بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
خلقت مبرأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء
فأجمل منك لم تر قط عينٌ ... وأفضل منك لم تلد النساء
ثم أما بعد:
«فإن من أوجب الواجبات على المسلمين الاهتمام بسيرة نبيهم اهتمامًا بالغًا، وإعادة قراءتها في كل عصر؛ فإنها من أصدق السير، وأعظمها في تاريخ البشر، وإن صاحبها - صلى الله عليه وسلم - أولى من تُقرأ سيرته وتعاد، ونتعلم منها ونعلمها، فهي المعين الذي لا ينضب في معرفة الجيل الأول، كيف تربى ونشأ، وكيف جاهد وسالم، وكيف نشأت أمة، وتأسست دولة» (1) .
روى الخطيب البغدادي عن محمد بن عبد الله قال: «سمعت عمي الزهري يقول: «في علم المغازي علم الآخرة والدنيا» وروي عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: «كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسراياه، ويعيدها علينا ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيِّعوا ذكرها». وروي عن علي بن الحسين أنه كان يقول: «كنا نعلَّم مغازي الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما نعلم السورة من القرآن» (2) .
إن العودة إلى السيرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام هو التماس للحل وبحث عن المخرج من هذا الضعف الذي تعيشه الأمة، والابتعاد عن الحضور والشهود الذي نلحظه في تاريخها المعاصر.
__________
(1) «الطريق إلى المدينة» لمحمد العبدة.
(2) «مرويات غزوة الحديبية» لحافظ حكمي.(1/1)
إن الناس لا يستفيدون من التاريخ أو الماضي إلا إذا كانوا جادين في النظر معتبرين بالأحداث، وهذا المسلك إنما يكون لأولي الألباب الذين يقومون بالتحليل والمقارنة والذين يثقون بنصر الله، وقد قام شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الأمر عندما دهم الغزو المغولي الشام وكاد عمود الكتاب أن يُجتث، وحبل الإيمان أن ينقطع وزلزل الناس واستعدوا للهرب والخروج من ديارهم، وأنزل الله الثلوج الغزيرة والرياح الشديدة فكان شيخ الإسلام يثبت الناس ويقول لهم: «هذه مثل الخندق وسينصرنا الله سبحانه»، وجاء النصر بإذن الله» (1) .
«إن الاعتبار بالأحداث منهج قرآني لتربية المسلمين فعقب ذكر الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم، قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } [يوسف: 111]، وبعد قصة فرعون قال الله تعالى: { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [النازعات: 25، 26]» (2) .
وبعد كل ذلك: وأمتنا تعيش المأساة تلو المأساة... يتلمسون الطريق ويبحثون عن المخرج بعد أن ظلَّ الذُّل زمنًا يسبل ثيابه. من الواجب على الأمة أن تقرأ سيرتها وأن تعود إلى منهجها الأصيل... وسلفها النبيل، وأن تعلم أن في ساعات الضيق تأتي لحظات النصر.. وعند شدة الظلام تلوح تباشير الفجر.. وعند الصباح يحمد القوم السرى.
__________
(1) «الفتاوى» جمع عبد الرحمن بن قاسم.
(2) «الطريق إلى المدينة» لمحمد العبدة.(1/2)
فهيا معي لنعود معًا إلى سيرة الحق يوم بدأ، عودًا على بدء الدعوة لنعلم «أن مَنْ عاش لنفسه عاش صغيرًا ومات صغيرًا، ومَنْ عاش لأمَّته عاش كبيرًا ومات كبيرًا، فما عاد للنوم والراحة حاجة عنده؛ لأن همومه وآماله وطموحاته كبيرة ككبر نفسه التي ربَّى ومنهجه الذي آمن به، فما له والنوم، وما له والراحة، وما له والفراش الدافئ والعيش الهادئ والمتاع المريح، وقد عرف ذلك رسول الأنام عليه الصلاة والسلام فقال لخديجة رضي الله عنها وهي تدعوه أن يطمئن وينام فقال لها: «مضى عهد النوم يا خديجة» أجل لقد مضى، وما عاد إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق» (1) . فهل تجد الأمة في هذه التوجيهات توجيهًا أعظم ليقظة شعورها واستجاشة مشاعرها.
فهيا لنرى الحدث الذي غيَّر الله به مجرى الأحداث؛ فبعد المحن المتوالية جاءت البشائر، وبعد الصبر والثبات والتوكل يأتي الفرج ويمكِّن الله لعباده المؤمنين في الأرض ويُخرجهم من الضيق إلى سعة الدنيا والآخرة.
إن هذا الحدث الذي غيَّر مجرى الأحداث هو دلالة تلك الخطوات الأولى المتأنية التي قام بها الرسول - عليه السلام - في مكة، والتي أدَّت إلى التسارع بعدئذ وآتت أُكلها، وهكذا كل عمل يقوم على الحق ويُؤسس على قاعدة صلبة فإنه يؤتي ثماره بإذن الله.
وأخيرًا في دراستي هذه عن الحدث الذي غيَّر مجرى الأحداث، لا أدَّعي كمالاً منشودًا لبحثي ولكن لعله أن يكون مفتاحًا لناظرٍ أكثر فهمًا ودراية، وباحث أكبر عمقًا وأثرًا فيكون لي معه أجر الدلالة على الطريق في بناء فكرة وتحصيل ثمرة. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
* * *
لا تحزني يا بنية
__________
(1) سيد قطب. بتصرف.(1/3)
ها هو - عليه السلام - يُؤذى أشد ما يكون الأذى.. يُؤذى في أخلاقه فيوصف بالكذب، وفي عقله فيوصف بالجنون، وفي عقيدته فيوصف بالسحر والكهانة. ها هم يضعون على ظهره سلا الجزور.. وفي طريقه الأشواك.. وكل هذا والحبيب محمد - عليه السلام - يسير في دعوته ثابت الخطو.. ينظر إلى أمامه ولا يلتفت لمعوق خلفه يكذبه ويخذل الناس عنه وينفتح باب دار الأرقم ليستقبل من آمن خفية.. يتربون على القرآن وينهلون من آداب النبوة.. وظلوا هكذا تربية ومنهجًا.. حتى لمحت قريش ما سيكون لهذه الدار من أثر وبناء.. «فتقيح كبرياؤها ولهثت وراء النور تتحداه في سعار وشراسة» (1) ، ويصمد النبي الكريم - عليه السلام - وأصحابه أمام هذا السعار والشراسة ولا يزيدهم ذلك إلا ثباتًا وهكذا الذهب يزداد مع الطرق لمعانًا.
ولمَّا رأت قريش النور يتقدم ويسير في خطوات واثقة جاءت إلى أبي طالب تفاوضه وتقايضه بين أن يعطيها ابن أخيه محمدًا - عليه السلام - ويختار من فتيان قريش البُسل المغاوير من شاء، ويدرك أبو طالب ما أصابهم من جنون فيجيبهم في سخرية: «أتعطوني ولدكم أربيه وأغذوه لكم وأسلمكم ولدي لتقتلوه..» ويقف العم والزوجة مع النبي الكريم - عليه السلام - بكل ما لهما من جاه واقتدار، وتفقد الوثنية صوابها فتصب عذابها على بني هاشم بالحلف الظالم في الشعب ويزداد البلاء ويرتفع مستوى الحدث في زحمة أحداث الدعوة.. ولكنه لم يزد النفوس المؤمنة إلا طمأنينة ووثوقًا وخرجوا من الأحداث أكثر عزة ورسوخًا.
