! ولكنها قالت: إن الأسئلة سهلة؟! قطعت عليهن تساؤلاتهن قائلة: أتدرون ماذا يعتبر هذا اليوم بالنسبة لنا؟ فهم زميلاتها مغزاها فخيم الصمت على المكان، وبدأ التأثر على الوجوه أكملت إنني سأفارق هذا المكان الذي نهلت منه عذاب العلوم، سأفارق هذه الوجوه الطيبة، سأفارق من عشت معهن أربع سنوات بحلوها ومرها .. ثم ردت: اللهم اجمعني بمن أحب في جنات النعيم .. سمعت همساتهن .. اللهم آمين .. اللهم آمين.
عادت إلى المنزل وقد بدا عليها التعب والألم، ففترة الاختبارات مرهقة، ألقت بجسدها المنهك على سريرها وبدأت تفيض من مخيلتها سواقي الذكريات، من قريب كنت بين أحضان أُمًّ حنون .. ودَّعتني ورحلت .. واليوم أودع ثلة من صديقاتي الطيبات .. ولا أدري أألتقي بهن في هذه الدنيا، وعزائي الوحيد أن تكون الجنة ملتقانا، ويا ترى من سأودع أيضًا ..؟!!(1/19)
اشتغلت بتجهيزات العرس .. وما يخصها من ملابس .. وحلي .. وغيرها .. وما أن تشتري شيئًا إلا وتستشير والدها فيه، فإن أعجبه أخذت به حتى لو لم يعجبها، وكانت تتابع وبلهفة هي وصديقاتها النتائج. وجاء ذلك اليوم الذي ظهرت فيه النتيجة، وكانت من ضمن المتفوقات زفت هذه البشرى لوالدها الحبيب وهي تكاد تتطير فرحًا، أخذت تقول والبشر يلعو محياها، أبي لقد تحقق الحلم، تساقطت دمعات من مقلتيها وهي تتذكر أمها الحنون، أحست بالعزاء يسري في جسدها، رددت وبدون شعور ليتك كنت معي يا أمي لتشاطريني فرحتي .. رحمك الله يا أماه.
أوه لا أصدق أنني تخرجت من الجامعة ومع كلماتها الأخيرة أصاب الأب غم وحزن تذكر مباشرة ذلك الحادث الذي تسبب فيه بسبب سرعته الجنونية مما أودى بحياة زوجته الغالية وساق ابنته الحبيبة، حاول كتمان تلك الكآبة فهو لا يريد أن يكدر فرحة ابنته بشيء، لا يريد أن يحزنها، أراد أن يشغلها عنه .. فتصنع المرح قائلاً: حنان هل أخبرت خالدًا بهذا النبأ السار؟ ومع سماعها لهذه الكلمات من أبيها اعتلت وجنتاها حمرة الخجل، وحاولت أن تخفي ابتسامتها ولكنها لم تستطع، فردت باستحياء: كلا يا أبي..
فقال لها بحماس: ماذا تنتظرين .. هيا زفي له البشارة، كلميه .. فإنه ينتظر هذا الخبر بفارغ الصبر.
في الجامعة تم تحديد موعد استلام الوثيقة الجامعية وفي نفس الوقت تم تحديد موعد الزفات، وزعت بطاقات الدعوة على الأهل والأصحاب ومع اقتراب الموعد هواجس كثيرة تنتاب حنان، وكلما أفضت بهذا الأمر لأحد قالوا لها: أمر طبيعي، إنه شعور كل عروس إذا اقترب موعد زفافها، وقبل الليلة المحددة بيومين، إذ بأبيها يشتد عليه السعال، حاول إخفاء ذلك تعلل بأنه أمر بسيط وسيزول وأن الطبيب قد أعطاه الدواء ولكن هواجس حنان تزداد في نفسها والقلق يكبر في صدرها .. ماذا يا أبي الحبيب؟!!(1/20)
وفي الليلة التي قبل يوم الزفاف يشتد السعال على والد حنان مما اضطرها لأن تتصل على خالد ليدرك أباها وفعلاً نقل إلى أقرب مستشفى وبعد التحاليل المكثفة والإشعاعات إذا بالطبيب يفاجئهم بقوله بأن حالة الأب الصحية سيئة جدًا ولا بد أن يكون تحت الملاحظة الشديدة فأدخل في العناية المركزة .. أخفوا على حنان هذه الحقيقة المؤلمة.
أما بالنسبة للزواج فقد تأجل بسبب الظروف التي يمر بها والد حنان .. كانت تبكي بحرقة وألم تدعو الله أن يبقى لها والدها ويشفيه ويعافيه. الكل يبكي من حولها بصمت ويرثي لحالها فليس لها في الدنيا سواه. مكث أبوها مدة في المستشفى ونفسية حنان تزداد سوءًا حتى وثيقة التخرج نسيتها بل إنها تشاجرت مع خالد والذي لم يراع مشاعرها وحالتها النفسية التي تمر بها فأسمعها كلامًا جارحًا لاذعًا جعلها تشمئز منه وانقطع هو بدوره عن زيارتهم أو حتى – السؤال عن والدها فازدادت نفرة منه.
إنها الآن في أمس الحاجة لمن يقف بجانبها تريد من يواسيها في مصابها، تريد من يخفف عنها آلامها، تتذكر آيات الصبر وتسلي نفسها بقصص المبتلين تردد على لسانها دائمًا من رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط.
كانت تذهب مع أناس من أقاربها لزيارة والدها المريض والذي لا يعي من حوله وذات يوم اتصلت عليها إحدى صديقاتها المقربات إلى نفسها وأخذت تحثها على الصبر وعدم التسخط أو التجزع، واقترحت عليها لو تذهب لأخذ وثيقتها لتحملها معها إلى المستشفى لعل والدها يفيق فتريه ما كان ينتظره (شهادة التخرج) لعل هذا الأمر يرفع من معنوياته جربي ولا يضرك شيء .. – قالت لها صديقتها - .. وبالفعل استلمت وثيقة التخرج وكانت تحملها معها في كل زيارة .. علَّ والدها يفيق من غيبوبته .. فيكون أول ما يراه الحلم العظيم الذي كان يتمناه لابنته.(1/21)
وفي إحدى الزيارات تفاجأت بحركة غريبة في القسم الذي يرقد فيه والدها .. أناس يدخلون وآخرون يخرجون .. أطباء وممرضون فدب الخوف والهلع في نفس حنان وتزايدت خفقات قلبها وإذ بها ترى الوجوم يغطي المكان تساءلت ماذا بالأمر؟ لم يجبها أحد .. اتجهت إلى أحد أقاربها الذي خرج من توه من عند الطبيب فسألته فلم يجبها أيضًا، وفي هذه الأثناء تقترب منها إحدى قريباتها من كبيرات السن فاحتضنتها برحمة ورأفة وألقت على مسامعها قنبلة دوَّت في أرجاء نفسها المكلومة فتمزق شريان فؤادها المتعطش لجرعات من الأمل .. لم تسمع إلا كلمات تلك العجوز، بنيتي: أحسن الله عزاءك في والدك .. لقد توفاه الله، تجلدي بالصبر .. لم تدعها تكمل كلماتها فهي تشعر بأن المكان من حولها يهتز بل يتزلزل بركان ثائر في نفسها .. أخذت تتأرجح في مشيتها والعجوز تمسكها وتبكي .. وتذكرها ما للصابرين من أجر.
تساءلت بصوت واهن ضعيف: أحقًا رحلت يا أبي؟!! هل ذهبت فعلاً وتركتي وحيدة؟!!! هل لحقت بأمي الحبية؟!! .. لمن تركتي يا أبي في هذه الدنيا؟!!
تجهش بالبكاء وتقول: أبي الحبيب رحلت ولم تر وثيقة تخرجي التي طالما حلمت بها .. رحلت أيها الحبيب ولم تنتظر مني وفاء لجميلك العطر .. رحلت وما زالت كلماتك ونصائحك العذبة شهدًا في مسامعي .. لماذا يا أبي لم تنتظر؟!!
لم تدرك ما حولها .. فقد سقطت على الأرض .. وسقطت معها ورقة سعادتها ونجاحها.
الكل من حولها ما بين باكٍ ومتأثر وحزين أخذوا يرددون: اللهم أجرها في مصيبتها وأخلف لها خيرًا منها .. إنا لله وإنا إليه راجعون.(1/22)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» (1) .
(4) المحنة .. منحة ..
تزوجت وهي في ريعان الصبا، كان يعرف حق الله عليه كم كانت سعيدة بعشها الزوجي الهادئ تحس بأنها ملكة في قصرها الصغير، كم حلمت أن يمتلئ هذا العش الهانئ بطيورها الصغار – فلذات الأكباد – فما أجمل عبثهم وما أروع ضجيجهم الطفولي. مرت عليها مدة وهي تحلم بهذه الحياة { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } .. استيقظت من هذه الأحلام والأماني الجميلة على الآلام أحست بها في قدميها .. ألم غريب .. هاتفت والدتها وأخبرتها بالأمر استشارت الأم صديقتها الطبيبة وأخبرتها بما تحس به ابنتها، فنصحتها بعرضها على استشاريين للتأكد من مرضها، وبعد عرضها عليهم قرروا تنويمها في المستشفى حتى يتم عمل الفحوصات اللازمة لها، بعد إجراء التحاليل تبين أن لديها فيروسًا في نخاع العظم، اضطرهم هذا الأمر إلى تمديد فترة تنويمها تحت العلاج أسابيع عدة، كان خلالها الألم يزداد عليها، ها هي تتحدث عن نفسها قائلة: عندما كان الألم يزداد ويبلغ مداه كنت أصرخ بأعلى صوتي وأتلوى كما تتلوى الحية لما أحس به من طعن الخناجر في عظامي لدرجة أن ملابسي كانت والدتي تتولى تمزيقها حين يشتد بي الألم فلم أعد أطيقها أو حتى أطيق خلعها..
__________
(1) دارت الأيام وتتابعت ليال قصيرة على وفاة والد حنان حتى لحقت به انتبه .. فقد توفاها الله وماتت وهي تعاني وطأة الألم والمرض والوحدة، ولم تنل من هذه الدنيا لا الزوج ولا الوظيفة، وهكذا حال الإنسان في هذه الحياة ما هو فيها إلا كالمسافر أو عابر سبيل ومهما تطاول به العمر فالموت مصيره، والسعيد الفطن من تزود فيها لآخرته دار البقاء وخير زاد التقوى، فرحم الله حنان ووالدها وتغمدهما بواسع رحمته ومغفرته.(1/23)
تدهورت حالتي حتى عفْتُ كل شيء فقد أصبحت الحياة مرة مرارة كل قطرة من دواء أتجرعها، فظهرت آثار المرض ومهاجمته لي بقعًا بنية تزداد يومًا بعد يوم .. في هذه الفترة العصيبة كان لا بد من خروجي لأداء اختباراتي النهائية حيث كنت في عام التخرج، خرجت وأديت اختباراتي تحت تشجيع والدتي وزوجي وصديقاتي اللاتي وقفن معي في محنتي، وبالفعل اختبرت وعاودت الرجوع للمستشفى فقد تطور المرض في هذه المرة، واتسعت رقعة البقع البنية .. لازمت السرير الأبيض فقد كان ينتظرني بدأ العد التنازلي في تدهور حالتي الصحية وقبل ذلك حالتي النفسية .. لدرجة فقدان القدرة على ضبط بعض تصرفاتي فأصبحت أتبول لا إراديًا، وكانت أمي أول يد بيضاء تمتد لتساعدني في محنتي .. كانت تمسح دمعتي وتخفف ألم وحدتي .. وهي التي تحتاج إلى من يواسيها ويخفف آلامها .. لا أنسى فضلها علي بعد الله، وأي فضل أعظم من كونها والدتي فهي إن انكمشت آمالي واتسعت آلامي وجدت فيها حضنًا فسيحًا فسحة الأمل .. وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل .. وجدت راحة وطمأنينة لا أجدها في أي مكان على وجه هذه الدنيا الصغيرة الحقيرة فقد صغرت في نظري بضآلة مغيراتها وزيف ما فيها .. لقد كانت أمي هي سعادتي .. بل وجنتي حين يضطرم المرض نارًا يلهب جسدي والأوجاع تنخر عظمي نخر السوس ..ز إنها كوجه الربيع يهش ويبش لي تكسي الخريف بثياب الأمل والصبر والثبات..(1/24)
كما كان لزوجي دور كبير في متابعة حالتي والوقوف بجانبي، وكذلك صديقاتي اللاتي كن يتناوبن في المكوث معي ومساعدتي خاصة في فترة اختباراتي .. كل هؤلاء أحسست بأثرهم ودورهم الكبير في وقت كنت في أمس الحاجة لبصيص أمل .. لقد غدا جسدي معملاً لتجارب عدة .. فلم يعد هناك موضعًا لحقنة جديدة إلا وفيه كدمة وأثر وخزها .. يدخل الطبيب ويقرع بيده على عظمي فأصرخ بأعلى صوتي وأستغيث ولكن ما من مغيث .. أتضرع .. وأبكي بتوجع .. أرجوه أن يتركني ولكنه لا يتلفت إلي ثم يلف حول عروقي حبلاً غليظًا، فأزداد صراخًا وعويلاً .. وأستنجد بأمي .. والتي تجهش بالبكاء فلا تملك سوى الدعاء لي .. وأنعم به من سلاح
ثم يدخل حقنة كبيرة ليخرج دمي وأنا أنظر ويتوجه إلى البوابة خارجًا معزيني ببعض العبارات والكلمات التي قد لا أعيها لشدة ما أجده من الألم..
