الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن الله _عز وجل_ خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، ولقد افترض عليهم فرائض، وأوجب عليهم واجبات، ونهاهم عن محرمات.
كما أنه _عز وجل_ سنَّ لهم سنناً، وندبهم إلى مستحبات، ورغَّبهم في ترك مكروهات.
أما الفرائض الواجبة فهي أحب الأعمال إلى الله، وأعظم ما يقرب إليه، وهي معروفة محددة بالنص، ويعظم أجرها ويتضاعف بحسب تكميلها، وإيقاعها على أحسن الوجوه.
وأما السنن والمستحبات فكثيرة جداً، سواء كانت أفعالاً أو تروكاً، وهي التي تسدُّ ثلم الفرائض، وتكمِّلها، وتجبر نقصها.
كما أنها من أعظم ما يُنال به محبةُ الله _عز وجل_ ومن هذه الأعمال ما هو فروض كفايات إذا قام به بعض الأمة سقط الإثم عن الباقي، وإن تُركت وعطِّلت كان الإثم على الأمة كلها.
وأما المنهيات فكثيرة متنوعة، سواء كان النهي للتحريم أو الكراهة؛ فإن كانت محرمة أَثِم العبد بفعلها، وإن كانت مكروهة أُجِر بتركها.
ولا ريب أن المسلم بحاجة إلى ما يزيده قرباً من ربه، وأن الأمَّة بحاجة إلى كل عمل من شأنِه رفعُ رايةِ الإسلامِ، وإعزازُ أهله.
وإن من نعم الله _عز وجل_ أن كثرت طرقُ الخير، وتعددت السبل الموصلة إليه.
وهذا الموضوع يبحث في معرفة أفضل الأعمال، ومراتبها، وتفاوتها، ومقاصدها، وأجناسها، وما يناسب كل حال، ووقت، وشخص.
كما أنه يبحث في مسألة العزلة والخلطة، ويبحث في فضيلة الأعمال في نفسها، وفضيلته العارضة إلى غير ذلك مما سيرد ذكره _ إن شاء الله _.
وهذا الباب العظيم باب لطيف من أبواب العلم والعمل؛ إذ هو يفتح للعبد أبواباً كثيرة من الخير، ويغلق عنه أبواباً لا تحصى من الشر، ويدعوه إلى تنزيل الأعمال منازلها، وأن يجعل لكل مقام ما يليق به.(1/1)
كما أنه سبيل لتحصيل الأجور العظيمة في الأعمال؛ بل إنه يفتح آفاقاً كثيرة من الخير، وينهض بالأفراد إلى أعلى مقامات العبادة، ويصعد بالأمة إلى أرقى درجات السيادة، ويُتَوصَّل من خلاله إلى الإفادة من كل شخص مهما قلَّت إمكاناتُه، ومن كل فرصة ووسيلة ما دامت جارية على مقتضى الشرع.
وكم حصل من الجهل أو التفريط بهذا الأصل من ضياع الفرص، وحرمان الأمة من خير عظيم، وطاقات كثيرة.
ولقد جاءت نصوص الشرع متظاهرة متضافرة في بيان هذا الأصل، كما أن العلماء قد بينوه، وجلُّوه غاية الجلاء.
والحديث في الصفحات الآتية إنما هو جمع لبعض ما تيسر في هذا الباب، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
عن أبي هريرة ÷قال: قال رسول الله ": =إن الله _تعالى_ قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه+(1).
قال ابن رجب × في شرح هذا الحديث: وقوله: =وما تقرب إليَّ عبدي...+ لما ذكر أن معاداةَ أوليائهِ محاربةٌ له ذكر بعد ذلك وصف أوليائه الذين تَحْرُم معاداتُهم، وتجِب موالاتُهم؛ فذكر ما يتقرب به إليه، وأصل الولاية: القرب، وأصل العداوة: البعد؛ فأولياء الله هم الذين يتقربون إليه بما يقربهم منه، وأعداؤه الذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضية لطردهم، وإبعادهم، فَقَسم أولياءه المقربين إلى قسمين:
أحدهما: مَنْ تقرَّب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وترك المحرمات؛ لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده.
__________
(1) _ البخاري (6502).(1/2)
والثاني: مَنْ تقرَّب إليه بعد الفرائض بالنوافل؛ فظهر بذلك أنه لا طريق يوصل إلى التقرب إلى الله _تعالى_ وولايته، ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله "؛ فمن ادعى ولاية الله، والتقرب إليه، ومحبته بغير هذه الطريق تبين أنه كاذب في دعواه+.