__________
(1) «إسلاميات» لخالد محمد خالد.(1/4)
ثم حدث الحدث الأعظم ففقد الحبيب عمه ونصيره أبا طالب.. وفقد الحبيب زوجته وسلواه خديجة رضي الله عنها، وحري بالحزن أن يكسو عامة فيتسمَّى به.. «والآن يخلو الجو لقريش أكثر من ذي قبل فتلاحق المصطفى بسفاهاتها الشرسة، ها هي تغري سفهاءها بوضع التراب والروث عليه وهو يصلي عند الكعبة، وتنحني فاطمة الزهراء ابنة رسول الله فوق ردائه باكية تميط عنه الأذى وتغسله وفي صبر المصطفين الأخيار يجفف دمعها بكفه الحانية» (1) ويقول لها: «لا تحزني با بنية فإن الله مانع أباك»، هكذا اليقين والثقة في الطريق والمنهج، فلِمَ لا تقولها الأمة بوثوق وعزة بأن الوعد قادم واليقين راسخ؟! وبهذا ظل - عليه السلام - لا يقاوم قريشًا بالصبر فحسب بل بمزيد من العمل وبالمُضي قُدُمًا على نفس الطريق يضئ ويُنبر، يدعو ويوجه، فأكرمه الله بأشرف تاج { وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 3، 4]، فانطلق الحبيب لا يألو على شيء إلا دعوته ورسالته.
ولمَّا اشتد عليه وأصحابه البلاء راح يتلمس لدعوته مؤمنين جددًا ويعطي نفسه المرهقة ساعات من الراحة والأمل بعيدًا عن جو قريش الخانق، وشد رحاله إلى الطائف وكان يومًا عجيبًا.
* * *
اليوم العجيب
إنَّ مزايا ذلك اليوم تستبين من وقائعه وأحداثه؛ فبموت أبي طالب أوغلت قريش في أحفادها وملاحقتها للرسول - عليه السلام - بالأذى والضر حتى قال الحبيب - عليه السلام - : «ما نالت مني قريشًا شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب»، هنا بدأ للحبيب أن يرحل إلى الطائف يُبلغ ثقيفًا كلمة الله؛ لعلَّه يجد بينهم إسلامًا ونصرًا. وبهذا الأسلوب ينتصر الرسول - عليه السلام - على اليأس ويدحضه بالعمل: «وفي نور يقينه بالمهمة التي اصطفاه الله لأدائها راح في حلكة الأحداث يرى طريقه ويبصر غايته.
__________
(1) «إسلاميات» لخالد محمد خالد. بتصرف.(1/5)
إن حَمَلَة المبادئ ليسوا شجعانًا في أعمالهم وحسب؛ بل هم شجعان في آمالهم وطموحاتهم وأحلامهم؛ لا سيما إذا كانوا من المرسلين» (1) . وبالرحيل إلى الطائف أرسى - عليه السلام - ألا يأس ولا قنوط على طريق الحق؛ فإذا كان الأهل والعشيرة وهم الأعرف بصدقه ونبله وأمانته واستقامة منهجه كذَّبوه وحاربوه، فعسى أن يكون غيرهم أوسع أفقا وأعظم إدراكًا وأسلم صدرًا فيقبلوا بالحق وينشروه، إنها المهمة النبوية الرسالية { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد: 7].
وهكذا سافر إلى الطائف، وهناك بدأ بثلاثة من سادتها وأشرافها وهم أشقاء أبناء عمرو بن عمير ابن ياليل، «أقبل عليهم يدعوهم إلى الهدى، ويحدثهم عن الإيمان، ويبشرهم بمثوبة الله ورضوانه إذا هم ناصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، لكنه فوجئ بقلوب أقسى من الصخر» (2) لا تستجيب للحق بل وتحجب الحق عن غيرها، لم يكفهم الجحود لمَّا سمعوا بل جاوزوا ذلك إلى السخرية وتحريض السفهاء على إيذاء المبلغ الكريم عليه الصلاة والسلام، لقد تخلوا بهذا عن أبسط مظاهر الخلق عند العربي الأول وهي: إكرام الضيف الغريب!! لقد كان جوابهم «ألم يجد الله غيرك يرسله...؟؟!».
__________
(1) «إسلاميات» لخالد محمد خالد. بتصرف.
(2) «إسلاميات» لخالد محمد خالد.(1/6)
ومضى الحبيب بعد استقبال الطائف تلاحقه مطاردة السفهاء حتى وجد بستانًا فأوى إليه.. يجفف الدم من عقبيه اللتين أدمتهما حجارة السفهاء، وأخذ على نفسه الحنان فتندت بالدمع عيناه... وظل يتذكر طوال عمره ثمانية وأربعين عامًا وهو يعيش بين الناس في محفل من الحب والحفاوة والاحترام، وها هو اليوم يلقى الذي يلقاه، ولكن أي يأس إذا كان هذا في سبيل الله؟ وأي شرف عظيم أن يناله الأذى في سبيل رفع راية الحق والهدى؟ وأي شيء يجعل الحياة عظيمة سوى ألم عظيم في أمر أعظم؟ هنالك أسنده ظهره إلى إحدى شجرات البستان وبسط كفيه إلى السماء مناجيًا ضارعًا «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملَّكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي... أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك» إنها السكينة وطمأنينة الروح وذكاء القلب في ذلك الموقف البائس، إنها التجرُّد وإسلام الوجه والقلب لمشيئة الله ورضاه.. إنها العودة عند الضيق إلى مفرِّج الكربات سبحانه. لم يكن هذا الذي لقيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطائف إلا درسًا من دروس النبوة ومشهدًا من مشاهد القدوة التي تترك للأجيال كل الأجيال أن من حمل الراية والهدى والإيمان لا بد له من تضحيات وصبر وشجاعة. إن يوم الطائف يوم درس وعزاء صادق لكل من لقي في سبيل الحق جحودًا وسخرية وهوانًا { إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [هود: 49].(1/7)
ويبصره صاحبا البستان من بعيد فيدعوان خادمًا لهما يأمرانه أن يحمل إلى الرسول الكريم - عليه السلام - قطفًا من العنب ويذهب الغلام عدَّاس – وكان نصرانيًا – ويضع القطف بين يدي الحبيب ويبتسم في وجه الغلام ابتسامة شاكر، ثم يمد يمينه قائلاً «بسم الله»، فسمعها عداس ودهش منها ودار الحوار بينه وبين الرسول الكريم.
قال عداس: هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد، فردَّ عليه الرسول - عليه السلام - : من أي البلاد أنت؟ فأجاب من (نينوى). فقال له الحبيب: من بلد الرجل الصالح يونس بن متَّى. فقال الغلام: وما علمك بيونس بن متَّى؟ فقال: إنه أخي، كان نبيًّا وأنا نبي مثله. فأكبَّ عداس على رسول الله يقبِّل رأسه ويديه وقدميه. وأسلم عداس بعد أن قرأ في وجه النبي - عليه السلام - الصدق، فأعطاه قلبه ويقينه وحبه وإيمانه.