ازداد الأمر من سيئ إلى أسوأ عندما جاءت نتيجة التحاليل الجديدة بتطور المرض الذي أدى لنقص المناعة فأخضعني ذلك لتجرع دفعات وأشكال جديدة من الأدوية .. لقد سلمت أمري لربي منتظرة النهاية .. النهاية المكتوبة علينا بني آدم..(1/25)
في اليوم التالي كانت الغرفة تعج بكبار الأطباء والطبيبات المختصين يتحركون في سعي دائب يثير في الدهشة والخوف من نتائج هذه الحركة الدؤوب .. لم أنته من هواجسي حتى دخلت الممرضة تدفع أمامها عرفة اصطفت فيها المحاقن بجميع أحجامها وأطوالها المتفاوتة ولاصقات وعقاقير وأوعية للتحاليل .. تدخل بها الممرضة فارغة وتخرج وهي ملأى بالدم .. ووالدتي كعادتها ليس بيدها سوى اللجوء إلى الواحد الديان تدعوه أن يزيل هذا الكرب .. وعيناها احمرتا من كثرة البكاء .. وأصابها الوهن، بل والمرض لحالتي ولسهرها معي وحقًا لا يحس بذلك إلا من وهبه الله عاطفة الأمومة التي تفوق كل العواطف الإنسانية الأخرى .. آه يا أمي الحنون أتعبتُك وأنا صغيرة .. وها أنا ذا أتعبك معي وأنا كبيرة متى ترتاحين؟!! ولكن ما بيدي حيلة.
بعد هذه الضوضاء كان آخر ما وعيته حين همست الطبيبة لوالدتي قائلة: إن المرض قد تطور وبدأت بوادر شلل تغزو الأعصاب .. إذ زاد الألم علي ولم أفق إلا ووالدتي تتأملني وتنظر إلي نظرات المودع .. لاحظت انتباهي لها .. فحاولت أن تخفي مشاعرها قائلة أبشري يا بنيتي فرج الله قريب. لم تنته من عباراتها هذه حتى انفجرت باكية متضرعة برحمة الله الواسعة لقد ضاقت بي الدنيا بما رحبت ..(1/26)
مرت الأيام .. وأخذت أتأقلم مع المرض وحاولت أن أعيش حياتي طبيعية فقد عدت إلى منزلي وآثار المرض ما زالت علي وبرغم الذكرى المؤلمة التي كادت تخنقني خاصة بعد أن أصاب يداي شلل كامل أفقدهما الحراك، سبحان الله من يصدق أن هاتين اليدين كانتا في يوم من الأيام تدب فيهما الحياة واليوم خامدتان لا تتحركان، شهور تتوالى وأيام تنصرم .. وأنا أصبَّر نفسي وأمي تواسيني وزوجي يخفف عني آلامي وأحزاني، حتى جاء ذلك اليوم، يوم المفاجأة حينما جاءت نتيجة آخر التحاليل وكنت أرجع المستشفى بين الحين والآخر فأثبتت التحاليل وجود جنين في أحشائي وما أن علمت بذلك والدتي حتى خافت على صحتي .. وعلى عدم تحملي للحمل ومتاعبه .. خاصة أنني أتعاطي أدوية قوية التأثير فطلبت مني أن أسقطه .. لكني رفضت ورفضت بشدة وحين قال لي بعض الأطباء: من المحتمل أن تكون حياة الجنين مهددة، وإن ولد سيكون مشوهًا من جراء تعاطي أدوية لتقوية المناعة رفعت رأسي بثقل لألقي على الجميع أطباء، طبيبات، ممرضات، أمي، زوجي، ردي الحاسم فقلت بكل ثقة ويقين برحمة الله وفضله ومنته: لن أسقط جنيني فلقد سلمت أمري إلى الله وليكن ما يكون فلن يضيعني الله.(1/27)
وعاود الأطباء الكرة تلو الأخرى .. وبالطبع لا بد أن أكون تحت الملاحظة الشديدة .. فتجدد العهد بالتحاليل والمحاقن والفحص الداخلي والخارجي .. إلا أن الأمر في هذه المرة يختلف .. لقد دب بصيص أمل في داخل نفسي الممزقة .. فقد أخبر الطبيب والدتي بأن نتيجة التحاليل هذه المرة محيرة جدًا. فالفيروس بدأ يتناقص وتضعف قوته في عَظْمي وازدادت المناعة شيئًا فشيئًا .. إلى أن حان وقت الوضع والولادة .. فقدر الله لي أن أضع مولودي والذي كان سليمًا معافى .. إن فرحة الانتصار في هذه المرة على المرض كانت لا توصف .. والشعور برحمة الله وكرمه وجوده لي لا توصف أيضًا .. لقد انهمرت الدموع من مقلتي وأنا أمسك طفلي (1) .. لقد كانت لحظة كدت أطير فيها فرحًا عندما وقف الطبيب مذهولاً وهو يمسك بنتيجة التحليل الأخير قائلاً: لقد اكتشفنا أن علاجك كان في مشيمة الطفل فهو لا يوجد سوى في هذه القطعة من الجسد؟!!
سبحان الله لقد زرع الله العلاج في داخلي .. وهيأه لي تهيأ .. في حين كان الكثير يشير علي بإسقاط جنيني .. فسبحان الكريم المنان الذي جعل من المحنة منحة .. ومن الشدة والضيق فرجًا ومخرجًا .. اهـ (2) .
* * * *
(5) دوام الحال من المحال
تسير الأيام عجلى كم هي بالأفراح والأحزان مثخنة. مواقف كثيرة يمر بها الإنسان في هذه الحياة فيستحيل أن تمحوها الذاكرة أو أن ينساها الوجدان لأنها تترك جرحًا غائرًا وأثرًا بليغًا في نفسه، وحقًا، عجيب أمر هذه الدنيا فكم جرحت وداوت وكم أخذت وأبكت وكم أعطت وأضحكت .. ودوام الحال من المحال، وما يواسينا ويعزينا أن هذه الديار ليست بدار بقاء، وأن المؤمن إذا ابتلي فيها وصبر واحتسب فإن الأجر العظيم والثواب الجزيل يكون حليفه.
__________
(1) لقد عافاها الله من جميع الأمراض حتى الشلل الذي أصاب يديها فما أعظم رحمة الله بعباده.
(2) وصلتني هذه القصة من الأخت أم العباس بارك الله فيها ووفقها لما يحب ويرضى.(1/28)
كانت تردد هذه الكلمات وتستنطق هذه العبارات وقد علتها الكآبة والحزن وهي تقص لي معاناتها العجيبة وتطوراتها الغريبة وفي هذه الأثناء تملكني العجب والاستغراب لحال هذا الإنسان الذي خلقه الله من ماء مهين، ثم يكون جبارًا معتديًا ظالمًا في الأرض .. وسبب ذلك هو ضعف الوازع الديني في نفسه، واختفاء الرقيب الأعلى من فؤاده وحينها يتحول إلى وحش كاسر يحطم من أمامه ولا يبالي .. ينسى أن الله يمهل ولا يهمل فتجده يظلم هذا ويتهم هذا بل قد يصل به الأمر إلى أن يسفك دم هذا بغير حق .. التفتُّ إلى زميلتي والتي بدت تسرد لي قصة معاناتها فقالت: كنت زهرة يانعة متفتحة يفوح شذاها حبًا ونقاءً وخيرًا وعطاء للجميع في البيت، في المدرسة، في كل من حولي، فقد كنت محبة للخير متمسكة بشرائع ديني ناصحة .. أحث هذه وأرشد الأخرى .. استمريت على هذه الحال وكنت في تلك الفترة ما زلت في مرحلتي الثانوية إلى أن طرق بابنا خاطب لي كان ذا منصب ومكانة وكان مستقيم الحال. قالوا لي لن تجدي مثله وستعيشين معه في سعادة وهناء، إنه من أسرة طيبة، ودخله الشهري ممتاز وه متعلم ومثقف إلى غير ذلك من العروض المغرية، اقتنعت وقبلت به ولم أكن أدري ما يخبأه لي قدر الله .. لم أكن أعلم أن هناك مشاجرات حادة تحصل بني الابن – الزوج – وأبيه وبسببي .. لقد كان أبوه رافضًا لهذا الزواج من أساسه لا لشيء إلا لأنه يريد ابنه لابنة عمه .. وقد أعطى أبوها – أخوه – كلمة، وقال: إن فلانة لفلان .. وابنه لا يريدها فهو يعرفها جيدًا .. أخذ يتوسل لأبيه ويوضح له أن هذه حياة تخصه ولا بد أن تبني على التوافق والرضى من كلا الطرفين .. وأنه وجد الزوجة الصالحة التي يبحث عنها ويريدها .. ووضَّح لأبيه أن عائلتنا معروفة بالدين والصلاح .. وهو لا يريد من أبيه إلا شيئًا واحدًا أن يكون معه ويسير أمامه حتى يتم هذا الزواج على خير ..(1/29)
ولكن الأب لم ييأس وهو يحاول إقناع ابنه بالعدول عن هذه الفكرة والزواج من ابنة عمه .. وبعد المحاولات المستميتة من الأم وبناتها رضخ الأب للأمر الواقع ووافق أن يسير مع ابنه في هذا الموضوع ألا وهو زواجي منه .. بشرط أنه لن يدفع أي شيء ولن يتكفل بشيء .. وافق الجميع على ذلك ..
وفعلاً تم عقد النكاح وما أدراك ما هذا اليوم وما يلفه من خوف ورهبة وفرحة وسعادة تشعر فيه الواحدة بأنها انتقلت من حال إلى آخر وأصبحت محط أنظار الجميع وأصبحت مسؤولة عن أشياء كثيرة .. ولكن الأمر العجيب هو ما حصل في هذا اليوم فبدل أن تكون الوجوه فرحة مستبشرة .. إذ بها حزينة مكفهرة .. يكسوها الكآبة والغم .. ويعلوها الشحوب والضيق .. كثيرًا ما كنت أسمع عن هذه الليلة وعن مدى الفرحة فيها فما لي لا أجد من ذلك شيئًا، وإذ لم أسعد في ليلة عمري فمتى إذًا؟ هذا ما كنت أحدث به نفسي .. بل قد لا تصدقينني إذا قلت لك: إن أبا العريس عندما ناول أبي المهر وعلى الرغم من أنه لم يدفع فيه ريالاً واحدًا .. أتعلمين كيف أعطاه إياه لقد قام برمي المال على الأرض وبطريقة مزرية جدًا .. جعلت أبي يتفاجأ من هذا التصرف العجيب الحقير فعل هذا بمرأى من الجميع وقال له بكل جفاء: خذ هذا مهر ابنتك وكان الحضور كثيرًا .. ولكن ولده تدارك الأمر فرفع المال وناوله أبي .. وأبي لا يدري ما الحكاية ولماذا هذه التصرفات من هذا الرجل .. فحملها على محمل حسن.(1/30)
مرت الأيام وتم تحديد موعد الزفاف .. وبدأت سلسلة لا تنتهي من الإهانات والضغوط النفسية والعبارات التي لا تليق، على الرغم أن أهلي كانوا قمة في الحلم والعفو والتسامح وحسن الظن بهم لأنهم يرون أن الابن – العريس – راغب في .. ومتمسك بي لأقصى الحدود .. وهم يبحثون عن سعادة ابنتهم حتى وإن كان ذلك على حسابهم .. المهم تم الزواج وطبعًا كانت ليلة زواجي نكد وغم ومشاكل مثلها مثل يوم عقد النكاح .. ومع هذا لم أبال بذلك كله .. سكنت مع أهل زوجي .. واعتبرتهم أهلي ونسيت كل ما مضى .. وقلت لعل الحال الآن يتغير ولكنني كنت أرى العبوس والضجر في وجه أبي زوجي على الرغم أنني كنت أسعى جاهدة لإرضائه .. وتنفيذ طلباته بحذافيرها .. كان يصرخ في وجهي .. ويتلفظ علي بعبارات مخلة ومع هذا كله كنت أتقبل كل هذا وأعتبره في منزلة أبي .. ولم أكن أدري أنه يريدني أن أنفر من هذه الحياة وأهرب من هذا الجحيم وأعود إلى بيت أهلي .. لم أتوقعه هكذا وعندما رآني صابرة متحملة ما يصيبني منه أراد أن يوقع بيني وبين أم زوجي – امرأته – فقد كان يقول وبكل وقاحة وأنا جالسة وهي موجودة .. فلانة لقد عرف ابنك كيف يختار ليس كحالي .. عرف كيف ينتقي الجمال .. و .. و .. وأخذ يكرر هذا الكلام في كل جلسة نجتمع فيها إلى أن سبب ذلك الشحناء والبغضاء بيني وبين أم زوجي وبناتها اللواتي كن يكبرنني في السن، فأصبحت أم زوجي تكرهني ولا تطيق أن تراني، ما ذنبي لا أدري!!(1/31)
بل وصل الأمر بوالد زوجي أن حاول التفريق بيني وبين زوجي أتصدقين أنه كان ينفرد بي ويحثني على عصيان زوجي وأنا لا أستجيب لطلباته، وأن لا أسمع له بالدخول في غرفتي إذا أراد ذلك .. كل ذلك لأسباب تافهة .. بل إنه كان يسب ابنه وينسب إليه أمورًا كلها ظلم وزور .. كل ذلك ليسعى في تشتيت بيتي .. ولكنني لم أكن أُصغ له أذنًا، ولم أكن أنفذ أوامره ويكفيني ما حصل بسببه بيني وبين والدة زوجي. مرت الأيام وأنا على هذه الحال البائية أتحمل كل ما ألاقيه منهم .. ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا وفرجًا.
مرَّ على زواجي قرابة العام .. ولم ييسر الله لي في خلال هذه الفترة الحمل .. كم كانت فرحة أبي زوجي بذلك وكأنَّ هذا الأمر بيده .. أما أم زوجي فكانت تندب حظ ابنها العاثر وأنه قد لا يتحقق هذا الأمر ويا لتعاسة – بكرها – بي .. على الرغم أن المدة قصيرة وأنا ما زلت صغيرة فقد تزوجت وأنا ابنة السابعة عشرة .. فلماذا هذا الاستعجال؟ وذات يوم وفي غيبة زوجي عن البيت استدعاني أبو زوجي .. أقبلت عليه مسرعًا فأنا لم أترك طريقًا إلا وسلكته أسعى جاهدة في مرضاته .. همس في أذني كلمات نزلت على رأسي كالصاعقة .. قال لي يا بنيتي: الحقي بأهلك .. فأنت لم يتيسر لك الحمل خلال هذه المدة ولعل لذلك حكمة فأنت لا تصلحين لابني .. اذهبي وسيطلقك ابني وقد ييسر الله لك ابن الحلال الذي تعيشين معه بكل سعادة .. لقد كانت كلماته هذه كالخنجر المسموم الذي غرسه في قلبي .. ماذا فعلت له .. أتودد إليه .. أتقرب إليه أتحمل إهاناته وأسلوبه الجاف معي ويقابلني بعد ذلك كله بهذا.
