|
تم استيراده من نسخة : أ/علي عبد الباقي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرورنا أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله له صولات وجولات بقلمه السلس الجميل، فكيف إذا كتب تعريفًا سهلاً مبسطًا عامًا بدين الإسلام، لا شك أن القلم سيصل أوج تألقه، ها هو رحمه الله يقول:
إذا كنت مسافرًا وحدك فرأيت أمامك مفرق طريقين: طريقًا صعبًا صاعدًا في الجبل، وطريقًا سهلاً منحدرًا إلى السهل:
الأول: فيه وعورة وحجارة منثورة، وأشواك وحفر، يصعب تسلقه، ويتعسر السير فيه، ولكن أمامه لوحة نصبتها الحكومة فيها، إن هذا الطريق على وعورة أوله، وصعوبة سلوكه، هو الطريق الصحيح، الذي يوصل إلى المدينة الكبيرة والغاية المقصودة.
والثاني: معبَّد، تظلله الأشجار ذوات الأزهار والمثار، وعلى جانبيه المقاهي (1) والملاهي، فيها كل ما يلذ القلب، ويسر العين، ويشنف (2) الأذن، ولكن عليه لوحة فيها: إنه طريق خطر مهلك، آخره هوة فيها الموت المحقق والهلاك الأكيد.
فأي الطريقين تسلك؟
لا شك أن النفس تميل إلى السهل دون الصعب، واللذيذ دون المؤلم، وتحب الانطلاق وتكره القيود، هذه فطرة فطرها الله عليها، ولو ترك الإنسان نفسه وهواها، وانقاد لها، سلك الطريق الثاني، ولكن العقل يتدخل ويوازن بين اللذة القصيرة الحاضرة يعقبها ألم طويل، والألم العارض المؤقت تكون بعده لذة باقية، فيؤثر الأول.
__________
(1) أقهى: داوم على شرب القهوة.
(2) الشنف: القرط الحلق وهذا التعبير هنا على المجاز.
(1/1)
هذا هو مثال طريق الجنة، وطريق النار؛ طريق النار فيه كل ما هو لذيذ ممتع تميل إليه النفس، ويدفع إليه الهوى، فيه النظر إلى الجمال ومفاتنه، فيه الاستجابة للشهوة ولذاتها، فيه أخذ المال من كل طريق، والمال محبوب مرغوب فيه، وفيه الانطلاق والتحرر، والنفوس تحب الحرية والانطلاق، وتكره القيود.
وطريق الجنة فيه المشقات والصعاب، فيه القيود والحدود، فيه مخالفة النفس ومجانبة الهوى، ولكن عاقبة هذه المشقة المؤقتة في هذا الطريق اللذة الدائمة في الآخرة، وثمرة اللذة العارضة في طريق النار: الألم المستمر في جهنم؛ كالتلميذ ليالي الامتحان؛ يتألم حين يترك أهله عاكفين على الرائي (1) يشاهدون ما يسر ويمتع، وينفرد هو بكتبه ودفاتره، فيجد بعد هذا الألم لذة النجاح، وكالمريض يصبر أيامًا على ألم الحمية عن أطايب الطعام فينال بعدها سعادة الصحة.
وضع الله الطريقين أمامنا، ووضع فينا ملكة نفرق بينهما، نعرف بها الخير من الشر؛ سواء في ذلك العالم والجاهل، والكبير والصغير، كل منهم يستريح ضميره إذا عمل الخير، وينزعج إذا أتى بالشر؛ بل إن هذه الملكة موجودة حتى في الحيوان؛ القط إذا ألقيت إليه بقطعة اللحم أكلها أمامك متمهلاً مطمئنًا، وإذا خطفها ذهب بها بعيدًا، فأكلها على عجل، وعينه عليك؛ يخاف أن تلحق به فتنزعها منه، أفليس معنى هذا أنه أدرك أن اللقمة الأولى حق له، والثانية عدوان منه.
أليس هذا تفريقًا منه بين الحق والباطل، والحلال والحرام؟
والكلب إذا عمل حسنًا تمسَّح بصاحبه، كأنه يطلب منه المكافأة، وإذا أذنب نأى فوقف بعيدًا يبصبص بذنبه، كأنه يبدي المعذرة أو يتوقع العقاب.
وهذا تأويل قوله تعالى: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [البلد: 10].