وجاء عداس إلى سيديه فقالا له: ويلك يا عداس، مالك تقبِّل رأس الرجل ويديه وقدميه؟ فقال عداس: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي، فقال سيداه: لا يفتنك عن نصرانيتك، إنه رجل يخدع.(1/8)
ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة. «ترى كيف سيتحمل هذا المكروب المسكين أقدامه وهي لا تزال تنزف حزنًا ودمًا.. كيف سيعود إلى مكة ولا أبا طالب بعد اليوم.. من يضمد جراحه وخديجة تحت الثرى.. من يا ترى يكف ألسنة قريش عن الشماتة به.. كانت أيامًا لكنها في همومها سنوات» (1) ، سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله - عليه السلام - عن أشد يوم مرَّ به فأشار إلى الطائف وقال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب» (2) . «إنه الهم الذي حمله ومشى به حتى حنت عليه السحاب وأشفقت لمنظره الحجارة وأغصان الشجر واستعدت الرواسي الشم للانتقام له» (3) .
يقول - عليه السلام - : «فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل - عليه السلام - فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ ثم قال: يا محمد، ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين». فقال - عليه السلام - : «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا» (4) . «صلى عليك الله يا نهر الحنان.. في اليمين جبل.. وفي الشمال جبل.. لو كنت ممن ينتقم لنفسه.. لكان دك الجبال ولطحنت تلك الجماجم ولسالت من جبال الطائف دماء يراها أهل مكة، لكنه - صلى الله عليه وسلم - ما خرج لنفسه ولا أحضر شيئًا من عنده.. رفض ذلك لأنه جاء ليجعل الحياة إيمانًا وسعادة.. وفي قلبه أمل يهتز يتلألأ يقول: إن في الأصلاب ربيع قادم يتنفس الإسلام.
__________
(1) «السيرة النبوية» للصوياني.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) «السيرة النبوية» للصوياني.
(4) رواه البخاري.(1/9)
وعاد الحبيب إلى مكة حيث دخل بيته ورأى ابنته وريحانته فاطمة لابد أنها رأت الشحوب على الوجه الكريم ورأت الدماء في جروحه.. فسارعت لمواساته ومداواة جراحه.. وربما دمعت
عيناه - عليه السلام - حينما رأى فاطمة لأنها ذكَّرته خديجة رضي الله عنها، تلك المرأة التي طالما أحبها وواسته وعضدته.. ذكريات تترى بأحزانها فهل لهذه الأحزان من نهاية» (1) .
__________
(1) «السيرة النبوية» للصوياني. بتصرف.(1/10)
وأسلم نفر من الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم تولوا إلى قومهم منذرين، وفي هذا رسالة إلى رسول الله: يا محمد، إذا لم تسلم معك الإنس فإن معك الجن دُعاة للحق مهتدين به، وظلَّ الحبيب يفكر فيما يفعل.. ما الخطوة القادمة.. وتنفس الحبيب فكرة جديدة في أسلوب دعوته المباركة فكان العرض على القبائل.. ملاقاة الغرباء الذين لا يعرفهم لعلَّه أن يجد فيهم ما لم يجده في قومه.. فعرض عليهم ولبث على ذلك سنوات «يرفع الخباء يُشع في الخيام كالشموس كالضياء.. يحيط كالأمطار كالربيع والضياء لينعم الجميع» (1) ... وكانت مواسم الحج فرصة وسوف يلقاها قبيلة بعد قبيلة هاتفًا فيهم جميعا: «إني رسول الله إليكم.. يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي، وتمنعوني حتى أبلغ من الله ما بعثني به»، ورفضت بعض القبائل ومن أولئك بنو عامر بن صعصعة. لم يكد رسول الله يدعوهم إلى الإسلام حتى نهض واحد من شيوخهم، توسَّم في رسول الله الصدق والنبوَّة فصاح في قبيلته بكلماته هذه: «والله لو أخذت هذا الرجل من قريش لأكلت به العرب». ثم قال لرسول الله: «أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك...؟» فأجابه الحبيب الواثق - عليه السلام - : «الأمر لله يضعه حيث يشاء» إذ إنه دين لا صفقة.. وحتى في ساعات الضيق والعسرة لا يعطي أحدًا حتى مجرَّد أمنيَّة دنيويَّة يكسب بها النصرة والحماية؛ لأن الأمر لله، والقضية لله، وهي أَجلُّ من أن تتحول إلى غاية دنيوية وموضوع مساومة.
__________
(1) «السيرة النبوية» للصوياني.(1/11)
ولمَّا عاد بنو عامر من الموسم إلى أهلهم سألهم شيخ لهم عمَّا كان في موسمهم فقالوا: جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا! فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلاف، هل لذناباها من مطلب، والذي نفس فلان بيده ما تقوَّلها إسماعيلي قط وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم؟!.
إن الحياة لا لذَّة لها وأنت تشعر يا صاحب الحق أن الناس محرومون من لذَّة الإيمان، فالتوحيد كالماء كالهواء.. لابدَّ أن يدخل كل بيت ويعمر كل قلب.. وعلى عامله أن يحفر القناة بمعوله فالناس عطاش والأرض جفاف، فلابدَّ من العمل؛ والعمل الدؤوب لتبليغ الحياة للأرض وإيصال الماء للنهر لعلَّ في ذلك نجاة وغاية.
* * *
بين قبائل العرب
اختار الله العزيز أبا بكر - رضي الله عنه - لهذا الدين، لما له من شخصية عجيبة.. وثقافة كريمة بأنساب العرب.. ولما له من شهرة ووثوق عند الناس.. وفي هذه الرحلة بالذات من عمر الدعوة النبوية – على صاحبها الصلاة والسلام – كان أبو بكر على موعد مع المشاركة الفاعلة في عرض الدعوة والمساهمة في نجاح طريقها وهكذا المؤمن المبادر.(1/12)
اتَّجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبائل العرب يرافقه أبو بكر وعلي رضوان الله عليهم، فكانت هذه القصة العظيمة التي يرويها علي بن أبي طالب فيقول: «لمَّا أمر الله تبارك وتعالى رسوله: أن يعرف نفسه على قبائل العرب وأنا معه وأبو بكر - رضي الله عنه - ، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر وكان مقدمًا في كل خير وكان رجلاً نسَّابة، فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، فقال أبو بكر: وأي ربيعة أنتم؟ أمِن هامها؟ فقالوا: من الهامة العظمى، فقال أبو بكر: وأي هاماتها العظمى أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر. ثم سألهم أبو بكر أسئلة منها: أمنكم عوف؟ أمنكم جساس بن مرة؟ أمنكم الحوفزان؟ أخوال الملوك من كندة؟ أصحاب الملوك من لخم. وكل ذلك يجيبون: لا. فقال أبو بكر: إذن فأنتم لستم من ذهل الأكبر أنتم من ذهل الأصغر. ودار الحوار ولم يسلم القوم.(1/13)
قال علي - رضي الله عنه - : ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر وسلم. فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر - رضي الله عنه - إلى رسول الله فقال: بأبي أنت وأمي، هؤلاء غرر الناس فيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك. ثم دار الحوار بينهم وأبي بكر؛ قال لهم أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقالوا: إنا لنزيد على ألف ولن تُغْلَب ألف من قلة. قال أبو بكر: كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ قال مفروق: إنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد. والسلاح على اللقاح.. لعلك أخا قريش؟ فقال أبو بكر: قد بلغكم أنه رسول الله؟ ألا هو ذا. فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذاك، فإلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه وقال - عليه السلام - : «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإلى أن تؤوني وتنصروني، فإن قريشًا قد ظاهرت على أمر الله وكذَّبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق والله الغني الحميد». فقال مفروق: وإلام تدعونا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا.. ثم دخل في الحوار هانئ بن قبيصة فقال: «يا أخا قريش؟ إني أرى إن تركنا ديننا وأتباعنا على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر إنه زلل في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة ومن ورائنا قوم نرجع وترجع وننظر». ثم قال المثنى
ابن حارثة:... وإنا نزلنا بين صريين اليمامة والسمامة. فقال(1/14)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «وما هذام الصريان؟» فقال المثنى: بين أنهار كسرى ومياه العرب. وبيننا وكسرى عهدًا أخذه علينا ألا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا، فإن أحببت أن ننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله: «ويا لجمال ما قال!! ويا لروعة ما قال!» قال الحبيب - عليه السلام - : «ما أسأتم في الرد إذا أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه. أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم. أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذلك. فتلا رسول الله: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } [الأحزاب: 45، 46]. ثم نهض رسول الله قابضًا على يدي أبي بكر.