قلت له بعد أن طفح الكيل: إذا كان هذا هو رأي زوجي فأنا على استعداد تام أن أغادر بيتكم وأتوجه إلى أهلي من الآن .. فأنا في طاعة زوجي(1/32)
دخلت غرفتي وأنا أتجرع المرارة .. أتذكر سوء معاملة أهل زوجي ووالده لي .. وتلوح أمام نظري مواقف وحسن معاملة زوجي لي ولا أدري ماذا أفعل؟ هل أتركه وأذهب إلى أهلي .. هل أطلب الطلاق حتى يرتاح أبو زوجي، وأتراح أنا من هذه المعاناة .. لم تطل تساؤلاتي كثيرًا .. فقد طلقني زوجي وذلك تحت إلحاح أهله وإصرارهم .. بل وصل الحد بوالده أن هدّد الابن بأنه إذا لم يطلقني فسوف يطلق زوجته والتي هي أمه، وطبعًا هذه حيلة اتفق عليها الأبوان ليتم الطلاق .. وتحقق لهما ما يريدانه .. وكانوا يردّون على تساؤلات واستفسارات الناس عن سبب طلاقي بأنه بسبب عدم قدرتي على الإنجاب .. على الرغم من عدم صحة هذا الإدعاء .. بل إنني لا أنسى ذلك اليوم عندما ذهبت أنا وأم زوجي للفحوصات وسمعت بنفسها كلام الطبيبة والتي قالت: إنه لا يوجد أي سبب يحول دون الحمل والإنجاب وإن الله سبحانه وتعالى لم يكتب لها ذلك بعد، ولكن ماذا تقولين في عقلية الإنسان إذا تحجَّرت وإذا تحول قلبه إلى صخرة صماء قاسية لا يراعي مشاعر وأحاسيس الآخرين .. عدت إلى بيت أهلي بعد رحلة طويلة من المعاناة والإرهاق والهم والحزن .. عدت لعلي أسترد صحتي وعافيتي وقبل ذلك راحة نفسي .. وأي راحة عندما تشعرين أنك مظلومة مقهورة مضطهدة ممن حولك .. مرت الأيام وإذا بي أشعر بدوار وآلام غريبة تصيبني .. كنت أقول لعله الأرق وطول السهاد .. لعله كثرة التفكير ولكن الدوار يستمر بل وتصحبه آلام أخرى .. إذن لا بد من الطبيبة وفعلاً تمت الكشوفات والتحاليل وإذ بالمفاجأة التي أدهشت الجميع ألا وهي أنني حامل نعم حامل من يصدق ذلك؟!!(1/33)
أخبرت أمي زوجي بذلك .. دهش بل واشتد فرحه وسعادته فليس لأهله الآن أي عذر، فأرجعني ولكنني اشترطت عليه بيتًا شرعيًا .. وبالفعل حقق لي هذا الشرط .. فعدت زوجة له من جديد .. عدت وأنا أشعر أن ليالي الظلم والهموم والأحزان تبددت وزالت .. وحل بدلاً عنها السعادة والفرح. فأملي بالله كبير .. وضعت مولودي الأول .. ومن ثم الثاني والثالث .. أما أهل زوجي فإنهم لم يدخلوا بيتي منذ سكنت فيه ولا مرة واحدة .. قاطعوني على الرغم من أننا لم نقاطعهم .. بل إنني وبحسن نية قلت لزوجي .. اذهب إلى أبيك واطلب منه العفو والسماح .. وقل له سأفعل ما تريده .. ولكن ماذا تطلب؟! ونفذ زوجي ذلك .. وسأله ماذا تريده وأنفذه لك .. أتدرين ماذا طلب منه قال: لن أرضى عنك إلا إذا تزوجت .. قال: وزوجتي ماذا بها .. إنها امرأة صالحة تخاف الله .. بل هي التي أرسلتني لأسعى لرضاك.
أصمَّ الأب عن كلمات ابنه، وقال هذا ما يرضيني عنك .. بل إن زواجك هذا إن تمَّ فإنه سيكون على نفقتي الخاصة .. أنا المتكفل بكل شيء .. فقط حقق لي هذه الأمنية .. عاد إلي زوجي والكآبة تعلو محياه .. سألتُ بلهفة: هل رضي عنك والدك؟ .. فردَّ نعم سيرضى عني ولكن بشرط..
بادرته .. ما هو الشرط .. حققه مهما كان..
رمقني بكل أسى: قال شرط والدي أن أتزوج عليك.
مشاعر متعددة تضاربت في نفسي .. أجهشت بالبكاء ..
قلت: ماذا فعلت له حتى يقابلني بكل هذا البغض .. لماذا هو يكرهني؟!!
والمفاجأة أن زوجي حقق أمنية أبيه .. وشجعته أنا على ذلك حتى يرضى عنه، أما أنا فعدت إلى بيت أهلي بعد أن طلقني زوجي الطلقة الثانية لأن زوجته الجديدة اشترطت ذلك .. عدتُ إلى بيت أهلي وقد اعتصر قلبي الحزن والهم والغم لحالي .. فلقد كنت ضحية لجبروت وقسوته ذلك الأب الذي فرق بيني وبين زوجي وأولادي.(1/34)
مضت الأيام حبلى بالهموم والأحزان .. أردتُ أن أنسى بل وأغلق تلك الصفحة السوداء من حياتي .. ولكن أنى لي ذلك وابناي تلوح صورهم الطفولية والبريئة أمام ناظري .. على الرغم أنه من حقي الشرعي أن أضمهم إلي فما زالوا في فترة الحضانة .. ولكن ماذا تقولين عن حالة إذا لم يطبق شرع الله .. بالتأكيد أن حياته .. تستحيل إلى شقاء وعناء وهمًّ وغمًّ .. لقد حرموني من قرة عيني .. وبهجة حياتي .. وسعادة روحي .. حرموني من أبنائي .. ولك أن تتصوري قلب الأم وهو يتقطع حسرة ويتمزق كمدًا وحزنًا عليهم، كنت أفكر كثيرًا في حالهم، أتساءل هل ينامون جيدًا، هل يأكلون جيدًا هل يقسو عليهم أحد .. هل يجدون من يحنّ عليهم .. ويضمهم إليه .. تساؤلات عدة يتردد صداها في جنبات فؤادي المكلوم .. ولكن صبرٌ جميل .. والله المستعان على ما يصفون .. ذات يوم إذا بالأخبار يتناقلها الناس أن أبا أبنائي قد طلق زوجته الجديدة ولم يمض على زواجهما سوى عدة أيام .. سبحان الله نهاية حتمية لزواج لا يقوم على أساس صحيح، زواج لا يراد من ورائه سوى القهر والظلم والاستبداد في الرأي.
لقد أصبح زوجي بعد ذلك بين نارين .. يريد أن يلمَّ شتات بيته المبعثر .. فيرجعني وأبنائي تحت كنفه ليشعر بالراحة والأمان .. ويريد أن يرضي والده .. إنه محتار بين إرجاعي وبين أهله الذين يسعون بشتى الوسائل لإبعاده عني ..(1/35)
وبالفعل حاول إرجاعي .. ولكن والدي وقف له بالمرصاد فبنات الناس ليست لعبة في يديه يعبث بهنَّ كيف شاء .. حاول أن يبرر تلك التصرفات التي صدرت منه بأنها رغمًا عنه .. وأنه مجبورٌ عليها من قبل والده .. إلخ ما قاله .. ولكن والدي لم يلتفت إلى مبرراته ومع هذه الضغوط الشديدة والتي كان لها تأثير على نفسيته أودى ذلك إلى سلوكه طريق الانحراف .. كثرت سفرياته للمتعة الحرام والعياذ بالله .. خالط رفقة سيئة أعانوه على الشر والفساد .. جرب طرقًا كثيرة لعل ذلك يرفّه عن نفسه ويزيل همه وغمه .. استمر على هذه الحياة البعيدة كل البعد عن الله ظنًا منه أن ذلك سيخفف عنه .. وسيجد السعادة والراحة، ولكن أي سعادة تلك التي يجدها الإنسان في ظل الشيطان .. لقد ملَّ حياة الشتات والضياع فأراد أن يعيد لنفسه ولبيته الاستقرار والأمان وإن كان ذلك رغمًا عن أهله ولكن والدي قطع الأمل في إرجاعي إليه .. ولكنه لم ييأس لقد أدخل الوسطاء بيننا .. وبعد محاولات متعددة بل ومستميتة .. عدت من جديد ولكن بشروط جديدة .. عدت وعشت معه سنة كاملة وفي تلك الأثناء لاحظت أن زوجي أصبح شخصًا آخر غير الذي أعرفه .. إنسان يفتقد ذاته .. متذبذب .. كثير الانطواء على نفسه .. علامات الشرود والذهول تبدو على محياه .. يكثر من السرحان والتفكير .. أصبح يضيع كثيرًا من واجباته الشرعية .. ومما زاد الطين بلة .. وزادت حالة زوجي النفسية سوءًا أن والده طلَّق أمه بمقابل أن أعادني إلى عصمته .. طلقها وترك بيته بلا رجعة .. فقد تزوج بفتاة شابة .. ونسي بيته وأبناءه .. أما ابنه فقد أسقط في يده وخارت قواه وأصابه انهيار من تصرفات والده .. لقد شعرت أنا وهو بوخز الضمير .. فما ذنب هذه الأم حتى تقابل بهذا؟!!(1/36)
لقد رضيت تلك الأم المسكينة بما كتبه الله لها .. بل إنها اعترفت بظلمها لي وأنها لم تقف مع الحق .. وأنها كانت سببًا في طلاقي وتفريقي عن ابني ولا سبب .. فقالت لي: قد يكون قصاصًا لي يا بنيتي فسامحيني .. أخذت أواسيها وأصبرها وأحثها على أن تلتجئ إلى الله وتتسلح بالدعاء.
أما زوجي فقد كنت آمل من الله أن يصلح حاله .. ويعود إلى رشده فقد تضاعفت عليه المسؤولية .. أردته أن يلتفت لبيته وأبنائه وأهله .. ولكنه لم يكن يبالي .. حاولت إخراجه من تلك الأزمة النفسية والترسبات التي خلفها جبروت وظلم والده له .. ولكنني لم أفلح فحالته تسير من سيء إلى أسوأ .. لقد وقع في وحل الرفقة السيئة فأصبح زوجًا وأبًا بالاسم فقط .. يدخل ويخرج ولا يبالي بشيء .. أصبحت الحياة معه لا تطاق .. لقد انتهى زوجي (إلا أن يتداركه الله برحمة منه) .. انتهى .. وانتهت بذلك حياتي الزوجية معه فعندما يئست من العيش معه طلب الطلاق .. فكانت الطلقة الثالثة والأخيرة .. حينها قفلت عائدة إلى بيت أهلي لا أحمل سوى الذكريات المرَّة والحزينة .. أتذكر كيف كان زوجي علمًا شامخًا في بيته .. وعند أهله .. وفي عمله .. وعند كل من يعرفه. وكيف آل به الحال، والسبب هو تسلط وجبروت والده عليه .. فإلى الله وحده المشتكى.
* * * *
(6) لقد ضيعتني يا أبي ..!!(1/37)
سعادة ترفرف حولي .. كل شيء أراه جميلاً على الرغم أن حالتنا المادية كانت متوسطة، بل أشياء كثيرة كنت أفتقدها ولا أستطيع الحصول عليها، ولكن القناعة تبدد كل الآمال الواسعة والأماني العريضة .. كنت أهنأ بكل شيء عندي .. وأحمد الله على نعمه العظيمة .. ويكفي سعادة وهناء أن يعيش الإنسان في كنف أبوين وأنعم بها من نعمة .. أبوين يغدقان عليه من فيض حنانهما وعطفهما .. ويزداد الإنسان سعادة وراحة إذا كان متمسكًا بشرع الله يرفل في الخير وينعم بالإيمان إنها الحياة الطيبة .. هكذا كنت بفضل الله ومنته .. ولكن والدي لم يكن تعجبه هذه الحياة فقد كنت ألمس منه الكآبة الدائمة .. والحزن المستمر .. والتفكير الطويل .. دائمًا يتأفف منحياتنا .. كان يتمنى أن يكون من رجالات الأعمال المرموقين .. يريد أن يكون كفلان صاحب الشركة .. أو علانٍ رئيس المؤسسة وعلى الرغم من قناعة أمي، فكم نصحته ووجهته لقد كانت كثيرًا ما تردد يا أبا فلان نحن في نعمة وخير والحمد لله، يكفي الستر والعافية فكان يتضجر من كلامها .. كانت تذكره بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أخوف ما أخاف عليكم أن تبسط لكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم» فيتأفف من قناعتها .. يقول لها دائمًا ستعيشين طوال حياتك هكذا تحبين الفقر .. لم يقف أبي عند هذا الحد فقد أخذ يجمع الأموال من هنا وهناك .. إلى أن تجمعت في يديه ثروة هائلة .. وفي الوقت الذي كان يبخل فيه على أسرته بملبس أو طعام من باب الاقتصاد كان يبعثر الأموال الطائلة على زملاء العمل وأصحاب رؤوس الأموال وذلك للمصالح المتبادلة كما يزعم، وكان لا يتم ذلك إلا في الفنادق أو المطاعم الفاخرة لأن منزلنا المتواضع ليس أهلاً لمثل هذه الشخصيات البارزة .. لقد تغير أبي تمامًا، أصبحت الدنيا والمؤسسات والشركات والعقارات أكبر همه .. أصبح التفاخر والتعالي سمته ..(1/38)
أصبحت المظاهر البراقة الزائفة جل اهتمامه .. غفل أن هذه الحياة زائلة وأن متاعها فانٍ .. كم ذكرته بذلك .. كم خوفته من الموت .. ولكنه كان يعرض ولا يتعظ، تزوج بأخرى وبالطبع كانت قريبة لإحدى الأثرياء .. أسكنها في قصر فخم وأثاث وثير ولديها الخدم والحشم .. بينما نحن لا نجد أحيانًا لقمة العيش فقد تركنا ورحل ..ونسي أو تناسى أنه خلّف وراءه زوجة مريضة .. وأبناء يتضورون جوعًا .. لقد ترك أمي التي صبرت عليه وتحملته وعاشت معه على القناعة والرضا والكفاف .. تركها وهي تقاسي الآلام والأمراض قائلاً لها: سأتركك مع الفقر الذي تحبين .. تقطّع قلب أمي أسى وحزنًا على هذا الإنسان الذي أعطته كل شيء .. وبذلت من أجله الكثير .. لم يطلقها ولكنه هجرها وترك أبناءها وعاش مع تلك الأخرى .. لم يكلف نفسه أن ينفق على أهل بيته أو أبنائه، بل أصبحنا نستقبل الصدقات والإعانات من الناس .. والناس يتهامسون هذه عائلة فلان الثري ويشيرون إلينا: انظروا كيف حالهم!!