__________
(1) الرائي والرائي: كلمتان وضعتهما للتلفزيون، وهما اسم فاعل بمعنى اسم المفعول على المجاز العقلي، كقوله تعالى: { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } [القارعة: 7] أي: في عيشة مرضية.
(1/2)
وأقام الله على طريق الجنة دعاة يدعون إليه ويدلون عليه، هم الأنبياء، كما قام على طريق النار دعاة يدعون إليه، ويرغبون فيه، هم الشياطين، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، فاطمة بنت محمد ما ورثت منه مالاً ولا عقارًا، والعلماء ورثوا منه هذه الدعوة؛ فمن قام بها حق قيامها، استحق شرف هذا الميراث.
وهذه الدعوة صعبة؛ لأن النفس البشرية طبعت على الميل إلى الحرية، والدين يقيدها، وعلى الانطلاق وراء اللذة، والدين يمسكها؛ فمن يدعو إلى الفسق والعصيان، يوافق طبيعتها؛ فتمشي معه مشي الماء في المنحدر، أصعد إلى خزان الماء في رأس الجبل، فأثقبه بضربة معول، ينزل الماء وأنت واقف حتى يستقر في قرارة الوادي، فإذا أردت أن تعيده لم يعد إلا بمضخات ومشقات ونفقات بالغات، والصخرة الراسية في الذروة لا تحتاج إلى زحزحتها وإمالتها حتى تتدحرج وتهوي؛ تنزل بلا مشقة ولا تعب، فإذا أردت أن ترجعها وجدت المتاعب والمشقات، وهذا هو مثال الإنسان.
الرفيق الشرير يقول لك: ها هنا امرأة جميلة ترقص عارية فتميل إليها نفسك، ويدفعك إليها هواك، ويسوقك إليها ألف شيطان، فلا تشعر إلا وأنت على بابها، فإذا جاء الواعظ ليصرفك عنها، صعب عليك الاستجابة إليه، ومقاومة ميل نفسك، وهوى قلبك.
(1/3)
فدعاة الشر لا يتعبون ولا يبذلون جهدًا؛ ولكن التعب وبذل الجهد على دعاة الخير وعلى الوعاظ، داعي الشر عنده كل ما تميل إليه النفس من العورات المكشوفة والهوى المحرم، وكل ما فيه متعة للعين والأذن ولذة القلب والجسد، أما داعي الخير فما عنده إلا المنع؛ ترى البنت المتكشفة فتميل إلى اجتلاء محاسنها، فيقول لك: غض بصرك عنها، ولا تنظر إليها، ويجد التاجر الربح السهل من الربا يناله بلا كد ولا تعب والنفس تميل إليه فيقول له: دعه وانصرف عنه ولا تمد يدك إليه، ويبصر الموظف رفيقه يأخذ من الرشوة في دقيقة واحدة ما يعدل مرتبه عن ستة أشهر، ويتصور ما يكون له بها من سعة، ومما يقضي بها من حاجات، فيقول له: لا تأخذها، ولا تستمتع بها.
يقول لهم: اتركوا هذه اللذات الحاضرة المؤكدة؛ لتنالوا اللذات الآتية المغيبة، دعوا ما ترون وما تبصرون، إلى ما لا ترون الآن ولا تبصرون، فارموا ميل نفوسكم وهوى قلوبكم، وذلك كله ثقيل على النفس، ولا تنكروا واصفي الدين بأنه ثقيل؛ فإن الله سماه بذلك في القرآن فقال: { سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [المزمل: 2]، وكل المعالي ثقيلات على النفس، ترك التلميذ الرائي والإقبال على الدرس ثقيل، وترك النائم فراشه والنهوض إلى صلاة الفجر ثقيل، وهجر الرجل زوجه وولده ومشيه إلى الجهاد ثقيل.
(1/4)
لذلك تجد الطالحين أكثر من الصالحين، والغافلين السادرين في الغي أكثر من الذاكرين والسالكين سبيل الرشاد، ولذلك كان أتباع الكثرة بلا بصر ولا دليل يضل فاعله في أكثر الأحيان: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ } [الأنعام: 116]، ولولا أن القلة والندرة من صفات السمو والرفعة ما كان الألماس (1) نادرًا، والفحمُ كثيرًا موفورًا، ولا كان العباقرة والنابغون والأبطال المتميزون، قلة في الناس.