هذا في خيمة مفروق ومجلسه، وقد أوحى هذا المجلس بأن في الصحراء «قلبًا وماء.. نبعًا يرطب العروق.. يشدها نحو السماء» (1) . وأن هناك آذانًا تسمع.. وقلوبًا تعي.. فلا يأس ولا قنوط ولا تراجع.. فصاحب الهدف الأغلى يمتلك همة لا تكدرها الدلاء.. وروحًا لا تعرف إلا الثقة.. وعقيدة لا تعرف إلى التصميم الراسخ.
ورأى - عليه السلام - قبيلة فقال: «مَن هؤلاء يا أبا بكر؟» قال: هؤلاء بنو عبد الله. فقال لهم رسول الله: «يا بنو عبد الله لقد أحسن الله اسم أبيكم فأحسنوا في أنفسكم» فسمعوا لكنهم لم يسلموا.
ورأى - عليه السلام - قبيلة أخرى «من هؤلاء يا أبا بكر؟» قال: هؤلاء البكَّاؤون. فعرض عليهم الإسلام ولكنهم لم يسلموا.
وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنده في منازلهم وفيهم سيد يُقال له: مُليح، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه.
__________
(1) «السيرة النبوية» للصوياني.(1/15)
وعن عبد الله بن كعب أن رسول الله أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردًا منهم.
في زحمة هذه الأحداث المتلاحقة والأحزان المتعاقبة.. والنفوس الشاردة.. والعداوة المستحكمة.. تلونٌ في الأذى.. وإحكام في العداء، جاء الفرج بعد الشدة.. فكان اللقاء.. وأجمل لقاء.
لقاء بناء الدولة وإعداد الرجال. واقترب الوعد الحق.. وأوشكت سنوات مكة أن يُطوى كتابها لتبدأ الصفحات بمداد جديد.. إنها نهاية عهد الاضطهاد والتعذيب والمطاردة إلى عهد { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39].
كان آخر العرض على القبائل هذا اللقاء.. لقاء الغرباء بالغرباء.. جدد الدنيا وحوَّل التاريخ وأعاد للإنسانية مكانتها وقيادتها التي كادت تهلك دونها.. إنه اللقاء الذي طالما انتظرته الدنيا لتبتسم فكان الغد المشرق الباسم.
إن المسلم لا يحصر نفسه في وطن واحد أو بلد واحد، فأرض الله واسعة، والناس معادن، ولا ندري من أين ومتى يأتي الخير؟ وإن البحث عن أرض تنطلق منها الدعوة ويصهر فيها الأفراد ضمن تربية إيمانية هي من أساسيات الدعوة.
وعندما هاجر إبراهيم - عليه السلام - اتخذ بلاد الشام والحجاز موطنًا لدعوته وهذا ما يبحث عنه محمد عليه الصلاة والسلام وقد كان له هذا في لقاء الغرباء. لقاء البناء والتربية.
* * *
لقاء الغرباء(1/16)
«دفع - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه - إلى خيام الأوس والخزرج القادمين من حرة يثرب فكان لقاء الغرباء بالغرباء.. لقاء جدد الدنيا وحوَّل مجرى التاريخ» (1) . يقول أهل السير: «فلما لقيهم رسول الله قال لهم: «ممن أنتم؟» قالوا: نفر من الخزرج. قال: «أمِن موالي يهود؟» قالوا: نعم. قال - عليه السلام - : «أفلا تجلسون أكلمكم؟» قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم رسول الله إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.. وكان مما صنع الله لهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانت الأوس والخزرج أهل شرك وأصحاب وثن فكانوا إذا كان بينهم شيء قالت اليهود: إن نبيًا مبعوثًا الآن قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلمَّا كلَّم رسول الله أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم، اعلموا والله إن هذا الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه لمَّا دعاهم إلى الله عز وجل وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
__________
(1) «السيرة النبوية» للصوياني. بتصرف.(1/17)
ثم انصرفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا» (1) . «وتسلل الغرباء إلى قلوب بعض قومهم فاستجابوا وأسلموا.. فصار في تلك الديار مَنْ يعبد الله وحده لا شريك له.. ويصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فلمَّا كان موسم الحج التالي قدمت مطايا يثرب من المشركين تحج.. وكان بين الركب مطايا الموحدين.. وقد مشوا إلى رسول الله بعد انقضاء شعائر الحج، غسلوا أيديهم من ثارات الجاهلية وعنفها بماء زمزم الطاهر.. غسلوها ومدوها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاهرة.. يبايعونه ليلاً.. وعيون مكة نائمة عما يجري على أرض العقبة.
وعندما رأى - صلى الله عليه وسلم - أيديهم تصل إليه إذعانًا وامتثالاً لله ورسوله» (2) قال لهم: «تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتون ببهتان بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفَّى منكم فأجره على الله ومَن أصاب مِن ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفَّارة ومَنْ أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه» (3) .
فبايعوه وشُدَّت الأيدي للنهوض بالحق وبذله للأرض جميعًا. والرجال المبايعون في العقبة الأولى كانوا قليلاً. يقول عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - : «كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلاً» (4) . نعم لقد حملها الأنصار وابتهجوا بها وكانت فخرهم عندما يلوح الرجال بإنجازاتهم أمام الجمع، يقول أحدهم وهو كعب بن مالك - رضي الله عنه - : ولقد شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها» (5) .
__________
(1) رواه ابن إسحاق، وسنده صحيح.
(2) «السيرة النبوية» للصوياني. بتصرف.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) إسناده صحيح عند ابن إسحاق.
(5) حديث صحيح عند البخاري.(1/18)
وممن شهد العقبة جابر بن عبد الله الأنصاري القائل: «أنا وأبي وخالي من أصحاب العقبة» (1) ، والقائل: «شهد بي خالاي العقبة» (2) . هذه هي المفاخر وبمثل ما قال جابر من خدمة الدين يفخر الصادقون. فأين مَنْ كان يفخر بمال في مجتمعهم؟ لقد ذهبوا. وأين من كان يفخر بشرف أو جاه أو ولد؟ لقد ذهبوا ورياستهم وأولادهم.. فحري بالعاقل أن يفخر بخدمة معتقده الذي يدين وحقه الذي يؤمن به.