استمر هذا الحال إلى أن تخرجت من المرحلة الثانوية .. وذات يوم إذ بطارق على بابنا وكانت المفاجأة عندما تصارخ إخوتي الصغار أبي .. أبي، لم أصدق عيني وأنا أراه .. إنه فعلاً هو .. إنه أبي .. ما الذي جاء به .. كان يحمل بين يديه الهدايا والعب والحلوى والملابس .. قلت في نفسي لعل الله هداه .. عمّت السعادة قلبي .. واستبشرت خيرًا جلس معي ومع أمي وأخذ يعتذر عن كل ما بدر منه، وأنه أحس بغلطته في حقنا .. وأنه سيعوض تلك الأيام السالفة .. إلخ ما قاله.(1/39)
ثم بعد ذلك لمحني وابتسم وهو يقول: يا بنيتي ما شاء الله عليك كبرت وأصبحت عروسة جميلة .. متى أفرح بك .. فهمت أمي مغزاه .. فقامت من المجلس .. استغل هو الفرصة فقال لي: اسمعي يا بنيتي ستودعين حياة الفقر والعوز والحاجة .. هناك شاب ذو خلق ودين ومن عائلة ثرية جدًا .. بل إنه يملك العقارات والشركات سيلبي لك كل طلباتك .. سترفلين في الخير والنعيم .. لا أريد إلا موافقتك .. دبَّ في نفسي الحزن والغم على حال والدي .. إنه لم يتبدل .. لم يتغير فيه شيء .. إنه هو كما تركنا .. ما زال حب الدنيا يجري في عروقه.
قلت له: ألهذا الأمر جئتنا؟!!
قال: لا .. لقد اشتقت إليكم .. وأنا يا ابنتي لا أريد إلا مصلحتك .. صدقيني .. إنها فرصة ثمينة لن تتكرر .. لا تضيعيها عليك..
قلت له بلهجة حازمة: مصلحتي هي أمي وإخوتي الصغار .. كيف سيعيشون وأنت متخلي عنهم .. حتى المصروف والنفقة لا تعطيهم .. كيف سيكون حالهم؟ أخشى عليهم من الضياع .. هذا ما يشغل بالي ويملأ تفكيري .. أما الزواج فإنني لا أفكر فيه الآن ..(1/40)
قال: لا عليك أعدك بأن أمك وإخوتك سيعيشون معي وسأغدق عليهم بكل ما تشتهيه أنفسهم ولكن فكري الآن في نفسك، سيحضر العريس غدًا وسيأتي مأذون الأنكحة والشهود وسيتم كل شيء لم يمهلني لأتكلم لأرفض ليكون لي رأي. سلمت أمري إلى خالقي قلت: لعل زواجي هذا يخفف عن أمي وإخوتي. لعل الله يفرج عنهم. وفعلاً جاء غدًا بما يحمله من مخاوف ورهبة. لم أر العريس فقد خرج مسرعًا بعد أن تم عقد النكاح بحجة أنه مشغول ولكثرة ارتباطاته. وحدد أبي موعد الزفاف، لم أوافق على هذا الزواج حتى نفذ أبي وعده لي في ضم أمي وإخوتي إليه ..وفعلاً أسكنهم في بيت لا بأس به بالقرب من قصره الفخم وأصبح ينفق عليهم. جاء يوم الزفاف وعندما أرد العريس الدخول علي ليأخذني إلى عش الزوجية كانت الصاعقة التي جعلتني أجهش بالبكاء بل أنهار فذلك الشاب الممتلئ فتوة وحيوية ونشاطًا لم يكن إلا رجلاً مسنًا يتوكأ على عصاه .. رجلاً في السبعين من العمر ولكم أن تتصوروا كيف يتم التوافق بين فتاة غضة تبلغ من العمر تسع عشرة سنة مع إنسان في سن أجدادها.(1/41)
رفضت أن أذهب معه أو أن أسير خطوة واحدة أخذت أصرخ لقد خدعتني يا أبي لن أسامحك كيف هنت عليك إلى هذا الحد تبيعني بهذه السهولة ولأجل حفنة من دنيا .. تقتل في الحيوية والنشاط لأجل مطامع نفسك. هل تريد أن تقضي على زهرة عمري وأن تذبل ريحانة شبابي مع رجل كهذا هل تريد أن تدفنني حية مع إنسان بلغ من العمر عتيًّا ..؟!! ألا تتقي الله في ألا تخاف عقابه، لم أشعر إلا وأبي ينهال علي ضربًا وسبًا وشتمًا .. يقول: فضحتِني .. أتريدين أن تجعليني في موقف حرج يا حمقاء هذا رجل ثري جدًا لن تجدي مثله سترثين من ورائه الأموال الطائلة ستعيشين معه في سعادة أنت لا تعرفين مصلحة نفسك .. ثم إن بيني وبينه مصالح مشتركة إنك بتصرفك هذا تفسدين علي كل شيء .. وعندما رأى والدي رفضي الشديد لهذا الزواج .. هددني بلهجة حادة وصارمة قائلاً: إذا لم تذهبي مع زوجك سأطرد أمك وإخوتك إلى قارعة الطريق .. ولن يجدوا لهم مسكنًا أو مأوى لأنني قد تصرفت في البيت القديم وستكونين أنت السبب في ذلك .. حينها أسقط في يدي .. عرفت أنه لا فائدة من احتجاجاتي ولن يلتفت أحد إلى اعتراضاتي .. رمقت أبي بعينين حزينتين وقلت له: لقد ضيعتني يا أبي، لقد ذبحتني بغير سكين .. كيف تلقى الله؟!! ما موقفك يوم القصاص عندما أقف أنا وأنت بين يدي الجبار .. لقد ظلمتني يا أبي وظلمت عائلتك معي.
واستني أمي قائلة: بنيتي لا تقبلي بهذا العرض الرخيص ولا تدفني نفسك مع هذا الإنسان لا عليك من تهديدات أبيك سنتحمل العناء فقد اعتدنا عليه. ولنا الله لن يتخلى عنا وأهل الخير والأيادي البيضاء كثيرون ولن يقصروا معنا.(1/42)
قلت لها: أمي يكفيك ما عانيته أنت وإخوتي، أما أنا فليس أمامي سوى الصبر واللجوء إلى الله ولن يضيعني .. فقط أريدك أن تدعي الله لي .. بكت أمي وهي تفوض أمرها إلى الله احتضنتني بكل شفقة ورحمة وهي تقول: كان الله في عونك يا بنيتي، كوني مع الله يكن معك، ولعله يحدث لك بعد ذلك فرجًا ومخرجًا.
عشت مع هذا الإنسان ولا مجال للتوافق بيني وبينه في أي شيء .. إذا أراد الاقتراب مني اشمئززت .. أرمقه بعيني أتساءل هل هذا هو الزوج الذي كنت أحلم به؟!!
كنت أتمنى شخصًا يفهمني وأفهمه .. إنسان يعينني على الخير .. يرشدني إلى الصلاح .. فلم أجد من ذلك شيئًا .. هذا نصيبي والحمد لله على كل حال، لا أدري كيف رضي لنفسه بزوجة تُعد في عداد حفيداته؟!! كان دائمًا يشتمني ويسبني وأنا صامتة بل ويضربني بعصاه ويحقرني، بل وصل به الأمر إلى أن يشك بي حتى أصبح يحبسني، وإذا أراد الخروج من منزله أغلق علي الباب بالمفاتيح والأقفال ..ولا أدري هل يظن أنني سأهرب وليت الأمر اقتصر على هذا الحد، بل كان إنسانًا شحيحًا بخيلاً مثله مثل والدي تمامًا كان سيء الخلق .. يتهاون في طاعته لربه .. لا يبحث إلا عن شهوات نفسه، أقول سبحان الله إنسان في هذا العمر وأقرانه وأصحابه قد وارهم التراب وغيّبهم الموت ومع هذا لا يتعظ.
حاولت أن أتعايش مع هذه الحياة المريرة الكئيبة ولكنني لم أستطع، من يراني من شدة الغموم والأحزان يظنني عجوزًا في الستين ولا يصدق أنني فتاة العشرين ربيعًا.(1/43)
أصبحت حياتي كلها خريفًا بل جحيمًا لا يطاق، لقد ضاقت علي الأرض بما رحبت، النوم فارق جفوني، وشهيتي انعدمت من كل شيء، تكالبت علي الأمراض من كل حدب وصوب .. كنت أرفع أكف الضراعة إلى الواحد الديان أن يكشف عني هذا البلاء .. ويزيل عني هذا العناء .. تجرعت المأساة والألم .. والغصص والأحزان .. طالما رددت: لقد ضيعتني يا أبي .. هذا ما جنته يداك، لقد ملكت ما أردت من الدنيا ولكن كان ذلك على حساب فلذة كبدك وأبنائك .. أبي لقد ضيعت الأمانة .. ألا تتقي الله فينا إن الله سائلك عنا وعن رعيتك فماذا سيكون جوابك غدًا وأنت لم تتحمل المسؤولية ولم ترعَ الأمانة؟!! اهـ.
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيّع؟!! حتى يسأل الرجل عن أهل بيته».
* * * *
(7) أسماء .. وذات النطاقين(1/44)
«أسماء» تلك الطفلة الوديعة الهادئة بما تحمله هذه الكلمة ترى من خلف عينيها خجلاً يستحيل جمالاً ورقة ومن على شفتيها ابتسامة عذبة تحيط من حولها حبًا وتضحية تتطلع إلى الحياة مثلها مثل غيرها من الفتيات تنظر إلى الوجود ببسمة وبهجة تضحك مع قريناتها تلعب وتمرح في المدرسة كانت محبوبة من معلماتها زميلاتها، وفي البيت تحتل المكانة والمنزلة في قلوب الجميع تتصف بالرزانة والنضج رغم صغر سنها طموحاتها أكبر من عمرها .. تلاحقت أيام أسماء إلى أن اجتازت مرحلتها الابتدائية وبدأت باستقبال فترة الطيش والمراهقة، ولكن أسماء لم تكن من هذا الصنف من الفتيات بينما أخواتها ممن هي هو أكبر منها يلححْنَ على أمهن بشراء الجديد بل الغالي من الأقمشة والملابس والمستلزمات .. كانت أسماء تأبى على أمها أن تتكلف أو تشتري لها شيئًا .. وإذا ألحت أمها عليها في ذلك قالت: لماذا أشتري الجديد وما لدي يكفيني والحمد لله قناعة ورضًا عجيبين .. قلَّ ما نجده في الكبار فضلاً عن الصغار .. ذات يوم ذهبت أسماء إلى معلمتها ندى – معلمة العلوم الشرعية – تعرض عليها موضوعًا علّها تلقيه في الإذاعة المدرسية .. فشجعتها تلك المعلمة الفاضلة والمربية الناجحة فهي مَنْ أعدتهن لهذه المواقف .. ورددت بينها وبين نفسها بارك الله فيك يا أسماء وكثر من أمثالك .. يعزّ من يوجد مثلك في هذا الزمان العصيب .. إنه المنبت الحسن .. والتربية القويمة .. رعاك الله يا بنيتي ..وحفظك من كل مكروه.(1/45)
في اليوم التالي كانت طوابير الطالبات قد اصطفت وأخذت أماكنها، خيم الهدوء على المكان ووقفت أسماء ممسكة زمام أوراقها وبدأت حديثها والذي كان مؤثرًا إلى حد البكاء فقد استعرضت الموت وسكراته .. والرحيل وعبراته .. استعرضت التفريط في جنب الله وختمت قولها بحديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا» تأثر الجميع طالبات معلمات جميع من في المدرسة أخفت معلمتها ندى دمعات تجمعت في مقلتيها وشكرتها على هذه الموعظة البليغة المؤثرة.
هكذا كانت أسماء مكافحة، خلوقة، نشيطة بل ينبوع صغير متدفق بالخير والعطاء لكل من حولها، معروفة بالتسامح والتعاون للجميع لها همة تعانق عنان السماء، نموذج لفتاة صالحة تقية في عمر الزهور، بينما نلتفت لنرى نماذج أخرى يندى لها الجبين لبراعم لا هم لهم إلا التوافه .. أفلام الكرتون، القصص الخيالية، الروايات التافهة، وغير ذلك من سلسلة الخرافات والتي امتلأت به أذهان أبنائنا ولا تربي إلا أطفالاً خياليين ليس لهم هدف ولا غاية.
في نهاية السنة الدراسية أطلت علينا أسماء بوجهها الطفولي وثغرها الباسم وهي تحمل شهادة تفوقها ومعها شهادة شكر وتقدير زفتها لها معلمتها اعترافًا منها بجهودها الطيبة في المدرسة.