إن الأنبياء وورثتهم من صالحي العلماء هم الدعاة إلى طريق الجنة، والشياطين وأعوانهم من الفاسدين المفسدين من الناس هم الدعاة إلى طريق النار، وقد جعل فينا في داخلنا أنصارًا لهؤلاء وأنصارًا لهؤلاء، في داخلنا حزب هو مع الأنبياء، وحزب هو حزب الشياطين؛ فحزب الأنبياء يتمثل في العقل، وحزب الشياطين في النفس الأمارة بالسوء.
تقولون: ما العقل وما النفس؟ ولست أدعي أني أضع لكل منهما حدودًا ظاهرة، وأميزها تمييزًا واضحًا؛ فإن هذه الأمور لا تزال في ظلمات جهلنا بها،لم يستطع العلم أن يضيء جوانبها.
كلنا يقول: «قلت لنفسي»، و: «قال لي عقلي»، فما أنت وما نفسك؟! وما نفسك وما عقلك؟! لم يتضح ذلك لنا بعد؛ فلست أكشف هنا المجهول، ولكن أذكر بمثال مشاهد معلوم.
__________
(1) الذي جاء في أكثر كتب اللغة: أن لامها أصلية، وذلك خلافًا لما في القاموس المحيط للفيروزآبادي.
(1/5)
تكون نائمًا في ليالي الشتاء، متمتعًا بدفء الفراش ولذة المنام؛ لتسمع قرع المنبه يدعوك إلى الصلاة، فتحس صوتًا من داخلك يقول لك: قم إلى الصلاة. فإذا جئت تقوم، سمعت صوتًا آخر يقول لك: نم قليلاً. فيعود الصوت الأول يقول: الصلاة خير من النوم. فيقول الثاني: النوم لذيذ، والوقت متسع، فتأخر دقائق. ولا يزال الصوتان يتعاقبان تعاقب دقات الساعة: «نم، قم، نم، قم» (1) ؛ هذا هو العقل، وهذه هي النفس، وهذا مثال يتكرر آلاف المرات في آلاف الصور؛ كلما عرض المرء مثل هذا الموقف فوقف أمام لذة محرمة تدعوه نفسه إلى غشيانها وكان في قلبه إيمان، يدفع عقله إلى منعة منها، وعلى مقدار ما يكون من انتصار العقل، تكون قوة هذا الإيمان.
وليس معنى هذا أن ينتصر العقل دائمًا، وألا يقارب المسلم المعاصي أبدًا؛ فالإسلام دين الفطرة، دين الواقع، والواقع أن الله خلق خلقًا للطاعة الخالصة، ولمحض العبادة، هم الملائكة ولم يجعلنا الله ملائكة، وخلق خلقًا شأنهم المعصية والكفر هم «الشياطين»، ولم يجعلنا كالشياطين، وخلق خلقًا لم يعطهم عقولاً ولكن غرائز، فلا يكلفون ولا يسألون وهم البهائم والوحوش ولم يجعلنا الله وحوشًا ولا بهائم.
فما نحن إذن؟ ما الإنسان؟
الإنسان مخلوق متميز؛ فيه شيء من الملائكة وشيء من الشياطين، وشيء من البهائم والوحوش؛ فإذا استغرق في العبادة، وصفا قلبه إلى الله عند المناجاة، وذاق حلاوة الإيمان في لحظات التجلي، غلبت عليه في هذه الحال الصفة الملكية، فأشبه الملائكة الذين: { لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6].
__________
(1) ويحس مثل ذلك من يريد القفز من فوق حفرة أو ساقية، وهو يرجو الوصول ويخشى السقوط، ويسمع من نفسه صوتين يتعاقبان: ثب، ارجع، ثب، ارجع. فإن وثب عند قول: «ثب» ولم يتردد نحج، وإن تردد حتى جاء قول «ارجع» ووثب، سقط وهذا مجرب. اهـ.
(1/6)
فإذا جحد خالقه وأنكر ربه، فكفر به أو أشرك معه في عبادته غيره، غلبت عليه في هذه الحال الصفة الشيطانية.
وإذا عصف به الغضب، فأوتر أعصابه، وألهب دمه، وشد عضلاته، فلم يعد له أمنية إلا أن يتمكن من خصمه فيعضه بأسنانه وينشب فيه أظافره، ويطبق على عنقه بأصابعه فيخنقه خنقًا ثم يدعسه دعسًا، غلبت عليه في هذه الحال الصفة الوحشية، فلم يبق بينه وبين النمر كبير فرق، وإذا عضه الجوع وبرح به العطش، وانحصرت آماله في رغيف يملأ معدته، كأس تبل صداه، أو تملكته الشهوة وسيطرت على نفسه الرغبة الجنسية فغلى بها دمه واشتعلت بها عروقه وامتلأ ذهنه بخيالات الشبق وأمانيه، غلبت عليه في هذه الحال الصفة البهيمية، فكان كالفحل أو الحصان، أو ما شئت من أصناف الحيوان.