«إن هذه البيعة بيعة حطمت جدرانًا سوداء تحجب عن الدنيا أنوار الآخرة.. إنها بيعة تهز الإنسان أمام بعض الإرث الثقيل من تبعات الجاهلية. تقول له: اعبد الله ولا تشرك به شيئًا.. تقول له: اجعل الأرض ربيعًا يبتسم ابتسامة الطمأنينة بالحق الذي آمن.. إنها بيعة تقول: لا تمدنَّ يديك إلى ما في أيدي الغير.. وتزوج فإنه أنفاس الحياة ولا تتلوث بالزنا الفاحش.
إنها بيعة تهز الرجل المتجه نحو المقابر لتقول له: لِمَ تئد ابنتك.. إنها ما زالت حية.. إنها نبض قلبك وشريان دمك.. ماذا جنت حتى تهيل عليها التراب؛ هي شاخصة تناشدك شيئًا من الحنان والأبوة والرحمة» (3) .
إنها المبادئ العظام التي وجدها الأنصار وحملوها إلى يثرب.. فلما أروها بعض قومهم أُسِرُوا بها وأسلم الكثير منهم، بل لا يكاد بيت إلا ودخل فيه الإسلام بهجة بهذه المبادئ التي حفظت لهم أعراضهم وأموالهم وأطفالهم، بل وأذابت ما بينهم من صدأ وإحن الجاهلية كحبات المطر يمتزجون سيلاً يغيث الصحراء لا فرق بينهم جميعًا { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13].
* * *
الوافد الكريم
__________
(1) حديث صحيح عند البخاري.
(2) حديث صحيح عند البخاري.
(3) «السيرة النبوية» بتصرف.(1/19)
بعث الأنصار إلى رسول الله «أن ابعث إلينا رجلاً من قبلك فيدعو الناس بكتاب الله؛ فإنه أدنى أن يتبع». بحث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه أيهم يختار.. إنها مهمة صعبة لا يقوم بها إلا الصعب من الرجال.. الذين أعدوا إعدادًا خاصًا. «فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار»، امتاز مصعب - رضي الله عنه - بالشباب والجمال والهدوء والسمت والابتسامة والكلمة العذبة والحلم والحكمة، فكان بحق سفير الإسلام الأول، وذهب معه كما تقول الروايات ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - «ونزلا في بني غنم على أسعد بن زرارة فجعل يدعو الناس سرًا فيفشو الإسلام ويكثر أهله وهم في ذلك مستخفون بدعائهم» (1) .
لم تخل حياة مصعب في المدينة من معاناة.. فهو بعيد عن مكة مرتع صباه ونشأته ولحظات إسلامه وولادته الحقيقية.. ها هو بعيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهره مكشوف للجميع.. لا يملك شيئًا.. لا أهلاً.. ولا مالاً.. ولا سلاحًا.. ها هو بعيد عن تاريخه وسمعته ومعرفة الناس له.. كل ما يملكه رسالة ربه.. إنها زاده وسلاحه.. يقتحم بها الأهوال.. لا يأبه بما يلاقي.. ما دام ذلك كله في سبيل الله؛ فإنه ما خرج من مكة ليبحث عن حطام دنيا.. ولو أراد ذلك لكان الطريق غير الطريق.. إنه ما جاء إلا ليردم هوة الموت.. ليزرع يثرب بنور الحق.. حقًا لقد اخضرت يثرب بمصعب بن عمير.. لكن من يحملون في صدورهم صخورًا سميت قلوبًا ساءهم بهجة الأرض بالإيمان.. واخضرارها بالحق.. فأخبروا سيدهم ليضع لهذا الأمر حدًا وكان سيدهم هذا هو سعد بن معاذ.
__________
(1) حديث حسن بشواهده.(1/20)
جلس سعد بن معاذ إلى أسيد بن الحضير وقال له: «لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين؛ قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا؛ فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك...» فأقبل أسيد إلى مصعب فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: «هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه» فوقف أسيد ونظر لمصعب وقال: «ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا؟ فاعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة». فقال مصعب: «أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلته وإن كرهته كُفَّ عنك ما تكره». قال: «أنصفت» ثم قرأ مصعب شيئًا من القرآن فأسلم أسيد، ثم قال: «يا مصعب؛ إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما» ثم عاد أسيد فلمَّا رآه سعدٌ من بعيد قال: «لقد جاء أسيد بغير الوجه الذي ذهب به»، قال أسيد لسعد: إني أخشى على ابن خالتك من بني حارثة، فلبس سعد لأمته وذهب مسرعًا إلى حيث أسعد، ولمَّا رأى سعدٌ المكان هادئًا علك أن أسيدًا أراد غير هذا، فدخل سعد بن معاذ على مصعب وقال: «ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا فاعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة»، فقال مصعب: «أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرًا قبلتَه، وإلا كففنا عنك ما تكره؟»، قال: «أنصفت»، فجلس سعد وتلا عليه مصعب { حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الزخرف: 1-3]، فلمَّا سمعها سعد أسلم وعاد إلى قومه وقال لهم: «يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟» قالوا: «سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبة». قال: «فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله»، ثم تركهم ليفكِّروا، قال ابن إسحاق (1) رحمه الله: «فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة»، وكانت دور بني عبد الأشهل هي أول دور الأنصار إسلامًا.
__________
(1) سيرة ابن هشام.(1/21)
ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير - رضي الله عنه - واشتدوا على أسعد بن زرارة - رضي الله عنه - فانتقل مصعب إلى سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فلم يزل عنده ويهدي الله على يديه حتى قل دار من دور الأنصار وإلا أسلم فيها ناس لا محالة، وأسلم أشرافهم، وأسلم عمرو بن الجموح، وكسرت أصنامهم، وكان المسلمون أعز أهلها، وصلح أمرهم، وحينئذ رجع مصعب بن عمير - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يدعى المقرئ». «عاد - رضي الله عنه - بعد أن فتح الله على يديه فتحًا عظيمًا. عاد المقرئ إلى معلمه ونبيه - عليه السلام - يبشره بأن يثرب قد ملئت دروبها بحطام الأصنام.. يبشره بأن أبوابها مشرعة للنور.. عاد يبشره بأن القلوب محبة للحق داعية له.. وأن الأيدي تصافح وتبايع.. جاء ليبشره بأن التوحيد يغمر أجواء يثرب.. فلقد عادت الحياة إليها من جديد» (1) . إنها ترفع هامتها بعقيدتها.. وتعتز بالحق الذي آمنت به.. إنها أذن وسمع وبصر وعقل مع الحق له وبه ومعه.. إنها تنظر إلى القادم بعين الرضا والصمت والتفاؤل. عاد ليحدد اللقاء.. ونوعية اللقاء.. وشروط اللقاء.. هذا ما نستقرؤه من خلف الأحداث.. فكان هذا اللقاء بحق اللقاء الذي غيَّر مجرى الأحداث. وهنا يتوقف مصعب حتى لا يكاد يرى له دور بارز.. وذلك لأنه قد أجاد دوره من قبل فأحسن.. فها هو ينسحب بعد التهيئة؛ لأن الدور ليس دوره والمكان ليس مكانه.. إنه دور النبي - صلى الله عليه وسلم - الملهم فلتترك له القيادة في هذه الساعة التي غيرت مجرى الأحداث.