كانت فرحة الأهل غامرة بنجاح أسماء وإخوتها .. ولكن فرحة أسماء كانت أعظم عندما سمعت بهدية النجاح .. عمرة إلى مكة .. كم كانت تحلم بالبيت الحرام، تتخيله تشتاق إليه بل لم يهدأ لها بال إلا وتسأل عن طريقة العمرة وما يلزمها فيها وما ينبغي عليها .. بل وتقرأ وتبحث.(1/46)
حان موعد السفر .. والضحكات الطفولية تنطلق منها في الأجواء .. الأرض من تحتها تهتز طربًا والسعادة تلفها من كل جانب ساقت أمام ناظريها مناظر الحرام .. الكعبة .. الصفا .. المروة .. الحجر الأسود .. لقد هيأت نفسها لهذا السفر .. واستعدت لهذه الرحلة المباركة ولم تدر الصغيرة أنها على موعد مع السفر النهائي لرحلة ثمنها عمرها .. فقد لفظت أنفاسها الأخيرة تحت ركام سيارتهم المحطمة إثر حادث مفجع حصل لهم أثناء عودتهم من العمرة .. نجى من هذا الموت المحقق جميع أفراد الأسرة مع تنوع واختلاف في إصابتهم .. ما عدا أسماء فقد فاضت روحها الطيبة وودعت الدنيا بما فيها من صخب وضجيج وملاهٍ وفتن .. رحلت أسماء وخلفت وراءها قلوبًا مفعمة بالحزن والكآبة على ينبوع صغير متدفق بالخير والعطاء قد جف ونضب .. وبعد أن واروا الجسد الطري في التراب بحثوا عما خلفته وراءها فما وجدوا إلا بعضًا من ملابسها البسيطة وحقيبة مدرستها ودفاترها الممتلئة بالواجبات القديمة ومجموعة من أوراق ضمتها سويًا وقد جمعت فيها أنواع الفوائد والعبر والحكايات والقصص وجعلتها على هيئة مجلة إسلامية، أضفت عليها بعض الأشكال الجميلة الرائعة كانت تنتظر قدوم السنة الدراسية الجديدة لتريها معلمتها ندى .. وليتم بعد ذلك تصويرها وتوزيعها على الطالبات .. ولكن الموت لم يمهلها لتحقيق ذلك .. من مثل همة أسماء .. وأين تجد فتاة تفكر مثل تفكيرها وفي مثل سنها؟!!(1/47)
مع بداية العام الدراسي الجديد استقبل فيه صديقاتها المدرسة .. ولكن أسماء لم تحضر لقد تأخرت كثيرًا .. فسأل عنها الجميع ومن بينهن معلمتها ندى .. اتصلن على منزلها .. وإذ بالخبر المفجع الحزين والذي نزل على رؤوسهم كالصاعقة .. أسماء .. أسماء ماتت .. ارتجت المدرسة بمن فيها لهذا الخبر الحزين بكت زهرة يانعة كانت مفعمة بالنشاط والحيوية .. وزاد بكاؤهم عندما رأوا خط أسماء وعباراتها العذبة .. والتي صاغتها في مجلتها (ذات النطاقين) .. وما كان من معلمتها إلا أن قامت بتصويرها وتوزيعها فأكملت بذلك مشوار أسماء الذي بدأته .. وتحقق لأسماء ما كانت تتمنى .. رحلت أسماء وبقيت آثارها والتي لن تمحوها معايير الزمن .. رحلت الصغيرة بعدما سكبت ما في جعبتها من نصائح وتوجيهات وذلك في ردهات الفصول والممرات .. رحلت يا أسماء وما زالت ذكراك العطرة يفوح شذاها في كل مكان.
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم شاب نشأ في طاعة الله».
(8) قلوب من حجر
كان مريولها باليًا وفيه بعض الشقوق يبدو أنه نفس مريول العام، إنه ملفت للانتباه والعجيب أن أخواتها من أبيها معها في نفس المدرسة ولكنهن على خلاف ذلك تمامًا. المريول جديد، والحقيبة غالية، بل حتى رابطات الشعر من أفخر الأنواع.
كانت فاطمة تبدو هزيلة خائفة مذعورة يكسو وجهها الكآبة والحزن بينما أخواتها يضحكن ملء أفواههن يشترين ما لذ وطاب يسرن بزهو وخيلاء .. شعرت أن في الأمر شيئًا .. ذات يوم وكانت بدايات الشتاء لم يكن على الفتاة أي ملابس تقيها البرد ما عدا ذلك المريول الممزق، وإذا بها ترتعش كعصفور يحتضر .. استدعيتها .. سألتها: لماذا لم تلبس معطفًا يقيك البرد .. أو حتى ملابس داخلية .. ألا تشعرين بالبرد؟!!
ردت بعينين زائغتين .. وعبارات مقطعة .. معلمتي .. ليس عندي معطف أو حتى ملابس داخلية.(1/48)
سألت الفتاة أين أمك يا فاطمة نظرت إلي باستغراب .. ماذا أمي؟!!
نعم أمك يا عزيزتي .. امتلأت عيناها بدمعات حارة حاولت إخفاءها وتمتمت .. أمي يا أستاذة ليست معنا .. أصابتني غصة في حلقي قلت لها .. لماذا يا بنيتي .. أين هي؟!!
قالت: إنها مطلقة .. طلقها أبي منذ زمن.
قلت: وهل تسكنين مع والدك وزوجته؟!!
أجابت: نعم.
حسنًا .. كيف زوجة أبيك معك؟!!
سرت رعشة غريبة في جسدها الواهن عندما طرحت هذا السؤال وانقلب وجهها وكأنها لا تريدني أن أتحدث عن زوجة أبيها أو آتي بسيرتها.
استكملت قائلة .. فاطمة هل زوجة أبيك تقسو عليك؟!
هزت رأسها بالإيجاب
هل تضربك؟!! قلت: آيه يا معلمتي .. ليت الأمر يقتصر على ذلك إنها تضربني وتحرمني من الأكل حتى الملابس تشتري لبناتها، أما أنا فلا .. لا تجعلني إلا أكنس وأنظف وأغسل بل تجعلني أغسل حتى ملابس بناتها.
اقشعر جلدي من كلماتها .. إلى هذا الحد وصل الظلم والطغيان ببعض البشر، لا حول ولا قوة إلا بالله!
أكملتُ .. ووالدك هل يعلم بهذا الأمر؟!!
قالت: نعم بل ويشجعها .. أبي يكرهني .. يقول لي دائمًا إنك ستكونين مثل أمك في كل شيء .. بل إنه يضربني إذا اشتكت له زوجته مني.
فاطمة هل تعصين زوجة أبيك؟!!(1/49)
ردت بكل حماس: أبدًا والله .. فأنا أخاف منها ..ولكنها أحيانًا تكذب علي وتقول لأبي إنني فعلت وفعلت، وأنا لم أفعله به حتى بناتها إذا رأوني أذاكر دروسي بعد انتهائي من أشغالي التي أمرتني بها زوجة أبي يحاولن إشغالي فإذا لم ألتفت إليهن يذهبن إلى أمهن ويشكينني ويقلنْ: إنني أعيرهن بالفشل .. وأصفهن بالغباء .. والله كله كذب وبهتان وهي بدورها تأتي وتضربني بل لا أنسى ذلك اليوم وكان علي اختبار نهائي كنت أذاكر دروسي وبسبب وشاية بناتها جاءت إلي ثائرة وسحبت الكتاب من بين يدي بل ومزقته أمامي .. لم أتمالك نفسي من البكاء .. تذكرت أمي الحنون والتي حرموها مني .. ولأن أبي يكرهها صب جم حقده وكرهه علي لأنني ابنتها وأشبهها كثيرًا.
فأنا لا أنسى عندما كنت في السادسة من العمر كان يرسلني في ساعات متأخرة من الليل لأشتري لهم الحاجات .. كنت أجهش بالبكاء لشدة الخوف .. أتوسل إلى أبي أن يعفيني من ذلك فكان يجبرني على الخروج ولا يرق قلبه لحالي .. كم مرة تعرضت للدهس من قبل السيارات .. كم مرة كدت أضيع .. كم .. كم .. وكم .. قلبي ممتلئ بالجراح والأحزان والآلام .. ألا يكفي بُعد أمي عني .. ألا يكفي هذه الحياة المريرة التي أعيشها في كنف أب لا تعرف الرحمة إلى قلبه طريقًا .. وامرأة أب لا تخاف الله ولا تتقيه.
والله يا معلمتي إنني أعاني القسوة .. ولا أستطيع التفوه بكلمة أو أطلب منهم شيئًا لأن مصيري سيكون الحبس في غرفة سفلية من البيت الموحش ليس هذا فحسب، بل والضرب.(1/50)
- لقد تقطع قلبي وأنا أسمع مأساتها واعتصر فؤادي حزنًا لحالها .. أتساءل: كيف أن فتاة تمكث بيننا تعاني كل هذا ولا أحد يشعر بها .. كان الله في عونك يا صغيرتي .. كيف تحملت كل هذا؟!! حينها صبَّرتها .. ونصحتها أن تلتجئ إلى خالقها ووعدتها خيرًا .. اشتريت لها بعض الملابس الداخلية .. ومعطفًا .. وحقيبة جديدة .. وحذاء ودفاتر وبعض المستلزمات الأخرى .. وغلَّفتها على شكل هدية وقدمتها لها، وقلت لها: لك مطلق الحرية في الشراء من مقصف المدرسة باسمي ولا عليك من الحساب .. أحسست أن هذه الأمور بسيطة بالنسبة لفتاة غضة عانت ما عانته .. ولاقت المرارة ولعل الله يحدث بعد ذلك فرجًا ومخرجًا .. كم كانت فرحة فاطمة بهذه الأشياء البسيطة والتي طالما حُرمت منها، وفي اليوم التالي أتفاجأ بالصغيرة وقد أتت حزينة .. والدموع تملأ مقلتيها .. قالت لي: لقد رأى أبي وزوجته تلك الهدايا التي أهديتيها لي .. فجنَّ جنونهم .. وسحبوها مني بل وألقوها في سلة المهملات .. ثم انكبوا علي ضربًا وشتمًا وهددني أبي بأنني لو أخذت مثل هذه الأشياء مرة أخرى فسيطردني من البيت .. اضطررت في هذه الحالة إبلاغ الإخصائية الاجتماعية بهذا الأمر لعل يكون لها دور في نصح الأب وزوجته .. ولعلنا نخفف عن الفتاة قليلاً، وبالفعل بذلنا جهودًا مضنية كي نصلح من هذا الأمر .. ولكن عقلية الأب المتحجرة ..وزوجته المتعنتة حالت دون ذلك .. سعينا جاهدين أن نتحدث مع زوجة الأب .. أن نخوفها بالله .. أن .. أن، ولكن كل محاولاتنا باءت بالفشل .. فاضطررنا إلى تخصيص ملابس شتوية للفتاة وجعلها في المدرسة تلبسها إذا حضرت إلى المدرسة .. خاصة بعد اشتداد البرد وأصبح قارسًا لا يطاق ولا يحتمل – وتخلعها إذا كانت ستعود البيت .. وحقيقة كنت بين الحين والآخر أفكر كيف أن الأب نبع العطف والحنان والرحمة والشفقة يكون بهذه القسوة والشدة ..(1/51)
ولكن فعلاً إذا اختفى الوازع الديني عن العبد وغفل عن مراقبة علاّم الغيوب له .. فإنه يفعل أشد من ذلك .. لم ينته الأمر هنا .. بل جاءت فاطمة في إحدى الأيام باكية متألمة ورفضت أن تلبس الملابس التي خصصناها لها .. سألتها: ماذا بك يا فاطمة؟!! هل حدث شيء؟
قالت: أرجوك يا معلمتي لقد أتعبتك معي .. ولاقيت من أجلي الكثير وبصراحة من اليوم وصاعدًا لن ألبس شيئًا؟!!
تعجبت منها وقلت لها: لماذا ما السبب؟!!
وبعد محاولات شتى أخبرتني بالسبب وهو أن أخواتها من أبيها رأينها وهي تلبس هذه الملابس الشتوية في المدرسة، فأخبرن والدتهن .. والتي هي بدورها نقلت الأمر إلى زوجها – أبو فاطمة – وبالطبع كان مصيرها الضرب والحبس كالمعتاد والتهديد والوعيد .. حينها توجهت إلى الحي القيوم داعية أن يرأف بالصغيرة وأن يكشف عنها هذا الظلم والضر وعجبًًا أي قلوب هذه التي تستحيل أقسى من الحجر .. ألا يخشون أن يحل عليهم سخط الله وعقابه .. ألا يخافون الله الذي يمهل ولا يهمل ..؟!!
كان الله في عونك يا فاطمة .. وألهمك الصبر والثبات ..وأصلح لك أباك وزوجه .. (1) .
* * * *
(9) عودة وإنابة
__________
(1) حدثتني بهذه القصة إحدى الأخوات الثقات إن شاء الله.(1/52)
زخات من الآلام والهموم تمطر بوابلها على تلك الأسرة المسكينة مما جعلها تعيش في متاهات طويلة مع شروق شمس كل يوم .. ها هي شلالات الحزن تداهم ذلك البيت الصغير الكئيب ومما زاد حزنهم وكآبتهم سقوط رب الأسرة وعمادها مغشيًا عليه كان ذلك ليلة البارحة .. فالمرض يزداد عليه يومًا بعد يوم .. بات الكل في حزن وألم ليس بيدهم سوى الدموع واللجوء إلى الله كل ذلك نتيجة لعقوق وطيش قد تأصل في بكرهم أحمد، فقد ملوا وسئموا من تصرفاته الهوجاء وقساوة قلبه رغم توصيات والدته وتوجيهاتها بل ودموعها .. خوفته بالله حذرته من مغبة فعله هذا، ولكنه في كل مرة يقابل كلماتها بصلف وعناد ولا مبالاة .. حذره والده ووجهه بل وأغلظ عليه حرمه من أشياء كثيرة لعله يثوب إلى رشده ولكن لا جدوى من ذلك كله ازدادت حالة أحمد سوءًا والأسوأ من ذلك إخفاقه في دراسته واستهتاره بطاعة ربه وسخريته حتى من والديه، رثى الجميع لحاله وبذل الأقارب ومن حوله قصارى جهدهم في نصحه وإرشاده فهم يعلمون مدى منزلة أحمد عند والديه ولكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل.(1/53)
زارهم يومًا إمام المسجد وأخذ يصبر والد أحمد ودعا لابنه بالهداية بعد الضلال والطاعة بعد المعصية والإنابة والتوبة بعد الغفلة والضياع .. بكى الوالد وقال: ليته كان مطيعًا وبارًا فأنا لا أضمن عمري فإذا رحلت من سيكون عونًا لأمه وأختيه .. بل ليته يموت وأرتاح ويرتاح غيري من شره وأذاه، كم كنت أتمنى أن يكون علمًا شامخًا في الخير .. كنت أتمنى أن يكون داعية صالحًا أو إمامًا مسجد أو مجاهدًا في سبيل الله .. ثم أجهش بالبكاء مرة أخرى فبكى معه الإمام أسى وحرقة لشاب من شباب المسلمين يسلك طريق الضلال وينحرف عن جادة الصواب حدَّث نفسه هذا ما يريده أعداء الإسلام ويسعون جاهدين لأجله كم يسعدهم أن يروا شباب هذه الأمة تائهين ضائعين ضالين لا هدف لهم ولا غاية .. توجه الإمام إلى الأب حاثًا له على الصبر والثبات وأن يدعو لابنه بالهداية والصلاح.