هذه حقيقة الإنسان؛ فيه الاستعداد للخير والاستعداد للشر، أعطاه الله الأمرين ومنحه العقل الذي يميز به بينهما، والإرادة التي يستطيع بها أن يحقق أحدهما؛ فإن أحسن استعمال عقله في التمييز وأحسن استعمال إرادته في التنفيذ ونمى استعداده للخير حتى تخلق به وأنجزه، كان في الآخرة من السعداء، وإن كانت الأخرى كان من المعذبين.
صحيح أن النفس مطبوعة على الحرية، والدين قيد، ولكن لابد من هذا التقيد، ولو تركناها تأتي الفواحش كما تشاء انطلاقًا من طبع الحرية فيها، لصار المجتمع مارستانا كبيرًا؛ لأن الحرية المطلقة للمجانين: المجنون يفعل كل ما يخطر على باله، بمشي على الطريق عاريًا، ويركب على كتفي سائق السيارة العامة، ويستحسن ثوبك فيأخذه من فوق كتفيك، وتعجبه بنتك فيطلبها منك بحق الغرام، لا بشرعة الإسلام.
(1/7)
المجنون هو الحرُّ الحرية المطلقة، وأما العاقل فإن عقله يقيد حريته، وما العقل؟ إن لفظه مشتق من الأصل الذي اشتق منه العقال؛ أي الحبل الذي يقيد به الجمل، والحكمة قريبُ معنىً من حكمة الدابة، وهي كذلك قيد، والحضارة قيد؛ لأنها لا تدعك تفعل ما تريد؛ بل توجب عليك مراعاة حقوق الناس وأعراف المجتمع، والعدالة قيد؛ لأنها تضع نهاية لحريتك حيث تبدأ حرية جارك.
ثم إن المعاصي لذيذة؛ لأنها توافق طبيعة النفس؛ إنك تجد لذة في سماع الغيبة والمشاركة فيها لأنها تشعرك بأنك خير من هذا الذي يذكرونه بالسوء وأفضل، والسرقة لذيذة لأن فيها امتلاك المنال بلا كد ولا نصب، والزنا لذيذ لأن فيه إعطاء النفس هواها وإنالتها مشتهاها، والغش في الامتحان لذيذ لأنه يوصل إلى النجاح بلا جهد، والهرب من الواجب -مهما كان- لذيذٌ على النفس لأن فيه الراحة والكسل.
ولكن الإنسان حين يفكر ويستعمل عقله، يجد أن هذه الحرية المؤقتة لا تساوي ما بعدها من سجن في جهنم طويل، وهذه اللذة المحرمة، لا تعدل ما بعدها من العذاب.
من يرضى أن نجعل بيننا وبينه عهدًا، اتفاقية عند الكاتب العدل مدتها سنة، نعطيه خلالها كل ما يطلب من مال، ونسكنه في القصر الذي يريد، في البلد الذي يختار، ونزوجه بمن شاء من النساء، مثنى وثلاث ورباع، ولو طلق كل عشية واحدة، وتزوج كل صباح أخرى، ولا نمنع عنه شيئًا يريده، ولكنا إذا انقضت السنة، علقناه من عنقه على المشنقة حتى يموت! ألا يقول: «تعسًا وبعدًا للذة سنة بعدها الموت»! ألا يتصور نفسه ساعة يعلق على المشنقة، فيرى أنه لم يبق في يده شيء منها؟! مع أن ألم الشنق بعض دقيقة، وعذاب الآخرة دهر طويل.
(1/8)
ليس منا أحد لم يقارف في عمره معصية، ولم يجد لهذه المعصية لذة؛ أقلها أنه آثر متعة الفراش مرة على القيام لصلاة الفجر، فماذا بقي في أيدينا الآن من هذه اللذة التي أحسسنا بها قبل عشر سنين! وليس منا أحد لم يكره نفسه على أداء طاعة، ولم يحمل لهذه الطاعة ألمًا أقله الجوع والعطش في رمضان، فماذا بقي في نفوسنا الآن من ألم الجوع في رمضان الذي جاء من عشر سنين؟ لا شيء.