إلى أن قال ×: =فلذلك ذكر في هذا الحديث أن أولياء الله على درجتين:
أحدهما: المتقربون إليه بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين.
والدرجة الثانية: درجة السابقين المقربين، وهم الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات،والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبة الله+.
وبهذا يتبين لنا أن الفرائض التي افترضها الله _عز وجل_ هي أفضل الأعمال الصالحة.
لقد تكلم علماء السلف في هذه المسألة، ولا تكاد تجد في أقوالهم حول تحديد أفضل الأعمال فروقاً جلية واضحة.
وإنما هي أقوال متقاربة، قد تكون من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، ومن باب النظر إلى اختلاف الأحوال والأشخاص.
جاء في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية × سؤال لأبي القاسم المغربي يقول فيه: =يتفضل الشيخ الإمام بقية السلف، وقدوةُ الخلف، أعلمُ من لقيت ببلاد المشرق والمغرب، تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية بأن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي ويرشدني إلى كتاب يكون عليه اعتمادي في علم الحديث، وكذلك في غيره من العلوم الشرعية، وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات، ويبين لي أرجح المكاسب، كل ذلك على قصد الإيماء، والاختصار، والله _تعالى_ يحفظه، والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته+.
فأجابه شيخ الإسلام ابن تيمية × إجابة مطولة تعرف بالوصية الصغرى.(1/3)
ومما جاء فيها مما نحن بصدده وهو الحديث عن أفضل الأعمال بعد الفرائض قولُه: =وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض فإنه يختلف باختلاف الناس، وما يناسب أوقاتهم؛ فلا يمكن فيه جوابٌ جامعٌ مفصَّل لكل أحد.
لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره أن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة.
وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة: =سبق المفرِّدون+ قالوا: يا رسول الله! ومن المفرِّدون؟ قال: =الذاكرون الله كثيراً والذاكرات+ رواه مسلم.
وعن أبي الدرداء ÷ عن النبي " أنه قال: =ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والفضة، والورِق، ومن أن تلقوا عدوَّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم+ قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: =ذكر الله+ رواه أبو داود.
والدلائل القرآنية، والإيمانية بصراً، وخبراً، ونظراً على ذلك كثيرة.
وأقلُّ ذلك أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير، وإمام المتقين " كالأذكار المؤقتة في أول النهار، وعند أخذ المضجع، وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات.
والأذكار المقيدة مثل ما يقال عند الأكل، والشرب، واللباس، والجماع، ودخول المنزل، والمسجد، والخلاء، والخروج من ذلك، وعند المطر والرعد إلى غير ذلك.
وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة؛ ثم ملازمة الذكر مطلقاً، وأفضله: =لا إله إلا الله+.
وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل: =سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله+ أفضل منه.
ثم يُعلَم أن كلَّ ما تكلم به اللسان، وتصوَّره القلب مما يقرِّب إلى الله من تعلُّم علم، وتعليمه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر _ فهو من ذكر الله.
ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقَّه فيه الفقه الذي سماه الله ورسوله فقهاً _ فهذا أيضاً من ذكر الله.(1/4)
وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف+ا. هـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية × مقرراً هذا المعنى: =وقد تقدم أن الأفضل يتنوع تارةً بحسب أجناس العبادات، كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.
وتارة يختلف باختلاف الأوقات؛ كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة.
وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر؛ كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة، وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالاتفاق، وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف.
وتارة باختلاف الأمكنة كما أن المشروع بعرفة، والمزدلفة، وعند الجمار، وعند الصفا والمروة _ هو الذكر، والدعاء دون الصلاة ونحوها.
والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل.
وتارة باختلاف مرتبة جنس العبادة؛ فالجهاد للرجال أفضل من الحج، وأما النساء فجهادهن الحج.
والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها، بخلاف الأيِّمة؛ فإنها مأمورة بطاعة أبويها.
وتارة يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه؛ فما يَقْدِر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنسُ المعجوز عنه أفضل.
وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس، ويتَّبعون أهواءهم؛ فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبته له، ولكونه أنفع لقلبه، وأطوع لربه _ يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس، ويأمرهم بمثل ذلك.
والله بعث محمداً بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد، وهدياً لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له؛ فعلى المسلم أن يكون ناصحاً للمسلمين، يقصد لكل إنسان ما هو أصلح.
وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية _كالصلاة والصيام_ أفضل له.(1/5)
والأفضل مطلقاً ما كان أشبه بحال النبي " باطناً وظاهراً؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد "، والله _ سبحانه وتعالى _ أعلم+.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =هل الأفضل للسالك: العزلة أو الخلطة؟+.
فأجاب بقوله: =فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها إما نزاعاً كلياً وإما حالياً؛ فحقيقة الأمر أن الخلطة تارة تكون واجبة، أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأموراً بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة.
وجماع ذلك أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهيٌّ عنها؛ فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات كالصلوات الخمس، والجمعة، والعيدين، وصلاة الكسوف، والاستسقاء، ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله ".
وكذلك الاختلاط بهم في الحج، وفي غزو الكفار، والخوارج المارقين وإن كانوا أئمة ذلك فجاراً، وإن كان في تلك الجماعات فجارٌ.
وكذلك الاجتماع الذي يزداد به العبد إيماناً، إما لانتفاعه به، وإما لنفعه له، ونحو ذلك.
ولابد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه، وذكره، وصلاته، وتفكُّره، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره؛ فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته _كما قال طاووس: نعم صومعةُ الرجل بيته، يكف فيها بصره ولسانه_ وإما في غير بيته.
فاختيار المخالطة مطلقاً خطأ، واختيار الانفراد مطلقاً خطأ.
وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا، وما هو الأصلح له في كل حال _ فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم+ا. هـ .
قال ابن القيم × في فصل نفيس عقده في كتابه: (الوابل الصيب) حول هذا المعنى: =الفصل الثالث: قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء.
هذا من حيث النظر لكل منهما مجرداً، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعيِّنُه؛ فلا يجوز أن يُعْدَلَ عنه إلى الفاضل.(1/6)
وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود؛ فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهيٌّ عنها تحريم أو كراهة.
وكذلك التسميع، والتحميد في محلهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد، وكذلك =رب اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارحمني+ بين السجدتين أفضل من القراءة.
وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة _ ذكر التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد _ أفضل من الاشتغال بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن، والقول كما يقول أفضل من القراءة، وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله _ تعالى _ على خلقه، لكن لكل مقام مقال متى فات مقاله فيه، وعُدِل عنه إلى غيره اختلت الحكمة، وفقدت المصلحة المطلوبة منه.
وهكذا الأذكارُ المقيدةُ بمحالَّ مخصوصة أفضلُ من القراءة المطلقة، والقراءةُ المطلقةُ أفضلُ من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر، والدعاء أنفع له من قراءة القرآن.
مثاله: أن يتفكر في ذنوبه؛ فيحدث ذلك له توبة من استغفار، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن؛ فَيَعْدِلَ إلى الأذكار والدعوات التي تُحَصِّنه وتحفظه.
وكذلك _ أيضاً _ قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها، أو ذكرٌ لم يحضر قلبه فيه، وإذا أقبل على سؤالها، والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله _ تعالى _ وأحدث له تضرعاً، وخشوعاً، وابتهالاً؛ فهذا يكون اشتغاله بالدعاء _ والحالة هذه أنفع _ وإن كان كلٌّ من القراءة والذكر أفضلَ وأعظمَ أجراً.
وهذا باب نافع يحتاج إلى فِقْهِ نَفْسٍ، وفرقانٍ بين فضيلة الشيء في نفسه، وبين فضيلته العارضة؛ فيعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، ويوضع كل شيء موضعه؛ فللْعين موضع، وللرِّجْل موضع، وللماء موضع، وللَّحم موضع.
وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي، والله _ تعالى _ الموفق+ا. هـ(1/7)
إلى أن قال ×: =وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية × يوماً: سئل بعض أهل العلم: أيما أنفع للعبد: التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيَّاً فالبخور، وماء الورد أنفع، وإن كان دَنِساً فالصابون والماء الحارُّ أنفع له؛ فقال لي ×: فكيف والثياب لا تزال دَنِسة؟
ومن هذا الباب أن سورة [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)](الإخلاص) تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث، والطلاق، والخلع، والعُدَد، ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها عند الحاجة أنفع من تلاوة سورة الإخلاص.
ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه _ كانت أفضل من كلٍّ من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛ لجمعها ذلك كلَّه مع عبودية سائر الأعضاء؛ فهذا أصل نافع جداً يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال، وتنزيلها منازلها؛ لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها؛ فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها، فيشتغل به عن مفضولها إن كان ذلك وقته؛ فتفوته مصلحته بالكلية؛ لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثواباً، وأعظم أجراً.
وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال، وتفاوتها، ومقاصدها، وفقهٍ في إعطاء كل عمل منها حقَّه، وتنزيله في مرتبته، وتفويته لما هو أهم منه، أو تفويت ما هو أولى منه، وأفضل؛ لإمكان تداركه، والعود إليه.
وهذا المفضول لا يمكن تداركه؛ فالاشتغال به أولى، وهذا كترك القراءة لرد السلام، وتشميت العاطس _ وإن كان القرآن أفضل _ لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول، والعود إلى الفاضل، بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة فاتته مصلحةُ ردِّ السلام، وتشميت العاطس، وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت، والله _ تعالى _ الموفق+ ا. هـ
وهذه الفقرة جماع لما مضى من الفقرات الماضية.
ومن أحسن من فصَّل في هذه المسألة الإمام ابن القيم × في كتابه (مدارج السالكين)، وذلك لما تكلم على أفضل العبادة وأنفعها؛ فأتى بكلام عظيم نفيس.(1/8)
قال ×: =ثم أهل مقام إياك نعبد لهم في أفضل العبادة وأنفعها، وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق؛ فهم في ذلك أربعة أصناف+.
ثم شرع في ذكر تلك الأصناف فقال: =الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات، وأفضلها أشقها على النفوس، وأصعبها.
قالوا: لأنه أبعد الأشياء عن هواها، وهو حقيقة التعبد+.
ثم شرع في بسط حججهم، ثم انتقل إلى الصنف الثاني فقال: =الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد، والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، واطِّراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها+.
ثم شرع في شرح قولهم، ثم انتقل إلى الصنف الثالث فقال: =الصنف الثالث: رأو أن أنفع العبادات ما كان فيه نفع متعدٍّ؛ فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فرأو خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس، وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال، والجاه، والنفع، فتصدوا له، وعملوا عليه+.
ثم شرع في شرح رأي أولئك، وانتقل بعد ذلك إلى الصنف الرابع، وبسط القول فيه أكثر مما قبله، وكأنه × قد ارتضى ذلك الرأي، فإليك كلامه في ذلك الصنف بتمامه، يقول × في المدارج: =الصنف الرابع قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت، ووظيفته؛ فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل، وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حال الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف _ مثلاً _ القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه، والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن.(1/9)
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد، والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بَعُد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخَلْوَتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعيةُ القلب، والهمةِ على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله _ تعالى _ يخاطبك به؛ فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع، والدعاء، والذكر دون الصوم المُضعفِ عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد؛ فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه، والخلوة، والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلمَ، وإقرائهم القرآنَ عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم، أو موته: عيادته، وحضور جنازته، وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجَمْعِيَّتِكَ.
والأفضل في وقت نزول النوازل، وأذاة الناس لك: أداءُ واجبِ الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم؛ فإن المؤمن الذي يخالط الناس؛ ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم، ولا يؤذونه.
والأفضل خُلْطَتُهم في الخير؛ فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر؛ فهو أفضل من خلطتهم فيه.
فإن عَلِم أنه إذا خالطهم أزاله أو قَلَّله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت، ووظيفته، ومقتضاه.(1/10)
وهؤلاء هم أهل التعبُّد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد؛ فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص، وترك عبادته؛ فهو يعبد الله على وجه واحد.
وصاحبُ التعبد المطلق ليس له غرض في تعبُّدٍ بعينه يُؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله _ تعالى _ أين كانت؛ فمدارُ تعبُّدِه عليها؛ فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلةٌ عَمِلَ على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلةٌ أخرى؛ فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره؛ فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجَمْعِيَّة وعكوف القلب على الله رأيته معهم؛ فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيِّده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه، وما فيه لذتها، وراحتها من العبادات، بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه؛ فهذا هو المتحقق بـ: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] حقاً، القائم بهما صدقاً، مَلْبَسُه ما تهيأ، ومأكلُه ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان، ووجده خالياً، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حُرٌّ مجرد، دائرٌ مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه، يأنس به كلُّ محقٍّ، ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلُّها منفعة حتى شوكُها، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله؛ فهو لله، وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناس بلا نفس، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها، فواهاً له! ما(1/11)
أغْرَبَه بين الناس! وما أشدَّ وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه!! والله المستعان، وعليه التكلان+ا. هـ
قال العلامة ابن القيم × مقرراً هذا المعنى: =فتفاضل الأعمال عند الله _تعالى_ بتفاضل ما في القلوب من الإيمان، والإخلاص، والمحبة، وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفِّر السيئات تكفيراً كاملاً، والناقص بحسبه.
وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما:
تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.
وبهذا يزول الإشكال الذي يورده من نَقَصَ حظُّه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: = أن صوم يوم عرفة يُكفِّر سنتين، ويوم عاشوراء يكفِّر سنة+.
قالوا: فإذا كان دأبه دائماً أنه يصوم يوم عرفة، فصامه، وصام يوم عاشوراء؛ فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة؟ وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فَضُل عن التكفير ينال به الدرجات.
ويا لله العجب؛ فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفِّر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، موقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه؛ فإن علم العبد أنه جاء بالشروط كلها، وانتفت عنه الموانع كلها _ فحينئذ يقع التكفير.
وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه، ولم يوفّ حقه، ولم يقدرْه حق قدره _ فأي شيء يكفر هذا؟ فإذا وثق العبد من عمله بأنه وفَّاه حقَّه الذي ينبغي له ظاهراً وباطناً، ولم يَعْرِضْ له مانعٌ يمنع تكفيره، ولا مبطل يحبطه _ من عجب، أو رؤية نفسه فيه، أو يَمُنُّ به، أو يطلب من العباد تعظيمه، أو يستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه، أو يعادي من لا يعظمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقَّه، وأنه قد استهان بحرمته _ فهذا أي شيء يكفِّر ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر؟(1/12)
وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه؛ فالرياء _وإن دقَّ_ محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر، وكونُ العملِ غيرَ مقيدٍ باتباع السنة _ أيضاً _ موجبٌ لكونه باطلاً، والمنُّ به على الله _تعالى_ بقلبه مفسدٌ له، وكذلك المن بالصدقة، والمعروف، والبر، والإحسان، والصلة مفسدٌ لها+.
إلى أن قال ×: =فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها، ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله، ويحذره+ا. هـ.
وبعد هذا البيان الجلي من علماء الإسلام الذين مضى النقل عنهم يتضح لنا عظمة ديننا، وشموله، وكثرة أبواب الخير فيه.
كما أن البحث في هذا الشأن يبعث الإنسان إلى أن يقدم لدينه، ولنفسه ما يجده عند الله _عز وجل_.(1/13)
وعلى هذا فإنه لا غضاضة على من فتح عليه من أبواب الخير دون أن يفتح عليه في غيره؛ ولا على من فتح عليه من أبواب الخير دون أن يفتح على غيره فيه فكل ميسر لما خلق له، وقد علم كل أناس مشربهم؛ فلا غرو _ إذاً _ أن تتنوع الأعمال ما دامت على مقتضى الشرع؛ فهذا يكب على العلم والبحث والتأليف، وذاك يقوم بتعليم الناس عبر الدروس، وهذا يسد ثغرة الجهاد، وذاك يقوم بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يقوم على رعاية الأرامل والأيتام، ويتعاون مع جمعيات البر المعنية بهذا الشأن،وذاك يقوم بتربية الشباب في محاضن التربية والتعليم، وهذا يقوم بتعليم الناس كتاب الله، وتحفيظهم إياه، وذاك يعنى بشؤون المرأة، وما يحاك حولها، وهذا يهتم بعمارة المساجد، ودلالة المحسنين على ذلك، وذاك يسعى في تنظيم الدروس والمحاضرات والدورات العلمية، وتسهيل مهام أهل العلم في ذلك الشأن، وهذا يعنى بالجاليات التي تفد إلى بلاد المسلمين يعلمهم أمور دينهم إن كانوا مسلمين، ويدعوهم إلى الإسلام إن كانوا غير مسلمين، وذاك يعنى بالمسلمين في بقاع الأرض؛ حيث يسعى في تعليمهم، وبيان قضاياهم، ويحرص على رفع الظلم عنهم، وذاك يسعى سعيه في الإصلاح بين الناس، وهذا يقوم بشؤون الموتى من تغسيلهم، ودفنهم ونحو ذلك، وذاك منقطع للعبادة، والذكر، والتلاوة، وعمارة بيوت الله، وهذا مفتوح عليه باب الصيام، وذاك مفتوح عليه باب الصلاة، وهذا مفتوح عليه باب الصدقة، وذاك الفذُّ الجامع لأكثر تلك الخصال وهكذا. . .
اللهم فقهنا في ديننا، وعلِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين الموحدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(1/14)