توالت الأيام العصيبة واللحظات المريرة على أسرة أحمد فهو أملهم المنشود بعدالله وأحمد ما زال على حاله يأتي ليأكل ويشرب وينام ويأخذ ما بدا له من نقود ثم يولي خارجًا تاركًا خلفه أبًا حزينًا مريضًا وأمًا تجرعت الهموم من تصرفات ابنها.
يخرج ليعبث بتلك النقود كيف شاء وهكذا.
لقد تبلد حسه وغطت الغفلة قلبه، لقد أصبح كالصخرة الصماء التي لا تؤثر فيها المواعظ ولا الدموع ولا التوسلات التي تنهال عليه من والديه.
ذات يوم وكان يوم جمعة خرج أحمد مبكرًا مع أصدقائه وكعادته فهو لا يعرف لهذا اليوم حرمة ولا فضلاً .. لا يبالي بصلاة ولا صيام ولا عبادة خرج مع رفقة السوء وبعد انتهاء الخطبة والصلاة أراد العودة إلى البيت ليأخذ نقودًا ويكمل بها بقية يومه، اقترب من المنزل وإذ به يرى والده وقد ارتسمت على محياه سيما الوقار والإجلال وروحانية الصلاة.(1/54)
أما أحمد فقد كان مكفهر الوجه مقطب الجبين تكاد الشرارة تخرج من عينيه، يكسو وجهه الكآبة والظلمة والوحشة قد أصبح قلبه أقسى من الحجر وقف في وجه أبيه قائلاً له: أعطني نقودًا وبسرعة فأصدقائي في انتظاري هيا بسرعة.
تنهد الأب وقد تمالك أعصابه فهما في الشارع .. قال له متسائلاً: هل صليت الجمعة يا أحمد؟
صرخ أحمد في وجه أبيه: أقول لك أعطني نقودًا، وتقول هل صليت الجمعة .. ما هذا التخلف .. يبدو أن كبر سنك قد أثر فيك وفي سمعك.
قال الأب بانفعال: اغرب عن وجهي أيها العاق .. الفاسد، اذهب لا أريد أن أراك هنا مرة أخرى سأدعو الله عليك .. اذهب لا بارك الله في ابن مثلك .. وبينما الأب يتكلم ويصرخ وقد تجمع الناس والجيران يحاولون تهدئة الأب فهو ما زال يعاني وطأة المرض إذ بأحمد تأخذه العزة بالإثم فينسى نفسه .. وينسى من حوله .. بل وينسى ربه.
لترتفع اليد العاقة وتبطش بالأب المسكين وتضربه .. ضرب أحمد والده وعلى مرأى من الجميع لم يخف الله في السماء .. ولم يرق قلبه لوالده الذي أضناه مر السنين في تنشئة وتربيته ولكن ذلك لم يثمر فيه .. كما أنه لم يستحي من الناس والذين كادوا يفتكون به لولا أن رفقة السوء انتشلته فحملوه في سيارتهم ليغادروا المكان إلى حيث الفجور والفساد .. ألأم وابنتها يتصارخن من داخل البيت .. بكى الأب بدل الدموع دمًا، وقبل ذلك بكى قلبه لهذا الموقف المخزي الذي أوقفه ابنه إياه .. لقد أبكى هذا الموقف كل من حضر من الناس .. أي زمن هذا يعيشه هذا العاق .. وبأي قلب متفطر سيكون قلبك أيها الأب المسكين؟
لم يَدْعُ عليه الأب بل دخل منزله واستقبل القبلة ورفع يديه يدعو له: اللهم أهد أحمد، اللهم يسر له سبل الصلاح .. اللهم اغفر له واعف عنه .. اللهم أصلح لي ابني الوحيد .. والأم تؤمن على دعائه.(1/55)
توالت الأيام .. وانقطعت أخبار أحمد، بل إنه لم يعد يرى في جنبات حيه .. ومضت على تلك الحادثة المخزية قرابة السنة وأحمد مختف لا يبدو للعيان .. أما والده فقد اكتوى قلباهما بنار بُعْده عنهما .. لم يهدأ لهما بال .. ولم يقر لهما قرار بحثًا عنه تحريًا عن أخباره بذلا جهدًا في السؤال عنه وعن أحواله .. وإذ بالأمر يتضح إنه يقبع في السجن بتهمة القبض عليه وبحوزته مخدر (حشيش) وهذه نهاية حتمية للانسياق في طريق الضلال والرفقة السيئة، وقبل ذلك البعد عن الله.
تلاطمت الآلام من جديد على قلب ذلك الأب المكلوم وبدأ يحسب مسافات الحنين والعطف داخل فؤاده وتناسى كل ألوان العقوق والتي تذوق مرارتها من فلذة كبده كما حرقت اللوعة والحسرة فؤاد أمه والتي سكبت الدموع الحرى على مصير ابنها وقرة عينها .. لم يتركوا أحمد وحيدًا في محنته هذه .. بينما تخلى عنه رفاقه، بل وتبرؤوا منه، لقد وقف معه أهله وساندوه في أزمته .. إنهم يدعون الله أن يفرج عن أحمد .. وأنْ يصلح حاله ويفتح على قلبه .. ها هو أحمد .. تتضح له الرؤية وتتكشف له الأمور فيعتصر قلبه حسرة وأسى على تلك الأيام الخوالي في الضلال والضياع.
ها هي تلك الصورة المخزية تتراءى أمام ناظريه بل لا تكاد تفارق مخيلته .. إنه يتأمل تلك اليد الغادرة التي بطشت بأعز الناس إليه كيف فعل ذلك كيف استجرأ على ذلك حدَّث نفسه لو لم يكن حرام علي لقطعتها.(1/56)
ذرفت دموع الندم من مقلتي أحمد .. لقد كان ضحية سهلة وفريسة مستساغة لقرناء السوء .. ردد أحمد لا شعوريًا لا بارك الله فيهم ولا في صداقتهم وما هي إلا دقائق حتى أعلن نداء الحق من المسجد المجاور وقت دخول الصلاة .. فصرخت آلام السنين من داخل كوامن نفسه وانسابت الدموع مجددًا من مقلتيه علّها تغسل درن الماضي المُر ونتنه .. آه ما أجمل هذا النداء العذب وما أعذب صوت الحق وهو يتردد في الأرجاء سبحان الله وكأني لأول مرة أسمعه لقد كان قلبي ملبدًا بظلمة المعاصي والذنوب أحس بالخفة والنشوة والارتياح فقام للوضوء وصلى الله بخشوع وتأني وأقبل على رب غفور رحيم.
هكذا استمرت حياة أحمد في السجن .. إنابةً وتوبةً وندمًا على ما فات وعودة إلى الله، ما أروع هذه الحياة .. حياة الإيمان والطاعة والطمأنينة .. إنها حقًا الراحة والسعادة .. هذا ما كان يردده أحمد دائمًا.
خرج أحمد للحياة إنسانًا آخر يحمل بين جنبيه قلبًا متفطرًا وجبينًا أغر وهامة شامخة، بل وهمة عالية تعانق عنان السماء ذهب إلى والديه وقبل رأسيهما وخضع بين يديهما وبكى على سالف عهده معهما .. لا يريد من الدنيا سوى رضا الله ثم رضا والديه.
أقسم ألا يبيت تلك الليلة إلا بين جنبات مكة المكرمة ونفحاتها العبقة، استأذن والديه في ذلك فأذنا له بل وشجعاه عليه .. فكم يسعدهما أن يكون لهما ابن صالح يدعو لهما.
ذهب هناك واعتمر وصلى وأناب .. بكى واعتبر.
وعندما عاد إلى الرياض أقسم مرة أخرى ألا يعيش إلا بين مدفع ورشاش وحجر أشم على جبهات أفغانستان .. حمل أمتعته وزاده لسفره ورحل هناك حيث الشهادة والجهاد بالنفس والمال، رحل من ليلته تلك إلى الجبال الشم والحياة الإيمانية والسعادة الحقيقية.(1/57)
وبعد رحيل أحمد بشهر إلى الجهاد وبعد التدريبات المكثفة على كيفية استخدام الرشاش والمدافع وبعد أن أصبحت النفوس الأبية تتوق، بل وتتشوق لنيل الشهادة في سبيل الله فيتسارع الشباب يقدمون أرواحهم ونفوسهم رخيصة في سبيل الله .. إذا بثلة من الشباب الصالحين يفوح عبق التقى والصلاح والخير من محياهم يزورون بيت أحمد فيستقبلهم والده بالحفاوة والترحاب خاصة بعد أن عرف أنهم أصدقاؤه الصالحون والذين شاركوه الخير في أرض المعركة .. سأل متلهفًا عن حال أحمد وأخباره قالوا له أبشر يا عم أحمد بخير وفضل من الله .. أبشر فقد استشهد أحمد في ساحة الجهاد .. لقد مات وهو يردد الشهادة وقد ارتسمت محياه ابتسامة الرضى والسعادة .. حينها بكى الأب واسترجع ورفع يديه للسماء قائلاً:
الحمد لله الذي شرفني بشهادته مع المؤمنين الأفذاذ الأبطال وكأنها جالت بخاطر الوالد صورة أحمد المظلمة عندما كان عاقًا لوالديه .. عاصيًا لخالقه .. تافهًا لا قيمة له ولا قدر .. الكل يخشاه ويحذر منه، ومن ثم صورته المشرقة وعزيمته القوية وإيمانه الصادق، بل وهمته العالية والتي جعلته يأبى إلا أن يموت في أحضان الدبابة والرشاش والمدفع .. يموت لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى .. اهـ. نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا (1) .
* * * *
(10) متى تنتهي الشحناء والعداوات؟!!!
__________
(1) وصلتني هذه القصة من الأخت العزيز أم زياد، بارك الله في جهودها.(1/58)
أخذت تسترجع شريط ذكرياتها قلبت صفحات الماضي علّها تجد ما يبرر موقف أخيتها منها .. زادت حيرتها وازداد معه قلقها .. أمسكت بالقلم وأخذت تخط شجونها ونبضات قلبها النازف المجروح .. سطَّرت ما جال في خاطرها وقد زفرت زفرة الحزن والألم .. وصرخت صرخة العناء والوجل تساءلت ما بال البؤرة بيني وبين أخيتي اتسعت .. ما هذا الجفاء الذي بدت تلوح أعلامه ممن اعتبرتها الأخت والصديقة واعتبرتني كذلك .. ماذا بها يا ترى؟!! وما الذي أصابها؟!! وما الذي جنته يداي تجاهها؟!!
ألفت نفسها كآبة موحشة، تحشرج صوتها: تمتمت بعبارات خفية وكأنها تحادث أحدًا .. ماذا اعتراك يا رفيقة دربي؟! ماذا دهاك وقد تعاهدنا أن نمضي سويًا في طريق الدعوة الشائك .. حاولت أستجديك بابتسامة مني فرددتها علي غاضبة، حاولت أن أحادثك بلين ومحبة فرددت على الكرة خاسرة، ما بالي أحاول الاقتراب منك وأنت تبتعدين وتبتعدين، بل وتهربين مني.
توقفت برهة عن الكتابة وقد تسمرت عيناها في ورقة أمامها مكتوب عليها أبيات رائعة .. نظرت إليها تأملتها جيدًا تنهدتْ وقالت صدقت يا من قلت:
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة
فلا خير في خل يجيء تكلفًا
ولا خير في خل يخون خليله
ويلقاه من بعد المودة بالجفا
وينكر عيشًا قد تقادم عهده
ويظهر سرًا كان بالأمس قد خفى
سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها
صديق صدوق صادق الوعد منصفًا(1/59)
لقد شطح خيالها بعيدًا هناك عند صديقتها .. وتذكرت مواقفها معها وما كان منها وما قدمته لها – عادت تتساءل من جديد – أو قد أكون جرحتها بكلمة؟!! أو أكون أخطأت في حقها؟!! يا لله ماذا جرى بيننا؟!! وما التصرف الذي صدر مني حيالها؟! أسئلة كثيرة تدور في مخيلتي ولا أجد لها جوابًا .. إنها لا تكاد الكلمة تخرج من بين شفاهي إلا وتقتلها بنظراتها المسمومة .. إنها لا تعطيني حتى الفرصة لمناقشتها .. لسؤالها أو حتى الاستفسار منها .. لقد نست، بل تناست تلك الأيام الرائعة التي عشناها سويًا في طاعة الله .. نهلنا من معين العلم الصافي .. تذاكرنا كتاب الله .. كنا نتناصح فيه، أكل هذا يذهب سدى؟!! إنها من رددت على لسانها «المسلم لا يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث».
إنها من كانت توصيني بوجوب الإتيان بحقوق الأخوة كاملة كانت تذكرنا بثواب المتحابين في الله وما لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي .. أين هذا كله؟! أين هذا كله؟ توقفت عن الكتابة برهة وقد أغرورقت ورقت عيناها بالدموع .. فاختلطت دموع القهر بدموع الحبر لتستمر في الكتابة فتكمل.