* * *
لقاء غير مجرى الأحداث
__________
(1) «السيرة النبوية» بتصرف.(1/22)
ونحن في هذه الأيام نرى صلف اليهود وجبروتهم.. ونرى حقد النصارى ومؤامراتهم.. ونلمس ما أصاب المسلمين من ذُلٍ وضعف.. يقتلون ويذبحون.. يسامون سوء العذاب.. تأتيهم من كل حدب مصيبة تذهل الحليم.. دماؤهم أرخص الدماء.. وأعراضهم أرخص الأعراض.. ليس لهم وزن ولا قافية في قصيدة الواقع المعاصر -مع هذا كله إلا أن ما يحدث قد يكون هو الحدث الذي يغير بإذن الله مجرى الأحداث.. فإن تباشير الصبح تأتي بعد شدة الظلمة.. ومن رحم المأساة يخرج الحق أقوى.. هكذا علمنا وعرفنا فلا تجزع.. ولا تيأس.. وكما قال محمود مفلح:
كفكف دموعك فالطريق طويل ... درب الشهادة قاتل وقتيل
قدر بأن نلقى القذائف عُزَّلاً ... ونلوك مر الصبر وهو جميل
ونواجه الطاغوت في أشكاله ... فالرأس رأس والذيول ذيول
كفكف دموعك فالجهاد طريقنا ... ودم الشهادة في الدجى قنديل
إن كان جمر القاذفات سلاحهم ... فسلاحنا التكبير والتهليل
إن لقاء الغرباء في العقبة، لقاء غيَّر مجرى الأحداث.. من هزيمة لنصر.. ومن ضعف لقوة.. ومن الدفاع إلى الهدوم.. لقاء الغرباء كان الصبح الذي بتباشيره زال الظلام وهو لحظات النصر وبه زالت ساعات الضيق.. إنه بناء دولة ورجال.. نشر وانتشار.. إنه دفاع ومدافعة.. إنه ثبات ودعوة.. إنه محضن جديد تتألق فيه النفوس وتُغْذَى فيه الأرواح.
«حان موعد الحج.. فتداعى الحجيج وسالوا من كل فج عميق نحو البيت العتيق.. لكن الكعبة لم تكن تنتظر إلا وفدًا قادمًا من حرة يثرب.. لا يحملون أصنامًا.. ولا يعلقون تمائم.. إنه وفد يحمل التوحيد معه يغسل به الكعبة مما علق بها من أرجاس الشرك» (1) . لم يكن الحجاج بجمعهم يعلمون أن قريشًا تعيش آخر أيام صلفها وجبروتها وغرورها.
__________
(1) «السيرة النبوية» للصوياني.(1/23)
«كان وفد يثرب خمسة وسبعون يقيمون في خيامهم مع من جاء من يثرب على شركه.. وخلال أيام التشريق وبعد الفراغ من الحج اتصلوا في سرية تامة محكمة برسول الله وواعدوه على اللقاء عند العقبة ذاتها تلك التي شهدت من قبل لقاءين مباركين» (1) ، وقد أمرهم ألا ينبهوا نائمًا ولا ينتظروا غائبًا؛ فالذي ينام عن مثل هذا الأمر حري به أن يتأخر فإن هذا الأمر الجلل لا يقوم به إلا أهل اليقظة.. أهل اليقظة في شعورهم ومشاعرهم.. أما أهل النوم والغفلة والغيبة.. فلا بأس أن يسلموا لكن التأخر بهم أولى فالذي لديه همٌّ أكبر من الحدث حري به أن يتأخر عن مجرى الأحداث؛ لأنها هي التي تؤثر فيه وليس هو المؤثر فيها.. ولله دُرُّ الأنصار ما تأخر منهم أحد فلم يغمض لهم جفن ولم يغفل أو يغيب عن اللقاء أحد فكانوا بحق أهل الحدث حقًا.
__________
(1) «إسلاميات» لخالد محمد خالد. بتصرف.(1/24)
كان القمر في تلك الليلة لم يكتمل بدرًا ولكنه ظهر بشكل برَّاق كأنه أراد المشاركة في موكب النور.. وكانت الجبال السمراء العالية تحتضن منى في صمت مذهل وكأن الجبال تريد أن تحيط الركب المتسلل للقاء. ولندع الشاعر كعب بن مالك أحد هؤلاء الموحدين الذي يحمل شعرًا يحمل طهرًا يروى لنا أحداث اللقاء يقول: «قد واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوسط أيام التشريق ونحن سبعون رجلاً – وفي رواية – ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان – للبيعة، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام – والد جابر بن عبد الله-، وإنه لعلى شركه، فأخذناه فقلنا: يا أبا جابر، والله إنا لنرغب بك أن تموت على ما أنت عليه، فتكون لهذه النار غدًا حطبًا، وإن الله قد بعث رسولاً يأمر بتوحيده وعبادته، وقد أسلم رجال من قومك، وقد واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبيعة، فأسلم وطهر ثيابه، وحضرها معنا، فكان نقيبًا» لله در هؤلاء الرجال الأكياس.. لقد عقلوا الحق وآمنوا به ودعوا إليه.. أما سمعتهم وهم يجلسون في اللحظات الأخيرة وقبل اللقاء مع عبد الله بن عمرو بن حرام يحاولون في إسلامه والبيعة معهم.. أترى هؤلاء يحملون حقدًا أو ضغينة.. إنه الحرص على أصحابهم وأصحاب الرأي فيهم حبًا للخير للجميع.. لأن المسلم المؤمن غيث يهمي على الأرض فيعيد لها الحياة – بإذن الله – إنه يحب الحق ويبني له رجالاً.. انظر لاختيارهم لهذا الرجل.. لله هم كيف أحسنوا اختياره ودعوته.. لقد كان في البيعة نقيبًا مقدمًا.. وهكذا ليس المهم عندهم من يكون النقيب المقدم ولكن المهم من الذي يعمل لهذا الدين وفي أي موقع..(1/25)
إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في المقدمة كان في المقدمة، ونعود لكعب بن مالك وهو يقصُّ قصة اللقاء العظيم الذي غير مجرى الأحداث، «فلما كانت الليلة التي واعدنا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى أول الليل مع قومنا، فلمَّا استثقل الناس في النوم تسللنا من قريش تسلل القطا حتى إذا اجتمعنا بالعقبة، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمه العباس، ليس معه غيره، أحب أن يحضر أمر ابن أخيه فكان أول متكلم» «في هدأة الليل وسكونه.. وعلى حين غفلة من قريش المتربصة المتحفزة.. تم أخطر وأعظم اجتماع في حياة الإسلام كله.. وفي حياة التاريخ الذي أثر الإسلام في تكوينه وأسهم في صنعه.. في هذا المؤتمر همس في أذن المستقبل.. فإذا أبوابه مشرعة تتفتح على الرحاب تستقبل كتائب الحق.. في هذا المؤتمر تألقت عبقرية القيادة والتنظيم لدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. لقد اصطحب عمه العباس لينتفع برجاحة عقله وذكاء فؤاده في هذا الموطن الذي لم يكن أحد يعرف أبعاده مثلما يعرفها رسول الله، وسواء كان العباس مسلمًا مستخف بإيمانه كما تقول بعض الروايات أو لم يكن مسلمًا بعد.. لكنه كان عظيم الحدب والعطف على رسول الله... والآن وقد أطلعه رسول الله على هذا الاجتماع الممعن في السرية والتخفي والبعيدة آثاره وثماره، فقد كان شهوده لهذا الاجتماع أمرًا مهمًا ومحتومًا ولقد بدأ هو بالحديث» (1) فقال: «إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وهو في منعة من قومه وبلاده، وقد منعناه ممن هو على مثل رأينا فيه، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم وإلى ما دعوتموه، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم تخشون من أنفسكم خذلانًا فاتركوه في قومه، فإنه في منعة من عشيرته وقومه»، وفي بعض الروايات أنه قال لهم بعدما سبق: «صفوا لي الحرب..