ذهبت لذات المعاصي وبقي عقابها، وذهبت آلام الطاعات وبقي ثوابها، وساعة الموت ما الذي يبقى لنا – تلك الساعة – من جميع اللذائذ التي ذقناها والآلام التي حملناها؟
إن كل مؤمن يريد أن يتوب ويرجع إلى الله ولكنه يؤجل ويسوف، أنا كنت أقول: إذا حججتُ تبتُ وأنبت، ثم رأيتُ أني حججتُ وما تبت، وكنت أقول: إذا بلغت الأربعين تبت، فبلغتها وما تبت، وجاوزت الستين وما تبت، وشبت وما تبت. ليس معنى هذا أني مقيم على المحرمات، مرتكب للفواحش، لا وبحمد الله ولكن معناه أن الإنسان يرجو لنفسه الصلاح، ولكنه يسوف؛ يظن أن في الأجل فسحة، يحسب أن العمر طويل فيرى الموت قد طرقه فجأة، وقد رأيت أنا الموت مرتين، وعرفت ما شعور الميت، لقد ندمت على كل دقيقة أضعتها في غير طاعة – إي والله – فلما نجوت بقيت على هذا الشعور شهورًا، صرت فيها صالحًا، ثم انغمست مرة ثانية في غمرة الحياة، ونسيت.. نسيت الموت.
كلنا ننسى الموت، نرى الأموات يمرون بنا كل يوم، ولكن لا نتصور أننا سنموت، نقف في صلاة الجنازة ونحن نفكر في الدنيا، يظن كل واحد منا أن الموت كتب على الناس كلهم إلا عليه، مع أن الإنسان يعلم أن الدنيا موليةٌ عنه، وأنه مولٍّ هو عنها.
(1/9)
مهما عاش الإنسان فهو ميت، ليعش ستين سنة، ليعش سبعين، ليعش مائة سنة، ألا تنقضي؟ ألا تعرفون من عاش مائة سنة ثم مات؟ نوح لبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة فأين نوح الآن؟ هل بقيت له الدنيا؟ هل سلم من الموت؟ فلماذا لا نفكر في الموت، ونستعد له إن كان لابد منه؟!
من كانت أمامه سفرة لا يعرف موعدها ألا يتهيأ لها؛ حتى يكون جاهزًا، فإذا دعي أجاب؟ رأيت – وكنت في الصيف الماضي في عمان – المعلمين الأردنيين الذين تعاقدوا مع المملكة العربية السعودية للعمل فيها، وقد خبروهم أن الطيارات تنقلهم تباعًا، فليستعدوا، فمن أنجز جواز سفره، وأكمل حزم متاعه، وودع أهله، ووضع إلى جنبه ثيابه فإنه يلبي في أي ساعة يدعى فيها، فيلبس ثيابه ويمضي إلى المطار، ومن أهمل وأجل حتى إذا قال لهم: أملهوني حتى أنزل إلى السوق فأشتري متاعي، وأذهب إلى القرية فأودع أهلي، وأراجع الحكومة لاستخراج جوازي- لم يمهلوه؛ بل ذهبوا وتركوه، ولكن ملك الموت إذا جاء لا يتركه ويذهب؛ بل يأخذه كرهًا؛ يأخذه ولو كان آبيًا، لا يمهله ساعة، ولا دقيقة، ولا لمحة، ولا يملك أن يمهله، وليس يعرف أحد منا متى يأتي ليأخذه ملك الموت.
وما الموت؟ ما حقيقته؟ إن لحياة الإنسان مراحل: فمرحلة وهو جنين في بطن أمه، ومرحلة وهو في هذه الدنيا، ومرحلة وهو في البرزخ بين الدنيا والآخرة؛ من يوم موته إلى يوم القيامة، والمرحلة الدائمة وهي الحياة الحقيقية مرحلة الآخرة، ونسبة كل مرحلة لما قبلها كنسبة ما بعدها إليها.