فعزيزتي: ما الذي أجحف بحق الأخوة .. وجعل القلوب تتنافر والأجساد تتباعد والشيطان يضحك فرحًا وطربًا لانتصاره ونجاحه .. لقد بكى قلبي قبل عيني على الأيام الجميلة الراحلة على تألفنا وتوادنا .. فإلى متى نمضي على هذه الحال؟ ونسير في هذه الحياة متنافرين .. متشاحنين .. وما الدافع لذلك كله؟
أخية: إنني متأكدة أن هناك أسبابًا ودوافع لهذا التصرف العجيب من صديقة العمر .. ممن شاركتني أفراحي وأحزاني .. ولكن ما هو يا ترى؟!! هذا ما حيرني .. وأشغل بالي .. وأقضَّ مضجعي .. ليتني أعرف السبب.(1/60)
صديقتي أو تظنين أنني تركت الأمر يمر هكذا لقد بحثت وتقصيت وتحريت وتثبت ومع مرور الأيام اتضح لي الأمر جليًا وانكشف لي الغطاء وظهر الحق من الباطن وعلمت ما جنته يدي الواشيات المفسدات ممن اتخذن نقل الكلام على وجه الإفساد والنميمة والكذب مهنة لهنّ لنشر سمومهن القاتلة وسعيهن في إفساد العلاقات الحميمة «ولا يدخل الجنة نمام» لذا لم أجد بدأ من كتابة ورقتي هذه إليك.
رفعت بصرها إلى الساعة الحائطية وقد سمعت دقاتها التي قطعت بصوتها سكون المكان ..ز أوه إنها الساعة الثانية ليلاً تنهدت .. آه .. أنى للنوم أن يداعب جفوني ..ز أنى للراحة تجد طريقها إلى نفسي وبيني وبين أخيتي شحناء فعادت مجددًا لتخط عباراتها عبر صفحات الزمن.
أخية: علمت أن هذا الحاجز الصلب بيني وبينك ما هو إلا من صنع الشيطان وكيد الكائدين على شدة فرحتي بمعرفة السبب على قدر ما حزنت وتألمت كيف أن أخيتي انساقت وبسهولة وأصغت سمعها للقيل والقال .. لقد اكتشفت أن هناك من نقل كلامًا على لساني كذبًا وزورًا يسيء إليك وأنت صدقت وبهذه السهولة .. لماذا لم تسأليني؟!! لماذا لم تتأكدي من صدق الخبر المنقول؟ لماذا تسرعت في الحكم علي .. خاصة أن علاقتي بك قوية، أبهذه السهولة تذهب تلك الأخوة الإيمانية سدى؟!! لقد كنت أنا وأنت فريسة مستساغة وضحية سهلة للظنون والشكوك والكذب والبهتان .. لقد كان هذا الأمر بالنسبة لي مفاجأة بل فاجعة وصدمة قوية .. ولا أقول إلا حسبي الله ونعم الوكيل .. وإلى الله المشتكى.(1/61)
كنت أتمنى أن تكون صداقتنا وأخوتنا أكبر من هذه السفاسف .. كنت أتمنى ألا تستسلمي وبسهولة لمثل تلك التفاهات التي يروجها من في قلبه مرض أو غيرة أو حسد .. لقد عرفتك قوية صلبة لا تهزّك المؤثرات مهما كانت، فما بالك الآن خارت قواك .. وضعفت عزيمتك .. واستسلمت وبسهولة لتلك الترهات .. ومع كل ما سبق فإني ما زلت أمد يدي لك يا أخيتي وأدعوك أن تفتحي معي صفحة جديدة .. وأن تلقي بعبارات الوشاة وراء ظهرك .. ولا تلتفتي للكائدين المغرضين .. ولتعلمي أنه رغم تلك الزوبعة .. ورغم تلك الرياح العاتية .. ورغم إساءة الظن بي فإن عرى الأخوة الإسلامية ما زالت جذورها مغروسة في قلبي تجاهك .. لا ولن يقتلعها شيء لأنها بدأت في الله .. وستنتهي كذلك – بمشيئة الله – وفؤادي لا يحمل لك إلا الخير والمحبة والمودة ودعوات أخلّفها لك في ظهر الغيب .. اهـ.
يقول الله تعالى: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67].
* * * *
(11) ليلة فرح .. وترح ..(1/62)
إنها ليلة العمر السعادة تغمر الوجوه المهنئة .. الأهل والأصحاب والأقارب أتوا من كل حدب وصوب لحضور هذه المناسبة السعيدة .. وهدى تكاد تخفي فرحتها المشوبة بالحياء والخجل وتنتابها حالات الرهبة والخوف لصعوبة الموقف مشاعر متضاربة تحاول إخفاءها فلا تستطيع .. لقد تكلف الأهل كثيرًا وبذلوا جهودًا كبيرة وأنفقوا الأموال الطائلة لهذه المناسبة وبدت مظاهر التفاخر والكبرياء تلوح أعلامها في كل شيء .. الأثاث .. الملابس .. الحلي حتى المطاعم والمشارب إنها فرحة ابنتهم آخر العنقود .. جاءت اللحظات الحاسمة وأقبل المدعوون زرفات ووحدانًا ..وأُضيئت الأنوار، وقرعت الطبول، والدفوف، وأخذ كثير من النساء يتباهين بما سترن به أجسادهن من ملابس شفافة وضيقة ومفتوحة وبالطبع باهظة الثمن والحقيقة لا ستر .. تسمَّرت الأبصار وأصغت الأسماع لكلمات الغناء الفاحش المبتذل والتي انطلقت من حناجر المغنيات .. النفوس مشتاقة للرقص واللهو والطرب .. وبالفعل انطلق ثلة من النساء يتراقصن يهزهن الطرب هزًا .. ويعبث بهن الشيطان عبثًا ومن حولهن المتفرجات قد شدهن طريقة الرقص بأنواعه فمن فاغرة فاها ومن مبتسمة لهذا العبث العجيب، ومن مشجعة بالمرح والتصفيق، وبينما هم كذلك وفي قمة تحمسهن وقد غطت الغفلة العقول وقبل ذلك القلوب والإيمان يستغيث ويستنجد يشعر بالغربة في دنيا مسعورة متلهفة للهوى والشهوة .. ووسط هذا الصخب والضجيج وحماس الرقص والغناء والتصفيق إذا بامرأة ممن لعب الشيطان بعقلها فسترت جسدها بثوب جله فتحات أبدت من خلاله المفاتن والعورات .. أخذت تتفنن في الرقص وقد أسعدها نظرات الإعجاب والدهشة من النساء .. وأبهجتها كلمات التشجيع والثناء والإطراء والتي انطلقت من أفواههن .. وقد بذلت قصارى جهدها لتنال استحسان النساء وأي عقول هذه عندما تكون هذه التوافه أكبر اهتمامهن .. وفجأة وبينما هي كذلك إذ بهذه المرأة تسقط على الأرض .. تسقط ولا حراك ..(1/63)
فيتوقف الغناء وتكف الأيدي عن التصفيق .. ويذهل الجميع وتتراجع بعض النساء .. بينما تتقدم أخريات لمساعدتها وهن يرددن قد يكون دوار أصابها جراء الرقص .. قد .. وقد وقد .. احتمالات عدة ولا يعلمن ما الصواب .. حُملت .. ووضعت في غرفة قريبة علَّها تستيقظ .. رشوها بالماء .. حركوها .. قلبوها .. وزادت دهشتهم تحول لونها الجميل الأبيض والمشرئب بحمرة إلى سواد وظلمة – والعياذ بالله – لم يجدوا محيدًا من الذهاب بها إلى أقرب مستشفى وفي أسرع وقت ممكن كان هذا في منتصف الليل، وهناك تحسس الطبيب نبضات قلبها .. ليفاجئهم بأنها قد فارقت الحياة لحظة سقوطها .. وما بها من علة إلا أن أجلها قد حان .. حان أجلها وهي على تلك الحال .. وختم لها بذلك العمل.
أمّا العروس هدى فقد انقلب فرحها حزنًا .. وهي تسمع همسات النساء اللاذعة .. إنها ليلة نكد .. هذا ليس فرح .. تفرق الحضور قبل تناول العشاء .. وخيم الصمت على المكان ونشر الحزن والكآبة ظلاله على أهل العروسين، بل وأوحش المكان .. وحقًا أمرٌ يبنى على انتهاك محارم الله وارتكاب الذنوب والمعاصي فإنه يكون شؤمًا ووبالاً على صاحبه .. وأنى يجد التوفيق طريقًا إليه وهو في ظل الشيطان وكنفه؟!! - فنسأل الله العافية والسلام والسلامة -.
* * * *
(12) حضارة زائفة
وقفتُ من على بعد أرمقها وتمتمتها الغريبة حاولت أن أقترب منها وبالفعل بادرتها بإلقاء التحية: السلام عليكم ورحمة الله.
ردت علي بلغة شبيهة بتلك التي تأتي من وفود الخدم والسائقين
عجبًا .. لكن ملامحها توحي لي بأنها عربية بل وتقول إنني مسلمة بل واسمها واسم عائلتها ولكن مظهرها وهيئتها تنبئ أنها نشأت وترعرعت في الخارج بل ومعجبة جدًا بلغتهم وعاداتهم حتى طريقة لبسها بل وتصفيف شعرها .. و .. و .. إلخ، مما يأتينا من زخم الحضارة الغربية الزائفة.(1/64)
أردفت .. ليس هذا فحسب .. قربت ابنتها ذات الست سنوات .. وقد ألبستها بطريقة عجيبة .. حتى ظننت أنها ولد .. وأخذت تسألها ما معنى أخت بالإنجليزية ما معنى كذا والصغيرة ترصد لها وتكرر كالببغاء تجيبها بكل ثقة والأم ترمق ابنتها بكل فخر واعتزاز وهي سعيدة بإجابات فلذة كبدها.
عجبت منها .. عبثًا حاولت أن أسال الصغيرة ما إذا كانت تجيد قراءة الفاتحة أو قصار السور أو حتى تنطق بالبسملة .. نظرت إلي باشمئزاز مشيرة بيدها قائلة .. نو .. نو.. ما زالت صغيرة على هذا الكلام.
أما أنا فقد أصابني الألم من أن مثل هذه النماذج تنتسب للإسلام .. فقلت لها: ألم تسمعي عن تلك الأمريكية التي أسلمت منذ حوالي عشرين سنة وهي تحاول خلال هذه المدة أن تنطق باللغة العربية فلم تستطع، ولكن العجيب أنها حفظت القرآن الكريم أما ما عداه من الكلام فلا .. وأنت نشأت في بلد مسلم عربي وبين أبوين مسلمين عربيين .. وتتنكرين لدينك ولغتك وبلدك.
فارق كبير بينك وبين تلك الأخت التي التقيت بها من بلاد البوسنة وتحدثت معها .. وقد كانت تجيد اللغة العربية الفصحى وعندما أومأت على صغيرتها التي أشبه ما تكون بالدمية لشدة جمالها وقد ألبستها ثوبًا طويلاً ساترًا .. فسألتها: ما اسمك يا حلوتي؟
قالت بلهجة عربية فصيحة وبالحركات: فَاطِمَة
لقد أثلجت صدري وغرست في وجداني زهرة الأمل الجديد لنصرة دين الله .. وبمثل هؤلاء يعز الدين وينتصر.(1/65)
أخية: إن أعداء الإسلام يسعون جاهدين لمحو معالم ديننا الحنيف ومن ذلك لغتنا العربية، أتدرين لماذا؟ لأنها لغة القرآن الكريم مصدر عزّنا ومكانتنا وسعادتنا في الدارين، يحاولون أن يصبغوا حياتنا بصبغة غربية من جميع النواحي .. في اللباس .. الكلام .. العادات .. والتقاليد .. وللأسف وجدوا المستجيبين والمقلدين لهم من أمثالك من باب مواكبة الحضارة والتقدم المزعوم .. وأي حضارة التي تجعلك تخرجين مبتذلة .. عارية .. ليس لك شخصية مستقلة تخصك .. إنه عين الانهزامية والتخاذل أن ننساق وبهذه السهولة لأعدائنا ونصبح إمَّعة لكل وافد من بلاد الأعاجم وقد يكون مخالفًا لديننا .. ونحن مَنْ خصّنا الله بأسمى الرسالات .. بل وجعلنا من خير الأمم .. ووكلنا بأعظم المهام { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110]، نحن من جُعل خاتم النبيين والمرسلين منا .. أين أنت من مقولة فاروق الأمة: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله».
أخية: إن هذا العالم ليس عالمك .. هذه العادات ليست عاداتك .. أنت لم تخلقي لهذا .. ومع حماسي أثناء الكلام، أظهرت نوعًا من اللامبالاة والاشمئزاز ويبدو أنها لم تعجبها كلماتي .. ولم تُرق لها عباراتي .. فودعتني ملوحة بأطراف أصابعها .. باي .. باي .. أراك مرة أخرى .. أنا مشغولة الآن.
أما أنا فقد اعتصر قلبي حزنًا لحالها ودعوت الله أن يهديها .. ويفتح على قلبها .. ويريها الحق حقًا وييسر لها سلوكه .. اهـ.
* * * *
(13) شبح الطلاق
بأي نظرة ينظر المجتمع للمطلقة .. أليست إنسانة مثل غيرها من الناس .. لماذا هذه النظرة القاسية للمطلقة وكأنها ارتكبت حرامًا أو جريمة لا تغتفر .. ألا يكفيها ما حل بها من بلاء .. إنها حقًا مسكينة.(1/66)
هذا ما أفضت به هيفاء لصديقتها وداد وقد أدمى قلبها نظرات النساء، بل وأيضًا الرجال لعموم المطلقات ومن بينهن هي .. فما أن يتقدم لها أحد ويعلم أنها مطلقة إلا وينسحب، بل ويفر هاربًا.