__________
(1) «إسلاميات» لخالد محمد خالد. بتصرف.(1/26)
كيف تقاتلون عدوكم». إنه بهذا يريد أن يطمئن لكفاءتهم في القتال.. بعد أن اطمأن لإخلاصهم في الإيمان.. وقد أثار هذا السؤال كوامن الاعتداد في صدور الرجال.. فبادر أحد شيوخهم وهو من أسلم قبل العقبة عبد الله بن عمرو بن حرام بالجواب فقال: «نحن والله أهل حرب، غذينا بها، ومرنا عليها، وورثناها عن آبائنا».(1/27)
ثم راح بعد هذه المقدمة المتحمسة يصف أسلوبهم في الحرب «نرمي بالنبل حتى تفنى، ثم نطاعن بالرماح حتى تُكسر.. ثم نمشي بالسيوف فنضارب بها، حتى يموت الأعجل منا، أو من عدونا» وشاعت الغبطة فوق مخايل العباس وقال: «أنتم أصحاب حرب إذن.. فهل فيكم دروع؟» قالوا: «نعم لدينا دروع شاملة»، ورأى العباس - رضي الله عنه - أنه قد هيَّأ سبل الحديث ليواصله رسول الله فيمم وجهه صوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صمت وحنى رأسه في إصغاء وتبسم الرسول - عليه السلام - ابتسامة الواثق، وعيناه الوادعتان توزعان ضياءهما وحنانهما على أصحاب العقبة المباركين، وأومأ إليهم ليتحدثوا. ولنترك كعبًا يكمل روايته: «فقلنا: قد سمعنا ما قلت – يخاطبون العباس – تكلم يا رسول الله. فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا إلى الله عز وجل، وتلا القرآن، ورغب في الإسلام، فأجبناه بالإيمان به والتصديق له، وقلنا له: يا رسول الله، خذ لربك ولنفسك. فقال: «إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم منه أبناءكم ونساءكم»، فأجابه البراء بن معرور فقال: نعم والذي بعثك بالحق ما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابرًا عن كابر، فعرض في الحديث أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين القوم (اليهود) حبالاً وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم»، وفي رواية أخرى أن العباس بن عبادة الأنصاري نهض فقال موجهًا الحديث إلى إخوانه من الأنصار: «هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل يا معشر الخزرج.. إنكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس.. فإن كنتم إذا أنهكت أموالكم وقتل أشرافكم أسلمتموه فمن الآن. فوالله إن فعلتم لهو خزي الدنيا والآخرة..(1/28)
وإن كنتم وافين له رغم نهكة الأموال وقتل الأشراف.. فخذوه.. فهو والله خير الدنيا والآخرة». فصاحوا جميعًا: «إنا نأخذه، على مصيبة الأموال وقتل الأشراف». ثم نادى بعضهم: «فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟» فأجاب الصادق بكلمة واحدة: «الجنة».
«وفجأة تحول المؤتمر المستخفي إلى مهرجان يدوِّي في جنباته هذا النداء «ابسط يدك يا رسول الله نبايعك». وتسابقت الأيدي إلى يمينه المباركة تشد عليها في ميثاق عظيم وحب حميم» (1) ، وكانت أول تلك ألأيدي هي يد البراء بن معرور، ولله دره كيف اهتبل الفرصة وبنى اللحظة؛ إنه وإن لم يكن له من بعد هذه البيعة شهرة واضحة إلا أنه يكفيه يوم البيعة منقبة ومكانة.
«وتقدمت عبقرية التنظيم التي تتمتع بها شخصية الرسول الكريم.. تقدمت لتكمل العمل المجيد لقد ألقى نظرة على هذه الطليعة الواعدة.. لقد كانوا في حساب العدد ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين ولكنهم في حساب القيمة طلع أمة عظمى تتشكل الآن وتتكون، وحتى لو نظر إليهم بحساب العدد وحده فإن الرسول - عليه السلام - لا يدع هذا الرعيل خارج دائرة النظام المحكم الفعال» (2) ، وهنا قال لهم: «أخرجوا إلي اثني عشر نقيبًا، ليكونوا على قومهم بما فيهم».
فكان النقباء هم: أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، ورافع بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، وعبادة بن الصامت، وأسيد بن حضير، وأبو الهيثم بن التيهان، وسعد بن خيثمة.
__________
(1) «إسلاميات» لخالد محمد خالد.
(2) المصدر السابق. بتصرف.(1/29)
انظروا لقد قال - عليه السلام - : «أخرجوا لي..» ولم يختر هو، وفي ذلك حكمة بالغة مقصودة حتى يُوسِّع دائرة النفوذ والمسئولية في جانب ويحدد المسئولين في المرحلة القادمة التي تحتاج إلى تركيز وتنظيم في الجانب الآخر. وسر الاختيار منهم يكمن في أن كل فرد في لحمة الحق لابد أن يكون مشاركًا في العطاء والرأي والمشورة فضلاً من أنه - عليه السلام - لا يعرف من مقدَّميهم إلا القليل؛ فهي فرصة لمعرفة نوعية الرجال في الرأي والحكمة والسداد وقد كان.
«تمت البيعة.. وتم اختيار النقباء.. وشهد الليل الهادئ الصامت ذلك المؤتمر الفريد المجيد.. لم يبق إلا أن يعود المجتمعون إلى خيامهم.. متسللين كما جاؤوا تسلل القطا قبل أن يشي الفجر وتباشير الصباح. وهكذا دعاهم الرسول - عليه السلام - للرجوع إلى رحالهم.. لكن وقدة الحماس للحق شق عليها أن ترجئ يوم الفصل والصدام» (1) ، فصاح العباس بن عبادة الأنصاري قائلاً: «والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا» فقال الرسول الحكيم - عليه السلام - في هدوء: «لم نؤمر بذلك.. ولكن ارجعوا إلى رحالكم».
نعم ارجعوا فالوقت لم يحن بعد لأننا لم نؤمر بذلك.. إذًا فهو التدرج في البناء وليس غير.. نعم إنه ضبط النفس وهو مزية. فالروح الحكيمة مهيأة للعمل الحكيم.
لقد عاد القوم إلى خيامهم قبل أن يرسل الفجر نوره الكاشف. وطلع النهار.. وقريش تتهامس بما كان بعد بلاغ الشيطان.. وعلا الهمس حتى صار خبرًا فخفت قريش إلى خيام الخزرج قائلين: «إنه بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم».
__________
(1) «إسلاميات» لخالد محمد خالد. بتصرف.(1/30)
وفوجئ مشركو الخزرج بالنبأ فراحوا يقسمون ما حدث من ذلك شيء.. ولقد صدقوا.. فهم لا علم لهم بما حدث بالأمس، لقد غادرهم المؤمنون بعد أن ناموا وعادوا إلى الخيام قبل أن يستيقظوا.. آخذين مضاجعهم بينهم كأنهم لم يبرحوها.. ولما كادت قريش أن تخرج أراد كعب بن مالك أن يخرجهم من ذهولهم وتفكيرهم فقال وهو ينظر إلى الحارث بن هشام، وكان من أشدهم ووجَّه كلامه إلى أبي جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام: «يا أبا جابر أنت سيد من سادتنا وكهل من كهولنا، لا تستطيع أن تتخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟».