(1/10)
إن سعة هذه الدنيا بالنسبة لضيق بطن الأم كسعة البرزخ بالنسبة لهذه الدنيا وسعة الآخرة بالنسبة للبرزخ، إن الجنين يحسب دنياه هذا البطن، ولو عقل وفكر، وسئل وأجاب، لقال بأن خروجه منه موت محقق، ولو كان في البطن توءمان فولد أحدهما قبل الآخر، ورآه نزل قبله ففارقه وقد كان معه، لقال بأنه مات ودفن في الأعماق، ولو رأى المشيمة التي كانت من جسده ملقاة مع القمامة لظن بأنها هي أخوه وبكى عليها، كما تبكي الأم حين ترى جسد ولدها التي كانت تخشى عليه مس الغبار؛ قد أودع التراب، لا تدري أن هذا الجسد كالمشيمة، قميص توسخ وألقي، ثوب انتهى وقته، وانقضت الحاجة إليه.
هذا هو الموت، إنه ولادة جديدة، خروج إلى مرحلة أطول وأرحب من مراحل الحياة، وما هذه الدنيا إلا طريق، حياتنا فيها كحياة المهاجر إلى أميركا؛ إنه يحسن اختيار غرفته في الباخرة، ويحرص على راحته فيها ويهتم بها، ولكن هل ينفق ماله كله على تجديد فرشها ونقش جدرانها حتى لا يبقى معه شيء؛ فيصل إلى أميركا مفلسًا خالي الوفاض، أم يقول: إن مدة بقائي في هذه الغرفة أسبوعٌ، فأنا أرضى فيه بما تيسر، وأُمشِّي فيه الحال وأدخر المال لإعداد الدار التي سأسكنها في أميركا؛ لأن فيه المقام!
أتعرفون ما مثال الدنيا والآخرة؟! أعلنت أميركا مرة عن تجربة ذرية تجريها في جزيرة صغيرة من جزر البحر الهادي، وكان ذلك من خمس عشرة سنة أو نحوها، وكان في الجزيرة بضع مئات من السكان من صيادي الأسماك، فطلبت إليهم إخلاء مساكنهم، على أن تعوضهم عنها وعما فيها ببيوت مفروشة في أي بلد يريدون من البلدان، على أن يعلنوا استعدادهم لإخلائها وإحصائهم لما فيها قبل موعد كذا، وحددت لهم موعداً، ثم تأتي الطيارات فتحملهم من الجزيرة.
(1/11)
فمنهم من أعلن الاستعداد للإخلاء، وقدم الإحصاء قبل الموعد، ومنهم من أهمل وأجل حتى قرب الموعد، ومنهم من قال: هذا كله كذب، ما في الوجود من مكان اسمه أميركا، وما الدنيا إلا هذه الجزيرة، ولسنا نتركها، ولا نرضى أن نفارقها. ونسي أن الجزيرة ستنسف كلها فتكون أثرًا بعد أن كانت عينًا، هذا مثل الدنيا.
والأول: مثل المؤمن الذي يفكر في آخرته، ويستعد بالتوبة والطاعة دائمًا للقاء ربه.
والثاني: مثل المؤمن المقصر العاصي.
والثالث: مثل المادي الكافر الذي يقول: إنما هي حياتنا الدنيا لا حياة بعدها، وإن الموت نوم طويل، وراحة دائمة، محقق.
وليس معنى هذا أن الإسلام يطلب من المسلم أن يزهد في الدنيا مرة واحدة، وينفض أصابعه منها، ولا أن يسكن المساجد فلا يخرج منها، ولا أن يأوي إلى مغارة يمضي حياته فيها؛ لا.. بل إن الإسلام يطلب من المسلمين أن يكونوا في الحضارة الخيرة سادة المتحضرين، وفي المال أغنى الأغنياء، وفي العلم – العلم كله – أعلم العلماء، وأن يعرف كل مسلم حق جسده عليه بالغذاء والرياضة، وحق نفسه بالتسلية والاستجمام والمتعة بغير الحرام، وحق أهله بالرعاية وحسن الصحبة، وحق ولده بالتربية والتوجيه والعطف، وحق المجتمع بالعمل على كل ما يصلحه، كما يعرف حق الله بالتوحيد وبالطاعة.
يجمع المال ولكن من الحلال، ويستمتع بالطيبات المباحة، ويكون في الدنيا على أحسن ما يكون عليه أهلها؛ بشرط أن يبقى صحيح التوحيد، لا يداخل إيمانه شرك ظاهر أو خفي، صحيح الإسلام، يدع المحرمات ويأتي الفرائض، وأن يكون المال في يده لا في قلبه، لا يكون اعتماده عليه، بل يكون اعتماده على ربه، وأن يكون رضا الله هو مقصده، ومبتغاه، والله الموفق.
* * * *
(1/12)