أكملت: إنني مثل غيري من الفتيات أحلم ببيت أُسري هادئ بأطفال يعيشون في كنفي وحضني ولكن ماذا أفعل إذا لم يحصل التوافق والتوفيق .. ماذا أفعل إذًا؟
استحالت حياتي جحيمًا لا يطاق .. لقد بذلت كل جهدي حتى لا يهدم بيتي .. ولكن ما باليد حيلة .. والحمد لله على كل حال .. إني راضية بما كتبه الله لي.(1/67)
في أثناء ذلك شطح تفكيرها بعيدًا وعادت عدة سنين إلى الوراء .. فتراءت لها صورة الماضي الأليم في بيت مطلقها .. لا تنسى تلك المعاناة التي واجهتها منه ومن أهله .. ثلاث سنوات كانت بالنسبة لها عذاب وظلم وهوان وشقاء .. وكانت تقابل كل ذلك بالصبر واحتساب الأجر واللين في التعامل معهم لعل قلوبهم تلين .. لعل حالهم يصلح ولكن لا فائدة كانوا يزدادون صلفًا وتجبرًا وظلمًا، بل وصل بهم الأمر إلى ضربها وهي في شهورها الأولى لأول حمل لها .. فنقلت على أثر ذلك إلى المستشفى فقد سبب فعلهم ذاك في سقوط حملها .. كان شبح الطلاق يطارد هيفاء في كل مكان .. لم يغب عن مخيلتها ذلك اليوم العصيب في حياتها عندما طردت من قبل زوجها وأهله .. أخرجوها إلى قارعة الطريق وفي وقت متأخر من الليل وسبب ذلك انشغالها بكي الملابس عن وجبة العشاء التي كانت على النار مما أدى إلى احتراقه، إنا تتحمل أعباء البيت كلها على رأسها .. وما أن علموا بذلك حتى تجمعت عليها الأسرة .. سبًا وشتمًا، بل وضربًا .. وعندما دافعت عن نفسها لترفض هذا الظلم وتدفعه عن نفسها .. قابلوا ذلك بطردها خارج البيت .. فهل يصدق أحد أن هناك أناسًا يتعاملون بمثل هذا الظلم والاستبداد والجبروت .. عادت هيفاء إلى منزل ألها كسيرة الخاطر باكية العين .. تعاني الظلم والهم والحزن والإرهاق .. ولكن دعوة المظلوم مستجابة ليس بينها وبين الله حجاب، لقد غفلوا عن مراقبة الله لهم .. نسوا أن عين الله لا تنام .. لم يبالوا بحرقة المظلوم وتفتت كبده وصدق دعائه وحقًا:
تنام عيناك والمظلوم يدعو ... عليك وعين الله لم تنم(1/68)
وسبحان الله لم يمر على هذه الحادثة معهم إلا أسبوعان ويتناقل الناس خبر أن فلانة الابنة الكبيرة للعائلة تتطلق وعندها خمسة من الأبناء .. عادت إلى أهلها مهانة ذليلة مطرودة مثلها مثل هيفاء تمامًا .. ولقد جاءت جارتها أم أحمد لتزف لها هذا الخبر وكأنها تهدي لها بشارة، فردت هيفاء بعد أن علا محياها الكآبة والحزن .. اللهم لا شماتة .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. كان الله في عونها .. وجبر قلبها على بعدها عن أبنائها.
فقالت الجارة والتي علتها الدهشة والاستغراب: أبعد كل الذي فعلوه معك يكون موقفك هكذا؟!! فقالت: هذا أمر كتبه الله علي والحمد لله على كل حال .. وكيف نفرح بمصاب غيرنا ونحن قد تذوقتاه .. إنه الإيمان والتسليم واليقين والرضى بقضاء الله وقدره.
ولكن ما يكدر صفو هيفاء ويقض مضجعها النظرة السيئة للمطلقات .. ليتها تتغير وتزال عن عقول الناس .. أفاقتْ هيفاء من أفكارها وهواجسها على صوت صديقتها وداد والتي تيقنت أن صديقتها كانت تستعرض شريط ماضيها فتركتها مع نفسها قليلاً فاعتذرت هيفاء لصديقتها قائلة: إني أسعى جاهدة لمحو صفحة الماضي من مخيلتي ولكنني لا أستطيع .. إني أدعو الله أن يلهمني الصبر والثبات على دينه .. ومع كل ما سبق فإني راضية بما قسمه الله لي ولكن غيري غير راضٍ .. وكوني فشلت في زواجي الأول لا يعني أنني لا أصلح لأن أكون زوجة ناجحة وأمًا حنونًا .. لماذا لا نمنح فرصة جديدة .. لماذا لا نخوض التجربة مرة أخرى .. لماذا لا تزول تلك النظرة القاصرة للمطلقات ..؟!!! اهـ.
(14) فدائية الأسرة(1/69)
ضحكاتها الطفولية تملأ الأرجاء وبراءتها العذبة تبهج الحياة .. لا تحمل في نفسها همًا .. ولا يكدر صفوها شيء .. أكبر آمالها وطموحاتها أن تحصل على لعبة جميلة أو فستان جديد أو حلوى لذيذة مثلها مثل غيرها من الفتيات وهكذا الأحلام الطفولية محدودة وبريئة ببراءة سنهم الطفولي ولكن عائشة لم تجد من ذلك شيئًا، كل ذلك بات عندها مجرد أماني وأحلام .. لا تراه إلا مع أبناء الجيران أو أقاربها .. فعمل والدها ودخله المحدود جدًا والذي لا يكاد يسد رمقهم فضلاً عن الأمور الأخرى لا يشجع على ذلك .. وهم من فئة يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
كبرت عائشة وكبرت معها أحلامها وزادت طلباتها خاصة في هذا الزمن العصيب الذي انتشرت فيه المظاهر البراقة واشتعل فيه اللهاث المسعور على هذه الدنيا والذي لا يطفئه إلا القناعة والرضى بما قسمه الله وما كل ما يتمنى المرء يدركه .. كانت عائشة ترى قريناتها في المدرسة يلبسن الجديد .. ويتفنن في أحذيتهن وحقائبهن .. بل حتى في دفاترهن وأقلامهن .. بينما هي تمكث عدة سنوات بنفس المريول حتى تمزق، أما حذاؤها فحدث ولا حرج فقد تآكل لكثرة ما مشت به .. بل وأصبح ضيقًا على قدميها .. فتبكي بصمت وحرقة .. تتساءل .. لماذا حالي هكذا؟!! إنها تريد أن تكون مثلها مثل زميلاتها .. كم صارحت أمها بذلك .. فتتألم الأم وتعتذر لابنتها بضيق ذات اليد .. بل وتضطر أحيانًا للاستدانة لتحضر لبناتها ما يتمنين ولكن إلى متى الديوان؟!! حتى ماكينة الخياطة لا تفي بالغرض المطلوب .. أيام شدة وبؤس وشقاء لعلها تنقضي .. هذا ما كانت تردده الأم دائمًا..
اجتازت الفتاة مرحلتها الثانوية ومن ثم مرحلتها الجامعية وذلك بكل صعوبة ومشقة .. ومن ثم زفت إليها الوظيفة .. فانفتح أمام الأسرة باب الأمل والسعادة، واستبشروا خيرًا.(1/70)
رددت الفتاة لعلي أعوض تلك البطون التي ذاقت مرارة الحرمان .. وتلك الأبدان والتي قل ما سعدت بلبس جديد .. لعلي .. ولعلي .. ولعلي .. أماني كثيرة .. وأحلام عريضة .. رفعت بصرها إلى السماء داعية: يا رب أعني .. يا رب وفقني .. يا رب يسر لي أمري .. سرح بها خيالها لتعود إلى الماضي القريب وتتذكر تلك الليالي والأيام البائسة والتي عاشتها في ظل الفقر .. وكنف الشدة والضيق .. كم رأت دمعات أمها تسيل على خديها وهي الصابرة المحتسبة .. كم انحنى ظهرها وهي تحوك الملابس للأخريات لعلها تساهم بشيء بسيط يسعد أبناءها وأبوها ذلك الرجل الكهل الذي بذل كل ما في وسعه، فواصل الليل بالنهار لعله يحقق لأبنائه شيئًا مما يتمنونه على الرغم من تحذيرات الطبيب له .. وخطر ذلك على صحته ولكن ما باليد حيلة .. ذكريات مؤلمة حزينة .. لا أعادها الله.
- نعم سأبذل قصارى جهدي حتى لا يعاني إخوتي ما عانيت .. سأقف معهم سأساندهم لقد تذوقت حياة العوز والحاجة .. ولا أريد أن يتذوق إخوتي ما تجرعت .. سأعمل ثم أعمل ثم أعمل وسأمد والدي بكل ما أستطيع.
هذا ما رددته عائشة بينها وبين نفسها .. وبالفعل شمرت عن ساعد الجد .. فأخذت تعمل بكل إخلاص وتفاني .. وفي نهاية كل شهر تعطي والدها كل ما تكسبه ولا تبقي لنفسها إلا النزر اليسير محتسبة ذلك عند الله .. والوالد بدوره ينفق منه على أسرته فظروفه الصحية وكبر سنه أوهن جسده فلم يستطع إكمال مسيرة العمل .. وقليلاً قليلاً تتحسن ظروف الأسرة المعيشية.
وتكبر عائشة .. وتحتل المنزلة والتقدير والمودة بين أبويها وإخوانها .. بل وكل من يعرفها فهي فتاة طيبة القلب .. لبقة مستقيمة تخاف الله متمسكة بدينها ذات سيرة حسنة ورجاحة عقل .. بل وعرفت في العائلة بالأم الحنون والأخت العطوف .. وإذا بالأم ترمق ابنتها فتتساءل: صغيرة الأمس أصبحت عروسة اليوم متى أفرح بها؟
فتجيب نفسها: ولكنَّه النصيب لم يأت بعد.(1/71)
تشغل الوظيفة كل حياة عائشة بل وتسلب لبَّها .. فهي في المدرسة ليست فقط معلمة، بل ومربية ناصحة مشفقة تحس بعظم المسؤولية التي تحملتها وأن البراعم التي بين يديها من بنات المسلمين ما هي إلا أمانة ستسأل عنها يوم العرض الأكبر .. فهي مخلصة في عملها .. متفانية في بذل كل ما تستطيع في طاعة ربها.
تمر الأيام ويزداد المرض على أبيها .. ويشتد تعبه فتحرص الفتاة على ملازمة أبيها فترة مرضه حتى أنها تغيبت عن المدرسة لتمكث بجانبه .. ويصر الأب تلح الأم في أن تذهب عائشة إلى مدرستها فتذعن الفتاة لتذهب مرغمة وفؤادها معلق عند أبيها .. تسعى جاهدة لنيل رضاه فرضى الله من رضى الوالدين .. وتعود ذات يوم وتتفاجأ بازدحام الرجال واكتظاظ النساء في بيتهم فتهرول مسرعة إلى أمها .. لتراها باكية .. تسألها بلهفة وذعر: ماذا حصل؟!! كيف أبي؟ أين هو؟!! ولكن الأم لا تجيبها إلا بالدموع .. فتحتضن ابنتها والتي علمت فيما بعد أن أباها قد توفاه الله .. مات وهو يقول: اللهم ارض عن عائشة فإني راض عنها.
أيام عصيبة وثقيلة مرت على هذه الأسرة .. وبالذات على عائشة .. فهي تشعر أن المسؤولية على عاتقها تزداد .. وأنها الآن عائل البيت وإخوانها ما زالوا صغارًا .. تمر الأيام ويمضي الوقت .. ويتقدم لعائشة الخطاب الواحد تلو الآخر .. ولكنها تؤجل هذا الموضوع أو حتى التفكير فيه .. وهذا هو خطؤها الذي وقعت فيه.
فهي تقول: إن أمامها مهمة لا بد أن تؤديها .. ورسالة لا بد أن تنهيها إنها تنتظر أن يكبر إخوانها فيعتمدوا على أنفسهم .. ويتحملوا عنها عبء المسؤولية .. ولا تدري أن هذا الأمر سيكون على حساب حياتها.(1/72)
ويمر العمر بذات الخلق والدين والمال والجمال .. ويكبر الصغار .. ويحتلون مراكز مرموقة .. ويتفرق الأبناء .. وتتزوج أصغر البنات .. أما عائشة فقد طال به العمر وأصبحت تنتظر من يؤنس وحشتها .. وتتلهف لكل طارق تظنه ابن الحلال ولكن أملها يخيب .. وأحلامها تتلاشى .. لقد تملكها الحزن وضاقت نفسها .. فنداء الفطرة يدوي في أعماقها ويجلجل في حنايا فؤادها .. إنها تحلم بذلك الطفل الذي تضمه إلى صدرها تناغيه .. تهبه كل ما تملك .. ولكن هل يتحقق الحلم .. يساورها القلق والخوف .. فهي ترى الشيب يغزو مفرقها والتجاعيد تزحف إلى وجهها الصبوح .. والهموم تعصف بها من كل جانب .. والحسرة تكاد تقتلها على شباب ضاع لكنها تحتسبه عند الله .. الأم العجوز .. يشتد تعبها .. ويتقطع فؤادها حزنًا على ابنتها التي تراها أمامها وتشعر بمعاناتها .. وأرقها .. وعلامات الكآبة التي تبدو على محياها لكن ماذا تفعل لها؟!! لو كان العريس يباع لاشترته لها؟!!
ها هي عائشة تلازم الفراش لمرض ألم بها .. وقد يكون قهر الأيام .. وضغط الزمان .. وقليلاً تفارق فدائية الأسرة الحياة .. وتلفظ أنفاسها الأخيرة .. تلفظ أنفساها وقد شخص بصرها إلى السماء .. وارتسمت على محياها ابتسامة عذبة جميلة .. وقد رفعت سبّابتها مرددة الشهادتين بكل يقين وسكينة ووقار .. فما أجمل هذه الميتة .. وما أنقاها .. الجميع قد التف حولها ليودّعوا من بذلت مالها وصحتها وشبابها لأجلهم .. ليودعوا الأم الحنون .. ودَّعوها والقلوب تقطر حزنًا وأسى على شهيدة الأسرة .. لك الله يا عائشة، فقد كنت مطيعة لربك بارة بوالديك محبة للخير لإخوانك .. لك الله وعوضك الله على صبرك وتحملك وعنائك بنعيم الجنة وأبشري بعريس الآخرة .. اهـ.
* * * *(1/73)