وسمعه الحارث فخلع نعليه فرمى بهما إليه.. وخرج لا يفكر إلا فيما فعل من كرم يحسبه. وقال: «الله لتلبسنهما» فقال أبو جابر: «مهلاً أحفظت لعمر الله الرجل – أي أحرجته وأخجلته – اردد عليه نعليه – فقال كعب: «والله لا أردهما، فأل صالح، والله إني لأرجو أن أسلبنه» (1) . «شمس جديدة كالذهب.. وصباح منعش كالمطر.. ورواحل الأنصار تودع.. تحمل العهد والحب.. تنثره للتلال.. تعطر به الأجواء.. تبشر به التائهين على الأرض» (2) . إن خيل الله قادمة.. يا خيل الله ألا هبي باسم القهار على الزمن.. قسمًا بالله ولن نرضى غير التوحيد مدى العمر. ولقد صدقوا والله.
وعاد زعماء قريش يجترون الشك بعد لقاء الخزرج.. ولكنهم واصلوا البحث حتى تأكد لهم النبأ فطار صوابهم وخرجوا في أعقاب الحجيج الذين بدؤوا في رحلة العودة.. كان الركب قد أوغل في الطريق.. فلم يدرك القرشيون منهم سوى اثنين هما سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وهما من النقباء الاثني عشر، فأما المنذر فقاوم واستطاع الفِرار وأما سعد بن عبادة فقد أخذوه إلى مكة يضربونه ويؤذونه ويعذبونه.. حتى اكتشفوا أنه من زعماء الخزرج.. وأنه طالما حمى لهم قوافلهم الغادية إلى الشام والراحلة منها فأطلقوا سراحه وتركوه يرحل عنهم في سلام.
__________
(1) صحيح عند البيهقي (2/444).
(2) «السيرة النبوية» للصوياني. بتصرف.(1/31)
وهكذا تلقت قريش أولى الضربات المركبة الموجعة.. وجهها إليها في هدوء وصمت وقوة، رسول الله الذي طالما اتخذوه هو وأصحابه هدفًا لأحقادهم.
لقد عاشت قريش اثني عشر عامًا توجه ضرباتها للحق وأهله في تشفٍ وغرور والآن أصبح لهم بلد حافل يفتح ذراعيه ليكون وطنًا للحق الذي ضاقوا به وعاندوه.
وغدًا يهاجر إلى هذا البلد الودود، المؤمنون من أهل مكة، ريثما يلحق بهم بعد غد رسولهم الحبيب.. ودارت الأرض بقريش وهي تدير خواطرها حول هذه المفاجأة التي أذهلتها.. والاحتمالات التي تفزعها» (1) . «إن الأيام تزيد في جنونها.. وطغاتها حارت بهم الدروب.. كلما أغاروا على مسلم ضعيف لم يجدوه في بيته ولم يجدوا سوى الجدران، سوى الرياح تنوح داخله باكية تبحث عن أحبتها فلا تجدهم.. أما الأبواب فكانت تصفق تضطرب كقلب عاشق مهجور؛ فلن تعانق بعد اليوم تلك الأيادي المتوهجة بالوضوء» (2) .
«وراحت قريش تقاوم هجرة أصحاب الرسول - عليه السلام - .. لكنها غُلبت على أمرها.. فعقدت عزمها المخبول على اغتيال
الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. ولكن الله متمُّ نوره ولو كره الكافرون.
لقد أنجز الرسول - عليه السلام - يوم العقبة عملاً تناهى في البراعة والحنكة والسداد، لقد فضَّ لقاء العقبة سامر قريش الطائش الذي ظل يسخر ويعبث زمنًا طويلاً.. والآن ومع بزوغ يوم العقبة في تاريخ أحداث الإسلام.. فلن يكون لقريش سامر وستموت بسماتها المغرورة فوق شفتيها.. لن تتلهى قريش بعد اليوم بعذاب ضحاياها» (3) بل ستنشغل بالخطر الزاحف عليها.. نعم إنه لقاء الغرباء الذي غير مجرى الأحداث.. فهل لليل الأمة المعاصر من صبح وهل لتناثر أحداثها من حدث مجلجل يغير الله به مجرى الأحداث هذا ما نأمله بعد ليل الأمة الطويل.
* * *
الخاتمة
__________
(1) «إسلاميات» بتصرف.
(2) «السيرة النبوية» للصوياني.
(3) «إسلاميات» بتصرف.(1/32)
وأخيرًا اقترب الوعد الحق.. وأوشكت سنوات مكة أن ينطوي كتابها ليبدأ في المدينة عهد جديد.. نهاية عهد الاضطهاد والتعذيب والمطاردة إلى عهد { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39]. أجل جاء يوم الإسلام العظيم يوم العقبة يوم نقلة وتغيير.. فلولاه ما كانت الهجرة إلى المدينة ومن ثم النصر والفتح.. إنه الحدث العظيم الذي غير مجرى الأحداث.. فهو يوم الفجر الصادق لعصر القوة والغلبة والعزة التي أفاءها الله على رسوله ودينه والمؤمنين.. إنه يوم بذل الأسباب الصالحة حتى النصر والتمكين وقد كان.. فحريٌّ بالأمة الإسلامية اليوم وهي تواجه عدوها أن تعمل بتلك الأسباب التي عاشها الرعيل الأول من توكل خالص.. وتخطيط محكم.. وحزم وحسم.. وذكاء ومضاء بعد الاستعانة بالله عز وجل.. ثم يكون مع الأحداث الجسام حدث قد يغيِّر الله به مجرى الأحداث وما ذلك على الله بعزيز.
إن تربية النفس المؤمنة على الثقة بنصر الله وأنه قادم مهما طغى الشر.. وتكالب الأعداء لمن أشد عوامل النصر.. فلتستيقظ الأمة من غفلتها وسباتها ولتعلم أن المسلمين الأفذاذ هم الذين يغيرون في الحدث لا أن يغير الحدث فيهم.. وهم صناع الأحداث لا أن تصنعهم الأحداث.
إن الإسلام هو الإسلام لم يتغير بكتابه وسنته وهديه ودَلِّه.. إنما الذي تغير هو ثقة أتباعه وعزتهم فعودًا عودًا فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ما كان من خير وصواب فمن الله وما كان من تقصير وخطأ فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منهما بريئان، مع رجائي بالنصح والتسديد وهو من حق المسلم على المسلم. والله أعلى وأعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المراجع
1- صحيح الإمام البخاري.
2- صحيح الإمام مسلم.
3- الفتاوى، جمع عبد الرحمن بن قاسم.
4- السيرة النبوية، لابن هشام.(1/33)
5- السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة، محمد الصوياني.
6- إسلاميات، خالد محمد خالد.
7- في ظلال القرآن، ج6، سيد قطب.
8- الطريق إلى المدينة، محمد العبدة.
9- مرويات غزوة الحديبية، د. حافظ حكمي.
الفهرس
المقدمة ... 5
لا تحزني يا بنية ... 6
اليوم العجيب ... 6
بين قبائل العرب ... 6
لقاء الغرباء ... 6
الوافد الكريم ... 6
لقاء غير مجرى الأحداث ... 6
الخاتمة ... 6
المراجع ... 6
الفهرس ... 6(1/34)